الكتاب: المغني لابن قدامة المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ) الناشر: مكتبة القاهرة الطبعة: بدون طبعة عدد الأجزاء: 10 تاريخ النشر: 1388هـ - 1968م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- المغني لابن قدامة المقدسي، موفق الدين الكتاب: المغني لابن قدامة المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ) الناشر: مكتبة القاهرة الطبعة: بدون طبعة عدد الأجزاء: 10 تاريخ النشر: 1388هـ - 1968م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، قُدْوَةُ الْأَنَامِ، مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ، مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِئِ الْبَرِيَّاتِ، وَغَافِرِ الْخَطِيَّاتِ، وَعَالِمِ الْخَفِيَّاتِ، الْمُطَّلِعِ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالنِّيَّاتِ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَحِلْمًا، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْمًا {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الْأَعْصَارُ، وَلَا تَتَوَهَّمُهُ الْأَفْكَارُ، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] ، أَتْقَنَ مَا صَنَعَ وَأَحْكَمَهُ، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ وَعَلِمَهُ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَ الْعِلْمِ وَعَظَّمَهُ، وَحَظَرَهُ عَلَى مَنْ اسْتَرْذَلَهُ وَحَرَّمَهُ، وَخَصَّ بِهِ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ كَرَمِهِ، وَحَضَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّفِيرِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، نَدَبَهُمْ إلَى إنْذَارِ بَرِيَّتِهِ، كَمَا نَدَبَ إلَى ذَلِكَ أَهْلَ رِسَالَتِهِ، وَمَنَحَهُمْ مِيرَاثَ أَهْلِ نُبُوَّتِهِ، وَرَضِيَهُمْ لِلْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ، وَالنِّيَابَةِ عَنْهُ فِي الْإِخْبَارِ بِشَرِيعَتِهِ، وَاخْتَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ بِخَشْيَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، ثُمَّ أَمَرَ سَائِرَ النَّاسِ بِسُؤَالِهِمْ، وَالرُّجُوعِ إلَى أَقْوَالِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَامَةَ زَيْغِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ذَهَابَ عُلَمَائِهِمْ، وَاِتِّخَاذَ الرُّءُوسِ مِنْ جُهَّالِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَيِّدِ الْأَصْفِيَاءِ، وَإِمَامِ الْعُلَمَاءِ، وَأَكْرَمِ مَنْ مَشَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، الدَّاعِي إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْكَاشِفِ بِرِسَالَتِهِ جَلَابِيبَ الْغُمَّةِ، وَخَيْرِ نَبِيٍّ بُعِثَ إلَى خَيْرِ أُمَّةٍ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَطَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ، ضَمِنَ بَقَاءَ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ السَّبَبَ فِي بَقَائِهِمْ بَقَاءَ عُلَمَائِهِمْ، وَاقْتِدَاءَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِنْ الْأَعْلَامِ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ إمَامُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مِنْ أَوْفَاهُمْ فَضِيلَةً، وَأَقْرَبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَسِيلَةً، وَأَتْبَعِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ، وَأَزْهَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَطْوَعِهِمْ لِرَبِّهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ اخْتِيَارُنَا عَلَى مَذْهَبِهِ. وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَشْرَحَ مَذْهَبَهُ وَاخْتِيَارَهَ، لِيَعْلَمَ ذَلِكَ مَنْ اقْتَفَى آثَارَهُ، وَأُبَيِّنَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، وَأَذْكُرَ لِكُلِّ إمَامٍ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، تَبَرُّكًا بِهِمْ، وَتَعْرِيفًا لِمَذَاهِبِهِمْ، وَأُشِيرَ إلَى دَلِيلِ بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، وَالِاقْتِصَارِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَأَغْزُوَ مَا أَمْكَنَنِي غَزْوُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، إلَى كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْآثَارِ، لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِمَدْلُولِهَا، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَمَعْلُولِهَا، فَيُعْتَمَدَ عَلَى مَعْرُوفِهَا، وَيُعْرَضَ عَنْ مَجْهُولِهَا. ثُمَّ رَتَّبْتُ ذَلِكَ عَلَى شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي الْقَاسِمِ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَحِمَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ، لِكَوْنِهِ كِتَابًا مُبَارَكًا نَافِعًا، وَمُخْتَصَرًا مُوجَزًا جَامِعًا، وَمُؤَلِّفُهُ إمَامٌ كَبِيرٌ، صَالِحٌ ذُو دِينٍ، أَخُو وَرَعٍ، جَمَعَ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، فَنَتَبَرَّكُ بِكِتَابِهِ، وَنَجْعَلُ الشَّرْحَ مُرَتَّبًا عَلَى مَسَائِلِهِ وَأَبْوَابِهِ، وَنَبْدَأُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِشَرْحِهَا وَتَبْيِينِهَا، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَضْمُونِهَا، ثُمَّ نَتْبَعُ مَا يُشَابِهُهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، فَتَحْصُلُ الْمَسَائِلُ كَتَرَاجُمِ الْأَبْوَابِ. وَبِاَللَّهِ أَعْتَصِمُ وَأَسْتَعِينُ فِيمَا أَقْصِدُهُ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِيمَا أَعْتَمِدُهُ، وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَيَجْعَلَ سَعْيَنَا مُقَرِّبًا إلَيْهِ، وَمُزْلِفًا لَدَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ. فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. (قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْخِرَقِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ) : قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو يَعْلَى، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ الْخِرَقِيُّ عَلَّامَةً، بَارِعًا فِي مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَا دِينٍ، وَأَخَا وَرَعٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: كَانَتْ لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَمْ يَنْشُرْ مِنْهَا إلَّا " الْمُخْتَصَرَ " فِي الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَدِينَةِ السَّلَامِ لَمَّا ظَهَرَ سَبُّ الصَّحَابَةِ بِهَا، وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ فِي دَرْبِ سُلَيْمَانَ، فَاحْتَرَقَتْ الدَّارُ وَالْكُتُبُ فِيهَا. قَرَأَ الْعِلْمَ عَلَى مَنْ قَرَأَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ، وَحَرْبٍ الْكَرْمَانِيِّ، وَصَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ أَحْمَدَ. وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ أَبِي عَلِيٍّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ فَقِيهًا صَحِبَ أَصْحَابَ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرُ صُحْبَتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ. وَقَرَأَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ؛ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِدِمَشْقَ، وَزُرْتُ قَبْرَهُ. وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مُنْكَرًا بِدِمَشْقَ، فَضُرِبَ، فَكَانَ مَوْتُهُ بِذَلِكَ قَالَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (اخْتَصَرْتُ هَذَا الْكِتَابَ) . يَعْنِي قَرَّبْتُهُ، وَقَلَّلْتُ أَلْفَاظَهُ، وَأَوْجَزْتُهُ، وَالِاخْتِصَارُ: هُوَ تَقْلِيلُ الشَّيْءِ، وَقَدْ يَكُونُ اخْتِصَارُ الْكِتَابِ بِتَقْلِيلِ مَسَائِلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَقْلِيلِ أَلْفَاظِهِ مَعَ تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ اخْتِصَارًا» ، وَمِنْ ذَلِكَ مُخْتَصَرَاتُ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْجِهَادُ مُخْتَصَرُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ» ، وَقَدْ نَهَى عَنْ اخْتِصَارِ السُّجُودِ، وَمَعْنَاهُ جَمْعُ آيِ السَّجَدَاتِ فَيَقْرَؤُهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَحْذِفَ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ وَلَا يَقْرَؤُهَا. وَفَائِدَةُ الِاخْتِصَارِ التَّقْرِيبُ وَالتَّسْهِيلُ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَعَلُّمَهُ وَحِفْظَهُ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ، وَيُطَوَّلُ لِيُفْهَمْ. وَقَدْ ذَكَرَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَقْصُودَهُ بِالِاخْتِصَارِ، فَقَالَ: (لِيَقْرَبَ عَلَى مُتَعَلِّمِهِ) ، أَيْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ، وَيَقِلَّ تَعَبُهُ فِي تَعَلُّمِهِ. وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ) فَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذُهَلِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دَعْمِيِّ بْنِ جُدَيْلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، يَلْتَقِي نَسَبُهُ وَنَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِزَارٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَأَحْمَدُ مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: وُلِدْتُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ بِمَرْوٍ، وَوَلَدَتْهُ بِبَغْدَادَ، وَنَشَأَ بِهَا، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَسْفَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَغْدَادَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا، بَعْدَ أَنْ سَادَ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَنَصَرَ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: لَيْسَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهِ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إمَامٌ فِي ثَمَانِ خِصَالٍ؛ إمَامٌ فِي الْحَدِيثِ، إمَامٌ فِي الْفِقْهِ، إمَامٌ فِي الْقُرْآنِ، إمَامٌ فِي اللُّغَةِ، إمَامٌ فِي الْفَقْرِ، إمَامٌ فِي الزُّهْدِ، إمَامٌ فِي الْوَرَعِ، إمَامٌ فِي السُّنَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فِيهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ: لَقَدْ كَادَ هَذَا الْغُلَامُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَيْرِ بْنُ النَّحَّاسِ الرَّمْلِيُّ، وَذَكَرَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشَبَهَهُ، وَبِالصَّالِحِينَ مَا كَانَ أَلْحَقَهُ، عُرِضَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَأَبَاهَا، وَالْبِدَعُ فَنَفَاهَا، وَاخْتَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَصْرِ دِينِهِ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ سُنَّتِهِ، وَرَضِيَهُ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَنَصْرِ كَلَامِهِ حِينَ عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ. قِيلَ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ، حِينَ ضَرَبَ أَحْمَدَ: يَا أَبَا نَصْرٍ، لَوْ أَنَّكَ خَرَجْتَ فَقُلْتَ: إنِّي عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؟ فَقَالَ بِشْرٌ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أَقُومَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ؟ إنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَدْ قَامَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ الوسي: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عِنْدَنَا الْمَثَلَ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ كَائِنٌ فِي أُمَّتِي مَا كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، حَتَّى إنَّ الْمِنْشَارَ لَيُوضَعُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ أَحَدِهِمْ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» ، وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ قَامَ بِهَذَا الشَّأْنِ لَكَانَ عَارًا وَشَنَارًا عَلَيْنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنَّ قَوْمًا سُئِلُوا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَفَضَائِلُهُ، وَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ فِي مَدْحِهِ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَائِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كُتُبًا مُفْرَدَةً، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَاهُنَا الْإِشَارَةُ إلَى نُكْتَةٍ مِنْ فَضْلِهِ، وَذِكْرُ نَسَبِهِ، وَمَوْلِدِهِ، وَمَبْلَغِ عُمْرِهِ، إذْ لَا يَحْسُنُ مِنْ مُتَمَسِّكٍ بِمَذْهَبِهِ، وَمُتَفَقِّهٍ عَلَى طَرِيقَتِهِ، أَنْ يَجْهَلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ إمَامِهِ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنْ جَنَّتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا صَالِحًا، وَيَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَيَجْعَلَ سَعْيَنَا مُقَرِّبًا إلَيْهِ، مُبَلِّغًا إلَى رِضْوَانِهِ، إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ] قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّه ُ -: بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ، التَّقْدِيرُ: هَذَا بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ، فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقَوْلُهُ " مَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ بِهِ "، أَيْ تَحْصُلُ وَتَحْدُثُ، وَهِيَ هَاهُنَا تَامَّةٌ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى خَبَرٍ. وَمَتَى كَانَتْ تَامَّةً كَانَتْ بِمَعْنَى الْحَدَثِ وَالْحُصُولِ، تَقُولُ: كَانَ الْأَمْرُ، أَيْ حَدَثَ وَوَقَعَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أَيْ: إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي ... فَإِنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُهُ الشِّتَاءُ أَيْ إذَا جَاءَ الشِّتَاءُ. وَفِي نُسْخَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ: (بَابُ مَا تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ) وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ. وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّزَاهَةُ عَنْ الْأَقْذَارِ، وَفِي الشَّرْعِ: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ. فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الطَّهَارَةِ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ أَوْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ، إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ مِنْهُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ كَالْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ التَّكَلُّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ. وَالطُّهُورُ - بِضَمِّ الطَّاءِ -: الْمَصْدَرُ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ وَالطَّهُورُ - بِالْفَتْحِ - مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، مِثْلُ الْغَسُولِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ، بِمَعْنَى الطَّاهِرِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فِي التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَمَا كَانَ فَاعِلُهُ لَازِمًا كَانَ فَعُولُهُ لَازِمًا. بِدَلِيلِ قَاعِدٍ وَقَعُودٍ، وَنَائِمٍ وَنَئُومٍ، وَضَارِبٍ وَضَرُوبٍ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي؛ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَزِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ. وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الطَّهُورُ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلْقَوْمِ، حَيْثُ سَأَلُوهُ عَنْ التَّعَدِّي، إذْ لَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ مُطَهِّرًا، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الْفَاعِلِ وَالْفَعُولِ، فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ، وَقَعُودُ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا، وَلَيْسَ إلَّا مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومُ. (1) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يُضَافُ إلَى اسْمِ شَيْءٍ غَيْرِهِ: مِثْلُ مَاءِ الْبَاقِلَّا، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، مِمَّا لَا يُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ فِي وَقْتٍ) . قَوْلُهُ " " وَالطَّهَارَةُ " مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَالطَّهَارَةُ مُبَاحَةٌ، أَوْ جَائِزَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ طَهَارَةٍ جَائِزَةٌ بِكُلِّ مَاءٍ طَاهِرٍ مُطْلَقٍ، وَالطَّاهِرُ: مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَالْمُطْلَقُ: مَا لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُضَافُ إلَى اسْمِ شَيْءٍ غَيْرِهِ ". وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ صِفَةً لَهُ وَتَبْيِينًا، ثُمَّ مَثَّلَ الْإِضَافَةَ، فَقَالَ: " مِثْلُ مَاءِ الْبَاقِلَّا، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ، وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، وَمَا أَشْبَهَهُ ". وَقَوْلُهُ: " مِمَّا لَا يُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الْمَاءِ فِي وَقْتٍ "، صِفَةٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْمَاءُ، وَمَعْنَاهُ: لَا يُفَارِقُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ. وَالْمُزَايَلَةُ: الْمُفَارَقَةُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ أَيْ الْمُفَارِقِ. أَيْ: لَا يُذْكَرُ الْمَاءُ إلَّا مُضَافًا إلَى الْمُخَالِطِ لَهُ فِي الْغَالِبِ. وَيُفِيدُ هَذَا الْوَصْفُ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْمُضَافِ إلَى مَكَانِهِ وَمَقَرِّهِ، كَمَاءِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ؛ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ عَنْ مَكَانِهِ زَالَتْ النِّسْبَةُ فِي الْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ مَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ تَغَيُّرًا يَسِيرًا، فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ فِي الْغَالِبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا احْتِرَازٌ مِنْ الْمُتَغَيِّرِ بِالتُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ يَصْفُو عَنْهُ، وَيُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَهُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا إبَاحَةُ الطَّهَارَةِ بِكُلِّ مَاءٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصُّفَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، مِنْ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَالْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ، نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنْ الْأَرْضِ، فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَحْرِ: التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْهُ. هُوَ نَارٌ. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَمَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّهُ مَاءٌ بَاقٍ عَلَى أَصِلْ خِلْقَتِهِ، فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْعَذْبِ. وَقَوْلُهُمْ: " هُوَ نَارٌ " إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَاءً. وَمِنْهَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الطَّهَارَةِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ، كَالْخَلِّ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَنَحْوِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» . أَطْلَقَ الْغَسْلَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فَتَقْيِيدُهُ بِالْمَاءِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ، فَجَازَتْ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ، كَالْمَاءِ، فَأَمَّا مَا لَا يُزِيلُ كَالْمَرَقِ وَاللَّبَنِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ بِهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ إحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُطْلَقُ حَدِيثِهِمْ مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِنَا، وَالْمَاءُ يَخْتَصُّ بِتَحْصِيلِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى. [فَصْلٌ غَيْرُ النَّبِيذِ مِنْ الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ] وَمِنْهَا اخْتِصَاصُ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، لِتَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِالذِّكْرِ، فَلَا يَحْصُلُ بِمَائِعٍ سِوَاهُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ عِكْرِمَةُ النَّبِيذُ وَضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدُ الْمَاءَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: النَّبِيذُ حُلْوًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّيَمُّمِ، وَجَمْعُهُمَا أَحَبُّ إلَيَّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ عِكْرِمَةَ وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ الْوَضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، إذَا طُبِخَ وَاشْتَدَّ، عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ؛ لِمَا رَوَى «ابْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَقَالَ: أَمَعَكَ وَضُوءٌ؟ فَقَالَ: لَا، مَعِي إدَاوَةٌ فِيهَا نَبِيذٌ. فَقَالَ: تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَهَذَا نَصٌّ فِي الِانْتِقَالِ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ فِي الْحَضَرِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَأَشْبَهَ الْخَلَّ وَالْمَرَقَ، وَحَدِيثُهُمْ لَا يَثْبُتُ، وَرَاوِيهِ أَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَا يُعْرَفُ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُعْرَفُ بِصُحْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ مَعَهُ مِنَّا أَحَدٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مَعَهُ. (2) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيذِ مِنْ الْمَائِعَاتِ، غَيْرِ الْمَاءِ، كَالْخَلِّ، وَالدُّهْنِ، وَالْمَرَقِ، وَاللَّبَنِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَا نَعْلَمُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الطَّهُورِيَّةَ لِلْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَمِنْهَا، أَنَّ الْمُضَافَ لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا؛ مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا، مَا اُعْتُصِرَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ كَمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْقَرَنْفُلِ، وَمَا يَنْزِلُ مِنْ عُرُوقِ الشَّجَرِ إذَا قُطِعَتْ رَطْبَةً. الثَّانِي، مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ اسْمَهُ، وَغَلَبَ عَلَى أَجْزَائِهِ، حَتَّى صَارَ صِبْغًا، أَوْ حِبْرًا، أَوْ خَلًّا، أَوْ مَرَقًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ، مَا طُبِخَ فِيهِ طَاهِرٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ. فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهَا، وَلَا الْغُسْلُ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَصَمِّ فِي الْمِيَاهِ الْمُعْتَصَرَةِ، أَنَّهَا طَهُورٌ يَرْتَفِعُ بِهَا الْحَدَثُ، وَيُزَالُ بِهَا النَّجَسُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ فِي مَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ، وَسَائِرُ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ جَائِزٍ بِمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الشَّجَرِ، وَمَاءِ الْعُصْفُرِ، وَلَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تَجُوزُ بِالْمَاءِ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ بِإِطْلَاقِهِ الضَّرْبُ الثَّانِي مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَغَيَّرَ إحْدَى صِفَاتِهِ، طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ، أَوْ رِيحَهُ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا، وَمَاءِ الْحِمَّصِ، وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي ذَلِكَ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهِيَ أَصَحُّ، وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلَافِ. وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ، وَالْمَيْمُونِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَاءٍ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْي تَعُمُّ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ» . وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ، وَغَالِبُ أَسْقِيَتِهِمْ الْأُدْمُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تُغَيِّرُ الْمَاءَ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَيَمُّمٌ مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمِيَاهِ؛ وَلِأَنَّهُ طَهُورٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ، وَلَا رِقَّتَهُ، وَلَا جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ. وَوَجْهُ الْأُولَى: أَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ زَالَ عَنْ إطْلَاقِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَغْلِيَّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَذْرُورِ فِي الْمَاءِ مِمَّا يُخْلَطُ بِالْمَاءِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ الْحُبُوبِ مِنْ الْبَاقِلَّا وَالْحِمَّصِ، وَالثَّمَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْوَرَقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: مَا كَانَ مَذْرُورًا مُنِعَ إذَا غَيَّرَ الْمَاءَ، وَمَا عَدَاهُ لَا يُمْنَعُ إلَّا أَنْ يَنْحَلَّ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ غَيَّرَهُ مِنْ غَيْرِ انْحِلَالٍ لَمْ يَسْلُبْ طَهُورِيَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ، أَشْبَهَ تَغْيِيرَ الْكَافُورِ. وَوَافَقَهُمْ أَصْحَابُنَا فِي الْخَشَبِ وَالْعِيدَانِ، وَخَالَفُوهُمْ فِي سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِهِ إنَّمَا كَانَ لِانْفِصَالِ أَجْزَاءٍ مِنْهُ إلَى الْمَاءِ وَانْحِلَالِهَا فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ كَمَا لَوْ طُبِخَ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ طَاهِرٍ يُمْكِنُ صَوْنُهُ عَنْهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أُغْلِيَ فِيهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْ الْمُضَافِ مَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا أُضِيفَ إلَى مَحَلِّهِ وَمَقَرِّهِ، كَمَاءِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ وَأَشْبَاهِهِمَا؛ فَهَذَا لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ مَاءٌ وَهِيَ إضَافَةٌ إلَى غَيْرِ مُخَالِطٍ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. الثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ وَرَقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ، أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ، وَمَا تَجْذِبُهُ السُّيُولُ مِنْ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ وَنَحْوِهِ، فَتُلْقِيهِ فِي الْمَاءِ، وَمَا هُوَ فِي قَرَارِ الْمَاءِ كَالْكِبْرِيتِ وَالْقَارِ وَغَيْرِهِمَا، إذَا جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ فَتَغَيَّرَ بِهِ، أَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَقِفُ فِيهَا الْمَاءُ. فَهَذَا كُلُّهُ يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنْ أُخِذَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأُلْقِيَ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، مِنْ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ. الثَّالِثُ: مَا يُوَافِقُ الْمَاءَ فِي صِفَتَيْهِ الطَّهَارَةِ، وَالطَّهُورِيَّةِ، كَالتُّرَابِ إذَا غَيَّرَ الْمَاءَ لَا يَمْنَعُ الطَّهُورِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ كَالْمَاءِ، فَإِنْ ثَخُنَ بِحَيْثُ لَا يَجْرِي عَلَى الْأَعْضَاءِ لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ وَلَيْسَ بِمَاءٍ، وَلَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ الَّذِي أَصْلُهُ الْمَاءُ كَالْبَحْرِيِّ، وَالْمِلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُرْسَلُ عَلَى السَّبْخَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، فَلَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ، فَهُوَ كَالْجَلِيدِ وَالثَّلْجِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدِنًا لَيْسَ أَصْلُهُ الْمَاءَ فَهُوَ كَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ. الرَّابِعُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَاءُ بِمُجَاوَرَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ، كَالدُّهْنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَالطَّاهِرَاتُ الصُّلْبَةِ كَالْعُودِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ، إذَا لَمْ يَهْلِكْ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ يَمِعْ فِيهِ، لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَوَّحَ الْمَاءُ بِرِيحِ شَيْءٍ عَلَى جَانِبِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خِلَافًا. وَفِي مَعْنَى الْمُتَغَيِّرِ بِالدُّهْنِ مَا تَغَيَّرَ بِالْقَطِرَانِ وَالزِّفْتِ وَالشَّمْعِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ دُهْنِيَّةً يَتَغَيَّرُ بِهَا الْمَاءُ تَغَيُّرَ مُجَاوَرَةٍ، فَلَا يُمْنَعُ كَالدُّهْنِ. [فَصْلُ الْمَاءِ الْآجِنِ] (3) فَصْلٌ وَالْمَاءُ الْآجِنُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِطُولِ مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ، مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْءٍ يُغَيِّرُهُ، بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْآجِنِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ حَلَّتْ فِيهِ جَائِزٌ، غَيْرَ ابْنِ سِيرِينَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أُولَى، فَإِنَّهُ يُرْوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ كَأَنَّ مَاءَهُ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ» وَلِأَنَّهُ تَغَيَّرَ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 [فَصْلٌ إذَا كَانَ عَلَى الْعُضْوِ طَاهِرٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ الْمَاءُ] (4) فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعُضْوِ طَاهِرٌ، كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَجِينِ، فَتَغَيَّرَ بِهِ الْمَاءُ وَقْتَ غَسْلِهِ، لَمْ يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الَّذِي تُزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا. [مَسْأَلَةٌ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْهُ] (5) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَا سَقَطَ فِيهِ مِمَّا ذَكَرْنَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَكَانَ يَسِيرًا فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى يُنْسَبَ الْمَاءُ إلَيْهِ تُوُضِّئَ بِهِ) قَوْلُهُ: " مِمَّا ذَكَرْنَا "، يَعْنِي الْبَاقِلَّا وَالْحِمَّصَ وَالْوَرْدَ وَالزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ، يَعْنِي مِنْ الطَّاهِرَاتِ سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ: " حَتَّى يُنْسَبَ الْمَاءُ إلَيْهِ " أَيْ: يُضَافَ إلَيْهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَاعْتُبِرَ الْكَثْرَةُ فِي الرَّائِحَةِ، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ لَهَا سِرَايَةً وَنُفُوذًا، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ عَنْ مُجَاوَرَةٍ تَارَةً، وَعَنْ مُخَالَطَةٍ أُخْرَى، فَاعْتُبِرَ الْكَثْرَةُ فِيهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهَا عَنْ مُخَالَطَةٍ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، ذَهَبَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ، فَأَشْبَهَتْ اللَّوْنَ وَالطَّعْمَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، فَإِنْ عُفِيَ عَنْ الْيَسِيرِ فِي بَعْضِهَا عُفِيَ عَنْهُ فِي بَقِيَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْفَ عَنْ الْيَسِيرِ فِي بَعْضِهَا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي بَقِيَّتِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْفَرْقَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَاءٍ خَالَطَهُ طَاهِرٌ، لَمْ يُغَيِّرْهُ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، فِي مَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ: لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ. وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ مَا تَغَيَّرَ بِهِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي كِسَرٍ بُلَّتْ بِالْمَاءِ، غَيَّرَتْ لَوْنَهُ أَوْ لَمْ تُغَيِّرْ لَوْنَهُ، لَمْ يُتَوَضَّأْ بِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْ صِفَةَ الْمَاءِ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَبَقِيَّةِ الطَّاهِرَاتِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَقَدْ «اغْتَسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوْجَتُهُ مِنْ جَفْنَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَثْرَمُ. [فَصْلٌ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ مَائِعٌ] (6) فَصْلٌ وَإِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ مَائِعٌ، لَا يُغَيِّرُهُ لِمُوَافَقَةِ صِفَتِهِ، وَهَذَا يَبْعُدُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْهُ بِصِفَةٍ، فَيُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ بِظُهُورِ تِلْكَ الصِّفَةِ. فَإِنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ اعْتَبَرْنَاهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةٌ تَظْهَرُ عَلَى الْمَاءِ، كَالْحُرِّ إذَا جُنِيَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُوضِحَةِ قَوَّمْنَاهُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ، وَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ يَمْنَعُ بُنِيَ عَلَى يَقِينِ الطَّهُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، فَلَا يَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ. [فَصْلٌ كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْمَاءِ مَاءً مُسْتَعْمَلًا] (7) فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْمَاءِ مَاءً مُسْتَعْمَلًا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَتَوَضَّأُ، فَيَنْتَضِحُ مِنْ وَضُوئِهِ فِي إنَائِهِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ. وَهَذَا ظَاهِرُ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْأَقْدَاحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وَالْأَتْوَارِ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنْ الْجِفَانِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ جَفْنَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ» «وَاغْتَسَلَ هُوَ وَعَائِشَةُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِيهِمَا فِيهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَبْقِ لِي» . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْلَمُ مِنْ رَشَاشٍ يَقَعُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ كَثُرَ الْوَاقِعُ وَتَفَاحَشَ مُنِعَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْمُسْتَعْمَلَ مُنِعَ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ لَمْ يُمْنَعْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ خَلًّا غَيَّرَ الْمَاءَ مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَظَاهِرُ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْرَعِ الْمَائِعَاتِ نُفُوذًا، وَأَبْلَغِهَا سِرَايَةً، فَيُؤَثِّرُ قَلِيلُهُ فِي الْمَاءِ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ، فَإِذًا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ، فَمَا كَانَ كَثِيرًا مُتَفَاحِشًا مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ شَكَّ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى الطَّهُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ. [فَصْلٌ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِيهِ لَطَهَارَتِهِ فَكَمَّلَهُ بِمَائِعٍ لَمْ يُغَيِّرْهُ] (8) فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، لَا يَكْفِيهِ لَطَهَارَتِهِ، فَكَمَّلَهُ بِمَائِعٍ لَمْ يُغَيِّرْهُ، جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَاءَ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ قَدْرًا يُجْزِئُ فِي الطَّهَارَةِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّنَا نَتَيَقَّنُ حُصُولَ غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِالْمَائِعِ. وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَظْهَرْ صِفَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَاءِ صَارَ حُكْمُ الْجَمِيعِ حُكْمَ الْمَاءِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرًا يُجْزِئُ فِي الطَّهَارَةِ فَخَلَطَهُ بِمَائِعٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ، وَبَقِيَ قَدْرُ الْمَائِعِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ بَعْضُ الْمَاءِ وَبَعْضُ الْمَائِعِ، وَكَذَلِكَ الْبَاقِي، لِاسْتِحَالَةِ انْفِرَادِ الْمَاءِ عَنْ الْمَائِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِطَاهِرٍ] (9) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِطَاهِرٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَارًّا يَمْنَعُ إسْبَاغَ الْوُضُوءِ لِحَرَارَتِهِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ عُمَرُ وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِمْ غَيْرَ مُجَاهِدٍ، وَلَا مَعْنَى لَقَوْلِهِ، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ رَوَى: أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَهُ قُمْقُمَةٌ يُسَخِّنُ فِيهَا الْمَاءَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ حَدِيثًا عَنْ شَرِيكٍ رَحَّالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَجْنَبْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَمَعْت حَطَبًا، فَأَحْمَيْت الْمَاءَ، فَاغْتَسَلْت. فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ» ؛ وَلِأَنَّهَا صِفَةٌ، خُلِقَ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَرَّدَهُ. [فَصْلٌ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ] (10) فَصْلٌ وَلَا تُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ قُصِدَ إلَى تَشْمِيسِهِ فِي الْأَوَانِي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَلَا أَكْرَهُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَخَّنْت لَهُ الْمَاءَ فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ» وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ. وَلَنَا أَنَّهُ سُخِّنَ بِطَاهِرٍ، أَشْبَهَ مَا فِي الْبِرَكِ وَالْأَنْهَارِ، وَمَا سُخِّنَ بِالنَّارِ وَمَا لَمْ يُقْصَدْ تَشْمِيسُهُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، وَالْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ، يَرْوِيهِ، خَالِدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَعَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْسَمُ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الضَّرَرِ. [فَصْلٌ الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِالنَّجَاسَةِ] (11) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ، فَيُنَجِّسَهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا. وَالثَّانِي، أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ وَالْحَائِلُ غَيْرُ حَصِينٍ، فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ، وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ» . وَلَنَا، أَنَّهُ مَاءٌ تَرَدَّدَ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهَا، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ، وَالْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْوَقُودَ كَانَ نَجِسًا، وَلَا أَنَّ الْحَائِلَ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَفْيُ الْكَرَاهَةِ إلَّا فِي مِثْلِهَا، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ نَفْيُ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، إذَا كَانَ الْحَائِلُ حَصِينًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يُكْرَهُ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 عَقِيلٍ، أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَتَيْنِ، عَلَى الْإِطْلَاقِ. [فَصْلٌ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِمَاءِ زَمْزَمَ] (12) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِمَاءِ زَمْزَمَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَهُورٌ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمِيَاهِ. وَعَنْهُ: يُكْرَهُ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، لَكِنْ لِمُحْرِمٍ حَلَّ وَبَلَّ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ بِهِ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ لَا يُؤْخَذُ بِصَرِيحِهِ فِي التَّحْرِيمِ، فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى، وَشَرَفُهُ لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ لِاسْتِعْمَالِهِ، كَالْمَاءِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّهُ، أَوْ اغْتَسَلَ مِنْهُ. [فَصْلٌ الذَّائِبُ مِنْ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ] (13) فَصْلٌ الذَّائِبُ مِنْ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَأَمَرَّهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُلْ الطَّهَارَةُ، وَلَوْ انْبَلَّ بِهِ الْعُضْوُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْغَسْلُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُجْرِيَ الْمَاءَ عَلَى الْعُضْوِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبَ وَيَجْرِيَ مَاؤُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، فَيَحْصُلَ بِهِ الْغَسْلُ، فَيُجْزِئُهُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءٍ قَدْ تُوُضِّئَ بِهِ] (14) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءٍ قَدْ تُوُضِّئَ بِهِ) يَعْنِي: الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْ أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ، وَالْمُغْتَسِلُ فِي مَعْنَاهُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، لَا يَرْفَعُ حَدَثًا، وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِمَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي أُمَامَةَ فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ، إذَا وَجَدَ بَلَلًا فِي لِحْيَتِهِ، أَجْزَأَهُ أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ بِذَلِكَ الْبَلَلِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ» ، وَقَالَ: «الْمَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ» ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَرَأَى لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَعَصَرَ شَعَرَهُ عَلَيْهَا» . رَوَاهُمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا وَلِأَنَّهُ غُسِلَ بِهِ مَحَلٌّ طَاهِرٌ، فَلَمْ تَزُلْ بِهِ طَهُورِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ الثَّوْبُ؛ وَلِأَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِهِ بِتَأْدِيَةِ الْفَرْضِ بِهِ، كَالثَّوْبِ يُصَلَّى فِيهِ مِرَارًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ نَجِسٌ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَاقْتَضَى أَنَّ الْغُسْلَ فِيهِ، كَالْبَوْلِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ، إذْ تَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ. وَلَنَا: عَلَى طَهَارَتِهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ «وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبَّ عَلَى جَابِرٍ مِنْ وَضُوئِهِ إذْ كَانَ مَرِيضًا» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَجُزْ فِعْلُ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ وَنِسَاءَهُ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ فِي الْأَقْدَاحِ وَالْأَتْوَارِ وَيَغْتَسِلُونَ فِي الْجِفَانِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْلَمُ مِنْ رَشَاشٍ يَقَعُ فِي الْمَاءِ مِنْ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسًا لَنَجَّسَ الْمَاءَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَدَّمَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ قَصْعَةً لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: إنِّي غَمَسْت يَدِي فِيهَا، وَأَنَا جُنُبٌ. فَقَالَ: الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ» ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي " الْمُسْنَدِ ": " الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ ". وَعِنْدَهُمْ الْحَدَثُ يَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَاَلَّذِي غُسِلَ بِهِ الثَّوْبُ الطَّاهِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ طَاهِرٌ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا جُنُبٌ، فَانْخَنَسْت مِنْهُ فَاغْتَسَلْت ثُمَّ جِئْت، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُنْت جُنُبًا، فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَكَ، فَذَهَبْت فَاغْتَسَلْت ثُمَّ جِئْت. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَلَوْ مَسَّ شَيْئًا رَطْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَلَوْ حَمَلَهُ مُصَلٍّ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ نَهَى عَنْ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ. قُلْنَا: النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ التَّوَضُّؤِ بِهِ، وَالِاقْتِرَانُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، لَا فِي تَفْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ طَهَارَةً لِكَوْنِهِ يُنَقِّي الذُّنُوبَ وَالْآثَامَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مَنَعَ مِنْ الْغُسْلِ فِيهِ كَمَنْعِهِ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ يُفِيدُهُ مَنْعًا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ أُزِيلَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةٍ أُخْرَى، كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ. [فَصْلٌ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ] (15) فَصْلٌ: وَجَمِيعُ الْأَحْدَاثِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ، وَالْجَنَابَةُ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إذَا قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي الْمُنْفَصِلِ عَنْ غُسْلِ الذِّمِّيَّةِ مِنْ الْحَيْضِ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ مَاءً تَبَرَّدَ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لِأَنَّهَا أَزَالَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بِهِ الْمَانِعَ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مُسْلِمَةٌ، فَإِنْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ كَانَ مُطَهِّرًا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَلَا اُسْتُعْمِلَ فِي عِبَادَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مُسْلِمَةٌ. (16) فَصْلٌ: وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، كَالتَّجْدِيدِ، وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اغْتَسَلَ بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ. وَالثَّانِيَةُ؛ لَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا، وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، أَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ] (17) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ، كَغَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُؤَثِّرْ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا؛ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ، أَشْبَهَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ؛ «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا.» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، أَشْبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ، وَعَلَى قِيَاسِهِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَسْلِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ، إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. [فَصْلٌ إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ أَوْ الْمُحْدِثُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ] (18) فَصْلٌ: إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ أَوْ الْمُحْدِثُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِارْتِفَاعِ حَدَثِهِ فِيهِ. وَلَنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ بِانْفِصَالِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ عَنْ بَدَنِهِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، فَلَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ فِيهِ شَخْصٌ آخَرُ. فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا ارْتَفَعَ حَدَثُهُ، وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ. [فَصْلٌ إذَا اجْتَمَعَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ إلَى قُلَّتَيْنِ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ] (19) فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ إلَى قُلَّتَيْنِ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ صَارَ الْكُلُّ طَهُورًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لَكَانَ الْكُلُّ طَهُورًا، فَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى. وَإِنْ انْضَمَّ إلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَكَثُرَ الْمُسْتَعْمَلُ وَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ مُنِعَ، وَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ بِاجْتِمَاعِهِ فَكَذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ الْمَنْعُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ.» وَإِنْ انْضَمَّ مُسْتَعْمَلٌ إلَى مُسْتَعْمَلٍ وَلَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْمَنْعِ، وَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ] (20) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، وَهُوَ خَمْسُ قِرَبٍ، فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ، فَهُوَ طَاهِرٌ) . وَالْقُلَّةُ: هِيَ الْجَرَّةُ، سُمِّيت قُلَّةً لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْأَيْدِي، أَيْ تُحْمَلُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} [الأعراف: 57] وَيَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا قُلَّتَانِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، وَهُمَا خَمْسُ قِرَبٍ، كُلُّ قِرْبَةٍ مِائَةُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، فَتَكُونُ الْقُلَّتَانِ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ، الْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا. فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُجْعَلَ قِرْبَتَيْنِ وَنِصْفًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَرْبَعُ قِرَبٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ فِي " كِتَابِهِ "؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، قَالَ: رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ، وَأَظُنُّ كُلَّ قِلَّةٍ تَأْخُذُ قُرْبَيْنِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِتَحْدِيدِ الْمَاءِ بِالْقِرَبِ عَلَى تَقْدِيرِ كُلِّ قِرْبَةٍ بِمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِمَّنْ اخْتَبَرَ قِرَبَ الْحِجَازِ، وَعَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِقْدَارُهَا. وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا بِقِلَالِ هَجَرَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُبَيَّنًا، رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ، فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَالثَّانِي أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِلَالِ، وَأَشْهُرُهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ: وَهِيَ مَشْهُورَةُ الصَّنْعَةِ، مَعْلُومَةُ الْمِقْدَارِ. لَا تَخْتَلِفُ كَمَا لَا تَخْتَلِفُ الصِّيعَانُ وَالْمَكَايِيلُ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَقَعُ بِالْمَجْهُولِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ الْحَبَابُ، وَهِيَ مُسْتَفِيضَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الْقُلَّتَيْنِ عَلَيْهَا؛ لِشُهْرَتِهَا وَكِبَرِهَا، فَإِنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ جُعِلَ مِقْدَارًا وَاحِدًا لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا أَكْبَرَهَا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْعِلْمِ، وَأَقَلُّ فِي الْعَدَدِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ نِصَابُ الزَّكَاةِ بِالْأَوْسُقِ، دُونَ الْآصُعِ وَالْأَمْدَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِصَرِيحِهَا عَلَى أَنَّ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَا وَقَعَ فِيهِ لَا يَنْجُسُ، وَبِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّ مَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، وَأَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. فَأَمَّا نَجَاسَةُ مَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رَائِحَةً، أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَاءِ إذَا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، قَالَ: لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَيْتَةُ فِي الْمَاءِ فَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، فَذَلِكَ طَعْمُ الْمَيْتَةِ وَرِيحُهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: إنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، وَابْنُ مَاجَهْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ رِشْدِينُ. وَأَمَّا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ إذَا لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالُوا: الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ - وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتِنُ - فَقَالَ: إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الْخَلَّالُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ، وَعَنْ الطَّهَارَةِ بِهَا، فَقَالَ: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ إحْدَى صِفَاتُ النَّجَاسَةِ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِهَا كَالزَّائِدِ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 مَاجَهْ، وَفِي لَفْظٍ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» . وَتَحْدِيدُهُ بِالْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إذْ لَوْ اسْتَوَى حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ التَّحْدِيدُ مُفِيدًا. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . فَلَوْلَا أَنَّهُ يُفِيدُهُ مَنْعًا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ. أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَإِرَاقَةِ سُؤْرِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا تَغَيَّرَ وَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ، وَخَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ ضَعِيفٌ، وَخَبَرُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَالْخَبَرُ الْآخَرُ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَا تَغَيَّرَ نَجِسٌ، أَوْ نَخُصُّهُمَا بِخَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ أَخُصُّ مِنْهُمَا، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمَ عَلَى الْعَامِّ. وَأَمَّا الزَّائِدُ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ، إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي طَهَارَتِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ أَنَّ الْيَسِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ ذَنُوبَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجُسُ بِالنَّجَاسَةِ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الْآخَرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ يَنْجُسُ، وَإِنْ بَلَغَ أَلْفَ قُلَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَنَهَى عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَاءِ الرَّاكِدِ بَعْدَ الْبَوْلِ فِيهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يُؤْمَنُ انْتِشَارُهَا إلَيْهِ، فَيَنْجُسُ بِهَا كَالْيَسِيرِ. وَلَنَا خَبَرُ الْقُلَّتَيْنِ، وَبِئْرِ بُضَاعَةَ، اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، مَعَ قَوْلِهِمْ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ؟ وَبِئْرُ بُضَاعَةَ لَا يَبْلُغُ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَدَّرْت بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي، مَدَدْته عَلَيْهَا، ثُمَّ ذَرَعْته، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ، وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ: هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا. وَسَأَلْت قَيِّمَهَا عَنْ عُمْقِهَا، فَقُلْت: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ؟ قَالَ: إلَى الْعَانَةِ. قُلْت: فَإِذَا نَقَصَ. قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَحَدِيثُهُمْ عَامٌّ وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الثَّانِي، أَنَّ حَدِيثَهُمْ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ، فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا وَجَبَ تَخْصِيصُهُ كَانَ تَخْصِيصُهُ بُقُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالرَّأْيِ وَالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَلَا دَلِيلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَدِّ تَقْدِيرٌ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ؛ وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ خَاصٌّ فِي الْبَوْلِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَنَقْصُرُ الْحُكْمَ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ، وَهُوَ الْبَوْلُ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ التَّأْكِيدِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْمَاءِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . أَيْ لَمْ يَدْفَعْ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ. قُلْنَا هَذَا فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ «لَمْ يَنْجُسْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْقِلَّةِ يَنْجُسُ لَكَانَ مَا فَوْقَهُمَا لَا يَنْجُسُ، لِتَحَقُّقِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْقُلَّتَيْنِ فَصْلًا بَيْنَ مَا يَتَنَجَّسُ وَمَا لَمْ يَتَنَجَّسْ؛ فَلَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْقَ فَصْلٌ. الثَّالِثُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَا يَحْتَمِلُ الضَّيْمَ. أَيْ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (21) فَصْلٌ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ الْقُلَّتَانِ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ تَحْدِيدًا أَوْ تَقْرِيبًا؟ قَالَ: أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا تَحْدِيدٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ كَانَ احْتِيَاطًا، وَمَا اُعْتُبِرَ احْتِيَاطًا كَانَ وَاجِبًا، كَغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْرٌ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَاعْتُبِرَ تَحْقِيقُهُ كَالْعَدَدِ فِي الْغَسَلَاتِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا تَقْدِيرَ الْقِلَالِ لَمْ يَضْبِطُوهُمَا بِحَدٍّ، إنَّمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ: أَظُنُّهَا تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ. وَهَذَا لَا تَحْدِيدَ فِيهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَرَّبَا الْأَمْرَ، وَالشَّيْءُ الزَّائِدُ عَنْ الْقِرْبَتَيْنِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَالظَّاهِرُ قِلَّتُهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَارُبِ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَكُلَّمَا قَلَّ الشَّيْءُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقِرْبَتَيْنِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْقُلَّةَ قِرْبَتَانِ، وَرُوِيَ قِرْبَتَانِ وَنِصْفٌ، وَرُوِيَ: وَثُلُثٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا. ثُمَّ لَيْسَ لِلْقِرْبَةِ حَدٌّ مَعْلُومٌ؛ فَإِنَّ الْقِرَبَ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَلَا يَكَادُ قِرْبَتَانِ يَتَّفِقَانِ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا مُقَدَّرًا بِالْقِرَبِ، أَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مَحْدُودٍ بِالْقِرَبِ؛ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَكِيلُونَ الْمَاءَ وَلَا يَزِنُونَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُعَرِّفَهُمْ الْحَدَّ بِمَا لَا يُعَرَّفُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ مَاءً فِيهِ نَجَاسَةٌ فَظَنَّهُ مُقَارِبًا لِلْقُلَّتَيْنِ تَوَضَّأَ مِنْهُ، وَإِنْ ظَنَّهُ نَاقِصًا عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ مُقَارَبَةٍ لَهُمَا تَرَكَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَفَائِدَةُ هَذَا، أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ التَّحْدِيدَ، فَنَقَصَ عَنْ الْحَدِّ شَيْئًا يَسِيرًا، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَنَجِسَ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ بِالتَّقْرِيبِ عُفِيَ عَنْ النَّقْصِ الْيَسِيرِ عِنْدَهُ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَا يُقَارِبُ الْقُلَّتَيْنِ، إنْ شَكَّ فِي بُلُوغِ الْمَاءِ قَدْرًا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ أَوْ لَا يَدْفَعُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَشَكَّ هَلْ يَنْجُسُ بِهِ أَوْ لَا؟ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قِلَّةُ الْمَاءِ، فَنَبْنِي عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّجَاسَةُ. [فَصْلُ غَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ] (22) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ، أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالنَّجَاسَةِ وَإِنْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، قَالَ: إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. فِي " مُسْنَدِهِ، إسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا قُوَّةَ لَهَا عَلَى دَفْعِ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهَا لَا تُطَهِّرُ غَيْرَهَا، فَلَا تَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهَا كَالْيَسِيرِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا كَالْمَاءِ، لَا يَنْجُسُ مِنْهَا مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ. قَالَ حَرْبٌ: سَأَلْت أَحْمَدَ، قُلْت: كَلْبٌ وَلَغَ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ؟ قَالَ: إذَا كَانَ فِي آنِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِثْلِ جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ، رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَيُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ فِي آنِيَةٍ صَغِيرَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ. وَالثَّالِثَةُ مَا أَصْلُهُ الْمَاءُ، كَالْخَلِّ التَّمْرِيِّ، يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْمَاءُ، وَمَا لَا فَلَا وَالْأُولَى أَوْلَى. [فَصْلُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ] (23) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَثُرَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا.» وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، فَأَشْبَهَ الْخَلَّ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا فَوَقَعَ فِي جَانِبٍ مِنْهُ نَجَاسَةٌ] (24) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا، فَوَقَعَ فِي جَانِبٍ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، فَتَغَيَّرَ بِهَا، نَظَرْت فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ فَالْجَمِيعُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ نَجِسٌ بِالتَّغَيُّرِ، وَالْبَاقِيَ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاتِهِ، وَإِنْ زَادَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَكُونُ نَجِسًا أَيْضًا، وَإِنْ كَثُرَ وَتَبَاعَدَتْ أَقْطَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ رَاكِدٌ بَعْضُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 نَجِسٌ، فَكَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا، كَمَا لَوْ تَقَارَبْت أَقْطَارُهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ مَائِعٌ نَجِسٌ، فَيَنْجُسُ مَا يُلَاقِيهِ، ثُمَّ تَنَجَّسَ بِذَلِكَ مَا يُلَاقِيهِ إلَى آخِرِهِ. فَإِنْ اضْطَرَبَ فَزَالَ التَّغَيُّرُ زَالَ التَّنْجِيسُ؛ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ.» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ قَدْ بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ التَّغَيُّرِ فَقَطْ، فَيَخْتَصُّ التَّنْجِيسُ بِمَحَلِّ الْعِلَّةِ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بَعْضُهُ بِطَاهِرٍ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا كَانَ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ نَاقِصًا عَنْ الْقُلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ لِلنَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. وَأَمَّا تَبَاعُدُ الْأَقْطَارِ وَتَقَارُبُهَا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا، إنَّمَا الْعِبْرَةُ بِكَوْنِ غَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُلَاصِقِ لِلنَّجَاسَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ مَيْتَةٌ، فَإِنَّ الْمُلَاصِقَ لَهُ طَاهِرٌ، وَإِنْ مُنِعَتْ طَهَارَتُهُ فَالْمُلَاصِقُ لِلْمُلَاصِقِ طَاهِرٌ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَجَّسَ الْبَحْرُ إذَا تَغَيَّرَ جَانِبِهِ وَالْمَاءُ الْجَارِي وَكُلُّ مَا تَغَيَّرَ بَعْضُهُ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ: لَا يُنَجِّسُ تِلْكَ شَيْءٌ. [فَصْلٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا] (25) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْيَسِيرُ مِمَّا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ أَوْ لَا يُدْرِكُهُ مِنْ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ، إلَّا أَنَّ مَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي الثَّوْبِ، كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ، حُكْمُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِهِ حُكْمُهُ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ، وَكُلُّ نَجَاسَةٍ يَنْجُسُ بِهَا الْمَاءُ يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَهَا؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ نَاشِئَةٌ عَنْ نَجَاسَةِ الْوَاقِعِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهَا، وَالْفَرْعُ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ أَصْلِهِ. وَقِيلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إنَّ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِهِ. وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ الذُّبَابَ إذَا وَقَعَ عَلَى خَلَاءٍ رَقِيقٍ، أَوْ بَوْلٍ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الثَّوْبِ، غُسِلَ مَوْضِعُهُ، وَنَجَاسَةُ الذُّبَابِ مِمَّا لَا يُدْرِكُهَا الطَّرَفُ؛ وَلِأَنَّ دَلِيلَ التَّنْجِيسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا، وَلَا بَيْنَ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ وَمَا لَا يُدْرِكُهُ، فَالتَّفْرِيقُ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ مَا عَلِمْنَا وُصُولَ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ، وَمَعَ الْعِلْمِ لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَشَقَّةِ، ثُمَّ إنَّ الْمَشَقَّةَ حِكْمَةٌ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا بِمُجَرَّدِهَا. وَجَعْلُ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ ضَابِطًا لَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِتَوْقِيفٍ، أَوْ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ فِي مَوْضِعٍ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ الْغَدِيرَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِسَاقِيَةٍ بَيْنَهُمَا] (26) فَصْلٌ: وَالْغَدِيرَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِسَاقِيَةٍ بَيْنَهُمَا، فِيهَا مَاءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، فَهُمَا مَاءٌ وَاحِدٌ، حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَدِيرِ الْوَاحِدِ، إنْ بَلَغَا جَمِيعًا قُلَّتَيْنِ لَمْ يَتَنَجَّسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغَاهَا تَنَجَّسَ كُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 مِنْهُمَا بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ رَاكِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، أَشْبَهَ الْغَدِيرَ الْوَاحِدَ [فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الْجَارِي] (27) فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الْجَارِي: نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَوْضِ الْحَمَّامِ: قَدْ قِيلَ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي. وَقَالَ فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي، لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي. فَعَلَى هَذَا لَا يَتَنَجَّسُ الْجَارِي إلَّا بِتَغَيُّرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي تَنْجِيسِهِ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَقَوْلِهِ: " الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ ". فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَنْجِيسِ قَلِيلِهِ؛ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . قُلْنَا: هَذَا حُجَّةٌ عَلَى طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ مَاءَ السَّاقِيَةِ بِمَجْمُوعِهِ قَدْ بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، فَلَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ، وَتَخْصِيصُ الْجِرْيَةِ مِنْهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْخَبَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْجَارِي عَلَيْهِ، لِقُوَّتِهِ بِجَرَيَانِهِ وَاتِّصَالِهِ بِمَادَّتِهِ، ثُمَّ الْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى نَفْيِ النَّجَاسَةِ عَمَّا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ هَاهُنَا بِمَفْهُومِهِ، وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَفْهُومِ يَحْصُلُ بِمُخَالَفَةِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لِمَا بَلَغَهُمَا، وَقَدْ حَصَلْت الْمُخَالَفَةُ بِكَوْنِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَاءُ الْجَارِي وَالرَّاكِدُ فِي التَّنْجِيسِ، وَمَا بَلَغَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا كَافٍ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ: كُلُّ جِرْيَةٍ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهَا، فَإِذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ جَارِيَةً مَعَ الْمَاءِ، فَمَا أَمَامَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ، وَمَا خَلْفَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا، وَالْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ إنْ بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ وَاقِفَةً فِي جَانِبِ النَّهْرِ، أَوْ قَرَارِهِ، أَوْ فِي وَهْدَةٍ مِنْهُ، فَكُلُّ جِرْيَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَإِنْ بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ. وَالْجِرْيَةُ: هِيَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا، مِمَّا الْعَادَةُ انْتِشَارُهَا إلَيْهِ إنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْتَشِرُ، مَعَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَيْنَ طَرَفَيْ النَّهْرِ. فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُمْتَدَّةً فَلِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مِثْلُ تِلْكَ الْجِرْيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ، وَلَا يُجْعَلُ جَمِيعُ مَا يُحَاذِيهَا جِرْيَةً وَاحِدَةً، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ، وَنَفْيِ التَّنْجِيسِ عَنْ الْكَثِيرِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ، فَإِنَّ الْمُحَاذِيَ لِلْكَثِيرَةِ كَثِيرٌ فَلَا يَتَنَجَّسُ، وَالْمُحَاذِي لِلْقَلِيلَةِ قَلِيلٌ فَيَتَنَجَّسُ، فَإِنَّنَا لَوْ فَرَضْنَا كَلْبًا فِي جَانِبِ نَهْرٍ، وَشَعْرَةٌ مِنْهُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، لَكَانَ الْمُحَاذِي لِلشَّعْرَةِ لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ؛ لِقِلَّةِ مَا يُحَاذِيهَا، وَالْمُحَاذِي لِلْكَلْبِ يَبْلُغُ قِلَالًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ، أَنَّ الْجِرْيَةَ الْمُحَاذِيَةَ لِلنَّجَاسَةِ فِيمَا بَيْنَ طَرَفَيْ النَّهْرِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِمَا بَيَّنَّاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُفْضِي إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْقَلِيلَةِ، قُلْنَا: الشَّرْعُ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَهُوَ أَصْلٌ، فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجَارِي، الَّذِي هُوَ فَرْعٌ. [فَصْلٌ كَانَ فِي جَانِبِ النَّهْرِ مَاءٌ وَاقِفٌ مَائِلٌ عَنْ سُنَنِ الْمَاءِ] (28) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي جَانِبِ النَّهْرِ مَاءٌ وَاقِفٌ، مَائِلٌ عَنْ سَنَنِ الْمَاءِ، مُتَّصِلٌ بِالْجَارِي، أَوْ كَانَ فِي أَرْضِ النَّهْرِ وَهْدَةٌ، فِيهَا مَاءٌ وَاقِفٌ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ الْجِرْيَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، نَجِسَا جَمِيعًا بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُتَّصِلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَيَنْجُسُ بِهَا جَمِيعُهُ كَالرَّاكِدِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا دَامَا مُتَلَاقِيَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهَا، وَعَمَّا لَاقَتْهُ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ النَّجَاسَةِ فِي النَّهْرِ، أَوْ فِي الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي النَّهْرِ وَهُوَ قُلَّتَانِ فَهُوَ طَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ الْوَاقِفُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ قَبْلَ مُلَاقَاتِهِ لِلْوَاقِفِ، فَإِذَا حَاذَاهُ طَهُرَ بِاتِّصَالِهِ بِهِ، فَإِذَا فَارَقَهُ عَادَ إلَى التَّنَجُّسِ؛ لِقِلَّتِهِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْوَاقِفِ لَمْ يَنْجُسْ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ هُوَ وَمَا لَاقَاهُ قُلَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَالْجِرْيَةُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا يَزِيدَانِ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ، وَكَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْوَاقِفِ، لَمْ يَنْجُسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا مَعَ مَا تُلَاقِيهِ أَكْثَرُ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النَّهْرِ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَنْجُسَ الْوَاقِفُ، وَالْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ، وَكُلُّ مَا يَمُرُّ بَعْدَهَا بِالْوَاقِفِ؛ لِأَنَّ الْجِرْيَةَ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ كَانَتْ نَجِسَةً قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْوَاقِفِ، ثُمَّ نَجِسَ بِهَا الْوَاقِفُ؛ لِكَوْنِهِ مَاءً دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَرَدَ عَلَيْهِ مَاءٌ نَجِسٌ، وَلَمْ تَطْهُرْ الْجِرْيَةُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ نَجِسٍ صُبَّ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَلَمَّا صَارَ الْوَاقِفُ نَجِسًا نَجَّسَ مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ الْجِرْيَةِ حَالَ مُلَاقَاتِهَا لِلْوَاقِفِ، وَلَا يَتَنَجَّسُ الْوَاقِفُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَنْجُسُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَإِنْ تَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَعْيَانِ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِفُ مُتَغَيِّرًا وَحْدَهُ فَالْجِرْيَةُ الَّتِي تَمُرُّ بِهِ إنْ كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِرْيَةُ مُتَغَيِّرَةً، وَالْوَاقِفُ قُلَّتَانِ، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْوَاقِفِ مُتَغَيِّرًا وَبَعْضُهُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ مَعَ الْجِرْيَةِ الْمُلَاقِيَةِ لَهُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ زَائِدٌ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِرْيَةُ قُلَّتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَغَيِّرُ مِنْهُ الْوَاقِفُ يَلِي الْجَارِيَ وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ لَا يَلِيهِ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ وَلَا أَسْفَلِهِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ نَجِسًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُلَاقِي الْمَاءَ النَّجِسَ لَا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ، وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ نَاحِيَةٍ فَكُلُّ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَاهِرٌ إذَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَالْغَدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاقِيَةٌ، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 (29) فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعْت الْجِرْيَاتُ فِي مَوْضِعٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْجِرْيَاتِ مَاءٌ طَاهِرٌ مُتَوَالٍ يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ، إمَّا سَابِقًا وَإِمَّا لَاحِقًا، فَالْجَمِيعُ طَاهِرٌ. مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهَا، وَعَمَّا اجْتَمَعَتْ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَمِعُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضِ الْجِرْيَاتِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَالْكُلُّ نَجِسٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْجِرْيَاتِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ، أَوْ بَعْضَ الْجِرْيَاتِ طَاهِرٌ وَبَعْضَهَا نَجِسٌ، وَلَا يَتَوَالَى مِنْ الطَّاهِرِ قُلَّتَانِ،، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْجَمِيعَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَثُرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِمُكْثِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ انْضَمَّ النَّجِسُ إلَى النَّجِسِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ نَجِسًا كَغَيْرِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْجِرْيَاتِ طَاهِرًا، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ، طَهُرَ الْجَمِيعُ، وَإِنْ زَالَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ بِاجْتِمَاعِ مَاءٍ نَجِسٍ إلَيْهِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَطْهُرَ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ عِلَّةَ التَّنْجِيسِ، فَأَزَالَ التَّنْجِيسَ، كَمَا لَوْ زَالَ بِنَزَحٍ أَوْ بِمُكْثِهِ. [فَصْلٌ فِي تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ] (30) فَصْلٌ: فِي تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِقُلَّتَيْنِ طَاهِرَتَيْنِ، إمَّا أَنْ يُصَبَّ فِيهِ، أَوْ يَنْبُعَ فِيهِ، فَيَزُولَ بِهِمَا تَغَيُّرُهُ إنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا طَهُرَ بِمُجَرَّدِ الْمُكَاثَرَةِ؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ، وَلَا تَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهَا مَاءٌ نَجِسٌ لَمْ يُنَجِّسْهَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ وَارِدَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِمَا طَهَارَةُ مَا اخْتَلَطَتَا بِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ، فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا غَيْرُ، الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا فَيَطْهُرَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ إذَا أَزَالَتْ التَّغَيُّرَ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ مُكْثِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، الزَّائِدُ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ، فَلَا طَرِيقَ إلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ، الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، فَتَطْهِيرُهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ؛ الْمُكَاثَرَةُ، أَوْ زَوَالُ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا، فَإِنَّهُ إنْ بَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، قَبْلَ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ، لَمْ يَبْقَ التَّغَيُّرُ عِلَّةَ تَنْجِيسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِدُونِهِ، فَلَا يَزُولُ التَّنْجِيسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بِزَوَالِهِ، وَلِذَلِكَ طَهُرَ الْكَثِيرُ بِالنَّزْحِ وَطُولِ الْمُكْثِ، وَلَمْ يَطْهُرْ الْقَلِيلُ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ التَّغَيُّرَ زَالَ تَنْجِيسُهُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ، كَالْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا، وَالْقَلِيلُ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ الْمُلَاقَاةُ لَا التَّغَيُّرُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ زَوَالُهُ فِي زَوَالِ التَّنْجِيسِ. (31) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُكَاثَرَةِ صَبُّ الْمَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَكِنْ يُوصِلُ الْمَاءَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمُتَابَعَةِ، إمَّا مِنْ سَاقِيَةٍ، وَإِمَّا دَلْوًا فَدَلْوًا، أَوْ يَسِيلُ إلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ، أَوْ يَنْبُعُ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ فَيَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ. (32) فَصْلٌ: فَإِنْ كُوثِرَ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَزَالَ تَغَيُّرُهُ، أَوْ طُرِحَ فِيهِ تُرَابٌ أَوْ مَائِعٌ غَيَّرَ الْمَاءَ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَطْهُرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالْمَاءِ النَّجِسِ. وَالثَّانِي، يَطْهُرُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرُ، وَقَدْ زَالَ، فَيَزُولُ التَّنْجِيسُ، كَمَا لَوْ زَالَ بِمُكْثِهِ، وَكَالْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا. (33) فَصْلٌ: وَلَا يَطْهُرُ غَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ، فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إلَّا الزِّئْبَقَ؛ فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ السَّمْنِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَالَ: إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَوْ كَانَ إلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ مَا يَتَأَتَّى تَطْهِيرُهُ كَالزَّيْتِ، يَطْهُرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ فَيَطْهُرُ بِهِ، كَالْجَامِدِ، وَطَرِيقُ تَطْهِيرِهِ جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، وَيُخَاضُ فِيهِ حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَى الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي جَرَّةٍ وَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً، فَخَاضَهُ بِهِ، وَجَعَلَ لَهَا بُزَالًا يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، جَازَ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي السَّمْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُمْكِنَ تَطْهِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْمُدُ فِي الْمَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الْأَمْرَ بِتَطْهِيرِهِ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ، وَقِلَّةِ وُقُوعِهِ. (34) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ وَكَانَ مَائِعًا نَجِسَ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ أُخِذَتْ النَّجَاسَةُ بِمَا حَوْلَهَا فَأُلْقِيَتْ، وَالْبَاقِي طَاهِرٌ: لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» أَخْرُجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ "، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ ". وَحَدُّ الْجَامِدِ الَّذِي لَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى جَمِيعِهِ، هُوَ الْمُتَمَاسِكُ الَّذِي فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُ انْتِقَالَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ إلَى مَا سِوَاهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الدُّوشَابِ. يَعْنِي: يَقَعُ فِيهِ نَجَاسَةٌ؟ قَالَ: إذَا كَانَ كَثِيرًا أَخَذُوا مَا حَوْلَهُ، مِثْلُ السَّمْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ حَدُّ الْجَامِدِ مَا إذَا فُتِحَ وِعَاؤُهُ لَمْ تَسِلْ أَجْزَاؤُهُ. وَظَاهِرُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافُ هَذَا؛ فَإِنَّ الدُّوشَابَ لَا يَكَادُ يَبْلُغُ هَذَا، وَسَمْنُ الْحِجَازِ لَا يَكَادُ يَبْلُغُهُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْجُمُودِ أَنْ لَا تَسْرِيَ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ تَنَجُّسُ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ] (35) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَجَّسَ الْعَجِينُ وَنَحْوُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَطْهِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ نُقِعَ السِّمْسِمُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْحُبُوبِ فِي الْمَاءِ النَّجِسِ، حَتَّى انْتَفَخَ وَابْتَلَّ، لَمْ يَطْهُرْ. قِيلَ لِأَحْمَدَ فِي سِمْسِمٍ نُقِعَ فِي تِيغَارٍ، فَوَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، فَمَاتَتْ؟ قَالَ: لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. قِيلَ: أَفَيُغْسَلُ مِرَارًا حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ الْمَاءُ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ ابْتَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ؛ لَا يُنَقَّى مِنْهُ وَإِنْ غُسِلَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الْعَجِينِ وَالسِّمْسِمِ: يُطْعَمُ النَّوَاضِحَ، وَلَا يُطْعَمُ لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. يَعْنِي لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَرِيبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: يُطْعَمُ الدَّجَاجَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُطْعَمُ الْبَهَائِمَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُطْعَمُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَلَنَا: مَا رَوَى أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أَنْفُسَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ» وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ: " أَطْعِمْهُ نَاضِحَك أَوْ رَقِيقَك ". وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ هَذَا بِمَيْتَةٍ. يَعْنِي أَنَّ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ، وَلَا فِي مَعْنَاهَا؛ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ شُحُومِ الْمَيْتَةِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْضِي إلَى تَعَدِّي نَجَاسَتِهَا، وَاسْتِعْمَالِ مَا دُهِنَتْ بِهِ مِنْ الْجُلُودِ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ نَجَاسَةَ هَذَا لَا تَتَعَدَّى أَكْلَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُطْعَمُ لِشَيْءٍ يُؤْكَلُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُحْلَبُ لَبَنُهُ، لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ بِهِ، وَيَصِيرَ كَالْجَلَّالِ. [مَسْأَلَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً مَائِعَةً] (36) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إلَّا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً مَائِعَةً فَإِنَّهُ يَنْجُسُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا، فَذَاكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) يَعْنِي بِالْمَصَانِعِ: الْبِرَكَ الَّتِي صُنِعَتْ مَوْرِدًا لِلْحَاجِّ، يَشْرَبُونَ مِنْهَا، يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءٌ كَثِيرٌ وَيَفْضُلُ عَنْهُمْ، فَتِلْكَ لَا تَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، مِثْلُ الرِّجْلِ مِنْ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا، أَنَّهُ بِحَالِهِ يُتَطَهَّرُ مِنْهُ، فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ، إلَّا بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ، أَوْ عَذِرَتِهِمْ الْمَائِعَةِ؛ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ. رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَحَدَّثَنَا عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَبِيٍّ بَالَ فِي بِئْرٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِفُوهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: " ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ". صَحِيحٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ.» وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبَوْلِ، وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» . وَلِأَنَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّ لَا تَزِيدُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ الْكَلْبِ، وَهُوَ لَا يُنَجِّسُ الْقُلَّتَيْنِ، فَبَوْلُ الْآدَمِيِّ أَوْلَى، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ يُخَصُّ بِخَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِخَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَسَاوَى الْحَدِيثَانِ لَوَجَبَ الْعُدُولُ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فَصْلٌ: وَلَمْ أَجِدْ عَنْ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا عَنْ أَصْحَابِنَا، تَحْدِيدَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، بِأَكْثَرَ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِمَصَانِعِ مَكَّةَ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّاكِدِ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى قِلَّةِ مَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَصَانِعَ لَمْ تَكُنْ، إنَّمَا أُحْدِثَتْ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ؟ فَقَالَ: لَيْسَ يُنَجِّسُ تِلْكَ عِنْدِي بَوْلٌ وَلَا شَيْءٌ إذَا كَثُرَ الْمَاءُ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ تِلْكَ الْمَصَانِعِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ بِئْرٍ بَالَ فِيهَا إنْسَانٌ " قَالَ تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ. قُلْت: مَا حَدُّهُ؟ قَالَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَزْحِهَا. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْغَدِيرُ يُبَالُ فِيهِ؟ قَالَ: الْغَدِيرُ أَسْهَلُ. وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَقَالَ فِي الْبِئْرِ، يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي. يَعْنِي أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْبَوْلِ فِيهِ إذَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ. (38) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَوْلِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ بِئْرٍ غَزِيرَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا خِرْقَةٌ أَصَابَهَا بَوْلٌ؟ قَالَ: تُنْزَحُ. وَقَالَ فِي قَطْرَةِ بَوْلٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ: لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. (39) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ بِئْرُ الْمَاءِ مُلَاصِقَةً لَبِئْرٍ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَشُكَّ فِي وُصُولِهَا إلَى الْمَاءِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَكُونُ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ مَا لَمْ يُغَيِّرْ طَعْمًا وَلَا رِيحًا - وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ - فَلَا بَأْسَ أَنْ يُتَوَضَّأَ مِنْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ أَحَبَّ عِلْمَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَطْرَحْ فِي الْبِئْرِ النَّجِسَةِ نَفْطًا، فَإِنْ وَجَدَ رَائِحَتَهُ فِي الْمَاءِ عَلِمَ وُصُولَهُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ تَغَيُّرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ لَهُ سَبَبًا آخَرَ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْمُلَاصَقَةَ سَبَبٌ، فَيُحَالُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلَوْ وَجَدَ مَاءً مُتَغَيِّرًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ سَبَبَ تَغَيُّرِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فَوَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا فَهُوَ نَجِسٌ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّغَيُّرُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ، لِكَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهَا، أَوْ لِمُخَالَفَتِهِ لَوْنَهَا أَوْ طَعْمَهَا، فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ لِلنَّجَاسَةِ سَبَبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ. [فَصْلٌ تَوَضَّأَ مِنْ مَاءٍ كَثِيرٍ ثُمَّ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا بِنَجَاسَةٍ] (40) فَصْلٌ: وَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَصَلَّى، ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ نَجَاسَةً، أَوْ تَوَضَّأَ مِنْ مَاءٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا بِنَجَاسَةٍ، وَشَكَّ هَلْ كَانَ قَبْلَ وُضُوئِهِ، أَوْ بَعْدَهُ؟ فَالْأَصْلُ صِحَّةُ طَهَارَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وُضُوئِهِ بِأَمَارَةٍ أَعَادَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَبْلَ وُضُوئِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَكَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَنَقَصَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَعَادَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ نَقْصُ الْمَاءِ. [فَصْلٌ إذَا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ النَّجِسِ فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ صُبَّ فِيهِ] (41) فَصْلٌ: إذَا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ النَّجِسِ، فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَاءٌ، أَوْ صُبَّ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ أَرْضَ الْبِئْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَجِسَتْ جَوَانِبُ الْبِئْرِ، فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَجَسٍ، فَأَشْبَهَ رَأْسَ الْبِئْرِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَجِبُ؛ لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِذَلِكَ، فَعُفِيَ عَنْهُ، كَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَأَسْفَلِ الْحِذَاءِ. فَصْلٌ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قُبُورِ الْحِجَارَةِ الَّتِي لِلرُّومِ يَجِيءُ الْمَطَرُ فَيَصِيرُ فِيهَا، وَيَشْرَبُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَوَضَّئُونَ؟ قَالَ: لَوْ غُسِلَتْ كَيْفَ تُغْسَلُ وَالْمَاءُ يَجِيءُ الْمَطَرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ غَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَالْأَوْلَى الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ قَدْ أَصَابَهَا الْمَاءُ مَرَّاتٍ لَا يُحْصَى عَدَدُهَا، وَجَرَى عَلَى حِيطَانِهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ مَا يُطَهِّرُهَا بَعْضُهُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ يَشُقُّ غَسْلُهَا، فَأَشْبَهَتْ الْأَرْضَ الَّتِي تَطْهُرُ بِمَجِيءِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا. (43) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ الْيَسِيرِ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِثْلُ الذُّبَابِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يُنَجِّسُهُ) النَّفْسُ هَاهُنَا: الدَّمُ يَعْنِي: مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الدَّمَ نَفْسًا، قَالَ الشَّاعِرُ: أُنْبِئْت أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا ... أَبْيَاتَهُمْ تَامُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ يَعْنِي: دَمَهُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: نُفَسَاءُ؛ لِسَيَلَانِ دَمِهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: نَفِسَتْ الْمَرْأَةُ. إذَا حَاضَتْ، وَنَفِسَتْ مِنْ النِّفَاسِ. وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ: كَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ، أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 حَيَوَانِ الْبَحْرِ، مِنْهُ الْعَلَقُ، وَالدِّيدَانُ، وَالسَّرَطَانُ، وَنَحْوُهَا، لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ إذَا مَاتَ فِيهِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْجُسُ قَلِيلُ الْمَاءِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي: لَا يَنْجُسُ وَهُوَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ نَجِسٌ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ لَا لِحُرْمَتِهِ، فَيَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَمْقُلْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَفِي لَفْظٍ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَقْلُهُ لَيْسَ بِقَتْلِهِ. قُلْنَا: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ شَرَابٍ بَارِدٍ، أَوْ حَارٍّ، أَوْ دُهْنٍ، مِمَّا يَمُوتُ بِغَمْسِهِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ كَانَ أَمْرًا بِإِفْسَادِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِسَلْمَانَ: يَا سَلْمَانُ، أَيُّمَا طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ مَاتَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَتْ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ، فَهُوَ الْحَلَالُ: أَكْلُهُ، وَشُرْبُهُ، وَوُضُوءُهُ» . وَهَذَا صَرِيحٌ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: يَرْوِيهِ بَقِيَّةُ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، فَإِذَا رَوَى عَنْ الثِّقَاتِ جَوَّدَ وَلِأَنَّهُ لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ دُودَ الْخَلِّ إذَا مَاتَ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا ذَلِكَ وَنَحْوَهُ، أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ ثُمَّ يُطْرَحَ فِيهِ، أَوْ يَشُقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجَّسَ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ. (44) فَصْلٌ: فَإِنْ غَيَّرَ الْمَاءَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ؛ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، كَالْجَرَادِ يَتَسَاقَطُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ كَوَرَقِ الشَّجَرِ الْمُتَنَاثِرِ فِي الْمَاءِ، يُعْفَى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، كَاَلَّذِي يُلْقَى فِي الْمَاءِ قَصْدًا، فَهُوَ كَالْوَرَقِ الَّذِي يُلْقَى فِي الْمَاءِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِحَيَوَانٍ مُذَكًّى، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَ نَجَاسَةً، فَقَدْ نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ، وَقَعَتْ فِي مَاءٍ فَتَغَيَّرَ رِيحُ الْمَاءِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ نَجَاسَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: وَأَمَّا السَّمَكُ إذَا غَيَّرَ الْمَاءَ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. [فَصْلٌ ضَرَبَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا] (45) فَصْلٌ: ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَنْ ضَرَبَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا، فَوَقَعَ فِي مَاءٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ مَاتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بِالْجِرَاحَةِ، أَوْ بِالْمَاءِ، فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالْحَيَوَانُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَظْرِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ مُوجِبَةً، فَيَكُونُ الْحَيَوَانُ أَيْضًا مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ بِالْجِرَاحِ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ، إلَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ دَمٌ. (46) فَصْلٌ: الْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ: مَا لَيْسَتْ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الطَّاهِرَاتِ، فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الثَّانِي، مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، كَدُودِ الْحُشِّ وَصَرَاصِرِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا، كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ، إذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ الْحَبِّ، صُبَّ وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ، وَلَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. الضَّرْبُ الثَّانِي مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ، وَهُوَ السَّمَكُ وَسَائِرُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَاءَ لَمْ يَمْنَعْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. النَّوْعُ الثَّانِي مَا لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ غَيْرَ الْآدَمِيِّ؛ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ الْمَأْكُولِ، وَغَيْرِهِ، كَحَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، كَالضِّفْدَعِ، وَالتِّمْسَاحِ، وَشَبَهِهِمَا، فَكُلُّ ذَلِكَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَيُنَجِّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إذَا غَيَّرَهُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فِي الضِّفْدَعِ: إذَا مَاتَتْ فِي الْمَاءِ لَا تُفْسِدُهُ؛ لِأَنَّهَا تَعِيشُ فِي الْمَاءِ أَشْبَهَتْ السَّمَكَ. وَلَنَا أَنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ، فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ، كَحَيَوَانِ الْبَرِّ؛ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ، وَيُفَارِقُ السَّمَكُ؛ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ، وَلَا يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ، الْآدَمِيُّ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَمَاتَ؟ قَالَ: يُنْزَحُ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: يَنْجُسُ وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، فَنَجُسَ بِالْمَوْتِ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. كَالرِّوَايَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا؛ لِلْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، فَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّهِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَجِسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ. (47) فَصْلٌ: وَحُكْمُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَةٍ. فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ؛ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ. وَذِكْرُ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ فَإِنَّ لَهَا حُرْمَةً، بِدَلِيلِ أَنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ، وَيُصَلَّى عَلَيْهَا إذَا وُجِدَتْ مِنْ الْمَيِّتِ، ثُمَّ تَبْطُلُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ طَاهِرٌ. (48) فَصْلٌ وَفِي الْوَزَغِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً، أَشْبَهَ الْعَقْرَبَ؛ وَلِأَنَّهُ إنْ شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَالْمَاءُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يَنْجُسُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ. إنْ مَاتَتْ الْوَزَغَةُ أَوْ الْفَأْرَةُ فِي الْجُبِّ يُصَبُّ مَا فِيهِ، وَاذَا مَاتَتْ فِي بِئْرٍ فَانْزَحْهَا حَتَّى تَغْلِبَك. (49) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ حَيَوَانٌ لَا يُعْلَمُ، هَلْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ أَمْ لَا؟ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ، وَالنَّجَاسَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا، فَلَا نُزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ يُشَكُّ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ وَطَهَارَتِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ لَا يُتَوَضَّأُ بِسُؤْرِ كُلِّ بَهِيمَةٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا إلَّا السِّنَّوْرَ] (50) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يُتَوَضَّأُ بِسُؤْرِ كُلِّ بَهِيمَةٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، إلَّا السِّنَّوْرَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ) . السُّؤْرُ فَضْلَةُ الشُّرْبِ. وَالْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ. فَالنَّجِسُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا هُوَ نَجِسٌ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ الْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا نَجِسٌ، عَيْنُهُ، وَسُؤْرُهُ، وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السُّؤْرِ خَاصَّةً. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُد: سُؤْرُهُمَا طَاهِرٌ، يُتَوَضَّأُ بِهِ وَيُشْرَبُ، وَإِنْ وَلَغَا فِي طَعَامٍ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 غَيْرَهُ. وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ مَسْلَمَةَ: يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ. قَالَ مَالِكٌ: وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ تَعَبُّدًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى طَهَارَتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا أَصَابَهُ فَمُهُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ، وَعَنْ الطَّهَارَةِ بِهَا؟ فَقَالَ: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ» ؛ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ فَكَانَ طَاهِرًا كَالْمَأْكُولِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ: «فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ، وَلَوْ كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا لَمْ تَجُزْ إرَاقَتُهُ، وَلَا وَجَبَ غَسْلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ تَعَبُّدًا، كَمَا تُغْسَلُ أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ وَتُغْسَلُ الْيَدُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ. قُلْنَا: الْأَصْلُ وُجُوبُ الْغَسْلِ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْغَسْلِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ تَعَبُّدًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْمَاءِ، وَلَمَا اخْتَصَّ الْغَسْلَ بِمَوْضِعِ الْوُلُوغِ؛ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْإِنَاءِ كُلِّهِ. وَأَمَّا غَسْلُ الْيَدِ مِنْ النَّوْمِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِلِاحْتِفَاظِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ قَدْ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ، فَيَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، ثُمَّ تُنَجَّسُ أَعْضَاؤُهُ بِهِ، وَغَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ شُرِعَ لِلْوَضَاءَةِ وَالنَّظَافَةِ لِيَكُونَ الْعَبْدُ فِي حَالِ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَأَكْمَلِهَا، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَإِنَّمَا عَهِدْنَا التَّعَبُّدَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ. أَمَّا الْآنِيَةُ وَالثِّيَابُ فَإِنَّمَا يَجِبُ غَسْلُهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظٍ: «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَلَا يَكُونُ الطَّهُورُ إلَّا فِي مَحَلِّ الطَّهَارَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِأَكْلِ مَا أَمْسَكَهُ الْكَلْبُ قَبْلَ غَسْلِهِ، قُلْنَا: اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَكْلِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِهِ، فَيُعْمَلُ بِأَمْرِهِمَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَلِأَنَّهُ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ، وَحَدِيثُهُمْ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَاءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ كَانَ كَثِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ عَلَى رِوَايَةٍ لَنَا، وَشُرْبُهَا مِنْ الْمَاءِ لَا يُغَيِّرُهُ، فَلَمْ يُنَجِّسْهُ ذَلِكَ النَّوْعُ الثَّانِي مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، إلَّا السِّنَّوْرَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ، وَالْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ؛ فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ، إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ تَيَمَّمَ، وَتَرَكَهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَرِهَ سُؤْرَ الْحِمَارِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَإِسْحَاقَ وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ: إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ سُؤْرِهِمَا تَيَمَّمَ مَعَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِهِ وَرُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بِسُؤْرِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي السِّبَاعِ: تَرِدُ عَلَيْنَا، وَنَرِدُ عَلَيْهَا. وَرَخَّصَ فِي سُؤْرِ جَمِيعِ ذَلِكَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَبُكَيْر بْنُ الْأَشَجِّ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْحِيَاضِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَهَذَا نَصٌّ؛ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَكَانَ طَاهِرًا كَالشَّاةِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ؟ فَقَالَ: " إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ ". وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يَحُدَّهُ بِالْقُلَّتَيْنِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ: إنَّهَا رِجْسٌ» وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ حَرُمَ أَكْلُهُ، لَا لِحُرْمَتِهِ، يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ غَالِبًا، أَشْبَهَ الْكَلْبَ؛ وَلِأَنَّ السِّبَاعَ وَالْجَوَارِحَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا أَكْلُ الْمَيْتَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ، فَتُنَجَّسُ أَفْوَاهُهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ مُطَهِّرٍ لَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِنَجَاسَتِهَا، كَالْكِلَابِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى نَجَاسَةَ سُؤْرِ الْكَلْبِ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ كَذَّابٌ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: طَهَارَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُهَا، وَتُرْكَبُ فِي زَمَنِهِ، وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا لِمُقْتَنِيهِمَا. فَأَشْبَهَا السِّنَّوْرَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إنَّهَا رِجْسٌ ". أَرَادَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ إنَّهَا " رِجْسٌ "، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَحْمَهَا الَّذِي كَانَ فِي قُدُورِهِمْ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ، فَإِنَّ ذَبْحَ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لَا يُطَهِّرُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ، الْآدَمِيُّ، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا، عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ سُؤْرَ الْحَائِضِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهَا كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْ الْإِنَاءِ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا فَيَشْرَبُ، وَتَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ فَيَأْخُذُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، «وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ حَائِضٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِعَائِشَةَ: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ. قَالَ: إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك» . الضَّرْبُ الثَّانِي مَا أُكِلَ لَحْمُهُ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَالْوُضُوءُ بِهِ. فَإِنْ كَانَ جَلَّالًا يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ. فَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ. وَالثَّانِيَةُ: طَاهِرٌ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ؛ كَالْفَأْرَةِ، وَابْنِ عِرْسٍ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ سُؤْرُهُ طَاهِرٌ، يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ. وَلَا يُكْرَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّامِ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرِّ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَكَذَلِكَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، يُغْسَلُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ: يُغْسَلُ مَرَّةً. وَقَالَ طَاوُسٌ: يُغْسَلُ سَبْعًا، كَالْكَلْبِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: «إذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً» . وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، قَالَتْ: فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي الْبَابِ. وَقَدْ دَلَّ بِلَفْظِهِ عَلَى نَفْيِ الْكَرَاهَةِ عَنْ سُؤْرِ الْهِرِّ، وَبِتَعْلِيلِهِ عَلَى نَفْيِ الْكَرَاهَةِ عَمَّا دُونَهَا مِمَّا يَطُوفُ عَلَيْنَا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كُنْت أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ، قَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [فَصْلٌ أَكَلَتْ الْهِرَّةُ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ] (51) فَصْلٌ: إذَا أَكَلَتْ الْهِرَّةُ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ بَعْدَ أَنْ غَابَتْ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ، وَتَوَضَّأَ بِفَضْلِهَا، مَعَ عِلْمِهِ بِأَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ. وَإِنْ شَرِبَتْ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ: يَنْجُسُ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَصَابَهُ بَوْلٌ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ تَغِبْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَفَى عَنْهَا مُطْلَقًا، وَعَلَّلَ بِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ سُؤْرِهَا مَعَ الْغَيْبَةِ فِي مَكَان لَا يُحْتَمَلُ وُرُودُهَا عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ يُطَهِّرُ فَاهَا، وَلَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ فَهُوَ شَكٌّ لَا يُزِيلُ يَقِينَ النَّجَاسَةِ، فَوَجَبَ إحَالَةُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا قَبْلَ الْغَيْبَةِ. [فَصْلٌ وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ أَوْ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهُمَا فِي مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ يَسِيرٍ ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً] (52) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَعْت الْفَأْرَةُ أَوْ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهُمَا، فِي مَائِعٍ، أَوْ مَاءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةٌ، فَهُوَ طَاهِرٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ الذَّائِبِ، فَلَمْ تَمُتْ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إذَا كَانَ حَيًّا فَلَا شَيْءَ، إنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْمَيِّتِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْجُسَ إذَا أَصَابَ الْمَاءُ مَخْرَجَهَا؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ، فَيَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، وَإِصَابَةُ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَخْرَجَ يَنْضَمُّ إذَا وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِي الْمَاءِ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. [فَصْلٌ حُكْمُ جِلْدِ الْحَيَوَانِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَسُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ] فَصْلٌ: كُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْجُسُ لِمُلَاقَاتِهِ لُعَابَ الْحَيَوَانِ وَجِسْمَهُ، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا، وَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا. [مَسْأَلَةٌ إنَاءٌ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مِنْ وُلُوغِ كَلْبٍ أَوْ بَوْلٍ] (54) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكُلُّ إنَاءٍ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ؛ مِنْ وُلُوغِ كَلْبٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) النَّجَاسَةُ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا؛ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُمَا، فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا سَبْعًا، إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا ثَمَانِيًا، إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ، وَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ عَدَّ التُّرَابَ ثَامِنَةً؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَعَ إحْدَى الْغَسَلَاتِ فَهُوَ جِنْسٌ آخَرُ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الْخَبَرَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الْعَدَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ نَقَاؤُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ: «يُغْسَلُ ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا» فَلَمْ يُعَيِّنْ عَدَدًا؛ وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا الْعَدَدُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُد: «أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ: (فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا. وَعَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّكَّ مِنْ الرَّاوِي، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّفَ فِيهِ، وَيُعْمَلَ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْأَرْضُ فَإِنَّهُ سُومِحَ فِي غَسْلِهَا لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا. (55) فَصْلٌ: فَإِنْ جَعَلَ مَكَانَ التُّرَابِ غَيْرَهُ؛ مِنْ الْأُشْنَانِ، وَالصَّابُونِ، وَالنُّخَالَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ غَسَلَهُ غَسْلَةً ثَامِنَةً، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ أُمِرَ فِيهَا بِالتُّرَابِ، فَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، كَالتَّيَمُّمِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِيهِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَبْلَغُ مِنْ التُّرَابِ فِي الْإِزَالَةِ، فَنَصُّهُ عَلَى التُّرَابِ تَنْبِيهٌ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهُ جَامِدٌ أُمِرَ بِهِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا يُمَاثِلُهُ كَالْحَجَرِ فِي الِاسْتِجْمَارِ. فَأَمَّا الْغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْقَصْدُ بِهِ تَقْوِيَةُ الْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالثَّامِنَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ، وَإِنْ وَجَبَ تَعَبُّدًا امْتَنَعَ إبْدَالُهُ، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ، أَوْ إفْسَادِ الْمَحَلِّ الْمَغْسُولِ بِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ فَلَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي: نَجَاسَةُ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَجِبُ الْعَدَدُ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ الْوُلُوغِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ،، أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْنَا بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ سَبْعًا.» فَيَنْصَرِفُ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ الْعَدَدُ، بَلْ يُجْزِئُ فِيهَا الْمُكَاثَرَةُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ، بِحَيْثُ تَزُولُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَتْ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَالْغَسْلُ مِنْ الْبَوْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ حَتَّى جُعِلَتْ الصَّلَاةُ خَمْسًا، وَالْغَسْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مِنْ الْبَوْلِ مَرَّةً، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ مَرَّةً» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ " وَهَذَا نَصٌّ، إلَّا أَنَّ فِي مُرَاجَعَةِ أَيُّوبَ بْنِ جَابِرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَصَابَ إحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِعَدَدٍ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، «أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتْ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَاقَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ إذَا عَلَى حَقِيبَتِهِ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَجْعَلَ فِي الْمَاءِ مِلْحًا، ثُمَّ تَغْسِلَ بِهِ الدَّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِعَدَدٍ «، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ سَجْلٌ مِنْ مَاءٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْعَدَدِ. وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةُ غَيْرِ الْكَلْبِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا الْعَدَدُ، وَرُوِيَ أَنَّ الْعَدَدَ لَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْ الْبَدَنِ، وَيُعْتَبَرُ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَقِيَّةِ الْمَحَالِّ، قَالَ الْخَلَّالُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهَمٌ. وَلَمْ يُثْبِتْهَا. فَإِذَا قُلْنَا: بِوُجُوبِ الْعَدَدِ، فَفِي قَدْرِهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا سَبْعٌ؛ لِمَا قَدَّمْنَا. وَالثَّانِيَةُ، ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إلَّا قَوْلَهُ " ثَلَاثًا " انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، أَمَرَ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا؛ لِيَرْتَفِعَ وَهْمُ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَرْفَعُ وَهْمَ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا يَرْفَعُ حَقِيقَتَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ تَطْهُرُ بِثَلَاثٍ، وَفِي غَيْرِهِ تَطْهُرُ بِسَبْعٍ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِنْجَاءِ تَتَكَرَّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ التَّخْفِيفَ، وَقَدْ اُجْتُزِئَ فِيهَا بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَجْتَزِئَ فِيهَا بِثَلَاثِ غَسَلَاتٍ. قَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ مَا اخْتَارَ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَدَدِ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ. فَإِنْ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْعَدَدُ لَمْ يَجِبْ التُّرَابُ، وَكَذَلِكَ إنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْغَسْلُ سَبْعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِهِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْوُلُوغِ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ السَّبْعِ، فَفِي وُجُوبِ التُّرَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجِبُ؛ قِيَاسًا عَلَى الْوُلُوغِ. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْغَسْلِ لِلدَّمِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتُّرَابِ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْوُلُوغِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ التُّرَابَ إنْ أُمِرَ بِهِ تَعَبُّدًا وَجَبَ قَصْرُهُ عَلَى مَحَلِّهِ، وَإِنْ أُمِرَ بِهِ لِمَعْنًى فِي الْوُلُوغِ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ لَا تَنْقَلِعُ إلَّا بِالتُّرَابِ، فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ التُّرَابَ فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى؛ لِمُوَافَقَتِهِ لَفْظَ الْخَبَرِ، وَلِيَأْتِيَ الْمَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَيُنَظِّفُهُ، وَمَتَى غَسَلَ بِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ: " إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ". وَفِي حَدِيثٍ: " أُولَاهُنَّ "، وَفِي حَدِيثٍ: " فِي الثَّامِنَةِ "، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ التُّرَابِ مِنْ الْغَسَلَاتِ غَيْرُ مَقْصُودٍ. [فَصْلٌ أَصَابَ الْمَحَلَّ نَجَاسَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحُكْمِ] (56) فَصْلٌ: إذَا أَصَابَ الْمَحَلَّ نَجَاسَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحُكْمِ فَهِيَ كَنَجَاسَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَغْلَظَ، كَالْوُلُوغِ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ لِأَغْلَظِهَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ. وَلَوْ غَسَلَ الْإِنَاءَ دُونَ السَّبْعِ، ثُمَّ وَلَغَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَغَسَلَهُ سَبْعًا، أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجْزَأَ عَمَّا يُمَاثِلُ فَعَمَّا دُونَهُ أَوْلَى. [فَصْلٌ غَسَلَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ فَأَصَابَ مَاءُ بَعْضِ الْغَسَلَاتِ مَحَلًّا آخَرَ] (57) فَصْلٌ: وَإِذَا غَسَلَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ فَأَصَابَ مَاءُ بَعْضِ الْغَسَلَاتِ مَحَلًّا آخَرَ، قَبْلَ تَمَامِ السَّبْعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ، فَلَا يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ الَّذِي انْفَصَلَتْ عَنْهُ، كَنَجَاسَةِ الْأَرْضِ وَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا بِالتُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ الَّذِي انْفَصَلَتْ عَنْهُ قَدْ غُسِلَ بِالتُّرَابِ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ أَصَابَتْ غَيْرَ الْأَرْضِ، فَأَشْبَهْت الْأُولَى. وَالثَّانِي: يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الْأُولَى سِتًّا، وَمِنْ الثَّانِيَةِ خَمْسًا، وَمِنْ الثَّالِثَةِ أَرْبَعًا، كَذَلِكَ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِدُونِ السَّبْعِ، فَطَهُرَتْ فِي مِثْلِهِ، كَالنَّجَاسَةِ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ بَعْضُ الْمُتَّصِلِ، وَالْمُتَّصِلُ يَطْهُرُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ، وَتُفَارِقُ الْمُنْفَصِلَ عَنْ الْأَرْضِ وَمَحَلَّ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي خِفَّتهَا الْمَحَلُّ، وَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ، فَزَالَ التَّخْفِيفُ، وَالْعِلَّةُ فِي تَخْفِيفِهَا هَاهُنَا قُصُورُ حُكْمِهَا بِمَا مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ الْغَسْلِ. وَهَذَا لَازِمٌ لَهَا حَسَبَ مَا كَانَ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ قَدْ انْفَصَلَتْ عَنْ مَحَلِّ غَسْلٍ بِالتُّرَابِ غُسِلَ مَحَلُّهَا بِغَيْرِ تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى بِغَيْرِ تُرَابٍ غُسِلَتْ هَذِهِ بِالتُّرَابِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (58) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، أَوْ يَدِهِ، أَوْ رِجْلِهِ، أَوْ شَعْرِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ حُكْمُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَحُكْمُ الْخِنْزِيرِ حُكْمُ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَقَعَ فِي الْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرُ شَرٌّ مِنْهُ وَأَغْلَظُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 [فَصْلٌ غَسْلُ النَّجَاسَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهَا] (59) فَصْلٌ: وَغَسْلُ النَّجَاسَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهَا؛ إنْ كَانَتْ جِسْمًا لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ كَالْآنِيَةِ، فَغَسْلُهُ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهِ كُلَّ مَرَّةٍ غَسْلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ فِعْلِهِ، مِثْلُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ، أَوْ يَكُونَ فِي نَهْرٍ جَارٍ، فَتَمُرُّ عَلَيْهِ جِرْيَاتُ النَّهْرِ، فَكُلُّ جِرْيَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ غَسْلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَبَّهُ آدَمِيٌّ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَإِنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ رَاكِدٍ نَجَّسَهُ وَلَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا اُحْتُسِبَ بِوَضْعِهِ فِيهِ وَمُرُورِ الْمَاءِ عَلَى أَجْزَائِهِ غَسْلَةً، فَإِنْ خَضْخَضَهُ فِي الْمَاءِ وَحَرَّكَهُ بِحَيْثُ يَمُرُّ عَلَيْهِ أَجْزَاءٌ غَيْرُ الَّتِي كَانَتْ مُلَاقِيَةً لَهُ، اُحْتُسِبَ بِذَلِكَ غَسْلَةً ثَانِيَةً، كَمَا لَوْ مَرَّتْ عَلَيْهِ جِرْيَاتٌ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي. وَإِنْ كَانَ الْمَغْسُولُ إنَاءً فَطُرِحَ فِيهِ الْمَاءُ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ غَسْلَةٌ حَتَّى يُفْرِغَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ فِي غَسْلِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسَعُ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَمَلَأَهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ فِيهِ تَجْرِي مَجْرَى الْغَسَلَاتِ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَهُ تَمُرُّ عَلَيْهَا جِرْيَاتٌ مِنْ الْمَاءِ غَيْرُ الَّتِي كَانَتْ مُلَاقِيَةً لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَرَّتْ عَلَيْهَا جِرْيَاتٌ مِنْ مَاءٍ جَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَكُونُ غَسْلُهُ إلَّا بِتَفْرِيغِهِ مِنْهُ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ الْمَغْسُولُ جِسْمًا تَدْخُلُ فِيهِ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِرَفْعِهِ مِنْ الْمَاءِ غَسْلَةً، إلَّا بَعْدَ عَصْرِهِ، وَعَصْرِ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَإِنْ كَانَ بِسَاطًا ثَقِيلًا أَوْ زِلِّيًّا فَعَصْرُهُ بِتَقْلِيبِهِ وَدَقِّهِ. [فَصْلٌ مَا أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ] (60) فَصْلٌ: مَا أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ، إنْ انْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ مَاءٌ قَلِيلٌ لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا لَمْ يُطَهِّرْهُ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ. وَإِنْ انْفَصَلَ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهُرَ بِهَا الْمَحَلُّ، فَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ أَرْضًا فَهُوَ طَاهِرٌ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ، لِيُطَهِّرَ الْأَرْضَ الَّتِي بَالَ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا لَنَجَّسَ بِهِ مَا انْتَشَرَ إلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ، فَتَكْثُرُ النَّجَاسَةُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْأَرْضِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَهُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ مَحَلٍّ مَحْكُومٍ بِطَهَارَتِهِ، فَكَانَ طَاهِرًا، كَالْغَسْلَةِ الثَّامِنَةِ، وَأَنَّ الْمُنْفَصِلَ بَعْضُ الْمُتَّصِلِ وَالْمُتَّصِلَ طَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ، لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُطَهِّرْهَا. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنَّمَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْمُنْفَصِلُ مِنْ الْأَرْضِ إذَا كَانَتْ قَدْ نَشِفَتْ أَعْيَانُ الْبَوْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانُهَا قَائِمَةً، فَجَرَى الْمَاءُ عَلَيْهَا، طَهَّرَهَا. وَفِي الْمُنْفَصِلِ رِوَايَتَانِ، كَالْمُنْفَصِلِ عَنْ غَيْرِ الْأَرْضِ. قَالَ: وَكَوْنُهُ نَجِسًا أَصَحُّ فِي كَلَامِهِ. وَالْأَوْلَى الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِ بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ عَقِيبَ بَوْلِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ نُشَافَهَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 [فَصْلُ غَسْلِ بَعْضِ الثَّوْبِ النَّجِسِ] (61) فَصْلٌ: إذَا غُسِلَ بَعْضُ الثَّوْبِ النَّجِسِ، جَازَ، وَيَطْهُرُ الْمَغْسُولُ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَإِنْ كَانَ يُغْمَسُ بَعْضُهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ رَاكِدٍ يَعْرُكُهُ فِيهِ، نَجِسَ الْمَاءُ، وَلَمْ يَطْهُرْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بِغَمْسِهِ فِي الْمَاءِ صَارَ نَجِسًا، فَلَمْ يُطَهِّرْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ يَصُبُّ عَلَى بَعْضِهِ فِي جَفْنَةٍ طَهُرَ مَا طَهَّرَهُ، وَكَانَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُلَاقِيَ الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ جُزْءٌ غَيْرُ الْمَغْسُولِ، فَيَنْجُسُ بِهِ. [فَصْلٌ أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ دَمُ حَيْضِهَا] (62) فَصْلٌ: إذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ دَمُ حَيْضِهَا، اُسْتُحِبَّ أَنْ تَحُتَّهُ بِظُفُرِهَا، لِتَذْهَبَ خُشُونَتُهُ، ثُمَّ تَقْرُصَهُ لِيَلِينَ لِلْغَسْلِ، ثُمَّ تَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِأَسْمَاءِ فِي دَمِ الْحَيْضِ: حُتِّيهِ، ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ غَسِّلِيهِ بِالْمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ اقْتَصَرَتْ عَلَى إزَالَتِهِ بِالْمَاءِ جَازَ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ لَوْنُهُ، وَكَانَتْ إزَالَتُهُ تَشُقُّ أَوْ يَتْلَفُ الثَّوْبُ وَيَضُرُّهُ، عُفِيَ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . وَإِنْ اسْتَعْمَلَتْ فِي إزَالَتِهِ شَيْئًا يُزِيلُهُ كَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ، فَحَسَنٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ «امْرَأَةٍ مِنْ غِفَارٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْدَفَهَا عَلَى حَقِيبَتِهِ، فَحَاضَتْ، قَالَتْ: فَنَزَلْت، فَإِذَا بِهَا دَمٌ مِنِّي، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ لَعَلَّك نُفِسْتِ؟ . قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِك، ثُمَّ خُذِي إنَاءً مِنْ مَاءٍ فَاطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا، ثُمَّ اغْسِلِي مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنْ الدَّمِ» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ؛ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمِلْحِ، وَهُوَ مَطْعُومٌ، فِي غَسْلِ الثَّوْبِ وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ الدَّمِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ غَسْلُ الثِّيَابِ بِالْعَسَلِ، إذَا كَانَ يُفْسِدُهَا الصَّابُونُ، وَبِالْخَلِّ إذَا أَصَابَهَا الْحِبْرُ، وَالتَّدَلُّكُ بِالنُّخَالَةِ، وَغَسْلُ الْأَيْدِي بِهَا، وَالْبِطِّيخِ وَدَقِيقِ الْبَاقِلَّا، وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا قُوَّةُ الْجَلَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ أَوْ شِبْهُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ] (63) فَصْلٌ: فَإِذَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ أَوْ شِبْهُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ ثُمَّ مَتَى جُعِلَ فِيهِ مَائِعٌ سِوَاهُ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ النَّجَاسَةِ، أَوْ لَوْنُهَا لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَسْتَأْصِلُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ مِنْ جِسْمِ الْإِنَاءِ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ، كَالسِّمْسِمِ إذَا ابْتَلَّ بِالنَّجَاسَةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ فِي " الْمُبْهِجِ ": آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُولَ النَّجَاسَةِ إلَى جِسْمِ الْإِنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ إنَاءَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ وَاشْتَبَهَا عَلَيْهِ] (64) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ إنَاءَانِ؛ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ، وَاشْتَبَهَا عَلَيْهِ، أَرَاقَهُمَا، وَيَتَيَمَّمُ) . إنَّمَا خَصَّ حَالَةَ السَّفَرِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِيهَا، وَيُعْدَمُ فِيهَا الْمَاءُ غَالِبًا، وَأَرَادَ: إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً غَيْرَ الْإِنَاءَيْنِ الْمُشْتَبِهَيْنِ، فَإِنَّهُ مَتَى وَجَدَ مَاءً طَهُورًا غَيْرَهُمَا تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ التَّحَرِّي وَلَا التَّيَمُّمُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَلَا تَخْلُو الْآنِيَةُ الْمُشْتَبِهَةُ مِنْ حَالَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهِمَا. وَالثَّانِي أَنْ يَكْثُرَ عَدَدُ الطَّاهِرَاتِ؛ فَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ، مِنْ أَصْحَابِنَا، إلَى جَوَازِ التَّحَرِّي فِيهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَةُ الطَّاهِرِ؛ وَلِأَنَّ جِهَةَ الْإِبَاحَةِ قَدْ تَرَجَّحَتْ، فَجَازَ التَّحَرِّي، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهُ فِي نِسَاءِ مِصْرَ.، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا بِحَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِالْأَغْلَبِ عِنْدَهُ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ، فَجَازَ التَّحَرِّي مِنْ أَجْلِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهْت الْقِبْلَةُ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ تَارَةً، وَبِالظَّنِّ أُخْرَى، وَلِهَذَا جَازَ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُتَغَيِّرِ، الَّذِي لَا يُعْلَمُ سَبَبُ تَغَيُّرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَتَوَضَّأُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضُوءًا، وَيُصَلِّي بِهِ. وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ طَاهِرٌ بِطَهُورٍ، وَكَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، أَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الثِّيَابُ. وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمَحْظُورِ، فِيمَا لَا تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، فَلَمْ يَجُزْ التَّحَرِّي، كَمَا لَوْ اسْتَوَى الْعَدَدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَهُ، وَاعْتَذَرَ أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ. قُلْنَا: وَهَذَا الْمَاءُ قَدْ زَالَ عَنْهُ أَصْلُ الطَّهَارَةِ، وَصَارَ نَجِسًا، فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَصْلِ الزَّائِلِ أَثَرٌ، عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ قَدْ كَانَ مَاءً، فَلَهُ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ، كَهَذَا الْمَاءِ النَّجِسِ. وَقَوْلُهُمْ: إذَا كَثُرَ الطَّاهِرُ تَرَجَّحَتْ الْإِبَاحَةُ. يَبْطُلُ بِمَا إذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ فِي مِائَةٍ أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي، وَإِنْ كَثُرَ الْمُبَاحُ، وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَتْ فِي نِسَاءِ مِصْرٍ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ اجْتِنَابُهُنَّ جَمِيعًا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ. وَأَمَّا الْقِبْلَةُ فَيُبَاحُ تَرْكُهَا لِلضَّرُورَةِ، كَحَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا فِي السَّفَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ مَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ بِظَنِّهِ، وَلَوْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَعْلَمُهُ، فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ اسْتِنَادًا إلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَحَرٍّ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا عَارَضَ يَقِينُ الطَّهَارَةِ يَقِينَ النَّجَاسَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ. ثُمَّ يَبْطُلُ قِيَاسُهُمْ بِمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا وَالْآخَرُ مَاءً. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا: أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ وَصَلَّى، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْآخَرَ هُوَ الطَّاهِرُ، فَتَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ غَسْلِ أَثَرِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ يَقِينًا، وَإِنْ غَسَلَ أَثَرَ الْأَوَّلِ فَفِيهِ حَرَجٌ وَنَقْضٌ لِاجْتِهَادِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ بَاطِلَةٌ، لَا بِعَيْنِهَا فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهُمَا، فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَوَضَّأَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ نَجِسًا. وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَبَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى تَنْجِيسِ نَفْسِهِ يَقِينًا، وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِ إجْمَاعًا. وَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ فَفِيهِ حَرَجٌ، وَيَبْطُلُ بِالْقِبْلَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 (65) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ إرَاقَتِهِمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مَاءً طَاهِرًا بِيَقِينٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ. فَإِنْ خَلَطَهُمَا، أَوْ أَرَاقَهُمَا، جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ. وَالثَّانِيَةُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ ذَلِكَ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي بِئْرٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِقَاؤُهُ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِمَا لِلشُّرْبِ لَمْ تَجِبْ إرَاقَتُهُمَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لَوْ كَانَا طَاهِرَيْنِ، فَمَعَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى. وَإِذَا أَرَادَ الشُّرْبَ تَحَرَّى وَشَرِبَ مِنْ الطَّاهِرِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ تُبِيحُ الشُّرْبَ مِنْ النَّجِسِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، فَمِنْ الَّذِي يَظُنُّ طَهَارَتَهُ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا شَرِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ فَاسْتِعْمَالُ مَا يَظُنُّ طَهَارَتَهُ أَوْلَى. وَإِذَا شَرِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَكَلَ مِنْ الْمُشْتَبِهَاتِ، ثُمَّ وَجَدَ مَاءً طَهُورًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ غُسْلٌ فِيهِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةٌ فِيهِ، فَلَا تَزُولُ عَنْ ذَلِكَ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنِعَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ أَجْلِ النَّجَاسَةِ، فَلَزِمَهُ غَسْلُ أَثَرِهِ، كَالْمُتَيَقِّنِ. (66) فَصْلٌ: وَإِذَا عَلِمَ عَيْنَ النَّجِسِ اُسْتُحِبَّ إرَاقَتُهُ لِيُزِيلَ الشَّكَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الشُّرْبِ شَرِبَ مِنْ الطَّاهِرِ، وَيَتَيَمَّمُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ النَّجِسِ. وَإِنْ خَافَ الْعَطَشَ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَيَحْبِسُ النَّجِسَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى شُرْبِهِ فِي الْحَالِ، فَلَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ. وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ يَحْبِسُ الطَّاهِرَ وَيَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّ وُجُودَ النَّجِسِ كَعَدَمِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الشُّرْبِ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَآلِ، وَخَوْفُ الْعَطَشِ فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ كَحَقِيقَتِهِ. [فَصْلٌ اشْتَبَهَ مَاءٌ طَهُورٌ بِمَاءٍ قَدْ بَطَلَتْ طُهُورِيَّتُهُ] (67) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَبَهَ مَاءٌ طَهُورٌ بِمَاءٍ قَدْ بَطَلَتْ طُهُورِيَّتُهُ، تَوَضَّأَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضُوءًا كَامِلًا، وَصَلَّى بِالْوُضُوءَيْنِ صَلَاةً وَاحِدَةً. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ، مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ كَانَا طَاهِرَيْنِ وَلَمْ يَكْفِهِ أَحَدُهُمَا، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ يُنَجِّسُ أَعْضَاءَهُ يَقِينًا، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ النَّجِسُ هُوَ الثَّانِي، فَيَبْقَى نَجِسًا، وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ لِلشُّرْبِ تَحَرَّى، فَتَوَضَّأَ بِالطَّهُورِ عِنْدَهُ، وَتَيَمَّمَ مَعَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ الْيَقِينُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 [فَصْلٌ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ] (68) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةِ، لَمْ يَجُزْ التَّحَرِّي، وَصَلَّى فِي كُلِّ ثَوْبٍ بِعَدَدِ النَّجِسِ، وَزَادَ صَلَاةً. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ: لَا يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَالْأَوَانِي، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَتَحَرَّى فِيهَا، كَقَوْلِهِمْ فِي الْأَوَانِي وَالْقِبْلَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ الطَّهُورُ بِالطَّاهِرِ، وَكَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَانِي النَّجِسَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّجِسِ يَتَنَجَّسُ بِهِ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ صَلَاتِهِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. الثَّانِي أَنَّ الثَّوْبَ النَّجِسَ تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَالْمَاءُ النَّجِسُ بِخِلَافِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الْقِبْلَةَ يَكْثُرُ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا، فَيَشُقُّ اعْتِبَارُ الْيَقِينِ، فَسَقَطَ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِبَاهَ هَاهُنَا حَصَلَ بِتَفْرِيطِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ تَعْلِيمُ النَّجِسِ أَوْ غَسْلُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ. الثَّالِثُ أَنَّ الْقِبْلَةَ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ مِنْ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهَا، فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا، وَيَقْوَى دَلِيلُ الْإِصَابَةِ لَهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْخَطَأِ إلَّا وَهْمًا ضَعِيفًا، بِخِلَافِ الثِّيَابِ. (69) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَدَ النَّجِسِ، صَلَّى فِيمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ وَشَقَّ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَتَحَرَّى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ. وَالثَّانِي لَا يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّ هَذَا يَنْدُرُ جِدًّا، فَلَا يُفْرَدُ بِحُكْمٍ، وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْغَالِبِ. [فَصْلٌ وَرَدَ مَاءً فَأَخْبَرَهُ بِنَجَاسَتِهِ صَبِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ] (70) فَصْلٌ: وَإِنْ وَرَدَ مَاءً فَأَخْبَرَهُ بِنَجَاسَتِهِ صَبِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَلَا الرِّوَايَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ خَبَرِهِ، كَالطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا غَيْرَ مَعْلُومٍ فِسْقُهُ، وَعَيَّنَ سَبَبَ النَّجَاسَةِ، لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَسْتُورَ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ، فَأَشْبَهَ الْخَبَرَ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ سَبَبَهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ؛ لِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِسَبَبٍ لَا يَعْتَقِدُهُ الْمُخْبَرُ، كَالْحَنَفِيِّ يَرَى نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَى نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْيَسِيرِ بِمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَالْمُوَسْوَسُ الَّذِي يَعْتَقِدُ نَجَاسَتَهُ بِمَا لَا يُنَجِّسُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَ قَبُولَ خَبَرِهِ، إذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ فِي حَقِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 [فَصْلٌ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ] (71) فَصْلٌ: فَإِنْ أُخْبِرْهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ، لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا؛ لِأَنَّ لِلضَّرِيرِ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالْحِسِّ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَمْ يَلَغْ فِي هَذَا. وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يَلَغْ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا وَلَغَ فِي الثَّانِي. وَجَبَ اجْتِنَابُهُمَا، فَيَقْبَلُ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يُعَيِّنَا وَقْتًا مُعَيَّنًا، وَكَلْبًا وَاحِدًا، يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ شُرْبِهِ مِنْهُمَا، فَيَتَعَارَضُ قَوْلَاهُمَا، وَيَسْقُطَانِ، وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: شَرِبَ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَزَلَ وَلَمْ يَشْرَبْ قُدِّمَ قَوْلُ الْمُثْبِتِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شُرْبُهُ، مِثْلُ الضَّرِيرِ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ حِسِّهِ، فَيُقَدَّمُ قَوْلُ الْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ مِنْ طَرِيقٍ مَاءٌ هَلْ يَسْأَلُ عَنْ طَهَارَتِهِ أَمْ لَا] (72) فَصْلٌ: إذَا سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ مِنْ طَرِيقٍ مَاءٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ السُّؤَالُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ، قَالَ صَالِحٌ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْمَوْضِعِ، فَيَقْطُرُ عَلَيْهِ قَطْرَةٌ أَوْ قَطْرَتَانِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ مَخْرَجًا - يَعْنِي خَلَاءً - فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْرَجًا فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى حَوْضٍ، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، أَتَرِدُ عَلَى حَوْضِك السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَيْهَا، وَتَرِدُ عَلَيْنَا. رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ ". فَإِنْ سَأَلَ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَلْزَمُ الْمَسْئُولَ رَدُّ الْجَوَابِ؛ لِخَبَرِ عُمَرَ، وَيَحْتَمِلَ أَنْ يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ، فَلَزِمَهُ الْجَوَابُ، إذَا عَلِمَ، كَمَا لَوْ سَأَلَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ. وَخَبَرُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ غَيْرُ نَجِسٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [بَابُ الْآنِيَةِ] [مَسْأَلَةٌ نَجَاسَةُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ] (73) مَسْأَلَةٌ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَكُلُّ جِلْدِ مَيْتَةٍ دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ فَهُوَ نَجِسٌ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ أَيْضًا، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَطْهُرُ مِنْهَا جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ طَاهِرٌ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ يَرَى طَهَارَةَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا، إلَّا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ، فَيَطْهُرُ عِنْدَهُ كُلُّ جِلْدٍ إلَّا جِلْدَهُمَا. وَلَهُ فِي جِلْدِ الْآدَمِيِّ وَجْهَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَطْهُرُ كُلُّ جِلْدٍ بِالدَّبْغِ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَطْهُرُ كُلُّ جِلْدٍ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَمَذْهَبُ مَنْ حَكَمَ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَجَدَ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا.» وَفِي لَفْظٍ: «أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا نَجُسَ بِاتِّصَالِ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ بِهِ بِالْمَوْتِ، وَالدَّبْغُ يُزِيلُ ذَلِكَ، فَيَرْتَدُّ الْجِلْدُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ، يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ. وَفِي لَفْظٍ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ» وَهُوَ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي آخِرِ عُمُرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَفْظُهُ دَالٌّ عَلَى سَبْقِ التَّرْخِيصِ، وَأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ " كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ " وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِتَابٍ لَا يُعْرَفُ حَامِلُهُ. قُلْنَا: كِتَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَفْظِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَحَدٍ، وَقَدْ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَإِلَى غَيْرِهِمْ فَلَزِمَتْهُمْ الْحُجَّةُ بِهِ، وَحَصَلَ لَهُ الْبَلَاغُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ تَلْزَمْهُمْ الْإِجَابَةُ، وَلَا حَصَلَ بِهِ بَلَاغٌ، وَلَكَانَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِجَابَة؛ لِجَهْلِهِمْ بِحَامِلِ الْكِتَابِ وَعَدَالَتِهِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» . وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ، فَكَانَ مُحَرَّمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَلَمْ يَطْهُرْ بِالدَّبْغِ كَاللَّحْمِ؛ وَلِأَنَّهُ حَرُمَ بِالْمَوْتِ، فَكَانَ نَجِسًا كَمَا قَبْلَ الدَّبْغِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ إنَّمَا نَجِسَ لِاتِّصَالِ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ بِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لِذَلِكَ لَمْ يَنْجُسْ ظَاهِرُ الْجِلْدِ، وَلَا مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوسِيُّ وَالْوَثَنِيُّ، وَلَا مَا قُدَّ نِصْفَيْنِ، وَلَا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ؛ لِعَدَمِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ، وَلَوَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الصَّيْدِ الَّذِي لَمْ تَنْسَفِحْ دِمَاؤُهُ وَرُطُوبَاتُهُ. ثُمَّ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ يَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَظْمِ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُطَهِّرُ جِلْدَ الْكَلْبِ وَهُوَ نَجِسٌ فِي الْحَيَاةِ. (74) فَصْلٌ: هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» وَقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَانْتَفَعُوا بِهِ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ؛» وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لَمَّا فَتَحُوا فَارِسَ، انْتَفَعُوا بِسُرُوجِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، أَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ بِالْكَلْبِ، وَرُكُوبَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. [فَصْلٌ دَبْغُ جُلُودِ السِّبَاعِ] (75) فَصْلٌ: فَأَمَّا جُلُودُ السِّبَاعِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ، وَلَا بَعْدَهُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ، وَكَرِهَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَكَمُ، وَمَكْحُولٌ، وَإِسْحَاقُ وَكَرِهَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ السَّنَانِيرِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ. وَرَخَّصَ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ جَابِرٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَعُرْوَةَ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِي الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ النُّمُورِ، وَرَخَّصَ فِيهَا الزُّهْرِيُّ وَأَبَاحَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، الصَّلَاةَ فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ: لِأَنَّ الثَّعَالِبَ تُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ، فَكَانَتْ مُبَاحَةً، وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ. وَلَنَا: مَا رَوَى أَبُو رَيْحَانَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ.» مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَيْتَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَأَمَّا الثَّعَالِبُ فَيُبْنَى حُكْمُهَا عَلَى حِلِّهَا، وَفِيهَا رِوَايَتَانِ، كَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي جُلُودِهَا؛ فَإِنْ قُلْنَا بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ، فَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَمُحَرَّمَةٌ، وَهَلْ تَطْهُرُ جُلُودُهَا بِالدِّبَاغِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. (76) فَصْلٌ: إذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغِ لَمْ يَطْهُرْ مِنْهَا جِلْدُ مَا لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَطْهُرُ إلَّا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» . فَشَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ؛ وَالذَّكَاةُ إنَّمَا تُعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُطَهِّرَيْنِ لِلْجِلْدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي غَيْرِ مَأْكُولٍ كَالذَّبْحِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ كُلَّ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» يَتَنَاوَلُ الْمَأْكُولَ وَغَيْرَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي الْحَيَاةِ؛ لِكَوْنِ الدَّبْغِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ نَجَاسَةٍ حَادِثَةٍ بِالْمَوْتِ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ. وَحَدِيثُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالذَّكَاةِ التَّطْيِيبَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ، أَيْ: طَيِّبَةٌ وَهَذَا يُطَيِّبُ الْجَمِيعَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا: أَنَّهُ أَضَافَ الذَّكَاةَ إلَى الْجِلْدِ خَاصَّةً، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْجِلْدُ هُوَ تَطْيِيبُهُ وَطَهَارَتُهُ، أَمَّا الذَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الذَّبْحُ، فَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالذَّكَاةِ الطَّهَارَةَ، فَسَمَّى الطَّهَارَةَ ذَكَاةٌ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا فِي كُلِّ جِلْدٍ، فَيَتَنَاوَلُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. [فَصْلٌ أَكْلُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدَّبْغِ] (77) فَصْلٌ: وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ: أَنَّهُ يَحِلُّ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي الْجِلْدِ، فَأَبَاحَ الْأَكْلَ كَالذَّبْحِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وَالْجِلْدُ مِنْهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ، فَحَرُمَ أَكْلُهُ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إبَاحَةُ الْأَكْلِ، بِدَلِيلِ الْخَبَائِثِ مِمَّا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ لَا يُسْمَعُ قِيَاسُهُمْ فِي تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (78) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِجَارَتُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيهِ، سِوَى الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ دَبْغِهِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ، مُتَّفَقٌ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 [فَصْلٌ مَا يُدْبَغُ بِهِ جِلْدُ الْمَيْتَةِ] (79) فَصْلٌ: وَيَفْتَقِرُ مَا يُدْبَغُ بِهِ إلَى أَنْ يَكُونَ مُنَشِّفًا لِلرُّطُوبَةِ، مُنَقِّيًا لِلْخُبْثِ، كَالشَّبِّ وَالْقَرَظِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ طَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُطَهِّرْ الْجِلْدَ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ نَجَاسَةٍ، فَلَمْ تَحْصُلْ بِنَجِسٍ، كَالِاسْتِجْمَارِ وَالْغُسْلِ، وَهَلْ يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِمُجَرَّدِ الدَّبْغِ قَبْلَ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَحْصُلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّ مَا يُدْبَغُ بِهِ نَجِسَ بِمُلَاقَاةِ الْجِلْدِ، فَإِذَا انْدَبَغَ الْجِلْدُ بَقِيَتْ الْآلَةُ نَجِسَةً فَتَبْقَى نَجَاسَةُ الْجِلْدِ لِمُلَاقَاتِهَا لَهُ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ. وَالثَّانِي: يَطْهُرُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ؛ وَلِأَنَّهُ طَهُرَ بِانْقِلَابِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، كَالْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْخَبَرُ وَالْمَعْنَى يَدُلَّانِ عَلَى طَهَارَةِ عَيْنِهِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ تُلَاقِيهِ، كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ سِوَى آلَةِ الدَّبْغِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آلَةُ الدَّبْغِ بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهَا. (80) فَصْلٌ وَلَا يَفْتَقِرُ الدَّبْغُ إلَى فِعْلٍ؛ لِأَنَّهَا إزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَأَشْبَهَتْ غَسْلَ الْأَرْضِ، فَلَوْ وَقَعَ جِلْدُ مَيْتَةٍ فِي مَدْبَغَةٍ، بِغَيْرِ فِعْلٍ، فَانْدَبَغَ، طَهُرَ، كَمَا لَوْ نَزَلَ مَاءُ السَّمَاءِ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ طَهَّرَهَا. [فَصْلٌ حُكْمُ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بَعْدَ الذَّبْحِ] (81) فَصْلٌ: وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَانَ جِلْدُهُ نَجِسًا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَطْهُرُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ.» أَيْ: كَذَكَاتِهِ، فَشَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ الْمُشَبَّهِ، فَإِذَا طَهَّرَ الدَّبْغُ مَعَ ضَعْفِهِ فَالذَّكَاةُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الدَّبْغَ يَرْفَعُ الْعِلَّةَ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَالذَّكَاةُ تَمْنَعُهَا، وَالْمَنْعُ أَقْوَى مِنْ الرَّفْعِ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَرُكُوبِ النُّمُورِ» وَهُوَ عَامٌ فِي الْمُذَكَّى وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ لَا يُطَهِّرُ اللَّحْمَ، فَلَمْ يُطَهِّرْ الْجِلْدَ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ. أَوْ ذَبْحٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَأَشْبَهَ الْأَصْلَ، وَالْخَبَرُ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ الدَّبْغَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ غَيْرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ حُصُولُ التَّطْهِيرِ بِالذَّكَاةِ، لِكَوْنِ الدَّبْغِ مُزِيلًا لِلْخُبْثِ وَالرُّطُوبَاتِ كُلِّهَا، مُطَيِّبًا لِلْجِلْدِ عَلَى وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ بِهِ لِلْبَقَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَالذَّكَاةُ لَا يَحْصُلُ بِهَا ذَلِكَ، فَلَا يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الدَّبْغِ. وَقَوْلُهُمْ: الْمُشَبَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْمُشَبَّهُ بِهِ. غَيْرُ لَازِمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْحُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] ، وَهُنَّ أَحْسَنُ مِنْ الْبَيْضِ، وَالْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ تُشَبَّهُ بِالظَّبْيَةِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الدَّبْغَ يَرْفَعُ الْعِلَّةَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجِلْدَ لَمْ يَنْجُسْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَإِنَّ الذَّبْحَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُحْرِمِ، وَبِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَمَا شُقَّ بِنِصْفَيْنِ. [فَصْلٌ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِالِاسْتِحَالَةِ] (82) فَصْلٌ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِالِاسْتِحَالَةِ، إلَّا الْخَمْرَةَ، إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَمَا عَدَاهُ لَا يَطْهُرُ؛ كَالنَّجَاسَاتِ إذَا احْتَرَقَتْ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَالْخِنْزِيرِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَلَّاحَةِ وَصَارَ مِلْحًا، وَالدُّخَانِ الْمُتَرَقِّي مِنْ وَقُودِ النَّجَاسَةِ، وَالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ الْمَاءِ النَّجِسِ إذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ ثُمَّ قَطَّرَ، فَهُوَ نَجِسٌ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَطْهُرَ النَّجَاسَاتُ كُلُّهَا بِالِاسْتِحَالَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ، وَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ، وَالْجَلَّالَةِ إذَا حُبِسَتْ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ نَهَى إمَامُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْخَبْزِ فِي تَنُّورٍ شُوِيَ فِيهِ خِنْزِيرٌ. [مَسْأَلَةُ آنِيَةِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ] (83) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكَذَلِكَ آنِيَةُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ) يَعْنِي: أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَيْتَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، أَوْ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، كَالْفِيَلَةِ، وَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَكَرِهَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عِظَامَ الْفِيَلَةِ، وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَغَيْرُهُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَيَكُونُ مُحَرَّمًا، وَالْفِيلُ لَا يُؤْكَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لَحْمُهُ فَهُوَ نَجِسٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعَاجُ الذَّبْلُ، وَيُقَال: هُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْفِيلَ إنَّ ذُكِّيَ فَعَظْمُهُ طَاهِرٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْفِيلَ مَأْكُولٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْفِيلُ أَعْظَمُهَا نَابًا فَأَمَّا عِظَامُ بَقِيَّةِ الْمَيْتَاتِ، فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إلَى طَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُحِلُّهَا فَلَا تَنْجُسُ بِهِ، كَالشَّعْرِ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ التَّنْجِيسِ فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ اتِّصَالُ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْعِظَامِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] وَمَا يَحْيَا فَهُوَ يَمُوتُ؛ وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْحَيَاةِ الْإِحْسَاسُ وَالْأَلَمُ، وَالْأَلَمُ فِي الْعَظْمِ أَشَدُّ مِنْ الْأَلَمِ فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ، وَالضِّرْسُ يَأْلَمُ، وَيَلْحَقُهُ الضِّرْسُ، وَيُحِسُّ بِبَرْدِ الْمَاءِ وَحَرَارَتِهِ، وَمَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ يَحِلُّهُ الْمَوْتُ؛ إذْ كَانَ الْمَوْتُ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ، وَمَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ يَنْجُسُ بِهِ كَاللَّحْمِ. قَالَ الْحَسَنُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، لَمَّا سَقَطَ ضِرْسُهُ: أُشْعِرْت أَنَّ بَعْضِي مَاتَ الْيَوْمَ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ اتِّصَالُ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ، قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى. [فَصْلُ الْآنِيَةِ مِنْ الْقَرْنِ وَالظُّفْرِ وَالْحَافِرِ] (84) فَصْل: وَالْقَرْنُ وَالظُّفْرُ وَالْحَافِرُ كَالْعَظْمِ، إنْ أُخِذَ مِنْ مُذَكًّى فَهُوَ طَاهِرٌ؛ وَإِنْ أُخِذَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا يُقْطَعُ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ قُرُونِ الْوُعُولِ فِي حَيَاتِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُتَّصِلٌ، مَعَ عَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ، فَلَمْ يَنْجُسُ بِفَصْلِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلَا بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ كَالشَّعْرِ، وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ مَا يُقْطَعُ مِنْ الْبَهِيمَةِ مِمَّا فِيهِ حَيَاةٌ؛ لِأَنَّهُ بِفَصْلِهِ يَمُوتُ، وَتُفَارِقُهُ الْحَيَاةُ، بِخِلَافِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ بِفَصْلِهِ، فَهُوَ أَشْبَهَ بِالشَّعْرِ، وَمَا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لَا بَأْسَ بِعِظَامِهِ كَالسَّمَكِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ. [فَصْلٌ لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا] (85) فَصْل: وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا نَجِسٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَدَاوُد؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَكَلُوا الْجُبْنَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ، وَهُوَ يُعْمَلُ بِالْإِنْفَحَةِ، وَهِيَ تُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ حَلَبَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْمَيْتَةَ بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهَا لَكَانَ نَجِسًا، فَكَذَلِكَ قَبْلَ فَصْلِهِ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الذَّبْحَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ جَزَّارُوهُمْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ مَوْجُودًا، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْأَصْلُ الْحِلُّ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ قَدِمُوا الْعِرَاقَ مَعَ خَالِدٍ، كَسَرُوا جَيْشًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، بَعْدَ أَنْ نَصَبُوا الْمَوَائِدَ وَوَضَعُوا طَعَامَهُمْ لِيَأْكُلُوا، فَلَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ جَلَسُوا فَأَكَلُوا ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَحْمًا، فَلَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ مَا ذُبِحَ بِبَلَدِهِمْ لَمَا أَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِمْ شَيْئًا، وَإِذَا حَكَمُوا بِحِلِّ اللَّحْمِ فَالْجُبْنُ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ أَرْضًا فِيهَا مَجُوسٌ وَأَهْلُ كِتَابٍ، كَانَ لَهُ أَكْلُ جُبْنِهِمْ وَلَحْمِهِمْ، احْتِجَاجًا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتِهِ. [فَصْلٌ مَاتَتْ الدَّجَاجَةُ وَفِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ قَدْ صَلُبَ قِشْرُهَا] (86) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَتْ الدَّجَاجَةُ، وَفِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ قَدْ صَلُبَ قِشْرُهَا، فَهِيَ طَاهِرَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَرِهَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الدَّجَاجَةِ. وَلَنَا أَنَّهَا بَيْضَةٌ صُلْبَةُ الْقِشْرِ، طَرَأَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ نَجِسٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا جُزْءٌ مِنْهَا. غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا، غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْوَلَدَ إذَا خَرَجَ حَيًّا مِنْ الْمَيْتَةِ؛ وَلِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُخْلَقُ مِنْهَا مِثْلُ أَصْلِهَا، أَشْبَهَتْ الْوَلَدَ الْحَيَّ، وَكَرَاهَةُ الصَّحَابَةِ لَهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، اسْتِقْذَارًا لَهَا، وَلَوْ وُضِعَتْ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ، فَصَارَتْ فَرْخًا، كَانَ طَاهِرًا بِكُلِّ حَالٍ. فَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيْضَةُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا كَانَ قِشْرُهُ أَبْيَضَ، فَهُوَ طَاهِرٌ. وَمَا لَمْ يَبْيَضَّ قِشْرُهُ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ حَائِلٌ حَصِينٌ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ؛ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ عَلَيْهَا غَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ كَالْجِلْدِ، وَهُوَ الْقِشْرُ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى، فَلَا يَنْجُسُ مِنْهَا إلَّا مَا كَانَ لَاقَى النَّجَاسَةَ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ تَطْهُرُ إذَا غَسَلَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَمْنَعُ تَدَاخُلَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهَا، بِخِلَافِ السَّمْنِ. [مَسْأَلَةُ الْوُضُوءِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] (87) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ. أَرَادَ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ.» وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَقَالَ: «مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ.» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. فَنَهَى وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ وَعِيدًا شَدِيدًا، يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَيُرْوَى " نَارُ جَهَنَّمَ " بِرَفْعِ الرَّاءِ وَنَصْبِهَا؛ فَمَنْ رَفَعَهَا نَسَبِ الْفِعْلَ إلَى النَّارِ، وَمَنْ نَصَبَهَا أَضْمَرَ الْفَاعِلَ فِي الْفِعْلِ، وَجَعَلَ النَّارَ مَفْعُولًا، تَقْدِيرُهُ: يُجَرْجِرُ الشَّارِبُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا كَيْفَمَا كَانَ، بَلْ إذَا حَرُمَ فِي غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَفِيهَا أَوْلَى، فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا، أَوْ اغْتَسَلَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ وَمَاءَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمَ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُفَارِقُ هَذَا الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؛ مُحَرَّمٌ؛ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَشُغْلًا لَهُ، وَأَفْعَالُ الْوُضُوءِ؛ مِنْ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ، لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، إذْ لَيْسَ هُوَ اسْتِعْمَالًا لِلْإِنَاءِ، وَلَا تَصَرُّفًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بَعْدَ رَفْعِ الْمَاءِ مِنْ الْإِنَاءِ، وَفَصْلِهِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَرَفَ بِآنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي إنَاءٍ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَكَانَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ، إذْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا فِي غَيْرِ مَكَان، وَالْإِنَاءُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى وَفِي يَدِهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ. [مَسْأَلَة جَعَلَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَصَبًّا لِمَاءِ الْوُضُوءِ] مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ جَعَلَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَصَبًّا لِمَاءِ الْوُضُوءِ، يَنْفَصِلُ الْمَاءُ عَنْ أَعْضَائِهِ إلَيْهِ، صَحَّ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ الَّذِي يَقَعُ فِي الْآنِيَةِ قَدْ رَفَعَ الْحَدَثَ، فَلَمْ يَزُلْ ذَلِكَ بِوُقُوعِهِ فِي الْإِنَاء، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ وَكَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ يَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ هَاهُنَا؛ كَحُصُولِهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِعْلُ الطَّهَارَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يَحْصُلُ هَاهُنَا قَبْلَ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى الْإِنَاءِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهُ، فَهِيَ مِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصُّورَةِ. [فَصْلٌ اتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] (89) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَحْرُمُ الِاتِّخَاذُ، كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ ثِيَابَ الْحَرِيرِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقًا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كَالطُّنْبُورِ، وَأَمَّا ثِيَابُ الْحَرِيرِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ مُطْلَقًا، فَإِنَّهَا تُبَاحُ لِلنِّسَاءِ، وَتُبَاحُ التِّجَارَةُ فِيهَا، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْآنِيَةِ مُطْلَقًا فِي الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ، وَغَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا. وَيَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمَا، وَوُجُودِ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ؛ لِحَاجَتِهَا إلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ، وَالتَّجَمُّلِ عِنْدَهُ، وَهَذَا يَخْتَصُّ الْحُلِيَّ، فَتَخْتَصُّ الْإِبَاحَةُ بِهِ [فَصْل الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ] (90) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً، لَحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُضَبَّبَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِلْمُبَاحِ، فَأَشْبَهَ الْمُضَبَّبَ بِالْيَسِيرِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا فِيهِ سَرَفٌ وَخُيَلَاءُ، فَأَشْبَهَ الْخَالِصَ، وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِمَا إذَا اتَّخَذَ أَبْوَابًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، أَوْ رُفُوفًا، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا، وَفَارَقَ الْيَسِيرَ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يُبَاحُ الْيَسِيرُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ مِنْ الذَّهَبِ، وَلَا يُبَاحُ مِنْهُ إلَّا مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، كَأَنْفِ الذَّهَبِ، وَمَا رَبَطَ بِهِ أَسْنَانَهُ. وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَيُبَاحُ مِنْهَا الْيَسِيرُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ سَرَفٌ وَلَا خُيَلَاءُ، فَأَشْبَهَ الضَّبَّةَ مِنْ الصُّفْرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُبَاحُ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ كَالْحَلْقَةِ، وَمَا لَا يُسْتَعْمَلُ كَالضَّبَّةِ يُبَاحُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ إلَّا لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَشْعِيبِ الْقَدَحِ فِي مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَهُوَ لِحَاجَةٍ، وَمَعْنَى الْحَاجَةِ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى مَا فَعَلَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَتُكْرَهُ مُبَاشَرَةُ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ؛ كَيْ لَا يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهَا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْل الْوُضُوء فِي الْأَوَانَيْ النَّفِيسَة غَيْر الذَّهَب وَالْفِضَّة] (91) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ الْآنِيَةِ فَمُبَاحٌ اتِّخَاذُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ ثَمِينَةً، كَالْيَاقُوتِ وَالْبِلَّوْرِ وَالْعَقِيقِ وَالصُّفْرِ وَالْمَخْرُوطِ مِنْ الزُّجَاجِ، أَوْ غَيْرَ ثَمِينَةٍ، كَالْخَشَبِ وَالْخَزَفِ وَالْجُلُودِ. وَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ فِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَغَيَّرُ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْرَهُ رِيحَ النُّحَاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَا كَانَ ثَمِينًا لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْأَثْمَانِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَخُيَلَاءَ وَكَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَكَانَ مُحَرَّمًا كَالْأَثْمَانِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَوْرٍ مِنْ شَبَهٍ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَثْمَانِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، فَلَا تَنْكَسِرُ قُلُوبُ الْفُقَرَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ لِقِلَّتِهَا لَا يَحْصُلُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهَا إلَّا نَادِرًا، فَلَا تُفْضِي إبَاحَتُهَا إلَى اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا، وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِالْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْكَثْرَةِ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، كَمَا تَعَلَّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي اللِّبَاسِ بِالْحَرِيرِ، وَجَازَ اسْتِعْمَالُ الْقَصَبِ مِنْ الثِّيَابِ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَةِ الْحَرِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 جَعَلَ فَصَّ خَاتَمَهُ جَوْهَرَةً ثَمِينَةً جَازَ، وَخَاتَمُ الذَّهَبِ حَرَامٌ، وَلَوْ جَعَلَ فَصَّهُ ذَهَبًا كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ. [مَسْأَلَة صُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا] (92) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَصُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا طَاهِرٌ) يَعْنِي شَعْرَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَيَاتِهِ وَصُوفَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالُوا: إذَا غُسِلَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو مِنْ الْحَيَوَانِ، فَيَنْجُسُ بِمَوْتِهِ، كَأَعْضَائِهِ. وَلَنَا: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ، وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إذَا غُسِلَ.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: لَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَفْتَقِرُ طَهَارَةٌ مُنْفَصِلَةٌ إلَى ذَكَاةِ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِمَوْتِهِ، كَأَجْزَاءِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ فَلَمْ يَنْجُسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ، كَبَيْضِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ، وَهُمَا دَلِيلَا الْحَيَاةِ، وَلَوْ انْفَصَلَ فِي الْحَيَاةِ كَانَ طَاهِرًا، وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ لَنَجِسَ بِفَصْلِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالْبَيْضِ، وَيُفَارِقُ الْأَعْضَاءَ، فَإِنَّ فِيهَا حَيَاةً، وَتَنْجُسُ بِفَصْلِهَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَالنُّمُوُّ بِمُجَرَّدِهِ لَيْسَ بِدَلِيلِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ الْحَشِيشَ يَنْمُو، وَلَا يَنْجُسُ. (93) فَصْلٌ: وَالرِّيشُ كَالشَّعْرِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، فَأَمَّا أُصُولُ الرِّيشِ، وَالشَّعْرِ، إذَا كَانَ رَطْبًا إذَا نُتِفَ مِنْ الْمَيْتَةِ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ رَطْبٌ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ، وَهَلْ يَكُونُ طَاهِرًا بَعْدَ غَسْلِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ، كَرُءُوسِ الشَّعْرِ إذَا تَنَجَّسَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ اللَّحْمِ لَمْ يُسْتَكْمَلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا. [فَصْل شَعْرُ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ مُتَّصِلُهُ وَمُنْفَصِلُهُ] فَصْلٌ: (94) وَشَعْرُ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ مُتَّصِلُهُ وَمُنْفَصِلُهُ، فِي حَيَاةِ الْآدَمِيِّ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إذَا انْفَصَلَ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ انْفَصَلَ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ نَجِسًا كَعُضْوِهِ. وَلَنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، قَالَ أَنَسٌ: «لَمَّا رَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحَرَ نُسُكَهُ، نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ، فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ، فَقَالَ: احْلِقْهُ، فَحَلَقَهُ وَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ نَصِيبُهُ مِنْهُ فِي فِيهِ إذَا مَاتَ، وَكَانَتْ فِي قَلَنْسُوَةِ خَالِدٍ شَعَرَاتٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا سَاغَ هَذَا وَلَمَا فَرَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ، وَيَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ تَبَرُّكًا بِهِ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ طَاهِرًا مِمَّنْ سِوَاهُ كَسَائِرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلُهُ طَاهِرٌ، فَمُنْفَصِلُهُ طَاهِرٌ، كَشَعْرِ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي أَعْضَاءِ الْآدَمِيِّ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا نَجَاسَتَهَا، فَإِنَّهَا تَنْجُسُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِفَصْلِهَا فِي حَيَاتِهِ، بِخِلَافِ الشَّعْر. [فَصْل مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِر] (95) فَصْلٌ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ فَشَعْرُهُ مِثْلُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ كَذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ، إلَّا أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا؛ كَالسِّنَّوْرِ، وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ لِمُعَارِضٍ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْعَفْوِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 عَنْهَا لِلْمَشَقَّةِ وَقَدْ انْتَفَتْ الْحَاجَةُ فَتَنْتَفِي الطَّهَارَةُ. وَالثَّانِي هِيَ طَاهِرَةٌ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ، وَالْمَوْتُ لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهَا. فَتَبْقَى الطَّهَارَةُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ فِي مَوْضِعٍ، فَلَيْسَ لَنَا إثْبَاتُ حُكْمِهِ بِالتَّحَكُّمِ. [فَصْل الْخَرَز بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ] (96) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْخَرْزِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادِ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَيْنِ النَّجِسَةِ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْ التَّنَجُّسِ بِهَا، فَحَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، كَجِلْدِهِ. وَالثَّانِيَةُ يَجُوزُ الْخَرْزُ بِهِ. قَالَ: وَبِاللِّيفِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَإِذَا خَرَزَ بِهِ شَيْئًا رَطْبًا، أَوْ كَانَتْ الشَّعْرَةُ رَطْبَةً نَجِسَ، وَلَمْ يَطْهُرْ إلَّا بِالْغَسْلِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ، وَفِي تَكْلِيفِ غَسْلِهِ إتْلَافُ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا عَنَى لَا بَأْسَ بِالْخَرْزِ، فَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل أَطْعِمَة أَهْل الْكِتَاب وَآنِيَتهمْ وَثِيَابهمْ] (97) فَصْلٌ: وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُهُمْ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، وَالْأَكْلُ فِي آنِيَتِهِمْ، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: «دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْته، وَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَسِمُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَكِتَابِ " الزُّهْدِ "، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ. وَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَا يُكْرَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِيَة يُكْرَهُ لِمَا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: قُلْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَأَقَلُّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَلَا تَسْلَمُ آنِيَتُهُمْ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَأَدْنَى مَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْكَرَاهَةُ، وَأَمَّا ثِيَابُهُمْ فَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ، أَوْ عَلَا مِنْهَا؛ كَالْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَالثَّوْبِ الْفَوْقَانِيِّ، فَهُوَ طَاهِرٌ، لَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ، وَمَا لَاقَى عَوْرَاتِهِمْ؛ كَالسَّرَاوِيلِ وَالثَّوْبِ السُّفْلَانِيِّ وَالْإِزَارِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ، يَعْنِي: مَنْ صَلَّى فِيهِ. فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، الْإِزَارَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ. بِتَرْكِ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْهَا، فَالظَّاهِرُ نَجَاسَةُ مَا وَلِيَ مَخْرَجَهَا. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. الضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ الْمَجُوسُ، وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَنَحْوُهُمْ، فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْ آنِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَلَا تَخْلُو أَوَانِيهِمْ مِنْ وَضْعِهَا فِيهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَثِيَابُهُمْ وَأَوَانِيهِمْ طَاهِرَةٌ، مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ، مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ نَجَاسَتَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مِثْلُ قَوْلِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إلَّا الْفَاكِهَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمْ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، فَأَشْبَهَتْ السَّرَاوِيلَاتِ مِنْ ثِيَابِهِمْ. وَمَنْ يَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ مِنْ النَّصَارَى، فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُلُ الْمِيتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَنَحْوِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي نَجَاسَةِ أَطْعِمَتِهِمْ. وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ؛ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، أَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ، فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يَنْسِجُهُ الْكُفَّارُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، إنَّمَا كَانَ لِبَاسُهُمْ مِنْ نَسْجِ الْكُفَّارِ. فَأَمَّا ثِيَابُهُمْ، الَّتِي يَلْبَسُونَهَا، فَأَبَاحَ الصَّلَاةَ فِيهَا الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي ثَوْبِ الْكُفَّارِ: يَلْبَسُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ يُعِيدُ، مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، وَلَمْ تَتَرَجَّحْ جِهَةُ التَّنْجِيسِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ. [فَصْل الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الصِّبْيَانِ] (98) فَصْلٌ: وَتُبَاحُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الصِّبْيَانِ، مَا لَمْ تَتَيَقَّنْ نَجَاسَتُهَا وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ.» وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ؛ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، وَالتَّوَقِّي لِذَلِكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ إيَّاهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا وَلُحُفِنَا.» وَلُعَابُ الصِّبْيَانِ طَاهِرٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلَ الْحُسَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَلُعَابُهُ يَسِيلُ عَلَيْهِ.» وَحَمَلَ أَبُو بَكْرٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ، وَعَلِيٌّ إلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَا بِأَبِي شِبْهَ النَّبِيِّ لَا شَبِيهًا بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ. [غَسْلُ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ] (99) فَصْلٌ: وَإِذَا صَبَغَ فِي حُبِّ صَبَّاغٍ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبَّاغُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ طَهُرَ بِالْغَسْلِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الدَّمِ: «لَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . [فُصُول فِي الْفِطْرَة] [فَصْل فِي الْخِتَانُ] (100) فُصُولٌ فِي الْفِطْرَةِ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ» . قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. الِاسْتِحْدَادُ: حَلْقُ الْعَانَةِ، اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْحَدِيدِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ: الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَقْطَعُ الْبَوْلَ وَيَرُدُّهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ حَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَ: خَمْسٌ كُلُّهَا فِي الرَّأْسِ ذَكَرَ مِنْهَا الْفَرْقَ وَلَمْ يَذْكُرْ إعْفَاءَ اللِّحْيَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: الْفَرْقُ سُنَّةٌ. قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُشْهِرُ نَفْسَهُ، «قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَرَقَ، وَأَمَرَ بِالْفَرْقِ.» (101) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فَصْلٌ: فَأَمَّا الْخِتَانُ فَوَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ. هَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: الرَّجُلُ أَشَدُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَمْ يَخْتَتِنْ، فَتِلْكَ الْجِلْدَةُ مُدَلَّاةٌ عَلَى الْكَمَرَةِ، وَلَا يُنَقَّى مَا ثَمَّ، وَالْمَرْأَةُ أَهْوَنُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُشَدِّدُ فِي أَمْرِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَهُ وَلَا صَلَاةَ، يَعْنِي: إذَا لَمْ يَخْتَتِنْ، وَالْحَسَنُ يُرَخِّصُ فِيهِ يَقُولُ: إذَا أَسْلَمَ لَا يُبَالِي أَنْ لَا يَخْتَتِنَ وَيَقُولُ: أَسْلَمَ النَّاسُ الْأَسْوَدُ، وَالْأَبْيَضُ، لَمْ يُفَتَّشْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَخْتَتِنُوا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ: أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ، فَلَوْلَا أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ لَمْ يَجُزْ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَخْتُونِ بِالنَّظَرِ إلَى عَوْرَتِهِ مِنْ أَجْلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ وَاجِبًا، كَسَائِرِ شِعَارِهِمْ، وَإِنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْخِتَانِ سَقَطَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ وَغَيْرَهُمَا يَسْقُطُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ، قَالَ حَنْبَلُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ، تَرَى لَهُ أَنْ يُطَهَّرَ بِالْخِتَانَةِ؟ قَالَ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَاكَ. قُلْت: وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا أَوْ كَبِيرَةً؟ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَطَهَّرَ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ: «اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً» ، قَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وَيُشْرَعُ الْخِتَانُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَيْضًا، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» فِيهِ بَيَانُ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ، وَحَدِيثُ عُمَرَ: إنَّ خَتَّانَةً خَتَنَتْ، فَقَالَ: " أَبْقِي مِنْهُ شَيْئًا إذَا خَفَضْت ". وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ، وَمَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ» ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِلْخَافِضَةِ: أَشِمِّي وَلَا تَنْهَكِي، فَإِنَّهُ أَحْظَى لِلزَّوْجِ، وَأَسْرَى لِلْوَجْهِ» . وَالْخَفْضُ: خِتَانَةُ الْمَرْأَةِ. [فَصْل حَلْقُ الْعَانَة] (102) فَصْلٌ: وَالِاسْتِحْدَادُ: حَلْقُ الْعَانَةِ. وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَيَفْحُشُ بِتَرْكِهِ، فَاسْتُحِبَّتْ إزَالَتُهُ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَهُ صَاحِبُهُ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَتُهُ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَرَى أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ سِفْلَتَهُ بِالْمِقْرَاضِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقْصِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ إذَا نَتَفَ عَانَتَهُ؟ قَالَ: وَهَلْ يَقْوَى عَلَى هَذَا أَحَدٌ وَإِنْ اطَّلَى بِنَوْرَةٍ فَلَا بَأْسَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَدَعُ أَحَدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يَلِي عَوْرَتَهُ، إلَّا مَنْ يَحِلُّ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا؛ مِنْ زَوْجَةٍ، أَوْ أَمَةٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّسَائِيّ: ضَرَبْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ نُورَةً، وَنَوَّرْته بِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى عَانَتِهِ نَوَّرَهَا هُوَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كُنْت أَطْلِي ابْنَ عُمَرَ، فَإِذَا بَلَغَ عَانَتَهُ نَوَّرَهَا هُوَ بِيَدِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَإِذَا احْتَاجَ إلَى النُّورَةِ تَنَوَّرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَصْلَحْت لَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ نُورَةً تَنَوَّرَ بِهَا، وَاشْتَرَيْت لَهُ جِلْدًا لِيَدَيْهِ، فَكَانَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِيهِ، وَيُنَوِّرُ نَفْسَهُ. وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ مِمَّا أَحْدَثُوا مِنْ النَّعِيمِ، يَعْنِي: النُّورَةَ. [فَصْل نَتْفُ الْإِبْطِ سُنَّةٌ] (103) فَصْلٌ: وَنَتْفُ الْإِبْطِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَيَفْحُشُ بِتَرْكِهِ. وَإِنْ أَزَالَ الشَّعْرَ بِالْحَلْقِ أَوْ النُّورَةِ جَازَ، وَنَتْفُهُ أَفْضَلُ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ، قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِإِسْحَاقَ: نَتْفُ الْإِبْطِ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ بِنُورَةٍ؟ قَالَ: نَتْفُهُ إنْ قَدَرَ. [فَصْل تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ] (104) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَيَتَفَاحَشُ إذَا تَرَكَهَا، وَرُبَّمَا حَكَّ بِهِ الْوَسَخَ، فَيَجْتَمِعُ تَحْتَهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُنْتِنَةِ، فَتَصِيرُ رَائِحَةُ ذَلِكَ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ. وَرُبَّمَا مَنَعَ وُصُولَ الطَّهَارَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا فِي خَبَرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَالِي لَا أَسْهُو وَأَنْتُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ» . وَمَعْنَاهُ: أَنَّ أَحَدَكُمْ يُطِيلُ أَظْفَارَهُ ثُمَّ يَحُكُّ بِهَا رُفْغَهُ وَمَوَاضِعَ النَّتْنِ، فَتَصِيرُ رَائِحَةُ ذَلِكَ تَحْتَ أَظْفَارِهِ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُسَلْسَلٍ قَدْ سَمِعْنَاهُ أَنَّ عَلِيًّا، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيٌّ، قَصُّ الظُّفْرِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ «مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا لَمْ يَرَ فِي عَيْنَيْهِ رَمَدًا» ، وَفَسَّرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ بِأَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْإِبْهَامِ ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ ثُمَّ بِإِبْهَامِ الْيُسْرَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْخِنْصَرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ ثُمَّ الْبِنْصِرِ. [فَصْل غَسْلُ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ بَعْد قَصِّ الْأَظْفَارِ] (105) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ بَعْدَ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحَكَّ بِالْأَظْفَارِ قَبْلَ غَسْلِهَا يَضُرُّ بِالْجَسَدِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " غَسْلُ الْبَرَاجِمِ " فِي تَفْسِيرِ الْفِطْرَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْبَرَاجِمُ: الْعُقَدُ الَّتِي فِي ظُهُورِ الْأَصَابِعِ، وَالرَّوَاجِبُ: مَا بَيْنَ الْبَرَاجِمِ. وَمَعْنَاهُ قَالَ: تَنْظِيفُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَتَشَنَّجُ وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ. وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ مَا قَلَّمَ مِنْ أَظْفَارِهِ أَوْ أَزَالَ مِنْ شَعْرِهِ، لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ «عَنْ مِيلَ بِنْتِ مِشْرَحٍ الْأَشْعَرِيَّةِ قَالَتْ: رَأَيْت أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَدْفِنُهَا، وَيَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ» . وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ» . وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ؟ قَالَ: يَدْفِنُهُ، قُلْت: بَلَغَك فِيهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ. وَرُوِّينَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ، وَقَالَ: لَا يَتَلَاعَبُ بِهِ سَحَرَةُ بَنِي آدَمَ» . [فَصْل الرَّجُل يَتَّخِذ الشَّعْر أَفْضَلُ مِنْ إزَالَته] (106) فَصْلٌ وَاِتِّخَاذُ الشَّعْرِ أَفْضَلُ مِنْ إزَالَتِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَتَّخِذُ الشَّعْرَ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، لَوْ أَمْكَنَنَا اتَّخَذْنَاهُ. وَقَالَ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُمَّةٌ.» وَقَالَ: تِسْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ شَعْرٌ. وَقَالَ: عَشَرَةٌ لَهُمْ جُمَمٌ. وَقَالَ: فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ «إنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: إلَى مَنْكِبَيْهِ» . وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: «مَا رَأَيْت مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَأَيْت ابْنَ مَرْيَمَ لَهُ لِمَّةٌ» . قَالَ الْخَلَّالُ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى - يَعْنِي ثَعْلَبًا - عَنْ اللِّمَّةِ؟ فَقَالَ: مَا أَلَمَّتْ بِالْأُذُنِ. وَالْجُمَّةُ: مَا طَالَتْ. وَقَدْ ذَكَرِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي حَدِيثِهِ: «أَنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ» ، وَقَدْ سَمَّاهُ لِمَّةً. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شَعْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى صِفَةِ شَعْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا طَالَ فَإِلَى مَنْكِبَيْهِ، وَإِنْ قَصُرَ فَإِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ. وَإِنْ طَوَّلَهُ فَلَا بَأْسَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَتْ لَهُ عَقِيصَتَانِ وَعُثْمَانُ كَانَتْ لَهُ عَقِيصَتَانِ. وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِي شَعْرٌ طَوِيلٌ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: ذُبَابٌ ذُبَابٌ. فَرَجَعْتُ فَجَزَزْته، ثُمَّ أَتَيْته مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: لَمْ أَعْنِك» ، وَهَذَا حَسَنٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ وَإِكْرَامُهُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسْتَحَبُّ فَرْقُ الشَّعْرِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَ شَعْرَهُ، وَذَكَرَهُ مِنْ الْفِطْرَةِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ: أَنْ لَا يَفْرُقُوا شُعُورَهُمْ، لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 [فَصْل حَلَقَ الرَّأْس] (107) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ. فَعَنْهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَوَارِجِ: سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ» . فَجَعَلَهُ عَلَامَةً لَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ لِصَبِيغٍ: لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك بِالسَّيْفِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُوضَعُ النَّوَاصِي إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، فِي الْأَفْرَادِ، وَرَوَى أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيس مِنَّا مَنْ حَلَقَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَحْلِقُ رَأْسَهُ فِي الْمِصْرِ شَيْطَانٌ. قَالَ أَحْمَدُ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ: لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لَكِنْ تَرْكُهُ أَفْضَلُ. قَالَ حَنْبَلُ: كُنْت أَنَا وَأَبِي نَحْلِقُ رُءُوسَنَا فِي حَيَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَيَرَانَا وَنَحْنُ نَحْلِقُ فَلَا يَنْهَانَا، وَكَانَ هُوَ يَأْخُذُ رَأْسَهُ بِالْجَلَمَيْنِ وَلَا يُحْفِيهِ وَيَأْخُذُهُ وَسَطًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى غُلَامًا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «احْلِقْهُ كُلَّهُ أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَاءَ نَعِيُّ جَعْفَرٍ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: اُدْعُوا بَنِي أَخِي، فَجِيءَ بِنَا، قَالَ: اُدْعُوا لِي الْحَالِقَ فَأَمَرَ بِنَا فَحَلَقَ رُءُوسَنَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالطَّيَالِسِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ بِالْمِقْرَاضِ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ» يَعْنِي فِي الْمُصِيبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ " أَوْ صَلَقَ " أَوْ خَرَقَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إبَاحَةِ الْحَلْقِ، وَكَفَى بِهَذَا حُجَّةٌ. وَأَمَّا اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ بِالْمِقْرَاضِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا كَرِهُوا الْحَلْقَ بِالْمُوسَى وَأَمَّا بِالْمِقْرَاضِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْكَرَاهَةِ تَخْتَصُّ بِالْحَلْقِ. [فَصْل حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ] فَصْلٌ: فَأَمَّا حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ فَمَكْرُوهٌ. وَيُسَمَّى الْقَزَعَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَقَالَ: احْلِقْهُ كُلَّهُ أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ» . وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ: أَنْ يَحْلِقُوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. فَمَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ. [فَصْل حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ] (109) فَصْلٌ: وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. قَالَ أَبُو مُوسَى: «بَرِئَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.» قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مُثْلَةٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الْمَرْأَةِ تَعْجِزُ عَنْ شَعْرِهَا وَعَنْ مُعَالَجَتِهِ، أَتَأْخُذُهُ عَلَى حَدِيثِ مَيْمُونَةَ؟ قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ؟ قِيلَ لَهُ: لَا تَقْدِرُ عَلَى الدَّهْنِ وَمَا يُصْلِحُهُ وَتَقَعُ فِيهِ الدَّوَابُّ. قَالَ: إذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. [فَصْل نَتْفُ الشَّيْبِ] (110) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ، وَقَالَ: إنَّهُ نُورُ الْإِسْلَامِ.» وَعَنْ طَارِقِ بْنِ حَبِيبٍ، «أَنَّ حَجَّامًا أَخَذَ مِنْ شَارِبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى شَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَأَهْوَى إلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ، وَقَالَ: مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُمَا الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ. [فَصْل حَلْقُ الْقَفَا] (111) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ حَلْقُ الْقَفَا لِمَنْ لَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَلْقِ الْقَفَا. فَقَالَ: هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. وَقَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْلِقَ قَفَاهُ وَقْتَ الْحِجَامَةِ. وَأَمَّا حَفُّ الْوَجْهِ، فَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَفِّ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ. [فَصْل خِضَابُ الشَّيْبِ] (112) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ خِضَابُ الشَّيْبِ بِغَيْرِ السَّوَادِ، قَالَ أَحْمَدُ إنِّي لَأَرَى الشَّيْخَ الْمَخْضُوبَ فَأَفْرَحُ بِهِ. وَذَاكَرَ رَجُلًا، فَقَالَ: لِمَ لَا تَخْتَضِبُ؟ فَقَالَ: أَسْتَحِي. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت: يُحْكَى عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ دَاوُد: خَضَّبْت؟ قُلْت: أَنَا لَا أَتَفَرَّغُ لِغَسْلِهَا فَكَيْفَ أَتَفَرَّغُ لَخِضَابِهَا، فَقَالَ: أَنَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ بِشْرٌ كَشَفَ عَمَلَهُ لِابْنِ دَاوُد، ثُمَّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ» ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خَضَبَا، وَالْمُهَاجِرُونَ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِغَسْلِهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِالْخِضَابِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي رِمْثَةَ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ. وَيُسْتَحَبُّ الْخِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: «دَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ.» وَخَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَلَا بَأْسَ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ؛ لِأَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ قَالَ: «كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ» . وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْت أَنَا وَأَخِي رَافِعٌ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَأَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ، وَأَخِي مَخْضُوبٌ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذَا خِضَابُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لِأَخِي رَافِعٍ: هَذَا خِضَابُ الْإِيمَانِ. وَيُكْرَهُ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ. قَالَ: «وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُخَضِّبُونَ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . وَرَخَّصَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ لِلْمَرْأَةِ تَتَزَيَّنُ بِهِ لِزَوْجِهَا. [فَصْل يَكْتَحِلَ وِتْرًا وَيَدهنَّ غِبًّا وَيَنْظُرَ فِي الْمِرْآة وَيَتَطَيَّبَ] (113) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتَحِلَ وِتْرًا، وَيَدَّهِنَ غِبًّا، وَيَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ وَيَتَطَيَّبَ. قَالَ حَنْبَلُ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَتْ لَهُ صِينِيَّةٌ فِيهَا مِرْآةٌ وَمُكْحُلَةٌ وَمِشْطٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حِزْبِهِ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ وَاكْتَحَلَ وَامْتَشَطَ، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ يَكْتَحِلُ الرَّجُلُ؟ قَالَ: وِتْرًا. وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . وَالْوَتْرُ ثَلَاثٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ فِي الْيُمْنَى وَاثْنَتَانِ فِي الْيُسْرَى، لِيَكُونَ الْوَتْرُ حَاصِلًا فِي الْعَيْنَيْنِ مَعًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّرَجُّلِ إلَّا غِبًّا.» قَالَ أَحْمَدُ مَعْنَاهُ يَدَّهِنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا. وَكَانَ أَحْمَدُ يُعْجِبُهُ الطِّيبُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ وَيَتَطَيَّبُ كَثِيرًا.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 [فَصْلٌ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَة وَالْوَاشِرَةَ والمستوشرة] (114) فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ.» فَهَذِهِ الْخِصَالُ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ فَاعِلَهَا وَلَا يَجُوزُ لَعْنُ فَاعِلِ الْمُبَاحِ. وَالْوَاصِلَةُ: هِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِغَيْرِهِ، أَوْ شَعْرَ غَيْرِهَا. وَالْمُسْتَوْصِلَةُ: الْمَوْصُولُ شَعْرُهَا بِأَمْرِهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ ابْنَتِي عِرْسٌ وَقَدْ تَمَزَّقَ شَعْرُهَا، أَفَأَصِلُهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لُعِنَتْ الْوَاصِلَةُ، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ» . فَلَا يَجُوزُ وَصْلُ شَعْرِ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ آخَرَ؟ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ «أَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَقَالَ: إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذَا نِسَاؤُهُمْ.» وَأَمَّا وَصْلُهُ بِغَيْرِ الشَّعْرِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا تَشُدُّ بِهِ رَأْسَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ فِي تَخْصِيصِ الَّتِي تَصِلُهُ بِالشَّعْرِ، فَيُمْكِنُ جَعْلُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا الشَّعْرَ وَلَا الْقَرَامِلَ وَلَا الصُّوفَ، نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَصِلُ فَهُوَ وِصَالٌ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا» . وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَشِّطُونَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَتْ: إنِّي أَصِلُ رَأْسَ الْمَرْأَةِ بِقَرَامِلَ وَأُمَشِّطُهَا، فَتَرَى لِي أَنْ أَحُجَّ مِمَّا اكْتَسَبْت؟ قَالَ: لَا وَكَرِهَ كَسْبَهَا، وَقَالَ لَهَا: يَكُونُ مِنْ مَالٍ أَطْيَبَ مِنْ هَذَا. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ إنَّمَا هُوَ وَصْلُ الشَّعْرِ بِالشَّعْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ التَّدْلِيسِ وَاسْتِعْمَالِ الشَّعْرِ الْمُخْتَلَفِ فِي نَجَاسَتِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ، لِعَدَمِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهَا، وَحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ تَحْسِينِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (115) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّامِصَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنْ الْوَجْهِ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ: الْمَنْتُوفُ شَعْرُهَا بِأَمْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ. وَإِنْ حَلَقَ الشَّعْرَ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّتْفِ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ وَأَمَّا الْوَاشِرَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَبْرُدُ الْأَسْنَانَ بِمِبْرَدٍ وَنَحْوِهِ؛ لِتُحَدِّدَهَا وَتُفَلِّجَهَا وَتُحَسِّنَهَا، وَالْمُسْتَوْشِرَةُ: الْمَفْعُولُ بِهَا ذَلِكَ بِإِذْنِهَا، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» . وَالْوَاشِمَةُ: الَّتِي تَغْرِزُ جِلْدَهَا بِإِبْرَةٍ، ثُمَّ تَحْشُوهُ كُحْلًا. وَالْمُسْتَوْشِمَةُ: الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 [بَابُ السِّوَاكِ وَسُنَّةِ الْوُضُوءِ] [مَسْأَلَةٌ السِّوَاكُ سُنَّةٌ] مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ وَالسِّوَاكُ سُنَّةٌ، يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ السِّوَاكَ سُنَّةً غَيْرَ وَاجِبٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ إلَّا إِسْحَاقَ وَدَاوُد؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» . وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَأَمَرْتهمْ أَمْرَ إيجَابٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ إنَّمَا تَلْحَقُ بِالْإِيجَابِ لَا بِالنَّدْبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِهِمْ أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُصُوصِ، جَمْعًا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِحَثِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ، وَتَرْغِيبِهِ فِيهِ وَنَدْبِهِ إلَيْهِ، وَتَسْمِيَتِهِ إيَّاهُ مِنْ الْفِطْرَةِ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي مُسْنَدِهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي لَأَسْتَاكُ، حَتَّى لَقَدْ خَشِيت أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ فِي مَوَاضِعَ ثَلَاثَةٍ: عِنْدَ الصَّلَاةِ؛ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ. وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، يَعْنِي: يَغْسِلُهُ، يُقَالُ: شَاصَهُ، يَشُوصُهُ، وَمَاصَهُ: إذَا غَسَلَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَيَسْتَيْقِظُ إلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّهُ إذَا نَامَ يَنْطَبِقُ فُوهُ فَتَتَغَيَّرُ رَائِحَتُهُ. وَعِنْدَ تَغَيُّرِ رَائِحَةِ فِيهِ بِمَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ السِّوَاكَ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ رَائِحَتِهِ وَتَطْيِيبِهِ. (117) فَصْلٌ: وَيَسْتَاكُ عَلَى أَسْنَانِهِ وَلِسَانِهِ، قَالَ أَبُو مُوسَى: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَأَيْته يَسْتَاكُ عَلَى لِسَانِهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنِّي لَأَسْتَاكُ حَتَّى لَقَدْ خَشِيت أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي.» وَيَسْتَاكُ عَرْضًا، لَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اسْتَاكُوا عَرْضًا، وَادَّهِنُوا غِبًّا، وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا» ؛ وَلِأَنَّ السِّوَاكَ طُولًا مِنْ أَطْرَافِ الْأَسْنَانِ إلَى عَمُودِهَا رُبَّمَا أَدْمَى اللِّثَةَ وَأَفْسَدَ الْعَمُودَ. وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي سِوَاكِهِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ؛ لِيُزِيلَ مَا عَلَيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِينِي السِّوَاكَ لِأَغْسِلَهُ، فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ، ثُمَّ أَغْسِلُهُ، ثُمَّ أَدْفَعُهُ إلَيْهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُنَّا نُعِدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ آنِيَةٍ مُخَمَّرَةً مِنْ اللَّيْلِ: إنَاءً لِطَهُورِهِ، وَإِنَاءً لِسِوَاكِهِ، وَإِنَاءً لِشَرَابِهِ.» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. (118) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ عُودًا لَيِّنًا يُنَقِّي الْفَمَ، وَلَا يَجْرَحُهُ، وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَا يَتَفَتَّتُ فِيهِ، كَالْأَرَاكِ وَالْعُرْجُونِ، وَلَا يُسْتَاكُ بِعُودِ الرُّمَّانِ وَلَا الْآسِ وَلَا الْأَعْوَادِ الذَّكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَخَلَّلُوا بِعُودِ الرَّيْحَانِ، وَلَا الرُّمَّانِ، فَإِنَّهُمَا يُحَرِّكَانِ عِرْقَ الْجُذَامِ» . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْحَافِظُ بِإِسْنَادِهِ، وَقِيلَ: السِّوَاكُ بِعُودِ الرَّيْحَانِ يَضُرُّ بِلَحْمِ الْفَمِ. وَإِنْ اسْتَاكَ بِأُصْبُعِهِ أَوْ خِرْقَةٍ، فَقَدْ قِيلَ: لَا يُصِيبُ السُّنَّةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِنْقَاءُ بِهِ حُصُولَهُ بِالْعُودِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْإِنْقَاءِ، وَلَا يُتْرَكُ الْقَلِيلُ مِنْ السُّنَّةِ لِلْعَجْزِ عَنْ كَثِيرِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَخْبَرَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْبَخْتَرِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِي، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ رَغَّبْتَنَا فِي السِّوَاكِ، فَهَلْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: أُصْبُعَيْك، سِوَاكٌ عِنْدَ وُضُوئِك، أَمِرَّهُمَا عَلَى أَسْنَانِك، إنَّهُ لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَلَا أَجْرَ لِمَنْ لَا حَسَنَةَ لَهُ.» [مَسْأَلَة السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ] (119) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا، فَيُمْسِكَ مِنْ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَلْ يُكْرَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا يُكْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَسْتَاكُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ، وَلَا يَسْتَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ السِّوَاكَ إنَّمَا اُسْتُحِبَّ لِإِزَالَةِ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَإِزَالَةُ الْمُسْتَطَابِ مَكْرُوهٌ، كَدَمِ الشُّهَدَاءِ وَشَعَثِ الْإِحْرَامِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يُكْرَهُ، وَرَخَّصَ فِيهِ غَدْوَةً وَعَشِيًّا النَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُرْوَةُ وَمَالِكٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي السِّوَاكِ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. [مَسْأَلَة غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ] (120) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ ثَلَاثًا. غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ مَسْنُونٌ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ قَامَ مِنْ النَّوْمِ أَوْ لَمْ يَقُمْ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَغْمِسُ فِي الْإِنَاءِ وَتَنْقُلُ الْوُضُوءَ إلَى الْأَعْضَاءِ، فَفِي غَسْلِهِمَا إحْرَازٌ لِجَمِيعِ الْوُضُوءِ، «وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَفَ وُضُوءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: دَعَا بِالْمَاءِ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ وَصَفَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ غَيْرِ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، فَأَمَّا عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي وُجُوبِهِ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْهُ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: " فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي وَضُوءٍ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ". وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَنَهْيُهُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . الْآيَةَ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِهَا: إذَا قُمْتُمْ مِنْ نَوْمٍ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ النَّوْمِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّلِهِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ نَوْمٍ، فَأَشْبَهَ الْقَائِمَ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَتَعْلِيلِهِ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَطَرَيَانُ الشَّكِّ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النَّدْبَ. (121) فَصْلٌ: وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ، وَسَوَّى الْحَسَنُ بَيْنَ نُومِ اللَّيْلِ وَنَوْمِ النَّهَارِ فِي الْوُجُوبِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: (إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ) . وَلَنَا أَنَّ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ نَوْمِ اللَّيْلِ؛ لِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدِهِ) ، وَالْمَبِيتُ يَكُون بِاللَّيْلِ خَاصَّةً، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ تَعَبُّدًا، فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ. الثَّانِي أَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ النَّوْمِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ وَطُولِ مُدَّتِهِ، فَاحْتِمَالُ إصَابَةِ يَدِهِ لِنَجَاسَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لَا يَشْعُرُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي نَوْمِ النَّهَارِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: الْحَدِيثُ فِي الْمَبِيتِ بِاللَّيْلِ، فَأَمَّا النَّهَارُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. [فَصْل غَمَسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا] (122) فَصْلٌ: فَإِنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ غَسْلَهَا، لَا يُؤَثِّرُ غَمْسُهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَوْجَبَهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْخُبْثَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يُهْرِيقَ الْمَاءَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ إرَاقَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ غَمْسِ الْيَدِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ الْمُسْلِمِ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْخَبَرِ زِيَادَةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ أَدْخَلَهَا قَبْلَ الْغَسْلِ أَرَاقَ الْمَاءَ» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَزُولَ طُهُورِيَّتُهُ وَلَا تَجِبَ إرَاقَتُهُ؛ لِأَنَّ طُهُورِيَّةَ الْمَاءِ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، وَالْغَمْسُ الْمُحَرَّمُ لَا يَقْتَضِي إبْطَالَ طُهُورِيَّةَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ، فَالْوَهْمُ لَا يَزُولُ بِهِ يَقِينُ الطُّهُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ يَقِينَ الطَّهَارَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُزِيلُ الطُّهُورِيَّةَ، فَإِنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ الْيَدِ وَلَا الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَبِالْوَهْمِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ تَعَبُّدًا فَنَقْتَصِرُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْغَسْلِ وَتَحْرِيمُ الْغَمْسِ، وَلَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَدَثٍ؛ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ تَأْثِيرِ غَمْسِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَلَا فَرْقَ هَاهُنَا بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ أَوْ لَا يَنْوِيَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا، فَهَلْ تَبْطُلُ طُهُورِيَّتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْل حَدُّ الْيَدِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهَا] (123) فَصْلٌ: وَحَدُّ الْيَدِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهَا مِنْ الْكُوعِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُطْلَقَةَ فِي الشَّرْعِ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَإِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ، وَكَذَلِكَ فِي التَّيَمُّمُ يَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعِ، وَالدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْيَدِ تَجِبُ عَلَى مَنْ قَطَعَهَا مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ. وَغَمْسُ بَعْضِهَا، وَلَوْ أُصْبُعٍ أَوْ ظُفْرٍ مِنْهَا، كَغَمْسِ جَمِيعِهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ الْمَنْعُ بِجَمِيعِهِ تَعَلَّقَ بِبَعْضِهِ، كَالْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ. وَالثَّانِي لَا يَمْنَعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّ النَّهْيَ تَنَاوَلَ غَمْسَ جَمِيعِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَانِعًا كَوْنُ بَعْضِهِ مَانِعًا، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا كَوْنُ بَعْضِهِ سَبَبًا، وَغَمْسُهَا بَعْدَ غَسْلِهَا دُونَ الثَّلَاثِ كَغَمْسِهَا قَبْلَ غَسْلِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَزُولُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [فَصْل إذَا نَامَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُهُ] (124) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ يَدِ النَّائِمِ مُطْلَقَةً أَوْ مَشْدُودَةً بِشَيْءٍ، أَوْ فِي جِرَابٍ، أَوْ كَوْنِ النَّائِمِ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سُئِلَ أَحْمَدُ إذَا نَامَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُهُ؟ قَالَ: السَّرَاوِيلُ وَغَيْرُهُ وَاحِدٌ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا انْتَبَهَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» . يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِعُمُومِهِ. وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ عَلَى الْمَظِنَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ، كَالْعِدَّةِ الْوَاجِبَةِ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، تَجِبُ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَكَذَاك الِاسْتِبْرَاءُ، مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ النَّجَاسَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَسِّ الْفَرْجِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ بَثْرَةٌ أَوْ دُمَّلٌ، وَقَدْ يَحُكُّ جَسَدَهُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دَمٌ بَيْنَ أَظْفَارِهِ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ دَمٌ، وَقَدْ تَكُونُ نَجِسَةً قَبْلَ نَوْمِهِ فَيَنْسَى نَجَاسَتَهَا لِطُولِ نَوْمِهِ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْغَسْلَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ؛ لَا لِعِلَّةِ التَّنْجِيسِ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ الْيَدِ وَلَا الْمَاءِ، فَيَعُمُّ الْوُجُوبُ كُلَّ مَنْ تَنَاوَلَهُ الْخَبَرُ. [فَصْل كَانَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ كَافِرًا] (125) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ كَافِرًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ غَمْسُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْغَمْسِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ، وَلَا خِطَابَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغَسْلِ هَاهُنَا تَعَبُّدٌ، وَلَا تَعَبُّدَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ؛ وَلِأَنَّ غَمْسَهُمْ لَوْ أَثَّرَ فِي الْمَاءِ لَأَثَّرَ فِي جَمِيعِ زَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ الْمُزِيلَ مِنْ حُكْمِ الْمَنْعِ مِنْ شَرْطِهِ النِّيَّةُ، وَمَا هُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِذَلِكَ. [فَصْل النَّوْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْيَدِ] (126) فَصْلٌ: وَالنَّوْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْيَدِ مَا نَقَضَ الْوُضُوءَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِتًا إلَّا بِذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ بَائِتًا بِهَا، وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ دَمٌ، بِخِلَافِ مَنْ دَفَعَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا جَاءَ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَائِتًا بِهَا، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَاتَ بِهَا دُونَ النِّصْفِ. [فَصْل غَسْلُ الْيَدَيْنِ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ] (127) فَصْلٌ: وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، فَأَشْبَهَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ. وَالثَّانِي: لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِوَهْمِ النَّجَاسَةِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي غَسْلِهَا النِّيَّةُ؛ وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْغَسْلُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِهِ. وَلَا يَفْتَقِرُ الْغَسْلُ إلَى تَسْمِيَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَفْتَقِرُ إلَيْهَا قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الصَّحِيحِ، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا تَعَبُّدًا، فَيَجِبُ قَصْرُهَا عَلَى مَحَلِّهَا، فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِهِ فَرْعُ التَّعْلِيلِ، وَمِنْ شَرْطِهِ كَوْنُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا، وَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ آكَدُ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ أَعْضَاءَ، وَسَبَبُهُ غَيْرُ سَبَبِ غَسْلِ الْيَدِ. [فَصْل انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ] (128) فَصْلٌ: وَلَوْ انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، أَوْ تَوَضَّأَ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، يَغْمِسُ فِيهِ أَعْضَاءَهُ، وَلَمْ يَنْوِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ مِنْ نُومِ اللَّيْلِ، صَحَّ غُسْلُهُ وَوُضُوءُهُ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ غَسْلِ الْيَدِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ النِّيَّةَ فِي غَسْلِهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْعُضْوِ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ الْحَدَثِ، فَلَوْ غَسَلَ أَنْفَهُ أَوْ يَدَهُ فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ نَجِسٌ، لَارْتَفَعَ حَدَثُهُ، وَبَقَاءُ الْحَدَثِ عَلَى الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ حَدَثٍ آخَرَ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ الْجُنُبُ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، أَوْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَنْوِ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى، صَحَّتْ الْمَنْوِيَّةُ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ شَبَهِهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. [فَصْل وَجَدَ مَاءً قَلِيلًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْتَرِفُ بِهِ وَيَدَاهُ نَجِسَتَانِ] (129) فَصْلٌ: إذَا وَجَدَ مَاءً قَلِيلًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْتَرِفُ بِهِ وَيَدَاهُ نَجِسَتَانِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ بِفِيهِ وَيَصُبُّ عَلَى يَدِهِ. وَهَكَذَا لَوْ أَمْكَنَهُ غَمْسُ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَصَبُّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَعَلَ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَيَمَّمَ وَتَرَكَهُ؛ لِئَلَّا يَنْجُسَ الْمَاءُ وَيَتَنَجَّسَ بِهِ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ تَوَضَّأَ مِنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْمَاءَ بَاقِيًا عَلَى إطْلَاقِهِ. وَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا، قَالَ: يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ مَعَهُ. وَلَوْ اسْتَيْقَظَ الْمَحْبُوسُ مِنْ نَوْمِهِ فَلَمْ يَدْرِ؛ أَهُوَ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ أَوْ اللَّيْلِ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَلَا نُوجِبُهُ بِالشَّكِّ. [مَسْأَلَة التَّسْمِيَة عِنْد الْوُضُوءِ] (130) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْوُضُوءِ. ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَسْنُونَةٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا. رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. يَعْنِي إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِيهَا كُلِّهَا؛ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحْسَنُ. وَهَذَا نَفْيٌ فِي نَكِرَةٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ وُضُوءُهُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا طَهَارَةٌ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى التَّسْمِيَةِ، كَالطَّهَارَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ، أَوْ عِبَادَةٌ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا التَّسْمِيَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَالْأَحَادِيثِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ يَثْبُتُ فِي هَذَا حَدِيثٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهَا حَدِيثًا لَهُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: ضَعَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ فِي التَّسْمِيَةِ، وَقَالَ: أَقْوَى شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثُ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ رُبَيْحٍ - يَعْنِي حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ - ثُمَّ ذَكَرَ رُبَيْحًا، أَيْ مَنْ هُوَ؟ وَمَنْ أَبُوهُ؟ فَقَالَ: يَعْنِي الَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. يَعْنِي أَنَّهُمْ مَجْهُولُونَ، وَضَعَّفَ إسْنَادَهُ. وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ بِدُونِهَا، كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» . (131) فَصْلٌ: وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فَتَرَكَهَا عَمْدًا، لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الطَّهَارَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ. وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا صَحَّتْ طَهَارَتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ. سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ فَعَلَى هَذَا إذَا ذَكَرِ فِي أَثْنَاءِ طَهَارَتِهِ أَتَى بِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عُفِيَ عَنْهَا مَعَ السَّهْوِ فِي جُمْلَةِ الْوُضُوءِ فَفِي بَعْضِهِ أَوْلَى، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا حَتَّى غَسَلَ عُضْوًا لَمْ يَعْتَدَّ بِغَسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَمْدِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ: إذَا سَمَّى فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ. يَعْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى وُضُوئِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَقِيَاسًا لَهَا عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» ؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ تَتَغَايَرُ أَفْعَالُهَا، فَكَانَ فِي وَاجِبَاتِهَا مَا يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ كَالصَّلَاةِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ تَأَكَّدَ وُجُوبُهَا، بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ هِيَ قَوْلُ بِسْمِ اللَّهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، كَالتَّسْمِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَعِنْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ وَشُرْبِ الشَّرَابِ، وَمَوْضِعُهَا بَعْدَ النِّيَّةِ قَبْلَ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ قَوْلٌ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَيَكُونُ بَعْدَ النِّيَّةِ، لِتَشْمَلَ النِّيَّةَ جَمِيعَ وَاجِبَاتِهَا، وَقَبْلَ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ، لِيَكُونَ مُسَمِّيًا عَلَى جَمِيعِهَا، كَمَا يُسَمَّى عَلَى الذَّبِيحَةِ وَقْتَ ذَبْحِهَا. [مَسْأَلَة الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ] (132) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ: اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى أَقْصَى الْأَنْفِ، وَلَا يَجْعَلُهُ سَعُوطًا، وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَلَا يُسْتَحَبُّ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ. قَالَ أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، فَاسْتُحِبَّتْ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 [فَصْل الْمُبَالَغَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي سَائِرِ أَعْضَاء الْوُضُوء] (133) فَصْلٌ: الْمُبَالَغَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَسْبِغْ الْوُضُوءَ.» وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ إدَارَةُ الْمَاءِ فِي أَعْمَاقِ الْفَمِ وَأَقَاصِيهِ وَأَشْدَاقِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ وَجُورًا لَمْ يَمُجَّهُ، وَإِنْ ابْتَلَعَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ قَدْ حَصَلَ. وَالْمُبَالَغَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْلِيلِ، وَبِتَتَبُّعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ بِالدَّلْكِ وَالْعَرْكِ وَمُجَاوَزَةِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ بِالْغَسْلِ. وَقَدْ رَوَى نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَقَالَ: سَمِعْت خَلِيلِي يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة تَخْلِيلُ اللِّحْيَة] (134) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ اللِّحْيَةَ إنْ كَانَتْ خَفِيفَةً تَصِفُ الْبَشَرَةَ وَجَبَ غَسْلُ بَاطِنِهَا. وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَمْ يَجِبْ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُهَا. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَنَسُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إذَا تَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ عَامِدًا أَعَادَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ.» رَوَاهُ عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَضَّأَ عَرَكَ عَارِضَيْهِ بَعْضَ الْعَرْكِ، ثُمَّ شَبَكَ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِهِ مِنْ تَحْتِهَا.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ شُعُورِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا كَمَا يَجِبُ فِي الْجَنَابَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا أُمِرَ بِغَسْلِهِ فِي الْجَنَابَةِ، فَمَا وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا وَجَبَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ، وَلَا يَجِبُ التَّخْلِيلُ؛ وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي تَرْكِ التَّخْلِيلِ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْقَاسِمِ، وَمُحَمَّدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بْنُ عَلِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّخْلِيلَ، وَأَكْثَرُ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْكِهِ. وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَلَّ بِهِ فِي وُضُوءٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ فِي كُلِّ وُضُوءٍ لَنَقَلَهُ كُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ فَلَا يَبْلُغُ الْمَاءُ مَا تَحْتَ شَعْرِهَا بِدُونِ التَّخْلِيلِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَفِعْلُهُ لِلتَّخْلِيلِ فِي بَعْضِ أَحْيَانِهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (135) فَصْلٌ: قَالَ يَعْقُوبُ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ التَّخْلِيلِ؟ فَأَرَانِي مِنْ تَحْتِ لِحْيَتِهِ، فَخَلَّلَ بِالْأَصَابِعِ. وَقَالَ حَنْبَلُ: مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ مِنْ أَسْفَلِ الذَّقَنِ، يُخَلِّلُ جَانِبَيْ لِحْيَتِهِ جَمِيعًا بِالْمَاءِ، وَيَمْسَحُ جَانِبَيْهَا وَبَاطِنَهَا. وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قَالَ أَحْمَدُ إنْ شَاءَ خَلَّلَهَا مَعَ وَجْهِهِ، وَإِنْ شَاءَ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَهَّدَ بَقِيَّةَ شُعُورِ وَجْهِهِ وَيَمْسَحَ مَآقِيهِ؛ لِيَزُولَ مَا بِهِمَا مِنْ كُحْلٍ أَوْ غَمَصٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ «ذَكَرَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَانَ يَمْسَحُ الْمَأْقَيْنِ.» [مَسْأَلَة أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا] (136) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَأَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا الْمُسْتَحَبُّ: أَنْ يَأْخُذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا. قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَسْتَحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا، كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.» رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا أَنَّ إفْرَادَهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إلَى أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنْ الْوَجْهِ وَظَاهِرُهُمَا مِنْ الرَّأْسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ وَلَا مِنْ الرَّأْسِ. فَفِي إفْرَادِهِمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ خُرُوجٌ مِنْ بَعْضِ الْخِلَافِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَإِنْ مَسَحَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 [فَصْل مَا يُسْتَحَبّ فِي الْوُضُوء] (137) فَصْلٌ: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَلَمْ أَرَهُ يَمْسَحُ عَلَى عُنُقِهِ، فَقُلْت لَهُ: أَلَّا تَمْسَحُ عَلَى عُنُقِك؟ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقُلْت: أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: هُوَ مَوْضِعُ الْغُلِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ هَكَذَا يَمْسَحُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَفْعَلْهُ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ زِيَادَةٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «امْسَحُوا أَعْنَاقَكُمْ مَخَافَةَ الْغُلِّ» . وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْت أَبِي إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ مَسَحَ قَفَاهُ. وَوَهَّنَ الْخَلَّالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ: هِيَ وَهْمٌ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ.» وَهُوَ أَوَّلُ الْقَفَا. وَذَكَرَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يُنْكِرُهُ، وَأَنْكَرَهُ، يَحْيَى أَيْضًا. وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَرَوْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. [فَصْل مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ] (138) فَصْلٌ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ غَسْلَ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَمِيَ مِنْ كَثْرَةِ إدْخَالِ الْمَاءِ فِي عَيْنَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ أَبْلَغُ، فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَتُغْسَلُ فِيهِ بَوَاطِنُ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ، وَمَا تَحْتَ الْجَفْنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَدَاخِلُ الْعَيْنَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ الْمُمْكِنِ غَسْلُهُ فَإِذَا لَمْ تَجِبْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فِي وُضُوءٍ وَلَا غُسْلٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلَا أَمَرَ بِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِبَصَرِهِ، وَفِعْلُ مَا يُخَافُ مِنْهُ ذَهَابُ الْبَصَرِ أَوْ نَقْصُهُ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا. [مَسْأَلَةُ تَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْأَصَابِع] (139) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَسْنُونٌ، وَهُوَ فِي الرِّجْلَيْنِ آكَدُ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ الْأَصَابِعَ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ:: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَضَّأَ دَلَكَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيَبْدَأُ فِي تَخْلِيلِ الْيُمْنَى مِنْ خِنْصَرِهَا إلَى إبْهَامِهَا، وَفِي الْيُسْرَى مِنْ إبْهَامِهَا إلَى خِنْصَرِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي وُضُوئِهِ. وَفِي هَذَا تَيَمُّنٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 (140) فَصْلٌ: ` وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْرُكَ رِجْلَهُ بِيَدِهِ، وَيَتَعَهَّدَ عَقِبَيْهِ، وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَزْلَقُ عَنْهَا الْمَاءُ، قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: إذَا تَوَضَّأَ فَأَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْمَاءِ، فَأَخْرَجَهَا؟ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى رِجْلِهِ، وَيُخَلِّلَ أَصَابِعَهُ. قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، يُجْزِئُهُ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئُهُ مِنْ التَّخْلِيلِ أَنْ يُحَرِّكَ رِجْلَهُ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا زَلَقَ الْمَاءُ عَنْ الْجَسَدِ فِي الشِّتَاءِ. قِيلَ لَهُ: مَنْ تَوَضَّأَ يُحَرِّكُ خَاتَمَهُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَهُ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو رَافِعٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ.» وَإِذَا شَكَّ فِي وُصُولِ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ وَجَبَ تَحْرِيكُهُ؛ لِيَتَيَقَّنَ وُصُولَ الْمَاءِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُصُولِهِ. وَإِنْ الْتَفَّ بَعْضُ أَصَابِعِهِ عَلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُتَّصِلًا، لَمْ يَجِبْ فَصْلُ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا كَأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا وَجَبَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا بَيْنَهُمَا. (141) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَغَسْلُ الْمَيَامِنِ قَبْلَ الْمَيَاسِرِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ - فِيمَا عَلِمْنَا - فِي اسْتِحْبَابِ الْبُدَاءَةِ بِالْيُمْنَى، وَمِمَّنْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِيَسَارِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ. وَأَصْلُ الِاسْتِحْبَابِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ، وَيَفْعَلُهُ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَحَكَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «وُضُوءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَبَدَأَ بِالْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى.» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَكَذَا الرِّجْلَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ. وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَالْفُقَهَاءُ يُسَمُّونَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ أَرْبَعَةً، يَجْعَلُونَ الْيَدَيْنِ عُضْوًا، وَالرَّجُلَيْنِ عُضْوًا، وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 [بَابُ فَرْضِ الطَّهَارَةِ] [مَسْأَلَةٌ قَالَ فَرْضُ الطَّهَارَةِ مَاءٌ طَاهِرٌ وَإِزَالَةُ الْحَدَثِ] (142) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَفَرْضُ الطَّهَارَةِ مَاءٌ طَاهِرٌ، وَإِزَالَةُ الْحَدَثِ أَرَادَ بِالطَّاهِرِ: الطَّهُورَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمَاءِ الطَّهُورِ. وَعَنَى بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ ذَلِكَ بِحَالَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ، كَمَا تَقَيَّدَ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ بِحَالَةِ وُجُودِهِ. وَسَمَّى هَذَيْنِ فَرْضَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُضُوءِ، وَشَرَائِطُ الشَّيْءِ وَاجِبَةٌ لَهُ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْفَرْضُ وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ اشْتِرَاطُ الِاسْتِنْجَاءِ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ، فَلَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَصِحَّ كَالتَّيَمُّمِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ الْوُضُوءُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَيَسْتَجْمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ يَغْسِلُ فَرْجَهُ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَمَسُّ الْفَرْجَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ، وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا إزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ. فَأَمَّا التَّيَمُّمُ قَبْلَ الِاسْتِجْمَارِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلصَّلَاةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ، فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ كَالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ فَأَشْبَهَتْ طَهَارَةَ الْوُضُوءِ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِبَاحَةِ لِمَانِعٍ آخَرَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ تَيَمَّمَ مَنْ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ عَلَى بَدَنِهِ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ مِنْ بَدَنِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْفَرْجِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِلَّةِ. وَالْأَشْبَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ افْتَرَقَا فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْفَرْجِ سَبَبُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَانِعًا مِنْهُ، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ. [مَسْأَلَة النِّيَّةُ لِلطَّهَارَةِ] (143) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالنِّيَّةُ لِلطَّهَارَةِ يَعْنِي نِيَّةَ الطَّهَارَةِ. وَالنِّيَّةُ: الْقَصْدُ، يُقَالُ: نَوَاك: اللَّهُ بِخَيْرٍ. أَيْ قَصَدَك بِهِ. وَنَوَيْت السَّفَرَ. أَيْ: قَصَدْته، وَعَزَمْت عَلَيْهِ. وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ الطَّهَارَةِ لِلْأَحْدَاثِ كُلِّهَا، لَا يَصِحُّ وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ وَلَا تَيَمُّمٌ، إلَّا بِهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، ذَكَرَ الشَّرَائِطَ، وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَذَكَرَهَا؛ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَتَقْضِي الْآيَةُ حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى النِّيَّةِ كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ. وَلَنَا: مَا رَوَى عُمَرُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 مَا نَوَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ، فَلَمْ تَصِحَّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . أَيْ: لِلصَّلَاةِ، كَمَا يُقَالُ: إذَا لَقِيت الْأَمِيرَ فَتَرَجَّلْ. أَيْ: لَهُ وَإِذَا رَأَيْت الْأَسَدَ فَاحْذَرْ. أَيْ: مِنْهُ، وَقَوْلُهُمْ: ذَكَرَ كُلَّ الشَّرَائِطِ. قُلْنَا: إنَّمَا ذَكَرَ أَرْكَانَ الْوُضُوءِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرْطَهُ كَآيَةِ التَّيَمُّمِ. وَقَوْلُهُمْ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ. قُلْنَا: بَلْ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْفِعْلِ، وَهُوَ وَاجِبٌ. فَاشْتُرِطَ لِصِحَّتِهِ شَرْطٌ آخَرُ، بِدَلِيلِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا طَهَارَةٌ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَنْوِيَّةً؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَطَاعَةٌ لَهُ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. [فَصْل مَحَلُّ النِّيَّةِ] (144) فَصْلٌ: وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ؛ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ، وَمَحَلُّ الْقَصْدِ الْقَلْبُ، فَمَتَى اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ تَخْطِرْ النِّيَّةُ بِقَلْبِهِ لَمْ يُجْزِهِ. وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى غَيْرِ مَا اعْتَقَدَهُ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ مَا اعْتَقَدَهُ بِقَلْبِهِ. [فَصْلٌ صِفَةُ النِّيَّة] (145) فَصْلٌ: وَصِفَتُهَا أَنْ يَقْصِدَ بِطَهَارَتِهِ اسْتِبَاحَةَ شَيْءٍ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَيَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ، وَمَعْنَاهُ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يَفْتَقِرُ إلَى الطَّهَارَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَنَا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا. فَإِنْ نَوَى بِالطَّهَارَةِ مَا لَا تُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ؛ كَالتَّبَرُّدِ وَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ، لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّهَارَةَ، وَلَا مَا يَتَضَمَّنُ نِيَّتَهَا، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ، كَاَلَّذِي لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. وَإِنْ نَوَى تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا، فَهَلْ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا نَوَاهُ، وَلِلْخَبَرِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. وَالثَّانِيَةُ لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَا مَا تَضَمَّنَهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى التَّبَرُّدَ. وَإِنْ نَوَى مَا تُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَلَا تُشْتَرَطُ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ وَالنَّوْمِ، فَهَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصْلُهُمَا، إذَا نَوَى تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، وَالْأَوْلَى صِحَّةُ طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى شَيْئًا مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الطَّهَارَةِ، وَهُوَ الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ، فَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ، كَمَا لَوْ نَوَى بِهَا مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ نَوَى طَهَارَةً شَرْعِيَّةً، فَصَحَّتْ لِلْخَبَرِ. فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِمَا لَوْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ مَا لَا تُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ. قُلْنَا: إنْ نَوَى طَهَارَةً شَرْعِيَّةً، مِثْلُ إنْ قَصَدَ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ طَهَارَةً شَرْعِيَّةً، أَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى وُضُوءٍ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا، وَتَصِحُّ طَهَارَتُهُ. وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ نَظَافَةَ أَعْضَائِهِ مِنْ وَسَخٍ أَوْ طِينٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهَا، وَإِنْ نَوَى وُضُوءًا مُطْلَقًا أَوْ طَهَارَةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ وَالطَّهَارَةَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إطْلَاقُهُمَا إلَى الْمَشْرُوعِ، فَيَكُونُ نَاوِيًا لَوُضُوءٍ شَرْعِيٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَا يُبَاحُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، أَشْبَهَ قَاصِدَ الْأَكْلِ، وَالطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ وَإِلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ مَعَ التَّرَدُّدِ. وَإِنْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ وَتَبْرِيدَ أَعْضَائِهِ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّبْرِيدَ يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الِاشْتِرَاكُ، كَمَا لَوْ قَصَدَ بِالصَّلَاةِ الطَّاعَةَ وَالْخَلَاصَ مِنْ خَصْمِهِ. وَإِنْ قَصَدَ الْجُنُبُ بِالْغُسْلِ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ] (146) فَصْلٌ وَيَجِبُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ لَهَا، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا فِي جَمِيعِهَا، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يُعْتَدُّ بِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ غَسْلِ كَفَّيْهِ، لِتَشْمَلَ النِّيَّةُ مَسْنُونَ الطَّهَارَةِ وَمَفْرُوضَهَا. فَإِنْ غَسَلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ النِّيَّةِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا. وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَقَوْلِنَا فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ اسْتِصْحَابُ ذِكْرِ النِّيَّةِ إلَى آخِرِ طَهَارَتِهِ؛ لِتَكُونَ أَفْعَالُهُ مُقْتَرِنَةً بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ اسْتَصْحَبَ حُكْمَهَا أَجْزَأَهُ. وَمَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ قَطْعَهَا. وَإِنْ عَزَبَتْ عَنْ خَاطِرِهِ، وَذَهَلَ عَنْهَا، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي قَطْعِهَا؛ لِأَنَّ مَا اُشْتُرِطَتْ لَهُ النِّيَّةُ لَا يَبْطُلُ بِعُزُوبِهَا، وَالذُّهُولِ عَنْهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَإِنْ قَطَعَ نِيَّتَهُ فِي أَثْنَائِهَا مِثْلُ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يُتِمَّ طَهَارَتَهُ، أَوْ إنْ نَوَى جَعْلَ الْغُسْلِ لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ، لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى مِنْ طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا، فَلَمْ يَبْطُلْ بِقَطْعِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَ النِّيَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْوُضُوءِ، وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْغُسْلِ بَعْدَ قَطْعِ النِّيَّةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بِغَيْرِ شَرْطِهِ. فَإِنْ أَعَادَ غُسْلَهُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ؛ لِوُجُودِ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ كُلِّهَا مَنْوِيَّةً مُتَوَالِيَةً. وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ وَاجِبَةٌ. بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ؛ لِفَوَاتِهَا، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَتَمَّهَا. (147) فَصْلٌ وَإِنْ شَكَّ فِي النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَكَّ فِي شَرْطِهَا وَهُوَ فِيهَا، فَلَمْ تَصِحَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كَالصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا هِيَ الْقَصْدُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مُقَارَنَتُهَا، فَمَهْمَا عَلِمَ أَنَّهُ جَاءَ لِيَتَوَضَّأَ وَأَرَادَ فِعْلَ الْوُضُوءِ مُقَارِنًا لَهُ أَوْ سَابِقًا عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْهُ فَقَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ، وَإِنْ شَكَّ فِي وُجُودِ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَصِحَّ مَا فَعَلَهُ مِنْهَا، وَهَكَذَا إنْ شَكَّ فِي غَسْلِ عُضْوٍ أَوْ مَسْحِ رَأْسِهِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَهْمًا كَالْوَسْوَاسِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى شَكِّهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي الْعِبَادَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، أَشْبَهَ الشَّكَّ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ، بِدَلِيلِ بُطْلَانِهَا بِمُبْطِلَاتِهَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا؛ بِصِحَّتِهَا قَبْلَ شَكِّهِ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الْحَدَثِ الْمُبْطِلِ. (148) فَصْلٌ وَإِذَا وَضَّأَهُ غَيْرُهُ اُعْتُبِرَتْ النِّيَّةُ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ دُونَ الْمُوَضِّئِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَضِّئَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ يَحْصُلُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُوَضِّئِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَا يُخَاطَبُ بِهِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فَأَشْبَهَ الْإِنَاءَ أَوْ حَامِلَ الْمَاءِ إلَيْهِ. (149) فَصْلٌ وَإِذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ مَسْحَ رَأْسِهِ، أَوْ وَاجِبًا فِي الطَّهَارَةِ فِي أَحَدِ الْوُضُوءَيْنِ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاتَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بُطْلَانَ أَحَدِ الصَّلَاتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا. وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي وُضُوءِ إحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهُ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، فَلَزِمَتْهُ، كَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَإِنْ كَانَ الْوُضُوءُ تَجْدِيدًا لَا عَنْ حَدَثٍ، وَقُلْنَا إنَّ التَّجْدِيدَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الْأُولَى؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الْأُولَى إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَصَلَاتُهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّجْدِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْحَدَثُ بِالتَّجْدِيدِ. (150) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَغَسْلُ الْوَجْهِ، وَهُوَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ إلَى مَا انْحَدَرَ مِنْ اللَّحْيَيْنِ وَالذَّقَنِ وَإِلَى أُصُولِ الْأُذُنَيْنِ، وَيَتَعَاهَدُ الْمِفْصَلَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللِّحْيَةِ وَالْأُذُنِ. غَسْلُ الْوَجْهِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَيْ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَلَا يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، بَلْ لَوْ كَانَ أَجْلَحَ يَنْحَسِرُ شَعْرُهُ عَنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، غَسَلَ إلَى حَدِّ مَنَابِتِ الشَّعْرِ فِي الْغَالِبِ، وَالْأَفْرَعُ الَّذِي يَنْزِلُ شَعْرُهُ إلَى الْوَجْهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الشَّعْرِ الَّذِي يَنْزِلُ عَنْ حَدِّ الْغَالِبِ. وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ.» أَضَافَ السَّمْعَ إلَيْهِ كَمَا أَضَافَ الْبَصَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ مَا بَيْنَ اللِّحْيَةِ وَالْأُذُنِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَهَذَا لَا يُوَاجَهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَلَنَا عَلَى الزُّهْرِيِّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرُّبَيِّعِ، وَالْمِقْدَامِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ.» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا. وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا مَعَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُمَا إلَى الْوَجْهِ لِمُجَاوَرَتِهِمَا لَهُ، وَالشَّيْءُ يُسَمَّى بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ. وَلَنَا عَلَى مَالِكٍ أَنَّ هَذَا مِنْ الْوَجْهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، فَكَانَ مِنْهُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ كَسَائِرِ الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ الْوَجْهَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ. قُلْنَا: وَهَذَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فِي الْغُلَامِ. وَيُسْتَحَبُّ تَعَاهُدُ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: أَرَانِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَصُدْغِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَاهَدَ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِفْصَلُ اللَّحْيِ مِنْ الْوَجْهِ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ الْخِرَقِيِّ مِفْصَلًا. (151) فَصْلٌ وَيَدْخُلُ فِي الْوَجْهِ الْعِذَارُ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ الَّذِي هُوَ سَمْتُ صِمَاخِ الْأُذُنِ، وَمَا انْحَطَّ عَنْهُ إلَى وَتَدِ الْأُذُنِ. وَالْعَارِضُ: وَهُوَ مَا نَزَلَ عَنْ حَدِّ الْعِذَارِ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى اللَّحْيَيْنِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: مَا جَاوَزَ وَتَدَ الْأُذُنِ عَارِضٌ. وَالذَّقَنُ: مَجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ. فَهَذِهِ الشُّعُورُ الثَّلَاثَةُ مِنْ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهَا مَعَهُ. وَكَذَلِكَ الشُّعُورُ الْأَرْبَعَةُ، وَهِيَ الْحَاجِبَانِ، وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ، وَالْعَنْفَقَةُ، وَالشَّارِبُ. فَأَمَّا الصُّدْغُ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَعْدُ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ، وَهُوَ مَا يُحَاذِي رَأْسَ الْأُذُنِ وَيَنْزِلُ عَنْ رَأْسِهَا قَلِيلًا، وَالنَّزْعَتَانِ، وَهُمَا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعْرُ مِنْ الرَّأْسِ مُتَصَاعِدًا فِي جَانِبَيْ الرَّأْسِ، فَهُمَا مِنْ الرَّأْسِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الصُّدْغِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعِذَارِ، أَشْبَهَ الْعَارِضَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَمَسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ، وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ، مَرَّةً وَاحِدَةً.» فَمَسَحَهُ مَعَ الرَّأْسِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ غَسَلَهُ مَعَ الْوَجْهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ لَا يَخْتَصُّ الْكَبِيرَ، فَكَانَ مِنْ الرَّأْسِ، كَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ طَرْدِيٌّ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، وَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا. فَأَمَّا التَّحْذِيفُ، وَهُوَ الشَّعْرُ الدَّاخِلُ فِي الْوَجْهِ مَا بَيْنَ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزْعَةِ، فَهُوَ مِنْ الْوَجْهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَعْرٌ لَكَانَ مِنْ الْوَجْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ، كَسَائِرِ الْوَجْهِ. (152) فَصْلٌ: وَهَذِهِ الشُّعُورُ كُلُّهَا إنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَا تَصِفُ الْبَشَرَةَ، أَجْزَأَهُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا. وَإِنْ كَانَتْ تَصِفُ الْبَشَرَةَ، وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا كَثِيفًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا، وَجَبَ غَسْلُ بَشَرَةِ الْخَفِيفِ مَعَهُ وَظَاهِرِ الْكَثِيفِ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ فِي الشَّارِبِ، وَالْعَنْفَقَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ، وَلِحْيَةِ الْمَرْأَةِ، وَجْهًا آخَرَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ بَاطِنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتُرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 مَا تَحْتَهَا عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ شَعْرٌ سَاتِرٌ لِمَا تَحْتَهُ، أَشْبَهَ لِحْيَةَ الرَّجُلِ، وَدَعْوَى النُّدْرَةِ فِي الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ، غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ الْعَادَةُ ذَلِكَ. (153) فَصْلٌ: وَمَتَى غَسَلَ هَذِهِ الشُّعُورَ، ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ، أَوْ انْقَلَعَتْ جِلْدَةٌ مِنْ يَدَيْهِ، أَوْ قَصَّ ظُفْرَهُ أَوْ انْقَلَعَ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي طَهَارَتِهِ. قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ مَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا طَهَارَةً. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْلِ شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا، قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إلَى الشَّعْرِ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ، لَمْ يُجْزِهِ، بِخِلَافِ الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُمَا بَدَلٌ يُجْزِئُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ دُونَهُمَا. [فَصْل غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ] (154) فَصْلٌ وَيَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَجِبُ غَسْلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ طُولًا وَعَرْضًا؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ مَا نَزَلَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْمُوَاجَهَةُ، وَالشَّعْرُ لَيْسَ بِبَشَرَةٍ، وَمَا تَحْتَهُ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ. وَقَدْ قَالَ الْخَلَّالُ الَّذِي ثَبَتَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي اللِّحْيَةِ أَنَّهُ لَا يَغْسِلُهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ أَلْبَتَّةَ. قَالَ: وَرَوَى بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيُّمَا أَعْجَبُ إلَيْك غَسْلُ اللِّحْيَةِ أَوْ التَّخْلِيلُ؟ فَقَالَ: غَسْلُهَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُخَلِّلْ أَجْزَأْهُ. وَهَذَا ظَاهِرٌ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ غَسْلَ الرُّبْعِ مِنْ اللِّحْيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وُجُوبُ غَسْلِ اللِّحْيَةِ كُلِّهَا مِمَّا هُوَ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ، سَوَاءٌ حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ أَوْ تَجَاوَزَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي نَفْيِ الْغَسْلِ، أَرَادَ بِهِ غَسْلَ بَاطِنِهَا، أَيْ غَسْلُ بَاطِنِهَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ غَطَّى لِحْيَتَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: اكْشِفْ وَجْهَكَ؛ فَإِنَّ اللِّحْيَةَ مِنْ الْوَجْهِ» ؛ وَلِأَنَّهُ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ يَدْخُلُ فِي اسْمِهِ ظَاهِرًا، فَأَشْبَهَ الْيَدَ الزَّائِدَةَ؛ وَلِأَنَّهُ يُوَاجَهُ بِهِ، فَيَدْخُلُ فِي اسْمِ الْوَجْهِ، وَيُفَارِقُ شَعْرَ الرَّأْسِ، فَإِنَّ النَّازِلَ عَنْهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِهِ، وَالْخُفُّ لَا يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. [فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَاءِ الْوَجْهِ] (155) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَاءِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ غُضُونًا وَشُعُورًا وَدَوَاخِلَ وَخَوَارِجَ، لِيَصِلَ الْمَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إلَى جَمِيعِهِ، وَقَدْ رَوَى عَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ جَمِيعًا، فَأَخَذَ بِهِمَا حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَضَرَبَ بِهِمَا عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى قَبْضَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرَكَهَا تَسْتَنُّ عَلَى وَجْهِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُ: (تَسْتَنُّ) أَيْ: تَسِيلُ وَتَنْصَبُّ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُؤْخَذُ لِلْوَجْهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُؤْخَذُ لِعُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ، ثُمَّ يَصُبَّهُ، ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ، وَقَالَ: هَذَا مَسْحٌ، وَلَكِنَّهُ يَغْسِلُ غَسْلًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد. عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ، وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.» [مَسْأَلَةٌ الْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْ الْوَجْهِ] (156) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْ الْوَجْهِ. يَعْنِي أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ جَمِيعًا: الْغُسْلُ، وَالْوُضُوءُ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ وَاجِبٌ فِيهِمَا. هَذَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَحْدَهُ أَنَّهُ وَاجِبٌ. قَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِنْشَاقُ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا «اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» . وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّ الْأَنْفَ لَا يَزَالُ مَفْتُوحًا، وَلَيْسَ لَهُ غِطَاءٌ يَسْتُرُهُ، بِخِلَافِ الْفَمِ. وَقَالَ غَيْرُ الْقَاضِي، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى: إنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي الْكُبْرَى، مَسْنُونَانِ فِي الصُّغْرَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى يَجِبُ فِيهَا غَسْلُ كُلِّ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْبَدَنِ كَبَوَاطِنِ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ، وَلَا يَمْسَحُ فِيهَا عَنْ الْحَوَائِلِ، فَوَجَبَا فِيهَا، بِخِلَافِ الصُّغْرَى. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجِبَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هُمَا مَسْنُونَانِ فِيهِمَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ» ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، وَالْفِطْرَةُ: السُّنَّةُ، وَذِكْرُهُ لَهُمَا مِنْ الْفِطْرَةِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا لِسَائِرِ الْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ عُضْوَانِ بَاطِنَانِ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا كَبَاطِنِ اللِّحْيَةِ وَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْوَجْهَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَاجَهَةُ بِهِمَا. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنْ الْوُضُوءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَقْصِيًا، ذَكَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِمَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَكَوْنُهُمَا مِنْ الْفِطْرَةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهُمَا، لِاشْتِمَالِ الْفِطْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِيهَا الْخِتَانَ، وَهُوَ وَاجِبٌ. (157) فَصْلٌ: وَالْمَضْمَضَةُ: إدَارَةُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ. وَالِاسْتِنْشَاقُ: اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى بَاطِنِ الْأَنْفِ. وَالِاسْتِنْثَارُ: إخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ أَنْفِهِ. وَلَكِنْ يُعَبَّرُ بِالِاسْتِنْثَارِ عَنْ الِاسْتِنْشَاقِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَلَا يَجِبُ إدَارَةُ الْمَاءِ فِي جَمِيعِ الْفَمِ، وَلَا إيصَالَ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ بَاطِنِ الْأَنْفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الصَّائِمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُنَنِ الطَّهَارَةِ. وَإِذَا أَدَارَ الْمَاءَ فِي فِيهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مَجِّهِ وَبَلْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِهِ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي فِيهِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثَيْنِ، ارْتَفَعَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ قَدْ لَبِثَ فِي فِيهِ حَتَّى تَحَلَّلَ مِنْ رِيقِهِ مَاءٌ يُغَيِّرُهُ لَمْ يَمْنَعْ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي مَحَلِّ الْإِزَالَةِ لَا يَمْنَعُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ عَلَى عُضْوِهِ بِعَجِينٍ عَلَيْهِ. [فَصْل يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِيُمْنَاهُ ثُمَّ يَسْتَنْثِرَ بِيُسْرَاهُ] فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِيُمْنَاهُ، ثُمَّ يَسْتَنْثِرَ بِيُسْرَاهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «تَوَضَّأَ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَرَفَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا إلَى فِيهِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَنْثَرَ بِيُسْرَاهُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا - ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْوُضُوءِ - ثُمَّ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ لَنَا كَمَا تَوَضَّأْت لَكُمْ، فَمَنْ كَانَ سَائِلًا عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا وُضُوءُهُ.» رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ، فَمَلَأَ كَفَّهُ فَتَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءُ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي، وَالنَّسَائِيُّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: أَيُّمَا أَعْجَبُ إلَيْك؛ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ؟ قَالَ: بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي التَّوْرِ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْثِرُ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَفِي لَفْظٍ: «تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ: «فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ، «أَنَّهُ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «فَمَضْمَضَ ثَلَاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ. فَإِنْ شَاءَ الْمُتَوَضِّئُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَإِنْ أَفْرَدَ الْمَضْمَضَةَ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، وَالِاسْتِنْشَاقَ بِثَلَاثٍ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ فِي الْغَسْلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. [فَصْل التَّرْتِيبُ بَيْن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَبَيْنَ غَسْلِ بَقِيَّةِ الْوَجْهِ] (159) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَسْلِ بَقِيَّةِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَائِهِ، وَلَكِنْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمَا قَبْلَ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمَا إلَّا شَيْئًا نَادِرًا. وَهَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ غَيْرِ الْوَجْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا تَجِبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُمَا قَبْلَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ لِلْآيَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا تَجِبُ، بَلْ لَوْ تَرَكَهُمَا فِي وُضُوئِهِ وَصَلَّى تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ؛ لِمَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَهُمَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّرْتِيبِ. وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِمَا. قِيلَ لِأَحْمَدَ فَنَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَحْدَهَا؟ قَالَ: الِاسْتِنْشَاقُ عِنْدِي آكَدُ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَلْ يُسَمَّيَانِ فَرْضًا مَعَ وُجُوبِهِمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَاجِبِ، هَلْ يُسَمَّى فَرْضًا أَوْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُسَمَّى فَرْضًا، فَيُسَمَّيَانِ هَاهُنَا فَرْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ] (160) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيُدْخِلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ. لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ فِي الطَّهَارَةِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إدْخَالُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَابْنُ دَاوُد: لَا يَجِبُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ زَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ إلَيْهِمَا، وَجَعَلَهُمَا غَايَتَهُ بِحَرْفِ إلَى، وَهُوَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَلَا يَدْخُلُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ إلَى مِرْفَقَيْهِ.» وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 بَيَانٌ لِلْغَسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ " إلَى " تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَعَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] . أَيْ مَعَ قُوَّتِكُمْ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، وَ {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] . فَكَانَ فِعْلُهُ مُبَيِّنًا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ " إلَى " لِلْغَايَةِ. قُلْنَا: وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى مَعَ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: إذَا كَانَ الْحَدُّ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: بِعْت هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ إلَى هَذَا الطَّرَفِ. [فَصْل خُلِقَ لَهُ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ أَوْ يَدٌ زَائِدَةٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ] (161) فَصْلٌ: وَإِنْ خُلِقَ لَهُ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ، أَوْ يَدٌ زَائِدَةٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَابِتَةٌ فِيهِ، أَشْبَهَتْ الثُّؤْلُولَ، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ كَالْعَضُدِ أَوْ الْمَنْكِبِ، لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إذَا نَزَلَ عَنْ الْوَجْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ بَعْضُهَا يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ غَسَلَ مَا يُحَاذِيهِ مِنْهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ، كَنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَصْلِيَّةَ مِنْهُمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ غَسْلَ إحْدَاهُمَا وَاجِبٌ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ يَقِينًا إلَّا بِغَسْلِهِمَا، فَوَجَبَ غَسْلُهُمَا، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَتْ إحْدَى يَدَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا. [فَصْل وُضُوء مِنْ تَعَلَّقَتْ جِلْدَةٌ مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ حَتَّى تَدَلَّتْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ] (162) فَصْلٌ: وَإِنْ انْقَلَعَتْ جِلْدَةٌ مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، حَتَّى تَدَلَّتْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَجَبَ غَسْلُهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَتْ الْإِصْبَعَ الزَّائِدَةَ، وَإِنْ تَقَلَّعَتْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ حَتَّى صَارَتْ مُتَدَلِّيَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا؛ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ مِنْ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ، فَالْتَحَمَ رَأْسُهَا فِي الْآخَرِ، وَبَقِيَ وَسَطُهَا مُتَجَافِيًا، صَارَتْ كَالنَّابِتَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، يَجِبُ غَسْلُ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْهَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَغَسْلُ مَا تَحْتَهَا مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ. [فَصْل حُكْم الْوُضُوء لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ] (163) فَصْلٌ: وَإِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ، غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ. وَإِنْ قُطِعَتْ مِنْ الْمِرْفَقِ غَسَلَ الْعَظْمَ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلَاقِيَيْنِ مِنْ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غَسَلَ الْآخَرَ. وَإِنْ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ سَقَطَ الْغَسْلُ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ. فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ فَوَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ مُتَبَرِّعًا لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ إلَّا بِأَجْرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ أَيْضًا كَمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يُقِيمُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْأَجْرِ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، كَعَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ. وَإِنْ وَجَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 مَنْ يُيَمِّمُهُ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ، لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ، كَعَادِمِ الْمَاءِ إذَا وَجَدَ التُّرَابَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. (164) فَصْلٌ: إذَا كَانَ تَحْتَ أَظْفَارِهِ وَسَخٌ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مِنْ الْيَدِ اسْتَتَرَ بِمَا لَيْسَ مِنْ خِلْقَةِ الْأَصْلِ سَتْرًا مَنَعَ إيصَالَ الْمَاءِ إلَيْهِ، مَعَ إمْكَانِ إيصَالِهِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ شَمْعٌ أَوْ غَيْرُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَسْتُرُ عَادَةً، فَلَوْ كَانَ غَسْلُهُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ عَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ قُلْحًا، وَرَفَعَ أَحَدِهِمْ بَيْن أُنْمُلَتِهِ وَظُفْرِهِ. يَعْنِي أَنَّ وَسَخَ أَرْفَاغِهِمْ تَحْت أَظْفَارِهِمْ يَصِلُ إلَيْهِ رَائِحَةُ نَتِنهَا، فَعَابَ عَلَيْهِمْ نَتِن رِيحِهَا، لَا بُطْلَانَ طَهَارَتهمْ، وَلَوْ كَانَ مُبْطِلًا لِلطَّهَارَةِ كَانَ ذَلِكَ أَهَمَّ مِنْ نَتْنِ الرِّيحِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْبَيَانِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا يَسْتَتِرُ عَادَةً، أَشْبَهَ مَا يَسْتُرُهُ الشَّعْرُ مِنْ الْوَجْهِ. [فَصْل كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ يَغْتَرِفُ مِنْهُ بِيَدِهِ] (165) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ يَغْتَرِفُ مِنْهُ بِيَدِهِ، فَغَرَفَ مِنْهُ عِنْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِغَرْفِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ غَسْلِ الْيَدِ، وَهُوَ نَاوٍ لِلْوُضُوءِ بِغُسْلِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَمَسَهَا فِي الْمَاءِ يَنْوِي غَسْلَهَا فِيهِ. وَلَنَا أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ «فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ دَعَا بِمَاءٍ، فَذَكَرَ وُضُوءَهُ - إلَى أَنْ قَالَ - وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، وَغَسَلَ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، مَرَّتَيْنِ» وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: «ثُمَّ غَرَفَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَصَبَّ عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُمْنَى، فَغَسَلَهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَرَفَ بِيَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى.» رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْكِ أَنَّهُ تَحَرَّزَ مِنْ اغْتِرَافِ الْمَاءِ بِيَدِهِ فِي مَوْضِعِ غَسْلِهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا يُفْسِدُ الْمَاءَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقَّ بِمَعْرِفَتِهِ، وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، إذْ كَانَ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِدُونِ الْبَيَانِ، وَلَا يَتَوَقَّاهُ إلَّا مُتَحَذْلِقٌ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَرِفَ لَمْ يَقْصِدْ بِغَمْسِ يَدِهِ إلَّا الِاغْتِرَافَ دُونَ غَسْلِهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ يَغُوصُ فِي الْبِئْرِ لِتَرْقِيَةِ الدَّلْوِ وَعَلَيْهِ جَنَابَةٌ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ تَرْقِيَتِهِ، وَنِيَّةُ الِاغْتِرَافِ عَارَضَتْ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ فَصَرَفَتْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ] (166) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَسْحُ الرَّأْسِ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ مَسْحِ جَمِيعِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ. قَالَ أَبُو الْحَارِثِ قُلْت لِأَحْمَدَ فَإِنْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ؟ قَالَ: يُجْزِئُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الرَّأْسِ كُلِّهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَابْنُ عُمَرَ مَسَحَ الْيَافُوخَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِمَسْحِ الْبَعْضِ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يُجْزِئُهَا مَسْحُ مُقَدَّمِ رَأْسِهَا. قَالَ الْخَلَّالُ الْعَمَلُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا إنْ مَسَحَتْ مُقَدَّمَ رَأْسِهَا أَجْزَأَهَا. وَقَالَ مُهَنَّا: قَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَسْهَلَ. قُلْت لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ مَسْحَ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ.» «وَإِنَّ عُثْمَانَ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ بِيَدِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ لَهُ مَاءً جَدِيدًا، حِينَ حَكَى وُضُوءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ سَعِيدٌ؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ يُقَالُ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ، كَمَا يُقَالُ: مَسَحَ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ يَنْصُرُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْسَحُوا بَعْضَ رُءُوسِكُمْ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ. فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ. كَمَا قَالَ فِي التَّيَمُّمِ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [النساء: 43] . وَقَوْلُهُمْ: " الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ " غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَاءَ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ فَقَدْ جَاءَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَا لَا يَعْرِفُونَهُ. وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَوَضَّأَ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِلْمَسْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ اللَّفْظِ مَجَازٌ لَا يُعْدَلُ إلَيْهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ. (167) فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ مَسْحِ الْبَعْضِ، فَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مَسَحَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ رَأْسٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ عَنْ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ، فَلَا يَجْتَزِئُ بِهِمَا عَنْ الْأَصْلِ، وَالظَّاهِرُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا، وَإِنْ وَجَبَ الِاسْتِيعَابُ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْرُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ الْبَعْضِ الْمُجْزِئُ، فَقَالَ الْقَاضِي: قَدْرُ النَّاصِيَةِ؛ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ نَاصِيَتَهُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا مَسْحُ أَكْثَرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ الْكَامِلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُ مَسْحُ رُبُعِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُجْزِئُ مَسْحُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ. وَحُكِيَ عَنْهُ: لَوْ مَسَحَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ: لَوْ مَسَحَ شَعْرَةً، أَجْزَأَهُ، لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهَا. وَوَجْهُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي: إنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْلُحُ بَيَانًا لِمَا أَمَرَ بِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 (168) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنْ يَبُلَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَضَعَ طَرَفَ إحْدَى سَبَّابَتَيْهِ عَلَى طَرَفِ الْأُخْرَى وَيَضَعَهُمَا عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَيَضَعَ الْإِبْهَامَيْنِ عَلَى الصُّدْغَيْنِ، ثُمَّ يُمِرَّ يَدَيْهِ إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُمَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ «فِي وَصْفِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَإِنْ كَانَ ذَا شَعْرٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَفِشَ بِرَدِّ يَدَيْهِ لَمْ يَرُدَّهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنْ لَهُ شَعْرٌ إلَى مَنْكِبَيْهِ، كَيْفَ يَمْسَحُ فِي الْوُضُوءِ؟ فَأَقْبَلَ أَحْمَدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ مَرَّةً، وَقَالَ: هَكَذَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْتَشِرَ شَعْرُهُ. يَعْنِي أَنَّهُ يَمْسَحُ إلَى قَفَاهُ وَلَا يَرُدُّ يَدَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ حَدِيثُ عَلِيٍّ هَكَذَا. وَإِنْ شَاءَ مَسَحَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ الرُّبَيِّعِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ عِنْدَهَا، فَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ مِنْ فَرْقِ الشَّعْرِ كُلَّ نَاحِيَةٍ لِمَصَبِّ الشَّعْرِ لَا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسُئِلَ أَحْمَدُ كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: هَكَذَا. وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ، ثُمَّ جَرَّهَا إلَى مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا فَوَضَعَهَا حَيْثُ مِنْهُ بَدَأَ، ثُمَّ جَرَّهَا إلَى مُؤَخَّرِهِ. وَكَيْفَ مَسَحَ بَعْدَ اسْتِيعَابِ قَدْرِ الْوَاجِبِ أَجْزَأَهُ. [فَصْلٌ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ] (169) فَصْلٌ: وَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِهِ سَالِمٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ وَالْحَكَمِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ. وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ الثَّلَاثُ أَفْضَلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّهُمْ يَقُولُ: مَسْحُ الرَّأْسِ مَسْحَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَى عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ مِثْلَ هَذَا.» وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالرُّبَيِّعُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.» وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ، قَالَ: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْمُرْسَلِينَ قَبْلِي» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الرَّأْسَ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَسُنَّ تَكْرَارُهَا فِيهِ كَالْوَجْهِ. وَلَنَا «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى طُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. «وَكَذَلِكَ وَصَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَالرُّبَيِّعُ، كُلُّهُمْ، قَالُوا: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.» وَحِكَايَتُهُمْ لِوُضُوءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخْبَارٌ عَنْ الدَّوَامِ، وَلَا يُدَاوِمُ إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ الْأَكْمَلِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حِكَايَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّيْلِ حَالَ خَلْوَتِهِ، وَلَا يَفْعَلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ إلَّا الْأَفْضَلَ؛ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ فِي طَهَارَةٍ، فَلَمْ يُسَنَّ تَكْرَارُهُ، كَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَسَائِرِ الْمَسْحِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ شَيْءٌ صَرِيحٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةً؛ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالُوا فِيهَا: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا، كَمَا ذَكَرُوا فِي غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ: مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا. رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَخَالَفَهُ وَكِيعٌ، فَقَالَ: تَوَضَّأَ ثَلَاثًا. فَقَطْ. وَالصَّحِيحُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ «تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا.» هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ سِوَى عُثْمَانَ، فَلَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ رَوَوْا أَحَادِيثَنَا وَهِيَ صِحَاحٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ضَعْفُ مَا خَالَفَهَا ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرُوا فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. أَرَادُوا بِهَا مَا سِوَى الْمَسْحِ؛ فَإِنَّ رُوَاتَهَا حِينَ فَصَّلُوا قَالُوا: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَالتَّفْصِيلُ يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيَكُونُ تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَا يُعَارَضُ بِهِ، كَالْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالتَّيَمُّمِ. فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَسَحَ مَرَّةً لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ، وَمَسَحَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا لِيُبَيِّنَ الْأَفْضَلَ، كَمَا فَعَلَ فِي الْغَسْلِ، فَنُقِلَ الْأَمْرَانِ نَقْلًا صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. قُلْنَا: قَوْلُ الرَّاوِي: هَذَا طُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طُهُورُهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إنَّمَا ذَكَرُوا صِفَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْرِيفِ سَائِلِهِمْ وَمَنْ حَضَرَهُمْ كَيْفِيَّةُ وُضُوئِهِ فِي دَوَامِهِ، فَلَوْ شَاهَدُوا وُضُوءَهُ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى لَمْ يُطْلِقُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَدْلِيسًا وَإِيهَامًا بِغَيْرِ الصَّوَابِ، فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَتَعَيَّنَ حَمْلُ حَالِ الرَّاوِي لِغَيْرِ الصَّحِيحِ عَلَى الْغَلَطِ لَا غَيْرُ؛ وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ إذَا رَوَوْا حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ مِنْهُمْ عَلَى صِفَةٍ، وَخَالَفَهُمْ فِيهَا وَاحِدٌ، حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْغَلَطِ، وَإِنْ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، (170) فَصْلٌ: إذَا وَصَلَ الْمَاءُ إلَى بَشَرَةِ الرَّأْسِ، وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى الشَّعْرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ مَسْحُ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَاءَ إلَى بَاطِنِ اللِّحْيَةِ وَلَمْ يَغْسِلْ ظَاهِرَهَا. وَإِنْ نَزَلَ شَعْرُهُ عَنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الرَّأْسِ، فَمَسَحَ عَلَى النَّازِلِ مِنْ مَنَابِتِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَا تَرَأَّسَ وَعَلَا، وَلَوْ رَدَّ هَذَا النَّازِلَ وَعَقَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الرَّأْسِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَازِلٌ رَدَّهُ إلَى أَعْلَاهُ. وَلَوْ نَزَلَ عَنْ مَنْبَتِهِ وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ فَمَسَحَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ الْقَائِمَ عَلَى مَحَلِّهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ ذِي شَعْرٍ. وَلَوْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِمَا يَسْتُرُهُ أَوْ طَيَّنَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخِضَابِ وَالطِّينِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخِضَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةً فَمَسَحَ عَلَيْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (171) فَصْلٌ: وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِمَاءٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَا فَضَلَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَجَوَّزَهُ الْحَسَنُ وَعُرْوَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُسْتَعْمَلَ لَا يَخْرُجُ عَنْ طُهُورِيَّتِهِ، سِيَّمَا الْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ. وَلَنَا: مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: «مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ.» وَكَذَلِكَ حَكَى عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ لِرَأْسِهِ مَاءً جَدِيدًا.» وَلِأَنَّ الْبَلَلَ الْبَاقِيَ فِي يَدِهِ مُسْتَعْمَلٌ، فَلَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ بِهِ، كَمَا لَوْ فَصَلَهُ فِي إنَاءٍ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ. (172) فَصْلٌ: فَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلَ مَسْحِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ وَأَمَرَ بِالْمَسْحِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الطَّهَارَةِ، فَلَمْ يُجْزِئْ عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ، كَالْمَسْحِ عَنْ الْغَسْلِ. وَالثَّانِي يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جُنُبًا فَانْغَمَسَ فِي مَاءٍ يَنْوِي الطَّهَارَتَيْنِ، أَجْزَأهُ مَعَ عَدَمِ الْمَسْحِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ مُنْفَرِدًا؛ وَلِأَنَّ فِي صِفَةِ غَسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَسْحًا؛ وَلِأَنَّ الْغَسْلَ أَبْلَغُ مِنْ الْمَسْحِ، فَإِذَا أَتَى بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ يَنْوِي بِهِ الْوُضُوءَ، وَهَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ. فَأَمَّا إنْ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مَعَ الْغَسْلِ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَسْحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ لِلنَّاسِ كَمَا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، فَلَمَّا بَلَغَ رَأْسَهُ غَرَفَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَلَقَّاهَا بِشِمَالِهِ، حَتَّى وَضَعَهَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ حَتَّى قَطَرَ الْمَاءُ أَوْ كَادَ يَقْطُرُ، ثُمَّ مَسَحَ مِنْ مُقَدَّمِهِ إلَى مُؤَخَّرِهِ، وَمِنْ مُؤَخَّرِهِ إلَى مُقَدَّمِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَوْ حَصَلَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءُ الْمَطَرِ، أَوْ صَبَّ عَلَيْهِ إنْسَانٌ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ بِذَلِكَ الطَّهَارَةَ، أَوْ كَانَ قَدْ صَمَدَ لِلْمَطَرِ، أَجْزَأَهُ. وَإِنْ حَصَلَ الْمَاءُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْمَاءِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 رَأْسِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمَاءِ، فَمَتَى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَلَلِ وَمَسَحَ بِهِ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، فَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ، كَمَا لَوْ حَصَلَ بِقَصْدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ بِيَدِهِ، وَقُلْنَا إنَّ الْغَسْلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَسْحِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ قَصَدَ حُصُولَ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ إذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُ. وَإِنْ قُلْنَا لَمْ يُجْزِئْ الْغَسْلُ عَنْ الْمَسْحِ، لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ. (173) فَصْلٌ: وَإِنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ مَبْلُولَةٍ، أَوْ خَشَبَةٍ، أَجْزَأَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ، وَقَدْ فَعَلَهُ، فَأَجْزَأْهُ، كَمَا لَوْ مَسَحَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ مَسْحَهُ بِيَدِهِ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَسَحَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِيَدِهِ. وَإِنْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةً مَبْلُولَةً فَابْتَلَّ بِهَا رَأْسُهُ، أَوْ وَضَعَ خِرْقَةً ثُمَّ بَلَّهَا حَتَّى ابْتَلَّ شَعْرُهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَسْحٍ وَلَا غَسْلٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ بَلَّ شَعْرَهُ قَاصِدًا لِلْوُضُوءِ، فَأَجْزَأْهُ، كَمَا لَوْ غَسَلَهُ. وَإِنْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ أَجْزَأَهُ إذَا مَسَحَ بِهِمَا مَا يَجِبُ مَسْحُهُ كُلُّهُ. وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِإِصْبَعِهِ، فَأَمَّا إنْ اسْتَوْعَبَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ بِبَعْضِ يَدِهِ، أَشْبَهَ مَسْحَهُ بِكَفِّهِ. [فَصْل الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ] (174) فَصْلٌ: وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ مَسْحِهِمَا مَعَ مَسْحِهِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ تَرَكَ مَسْحَهُمَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ لِلرَّأْسِ، لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الرَّأْسِ دُخُولُهُمَا فِيهِ، وَلَا يُشْبِهَانِ بَقِيَّةَ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ مَسْحُهُمَا عَنْ مَسْحِهِ عِنْدَ مَنْ اجْتَزَأَ بِمَسْحِ بَعْضِهِ، وَالْأَوْلَى مَسْحُهُمَا مَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَهُمَا مَعَ رَأْسِهِ، فَرَوَتْ «الرُّبَيِّعُ، أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ، مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا.» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ صَحِيحَانِ. وَرَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ. «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخِلَ سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ، وَيَمْسَحَ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ بِإِبْهَامَيْهِ. وَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ بِالْغَضَارِيفِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنْهُ بِالشَّعْرِ، وَالْأُذُنُ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 [مَسْأَلَة غَسْلُ الرَّجُلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ] (175) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وَاجِبٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْحَجَّاجِ: اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَخَلِّلُوا مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ إلَى الْخُبْثِ مِنْ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] . وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مَغْسُولَانِ وَمَمْسُوحَانِ، فَالْمَمْسُوحَانِ يَسْقُطَانِ فِي التَّيَمُّمِ. وَلَمْ نَعْلَمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَصَبَّ عَلَى وَجْهِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَخَذَ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ، أَنَّهُ رَأَى «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى كِظَامَةَ قَوْمٍ بِالطَّائِفِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ. قَالَ هُشَيْمٌ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.» وَلَنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ، وَعُثْمَانَ، حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَا: فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: «ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ.» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ «حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.» وَكَذَلِكَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «، أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِنْ قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ. فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي، وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْت لَهُ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ.» وَعَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ.» رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَعْرُكُ أَصَابِعَهُ بِخِنْصَرِهِ بَعْضَ الْعَرْكِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ، فَإِنَّ الْمَمْسُوحَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِيعَابِ وَالْعَرْكِ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] . قَالَ: عَادَ إلَى الْغَسْلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَهَا كَذَلِكَ وَرَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ سَعِيدٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْقُرَّاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ عَامِرٍ، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْيَدَيْنِ فِي الْغَسْلِ. وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْجَرِّ فَلِلْمُجَاوَرَةِ، كَمَا قَالَ وَأَنْشَدُوا: كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ وَأَنْشَدَ: وَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ جَرَّ قَدِيرًا، مَعَ الْعَطْفِ لِلْمُجَاوَرَةِ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] . جَرَّ أَلِيمًا، وَهُوَ صِفَةُ الْعَذَابِ الْمَنْصُوبِ، لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَجْرُورَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا مُحْتَمَلًا وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ: «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ بِالْغَسْلِ لَا بِالْمَسْحِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَسْحِ الْغَسْلَ الْخَفِيفَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْعَرَبُ تُسَمِّي خَفِيفَ الْغَسْلِ مَسْحًا، فَيَقُولُونَ: تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ. أَيْ تَوَضَّأْت. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَتَحْدِيدُهُ بِالْكَعْبَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْغَسْلَ، فَإِنَّ الْمَسْحَ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَطْفُهُ عَلَى الرَّأْسِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حَقِيقَةَ الْمَسْحِ. قُلْنَا: قَدْ افْتَرَقَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الْمَمْسُوحَ فِي الرَّأْسِ شَعْرٌ يَشُقُّ غَسْلُهُ، وَالرِّجْلَانِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَهُمَا أَشْبَهُ بِالْمَغْسُولَاتِ. وَالثَّانِي أَنَّهُمَا مَحْدُودَانِ بِحَدٍّ يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا مُعَرِّضَتَانِ لِلْخُبْثِ لِكَوْنِهِمَا يُوطَأُ بِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الرَّأْسِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَوْسٍ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ. فَإِنَّمَا أَرَادَ الْغَسْلَ الْخَفِيفَ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَلِذَلِكَ قَالَ: أَخَذَ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى قَدَمَيْهِ. وَالْمَسْحُ يَكُونُ بِالْبَلَلِ لَا بِرَشِّ الْمَاءِ. فَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ. فَأَرَادَ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ. هُمَا اللَّذَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ مِنْ جَانِبَيْ الْقَدَمِ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: هُمَا فِي مُشْطِ الْقَدَمِ، وَهُوَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ مِنْ الرِّجْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] . فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الرِّجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ لَا غَيْرُ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ كَانَتْ كِعَابُ الرِّجْلَيْنِ أَرْبَعَةً، فَإِنَّ لِكُلِّ قَدَمٍ كَعْبَيْنِ. وَلَنَا: أَنَّ الْكِعَابَ الْمَشْهُورَةَ فِي الْعُرْفِ هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَعْبُ الَّذِي فِي أَصْلِ الْقَدَمِ مُنْتَهَى السَّاقِ إلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ كِعَابِ الْقَنَا، كُلُّ عَقْدٍ مِنْهَا يُسَمَّى كَعْبًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْجَدَلِيُّ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَقَالَهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ «أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَرْمِي كَعْبَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى تُدْمِيَهُمَا.» وَمُشْطُ الْقَدَمِ أَمَامَهُ. وقَوْله تَعَالَى: إلَى الْكَعْبَيْنِ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ رِجْلٍ تُغْسَلُ إلَى الْكَعْبَيْنِ، إذْ لَوْ أَرَادَ كِعَابَ جَمِيعِ الْأَرْجُلِ لَقَالَ: الْكِعَابَ، كَمَا قَالَ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . [فَصْل إدْخَالُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْغَسْلِ] (176) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُهُ إدْخَالُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْغَسْلِ، كَقَوْلِنَا فِي الْمَرَافِقِ فِيمَا مَضَى. [مَسْأَلَة الطَّهَارَةِ عُضْوًا بَعْدَ عُضْوٍ فِي الْوُضُوء] (177) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيَأْتِي بِالطَّهَارَةِ عُضْوًا بَعْدَ عُضْوٍ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَحْمَدَ لَمْ أَرَ عَنْهُ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمَكْحُولٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ، فَرَأَى فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا: يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرُوهُ بِإِعَادَةِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَكَيْفَمَا غَسَلَ كَانَ مُمْتَثِلًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْت. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا بَأْسَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلَيْك قَبْلَ يَدَيْك فِي الْوُضُوءِ. وَلَنَا أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا التَّرْتِيبُ؛ فَإِنَّهُ أَدْخَلَ مَمْسُوحًا بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَقْطَعُ النَّظِيرَ عَنْ نَظِيرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ، وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا التَّرْتِيبُ. فَإِنْ قِيلَ: فَائِدَتُهُ اسْتِحْبَابُ التَّرْتِيبِ. قُلْنَا: الْآيَةُ مَا سِيقَتْ إلَّا لِبَيَانِ الْوَاجِبِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ؛ وَلِأَنَّهُ مَتَى اقْتَضَى اللَّفْظُ التَّرْتِيبَ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَاهُ مُرَتَّبًا، وَهُوَ مُفَسِّرٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوَضَّأَ مُرَتِّبًا، وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» . أَيْ بِمِثْلِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا عَنَيَا بِهِ الْيُسْرَى قَبْلَ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُمَا مِنْ الْكِتَابِ وَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَلِيًّا سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: أَحَدُنَا يَسْتَعْجِلُ، فَيَغْسِلُ شَيْئًا قَبْلَ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا. حَتَّى يَكُونَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ. (178) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُمَا فِي الْكِتَابِ وَاحِدٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ. وَالْفُقَهَاءُ يَعُدُّونَ الْيَدَيْنِ عُضْوًا، وَالرِّجْلَيْنِ عُضْوًا، وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. [فَصْل نَكْسُ وُضُوءَهُ فَبَدَأَ بِشَيْءِ مِنْ أَعْضَائِهِ قَبْلَ وَجْهِهِ] (179) فَصْلٌ: وَإِذَا نَكَسَ وُضُوءَهُ، فَبَدَأَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ قَبْلَ وَجْهِهِ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا غَسَلَهُ قَبْلَ وَجْهِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ مَعَ بَقَاءِ نِيَّتِهِ أَوْ بَعْدَهَا بِزَمَنٍ يَسِيرٍ اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يُرَتِّبُ الْأَعْضَاءَ الثَّلَاثَةَ. وَإِنْ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، أَعَادَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَغَسْلَ رِجْلَيْهِ. وَإِنْ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، صَحَّ وُضُوءُهُ إلَّا غَسْلَ رِجْلَيْهِ. وَإِنْ نَكَسَ وُضُوءَهُ جَمِيعَهُ، لَمْ يَصِحَّ لَهُ إلَّا غَسْلُ وَجْهِهِ. وَإِنْ تَوَضَّأَ مُنَكِّسًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، صَحَّ وُضُوءُهُ، يَحْصُلُ لَهُ مِنْ كُلِّ مَرَّةٍ غَسْلُ عُضْوٍ إذَا كَانَ مُتَقَارِبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِحَّ لَهُ إلَّا غَسْلُ وَجْهِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَتِّبْ. وَإِنْ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ جَارٍ فَلَمْ يَمُرَّ عَلَى أَعْضَائِهِ إلَّا جِرْيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ مَرَّ عَلَيْهِ أَرْبَعُ جِرْيَاتٍ، وَقُلْنَا: الْغَسْلُ يُجْزِئُ عَنْ الْمَسْحِ. أَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا أَخْرَجَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَاءِ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِانْفِصَالِ الْمَاءِ عَنْ الْعُضْوِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ أَرَادَ الْوُضُوءَ فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَاءِ، فَعَلَيْهِ مَسْحُ رَأْسِهِ وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا كَانَ جَارِيًا فَمَرَّتْ عَلَيْهِ جِرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مَسْحُ رَأْسِهِ وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ الْحَدَثَانِ، سَقَطَ التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالَاةُ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (180) فَصْلٌ: وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ الْمُوَالَاةَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْقَاضِي: وَنَقَلَ حَنْبَلُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ، فَكَيْفَمَا غَسَلَ جَازَ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ الْمُوَالَاةُ فِيهَا كَالْغُسْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَعَمَّدَ التَّفْرِيقَ بَطَلَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» . وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الْمُوَالَاةُ لَأَجْزَأَهُ غَسْلُ اللُّمْعَةِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ، فَاشْتُرِطَتْ لَهَا الْمُوَالَاةُ كَالصَّلَاةِ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ، وَفَسَّرَ مُجْمَلَهُ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ إلَّا مُتَوَالِيًا، وَأَمَرَ تَارِكَ الْمُوَالَاةِ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ، وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ عُضْوٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ. (181) فَصْلٌ: وَالْمُوَالَاةُ الْوَاجِبَةُ أَنْ لَا يَتْرُكَ غَسْلَ عُضْوٍ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنٌ يَجِفُّ فِيهِ الْعُضْوُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْرِعُ جَفَافُ الْعُضْوِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ دُونَ بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ طَرَفَيْ الطَّهَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، إنَّ حَدَّ التَّفْرِيقِ الْمُبْطِلَ مَا يَفْحُشُ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَدَّ فِي الشَّرْعِ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ، كَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبَيْعِ. (182) فَصْلٌ: وَإِنْ نَشِفَتْ أَعْضَاؤُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِوَاجِبٍ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ مَسْنُونٍ، لَمْ يُعَدَّ تَفْرِيقًا، كَمَا لَوْ طَوَّلَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ. قَالَ أَحْمَدُ إذَا كَانَ فِي عِلَاجِ الْوُضُوءِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ لِوَسْوَسَةٍ تَلْحَقُهُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فِي عِلَاجِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَبَثٍ أَوْ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْمَسْنُونِ وَأَشْبَاهِهِ، عُدَّ تَفْرِيقًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْوَسْوَسَةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ وَلَا مَسْنُونٍ. [مَسْأَلَة الْوُضُوءُ مَرَّةً مَرَّةً] (183) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْوُضُوءُ مَرَّةً مَرَّةً يُجْزِئُ، وَالثَّلَاثُ أَفْضَلُ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُوَقِّتْ مَرَّةً وَلَا ثَلَاثًا، قَالَ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْوُضُوءُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّهُ يُنَقِّيهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ عَلِيٍّ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سَلَّامٌ الطَّوِيلُ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ، وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ، ثُمَّ تَحَدَّثَ سَاعَةً، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ مَنْ تَوَضَّأَهُ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَحَدَّثَ سَاعَةً، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، فَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ هَذَا، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، «أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ. (184) فَصْلٌ: وَإِنْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ مَرَّةً وَبَعْضَهَا أَكْثَرَ، جَازَ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ جَازَ فِي الْبَعْضِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ إلَّا رَجُلٌ مُبْتَلًى. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَا آمَنُ مَنْ ازْدَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَأْثَمَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ تَشْدِيدُ الْوُضُوءِ مِنْ الشَّيْطَانِ، لَوْ كَانَ هَذَا فَضْلًا لَأُوثِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بِهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. (186) فَصْلٌ: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَرْفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ يَقُولَ. مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، وَفِيهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ وَفِيهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ.» [فَصْلٌ الْمُعَاوَنَة عَلَى الْوُضُوءِ] (187) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْوُضُوءِ؛ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، أَنَّهُ «أَفْرَغَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وُضُوئِهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرُوِيَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ: «صَبَبْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ» وَعَنْ أُمِّ عَيَّاشٍ، وَكَانَتْ أَمَةً لِرُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كُنْت أُوَضِّئُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا قَائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ.» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يُعِينَنِي عَلَى وُضُوئِي أَحَدٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ. [فَصْل تَنْشِيفُ الْأَعْضَاءِ بِالْمِنْدِيلِ مِنْ بَلَلِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ] (188) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِتَنْشِيفِ أَعْضَائِهِ بِالْمِنْدِيلِ مِنْ بَلَلِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، قَالَ الْخَلَّالُ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّنْشِيفِ بَعْدَ الْوُضُوءِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَخْذُ الْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ عُثْمَانُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَنَسٌ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَنَهَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكَرِهَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَيْمُونَةَ رَوَتْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ فَأَتَيْته بِالْمِنْدِيلِ، فَلَمْ يُرِدْهَا، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَتَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ كَمَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِرْقَةٌ يَتَنَشَّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ.» وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مُنْكَرٌ مُنْكَرٌ. وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ، فَالْتَحَفَ بِهَا.» إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. وَلَا يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ عَنْ بَدَنِهِ بِيَدَيْهِ؛ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 [مَسْأَلَة وُضُوء النَّافِلَة يُجْزِئ لِصَلَاةِ الْفَرِيضَة] (189) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ صَلَّى فَرِيضَةً لَا أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّافِلَةَ تَفْتَقِرُ إلَى رَفْعِ الْحَدَثِ كَالْفَرِيضَةِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْحَدَثُ تَحَقَّقَ شَرْطُ الصَّلَاةِ وَارْتَفَعَ الْمَانِعُ، فَأُبِيحَ لَهُ الْفَرْضُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَفْتَقِرُ إلَى الطَّهَارَةِ، كَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالطَّوَافِ، إذَا تَوَضَّأَ لَهُ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ، وَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ، وَأُبِيحَ لَهُ سَائِرُ مَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّهَارَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. (190) فَصْل يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْوُضُوءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: مَا بَأْسٌ بِهَذَا إذَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذَا. وَقَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ.» وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ قُلْت: وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ، قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي مُسْلِمٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إنِّي رَأَيْتُك صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، قَالَ: عَمْدًا صَنَعْته.» (191) فَصْلٌ: وَتَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عِيسَى، وَنَقَلَ حَنْبَلُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَعَنْ غُطَيْفٍ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: «رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَوْمًا تَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَقُلْت: أَصْلَحَك اللَّهُ، أَفَرِيضَةٌ أَمْ سُنَّةٌ، الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ؟ فَقَالَ: لَا، لَوْ تَوَضَّأْت لِصَلَاةِ الصُّبْحِ لَصَلَّيْت بِهِ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا مَا لَمْ أُحْدِثْ، وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. وَإِنَّمَا رَغِبْت فِي الْحَسَنَاتِ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ نَقَلَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَحْمَدَ: لَا فَضْلَ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. (192) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِوُضُوئِهِ، وَلَمْ يَبُلَّ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَبَاحَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَبِهِ نَقُولُ، إلَّا أَنْ يَبُلَّ مَكَانًا يَجْتَازُ النَّاسُ فِيهِ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ، إلَّا أَنْ يَفْحَصَ الْحَصَى عَنْ الْبَطْحَاءِ، كَمَا فُعِلَ لِعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ فَإِذَا تَوَضَّأَ رَدَّ الْحَصَى عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَا أَكْرَهُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ؛ صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ عَنْ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ فَضَلَاتِ الْوُضُوءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 [مَسْأَلَة لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَلَا نُفَسَاءُ] (193) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَلَا نُفَسَاءُ رُوِيت الْكَرَاهِيَةُ لِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَقْرَأُ إلَّا آيَةَ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] ، {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وِرْدَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، أَلَيْسَ هُوَ فِي جَوْفِهِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ لِلْحَائِضِ الْقِرَاءَةُ دُونَ الْجُنُبِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَهَا تَطُولُ، فَإِنْ مَنَعْنَاهَا مِنْ الْقِرَاءَةِ نَسِيَتْ. وَلَنَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ، أَوْ قَالَ: يَحْجِزُهُ، عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، لَيْسَ الْجَنَابَةُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ ضَعَّفَ، الْبُخَارِيُّ رِوَايَتَهُ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ: إنَّمَا رِوَايَتُهُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْجُنُبِ فَفِي الْحَائِضِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَدَثَهَا آكَدُ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْوَطْءَ، وَمَنَعَ الصِّيَامَ، وَأَسْقَطَ الصَّلَاةَ، وَسَاوَاهَا فِي سَائِرِ أَحْكَامِهَا. (194) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةُ آيَةٍ. فَأَمَّا بَعْضُ آيَةٍ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ غَيْرِهِ كَالتَّسْمِيَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَائِرِ الذِّكْرِ، فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ، فَلَا بَأْسَ؛ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَحْتَاجُونَ إلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ التَّحَرُّزُ مِنْ هَذَا. وَإِنْ قَصَدُوا بِهِ الْقِرَاءَةَ أَوْ كَانَ مَا قَرَءُوهُ شَيْئًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجُنُبِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَا حَرْفًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي النَّهْيِ؛ وَلِأَنَّهُ قُرْآنٌ، فَمُنِعَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، كَالْآيَةِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْخُطْبَةِ، وَيَجُوزُ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ، وَكَذَلِكَ إذَا قُصِدَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 [فَصْل حُكْم اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِد لِلْجَنْبِ وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء] (195) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُمْ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَرَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبُيُوتُ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ؛ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُبَاحُ الْعُبُورُ لِلْحَاجَةِ، مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ، أَوْ تَرْكِهِ، أَوْ كَوْنِ الطَّرِيقِ فِيهِ، فَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَمِمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ الرُّخْصَةُ فِي الْعُبُورِ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ لَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ بُدًّا، فَيَتَيَمَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ.» وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إبَاحَةٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ. قَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، قَالَ إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ جُنُبٌ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ جُنُبٌ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (196) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، فَلَهُمْ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْعُبُورُ إذَا أَمِنُوا تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ «امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَتْ مَعَهُ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، وَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَمْنَعْ اللُّبْثَ، كَخُرُوجِ الدَّمِ الْيَسِيرِ مِنْ أَنْفِهِ. فَإِنْ خَافَ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ الْعُبُورُ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ عَنْ هَذَا، كَمَا يُصَانُ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ. وَلَوْ خَشِيَتْ الْحَائِضُ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ بِالْعُبُورِ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ. (197) فَصْلٌ: وَإِنْ خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا غَيْرَهُ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْغُسْلُ وَلَا الْوُضُوءُ، تَيَمَّمَ، ثُمَّ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاق فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] . يَعْنِي مُسَافِرِينَ لَا يَجِدُونَ مَاءً، فَيَتَيَمَّمُونَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَلْبَثُ بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ فَوَجَبَ التَّيَمُّمُ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا، كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ مَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فِي إبَاحَةِ مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ. [فَصْل حُكْم اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْجَنْبِ إذَا تَوَضَّأَ] (198) فَصْلٌ: إذَا تَوَضَّأَ الْجُنُبُ فَلَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ جُنُبًا فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَدْخُلُ، فَيَتَحَدَّثُ. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ خَفَّ حُكْمُ الْحَدَثِ، فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَدَلِيلُ خِفَّتِهِ أَمْرُ النَّبِيِّ الْجُنُبَ بِهِ إذَا أَرَادَ النَّوْمَ، وَاسْتِحْبَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ الْأَكْلَ وَمُعَاوَدَةَ الْوَطْءِ. فَأَمَّا الْحَائِضُ إذَا تَوَضَّأَتْ فَلَا يُبَاحُ لَهَا اللُّبْثُ؛ لِأَنَّ وُضُوءَهَا لَا يَصِحُّ. [مَسْأَلَة لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ] (199) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ يَعْنِي طَاهِرًا مِنْ الْحَدَثَيْنِ جَمِيعًا. رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُمْ إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ أَبَاحَ مَسَّهُ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ فِي كِتَابِهِ آيَةً إلَى قَيْصَرَ.» وَأَبَاحَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ مَسَّهُ بِظَاهِرِ الْكَفِّ؛ لِأَنَّ آلَةَ الْمَسِّ بَاطِنُ الْيَدِ، فَيَنْصَرِفُ النَّهْيُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وَفِي «كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بْنِ حَزْمٍ أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ.» وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ، فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي كَتَبَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَا الْمُرَاسَلَةَ، وَالْآيَةُ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ كِتَابِ فِقْهٍ أَوْ نَحْوِهِ لَا تَمْنَعُ مَسَّهُ، وَلَا يَصِيرُ الْكِتَابُ بِهَا مُصْحَفًا، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ حُرْمَتُهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَسَدِهِ، فَأَشْبَهَ يَدَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَسَّ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَاطِنِ الْيَدِ؛ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَاقَى شَيْئًا فَقَدْ مَسَّهُ. (200) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ حَمْلُهُ بِعِلَاقَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَأَبِي وَائِلٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْمُصْحَفَ بِعَلَّاقَتِهِ وَلَا فِي غِلَافِهِ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ؛ وَلِيس ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدَنِّسُهُ، وَلَكِنْ تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْدِثٌ قَاصِدٌ لِحَمْلِ الْمُصْحَفِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ مَعَ مَسِّهِ. وَلَنَا: أَنَّهُ غَيْرُ مَاسٍّ لَهُ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي رَحْلِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَسَّ، وَالْحَمْلُ لَيْسَ بِمَسٍّ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مَسُّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ، وَالْحَمْلُ لَا أَثَرَ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ حَمَلَهُ بِعَلَّاقَةٍ أَوْ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِمَّا لَا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ، جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ تَقْلِيبُهُ بِعُودٍ وَمَسُّهُ بِهِ، وَكَتْبُ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ، وَفِي تَصَفُّحِهِ بِكُمِّهِ رِوَايَتَانِ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي مَسِّ غِلَافِهِ وَحَمْلِهِ بِعَلَّاقَتِهِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ بِنَاءً عَلَى مَسِّهِ بِكُمِّهِ. وَالصَّحِيحُ: جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَسَّهُ، وَالْحَمْلُ لَيس بِمَسٍّ. (201) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا، وَالرَّسَائِلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ؛ وَلِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ مُصْحَفٍ، وَلَا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ. وَفِي مَسِّ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ أَلْوَاحَهُمْ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَلَوْ اشْتَرَطْنَا الطَّهَارَةَ أَدَّى إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ حِفْظِهِ. وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. وَفِي الدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ الْوَرَقَ. وَالثَّانِي الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ، فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاحْتِرَازِ مِنْهَا مَشَقَّةٌ، أَشْبَهْت أَلْوَاحَ الصِّبْيَانِ. (202) فَصْلٌ: وَإِنْ احْتَاجَ الْمُحْدِثُ إلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، تَيَمَّمَ، وَجَازَ مَسُّهُ. وَلَوْ غَسَلَ الْمُحْدِثُ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مَسُّهُ بِهِ قَبْلَ إتْمَامِ وُضُوئِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَهِّرًا إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ. (203) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْمُسَافَرَةُ بِالْمُصْحَفِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [بَابُ الِاسْتِطَابَةِ وَالْحَدَثِ] ِ الِاسْتِطَابَةُ: هِيَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ، يُقَالُ اسْتَطَابَ، وَأَطَابَ: إذَا اسْتَنْجَى؛ سُمِّيَ اسْتِطَابَةً لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ جَسَدَهُ بِإِزَالَةِ الْخُبْثِ عَنْهُ، قَالَ الشَّاعِرُ يَهْجُو رَجُلًا: يَا رَخَمًا قَاظَ عَلَى عُرْقُوبِ ... يُعْجِلُ كَفَّ الْخَارِئِ الْمُطِيبِ وَالِاسْتِنْجَاءُ: اسْتِفْعَالٌ مِنْ نَجَوْت الشَّجَرَةَ أَيْ: قَطَعْتهَا، فَكَأَنَّهُ قَطَعَ الْأَذَى عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّجْوَةِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ بِهَا. وَالِاسْتِجْمَارُ: اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْجِمَارِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا فِي اسْتِجْمَارِهِ. (204) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ أَوْ خَرَجَتْ مِنْهُ رِيحٌ اسْتِنْجَاءٌ وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِي الرِّيحِ اسْتِنْجَاءٌ؛ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، إنَّمَا عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ فَلَيْسَ مِنَّا.» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . إذَا قُمْتُمْ مِنْ النَّوْمِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالِاسْتِنْجَاءِ هُنَا نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا نَجَاسَةَ هَاهُنَا. [مَسْأَلَة الِاسْتِنْجَاءُ لِمَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ] (205) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالِاسْتِنْجَاءُ لِمَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ هَذَا فِيهِ إضْمَارٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ، فَحَذَفَ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ اخْتِصَارًا، وَأَرَادَ مَا خَرَجَ غَيْرَ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ مُعْتَادًا، كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، أَوْ نَادِرًا، كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ، رَطْبًا أَوْ يَابِسًا. وَلَوْ احْتَقَنَ فَرَجَعَتْ أَجْزَاءٌ خَرَجَتْ مِنْ الْفَرْجِ، أَوْ وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ فَدَبَّ مَاؤُهُ إلَى فَرْجِهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِمَا الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَلَوْ أَدْخَلَ الْمِيلَ فِي ذَكَرِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، لَزِمَهُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، فَأَشْبَهَ الْغَائِطَ الْمُسْتَحْجِرَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ مِنْ نَاشِفٍ لَا يُنَجِّسُ الْمَحَلَّ، لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الرِّيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الطَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَنِيُّ إذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ. وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَلَمْ يَسْتَنْجِ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِنْجَاءُ، كَمَنْ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِنَوْمٍ أَوْ خُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ نَاسِيًا، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْمَسْحِ، فَلَمْ تَجِبْ إزَالَتُهَا كَيَسِيرِ الدَّمِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: «لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.» فَأَمَرَ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَالَ: فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ. وَالْإِجْزَاءُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَإِذَا حَرُمَ تَرْكُ بَعْضِ النَّجَاسَةِ فَتَرْكُ جَمِيعِهَا أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.» وَأَمَرَ بِالْعَدَدِ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، وَقَوْلُهُ: (لَا حَرَجَ) يَعْنِي فِي تَرْكِ الْوِتْرِ، لَا فِي تَرْكِ الِاسْتِجْمَارِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْخَبَرِ الْوِتْرُ، فَيَعُودُ نَفْيُ الْحَرَجِ إلَيْهِ، وَأَمَّا الِاجْتِزَاءُ بِالْمَسْحِ فِيهِ فَلِمَشَقَّةِ الْغَسْلِ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ. [فَصْلٌ الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ أَوْ الْأَحْجَارِ] (206) فَصْلٌ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوْ الْأَحْجَارِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَنْكَرَا الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا النِّسَاءُ، وَقَالَ عَطَاءٌ غَسْلُ الدُّبُرُ مُحْدَثٌ. وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ ثُمَّ فَعَلَهُ، وَقَالَ لِنَافِعٍ: جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَالِحًا. وَهُوَ مَذْهَبُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ؛ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْمَحَلَّ، وَيُزِيلُ النَّجَاسَةَ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَحَلٍّ آخَرَ. وَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَاءُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْمَحَلَّ، وَيُزِيلُ الْعَيْنَ وَالْأَثَرَ، وَهُوَ أَبْلُغُ فِي التَّنْظِيفِ. وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَجَرِ أَجْزَأَهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ؛ وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَجْمِرَ بِالْحَجَرِ، ثُمَّ يُتْبِعَهُ الْمَاءَ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ جَمَعَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعْنَ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ مِنْ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ؛ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ.» احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ سَعِيدٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَرَ يُزِيلُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ فَلَا تُصِيبُهَا يَدُهُ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْمَاءِ فَيُطَهِّرُ الْمَحَلَّ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّنْظِيفِ وَأَحْسَنَ. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِنْجَاء بِمَا دُون الثَّلَاثَة أَحْجَار] (207) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَعْدُوَا مَخْرَجَهُمَا أَجْزَأَهُ أَحْجَارٌ إذَا أَنْقَى بِهِنَّ، فَإِنْ أَنْقَى بِدُونِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُجْزِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَدَدِ، وَإِنْ لَمْ يُنْقِ بِالثَّلَاثَةِ زَادَ حَتَّى يُنْقِيَ قَوْلُهُ: يَعْدُوَا مَخْرَجَهُمَا يَعْنِي الْخَارِجَيْنِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ إذَا لَمْ يَتَجَاوَزَا مَخْرَجَهُمَا. يُقَالُ: عَدَاك الشَّرُّ أَيْ: تَجَاوَزَك. وَالْمُرَاد، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَخْرَجَ بِمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، فَإِنَّ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ مُنْقِيَةٍ. وَمَعْنَى الْإِنْقَاءِ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَبَلَّتِهَا، بِحَيْثُ يَخْرُجُ الْحَجَرُ نَقِيًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرٌ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا. وَيُشْتَرَطُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا؛ الْإِنْقَاءُ، وَإِكْمَالُ الثَّلَاثَةِ، أَيُّهُمَا وُجِدَ دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَكْفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُد: الْوَاجِبُ الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . وَلَنَا: قَوْلُ سَلْمَانَ: «لَقَدْ نَهَانَا - يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» . وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَحَدِيثُهُمْ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى. (208) فَصْلٌ: وَإِذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ لَا يَقْطَعَ إلَّا عَلَى وِتْرٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَيَسْتَجْمِرُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا أَوْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى شَفْعٍ مُنْقِيَةٍ، فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَازَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . (209) فَصْلٌ: وَكَيْفَمَا حَصَلَ الْإِنْقَاءِ فِي الِاسْتِجْمَارِ أَجْزَأَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُمِرَّ الْحَجَرَ الْأَوَّلَ مِنْ مُقَدَّمِ صَفْحَتِهِ الْيُمْنَى إلَى مُؤَخَّرِهَا، ثُمَّ يُدِيرَهُ عَلَى الْيُسْرَى، ثُمَّ يَرْجِعَ بِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ؛ ثُمَّ يُمِرَّ الثَّانِيَ مِنْ مُقَدَّمِ صَفْحَتِهِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ؛ ثُمَّ يُمِرَّ الثَّالِثَ عَلَى الْمَسْرُبَةِ وَالصَّفْحَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَ لَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ حَجَرَيْنِ لِلصَّفْحَتَيْنِ وَحَجَرًا لِلْمَسْرُبَةِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ: إسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ الْمَحَلَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْجَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعُمَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ تَلْفِيقًا، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَكُونُ تَكْرَارًا. ذَكَرَ هَذَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَقِيلٍ وَقَالَا: مَعْنَى الْحَدِيثِ الْبِدَايَةُ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ لِكُلِّ جِهَةٍ مَسْحَةٌ، لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 (210) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُهُ الِاسْتِجْمَارُ فِي النَّادِرِ، كَمَا يُجْزِئُ فِي الْمُعْتَادِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي النَّادِرِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مَالِكٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْ الْمَذْيِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْآثَارَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وَأَسَانِيدِهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ اسْتِنْجَاءٍ، إنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ؛ وَلِأَنَّ النَّادِرَ لَا يَتَكَرَّرُ، فَلَا يَبْقَى اعْتِبَارُ الْمَاءِ فِيهِ، فَوَجَبَ، كَغَسْلِ غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ. وَلَنَا أَنَّ الْخَبَرَ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ؛ وَأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ فِي النَّادِرِ إنَّمَا وَجَبَ مَا صَحِبَهُ مِنْ بِلَّةِ الْمُعْتَادِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَشُقَّ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْمَشَقَّةِ، فَتُعْتَبَرُ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، كَمَا جَازَ الِاسْتِجْمَارُ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَمُعْتَادٌ كَثِيرٌ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي بَعْضِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ الْبَوْلِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَاكَ مَاءُ الْفَحْلِ، وَلِكُلِّ فَحْلٍ مَاءٌ.» وَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً فَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الِاغْتِسَالَ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ مَالِكٌ مِنْهُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ لَا يُوجِبُهُ مِنْ النَّادِرِ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا، وَيَجِبُ غَسْلُ الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْأُنْثَيَيْنِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَعَبُّدًا. وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَسْلِهِ لِلِاسْتِحْبَابِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ مَا يَخْرُجُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (211) فَصْلٌ: وَلَا يَسْتَجْمِرُ بِيَمِينِهِ، لِقَوْلِ سَلْمَانَ فِي حَدِيثِهِ: «إنَّهُ لَيَنْهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ يَسْتَنْجِي مِنْ غَائِطٍ أَخَذَ الْحَجَرَ بِشِمَالِهِ فَمَسَحَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ يَسْتَنْجِي مِنْ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْحَجَرُ كَبِيرًا، أَخَذَ ذَكَرَهُ بِشِمَالِهِ فَمَسَحَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَضَعَهُ بَيْنَ عَقِبَيْهِ، أَوْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيَمْسَحُ ذَكَرَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، أَمْسَكَهُ بِيَمِينِهِ، وَمَسَحَ بِيَسَارِهِ؛ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ. وَقِيلَ: يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَيَمْسَحُ بِشِمَالِهِ؛ لِيَكُونَ الْمَسْحُ بِغَيْرِ الْيَمِينِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ» . وَإِذَا أَمْسَكَ الْحَجَرَ بِالْيَمِينِ، وَمَسَحَ الذَّكَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ مَاسِحًا بِالْيَمِينِ، وَلَا مُمْسِكًا لِلذَّكَرِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيُسْرَى، أَوْ بِهَا مَرَضٌ، اسْتَجْمَرَ بِيَمِينِهِ؛ لِلْحَاجَةِ. وَلَا يُكْرَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ. وَإِنْ اسْتَجْمَرَ بِيَمِينِهِ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ، أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَمْ يُفِدْ مَقْصُودَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، فَإِنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّوْثَ آلَةُ الِاسْتِجْمَارِ الْمُبَاشِرَةُ لِلْمَحَلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَشَرْطُهُ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهَا، وَالْيَدُ لَيْسَتْ الْمُبَاشِرَةَ لِلْمَحَلِّ وَلَا شَرْطًا فِيهِ، إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِهَا الْحَجَرَ الْمُلَاقِي لِلْمَحَلِّ، فَصَارَ النَّهْيُ عَنْهَا نَهْيَ تَأْدِيبٍ، لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ. [فَصْل يَبْدَأُ الرَّجُلُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْقُبُلِ] (212) فَصْلٌ: وَيَبْدَأُ الرَّجُلُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْقُبُلِ؛ لِئَلَّا تَتَلَوَّثَ يَدُهُ إذَا شَرَعَ فِي الدُّبُرِ؛ لِأَنَّ قُبُلَهُ بَارِزٌ تُصِيبُهُ الْيَدُ إذَا مَدَّهَا إلَى الدُّبُرِ، وَالْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةٌ فِي الْبِدَايَةِ بِأَيِّهِمَا شَاءَتْ، لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْكُثَ بَعْدَ الْبَوْلِ قَلِيلًا، وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَصْلِ الذَّكَرِ مِنْ تَحْتِ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يَسْلِتَهُ إلَى رَأْسِهِ فَيَنْتُرُ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا بِرِفْقٍ. قَالَ أَحْمَدُ إذَا تَوَضَّأْت فَضَعْ يَدَك فِي سِفْلَتِك، ثُمَّ اسْلِتْ مَا ثَمَّ حَتَّى يَنْزِلَ، وَلَا تَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ هَمِّك، وَلَا تَلْتَفِت إلَى ظَنِّك. وَقَدْ رَوَى يَزْدَادُ الْيَمَانِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَإِذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ ثُمَّ فَرَغَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ دَلْكُ يَدِهِ بِالْأَرْضِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ اسْتَنْجَى مِنْ تَوْرٍ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ.» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَإِنْ اسْتَنْجَى عَقِيبَ انْقِطَاعِ الْبَوْلِ، جَازَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ انْقِطَاعُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَاءَ يَقْطَعُ الْبَوْلَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الِاسْتِنْجَاءُ انْتِقَاصَ الْمَاءِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْضَحَ عَلَى فَرْجِهِ وَسَرَاوِيلِهِ؛ لِيُزِيلَ الْوَسْوَاسَ عَنْهُ. قَالَ حَنْبَلُ: سَأَلْت أَحْمَدَ قُلْت: أَتَوَضَّأُ وَأَسْتَبْرِئُ، وَأَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَحْدَثْت بَعْدُ، قَالَ: إذَا تَوَضَّأْت فَاسْتَبْرِئْ، وَخُذْ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَرُشَّهُ عَلَى فَرْجِك، وَلَا تَلْتَفِت إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إذَا تَوَضَّأْت فَانْتَضِحْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [مَسْأَلَة الِاسْتِنْجَاء بِالْخَشَبِ وَالْخِرَقُ وَكُلُّ مَا أَنْقَيْ بِهِ] (213) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْخَشَبُ وَالْخِرَقُ وَكُلُّ مَا أُنْقِي بِهِ فَهُوَ كَالْأَحْجَارِ هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يُجْزِئُ إلَّا الْأَحْجَارُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْأَحْجَارِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ رُخْصَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهَا بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ خُزَيْمَةَ، قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاسْتِطَابَةِ، فَقَالَ: بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ.» فَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا الرَّجِيعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرَّجِيعِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى. وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 «إنَّهُ لَيَنْهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَأَنْ نَسْتَجْمِرَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَتَخْصِيصُ هَذَيْنِ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْحِجَارَةَ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا. وَرَوَى طَاوُسٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْبَرَازَ فَلْيُنَزِّهْ قِبْلَةَ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَقْبِلْهَا وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَعْوَادٍ، أَوْ ثَلَاثِ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى طَاوُسٍ. وَلِأَنَّهُ مَتَى وَرَدَ النَّصُّ بِشَيْءٍ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ، وَجَبَ تَعْدِيَتُهُ إلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى هَاهُنَا إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْأَحْجَارِ، كَحُصُولِهِ بِهَا، وَبِهَذَا يَخْرُجُ التَّيَمُّمُ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ مُنَقِّيًا؛ لِأَنَّ الْإِنْقَاءَ مُشْتَرَطٌ فِي الِاسْتِجْمَارِ، فَأَمَّا الزَّلِجُ كَالزُّجَاجِ وَالْفَحْمِ الرِّخْوِ وَشِبْهِهِمَا مِمَّا لَا يُنَقِّي، فَلَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ طَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يُجَفِّفُ كَالطَّاهِرِ. وَلَنَا «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَجْمِرُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذِهِ رِكْسٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ. يَعْنِي نَجَسًا، وَهَذَا تَعْلِيلٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِالنَّجَاسَةِ كَالْغَسْلِ، فَإِنْ اسْتَنْجَى بِنَجِسٍ احْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الِاسْتِجْمَارُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ تَنَجَّسَ بِنَجَاسَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ، فَلَمْ يُجْزِئْ فِيهَا غَيْرُ الْمَاءِ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ ابْتِدَاءً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ تَابِعَةٌ لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ، فَزَالَتْ بِزَوَالِهَا. (214) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: إلَّا الرَّوْثَ وَالْعِظَامَ وَالطَّعَامَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِالرَّوْثِ وَلَا الْعِظَامِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُجَفِّفَانِ النَّجَاسَةَ، وَيُنَقِّيَانِ الْمَحَلَّ، فَهُمَا كَالْحَجَرِ. وَأَبَاحَ مَالِكٌ الِاسْتِنْجَاءَ بِالطَّاهِرِ مِنْهُمَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَهْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمَا، وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ؛ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ وَقَالَ: إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» . وَقَالَ: إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، أَنَّهُ قَالَ لِرُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ، أَبِي بَكْرَةَ: أَخْبِرْ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ.» وَهَذَا عَامٌّ فِي الطَّاهِرِ مِنْهَا. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَعَدَمَ الْإِجْزَاءِ فَأَمَّا الطَّعَامُ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِكَوْنِهِمَا زَادَ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ، فَزَادُنَا مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ، كَنَهْيِهِ هَاهُنَا، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْإِجْزَاءَ ثَمَّ، كَذَا هَاهُنَا. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ هُنَا لِمَعْنًى فِي شَرْطِ الْفِعْلِ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ، كَالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَثَمَّ لِمَعْنًى فِي آلَةِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَمْنَعْ كَالْوُضُوءِ مِنْ إنَاءٍ مُحَرَّمٍ. [فَصْل الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ] (215) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ كَشَيْءٍ كُتِبَ فِيهِ فِقْهٌ أَوْ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَتِهَا، فَهُوَ فِي الْحُرْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ. وَلَا يَجُوزُ بِمُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ كَيَدِهِ وَعَقِبِهِ وَذَنَبِ بَهِيمَةٍ وَصُوفِهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْمَعُ الْمُسْتَجْمِرُ بِهِ سِتَّ خِصَالٍ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا جَامِدًا مُنَقِّيًا غَيْرَ مَطْعُومٍ وَلَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا مُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ. [مَسْأَلَة الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ يَقُومَ مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فِي الِاسْتِجْمَارِ] (216) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْحَجَرُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ يَقُومُ مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ. وَلَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ تَنَجَّسَ؛ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ ثَانِيًا كَالصَّغِيرِ. وَلَنَا: أَنَّهُ إنْ اسْتَجْمَرَ ثَلَاثًا مُنَقِّيَةً بِمَا وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِجْمَارِ، أَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ فَصَلَهُ ثَلَاثَةً صِغَارًا وَاسْتَجْمَرَ بِهَا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا فَصْلُهُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي التَّطْهِيرِ، وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي ثَلَاثَ مَسَحَاتٍ بِحَجَرٍ دُونَ عَيْنِ الْأَحْجَارِ كَمَا يُقَالُ ضَرَبْته ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ أَيْ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ بِسَوْطٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْقُولٌ وَمُرَادَهُ مَعْلُومٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ نَقْتَصِرْ عَلَى لَفْظِهِ فِي غَيْرِ الْأَحْجَارِ، بَلْ أَجَزْنَا الْخَشَبَ وَالْخِرَقَ وَالْمَدَرَ وَالْمَعْنَى مِنْ ثَلَاثَةٍ حَاصِلٌ مِنْ ثَلَاثِ شُعَبٍ أَوْ مَسْحِهِ ذَكَرَهُ فِي صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ، بِثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أَوْ فِي حَائِطٍ أَوْ أَرْضٍ فَلَا مَعْنَى لِلْجُمُودِ عَلَى اللَّفْظِ مَعَ وُجُودِ مَا يُسَاوِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَوْلُهُمْ: تَنَجَّسَ قُلْنَا: إنَّمَا تَنَجَّسَ مَا أَصَابَ النَّجَاسَةَ، وَالِاسْتِجْمَارُ. حَاصِلٌ بِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَنَجَّسَ جَانِبُهُ بِغَيْرِ الِاسْتِجْمَارِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَجْمَرَ بِهِ ثَلَاثَةٌ لَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْحَةٌ وَقَامَ مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَجْمَرَ بِهِ الْوَاحِدُ، وَلَوْ اسْتَجْمَرَ ثَلَاثَةٌ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لِكُلِّ حَجَرٍ مِنْهَا ثَلَاثُ شُعَبٍ، فَاسْتَجْمَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ كُلِّ حَجَرٍ بِشُعْبَةٍ، أَجْزَأَهُمْ وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا يُجْزِئَهُمْ. [فَصْل اسْتَجْمَرَ بِحَجَرِ ثُمَّ غَسَلَهُ أَوْ كَسَرَ مَا تَنَجَّسَ مِنْهُ وَاسْتَجْمَرَ بِهِ ثَانِيًا] (217) فَصْلٌ: وَلَوْ اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ، ثُمَّ غَسَلَهُ أَوْ كَسَرَ مَا تَنَجَّسَ مِنْهُ وَاسْتَجْمَرَ بِهِ ثَانِيًا ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ وَاسْتَجْمَرَ بِهِ ثَالِثًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ حَجَرٌ يُجْزِئُ غَيْرَهُ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ فَأَجْزَأَهُ كَغَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ مُحَافَظَةً عَلَى صُورَةِ اللَّفْظِ وَهُوَ بَعِيدٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 [مَسْأَلَة الِاسْتِنْجَاء فِي مَا عَدَا الْمَخْرَجِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْمَاءُ] (218) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَا عَدَا الْمَخْرَجِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْمَاءُ. وَبِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يَعْنِي إذَا تَجَاوَزَ الْمَحَلَّ بِمَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ مِثْلُ أَنْ يَنْتَشِرَ إلَى الصَّفْحَتَيْنِ وَامْتَدَّ فِي الْحَشَفَةِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْمَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ فِي الْمَحَلِّ الْمُعْتَادِ رُخْصَةٌ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِي غَسْلِهِ لِتَكَرُّرِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَمَا لَا تَتَكَرَّرُ النَّجَاسَةُ فِيهِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ كَسَاقِهِ وَفَخِذِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَبْعَرُونَ بَعْرًا، وَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْمَاءَ الْأَحْجَارَ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَكْفِي أَحَدَكُمْ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ» أَرَادَ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ مَحَلَّ الْعَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. (219) فَصْلٌ: وَالْمَرْأَةُ الْبِكْرُ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ عُذْرَتَهَا تَمْنَعُ انْتِشَارَ الْبَوْلِ. فَأَمَّا الثَّيِّبُ فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ بِحِدَةٍ فَلَمْ يَنْتَشِرْ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ تَعَدَّى إلَى مَخْرَجِ الْحَيْضِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ غَسْلُهُ لِأَنَّ مَخْرَجَ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ؛ لِأَنَّ هَذَا عَادَةٌ فِي حَقِّهَا فَكَفَى فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ كَالْمُعْتَادِ فِي غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ الْغَسْلَ لَوْ لَزِمَهَا مَعَ اعْتِيَادِهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَزْوَاجِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ شَكَّ فِي انْتِشَارِ الْخَارِجِ إلَى مَا يُوجِبُ الْغَسْلَ، لَمْ يَجِبْ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَالْمُسْتَحَبُّ الْغَسْلُ احْتِيَاطًا. (220) فَصْلٌ: وَالْأَقْلَفُ إنْ كَانَ مُرْتَتِقًا لَا تَخْرُجُ بَشَرَتُهُ مِنْ قُلْفَتِهِ فَهُوَ كَالْمُخْتَتِنِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ كَشْفُهَا كَشَفَهَا فَإِذَا بَالَ وَاسْتَجْمَرَ أَعَادَهَا فَإِنْ تَنَجَّسَتْ بِالْبَوْلِ لَزِمَهُ غَسْلُهَا كَمَا لَوْ انْتَشَرَ إلَى الْحَشَفَةِ. (221) فَصْلٌ: وَإِنْ انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ وَانْفَتَحَ آخَرُ، لَمْ يُجْزِهِ الِاسْتِجْمَارُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَادًا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ النَّاسِ فَلَمْ تَثْبُتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْفَرْجِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّهُ، وَلَا يَجِبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ حَدٌّ وَلَا مَهْرٌ وَلَا غُسْلٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْبَدَنِ. (222) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِجْمَارِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ طَاهِرٌ، فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، قَالَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَبُولُ فَيَسْتَبْرِئُ وَيَسْتَجْمِرُ يَعْرَقُ فِي سَرَاوِيلِهِ؟ قَالَ إذَا اسْتَجْمَرَ ثَلَاثًا فَلَا بَأْسَ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ إذَا اسْتَنْجَيْت مِنْ الْغَائِطِ يُصِيبُ ذَلِكَ الْمَاءُ مَوْضِعًا مِنِّي آخَرَ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ جَاءَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ، فَاسْتَنْجِ أَنْتَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ثُمَّ لَا تُبَالِي مَا أَصَابَك مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ. قَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 عَنْ رَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْخُفِّ إذَا لَمْ يَسْتَجْمِرْ الرَّجُلُ؟ قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَوْ قَعَدَ الْمُسْتَجْمِرُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَجَّسَهُ وَلَوْ عَرِقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ مَسْحٌ لِلنَّجَاسَةِ، فَلَمْ يَطْهُرْ بِهِ مَحَلُّهَا كَسَائِرِ الْمَسْحِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسْتَنْجُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ، فَإِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا يُطَهِّرُ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الِاسْتِجْمَارُ، حَتَّى إنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ أَنْكَرُوا الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بِدْعَةً وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ الْعَرَقِ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَوَقِّي ذَلِكَ، وَلَا الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَلَا ذِكْرُ ذَلِكَ أَصْلًا وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ بَالَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَنَضَحَ فَرْجَهُ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا اعْتَقَدَا طَهَارَتَهُ مَا فَعَلَا ذَلِكَ. (223) فَصْلٌ: إذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تُرَابٍ قَالَ أَحْمَدُ يُجْزِئُهُ الْمَاءُ وَحْدَهُ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ التُّرَابَ مَعَ الْمَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَلَا أَمَرَ بِهِ، فَأَمَّا عَدَدُ الْغَسَلَاتِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا؛ فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْمَاءِ سَبْعُ مَرَّاتٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: وَلَكِنْ الْمَقْعَدَةُ يُجْزِئُ أَنْ تُمْسَحَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ يَغْسِلُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدِي إذَا كَانَ فِي الْجَسَدِ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ مَقْعَدَتَهُ ثَلَاثًا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ؟ فَقَالَ يُنَقِّي. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا عَدَدَ فِيهِ إنَّمَا الْوَاجِبُ الْإِنْقَاءُ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَدَدٌ، وَلَا أَمَرَ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنْقَاءِ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَنْ تَذْهَبَ لُزُوجَةُ النَّجَاسَةِ وَآثَارُهَا. [فُصُولٌ فِي أَدَبِ التَّخَلِّي] لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْفَضَاءِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا» وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَدَاوُد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ، فَرَأَيْته قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. وَلَنَا أَحَادِيثُ النَّهْيِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْبُنْيَانِ، أَوْ مُسْتَتِرًا بِشَيْءٍ وَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِالِاحْتِمَالِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، فَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ، أَوْ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ. وَالثَّانِيَةُ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْعَبَّاسِ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ، مِنْهُمْ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، رَوَاهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِي الرُّخْصَةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ حَسَنٌ. قَالَ أَحْمَدُ: عِرَاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ. فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مُرْسَلًا. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْبُنْيَانِ، وَهُوَ خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ. وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْأَصْفَرِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إلَيْهَا. فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذَا فِي الْفَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلَا بَأْسَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَامِّ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِدْبَارُ الْكَعْبَةِ فِي الْبُنْيَانِ وَالْفَضَاءِ جَمِيعًا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «رَقِيت يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَاجَتِهِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (225) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِفَرْجِهِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ نُورِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ اسْتَتَرَ عَنْهُمَا بِشَيْءٍ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَتَرَ عَنْ الْقِبْلَةِ جَازَ فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرِّيحَ؛ لِئَلَّا تَرُدَّ عَلَيْهِ رَشَاشَ الْبَوْلِ، فَيُنَجِّسَهُ. (226) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَتِرَ عَنْ النَّاسِ، فَإِنْ وَجَدَ حَائِطًا أَوْ كَثِيبًا أَوْ شَجَرَةً أَوْ بَعِيرًا اسْتَتَرَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَبْعَدَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ الرَّمْلِ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ خَرَجَ وَمَعَهُ دَرَقَةٌ، ثُمَّ اسْتَتَرَ بِهَا، ثُمَّ بَالَ» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.» وَالْبَرَازُ: الْمَوْضِعُ الْبَارِزُ، سُمِّيَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تُقْضَى فِيهِ. وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَهَبَ أَبْعَدَ» ، رَوَى أَحَادِيثَ هَذَا الْفَصْلِ كُلَّهَا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: «كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. (227) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْتَادَ لِبَوْلِهِ مَوْضِعًا رَخْوًا؛ لِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عَلَيْهِ، «قَالَ أَبُو مُوسَى كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَبَوَّلَ، فَأَتَى دَمِثًا فِي أَصْلِ حَائِطٍ، فَبَالَ ثُمَّ قَالَ إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَبَوَّلَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبُولَ قَاعِدًا؛ لِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ وَأَنْتَ قَائِمٌ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ بَالَ قَائِمًا، «قَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إلَّا قَاعِدًا.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ وَقَدْ رُوِيت الرُّخْصَةُ فِيهِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ. وَرَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجُلُوسِ فِيهِ. وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِمَأْبِضِهِ. وَالْمَأْبِضُ مَا تَحْتِ الرُّكْبَةِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ. (228) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْفَعَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 إذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَا يَرْفَعُ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ» ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهُ فَيَكُونُ أَوْلَى. (229) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبُولَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ، وَلَا مَوْرِدِ مَاءٍ، وَلَا ظِلٍّ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ - الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ. قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْمَوْرِدُ طَرِيقٌ. وَلَا يَبُولُ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، فِي حَالِ كَوْنِ الثَّمَرَةِ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَسْقُطَ عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ فَتَتَنَجَّسَ بِهِ. فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الثَّمَرَةِ فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ. وَلَا يَبُولُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ إنْ كَانَ قَلِيلًا تَنَجَّسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَرُبَّمَا تَغَيَّرَ بِتَكْرَارِ الْبَوْلِ فِيهِ، فَأَمَّا الْجَارِي فَلَا يَجُوزُ التَّغَوُّطُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي مَنْ يَمُرُّ بِهِ، وَإِنْ بَالَ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْبَوْلُ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاكِدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَارِيَ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَبُولُ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَبْلُغُ مِنْ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ فَالنَّهْيُ ثَمَّ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبَوْلِ عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَبُولَ فِي شَقٍّ أَوْ ثَقْبٍ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ» وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَوَانٌ يَلْسَعُهُ أَوْ يَكُونَ مَسْكَنًا لِلْجِنِّ فَيَتَأَذَّى بِهِمْ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَالَ فِي جُحْرٍ بِالشَّامِ ثُمَّ اسْتَلْقَى مَيِّتًا فَسُمِعَتْ الْجِنُّ تَقُولُ: نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ ... سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ ... فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ وَلَا يَبُولُ فِي مُسْتَحِمِّهِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ: إنَّمَا هَذَا فِي الْحَفِيرَةِ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمُغْتَسَلَاتُهُمْ الْجِصُّ وَالصَّارُوجُ وَالْقِيرُ فَإِذَا بَالَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْبُصَاقَ عَلَى الْبَوْلِ يُورِثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الْوَسْوَاسَ، وَإِنَّ الْبَوْلَ عَلَى النَّارِ يُورِثُ السَّقَمَ، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى. وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَلَى مَوْضِعِ بَوْلِهِ، أَوْ يَسْتَنْجِيَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ بِهِ. (230) فَصْلٌ: وَيَعْتَمِدُ فِي حَالِ جُلُوسِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، لِمَا رَوَى سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَوَكَّأَ عَلَى الْيُسْرَى وَأَنْ نَنْصِبَ الْيُمْنَى» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْهَلُ لِخُرُوجِ الْخَارِجِ، وَلَا يُطِيلُ الْمُقَامَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُورِثُ الْبَاسُورَ وَقِيلَ: إنَّهُ يُدْمِي الْكَبِدَ، وَرُبَّمَا آذَى مَنْ يَنْتَظِرُهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّهُ حَالَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَيَسْتَحْيِي فِيهَا. وَيَلْبَسُ حِذَاءَهُ؛ لِئَلَّا تَتَنَجَّسَ رِجْلَاهُ. وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حَاجَتِهِ إلَّا بِقَلْبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَلَنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَذِكْرُ اللَّهِ أَوْلَى. فَإِذَا عَطَسَ حَمِدَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، إنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ الْوَاجِبَ، فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَوْلَى. وَلَا يُسَلِّمُ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مُسَلِّمٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ؛ فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْك» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلَا يَتَكَلَّمُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ، سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتَيْهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (231) فَصْلٌ: إذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلَاءِ وَمَعَهُ شَيْءٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى اُسْتُحِبَّ وَضْعُهُ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَقِيلَ: إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ، فَإِنْ احْتَفَظَ بِمَا مَعَهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَاحْتَرَزَ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ، أَوْ أَدَارَ فَصَّ الْخَاتَمِ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ. الْخَاتَمُ إذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ يَجْعَلُهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلَاءَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: اقْلِبْهُ هَكَذَا فِي بَاطِنِ كَفِّك فَاقْبِضْ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ وَمَعَهُ الدَّرَاهِمُ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. (232) فَصْلٌ: وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الدُّخُولِ، وَالْيُمْنَى فِي الْخُرُوجِ وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ بِسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ، وَمِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. قَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ، وَمَا دَخَلْت قَطُّ الْمُتَوَضَّأَ وَلَمْ أَقُلْهَا إلَّا أَصَابَنِي مَا أَكْرَهُ، وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا دَخَلَ مِرْفَقَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ الشَّرُّ وَالْخَبَائِثُ الشَّيَاطِينُ. وَقِيلَ الْخُبْثُ، بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْخَبَائِثُ: ذُكْرَانُ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثُهُمْ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي. وَرَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَك» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. (233) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبُولَ فِي الْإِنَاءِ قَالَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ رُقَيْقَةَ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ يَبُولُ فِيهِ، وَيَضَعُهُ تَحْتَ السَّرِيرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 [بَابُ مَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ] [مَسْأَلَة الَّذِي يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مَا خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ] َ (234) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَاَلَّذِي يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مَا خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعْتَادٍ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، فَهَذَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إجْمَاعًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْغَائِطِ مِنْ الدُّبُرِ وَخُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ وَخُرُوجَ الْمَذْيِ، وَخُرُوجَ الرِّيحِ مِنْ الدُّبُرِ أَحْدَاثٌ يَنْقُضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا الطَّهَارَةَ، وَيُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا فِي قَوْلِ رَبِيعَةَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: نَادِرٌ كَالدَّمِ وَالدُّودِ وَالْحَصَا وَالشَّعْرِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَيْضًا، وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، يَرَوْنَ الْوُضُوءَ مِنْ الدُّودِ يَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ، وَلَمْ يُوجِبْ مَالِكٌ الْوُضُوءَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ لِأَنَّهُ نَادِرٌ، أَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ. وَلَنَا أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ أَشْبَهَ الْمَذْيَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِهَا، وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَدَمُهَا نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ.» [فَصْل الْمَرْأَةِ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا الرِّيحُ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (235) فَصْلٌ: وَقَدْ نَقَلَ صَالِحٌ، عَنْ أَبِيهِ " فِي الْمَرْأَةِ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا الرِّيحُ: مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ. وَقَالَ الْقَاضِي: خُرُوجُ الرِّيحِ مِنْ الذَّكَرِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَقَالَ ابْنُ عُقَيْلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِنَا فِي الرِّيحِ يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ أَنْ لَا يَنْقُضَ؛ لِأَنَّ الْمَثَانَةَ لَيْسَ لَهَا مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ، وَلَا جَعَلَهَا أَصْحَابُنَا جَوْفًا، وَلَمْ يُبْطِلُوا الصَّوْمَ بِالْحُقْنَةِ فِيهِ، وَلَا نَعْلَمُ لِهَذَا وُجُودًا، وَلَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِأَنْ يُحِسَّ الْإِنْسَانُ فِي ذَكَرِهِ دَبِيبًا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ وَالطَّهَارَةُ لَا تَنْتَقِضُ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قُدِّرَ وُجُودُ ذَلِكَ يَقِينًا نَقَضَ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، فَنَقَضَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْخَوَارِجِ. [فَصْل قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا ثُمَّ عَادَ فَخَرَجَ] (236) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا، ثُمَّ عَادَ فَخَرَجَ نَقَضَ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ بِلَّةٍ نَجِسَةٍ تَصْحَبُهُ فَيَنْتَقِضُ بِهَا الْوُضُوءُ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ مُنْفَرِدَةً. وَلَوْ احْتَشَى قُطْنًا فِي ذَكَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ بَلَلٌ، نَقَضَ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُنْفَرِدًا لَنَقَضَ، فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ مَعَ غَيْرِهِ. فَإِنْ خَرَجَ نَاشِفًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أَحَدُهُمَا، يَنْقُضُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْخَوَارِجِ. وَالثَّانِي لَا يَنْقُضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَثَانَةِ وَالْجَوْفِ مَنْفَذٌ، فَلَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْجَوْفِ. وَلَوْ احْتَقَنَ فِي دُبُرِهِ، فَرَجَعَتْ أَجْزَاءٌ خَرَجَتْ مِنْ الْفَرْجِ، نَقَضَتْ الْوُضُوءَ. وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ فَدَبَّ مَاؤُهُ، فَدَخَلَ الْفَرْجَ، ثُمَّ خَرَجَ نَقَضَ الْوُضُوءَ، وَعَلَيْهِمَا الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ لَا يَخْلُو مِنْ بِلَّةٍ تَصْحَبُهُ مِنْ الْفَرْجِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، النَّقْضُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْخُرُوجِ، فَنَقَضَ كَالنَّوْمِ. وَالثَّانِي لَا يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقَّنَةٌ، فَلَا تَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُحْتَقِنُ قَدْ أَدْخَلَ رَأْسَ الزَّرَّاقَةِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، نَقَضَ الْوُضُوءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَ فِيهِ مِيلًا أَوْ غَيْرَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ نَقَضَ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، فَنَقَضَ، كَسَائِرِ الْخَارِجِ. [فَصْل رَجُلٌ بِهِ عِلَّةٌ رُبَّمَا ظَهَرَتْ مَقْعَدَتُهُ هَلْ يُنْتَقَضُ وُضُوئِهِ] (237) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ بِهِ عِلَّةٌ رُبَّمَا ظَهَرَتْ مَقْعَدَتُهُ؟ قَالَ: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مَعَهَا نَدًى تَوَضَّأَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ نَدًى يَنْفَصِلُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ مُتَّصِلٌ فَنَقَضَ كَالْخَارِجِ عَلَى الْحَصَى، فَأَمَّا الرُّطُوبَةُ اللَّازِمَةُ لَهَا فَلَا تَنْقُضُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ رُطُوبَةٍ، فَلَوْ نَقَضَتْ لَنَقَضَ خُرُوجُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا، فَلَمْ يَنْقُضْ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَعَلَيْهِ بَلَلٌ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ وَابْتَلَعَ ذَلِكَ الْبَلَلَ: أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الِانْفِصَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل الْمَذْي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (238) فَصْلٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَذْيَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ زَلِجًا مُتَسَبْسِبًا عِنْدَ الشَّهْوَةِ، فَيَكُونُ عَلَى رَأْسِ الذَّكَرِ. وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي حُكْمِهِ فَرُوِيَ أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَغَسْلَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ: " يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَك " وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ، فَأَوْجَبَ غَسْلًا زَائِدًا عَلَى مُوجِبِ الْبَوْلِ كَالْمَنِيِّ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَسْلٌ مُطْلَقٌ فَيُوجِبُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَسْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فِي قَوْلِهِ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: " وَانْضَحْ فَرْجَك وَسَوَاءٌ غَسَلَهُ قَبْلَ الْوُضُوءِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ غَسْلٌ غَيْرُ مُرْتَبِطٍ بِالْوُضُوءِ، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ، كَغُسْلِ النَّجَاسَةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَالْوُضُوءِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، قَالَ «كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً، فَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الِاغْتِسَالَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّمَا يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ لَا يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ، فَأَشْبَهَ الْوَدْيَ، وَالْأَمْرُ بِالنَّضْحِ وَغَسْلِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ. وَقَوْلُهُ " إنَّمَا يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ ". صَرِيحٌ فِي حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِالْوُضُوءِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. فَأَمَّا الْوَدْيُ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ ثَخِينٌ، يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ كَدِرًا، فَلَيْسَ فِيهِ وَفِي بَقِيَّةِ الْخَوَارِجِ إلَّا الْوُضُوءُ. رُوِيَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمَنِيُّ وَالْوَدْيُ وَالْمَذْيُ أَمَّا الْمَنِيُّ فَفِيهِ الْغُسْلُ، وَأَمَّا الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ فَفِيهِمَا إسْبَاغُ الطُّهُورِ. [مَسْأَلَة خُرُوجُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِمَا] (239) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَخُرُوجُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِمَا لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَمِنْ غَيْرِهِمَا، وَيَسْتَوِي قَلِيلُهُمَا وَكَثِيرُهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ السَّبِيلَانِ مُنْسَدَّيْنِ أَوْ مَفْتُوحَيْنِ مِنْ فَوْقِ الْمَعِدَةِ أَوْ مِنْ تَحْتِهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ انْسَدَّ الْمَخْرَجُ، وَانْفَتَحَ آخَرُ دُونَ الْمَعِدَةِ، لَزِمَ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ انْفَتَحَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَالثَّانِي لَا يَنْقُضُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَادُ بَاقِيًا، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] وَقَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ، أَوْ سَفْرًا، أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَحَقِيقَةُ الْغَائِطِ: الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ، سُمِّيَ الْخَارِجُ بِهِ لِمُجَاوَرَتِهِ إيَّاهُ. فَإِنَّ الْمُتَبَرِّزَ يَتَحَرَّاهُ لِحَاجَتِهِ، كَمَا سُمِّيَ عَذِرَةً، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ فِنَاءُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْرَحُ بِالْأَفْنِيَةِ، فَسُمِّيَ بِهَا لِلْمُجَاوَرَةِ. وَهَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي صَارَ الْمَجَازُ فِيهَا أَشْهَرَ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَجَازُ وَيُحْمَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 عَلَيْهِ الْكَلَامُ لِشُهْرَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْخَارِجَ غَائِطٌ وَبَوْلٌ، فَنَقَضَ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ السَّبِيلِ. [مَسْأَلَة زَوَالُ الْعَقْلِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (240) مَسْأَلَةٌ: (قَالَ: وَزَوَالُ الْعَقْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَوْمٍ يَسِيرٍ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا) زَوَالُ الْعَقْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَوْمٍ، وَغَيْرِهِ فَأَمَّا غَيْرُ النَّوْمِ، وَهُوَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاء وَالسُّكْرُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ إجْمَاعًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ حِسُّهُمْ أَبْعَدُ مِنْ حِسِّ النَّائِمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَبِهُونَ بِالِانْتِبَاهِ، فَفِي إيجَابِ الْوُضُوءِ عَلَى النَّائِمِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: النَّوْمُ، وَهُوَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ. وَلَنَا: قَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: " لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ " وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ وَرَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ؛ وَلِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ، فَأُقِمْ مَقَامَهُ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِنْزَالِ. (241) فَصْلٌ: وَالنَّوْمُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ، فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِنَقْضِهِ بِالنَّوْمِ. الثَّانِي نَوْمُ الْقَاعِدِ، إنْ كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَنْقُضْ. وَهَذَا قَوْلُ حَمَّادٍ وَالْحَكَمِ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَثُرَ إذَا كَانَ الْقَاعِدُ مُتَّكِئًا مُفْضِيًا بِمَحَلِّ الْحَدَثِ إلَى الْأَرْضِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ، وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي لَفْظٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ وَبِهِ يَتَخَصَّصُ عُمُومُ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَلِأَنَّهُ مُتَحَفِّظٌ عَنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ، فَلَمْ يَنْقُضْ وُضُوءَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ نَوْمُهُ يَسِيرًا. وَلَنَا: عُمُومُ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمَا فِي الْيَسِيرِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ فَإِنَّ النَّائِمَ يَخْفِقُ رَأْسُهُ مِنْ يَسِيرِ النَّوْمِ، فَهُوَ يَقِينٌ فِي الْيَسِيرِ، فَيُعْمَلُ بِهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 مُحْتَمَلٌ لَا يُتْرَكُ لَهُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ؛ وَلِأَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ يُعَلَّلُ بِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَدَثِ وَمَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ يُفْضِي إلَيْهِ، وَلَا يُحِسُّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْحَدَثِ. الثَّالِثُ مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَنْقُضُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ عُمُومِ أَحَادِيثِ النَّقْضِ نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، لِكَوْنِ الْقَاعِدِ مُتَحَفِّظًا، لِاعْتِمَادِهِ بِمَحَلِّ الْحَدَثِ إلَى الْأَرْضِ، وَالرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الْحَدَثِ مِنْهُمَا. وَالثَّانِيَةُ لَا يَنْقُضُ إلَّا إذَا كَثُرَ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ النَّوْمَ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ لَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَثُرَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ وَيَنْفُخُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي، فَقُلْت لَهُ: صَلَّيْت وَلَمْ تَتَوَضَّأْ وَقَدْ نِمْت، فَقَالَ: إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا؛ فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ. فَأَشْبَهَتْ حَالَ الْجُلُوسِ، وَالظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِي الِانْخِفَاضِ وَاجْتِمَاعِ الْمَخْرَجِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْقَائِمُ أَبْعَدَ مِنْ الْحَدَثِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِثْقَالِ فِي النَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَثْقَلَ لَسَقَطَ. وَالظَّاهِرُ عَنْهُ فِي السَّاجِدِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضْطَجِعِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الْحَدَثِ، وَيَعْتَمِدُ بِأَعْضَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَتَهَيَّأُ لِخُرُوجِ الْخَارِجِ فَأَشْبَهَ الْمُضْطَجِعَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُنْكَرٌ. قَالَهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ يَرْوِيهِ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. قَالَ شُعْبَةُ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا. (242) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقَاعِدِ الْمُسْتَنِدِ وَالْمُحْتَبِي. فَعَنْهُ: لَا يَنْقُضُ يَسِيرُهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ: الْوُضُوءُ مِنْ النَّوْمِ؟ قَالَ إذَا طَالَ. قِيلَ: فَالْمُحْتَبِي؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ. قِيلَ: فَالْمُتَّكِئُ؟ قَالَ. الِاتِّكَاءُ شَدِيدٌ، وَالْمُتَسَانِدُ كَأَنَّهُ أَشَدُّ. يَعْنِي مِنْ الِاحْتِبَاءِ. وَرَأَى مِنْهَا كُلِّهَا الْوُضُوءَ، إلَّا أَنْ يَغْفُوَ. يَعْنِي قَلِيلًا. وَعَنْهُ: يَنْقُضُ. يَعْنِي بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُعْتَمِدًا بِمَحَلِّ الْحَدَثِ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ لَا يَنْقُضَ مِنْهُ إلَّا الْكَثِيرُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ انْتِفَاءِ النَّقْضِ فِي الْقَاعِدِ لَا تَفْرِيقَ فِيهِ فَيُسَوِّي بَيْنَ أَحْوَالِهِ. (243) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ مِنْ النَّوْمِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لِلْقَلِيلِ حَدٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَقِيلَ: حَدُّ الْكَثِيرِ مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ النَّائِمُ عَنْ هَيْئَتِهِ، مِثْلُ أَنْ يَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهَا أَنْ يَرَى حُلْمًا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّمَا يُعْلَمُ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا، فَمَتَى وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، مِثْلُ سُقُوطِ الْمُتَمَكِّنِ وَغَيْرِهِ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ. وَإِنْ شَكَّ فِي كَثْرَتِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقِّنَةٌ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. (244) فَصْلٌ: وَمَنْ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] السِّنَةُ: ابْتِدَاءُ النُّعَاسِ فِي الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا قَالَ الشَّاعِرُ: وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَلِأَنَّ النَّاقِضَ زَوَالُ الْعَقْلِ، وَمَتَى كَانَ الْعَقْلُ ثَابِتًا وَحِسُّهُ غَيْرَ زَائِلٍ مِثْلُ مَنْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ عِنْدَهُ وَيَفْهَمُهُ، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ النَّقْضِ فِي حَقِّهِ. وَإِنْ شَكَّ هَلْ نَامَ أَمْ لَا، أَوْ خَطِرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يَدْرِي أَرُؤْيَا أَوْ حَدِيثُ نَفْسٍ، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الِارْتِدَادُ عَنْ الْإِسْلَامِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (245) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالِارْتِدَادُ عَنْ الْإِسْلَامِ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُبْطِلُ التَّيَمُّمَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ إمَّا نُطْقًا، أَوْ اعْتِقَادًا، أَوْ شَكًّا يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَمَتَى عَاوَدَ إسْلَامَهُ وَرَجَعَ إلَى دِينِ الْحَقِّ، فَلَيْسَ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِهِ قَوْلَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] فَشَرَطَ الْمَوْتَ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، كَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ. وَلَنَا: قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ حُكْمًا تَبْطُلُ بِمُبْطِلَاتِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَحْبَطَ بِالشِّرْكِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ فَأَفْسَدَهَا الشِّرْكُ، كَالصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمِ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ حَدَثٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَدَثُ حَدَثَانِ؛ حَدَثُ اللِّسَانِ، وَحَدَثُ الْفَرْجِ، وَأَشَدُّهُمَا حَدَثُ اللِّسَانِ. وَإِذَا أَحْدَثَ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرُوهُ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَوْتَ لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ حُبُوطُ الْعَمَلِ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَأَمَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِبْطَالُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يُوجِبُهُ، وَهُنَا يَجِبُ الْغُسْلُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ الْغُسْلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 [فَصْل لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَا عَدَا الرِّدَّةَ مِنْ الْكَلَامِ] (246) فَصْلٌ: وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَا عَدَا الرِّدَّةَ مِنْ الْكَلَامِ مِنْ الْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ، وَالرَّفَثِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ، وَقَوْلَ الزُّورِ، وَالْكَذِبَ، وَالْغِيبَةَ لَا تُوجِبُ طَهَارَةً، وَلَا تَنْقُضُ وُضُوءًا، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوَائِلِ أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِالْوُضُوءِ مِنْ الْكَلَامِ الْخَبِيثِ، وَذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ عِنْدَنَا مِمَّنْ أَمَرَ بِهِ، وَلَا نَعْلَمُ حُجَّةً تُوجِبُ وُضُوءًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّاتِي وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَلَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِوُضُوءِ. [فَصْل لَيْسَ فِي الْقَهْقَهَةِ وُضُوءٌ] فَصْلٌ: وَلَيْسَ فِي الْقَهْقَهَةِ وُضُوءٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ دُونَ خَارِجِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي، فَجَاءَ ضَرِيرٌ فَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَضَحِكَ طَوَائِفُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ ضَحِكُوا أَنْ يُعِيدُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» . وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ بِأَسَانِيدَ ضِعَافٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَبِي الْعَالِيَةِ، كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَلَنَا: أَنَّهُ مَعْنًى لَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ دَاخِلَهَا كَالْكَلَامِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ. فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا لَا يُبْطِلُ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَمْ يُنَصَّ عَنْ الشَّارِعِ فِي هَذَا إيجَابُ الْوُضُوءِ، وَلَا فِي شَيْءٍ يُقَاسُ هَذَا عَلَيْهِ، وَمَا رَوَوْهُ مُرْسَلٌ لَا يَثْبُتُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا تَأْخُذُوا بِمَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا. وَالْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرُدُّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ لِمُخَالَفَتِهَا الْأُصُولَ، فَكَيْفَ يُخَالِفُهَا هَاهُنَا بِهَذَا الْخَبَرِ الضَّعِيفِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. [مَسْأَلَة مَسُّ الْفَرْجِ] (248) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَسُّ الْفَرْجِ. الْفَرْجُ اسْمٌ لِمَخْرَجِ الْحَدَثِ، وَيَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالدُّبُرَ وَقُبُلَ الْمَرْأَةِ، وَفِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ؛ فَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُفَصَّلًا: وَنَبْدَأُ بِالْكَلَامِ فِي مَسِّ الذَّكَرِ، فَإِنَّهُ آكَدُهَا. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَعُرْوَةَ وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا وُضُوءَ فِيهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَعِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لِمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ وَهَلْ هُوَ إلَّا بِضْعَةٌ مِنْك أَوْ مُضْغَةٌ مِنْك» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ؛ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْهُ، فَكَانَ كَسَائِرِهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَعَنْ جَابِرٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدِيثُ بُسْرَةَ وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ صَحِيحَانِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ بُسْرَةَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ بُسْرَةَ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ أَيْضًا صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. فَأَمَّا خَبَرُ قَيْسٍ فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ: قَيْسٌ مِمَّنْ لَا تَقُومُ بِرِوَايَتِهِ حُجَّةٌ ثُمَّ إنَّ حَدِيثَنَا مُتَأَخِّرٌ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَاهُ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ قُدُومُ طَلْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يُؤَسِّسُونَ الْمَسْجِدَ أَوَّلَ زَمَنِ الْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ حَدِيثُنَا نَاسِخًا لَهُ. وَقِيَاسُ الذَّكَرِ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ يَنْفَرِدُ بِهَا؛ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِإِيلَاجِهِ وَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (249) فَصْلٌ: فَعَلَى رِوَايَةِ النَّقْضِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ وَأَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ إلَّا بِمَسِّهِ قَاصِدًا مَسَّهُ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: قِيلَ لِأَحْمَدَ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ: فَقَالَ: هَكَذَا - وَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ - يَعْنِي إذَا قَبَضَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَكْحُولٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالُوا: إنْ مَسَّهُ يُرِيدُ وُضُوءًا وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْسٌ، فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَلَمْسِ النِّسَاءِ. (250) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَطْنِ الْكَفِّ وَظَهْرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ: لَا يَنْقُضُ مَسُّهُ إلَّا بِبَاطِنِ كَفِّهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَفِّ لَيْسَ بِآلَةٍ لِلْمَسِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَسَّهُ بِفَخِذِهِ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إلَى فَرْجِهِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَفِي لَفْظٍ: «إذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ إلَى ذَكَرِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَظَاهِرُ كَفِّهِ مِنْ يَدِهِ، وَالْإِفْضَاءُ: اللَّمْسُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى مُطْلَقِ الْيَدِ، فَأَشْبَهَ بَاطِنَ الْكَفِّ. (251) فَصْلٌ: وَلَا يَنْقُضُ مَسُّهُ بِذِرَاعِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْقُضُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ يَدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى مُطْلَقِ الْيَدِ فِي الشَّرْعِ لَا يَتَجَاوَزُ الْكُوعَ، بِدَلِيلِ قَطْعِ السَّارِقِ، وَغَسْلِ الْيَدِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْمَرَافِقِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِآلَةٍ لِلْمَسِّ، أَشْبَهَ الْعَضُدَ، وَكَوْنُهُ مِنْ يَدِهِ يَبْطُلُ بِالْعَضُدِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. (252) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَذَكَرِ غَيْرِهِ، وَقَالَ دَاوُد: لَا يَنْقُضُ مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَالْأَخْبَارُ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي ذَكَرِ نَفْسِهِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ مَسَّ ذَكَرِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ، وَأَدْعَى إلَى الشَّهْوَةِ، وَخُرُوجُ الْخَارِجِ، وَحَاجَةُ الْإِنْسَانِ تَدْعُو إلَى مَسِّ ذَكَرِ نَفْسِهِ، فَإِذَا انْتَقَضَ بِمَسِّ ذَكَرِ نَفْسِهِ فَبِمَسِّ ذَكَرِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَهَذَا تَنْبِيهٌ يُقَدَّمُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ خَبَرِ بُسْرَةَ: " مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ فَلْيَتَوَضَّأْ ". (253) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ: لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّ ذَكَرَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَسُّهُ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَبَّلَ زُبَيْبَةَ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَّ زُبَيْبَةَ الْحَسَنِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ: " مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ آدَمِيٌّ مُتَّصِلٌ بِهِ، أَشْبَهَ الْكَبِيرَ، وَالْخَبَرُ لَيْسَ بِثَابِتٍ. ثُمَّ إنَّ نَقْضَ اللَّمْسِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْقُبْلَةِ نَاقِضَةً. ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي مَجْلِسِهِ، وَجَوَازُ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ يَبْطُلُ بِذَكَرِ نَفْسِهِ. (254) فَصْلٌ: وَفَرْجُ الْمَيِّتِ كَفَرْجِ الْحَيِّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْحُرْمَةِ، لِاتِّصَالِهِ بِجُمْلَةِ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَفِي الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَنْقُضُ؛ لِبَقَاءِ اسْمِ الذَّكَرِ. وَالْآخَرُ لَا يَنْقُضُ؛ لِذَهَابِ الْحُرْمَةِ، وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ بِمَسِّهِ، فَأَشْبَهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ثِيلَ الْجَمَلِ. وَلَوْ مَسَّ الْقُلْفَةَ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ قَبْلَ قَطْعِهَا، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِلْدَةِ الذَّكَرِ. وَإِنْ مَسَّهَا بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لِزَوَالِ الِاسْمِ وَالْحُرْمَةِ. (255) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَسُّ حَلْقَةِ الدُّبُرِ، فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ أَيْضًا: إحْدَاهُمَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. قَالَ الْخَلَّالُ: الْعَمَلُ وَالْأَشْيَعُ فِي قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ، أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الدُّبُرِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ الْحَدِيثِ: " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ مَسَّهُ، وَلَا يُفْضِي إلَى خُرُوجِ خَارِجٍ. وَالثَّانِيَةُ يَنْقُضُ. نَقَلَهَا أَبُو دَاوُد. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ، أَشْبَهَ الذَّكَرَ. (256) فَصْلٌ: وَفِي مَسِّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا أَيْضًا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَنْقُضُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ» وَلِأَنَّهَا آدَمِيٌّ مَسَّ فَرْجَهُ، فَانْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَالرَّجُلِ. وَالْأُخْرَى لَا يَنْتَقِضُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَالْجَارِيَةُ إذَا مَسَّتْ فَرْجَهَا أَعَلَيْهَا وُضُوءٌ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا بِشَيْءٍ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ " فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثُ الزُّبَيْدِيِّ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ؛ وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ، وَلَيْسَ مَسُّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَدْعُو إلَى خُرُوجِ خَارِجٍ، فَلَمْ يَنْقُضْ. (257) فَصْلٌ: فَأَمَّا لَمْسُ فَرْجِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ مِنْهُ فَلَمَسَ أَحَدَ فَرْجَيْهِ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ خِلْقَةً زَائِدَةً. وَإِنْ لَمَسَهُمَا جَمِيعًا، وَقُلْنَا: لَا يَنْقُضُ وُضُوءَ الْمَرْأَةِ مَسُّ فَرْجِهَا. لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً مَسَّتْ فَرْجَهَا، أَوْ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَإِنْ قُلْنَا: يَنْقُضُ. انْتَقَضَ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَرْجًا، وَإِنْ كَانَ اللَّامِسُ رَجُلًا، فَمَسَّ الذَّكَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ. وَإِنْ مَسَّهُ لِشَهْوَةِ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي ظَاهِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الْمَذْهَبِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ مَسَّهُ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ مَسَّهَا لِشَهْوَةِ. وَإِنْ مَسَّ قُبُلَ الْمَرْأَةِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً زَائِدَةً مِنْ رَجُلٍ. وَإِنْ مَسَّهُمَا جَمِيعًا لِشَهْوَةِ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الذَّكَرِ. وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسَّ ذَكَرَ رَجُلٍ أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ. وَإِنْ كَانَ اللَّامِسُ امْرَأَةً، فَلَمَسَتْ أَحَدَهُمَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا. وَإِنْ لَمَسَتْ الذَّكَرَ لِشَهْوَةٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً زَائِدَةً مِنْ امْرَأَةٍ. فَإِنْ مَسَّتْ فَرْجَ الْمَرْأَةِ لِشَهْوَةٍ، انْبَنَى عَلَى مَسِّ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ لِشَهْوَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا يَنْقُضُ. انْتَقَضَ وُضُوءُهَا هَاهُنَا لِذَلِكَ. وَإِلَّا لَمْ يَنْتَقِضْ. وَإِنْ مَسَّتْهُمَا جَمِيعًا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَقُلْنَا: إنَّ مَسَّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. انْتَقَضَ وُضُوءُهَا هَاهُنَا، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَ اللَّامِسُ خُنْثَى مُشْكِلًا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، إلَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْفَرْجَيْنِ فِي اللَّمْسِ. وَلَوْ مَسَّ أَحَدُ الْخُنْثَيَيْنِ ذَكَرَ الْآخَرِ، وَمَسَّ الْآخَرُ فَرْجَهُ، وَكَانَ اللَّمْسُ مِنْهُمَا لِشَهْوَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا فَلَا وُضُوءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَقِينُ الطَّهَارَةِ بَاقٍ فِي حَقِّهِ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا امْرَأَتَيْنِ، فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ لَامِسِ الذَّكَرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ لَامِسِ الْفَرْجِ. وَإِنْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ الْآخَرِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ، وَقَدْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلْقَةً زَائِدَةً مِنْ الْآخَرِ. وَإِنْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُبُلَ الْآخَرِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ. [فَصْل لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ مَا عَدَا الْفَرْجَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ] (258) فَصْلٌ: وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ مَا عَدَا الْفَرْجَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، كَالرَّفْغِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْإِبْطِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: مَنْ مَسَّ أُنْثَيَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ مَسَّ مَا بَيْنَ الْفَرْجَيْنِ فَلْيَتَوَضَّأْ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي هَذَا وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ، وَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي اللَّامِسِ. وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ بَهِيمَةٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ مَسَّ قُنْبَ (1) حِمَارٍ، عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَمَنْ مَسَّ ثِيلَ جَمَلٍ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَمَا قُلْنَاهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى النَّقْضِ بِهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ. [مَسْأَلَة الْقَيْءُ الْفَاحِشُ وَالدَّمُ وَالدُّودُ الْفَاحِشُ يَخْرُجُ مِنْ الْجُرُوحِ هَلْ يَنْقَضِ الْوُضُوء] (259) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: الْقَيْءُ الْفَاحِشُ، وَالدَّمُ الْفَاحِشُ وَالدُّودُ الْفَاحِشُ يَخْرُجُ مِنْ الْجُرُوحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: طَاهِرًا وَنَجِسًا؛ فَالطَّاهِرُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى حَالٍ مَا، وَالنَّجِسُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةَ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَانَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لَا يُوجِبُونَ مِنْهُ وُضُوءًا، وَقَالَ مَكْحُولٌ: لَا وُضُوءَ إلَّا فِيمَا خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ، مَعَ بَقَاءِ الْمَخْرَجِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَقْضُ الطَّهَارَةِ، كَالْبُصَاقِ وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، لِكَوْنِ الْحُكْمِ فِيهِ غَيْرَ مُعَلَّلٍ وَلِأَنَّهُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَطَاهِرِهِ وَنَجِسِهِ؛ وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ، فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ. وَلَنَا: مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَلَقِيت ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ ثَوْبَانُ: صَدَقَ، أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ قِيلَ لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ ثَبَتَ عِنْدَك؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إذَا قَلَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ " قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، فَنَقَضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ. وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ دُونَ الْمَعِدَةِ. (260) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْيَسِيرَ يَنْقُضُ. وَلَا نَعْرِفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْخَلَّالُ فِي " جَامِعِهِ " إلَّا فِي الْقَلْسِ، وَاطَّرَحَهَا وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَنْقُضُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ: إذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَابْنُ أَبِي أَوْفَى بَزَقَ دَمًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ كَانَ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أَنْفِهِ، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً وَابْنُ أَبِي أَوْفَى عَصَرَ دُمَّلًا وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا كَانَ فَاحِشًا. وَجَابِرٌ أَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي أَنْفِهِ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ أَدْخُلَ أَصَابِعَهُ الْعَشَرَةَ فِي أَنْفِهِ، وَأَخْرَجَهَا مُتَلَطِّخَةً بِالدَّمِ. يَعْنِي: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا سَالَ الدَّمُ فَفِيهِ الْوُضُوءُ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ، لَمْ يَجِبْ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ.» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ» وَحَدِيثُهُمْ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَقَدْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إذَا كَانَ دُونَ مِلْءِ الْفَمِ، لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ مِنْهُ. (261) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكَثِيرَ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَا حَدَّ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ يَكُونَ فَاحِشًا وَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا قَدْرُ الْفَاحِشِ؟ قَالَ: مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك وَقِيلَ لَهُ: مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الْفَاحِشُ؟ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ: كَمْ الْكَثِيرُ؟ فَقَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ. وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مِقْدَارَ مَا يَرْفَعُهُ الْإِنْسَانُ بِأَصَابِعِهِ الْخَمْسِ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. فَقِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ مِقْدَارَ عَشْرَةِ أَصَابِعَ؟ فَرَآهُ كَثِيرًا. قَالَ الْخَلَّالُ: وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْفَاحِشِ، أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَفْحِشُهُ كُلُّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ، لَا الْمُتَبَذِّلِينَ، وَلَا الْمُوَسْوِسِينَ، كَمَا رَجَعْنَا فِي يَسِيرِ اللُّقَطَةِ الَّذِي لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ إلَى مَا لَا تَتْبَعُهُ نُفُوسُ أَوْسَاطِ النَّاسِ. وَنَصُّ أَحْمَدَ فِي هَذَا كَمَا حَكَيْنَاهُ، وَذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (262) فَصْلٌ: وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ كَالدَّمِ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَأَسْهَلُ وَأَخَفُّ مِنْهُ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا الْقَيْحَ وَالصَّدِيدَ كَالدَّمِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ فِي الصَّدِيدِ: لَا شَيْءَ، إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قُرْحَةٍ سَالَ مِنْهَا كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ: لَا وُضُوءَ فِيهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: كُلُّ مَا سِوَى الدَّمِ لَا يُوجِبُ وُضُوءًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وَاللَّيْثُ: الْقَيْحُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ. فَلِذَلِكَ خَفَّ حُكْمُهُ عِنْدَهُ، وَاخْتِيَارُهُ مَعَ ذَلِكَ إلْحَاقُهُ بِالدَّمِ وَإِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِهِ فِيهِ، وَلَكِنْ الَّذِي يَفْحُشُ مِنْهُ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي يَفْحُشُ مِنْ الدَّمِ. (263) فَصْلٌ: وَالْقَلْسُ كَالدَّمِ، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْهُ مَا فَحُشَ. قَالَ الْخَلَّالُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ، أَنَّهُ إذَا كَانَ فَاحِشًا أَعَادَ الْوُضُوءَ مِنْهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِيهِ الْوُضُوءُ إذَا مَلَأَ الْفَمَ. وَقِيلَ عَنْهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْفَمِ لَا يَتَوَضَّأُ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّودِ الْخَارِجِ مِنْ الْجَسَدِ، إذَا كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ الْوُضُوءَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، لَمْ يَنْقُضْ، وَالْكَثِيرُ مَا فَحُشَ فِي النَّفْسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [فَصْل الْجُشَاءُ لَا وُضُوءَ فِيهِ] (264) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجُشَاءُ فَلَا وُضُوءَ فِيهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ الرِّيحُ مِثْلُ الْجُشَاءِ الْكَثِيرِ؟ قَالَ. لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النُّخَاعَةُ لَا وُضُوءَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الرَّأْسِ أَوْ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ، أَشْبَهَتْ الْبُصَاقَ. [مَسْأَلَة أَكْلُ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (265) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَأَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ إلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَا مِمَّا يَدْخُلُ» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: فِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ: إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلِمَ وَسَمِعَ، فَهَذَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ، فَلَيْسَ هُوَ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَدْرِي. قَالَ الْخَلَّالُ: وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَلَنَا: مَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ.» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ: فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَحَدِيثُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنَا عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ أَصَحَّ مِنْهُ وَأَخَصَّ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَنَا أَيْضًا؛ لِصِحَّتِهِ وَخُصُوصِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَحَدِيثُ جَابِرٍ مُتَأَخِّرٌ، فَيَكُونُ نَاسِخًا. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، أَوْ مُقَارِنٌ لَهُ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَهِيَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذَا النَّهْيِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ؛ فَإِنْ كَانَ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُقَارِنٌ لِنَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهِ؟ وَمِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَأَخُّرُ النَّاسِخِ، وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ قَبْلَهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَخَ بِمَا قَبْلَهُ. الثَّانِي، أَنَّ أَكْلَ لُحُومِ الْإِبِلِ إنَّمَا نَقَضَ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، لَا لِكَوْنِهِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، وَلِهَذَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَانَ نِيئًا، فَنَسْخُ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَسْخُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ حَرَّمَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّضَاعِ، وَلِكَوْنِهَا رَبِيبَةً، فَنَسْخُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ. الثَّالِثُ، أَنَّ خَبَرَهُمْ عَامٌّ وَخَبَرَنَا خَاصٌّ، وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَعَذُّرَ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مُمْكِنٌ بِتَنْزِيلِ الْعَامِّ عَلَى مَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. الرَّابِعُ: أَنَّ خَبَرَنَا صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ، ثَبَتَتْ لَهُ قُوَّةُ الصِّحَّةِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَالْخُصُوصِ، وَخَبَرَهُمْ ضَعِيفٌ؛ لِعَدَمِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فِي خَبَرِكُمْ يَحْتَمِلُ الِاسْتِحْبَابَ، فَنَحْمِلُهُ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ إذَا أُضِيفَ إلَى الطَّعَامِ، اقْتَضَى غَسْلَ الْيَدِ، كَمَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِلَحْمِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَالزُّهُومَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ. قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. الثَّانِي، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ حُكْمِ هَذَا اللَّحْمِ، فَأَجَابَ بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَلْبِيسًا عَلَى السَّائِلِ، لَا جَوَابًا. الثَّالِثُ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَرَنَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ هَاهُنَا نَفْيُ الْإِيجَابِ لَا التَّحْرِيمِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ، لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يَصِحُّ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ غَسْلَ الْيَدِ بِمُفْرَدِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْوُضُوءَ إذَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ، أَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ السَّائِلِ عَنْ حُكْمِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِهَا، وَالصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ سِوَى الْوُضُوءِ الْمُرَادِ لِلصَّلَاةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ غَسْلَ الْيَدِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْيَدِ مِنْهُمَا مُسْتَحَبٌّ وَلِهَذَا قَالَ: " مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ ". وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ زِيَادَةِ الزُّهُومَةِ فَأَمْرٌ يَسِيرٌ، لَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ نَصْرِفُ بِهِ اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ لَهُ مِنْ الْقُوَّةِ بِقَدْرِ قُوَّةِ الظَّوَاهِرِ الْمَتْرُوكَةِ، وَأَقْوَى مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ طَرْدِيٌّ لَا مَعْنَى فِيهِ، وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي، لَا لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا، فَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا، وَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مُخَالِفِينَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ تُخَالِفُ الْأُصُولَ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَهُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ خَارِجِهَا، بِحَدِيثٍ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَوْجَبَاهُ بِمَسِّ الذَّكَرِ، بِحَدِيثٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، مُعَارَضٍ بِمِثْلِهِ دُونَ مَسِّ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، وَتَرَكُوا هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ، مَعَ بُعْدِهِ عَنْ التَّأْوِيلِ، وَقُوَّةِ الدَّلَالَةِ فِيهِ، لِمُخَالَفَتِهِ لِقِيَاسٍ طَرْدِيٍّ. [فَصْل شُرْبِ لَبَنِ الْإِبِلِ] (266) فَصْلٌ: وَفِي شُرْبِ لَبَنِ الْإِبِلِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِمَا رَوَى أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِهَا " وَسُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: " لَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِهَا ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَالثَّانِيَةُ، لَا وُضُوءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ إنَّمَا وَرَدَ فِي اللَّحْمِ. وَقَوْلُهُمْ: فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا صَحِيحَ فِيهِ سِوَاهُمَا، وَالْحُكْمُ هَاهُنَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فِيهِ. وَفِيمَا سِوَى اللَّحْمِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَعِيرِ، مِنْ كَبِدِهِ، وَطِحَالِهِ وَسَنَامِهِ، وَدُهْنِهِ، وَمَرَقِهِ، وَكَرِشِهِ، وَمُصْرَانِهِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَالثَّانِي يَنْقُضُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَزُورِ. وَإِطْلَاقُ اللَّحْمِ فِي الْحَيَوَانِ يُرَادُ بِهِ جُمْلَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، كَانَ تَحْرِيمًا لِجُمْلَتِهِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل مَا عَدَا لَحْمِ الْجَزُورِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَا وُضُوءَ فِيهِ] (267) فَصْلٌ: وَمَا عَدَا لَحْمَ الْجَزُورِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَا وُضُوءَ فِيهِ، سَوَاءٌ مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ، الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا نَعْلَمُ الْيَوْمَ فِيهِ خِلَافًا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى إيجَابِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدٌ، وَعَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» وَفِي لَفْظٍ «إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ. وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» وَقَوْلُ جَابِرٍ «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. [مَسْأَلَة الْوُضُوء مِنْ غَسْل الْمَيِّت] (268) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَغَسْلُ الْمَيِّتِ. اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ بِوُجُوبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْسُولُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَقَلُّ مَا فِيهِ الْوُضُوءُ. وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ الْمَيِّتِ، فَكَانَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَتِهِ، كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: لَا وُضُوءَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. وَلِأَنَّهُ غَسْلُ آدَمِيٍّ. فَأَشْبَهَ غَسْلَ الْحَيِّ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ» وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْغَسْلَ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ الْوُضُوءَ بِقَوْلِهِ، مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، أَوْلَى وَأَحْرَى. [مَسْأَلَة مُلَاقَاةُ جِسْمِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ لِشَهْوَةِ] (269) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمُلَاقَاةُ جِسْمِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ لِشَهْوَةٍ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا يَنْقُضُهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ قَبَّلَ لِشَهْوَةٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ قَبَّلَ لِرَحْمَةٍ. وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ فِي الْقُبْلَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمَكْحُولٌ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ أَحْمَدُ: الْمَدَنِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ مَا زَالُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقُبْلَةَ مِنْ اللَّمْسِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، حَتَّى كَانَ بِآخِرَةٍ وَصَارَ فِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَيَأْخُذُونَ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ، وَنَرَى أَنَّهُ غَلَطٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ. رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، لَا يَنْقُضُ اللَّمْسُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إلَّا أَنْ يَطَأَهَا دُونَ الْفَرْجِ فَيَنْتَشِرَ فِيهَا لِمَا رَوَى حَبِيبٌ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَخَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهَذَا شَرْعٌ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] أَرَادَ بِهِ الْجِمَاعَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسَّ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ فَكَذَلِكَ اللَّمْسُ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ لَا تَكُونُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ اثْنَيْنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ اللَّمْسَ يَنْقُضُ بِكُلِّ حَالٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ مُلَاقَاةُ الْبَشَرَتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَمَسْت بِكَفِّي كَفَّهُ أَطْلُبُ الْغِنَى وَقَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُبْلَةِ فَكُلُّ طُرُقِهِ مَعْلُولَةٌ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: احْكِ عَنِّي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شِبْهُ لَا شَيْءَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: نَرَى أَنَّهُ غَلَّطَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا - يَعْنِي حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَحَدِيثَ عُرْوَةَ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْ عَائِشَةَ، وَعُرْوَةُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا عُرْوَةُ الْمُزَنِيّ، وَلَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، كَذَلِكَ قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: مَا حَدَّثَنَا حَبِيبٌ إلَّا عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيّ لَيْسَ هُوَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا تَظُنُّوا أَنَّ حَبِيبًا لَقِيَ عُرْوَةَ. وَقَالَ: وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِرًّا بِهَا، وَإِكْرَامًا لَهَا، وَرَحْمَةً، أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَقَبَّلَ فَاطِمَةَ. فَالْقُبْلَةُ تَكُونُ لِشَهْوَةٍ وَلِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَبَّلَهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، وَاللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يَنْقُضُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمَسُّ زَوْجَتَهُ فِي الصَّلَاةِ وَتَمَسُّهُ. وَلَوْ كَانَ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لَمْ يَفْعَلْهُ. «قَالَتْ عَائِشَةُ. إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُصَلِّي وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلِي.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا فِي مَسْجِدِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَبَضَ عَلَى قَدَمِ عَائِشَةَ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ» رَوَاهُ إِسْحَاقُ بِإِسْنَادِهِ، وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ عَائِشَةَ «قَالَتْ فَقَدْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَجَعَلْت أَطْلُبُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك، وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك» رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ «وَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ مَسِّهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَمْ يَنْقُضْ، كَلَمْسِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ اللَّمْسَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا نَقَضَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَذْيِ أَوْ الْمَنِيِّ، فَاعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْحَدَثِ فِيهَا، وَهِيَ حَالَةُ الشَّهْوَةِ. (270) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَاتِ الْمَحْرَمِ، وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْقُضُ لَمْسُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَلَا الصَّغِيرَةِ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ لَمْسَهُمَا لَا يُفْضِي إلَى خُرُوجِ خَارِجٍ، أَشْبَهَ لَمْسَ الرَّجُلِ الرَّجُلَ. وَلَنَا، عُمُومُ النَّصِّ، وَاللَّمْسُ النَّاقِضُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهْوَةُ، وَمَتَى وُجِدَتْ الشَّهْوَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ. فَأَمَّا لَمْسُ الْمَيِّتَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَنْقُضُ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَالثَّانِي، لَا يَنْقُضُ. اخْتَارَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ، فَهِيَ كَالرَّجُلِ. (271) فَصْلٌ: وَلَا يَخْتَصُّ اللَّمْسُ النَّاقِضُ بِالْيَدِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ لَاقَى شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهَا مَعَ الشَّهْوَةِ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا أَصْلِيًّا، أَوْ زَائِدًا. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: لَا يَنْقُضُ اللَّمْسُ إلَّا بِأَحَدِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. وَلَنَا، عُمُومُ النَّصِّ، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ تَحَكُّمٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ. وَلَا يَنْقُضُ مَسُّ شَعْرِ الْمَرْأَةِ، وَلَا ظُفْرِهَا، وَلَا سِنِّهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يَنْقُضُ لَمْسُهَا بِشَعْرِهِ وَلَا سِنِّهِ وَلَا ظُفْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِتَطْلِيقِهِ وَلَا الظِّهَارُ. وَلَا يَنْجُسُ الشَّعْرُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ، وَلَا بِقَطْعِهِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ. (272) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمَسَهَا مِنْ وَرَاءُ حَائِلٍ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ يَنْقُضُ إنْ كَانَ ثَوْبًا رَقِيقًا. وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ: إذَا غَمَزَهَا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ رَقِيقٍ لِشَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَوْجُودَةٌ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَلْمَسْ جِسْمَ الْمَرْأَةِ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمَسَ ثِيَابَهَا، وَالشَّهْوَةُ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَكْفِي، كَمَا لَوْ مَسَّ رَجُلًا بِشَهْوَةٍ، أَوْ وُجِدَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ غَيْرِ لَمْسٍ. (273) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمَسَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَوُجِدَتْ الشَّهْوَةُ مِنْهُمَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ نَقْضُ وُضُوئِهِمَا، بِمُلَاقَاةِ بَشَرَتِهِمَا. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا مَسَّتْ زَوْجَهَا؟ قَالَ: مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ هِيَ شَقِيقَةُ الرَّجُلِ. يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَوَضَّأَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَحَدُ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي اللَّمْسِ، فَهِيَ كَالرَّجُلِ. وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ إذَا وُجِدَتْ مِنْهُ الشَّهْوَةُ؛ لِأَنَّ مَا يَنْتَقِضُ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ، وَلَا وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ عَدَمِ النَّقْضِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ بِالنَّقْضِ بِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ، فَيَتَنَاوَلُ اللَّامِسَ مِنْ الرِّجَالِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ النَّقْضُ، كَلَمْسِ الْفَرْجِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْمَلْمُوسَ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ اللَّمْسَ مِنْ الرَّجُلِ مَعَ الشَّهْوَةِ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ الْمَذْيِ النَّاقِضِ، فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَالشَّهْوَةُ مِنْ اللَّامِسِ أَشَدُّ مِنْهَا فِي الْمَلْمُوسِ، وَأَدْعَى إلَى الْخُرُوجِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا امْتَنَعَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ لَمْ يَثْبُتْ الدَّلِيلُ. (274) فَصْلٌ: وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ عُضْوٍ مَقْطُوعٍ مِنْ الْمَرْأَةِ؛ لِزَوَالِ الِاسْمِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ وَلَا بِمَسِّ رَجُلٍ وَلَا صَبِيٍّ، وَلَا بِمَسِّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْآيَةِ؛ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ لِشَهْوَةِ الرَّجُلِ شَرْعًا وَطَبْعًا، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. وَلَا بِمَسِّ الْبَهِيمَةِ؛ لِذَلِكَ. وَلَا بِمَسِّ خُنْثَى مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً. وَلَا بِمَسِّ الْخُنْثَى لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ؛ لِذَلِكَ، وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ. [مَسْأَلَةٌ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ] (275) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، فَهُوَ عَلَى مَا تَيَقَّنَ مِنْهُمَا يَعْنِي: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَشَكَّ هَلْ أَحْدَثَ، أَوْ لَا، بَنَى عَلَى أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ. وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَشَكَّ؛ هَلْ تَوَضَّأَ، أَوْ لَا، فَهُوَ مُحْدِثٌ. يَبْنِي فِي الْحَالَتَيْنِ عَلَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الشَّكِّ، وَيُلْغِي الشَّكَّ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَا عَلِمْنَا إلَّا الْحَسَنَ وَمَالِكًا، فَإِنَّ الْحَسَنَ قَالَ: إنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، مَضَى فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا، تَوَضَّأَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ إنْ كَانَ يَلْحَقُهُ كَثِيرًا، فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ كَثِيرًا، تَوَضَّأَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الشَّكِّ. وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: «شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ، قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ، أَخَرَجَ مِنْهُ أَمْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا شَكَّ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَيَجِبُ سُقُوطُهُمَا، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا، وَيَرْجِعُ إلَى التَّيَقُّنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ إذَا لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ شَرْعِيٍّ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، كَمَا لَا يَلْتَفِتُ الْحَاكِمُ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ [فَصْلٌ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخِرَ مِنْهُمَا] (276) فَصْلٌ: إذَا تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا، وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخِرَ مِنْهُمَا، مِثْلُ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مُتَطَهِّرًا مَرَّةً وَمُحْدِثًا أُخْرَى، وَلَا يَعْلَمُ أَيَّهُمَا كَانَ بَعْدَ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى حَالِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ قَدْ انْتَقَلَ عَنْ هَذَا الْحَدَثِ إلَى الطَّهَارَةِ، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهَا، وَالْحَدَثُ الْمُتَيَقَّنُ بَعْدَ الزَّوَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّهَارَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا، فَوُجُودُهُ بَعْدَهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ عَنْ طَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ بِشَكٍّ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَفَّى زَيْدًا حَقَّهُ وَهُوَ مِائَةٌ، فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِإِقْرَارِ خَصْمِهِ لَهُ بِمِائَةٍ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِهَا حَقٌّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ. [فَصْلٌ تَيَقَّنَ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ نَقَضَ طَهَارَتَهُ وَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثٍ وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا] (277) فَصْلٌ: وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ نَقَضَ طَهَارَتَهُ وَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثٍ، وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا، نَظَرَ؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ مُتَطَهِّرًا، فَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ نَقَضَ تِلْكَ الطَّهَارَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثٍ مَعَ بَقَاءِ تِلْكَ الطَّهَارَةِ، وَنَقْضُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ الثَّانِيَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ مُحْدِثًا، فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الطَّهَارَةِ ثُمَّ نَقَضَهَا، وَالطَّهَارَةُ بَعْدَ نَقْضِهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا جَمِيعُ نَوَاقِضِ الطَّهَارَةِ وَلَا تَنْتَقِضُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ: فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، الْوُضُوءُ. وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِهِمْ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ حُجَّةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 [بَابُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ] [مَسْأَلَةٌ الْمُوجِبُ لِلْغُسْلِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ] َ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ النَّحْوِيُّ: غَسْلُ الْجَنَابَةِ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْغُسْلُ: الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ. وَالْغِسْلُ: مَا غُسِلَ بِهِ الرَّأْسُ. . (278) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - (: وَالْمُوجِبُ لِلْغُسْلِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ) الْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ هَذِهِ السِّتَّةُ الْمُسَمَّاةُ: أَوَّلُهَا؛ خُرُوجُ الْمَنِيِّ، وَهُوَ الْمَاءُ الْغَلِيظُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ «أُمَّ سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ، أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ. فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: وَاسْتَحْيَيْت مِنْ ذَلِكَ. وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ، مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا، أَوْ سَبَقَ، يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ وَفِي لَفْظٍ أَنَّهَا قَالَتْ. هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ، إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَخُرُوجُ الْمَنِيِّ الدَّافِقِ بِشَهْوَةٍ، يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ فِي نَوْمٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ خَرَجَ شَبِيهُ الْمَنِيِّ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ لَا عَنْ شَهْوَةٍ] (279) فَصْلٌ: فَإِنْ خَرَجَ شَبِيهُ الْمَنِيِّ؛ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ لَا عَنْ شَهْوَةٍ، فَلَا غُسْلَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ. وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذَا رَأَتْ الْمَاءَ ". وَقَوْلِهِ: «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ؛ وَلِأَنَّهُ مَنِيٌّ خَارِجٌ فَأَوْجَبَ الْغُسْلَ، كَمَا لَوْ خَرَجَ حَالَ الْإِغْمَاءِ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ الْمَنِيَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ بِكَوْنِهِ أَبْيَضَ غَلِيظًا، وَقَالَ لِعَلِيٍّ «إذَا فَضَخْت الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ «إذَا رَأَيْت فَضْخَ الْمَاءِ فَاغْتَسِلْ» . وَالْفَضْخُ: خُرُوجُهُ عَلَى وَجْهِ الشَّدَّةِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: خُرُوجُهُ بِالْعَجَلَةِ. وَقَوْلُهُ: " إذَا " رَأَتْ الْمَاءَ ". يَعْنِي الِاحْتِلَامَ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ فِي الِاحْتِلَامِ بِالشَّهْوَةِ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مَنْسُوخٌ، عَلَى أَنَّ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ مَنِيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ الْمَنِيَّ بِصِفَةٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ فِي هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 [فَصْلٌ أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الشَّهْوَةِ فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ] (280) فَصْلٌ: فَإِنْ أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الشَّهْوَةِ فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ الْغُسْلِ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ، وَأُحِبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ خِلَافًا، قَالَ: لِأَنَّ الْجَنَابَةَ تُبَاعِدُ الْمَاءَ عَنْ مَحَلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَتَكُونُ الْجَنَابَةُ مَوْجُودَةً، فَيَجِبُ الْغُسْلُ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ تُرَاعَى فِيهِ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ حَصَلَتْ بِانْتِقَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَهَرَ وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ الِاغْتِسَالَ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَفَضْخِهِ، بِقَوْلِهِ: " إذَا رَأَتْ الْمَاءَ " وَ " إذَا فَضَخْت الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ " فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاشْتِقَاقِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى جُنُبًا لِمُجَانَبَتِهِ الْمَاءَ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِخُرُوجِهِ مِنْهُ أَوْ لِمُجَانَبَتِهِ الصَّلَاةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ غَيْرَهُمَا؛ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ، وَلَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ مَعَ الْخُرُوجِ، لَمْ يَلْزَمْهُ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ، فَإِنَّ الِاشْتِقَاقَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاطِّرَادُ، وَمُرَاعَاةُ الشَّهْوَةِ لِلْحُكْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِقْلَالُهَا بِهِ، فَإِنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ وَشَرْطَ الْحُكْمِ مُرَاعًى لَهُ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِلَمْسِ النِّسَاءِ، وَبِمَا إذَا وُجِدَتْ الشَّهْوَةُ هَاهُنَا مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ؛ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ لَا تَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعَ مُرَاعَاتِهَا فِيهِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ هَاهُنَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا انْتَقَلَ، لَزِمَ مِنْهُ الْخُرُوجُ. وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ، وَلِذَلِكَ يَتَأَخَّرُ الْغُسْلُ إلَى حِينِ خُرُوجِهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْغُسْلُ، سَوَاءٌ اغْتَسَلَ قَبْلَ خُرُوجِهِ أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ؛ لِأَنَّهُ مَنِيٌّ خَرَجَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ، فَأَوْجَبَ الْغُسْلَ، كَمَا لَوْ خَرَجَ حَالَ انْتِقَالِهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الرَّجُلِ يُجَامِعُ وَلَمْ يُنْزِلْ، فَيَغْتَسِلُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَنِيُّ: عَلَيْهِ الْغُسْلُ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُجَامِعُ فَاسْتَيْقَظَ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَلَمَّا مَشَى خَرَجَ مِنْهُ، الْمَنِيُّ، قَالَ: يَغْتَسِلُ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الَّذِي أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ مِنْ غَيْرِ مُقَارَنَةِ شَهْوَةٍ بَعْدَ الْبَوْلِ: فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ. رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبَوْلِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبَوْلِ غَيْرُ الْمَنِيِّ الْمُنْتَقِلِ خَرَجَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ لِمَرَضٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ ذَلِكَ الْمَنِيُّ الَّذِي انْتَقَلَ. وَوَجْهُ مَا قُلْنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْغُسْلِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ وَفَضْخِهِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمُجَامِعِ الَّذِي يَرَى الْمَاءَ بَعْدَ غُسْلِهِ، وَهَذَا مِثْلُهُ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ وَلَمْ يَخْرُجْ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَيْهِ بِظُهُورِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ انْتِقَالِ الْمَنِيِّ لِشَهْوَةٍ وَخُرُوجِهِ. [فَصْلٌ احْتَلَمَ أَوْ جَامَعَ فَأَمْنَى ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ] (281) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ احْتَلَمَ، أَوْ جَامَعَ، فَأَمْنَى، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ، فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا غُسْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 عَلَيْهِ، قَالَ الْخَلَّالُ: تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْوُضُوءُ، بَالَ أَوْ لَمْ يَبُلْ، فَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ شَهْوَةٍ وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: إنْ خَرَجَ بَعْدَ الْبَوْلِ، فَلَا غُسْلَ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَهُ اغْتَسَلَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ مَاءٍ خَرَجَ بِالدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ، فَأَوْجَبَ الْغُسْلَ كَالْأَوَّلِ وَبَعْدَ الْبَوْلِ خَرَجَ بِغَيْرِ دَفْقٍ وَشَهْوَةٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَقِيَّتَهُ لَمَا تَخَلَّفَ بَعْدَ الْبَوْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، عَلَيْهِ الْغُسْلُ بِكُلِّ حَالٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِخُرُوجِهِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ. رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ جَنَابَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ غُسْلَانِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يَصْلُحُ مُوجِبًا لِلْغُسْلِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا جَامَعَ فَلَمْ يُنْزِلْ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَنْزَلَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ بِالْإِنْزَالِ مَعَ وُجُوبِهِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. [فَصْلٌ رَأَى أَنَّهُ قَدْ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ مَنِيًّا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ] (282) فَصْلٌ: إذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ احْتَلَمَ، وَلَمْ يَجِدْ مَنِيًّا، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنْ إنْ مَشَى فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ، أَوْ خَرَجَ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَانَ انْتَقَلَ، وَتَخَلَّفَ خُرُوجُهُ إلَى مَا بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ. وَإِنْ انْتَبَهَ فَرَأَى مَنِيًّا، وَلَمْ يَذْكُرْ احْتِلَامًا، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا أَيْضًا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لَاحْتِلَامٍ نَسِيَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ بِالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرْفِ فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا، فَقَالَ: مَا أَرَانِي إلَّا قَدْ احْتَلَمْت، فَاغْتَسَلَ، وَغَسَلَ ثَوْبَهُ، وَصَلَّى. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا؟ قَالَ: يَغْتَسِلُ وَعَنْ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدْ احْتَلَمَ، وَلَا يَجِدُ بَلَلًا فَقَالَ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ. يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ تَرَى الْمَاءَ [فَصْلٌ انْتَبَهَ مِنْ النَّوْمِ فَوَجَدَ بَلَلًا لَا يَعْلَمُ هَلْ هُوَ مَنِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ] (283) فَصْلٌ: إذَا انْتَبَهَ مِنْ النَّوْمِ فَوَجَدَ بَلَلًا لَا يَعْلَمُ هَلْ هُوَ مَنِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا وَجَدَ بِلَّةً اغْتَسَلَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ إبْرِدَةٌ، أَوْ لَاعَبَ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ انْتَشَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ بِتَذَكُّرٍ أَوْ رُؤْيَةٍ، لَا غُسْلَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَذْيٌ، وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ، فَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَعَ الشَّكِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ لِخَبَرِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ احْتِلَامٌ. وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ حَتَّى يُوقِنَ الدَّافِقَ. قَالَ قَتَادَةُ: يَشُمُّهُ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛ وَلِأَنَّ الْيَقِينَ بَقَاءُ الطَّهَارَةِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَالْأَوْلَى الِاغْتِسَالُ؛ لِمُوَافَقَةِ الْخَبَرِ، وَإِزَالَةِ الشَّكِّ. [فَصْلٌ رَأَى فِي ثَوْبِهِ مَنِيًّا وَكَانَ مِمَّا لَا يَنَامُ فِيهِ غَيْرُهُ] (284) فَصْلٌ: فَإِنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ مَنِيًّا، وَكَانَ مِمَّا لَا يَنَامُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ اغْتَسَلَا حِينَ رَأَيَاهُ فِي ثَوْبِهِمَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إلَّا مِنْهُ، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْدَثِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ إلَّا أَنْ يَرَى أَمَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَهَا فَيُعِيدُ مِنْ أَدْنَى نَوْمَةٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الرَّائِي لَهُ غُلَامًا يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَنِيِّ مِنْهُ، كَابْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَهُوَ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ دَلِيلُهُ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُودِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ، فَيَتَعَيَّنُ، حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ. فَأَمَّا إنْ وَجَدَ الرَّجُلُ مَنِيًّا فِي ثَوْبٍ يَنَامُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْتَلِمُ، فَلَا غُسْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ مُفْرَدًا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ، فَوُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْثَمَ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جُنُبٌ يَقِينًا، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمَا، كَمَا لَوْ سَمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْتَ رِيحٍ، يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ، أَوْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ. [فَصْلٌ وَطِئَ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرَجِ فَدَبَّ مَاؤُهُ إلَى فَرْجِهَا ثُمَّ خَرَجَ] (285) فَصْلٌ: إذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ، فَدَبَّ مَاؤُهُ إلَى فَرْجِهَا ثُمَّ خَرَجَ، أَوْ وَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ، فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ فَرْجِهَا، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَغْتَسِلُ؛ لِأَنَّهُ مَنِيٌّ خَرَجَ فَأَشْبَهَ مَاءَهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنِيَّهَا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَنِيِّ. [مَسْأَلَةُ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ] (286) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ) يَعْنِي: تَغْيِيبَ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْغُسْلِ، سَوَاءٌ كَانَا مُخْتَتِنَيْنِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ أَصَابَ مَوْضِعُ الْخِتَانِ مِنْهُ مَوْضِعَ خِتَانِهَا أَوْ لَمْ يُصِبْهُ. وَلَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ فَلَا غُسْلَ بِالِاتِّفَاقِ وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، يَقُولُونَ: لَا غُسْلَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 مَنْ جَامَعَ فَأَكْسَلَ. يَعْنِي: لَمْ يُنْزِلْ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَتْ رُخْصَةً رَخَّصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُسْلِ، قَالَ سَهْلُ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ «أَنَّ الْمَاءَ مِنْ الْمَاءِ كَانَ رُخْصَةً أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إلَّا مِنْ الْمَاءِ الدَّافِقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقُمْت فَاسْتَأْذَنْت عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْت: يَا أُمَّاهُ، أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ شَيْءٍ، وَأَنَا أَسْتَحْيِيك، فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ كُنْت سَائِلًا عَنْهُ أُمَّك الَّتِي وَلَدَتْك، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّك. قُلْت: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جَعَلْته نَكَالًا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، وَجَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ مُسْلِمٌ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ " قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَرَادَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رِجْلَيْهَا وَشُعْبَتَيْ شَفْرَيْهَا. وَحَدِيثُهُمْ مَنْسُوخٌ بِدَلِيلِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [فَصْلُ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى كُلِّ وَاطِئٍ وَمَوْطُوءٍ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغُسْلِ] (287) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى كُلِّ وَاطِئٍ وَمَوْطُوءٍ، إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغُسْلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْفَرْجُ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا، مِنْ كُلِّ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا، نَائِمًا أَوْ يَقْظَانَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ وَالْبَهِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ. وَلَنَا أَنَّهُ إيلَاجٌ فِي فَرْجٍ، فَوَجَبَ بِهِ الْغُسْلُ، كَوَطْءِ الْآدَمِيَّةِ فِي حَيَاتِهَا، وَوَطْءُ الْآدَمِيَّةِ الْمَيِّتَةِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِوَطْءِ الْعَجُوزِ وَالشَّوْهَاءِ. [فَصْلٌ أَوْلَجَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ] (288) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْلَجَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ، أَوْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي السُّرَّةِ، وَلَمْ يُنْزِلْ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ انْقَطَعَتْ الْحَشَفَةُ، فَأَوْلَجَ الْبَاقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ، وَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ، وَجَبَ الْغُسْلُ، وَتَعَلَّقَتْ، بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ؛ مِنْ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ [فَصْلٌ أَوْلَجَ فِي قُبُلِ خُنْثَى مُشْكِلٍ] (289) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْلَجَ فِي قُبُلِ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أَوْ أَوْلَجَ الْخُنْثَى ذَكَرَهُ فِي فَرْجٍ، أَوْ وَطِئَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي قُبُلِهِ، فَلَا غُسْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ خِلْقَةً زَائِدَةً. فَإِنْ أَنْزَلَ الْوَاطِئُ أَوْ أَنْزَلَ الْمَوْطُوءُ مِنْ قُبُلِهِ، فَعَلَى مَنْ أَنْزَلَ الْغُسْلُ. وَيَثْبُتُ لِمَنْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ حُكْمُ الرِّجَالِ، وَلِمَنْ أَنْزَلَ مِنْ قُبُلِهِ حُكْمُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ، أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالذُّكُورِيَّةِ بِالْإِنْزَالِ مِنْ ذَكَرِهِ، وَلَا بِالْأُنُوثِيَّةِ بِالْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ، وَلَا بِالْبُلُوغِ بِهَذَا. وَلَنَا أَنَّهُ أَمْرٌ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، كَالْبَوْلِ مِنْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْ قُبُلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ لِشَهْوَةٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ ". وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ تَثْبُتُ لَهُ الذُّكُورِيَّةُ أَوْ الْأُنُوثِيَّةُ. [فَصْلٌ كَانَ الْوَاطِئُ أَوْ الْمَوْطُوءُ صَغِيرًا فَهَلْ عَلَيْهِمَا غُسْلٌ] (290) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ أَوْ الْمَوْطُوءُ صَغِيرًا، فَقَالَ أَحْمَدُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ. وَقَالَ: إذَا أَتَى عَلَى الصَّبِيَّةِ تِسْعُ سِنِينَ، وَمِثْلُهَا يُوطَأُ، وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ. وَسُئِلَ عَنْ الْغُلَامِ يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ، فَجَامَعَ الْمَرْأَةَ، يَكُونُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا الْغُسْلُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ: تَرَى عَائِشَةَ حِينَ كَانَ يَطَؤُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ تَغْتَسِلُ، وَيُرْوَى عَنْهَا: " إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ ". وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَأْثَمُ، وَلَا هِيَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ. وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ الطَّهَارَةُ لَهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحَائِضَ. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِتَصْرِيحِهِ بِالْوُجُوبِ، وَذَمِّهِ قَوْلَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 هُوَ قَوْلُ سَوْءٍ. وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ عَائِشَةَ وَرِوَايَتِهَا لِلْحَدِيثِ الْعَامِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ وَلِأَنَّهَا أَجَابَتْ بِفِعْلِهَا وَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهَا: فَعَلْته أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاغْتَسَلْنَا. فَكَيْفَ تَكُونُ خَارِجَةً مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعْنَى وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي الصَّغِيرِ التَّأْثِيمُ بِتَرْكِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَالطَّوَافِ، وَإِبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَاللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْبَالِغُ بِتَأْخِيرِهِ فِي مَوْضِعٍ يَتَأَخَّرُ الْوَاجِبُ بِتَرْكِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، لَمْ يَأْثَمْ، وَالصَّبِيُّ لَا صَلَاةَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَأْثَمْ بِالتَّأْخِيرِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّهِ شَرْطًا، كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، وَإِذَا بَلَغَ كَانَ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي حَقِّهِ بَاقِيًا، كَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ الْغُسْلِ لِلْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ] (291) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، اغْتَسَلَ قَبْلَ إسْلَامِهِ أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ، وُجِدَ مِنْهُ فِي زَمَنِ كُفْرِهِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ جَنَابَةٌ زَمَنَ كُفْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ إذَا أَسْلَمَ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ اغْتَسَلَ فِي زَمَنِ كُفْرِهِ أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ الْغُسْلَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَالْجَمَّ الْغَفِيرَ أَسْلَمُوا، فَلَوْ أُمِرَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ بِالْغُسْلِ، لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَوْ ظَاهِرًا؛ وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ: اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» . وَلَوْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ. وَلَنَا: مَا رَوَى «قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قِلَّةِ النَّقْلِ، فَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْجَنَابَةِ فِي شِرْكِهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَالِغَ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا، ثُمَّ إنَّ الْخَبَرَ إذَا صَحَّ كَانَ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَرْطٍ آخَرَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، حِينَ أَرَادَا الْإِسْلَامَ، سَأَلَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَأَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَا: نَغْتَسِلُ، وَنَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَفِيضًا؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ جَنَابَةٍ تَلْحَقُهُ، وَنَجَاسَةٍ تُصِيبُهُ، وَهُوَ لَا يَغْتَسِلُ، وَلَا يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ إذَا اغْتَسَلَ، فَأُقِيمَتْ مَظِنَّةُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ، كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ، وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مَقَامَ الْإِنْزَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [فَصْلٌ أَجْنَبَ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ] (292) فَصْلٌ: فَإِنْ أَجْنَبَ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ، سَوَاءٌ اغْتَسَلَ فِي كُفْرِهِ أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ غُسْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْغُسْلُ فِي الْحَالَيْنِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّكْلِيفِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْغُسْلِ، كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ، وَاغْتِسَالُهُ فِي كُفْرِهِ لَا يَرْفَعُ حَدَثَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ فِي حَالِ كُفْرِهِ كَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْفَعُ حَدَثَهُ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ نِيَّةً مِنْ الصَّبِيِّ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ كَافِرٍ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ - أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْبَالِغِينَ الْمُتَزَوِّجِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمَظِنَّةَ أُقِيمَتْ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْحَدَثِ، فَسَقَطَ حُكْمُ الْحَدَثِ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ. [فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ الِاغْتِسَالِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ] (293) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ الْمُسْلِمُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ قَيْسٍ. وَيُسْتَحَبُّ إزَالَةُ شَعْرِهِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا أَسْلَمَ، فَقَالَ: احْلِقْ. وَقَالَ لِآخَرَ مَعَهُ: أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ. [مَسْأَلَةٌ الطُّهْرُ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ] (294) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالطُّهْرُ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هَذَا تَجَوُّزٌ؛ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ فِي التَّحْقِيقِ هُوَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَدَثُ، وَانْقِطَاعُهُ شَرْطُ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَصِحَّتِهِ، فَسَمَّاهُ مُوجِبًا لِذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: انْقِطَاعُ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ. وَالْمُبْطِلُ إنَّمَا هُوَ الْحَدَثُ الْخَارِجُ، لَكِنْ عُفِيَ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ حِينَئِذٍ وَأُضِيفَ الْحُكْمُ إلَى الِانْقِطَاعِ؛ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ. وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي أَحَادِيثَ، كَثِيرَةٍ «، فَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ، وَأَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَسَهْلَةِ بِنْتِ سُهَيْلٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَغَيْرِهِنَّ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] يَعْنِي: إذَا اغْتَسَلْنَ. مُنِعَ الزَّوْجُ وَطْأَهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا. وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ يَنْصَرِفُ إلَى غِذَاءِ الْوَلَدِ، فَحِينَ خَرَجَ الْوَلَدُ خَرَجَ الدَّمُ لِعَدَمِ مَصْرِفِهِ، وَسُمَيٌّ نِفَاسًا [فَصْلُ الْوِلَادَةِ إذَا عَرِيَتْ عَنْ دَمٍ] (295) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوِلَادَةُ إذَا عَرِيَتْ عَنْ دَمٍ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا الْغُسْلُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِلنِّفَاسِ الْمُوجِبِ، فَقَامَتْ مَقَامَهُ فِي الْإِيجَابِ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ؛ وَلِأَنَّهَا يُسْتَبْرَأُ بِهَا الرَّحِمُ أَشْبَهَتْ الْحَيْضَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالْغُسْلِ هَاهُنَا، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ وَلَا مَنِيٍّ؛ وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْإِيجَابِ بِهَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَظِنَّةٌ. قُلْنَا: الْمَظَانُّ إنَّمَا يُعْلَمُ جَعْلُهَا مَظِنَّةً بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَا نَصَّ فِي هَذَا وَلَا إجْمَاعَ، وَالْقِيَاسُ الْآخَرُ مُجَرَّدُ طَرْدٍ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، ثُمَّ قَدْ اخْتَلَفَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، فَلَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ عَلَى الْحَائِضِ جَنَابَةٌ] (296) فَصْلٌ: إذَا كَانَ عَلَى الْحَائِضِ جَنَابَةٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ حَتَّى يَنْقَطِعَ حَيْضُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ اغْتَسَلَتْ لِلْجَنَابَةِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا، صَحَّ غُسْلُهَا، وَزَالَ حُكْمُ الْجَنَابَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: تَزُولُ الْجَنَابَةَ، وَالْحَيْضُ لَا يَزُولُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: لَا تَغْتَسِلُ. إلَّا عَطَاءً، فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَيْضُ أَكْبَرُ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: تَغْتَسِلُ. وَهَذَا لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ لَا يَمْنَعُ ارْتِفَاعَ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ الْمُحْدِثُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ. [فَصْلٌ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ] (297) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ الْكَافِرَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَغْتَسِلَ لَمَّا غَسَّلَ أَبَاهُ.» وَلَنَا قَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الرَّازِيّ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ» ؛ وَلِأَنَّهُ غُسْلُ آدَمِيٍّ فَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلَ كَغُسْلِ الْحَيِّ، وَحَدِيثُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَيْسَ فِي هَذَا حَدِيثٌ يَثْبُتُ، وَلِذَلِكَ لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ حَمَلُهُ. وَقَدْ ذُكِرَ لِعَائِشَةِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَمَنْ حَمَلِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ " قَالَتْ: وَهَلْ هِيَ إلَّا أَعْوَادٌ حَمَلَهَا، ذَكَرَهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ حَمْلِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ غَسَّلَ أَبَا طَالِبٍ، إنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذْهَبْ فَوَارِهِ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي. قَالَ: فَأَتَيْته فَأَخْبَرْته، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْت.» وَقَدْ قِيلَ: يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْكَافِرِ الْحَيِّ. وَلَا نَعْلَمُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً تُوجِبُهُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ. [فَصْلٌ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ] (298) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ مِنْ الْإِغْمَاءِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ فِي نَفَسِهِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْغُسْلِ، وَوُجُودُ الْإِنْزَالِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، فَإِنْ تَيَقَّنَ مِنْهُمَا الْإِنْزَالَ فَعَلَيْهِمَا الْغُسْلُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ احْتِلَامٍ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْمُوجِبَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ مِنْ جَمِيعِ مَا نَفَيْنَا وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْهُ؛ لِوُجُودِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةُ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالْمُشْرِكِ إذَا غَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الْمَاءِ] (299) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ وَالْمُشْرِكُ إذَا غَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَهُوَ طَاهِرٌ) أَمَّا طَهَارَةُ الْمَاءِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَاسَةٌ، فَإِنَّ أَجْسَامَهُمْ طَاهِرَةٌ، وَهَذِهِ الْأَحْدَاثُ لَا تَقْتَضِي تَنْجِيسَهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَرَقَ الْجُنُبِ طَاهِرٌ، ثَبَتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَرَقُ الْحَائِضِ طَاهِرٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ. وَقَدْ رَوَى «أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ: فَانْخَنَسْت مِنْهُ فَاغْتَسَلْت، ثُمَّ جِئْت؛ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ إلَيْهِ بَعْضُ نِسَائِهِ قَصْعَةً لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا. فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: إنِّي غَمَسْت يَدِي فِيهَا وَأَنَا جُنُبٌ. فَقَالَ: الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ وَقَالَ لِعَائِشَةَ: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَقَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، قَالَ إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ مِنْ سُؤْرِ عَائِشَةَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا. وَتَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَيَأْخُذُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا. وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ حَائِضٌ، وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ «. وَأَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودِيًّا دَعَاهُ إلَى خُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْنًى فِي قَلْبِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي نَجَاسَةِ ظَاهِرِهِ كَسَائِرِ مَا فِي الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ. وَيَتَخَرَّجُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ، وَمَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ، كَمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ فِي آنِيَتِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. [فَصْلٌ الْحَائِضُ وَالْكَافِرُ إذَا غَمَسَا أَيْدِيَهُمَا فِي الْمَاءِ] (300) فَصْلٌ: وَأَمَّا طُهُورِيَّةُ الْمَاءِ، فَإِنَّ الْحَائِضَ وَالْكَافِرَ لَا يُؤَثِّرُ غَمْسُهُمَا يَدَيْهِمَا فِي الْمَاءِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ حَدَثَهُمَا لَا يَرْتَفِعُ. وَأَمَّا الْجُنُبُ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِغَمْسِ يَدِهِ فِي الْمَاءِ رَفْعَ الْحَدَثِ مِنْهَا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طُهُورِيَّتِهِ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ: غَمَسْت يَدِي فِي الْمَاءِ وَأَنَا جُنُبٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ ". وَلِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَأَشْبَهَ غَمْسَ الْحَائِضِ وَإِنْ نَوَى رَفْعَ حَدَثِهَا، فَحُكْمُ الْمَاءِ حُكْمُ مَا لَوْ اغْتَسَلَ الْجُنُبُ فِيهِ لِلْجَنَابَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، ثُمَّ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ لِيَغْتَرِفَ بِهَا، صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا. وَالصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا نَوَى الِاغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الِاغْتِرَافِ مَنَعَ قَصْدَ غَسْلِهَا، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُتَوَضِّئِ إذَا اغْتَرَفَ مِنْ الْإِنَاءِ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَإِنْ انْقَطَعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ، فَهِيَ كَالْجُنُبِ، فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ، فِي الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ: إذَا كَانَا نَظِيفَيْنِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كُنْت لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، ثُمَّ حُدِّثْت عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَكَأَنِّي تَهَيَّبْته. وَسُئِلَ عَنْ جُنُبٍ وُضِعَ لَهُ مَاءٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ يَنْظُرُ حَرَّهُ مِنْ بَرْدِهِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ إصْبَعًا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ أَجْمَعَ فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا مَا يَصُبُّ بِهِ عَلَى يَدِهِ، أَتَرَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِفَمِهِ؟ قَالَ: لَا، يَدُهُ وَفَمُهُ وَاحِدٌ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الْمُجَرَّدَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ أَدْخَلَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ لَمْ يَفْسُدْ، وَإِنْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فَسَدَ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ نَجِسٌ، وَعُفِيَ عَنْ يَدِهِ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ. وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْحَائِضِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ لِلصَّلَاةِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِسُؤْرِهَا بَأْسًا؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى طَهَارَةِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِيمَا إذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ، فَاسْتَوَيَا فِي الْجَنَابَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ نَقُولَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ يُرَادُ بِهَا الِاغْتِرَافُ وَقَصْدُهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ جَعْلِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الرِّجْلِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُغْتَرَفُ بِهَا، فَكَانَ غَمْسُهَا بَعْدَ إرَادَةِ الْغَسْلِ اسْتِعْمَالًا لِلْمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ لَا يَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ] (301) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ إذَا خَلَتْ بِالْمَاءِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي وُضُوءِ الرَّجُلِ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ إذَا خَلَتْ بِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ وَالْحَسَنِ وَغُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ كَرِهَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا إذَا كَانَ جَمِيعًا فَلَا بَأْسَ. وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ وَضُوءِ مَيْمُونَةَ وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: اغْتَسَلْت مِنْ جَفْنَةٍ، فَفَضَلَتْ فِيهَا فَضْلَةٌ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْتَسِلُ، فَقُلْت: إنِّي قَدْ اغْتَسَلْت مِنْهُ، فَقَالَ: الْمَاءُ لَيْسَ عَلَى جَنَابَةٍ» وَلِأَنَّهُ مَاءٌ طَهُورٌ، جَازَ لِلْمَرْأَةِ الْوُضُوءُ بِهِ، فَجَازَ لِلرَّجُلِ كَفَضْلِ الرَّجُلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ، أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: خَبَرُ الْأَقْرَعِ لَا يَصِحُّ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا خَبَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ، وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى التَّضْعِيفِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ خَفِيٍّ عَلَى مَنْ ضَعَّفَهُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ: إذَا خَلَتْ بِالْمَاءِ فَلَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ مَيْمُونَةَ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: أَنْفِيهِ؛ لِحَالِ سِمَاكٍ، لَيْسَ أَحَدٌ يَرْوِيهِ غَيْرُهُ. وَقَالَ: هَذَا فِيهِ اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ، بَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَرْفَعُهُ. وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ بِهِ، فَيُجْعَلُ عَلَيْهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ. (302) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِ الْخَلْوَةِ بِهِ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ هِيَ أَنْ لَا يَحْضُرَهَا مَنْ لَا تَحْصُلُ الْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا عَاقِلًا؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الْخَلْوَتَيْنِ، فَنَافَاهَا حُضُورُ أَحَدِ هَؤُلَاءِ كَالْأُخْرَى. وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ أَنْ لَا يُشَاهِدَهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَإِنْ شَاهَدَهَا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ رَجُلٌ كَافِرٌ، لَمْ تَخْرُجْ بِحُضُورِهِمْ عَنْ الْخَلْوَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ اسْتِعْمَالُهَا لِلْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةِ الرَّجُلِ فِي اسْتِعْمَالِهِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا خَلَتْ بِهِ فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَغْتَسِلَ هُوَ بِهِ. وَإِذَا شَرَعَا فِيهِ جَمِيعًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ: اغْتَسِلَا جَمِيعًا؛ هُوَ هَكَذَا، وَأَنْتِ هَكَذَا - قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فِي إشَارَتِهِ: كَانَ الْإِنَاءُ بَيْنَهُمَا - وَإِذَا خَلَتْ بِهِ فَلَا تَقْرَبَنَّهُ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَدْ «كَانَتْ عَائِشَةُ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، يَغْتَرِفَانِ مِنْهُ جَمِيعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَيُخَصُّ بِهَذَا عُمُومُ النَّهْيِ وَبَقِينَا فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْعُمُومِ. (303) فَصْلٌ: فَإِنْ خَلَتْ بِهِ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهَا، أَوْ فِي تَجْدِيدِ طَهَارَةٍ، أَوْ اسْتِنْجَاءٍ، أَوْ غَسْلِ نَجَاسَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَالثَّانِي لَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى طَهَارَةِ الْحَدَثِ الْكَامِلَةِ. وَإِنْ خَلَتْ بِهِ ذِمِّيَّةٌ فِي اغْتِسَالِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا. هُوَ كَخَلْوَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمُسْلِمَةِ وَأَبْعَدُ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِغُسْلِهَا حُكْمٌ، شَرْعِيٌّ، وَهُوَ حِلُّ وَطْئِهَا إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَأَمْرُهَا بِهِ إذَا كَانَ مِنْ جَنَابَةٍ؛ وَالثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهَا لَا تَصِحُّ، فَهِيَ كَتَبَرُّدِهَا. وَإِنْ خَلَتْ الْمَرْأَةُ بِالْمَاءِ فِي تَبَرُّدِهَا، أَوْ تَنْظِيفِهَا، أَوْ غَسْلِ ثَوْبِهَا مِنْ الْوَسَخِ، لَمْ يُؤَثِّرْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 (304) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ خَلْوَتُهَا فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَمَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ لَا تُؤَثِّرُ خَلْوَتُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ، فَوَهْمُ ذَلِكَ أَوْلَى. (305) فَصْلٌ: وَمَنْعُ الرَّجُلِ مِنْ اسْتِعْمَالِ فَضْلَةِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ تَعَبُّدِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلِذَلِكَ يُبَاحُ لِامْرَأَةٍ سِوَاهَا التَّطَهُّرُ بِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ، وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ اخْتَصَّ الرَّجُلَ وَلَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَحَلِّ النَّهْيِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ لَا يَرْفَعُ حَدَثَهُ، فَلَمْ يُزِلْ النَّجَسَ، كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ. وَالثَّانِي يَجُوزُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يُطَهِّرُ الْمَرْأَةَ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ، وَيُزِيلُهَا مِنْ الْمَحَالِّ كُلِّهَا إذَا فَعَلَتْهُ، فَيُزِيلُهَا إذَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ كَسَائِرِ الْمِيَاهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِمُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ، فَيُزِيلُهَا إذَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ، كَسَائِرِ الْمِيَاهِ، وَالْحَدِيثُ لَا نَعْقِلُ عِلَّتَهُ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ لَفْظُهُ، وَنَحْوُ هَذَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 [بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ] [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ] ِ (306) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (وَإِذَا أَجْنَبَ غَسَلَ مَا بِهِ مِنْ أَذًى، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، يَرْوِي أُصُولَ الشَّعْرِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ) . قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَال جَنَبَ الرَّجُلُ وَأَجْنَبَ وَتَجَنَّبَ وَاجْتَنَبَ، مِنْ الْجَنَابَةِ. وَلِغُسْلِ الْجَنَابَةِ صِفَتَانِ: صِفَةُ إجْزَاءٍ، وَصِفَةُ كَمَالٍ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا صِفَةُ الْكَمَالِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْكَامِلُ يَأْتِي فِيهِ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ النِّيَّةِ، وَالتَّسْمِيَةِ، وَغَسْلِ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَغَسْلِ مَا بِهِ مِنْ أَذًى، وَالْوُضُوءِ، وَيُحْثِي عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا يَرْوِي بِهَا أُصُولَ الشَّعْرِ، وَيُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، وَيَبْدَأُ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَيَدْلُكُ بَدَنَهُ بِيَدِهِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعِ غُسْلِهِ فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ أُصُولَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِمَاءٍ قَبْلَ إفَاضَتِهِ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُخَلِّلُ شَعْرَهُ بِيَدِهِ، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: «وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضُوءَ الْجَنَابَةِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ أَوْ الْحَائِطَ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، فَأَتَيْته بِالْمِنْدِيلِ، فَلَمْ يُرِدْهَا، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ الْخِصَالِ الْمُسَمَّاةِ، وَأَمَّا الْبِدَايَةُ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوِ الْحِلَابِ، فَأَخَذَ بِكَفَّيْهِ، ثُمَّ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ الْغُسْلِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَغْسِلَهُمَا بَعْدَ الْوُضُوءِ؛ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِيهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ اغْتِسَالِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: غَسْلُ رِجْلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ وَبَعْدَهُ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ. وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْغُسْلِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَصْلُ الْغَسْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ غَسَلَ مَرَّةً وَعَمَّ بِالْمَاءِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ] (307) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ غَسَلَ مَرَّةً، وَعَمَّ بِالْمَاءِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، أَجْزَأَهُ، بَعْدَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ وَيَنْوِيَ بِهِ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ، وَكَانَ تَارِكًا لِلِاخْتِيَارِ) هَذَا الْمَذْكُورُ صِفَةُ الْإِجْزَاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: " وَكَانَ تَارِكًا لِلِاخْتِيَارِ ". يَعْنِي إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا أَجْزَأَهُ مَعَ تَرْكِهِ لِلْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى. وَقَوْلُهُ: " وَيَنْوِيَ بِهِ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ ". يَعْنِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ عَنْهُمَا إذَا نَوَاهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ عَنْ الْوُضُوءِ، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْحَدَثَ وُجِدَا مِنْهُ، فَوَجَبَتْ لَهُمَا الطَّهَارَتَانِ، كَمَا لَوْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . جَعَلَ الْغُسْلَ غَايَةً لِلْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ يَجِبُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَتَدْخُلُ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى، كَالْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ وَعَمَّ جَمِيعَ جَسَدِهِ، فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ عَلَى الْجُنُبِ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ، دُونَ الْوُضُوءِ، بِقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] . وَهُوَ إجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ، تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى الْغُسْلِ، وَأَهْذَبُ فِيهِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْوُضُوءَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ الْغُسْلِ. فَإِنْ نَوَاهُمَا ثُمَّ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ، أَتَمَّ غُسْلَهُ، وَيَتَوَضَّأُ» . وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ. وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَأْنِفُ الْغُسْلَ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي الْغُسْلَ، فَلَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهُ فِيهِ، كَغَيْرِ الْحَدَثِ. [فَصْلٌ إمْرَارُ يَدِهِ عَلَى جَسَدِهِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ] (308) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْرَارُ يَدِهِ عَلَى جَسَدِهِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، إذَا تَيَقَّنَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ مَالِكٌ: إمْرَارُ يَدِهِ إلَى حَيْثُ تَنَالُ يَدُهُ وَاجِبٌ. وَنَحْوُهُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، فِي الْجُنُبِ يُفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ، قَالَ: لَا، بَلْ يَغْتَسِلُ غُسْلَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَلَا يُقَالُ: اغْتَسَلَ إلَّا لِمَنْ دَلَكَ نَفْسَهُ؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ، فَوَجَبَ إمْرَارُ الْيَدِ فِيهَا، كَالتَّيَمُّمِ. وَلَنَا مَا رَوَتْ «أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ إمْرَارُ الْيَدِ، كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الْغُسْلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: غَسَلَ الْإِنَاءَ وَإِنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ، وَيُسَمَّى السَّيْلُ الْكَبِيرُ غَاسُولًا، وَالتَّيَمُّمُ أُمِرْنَا فِيهِ بِالْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالتُّرَابِ، وَيَتَعَذَّرُ فِي الْغَالِبِ إمْرَارُ التُّرَابِ إلَّا بِالْيَدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ النِّيَّةُ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلَا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَهُمَا وَاجِبَانِ عِنْدَكُمْ. قُلْنَا: أَمَّا النِّيَّةُ فَإِنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَلَا يَكُونُ الْغُسْلُ لِلْجَنَابَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَقَدْ دَخَلَا فِي عُمُومِهِ؛ لِقَوْلِهِ: " ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاءَ ". وَالْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْ جُمْلَتِهَا. [فَصْلٌ حُكْمُ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ] فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ وَلَا الْمُوَالَاةُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إذَا قُلْنَا: الْغُسْلُ يُجْزِئُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ دَخَلَتْ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، فَسَقَطَ حُكْمُ الصُّغْرَى، كَالْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ، قَالَ حَنْبَلٌ: سَأَلْته عَنْ جُنُبٍ اغْتَسَلَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ ضَيِّقٌ؟ قَالَ: يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ. قُلْت: فَإِنْ جَفَّ غُسْلُهُ؟ قَالَ: يَغْسِلُهُ، لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ، الْوُضُوءُ مَحْدُودٌ، وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] قُلْت: فَإِنْ صَلَّى ثُمَّ ذَكَرَ؟ قَالَ: يَغْسِلُ مَوْضِعَهُ، ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ. وَأَكْثُرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ تَفْرِيقَ الْغُسْلِ مُبْطِلًا لَهُ، إلَّا أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: مَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَأَرَى عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْغُسْلَ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ لَا يَجِبُ فِيهِ التَّرْتِيبُ، فَلَا تَجِبُ الْمُوَالَاةُ، كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ، فَلَوْ اغْتَسَلَ إلَّا أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ فِيهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ بَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْآمِدِيُّ، فِيمَنْ غَسَلَ جَمِيعَ بَدَنِهِ إلَّا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ: يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِانْفِرَادِهَا بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الرِّجْلَيْنِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْحَدَثَيْنِ فِيهِمَا. [فَصْلٌ وَاجِبَاتُ الْغُسْلِ شَيْئَانِ] (310) فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وَاجِبَاتُ الْغُسْلِ شَيْئَيْنِ لَا غَيْرُ؛ النِّيَّةُ، وَغَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا مَضَى، بَلْ حُكْمُهَا فِي الْجَنَابَةِ أَخَفُّ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا تَنَاوَلَ بِصَرِيحِهِ الْوُضُوءَ لَا غَيْرُ. [فَصْلٌ إذَا اجْتَمَعَ شَيْئَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ] (311) فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَ شَيْئَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ، كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، أَوْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَالْإِنْزَالِ، وَنَوَاهُمَا بِطَهَارَتِهِ، أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا. قَالَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، فِي الْحَائِضِ الْجُنُبِ، يَغْتَسِلُ غُسْلَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجِمَاعِ إلَّا غُسْلًا وَاحِدًا» ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ، إذْ هُوَ لَازِمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 لِلْإِنْزَالِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ؛ وَلِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ، فَأَجْزَأَ الْغُسْلُ الْوَاحِدُ عَنْهُمَا، كَالْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ إنْ اجْتَمَعَتْ أَحْدَاثٌ تُوجِبُ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى كَالنَّوْمِ، وَخُرُوجِ النَّجَاسَةِ، وَاللَّمْسِ، فَنَوَاهَا بِطَهَارَتِهِ أَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوْ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَمِيعِ. وَإِنْ نَوَى أَحَدَهَا، أَوْ نَوَتْ الْمَرْأَةُ الْحَيْضَ دُونَ الْجَنَابَةِ، فَهَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ الْآخَرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا تُجْزِئُهُ عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ صَحِيحٌ نَوَى بِهِ الْفَرْضَ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي يُجْزِئُهُ عَمَّا نَوَاهُ دُونَ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ". وَكَذَلِكَ لَوْ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ، هَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ الْجَنَابَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ مِنْ جَسَدِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ] (312) فَصْلٌ: إذَا بَقِيَتْ لُمْعَةٌ مِنْ جَسَدِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ، فَرَأَى لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَدَلَكَهَا بِشَعْرِهِ» . قَالَ: نَعَمْ، آخُذُ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي اغْتَسَلْت مِنْ الْجَنَابَةِ، وَصَلَّيْت، ثُمَّ أَضْحَيْت فَرَأَيْت قَدْرَ مَوْضِعِ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْت مَسَحْت عَلَيْهِ بِيَدِك أَجْزَأَك» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا. قَالَ مُهَنَّا: وَذَكَرَ لِي أَحْمَدُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى عَلَى رَجُلٍ مَوْضِعًا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْصِرَ شَعْرَهُ عَلَيْهِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: يَأْخُذُ مَاءً جَدِيدًا، فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ بِعَصْرِ شَعْرِهِ. وَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَصَرَ لِمَّتَهُ عَلَى لُمْعَةٍ كَانَتْ فِي جَسَدِهِ. قَالَ: ذَاكَ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ إذَا كَانَ مِنْ بَلَلِ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ، وَجَرَى مَاؤُهُ عَلَى تِلْكَ اللُّمْعَةِ؛ لِأَنَّ غَسْلَهَا بِذَلِكَ الْبَلَلِ كَغَسْلِهَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يُتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيُغْتَسَلُ بِالصَّاعِ] (313) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ) . لَيْسَ فِي حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِالْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّاعِ فِي الْغُسْلِ خِلَافٌ نَعْلَمُهُ، وَقَدْ رَوَى سَفِينَةُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُهُ الصَّاعُ مِنْ الْمَاءِ مِنْ الْجَنَابَةِ؛ وَيُوَضِّئُهُ الْمُدُّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا جَابِرًا عَنْ الْغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيك صَاعٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي. فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى شَعْرًا مِنْك، وَخَيْرٌ مِنْك. يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ، وَالصَّاعُ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلْثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، وَالْمُدُّ: رُبُعُ ذَلِكَ، وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ - وَهُوَ رِطْلَانِ - وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» . وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ طَعَامٍ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ فِي أَنَّ الْفَرَقَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ الصَّاعِ؟ فَقَالُوا: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلْثٌ. فَطَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ فَقَالُوا: غَدًا. فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ سَبْعُونَ شَيْخًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ آخِذٌ صَاعًا تَحْتَ رِدَائِهِ، فَقَالَ: صَاعِي وَرِثْته عَنْ أَبِي، وَوَرِثَهُ أَبِي عَنْ جَدِّي، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ قَوْلِهِ. وَهَذَا إسْنَادٌ مُتَوَاتِرٌ يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» . وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا تَغْيِيرُهُ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا انْفَرَدَ بِهِ مُوسَى بْنُ نَصْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. قَالَهُ. الدَّارَقُطْنِيّ (314) فَصْلٌ: وَالرِّطْلُ الْعِرَاقِيُّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ تِسْعُونَ مِثْقَالًا. وَالْمِثْقَالُ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ. هَكَذَا كَانَ قَدِيمًا، ثُمَّ إنَّهُمْ زَادُوا فِيهِ مِثْقَالًا، فَجَعَلُوهُ إحْدَى وَتِسْعِينَ مِثْقَالًا وَكَمُلَ بِهِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَقَصَدُوا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إزَالَةَ كَسْرِ الدِّرْهَمِ. وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ تَقْدِيرِ الْعُلَمَاءِ الْمُدَّ بِهِ، فَيَكُونُ الْمُدُّ حِينَئِذٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَإِحْدَى وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ، الَّذِي وَزْنُهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثَلَاثَةُ أَوَاقِيِ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ. وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ فَيَكُنْ رِطْلًا وَأُوقِيَّةً وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ، وَإِنْ شِئْت قُلْت: هُوَ رِطْلٌ وَسُبُعُ رِطْلٍ [مَسْأَلَةٌ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلُ بِدُونِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ] (315) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ أَسْبَغَ بِدُونِهِمَا أَجْزَأَهُ) مَعْنَى الْإِسْبَاغِ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْغُسْلُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ: قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ لَيْسَ الْمَسْحَ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْسِلَ غُسْلًا وَإِنْ كَانَ مُدًّا أَوْ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ، أَجْزَأَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قِيلَ: لَا يُجْزِئُ دُونَ الصَّاعِ فِي الْغُسْلِ وَالْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُجْزِئُ مِنْ الْوُضُوءِ مُدٌّ، وَمِنْ الْجَنَابَةِ صَاعٌ» . وَالتَّقْدِيرُ بِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِدُونِهِ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغُسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ. وَحَدِيثُهُمْ إنَّمَا دَلَّ بِمَفْهُومِهِ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ، ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ سِوَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ، وَهَاهُنَا إنَّمَا خَصَّهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْغَالِبِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَنْطُوقٌ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ اتِّفَاقًا. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ الْقَعْنَبِيِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَرَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَسْأَلُهُ عَمَّا يَكْفِي الْإِنْسَانَ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: إنَّ لِي تَوْرًا يَسَعُ مُدَّيْنِ مِنْ مَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَغْتَسِلُ بِهِ، وَيَكْفِينِي، وَيَفْضُلُ مِنْهُ فَضْلٌ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَنْثِرُ وَأَتَمَضْمَضُ بِمُدَّيْنِ مِنْ مَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَبِمَ تَأْمُرُنِي إنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَلْعَبُ بِك؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَإِنْ لَمْ يَكْفِنِي، فَإِنِّي رَجُلٌ كَمَا تَرَى عَظِيمٌ. فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ. فَقَالَ: ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ قَلِيلٌ. فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ فَصَاعٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ: إنَّ لِي رَكْوَةً أَوْ قَدَحًا مَا يَسَعُ إلَّا نِصْفَ الْمُدِّ مَاءً أَوْ نَحْوَهُ، ثُمَّ أَبُولُ ثُمَّ أَتَوَضَّأُ وَأُفْضِلُ مِنْهُ فَضْلًا. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي سَمِعْت مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: وَأَنَا يَكْفِينِي مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهَكَذَا سَمِعْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إنِّي لَأَتَوَضَّأُ مِنْ كُوزِ الْحَبِّ مَرَّتَيْنِ. [فَصْلٌ زَادَ عَلَى الْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّاعِ فِي الْغُسْلِ] (316) فَصْلٌ: وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ، وَالصَّاعِ فِي الْغُسْلِ، جَازَ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. وَيُكْرَهُ الْإِسْرَافُ فِي الْمَاءِ، وَالزِّيَادَةُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟ . فَقَالَ أَفِي الْوُضُوءِ إسْرَافٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْت عَلَى نَهْرٍ جَارٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا، يُقَالُ لَهُ وَلْهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» . وَكَانَ يُقَالُ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ وُلُوعُهُ بِالْمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ تَنْقُضُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا لِغُسْلِهَا مِنْ الْحَيْضِ] (317) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَنْقُضُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا لِغُسْلِهَا مِنْ الْحَيْضِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا نَقْضُهُ مِنْ الْجَنَابَةِ إذَا أَرْوَتْ أُصُولَهُ) نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَنْقُضُ شَعْرَهَا إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْت لَهُ: فِي هَذَا شَيْءٌ قَالَ: نَعَمْ، حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْت: فَتَنْقُضُ شَعْرَهَا مِنْ الْحَيْضِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت لَهُ: وَكَيْفَ تَنْقُضُهُ مِنْ الْحَيْضَةِ، وَلَا تَنْقُضُهُ مِنْ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ حَدِيثُ أَسْمَاءَ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " لَا تَنْقُضُهُ. " وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَقْضُهُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ "، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ. «بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عُمَرَ، يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ، رُءُوسَهُنَّ، لَقَدْ كُنْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَغْتَسِلُ فَلَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إفْرَاغَاتٍ» . وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ نَقْضَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِلْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي رَأْسِهَا حَشْوٌ أَوْ سِدْرٌ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ، فَيَجِبُ إزَالَتُهُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا لَا يَمْنَعُ، لَمْ يَجِبْ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْمَرْأَةُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ اخْتِصَاصُهَا بِكَثْرَةِ الشَّعْرِ وَتَوْفِيرِهِ وَتَطْوِيلِهِ. وَأَمَّا نَقْضُهُ لِلْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا إذْ كَانَتْ حَائِضًا: «خُذِي مَاءَك وَسِدْرَك، وَامْتَشِطِي» . وَلَا يَكُونُ الْمَشْطُ إلَّا فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ، وَلِلْبُخَارِيِّ: «اُنْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي» . وَلِابْنِ مَاجَهْ: «اُنْقُضِي شَعْرَك وَاغْتَسِلِي» ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِيَتَحَقَّقَ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ، وَالْحَيْضُ بِخِلَافِهِ، فَبَقِيَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ فِي الْوُجُوبِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَلِلْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاءَ، فَتَطْهُرِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَرَوَتْ «، أَسْمَاءُ، أَنَّهَا سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ، فَقَالَ: تَأْخُذُ إحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَوْ كَانَ النَّقْضُ وَاجِبًا لَذَكَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنْ الْبَدَنِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَيْضُ وَالْجَنَابَةُ، كَسَائِرِ الْبَدَنِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ، الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالْغُسْلِ، وَلَوْ أُمِرَتْ بِالْغُسْلِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ غُسْلَ الْحَيْضِ، إنَّمَا أُمِرَتْ بِالْغُسْلِ فِي حَالِ الْحَيْضِ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؛ فَإِنَّهَا قَالَتْ: أَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْت ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " دَعِي عُمْرَتَك، وَانْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي ". وَإِنْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهَا بِالْمَشْطِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ غَسْلُ بَشَرَةِ الرَّأْسِ وَاجِبٌ] (318) فَصْلٌ: وَغَسْلُ بَشَرَةِ الرَّأْسِ وَاجِبٌ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا أَوْ خَفِيفًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ، كَجِلْدِ اللِّحْيَةِ، وَغَيْرِهَا؛ لِمَا رَوَتْ «أَسْمَاءُ، أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: تَأْخُذُ مَاءً، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تَبْلُغُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فُعِلَ بِهِ مِنْ النَّارِ كَذَا وَكَذَا» . قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي. قَالَ: وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَشَرَةٌ أَمْكَنَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَهُ كَسَائِرِ بَشَرَتِهِ. [فَصْلٌ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ الشَّعْرِ وَبَلُّ مَا عَلَى الْجَسَدِ مِنْهُ] (319) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ الشَّعْرِ، وَبَلُّ مَا عَلَى الْجَسَدِ مِنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجِبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْأَصْحَابِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَبُلُّوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ، كَشَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ، وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ". مَعَ إخْبَارِهَا إيَّاهُ بِشَدِّ ضَفْرِ رَأْسِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبُلُّ الشَّعْرَ الْمَشْدُودَ ضَفْرُهُ فِي الْعَادَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بَلُّهُ لَوَجَبَ نَقْضُهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْغُسْلَ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِمَوْتِهِ، وَلَا حَيَاةَ فِيهِ، وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّهُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَلَا تَطْلُقُ بِطَلَاقِهِ، فَلَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ لِلْجَنَابَةِ كَثِيَابِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ: " بُلُّوا الشَّعْرَ ". فَيَرْوِيهِ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ وَحْدَهُ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ. وَأَمَّا الْحَاجِبَانِ فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ غَسْلِ بَشَرَتِهِمَا غَسْلُهُمَا. وَكَذَا كُلُّ شَعْرٍ مِنْ ضَرُورَةِ غَسْلِ بَشَرَتِهِ غَسْلُهُ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ؛ ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ غَسْلِهِ، فَتَرَكَ غَسْلَ بَعْضِهِ، لَمْ يَتِمَّ غُسْلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فَإِنْ قَطَعَ الْمَتْرُوكَ، ثَمَّ غَسَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي بَدَنِهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَغْسُولٍ، وَلَوْ غَسَلَهُ، ثُمَّ انْقَطَعَ، لَمْ يَجِبْ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ. وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي غُسْلِهِ. [فَصْلٌ غُسْلُ الْحَيْضِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ] (320) فَصْلٌ: وَغُسْلُ الْحَيْضِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، إلَّا فِي نَقْضِ الشَّعْرِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَتَأْخُذَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَتَّبِعُ بِهَا مَجْرَى الدَّمِ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ فَرْجِهَا؛ لِيَقْطَعَ عَنْهَا زُفُورَةَ الدَّمِ وَرَائِحَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَغَيْرُهُ مِنْ الطِّيبِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَالْمَاءُ شَافٍ كَافٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اللَّهُ عَنْهَا «. إنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ، قَالَ: تَأْخُذُ إحْدَاكُنَّ سِدْرَتَهَا وَمَاءَهَا، فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَتَطَهَّرُ بِهَا. فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِي بِهَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ: تَتَبَّعِي أَثَرَ الدَّمِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الْفِرْصَةُ: هِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. [فَصْلٌ الْجُنُبُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَوْ يَطَأَ ثَانِيًا أَوْ يَأْكُلَ يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأُ] (321) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، أَوْ يَطَأَ ثَانِيًا، أَوْ يَأْكُلَ، أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَتَوَضَّأُ إلَّا غَسْلَ قَدَمَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ يَغْسِلُ كَفَّيْهِ وَيَتَمَضْمَضُ. وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ إمَامِنَا وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَغْسِلُ كَفَّيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، وَهُوَ جُنُبٌ، غَسَلَ يَدَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ مَالِكٌ يَغْسِلُ يَدَيْهِ. إنْ كَانَ أَصَابَهُمَا أَذًى. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَنَامُ وَلَا يَمَسُّ مَاءً؛ لِمَا رَوَى الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ، وَهُوَ جُنُبٌ، وَلَا يَمَسُّ مَاءً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَى أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجْنِبُ، ثُمَّ يَنَامُ، وَلَا يَمَسُّ مَاءً حَتَّى يَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَغْتَسِلَ.» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مَعَ بَقَائِهِ، كَالْحَيْضِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا، وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ. يَعْنِي وَهُوَ جُنُبٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: «يَنَامُ، وَهُوَ جُنُبٌ، وَلَا يَمَسُّ مَاءً» . فَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ» . رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ أَحْمَدُ: أَبُو إِسْحَاقَ رَوَى عَنْ الْأَسْوَدِ حَدِيثًا خَالَفَ فِيهِ النَّاسَ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَنْ الْأَسْوَدِ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ، فَلَوْ أَحَالَهُ عَلَى غَيْرِ الْأَسْوَدِ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَحَادِيثُنَا تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَالْحَائِضُ حَدَثُهَا قَائِمٌ، فَلَا وُضُوءَ مَعَ مَا يُنَافِيهِ، فَلَا مَعْنَى لِلْوُضُوءِ. [فُصُولٌ فِي الْحَمَّامِ] بِنَاءُ الْحَمَّامِ، وَبَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ، وَكِرَاؤُهُ، مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ فِي الَّذِي يَبْنِي حَمَّامًا لِلنِّسَاءِ: لَيْسَ بِعَدْلٍ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ كَرْيِ الْحَمَّامِ؟ قَالَ: أَخْشَى. كَأَنَّهُ كَرِهَهُ. وَقِيلَ لَهُ، فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُكْتَرِي أَنْ لَا يَدْخُلَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ إزَارٍ. فَقَالَ: وَيُضْبَطُ هَذَا؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ. وَإِنَّمَا كَرِهَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ، مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَمُشَاهَدَتِهَا، وَدُخُولِ النِّسَاءِ إيَّاهُ [فَصْلٌ كَانَ الدَّاخِلُ لِلْحَمَّامِ رَجُلًا] (323) فَصْلٌ: فَأَمَّا دُخُولُهُ؛ فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ رَجُلًا يَسْلَمُ مِنْ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَاتِ، وَنَظَرِ النَّاسِ إلَى عَوْرَتِهِ، فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهِ؛ فَإِنَّهُ يُرْوَى، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُرْوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ. وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَدْخُلَانِ الْحَمَّامَ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَإِنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَسْلَمَ مِنْ ذَلِكَ، كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ وُقُوعَهُ فِي الْمَحْظُورِ، فَإِنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَمُشَاهَدَتَهَا حَرَامٌ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَك، إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ» «. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَمْشُوا عُرَاةً» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ عَلِمْت أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إزَارٌ فَادْخُلْهُ، وَإِلَّا فَلَا تَدْخُلْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: دُخُولُ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ إزَارٍ حَرَامٌ [فَصْلٌ النِّسَاءُ لَيْسَ لَهُنَّ دُخُولُ الْحَمَّامَاتِ] (324) فَصْلٌ: فَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَيْسَ لَهُنَّ دُخُولُهُ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ السَّتْرِ، إلَّا لِعُذْرٍ؛ مِنْ حَيْضٍ، أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ مَرَضٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أَوْ حَاجَةٍ إلَى الْغُسْلِ، وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِي بَيْتِهَا؛ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهَا، أَوْ خَوْفِهَا مِنْ مَرَضٍ، أَوْ ضَرَرٍ، فَيُبَاحُ لَهَا ذَلِكَ، إذَا غَضَّتْ بَصَرَهَا، وَسَتَرَتْ عَوْرَتَهَا. وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، فَلَا لِمَا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ، فَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ، إلَّا حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ» . وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا نِسَاءٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، فَقَالَتْ: لَعَلَّكُنَّ مِنْ النِّسَاءِ اللَّائِي يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا خَلَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا هَتَكَتْ سِتْرَهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . [فَصْلٌ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا بَيْنَ النَّاسِ] (325) فَصْلٌ: وَمَنْ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا بَيْنَ النَّاسِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَشْفَهَا لِلنَّاسِ مُحَرَّمٌ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا جَازَ؛ لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، اغْتَسَلَ عُرْيَانًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، اغْتَسَلَ عُرْيَانًا. وَإِنْ سَتَرَهُ إنْسَانٌ بِثَوْبٍ فَلَا بَأْسَ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، وَيَغْتَسِلُ، وَيُسْتَحَبُّ التَّسَتُّرُ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ.» [فَصْلٌ الْغُسْلُ بِمَاءِ الْحَمَّامِ] (326) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُهُ الْغُسْلُ بِمَاءِ الْحَمَّامِ. قَالَ الْخَلَّالُ: ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُجْزِئُ أَنْ يُغْتَسَلَ بِهِ، وَلَا يُغْتَسَلُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْأُنْبُوبَةِ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: مَاءُ الْحَمَّامِ عِنْدِي طَاهِرٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يُنْزَفُ، يَخْرُجُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ. قُلْت: يَكُونُ كَالْجَارِي، وَهُوَ يَسْتَقِرُّ فِي مَكَان قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ؟ ، فَقَالَ: قَدْ قُلْت لَك فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَرَاهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْتَاطَ بِمَاءٍ آخَرَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ لَا يُنَجِّسُهُ إلَّا التَّغَيُّرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَتَنَجَّسُ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ جَارِيًا أَثَرٌ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ الِاحْتِيَاطَ مَعَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ طَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي إذَا كَانَ الْمَاءُ يَفِيضُ مِنْ الْحَوْضِ وَيَخْرُجُ، فَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي أَخِيرًا يَدْفَعُ مَا فِي الْحَوْضِ، وَيَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا فِي الْحَوْضِ كَدِرًا، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ دَفَعَ مِنْ الْمَاءِ صَافِيًا، لَزَالَتْ كُدُورَتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ] (327) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ؛ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ حَسَنٌ فِي كُلِّ مَكَان، مَا لَمْ يَرِدْ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ يُبْنَ لِهَذَا. وَكَرِهَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِيهِ أَبُو وَائِلٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ. وَلَمْ يَكْرَهْهُ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ مَحَلٌّ لِلتَّكَشُّفِ، وَيُفْعَلُ فِيهِ مَا لَا يُسْتَحْسَنُ عَمَلُهُ فِي غَيْرِهِ، فَاسْتُحِبَّ صِيَانَةُ الْقُرْآنِ عَنْهُ وَالْأَوْلَى جَوَازُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ حُجَّةً تَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهِ. فَأَمَّا التَّسْلِيمُ فِيهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ أَنَّنِي سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا. وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ.» [فَصْلٌ لَا يَدْخُلُ الْمَاءَ إلَّا مُسْتَتِرًا] (328) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ إلَّا مُسْتَتِرًا؛ إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، أَنَّهُمَا دَخَلَا الْمَاءَ، وَعَلَيْهِمَا بُرْدَانِ، فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَا: إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا. وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتُرُ، فَتَبْدُو عَوْرَةُ مَنْ دَخَلَهُ عُرْيَانًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 [بَابُ التَّيَمُّمِ] التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَيَمَّمْت لِلْعَيْنِ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] . أَيْ: اقْصِدُوهُ. ثُمَّ نُقِلَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّعِيدِ. وَهُوَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَحَدِيثُ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْجُمْلَةِ. [مَسْأَلَةٌ يُتَيَمَّمُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ] (329) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ (وَيَتَيَمَّمُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ) . طَوِيلُ السَّفَرِ: مَا يُبِيحُ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ، وَقَصِيرُهُ: مَا دُونَ ذَلِكَ، مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سَفَرٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ أَوْ مُتَبَاعِدَتَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْ خَرَجَ إلَى ضَيْعَةٍ لَهُ، فَفَارَقَ الْبُنْيَانَ وَالْمَنَازِلَ، وَلَوْ بِخَمْسِينَ خُطْوَةً جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يُبَاحُ إلَّا فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ. وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] يَدُلُّ بِمُطْلَقِهِ عَلَى إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ فِي كُلِّ سَفَرٍ؛ وَلِأَنَّ السَّفَرَ الْقَصِيرَ يَكْثُرُ، فَيَكْثُرُ عَدَمُ الْمَاءِ فِيهِ، فَيُحْتَاجُ إلَى التَّيَمُّمِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ، كَالطَّوِيلِ. [فَصْلٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي التَّيَمُّمِ] (330) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الرُّخَصِ؛ وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ، فَأُبِيحَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَسْحِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. [فَصْلٌ عَدَمُ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ] (331) فَصْلٌ: فَإِنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ، بِأَنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهُمْ، أَوْ حُبِسَ فِي مِصْرٍ، فَعَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا يُصَلِّي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 شَرَطَ السَّفَرَ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حُبِسَ فِي دَارٍ، وَأُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ بِمَنْزِلِ الْمُضِيفِ، أَيَتَيَمَّمُ؟ قَالَ: لَا. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلْمَاءِ، فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَ. وَالْآيَةُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يَكُونَ ذِكْرُ السَّفَرِ فِيهَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يُعْدَمُ، فِيهِ كَمَا ذُكِرَ، فِي السَّفَرِ، وَعَدَمُ وُجُودُ الْكَاتِبِ فِي الرَّهْنِ، وَلَيْسَا شَرْطَيْنِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ حُجَّةً فَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى دَلِيلَ الْخِطَابِ حُجَّةً، وَالْآيَةُ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِدَلِيلِ خِطَابِهَا. فَعَلَى هَذَا إذَا تَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ، وَصَلَّى، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ، فَهَلْ يُعِيدُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا يُعِيدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَضَاءُ، كَالْحَيْضِ فِي الصَّوْمِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يُعِيدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ عُهْدَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ حُبِسَ فِي الْمِصْرِ صَلَّى. وَلَمْ يَذْكُرْ إعَادَةً. وَذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي غَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَدَمَ الْمَاءَ لِعُذْرٍ نَادِرٍ، أَوْ يَزُولُ قَرِيبًا، كَرَجُلٍ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ، مِثْلُ الضَّيْفِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي لَا تَتَطَاوَلُ؛ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَشَاغِلِ بِطَلَبِ الْمَاءِ وَتَحْصِيلِهِ. وَإِنْ كَانَ عُذْرًا مُمْتَدًّا، وَيُوجَدُ كَثِيرًا، كَالْمَحْبُوسِ، أَوْ مَنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ فِي قَرْيَتِهِ، وَاحْتَاجَ إلَى اسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَلَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَادِمٌ لِلْمَاءِ بِعُذْرٍ مُتَطَاوِلٍ مُعْتَادٍ، فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ هَذَا الْمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَمِ الْمُسَافِرِ لَهُ، فَالنَّصُّ عَلَى التَّيَمُّمِ لِلْمُسَافِرِ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّيَمُّمِ هَاهُنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ لَحَاجَةٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَا مَاءَ مَعَهُ] (332) فَصْلٌ: وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ إلَى أَرْضٍ مِنْ أَعْمَالِهِ لِحَاجَةٍ، كَالْحَرَّاثِ، وَالْحِصَادِ، وَالْحَطَّابِ، وَالصَّيَّادِ، وَأَشْبَاهِهِمْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ حَمْلُ الْمَاءِ مَعَهُ لِوُضُوئِهِ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَا مَاءَ مَعَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ لِيَتَوَضَّأَ إلَّا بِتَفْوِيتِ حَاجَتِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِكَوْنِهِ فِي أَرْضٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمِصْرِ، فَأَشْبَهَ الْمُقِيمَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الَّتِي يَخْرُجُ إلَيْهَا مِنْ عَمَلِ قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَطَلَبَ الْمَاء فَأَعْوَزه] (333) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَطَلَبَ الْمَاءَ فَأَعْوَزَهُ) هَذِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ: أَحَدُهَا دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَكْتُوبَةً مُؤَدَّاةً لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا. وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ لَهَا فِي وَقْتٍ نُهِيَ عَنْ فِعْلِهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا. وَإِنْ كَانَتْ فَائِتَةً جَازَ التَّيَمُّمُ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا جَائِزٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ التَّيَمُّمُ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَأُبِيحَ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، أَوْ يُحْدِثَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْوَقْتِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، أَوْ نَقُولُ: يَتَيَمَّمُ لِلْفَرْضِ فِي وَقْتٍ هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَيَمَّمَ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَيُفَارِقُ التَّيَمُّمُ سَائِرَ الطِّهَارَاتِ؛ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ لِضَرُورَةٍ. الشَّرْطُ الثَّانِي طَلَبُ الْمَاءِ، وَهَذَا الشَّرْطُ وَإِعْوَازُ الْمَاءِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِمَنْ يَتَيَمَّمُ لِعُذْرِ عَدَمِ الْمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ اشْتِرَاطُ طَلَبِ الْمَاءِ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُشْتَرَطُ الطَّلَبُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ» . وَلِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِوُجُودِ الْمَاءِ قَرِيبًا مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَلَبَ فَلَمْ يَجِدْ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ، وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِهِ مَاءٌ لَا يَعْلَمُهُ وَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ فِي الظِّهَارِ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، قَالَ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لَمْ يُبِحْ لَهُ الصِّيَامَ حَتَّى يَطْلُبَ الرَّقَبَةَ، وَلَمْ يُعَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِدٍ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَلَزِمَهُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهِ عِنْدَ الْإِعْوَازِ، كَالْقِبْلَةِ. (334) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الطَّلَبِ أَنْ يَطْلُبَ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ إنْ رَأَى خُضْرَةً أَوْ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى الْمَاءِ قَصَدَهُ فَاسْتَبْرَأَهُ، وَإِنْ كَانَ بِقُرْبِهِ رَبْوَةٌ أَوْ شَيْءٌ قَائِمٌ أَتَاهُ وَطَلَبَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَظَرَ أَمَامَهُ وَوَرَاءَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رُفْقَةٌ يُدِلُّ عَلَيْهِمْ طَلَبَ مِنْهُمْ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْمَكَانِ سَأَلَهُ عَنْ مِيَاهِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَهُوَ عَادِمٌ. وَإِنْ دُلَّ عَلَى مَاءٍ لَزِمَهُ قَصْدُهُ إنْ كَانَ قَرِيبًا، مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يَخْشَى فَوَاتَ رُفْقَتِهِ، وَلَمْ يَفُتْ الْوَقْتُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ (335) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَبَ الْمَاءَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الطَّلَبِ بَعْدَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ قَبْل الْمُخَاطَبَةِ بِالتَّيَمُّمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ، كَالشَّفِيعِ إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَإِنْ طَلَبَ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ عَقِيبَهُ، جَازَ التَّيَمُّمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ طَلَبٍ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: إعْوَازُ الْمَاءِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] «. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ» . فَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَجِدَ الْمَاءَ؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَا ضَرُورَةَ. [فَصْل وَجَدَ الْجُنُبُ مَاءً يَكْفِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ] (336) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ مَا يَكْفِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ، لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَنْ وَجَدَ مَا يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ، وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ: يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ. وَبِهِ قَالَ عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ وَمَعْمَرٌ، وَنَحْوَهُ قَالَ عَطَاءٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يَتَيَمَّمُ، وَيَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَا يُطَهِّرُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ، كَالْمُسْتَعْمَلِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ، وَخَبَرُ أَبِي ذَرٍّ، شَرَطَ فِي التَّيَمُّمِ عَدَمَ الْمَاءِ، وَهَذَا وَاجِدٌ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «، إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرُ بَدَنِهِ صَحِيحًا وَبَاقِيهِ جَرِيحًا؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الشَّرْطِ؛ فَلَزِمَهُ؛ كَالسُّتْرَةِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ بَدَنِهِ صَحِيحًا، وَلَا يُسَلَّمُ الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَعْمَلِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ شَيْئًا مِنْهُ بِخِلَافِ هَذَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ قَبْلَ التَّيَمُّمِ؛ لِيَتَحَقَّقَ الْإِعْوَازُ الْمُشْتَرَطُ. [فَصْل وَجَدَ الْمُحْدِثُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ بَعْضَ مَا يَكْفِيه مِنْ الْمَاء] (337) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُنُبِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، فَلَزِمَهُ كَالْجُنُبِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ صَحِيحًا، وَبَعْضُهُ جَرِيحًا. وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ شَرْطٌ فِيهَا، فَإِذَا غَسَلَ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ دُونَ بَعْضٍ، لَمْ يُفِدْ، بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ، وَلِذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ أَجْزَأَهُ غَسْلُ مَا لَمْ يَغْسِلْهُ فَقَطْ، وَفِي الْحَدَثِ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ صَحِيحًا وَبَعْضُهُ جَرِيحًا؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ بِبَعْضِ الْبَدَنِ يُخَالِفُ الْعَجْزَ بِبَعْضِ الْوَاجِبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ إذَا مَلَكَ رَقَبَةً لَزِمَهُ إعْتَاقُهَا فِي كَفَّارَتِهِ، وَلَوْ مَلَكَ الْحُرُّ بَعْضَ رَقَبَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إعْتَاقُهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. [فَصْل حَالَ بَيْنه وَبَيْن الْمَاءِ سَبْع أَوْ عَدُوٌّ أَوْ حَرِيقٌ أَوْ لِصٌّ] (338) فَصْلٌ: وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ سَبُعٌ، أَوْ عَدُوٌّ، أَوْ حَرِيقٌ، أَوْ لِصٌّ، فَهُوَ كَالْعَادِمِ. وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ بِمَجْمَعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الْفُسَّاقِ، تَخَافُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُمْ، فَهِيَ عَادِمَتُهُ. وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: تَتَيَمَّمُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَيَمَّمُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا، وَجْهًا وَاحِدًا، بَلْ لَا يَحِلُّ لَهَا الْمُضِيُّ إلَى الْمَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلزِّنَا، وَهَتْكِ نَفْسِهَا وَعِرْضِهَا، وَتَنْكِيسِ رُءُوسِ أَهْلِهَا، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى قَتْلِهَا، وَقَدْ أُبِيحَ لَهَا التَّيَمُّمُ حِفْظًا لِلْقَلِيلِ مِنْ مَالِهَا، الْمُبَاحِ لَهَا بَذْلُهُ، وَحِفْظًا لِنَفْسِهَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ تَبَاطُؤِ بُرْءٍ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ عِنْدَ رَحْلِهِ، فَخَافَ إنْ ذَهَبَ إلَى الْمَاءِ ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْ رَحْلِهِ، أَوْ شَرَدَتْ دَابَّتُهُ، أَوْ سُرِقَتْ، أَوْ خَافَ عَلَى أَهْلِهِ لِصًّا، أَوْ سَبُعًا، خَوْفًا شَدِيدًا، فَهُوَ كَالْعَادِمِ. وَمَنْ كَانَ خَوْفُهُ جُبْنًا، لَا عَنْ سَبَبٍ يُخَافُ مِنْ مِثْلِهِ، لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ يَخَافُ بِاللَّيْلِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُخَافُ مِنْهُ، قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُبَاحَ لَهُ بِالتَّيَمُّمِ، وَيُعِيدُ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَائِفِ لِسَبَبٍ. وَمَنْ كَانَ خَوْفُهُ لِسَبَبٍ ظَنَّهُ، فَتَبَيَّنَ عَدَمُ السَّبَبِ، مِثْلُ مَنْ رَأَى سَوَادًا بِاللَّيْلِ ظَنَّهُ عَدُوًّا، فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ، أَوْ رَأَى كَلْبًا فَظَنَّهُ أَسَدًا أَوْ نَمِرًا، فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا؛ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ. وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، فَأَشْبَهَ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَتَيَمَّمَ. [فَصْل كَانَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ] (339) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ، فَهُوَ كَالْعَادِمِ. قَالَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْمَاءِ فَأَشْبَهَ مَنْ وَجَدَ بِئْرًا لَيْسَ لَهُ مَا يَسْتَقِي بِهِ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَهُوَ كَالْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَجِدُ مَا يَسْتَقِي بِهِ فِي الْوَقْتِ. وَإِنْ خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ عَادِمٌ فِي الْوَقْتِ، فَأَشْبَهَ الْعَادِمَ مُطْلَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْتَظِرَ مَجِيءَ مَنْ يُنَاوِلُهُ؛ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ يَنْتَظِرُ حُصُولَ الْمَاءِ قَرِيبًا، فَأَشْبَهَ الْمُشْتَغِلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَتَحْصِيلِهِ. [فَصْل وَجَدَ بِئْرًا وَقَدَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَائِهَا] (340) فَصْلٌ: إذَا وَجَدَ بِئْرًا، وَقَدَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَائِهَا بِالنُّزُولِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، أَوْ الِاغْتِرَافِ بِدَلْوٍ أَوْ ثَوْبٍ يَبُلُّهُ ثُمَّ يَعْصِرُهُ. لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِالْوُضُوءِ. وَحُكْمُ مَنْ فِي السَّفِينَةِ فِي الْمَاءِ كَحُكْمِ وَاجِدِ الْبِئْرِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُصُولُ إلَى مَائِهَا إلَّا بِمَشَقَّةٍ، أَوْ تَغْرِيرٍ بِالنَّفْسِ، فَهُوَ كَالْعَادِمِ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَمَنْ كَانَ الْمَاءُ قَرِيبًا مِنْهُ، يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ، لَزِمَهُ السَّعْيُ إلَيْهِ وَالِاشْتِغَالُ بِتَحْصِيلِهِ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 [فَصْل بُذِلَ لَهُ مَاءٌ لِطَهَارَتِهِ] (341) فَصْلٌ: وَإِنْ بُذِلَ لَهُ مَاءٌ لِطَهَارَتِهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَلَا مِنَّةَ فِي ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ إلَّا بِثَمَنٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَبُذِلَ لَهُ الثَّمَنُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ تَلْحَقُ بِهِ. وَإِنْ وَجَدَهُ يُبَاعُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ، يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، لِقُوتِهِ وَمُؤْنَةِ سَفَرِهِ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ. وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا. وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيمَنْ بُذِلَ لَهُ مَاءٌ بِدِينَارٍ، وَمَعَهُ مِائَةٌ. فَيَحْتَمِلُ إذَنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] . وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهَا، كَمَا لَوْ خَافَ لِصًّا يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ وَلَا كَثِيرَةٍ لِذَلِكَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] . وَهَذَا وَاجِدٌ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى ثَمَنِ الْعَيْنِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَيْنِ، فِي الْمَنْعِ مِنْ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ بِيعَتْ بِثَمَنِ مِثْلِهَا، وَكَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؛ وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْمَالِ دُونَ ضَرَرِ النَّفْسِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْمَرِيضِ: يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ. فَتَحَمُّلُ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ فِي الْمَالِ أَحْرَى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُهُ، فَبُذِلَ لَهُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي بَلَدِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ بِمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَرُبَّمَا يَتْلَفُ مَالُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَا يُؤَدِّي ثَمَنَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهُ لَهُ، وَكَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مُكَاثَرَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَدْعُو إلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَهُ بَدَلٌ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ فِي الْمَجَاعَةِ. [فَصْل كَانَ مَعَهُ مَاءٌ فَأَرَاقَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَعَدِمَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ] (342) فَصْلٌ: إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، فَأَرَاقَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ، أَوْ مَرَّ بِمَاءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَتَجَاوَزَهُ، وَعَدِمَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، إنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، كَقَوْلِنَا، وَإِلَّا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ. وَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، أَوْ مَرَّ بِهِ فِي الْوَقْتِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ، يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. وَفِي الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ صَحِيحٍ، تَحَقَّقَتْ شَرَائِطُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَاقَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَالثَّانِي يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِوُضُوءٍ، وَهُوَ قَدْ فَوَّتَ الْقُدْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ، فَبَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ، وَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْ تَيَمَّمَ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ، لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ. وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَاقَهُ. [فَصْل نَسِيَ الْمَاء فِي رَحْلِهِ أَوْ مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُهُ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ] (343) فَصْلٌ: إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، أَوْ مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ. فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَطَعَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُجْزِئُهُ. وَعَنْ مَالِكٍ كَالْمَذْهَبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ النِّسْيَانِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَهُوَ كَالْعَادِمِ. وَلَنَا أَنَّهَا طَهَارَةٌ تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ، كَمَا لَوْ صَلَّى نَاسِيًا لِحَدَثِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ، أَوْ صَلَّى الْمَاسِحُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ قَبْلَ صَلَاتِهِ، وَيُفَارِقُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ، وَهَا هُنَا هُوَ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الطَّلَبِ. [فَصْل ضَلَّ عَنْ رَحْلِهِ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ أَوْ كَانَ يَعْرِفُ بِئْرًا فَضَاعَتْ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهَا] (344) فَصْلٌ: وَإِنْ ضَلَّ عَنْ رَحْلِهِ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ بِئْرًا فَضَاعَتْ عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَالنَّاسِي. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِدٍ لِلْمَاءِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ، بِخِلَافِ النَّاسِي، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَعَ عَبْدِهِ، فَنَسِيَهُ الْعَبْدُ حَتَّى صَلَّى سَيِّدُهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَالنَّاسِي، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُعِيدَ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ غَيْرِهِ. [فَصْل تَيَمُّم وَصَلَّى ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ بِقُرْبِهِ بِئْرًا أَوْ مَاءٌ] (345) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ بِقُرْبِهِ بِئْرٌ أَوْ مَاءٌ، نُظِرَتْ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً بِغَيْرِ عَلَامَةٍ، وَطَلَبَ فَلَمْ يَجِدْهَا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ ظَاهِرَةً، فَقَدْ فَرَّطَ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. [مَسْأَلَة تَأْخِيرُ التَّيَمُّمِ] (346) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالِاخْتِيَار تَأْخِيرُ التَّيَمُّمِ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 عَنْ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ إنْ رَجَا وُجُودَ الْمَاءِ، وَإِنْ يَئِسَ مِنْ وُجُودِهِ اُسْتُحِبَّ تَقْدِيمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: التَّقْدِيمُ أَفْضَلُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ، لِأَمْرٍ مَظْنُونٍ. وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْجُنُبِ: يَتَلَوَّمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ، وَإِلَّا تَيَمَّمَ. وَلِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ لِلصَّلَاةِ إلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ كَيْ لَا يَذْهَبَ خُشُوعُهَا وَحُضُورُ الْقَلْبِ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا لِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، فَتَأْخِيرُهَا لِإِدْرَاكِ الطَّهَارَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوْلَى [مَسْأَلَة تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى] (347) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى، أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَصَابَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَادِمَ لِلْمَاءِ فِي السَّفَرِ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ، إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إجْمَاعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَنْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الْوَقْتِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا إعَادَةٌ، سَوَاءٌ يَئِسَ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُجُودُهُ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ: يُعِيدُ الصَّلَاةَ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا، فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْت السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْك صَلَاتُك. وَقَالَ لِلَّذِي أَعَادَ: لَك الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» . وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَيَمَّمَ، وَهُوَ يَرَى بُيُوتَ الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ؛ وَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ كَمَا أُمِرَ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ عُذْرٌ مُعْتَادٌ، فَإِذَا تَيَمَّمَ مَعَهُ يَجِبُ أَنْ يُسْقِطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَالْمَرَضِ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَعُدْ إلَى ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ. [مَسْأَلَة التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ] (348) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالتَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ) الْمَسْنُونُ عِنْدَ أَحْمَدَ التَّيَمُّمُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَتَيْنِ جَازَ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْإِجْزَاءُ يَحْصُلُ بِضَرْبَةٍ، وَالْكَمَالُ ضَرْبَتَانِ. وَالْمَنْصُوصُ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَمَنْ قَالَ ضَرْبَتَيْنِ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ زَادَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَعَمَّارٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ إلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بِضَرْبَتَيْنِ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِهِ سَالِمٍ، وَالْحَسَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ الصِّمَّةِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَيَمَّمَ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ» . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو أُمَامَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ؛ وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّ مُبْدَلِهِ، وَكَانَ حَدُّهُ عَنْهُمَا وَاحِدًا كَالْوَجْهِ. وَلَنَا مَا «رَوَى عَمَّارٌ، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْت، فَلَمْ أَجِدْ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْت فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْك هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ عَلَى مُطْلَقِ الْيَدَيْنِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الذِّرَاعُ، كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَمَسِّ الْفَرْجِ، وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذَا فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] وَقَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي الْقَطْعِ مِنْ الْكَفَّيْنِ، إنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. يَعْنِي التَّيَمُّمَ. وَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ فَضَعِيفَةٌ. قَالَ الْخَلَّالُ: الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَلَمْ يَرْوِ مِنْهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ يُعْرَفُ، وَمِنْ أَجْلِهِ يَضْعُفُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ الصِّمَّةِ صَحِيحٌ، لَكِنْ إنَّمَا جَاءَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ. فَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا؛ لِأَنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى مُطْلَقِ الْيَدَيْنِ لَا يَتَنَاوَلُ الذِّرَاعَيْنِ. ثُمَّ أَحَادِيثُهُمْ لَا تُعَارِضُ حَدِيثَنَا؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِضَرْبَتَيْنِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ، كَمَا أَنَّ وُضُوءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا ثَلَاثًا لَا يَنْفِي الْإِجْزَاءَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ: إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْكَفَّيْنِ الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. قُلْنَا: أَمَّا حَدِيثُهُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، إنَّمَا رَوَاهُ سَلَمَةُ، وَشَكَّ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَنْصُورٌ: مَا تَقُولُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ الذِّرَاعَيْنِ أَحَدٌ غَيْرُك؟ فَشَكَّ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي، أَذَكَرَ الذِّرَاعَيْنِ، أَمْ لَا؟ قَالَ ذَلِكَ النَّسَائِيّ. فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ بِهِ سَائِرَ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ، فَكَيْفَ يُلْتَفَتُ إلَى مِثْلِ هَذَا؟ وَهُوَ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يُعَوَّلْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُحْتَجَّ بِهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَبَاطِلٌ؛ لِوُجُوهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أَحَدُهَا، أَنَّ عَمَّارًا الرَّاوِيَ لَهُ الْحَاكِيَ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَى بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ. وَقَدْ شَاهَدَ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفِعْلُ لَا احْتِمَالَ فِيهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ ضَرْبَتَانِ. وَالثَّالِثُ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ فِي اللُّغَةِ التَّعْبِيرَ بِالْكَفَّيْنِ عَنْ الذِّرَاعَيْنِ. وَالرَّابِعُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ جَائِزٌ أَقْرَبُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ وَأَسْهَلُ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالتَّيَمُّمِ عَنْ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ الْمُبْدَلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَعْضَاءَ، وَالتَّيَمُّمُ فِي عُضْوَيْنِ، وَكَذَا نَقُولُ فِي الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا تَحْتَ الشُّعُورِ الْخَفِيفَةِ، وَلَا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ. [فَصْل التَّيَمُّمُ بِضَرْبَةِ وَاحِدَةٍ وَبِضَرْبَتَيْنِ] (349) فَصْلٌ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِضَرْبَتَيْنِ، وَإِنْ تَيَمَّمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ التُّرَابِ إلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَكَيْفَمَا حَصَلَ جَازَ، كَالْوُضُوءِ [فَصْل وَصَلَ التُّرَابُ إلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ] (350) فَصْلٌ: فَإِنْ وَصَلَ التُّرَابُ إلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ، نَحْوُ أَنْ يَنْسِفَ الرِّيحُ عَلَيْهِ غُبَارًا يَعُمُّهُ، فَإِنْ كَانَ قَصَدَ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ النِّيَّةَ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ صَمَدَ لِلْمَطَرِ حَتَّى جَرَى عَلَى أَعْضَائِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَسْحِ بِهِ. فَإِنْ مَسَحَ وَجْهَهُ بِمَا عَلَى وَجْهِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ بِالتُّرَابِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَصْدِ الصَّعِيدِ وَالْمَسْحِ بِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ الصَّعِيدَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ الرِّيحَ، وَلَا صَمَدَ لَهَا، فَأَخَذَ غَيْرَ مَا عَلَى وَجْهِهِ، فَمَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ، جَازَ. وَإِنْ أَمَرَّ مَا عَلَى وَجْهِهِ، مِنْهُ عَلَى وَجْهِهِ، لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ التُّرَابَ لِوَجْهِهِ [فَصْل عَلَا عَلَى يَد الْمُتَيَمِّم تُرَابٌ كَثِيرٌ] (351) فَصْلٌ: إذَا عَلَا عَلَى يَدَيْهِ تُرَابٌ كَثِيرٌ، لَمْ يُكْرَهْ نَفْخُهُ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا» . قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَضُرُّهُ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ. وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ نَفْخُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. فَإِنْ ذَهَبَ مَا عَلَيْهَا بِالنَّفْخِ، لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يُعِيدَ الضَّرْبَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمَسْحِ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّعِيدِ. [مَسْأَلَة الْمُتَيَمِّمُ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ] (352) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، وَهُوَ التُّرَابُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا بِتُرَابٍ طَاهِرٍ ذِي غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّعِيدُ تُرَابُ الْحَرْثِ. وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقَا) تُرَابًا أَمْلَسَ. وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَدَاوُد. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ؛ كَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْحِجَارَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الرَّمْلُ مِنْ الصَّعِيدِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالرُّخَامِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَكُونُ بِالرَّمْلِ فَتُصِيبُنَا الْجَنَابَةُ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ» . وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، فَجَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ كَالتُّرَابِ. وَلَنَا الْآيَةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ، وَهُوَ التُّرَابُ، فَقَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَسْحُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، جُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ طَهُورًا لَذَكَرَهُ فِيمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا» . فَخَصَّ تُرَابَهَا بِكَوْنِهِ طَهُورًا؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ اخْتَصَّتْ بِأَعَمِّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا، وَهُوَ الْمَاءُ، فَتَخْتَصُّ بِأَعَمِّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا، وَهُوَ التُّرَابُ، وَخَبَرُ أَبِي ذَرٍّ نَخُصُّهُ بِحَدِيثِنَا، وَخَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَهُوَ ضَعِيف [فَصْل التَّيَمُّم بِالسَّبَخَةِ وَالرَّمْلِ] (353) فَصْلٌ: وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، فِي السَّبِخَةِ وَالرَّمْلِ، أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ. قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قَالَ أَحْمَدُ: أَرْضُ الْحَرْثِ أَحَبُّ إلَيَّ، وَإِنْ تَيَمَّمَ مِنْ أَرْضِ السَّبِخَةِ أَجْزَأَهُ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَ التَّيَمُّمَ بِهَا إذَا كَانَ لَهَا غُبَارٌ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا غُبَارٌ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّمْلِ مِثْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ الِاضْطِرَارِ خَاصَّةً. قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ سِنْدِيٍّ: أَرْضُ الْحَرْثِ أَجْوَدُ مِنْ السَّبَخِ، وَمِنْ مَوْضِعِ النُّورَةِ وَالْحَصَا، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ اُضْطُرَّ أَجْزَأَهُ. قَالَ الْخَلَّالُ: إنَّمَا سَهَّلَ أَحْمَدُ فِيهَا إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا، إذَا كَانَتْ غَبَرَةً كَالتُّرَابِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَلِحَةً كَالْمِلْحِ، فَلَا يَتَيَمَّمُ بِهَا أَصْلًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: يَتَيَمَّمُ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ بِكُلِّ طَاهِرٍ تَصَاعَدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، مِثْلُ الرَّمْلِ وَالسَّبِخَةِ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَيُصَلِّي، وَهَلْ يُعِيدُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْل التَّيَمُّم بِالْخَزَفِ أَوْ الطِّينُ الْمُحْرِق بَعْد دَقَّهُ] (354) فَصْلٌ: فَإِنْ دُقَّ الْخَزَفُ أَوْ الطِّينُ الْمُحْرَقُ، لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ أَخْرَجَهُ عَنْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التُّرَابِ. وَكَذَا إنْ نُحِتَ الْمَرْمَرُ وَالْكَذَّانُ حَتَّى صَارَ غُبَارًا، لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ تُرَابٍ. وَإِنْ دُقَّ الطِّينُ الصُّلْبُ كَالْأَرْمَنِيِّ، جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تُرَابٌ. [فَصْل ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لَبُدّ أَوْ ثَوْبٍ فَعَلِقَ بِيَدَيْهِ غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ] (355) فَصْلٌ: فَإِنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ جَوَالِقَ أَوْ بَرْذَعَةٍ أَوْ فِي شَعِيرٍ، فَعَلِقَ بِيَدَيْهِ غُبَارٌ، فَتَيَمَّمَ بِهِ، جَازَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ التُّرَابِ حَيْثُ كَانَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَخْرَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، أَوْ حَيَوَانٍ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، فَصَارَ عَلَى يَدَيْهِ غُبَارٌ، جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غُبَارٌ، فَلَا يَجُوزُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ يَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَيَمَّمُ بِالثَّلْجِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَضِفَّةُ سَرْجِهِ، أَوْ مَعْرِفَةُ دَابَّتِهِ. وَأَجَازَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، التَّيَمُّمَ بِصَخْرَةٍ لَا غُبَارَ عَلَيْهَا، وَتُرَابٍ نَدِيٍّ لَا يَعْلَقُ بِالْيَدِ مِنْهُ غُبَارٌ. وَأَجَازَ مَالِكٌ التَّيَمُّمَ بِالثَّلْجِ، وَالْجِبْسِ، وَكُلِّ مَا تَصَاعَدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّيَمُّمُ بِغُبَارِ اللِّبْدِ وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ضَرَبَ بِيَدِهِ نَفَخَهُمَا. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] . " وَمِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَمْسَحَ بِجُزْءٍ مِنْهُ، وَالنَّفْخُ لَا يُزِيلُ الْغُبَارَ الْمُلَاصِقَ، وَذَلِكَ يَكْفِي. [فَصْل خَالَطَ التُّرَابُ مَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّم بِهِ] (356) فَصْلٌ: إذَا خَالَطَ التُّرَابُ مَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْجِصِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ إذَا خَالَطَتْهُ الطَّاهِرَاتُ، إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلتُّرَابِ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمُخَالِطِ، لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَمْنَعُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَصَلَ فِي الْعُضْوِ، فَمَنَعَ وُصُولَ التُّرَابِ إلَيْهِ. وَهَذَا فِيمَا يَعْلَقُ بِالْيَدِ، فَأَمَّا مَا لَا يَعْلَقُ بِالْيَدِ، فَلَا يَمْنَعُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ مِنْ الشَّعِيرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ عَلَى الْيَدِ مِنْهُ مَا يَحُولُ بَيْنَ الْغُبَارِ وَبَيْنَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 [فَصْل التَّيَمُّم بِالطِّينِ] (357) فَصْلٌ: إذَا كَانَ فِي طِينٍ لَا يَجِدُ تُرَابًا، فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَأْخُذُ الطِّينَ، فَيَطْلِي بِهِ جَسَدَهُ. فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ. وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ جَفَافِهِ، فَهُوَ كَالْعَادِمِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَجِفُّ قَرِيبًا انْتَظَرَ جَفَافَهُ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهُ كَطَالِبِ الْمَاءِ الْقَرِيبِ، وَالْمُشْتَغِلِ بِتَحْصِيلِهِ مِنْ بِئْرٍ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ لَطَّخَ وَجْهَهُ بِطِينٍ، لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّعِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا غُبَارَ فِيهِ، أَشْبَهَ التُّرَابَ النَّدِيَّ. [فَصْل صَلَاة فَاقِد الطَّهُورَيْنِ] (358) فَصْلٌ: وَإِنْ عَدِمَ بِكُلِّ حَالٍ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَقْدِرَ، ثُمَّ يَقْضِيَ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تُسْقِطُ الْقَضَاءَ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَصِيَامِ الْحَائِضِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلِّي وَلَا يَقْضِي؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الطَّهَارَةِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، كَالْحَائِضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَ عَنْ أَصْحَابِهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَيُعِيدُ. وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أُنَاسًا لِطَلَبِ قِلَادَةٍ أَضَلَّتْهَا عَائِشَةُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ. وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَلَا أَمَرَهُمْ، بِإِعَادَةٍ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ، فَلَمْ تُؤَخَّرْ الصَّلَاةُ عِنْدَ عَدَمِهَا، كَالسُّتْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ أَوْ التُّرَابَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ، فَخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، كَسَائِرِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا؛ وَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ عَلَى حَسَبِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، كَالْعَاجِزِ عَنْ السُّتْرَةِ إذَا صَلَّى عُرْيَانًا، وَالْعَاجِزِ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِهَا، وَالْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ إذَا صَلَّى جَالِسًا، وَقِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الْحَائِضِ فِي تَأْخِيرِ الصِّيَامِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَدْخُلُهُ التَّأْخِيرُ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ يُؤَخِّرُ الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْحَيْضِ لَأَسْقَطَ الصَّلَاةَ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ قِيَاسَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الصِّيَامِ، وَأَمَّا قِيَاسُ مَالِكٍ فَلَا يَصِحُّ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَقِيَاسُ الطَّهَارَةِ عَلَى سَائِرِ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْحَائِضِ، فَإِنَّ الْحَيْضَ أَمْرٌ مُعْتَادٌ يَتَكَرَّرُ عَادَةً، وَالْعَجْزُ هَاهُنَا عُذْرٌ نَادِرٌ غَيْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 مُعْتَادٍ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ فَلَمْ يُسْقِطْ الْفَرْضَ، كَنِسْيَانِ الصَّلَاةِ وَفَقْدِ سَائِرِ الشُّرُوطِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ [مَسْأَلَة التَّيَمُّمَ لَا يَصِحُّ إلَّا بُنَيَّة] (359) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَنْوِي بِهِ الْمَكْتُوبَةَ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ، غَيْرَ مَا حُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ، وَيَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ، بَلْ مَتَى وَجَدَهُ أَعَادَ الطَّهَارَةَ، جُنُبًا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ يُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَيَرْفَعُ الْحَدَثَ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّيَمُّمِ، إنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مُحْدِثًا، أَوْ امْرَأَةً حَائِضًا، وَلَوْ رَفَعَ الْحَدَثَ لَاسْتَوَى الْجَمِيعُ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْوِجْدَانِ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ تَرْفَعْ الْحَدَثَ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَاءَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ فَرِيضَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، سَوَاءٌ نَوَى فَرِيضَةً مُعَيَّنَةً أَوْ مُطْلَقَةً. فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَلَاةً مُطْلَقَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ إلَّا نَافِلَةً. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَصِحُّ بِهَا النَّفَلُ، فَصَحَّ بِهَا الْفَرْضُ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَهَذَا لَمْ يَنْوِي الْفَرْضَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ، وَفَارَقَ طَهَارَةَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ الْمَانِعَ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَيُبَاحُ لَهُ جَمِيعُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ. وَلَا يَلْزَمُ اسْتِبَاحَةُ النَّفْلِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَعْلَى مَا فِي الْبَابِ، فَنِيَّتُهُ تَضَمَّنَتْ نِيَّةَ مَا دُونَهُ، وَإِذَا اسْتَبَاحَهُ اسْتَبَاحَ مَا دُونَهُ تَبَعًا. [فَصْل إذَا نَوَى الْفَرْضَ اسْتَبَاحَ كُلَّ مَا يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ النَّفْلِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَبَعْدَهُ] (360) فَصْلٌ: إذَا نَوَى الْفَرْضَ اسْتَبَاحَ كُلَّ مَا يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ النَّفْلِ، قَبْلَ الْفَرْضِ وَبَعْدَهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَاللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ بِصَلَاةٍ غَيْرِ رَاتِبَةٍ. وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ الْمَتْبُوعَ. وَلَنَا أَنَّهُ تَطَوُّعٌ، فَأُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ إذَا نَوَى الْفَرْضَ، كَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَكَمَا بَعْدَ الْفَرْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَقَوْلُهُ: إنَّهُ تَبَعٌ قُلْنَا: إنَّمَا هُوَ تَبَعٌ فِي الِاسْتِبَاحَةِ، لَا فِي الْفِعْلِ، كَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ نَوَى نَافِلَةً أُبِيحَتْ لَهُ، وَأُبِيحَ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَالطَّوَافُ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَتَيْنِ مُشْتَرَطَتَانِ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي اشْتِرَاطِهِمَا لِمَا سِوَاهَا خِلَافٌ، فَيَدْخُلُ الْأَدْنَى فِي الْأَعْلَى، كَدُخُولِ النَّافِلَةِ فِي الْفَرِيضَةِ؛ وَلِأَنَّ النَّفَلَ يَشْتَمِلُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَنِيَّةُ النَّفْلِ تَشْمَلُهُ وَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّنَفُّلُ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى، فَلَا يَسْتَبِيحُ الْأَعْلَى بِنِيَّتِهِ، كَالْفَرْضِ مَعَ النَّفْلِ. وَإِنْ تَيَمَّمَ لِلطَّوَافِ أُبِيحَ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَاةٌ، وَيُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ، وَلَهُ نَفْلٌ وَفَرْضٌ، وَيَدْخُلُ فِي ضِمْنِهِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ. وَإِنْ نَوَى أَحَدَهُمَا لَمْ يَسْتَبِحْ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمَا. وَإِنْ نَوَى فَرْضَ الطَّوَافِ، اسْتَبَاحَ نَفْلَهُ. وَإِنْ نَوَى نَفْلَهُ، لَمْ يَسْتَبِحْ فَرْضَهُ كَالصَّلَاةِ. وَإِنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لِكَوْنِهِ جُنُبًا، أَوْ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ مَسَّ الْمُصْحَفِ، لَمْ يَسْتَبِحْ غَيْرَ مَا نَوَاهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ، وَلَا مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَمْ يَسْتَبِحْهُ، كَمَا لَا يَسْتَبِيحُ الْفَرْضَ إذَا لَمْ يَنْوِهِ. [فَصْل تَيَمَّمَ الصَّبِيُّ لِإِحْدَى الصَّلَوَات الْخَمْسِ ثُمَّ بَلَغَ] (361) فَصْلٌ: وَإِنْ تَيَمَّمَ الصَّبِيُّ لِإِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، ثُمَّ بَلَغَ، لَمْ يَسْتَبِحْ بِتَيَمُّمِهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ كَانَ نَفْلًا، وَيُبَاحُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِهِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِهِ الْبَالِغُ النَّفَلَ. فَأَمَّا إنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، ثُمَّ بَلَغَ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّفْلِ يُبِيحُ فِعْلَ الْفَرْضِ. [مَسْأَلَة يَمْسَحُ الْمُتَيَمِّم وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ] (362) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ) لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَيَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ، وَاسْتِيعَابُ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْهَا، لَا يَسْقُطُ مِنْهَا إلَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَمَا تَحْتَ الشُّعُورِ الْخَفِيفَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد: يُجْزِئُهُ إنْ لَمْ يُصِبْ إلَّا بَعْضَ وَجْهِهِ وَبَعْضَ كَفَّيْهِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ. فَيَجِبُ تَعْمِيمُهُمَا، كَمَا يَجِبُ تَعْمِيمُهُمَا بِالْغَسْلِ؛ لِقَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَيَمْسَحُ وَجْهَهُ بِبَاطِنِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ إلَى الْكُوعَيْنِ بِبَاطِنِ رَاحَتَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ إحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَيُخَلِّلَ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الرَّاحَتَيْنِ قَدْ سَقَطَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: رَأَيْت التَّيَمُّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ أَسْقَطَ تَرْتِيبًا مُسْتَحَقًّا فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتَدُّ بِمَسْحِ بَاطِنِ يَدَيْهِ قَبْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مَسْحِ وَجْهِهِ، وَكَيْفَمَا مَسَحَ بَعْدَ اسْتِيعَابِ مَحَلِّ الْفَرْضِ أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِضَرْبَةٍ، أَوْ ضَرْبَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَكْثَرَ. [فَصْل تَيَمَّمَ بِضَرْبَتَيْنِ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ] (363) فَصْلٌ: وَإِنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَتَيْنِ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ بِالْأُولَى وَجْهَهُ، وَيَمْسَحُ بِالثَّانِيَةِ يَدَيْهِ، فَيَضَعُ بُطُونَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظُهُورِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيُمِرُّهَا عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ قَبَضَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى حَرْفِ الذِّرَاعِ، وَيُمِرُّهَا إلَى مِرْفَقِهِ، ثُمَّ يُدِيرُ بَطْنَ كَفِّهِ إلَى بَطْنِ الذِّرَاعِ، وَيُمِرُّهَا عَلَيْهِ، وَيَرْفَعُ إبْهَامَهُ، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ أَمَرَّ الْإِبْهَامَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَدَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ، وَيَمْسَحُ إحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا، وَلَوْ مَسَحَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَكْثَرَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ مَحَلَّ التَّيَمُّمِ بِالْغُبَارِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ مَسَحَهُ بِضَرْبَتَيْنِ. [فَصْل بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ شَيْءٌ لَمْ يَصِلْهُ التُّرَابُ] فَصْلٌ: فَإِنْ بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ شَيْءٌ لَمْ يَصِلْهُ التُّرَابُ، أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِمَا، مَا لَمْ يَفْصِلْ رَاحَتَهُ، فَإِنْ فَصَلَ رَاحَتَهُ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا غُبَارٌ، جَازَ أَنْ يَمْسَحَ بِهَا. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا غُبَارٌ، احْتَاجَ إلَى ضَرْبَةٍ أُخْرَى. وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ الْوَجْهِ مَسَحَهُ، وَأَعَادَ مَسْحَ يَدَيْهِ، لِيَحْصُلَ التَّرْتِيبُ. وَإِنْ تَطَاوَلَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا، وَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ، اسْتَأْنَفَ التَّيَمُّمَ، لِتَحْصُلَ الْمُوَالَاةُ. وَيُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فَرْعٌ عَلَيْهَا. وَالْحُكْمُ فِي التَّسْمِيَةِ كَالْحُكْمِ فِي التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ، مَا مَضَى مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ. [فَصْل مَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْهُ السَّارِقُ] (365) فَصْلٌ: وَيَجِبُ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْهُ السَّارِقُ، أَوْمَأَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّيَمُّمِ، فَأَوْمَأَ إلَى كَفِّهِ وَلَمْ يُجَاوِزْهُ، وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . مِنْ أَيْنَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ؟ أَلَيْسَ مِنْ هَاهُنَا؟ وَأَشَارَ إلَى الرُّسْغِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا، فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ أَقْطَعَ مِنْ فَوْقِ الرُّسْغِ سَقَطَ مَسْحُ الْيَدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دُونِهِ مَسَحَ مَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمِفْصَلِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ. قَالَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الرُّسْغَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ كَالْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، فَكَمَا أَنَّهُ إذَا قُطِعَ مِنْ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، غَسَلَ مَا بَقِيَ، كَذَا هَاهُنَا يَمْسَحُ الْعَظْمَ الْبَاقِيَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَسْقُطُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْكَفُّ الَّذِي يُؤْخَذُ فِي السَّرِقَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إمْرَارُ التُّرَابِ عَلَيْهِ. وَمَسْحُ الْعَظْمِ الْبَاقِي مَعَ بَقَاءِ الْكَفِّ إنَّمَا كَانَ ضَرُورَةَ اسْتِيعَابِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، فَإِذَا زَالَ الْأَصْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ، سَقَطَ مَا وَجَبَ لِضَرُورَتِهِ، كَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 سَقَطَ عَنْهُ غَسْلُ الْوَجْهِ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الصِّيَامُ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ. [فَصْل أَوْصَلَ التُّرَابَ إلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ بِخِرْقَةِ أَوْ خَشَبَةٍ] (366) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْصَلَ التُّرَابَ إلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ بِخِرْقَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ آلَتَهُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ بِخِرْقَةٍ رَطْبَةٍ. وَإِنْ مَسَحَ مَحَلَّ الْفَرْضِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِبَعْضِ يَدِهِ، أَجْزَأَهُ، إذْ كَانَتْ يَدُهُ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ يَمَّمَهُ غَيْرُهُ جَازَ، كَمَا لَوْ وَضَّأَهُ غَيْرُهُ، وَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي الْمُتَيَمِّمِ دُونَ الْمُيَمِّمِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ الْإِجْزَاءُ وَالْمَنْعُ بِهِ. [مَسْأَلَة كَانَ مَا ضَرَبَ بِيَدَيْهِ غَيْرَ طَاهِرٍ] (367) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَا ضَرَبَ بِيَدَيْهِ غَيْرَ طَاهِرٍ لَمْ يُجْزِهِ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، إلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ، قَالَ: إنْ تَيَمَّمَ بِتُرَابِ الْمَقْبَرَةِ وَصَلَّى، مَضَتْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] . وَالنَّجِسُ لَيْسَ بِطَيِّبٍ؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ طَاهِرٍ، كَالْوُضُوءِ، فَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُنْبَشْ، فَتُرَابُهَا طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَبْشُهَا وَالدَّفْنُ فِيهَا تَكَرَّرَ، لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا؛ لِاخْتِلَاطِهِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى وَلُحُومِهِمْ. وَإِنْ شَكَّ فِي تَكَرُّرِ الدَّفْنِ فِيهَا، أَوْ فِي نَجَاسَةِ التُّرَابِ الَّذِي تَيَمَّمَ بِهِ، جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ. [فَصْل تَيَمَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ] (368) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَضَّأَ جَمَاعَةٌ مِنْ حَوْضٍ وَاحِدٍ. فَأَمَّا مَا تَنَاثَرَ مِنْ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ مَسْحِهِمَا بِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ الْحَدَثَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةٍ أَبَاحَتْ الصَّلَاةَ، أَشْبَهَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الطَّهَارَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. [مَسْأَلَة كَانَ بِهِ قُرْح أَوْ مَرَضٌ مَخُوفٌ وَأَجْنَبِ فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ أَصَابَهُ الْمَاءُ] (369) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ بِهِ قَرْحٌ أَوْ مَرَضٌ مَخُوفٌ، وَأَجْنَبَ، فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ أَصَابَهُ الْمَاءُ، غَسَلَ الصَّحِيحَ مِنْ جَسَدِهِ، وَتَيَمَّمَ لِمَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا: إبَاحَةُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَبُو مُوسَى، وَعَمَّارٌ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ، وَنَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا مُوسَى نَاظَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَبِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قَالَ: فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكَ إذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْمَاءُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ: مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَك أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ . فَقَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ. قَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَصَابَتْهُ الشَّجَّةُ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْجَرِيحَ وَالْمَرِيضَ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ عَطَاءٌ فِي التَّيَمُّمِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْمَجْدُورِ الْجُنُبِ، قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ الْغُسْلِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ تَيَمَّمَ مِنْ خَوْفِ الْبَرْدِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ فِي الَّذِي أَصَابَتْهُ الشَّجَّةُ؛ وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ إذَا خَافَ الْعَطَشَ، أَوْ خَافَ مِنْ سَبُعٍ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهُ. [فَصْل الْخَوْفِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ] (370) فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي الْخَوْفِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُبِيحُهُ إلَّا خَوْفُ التَّلَفِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ إذَا خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، أَوْ تَبَاطُؤَ الْبُرْءِ، أَوْ خَافَ شَيْئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فَاحِشًا، أَوْ أَلَمًا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ إذَا خَافَ ذَهَابَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ؛ مِنْ لِصٍّ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ كَثِيرَةٍ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ هَاهُنَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَأْخِيرَ الصِّيَامِ، لَا يَنْحَصِرُ فِي خَوْفِ التَّلَفِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ، فَكَذَا هَاهُنَا فَأَمَّا الْمَرِيضُ أَوْ الْجَرِيحُ الَّذِي لَا يَخَافُ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، مِثْلُ مَنْ بِهِ الصُّدَاعُ وَالْحُمَّى الْحَارَّةُ، أَوْ أَمْكَنَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْحَارِّ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ التَّيَمُّمِ لِنَفْيِ الضَّرَرِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ هَاهُنَا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَدَاوُد إبَاحَةُ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا؛ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، لَا يَسْتَضِرُّ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَالصَّحِيحِ، وَالْآيَةُ اُشْتُرِطَ فِيهَا عَدَمُ الْمَاءِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ، عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ إضْمَارِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الضَّرَر، وَمِنْهَا أَنَّ الْجَرِيحَ وَالْمَرِيضَ إذَا أَمْكَنَهُ غَسْلُ بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، لَزِمَهُ غَسْلُ مَا أَمْكَنَهُ، وَتَيَمَّمَ لِلْبَاقِي. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: إنْ كَانَ أَكْثَرُ بَدَنِهِ صَحِيحًا غَسَلَهُ، وَلَا تَيَمُّمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ جَرِيحًا، تَيَمَّمَ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لَا يَجِبُ، كَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا شَجَّةٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا، إذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْجَسَدِ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِشَيْءٍ إذَا اسْتَوَى الْجِسْمُ كُلُّهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ. فَيَجِبُ ذَلِكَ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَكْثَرِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يَسْقُطُ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ غَسْلِ بَقِيَّةِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَيُفَارِقُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ هَذَا، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَمَّا لَا يُصِيبُهُ الْمَاءُ، دُونَ مَا أَصَابَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 [فَصْل مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا بِانْتِشَارِ الْمَاءِ إلَى الْجَرِيحِ] (371) فَصْلٌ: مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا بِانْتِشَارِ الْمَاءِ إلَى الْجَرِيحِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْجَرِيحِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ضَبْطُهُ، وَقَدَرَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَضْبِطُهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ غَسْلِهِ، فَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ عَنْهُ كَالْجَرِيحِ. [فَصْل كَانَ الْجَرِيحُ جُنُبًا] (372) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الْجَرِيحُ جُنُبًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْغُسْلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ لِعَدَمِ مَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْعَدَمِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْمَاءِ، وَهَا هُنَا التَّيَمُّمُ لِلْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْجَرِيحِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْجَرِيحَ يَعْلَمُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْجُرْحِ، وَالْعَادِمُ لِمَا يَكْفِي جَمِيعَ أَعْضَائِهِ لَا يَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَيَمَّمُ لَهُ إلَّا بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَفَرَاغِهِ، فَلَزِمَهُ تَقْدِيمُ اسْتِعْمَالِهِ. وَإِنْ كَانَ الْجَرِيحُ يَتَطَهَّرُ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ فَيَجْعَلُ التَّيَمُّمَ فِي مَكَانِ الْغُسْلِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ بَدَلًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ فِي وَجْهِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْوُضُوءِ. وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ وَجْهِهِ خُيِّرَ بَيْنَ غَسْلِ صَحِيحِ وَجْهِهِ ثُمَّ تَيَمَّمَ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَيَمَّمَ ثُمَّ يَغْسِلَ صَحِيحَ وَجْهِهِ وَيُتَمِّمَ وُضُوءَهُ. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ فِي عُضْوٍ آخَرَ، لَزِمَهُ غَسْلُ مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ كَانَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، احْتَاجَ فِي كُلِّ عُضْوٍ إلَى تَيَمُّمٍ فِي مَحَلِّ غَسْلِهِ، لِيَحْصُلَ التَّرْتِيبُ. وَلَوْ غَسَلَ صَحِيحَ وَجْهِهِ، ثُمَّ تَيَمَّمَ لَهُ وَلِيَدَيْهِ تَيَمُّمًا وَاحِدًا، لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ جُزْءٍ مِنْ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالتَّيَمُّمِ عَنْ جُمْلَةِ الطَّهَارَةِ، حَيْثُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قُلْنَا: إذَا كَانَ عَنْ جُمْلَةِ الطَّهَارَةِ، فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ بَعْضِهَا، نَابَ عَنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ التَّرْتِيبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ هَذَا التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ مُفْرَدَةٌ، فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّهَارَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ كَانَ الْجَرِيحُ جُنُبًا؛ وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يَتَيَمَّمَ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِ غَسْلِهِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ عَنْ جُمْلَةِ الْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا حَرَجًا وَضَرَرًا، فَيَنْدَفِعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَ هَذَا. وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْهُ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. [فَصْل تَيَمَّمَ الْجَرِيحُ لِجُرْحِ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ] (373) وَإِنْ تَيَمَّمَ الْجَرِيحُ لِجُرْحٍ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَلَمْ تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ بِالْمَاءِ إنْ كَانَتْ غُسْلًا لِجَنَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ وَالْمُوَالَاةَ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ فِيهَا. وَإِنْ كَانَتْ وُضُوءًا، وَكَانَ الْجُرْحُ فِي وَجْهِهِ، خُرِّجَ بُطْلَانُ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا؛ فَمَنْ أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ أَبْطَلَ الْوُضُوءَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْعُضْوِ الَّذِي نَابَ التَّيَمُّمُ عَنْهُ بَطَلَتْ، فَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ فِيمَا بَعْدَهُ لَتَقَدَّمَتْ طَهَارَةُ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوتُ التَّرْتِيبُ. [وَمَنْ] لَمْ يُوجِبْ التَّرْتِيبَ لَمْ يُبْطِلْ الْوُضُوءَ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَا غَيْرُ. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ فِي إحْدَى رِجْلَيْهِ، أَوْ فِيهِمَا، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، لَا تَجِبُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، وَعَلَيْهِ التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ. وَمَنْ أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي الْمُوَالَاةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، وَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجِبُ، فَتَجِبُ هَاهُنَا، وَيَبْطُلُ الْوُضُوءُ لِفَوَاتِهَا. وَالثَّانِيَةُ لَا تَجِبُ، فَيَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ وَحْدَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ، فَلَمْ تَجِبْ الْمُوَلَّاةُ بَيْنَهُمَا، كَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ؛ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِهَا حَرَجًا، فَيَنْتَفِي بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . [فَصْل خَافَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُسَخِّنَ الْمَاءَ] (374) فَصْلٌ: وَإِنْ خَافَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُسَخِّنَ الْمَاءَ، أَوْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ الضَّرَرَ، مِثْلُ أَنْ يَغْسِلَ عُضْوًا عُضْوًا، وَكُلَّمَا غَسَلَ شَيْئًا سَتَرَهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، تَيَمَّمَ وَصَلَّى فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ: يَغْتَسِلُ، وَإِنْ مَاتَ، لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ عُذْرًا. وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكَ أَحَدُهُمْ إذَا بَرَدَ عَلَيْهِ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَدَعَهُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِمَا «، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: احْتَلَمْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْت إنْ اغْتَسَلْت أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْت، ثُمَّ صَلَّيْت بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا عَمْرُو، أَصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْته بِاَلَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْت: إنِّي سَمِعْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» . وَسُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ كَالْجَرِيحِ وَالْمَرِيضِ، وَكَمَا لَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ عَطَشًا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا فِي طَلَبِ الْمَاءِ. وَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرٍو، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَمَرَهُ بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمَرِيضَ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ. وَالثَّانِيَةُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِعَادَةَ كَنِسْيَانِ الطَّهَارَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَيُفَارِقُ نِسْيَانَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَضَرَ مَظِنَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ، وَدُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، بِخِلَافِ السَّفَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعِيدُ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَة قَالَ إذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتَ] (375) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتَ إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ، وَالتَّطَوُّعَ إلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى) الْمَذْهَبُ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَدُخُولِهِ، وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا عَلَّقَ بُطْلَانَهُ، بِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى تَجَوُّزًا مِنْهُ، إذَا كَانَ خُرُوجُ وَقْتِ الصَّلَاةِ مُلَازِمًا لِدُخُولِ وَقْتِ الْأُخْرَى، إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَقْتُ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مُنْفَكًّا عَنْ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمُتَيَمِّمِ، قَالَ: إنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، أَوْ يُحْدِثَ؛ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُنُبِ. يَعْنِي قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا ذَرٍّ، «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ بَشَرَتَك» . وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِالْوَقْتِ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَلَنَا، مَا رَوَى الْحَارِثُ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَابْنُ عُمَرَ قَالَ: تَيَمَّمْ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ؛ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَطَهَارَةُ الْمَاءِ لَيْسَتْ لِلضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَالْحَدِيثُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْوُضُوءَ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَيَلْزَمُهُ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا نَوَى بِتَيَمُّمِهِ مَكْتُوبَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ الصَّلَوَاتِ، فَيُصَلِّي الْحَاضِرَةَ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَيَقْضِي فَوَائِتَ، وَيَتَطَوَّعُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا. هَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُصَلِّي بِهِ فَرْضَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ إلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى. وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَا يَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي وَقْتَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهَا طَهَارَةٌ صَحِيحَةٌ، أَبَاحَتْ فَرْضًا، فَأَبَاحَتْ فَرْضَيْنِ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ تَيَمُّمٌ صَحِيحٌ مُبِيحٌ لِلتَّطَوُّعِ، نَوَى بِهِ الْمَكْتُوبَةَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا، كَحَالَةِ ابْتِدَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الْأُصُولِ، إنَّمَا تَتَقَيَّدُ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ، كَطَهَارَةِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ، وَهَذِهِ فِي النَّوَافِلِ، وَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَيَمُّمٍ أَبَاحَ صَلَاةً أَبَاحَ مَا هُوَ مِنْ نَوْعِهَا، بِدَلِيلِ صَلَوَاتِ النَّوَافِلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَرْوِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِهِ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلَوَاتٍ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَيَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَ فَرْضَيْ وَقْتَيْنِ، لِبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ، بِخُرُوجِ وَقْتِ الْأُولَى مِنْهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا ذَكَرَ قَضَاءَ الْفَوَائِتِ وَالتَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَمْعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْجَمْعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَبَاحَ فَرْضَيْنِ فَائِتَيْنِ مَا أَبَاحَ فَرْضَيْنِ فِي الْجَمْعِ، كَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيس لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَفْتَقِرُ إلَى تَيَمُّمٍ، وَالتَّيَمُّمُ يَفْتَقِرُ إلَى طَلَبٍ، وَالطَّلَبُ يَقْطَعُ الْجَمْعَ، وَمِنْ شَرْطِهِ الْمُوَالَاةُ - يَعْنِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَأَمَّا الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي الصَّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُمْكِنُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ، وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ فَكَيْفَ تَتَأَخَّرُ الْفَائِتَةُ عَنْهَا؟ قُلْنَا: يُمْكِنُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَدِّمَ الْفَائِتَةَ عَلَى الْحَاضِرَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الثَّانِي أَنْ يَنْسَى الْفَائِتَةَ، ثُمَّ يَذْكُرَهَا بَعْدَ الْحَاضِرَةِ. الثَّالِث أَنْ يَخْشَى فَوَاتَ وَقْتِ الْحَاضِرَةِ، فَيُصَلِّيَهَا، ثُمَّ يُصَلِّيَ فِي بَقِيَّةِ الْوَقْتِ فَوَائِتَ. الرَّابِع أَنَّهُ إذَا كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْحَاضِرَةِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَاضِرَةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيُقَدِّمَهَا عَلَى الْفَوَائِتِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى بَعْضِ الْفَوَائِتِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا، لَلَزِمَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْحَاضِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ [مَسْأَلَة إذَا خَافَ الْعَطَشَ حَبَسَ الْمَاءَ وَتَيَمَّمَ] (376) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا خَافَ الْعَطَشَ حَبَسَ الْمَاءَ وَتَيَمَّمَ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، وَخَشِيَ الْعَطَشَ، أَنَّهُ يُبْقِي مَاءَهُ لِلشُّرْبِ، وَيَتَيَمَّمُ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَالْمَرِيضِ. [فَصْل الْمُتَيَمِّم إذَا خَافَ عَلَى رَفِيقِهِ أَوْ رَقِيقِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ] (377) فَصْلٌ: وَإِنْ خَافَ عَلَى رَفِيقِهِ، أَوْ رَقِيقِهِ، أَوْ بَهَائِمِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ رَفِيقِهِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَالْخَائِفُ عَلَى بَهَائِمِهِ خَائِفٌ مِنْ ضَيَاعِ مَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَجَدَ مَاءً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ يَخَافُهُ عَلَى بَهِيمَتِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ وَجَدَ عَطْشَانَ يَخَافُ تَلَفَهُ، لَزِمَهُ سَقْيُهُ، وَيَتَيَمَّمُ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ مَعَهُ إدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ لِلْوُضُوءِ، فَيَرَى قَوْمًا عِطَاشًا، أَحَبُّ إلَيْك أَنْ يَسْقِيَهُمْ أَوْ يَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: يَسْقِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَيَمَّمُونَ، وَيَحْبِسُونَ الْمَاءَ لِشِفَاهِهِمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي: لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ تُقَدَّمُ عَلَى الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ رَأَى حَرِيقًا، أَوْ غَرِيقًا، فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِهَا، لَزِمَهُ تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَالْخُرُوجُ لِإِنْقَاذِهِ، فَلَأَنْ يُقَدِّمَهَا عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ، أَنَّ بَغِيًّا أَصَابَهَا الْعَطَشُ، فَنَزَلَتْ بِئْرًا فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا صَعِدَتْ رَأَتْ كَلْبًا يَلْحَسُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ أَصَابَ هَذَا مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ مَا أَصَابَنِي. فَنَزَلَتْ فَسَقَتْهُ بِمُوقِهَا، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْأَجْرَ مِنْ سَقْيِ الْكَلْبِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. [فَصْل وَجَدَ الْخَائِفُ مِنْ الْعَطَشِ مَاءً طَاهِرًا وَمَاءً نَجِسًا] (378) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْخَائِفُ مِنْ الْعَطَشِ مَاءً طَاهِرًا، وَمَاءً نَجِسًا، يَكْفِيهِ أَحَدُهُمَا لِشُرْبِهِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُ الْمَاءَ الطَّاهِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 لِشُرْبِهِ، وَيُرِيقُ النَّجِسَ إنْ اسْتَغْنَى عَنْ شُرْبِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَوَضَّأُ بِالطَّاهِرِ، وَيَحْبِسُ النَّجِسَ لِشُرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَاءً طَاهِرًا مُسْتَغْنًى عَنْ شُرْبِهِ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مَاءً كَثِيرًا طَاهِرًا، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، وَلَا عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ شُرْبُهُ سِوَى هَذَا الطَّاهِرِ، فَجَازَ لَهُ حَبْسُهُ إذَا خَافَ الْعَطَشَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَاهُ. وَإِنْ وَجَدَهُمَا وَهُوَ عَطْشَانُ، شَرِبَ الطَّاهِرَ، وَأَرَاقَ النَّجِسَ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَقْتِ، أَوْ قَبْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ شَرِبَ النَّجِسَ؛ لِأَنَّ الطَّاهِرَ مُسْتَحِقُّ الطَّهَارَةِ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ شُرْبَ النَّجِسِ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الطَّاهِرُ مُسْتَحِقًّا لِلطَّهَارَةِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ شُرْبِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ شُرْبِهِ، وَوُجُودُ النَّجِسِ كَعَدَمِهِ؛ لِتَحْرِيمِ شُرْبِهِ. [فَصْل كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ فَاتَ الْوَقْتُ] (379) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ فَاتَ الْوَقْتُ، لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّيَمُّمُ، سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ مُسَافِرًا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ: لَهُ التَّيَمُّمُ. رَوَاهُ عَنْهُمَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ. قَالَ الْوَلِيدُ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالُوا: يَغْتَسِلُ، وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ، فَلَمْ يُبَحْ تَرْكُهَا خِيفَةَ فَوْتِ وَقْتِهَا، كَسَائِرِ شَرَائِطِهَا. وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْعِيدِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَشْبَهَ الْعَادِمَ، وَلَنَا الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْجِنَازَةِ فَكَذَلِكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْأُخْرَى، يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهَا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْوُضُوءِ، فَأَشْبَهَ الْعَادِمَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يُصَلِّي عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ؛ لِأَنَّهَا لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ، فَأَشْبَهَتْ الدُّعَاءَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ. وَقَوْلُهُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ ثُمَّ أَبَاحَ تَرْكَ الْغُسْلِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْمَاءِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ [مَسْأَلَة نَسِيَ الْجَنَابَةَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ] (380) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا نَسِيَ الْجَنَابَةَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ لَمْ يُجْزِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا بِفِعْلِ الْأُخْرَى كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ، وَهَذَا لَمْ يَنْوِ الْجَنَابَةَ، فَلَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَلَمْ تُجْزِ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ وَلِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ، فَلَمْ تَتَأَدَّ إحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ، وَلِهَذَا تُجْزِئُ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا عَنْ نِيَّةِ الْآخَرِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ. [فَصْل التَّيَمُّم لِلْجَنَابَةِ لَا يُجْزِئ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ] (381) فَصْلٌ: وَإِنْ تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ، لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْخِلَافُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْيِينِ مَا تَيَمَّمَ لَهُ مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنَّجَاسَةِ؛ فَإِنْ نَوَى الْجَمِيعَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَاحِدٌ، فَأَشْبَهَ طَهَارَةَ الْمَاءِ، وَإِنْ نَوَى بَعْضَهَا أَجْزَأَهُ عَنْ الْمَنْوِيِّ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ التَّيَمُّمُ عَنْ جُرْحٍ فِي عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، نَوَى التَّيَمُّمَ عَنْ غَسْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ. [فَصْل التَّيَمُّم لِلْجَنَابَةِ دُونَ الْحَدَثِ] (382) فَصْلٌ: وَإِذَا تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ دُونَ الْحَدَثِ، أُبِيحَ لَهُ مَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَاللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ تُبَحْ لَهُ الصَّلَاةُ، وَالطَّوَافُ، وَمَسُّ الْمُصْحَفِ. وَإِنْ أَحْدَثَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي تَيَمُّمِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْغُسْلِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ الْحَدَثُ فِيهِ، كَالْغُسْلِ. وَإِنْ تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ لِلْحَدَثِ، وَبَقِيَ تَيَمُّمُ الْجَنَابَةِ بِحَالِهِ، وَلَوْ تَيَمَّمَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ طُهْرِهَا مِنْ حَيْضِهَا لِحَدَثِ الْحَيْضِ، ثُمَّ أَجْنَبَتْ، لَمْ يَحْرُمْ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ تَيَمُّمِ الْحَيْضِ بَاقٍ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يُوجِبُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَإِنْ قُلْنَا كُلُّ صَلَاةٍ تَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ، احْتَاجَ كُلُّ وَطْءٍ إلَى تَيَمُّمٍ يَخُصُّهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [مَسْأَلَة وَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ] (383) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا وَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، خَرَجَ فَتَوَضَّأَ، أَوْ اغْتَسَلَ إنْ كَانَ جُنُبًا، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجًا مِنْهَا؛ فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ، لِبُطْلَانِ طَهَارَتِهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، فَيَتَوَضَّأُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَيَغْتَسِلُ إنْ كَانَ جُنُبًا. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، مَضَى فِيهَا. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ: كُنْت أَقُولُ يَمْضِي. ثُمَّ تَدَبَّرْت، فَإِذَا أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ وَجَدَ الْمُبْدَلَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِمَقْصُودِ الْبَدَلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الْخُرُوجُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِالصِّيَامِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى إبْطَالِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ إبْطَالِهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. دَلَّ بِمَفْهُومِهِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَهُورًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَبِمَنْطُوقِهِ عَلَى وُجُوبِ إمْسَاسِهِ جِلْدَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَبَطَلَ تَيَمُّمُهُ، كَالْخَارِجِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَبَطَلَتْ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا. يُحَقِّقُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ كَوْنِهِ مُحْدِثًا؛ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ كَالْأَصْلِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْبَدَلُ نَفْسُهُ، فَنَظِيرُهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُدَّةَ الصِّيَامِ تَطُولُ، فَيَشُقُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ شَاقَّيْنِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ، وَآلَتَهُ صَحِيحَةٌ، وَالْمَوَانِعَ مُنْتَفِيَةٌ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ إبْطَالِ الصَّلَاةِ. قُلْنَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى إبْطَالِ الصَّلَاةِ، بَلْ هِيَ تَبْطُلُ بِزَوَالِ الطَّهَارَةِ، كَمَا فِي نَظَائِرِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى خَرَجَ فَتَوَضَّأَ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَبْنِي؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ، وَقَدْ فَاتَتْ بِبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ، فَلَا يَجُوزُ بَقَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ فَوَاتِ شَرْطِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَقَاءُ مَا مَضَى صَحِيحًا مَعَ خُرُوجِهِ مِنْهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا. وَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ انْبَنَى عَلَى طَهَارَةٍ ضَعِيفَةٍ هَاهُنَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، بِخِلَافِ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ. [فَصْل الْمُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ إذَا وَجَدَ مَاءً فِي الصَّلَاةِ أَوْ تُرَابًا] (384) فَصْلٌ: وَالْمُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَا تَيَمُّمٍ، إذَا وَجَدَ مَاءً فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تُرَابًا خَرَجَ مِنْهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَرَّجَ فِيهَا مِثْلُ مَا فِي التَّيَمُّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ؛ إذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ، فَأَشْبَهَتْ السُّتْرَةَ إذَا عَجَزَ عَنْهَا، فَصَلَّى عُرْيَانًا، ثُمَّ وَجَدَ السُّتْرَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ قَرِيبًا مِنْهُ، وَكُلُّ صَلَاةٍ يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا إذَا زَالَ الْعُذْرُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُهَا. وَإِنْ قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا، فَإِنَّهَا تُشْبِهُ صَلَاةَ الْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا [فَصْل يَمَّمَ الْمَيِّتَ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ] (385) فَصْلٌ: وَلَوْ يَمَّمَ الْمَيِّتَ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ مُمْكِنٌ، غَيْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 مُتَوَقِّفٍ عَلَى إبْطَالِ الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَمَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ. (386) فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَلِّي الْخُرُوجُ لِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي مَقْصُودِ الْبَدَلِ، فَخُيِّرَ بَيْنَ الرُّجُوعِ إلَى الْمُبْدَلِ، وَبَيْنَ إتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ، كَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ أَمْكَنَهُ الرَّقَبَةُ. وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُبِيحُ الْخُرُوجَ مِنْهَا، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْل رَأَى مَاءً فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ انْقَلَبَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ] (387) فَصْلٌ: إذَا رَأَى مَاءً فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ انْقَلَبَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ. فَقَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَتَيَمُّمُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَانْدَفَقَ وَهُوَ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ صَلَاةً أُخْرَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ افْتِتَاحَ صَلَاةٍ أُخْرَى. وَلَوْ تَلَبَّسَ بِنَافِلَةٍ، ثُمَّ رَأَى مَاءً؛ فَإِنْ كَانَ نَوَى عَدَدًا، أَتَى بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى عَدَدًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الصَّلَاةِ، عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. قَالَ الشَّيْخُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّنَا إذَا قُلْنَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ. فَلَهُ افْتِتَاحُ صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَمْ تُبْطِلْ التَّيَمُّمَ، وَلَوْ بَطَلَ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ، وَمَا وُجِدَ بَعْدَهَا لَا يُبْطِلُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَآهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبُعٌ ثُمَّ انْدَفَقَ قَبْلَ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا يَشَاءُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرَ الْمَاءَ. [فَصْل تَيَمَّمَ ثُمَّ رَأَى رَكْبًا يَظُنُّ أَنَّ مَعَهُ مَاءً] (388) فَصْلٌ: إذَا تَيَمَّمَ، ثُمَّ رَأَى رَكْبًا يَظُنُّ أَنَّ مَعَهُ مَاءً، وَقُلْنَا بِوُجُوبِ الطَّلَبِ، أَوْ رَأَى خُضْرَةً، أَوْ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى الْمَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ فِيهِ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَأَى سَرَابًا ظَنَّهُ مَاءً، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الطَّلَبُ بَطَلَ التَّيَمُّمُ. وَسَوَاءٌ تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ظَنِّهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ. فَأَمَّا إنْ رَأَى الرَّكْبَ أَوْ الْخُضْرَةَ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَلَا تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا بِطَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ تَيَمُّمُهُ أَيْضًا، إذَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَوُجُوبُ الطَّلَبِ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُبْطِلًا إنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَيْسَ فِي هَذَا نَصٌّ، وَلَا مَعْنَى نَصٍّ، فَيَنْتَفِي الدَّلِيلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 (389) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِيهَا، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، فَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. [فَصْل يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ عَنْ الْحَدَثِ بِكُلِّ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ] (390) فَصْلٌ: وَيَبْطُلُ التَّيَمُّمُ عَنْ الْحَدَثِ بِكُلِّ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ، وَيَزِيدُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ الْمَقْدُورِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ظَنَّ وُجُودِ الْمَاءِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ مَا لَوْ نَزَعَ عِمَامَةً أَوْ خُفًّا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ. وَذُكِرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلْوُضُوءِ، فَأَبْطَلَ التَّيَمُّمَ، كَسَائِرِ مُبْطِلَاتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلتَّيَمُّمِ، وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ لَمْ يَمْسَحْ فِيهَا عَلَيْهِ، فَلَا يَبْطُلُ بِنَزْعِهِ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمَلْبُوسُ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُبْطِلٌ لِلْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ مُبْطِلَ الْوُضُوءِ نَزْعُ مَا هُوَ مَمْسُوحٌ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْمَسْحِ لَا يَصِيرُ بِهَا مَاسِحًا، وَلَا بِمَنْزِلَةِ الْمَاسِحِ، كَمَا لَوْ لَبِسَ عِمَامَةً يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ تَحْتَهَا، فَإِنَّهُ لَا تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ بِنَزْعِهَا. فَأَمَّا التَّيَمُّمُ لِلْجَنَابَةِ، فَلَا يُبْطِلُهُ إلَّا رُؤْيَةُ الْمَاءِ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ، وَمُوجِبَاتُ الْغُسْلِ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ لِحَدَثِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، لَا يَزُولُ حُكْمُهُ إلَّا بِحَدَثِهِمَا، أَوْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. [فَصْل التَّيَمُّمُ لِكُلِّ مَا يَتَطَهَّر لَهُ مِنْ نَافِلَةٍ أَوْ مَسِّ مُصْحَفٍ] (391) فَصْلٌ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ مَا يُتَطَهَّرُ لَهُ مِنْ نَافِلَةٍ، أَوْ مَسِّ مُصْحَفٍ، أَوْ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ، أَوْ سُجُودِ تِلَاوَةٍ، أَوْ شُكْرٍ، أَوْ لُبْثٍ فِي مَسْجِدٍ. قَالَ أَحْمَدُ، يَتَيَمَّمُ وَيَقْرَأُ جُزْأَهُ. يَعْنِي الْجُنُبَ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو مَخْرَمَةَ: لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا لِمَكْتُوبَةٍ. وَكَرِهَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنْ يَمَسَّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُصْحَفَ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ؛ وَلِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ، فَيُسْتَبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ، كَالْمَكْتُوبَةِ. [فَصْل كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا] (392) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا؛ لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ لَهَا وَصَلَّى. قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ، يَتَيَمَّمُ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَأَبِي ثَوْرٍ: يَمْسَحُهَا بِالتُّرَابِ، وَيُصَلِّي؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ النَّجَاسَةِ إنَّمَا تَكُونُ فِي مَحَلِّ النَّجَاسَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ، أَيْ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ كَمَا يُصَلِّي الْجُنُبُ الَّذِي يَتَيَمَّمُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّيَمُّمِ لِلْحَدَثِ، وَغَسْلُ النَّجَاسَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، لَا فِي غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْغُسْلِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّيَمُّمِ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَقَوْلُهُ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فِي الْبَدَنِ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ، فَجَازَ لَهَا التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالْحَدَثِ وَيُفَارِقُ الْغَسْلُ التَّيَمُّمَ فَإِنَّهُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ يُؤْتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فِيمَا إذَا تَيَمَّمَ لِجُرْحٍ فِي رِجْلِهِ، أَوْ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ غَيْرِ وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ، وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ. قُلْنَا: هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَفِي مَعْنَى طَهَارَةِ الْحَدَثِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِلنَّجَاسَةِ وَصَلَّى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَ عَلَى جُرْحِهِ نَجَاسَةٌ يَسْتَضِرُّ بِإِزَالَتِهَا، تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَيَمَّمَ لِلنَّجَاسَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَصَلَّى، لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ عِنْدِي. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ «؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ» ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ نَابَ عَنْهَا التَّيَمُّمُ، فَلَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ فِيهَا، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَكَمَا لَوْ تَيَمَّمَ لِنَجَاسَةٍ عَلَى جُرْحِهِ يَضُرُّهُ إزَالَتُهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ تَيَمُّمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، فَمَعَ التَّيَمُّمِ أَوْلَى؛ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى ثَوْبِهِ، أَوْ غَيْرِ بَدَنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ فِي الْبَدَنِ، فَلَا يَنُوبُ عَنْ غَيْرِ الْبَدَنِ كَالْغَسْلِ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْبَدَنِ لَا يَنُوبُ فِيهِ الْجَامِدُ عِنْدَ الْعَجْزِ، بِخِلَافِ الْبَدَنِ. [فَصْل اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَحَدَثٌ وَمَعَهُ مَا لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا] (393) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَحَدَثٌ، وَمَعَهُ مَا لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا، غَسَلَ النَّجَاسَةَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: اتَّفَقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَسُفْيَانُ عَلَى هَذَا. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْحَدَثِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ لِلنَّجَاسَةِ. وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى ثَوْبِهِ، قَدَّمَ غَسْلَهَا، وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَدَعُ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، وَالْوُضُوءُ أَشَدُّ مِنْ غَسْلِ الثَّوْبِ. وَحَكَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ فِي الدَّمِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ غَسْلَ نَجَاسَةِ الْبَدَنِ مَعَ أَنَّ لِلتَّيَمُّمِ فِيهَا مَدْخَلًا، فَتَقْدِيمُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ أَوْلَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَإِنْ اجْتَمَعَ نَجَاسَةٌ عَلَى الثَّوْبِ، وَنَجَاسَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا، غَسَلَ الثَّوْبَ، وَتَيَمَّمَ لِنَجَاسَةِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ لِلتَّيَمُّمِ فِيهَا مَدْخَلًا. [فَصْل اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْلُ حَيْضٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمْ] (394) فَصْلٌ: وَإِذَا اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْلُ حَيْضٍ، وَمَعَهُمْ مَاءٌ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمْ؛ فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكُهُ الْمَيِّتَ أَوْ أَحَدَ الْحَيَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِغَيْرِهِمْ، وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ، فَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، الْمَيِّتُ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ غُسْلَهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ طَهَارَةً كَامِلَةً، وَالْحَيُّ يَرْجِعُ إلَى الْمَاءِ فَيَغْتَسِلُ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ تَنْظِيفُهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْحَيُّ يُقْصَدُ بِغُسْلِهِ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ. وَالثَّانِيَةُ الْحَيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالْغُسْلِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ. اخْتَارَ هَذَا الْخَلَّالُ. وَهَلْ يُقَدَّمُ الْجُنُبُ أَوْ الْحَائِضُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَائِضُ؛ لِأَنَّهَا تَقْضِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقَّ زَوْجِهَا فِي إبَاحَةِ وَطْئِهَا. وَالثَّانِي: الْجُنُبُ إذَا كَانَ رَجُلًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ الْمَرْأَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصْلُحُ إمَامًا لَهَا، وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَتِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمْ نَجَاسَةٌ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ. وَإِنْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي مَكَان فَهُوَ لِلْأَحْيَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجِدُ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ، فَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ، فَلِلْحَيِّ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إتْلَافُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعَطَشِ، فَيَأْخُذَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمُحْدِثٌ، فَالْجُنُبُ أَحَقُّ إنْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهِ مَا لَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُحْدِثُ. وَإِنْ كَانَ وَفْقَ حَاجَةِ الْمُحْدِثِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهِ طَهَارَةً كَامِلَةً. وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَالْجُنُبُ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهِ تَطْهِيرَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ. وَإِنْ كَانَ يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَفْضُلُ مِنْهُ فَضْلَةٌ لَا تَكْفِي الْآخَرَ، فَالْمُحْدِثُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فَضْلَتَهُ يُمْكِنُ لِلْجُنُبِ اسْتِعْمَالُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِغُسْلِهِ مَا لَا يَسْتَفِيدُ الْمُحْدِثُ. وَإِذَا تَغَلَّبَ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْمَاءِ، فَاسْتَعْمَلَهُ، كَانَ مُسِيئًا وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَمْلِكُهُ، وَإِنَّمَا رَجَحَ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 [فَصْل هَلْ يُكْرَهُ لِعَادِمِ الْمَاء جِمَاعُ زَوْجَتِهِ] (395) فَصْلٌ: وَهَلْ يُكْرَهُ لِلْعَادِمِ جِمَاعُ زَوْجَتِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ طَهَارَةً مُمْكِنًا بَقَاؤُهَا. وَالثَّانِيَةُ لَا يُكْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ أَرْبَعُ لَيَالٍ، فَلْيُصِبْ أَهْلَهُ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثٌ فَمَا دُونَهَا، فَلَا يُصِبْهَا. وَالْأَوْلَى جَوَازُ إصَابَتِهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لِأَنَّ «أَبَا ذَرٍّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أَعْزُبُ عَنْ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي، فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَأَصَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ جَارِيَةٍ لَهُ رُومِيَّةٍ، وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ عَمَّارٌ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: هُوَ سُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبِي ذَرٍّ وَعَمَّارٍ وَغَيْرِهِمَا. فَإِذَا فَعَلَا وَوَجَدَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَغْسِلَانِ بِهِ فَرْجَيْهِمَا غَسَلَاهُمَا، ثُمَّ تَيَمَّمَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدَا، تَيَمَّمَا لِلْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالنَّجَاسَةِ، وَصَلَّيَا. [مَسْأَلَة إذَا شَدَّ الْكَسِيرُ الْجَبَائِرَ وَكَانَ طَاهِرًا وَلَمْ يَعْدُ بِهَا مَوْضِعَ الْكَسْرِ] (396) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا شَدَّ الْكَسِيرُ الْجَبَائِرَ، وَكَانَ طَاهِرًا وَلَمْ يَعْدُ بِهَا مَوْضِعَ الْكَسْرِ، مَسَحَ عَلَيْهَا كُلَّمَا أَحْدَثَ، إلَى أَنْ يَحُلَّهَا) الْجَبَائِرُ: مَا يُعَدُّ لِوَضْعِهِ عَلَى الْكَسْرِ؛ لِيَنْجَبِرَ. وَقَوْلُهُ: " وَلَمْ يَعْدُ بِهَا مَوْضِعَ الْكَسْرِ ". أَرَادَ لَمْ يَتَجَاوَزْ الْكَسْرَ إلَّا بِمَا لَا بُدَّ مِنْ وَضْعِ الْجَبِيرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْجَبِيرَةَ إنَّمَا تُوضَعُ عَلَى طَرَفَيْ الصَّحِيحِ؛ لِيَرْجِعَ الْكَسْرُ. قَالَ الْخَلَّالُ: كَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اسْتَحَبَّ أَنْ يَتَوَقَّى أَنْ يَبْسُطَ الشَّدَّ عَلَى الْجُرْحِ بِمَا يُجَاوِزُهُ، ثُمَّ سَهَّلَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَالْمَرُّوذِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، وَهُوَ شَدِيدٌ جِدًّا، وَلَا بَأْسَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْعَصَائِبِ، كَيْفَ شَدَّهَا. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَدَّهَا عَلَى مَكَان يَسْتَغْنِي عَنْ شَدِّهَا عَلَيْهِ، كَانَ تَارِكًا لِغَسْلِ مَا يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ شَدَّهَا عَلَى مَا لَا كَسْرَ فِيهِ، فَإِذَا شَدَّهَا عَلَى طَهَارَةٍ، وَخَافَ الضَّرَرَ بِنَزْعِهَا، فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، إلَى أَنْ يَحُلَّهَا. وَمِمَّنْ رَأَى الْمَسْحَ عَلَى الْعَصَائِبِ ابْنُ عُمَرَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَطَاءٌ. وَأَجَازَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ. وَلَنَا مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «انْكَسَرَتْ إحْدَى زَنْدَيَّ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَصَابَتْهُ الشَّجَّةُ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّهُ مَسَحَ عَلَى حَائِلٍ أُبِيحَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَهُ الْإِعَادَةُ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ [فَصْل يُفَارِقُ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ مَسْحَ الْخُفِّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ] (397) فَصْلٌ: وَيُفَارِقُ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ مَسْحَ الْخُفِّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرَرِ بِنَزْعِهَا، وَالْخُفُّ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِالْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَعْمِيمِهَا بِهِ، بِخِلَافِ الْخُفِّ؛ فَإِنَّهُ يَشُقُّ تَعْمِيمُ جَمِيعِهِ، وَيُتْلِفُهُ الْمَسْحُ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَبَعْضُهَا فِي غَيْرِهِ، مَسَحَ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. الثَّالِثُ أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلَا ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ مَسْحَهَا لِلضَّرُورَةِ ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو فِي مَسْحِهَا إلَى حَلِّهَا، فَيُقَدَّرُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. الرَّابِعُ، أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، بِخِلَافِ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بِنَزْعِهَا فِيهَا، بِخِلَافِ الْخُفِّ. الْخَامِسُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ عَلَى شَدِّهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَقَالَ: قَدْ رَوَى حَرْبٌ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمَرُّوذِيُّ، فِي ذَلِكَ سُهُولَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَاحْتَجَّ بِابْنِ عُمَرَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، وَيَغْلُظُ عَلَى النَّاسِ جِدًّا، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَيُقَوِّي هَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَصَابَتْهُ، الشَّجَّةُ، فَإِنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا كَانَ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، وَيَمْسَحَ عَلَيْهَا.» وَلَمْ يَذْكُرْ الطَّهَارَةَ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ طَهَارَةً؛ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا جَازَ دَفْعًا لِمَشَقَّةِ نَزْعِهَا، وَنَزْعُهَا، يَشُقُّ إذَا لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، كَمَشَقَّتِهِ إذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَشُدَّهَا عَلَى طَهَارَةٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَائِلٌ يَمْسَحُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ، كَسَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ. فَعَلَى هَذَا إذَا لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، ثُمَّ خَافَ مِنْ نَزْعِهَا، تَيَمَّمَ لَهَا. وَكَذَا إذَا تَجَاوَزَ بِالشَّدِّ عَلَيْهَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، وَخَافَ مِنْ نَزْعِهَا، تَيَمَّمَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَخَافُ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ، فَيَتَيَمَّمُ لَهُ كَالْجُرْحِ نَفْسِهِ. [فَصْل لَا يَحْتَاجُ مَعَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ إلَى تَيَمُّمٍ] (398) فَصْلٌ: وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ مَسْحِهَا إلَى تَيَمُّمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ مَسْحِهَا فِيمَا إذَا تَجَاوَزَ بِهَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ يَقْتَضِي الْمَسْحَ، وَالزَّائِدُ يَقْتَضِي التَّيَمُّمَ، وَكَذَلِكَ فِيمَا إذَا شَدَّهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَةِ الْمَسْحِ عَلَيْهَا. فَإِذَا قُلْنَا لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا. كَانَ فَرْضُهَا التَّيَمُّمَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ فَرْضُهَا الْمَسْحَ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا خَرَجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْجُمْلَةِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَصَابَتْهُ الشَّجَّةُ. وَلَنَا أَنَّهُ مَحَلٌّ وَاحِدٌ، فَلَا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ بَدَلَيْنِ، كَالْخُفِّ؛ وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي طَهَارَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَالْخُفِّ، وَصَاحِبُ الشَّجَّةِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. [فَصْل لَا فَرْقَ فِي التَّيَمُّم بَيْنَ كَوْنِ الشَّدِّ عَلَى كَسْرٍ أَوْ جُرْحٍ] (399) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّدِّ عَلَى كَسْرٍ أَوْ جُرْحٍ، قَالَ أَحْمَدُ: إذَا تَوَضَّأَ، وَخَافَ عَلَى جُرْحِهِ الْمَاءَ، مَسَحَ عَلَى الْخِرْقَةِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي صَاحِبِ الشَّجَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَسْحِ عَلَى عِصَابَةِ جُرْحٍ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ اسْمٌ لِجُرْحِ الرَّأْسِ خَاصَّةً؛ وَلِأَنَّهُ حَائِلُ مَوْضِعٍ يَخَافُ الضَّرَرَ بِغَسْلِهِ، فَأَشْبَهَ الشَّدَّ عَلَى الْكَسْرِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ عَلَى جُرْحِهِ دَوَاءً، وَخَافَ مِنْ نَزْعِهِ، مَسَحَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْد اللَّهِ عَنْ الْجُرْحِ يَكُونُ بِالرَّجُلِ، يَضَعُ، عَلَيْهِ الدَّوَاءَ، فَيَخَافُ إنْ نَزَعَ الدَّوَاءَ إذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ أَنْ يُؤْذِيَهُ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا يُؤْذِيهِ، وَلَكِنْ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خُوِّفَ مِنْ ذَلِكَ، مَسَحَ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ خَرَجَتْ بِإِبْهَامِهِ قُرْحَةٌ، فَأَلْقَمَهَا مَرَارَةً، فَكَانَ يَتَوَضَّأُ عَلَيْهَا. وَلَوْ انْقَطَعَ ظُفْرُ إنْسَانٍ، أَوْ كَانَ بِأُصْبُعِهِ جُرْحٌ خَافَ إنْ أَصَابَهُ الْمَاءُ أَنْ يَزْرَقَّ الْجُرْحُ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي اللُّصُوقِ عَلَى الْجُرْحِ: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَزْعِهِ ضَرَرٌ نَزَعَهُ، وَغَسَلَ الصَّحِيحَ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ، وَيَمْسَحُ عَلَى مَوْضِعِ الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ فِي نَزْعِهِ ضَرَرٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَبِيرَةِ، يَمْسَحُ عَلَيْهِ. [فَصْل كَانَ فِي رِجْلِ الْمُتَيَمِّم شَقٌّ فَجَعَلَ فِيهِ قِيرًا] (400) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي رِجْلِهِ شَقٌّ، فَجَعَلَ فِيهِ قِيرًا، فَقَالَ أَحْمَدُ يَنْزِعُهُ وَلَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا أَهْوَنُ، هَذَا لَا يُخَافُ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ: مَتَى يَسَعُ صَاحِبَ الْجُرْحِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجُرْحِ؟ فَقَالَ: إذَا خَشِيَ أَنْ يَزْدَادَ وَجَعًا أَوْ شِدَّةً. وَتَعْلِيلُ أَحْمَدَ فِي الْقِيرِ بِسُهُولَتِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى كَانَ عَلَى شَيْءٍ يَخَافُ مِنْهُ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِصْبَعِ الْمَجْرُوحَةِ إذَا جَعَلَ عَلَيْهَا مَرَارَةً أَوْ عَصَبَهَا، مَسَحَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الظُّفْرِ يَسْقُطُ: يَكْسُوهُ مُصْطَكَا، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [فَصْل إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى جُرْحِ الْمُتَيَمِّم عِصَابٌ] (401) فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجُرْحِ عِصَابٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، أَنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ. وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْمَجْرُوحِ وَالْمَجْدُورِ يُخَافُ عَلَيْهِ، يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْجُرْحِ، وَيَغْسِلُ مَا حَوْلَهُ. يَعْنِي يَمْسَحُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِصَابٌ. [بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اخْتِلَافٌ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْمُغِيرَةِ، وَعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ. «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.» وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ «جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَمْسَحَ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ، فَقِيلَ لَهُ: قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: مَا أَسْلَمْت إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ، أَنَّهُ قَالَ: إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.» قَالَ إبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا؛ لِأَنَّ إسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ حُذَيْفَةُ، وَالْمُغِيرَةُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي قَلْبِي مِنْ الْمَسْحِ شَيْءٌ، فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَفَعُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا وَقَفُوا [فَصْل الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَفْضَلُ مِنْ الْغَسْلِ] (402) فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْحُ أَفْضَلُ. يَعْنِي مِنْ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا طَلَبُوا الْفَضْلَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ» . «وَمَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِشُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ: لَا يَنْفَعُك مَا كَتَبْت، حَتَّى تَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَفْضَلَ مِنْ الْغَسْلِ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّهُ جَائِزٌ، الْمَسْحُ وَالْغَسْلُ، مَا فِي قَلْبِي مِنْ الْمَسْحِ شَيْءٌ، وَلَا مِنْ الْغَسْلِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى خِفَافِهِمْ، وَخَلَعَ خُفَّيْهِ، وَتَوَضَّأَ، وَقَالَ: حُبِّبَ إلَيَّ الْوُضُوءُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنِّي لَمُولَعٌ بِغَسْلِ قَدَمَيَّ، فَلَا تَقْتَدُوا بِي. وَقِيلَ: الْغَسْلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَسْحُ رُخْصَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [مَسْأَلَة لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ كَامِلُ الطَّهَارَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ] (403) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ، وَهُوَ كَامِلُ الطَّهَارَةِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، مَسَحَ عَلَيْهِمَا) . لَا نَعْلَمُ فِي اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ الطَّهَارَةِ لِجَوَازِ الْمَسْحِ خِلَافًا. وَوَجْهُهُ: مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ، قَالَ: «كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْت لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ، فَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ. رَوَاهَا أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاللُّبْسِ، فَجَازَ الْمَسْحُ، كَمَا لَوْ نَزَعَ الْخُفَّ الْأَوَّلَ ثُمَّ عَادَ فَلَبِسَهُ، وَقِيلَ أَيْضًا، فِيمَنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ بَقِيَّةَ أَعْضَائِهِ: يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ. وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ، وَقَدْ سَبَقَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» . وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد: «دَعْ الْخُفَّيْنِ، فَإِنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» . فَجَعَلَ الْعِلَّةَ وُجُودَ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَقْتَ إدْخَالِهِمَا، وَلَمْ تُوجَدْ طَهَارَتُهُمَا وَقْتَ لُبْسِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَتْ لَهُ الطَّهَارَةُ اُعْتُبِرَ لَهُ كَمَالُهَا؛ كَالصَّلَاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ؛ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ خُفٌّ مَلْبُوسٌ قَبْلَ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَبِسَهُ قَبْلَ غَسْلِ قَدَمَيْهِ، وَدَلِيلُ بَقَاءِ الْحَدَثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِالْعُضْوِ الْمَغْسُولِ، فَأَمَّا إذَا نَزَعَ الْخُفَّ الْأَوَّلَ، ثُمَّ لَبِسَهُ، فَقَدْ لَبِسَهُ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " ثُمَّ أَحْدَثَ " يَعْنِي الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ؛ فَإِنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِي جَنَابَةٍ، وَلَا غُسْلٍ وَاجِبٍ، وَلَا مُسْتَحَبٍّ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ الْمُرَادِي، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ، أَوْ سَفْرًا، أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ يَنْدُرُ، فَلَا يَشُقُّ إيجَابُ غَسْلِ الْقَدَمِ، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَلِذَلِكَ وَجَبَ غَسْلُ مَا تَحْتَ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْعِمَامَةِ، وَسَائِرِ الْحَوَائِلِ، إلَّا الْجَبِيرَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. [فَصْل تَطَهَّرَ ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ فَأَحْدَثَ قَبْلَ بُلُوغِ الرِّجْلِ قَدَمَ الْخُفِّ] (404) فَصْلٌ: فَإِنْ تَطَهَّرَ، ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ فَأَحْدَثَ قَبْلَ بُلُوغِ الرِّجْلِ قَدَمَ الْخُفِّ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَ حَصَلَتْ فِي مَقَرِّهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَدَأَ اللُّبْسَ وَهُوَ مُحْدِثٌ [فَصْل تَيَمَّمَ ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ] (405) فَصْلٌ: فَإِنْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ لَبِسَهُ عَلَى طَهَارَةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 بَطَلَتْ مِنْ أَصْلِهَا، فَصَارَ كَاللَّابِسِ لَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَقَدْ لَبِسَهُ وَهُوَ مُحْدِثٌ. وَإِنْ تَطَهَّرَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَشِبْهُهُمَا، وَلَبِسُوا خِفَافًا، فَلَهُمْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُمْ كَامِلَةٌ فِي حَقِّهِمْ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَى التَّرَخُّصِ، وَأَحَقُّ مَنْ يَتَرَخَّصُ الْمُضْطَرُّ. فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ، وَزَالَتْ الضَّرُورَةُ، بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ أَصْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْمَسْحُ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ. [فَصْل لَبِسَ خُفَّيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ فَوْقَهُمَا خُفَّيْنِ أَوْ جرموقين] (406) فَصْلٌ: إذَا لَبِسَ خُفَّيْنِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، ثُمَّ لَبِسَ فَوْقَهُمَا خُفَّيْنِ أَوْ جُرْمُوقَيْنِ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَبِسَهُمَا عَلَى حَدَثٍ. وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ، ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَيْنِ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا أَيْضًا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ فِي تَجْوِيزِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ قَائِمٌ مَقَامَ غَسْلِ الْقَدَمِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ لَمْ يُزِلْ الْحَدَثَ عَنْ الرِّجْلِ، فَكَأَنَّهُ لَبِسَهُ عَلَى حَدَثٍ؛ وَلِأَنَّ الْخُفَّ الْمَمْسُوحَ عَلَيْهِ بَدَلٌ وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَبِسَهُ عَلَى طَهَارَةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ، فَأَشْبَهَ الْمُتَيَمِّمَ. وَإِنْ لَبِسَ الْفَوْقَانِيَّ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَحْتَهُ صَحِيحًا أَوْ مُخَرَّقًا. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى لُبْسِهِ فِي الْغَالِبِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رُخْصَةٌ عَامَّةٌ، كَالْجَبِيرَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ خُفٌّ سَاتِرٌ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ، أَشْبَهَ الْمُفْرَدَ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الَّذِي تَحْتَهُ مُخَرَّقًا، وَقَوْلُهُ: " الْحَاجَةُ لَا تَدْعُو إلَيْهِ ". مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْبِلَادَ الْبَارِدَةَ لَا يَكْفِي فِيهَا خُفٌّ وَاحِدٌ غَالِبًا، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِدَلِيلِهَا، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى اللُّبْسِ، لَا بِنَفْسِهَا، فَهُوَ كَالْخُفِّ الْوَاحِدِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَتَى نَزَعَ الْفَوْقَانِيَّ قَبْلَ مَسْحِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ، وَكَانَ لُبْسُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ نَزَعَهُ بَعْدَ مَسْحِهِ، بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ، وَوَجَبَ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ؛ لِزَوَالِ مَحَلِّ الْمَسْحِ. وَنَزْعُ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ كَنَزْعِهِمَا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَعَلَّقَتْ بِهِمَا، فَصَارَ كَانْكِشَافِ الْقَدَمِ، وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْفَوْقَانِيِّ، وَمَسَحَ الَّذِي تَحْتَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلٌّ لِلْمَسْحِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهُمَا، كَمَا يَجُوزُ غَسْلُ قَدَمِهِ فِي الْخُفِّ، مَعَ أَنَّ لَهُ الْمَسْحَ عَلَيْهِ. وَلَوْ لَبِسَ أَحَدَ الْجُرْمُوقَيْنِ فِي إحْدَى الرِّجْلَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْخُفِّ الَّذِي فِي الرِّجْلِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِهِ وَبِالْخُفِّ فِي الرِّجْلِ الْأُخْرَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ شَيْءٌ [فَصْل لَبِسَ خُفًّا مُخَرَّقًا فَوْقَ صَحِيحٍ] (407) فَصْلٌ: فَإِنْ لَبِسَ خُفًّا مُخَرَّقًا فَوْقَ صَحِيحٍ فَعَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ الْمَسْحِ. قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: الْخُفُّ الْمُخَرَّقُ إذَا كَانَ فِي رِجْلَيْهِ جَوْرَبٌ مَسَحَ، وَإِنْ كَانَ الْخُفُّ مُنْخَرِقًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ تَحْتَهُ لَفَائِفُ أَوْ خِرَقٌ، فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَدَمَ مَسْتُورٌ بِمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَجَازَ الْمَسْحُ كَمَا لَوْ كَانَ السُّفْلَانِيُّ مَكْشُوفًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ لِفَافَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى التَّحْتَانِيِّ؛ لِأَنَّ الْفَوْقَانِيَّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْرِهِ، كَاَلَّذِي تَحْتَهُ لِفَافَةٌ، وَإِنْ لَبِسَ مُخَرَّقًا عَلَى مُخَرَّقٍ، فَاسْتَتَرَ الْقَدَمُ بِهِمَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ مَسْتُورٌ بِالْخُفَّيْنِ، فَأَشْبَهَ الْمَسْتُورَ بِالصَّحِيحَيْنِ، أَوْ صَحِيحٍ وَمُخَرَّقٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ لَمْ يَسْتَتِرْ بِخُفٍّ صَحِيحٍ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا [فَصْل لَبِسَ الْخُفَّ بَعْدَ طَهَارَةٍ] (408) فَصْلٌ: وَإِنْ لَبِسَ الْخُفَّ بَعْدَ طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى الْعِمَامَةِ، أَوْ الْعِمَامَةَ بَعْدَ طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى الْخُفِّ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ لَبِسَ عَلَى طَهَارَةٍ مَمْسُوحٍ فِيهَا عَلَى بَدَلٍ، فَلَمْ يَسْتَبِحْ الْمَسْحَ بِاللُّبْسِ فِيهَا، كَمَا لَوْ لَبِسَ خُفًّا عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى خُفٍّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْخُفِّ الْمَلْبُوسِ عَلَى خُفٍّ مَمْسُوحٍ عَلَيْهِ. [فَصْل لَبِسَ الْجَبِيرَةَ عَلَى طَهَارَةٍ] (409) فَصْلٌ: وَإِنْ لَبِسَ الْجَبِيرَةَ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى خُفٍّ أَوْ عِمَامَةٍ، وَقُلْنَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ، جَازَ الْمَسْحُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ اشْتَرَطْنَا لَهَا الطَّهَارَةَ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَالْعِمَامَةِ الْمَلْبُوسَةِ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى الْخُفِّ، وَاحْتَمَلَ جَوَازَ الْمَسْحِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ مَسْحَهَا عَزِيمَةٌ، وَإِنْ لَبِسَ الْخُفَّ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى الْجَبِيرَةِ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا عَزِيمَةٌ؛ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ نَاقِصَةً فَهُوَ لِنَقْصٍ لَمْ يَزَلْ، فَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْمَسْحِ، كَنَقْصِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ قَبْلَ زَوَالِ عُذْرِهَا. وَإِنْ لَبِسَ الْجَبِيرَةَ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ فِيهَا عَلَى الْجَبِيرَةِ، جَازَ الْمَسْحُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ [مَسْأَلَة مُدَّة الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ] (410) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ) . قَالَ أَحْمَدُ: التَّوْقِيتُ مَا أَثْبَتَهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قِيلَ لَهُ: تَذْهَبُ إلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ. وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَشُرَيْحٌ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَمْسَحُ مَا بَدَا لَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُسَافِرِ. وَلَهُ فِي الْمُقِيمِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا يَمْسَحُ، مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَمْسَحُ؛ لِمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ عُمَارَةَ، «قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْت: يَوْمًا؟ قَالَ: وَيَوْمَيْنِ قُلْت: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ: وَمَا شِئْت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ فِي طَهَارَةٍ فَلَمْ يَتَوَقَّتْ، كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَبِيرَةِ. وَلَنَا: مَا رَوَى عَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: هُوَ أَجْوَدُ حَدِيثٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ آخِرُ فِعْلِهِ، وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. قَالَ أَبُو دَاوُد. وَفِي إسْنَادِهِ مَجَاهِيلُ مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَزِينٍ، وَأَيُّوبُ بْنُ قَطَنٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَمْسَحُ مَا شَاءَ، إذَا نَزَعَهُمَا عِنْدَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهِ ثُمَّ لَبِسَهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ: " وَمَا شِئْت " مِنْ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِأَحَادِيثِنَا؛ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ، لِكَوْنِ حَدِيثِ عَوْفٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالتَّيَمُّمِ [فَصْل انْقِضَاء مُدَّةُ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ] (411) فَصْلٌ: إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ بَطَلَ الْوُضُوءُ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَسْحُ إلَّا أَنْ يَنْزِعَهُمَا ثُمَّ يَلْبِسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ، كَمَا لَوْ خَلَعَهُمَا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ وَالْخِلَافَ فِيهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ، وَيُصَلِّي حَتَّى يُحْدِثَ؛ ثُمَّ لَا يَمْسَحُ بَعْدُ حَتَّى يَنْزِعَهُمَا. وَقَالَ دَاوُد: يَنْزِعُ خُفَّيْهِ وَلَا يُصَلِّي فِيهِمَا، فَإِذَا نَزَعَهُمَا صَلَّى حَتَّى يُحْدِثَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَبْطُلُ إلَّا بِحَدَثٍ، وَنَزْعُ الْخُفِّ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَكَذَلِكَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ. وَلَنَا أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا قَامَ الْمَسْحُ مَقَامَهُ فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهَا، فَيُمْنَعُ مِنْ اسْتَدَامَتْهَا، كَالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ. [مَسْأَلَة خَلَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا] (412) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ خَلَعَ قَبْلَ ذَلِكَ أَعَادَ الْوُضُوءَ) يَعْنِي قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا خَلَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، بَطَلَ وُضُوءُهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ نَابَ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ خَاصَّةً، فَطُهُورُهُمَا يُبْطِلُ مَا نَابَ عَنْهُ، كَالتَّيَمُّمِ إذَا بَطَلَ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ وَجَبَ مَا نَابَ عَنْهُ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَجَازَ التَّفْرِيقَ جَوَّزَ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَعْضَائِهِ مَغْسُولَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا غَسْلُ قَدَمَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَهُمَا كَمَّلَ وُضُوءَهُ. وَمَنْ مَنَعَ التَّفْرِيقَ أَبْطَلَ وُضُوءَهُ؛ لِفَوَاتِ الْمُوَالَاةِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ خَلَعَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ جَفَافِ الْمَاءِ عَنْ يَدَيْهِ، أَجْزَأَهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ، وَصَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كَأَنَّهُ خَلَعَهُمَا قَبْلَ مَسْحِهِ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: لَا يَتَوَضَّأُ وَلَا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمَمْسُوحَ عَلَيْهِ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ بَعْدَ غَسْلِهَا؛ وَلِأَنَّ النَّزْعَ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَالطَّهَارَةُ لَا تَبْطُلُ إلَّا بِالْحَدَثِ. وَلَنَا أَنَّ الْوُضُوءَ بَطَلَ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَبَطَلَ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِنَزْعِ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ فِي الْقَدَمَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا نَابَ مَسْحُهُ عَنْ إحْدَاهُمَا. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ إذَا بَطَلَ، فَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا خَلَعَ خُفَّيْهِ، غَسَلَ قَدَمَيْهِ مَكَانَهُ، وَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ. وَإِنْ أَخَّرَهُ، اسْتَأْنَفَ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ إلَى حِينِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ، أَوْ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ فِي الْقَدَمَيْنِ خَاصَّةً، فَإِذَا غَسَلَهُمَا عَقِيبَ النَّزْعِ، لَمْ تَفُتْ الْمُوَالَاةُ؛ لِقُرْبِ غَسْلِهِمَا مِنْ الطَّهَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَاخَى غَسْلُهُمَا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ قَدْ بَطَلَ حُكْمُهُ، وَصَارَ إلَى أَنْ نُضِيفَ الْغَسْلَ إلَى الْغَسْلِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَسْحِ حُكْمٌ؛ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمُوَالَاةِ إنَّمَا هُوَ لِقُرْبِ الْغَسْلِ مِنْ الْغَسْلِ، لَا مِنْ حُكْمِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى زَالَ حُكْمُ الْغَسْلِ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ، وَلَمْ يَنْفَعْ قُرْبُ الْغَسْلِ شَيْئًا؛ لِكَوْنِ الْحُكْمِ لَا يَعُودُ بَعْدَ زَوَالِهِ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ. [فَصْل نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ مَسْحِهَا] (413) فَصْلٌ: وَإِنْ نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ مَسْحِهَا، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ أَيْضًا. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَلْزَمُهُ مَسْحُ رَأْسِهِ، وَغَسْلُ قَدَمَيْهِ؛ لِيَحْصُلَ التَّرْتِيبُ. وَلَوْ نَزَعَ الْجَبِيرَةَ بَعْدَ مَسْحِهَا، فَهُوَ كَنَزْعِ الْعِمَامَةِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي غُسْلٍ يَعُمُّ الْبَدَنَ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى إعَادَةِ غُسْلٍ وَلَا وُضُوءٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ وَالْمُوَالَاةَ سَاقِطَانِ فِيهِ [فَصْل نَزْعُ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ كَنَزْعِهِمَا] (414) فَصْلٌ: وَنَزْعُ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ كَنَزْعِهِمَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيَلْزَمُهُ نَزْعُ الْآخَرِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَغْسِلُ الْقَدَمَ الَّذِي نَزَعَ الْخُفَّ مِنْهُ، وَيَمْسَحُ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ، فَأَشْبَهَا الرَّأْسَ وَالْقَدَمَ، وَلَنَا أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ تَرْتِيبُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَبْطُلُ مَسْحُ أَحَدِهِمَا بِظُهُورِ الْآخَرِ، كَالرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الرَّأْسَ وَالْقَدَمَ. [فَصْل انْكِشَافُ بَعْض الْقَدَمِ مِنْ خَرْقٍ كَنَزْعِ الْخُفِّ] (415) فَصْلٌ: وَانْكِشَافُ بَعْضِ الْقَدَمِ مِنْ خَرْقٍ كَنَزْعِ الْخُفِّ. فَإِنْ انْكَشَفَتْ ظِهَارَتُهُ، وَبَقِيَتْ بِطَانَتُهُ، لَمْ تَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ مَسْتُورَةٌ بِمَا يَتْبَعُ الْخُفَّ فِي الْبَيْعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْكَشِطْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 [فَصْل أَخْرَجَ رِجْلَهُ إلَى سَاقِ الْخُفِّ] (416) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخْرَجَ رِجْلَهُ إلَى سَاقِ الْخُفِّ، فَهُوَ كَخَلْعِهِ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَبِينُ لِي أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَ لَمْ تَظْهَرْ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ "، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ وَلَنَا، أَنَّ اسْتِقْرَارَ الرِّجْلِ فِي الْخُفِّ شَرْطُ جَوَازِ الْمَسْحِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَدْخَلَ الْخُفَّ، فَأَحْدَثَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَسْحُ، فَإِذَا تَغَيَّرَ الِاسْتِقْرَارُ زَالَ شَرْطُ جَوَازِ الْمَسْحِ، فَيَبْطُلُ الْمَسْحُ لِزَوَالِ شَرْطِهِ، كَزَوَالِ اسْتِتَارِهِ وَإِنْ كَانَ إخْرَاجُ الْقَدَمِ إلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، لَمْ يَبْطُلْ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ عَنْ مُسْتَقَرِّهَا. [فَصْل لُبْسَ الْخُفَّيْنِ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا] (417) فَصْلٌ: كَرِهَ أَحْمَدُ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَكْرُوهَةٌ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ، وَاللُّبْسُ يُرَادُ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ لِلصَّلَاةِ. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَلَا يَرَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَاسِعًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَامِلَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَبِسَهُ إذَا خَافَ غَلَبَةَ النُّعَاسِ، وَإِنَّمَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَ قَلْبِهِ بِمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ يَذْهَبُ بِخُشُوعِ الصَّلَاةِ، وَيَمْنَعُ الْإِتْيَانَ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ، وَرُبَّمَا حَمَلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْعَجَلَةِ فِيهَا، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فِي اللُّبْسِ. [مَسْأَلَة أَحْدَثَ وَهُوَ مُقِيمٌ فَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى خُفَّيْهِ حَتَّى سَافَرَ] (418) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ أَحْدَثَ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَلَمْ يَمْسَحْ حَتَّى سَافَرَ، أَتَمَّ عَلَى مَسْحِ مُسَافِرٍ مُنْذُ كَانَ الْحَدَثُ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْسَحْ حَتَّى سَافَرَ، أَنَّهُ يُتِمُّ مَسْحَ الْمُسَافِرِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ» وَهُوَ حَالُ ابْتِدَائِهِ بِالْمَسْحِ كَانَ مُسَافِرًا. وَقَوْلُهُ: " مُنْذُ كَانَ الْحَدَثُ " يَعْنِي ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ أَحْدَثَ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ. هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ مَسَحَ بَعْدَ أَنْ أَحْدَثَ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ امْسَحْ إلَى مِثْلِ سَاعَتِك الَّتِي مَسَحْت، وَفِي لَفْظٍ، قَالَ: يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ إلَى السَّاعَةِ الَّتِي تَوَضَّأَ فِيهَا. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، قَوْلِهِ: يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ عَلَى خُفَّيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ". وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْمَسْحِ مُدَّةٌ لَمْ تُبَحْ الصَّلَاةُ بِمَسْحِ الْخُفِّ فِيهَا. فَلَمْ تُحْسَبْ مِنْ الْمُدَّةِ، كَمَا قَبْلَ الْحَدَثِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ: يَمْسَحُ الْمُقِيمُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا. وَلَنَا: مَا نَقَلَهُ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرَّزُ، فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ: «مِنْ الْحَدَثِ إلَى الْحَدَثِ» ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْحَدَثِ زَمَانٌ يُسْتَبَاحُ فِيهِ الْمَسْحُ، فَكَانَ مِنْ وَقْتِهِ، كَبَعْدِ الْمَسْحِ، وَالْخَبَرُ أَرَادَ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ الْمَسْحَ دُونَ فِعْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَدَّرَهُ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ الْمُقِيمَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَسْحِ سِتَّ صَلَوَاتٍ، وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يَمْسَحَ، وَيُصَلِّيَهَا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يُعَجِّلُهَا، فَيُصَلِّيهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ. إنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ مِنْ سَفَرٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سَبْعَ صَلَوَاتٍ [مَسْأَلَة أَحْدَثَ مُقِيمًا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ] (419) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَوْ أَحْدَثَ مُقِيمًا، ثُمَّ مَسَحَ مُقِيمًا، ثُمَّ سَافَرَ، أَتَمَّ عَلَى مَسْحِ مُقِيمٍ، ثُمَّ خَلَعَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ: مِثْلُ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ يَمْسَحُ مَسْحَ الْمُسَافِرِ، سَوَاءٌ مَسَحَ فِي الْحَضَرِ لِصَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمَسْحِ، وَهُوَ حَاضِرٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ.» وَهَذَا مُسَافِرٌ؛ وَلِأَنَّهُ سَافَرَ قَبْلَ كَمَالِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، فَأَشْبَهَ مَنْ سَافَرَ قَبْلَ الْمَسْحِ بَعْدَ الْحَدَثِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ، وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إلَى هَذَا وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وُجِدَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي الْحَضَرِ، فَغَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْحَضَرِ، كَالصَّلَاةِ، وَالْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثًا فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ فِي سَفَرِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَحْتَسِبُ بِالْمُدَّةِ الَّتِي مَضَتْ فِي الْحَضَرِ. [فَصْل شَكَّ هَلْ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَر] (420) فَصْلٌ: فَإِنْ شَكَّ، هَلْ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ فِي السَّفَرِ، أَوْ الْحَضَرِ، بَنَى عَلَى مَسْحِ حَاضِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ مَعَ الشَّكِّ فِي إبَاحَتِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ فِي السَّفَرِ، جَازَ الْبِنَاءُ عَلَى مَسْحِ مُسَافِرٍ. وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى بَعْدَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَعَ الشَّكِّ، ثُمَّ تَيَقَّنَ، فَعَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى مَعَ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِطَهَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ صَلَّى يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ، كَانَتْ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةً، وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَإِنْ كَانَ مَسَحَ مَعَ الشَّكِّ صَحَّ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَتَوَضَّأَ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَجْزَأَهُ. وَعَكْسُهُ: مَا لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، فَصَلَّى، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ، لَمْ يُجْزِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ شَكَّ الْمَاسِحُ فِي وَقْتِ الْحَدَثِ، بَنَى عَلَى الْأَحْوَطِ عِنْدَهُ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَأَمَّا عَلَى الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ مَسْحَ الْمُسَافِرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ [مَسْأَلَة مَسَحَ مُسَافِرٌ أَقَلِّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ أَقَامَ أَوْ قَدِمَ] (421) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا مَسَحَ مُسَافِرٌ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ أَوْ قَدِمَ أَتَمَّ عَلَى مَسْحِ مُقِيمٍ وَخَلَعَ، وَإِذَا مَسَحَ مُسَافِرٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَصَاعِدًا، ثُمَّ أَقَامَ أَوْ قَدِمَ خَلَعَ) وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ مَسْحَ الْمُسَافِرِ، كَمَحَلِّ الْوِفَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عِبَادَةٌ يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِذَا ابْتَدَأَهَا فِي السَّفَرِ ثُمَّ حَضَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فِي أَثْنَائِهَا، غَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ، كَالصَّلَاةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَسَحَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، فَنَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَثْنَائِهَا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَطَلَ الْمَسْحُ، فَبَطَلَتْ طَهَارَتُهُ، فَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِبُطْلَانِهَا، وَلَوْ تَلَبَّسَ بِالصَّلَاةِ فِي سَفِينَةٍ، فَدَخَلَتْ الْبَلَدَ فِي أَثْنَائِهَا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِذَلِكَ. [مَسْأَلَة لَا يَمْسَحُ إلَّا عَلَى خُفَّيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا] (422) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَمْسَحُ إلَّا عَلَى خُفَّيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا؛ مِنْ مَقْطُوعٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، مِمَّا يُجَاوِزُ الْكَعْبَيْنِ) . مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، يَقُومُ مَقَامَ الْخُفَّيْنِ فِي سَتْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِمْكَانِ الْمَشْيِ فِيهِ، وَثُبُوتِهِ بِنَفْسِهِ. وَالْمَقْطُوعُ هُوَ الْخُفُّ الْقَصِيرُ السَّاقِ؛ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، لَا يُرَى مِنْهُ الْكَعْبَانِ؛ لِكَوْنِهِ ضَيِّقًا أَوْ مَشْدُودًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَوْ كَانَ مَقْطُوعًا مِنْ دُونِ الْكَعْبَيْنِ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ. وَحُكِيَ عَنْهُ، وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، جَوَازُ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ خُفٌّ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ السَّاتِرَ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَسْتُرُ مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ اللَّالَكَةَ وَالنَّعْلَيْنِ. [فَصْل لَوْ كَانَ لِلْخُفِّ قَدَمٌ وَلَهُ شَرَجٌ مُحَاذٍ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ] (423) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لِلْخُفِّ قَدَمٌ وَلَهُ شَرَجٌ مُحَاذٍ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ الشَّرَجُ مَشْدُودًا يَسْتُرُ الْقَدَمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَلَلٌ يَبِينُ مِنْهُ مَحَلُّ الْفَرْضِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَلَنَا أَنَّهُ خُفٌّ سَاتِرٌ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ ذِي الشَّرَجِ. [فَصْل كَانَ الْخُفُّ مُحَرَّمًا كَالْقَصَبِ وَالْحَرِيرِ] (424) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْخُفُّ مُحَرَّمًا؛ كَالْقَصَبِ وَالْحَرِيرِ، لَمْ يُسْتَبَحْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ مَسَحَ عَلَيْهِ، وَصَلَّى، أَعَادَ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِلُبْسِهِ، فَلَمْ تُسْتَبَحْ بِهِ الرُّخْصَةُ، كَمَا لَا يَسْتَبِيحُ الْمُسَافِرُ رُخَصَ السَّفَرِ لِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. وَلَوْ سَافَرَ لِمَعْصِيَةٍ لَمْ يَسْتَبِحْ الْمَسْحَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالسَّفَرِ، وَلَا هِيَ مِنْ رُخَصِهِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الرُّخَصِ، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، فَلَمْ يَسْتَبِحْهُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، كَالْقَصْرِ وَالْجَمْعِ. [فَصْل الْمَسْحُ عَلَى كُلِّ خُفٍّ سَاتِرٍ] (425) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى كُلِّ خُفٍّ سَاتِرٍ، يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جُلُودٍ أَوْ لُبُودٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا. فَإِنْ كَانَ خَشَبًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ نَحْوَهُمَا، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ فِي الْخِفَافِ الْمُتَعَارَفَةِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذِهِ فِي الْغَالِبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ خُفٌّ سَاتِرٌ يُمْكِنُ الْمَشْيُ فِيهِ، أَشْبَهَ الْجُلُودَ. [الْمَسْح عَلَى الْجَوْرَبُ الصَّفِيقُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ إذَا مَشَى فِيهِ] (426) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْجَوْرَبُ الصَّفِيقُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ إذَا مَشَى فِيهِ) إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ بِالشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْخُفِّ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ صَفِيقًا، لَا يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ. الثَّانِي أَنْ يُمْكِنَ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ بِغَيْرِ نَعْلٍ: إذَا كَانَ يَمْشِي عَلَيْهِمَا، وَيَثْبُتَانِ فِي رِجْلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ. وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا إذَا ثَبَتَا فِي الْعَقِبِ. وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: إنْ كَانَ يَمْشِي فِيهِ فَلَا يَنْثَنِي، فَلَا بَأْسَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا انْثَنَى ظَهَرَ مَوْضِعُ الْوُضُوءِ. وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ، قَالَ أَحْمَدُ: يُذْكَرُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَنْ سَبْعَةٍ، أَوْ ثَمَانِيَةٍ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَيُرْوَى إبَاحَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَنْ تِسْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْبَرَاءِ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، إلَّا أَنْ يُنْعَلَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِمَا، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، كَالرَّقِيقِينَ وَلَنَا: مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّعْلَيْنِ لَمْ يَكُونَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّعْلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: مَسَحْت عَلَى الْخُفِّ وَنَعْلِهِ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مَسَحُوا عَلَى الْجَوَارِبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهُ سَاتِرٌ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، يَثْبُتُ فِي الْقَدَمِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالنَّعْلِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَيُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ. فَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَيْسَ بِسَاتِرٍ. [فَصْل الْمَسْح عَلَى جَوْرَبِ الْخِرَقِ] (427) فَصْلٌ: وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ جَوْرَبِ الْخِرَقِ، يُمْسَحُ عَلَيْهِ؟ فَكَرِهَ الْخِرَقَ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ كَرِهَهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 عَلَيْهَا الْخِفَّةُ، وَأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِأَنْفُسِهَا. فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ جَوْرَبِ الصُّوفِ فِي الصَّفَاقَةِ وَالثُّبُوتِ، فَلَا فَرْقَ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَوْضِعٍ: لَا يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ حَتَّى يَكُونَ جَوْرَبًا صَفِيقًا، يَقُومُ قَائِمًا فِي رِجْلِهِ لَا يَنْكَسِرُ مِثْلَ الْخُفَّيْنِ، إنَّمَا مَسَحَ الْقَوْمُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْخُفِّ، يَقُومُ مَقَامَ الْخُفِّ فِي رِجْلِ الرَّجُلِ، يَذْهَبُ فِيهِ الرَّجُلُ وَيَجِيءُ [مَسْأَلَة إنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالنَّعْلِ مَسَحَ فَإِذَا خَلَعَ النَّعْلَ انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ] (428) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالنَّعْلِ مَسَحَ، فَإِذَا خَلَعَ النَّعْلَ انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ) . يَعْنِي أَنَّ الْجَوْرَبَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ بِنَفْسِهِ، وَثَبَتَ بِلُبْسِ النَّعْلِ، أُبِيحَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَتَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ بِخَلْعِ النَّعْلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْجَوْرَبِ أَحَدُ شَرْطَيْ جَوَازِ الْمَسْحِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِلُبْسِ النَّعْلِ، فَإِذَا خَلَعَهَا زَالَ الشَّرْطُ، فَبَطَلَتْ الطَّهَارَةُ. كَمَا لَوْ ظَهَرَ الْقَدَمُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ. وَقَوْلُهُ: " مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ". قَالَ الْقَاضِي: وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبِ وَالنَّعْلِ، كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا مَسَحَ عَلَى سُيُورِ النَّعْلِ الَّتِي عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ، فَأَمَّا أَسْفَلُهُ وَعَقِبُهُ فَلَا يُسَنُّ مَسْحُهُ مِنْ الْخُفِّ، فَكَذَلِكَ مِنْ النَّعْلِ [مَسْأَلَة كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ] (429) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ وَنَحْوِهِ، إذَا كَانَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ شَيْءٌ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا مِنْ مَوْضِعِ الْخَرَزِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، إذَا كَانَ يُرَى مِنْهُ الْقَدَمُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَقٌّ يَنْضَمُّ وَلَا يَبْدُو مِنْهُ الْقَدَمُ، لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْمَسْحِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَعْمَرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى كُلِّ خُفٍّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ، وَعَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ رِجْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَخَرَّقَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، جَازَ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَثُرَ وَتَفَاحَشَ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ. وَتَعَلَّقُوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ خُفٌّ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ؛ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى خِفَافِ الْعَرَبِ كَوْنُهَا مُخَرَّقَةً. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَسْحِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَيَنْصَرِفُ إلَى الْخِفَافَ الْمَلْبُوسَةِ عِنْدَهُمْ غَالِبًا، وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ سَاتِرٍ لِلْقَدَمِ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَثُرَ وَتَفَاحَشَ، أَوْ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْخُفِّ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ مَا ظَهَرَ الْغَسْلُ، وَمَا اسْتَتَرَ الْمَسْحُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، غَلَبَ حُكْمُ الْغَسْلِ، كَمَا لَوْ انْكَشَفَتْ إحْدَى قَدَمَيْهِ [فَصْل الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ وَالْخِرَقِ] (430) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ وَالْخِرَقِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَهْلَ الْجَبَلِ يَلُفُّونَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أَرْجُلِهِمْ لَفَائِفَ إلَى نِصْفِ السَّاقِ؟ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرَبًا. وَذَلِكَ أَنَّ اللِّفَافَةَ لَا تَثْبُتُ بِنَفْسِهَا، إنَّمَا تَثْبُتُ بِشَدِّهَا، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. [مَسْأَلَة يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِر الْقَدَمِ] (431) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ) . السُّنَّةُ مَسْحُ أَعْلَى الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ وَعَقِبِهِ، فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْأَصَابِعِ، ثُمَّ يَجُرُّهَا إلَى سَاقِهِ خَطًّا بِأَصَابِعِهِ. وَإِنْ مَسَحَ مِنْ سَاقِهِ إلَى أَصَابِعِهِ جَازَ، وَالْأَوَّلُ الْمَسْنُونُ وَلَا يُسَنُّ مَسْحُ أَسْفَلِهِ، وَلَا عَقِبِهِ. بِذَلِكَ قَالَ عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى مَسْحَ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: «وَضَّأْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ؛ وَلِأَنَّهُ يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ ظَاهِرَهُ. وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ ظَاهِرَ خُفَّيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُمَرَ، قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ.» رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ بَاطِنَهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِفَرْضِ الْمَسْحِ، فَلَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِمَسْنُونِهِ، كَسَاقِهِ؛ وَلِأَنَّ مَسْحَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ مُبَاشَرَةِ أَذًى فِيهِ، تَتَنَجَّسُ يَدُهُ بِهِ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، وَحَدِيثُهُمْ مَعْلُولٌ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا زُرْعَةَ، وَمُحَمَّدًا - عَنْهُ فَقَالَا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، رَوَاهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ، وَلَمْ يَلْقَهُ. وَأَسْفَلُ الْخُفِّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِفَرْضِ الْمَسْحِ، بِخِلَافِ أَعْلَاهُ. [فَصْل الْمُجَزِّئ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] (432) فَصْلٌ: وَالْمُجْزِئُ فِي الْمَسْحِ أَنْ يَمْسَحَ أَكْثَرَ مُقَدَّمِ ظَاهِرِهِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْمَسْحِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ تَقْدِيرٌ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِقَوْلِ الْحَسَنِ: سُنَّةُ الْمَسْحِ خِطَطٌ بِالْأَصَابِعِ. فَيَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَلُّ لَفْظِ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ، وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ وَرَدَ مُطْلَقًا، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ وُضُوءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثُمَّ «تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى خُفِّهِ الْأَيْمَنِ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى خُفِّهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ مَسَحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أَعْلَاهُمَا مَسْحَةً وَاحِدَةً، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ أَصَابِعِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ» . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: سُنَّةُ الْمَسْحِ هَكَذَا، أَنْ يَمْسَحَ خُفَّيْهِ بِيَدَيْهِ الْيُمْنَى لِلْيُمْنَى وَالْيُسْرَى لِلْيُسْرَى، وَقَالَ أَحْمَدُ: كَيْفَمَا فَعَلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ أَوْ بِالْيَدَيْنِ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا، لَا يَتَنَافَيَانِ. [فَصْل الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ بِخِرْقَةِ أَوْ خَشَبَةٍ] (433) فَصْلٌ: فَإِنْ مَسَحَ بِخِرْقَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ، احْتَمَلَ الْإِجْزَاءَ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِيَدِهِ. وَإِنْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ، أَجْزَأَهُ إذَا كَرَّرَ الْمَسْحَ بِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْمَسْحِ بِأَصَابِعِهِ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: يَمْسَحُ بِالرَّاحَتَيْنِ أَوْ بِالْأَصَابِعِ؟ قَالَ: بِالْأَصَابِعِ. قِيلَ لَهُ: أَيُجْزِئُهُ بِإِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ. [فَصْل غَسَلَ الْخُفَّ] (434) فَصْلٌ: وَإِنْ غَسَلَ الْخُفَّ، فَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ، وَأَجَازَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْمَسْحِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْمَسْحِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَلَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ طَرَحَ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ، لَكِنْ إنْ أَمَرَّ يَدَيْهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي حَالِ الْغَسْلِ، أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَسَحَ. [مَسْأَلَة مَسَحَ أَسْفَلِ الْخُفّ دُونَ أَعْلَاهُ] (435) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ مَسَحَ أَسْفَلَهُ دُونَ أَعْلَاهُ، لَمْ يُجْزِهِ) لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: يُجْزِئُهُ مَسْحُ أَسْفَلِ الْخُفِّ، إلَّا أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ بَعْضَ مَا يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ مَسَحَ ظَاهِرَهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِفَرْضِ الْمَسْحِ، فَلَمْ يُجْزِئْ مَسْحُهُ كَالسَّاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا مَسَحَ ظَاهِرَ الْخُفِّ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ ظَاهِرِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَقُولُ: لَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى أَعْلَى الْخُفِّ [فَصْل الْمَسْحِ عَلَى عَقِبِ الْخُفِّ] (436) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْمَسْحِ عَلَى عَقِبِ الْخُفِّ كَالْحُكْمِ فِي مَسْحِ أَسْفَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِفَرْضِ الْمَسْحِ، فَهُوَ كَأَسْفَلِهِ [مَسْأَلَة الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ سَوَاء] (437) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَعْنِي فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ وَشُرُوطِهِ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ أُقِيمَ مُقَامَ الْغَسْلِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، كَالتَّيَمُّمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَمْسَحَا عَلَى الْخُفِّ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الَّتِي لَبِسَا الْخُفَّ عَلَيْهَا لَا يُسْتَبَاحُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ» . وَلِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الْمَسْحَ لَا يَبْطُلُ بِمُبْطِلَاتِ الطَّهَارَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ. لَكِنْ إنْ زَالَ عُذْرُهُمَا كَمَّلَا فِي بَابِهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا الْمَسْحُ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ كَالتَّيَمُّمِ إذَا أَكْمَلَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، لَا يَمْسَحُ بِالْخُفِّ الْمَلْبُوسِ عَلَى التَّيَمُّمِ [فَصْل الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ] (438) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَأَنَسٌ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عُرْوَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِهَا، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، كَالْكُمَّيْنِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي " مُسْلِمٍ " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ» . قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مِنْ خَمْسَةِ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ؛ وَلِأَنَّهُ حَائِلٌ فِي مَحَلٍّ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمَسْحِهِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْخُفَّيْنِ؛ وَلِأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ يَسْقُطُ فَرْضُهُ فِي التَّيَمُّمِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِهِ، كَالْقَدَمَيْنِ، وَالْآيَةُ لَا تَنْفِي مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنٌ لِكَلَامِ اللَّهِ، مُفَسِّرٌ لَهُ، وَقَدْ مَسَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْعِمَامَةِ، وَأَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ، أَوْ حَائِلِهِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمَسْحَ فِي الْغَالِبِ لَا يُصِيبُ الرَّأْسَ. وَإِنَّمَا يَمْسَحُ عَلَى الشَّعْرِ، وَهُوَ حَائِلٌ بَيْنَ الْيَدِ وَبَيْنَهُ، فَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ لَمَسَ عِمَامَتَهُ أَوْ قَبَّلَهَا: قَبْلَ رَأْسَهُ وَلَمَسَهُ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ مَسْحِ حَائِلِهِمَا. [فَصْل شُرُوطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ] (439) فَصْلٌ: وَمِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً لِجَمِيعِ الرَّأْسِ، إلَّا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ، كَمُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ، وَشِبْهِهِمَا مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، بِخِلَافِ الْخَرْقِ الْيَسِيرِ فِي الْخُفِّ، فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَشْفَ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ الْعِمَامَةِ قَلَنْسُوَةٌ يَظْهَرُ بَعْضُهَا، فَالظَّاهِرُ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا كَالْعِمَامَةِ الْوَاحِدَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وَمِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهَا، أَنْ تَكُونَ عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَمَائِمُ الْعَرَبِ، وَهِيَ أَكْثَرُ سَتْرًا مِنْ غَيْرِهَا، وَيَشُقُّ نَزْعُهَا، فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَهُ الْقَاضِي. وَسَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا لَهَا ذُؤَابَةٌ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَشُقُّ نَزْعُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّلَحِّي، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطِ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: وَالِاقْتِعَاطُ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا لَيْسَ تَحْتَ حَنَكِهِ مِنْ عِمَامَتِهِ شَيْءٌ، فَحَنَّكَهُ بِكَوْرٍ مِنْهَا، وَقَالَ: مَا هَذِهِ الْفَاسِقِيَّةُ؟ فَامْتَنَعَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَسُهُولَةِ نَزْعِهَا. وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ ذُؤَابَةٍ، وَلَمْ تَكُنْ مُحَنَّكَةً، فَفِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُشْبِهُ عَمَائِمَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، إذْ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ الذُّؤَابَةُ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلَا يَشُقُّ نَزْعُهَا. (440) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الرَّأْسِ مَكْشُوفًا، مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ مَعَ الْعِمَامَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَنَاصِيَتِهِ، فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَلْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاجِبٌ؟ وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ، فَيُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وُجُوبُهُ؛ لِلْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَمَّا اسْتَتَرَ، فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ، كَالْجَبِيرَةِ. وَالثَّانِي، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَنْ الرَّأْسِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا، وَانْتَقَلَ الْفَرْضُ إلَيْهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِمَا ظَهَرَ حُكْمٌ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَهُمَا مَعًا يُفْضِي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْخُفِّ. وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْجَبِيرَةُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ، وَلَيْسَا مِنْ الرَّأْسِ، إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ. [فَصْل نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا] (441) فَصْلٌ: وَإِنْ نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ انْكَشَفَ رَأْسُهُ، إلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، مِثْلُ إنْ حَكَّ رَأْسَهُ، أَوْ رَفَعَهَا لِأَجْلِ الْوُضُوءِ، فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا زَالَتْ الْعِمَامَةُ عَنْ هَامَتِهِ، لَا بَأْسَ، مَا لَمْ يَنْقُضْهَا، أَوْ يَفْحُشَ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَإِنْ انْتَقَضَتْ الْعِمَامَةُ بَعْدَ مَسْحِهَا، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَزْعِهَا. وَإِنْ انْتَقَضَ بَعْضُهَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ: إحْدَاهُمَا، لَا تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بَعْضُ الْمَمْسُوحِ عَلَيْهِ، مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ مَسْتُورًا، فَلَمْ تَبْطُلْ الطَّهَارَةُ، كَكَشْطِ الْخُفِّ، مَعَ بَقَاءِ الْبِطَانَةِ، وَالثَّانِيَةُ: تَبْطُلُ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْ انْتَقَضَ مِنْهَا كَوْرٌ وَاحِدٌ، بَطَلَتْ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَمْسُوحُ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفِّ [فَصْل اسْتِيعَابِ الْعِمَامَةِ بِالْمَسْحِ] فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْعِمَامَةِ بِالْمَسْحِ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، كَمَا يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهِ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْبِيهَ فِي صِفَةِ الْمَسْحِ دُونَ الِاسْتِيعَابِ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ، فَأَجْزَأَ مَسْحُ بَعْضِهِ، كَالْخُفِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْبِيهَ فِي الِاسْتِيعَابِ، فَيَخْرُجُ فِيهَا مِنْ الْخِلَافِ مَا فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ اسْتِيعَابِهِ بِالْمَسْحِ. فَكَذَلِكَ فِي الْعِمَامَةِ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْعِمَامَةِ بَدَلٌ مِنْ الْجِنْسِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمُبْدَلِ، كَقِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ الْقُرْآنِ، بَدَلًا مِنْ الْفَاتِحَةِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَدَلُ تَسْبِيحًا، لَمْ يَتَقَدَّرْ بِقَدْرِهَا، وَمَسْحُ الْخُفِّ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ بِهِ، كَالتَّسْبِيحِ بَدَلًا عَنْ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهَا، كَإِجْزَاءِ الْمَسْحِ فِي الْخُفِّ عَلَى بَعْضِهِ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَكْوَارِهَا، وَهِيَ دَوَائِرُهَا دُونَ وَسَطِهَا. فَإِنْ مَسَحَ وَسَطَهَا وَحْدَهُ فَإِنْ مَسَحَ وَسَطَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ، كَمَا يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ دَوَائِرِهَا. وَالثَّانِي، لَا يُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ مَسَحَ أَسْفَلَ الْخُفِّ. [فَصْل التَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ كَالتَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ] (443) فَصْلٌ: وَالتَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ كَالتَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ ثَلَاثًا فِي السَّفَرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ؛ وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ، فَيُوَقَّتُ بِذَلِكَ، كَالْخُفِّ. [فَصْل الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ الْمُحَرَّمَةِ] (444) فَصْلٌ: وَالْعِمَامَةُ الْمُحَرَّمَةُ، كَعِمَامَةِ الْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبَةِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخُفِّ الْمَغْصُوبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَإِنْ لَبِسَتْ الْمَرْأَةُ عِمَامَةً، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ، فَهَذَا يَنْدُرُ، فَلَمْ يَرْتَبِطْ الْحُكْمُ بِهِ [فَصْل الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ،] (445) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ، الطَّاقِيَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْكَلْتَةِ؟ فَلَمْ يَرَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَسْتُرُ جَمِيعَ الرَّأْسِ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَدُومُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَلَانِسُ الْمُبَطَّنَاتُ، كَدَنِيَّاتِ الْقُضَاةِ، وَالنَّوْمِيَّاتِ، فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَمْسَحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ، إلَّا أَنَّ أَنَسًا مَسَحَ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا مَشَقَّةَ فِي نَزْعِهَا، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْكَلْتَةِ؛ وَلِأَنَّهَا أَدْنَى مِنْ الْعِمَامَةِ غَيْرِ الْمُحَنَّكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: إنْ مَسَحَ إنْسَانٌ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ أَنَا أَتَوَقَّاهُ. وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ ذَاهِبٌ لَمْ يُعَنِّفْهُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَكَيْفَ يُعَنِّفُهُ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ، وَرِجَالٍ ثِقَاتٍ. فَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ حَسِرَ عَنْ رَأْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَسَحَ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ وَعِمَامَتِهِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ، فَمَسَحَ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ مُعْتَادٌ يَسْتُرُ الرَّأْسَ، فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ الْمُحَنَّكَةَ، وَفَارَقَ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً وَلَا ذُؤَابَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. [فَصْل فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مُقَنَّعَة الْمَرْأَة] (446) فَصْلٌ: وَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مِقْنَعَتِهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ» ؛ وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لِلرَّأْسِ مُعْتَادٌ، يَشُقُّ نَزْعُهُ، فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ: كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا؟ قَالَ: مِنْ تَحْتِ الْخِمَارِ، وَلَا تَمْسَحُ عَلَى الْخِمَارِ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا. وَمِمَّنْ قَالَ لَا تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا. نَافِعٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لِرَأْسِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْوِقَايَةِ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى الْوِقَايَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهَا لَا يَشُقُّ نَزْعُهَا، فَهِيَ كَالطَّاقِيَّةِ لِلرَّجُلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 [بَابُ الْحَيْضِ] ِ الْحَيْضُ: دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ إذَا بَلَغْت الْمَرْأَةُ، ثُمَّ يَعْتَادُهَا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِحِكْمَةِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا حَمَلَتْ انْصَرَفَ ذَلِكَ الدَّمُ بِإِذْنِ اللَّهِ إلَى تَغْذِيَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ، فَإِذَا وَضَعْت الْوَلَدَ قَلَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ لَبَنًا يَتَغَذَّى بِهِ الطِّفْلُ؛ وَلِذَلِكَ قَلَّمَا تَحِيضُ الْمُرْضِعُ، فَإِذَا خَلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حَمْلٍ وَرَضَاعٍ. بَقِيَ ذَلِكَ الدَّمُ لَا مَصْرِفَ لَهُ، فَيَسْتَقِرُّ فِي مَكَان، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً، وَقَدْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَقِلُّ، وَيَطُولُ شَهْرُ الْمَرْأَةِ وَيَقْصُرُ، عَلَى حَسَبِ مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الطِّبَاعِ؛ وَسُمِّيَ حَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ: حَاضَ السَّيْلُ. قَالَ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلٍ: أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ ... عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ وَقَدْ عَلَّقَ الشَّرْعُ عَلَى الْحَيْضِ أَحْكَامًا؛ فَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْءُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ بِدَلِيلِ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَيْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَتْ حَمْنَةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً، قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ» ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْقِطُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُعَاذَةَ قَالَتْ: سَأَلْت عَائِشَةَ، فَقُلْت: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْت: لَسْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. فَقَالَتْ: كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إنَّمَا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ يَرَوْنَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» . وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ، وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَنَابَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُحَرِّمُ الطَّلَاقَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، وَلَمَّا «طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْعَتِهَا وَإِمْسَاكِهَا حَتَّى تَطْهُرَ» . وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ حَدَثَهَا مُقِيمٌ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَمُكْثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُك حَيْضَتُك، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» . وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ وَأَشْبَاهِهَا إلَّا بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَيْضِ، لِيُعْلَمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَيْضُ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثِ فَاطِمَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، وَحَمْنَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ: حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ. مَكَانَ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَغَيْرَهَا فِي مَوَاضِعِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا] (447) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَأَقَلُّ الْحَيْضِ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ الْخَلَّالُ: مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ، وَأَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ عَنْهُ: أَكْثَرُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: قَالَ عَطَاءٌ: الْحَيْضُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَكْثَرُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ؛ لِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ.» وَقَالَ أَنَسٌ: قُرْءُ الْمَرْأَةِ: ثَلَاثٌ، أَرْبَعٌ، خَمْسٌ، سِتٌّ، سَبْعٌ، ثَمَانٍ، تِسْعٌ، عَشَرَةٌ. وَلَا يَقُولُ أَنَسٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ذَلِكَ إلَّا تَوْقِيفًا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: لَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَاعَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَمْضِيَ ذَلِكَ الْحَدُّ. وَلَنَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا فِي الْقَبْضِ، وَالْإِحْرَازِ، وَالتَّفَرُّقِ، وَأَشْبَاهِهَا، وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مُعْتَادٌ يَوْمًا، قَالَ عَطَاءٌ: رَأَيْت مِنْ النِّسَاءِ مَنْ تَحِيضُ يَوْمًا، وَتَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: سَمِعْت شَرِيكًا يَقُولُ: عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَحِيضُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَيْضًا مُسْتَقِيمًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَحِيضُ غَدْوَةً وَتَطْهُرُ عَشِيًّا. يَرَوْنَ أَنَّهُ حَيْضٌ تَدَعُ لَهُ الصَّلَاةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَأَيْت امْرَأَةً أُثْبِتَ لِي عَنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَحِيضُ يَوْمًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ، وَأُثْبِتَ لِي عَنْ نِسَاءٍ أَنَّهُنَّ لَمْ يَزَلْنَ يَحِضْنَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، أَنَّهُ قَالَ: تَحِيضُ امْرَأَتِي يَوْمَيْنِ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِنَا مَعْرُوفَةٌ: لَمْ أُفْطِرْ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا يَوْمَيْنِ. وَقَوْلُهُنَّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُنَّ مَقْبُولٌ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِنَّ الْكِتْمَانَ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] . وَلَمْ يُوجَدْ حَيْضٌ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ، فَلَا يَكُونُ حَيْضًا بِحَالٍ. وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّامِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْمِنْهَالِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَرْوِيهِ الْجَلْدُ بْنُ أَيُّوبَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: لَيْسَ هُوَ شَيْئًا هَذَا مِنْ قِبَلِ الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، قِيلَ: إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَاهُ، وَقَالَ: مَا أَرَاهُ سَمِعَهُ إلَّا مِنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ. وَضَعَّفَهُ جِدًّا. قَالَ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: ذَاكَ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَحْتَجَّ إلَّا بِالْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، وَحَدِيثُ الْجَلْدِ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يُعَارِضُهُ. فَإِنَّهُ قَالَ: مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحَاضَةٌ ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ [فَصْل أَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْن الْحَيْضَتَيْنِ] (448) فَصْلٌ: وَأَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَوْقِيتُ هَؤُلَاءِ بِالْخَمْسَةِ عَشَرَ بَاطِلٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَقَلُّ الطُّهْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، فَإِنْ قُلْنَا أَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِنْ قُلْنَا أَكْثَرُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ، فَأَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَهَذَا كَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ شَهْرَ الْمَرْأَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، يَجْتَمِعُ لَهَا فِيهِ حَيْضٌ وَطُهْرٌ، وَأَمَّا إذَا زَادَ شَهْرُهَا عَلَى ذَلِكَ تَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَكْثَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَذَكَرَ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، طَهُرَتْ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَصَلَّتْ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ: قُلْ فِيهَا. فَقَالَ شُرَيْحٌ: إنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ، فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهِيَ كَاذِبَةٌ. فَقَالَ عَلِيٌّ: " قالون. وَهَذَا بِالرُّومِيَّةِ. وَمَعْنَاهُ: جَيِّدٌ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، انْتَشَرَ، وَلَمْ نَعْلَمْ خِلَافَهُ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا أَقَلُّهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَهَذَا فِي الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، وَأَمَّا الطُّهْرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ فَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَّا مَا رَأَتْ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ فَإِنَّهَا لَا تُصَلِّي، وَإِذَا رَأَتْ الطُّهْرَ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ. وَرُوِيَ أَنَّ الطُّهْرَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. لِقَوْلِ عَائِشَةَ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ؛ وَلِأَنَّ الدَّمَ يَجْرِي مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى. فَلَا يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهِ، كَمَا لَوْ انْقَطَعَ أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ. [مَسْأَلَة مَنْ أَطْبَقَ بِهَا الدَّمُ فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ] (449) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَمَنْ أَطْبَقَ بِهَا الدَّمُ فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ، فَتَعْلَمُ إقْبَالَهُ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، وَإِدْبَارَهُ رَقِيقٌ أَحْمَرُ، تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي إقْبَالِهِ، فَإِذَا أَدْبَرَ، اغْتَسَلَتْ، وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَصَلَّتْ) قَوْلُهُ: " طَبَّقَ بِهَا الدَّمُ ". يَعْنِي امْتَدَّ وَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَهَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، قَدْ اخْتَلَطَ حَيْضُهَا بِاسْتِحَاضَتِهَا، فَتَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَيْضِ مِنْ الِاسْتِحَاضَةِ لِتُرَتِّبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ، وَلَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: مُمَيِّزَةٍ لَا عَادَةَ لَهَا، وَمُعْتَادَةٍ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَمَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ، وَمَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ. أَمَّا الْمُمَيِّزَةُ: فَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ الَّتِي لِدَمِهَا إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، بَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ مُشْرِقٌ، أَوْ أَصْفَرُ، أَوْ لَا رَائِحَةَ لَهُ، وَيَكُونُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ أَوْ الثَّخِينُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّهِ، فَحُكْمُ هَذِهِ أَنَّ حَيْضَهَا زَمَانُ الدَّمِ الْأَسْوَدِ أَوْ الثَّخِينِ أَوْ الْمُنْتِنِ، فَإِنْ انْقَطَعَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، تَغْتَسِلُ لِلْحَيْضِ، وَتَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتُصَلِّي، وَذَكَرَ أَحْمَدُ الْمُسْتَحَاضَةَ فَقَالَ: لَهَا سُنَنٌ، وَذَكَرَ الْمُعْتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَسُنَّةٌ أُخْرَى، إذَا جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا تُسْتَحَاضُ فَلَا تَطْهُرُ، قِيلَ لَهَا: أَنْتِ الْآنَ لَيْسَ لَك أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ فَتَجْلِسِينَهَا، وَلَكِنْ اُنْظُرِي إلَى إقْبَالِ الدَّمِ وَإِدْبَارِهِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ - وَإِقْبَالُهَا أَنْ تَرَى دَمًا أَسْوَدَ يُعْرَفُ - فَإِذَا تَغَيَّرَ دَمُهَا وَكَانَ إلَى الصُّفْرَةِ وَالرِّقَّةِ، فَذَلِكَ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ، فَاغْتَسِلِي، وَصَلِّي. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِالتَّمْيِيزِ، إنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْعَادَةِ خَاصَّةً؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِتَنْظُرْ عِدَّةَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّ الْحَيْضَ يَدُورُ عَلَيْهَا. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُسْتَحَاضُ، فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ، وَصَلِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُد: «إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا مَا رَأَتْ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ. وَقَالَ: إنَّهَا وَاَللَّهِ لَنْ تَرَى الدَّمَ الَّذِي هُوَ الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِ مَحِيضِهَا إلَّا كَغُسَالَةِ مَاءِ اللَّحْمِ. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ. وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ هُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْحَيْضُ. [فَصْل الْمُمَيَّزَة إذَا عَرَفَتْ التَّمْيِيزَ] (450) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمُمَيِّزَةَ إذَا عَرَفَتْ التَّمْيِيزَ جَلَسَتْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَكْرَارٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْيِيزِ أَنْ يَتَمَيَّزَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِي الصِّفَةِ، وَهَذَا يُوجَدُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: إنَّمَا تَجْلِسُ الْمُمَيِّزَةُ مِنْ التَّمْيِيزِ مَا تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ، وَصَلِّي» . أَمَرَهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ، ثُمَّ مَدَّهُ إلَى حِينِ إدْبَارِهِ؛ وَلِأَنَّ التَّمْيِيزَ أَمَارَةٌ بِمُجَرَّدِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، كَالْعَادَةِ، وَعِنْدَ الْقَاضِي: إنَّمَا تَجْلِسُ مِنْ التَّمْيِيزِ مَا وَافَقَ الْعَادَةَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّكْرَارَ، وَمَتَى تَكَرَّرَ صَارَ عَادَةً. [فَصْل فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّمُ الْأَسْوَدُ مُخْتَلِفًا] (451) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَسْوَدُ مُخْتَلِفًا، مِثْلُ أَنْ تَرَى فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ يَصِيرُ أَحْمَرَ، وَيَعْبُرُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَالْأَسْوَدُ وَحْدَهُ حَيْضٌ. وَلَوْ لَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ كَانَ جَمِيعُ الدَّمِ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَمٌ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، فَكَانَ حَيْضًا، كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ أَحْمَرَ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا، مِثْلُ أَنْ يَرَى فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ خَمْسَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أَسْوَدَ، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةً، وَفِي الثَّالِثِ ثَلَاثَةً، أَوْ فِي الْأَوَّلِ خَمْسَةً، وَفِي الثَّانِي سِتَّةً، وَفِي الثَّالِثِ سَبْعَةً، أَوْ فِي الْأَوَّلِ خَمْسَةً، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةً، وَفِي الثَّالِثِ سِتَّةً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ؛ فَعَلَى قَوْلِنَا الْأَسْوَدُ حَيْضٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي الْأَسْوَدُ حَيْضٌ فِيمَا وَافَقَ الْعَادَةَ فَقَطْ، وَهُوَ ثَلَاثٌ فِي الْأُولَى، وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَأَرْبَعٌ فِي الثَّالِثَةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إنْ تَكَرَّرَ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَيْسَ بِحَيْضٍ. وَعَلَى قَوْلِهِ: لَا تَجْلِسُ مِنْهُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي إلَّا الْيَقِينَ الَّذِي تَجْلِسُهُ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَمْ تَجْلِسْ إلَّا يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَهَلْ تَجْلِسُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ؟ يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي تَرَى دَمًا لَا يَعْبُرُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، الْأَحْمَرُ هَاهُنَا كَالطُّهْرِ هُنَاكَ، وَالْأَسْوَدُ كَالدَّمِ هُنَاكَ. فَإِنْ كَانَتْ نَاسِيَةً، وَكَانَ الْأَسْوَدُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، وَقُلْنَا إنَّهَا تَجْلِسُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، جَلَسَتْ هَاهُنَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ مَا تَجْلِسُهُ النَّاسِيَةُ وَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ، وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى الْأَسْوَدِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ، فَإِذَا تَكَرَّرَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ، فَتَقْضِي مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِيهِ. [فَصْل إذَا رَأَتْ أُسُودَ بَيْنَ أَحْمَرَيْنِ أَوْ أَحْمَرَ بَيْن أَسْوَدَيْنِ وَانْقَطَعَ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ] (452) فَصْلٌ: فَإِذَا رَأَتْ أَسْوَدَ بَيْنَ أَحْمَرَيْنِ أَوْ أَحْمَرَ بَيْنَ أَسْوَدَيْنِ، وَانْقَطَعَ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ إذَا تَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَرَ أَشْبَهُ بِالْحَيْضِ مِنْ الطُّهْرِ. وَإِنْ عَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَكَادَ الْأَسْوَدُ بِمُفْرَدِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، فَهُوَ حَيْضٌ، وَالْأَحْمَرُ كُلُّهُ اسْتِحَاضَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَرَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ بِالْأَحْمَرِ الثَّانِي الَّذِي حَكَمْنَا بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ، وَتُلَفِّقُ الْأَسْوَدَ إلَى الْأَسْوَدِ، فَيَكُونُ حَيْضًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَسْوَدِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا إذَا كَانَ بِانْضِمَامِهِ إلَى بَقِيَّةِ الْأَسْوَدِ يَبْلُغُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِهِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا زَمَنٌ يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَحْمَرِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا إذَا كَانَ زَمَنُهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا. فَأَمَّا إنْ كَانَ زَمَنُهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا، مِثْلُ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ مَا دُونَ الْيَوْمِ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالدَّمَيْنِ الَّذِي هُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا، لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ طُهْرًا، فَإِذَا كَانَ الدَّمُ جَارِيًا كَانَ أَوْلَى، فَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّانِيَ دَمًا أَحْمَرَ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّالِثَ أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَعَبَرَ، لَفَّقَتْ الْأَسْوَدَ إلَى الْأَسْوَدِ، فَصَارَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَبَاقِي الدَّمِ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّانِيَ كَذَلِكَ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّالِثَ كُلَّهُ أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَعَبَرَ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الطُّهْرَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، لَفَّقَتْ الْأَسْوَدَ إلَى الْأَسْوَدِ فَكَانَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، فَحَيْضُهَا الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ، وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ. وَإِنْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَعَبَرَ إلَى الْعَاشِرِ، ثُمَّ رَأَتْهُ كُلَّهُ أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ، وَعَبَرَ، فَالْأَسْوَدُ حَيْضٌ كُلُّهُ، وَنِصْفُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ رَأَتْ بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ الْأَحْمَرِ نَقَاءً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَرَ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ، مَعَ اتِّصَالِهِ بِالْأَسْوَدِ، فَمَعَ انْفِصَالِهِ عَنْهُ أَوْلَى. [فَصْل إذَا رَأَتْ الدَّم فِي شَهْرٍ خَمْسَةً أَسْوَدِ ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ] (453) فَصْلٌ: إذَا رَأَتْ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ، وَاتَّصَلَ، وَفِي الثَّانِي كَذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ الثَّالِثُ كُلُّهُ أَحْمَرَ، ثُمَّ رَأَتْ فِي الرَّابِعِ مِثْلَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَأَتْ فِي الْخَامِسِ خَمْسَةً أَحْمَرَ، ثُمَّ صَارَ أَسْوَدَ وَاتَّصَلَ، فَحَيْضُهَا الْأَسْوَدُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالرَّابِعِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالْخَامِسُ فَلَا تَمْيِيزَ لَهَا فِيهِمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَسْوَدِ فِي الْخَامِسِ سَقَطَ لِعُبُورِهِ. فَإِنْ قُلْنَا الْعَادَةُ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَإِنْ قُلْنَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ، جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ الْخَامِسِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: لَا تَثْبُتُ لَهَا عَادَةٌ، وَتَجْلِسُ مَا تَجْلِسُهُ مِنْ الْخَامِسِ مِنْ الدَّمِ الْأَسْوَدِ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِدَمِ الْحَيْضِ. [فَصْل إذَا رَأَتْ الدَّمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا دَمًا أُسُودَ وَخَمْسَةَ عَشْرَ أَحْمَرِ] (454) فَصْلٌ: إذَا رَأَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَحْمَرَ، فَالْأَسْوَدُ كُلُّهُ حَيْضٌ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَقَدْ رَأَتْ فِيهِ أَمَارَةَ الْحَيْضِ، فَيَثْبُتُ كَوْنُهُ حَيْضًا. [مَسْأَلَة لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُنْفَصِلًا وَكَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ مِنْ الشَّهْرِ تَعْرِفُهَا] (455) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُنْفَصِلًا، وَكَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ مِنْ الشَّهْرِ تَعْرِفُهَا، أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَاغْتَسَلَتْ إذَا جَاوَزَتْهَا) هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهِيَ مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تَمْيِيزَ لَهَا؛ لِكَوْنِ دَمِهَا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ، أَيْ عَلَى صِفَةٍ لَا تَخْتَلِفُ وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُمَيِّزَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُنْفَصِلًا إلَّا أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ دُونَ أَقَلِّ الْحَيْضِ أَوْ فَوْقَ أَكْثَرِهِ، فَهَذِهِ لَا تَمْيِيزَ لَهَا. فَإِذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ قَبْلَ أَنْ تُسْتَحَاضَ، جَلَسَتْ أَيَّامَ عَادَتِهَا، وَاغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتُصَلِّي. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا اعْتِبَارَ بِالْعَادَةِ، إنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالتَّمْيِيزِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً اسْتَطْهَرَتْ بَعْدَ زَمَانِ عَادَتِهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إنْ لَمْ تُجَاوِزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَاضَةٌ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ، وَصَلِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَتْ أُمُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 حَبِيبَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الدَّمِ؟ فَقَالَ لَهَا «اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُك حَيْضَتُك، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي «الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِ الْعَادَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهَا. [فَصْلٌ الْعَادَةُ فِي الْحَيْضِ لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ] (456) فَصْلٌ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْ لَهَا أَمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا إلَى الشَّهْرِ الَّذِي يَلِي شَهْرَ الِاسْتِحَاضَةِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَيْهَا، فَوَجَبَ رَدُّهَا إلَيْهِ، وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُعَاوَدَةُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ «لِتَنْظُرْ عِدَّةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا» . " وَكَانَ " يُخْبَرُ بِهَا عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ وَتَكْرَارِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مَرَّةً: كَانَ يَفْعَلُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» . وَالْأَقْرَاءُ جَمْعٌ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَادَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَلَا نَفْهَمُ مِنْ اسْمِ الْعَادَةِ فِعْلَ مَرَّةٍ بِحَالٍ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ: هَلْ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ؟ فَعَنْهُ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ، وَقَدْ عَاوَدْتهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَعَنْهُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِثَلَاثٍ؛ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَا كَثُرَ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ التَّكْرَارُ اُعْتُبِرَ ثَلَاثًا، كَأَيَّامِ الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ. [فَصْلٌ تَثْبُتُ الْعَادَةُ فِي الْحَيْضِ بِالتَّمْيِيزِ] (457) فَصْلٌ: وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِالتَّمْيِيزِ، فَإِذَا رَأَتْ دَمًا أَسْوَدَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ صَارَ، أَحْمَرَ، وَاتَّصَلَ، ثُمَّ صَارَ فِي سَائِرِ الْأَشْهُرِ دَمًا مُبْهَمًا، كَانَتْ عَادَتُهَا زَمَنَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ. [فَصْلٌ الْعَادَةُ فِي الْحَيْضِ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُتَّفِقَةٍ وَمُخْتَلِفَةٍ] (458) فَصْلٌ: وَالْعَادَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَّفِقَةٍ، وَمُخْتَلِفَةٍ، فَالْمُتَّفِقَةُ أَنْ تَكُونَ أَيَّامًا مُتَسَاوِيَةً، كَأَرْبَعَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَإِذَا اُسْتُحِيضَتْ جَلَسَتْ الْأَرْبَعَةَ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَةُ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى تَرْتِيبٍ، مِثْلُ إنْ كَانَتْ تَرَى فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةً، وَفِي الثَّالِثِ خَمْسَةً، ثُمَّ تَعُودُ إلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ إلَى أَرْبَعَةٍ عَلَى مَا كَانَتْ، فَهَذِهِ إذَا اُسْتُحِيضَتْ فِي شَهْرٍ فَعَرَفَتْ نَوْبَتَهُ عَمِلَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى الَّذِي بَعْدَهُ، ثُمَّ عَلَى الَّذِي بَعْدَهُ عَلَى الْعَادَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَإِنْ نَسِيَتْ نَوْبَتَهُ حَيَّضْنَاهَا الْيَقِينَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ. وَإِنْ أَيْقَنَتْ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَشَكَّتْ؛ هَلْ هُوَ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثُ؟ جَلَسَتْ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، ثُمَّ تَجْلِسُ مِنْ الشَّهْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، ثُمَّ تَجْلِسُ فِي الرَّابِعِ أَرْبَعَةً ثُمَّ تَعُودُ إلَى الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ أَبَدًا، وَيُجْزِئُهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي جَلَسَتْهَا، كَالنَّاسِيَةِ إذَا جَلَسَتْ أَقَلَّ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْيَقِينِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا نُوجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلَ بِالشَّكِّ، وَيَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَيْهَا أَيْضًا عِنْدَ مُضِيِّ أَكْثَرِ عَادَتِهَا؛ لِأَنَّ يَقِينَ الْحَيْضِ ثَابِتٌ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ بِالْغُسْلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا تَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مُتَيَقِّنَةٌ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَيْهَا فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهَا، وَصِحَّةُ صَلَاتِهَا تَقِفُ عَلَى الْغُسْلِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا لِتَخْرُجَ عَلَى الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا. وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَتُفَارِقُ النَّاسِيَةَ، فَإِنَّهَا لَا تَعْلَمُ لَهَا حَيْضًا زَائِدًا عَلَى مَا جَلَسَتْهُ، وَهَذِهِ تَتَيَقَّنُ لَهَا حَيْضًا زَائِدًا عَلَى مَا جَلَسَتْهُ تَقِفُ صِحَّةُ صَلَاتِهَا عَلَى غُسْلِهَا مِنْهُ، فَوَجَبَ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا غُسْلٌ ثَانٍ، عَقِيبَ الْيَوْمِ الْخَامِسِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَإِنْ جَلَسَتْ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَضَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ كَانَ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ صَامَتْهُمَا أَسْقَطَا الْفَرْضَ مِنْ ذِمَّتِهَا، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَغْسَالٍ: غُسْلٌ عَقِبَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَغُسْلٌ عَقِبَ الرَّابِعِ، وَغُسْلٌ عَقِبَ الْخَامِسِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا عَقِيبَ الرَّابِعِ غُسْلًا فِي أَحَدِ الْأَشْهُرِ، وَكُلُّ شَهْرٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّهْرَ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْلُ فِيهِ بَعْدَ الرَّابِعِ، فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا فِي الْخَامِسِ. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ، مِثْلُ أَنْ تَحِيضَ مِنْ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَمِنْ الثَّانِي خَمْسَةً، وَمِنْ الثَّالِثِ أَرْبَعَةً، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَيَعْتَادُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَلِفُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ، جَلَسَتْ الْأَقَلَّ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَقَلُّ مِنْهَا، وَاغْتَسَلَتْ عَقِيبَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ، أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً ثَانِيَةً، وَهِيَ إجْلَاسُهَا أَكْثَرَ عَادَتِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ، كَالنَّاسِيَةِ لِلْعَدَدِ، تَجْلِسُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، إذْ فِيهِ أَمْرُهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَإِسْقَاطُهَا عَنْهَا مَعَ يَقِينِ وُجُوبِهَا عَلَيْهَا، فَإِنَّنَا مَتَى أَمَرْنَاهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وُجُوبَهَا عَلَيْهَا، فِي يَوْمَيْنِ مِنْهَا فِي شَهْرٍ، وَفِي يَوْمٍ فِي شَهْرٍ آخَرَ فَقَدْ أَمَرْنَاهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ يَقِينًا، فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ بِالِاشْتِبَاهِ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَفَارَقَ النَّاسِيَةَ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ عَلَيْهَا صَلَاةً وَاجِبَةً يَقِينًا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيْضِ، وَسُقُوطُ الصَّلَاةِ، فَتَبْقَى عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 [فَصْلٍ لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُعْتَادَةً حَتَّى تَعْرِفَ شَهْرَهَا] (459) فَصْل: وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُعْتَادَةً حَتَّى تَعْرِفَ شَهْرَهَا، وَوَقْتَ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا. وَشَهْرُ الْمَرْأَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُدَّةِ الَّتِي لَهَا فِيهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، تَحِيضُ يَوْمًا، وَتَطْهُرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَإِنْ قُلْنَا: أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَقْصَرُ مَا يَكُونُ الشَّهْرُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَكْثَرُهُ لَا حَدَّ لَهُ؛ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الطُّهْرِ لَا حَدَّ لَهُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ الشَّهْرُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا عَرَفَتْ أَنَّ شَهْرَهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَأَنَّ حَيْضَهَا مِنْهُ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَطُهْرَهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَرَفَتْ أَوَّلَهُ، فَهِيَ مُعْتَادَةٌ، وَإِنْ عَرَفَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا، وَأَيَّامَ طُهْرِهَا، فَقَدْ عَرَفَتْ شَهْرَهَا، وَإِنْ عَرَفَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَلَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَ طُهْرِهَا، أَوْ أَيَّامَ طُهْرِهَا وَلَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَ حَيْضِهَا، فَلَيْسَتْ مُعْتَادَةً لَكِنَّهَا مَتَى جَهِلَتْ شَهْرَهَا، رَدَدْنَاهَا إلَى الْغَالِبِ، فَحَيَّضْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، كَمَا رَدَدْنَاهَا فِي عَدَدِ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى سِتٍّ أَوْ إلَى سَبْعٍ، لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ. [فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ] (460) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ: مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ وَهِيَ مَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَاسْتُحِيضَتْ، وَدَمُهَا مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ، فَإِنْ كَانَ الْأَسْوَدُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي الدَّلَالَةِ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْعَادَةِ أَوْ أَقَلَّ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ، فَيُعْمَلُ بِهِ، وَتَدَعُ الْعَادَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ " فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي إقْبَالِهِ ". وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُعْتَادَةٍ وَغَيْرِهَا. وَاشْتَرَطَ فِي رَدِّهَا إلَى الْعَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ دَمُهَا مُتَّصِلًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدَّمِ أَمَارَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، وَالْعَادَةُ زَمَانٌ مُنْقَضٍ؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَرَجَعَ إلَى صِفَتِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَالْمَنِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَالْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ إلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِهَا مُمَيِّزَةً أَوْ غَيْرَهَا، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ رَدُّهَا إلَى الْعَادَةِ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ رَدُّهَا إلَى التَّمْيِيزِ، فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَانِ وَبَقِيَتْ الْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ خَالِيَةً عَنْ مُعَارِضٍ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا. عَلَى أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، وَحِكَايَةُ حَالٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ قَرِينَةِ حَالِهَا، وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَامٌّ فِي كُلِّ مُسْتَحَاضَةٍ، فَيَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى؛ لِكَوْنِهَا لَا تَبْطُلُ دَلَالَتُهَا، وَاللَّوْنُ إذَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، بَطَلَتْ دَلَالَتُهُ، فَمَا لَا تَبْطُلُ دَلَالَتُهُ أَقْوَى وَأَوْلَى. [فَصْلٍ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَاسْتُحِيضَتْ وَصَارَتْ تَرَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ] (461) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، فَاسْتُحِيضَتْ، وَصَارَتْ تَرَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، فَمَنْ قَدَّمَ الْعَادَةَ قَالَ: تَجْلِسُ خَمْسَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ، كَمَا كَانَتْ تَجْلِسُ قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ. وَمَنْ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ جَعَلَ حَيْضَهَا الثَّلَاثَةَ الَّتِي تَرَى الدَّمَ الْأَسْوَدَ فِيهَا، إلَّا أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ إلَّا بِتَجَاوُزِ الدَّمِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا عَبَرَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ. فَلَا تَجْلِسُ فِي الثَّانِي مَا زَادَ عَلَى الدَّمِ الْأَسْوَدِ. فَإِنْ رَأَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةً دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ. لَمْ يُحَيِّضْهَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ إلَّا خَمْسَةً، قَدْرَ عَادَتِهَا. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى الْعَادَةِ جَلَسَتْهُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ. أَجْلَسَهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَفِي الثَّانِي تَجْلِسُ أَيَّامَ الْعَادَةِ، وَهِيَ الْخَمْسَةُ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَادَةَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَمَنْ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ التَّكْرَارَ، أَجْلَسَهَا الْعَشَرَةَ كُلَّهَا. فَإِذَا تَكَرَّرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَجْلِسُ الْعَشَرَةَ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَادَةِ تَثْبُتُ بِتَكَرُّرِ الْأَسْوَدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجْلِسَ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَادَةَ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الزَّائِدَ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ التَّمْيِيزِ حَيْضًا بِتَكَرُّرِهِ، لَجَعَلْنَا النَّاقِصَ عَنْهَا اسْتِحَاضَةً بِتَكَرُّرِهِ، فَكَانَتْ لَا تَجْلِسُ فِيمَا إذَا رَأَتْ ثَلَاثَةً أَسْوَدَ ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ، أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ. وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ (462) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسًا مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ فَاسْتُحِيضَتْ، فَصَارَتْ تَرَى خَمْسَةً أَسْوَدَ ثُمَّ يَصِيرُ أَحْمَرَ، وَيَتَّصِلُ، فَالْأَسْوَدُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمُوَافَقَتِهِ زَمَنَ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَإِنْ رَأَتْ مَكَانَ الْأَسْوَدِ أَحْمَرَ، ثُمَّ صَارَ أَسْوَدَ، وَعَبَرَ، سَقَطَ حُكْمُ الْأَسْوَدِ؛ لِعُبُورِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَكَانَ حَيْضُهَا الْأَحْمَرُ، لِمُوَافَقَتِهِ زَمَنَ الْعَادَةِ. وَإِنْ رَأَتْ مَكَانَ الْعَادَةِ أَحْمَرَ، ثُمَّ خَمْسَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ، فَمَنْ قَدَّمَ الْعَادَةَ حَيَّضَهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ. وَإِذَا تَكَرَّرَ الْأَسْوَدُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَصِيرُ حَيْضًا، وَأَمَّا مَنْ يُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْأَسْوَدَ وَحْدَهُ حَيْضًا. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ تَحِيضُ فِيهَا ثُمَّ نَسِيَتْهَا] (463) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ أُنْسِيَتْهَا، فَإِنَّهَا تَقْعُدُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا فِي كُلِّ شَهْرٍ) هَذِهِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَهِيَ مَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ وَهَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ: أَحَدَهُمَا النَّاسِيَةُ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِهَا وَعَدَدِهَا وَهَذِهِ يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ الْمُتَحَيِّرَةَ. وَالثَّانِيَةُ، أَنْ تَنْسَى عَدَدَهَا، وَتَذْكُرَ وَقْتَهَا. وَالثَّالِثَةُ، أَنْ تَذْكُرَ عَدَدَهَا، وَتَنْسَى وَقْتَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فَالنَّاسِيَةُ لَهُمَا، هِيَ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ حُكْمَهَا، وَأَنَّهَا تَجْلِسُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً، يَكُونُ ذَلِكَ حَيْضَهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَهِيَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَاضَةٌ، تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَطُوفُ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجْلِسُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَعْرِفُ شَهْرَهَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ، جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ شَهْرِهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ شَهْرَهَا، جَلَسَتْ مِنْ الشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي النَّاسِيَةِ لَهُمَا: لَا حَيْضَ لَهَا بِيَقِينٍ، وَجَمِيعُ زَمَنِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهَا تَجْلِسُ الْيَقِينَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إلَى غَيْرِهَا، فَجَمِيعُ زَمَانِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، لِكُلِّ صَلَاةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، قَالَتْ: كُنْت أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْتَفْتِيهِ، فَوَجَدْته فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً. فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ قَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ، قَالَ: «أَنْعَتُ لَك الْكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ. قُلْت: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. إنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَآمُرُك أَمْرَيْنِ، أَيَّهُمَا صَنَعْت أَجْزَأَ عَنْك، فَإِنْ قَوِيت عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَقَالَ إنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ فَتَحِيضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي فَإِذَا رَأَيْت أَنَّك قَدْ طَهُرْت وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُك وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي، كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ، وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ، فَإِنْ قَوِيت أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ حَتَّى تَطْهُرِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَتَغْتَسِلِينَ لِلصُّبْحِ، فَافْعَلِي، وَصُومِي إنْ قَوِيت عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْهُ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا. وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي حَقِّ النَّاسِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْهَا، هَلْ هِيَ مُبْتَدَأَةٌ أَوْ نَاسِيَةٌ؟ وَلَوْ افْتَرَقَ الْحَالُ لَاسْتَفْصَلَ وَسَأَلَ. وَاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً أَكْثَرُ، فَإِنَّ حَمْنَةَ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ، كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ. وَلَمْ يَسْأَلْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَمْيِيزِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى مِنْ كَلَامِهَا، مِنْ تَكْثِيرِ الدَّمِ وَصِفَتِهِ مَا أَغْنَى عَنْ السُّؤَالِ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهَا هَلْ لَهَا عَادَةٌ فَيَرُدُّهَا إلَيْهَا؟ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِ إيَّاهُ، إذْ كَانَ مُشْتَهِرًا، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ أُخْتَهَا أُمَّ حَبِيبَةَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً؛ وَلِأَنَّ لَهَا حَيْضًا لَا تَعْلَمُ قَدْرَهُ، فَيُرَدُّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ، كَالْمُبْتَدَأَةِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ، فَأَشْبَهَتْ الْمُبْتَدَأَةَ. وَقَوْلُهُمْ: لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ. قُلْنَا: قَدْ زَالَتْ الْمَعْرِفَةُ، فَصَارَ وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ، كَأَمْرِهِ لِحَمْنَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَإِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ كَانَتْ مُعْتَادَةً رَدَّهَا إلَى عَادَتِهَا، وَهِيَ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَأَنْكَرَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أُمَّ حَبِيبَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ فَعَلَتْهُ هِيَ. (464) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: " سِتًّا أَوْ سَبْعًا " الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَى اجْتِهَادِهَا وَرَأْيِهَا، فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى عَادَتِهَا أَوْ عَادَةِ نِسَائِهَا، أَوْ مَا يَكُونُ أَشْبَهَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ خَيَّرَهَا بَيْنَ سِتٍّ وَسَبْعٍ، لَا عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، كَمَا خُيِّرَ وَاطِئُ الْحَائِضِ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ. وَالْأَوَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا مُخَيَّرَةً أَفْضَى إلَى تَخْيِيرِهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ خِيرَةٌ بِحَالٍ. أَمَّا التَّكْفِيرُ فَفِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ، يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهِ بَيْنَ إخْرَاجِ دِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، وَالْوَاجِبُ نِصْفُ دِينَارٍ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ. قُلْنَا: وَقَدْ يَكُونُ لِلِاجْتِهَادِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَ " إمَّا " " كَأَوْ " فِي وَضْعِهَا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى إلَّا فِعْلُ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 [فَصْلٌ لَا تَخْلُو النَّاسِيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِشَهْرِهَا أَوْ عَالِمَةً بِهِ] (465) فَصْلٌ: وَلَا تَخْلُو النَّاسِيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِشَهْرِهَا، أَوْ عَالِمَةً بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِشَهْرِهَا، رَدَدْنَاهَا إلَى الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ، فَحَيَّضْنَاهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً؛ لِحَدِيثِ حَمْنَةَ؛ وَلِأَنَّهُ الْغَالِبُ، فَتُرَدُّ إلَيْهِ، كَرَدِّهَا إلَى السِّتِّ وَالسَّبْعِ. وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِشَهْرِهَا، حَيَّضْنَاهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِهَا حَيْضَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَتُهَا، فَتُرَدُّ إلَيْهَا، كَمَا تُرَدُّ الْمُعْتَادَةُ إلَى عَادَتِهَا فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنَّهَا مَتَى كَانَ شَهْرُهَا أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، لَمْ نُحَيِّضْهَا مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الْفَاضِلِ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ حَاضَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَنَقَصَ طُهْرُهَا عَنْ أَقَلِّ الطُّهْرِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَهَلْ تَجْلِسُ أَيَّامَ حَيْضِهَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، تَجْلِسُهُ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ إذَا كَانَ يَحْتَمِلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِحَمْنَةَ «تَحِيضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، أَوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا» . فَقَدَّمَ حَيْضَهَا عَلَى الطُّهْرِ، ثُمَّ أَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي بَقِيَّتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ تَجْلِسُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا عَادَةَ لَهَا، فَكَذَلِكَ النَّاسِيَةُ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمُ جِبِلَّةٍ، وَالِاسْتِحَاضَةُ عَارِضَةٌ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ، وَجَبَ تَغْلِيبُ دَمِ الْحَيْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهَا تَجْلِسُ أَيَّامَهَا مِنْ الشَّهْرِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا إلَى اجْتِهَادِهَا فِي الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: " سِتًّا أَوْ سَبْعًا ". فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ؛ وَلِأَنَّ لِلتَّحَرِّي مَدْخَلًا فِي الْحَيْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُمَيِّزَةَ تَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الدَّمِ. فَكَذَلِكَ فِي زَمَنِهِ، فَإِنْ تَسَاوَى عِنْدَهَا الزَّمَانُ كُلُّهُ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ، تَعَيَّنَ إجْلَاسُهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ فِيمَا سِوَاهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، النَّاسِيَةُ لِعَدَدِهَا دُونَ وَقْتِهَا، كَاَلَّتِي تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَا تَعْلَمُ عَدَدَهُ، فَهِيَ فِي قَدْرِ مَا تَجْلِسُهُ كَالْمُتَحَيِّرَةِ، تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، إلَّا أَنَّهَا تَجْلِسُهَا مِنْ الْعَشْرِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَلْ تَجْلِسُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ، أَوْ بِالتَّحَرِّي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْت أَوَّلَ الشَّهْرِ حَائِضًا، وَلَا أَعْلَمُ آخِرَهُ. أَوْ إنَّنِي كُنْت آخِرَ الشَّهْرِ حَائِضًا وَلَا أَعْلَمُ أَوَّلَهُ. أَوْ لَا أَعْلَمُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ حَيْضِي أَوْ آخِرَهُ؟ حَيَّضْنَاهَا الْيَوْمَ الَّذِي عَلِمَتْهُ، وَأَتَمَّتْ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا مِمَّا بَعْدَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَمِمَّا قَبْلَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَبِالتَّحَرِّي فِي الثَّالِثَةِ، أَوْ مِمَّا يَلِي أَوَّلَ الشَّهْرِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، النَّاسِيَةُ لِوَقْتِهَا دُونَ عَدَدِهَا، وَهَذِهِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ لَا تَعْلَمَ لَهَا وَقْتًا أَصْلًا، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ خَمْسَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؛ إمَّا مِنْ أَوَّلِهِ، أَوْ بِالتَّحَرِّي، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّانِي، أَنْ تَعْلَمَ لَهَا وَقْتًا، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحِيضُ أَيَّامًا مَعْلُومَةً مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ كُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 شَهْرٍ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ عَدَدَ أَيَّامِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو عَدَدُ أَيَّامِهَا؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَا يَزِيدُ، فَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى نِصْفِهِ، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَضْعَفْنَا الزَّائِدَ، فَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا بِيَقِينٍ، وَتَجْلِسُ بَقِيَّةَ أَيَّامِهَا بِالتَّحَرِّي فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِي الْآخَرِ، مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الزَّائِدُ يَوْمٌ وَهُوَ السَّادِسُ، فَنُضَعِّفُهُ وَيَكُونُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ حَيْضًا بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّنَا مَتَى عَدَدْنَا لَهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْعَشْرِ، دَخَلَ فِيهِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ، يَبْقَى لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا مِنْ الْأَوَّلِ، كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ إلَى آخِرِ السَّادِسِ، مِنْهَا يَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَالْأَرْبَعَةُ حَيْضٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا بِالتَّحَرِّي، فَأَدَّاهَا اجْتِهَادُهَا إلَى أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَهِيَ كَالَّتِي ذَكَرْنَا. وَإِنْ جَلَسَتْ الْأَرْبَعَةَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، كَانَتْ حَيْضًا مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأُولَى طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَإِنْ قَالَتْ: حَيْضِي سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ. فَقَدْ زَادَتْ يَوْمَيْنِ عَلَى نِصْفِ الْوَقْتِ، فَنُضَعِّفُهُمَا، فَيَصِيرُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَيْضًا بِيَقِينٍ، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الرَّابِعِ إلَى آخِرِ السَّابِعِ، وَيَبْقَى لَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَجْلِسُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ، أَوْ بِالتَّحَرِّي، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَيْضًا مَشْكُوكًا فِيهِ، وَيَبْقَى لَهَا ثَلَاثَةٌ، طُهْرًا مَشْكُوكًا فِيهِ، وَسَائِرُ الشَّهْرِ طُهْرٌ، وَحُكْمُ الْحَيْضِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ حُكْمُ الْحَيْضِ الْمُتَيَقَّنِ، فِي تَرْكِ الْعِبَادَاتِ. وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا نِصْفَ الْوَقْتِ فَمَا دُونَ، فَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ تَحِيضُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْخَمْسَةَ الْأُولَى، وَأَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةَ، وَأَنْ تَكُونَ بَعْضُهَا مِنْ الْأُولَى وَبَاقِيهَا مِنْ الثَّانِيَةِ، فَتَجْلِسُ خَمْسَةً بِالتَّحَرِّي، أَوْ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ فِي النَّاسِيَةِ لِأَيَّامِ الْحَيْضِ] (466) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ فِي النَّاسِيَةِ؛ لِأَنَّهَا عَرَفَتْ اسْتِحَاضَتَهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ. (467) فَصْلٌ: وَإِذَا ذَكَرَتْ النَّاسِيَةُ عَادَتَهَا بَعْدَ جُلُوسِهَا فِي غَيْرِهِ، رَجَعَتْ إلَى عَادَتِهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا لِعَارِضِ النِّسْيَانِ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ عَادَتْ إلَى الْأَصْلِ. وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ عَادَتِهَا، لَزِمَهَا إعَادَتُهَا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِي عَادَتِهَا، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ، فَجَلَسَتْ السَّبْعَةَ الَّتِي قَبْلَهَا مُدَّةً، ثُمَّ ذَكَرَتْ، لَزِمَهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ فِي السَّبْعَةِ، وَقَضَاءُ مَا صَامَتْ مِنْ الْفَرْضِ فِي الثَّلَاثَة؛ لِأَنَّهَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمُبْتَدَأُ بِهَا الدَّمُ تَحْتَاطُ] (468) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُبْتَدَأُ بِهَا الدَّمُ تَحْتَاطُ، فَتَجْلِسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَتَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي. فَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، اغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً. فَإِنْ كَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، عَمِلَتْ عَلَيْهِ وَأَعَادَتْ الصَّوْمَ، إنْ كَانَتْ صَامَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ مِرَارٍ لِفَرْضٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ؛ وَهِيَ مَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ، وَهِيَ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الْحَيْضُ وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ قَبْلَهُ؛ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا تَجْلِسُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ، وَهِيَ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ وَهِيَ الَّتِي لَهَا تِسْعُ سِنِينَ فَصَاعِدًا، فَتَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ؛ فَإِنْ زَادَ الدَّمُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، اغْتَسَلَتْ عَقِيبَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَتَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتُصَلِّي، وَتَصُومُ. فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ فَمَا دُونَ، اغْتَسَلَتْ غُسْلًا ثَانِيًا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ، وَصَنَعَتْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُ الدَّمِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ مُتَسَاوِيَةً، صَارَ ذَلِكَ عَادَةً؛ وَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ حَيْضًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْ مِنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ عِنْدِي فِي هَذَا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: وَأَصْحَابُنَا يَجْعَلُونَ فِي قَدْرِ مَا تَجْلِسُهُ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ، أَنَّهَا تَجْلِسُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، وَالثَّانِيَةُ غَالِبَهُ، وَالثَّالِثَةُ أَكْثَرَهُ، وَالرَّابِعَةُ عَادَةَ نِسَائِهَا. قَالَ: وَلَيْسَ هَاهُنَا مَوْضِعُ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ الدَّمُ، وَحَصَلَتْ مُسْتَحَاضَةً فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ؛ فَرَوَى صَالِحٌ، قَالَ: قَالَ أَبِي: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ الدَّمُ بِالْمَرْأَةِ تَقْعُدُ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا تَجْلِسُهُ النِّسَاءُ عَلَى حَدِيثِ حَمْنَةَ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا تَجْلِسُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَيْضِهَا. وَقَوْلُهُ: أَكْثَرُ مَا تَجْلِسُهُ النِّسَاءُ. يَعْنِي أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النِّسَاءِ هَكَذَا يَحِضْنَ. وَرَوَى حَرْبٌ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت: امْرَأَةٌ أَوَّلَ مَا حَاضَتْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، كَمْ يَوْمًا تَجْلِسُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ مِثْلُهَا مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَحِضْنَ، فَإِنْ شَاءَتْ جَلَسَتْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهَا حَيْضٌ وَوَقْتٌ، وَإِنْ أَرَادَتْ الِاحْتِيَاطَ، جَلَسَتْ يَوْمًا وَاحِدًا، أَوَّلَ مَرَّةٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَقْتُهَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَالُوا هَذَا، وَقَالُوا هَذَا، فَأَيُّهَا أَخَذَتْ فَهُوَ جَائِزٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، فِي الْبِكْرِ تُسْتَحَاضُ، وَلَا تَعْلَمُ لَهَا قُرْءًا، قَالَ: لِتَنْظُرْ قُرْءَ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ عِدَّةَ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي. قَالَ حَنْبَلٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَا حَسَنٌ. وَاسْتَحْسَنَهُ جِدًّا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا تَجْلِسُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. إلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ مِثْلُ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ؛ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: تَجْلِسُ جَمِيعَ الْأَيَّامِ الَّتِي تَرَى الدَّمَ فِيهَا إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، فَإِنْ انْقَطَعَ لِأَكْثَرِهِ فَمَا دُونَ، فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الدَّمِ حَيْضٌ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ اسْتِحَاضَةً، فَكَذَلِكَ أَثْنَاؤُهُ؛ وَلِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ حَيْضًا، فَلَا نَنْقُضُ مَا حَكَمْنَا بِهِ بِالتَّجْوِيزِ، كَمَا فِي الْمُعْتَادَةِ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمُ جِبِلَّةٍ، وَالِاسْتِحَاضَةُ دَمٌ عَارِضٌ لِمَرَضٍ عَرَضَ؛ وَعِرْقٍ انْقَطَعَ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ، وَأَنَّ دَمَهَا دَمُ الْجِبِلَّةِ دُونَ الْعِلَّةِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي إجْلَاسِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ حُكْمًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا؛ فَلَمْ يُحْكَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، كَالْمُعْتَدَّةِ لَا يُحْكَمُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا مِنْ الْعِدَّةِ بِأَوَّلِ حَيْضَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، فَلَوْ لَمْ نُجْلِسْهَا ذَلِكَ أَدَّى إلَى أَنْ لَا نُجْلِسَهَا أَصْلًا؛ وَلِأَنَّهَا مِمَّنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ، فَلَمْ تَجْلِسْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، كَالنَّاسِيَةِ. (469) فَصْلٌ: وَالْمَنْصُوصُ فِي الْمُبْتَدَأَةِ اعْتِبَارُ التَّكْرَارِ ثَلَاثًا، فَعَلَى هَذَا لَا تَنْتَقِلُ عَنْ الْيَقِينِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْمُعْتَادَةِ تَرَى الدَّمَ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا عَلَى جُلُوسِهَا الزَّائِدِ بِمَرَّتَيْنِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا. وَعَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ فَمَا دُونَ، وَكَانَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ، انْتَقَلَتْ إلَيْهِ، وَعَمِلَتْ عَلَيْهِ، وَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا، وَأَعَادَتْ مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِيهِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضِهَا. [فَصْلٌ انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ مُخْتَلِفًا] (470) فَصْلٌ: وَإِنْ انْقَطَعَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ مُخْتَلِفًا، فَفِي شَهْرٍ انْقَطَعَ عَلَى سَبْعٍ، وَفِي شَهْرٍ عَلَى سِتٍّ، وَفِي شَهْرٍ عَلَى خَمْسٍ، نَظَرَتْ إلَى أَقَلِّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْخَمْسُ، فَجَعَلَتْهُ حَيْضًا، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ التَّكْرَارُ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ جَاءَ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ سِتًّا أَوْ أَكْثَرَ، صَارَتْ السِّتَّةُ حَيْضًا؛ لِتَكَرُّرِهَا ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السَّابِعِ إذَا تَكَرَّرَ ثَلَاثًا. وَمَنْ قَالَ بِإِجْلَاسِهَا سِتًّا أَوْ سَبْعًا، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ، وَلَا تَجْلِسُ مَا زَادَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ، وَلِذَلِكَ مَنْ أَجْلَسَهَا عَادَةَ نِسَائِهَا، فَإِنَّهُ يُجْلِسُهَا مَا وَافَقَ عَادَتَهُنَّ، مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ. (471) فَصْلٌ: وَمَتَى أَجْلَسْنَاهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، أَوْ عَادَةَ نِسَائِهَا، فَرَأَتْ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا فِيهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ، أَوْ يَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا احْتِمَالًا ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهَا بِالصَّوْمِ فِيهِ وَالصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا، فَيَجِبُ تَرْكُ وَطْئِهَا احْتِيَاطًا أَيْضًا. وَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ، وَاغْتَسَلَتْ، حَلَّ وَطْؤُهَا. وَهَلْ يُكْرَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ النَّقَاءَ الْخَالِصَ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُبْتَدَأَةِ. وَالثَّانِيَةُ، يُكْرَهُ؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ، فَكُرِهَ وَطْؤُهَا، كَالنُّفَسَاءِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ، لَمْ يَطَأْهَا، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ صَادَفَ زَمَنَ الْحَيْضِ، فَلَمْ يَجُزْ الْوَطْءُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ. وَعَنْهُ: لَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا. قَالَ الْخَلَّالُ الْأَحْوَطُ فِي قَوْلِهِ، عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ دُونَ الْأَنْفُسِ الثَّلَاثَةِ، أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [مَسْأَلَةٌ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ] (472) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ، قَعَدَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتًّا أَوْ سَبْعًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النِّسَاءِ هَكَذَا يَحِضْنَ) قَوْلُهُ: " اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ". يَعْنِي زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ. وَقَوْلُهُ: " لَمْ يَتَمَيَّزْ ". يَعْنِي لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُنْفَصِلًا، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَهَذِهِ حُكْمُهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ عِلَّتَهُ، وَهِيَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النِّسَاءِ هَكَذَا يَحِضْنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَيْضَ هَذِهِ كَحَيْضِ غَالِبِ النِّسَاءِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا إلَيْهِ، كَرَدِّهَا فِي الْوَقْتِ إلَى حَيْضَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجْلِسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. فَلَا تَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهَا تَجْلِسُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ الْحَيْضِ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ فِيهِ جَلَسَتْهُ، كَالْمُعْتَادَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجْلِسُ عَادَةَ نِسَائِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تُشْبِهُهُنَّ فِي عَادَتِهِنَّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِحَدِيثِ حَمْنَةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا إلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى الْيَقِينِ، وَلَا إلَى عَادَةِ نِسَائِهَا، وَلَا إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ تُرَدُّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ فِي وَقْتِهَا؛ لِكَوْنِهَا تَجْلِسُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً؛ فَكَذَلِكَ فِي عَدَدِ أَيَّامِهَا؛ وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِلْيَقِينِ، وَلِعَادَةِ نِسَائِهَا. (473) فَصْلٌ: وَهَلْ تُرَدُّ إلَى ذَلِكَ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ أَوْ الثَّانِي؟ الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ إلَّا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُحَيِّضْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَاضَةً. فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَيْهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي بِغَيْرِ تَكْرَارٍ؛ لِأَنَّنَا قَدْ عَلِمْنَا اسْتِحَاضَتَهَا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ فِي حَقِّهَا. [فَصْلٌ كَانَتْ الَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ مُمَيَّزَةً عَادَةٌ] (474) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ مُمَيِّزَةً، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى جَلَسَتْ بِالتَّمْيِيزِ فِيمَا بَعْدَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَتَجْلِسُ فِي الثَّلَاثَةِ الْيَقِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، إلَّا أَنْ نَقُولَ: الْعَادَةُ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى التَّمْيِيزِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَيُعْمَلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى التَّمْيِيزِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا بَدَأَ بِهَا الْحَيْضُ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهَا الدَّمُ، وَلَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَهَا قَعَدَتْ إقْبَالَ الدَّمِ إذَا أَقْبَلَ سَوَادُهُ وَغِلَظُهُ وَرِيحُهُ، فَإِذَا أَدْبَرَ وَصَفَا وَذَهَبَ رِيحُهُ صَلَّتْ وَصَامَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ مُمَيِّزَةٌ، فَتُرَدُّ إلَى تَمْيِيزِهَا، كَمَا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ فِي التَّمْيِيزِ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمَ كَوْنَهَا مُسْتَحَاضَةً، عَلَى مَا نَصَرْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَجْلِسُ مِنْهُ إلَّا مَا تَكَرَّرَ. فَعَلَى هَذَا إذَا رَأَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً أَحْمَرَ ثُمَّ خَمْسَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ، جَلَسَتْ زَمَانَ الْأَسْوَدِ، فَكَانَ حَيْضَهَا، وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ. وَهَلْ تَجْلِسُ زَمَانَ الْأَسْوَدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ؟ يُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. وَلَوْ رَأَتْ عَشَرَةً أَحْمَرَ، ثُمَّ خَمْسَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنْ اتَّصَلَ الْأَسْوَدُ، وَعَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَلَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ، وَنُحَيِّضُهَا مِنْ الْأَسْوَدِ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِدَمِ الْحَيْضِ. وَلَوْ رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ، فَلَا تَمْيِيزَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْأَسْوَدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، لِقِلَّتِهِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ. وَإِنْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَحْمَرَ كُلَّهُ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ خَمْسَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ، وَفِي الْخَامِسِ كُلِّهِ أَحْمَرَ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ الْيَقِينَ، وَفِي الرَّابِعِ أَيَّامَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، وَفِي الْخَامِسِ تَجْلِسُ خَمْسَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ مُعْتَادَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَجْلِسُ مِنْ الرَّابِعِ إلَّا الْيَقِينَ، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّتَيْنِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُقَدَّرُ فِيهَا أَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَجَلَسَتْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ التَّكْرَارَ فِي التَّمْيِيزِ فَهَذِهِ مُمَيِّزَةٌ، وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمُمَيِّزَةَ تَجْلِسُ بِالتَّمْيِيزِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، قَالَ إنَّهَا تَجْلِسُ الدَّمَ الْأَسْوَدَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّهَا مُمَيِّزَةٌ قَبْلَهُ، وَلَوْ رَأَتْ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ، وَفِي الثَّانِي كَذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثِ كُلِّهِ أَحْمَرَ، وَالرَّابِعِ رَأَتْ خَمْسَةً أَحْمَرَ، ثُمَّ صَارَ أَسْوَدَ وَاتَّصَلَ، جَلَسَتْ الْيَقِينَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَالرَّابِعُ لَا تَمْيِيزَ لَهَا فِيهِ، فَتَصِيرُ فِيهِ إلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ، إلَّا أَنْ نَقُولَ الْعَادَةُ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ، فَتَجْلِسُ مِنْ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ خَمْسَةً خَمْسَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَجْلِسُ فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا الْيَقِينَ، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ كَانَتْ رَأَتْ فِي الرَّابِعِ خَمْسَةً أَسْوَدَ، وَالْبَاقِيَ كُلَّهُ أَحْمَرَ، صَارَ عَادَةً بِذَلِكَ. [مَسْأَلَةُ الصُّفْرَةِ وَالْكَدِرَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ] (475) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ مِنْ الْحَيْضِ) يَعْنِي إذَا رَأَتْ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً، فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَكُونُ حَيْضًا، إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ دَمٌ أَسْوَدُ؛ لِأَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ، وَكَانَتْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعْتَدُّ بِالصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ بَعْدَ الْغُسْلِ شَيْئًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: بَعْدَ الطُّهْرِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَبْعَثُ إلَيْهَا النِّسَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ، فِيهَا الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ، فَتَقُولُ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ. وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الطُّهْرِ وَالِاغْتِسَالِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا كُنَّا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ حَيْضًا. مَعَ قَوْلِهَا الْمُتَقَدِّمِ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. (476) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ حُكْمُ الدَّمِ الْعَبِيطِ فِي أَنَّهَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، وَتَجْلِسُ مِنْهَا الْمُبْتَدَأَةُ كَمَا تَجْلِسُ مِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ رَأَتْهَا فِيمَا بَعْدَ الْعَادَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَأَتْ غَيْرَهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِنْ طَهُرَتْ ثُمَّ رَأَتْ كُدْرَةً أَوْ صُفْرَةً، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا؛ لِخَبَرِ أُمِّ عَطِيَّةَ وَعَائِشَةَ، وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: كُنَّا فِي حِجْرِهَا مَعَ بَنَاتِ بِنْتِهَا، فَكَانَتْ إحْدَانَا تَطْهُرُ ثُمَّ تُصَلِّي، ثُمَّ تُنَكِّسُ بِالصُّفْرَةِ الْيَسِيرَةِ، فَنَسْأَلُهَا، فَتَقُولُ: اعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ حَتَّى لَا تَرَيْنَ إلَّا الْبَيَاضَ خَالِصًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَأُمِّ عَطِيَّةَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَسْمَاءَ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَبْلَ التَّكْرَارِ، وَقَوْلُ أَسْمَاءَ فِيمَا إذَا تَكَرَّرَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَسْتَمْتِعُ مِنْ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَسْتَمْتِعُ مِنْ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْ الْحَائِضِ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ جَائِزٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ مُحَرَّمٌ بِهِمَا. وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَهُمَا؛ فَذَهَبَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى إبَاحَتِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَكَمُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا مَا لَمْ يَدْخُلْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُبَاحُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ: فَوْقَ الْإِزَارِ» وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، وَالْمَحِيضُ: اسْمٌ لِمَكَانِ الْحَيْضِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 كَالْمَقِيلِ وَالْمَبِيتِ، فَتَخْصِيصُهُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِالِاعْتِزَالِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَتِهِ فِيمَا عَدَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ الْمَحِيضُ الْحَيْضُ، مَصْدَرُ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ حَيْضًا وَمَحِيضًا، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] . وَالْأَذَى: هُوَ الْحَيْضُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] . قُلْنَا: اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِرَادَةُ مَكَانِ الدَّمِ أَرْجَحُ، بِدَلِيلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْحَيْضَ لَكَانَ أَمْرًا بِاعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ اعْتَزَلُوهَا، فَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ النِّكَاحِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ بِحَمْلِهَا عَلَى إرَادَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُمْ، وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ النِّكَاحِ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «اجْتَنِبْ مِنْهَا شِعَارَ الدَّمِ» . وَلِأَنَّهُ مَنَعَ الْوَطْءَ لِأَجْلِ الْأَذَى، فَاخْتَصَّ مَكَانُهُ كَالدُّبُرِ، وَمَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الْمُبَاحِ تَقَذُّرًا، كَتَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ وَالْأَرْنَبِ، وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ مِنْ الْحَائِضِ شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَنْطُوقٌ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَفْهُومِ. [فَصْلٌ وَطْءُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ] (478) فَصْلٌ: فَإِنْ وَطِئَ الْحَائِضَ فِي الْفَرْجِ أَثِمَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ» . وَالثَّانِيَةُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا قَالَ، أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، أَوْ أَتَى حَائِضًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً؛ وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ نُهِيَ عَنْهُ لِأَجْلِ الْأَذَى، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَحَدِيثُ الْكَفَّارَةِ مَدَارُهُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ قِيلَ لِأَحْمَدَ: فِي نَفْسِك مِنْهُ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ. أَظُنُّهُ قَالَ: عَبْدُ الْحَمِيدِ وَقَالَ: لَوْ صَحَّ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّا نَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْهُ. فَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي الْكَفَّارَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ لَهُ مَقْدِرَةٌ تَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ؛ كَفَّارَةُ وَطْءِ الْحَائِضِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا، أَوْ عَنْ بَعْضِهَا، كَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ. [فَصْلٌ فِي قَدْرِ كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ] (479) فَصْلٌ: وَفِي قَدْرِ الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا دِينَارٌ، أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ، عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، أَيَّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِيَةُ، أَنَّ الدَّمَ إنْ كَانَ أَحْمَرَ فَهِيَ دِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ أَصْفَرَ، فَنِصْفُ دِينَارٍ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ كَانَ فِي فَوْرِ الدَّمِ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ فَنِصْفُ دِينَارٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنْ كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ أَبُو دَاوُد الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ: " يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ ". وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْحَيْضِ، فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْءٍ وَنِصْفِهِ؟ قُلْنَا: كَمَا يُخَيَّرُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَإِتْمَامِهَا، فَأَيُّهُمَا فَعَلَ كَانَ وَاجِبًا، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ وَطِئَ بَعْدَ طُهْرِهَا وَقَبْلَ غُسْلِهَا] (480) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ طُهْرِهَا، وَقَبْلَ غُسْلِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِ نِصْفُ دِينَارٍ. وَلَوْ وَطِئَ فِي حَالِ جَرَيَانِ الدَّمِ، لَزِمَهُ دِينَارٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، فَثَبَتَ قَبْلَ الْغُسْلِ، كَالتَّحْرِيمِ. وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِهَا الْخَبَرُ فِي الْحَائِضِ، وَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا؛ لِأَنَّ الْأَذَى الْمَانِعَ مِنْ وَطْئِهَا قَدْ زَالَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ حَائِضًا، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِهِ. [فَصْلٌ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي] (481) فَصْلٌ: وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أَحَدُهُمَا، تَجِبُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْوَطْءِ، أَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي، لَا تَجِبُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلِأَنَّهَا تَجِبُ لِمَحْوِ الْمَأْثَمِ، فَلَا تَجِبُ مَعَ النِّسْيَانِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَ طَاهِرًا، فَحَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ وَطْئِهِ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، قَالَ: وَلَوْ وَطِئَ الصَّبِيُّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَقِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا مِنْ فُرُوعِهَا، فَلَا تَثْبُتُ. [فَصْلٌ هَلْ تَلْزَمُ الْمَرْأَةَ الْمَوْطُوءَة وَهِيَ حائض كَفَّارَةٌ] (482) فَصْلٌ: وَهَلْ تَلْزَمُ الْمَرْأَةَ كَفَّارَةٌ؟ الْمَنْصُوصُ أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ غَرَّتْ زَوْجَهَا: إنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَعَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَأَوْجَبَهَا عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَاوِعَةِ، كَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّى الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ. وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . (483) فَصْلٌ: وَالنُّفَسَاءُ كَالْحَائِضِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيهَا فِي سَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَيُجْزِئُ نِصْفُ دِينَارٍ مِنْ أَيِّ ذَهَبٍ كَانَ إذَا كَانَ صَافِيًا مِنْ الْغِشِّ، وَيَسْتَوِي تِبْرُهُ وَمَضْرُوبُهُ، لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ قِيمَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ الْمَالِ، فَجَازَ بِأَيِّ مَالٍ كَانَ، كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ، فَاخْتُصَّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَالِ، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ مَكَانَ الدِّينَارِ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْهُ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يُجْزِئُ فِيهِ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ، فَأَجْزَأَ فِيهِ الْآخَرُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَمَصْرِفُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إلَى مَصْرِفِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ؛ لِكَوْنِهَا كَفَّارَةً؛ وَلِأَنَّ الْمَسَاكِينَ مَصْرِفُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْهَا. [مَسْأَلَةٌ فَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا فَلَا تُوطَأُ حَتَّى تَغْتَسِلَ] (484) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا، فَلَا تُوطَأُ حَتَّى تَغْتَسِلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ حَرَامٌ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الْمُنْذِرِ: هَذَا كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرُّوذِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، حَلَّ وَطْؤُهَا، وَإِنْ انْقَطَعَ لِدُونِ ذَلِكَ، لَمْ يُبَحْ حَتَّى تَغْتَسِلَ، أَوْ تَتَيَمَّمَ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ بِالْجَنَابَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . يَعْنِي إذَا اغْتَسَلْنَ. هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مِنْهُمْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ، وَفِعْلُهُمْ هُوَ الِاغْتِسَالُ دُونَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَشَرَطَ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ شَرْطَيْنِ: انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالِاغْتِسَالَ، فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . لَمَّا اشْتَرَطَ لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بُلُوغَ النِّكَاحِ وَالرُّشْدَ لَمْ يُبَحْ إلَّا بِهِمَا. كَذَا هَاهُنَا؛ وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ لِحَدَثِ الْحَيْضِ، فَلَمْ يُبَحْ وَطْؤُهَا كَمَا لَوْ انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ آكَدُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا تُوطَأُ مُسْتَحَاضَةٌ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ] (485) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تُوطَأُ مُسْتَحَاضَةٌ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ) اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَرُوِيَ لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَاكِمِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: الْمُسْتَحَاضَةُ لَا يَغْشَاهَا زَوْجُهَا. وَلِأَنَّ بِهَا أَذًى، فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا كَالْحَائِضِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ وَطْءَ الْحَائِضِ مُعَلِّلًا بِالْأَذَى بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] . أَمَرَ بِاعْتِزَالِهِنَّ عَقِيبَ الْأَذَى مَذْكُورًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ذُكِرَ مَعَ وَصْفٍ يَقْتَضِيهِ وَيَصْلُحُ لَهُ، عُلِّلَ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَالْأَذَى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً. فَيُعَلَّلُ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ، فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهَا وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ إبَاحَةُ وَطْئِهَا مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً، وَكَانَ زَوْجُهَا يُجَامِعُهَا. وَقَالَ: كَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَ زَوْجُهَا يَغْشَاهَا؛ وَلِأَنَّ حَمْنَةَ كَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ سَأَلَتَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَحْكَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيَّنَهُ لَهُمَا. وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ إنْ تَرَكَ الْوَطْءَ، أُبِيحَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَائِضِ، وَلَوْ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهَا فِي حَقِّهَا، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْحَائِضِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاخْتِلَافِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا، أُبِيحَ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ؛ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهَا، أَشْبَهَ سَلَسَ الْبَوْلِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُبْتَلَى بِسَلَسِ الْبَوْلِ وَكَثْرَةِ الْمَذْيِ] (486) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُبْتَلَى بِسَلَسِ الْبَوْلِ، وَكَثْرَةِ الْمَذْيِ، فَلَا يَنْقَطِعُ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ، يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، بَعْدَ أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَوْ الْمَذْيُ، أَوْ الْجَرِيحَ الَّذِي لَا يَرْقَأُ دَمُهُ، وَأَشْبَاهَهُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِرُّ مِنْهُ الْحَدَثُ وَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ طَهَارَتِهِ، عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَ غَسْلِ مَحَلِّ الْحَدَثِ، وَشَدِّهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ بِمَا يُمْكِنُهُ. فَالْمُسْتَحَاضَةُ تَغْسِلُ الْمَحَلَّ، ثُمَّ تَحْشُوهُ بِقُطْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، لِيَرُدَّ الدَّمَ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَمْنَةَ، حِينَ شَكَتْ إلَيْهِ كَثْرَةَ الدَّمِ: أَنْعَتُ لَك الْكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ. فَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ الدَّمُ بِالْقُطْنِ، اسْتَثْفَرَتْ بِخِرْقَةٍ مَشْقُوقَةِ الطَّرَفَيْنِ، تَشُدُّهَا عَلَى جَنْبَيْهَا وَوَسَطُهَا عَلَى الْفَرْجِ» ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ " لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ. وَقَالَ لِحَمْنَةَ " تَلَجَّمِي ". لَمَّا قَالَتْ: إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الدَّمُ، فَإِنْ كَانَ لِرَخَاوَةِ الشَّدِّ، فَعَلَيْهَا إعَادَةُ الشَّدِّ وَالطَّهَارَةُ، وَإِنْ كَانَ لِغَلَبَةِ الْخَارِجِ وَقُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ شَدُّهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ تَبْطُلْ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَتُصَلِّي وَلَوْ قَطَرَ الدَّمُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي حَدِيثٍ: «صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» . وَكَذَلِكَ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، أَوْ كَثْرَةُ الْمَذْيِ، يَعْصِبُ رَأْسَ ذَكَرِهِ بِخِرْقَةٍ، وَيَحْتَرِسُ حَسَبَ مَا يُمْكِنُهُ، وَيَفْعَلُ مَا ذُكِرَ. وَكَذَلِكَ مَنْ بِهِ جُرْحٌ يَفُورُ مِنْهُ الدَّمُ، أَوْ بِهِ رِيحٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْدَاثِ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَصْبُهُ، مِثْلُ مَنْ بِهِ جُرْحٌ لَا يُمْكِنُ شَدُّهُ، أَوْ بِهِ بَاسُورٌ أَوْ نَاصُورٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَصْبِهِ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ طُعِنَ صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا. (487) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُضُوءُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَرَبِيعَةَ. وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ لِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، إلَّا أَنْ يُؤْذِيَهُ الْبَرْدُ، فَإِنْ آذَاهُ قَالَ: فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ ضِيقٌ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي» . وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْهُ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُعْتَادٍ، وَلَنَا مَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ خَبَرَهَا، ثُمَّ قَالَ: اغْتَسِلِي، ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ وَصَلِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، فَنَقَضَ الْوُضُوءَ، كَالْمَذْيِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ طَهَارَةَ هَؤُلَاءِ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ؛ لِقَوْلِهِ: " تَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ". وَقَوْلِهِ: " ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ ". وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ، كَالتَّيَمُّمِ. (488) فَصْلٌ: فَإِنْ تَوَضَّأَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ يَخْرُجُ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ مُبْطِلٌ لِهَذِهِ الطَّهَارَةِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّهَارَةِ. وَإِنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ الْوَقْتِ صَحَّ، وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ الْحَدَثِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ عَقِيبَ طَهَارَتِهِ، أَوْ أَخَّرَهَا لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، كَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، جَازَ. وَإِنْ أَخَّرَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ أُرِيدَتْ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، فَأَشْبَهَتْ التَّيَمُّمَ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ، كَالتَّيَمُّمِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا. وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ، أَوْ أَحْدَثَتْ حَدَثًا سِوَى هَذَا الْخَارِجِ، بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ: إنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ النَّافِلَةَ وَالصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ، حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَتَتَوَضَّأُ أَيْضًا. وَهَذَا يَقْتَضِي إلْحَاقَهَا بِالتَّيَمُّمِ، فِي أَنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ، يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِهَا، وَتَقْضِيَ بِهَا الْفَوَائِتَ، وَتَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، مَا لَمْ تُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ، أَوْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 [فَصْلٌ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ] (489) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَرَ بِهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ» وَغَيْرُ الْمُسْتَحَاضَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ مَقِيسٌ عَلَيْهَا، وَمُلْحَقٌ بِهَا. [فَصْلٌ تَوَضَّأْت الْمُسْتَحَاضَةُ ثُمَّ انْقَطَعَ دَمُهَا] (490) فَصْلٌ: إذَا تَوَضَّأْت الْمُسْتَحَاضَةُ، ثُمَّ انْقَطَعَ دَمُهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ انْقَطَعَ لِبُرْئِهَا بِاتِّصَالِ الِانْقِطَاعِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ وُضُوءَهَا بَطَلَ بِانْقِطَاعِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ الْخَارِجَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ عُفِيَ عَنْهُ لِلْعُذْرِ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ. وَإِنْ عَادَ الدَّمُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِانْقِطَاعِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْت: إنَّ هَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، وَيُوَقِّتُونَ بِوَقْتٍ، يَقُولُونَ: إذَا تَوَضَّأَتْ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ الدَّمُ ثُمَّ سَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، تُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَيَقُولُونَ: إذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلًا، فَتَوَضَّأَتْ، ثُمَّ انْقَطَعَ الدَّمُ، قَوْلًا آخَرَ. قَالَ: لَسْت أَنْظُرُ فِي انْقِطَاعِهِ حِينَ تَوَضَّأَتْ سَالَ أَمْ لَمْ يَسِلْ، إنَّمَا آمُرُهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ النَّافِلَةَ وَالْفَائِتَةَ، حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَالتَّفْصِيلُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ هَذَا يَشُقُّ، وَالْعَادَةُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ أَنَّ الْخَارِجَ يَجْرِي وَيَنْقَطِعُ، وَاعْتِبَارُ مِقْدَارِ الِانْقِطَاعِ فِيمَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِيهِ يَشُقُّ، وَإِيجَابُ الْوُضُوءِ بِهِ حَرَجٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا سَأَلَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَحَاضَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْهُ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ هَذَا التَّفْصِيلُ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ: إنْ تَطَهَّرَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ حَالَ جَرَيَانِ دَمِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَتَوَضَّأَ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عُفِيَ عَنْ الْحَدَثِ فِيهَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الصَّلَاةِ فَاتَّصَلَ الِانْقِطَاعُ زَمَنًا يُمْكِنُ الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ طَهَارَتِهَا بِانْقِطَاعِهِ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَطَهَارَتُهَا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا عَدَمَ الطُّهْرِ الْمُبْطِلِ لِلطَّهَارَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ. وَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا صِحَّةَ طَهَارَتِهَا؛ لِبَقَاءِ اسْتِحَاضَتِهَا وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ بِطَهَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِهَا فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، فَصَلَّى، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الصَّلَاةِ لِمُدَّةٍ تَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَّسِعُ، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا عَدَمَ الطُّهْرِ الْمُبْطِلِ لِلطَّهَارَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ، وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ يَرَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَامِدٍ. وَإِنْ عَاوَدَ الدَّمُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِي انْقِطَاعِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ تَوَضَّأَتْ فِي زَمَنِ انْقِطَاعِهِ، ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِيهَا، أَوْ كَانَتْ مُدَّةُ انْقِطَاعِهِ تَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا بِعَوْدِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الِانْقِطَاعِ صَارَتْ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ، فَصَارَ عَوْدُ الدَّمِ كَسَبْقِ الْحَدَثِ. وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعًا لَا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ، لَمْ يُؤَثِّرْ عَوْدُهُ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الِانْقِطَاعِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِانْقِطَاعِ، بَلْ مَتَى كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ بِهَا عُذْرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ، فَتَحَرَّزَتْ وَتَطَهَّرَتْ، فَطَهَارَتُهَا صَحِيحَةٌ، وَصَلَاتُهَا بِهَا مَاضِيَةٌ، مَا لَمْ يَزُلْ عُذْرُهَا، وَتَبْرَأْ مِنْ مَرَضِهَا، أَوْ يَخْرُجْ وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ تُحْدِثْ حَدَثًا سِوَى حَدَثِهَا. [فَصْلٌ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ زَمَنًا لَا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ] (491) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ زَمَنًا لَا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَتْ، ثُمَّ انْقَطَعَ دَمُهَا، لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِ طَهَارَتِهَا، وَلَا صَلَاتِهَا، إنْ كَانَتْ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الِانْقِطَاعَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ. وَإِنْ اتَّصَلَ الِانْقِطَاعُ وَبَرَأَتْ، وَكَانَ قَدْ جَرَى مِنْهَا دَمٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا وَالصَّلَاةُ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ بِذَلِكَ الِانْقِطَاعِ. وَإِنْ اتَّصَلَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الَّتِي لَمْ يَجْرِ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِهِ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، لَمْ تُصَلِّ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ، وَتَنْتَظِرُ إمْسَاكَهُ، إلَّا أَنْ تَخْشَى خُرُوجَ الْوَقْتِ، فَتَتَوَضَّأَ وَتُصَلِّيَ. فَإِنْ شَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ، فَأَمْسَكَ الدَّمُ عَنْهَا، بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا؛ لِأَنَّهَا أَمْكَنَتْهَا الصَّلَاةُ بِطَهَارَةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا بِغَيْرِهَا، كَغَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ. وَإِنْ كَانَ زَمَنُ إمْسَاكِهِ يَخْتَلِفُ، فَتَارَةً يَتَّسِعُ. وَتَارَةً لَا يَتَّسِعُ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، إلَّا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ انْقِطَاعَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يَتَّسِعُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا إذَا شَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ انْقَطَعَ الدَّمُ، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّهَا شَرَعَتْ فِيهَا بِطَهَارَةٍ يَقِينِيَّةٍ، وَانْقِطَاعُ الدَّمِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِعًا، فَتَبْطُلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَيِّقًا، فَلَا تَبْطُلُ، وَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. فَإِنْ اتَّصَلَ الِانْقِطَاعُ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُبْطِلًا، فَبَطَلَتْ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا] (492) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَكْثَرُ النِّفَاسَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَسٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: أَكْثَرُهُ سِتُّونَ يَوْمًا. وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً مِثْلَ قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَرَى النِّفَاسَ شَهْرَيْنِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ وَجَدَهُ. وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوُجُودِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ غَالِبُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو سَهْلٍ كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «كَانَتْ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَهْلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَثْنَى مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُسَّةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا سَأَلَتْهُ: كَمْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إذَا وَلَدَتْ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ إجْمَاعًا، وَنَحْوَهُ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، يَحْتَمِلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ حَيْضًا أَوْ اسْتِحَاضَةً، كَمَا لَوْ زَادَ دَمُهَا عَنْ السِّتِّينَ، أَوْ كَمَا لَوْ زَادَ دَمُ الْحَائِضِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. [فَصْلٌ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا] (493) فَصْلٌ: فَإِنْ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَصَادَفَ عَادَةَ الْحَيْضِ، فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَادَةً، فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا الَّذِي تَقْعُدُهُ أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَأْتِهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيَّامٌ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، يَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي إنْ أَدْرَكَهَا رَمَضَانُ، وَلَا تَقْضِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا قُلْنَا. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ حَدٌّ] (494) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، أَيَّ وَقْتٍ رَأَتْ الطُّهْرَ اغْتَسَلَتْ، وَهِيَ طَاهِرٌ، وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا فِي الْفَرْجِ حَتَّى تُتِمَّ الْأَرْبَعِينَ اسْتِحْبَابًا) وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إذَا لَمْ تَرَ دَمًا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ: أَقَلُّهُ سَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَقَلُّهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ تَحْدِيدُهُ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ قَلِيلًا وَكَثِيرًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تَرَ دَمًا، فَسُمِّيَتْ ذَاتَ الْجُفُوفِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: ذَاكَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ: كَانَتْ امْرَأَةٌ تُسَمَّى الطَّاهِرَ، تَضَعُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَتَطْهُرُ آخِرَهُ فَجَعَلَ يَعْجَبُ مِنْهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَحِلُّ لِلنُّفَسَاءِ إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ إلَّا أَنْ تُصَلِّيَ. وَلِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الْيَسِيرَ دَمٌ وُجِدَ عَقِيبَ سَبَبِهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، فَيَكُونُ نِفَاسًا كَالْكَثِيرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا إذَا رَأَتْ النَّقَاءَ لِدُونِ الْيَوْمِ لَا تَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ. قَالَ يَعْقُوبُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، فَتَكُونُ أَيَّامُهَا عَشْرًا، فَتَرَى النَّقَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَغْتَسِلُ، ثُمَّ تَرَى الدَّمَ مِنْ يَوْمِهَا؟ قَالَ: هَذَا أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ، لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ. فَعَلَى هَذَا لَا تَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ حَتَّى تَرَى الطُّهْرَ يَوْمًا كَامِلًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ يَجْرِي تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ النِّفَاسِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا تَسْقُطَ الصَّلَاةُ عَنْهَا فِي نِفَاسِهَا، إذْ مَا مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ إلَّا يُوجَدُ فِيهِ طُهْرٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ بِهِ وَهَذَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مُجَرَّدُ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ لِلِانْقِطَاعِ الْمَعْدُودِ طُهْرًا، وَالْيَوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِذَلِكَ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ. [فَصْلٌ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا] (495) فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا، فَهِيَ طَاهِرٌ لَا نِفَاسَ لَهَا لِأَنَّ النِّفَاسَ هُوَ الدَّمُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهِ عَلَى النُّفَسَاءِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ نُفَسَاءَ، وَلَا فِي مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّ النُّفَسَاءَ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا دَمٌ يَقْتَضِي خُرُوجُهُ وُجُوبَ الْغُسْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا. وَالثَّانِي، يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مَظِنَّةٌ لِلنِّفَاسِ، فَتَعَلَّقَ الْإِيجَابُ بِهَا، كَتَعَلُّقِهِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِنْزَالُ. [فَصْلٌ إذَا طَهُرَتْ النُّفَسَاءُ لِدُونِ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ] (496) فَصْلٌ: وَإِذَا طَهُرَتْ لِدُونِ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ، وَصَامَتْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْتِيَهَا زَوْجُهَا، عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، أَنَّهَا أَتَتْهُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، فَقَالَ لَا تَقْرَبِينِي؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَوْدَ الدَّمِ فِي زَمَنِ الْوَطْءِ، فَيَكُونُ وَاطِئًا فِي نِفَاسٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّا حَكَمْنَا لَهَا بِأَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ، وَتَصُومَ. وَإِنْ عَادَ دَمُهَا فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ مِنْ نِفَاسِهَا، تَدَعُ لَهُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ. نَقَلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنْ طَهُرَتْ أَيْضًا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ فِي زَمَنِ النِّفَاسِ، فَكَانَ نِفَاسًا كَالْأَوَّلِ، وَكَمَا لَوْ اتَّصَلَ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، تَصُومُ وَتُصَلِّي، ثُمَّ تَقْضِي الصَّوْمَ احْتِيَاطًا. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عَنْهُ، نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُ. وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَإِنَّمَا أَلْزَمَهَا فِعْلَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الدَّمِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا مُتَيَقَّنٌ، وَسُقُوطَهَا بِهَذَا الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ، وَأَمَرَهَا بِالْقَضَاءِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مُتَيَقَّنٌ، وَسُقُوطَ الصَّوْمِ بِفِعْلِهِ فِي هَذَا الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الدَّمِ وَبَيْنَ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّ وَالسَّبْعِ فِي حَقِّ النَّاسِيَةِ، حَيْثُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ فِيهِ مَعَ الشَّكِّ، أَنَّ الْغَالِبَ مَعَ عَادَاتِ النِّسَاءِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ نَادِرٌ بِخِلَافِ النِّفَاسِ؛ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ، فَيَشُقُّ إيجَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ، وَالنِّفَاسُ بِخِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ الزَّائِدُ عَنْ الْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَهُوَ نِفَاسٌ، وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ حَيْضٌ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ فِيمَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَعْدَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا: أَحَدُهُمَا، يَكُونُ حَيْضًا، وَالثَّانِي، يَكُونُ نِفَاسًا. وَقَالَ الْقَاضِي إنْ رَأَتْ الدَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعْدَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَلَا تَقْضِي. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ الثَّانِي يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا قُلْنَاهُ، مِنْ أَنَّهَا تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَنَا أَنَّهُ دَمٌ صَادَفَ زَمَنَ النِّفَاسِ، فَكَانَ نِفَاسًا، كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِهِ حَيْضًا، فَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا مَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا فِيهِ. [فَصْلٌ رَأَتْ الْمَرْأَةُ الدَّمَ بَعْدَ وَضْعِ شَيْءٍ يَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ نِفَاسٌ] (497) فَصْلٌ: إذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ الدَّمَ بَعْدَ وَضْعِ شَيْءٍ يَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، فَهُوَ نِفَاسٌ. نَصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ إلْقَاءِ نُطْفَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ، فَلَيْسَ بِنِفَاسٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُلْقَى بُضْعَةً لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، هُوَ نِفَاسٌ؛ لِأَنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَكَانَ نِفَاسًا، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ فِيهَا خَلْقُ آدَمِيٍّ. وَالثَّانِي، لَيْسَ بِنِفَاسٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا خَلْقُ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَتْ النُّطْفَةَ. [فَصْلٌ إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ] (498) فَصْلٌ: إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ فِيهَا: إحْدَاهُمَا، أَنَّ النِّفَاسَ مِنْ الْأَوَّلِ كُلِّهِ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، قَالُوا: وَهِيَ الصَّحِيحَةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. فَعَلَى هَذَا مَتَى انْقَضَتْ مُدَّةُ النِّفَاسِ مِنْ حِينِ وَضَعَتْ الْأَوَّلَ، لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَهُ نِفَاسًا؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ دَمٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَكَانَ نِفَاسًا، كَالْمُنْفَرِدِ، وَآخِرُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ مِنْهُ، فَكَانَ آخِرُهُ مِنْهُ، كَالْمُنْفَرِدِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 هِيَ أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ الْأَوَّلِ وَآخِرَهُ مِنْ الثَّانِي. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، فِي كِتَابِ " الرِّوَايَتَيْنِ " لِأَنَّ الثَّانِيَ وُلِدَ فَلَا تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّفَاسِ قَبْلَ انْتِهَائِهَا مِنْهُ كَالْمُنْفَرِدِ، فَعَلَى هَذَا تَزِيدُ مُدَّةُ النِّفَاسِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي حَقِّ مَنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " مَسَائِلِهِ "، وَأَبُو الْخَطَّابِ. فِي " الْهِدَايَةِ ": الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي فَقَطْ. وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ مُدَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا مِنْ الثَّانِي، كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ. فَعَلَى هَذَا مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ قَبْلَ وِلَادَةِ الثَّانِي لَا يَكُونُ نِفَاسًا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ مِنْهُمَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الدَّمِ الَّذِي بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ، هَلْ هُوَ نِفَاسٌ، أَمْ لَا؟ وَهَذَا ظَاهِرُهُ إنْكَارٌ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ آخِرَ النِّفَاسِ مِنْ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ حُكْمُ النُّفَسَاءِ حُكْمُ الْحَائِضِ] (499) فَصْلٌ: وَحُكْمُ النُّفَسَاءِ حُكْمُ الْحَائِضِ فِي جَمِيعِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهَا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا وَحِلُّ مُبَاشَرَتِهَا، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَّارَةِ بِوَطْئِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، إنَّمَا امْتَنَعَ خُرُوجُهُ مُدَّةَ الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ يَنْصَرِفُ إلَى غِذَاءِ الْحَمْلِ، فَإِذَا وُضِعَ الْحَمْلُ، وَانْقَطَعَ الْعِرْقُ الَّذِي كَانَ مَجْرَى الدَّمِ، خَرَجَ مِنْ الْفَرْجِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَائِضِ. وَيُفَارِقُ النِّفَاسُ الْحَيْضَ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَحْصُلُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ قَبْلَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْبُلُوغِ؛ لِحُصُولِهِ بِالْحَمْلِ قَبْلَهُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ لَهَا أَيَّامُ حَيْضٍ فَزَادَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَعْرِفُ] (500) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ فَزَادَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَعْرِفُ، لَمْ تَلْتَفِتْ إلَى الزِّيَادَةِ، إلَّا أَنْ تَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَتَعْلَمَ حِينَئِذٍ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْتَقَلَ، فَتَصِيرَ إلَيْهِ فَتَتْرُكَ الْأَوَّلَ. وَإِنْ كَانَتْ صَامَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ مِرَارًا أَعَادَتْهُ، إذَا كَانَ صَوْمًا وَاجِبًا، وَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ أَيَّامِهَا الَّتِي كَانَتْ تَعْرِفُ، فَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْحَيْضِ، فَرَأَتْ الدَّمَ فِي غَيْرِ عَادَتِهَا، لَمْ تَعْتَدَّ بِمَا خَرَجَ مِنْ الْعَادَةِ حَيْضًا، حَتَّى يَتَكَرَّرَ ثَلَاثًا، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُخْرَى. نَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ، فَتَقَدَّمَتْ الْحَيْضَةُ قَبْلَ أَيَّامِهَا، لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهَا، تَصُومُ وَتُصَلِّي، فَإِنْ عَاوَدَهَا فِي الثَّانِيَةِ، مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ دَمُ حَيْضٍ مُنْتَقِلٌ. وَنَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ، فَلْتُمْسِكْ عَنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا مَعْلُومَةٌ، فَرُبَّمَا زَادَ فِي الْأَشْهُرِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَيَّامِ أَقْرَائِهَا، أَتُمْسِكُ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ تُصَلِّي؟ قَالَ: بَلْ تُصَلِّي، وَلَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا زَادَ عَلَى أَقْرَائِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ دَمَ حَيْضٍ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا. قُلْت: أَفَتُصَلِّي إلَى أَنْ يُصِيبَهَا ثَلَاثَ مِرَارًا، ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَعْدَ ثَلَاثٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا لَا تَعُدُّ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْضِهَا إلَّا فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَأَنَّهَا تُصَلِّي وَتَصُومُ فِي الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ. وَفِي رِوَايَتِهِ الْأُولَى يَحْتَمِلُ أَنَّهَا تَحْتَسِبُهُ مِنْ حَيْضِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ؛ لِقَوْلِهِ: لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَتَحْتَسِبُهُ مِنْ حَيْضِهَا. وَالثَّانِي، أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ. وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ اعْتِبَارُ التَّكْرَارِ ثَلَاثًا فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ سَوَاءٌ رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ عَادَتِهَا، أَوْ بَعْدَهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَادَةِ، أَوْ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا حَتَّى تَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ مُنْتَقِلٌ، فَتَصِيرُ إلَيْهِ، أَيْ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فِيهِ، وَتَصِيرُ عَادَةً لَهَا، وَتَتْرُكُ الْأَوَّلَ، أَيْ الْعَادَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا قَدْ انْتَقَلَتْ عَنْهَا، وَصَارَتْ الْعَادَةُ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَمَرْنَاهَا بِالصِّيَامِ فِيهَا؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضٍ، وَالصَّوْمُ فِي الْحَيْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْتِيَهَا زَوْجُهَا فِي الْأَيَّامِ الَّتِي تُصَلِّي فِيهَا؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ كَوْنَهَا حَيْضًا، وَإِنَّمَا تُصَلِّي وَتَصُومُ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ الْوَطْءِ احْتِيَاطًا أَيْضًا، فَيَجِبُ كَمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ. وَإِنْ تَجَاوَزَتْ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ، وَلَا تَجْلِسُ غَيْرَ أَيَّامِ الْعَادَةِ بِكُلِّ حَالٍ. وَمِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ عَادَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، فَرَأَتْ خَمْسَةً فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّلَاثَةَ الْمُعْتَادَةَ، أَوْ طَهُرَتْ الثَّلَاثَةَ، وَرَأَتْ ثَلَاثَةً بَعْدَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، أَوْ أَقَلَّ، قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ طَهُرَتْ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ وَرَأَتْ ثَلَاثَةً بَعْدَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، أَوْ طَهُرَتْ يَوْمَيْنِ وَرَأَتْ يَوْمَيْنِ بَعْدَهُمَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ رَأَتْ الدَّمَ يَوْمَيْنِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَيَوْمًا فِي أَوَّلِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، مَا عَدَا الْأَوَّلَ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْلِسِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُك حَيْضَتُك» . وَلِأَنَّ لَهَا عَادَةً، فَرُدَّتْ إلَيْهَا، كَالْمُسْتَحَاضَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا رَأَتْهُ قَبْلَ الْعَادَةِ لَيْسَ بِحَيْضٍ، حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ، وَمَا تَرَاهُ بَعْدَهَا فَهُوَ حَيْضٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: جَمِيعُهُ حَيْضٌ، مَا لَمْ تَتَجَاوَزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. وَهَذَا أَقْوَى عِنْدِي؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَبْعَثُ إلَيْهَا النِّسَاءُ بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ، فَتَقُولُ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ. وَمَعْنَاهُ لَا تَعْجَلْنَ بِالْغُسْلِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ، وَتَذْهَبَ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ الْمَحَلِّ، بِحَيْثُ إذَا دَخَلَتْ فِيهِ قُطْنَةٌ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ. وَلَوْ لَمْ تَعُدَّ الزِّيَادَةَ حَيْضًا لَلَزِمَهَا الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ جَارِيًا؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عَلَى الْحَيْضِ أَحْكَامًا، وَلَمْ يَحُدُّهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 النَّاسَ فِيهِ إلَى عُرْفِهِمْ، وَالْعُرْفُ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ دَمًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، اعْتَقَدَتْهُ حَيْضًا، وَلَوْ كَانَ عُرْفُهُنَّ اعْتِبَارَ الْعَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَنُقِلَ، وَلَمْ يَجُزْ التَّوَاطُؤُ عَلَى كِتْمَانِهِ، مَعَ دُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ، فَجَاءَهَا الدَّمُ، فَانْسَلَّتْ مِنْ الْخَمِيلَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا لَك؟ أَنَفِسْت؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْتَزِرَ. وَلَمْ يَسْأَلْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ وَافَقَ الْعَادَةَ أَوْ جَاءَ قَبْلَهَا؟ وَلَا هِيَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ، وَلَا سَأَلَتْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّتْ عَلَى الْحَيْضَةِ بِخُرُوجِ الدَّمِ، فَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ حِينَ حَاضَتْ عَائِشَةُ فِي عُمْرَتِهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، إنَّمَا عَلِمَتْ الْحَيْضَةَ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ لَا غَيْرُ، وَلَمْ تَذْكُرْ عَادَةً، وَلَا ذَكَرَهَا لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ اسْتَكْرَهَتْهُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهَا، وَبَكَتْ حِينَ رَأَتْهُ، وَقَالَتْ: وَدِدْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ حَجَجْت الْعَامَ. وَلَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ لَهَا عَادَةً تَعْلَمُ مَجِيئَهُ فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِيهَا، مَا أَنْكَرَتْهُ، وَلَا صَعُبَ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ مُعْتَبَرَةً، عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَذْهَبِ، لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ، وَلَمَا وَسِعَهُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ، إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ، وَأَزْوَاجُهُ وَغَيْرُهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ يَحْتَجْنَ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُغْفِلَ بَيَانَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذِكْرُ الْعَادَةِ، وَلَا بَيَانُهَا، إلَّا فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا امْرَأَةٌ طَاهِرٌ تَرَى الدَّمَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهَا، فَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَقِّهَا عَادَةً أَصْلًا، وَلِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا التَّكْرَارَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ أَدَّى إلَى خُلُوِّ نِسَاءٍ عَنْ الْحَيْضِ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ رُؤْيَتِهِنَّ الدَّمَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، وَصَلَاحِيَةِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا؛ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ عَادَتِهَا، وَطَهُرَتْ أَيَّامَ عَادَتِهَا، لَمْ تُمْسِكْ عَنْ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا انْتَقَلَتْ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ إلَى أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ نُحَيِّضْهَا أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ أَبَدًا، فَيُفْضِي إلَى إخْلَائِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَا سَبِيلَ إلَى هَذَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَجْلِسُ مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ قَبْلَ عَادَتِهَا وَبَعْدَهَا، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى أَكْثَرِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ، فَرَدَدْنَاهَا إلَى عَادَتِهَا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِيمَا زَادَ عَلَى عَادَتِهَا، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ. [فَصْلٌ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَرَأَتْ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْهَا] (501) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ، فَرَأَتْ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَحَيْضُهَا مِنْهُ قَدْرُ الْعَادَةِ لَا غَيْرُ، وَلَا تَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشُّهُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَّا قَدْرَ الْعَادَةِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَرَأَتْ فِي شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اُسْتُحِيضَتْ فِي الشَّهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الْآخَرِ، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ مِمَّا بَعْدَهُ مِنْ الشُّهُورِ إلَّا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجْلِسُ خَمْسَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ، وَإِنْ رَأَتْ خَمْسَةً فِي شَهْرَيْنِ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا إلَى خَمْسَةٍ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ، وَإِنْ رَأَتْ الْخَمْسَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ اُسْتُحِيضَتْ، انْتَقَلَتْ إلَيْهَا، وَجَلَسَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ. [مَسْأَلَةُ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ فَرَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ] (502) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ فَرَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهِيَ طَاهِرٌ، تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ، لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ حَتَّى تَجِيءَ أَيَّامُهَا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا، فِي الطُّهْرِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ. وَالثَّانِي، فِي حُكْمِ الدَّمِ الْعَائِدِ بَعْدَهُ. فَصْلٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ الطُّهْرَ فَهِيَ طَاهِرٌ تَغْتَسِلُ، وَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، سَوَاءٌ رَأَتْهُ فِي الْعَادَةِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ قَلِيلِ الطُّهْرِ وَكَثِيرِهِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا مَا رَأَتْ الطُّهْرَ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ. وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ مَتَى نَقَصَ عَنْ الْيَوْمِ، فَلَيْسَ بِطُهْرٍ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا فِي النِّفَاسِ، أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا دُونَ الْيَوْمِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَجْرِي مَرَّةً، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، وَفِي إيجَابِ الْغُسْلِ عَلَى مَنْ تَطْهُرُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ حَرَجٌ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا انْقِطَاعَ الدَّمِ سَاعَةً طُهْرًا، وَلَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الدَّمِ، أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ لَهَا حَيْضٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ انْقِطَاعُ الدَّمِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ طُهْرًا، إلَّا أَنْ تَرَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُهُ فِي آخِرِ عَادَتِهَا، أَوْ تَرَى الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ، وَهُوَ شَيْءٌ يَتْبَعُ الْحَيْضَ أَبْيَضُ، يُسَمَّى التَّرِيَّةَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إمَامِنَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ هِيَ الْقُطْنَةُ الَّتِي تَحْشُوهَا الْمَرْأَةُ، إذَا خَرَجَتْ بَيْضَاءَ كَمَا دَخَلَتْ لَا تَغَيُّرَ عَلَيْهَا فَهِيَ الْقُصَّةُ الْبَيْضَاءُ بِضَمِّ الْقَافِ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ إمَامِنَا أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ النَّقَاءُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ طُهْرًا، بَلْ لَوْ صَامَتْ فِيهِ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ، وَلَزِمَهَا قَضَاؤُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِيهِ صَلَاةٌ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا، فَيَكُونُ الدَّمَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا حَيْضًا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَسِيلُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْحَيْضِ لَمْ يُحْتَسَبْ مِنْ مُدَّتِهِ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] . وَصَفَ الْحَيْضَ بِكَوْنِهِ أَذًى، فَإِذَا ذَهَبَ الْأَذَى وَجَبَ أَنْ يَزُولَ الْحَيْضُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا مَا رَأَتْ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فَإِنَّهَا لَا تُصَلِّي، وَإِذَا رَأَتْ الطُّهْرَ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ؛ وَلِأَنَّهَا صَامَتْ وَهِيَ طَاهِرٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعُدْ الدَّمُ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الدَّمَ يَجْرِي تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى. قُلْنَا؛ لَا عِبْرَةَ بِالِانْقِطَاعِ الْيَسِيرِ، وَإِنَّمَا إذَا وُجِدَ انْقِطَاعٌ كَبِيرٌ يُمْكِنُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، وَتَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ فِيهِ، وَجَبَتْ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ وَجُوبِهَا. (504) فَصْلٌ: الْفَصْلُ الثَّانِي، إذَا عَاوَدَهَا الدَّمُ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَاوِدَهَا فِي الْعَادَةِ، أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ عَاوَدَهَا فِي الْعَادَةِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ مِنْ حَيْضِهَا؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ زَمَنَ الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى، وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ؛ لِأَنَّهُ عَادَ بَعْدَ طُهْرٍ صَحِيحٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَادَ بَعْدَ الْعَادَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ عَادَ بَعْدَ الْعَادَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا، فَقَعَدَتْ خَمْسًا، ثُمَّ رَأَتْ الطُّهْرَ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ أَوْ الثَّامِنُ، فَرَأَتْ الدَّمَ، صَلَّتْ وَصَامَتْ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِوُجُودِ التَّرَدُّدِ فِي هَذَا الدَّمِ، فَأَشْبَهَ دَمَ النُّفَسَاءِ الْعَائِدَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ. فَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْعَادَةِ، وَتَجَاوَزَ الْعَادَةَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَعْبُرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ أَوْ لَا يَعْبُرَ، فَإِنْ عَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَيَكُونُ كُلُّهُ اسْتِحَاضَةً؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ، فَإِلْحَاقُهُ بِالِاسْتِحَاضَةِ أَقْرَبُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْحَيْضِ؛ لِانْفِصَالِهِ عَنْهُ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِأَكْثَرِهِ فَمَا دُونَ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ مَا لَمْ يَعْبُرْ الْعَادَةَ لَيْسَ بِحَيْضٍ. فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حَيْضًا، وَمَنْ قَالَ: هُوَ حَيْضٌ. فَفِي هَذَا عَلَى قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ جَمِيعَهُ حَيْضٌ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْعَادَةِ حَيْضٌ، مَا لَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي، أَنَّ مَا وَافَقَ الْعَادَةَ حَيْضٌ؛ لِمُوَافَقَتِهِ الْعَادَةَ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِخُرُوجِهِ عَنْهَا. وَالثَّالِثُ، أَنَّ الْجَمِيعَ لَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِاخْتِلَاطِهِ بِمَا لَيْسَ بِحَيْضٍ. فَإِنْ تَكَرَّرَ فَهُوَ حَيْضٌ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا. فَأَمَّا إنْ عَادَ بَعْدَ الْعَادَةِ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ لَا يُمْكِنَ كَوْنُهُ حَيْضًا. وَالثَّانِي، أَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ حَيْضًا لِعُبُورِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ أَقَلُّ الطُّهْرِ، فَهَذَا اسْتِحَاضَةٌ كُلُّهُ، سَوَاءٌ تَكَرَّرَ أَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ جَمِيعِهِ حَيْضًا، فَكَانَ جَمِيعُهُ اسْتِحَاضَةً؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يُمْكِنَ جَعْلُهُ حَيْضًا، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ بِضَمِّهِ إلَى الدَّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ جَعَلْنَاهُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَيُلَفَّقُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، وَيَكُونُ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَهُمَا طُهْرًا فِي خِلَالِ الْحَيْضِ. وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ، إمَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا بِمُفْرَدِهِ بِأَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَصَاعِدًا، فَهَذَا إذَا تَكَرَّرَ كَانَ الدَّمَانِ حَيْضَتَيْنِ، وَإِنْ نَقَصَ أَحَدُهُمَا عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَمُّهُ إلَى مَا بَعْدَهُ. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشَرَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَرَأَتْ خَمْسَةً مِنْهَا دَمًا، وَطَهُرَتْ خَمْسَةً، ثُمَّ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ. فَالْخَمْسَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ تُلَفِّقُ الدَّمَ الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ رَأَتْ الثَّانِيَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا؛ لِأَنَّ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ. وَإِنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَتَكَرَّرَ هَذَا، كَانَا حَيْضَتَيْنِ، وَصَارَ شَهْرُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَذَلِكَ إنْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا، وَتَكَرَّرَ شَهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فَمَا دُونَ وَتَكَرَّرَ، فَهُمَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَا بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُمَا جَمِيعًا حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً؛ لِزِيَادَتِهِمَا بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الطُّهْرِ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُمَا حَيْضَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْهُمَا مَا وَافَقَ الْعَادَةَ، وَالْآخَرُ اسْتِحَاضَةٌ. وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ الْمَسَائِلِ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَكَرَّرَ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا، فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَكُلُّ مَوْضِعٍ رَأَتْ الدَّمَ وَلَمْ تَتْرُكْ الْعِبَادَةَ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَيْضًا، فَعَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ فِيهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ عَدَّتْهُ حَيْضًا وَتَرَكَتْ فِيهِ الْعِبَادَةَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طُهْرٌ، فَعَلَيْهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ. (505) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بِقَوْلِهِ: " فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَالْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ: أَرَادَ إذَا عَاوَدَهَا بَعْدَ الْعَادَةِ، وَعَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَنَعَهَا أَنْ تَلْتَفِتَ إلَيْهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ لَقَالَ: حَتَّى يَتَكَرَّرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا عَاوَدَهَا بَعْدَ الْعَادَةِ وَلَمْ يَعْبُرْ. فَإِنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَبْلَ التَّكْرَارِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: أَرَادَ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فِي كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ الزَّمَانَ كُلَّهُ. وَهَذَا أَظْهَرُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّرْجِيحِ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ يَحْتَاجُ إلَى إضْمَارِ عُبُورِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَلَيْسَ هَذَا أَوْلَى مِنْ إضْمَارِ التَّكْرَارِ، فَيَتَسَاوَيَانِ، وَيَسْلَمُ التَّرْجِيحُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل فِي ضَمِّ الدَّمِ إلَى الدَّمِ الَّذِينَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ] فَصْلٌ: فِي التَّلْفِيقِ وَمَعْنَاهُ ضَمُّ الدَّمِ إلَى الدَّمِ الَّذِينَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطُّهْرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ طُهْرٌ صَحِيحٌ، فَإِذَا رَأَتْ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا، وَلَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَإِنَّهَا تَضُمُّ الدَّمَ إلَى الدَّمِ، فَيَكُونُ حَيْضًا، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ النَّقَاءِ طُهْرٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَمَنُ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَنِ الطُّهْرِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ تَرَى يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، أَوْ يَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّمِ حَيْضٌ إذَا تَكَرَّرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ لِمُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ مِثْلُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَهُ طُهْرًا، أَوْ سَاعَةً وَسَاعَةً فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ كَالْأَيَّامِ يُضَمُّ الدَّمُ إلَى الدَّمِ، فَيَكُونُ حَيْضًا، وَمَا بَيْنَهُمَا طُهْرٌ، إذَا بَلَغَ الْمُجْتَمِعُ مِنْهُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا يَكُونُ الدَّمُ حَيْضًا، إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ حَيْضٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ قَوْلٌ فِي النَّقَاءِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَنَّهُ حَيْضٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا وَجْهًا لَنَا فِي أَنَّ النَّقَاءَ مَتَى كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا. فَعَلَى هَذَا مَتَى نَقَصَ النَّقَاءُ عَنْ يَوْمٍ كَانَ الدَّمُ وَمَا بَيْنَهُ حَيْضًا كُلَّهُ، فَإِنْ جَاوَزَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، مِثْلُ أَنْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً، أَوْ مُمَيِّزَةً، أَوْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ، أَوْ يُوجَدُ فِي حَقِّهَا الْأَمْرَانِ. فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، فَهَذِهِ تَجْلِسُ أَوَّلَ يَوْمٍ تَرَى الدَّمَ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الطُّهْرِ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ؛ هَلْ يَمْنَعُ مَا بَعْدَهُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا يَمْنَعُ، فَحَيْضُهَا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ خَاصَّةً وَمَا بَعْدَهُ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْنَعُ، فَحَيْضُهَا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ، وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ، فَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ عَادَتِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ يُلَفَّقُ لَهَا الْخَمْسَةُ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ جَمِيعِهَا، فَتَجْلِسُ السَّابِعَ وَالتَّاسِعَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ لَيْسَا مِنْ عَادَتِهَا فَلَا. تَجْلِسُهُمَا كَغَيْرِ الْمُلَفِّقَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً جَلَسَتْ زَمَانَ الدَّمِ الْأُسُودِ مِنْ الْأَيَّامِ، فَكَانَ حَيْضَهَا وَبَاقِيهِ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً جَلَسَتْ الْيَقِينَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، مِنْ أَوَّلِ دَمٍ تَرَاهُ، أَوْ فِي شَهْرَيْنِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ. وَهَلْ يُلَفَّقُ لَهَا السَّبْعَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَوْ تَجْلِسُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ عَادَتُهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا قُلْنَا تَجْلِسُ زَمَانَ الدَّمِ مِنْ سَبْعَةٍ، جَلَسَتْ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَالْخَامِسَ وَالسَّابِعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ سَقَطَ السَّابِعُ. وَإِنْ قُلْنَا تُلَفِّقُ لَهَا، زَادَتْ التَّاسِعَ وَالْحَادِي عَشَرَ إنْ قُلْنَا تَجْلِسُ سِتَّةً، وَإِنْ جَلَسَتْ سَبْعَةً زَادَتْ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي النَّاسِيَةِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُلَفِّقُ لَهَا عَدَدَ أَيَّامِهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الْمُعْتَادَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَفِي غَيْرِهَا: مَا عَبَرَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحَاضَةٌ وَأَيَّامُ الدَّمِ مِنْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ حَيْضٌ كُلُّهَا إذَا تَكَرَّرَ فَإِنْ كَانَ يَوْمًا وَيَوْمًا، فَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ، وَسَبْعَةٌ طُهْرٌ وَإِنْ كَانَتْ أَنْصَافًا فَلَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ حَيْضٌ وَمِثْلُهَا طُهْرٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهَا فِيمَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ، نَأْمُرُهَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَلَنَا: أَنَّ الطُّهْرَ لَوْ مُيِّزَ بَعْدَ الْخَامِسَ عَشَرَ لَمُيِّزَ قَبْلَهُ، كَتَمَيُّزِ اللَّوْنِ، وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ أَنْصَافًا أَوْ مُخْتَلِفًا، يَوْمًا دَمًا وَأَيَّامًا طُهْرًا أَوْ أَيَّامًا طُهْرًا وَأَيَّامًا دَمًا، كَالْحُكْمِ فِي الْأَيَّامِ الصِّحَاحِ الْمُتَسَاوِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْجُزْءُ الَّذِي تَرَى الدَّمَ فِيهِ أَوَّلًا أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ فَفِيهِ وَجْهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى يَسْبِقَهُ دَمٌ مُتَّصِلٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا. وَإِنْ قُلْنَا الطُّهْرُ يَمْنَعُ مَا بَعْدَهُ مِنْ كَوْنِهِ حَيْضًا قَبْلَ التَّكْرَارِ، وَجَاءَ فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّهَا تَضُمُّ إلَى الْأَوَّلِ مَا تُكْمِلُ بِهِ أَقَلَّ الْحَيْضِ؛ فَإِذَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ يَوْمًا وَيَوْمًا، ضَمَّتْ الثَّالِثَ إلَى الْأَوَّلِ. فَكَانَ حَيْضًا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى مَا تَكَرَّرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَا رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، ثُمَّ طَهُرَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَتْ دَمًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَقُلْنَا أَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضَةً وَاحِدَةً لِفَصْلِ أَقَلِّ الطُّهْرِ بَيْنَهُمَا، وَلَا حَيْضَتَيْنِ؛ لِنُقْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، وَإِنْ قُلْنَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، ضَمَمْنَا الْأَوَّلَ إلَى الثَّانِي، فَكَانَا حَيْضَةً وَاحِدَةً، إذَا بَلَغَا بِمَجْمُوعِهِمَا أَقَلَّ الْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ يَبْلُغُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، فَهُمَا حَيْضَتَانِ، إنْ قُلْنَا: أَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَإِنْ قُلْنَا أَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ضَمَمْنَا الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ فَكَانَا حَيْضًا وَاحِدًا، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يَكُنْ جَعْلُهُمَا جَمِيعًا حَيْضًا فَيَجْعَلُ أَحَدَهُمَا حَيْضًا وَالْآخَرَ اسْتِحَاضَةً وَعَلَى هَذَا فَقِسْ [مَسْأَلَة الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ] (507) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَالْحَامِلُ لَا تَحِيضُ، إلَّا أَنْ تَرَاهُ قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِيَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ دَمَ نِفَاسٍ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَمَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ؛ مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَالصَّحِيحُ عَنْهَا أَنَّهَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ لَا تُصَلِّي. وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ: مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ حَيْضٌ إذَا أَمْكَنَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ لِأَنَّهُ دَمٌ صَادَفَ عَادَةً، فَكَانَ حَيْضًا كَغَيْرِ الْحَامِلِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» فَجَعَلَ وُجُودَ الْحَيْضِ عَلَمًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ. وَاحْتَجَّ إمَامُنَا بِحَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» فَجَعَلَ الْحَمْلَ عَلَمًا عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ، كَمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عَلَمًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ زَمَنٌ لَا يَعْتَادُهَا الْحَيْضُ فِيهِ غَالِبًا، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَرَاهُ فِيهِ حَيْضًا كَالْآيِسَةِ قَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا يَعْرِفُ النِّسَاءُ الْحَمْلَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ يُحْمَلُ عَلَى الْحُبْلَى الَّتِي قَارَبَتْ الْوَضْعَ، جَمْعًا بَيْنَ قَوْلَيْهَا، فَإِنَّ الْحَامِلَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ قَرِيبًا مِنْ وِلَادَتِهَا فَهُوَ نِفَاسٌ، تَدَعُ لَهُ الصَّلَاةَ كَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ: وَقَالَ الْحَسَنُ: إذَا رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْوَلَدِ أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ تُعِيدُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فَرَأَتْ الدَّمَ قَالَ: هُوَ حَيْضٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ عَطَاءٌ: تُصَلِّي وَلَا تَعُدُّهُ حَيْضًا وَلَا نِفَاسًا. وَلَنَا: أَنَّهُ دَمٌ خَرَجَ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ فَكَانَ نِفَاسًا، كَالْخَارِجِ بَعْدَهُ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ أَمَارَاتِهَا؛ مِنْ الْمَخَاضِ وَنَحْوِهِ فِي وَقْتِهِ: وَأَمَّا إنْ رَأَتْ الدَّمَ مِنْ غَيْرِ عَلَامَةٍ عَلَى قُرْبِ الْوَضْعِ، لَمْ تَتْرُكْ لَهُ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ قَرِيبًا مِنْ الْوَضْعِ، كَوَضْعِهِ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ أَعَادَتْ الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ إنْ صَامَتْهُ فِيهِ. وَإِنْ رَأَتْهُ عِنْدَ عَلَامَةٍ عَلَى الْوَضْعِ تَرَكَتْ الْعِبَادَةَ. فَإِنْ تَبَيَّنَ بُعْدُهُ عَنْهَا أَعَادَتْ مَا تَرَكَتْهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْهَا مِنْ غَيْرِ حَيْضٍ وَلَا نِفَاسٍ. [مَسْأَلَة رَأَتْ الدَّمَ وَلَهَا خَمْسُونَ سَنَةً] (508) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ وَلَهَا خَمْسُونَ سَنَةً، فَلَا تَدَعُ الصَّوْمَ، وَلَا الصَّلَاةَ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ احْتِيَاطًا، فَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ، فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ؛ وَتُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَلَا تَقْضِي. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاَلَّذِي نَقَلَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، أَنَّهَا لَا تَيْأَسُ مِنْ الْحَيْضِ يَقِينًا إلَى سِتِّينَ سَنَةً، وَمَا تَرَاهُ فِيمَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، لَا تَتْرُكُ لَهُ الصَّلَاةَ، وَلَا الصَّوْمَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا مُتَيَقَّنٌ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ كَانَ مُتَيَقَّنًا، وَمَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِي صِحَّتِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَيَقَّنَ وُجُوبُهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ لَا تَحِيضُ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فِيمَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: إذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْحَيْضِ. وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ نِسَاءَ الْأَعَاجِمِ يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ فِي خَمْسِينَ، وَنِسَاءَ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ إلَى سِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِمَا رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي كِتَابِ النَّسَبِ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تَلِدُ لِخَمْسِينَ سَنَةً إلَّا الْعَرَبِيَّةُ، وَلَا تَلِدُ لِسِتَّيْنِ إلَّا قُرَشِيَّةٌ. وَقَالَ: إنَّ هِنْدَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَلَدَتْ مُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَهَا سِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ إنْ عَاوَدَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ حَيْضٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ أَخْبَرْنَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حَيْضًا كَمَا قَبْلَ الْخَمْسِينَ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْمَرْأَةِ دَمٌ فِي زَمَنِ عَادَتِهَا عَلَى وَجْهٍ كَانَتْ تَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْوُجُودُ هَاهُنَا دَلِيلُ الْحَيْضِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْخَمْسِينَ دَلِيلًا، فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَيْضًا، وَأَمَّا إيجَابُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِيهِ فَلِلِاحْتِيَاطِ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَخْتَلِفْنَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا، وَمَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ، الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ لَا عِلْمَ لَهَا بِهِ. ثُمَّ قَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ مَا قَالَتْهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ قَدْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَوُجِدَ الْحَيْضُ فِيمَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الدَّمُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَفِي وَقْتِهِ وَعَادَتِهِ، بِغَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يُقْبَلُ فَأَمَّا بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ وَتُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ حَالًا تَنْتَهِي فِيهِ إلَى الْإِيَاسِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ تَرَى الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا، هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ وَإِنْ اغْتَسَلَتْ فَحَسَنٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ. وَمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الدَّمَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، عَلَى مَا مَرَّ حُكْمُهُمَا [فَصْل أَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ] (509) فَصْلٌ وَأَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ تِسْعُ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تَحِيضُ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَحِضْنَ عَادَةً فِيمَا دُونَ هَذَا السِّنِّ وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ إنَّمَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِحِكْمَةِ تَرْبِيَةِ الْحَمْلِ بِهِ فَمَنْ لَا تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ لَا تُوجَدُ فِيهَا حِكْمَتُهُ، فَيَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ كَالْمَنِيِّ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَالْآخَرُ يُرَبِّيهِ وَيُغَذِّيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُوجَدُ مِنْ صَغِيرٍ، وَوُجُودُهُ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ، وَأَقَلُّ سِنٍّ تَبْلُغُ لَهُ الْجَارِيَةُ تِسْعُ سِنِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ «إذَا بَلَغَتْ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةُ» وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرْأَةِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت جَدَّةً بِنْتَ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَمَلَتْ لِدُونِ عَشْرِ سِنِينَ، وَحَمَلَتْ ابْنَتُهَا لِمِثْلِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا إذَا رَأَتْ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ دَمًا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْهُ فِي زَمَنٍ يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ، فَإِنْ اتَّصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ حَيْضٌ، يَثْبُتُ بِهِ بُلُوغُهَا، وَنُثْبِتُ فِيهِ أَحْكَامَ الْحَيْضِ كُلِّهَا وَإِنْ انْقَطَعَ لِدُونِ ذَلِكَ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ لِدُونِ تِسْعِ سِنِينَ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا. وَقَدْ رَوَى الْمَيْمُونِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي بِنْتِ عَشْرٍ رَأَتْ الدَّمَ، قَالَ: لَيْسَ بِحَيْضٍ فَعَلَى هَذَا لَيْسَ التِّسْعُ وَلَا الْعَشْرُ زَمَنًا لِلْحَيْضِ. قَالَ الْقَاضِي: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ زَمَنٍ يَصِحُّ فِيهِ وُجُودُ الْحَيْضِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ بُلُوغُ الْغُلَامِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ [مَسْأَلَة الْمُسْتَحَاضَةُ إنَّ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ] (510) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْمُسْتَحَاضَةُ، إنْ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَا قِيلَ فِيهَا؛ وَإِنْ تَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَجْزَأَهَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ، «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، لِكُلِّ صَلَاةٍ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد، «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَغْتَسِلُ كُلَّ يَوْمٍ غُسْلًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: تَغْتَسِلُ مِنْ ظُهْرٍ إلَى ظُهْرٍ. قَالَ مَالِكٌ: إنِّي أَحْسِبُ حَدِيثَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا هُوَ: مِنْ طُهْرٍ إلَى طُهْرٍ. وَلَكِنَّ الْوَهْمَ دَخَلَ فِيهِ. يَعْنِي أَنَّ الطَّاءَ غَيْرَ الْمُعْجَمَةِ أُبْدِلَتْ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَتَغْتَسِلُ لِلصُّبْحِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ حَمْنَةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ، ثُمَّ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَيُجْزِئُهَا ذَلِكَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُرْوَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ إنَّمَا عَلَيْهَا الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ حَيْضِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا لِلِاسْتِحَاضَةِ وُضُوءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ الْغُسْلُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: " فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي ". وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَلَنَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا. وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْتَحَاضَةِ «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» . وَلِأَنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ، فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ كَدَمِ الْحَيْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ مُسْتَحَبُّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَفْضَلُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا قِيلَ، ثُمَّ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ وَالْمَشَقَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَالِاغْتِسَالُ لِلصُّبْحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: «وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ» . ثُمَّ يَلِيهِ الْغُسْلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً بَعْدَ الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَهُوَ أَقَلُّ الْأُمُورِ وَيُجْزِئُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل حُكْمُ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ] (511) فَصْلٌ: وَحُكْمُ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ فِي أَنَّهَا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، صَلَّتْ بِهَا الْفَرِيضَةَ، ثُمَّ قَضَتْ الْفَوَائِتَ، وَتَطَوَّعَتْ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ لَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجْمَعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَا تَقْضِي بِهِ فَوَائِتَ، وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ. كَقَوْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ. وَيَحْتَمِلُهُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: «لِكُلِّ صَلَاةٍ» . وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ.» وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ: «تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.» وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ يُبِيحُ النَّفَلَ، فَيُبِيحُ الْفَرْضَ، كَوُضُوءِ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَقْتِ، كَقَوْلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ» أَيْ وَقْتُهَا، وَحَدِيثُ حَمْنَةَ ظَاهِرٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مِمَّا يَخْفَى وَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 [فَصْل لَا بَأْسَ أَنْ تَشْرَبَ الْمَرْأَةُ دَوَاءً يَقْطَعُ عَنْهَا الْحَيْضَ] (512) فَصْلٌ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَشْرَبَ الْمَرْأَةُ دَوَاءً يَقْطَعُ عَنْهَا الْحَيْضَ، إذَا كَانَ دَوَاءً مَعْرُوفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 [كِتَابُ الصَّلَاةِ] [فَصْلٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ] الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أَيْ اُدْعُ لَهُمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْت مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا وَهِيَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمَعْلُومَةِ، فَإِذَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ أَمْرٌ بِصَلَاةٍ أَوْ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَيْهَا، انْصَرَفَ بِظَاهِرِهِ إلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ آيٍ وَأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، نَذْكُرُ بَعْضَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. (513) فَصْلٌ: وَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِهَا، وَلَا يَجِبُ غَيْرُهَا إلَّا لِعَارِضٍ مِنْ نَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ» وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوِتْرُ حَقٌّ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ «فَرَجَعْت إلَى رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُنْقِصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزِيَادَةُ الصَّلَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي السُّنَنِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهَا فَرْضًا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَكَانَتْ نَافِلَةً كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 [بَابُ الْمَوَاقِيتِ] أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مُؤَقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ مَحْدُودَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ جِيَادٌ نَذْكُرُ أَكْثَرَهَا فِي مَوَاضِعِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (514) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَجَبَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ) بَدَأَ الْخِرَقِيِّ بِذِكْرِ صَلَاةِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ بَدَأَ بِهَا حِينَ أَمَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ وَبَدَأَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَلَّمَ الصَّحَابَةَ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، وَبَدَأَ بِهَا الصَّحَابَةُ حِينَ سُئِلُوا عَنْ الْأَوْقَاتِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا تُسَمَّى الْأُولَى وَالْهَجِيرَ وَالظُّهْرَ. وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْهَجِيرَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تُدْحَضُ الشَّمْسُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، يَعْنِي حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ: إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ، فَمِنْهَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا، حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ، وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِ الْأُولَى، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتْ الْأَرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِك، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى جَابِرٌ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ «لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ» ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْمَوَاقِيتِ حَدِيثُ جَابِرٍ. وَرَوَى بُرَيْدَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ يُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ فِي الظُّهْرِ، فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرَدَ بِهَا، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ، آخِرُهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي مُوسَى نَحْوَهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: «بَدَأَ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، فَصَلَّى حِينَ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ، أَوْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْرِفُ مَنْ إلَى جَنْبِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَلَّى الْفَجْرَ وَانْصَرَفَ، فَقُلْنَا: طَلَعَتْ الشَّمْسُ.» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. (515) فَصْلٌ: وَمَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ مَيْلُهَا عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِطُولِ ظِلِّ الشَّخْصِ بَعْدَ تَنَاهِي قِصَرِهِ، فَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيُقَدِّرْ ظِلَّ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَصْبِرْ قَلِيلًا، ثُمَّ يُقَدِّرْهُ ثَانِيًا، فَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَزُلْ، وَإِنْ زَادَ وَلَمْ يَنْقُصْ فَقَدْ زَالَتْ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالْأَقْدَامِ، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّهُورِ وَالْبُلْدَانِ، فَكُلَّمَا طَالَ النَّهَارُ قَصُرَ الظِّلُّ، وَإِذَا قَصُرَ طَالَ الظِّلُّ، فَكُلُّ يَوْمٍ يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ، فَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي وَسَطِ كُلِّ شَهْرٍ، عَلَى مَا حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ السِّنْجِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، تَقْرِيبًا، قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ تَزُولُ فِي نِصْفِ حُزَيْرَانَ عَلَى قَدَمٍ وَثُلُثٍ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا تَزُولُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَفِي نِصْفِ تَمُّوز وَنِصْفِ أَيَّارَ عَلَى قَدَمٍ وَنِصْفٍ وَثُلُثٍ، وَفِي نِصْفِ آبَ وَنَيْسَان عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي نِصْفِ آذَار وَأَيْلُول عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ. وَهُوَ وَقْتُ اسْتِوَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي نِصْفِ تَشْرِينَ الْأَوَّلِ وَشُبَاطِ عَلَى سِتَّةِ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ، وَفِي نِصْفِ تَشْرِينَ الثَّانِي وَكَانُونَ الثَّانِي عَلَى تِسْعَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي نِصْفِ كَانُونَ الْأَوَّل عَلَى عَشَرَةِ أَقْدَامٍ وَسُدْسٍ، وَهَذَا أَنْهَى مَا تَزُولَ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهَذَا مَا تَزُولُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي أَقَالِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمَا سَامَتَهُمَا مِنْ الْبُلْدَانِ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَقِفْ عَلَى مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَعَلِّمْ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ ظِلُّك، ثُمَّ ضَعْ قَدَمَك الْيُمْنَى بَيْنَ يَدَيْ قَدَمِك الْيُسْرَى، وَأَلْصِقْ عَقِبَك بِإِبْهَامِك، فَمَا بَلَغَتْ مِسَاحَةُ هَذَا الْقَدْرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ النَّقْصِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَوَجَبَتْ بِهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ. [فَصْل تَجِبُ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ] (516) فَصْلٌ: وَتَجِبُ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصَّلَوَاتِ تَجِبُ بِدُخُولِ وَقْتِهَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْأَعْذَارِ؛ كَالْحَائِضِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ، فَتَجِبُ فِي حَقِّهِ بِأَوَّلِ جُزْءٍ أَدْرَكَهُ مِنْ وَقْتِهَا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ تَأْخِيرُ وَقْتِهَا إذَا بَقِيَ مِنْهُ مَا لَا يَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً كَالنَّافِلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَلَنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حِينَ وُجُودِهِ؛ وَلِأَنَّهَا يُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ، وَلَوْ لَمْ تَجِبْ لَصَحَّتْ بِدُونِ نِيَّةِ الْوَاجِبِ كَالنَّافِلَةِ، وَتُفَارِقُ النَّافِلَةَ؛ فَإِنَّهَا لَا يُشْتَرَطُ لَهَا ذَلِكَ، وَيَجُوزُ تَرْكُهَا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى فِعْلِهَا، وَهَذِهِ إنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مَعَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا تُؤَخَّرُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَمَا تُؤَخَّرُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ عَنْ وَقْتِهَا إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِتَحْصِيلِ شَرْطِهَا. [فَصْل يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمَا وَجَبَتْ بِهِ] (517) فَصْلٌ: وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِمَا وَجَبَتْ بِهِ. فَلَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ جُنَّ، أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ، لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ إذَا أَمْكَنَهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ: لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِمُضِيِّ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِعْلُهَا فِيهِ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلَنَا أَنَّهَا صَلَاةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا إذَا فَاتَتْهُ، كَالَّتِي أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا، وَفَارَقَتْ الَّتِي طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَجِبْ، وَقِيَاسُ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. [مَسْأَلَة آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ] (518) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَهُوَ آخِرُ وَقْتِهَا) يَعْنِي أَنَّ الْفَيْءَ إذَا زَادَ عَلَى مَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَدْرَ ظِلِّ طُولِ الشَّخْصِ، فَذَلِكَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَأَيُّ شَيْءٍ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ؟ قَالَ: أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: فَمَتَى يَكُونُ الظِّلُّ مِثْلَهُ؟ قَالَ: إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، فَكَانَ الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوَالِ مِثْلَهُ، فَهُوَ ذَاكَ. وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يَضْبِطَ مَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَنْظُرَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَدْرَ الشَّخْصِ، فَقَدْ انْتَهَى وَقْتُ الظُّهْرِ؛ وَمِثْلُ شَخْصِ الْإِنْسَانِ سِتَّةُ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ بِقَدَمِهِ، أَوْ يَزِيدُ قَلِيلًا، فَإِذَا أَرَدْت اعْتِبَارَ الزِّيَادَةِ بِقَدَمِك مَسَحْتَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّوَالِ، ثُمَّ أَسْقَطْت مِنْهُ الْقَدْرَ الَّذِي زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَإِذَا بَلَغَ الْبَاقِي سِتَّةَ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ فَقَدْ بَلَغَ الْمِثْلَ، فَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَأُوَلُ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَنَحْوَهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تَفْرِيطَ لِلظُّهْرِ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّمْسَ صُفْرَةٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ: وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى اللَّيْلِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: وَقْتُ الِاخْتِيَارِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَوَقْتُ الْأَدَاءِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَدْرُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قَالَ «إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غَدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ. فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا؟ قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ أَكْثَرُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ. وَلَنَا «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَحَدِيثُ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُذْرِ بِمَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَفِعْلُهَا يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَكَامُلِ الشُّرُوطِ، عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَنَا قُصِدَ بِهَا بَيَانُ الْوَقْتِ، وَخَبَرُهُمْ قُصِدَ بِهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ، فَالْأَخْذُ بِأَحَادِيثِنَا أَوْلَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ هَذَا الْآثَارَ وَالنَّاسَ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ. [مَسْأَلَة وَقْت الْعَصْرِ] (519) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا زَادَ شَيْئًا وَجَبَتْ الْعَصْرُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ حِينِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلِ أَدْنَى زِيَادَةٍ مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ، لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرُ الْخِرَقِيِّ قَالَ: إذَا صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ فَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَ الْخِرَقِيِّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا زَادَ عَلَى الْمِثْلَيْنِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَكَانَ وَسَطَ النَّهَارِ. وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ: أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ يَشْتَرِكَانِ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ مَعًا، أَحَدُهُمَا يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْآخَرُ الْعَصْرَ، حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَلِّيًا لَهَا فِي وَقْتِهَا. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «صَلَّى بِي الظُّهْرَ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ» . وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] . لَا يَنْفِي مَا قُلْنَا؛ فَإِنَّ الطَّرَفَ مَا تَرَاخَى عَنْ الْوَسَطِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ» أَرَادَ مُقَارَنَةَ الْوَقْتِ، يَعْنِي أَنَّ ابْتِدَاءَ صَلَاتِهِ الْيَوْمَ الْعَصْرَ مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ انْتِهَاءِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، أَوْ مُقَارِبٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ أَوَّلُ الْوَقْتِ بِابْتِدَاءِ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَتَبَيَّنَ آخِرُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 عَمْرٍو «وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ [مَسْأَلَة آخَر وَقْت الْعَصْرِ] (520) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ خَرَجَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي آخِرِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ؛ فَرُوِيَ: حِينَ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ.» وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ آخِرَهُ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ. وَهِيَ أَصَحُّ عَنْهُ حَكَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَمِعَتْهُ يُسْأَلُ عَنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ تَغَيُّرُ الشَّمْسِ. قِيلَ: وَلَا تَقُولُ بِالْمِثْلِ وَالْمِثْلَيْنِ؟ قَالَ: لَا، هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ» وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، فَقَدْ صَلَّاهَا فِي وَقْتهَا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمِثْلَيْنِ عِنْدَهُمْ اسْتِحْبَابٌ، وَلَعَلَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ يُوجَدُ أَحَدُهُمَا قَرِيبًا مِنْ الْآخَرِ. (521) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ، حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ، فَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، قَامَ، فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» وَلَوْ أُبِيحَ تَأْخِيرُهَا لَمَا ذَمَّهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ عَلَامَةَ النِّفَاقِ. [مَسْأَلَة أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ] (522) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا مَعَ الضَّرُورَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا، وَمُؤَدٍّ لَهَا فِي وَقْتِهَا، سَوَاءٌ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ تَأْخِيرُهَا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، كَحَائِضٍ تَطْهُرُ، أَوْ كَافِرٍ يُسْلِمُ، أَوْ صَبِيٍّ يَبْلُغُ، أَوْ مَجْنُونٍ يُفِيقُ، أَوْ نَائِمٍ يَسْتَيْقِظُ، أَوْ مَرِيضٍ يَبْرَأُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " مَعَ الضَّرُورَةِ ". فَأَمَّا إدْرَاكُهَا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 سَائِرُ الصَّلَوَاتِ يُدْرِكُهَا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا [فَصْل هَلْ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ بِإِدْرَاكِ مَا دُونَ رَكْعَةٍ] (523) فَصْلٌ: وَهَلْ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ بِإِدْرَاكِ مَا دُونَ رَكْعَةٍ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا لَا يُدْرِكُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ الْإِدْرَاكَ بِرَكْعَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يَحْصُلُ بِأَقَلَّ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّهُ إدْرَاكٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَا يَحْصُلُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَإِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ. وَالثَّانِيَةُ، يُدْرِكُهَا بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْهَا، أَيِّ جُزْءٍ كَانَ. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِلنَّسَائِيِّ «فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ؛ وَلِأَنَّ الْإِدْرَاكَ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلَاةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا، كَإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، وَإِدْرَاكِ الْمُسَافِرِ صَلَاةَ الْمُقِيمِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ، وَالْمَنْطُوقُ أَوْلَى مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ يَبْطُلُ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ دُونَ تَشَهُّدِهَا. [فَصْل الصَّلَاةُ الْوُسْطَى] (524) فَصْلٌ: وَصَلَاةُ الْعَصْرِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ. وَبِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا، فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] » رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَتْ عَائِشَةُ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ الصُّبْحُ لِقَوْلِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 تَعَالَى: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وَالْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالصُّبْحِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَثْقَلِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِالْوَصِيَّةِ وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: أَمَّا إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَغْلِبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ (فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» يُرِيدُ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ. وَقَالَ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَقِيلَ: هِيَ الْمَغْرِبُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ الظُّهْرُ، فَتَكُونُ الْمَغْرِبُ الثَّالِثَةَ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ هِيَ الْوُسْطَى؛ وَلِأَنَّهَا وُسْطَى فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَوُسْطَى فِي الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا ثَلَاثٌ، فَهِيَ وُسْطَى بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَالِاثْنَيْنِ، وَوَقْتُهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِ اللَّيْلِ، وَخُصَّتْ مِنْ بَيْنِ الصَّلَاةِ بِأَنَّهَا وِتْرٌ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ. وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ أُمَّتِي، أَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى الْفِطْرَةِ، مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقِيلَ: هِيَ الْعِشَاءُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «مَكَثْنَا لَيْلَةً نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ إلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَقَالَ: إنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْت بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ. وَقَالَ: إنَّ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ: شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ.» وَعَنْ سَمُرَةَ مِثْلُهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ التَّعْرِيجُ مَعَهُ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُهُ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» يَعْنِي النَّجْمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَا ذُكِرَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ شَارَكَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَكْثَرِهِ، وَرِوَايَةُ عَائِشَةَ " وَصَلَاةُ الْعَصْرِ " فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ كَالْوَاوِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] وَفِي قَوْلِهِ {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وَقَوْلِهِ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَالْقُنُوتُ قِيلَ: هُوَ الطَّاعَةُ. أَيْ قُومُوا لِلَّهِ مُطِيعِينَ. وَقِيلَ: الْقُنُوتُ السُّكُوتُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ. ثُمَّ مَا رَوَيْنَا نَصٌّ صَرِيحٌ. فَكَيْفَ يُتْرَكُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَهْمِ، أَوْ يُعَارَضُ بِهِ؟ [مَسْأَلَة وَقْتُ الْمَغْرِبِ] (525) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ وَجَبَتْ الْمَغْرِبُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ أَمَّا دُخُولُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِيهِ، وَالْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ. وَآخِرُهُ: مَغِيبُ الشَّفَقِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ، عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّاهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ، فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يَشْتَبِكَ النَّجْمُ» ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى فِعْلِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَعَنْ طَاوُسٍ: لَا تَفُوتُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ حَتَّى الْفَجْرِ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وَلَنَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ غَابَ الشَّفَقُ» وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ.» وَرَوَى أَبُو مُوسَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ، لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا بِشَيْءٍ مُحْتَمَلٍ ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى الصَّلَوَاتِ، فَكَانَ لَهَا وَقْتٌ مُتَّسِعٌ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى صَلَاتَيْ جَمْعٍ، فَكَانَ وَقْتُهَا مُتَّصِلًا بِوَقْتِ الَّتِي تُجْمَعُ إلَيْهَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَقْتٌ لِاسْتِدَامَتِهَا، فَكَانَ وَقْتًا لِابْتِدَائِهَا كَأَوَّلِ وَقْتِهَا. وَأَحَادِيثُهُمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاخْتِيَارِ، وَكَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ " وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا ". فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِفِعْلِهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهَا تَأْكِيدُ الِاسْتِحْبَابِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَعَارِضَةٌ وَجَبَ حَمْلُ أَحَادِيثِهِمْ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي أَوَّلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ، وَأَحَادِيثُنَا بِالْمَدِينَةِ مُتَأَخِّرَةٌ، فَتَكُنْ نَاسِخَةً لِمَا قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة وَقْتُ الْعِشَاءِ] (526) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ، وَهُوَ الْحُمْرَةُ فِي السَّفَرِ، وَفِي الْحَضَرِ الْبَيَاضُ؛ لِأَنَّ فِي الْحَضَرِ قَدْ تَنْزِلُ الْحُمْرَةُ فَتُوَارِيهَا الْجُدْرَانُ، فَيُظَنُّ أَنَّهَا قَدْ غَابَتْ، فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ فَقَدْ تُيُقِّنَ، وَوَجَبَتْ عِشَاءُ الْآخِرَةِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) لَا خِلَافَ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ مَا هُوَ؟ فَمَذْهَبُ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ الشَّفَقَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ، وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، هُوَ الْحُمْرَةُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: الشَّفَقُ الْبَيَاضُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ حِينَ يَسْوَدُّ الْأُفُقُ» . وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ بِالصَّلَاةِ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ غَيْرُكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قَالَ: وَلَا يُصَلِّي يَوْمَئِذٍ إلَّا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَوَّلُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالشَّفَقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْحُمْرَةُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ فَوْرُ الشَّفَقِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ " ثَوْرُ الشَّفَقِ " وَفَوْرُ الشَّفَقِ: فَوَرَانُهُ وَسُطُوعُهُ. وَثَوْرُهُ: ثَوَرَانُ حُمْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْحُمْرَةَ، وَآخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الْعِشَاءُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَمَا رَوَوْهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَلِيلًا، وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالْمُتَوَضِّئُ مِنْ وُضُوئِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ» إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان يَظْهَرُ لَهُ الْأُفُقُ، وَيَبِينُ لَهُ مَغِيبُ الشَّفَقِ، فَمَتَى ذَهَبَتْ الْحُمْرَةُ وَغَابَتْ، دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَان يَسْتَتِرُ عَنْهُ الْأُفُقُ بِالْجُدْرَانِ وَالْجِبَالِ، اسْتَظْهَرَ حَتَّى يَغِيبَ الْبَيَاضُ، لِيَسْتَدِلَّ بِغَيْبَتِهِ عَلَى مَغِيبِ الْحُمْرَةِ، فَيَعْتَبِرُ غَيْبَةَ الْبَيَاضِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَغِيبِ الْحُمْرَةِ لَا لِنَفْسِهِ. [مَسْأَلَة إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ذَهَبَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ] (527) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ذَهَبَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، وَوَقْتُ الضَّرُورَةِ مُبْقًى إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يُرَى مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَيَنْتَشِرُ، وَلَا ظُلْمَةَ بَعْدَهُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي آخِرِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ثُلُثُ اللَّيْلِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثَ اللَّيْلِ، وَقَالَ: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثُلُثَ اللَّيْلِ» وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» وَفِي حَدِيثِهَا الْآخَرِ: وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَوَّلُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ. وَلِأَنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَجْمَعُ الرِّوَايَاتِ، وَالزِّيَادَةُ تَعَارَضْت الْأَخْبَارُ فِيهَا، فَكَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْلَى، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ آخِرَهُ نِصْفُ اللَّيْلِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ، وَسَقَمُ السَّقِيمِ، لَأَمَرْت بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ تُؤَخَّرَ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْأَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يُؤَخِّرَهَا عَنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ جَازَ، وَمَا بَعْدَ النِّصْفِ وَقْتُ ضَرُورَةٍ، الْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ وَقْتِ الضَّرُورَةِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَلَى مَا مَضَى شَرْحُهُ وَبَيَانُهُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ الْوَقْتُ مُمْتَدًّا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي. (528) فَصْلٌ: وَتُسَمَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ الْعِشَاءَ، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الْعَتَمَةُ. صَاحَ وَغَضِبَ، وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ الْعِشَاءُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، فَإِنَّهَا الْعِشَاءُ، وَإِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ وَإِنْ سَمَّاهَا الْعَتَمَةَ جَازَ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَبْقَيْنَا - يَعْنِي - انْتَظَرْنَا - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا نِسْبَةٌ لَهَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَسَائِرَ الصَّلَوَاتِ [مَسْأَلَة وَقْتُ الصُّبْحِ] (529) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَجَبَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْوَقْتُ مُبْقًى إلَى مَا قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ فَقَدْ أَدْرَكَهَا، وَهَذَا مَعَ الضَّرُورَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إجْمَاعًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَخْبَارُ الْمَوَاقِيتِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ، وَيُسَمَّى الْفَجْرَ الصَّادِقَ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَك عَنْ الصُّبْحِ وَبَيَّنَهُ لَك، وَالصُّبْحُ مَا جَمَعَ بَيَاضًا وَحُمْرَةً، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي لَوْنِهِ بَيَاضٌ وَحُمْرَةٌ أَصْبَحَ، وَأَمَّا الْفَجْرُ الْأَوَّلُ، فَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَدَقُّ صَعِدًا مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَيُسَمَّى الْفَجْرَ الْكَاذِبَ. ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ إلَى أَنْ يُسْفِرَ النَّهَارُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَبُرَيْدَةَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «وَوَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ. وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَانَ مُدْرِكًا لَهَا» وَفِي إدْرَاكِهَا بِمَا دُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، فِيمَنْ طَلَعْت الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي وَقْتٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، فَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا فِي وَقْتِهَا، كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ النَّافِلَةِ، فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَتُصَلَّى فِي كُلِّ وَقْتٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُ نَهْيٍ أَيْضًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الْفَجْرِ فِيهِ [فَصْل إذَا شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ] (530) فَصْلٌ: إذَا شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ، مِثْلُ مَنْ هُوَ ذُو صَنْعَةٍ جَرَتْ عَادَتُهُ بِعَمَلِ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَوْ قَارِئٍ جَرَتْ عَادَتُهُ بِقِرَاءَةِ جُزْءٍ فَقَرَأَهُ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ، أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا احْتِيَاطًا، لِتَزْدَادَ غَلَبَةُ ظَنِّهِ، إلَّا أَنْ يَخْشَى خُرُوجَ الْوَقْتِ، أَوْ تَكُونَ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْغَيْمِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ بِهَا؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةَ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْغَيْمِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّبْكِيرُ بِهَا إذَا دَخَلَ وَقْتُ فِعْلِهَا، لِيَقِينٍ، أَوْ غَلَبَةِ ظَنٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَهَا الْمُخْتَارَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ يَضِيقُ، فَيُخْشَى خُرُوجُهُ. (531) فَصْلٌ: وَمَنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ عِلْمٍ عَمِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ، فَقُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ كَالرِّوَايَةِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُقَلِّدْهُ، وَاجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُصَلِّ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، كَحَالَةِ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ. وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى وَالْمَطْمُورُ الْقَادِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي إمْكَانِ التَّقْدِيرِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، كَمَا بَيَّنَّا، فَمَتَى صَلَّى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَبَانَ أَنَّهُ وَافَقَ الْوَقْتَ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ، وَخُوطِبَ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِالصَّلَاةِ وَسَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ بَعْدَ فِعْلِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُهُ بِمَا وُجِدَ قَبْلَهُ. وَإِنْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ الشَّكِّ، لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ. [فَصْل إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ مِنْ ثِقَةٍ عَالِمٍ بِالْوَقْتِ] (532) فَصْلٌ: وَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ مِنْ ثِقَةٍ عَالِمٍ بِالْوَقْتِ، فَلَهُ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَجَرَى مَجْرَى خَبَرِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَوْلَا أَنَّهُ يُقَلِّدُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ مَا كَانَ مُؤْتَمَنًا، وَجَاءَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «خَصْلَتَانِ مُعَلَّقَتَانِ فِي أَعْنَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَاتُهُمْ وَصِيَامُهُمْ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الْآذَانَ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الْمُؤَذِّنِ لَمْ تَحْصُلْ الْحِكْمَةُ الَّتِي شُرِعَ الْآذَانُ مِنْ أَجْلِهَا، وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْآذَانَ قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ، وَبَنَوْا عَلَى أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي الْوَقْتِ، وَلَا مُشَاهَدَةِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إجْمَاعًا. [مَسْأَلَة الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ] (533) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ، إلَّا عِشَاءَ الْآخِرَةِ، وَفِي شِدَّةِ الْحَرِّ الظُّهْرَ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَوْقَاتَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ، وَجَوَازٍ، وَضَرُورَةٍ. فَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ وَالضَّرُورَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا، وَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ قَالَ أَحْمَدُ: أَوَّلُ الْوَقْتِ أَعْجَبُ إلَيَّ، إلَّا فِي صَلَاتَيْنِ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الظُّهْرِ يُبْرَدُ بِهَا فِي الْحَرِّ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَهَكَذَا كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ: دَخَلْت أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَسَأَلَهُ أَبِي: «كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ قَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ، الَّتِي يَدْعُونَهَا الْأُولَى، حِينَ تُدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيت مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. قَالَ: وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ» . ، وَقَالَ جَابِرٌ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَقَدْ رَوَى الْأُمَوِيُّ، فِي " الْمَغَازِي " حَدِيثًا أَسْنَدَهُ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: «لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: أَظْهِرْ كَبِيرَ الْإِسْلَامِ وَصَغِيرَهُ، وَلْيَكُنْ مِنْ أَكْبَرِهَا الصَّلَاةُ، فَإِنَّهَا رَأْسُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدِّينِ، إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَصَلِّ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَطِلْ الْقِرَاءَةَ عَلَى قَدْرِ مَا تُطِيقُ، وَلَا تُمِلَّهُمْ، وَتُكَرِّهْ إلَيْهِمْ أَمْرَ اللَّهِ، ثُمَّ عَجِّلْ الصَّلَاةَ الْأُولَى بَعْدَ أَنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَصَلِّ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ؛ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ، وَالْمَغْرِبَ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ، وَتَوَارَى بِالْحِجَابِ، وَصَلِّ الْعِشَاءَ فَأَعْتِمْ بِهَا، فَإِنَّ اللَّيْلَ طَوِيلٌ، فَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالصُّبْحِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ. وَإِنَّ النَّاسَ يَنَامُونَ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوهَا، وَصَلِّ الظُّهْرَ بَعْدَ أَنْ يَنْقُصَ الظِّلُّ وَتَتَحَرَّكَ الرِّيحُ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقِيلُونَ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوهَا، وَصَلِّ الْعَتَمَةَ فَلَا تُعْتِمْ بِهَا، وَلَا تُصَلِّهَا حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وَرَوَى أَيْضًا فِي كِتَابِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَالصَّلَاةُ لَهَا وَقْتٌ شَرَطَهُ اللَّهُ، لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ؛ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ حِينَ يُزَايِلُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَيَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَأَعْطُوهَا نَصِيبَهَا مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ إذَا كَانَ الْقَيْظُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ، حِينَ يَكُونُ ظِلُّك مِثْلَك، وَذَلِكَ حِينَ يُهَجِّرُ الْمُهَجِّرُ وَذَلِكَ لِئَلَّا يَرْقُدَ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَحِينَ تَزِيغُ عَنْ الْفَلَكِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى حَاجِبِك الْأَيْمَنِ، وَالْعَصْرُ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ قَبْلَ أَنْ تَصْفَرَّ، وَالْمَغْرِبُ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ، وَالْعِشَاءُ حِينَ يَغْسِقُ اللَّيْلُ، وَتَذْهَبُ حُمْرَةُ الْأُفُقِ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، مَنْ نَامَ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا أَرْقَدَ اللَّهُ عَيْنَهُ. هَذِهِ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [فَصْل تَعْجِيلِ الظُّهْرِ فِي غَيْرِ الْحَرِّ وَالْغَيْمِ] (534) فَصْلٌ: وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الظُّهْرِ، فِي غَيْرِ الْحَرِّ وَالْغَيْمِ، خِلَافًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ وَجَابِرٍ، وَغَيْرِهِمَا، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَا مِنْ عُمَرَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ الْأَخِيرُ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَمَّا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْإِبْرَادِ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ، يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالْإِبْرَادُ بِهَا فِي الْحَرِّ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحُرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا عَامٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: شِدَّةُ الْحَرِّ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْبُلْدَانِ الْحَارَّةِ وَمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَأَمَّا مَنْ صَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ بِفِنَاءِ بَيْتِهِ، فَالْأَفْضَلُ تَعْجِيلُهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِيَنْكَسِرَ الْحَرُّ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحِيطَانِ، وَيَكْثُرَ السَّعْيُ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَمَنْ لَا يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّأْخِيرِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبُلْدَانِ الْحَارَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الْمَسْجِدِ يَنْتَابُهُ النَّاسُ أَوْ لَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَانَ يُؤَخِّرُهَا فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى. وَمَعْنَى الْإِبْرَادِ بِهَا، تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَنْكَسِرَ الْحَرُّ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحِيطَانِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَبْرِدْ، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ» وَهَذَا إنَّمَا يَكُنْ مَعَ كَثْرَةِ تَأْخِيرِهَا، وَلَا يُؤَخِّرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا، بَلْ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتٍ إذَا فَرَغَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ فَضْلٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: «كَانَ قَدْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إلَى تِسْعَةِ أَقْدَامٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَيُسَنُّ تَعْجِيلُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ إبْرَادٍ؛ لِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، قَالَ: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ أَخَّرَهَا، بَلْ كَانَ يُعَجِّلُهَا، حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ التَّبْكِيرُ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ لَهَا، فَلَوْ أَخَّرَهَا لَتَأَذَّى النَّاسُ بِتَأْخِيرِ الْجُمُعَةِ. [فَصْل تَأْخِيرُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْغَيْمِ وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فِيهِ] (535) فَصْلٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْغَيْمِ، وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فِيهِ. قَالَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ؛ مِنْهُمْ الْمَرُّوذِيُّ فَقَالَ: يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ، وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ، وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ وَعَلَّلَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَقْتٌ يُخَافُ مِنْهُ الْعَوَارِضُ وَالْمَوَانِعُ؛ مِنْ الْمَطَرِ، وَالرِّيحِ، وَالْبَرْدِ، فَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِي الْخُرُوجِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَفِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ، وَتَعْجِيلِ الثَّانِيَةِ، دَفْعٌ لِهَذِهِ الْمَشَقَّةِ؛ لِكَوْنِهِ يَخْرُجُ إلَيْهِمَا خُرُوجًا وَاحِدًا، فَيَحْصُلُ بِهِ الرِّفْقُ، كَمَا يَحْصُلُ بِجَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: يُعَجِّلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الظُّهْرِ فِي غَيْرِ الْحَرِّ، وَالْمَغْرِبِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ بِاجْتِهَادِهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّعْجِيلُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنَّمَا أَرَادَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ لِيَتَيَقَّنَ دُخُولَ وَقْتِهِمَا، وَلَا يُصَلِّي مَعَ الشَّكِّ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَالَ: يَوْمُ الْغَيْمِ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنَّهَا قَدْ حَانَتْ، وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ. [فَصْل تَعْجِيلُ صَلَاةِ الْعَصْرِ] (536) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَعْجِيلُهَا مُسْتَحَبٌّ بِكُلِّ حَالٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَنَسٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا سُمِّيت الْعَصْرُ لِتُعْصَرَ. يَعْنِيَانِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْأَفْضَلُ فِعْلُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فِي آخِرِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ؛ لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِتَأْخِيرِ الْعَصْرِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ، قَالَ: «قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ مَا دَامَتْ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتَيْ جَمْعٍ، فَاسْتُحِبَّ تَأْخِيرُهَا كَصَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ، وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعَصْرِ، ثُمَّ يُنْحَرُ الْجَزُورُ، فَيُقْسَمُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ يُطْبَخُ فَيُؤْكَلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: " صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْنَا يَا أَبَا عُمَارَةَ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْت؟ قَالَ: الْعَصْرُ وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا الصَّلَاةَ لِلْعَصْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ اللَّهِ» يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ رَافِعٍ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَلَا يَصِحُّ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يَرْوِيهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَافِعٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ رَافِعٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُمْ تَعْجِيلُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالتَّبْكِيرُ بِهَا. [فَصْل اسْتِحْبَابُ تَقْدِيم الْمَغْرِبُ] (537) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِهَا فِي غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّيهَا إذَا وَجَبَتْ، وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْمَغْرِبَ سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، إذَا غَابَ حَاجِبُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَفِعْلُ جِبْرِيلَ لَهَا فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِهَا. [فَصْل اسْتِحْبَابُ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ] (538) فَصْلٌ: وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا إنْ لَمْ يَشُقَّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَقْدِيمُهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَقْتُ الْأَوَّلُ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ اللَّهِ» وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ بَعْضِ أُمَّهَاتِهِ، عَنْ أُمِّ فَرْوَةَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُؤَخِّرُهَا، وَإِنَّمَا أَخَّرَهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ. وَلَنَا قَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَحَادِيثُهُمْ ضَعِيفَةٌ. أَمَّا خَبَرُ " الْوَقْتُ الْأَوَّلُ رِضْوَانُ اللَّهِ " فَيَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُ أُمِّ فَرْوَةَ رُوَاتُهُ مَجَاهِيلُ، قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَعْلَمْ شَيْئًا ثَبَتَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ: أَوَّلُهَا كَذَا، وَأَوْسَطُهَا كَذَا، وَآخِرُهَا كَذَا يَعْنِي مَغْفِرَةً وَرِضْوَانًا، وَقَالَ: لَيْسَ ذَا ثَابِتًا. وَلَوْ ثَبَتَ فَالْأَخْذُ بِأَحَادِيثِنَا الْخَاصَّةِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِالْعُمُومِ، مَعَ صِحَّةِ أَخْبَارِنَا، وَضَعْفِ أَخْبَارِهِمْ. (539) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا لِلْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةُ رَاضِينَ بِالتَّأْخِيرِ؛ فَأَمَّا مَعَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ فَلَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ يُكْرَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَمْ قَدْرُ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ؟ فَقَالَ مَا قَدْ بَعُدَ أَنْ لَا يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. وَقَدْ تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ، وَالْأَمْرَ بِتَأْخِيرِهَا، كَرَاهِيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّتِي شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَإِنَّمَا نُقِلَ التَّأْخِيرُ عَنْهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ لِشُغْلٍ، أَوْ إتْيَانِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا، عَلَى مَا رَوَاهُ جَابِرٌ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ. وَعَلَى مَا رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ. فَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إحْدَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا تَأْخِيرًا يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّخْفِيفِ، رِفْقًا بِالْمَأْمُومِينَ، وَقَالَ: «إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُهَا كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 [فَصْلٌ التَّغْلِيسُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ أَفْضَلُ] (540) فَصْلٌ: وَأَمَّا صَلَاةُ الصُّبْحِ فَالتَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُغَلِّسُونَ، وَمُحَالٌ أَنْ يَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ، وَيَأْتُوا الدُّونَ، وَهُمْ النِّهَايَةُ فِي إتْيَانِ الْفَضَائِلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ أَسْفَرُوا فَالْأَفْضَلُ الْإِسْفَارُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْعِشَاءِ، كَمَا ذَكَرَ جَابِرٌ، فَكَذَلِكَ فِي الْفَجْرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْأَفْضَلُ الْإِسْفَارُ؛ لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي بَرْزَةَ، وَقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَلَّسَ بِالصُّبْحِ، ثُمَّ أَسْفَرَ مَرَّةً، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْفَارِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَا صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً لِوَقْتِهَا الْآخِرِ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ» . وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ. فَأَمَّا الْإِسْفَارُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِهِمْ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَيَنْكَشِفَ يَقِينًا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسْفَرَتْ الْمَرْأَةُ، إذَا كَشَفَتْ وَجْهَهَا. [فَصْلٌ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا] (541) فَصْلٌ: وَلَا يَأْثَمُ بِتَعْجِيلِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا، وَلَا بِتَأْخِيرِ مَا يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهُ، إذَا أَخَّرَهُ عَازِمًا عَلَى فِعْلِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ، أَوْ يَضِيقُ عَنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّاهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، وَصَلَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ «وَقَالَا: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مُوَسَّعٌ فَهُوَ كَالتَّكْفِيرِ، يَجِبُ مُوَسَّعًا بَيْنَ الْأَعْيَانِ، فَإِنْ أَخَّرَ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ أَثِمَ بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَزْمِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ أَثِمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ، كَالْأُولَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 (542) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا بِنِيَّةِ فِعْلِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهَا، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، وَالْمَوْتُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ. [فَصْلٌ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ] (543) فَصْلٌ: وَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، لَمْ يَجُزْ صَلَاتُهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كُلَّ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضَهَا. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمَا أَعَادَا الْفَجْرَ، لِأَنَّهُمَا صَلَّيَاهَا قَبْلَ الْوَقْتِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، يُجْزِئُهُ. وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ. وَعَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ فِيمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، يُعِيدُ مَا كَانَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ عِلْمِهِ، أَوْ ذَكَرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّلَاةِ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمُكَلَّفِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَمَا وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُزِيلُهُ وَيُبْرِئُ الذِّمَّةَ مِنْهُ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ. [مَسْأَلَة حُكْم الصَّلَاة إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ] (544) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، صَلَّوْا الظُّهْرَ فَالْعَصْرَ، وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، صَلَّوْا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ) وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ قَالَ: لَا تَجِبُ إلَّا الصَّلَاةُ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا وَحْدَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْأُولَى خَرَجَ فِي حَالِ عُذْرِهَا، فَلَمْ تَجِبْ كَمَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ قَدْرَ خَمْسِ رَكَعَاتٍ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَجَبَتْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَدْرَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْخَمْسِ وَقْتٌ لِلصَّلَاةِ الْأُولَى فِي حَالِ الْعُذْرِ، فَوَجَبَتْ بِإِدْرَاكِهِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْرَكَ دُونَ ذَلِكَ. وَلَنَا مَا رَوَى الْأَثْرَمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمَا، بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ: تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا. وَلِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْمَعْذُورُ لَزِمَهُ فَرْضُهَا، كَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الثَّانِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 [فَصْل الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فِي الصَّلَاة] (545) فَصْلٌ: وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ قَدْرُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْرُ رَكْعَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّهُ إدْرَاكٌ تَعَلَّقَ بِهِ إدْرَاكُ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَإِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: خَمْسُ رَكَعَاتٍ. وَلَنَا أَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ تَجِبُ بِهِ الثَّانِيَةُ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْأُولَى، كَالرَّكْعَةِ وَالْخَمْسِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ إدْرَاكٌ فَاسْتَوَى فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، كَإِدْرَاكِ الْمُسَافِرِ صَلَاةَ الْمُقِيمِ، فَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الرَّكْعَةُ بِكَمَالِهَا؛ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ شَرْطًا فِيهَا فَاعْتُبِرَ إدْرَاكُ رَكْعَةٍ كَيْ لَا يَفُوتَهُ شَرْطُهَا فِي مُعْظَمِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ مِنْ وَقْتِ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ قَدْرًا تَجِبُ بِهِ ثُمَّ جُنَّ] (546) فَصْلٌ: وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ مِنْ وَقْتِ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ قَدْرًا تَجِبُ بِهِ، ثُمَّ جُنَّ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَحَاضَتْ، أَوْ نَفِسَتْ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ بَعْدَ وَقْتِهَا، لَمْ تَجِبْ الثَّانِيَةُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَالْأُخْرَى: يَجِبُ وَيَلْزَمُ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا إحْدَى صَلَاتَيْ الْجَمْعِ، فَوَجَبَتْ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِ الْأُخْرَى، كَالْأُولَى. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهَا، وَلَا وَقْتِ تَبَعِهَا، فَلَمْ تَجِبْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الْأُولَى شَيْئًا، وَفَارَقَ مُدْرِكَ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ تَبَعِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْأُولَى تُفْعَلُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مَتْبُوعَةً مَقْصُودَةً يَجِبُ تَقْدِيمُهَا، وَالْبِدَايَةُ بِهَا، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْأُولَى، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْجَمْعَ إلَّا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَيْسَ وَقْتُ الْأُولَى عِنْدَهُ وَقْتًا لِلثَّانِيَةِ بِحَالٍ، فَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَشَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، وَوَقْتُ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لَهُمَا جَمِيعًا، لِجَوَازِ فِعْلِ الْأُولَى فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَمَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ تَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ رُخْصَةً تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، وَتَرْكِ التَّفْرِيقِ، وَمَتَى أَخَّرَ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ كَانَتْ مَفْعُولَةً لَا وَاجِبَةً، لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا، وَلَا يَجِبُ نِيَّةُ جَمْعِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا تَجِبَ صَلَاةٌ إلَّا بِإِدْرَاكِ وَقْتِهَا. [فَصْل الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا كَافِرٍ وَلَا حَائِضٍ] (547) فَصْلٌ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا كَافِرٍ، وَلَا حَائِضٍ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْقَضَاءِ بِهَذِهِ الْحَالِ مَعْنًى، وَهَذَا الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ. فَأَمَّا الْحَائِضُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا فِي بَابِهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنْ كَانَ أَصْلِيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَأَسْلَمَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَبَعْدَهُ، فَلَمْ يُؤْمَرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أَحَدٌ مِنْهُمْ بِقَضَاءٍ، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ تَنْفِيرًا عَنْ الْإِسْلَامِ، فَعُفِيَ عَنْهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خِطَابِهِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، مَعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا عَنْ أَحْمَدَ، فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَلَا فِي حَالِ إسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ قَدْ حَبِطَ بِكُفْرِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . فَصَارَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ. وَالثَّانِيَةُ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، وَإِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا يَحْبَطُ بِالْإِشْرَاكِ مَعَ الْمَوْتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] . فَشَرَطَ الْأَمْرَيْنِ لِحُبُوطِ الْعَمَلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ وَقَدَرَ عَلَى التَّسَبُّبِ إلَى أَدَائِهَا، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، كَالْمُحْدِثِ. وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً ثَالِثَةً، أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا تَرَكَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهَا لِكُفْرِهِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي إسْلَامِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَمُخَاطَبًا بِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَبَقِيَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ. قَالَ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْحَجِّ إنْ كَانَ قَدْ حَجَّ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ مِنْهُ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي إسْلَامِهِ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةِ لَوْ أَسْقَطَتْ حَجَّهُ وَأَبْطَلَتْهُ، لَأَبْطَلَتْ سَائِرَ عِبَادَاتِهِ الْمَفْعُولَةِ قَبْلَ رِدَّتِهِ. (548) فَصْلٌ: فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَشْرًا وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى قَوْلِنَا إنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، مَتَى صَلَّى فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ بَلَغَ فِيهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، وَفِي أَثْنَائِهَا، فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهَا، كَالْبَالِغِ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَقَبْلَ سَبَبِ وُجُوبِهَا، فَلَمْ تَجْزِهِ عَمَّا وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وَلِأَنَّهُ صَلَّى نَافِلَةً، فَلَمْ تَجْزِهِ عَنْ الْوَاجِبِ، كَمَا لَوْ نَوَى نَفْلًا، وَلِأَنَّهُ بَلَغَ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ وَبَعْدَ فِعْلِهَا، فَلَزِمَتْهُ إعَادَتُهَا كَالْحَجِّ، وَوَظِيفَةُ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْبَالِغِ ظُهْرًا وَاجِبَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا. [فَصْلٌ الْمَجْنُونُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ] (549) فَصْلٌ: وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَالِ جُنُونِهِ، إلَّا أَنْ يُفِيقَ وَقْتَ الصَّلَاةِ، فَيَصِيرَ كَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ غَالِبًا، فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ. [مَسْأَلَة الْمُغْمَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّائِمِ] (550) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إغْمَائِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّائِمِ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى النَّائِمِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يُغْمَى عَلَيْهِ، فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ، فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا، فَيُصَلِّيَهَا» . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا، وَإِنْ زَادَتْ سَقَطَ فَرْضُ الْقَضَاءِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّكْرَارِ، فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ، كَالْجُنُونِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ، أَنَّ عَمَّارًا غُشِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي، ثُمَّ اسْتَفَاقَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: هَلْ صَلَّيْتُ؟ فَقِيلَ: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلَاثٍ. فَقَالَ: أَعْطُونِي وَضُوءًا، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ، أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، قَالَ: الْمُغْمَى عَلَيْهِ - يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، أَوْ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ - يُصَلِّي مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَاةً مِثْلَهَا قَالَ: قَالَ عِمْرَانُ: زَعْمٌ، وَلَكِنْ لِيُصَلِّهِنَّ جَمِيعًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي " سُنَنِهِ ". وَهَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ النَّوْمَ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَبَاطِلٌ يَرْوِيهِ الْحَاكِمُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَدْ نَهَى أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَنْ حَدِيثِهِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: تَرَكُوهُ. وَفِي إسْنَادِهِ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ غَالِبًا، وَقَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ صِيَامٌ، وَلَا شَيْءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَالْإِغْمَاءُ بِخِلَافِهِ، وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الْخَمْسِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الزَّائِدِ عَلَيْهَا، كَالنَّوْمِ. [فَصْلٌ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عَقْلُهُ بِهِ] (551) فَصْلٌ: وَمَنْ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عَقْلُهُ بِهِ نَظَرْتَ؛ فَإِنْ كَانَ زَوَالًا لَا يَدُومُ كَثِيرًا، فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَتَطَاوَلُ، فَهُوَ كَالْجُنُونِ. وَأَمَّا السُّكْرُ، وَمَنْ شَرِبَ مُحَرَّمًا يُزِيلُ عَقْلَهُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ التَّكْلِيفِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالنَّوْمِ الْمُبَاحِ، فَبِالسُّكْرِ الْمُحَرَّمِ أَوْلَى. [فَصْلٌ مَا فِيهِ السُّمُومُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ] (552) فَصْلٌ: وَمَا فِيهِ السُّمُومُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ؛ إنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ الْهَلَاكَ بِهِ، أَوْ الْجُنُونَ، لَمْ يُبَحْ شُرْبُهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ وَيُرْتَجَى مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، فَالْأَوْلَى إبَاحَةُ شُرْبِهِ، لِدَفْعِ مَا هُوَ أَخْطَرُ مِنْهُ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُبَاحَ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، فَلَمْ يُبَحْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّدَاوِيَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ يُخَافُ مِنْهُ، وَقَدْ أُبِيحَ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ، فَإِذَا قُلْنَا يَحْرُمُ شُرْبُهُ، فَهُوَ كَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ قُلْنَا يُبَاحُ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَاحَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [بَاب الْأَذَان] ِ الْأَذَانُ إعْلَامٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أَيْ: إعْلَامٌ، وَ: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ، فَاسْتَوَيْنَا فِي الْعِلْمِ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ أَيْ: أَعْلَمَتْنَا. وَالْأَذَانُ الشَّرْعِيُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمَعْلُومُ الْمَشْرُوعُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِلْإِعْلَامِ بِوَقْتِهَا. وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «إذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك، أَوْ بَادِيَتِك، فَأَذَّنْت بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ أُرَاهُ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَغْبِطُهُمْ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، رَجُلٌ نَادَى بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ وَرَجُلٌ يَؤُمُّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [فَصْلٌ هَلْ الْأَذَانُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِمَامَةِ] (553) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ، هَلْ الْأَذَانُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِمَامَةِ، أَوْ لَا؟ فَرُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ، وَلَمْ يَتَوَلَّوْا الْأَذَانَ، وَلَا يَخْتَارُونَ إلَّا الْأَفْضَلَ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ أَكْمَلُ حَالًا وَأَفْضَلُ، وَاعْتِبَارُ فَضِيلَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْزِلَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ: الْأَذَانُ أَفْضَلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فِي فَضِيلَتِهِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالْأَمَانَةُ أَعْلَى مِنْ الضَّمَانِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَعْلَى مِنْ الْإِرْشَادِ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ؛ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَأَذَّنْتُ ". وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (554) فَصْلٌ: وَالْأَصْلُ فِي الْأَذَانِ، مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، قَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِجَمْعِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ، طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى، فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: تَقُولُ إذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: إنَّهَا رُؤْيَا حَقٌّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ، فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ، وَيُؤَذِّنُ بِهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ آخِرَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. [مَسْأَلَة صِفَة الْأَذَان] (555) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَيَذْهَبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهَ، إلَى أَذَانِ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ اخْتِيَارَ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مِنْ الْأَذَانِ أَذَانُ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْخِرَقِيِّ. وَجَاءَ فِي خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ كِلْمَةً، لَا تَرْجِيعَ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الرَّأْيِ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ: الْأَذَانُ الْمَسْنُونُ أَذَانُ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَهُوَ مِثْلُ مَا وَصَفْنَا، إلَّا أَنَّهُ يُسَنُّ التَّرْجِيعُ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، يَخْفِضُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُمَا رَافِعًا بِهِمَا صَوْتَهُ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: التَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَانِ حَسْبُ، فَيَكُونُ الْأَذَانُ عِنْدَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَّنَهُ الْأَذَانَ، وَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَك، ثُمَّ تَرْفَعُ صَوْتَك بِالشَّهَادَةِ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.» ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْأَذَانِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ، قَالَ: كَانَ الْأَذَانُ الَّذِي يُؤَذِّنُ بِهِ أَبُو مَحْذُورَةَ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَذَانِهِ بَعْدَ أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: إلَى أَيِّ الْأَذَانِ يَذْهَبُ؟ قَالَ: إلَى أَذَانِ بِلَالٍ، رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ وَصَفَهُ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ بَعْدَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي مَحْذُورَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ؛ فَأَقَرَّ بِلَالًا عَلَى أَذَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ؟ وَهَذَا مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ رَجَّعَ فَلَا بَأْسَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ فَإِنَّ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ بِذِكْرِ الشَّهَادَتَيْنِ سِرًّا، لِيَحْصُلَ لَهُ الْإِخْلَاصُ بِهِمَا، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ فِي الْإِسْرَارِ بِهِمَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمَا إعْلَانًا لِلْإِعْلَامِ، وَخَصَّ أَبَا مَحْذُورَةَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِمَا حِينَئِذٍ، فَإِنَّ فِي الْخَبَرِ «أَنَّهُ كَانَ مُسْتَهْزِئًا يَحْكِي أَذَانَ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتَهُ، فَدَعَاهُ، فَأَمَرَهُ بِالْأَذَانِ، قَالَ: وَلَا شَيْءَ عِنْدِي أَبْغَضُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِمَّا يَأْمُرُنِي بِهِ» . فَقَصَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُطْقَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ سِرًّا لِيُسْلِمَ بِذَلِكَ وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي غَيْرِهِ، وَدَلِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ كَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِهِ بِلَالًا، وَلَا غَيْرَهُ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمًا ثَابِتَ الْإِسْلَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة صِفَة الْإِقَامَة] (556) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَالْإِقَامَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِقَامَةُ مِثْلُ الْأَذَانِ، وَيَزِيدُ الْإِقَامَةَ مَرَّتَيْنِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 بْنِ زَيْدٍ، «أَنَّ الَّذِي عَلَّمَهُ الْأَذَانَ أَمْهَلَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِقَامَةُ عَشْرُ كَلِمَاتٍ، تَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ.» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ وَصَفَ الْإِقَامَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا. فَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الصَّحِيحُ مِثْلُ مَا رَوَيْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: " ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، وَجَعَلَهَا وِتْرًا، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ". وَهَذِهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَشْرُوحَةِ. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي تَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ كَانَ الْأَخْذُ بِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ تَقْدِيمِهِ فِي الْأَذَانِ، وَكَذَا فِي الْإِقَامَةِ، وَخَبَرُ أَبِي مَحْذُورَةَ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي التَّرْجِيعِ فِي الْإِقَامَةِ، وَلِذَلِكَ عَمِلْنَا نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِخَبَرِهِ فِي الْأَذَانِ، وَأَخَذَ بِأَذَانِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَهُمَا يَرَيَانِ إفْرَادَ الْإِقَامَةِ. [مَسْأَلَة آدَابِ الْأَذَانِ وَمُسْتَحَبَّاته] (557) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَرَسَّلُ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدُرُ الْإِقَامَةَ) التَّرَسُّلُ التَّمَهُّلُ وَالتَّأَنِّي. مِنْ قَوْلِهِمْ: جَاءَ فُلَانٌ عَلَى رِسْلِهِ. وَالْحَدْرُ: ضِدُّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ، وَقَطْعُ التَّطْوِيلِ وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْأَذَانِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: إذَا أَذَّنْت فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَأَصْلُ الْحَذْمِ فِي الْمَشْيِ إنَّمَا هُوَ الْإِسْرَاعُ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ هَذَا كَأَنَّهُ يَهْوِي بِيَدَيْهِ إلَى خَلْفِهِ. وَلِأَنَّ هَذَا مَعْنًى يَحْصُلُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَاسْتُحِبَّ، كَالْإِفْرَادِ، وَلِأَنَّ، الْأَذَانَ إعْلَامُ الْغَائِبِينَ، وَالتَّثْبِيتُ فِيهِ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، وَالْإِقَامَةَ إعْلَامُ الْحَاضِرِينَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّثَبُّتِ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 (558) فَصْلٌ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أَنَّهُ حَالَ تَرَسُّلِهِ وَدَرَجِهِ، لَا يَصِلُ الْكَلَامَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مُعْرَبًا، بَلْ جَزْمًا. وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: شَيْئَانِ مَجْزُومَانِ كَانُوا لَا يُعْرِبُونَهُمَا؛ الْأَذَانُ، وَالْإِقَامَةُ، قَالَ: وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى جَمَاعَتِهِمْ. [مَسْأَلَة التَّثْوِيبُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ] (559) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ. مَرَّتَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ. مَرَّتَيْنِ، بَعْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَيُسَمَّى التَّثْوِيبَ. وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّثْوِيبُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ، أَنْ يَقُولَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، مَرَّتَيْنِ. حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. مَرَّتَيْنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى النَّسَائِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، قَالَ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي سُنَّةَ الْأَذَانِ، فَذَكَرَهُ، إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ: فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، قُلْت: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَمَا ذَكَرُوهُ، فَقَالَ إِسْحَاقُ: هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمَّا سَمِعَهُ. [فَصْلٌ التَّثْوِيبُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ] (560) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ التَّثْوِيبُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ، سَوَاءٌ ثَوَّبَ فِي الْأَذَانِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ بِلَالٍ، أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ، وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ، فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ. وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَقْتٌ يَنَامُ فِيهِ عَامَّةُ النَّاسِ، وَيَقُومُونَ إلَى الصَّلَاةِ عَنْ نَوْمٍ، فَاخْتُصَّتْ بِالتَّثْوِيبِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِالْحَاجَةِ إلَيْهِ. [فَصْل الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ] (561) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ إلَّا لِعُذْرٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ، أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. قَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: كُنَّا قُعُودًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ، لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. فَأَمَّا الْخُرُوجُ لِعُذْرٍ فَمُبَاحٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَرَجَ مِنْ أَجْلِ التَّثْوِيبِ فِي غَيْرِ حِينِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَوَى الرَّجْعَةَ؛ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [مَسْأَلَة الْأَذَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ] (562) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَذَّنَ لِغَيْرِ الْفَجْرِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَعَادَ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ) . (563) فَصْلٌ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي أَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ لَا يُجْزِئُ. وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذَّنَ لِلصَّلَوَاتِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، إلَّا الْفَجْرَ. وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ، فَلَا يُشْرَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ، لِئَلَّا يُذْهِبَ مَقْصُودَهُ. [فَصْلٌ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ وَقْتِهَا] (564) فَصْلٌ: الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ يُشْرَعُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ وَقْتِهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ، أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ» وَعَنْ بِلَالٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَيْهِ عَرْضًا» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إذَا كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ، يُؤَذِّنُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ يَحْصُلُ إعْلَامُ الْوَقْتِ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ، فَثَبَتَ جَوَازُهُ وَرَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ، قَالَ «لَمَّا كَانَ أَوَّلُ أَذَانِ الصُّبْحِ أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذَّنْتُ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أُقِيمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، وَيَقُولُ: لَا. حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَزَلَ، فَبَرَزَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيَّ وَقَدْ تَلَاحَقَ أَصْحَابُهُ، فَتَوَضَّأَ، فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ قَالَ: فَأَقَمْتُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا قَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَذَانِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ، فَإِنَّ زِيَادًا أَذَّنَ وَحْدَهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، قَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَرْوِهِ إلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والدراوردي، فَخَالَفَاهُ، وَقَالَا: مُؤَذِّنٌ لِعُمَرَ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: أَخْطَأَ فِيهِ، يَعْنِي حَمَّادًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَحَدِيثُهُمْ الْآخَرُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَقُومُ بِهِ وَلَا بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ؛ لِضَعْفِهِ وَانْقِطَاعِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْفَجْرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ، لِيَنْتَبِهَ النَّاسُ، وَيَتَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ؛ لِيَنْتَبِهَ نَائِمُكُمْ، وَيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْوَقْتِ كَثِيرًا، إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا كَانَ بَيْنَ أَذَانِهِ وَأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَصْعَدَ هَذَا» . وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ لَا يُؤَذِّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُؤَذِّنٌ آخَرُ يُؤَذِّنُ إذَا أَصْبَحَ. كَفِعْلِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْإِعْلَامُ بِالْوَقْتِ الْمَقْصُودِ بِالْأَذَانِ، فَإِذَا كَانَا مُؤَذِّنَيْنِ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِالْوَقْتِ بِالثَّانِي، وَبِقُرْبِهِ بِالْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ لَا يُؤَذِّنُ فِي الْوَقْتِ تَارَةً وَقَبْلَهُ أُخْرَى] فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَنْ يَجْعَلَ أَذَانَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي اللَّيَالِي كُلِّهَا؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، فَيَعْرِفُوا الْوَقْتَ بِأَذَانِهِ، وَلَا يُؤَذِّنُ فِي الْوَقْتِ تَارَةً وَقَبْلَهُ أُخْرَى، فَيَلْتَبِسَ عَلَى النَّاسِ وَيَغْتَرُّوا بِأَذَانِهِ، فَرُبَّمَا صَلَّى بَعْضُ مَنْ سَمِعَهُ الصُّبْحَ بِنَاءً عَلَى أَذَانِهِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَرُبَّمَا، امْتَنَعَ الْمُتَسَحِّرُ مِنْ سَحُورِهِ، وَالْمُتَنَفِّلُ مِنْ صَلَاتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَذَانِهِ وَمَنْ عَلِمَ لَا يَسْتَفِيدُ بِأَذَانِهِ فَائِدَةً؛ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ. وَلَا يُقَدِّمُ الْأَذَانَ كَثِيرًا تَارَةً وَيُؤَخِّرُهُ أُخْرَى، فَلَا يُعْلَمُ الْوَقْتُ بِأَذَانِهِ، فَتَقِلُّ فَائِدَتُهُ. [فَصْلٌ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ بَعْدَ نَصِفْ اللَّيْلِ] (566) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَيَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخْرُجُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْمُخْتَارُ، وَيَدْخُلُ وَقْتُ الدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ؛ وَوَقْتُ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ يُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي السَّحَرِ بِقَدْرِ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ سِتَّةَ أَمْيَالٍ، فَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَكْحُولٌ، وَلَا يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا. [فَصْلٌ الْأَذَانُ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَان] (567) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْأَذَانُ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، لِئَلَّا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِهِ فَيَتْرُكُوا سَحُورَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكْرَهَ فِي حَقِّ مَنْ عَرَفَ عَادَتَهُ بِالْأَذَانِ فِي اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أُمِّ مَكْتُومٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، لِيَنْتَبِهَ نَائِمُكُمْ وَيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ» . [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ] (568) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ، فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلَاةِ. وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ لَا يُؤَخِّرُ الْأَذَانَ عَنْ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا أَخَّرَ الْإِقَامَةَ شَيْئًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ، لَا يُؤَخِّرُ، ثُمَّ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ حِينَ يَرَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، بِقَدْرِ الْوُضُوءِ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، يَتَهَيَّئُونَ فِيهَا، وَفِي الْمَغْرِبِ يَفْصِلَ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يُسَنُّ فِي الْمَغْرِبِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ " بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا بِلَالُ، اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك نَفَسًا، يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ فِي مَهَلٍ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فِي مَهَلٍ» . وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَرَوَى تَمَّامٌ فِي " فَوَائِدِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جُلُوسُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ» . قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: رَأَيْت أَحْمَدَ خَرَجَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ، فَحِينَ انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ الصَّفِّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، فَجَلَسَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَبِلَالٌ فِي الْإِقَامَةِ، فَقَعَدَ» وَقَالَ أَحْمَدُ: يَقْعُدُ الرَّجُلُ مِقْدَارَ رَكْعَتَيْنِ إذَا أُذِّنَ الْمَغْرِبُ. قِيلَ مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ وَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مُشَرَّعٌ لِلْإِعْلَامِ، فَيُسَنُّ الِانْتِظَارُ لِيُدْرِكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَيَتَهَيَّئُوا لَهَا، دَلِيلُهُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ. [مَسْأَلَة لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْجَنَابَة] مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَا يَسْتَحِبُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُؤَذِّنَ إلَّا طَاهِرًا، فَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا أَعَادَ) الْمُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْجَنَابَةِ جَمِيعًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُؤَذِّنُ إلَّا مُتَوَضِّئٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا، عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ. فَإِنْ أَذَّنَ مُحْدِثًا جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالطَّهَارَةُ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ لَهُ. وَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَالْأُخْرَى، يُعْتَدُّ بِهِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ، فَلَمْ يُمْنَعُ صِحَّتُهُ كَالْآخَرِ. وَوَجْهُ الْأُولَى مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حَقٌّ وَسُنَّةٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ» ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ الْقُرْآنَ وَالْخُطْبَةَ. [فَصْلٌ مِمَّنْ يَصِحُّ الْأَذَانُ] (570) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ ذَكَرٍ، فَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ. وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ يُشْرَعُ لَهُ الْأَذَانُ، فَأَشْبَهَتْ الْمَجْنُونَ، وَلَا الْخُنْثَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجُلًا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَالْبُلُوغُ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فِي الصَّبِيِّ، وَوَجْهَيْنِ فِي الْفَاسِقِ: إحْدَاهُمَا: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ صَبِيٍّ وَلَا فَاسِقٍ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِقَوْلِهِمَا، لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ. وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: «لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» . وَالثَّانِيَةُ: يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيِّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عُمُومَتِي يَأْمُرُونَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ لَهُمْ وَأَنَا غُلَامٌ، وَلَمْ أَحْتَلِمْ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ شَاهِدٌ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ وَلَا يَخْفَى، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، فَاعْتُدَّ بِأَذَانِهِ، كَالْعَدْلِ الْبَالِغِ. وَلَا خِلَافَ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَذَانِ مَنْ هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ هُوَ ظَاهِرُ الْفِسْقِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَدْلًا أَمِينًا بَالِغًا لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَغُرَّهُمْ بِأَذَانِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يُؤَذِّنُ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ، فَلَا يُؤْمَنُ مِنْهُ النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ. وَفِي الْأَذَانِ الْمُلَحَّنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْهُ، فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُلَحَّنِ. وَالْآخَرُ، لَا يَصِحُّ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ، فَإِنْ كَانَ أَذَانُك سَهْلًا سَمْحًا، وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 [فَصْلٌ أَذَان الْأَعْمَى] (571) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بَصِيرًا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْوَقْتَ، فَرُبَّمَا غَلِطَ، فَإِنْ أَذَّنَ الْأَعْمَى صَحَّ أَذَانُهُ فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: كَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ " أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ بَصِيرٌ يُعَرِّفُهُ الْوَقْتَ، أَوْ يُؤَذِّنَ بَعْدَ مُؤَذِّنٍ بَصِيرٍ، كَمَا كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بَعْدَ أَذَانِ بِلَالٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَوْقَاتِ؛ لِيَتَحَرَّاهَا، فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَرُبَّمَا غَلِطَ وَأَخْطَأَ. فَإِنْ أَذَّنَ الْجَاهِلُ صَحَّ أَذَانُهُ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ أَذَانُ الْأَعْمَى فَالْجَاهِلُ أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، يُسْمِعُ النَّاسَ «وَاخْتَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا مَحْذُورَةَ لِلْأَذَانِ» لِكَوْنِهِ صَيِّتًا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ؛ لِأَنَّهُ أَرَقُّ لِسَامِعِهِ. [فَصْلٌ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ] (572) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَكَرِهَهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ لِفَاعِلِهِ، لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، فَلَمْ يَسْتَأْجِرْهُ عَلَيْهِ كَالْإِمَامَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ، يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إلَيْهِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُدْفَعْ الرِّزْقُ فِيهِ يُعَطَّلُ، وَيَرْزُقُهُ الْإِمَامُ مِنْ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعَدُّ لِلْمَصَالِحِ، فَهُوَ كَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْغُزَاةِ، وَإِنْ وُجِدَ مُتَطَوِّعٌ بِهِ لَمْ يَرْزُقْ غَيْرَهُ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. [فَصْل يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ] (573) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا فَرْقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُهُ، وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ. قَالَ: أَقِمْ أَنْتَ» . وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلَّاهُمَا مَعًا وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ «إنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» . وَلِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنْ الذِّكْرِ، يَتَقَدَّمَانِ الصَّلَاةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلَّاهُمَا وَاحِدٌ، كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَهَذَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنْ سُبِقَ الْمُؤَذِّنُ بِالْأَذَانِ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَوْ أَعَادَ الْأَذَانَ كَمَا صَنَعَ أَبُو مَحْذُورَةَ، كَمَا رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا أَذَّنَ قَبْلَ أَبِي مَحْذُورَةَ قَالَ: فَجَاءَ أَبُو مَحْذُورَةَ فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ. أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ. فَإِنْ أَقَامَ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِيمَ فِي مَوْضِعِ أَذَانِهِ] (574) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِيمَ فِي مَوْضِعِ أَذَانِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُقِيمَ فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ إلَّا حَدِيثَ بِلَالٍ: " لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ " يَعْنِي لَوْ كَانَ يُقِيمُ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ، لَمَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ بِالتَّأْمِينِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ شُرِعَتْ لِلْإِعْلَامِ، فَشُرِعَتْ فِي مَوْضِعِهِ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْإِعْلَامِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا إذَا سَمِعْنَا الْإِقَامَةَ تَوَضَّأْنَا ثُمَّ خَرَجْنَا إلَى الصَّلَاةِ. إلَّا أَنْ يُؤَذِّنَ فِي الْمَنَارَةِ أَوْ مَكَان بَعِيدٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَيُقِيمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، لِئَلَّا يَفُوتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ الْمُؤَذِّنُ أُمْلَكُ بِالْأَذَانِ وَالْإِمَامُ أُمْلَكُ بِالْإِقَامَةِ] (575) فَصْلٌ: وَلَا يُقِيمُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّ بِلَالًا كَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُقِيمُ أُقِيمُ؟ . وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْمُؤَذِّنُ أَمْلَكُ بِالْأَذَانِ، وَالْإِمَامُ أَمْلَكُ بِالْإِقَامَةِ. [مَسْأَلَة حُكْم تَرْكُ الْأَذَانِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُعِيدُ) يُكْرَهُ تَرْكُ الْأَذَانِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ صَلَوَاتُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، وَأَمَرَ بِهِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَرَجُلٌ نُوَدِّعُهُ، فَقَالَ: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَهُ مَكْرُوهًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. وَهَذَا قَوْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ فَرْضٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ مَالِكًا وَصَاحِبَهُ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَى فِعْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ فَرْضًا كَالْجِهَادِ فَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ إذَا قَامَ بِهِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكْتَفِي بِهِ. وَإِنْ صَلَّى مُصَلٍّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، أَنَّهُمَا قَالَا: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَصَلَّى بِنَا، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَطَاءً، قَالَ: وَمَنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ يُعِيدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ قَالَ مَرَّةً: يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا شُذُوذٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَحَدُ الْأَذَانَيْنِ، فَلَمْ تَفْسُدْ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا، كَالْآخَرِ. [فَصْلٌ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ] (577) فَصْلٌ: وَمَنْ أَوْجَبَ الْأَذَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ. كَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ غَيْرِ الْمِصْرِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا لِلصَّلَاةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ، لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ إلَى الصَّلَاةِ، وَيُدْرِكُوا الْجَمَاعَةَ، وَيَكْفِي فِي الْمِصْرِ أَذَانٌ وَاحِدٌ، إذَا كَانَ بِحَيْثُ يُسْمِعُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَكْفِي أَذَانٌ وَاحِدٌ فِي الْمَحَلَّةِ، وَيَجْتَزِئُ بَقِيَّتُهُمْ بِالْإِقَامَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ: يُجْزِئُهُ أَذَانُ الْمِصْرِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَسْوَدِ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ: تَكْفِيهِ الْإِقَامَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ: إنْ شَاءَ أَقَامَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَأَحْسِنْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ: " فَأَقِمْ، ثُمَّ كَبِّرْ " وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَالْأَفْضَلُ لِكُلِّ مُصَلٍّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ يُصَلِّي قَضَاءً أَوْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأَذَانِ، لَمْ يَجْهَرْ بِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ، فِي بَادِيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْجَهْرُ بِالْأَذَانِ؛ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «إذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُغِيرُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ إذَا سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وَإِلَّا أَغَارَ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْفِطْرَةِ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجْتَ مِنْ النَّارِ، فَنَظَرُوا فَإِذَا صَاحِبُ مَعَزٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى ثُمَّ يُقِيمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً] فَصْلٌ: وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى، ثُمَّ يُقِيمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنْ فَلَا بَأْسَ. قَالَ الْأَثْرَمُ؛ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ يَقْضِي صَلَاةً، كَيْفَ يَصْنَعُ فِي الْأَذَانِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ لَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ هُشَيْمٌ، جَعَلَهَا إقَامَةً إقَامَةً. قُلْت فَكَأَنَّك تَخْتَارُ حَدِيثَ هُشَيْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ زِيَادَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ يَضُرُّهُ؟ وَهَذَا فِي الْجَمَاعَةِ. فَإِنْ كَانَ يَقْضِي وَحْدَهُ كَانَ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ أَدْنَى فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ هَاهُنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فَقَضَاهَا: لِيُؤَذِّنْ، وَيُقِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، يُصَلِّيهَا كُلَّهَا. فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ، وَرَآهُ حَسَنًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلَهُ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يُقِيمُ وَلَا يُؤَذِّنُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ؛ «حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا، فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، فَصَلَّاهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ الْعَصْرَ، فَصَلَّاهَا» . وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ، وَقَدْ فَاتَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنْ رُجِيَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ أَذَّنَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ، فَلَا يُشْرَعُ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤَذِّنُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيُقِيمُ؛ لِأَنَّ مَا سُنَّ لِلصَّلَاةِ فِي أَدَائِهَا سُنَّ فِي قَضَائِهَا، كَسَائِرِ الْمَسْنُونَاتِ. وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، «أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بِلَالُ، قُمْ فَأَذِّنْ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْضًا. قَالَ: «فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّيْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مِنْ الْفَوَائِتِ صَلَاةٌ وَقَدْ أُذِّنَ لِمَا قَبْلَهَا، فَأَشْبَهَتْ الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقَضٌ بِهَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 [فَصْلٌ حُكْم الْأَذَان عِنْد الْجَمْع بَيْنَ صَلَاتَيْنِ] (579) فَصْلٌ: فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ أُولَاهُمَا، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى وَيُقِيمَ، ثُمَّ يُقِيمَ لِلثَّانِيَةِ. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَهُمَا كَالْفَائِتَتَيْنِ، لَا يَتَأَكَّدُ الْأَذَانُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا تُصَلَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَالثَّانِيَةَ مَسْبُوقَةٌ بِصَلَاةٍ قَبْلَهَا. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَجْمُوعَتَيْنِ: لَا يُقِيمُ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ «ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. صَحِيحٌ» . وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤَذِّنُ لِلْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَيُقِيمُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا صَلَاةٌ يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ، وَهِيَ مَفْعُولَةٌ فِي وَقْتِهَا، فَيُؤَذِّنُ لَهَا كَالْأُولَى. وَلَنَا عَلَى الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، مَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا، فَيُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ كَمَا لَوْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ، فَلَا بَأْسَ؛ لِحَدِيثٍ آخَرَ، وَلِأَنَّ الْأُولَى مَفْعُولَةٌ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْفَائِتَةَ، وَالثَّانِيَةَ مِنْهُمَا مَسْبُوقَةٌ بِصَلَاةٍ، فَلَا يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ، كَالثَّانِيَةِ مِنْ الْفَوَائِتِ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ يُخَالِفُ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ، وَقَدْ رَوَاهُ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَذَهَبَ إلَى مَا سِوَاهُ. [فَصْلٌ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ] (580) فَصْلٌ: وَيُشْرَعُ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ لِلرَّاعِي وَأَشْبَاهِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً، إلَّا الصُّبْحَ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لَهَا وَيُقِيمُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّمَا الْأَذَانُ عَلَى الْأَمِيرِ، وَالْإِقَامَةُ عَلَى الَّذِي يَجْمَعُ النَّاسَ، وَعَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ لَا يُقِيمُ فِي أَرْضٍ تُقَامُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ: تُجْزِئُهُ الْإِقَامَةُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ فِي الْمُسَافِرِينَ: إذَا كَانُوا رِفَاقًا أَذَّنُوا وَأَقَامُوا، وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ أَقَامَ لِلصَّلَاةِ وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَعِمْرَانَ، وَزِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَمَرَ بِهِ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبَهُ، وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فِي هَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْوَاحِدَ وَحْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي كَلَامِهِ، وَالْأَذَانُ مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَلِ، يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اُنْظُرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 إلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ بِأَرْضٍ فِي (1) فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، صَلَّى خَلْفَهُ مَلَكَانِ، فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُرَى قُطْرَاهُ (2) يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ، وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ. [فَصْلٌ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صُلِّيَ فِيهِ] (581) فَصْلٌ: وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صُلِّيَ فِيهِ، فَإِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صَلَّوْا فِيهِ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي جَمَاعَةٍ. وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ؛ فَإِنَّ عُرْوَةَ قَالَ: إذَا انْتَهَيْت إلَى مَسْجِدٍ قَدْ صَلَّى فِيهِ نَاسٌ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا، فَإِنَّ أَذَانَهُمْ وَإِقَامَتَهُمْ تُجْزِئُ عَمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ، قَالَ: كَانَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمَ. وَإِذَا أَذَّنَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْفِيَ ذَلِكَ وَلَا يَجْهَرَ بِهِ؛ لِيَغُرَّ النَّاسَ بِالْأَذَانِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ. [فَصْلٌ لَيس عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ] (582) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهَلْ يُسَنُّ لَهُنَّ ذَلِكَ؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: إنْ فَعَلْنَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْنَ فَجَائِزٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِقَامَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّهَا تُقِيمُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَذَّنَّ وَأَقَمْنَ فَلَا بَأْسَ. وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَذِّنُ وَتُقِيمُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لَهَا أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا وَيُقَامَ، وَتَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا» . وَقِيلَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ» . وَلِأَنَّ الْأَذَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالْأَذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْأَذَانُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْإِقَامَةُ، كَغَيْرِ الْمُصَلِّي، وَكَمَنْ أَدْرَكَ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 [مَسْأَلَة يَجْعَلُ أَصَابِعَهُ مَضْمُومَةً عَلَى أُذُنَيْهِ فِي الْأَذَان] (583) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجْعَلُ أَصَابِعَهُ مَضْمُومَةً عَلَى أُذُنَيْهِ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجْعَلُ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَذِّنُ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ، «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعْدٍ، مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَجْعَلَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: إنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِك» . وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْعَلَ يَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ، عَلَى حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ. وَضَمَّ أَصَابِعَهُ الْأَرْبَعَ وَوَضَعَهَا عَلَى أُذُنَيْهِ، وَحَكَى أَبُو حَفْصٍ، عَنْ ابْنِ بَطَّةَ، قَالَ: سَأَلْت أَبَا الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ عَنْ صِفَةِ ذَلِكَ؟ فَأَرَانِيهِ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، فَضَمَّ أَصَابِعَهُ عَلَى رَاحَتَيْهِ، وَوَضَعَهُمَا عَلَى أُذُنَيْهِ. وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ مُؤَذِّنًا يَقُولُ لَهُ: اُضْمُمْ أَصَابِعَك مَعَ كَفَّيْك، وَاجْعَلْهَا مَضْمُومَةً عَلَى أُذُنَيْك. وَبِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَضُمُّ أَصَابِعَهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَشُهْرَتِهِ وَعَمَلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَ الْكُلَّ فَلَا بَأْسَ. [فَصْلٌ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ] (584) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إعْلَامِهِ، وَأَعْظَمَ لِثَوَابِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ؛ لِئَلَّا يَضُرَّ بِنَفْسِهِ، وَيَنْقَطِعَ صَوْتُهُ: فَإِنْ أَذَّنَ لِعَامَّةِ النَّاسِ جَهَرَ بِجَمِيعِ الْأَذَانِ، وَلَا يَجْهَرُ بِبَعْضٍ، وَيُخَافِتُ بِبَعْضٍ؛ لِئَلَّا يَفُوتَ مَقْصُودُ الْأَذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ. وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ حَاضِرِينَ، جَازَ أَنْ يُخَافِتَ وَيَجْهَرَ، وَأَنْ يُخَافِتَ بِبَعْضٍ وَيَجْهَرَ بِبَعْضٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْأَذَانِ. فَلَا يَجْهَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِئَلَّا يَغُرَّ النَّاسَ بِأَذَانِهِ. [فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا] (585) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ قُمْ فَأَذِّنْ» . وَكَانَ مُؤَذِّنُو رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَذِّنُونَ قِيَامًا. وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ قَاعِدًا قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: رَأَيْت أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. فَإِنْ أَذَّنَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَيَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِآكَدَ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَتَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْأَذَانِ عَلَى الرَّاحِلَةِ؟ فَسَهَّلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فِيهِ، وَقَالَ: أَمْرُ الْأَذَانِ عِنْدِي سَهْلٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُقِيمُ. وَإِذَا أُبِيحَ التَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَالْأَذَانُ أَوْلَى. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ] فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ لِتَأْدِيَةِ صَوْتِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَالَتْ: كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَيْهِ الْفَجْرَ، فَيَأْتِي بِسَحَرٍ، فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْظُرُ إلَى الْفَجْرِ فَإِذَا رَآهُ تَمَطَّى، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَعِينُك وَأَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ، أَنْ يُقِيمُوا دِينَكَ. قَالَتْ: ثُمَّ يُؤَذِّنُ. وَفِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ، فَقَالَ «رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْت رَجُلًا، كَأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، فَقَامَ عَلَى الْمَسْجِدِ فَأَذَّنَ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ» . [فَصْلٌ الْكَلَامَ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ] (587) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا يَقْتَدِي بِهِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ. فَإِنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يَسِيرٍ جَازَ. وَإِنْ طَالَ الْكَلَامُ بَطَلَ الْأَذَانُ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَذَانِ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ أَذَانٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا، أَوْ نَامَ نَوْمًا طَوِيلًا، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ أَصَابَهُ جُنُونٌ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ، بَطَلَ أَذَانُهُ. وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا مُحَرَّمًا كَالسَّبِّ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا، لَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاحَ. وَالثَّانِي؛ يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا يُسْتَحَبُّ حَدْرُهَا، وَأَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ فِي أَذَانِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهُ: يَتَكَلَّمُ فِي الْإِقَامَةِ؟ فَقَالَ: لَا. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَذَانِ غَيْره] (588) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَذَانِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ شَخْصَيْنِ، كَالصَّلَاةِ. وَالرِّدَّةُ تُبْطِلُ الْأَذَانَ إنْ وُجِدَتْ فِي أَثْنَائِهِ، فَإِنْ وُجِدَتْ بَعْدَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ أَنْ تُبْطِلَ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَانْقِضَاءِ حُكْمِهِ، بِحَيْثُ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ مِنْ مُبْطِلَاتِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ إذَا وُجِدَتْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِمُبْطِلَاتِهَا، فَالْأَذَانُ أَشْبَهُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ بِالطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 [فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الْأَذَانُ إلَّا مُرَتَّبًا] (589) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ إلَّا مُرَتَّبًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ يَخْتَلُّ بِعَدَمِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُرَتَّبًا، لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ أَذَانٌ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ مُرَتَّبًا، وَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا مَحْذُورَةَ مُرَتَّبًا. [مَسْأَلَة يُدِيرَ الْمُؤَذِّن وَجْهِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ عِنْد الْحَيْعَلَتَيْنِ] (590) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيُدِيرُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَى يَسَارِهِ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَلَا يُزِيلُ قَدَمَيْهِ) الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ فَإِنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدِيرَ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، إذَا قَالَ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " وَعَلَى يَسَارِهِ، إذَا قَالَ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ". وَلَا يُزِيلُ قَدَمَيْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ فِي الْتِفَاتِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ، وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَا هُنَا وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، فَخَرَجَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ، فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَمْ يَسْتَدِرْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَسْتَدِيرُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فَوْقَ الْمَنَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا، عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ أَذَّنَ فِي الْمَنَارَةِ رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَدُورُ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ، فَكُرِهَ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالثَّانِيَةُ، يَدُورُ فِي مَجَالِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِدُونِهِ، وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِالْإِخْلَالِ بِأَدَبٍ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَلَوْ أَخَلَّ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَشَى فِي أَذَانِهِ، لَمْ يَبْطُلْ، فَإِنَّ الْخُطْبَةَ آكَدُ مِنْ الْأَذَانِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهَذَا. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُؤَذِّنُ وَهُوَ يَمْشِي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَمْرُ الْأَذَانِ عِنْدِي سَهْلٌ. وَسُئِلَ عَنْ الْمُؤَذِّنِ يَمْشِي وَهُوَ يُقِيمُ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَفْرُغَ ثُمَّ يَمْشِي. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: وَفِي الْمُسَافِرِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولُ كَمَا يَقُولُ] (591) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُ) لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَابْنُهُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ. وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ، قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ، فَإِذَا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.» " وَرَوَى حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْجِيَادِ - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ - وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. (592) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِقَامَةِ مِثْلَ مَا يَقُولُ، وَيَقُولَ عِنْدَ كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا» . وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ. [فَصْلٌ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ] (593) فَصْلٌ: رَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «عَلَّمَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُولَ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ: اللَّهُمَّ هَذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَائِكَ، فَاغْفِرْ لِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، أَيْضًا [فَصْلٌ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي قِرَاءَة قَطَعَهَا] فَصْلٌ: وَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ، وَهُوَ فِي قِرَاءَةٍ، قَطَعَهَا، لِيَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ، وَالْقِرَاءَةُ لَا تَفُوتُ. وَإِنْ سَمِعَهُ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ يَقُلْ مِثْلَ قَوْلِهِ؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَقَدْ رُوِيَ: " إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا ". وَإِنْ قَالَهُ مَا عَدَا الْحَيْعَلَةَ لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَإِنْ قَالَ الدُّعَاءَ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا، بَطَلَتْ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ. [فَصْلٌ إذَا أَذَّنَ فَقَالَ كَلِمَةً مِنْ الْأَذَانِ قَالَ مِثْلَهَا سِرًّا] (595) فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَذَّنَ، فَقَالَ كَلِمَةً مِنْ الْأَذَانِ، قَالَ مِثْلَهَا سِرًّا فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 مُسْتَحَبًّا، لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إلَى الصَّلَاةِ، وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ. (596) فَصْلٌ: قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَقُومُ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ مُبَادِرًا يَرْكَعُ؟ فَقَالَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُ بَعْدَمَا يَفْرُغُ الْمُؤَذِّنُ، أَوْ يَقْرُبُ مِنْ الْفَرَاغِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ حِينَ يَسْمَعُ الْأَذَانَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ بِالْقِيَامِ. وَإِنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ اُسْتُحِبَّ لَهُ انْتِظَارُهُ لِيَفْرُغَ، وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ جَمْعًا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ كَقَوْلِهِ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ، فَلَا بَأْسَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. [فَصْل الزِّيَادَةُ عَلَى مُؤَذِّنَيْنِ] (597) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى مُؤَذِّنَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حُفِظَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ، بِلَالٌ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. إلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ. وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَانَ مَشْرُوعًا، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ؛ وَكَانَ الْوَاحِدُ يُسْمِعُ النَّاسَ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ، أَذَّنُوا عَلَى حَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ أَمَّا أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَنَارَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ، أَوْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ: قَالَ أَحْمَدُ إنْ أَذَّنَ عِدَّةٌ فِي مَنَارَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ خَافُوا مِنْ تَأْذِينِ وَاحِدٍ بَعْدَ الْآخَرِ فَوَاتَ أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَذَّنُوا جَمِيعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً. [فَصْلٌ لَا يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ] (598) فَصْلٌ: وَلَا يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ، إلَّا أَنْ يَتَخَلَّفَ وَيُخَافُ فَوَاتِ وَقْتِ التَّأْذِينِ فَيُؤَذِّنَ غَيْرُهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، أَنَّهُ أَذَّنَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَابَ بِلَالٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُ. وَأَذَّنَ رَجُلٌ حِينَ غَابَ أَبُو مَحْذُورَةَ قَبْلَهُ. فَأَمَّا مَعَ حُضُورِهِ فَلَا يَسْبِقُ بِالْأَذَانِ، فَإِنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ يَسْبِقُهُمْ بِالْأَذَانِ. [فَصْلٌ إذَا تَشَاحَّ نَفْسَانِ فِي الْأَذَانِ] (599) فَصْلٌ: وَإِذَا تَشَاحَّ نَفْسَانِ فِي الْأَذَانِ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّأْذِينِ، فَيُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَعْلَى صَوْتًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك» . وَقَدَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ لِصَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ، وَأَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَيْهِ، وَمَنْ يَرْتَضِيهِ الْجِيرَانُ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ يَبْلُغُهُمْ صَوْتُهُ وَمَنْ هُوَ أَعَفُّ عَنْ النَّظَرِ. فَإِنْ تَسَاوَيَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لَاسْتَهَمُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَمَّا تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ. [فَصْل اللَّحْنُ فِي الْأَذَانِ] فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ اللَّحْنُ فِي الْأَذَانِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَيَّرَ الْمَعْنَى. فَإِنَّ مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَنَصَبَ لَامَ " رَسُولُ "، أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرًا. وَلَا يَمُدُّ لَفْظَةَ، " أَكْبَرُ " لِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِيهَا أَلِفًا، فَيَصِيرُ جَمْعَ كَبَرٍ، وَهُوَ الطَّبْلُ. وَلَا تُسْقَطُ الْهَاءُ مِنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ الصَّلَاةِ، وَلَا الْحَاءُ مِنْ الْفَلَاحِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤَذِّنُ لَكُمْ مَنْ يُدْغِمُ الْهَاءَ قُلْنَا: وَكَيْفَ يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَلْثَغَ لُثْغَةً لَا تَتَفَاحَشُ، جَازَ أَذَانُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يَقُولُ " أَسْهَدُ " يَجْعَلُ الشِّينَ سِينًا. وَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَكْمَلَ وَأَحْسَنَ. [فَصْلٌ إذَا أَذَّنَ فِي الْوَقْتِ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ] (601) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذَّنَ فِي الْوَقْتِ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ يَعُودَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اُحْتِيجَ إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يُوجَدُ. وَإِنْ أَذَّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ لِلْفَجْرِ، فَلَا بَأْسَ بِذَهَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى حُضُورِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يُؤَذِّنُ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَيَدْخُلُ الْمَنْزِلَ، وَيَدَعُ الْمَسْجِدَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إذَا أَذَّنَ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَلَا أَرَى لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُصَلِّيَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ الْحَاجَةُ. (602) فَصْلٌ: وَإِنْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَلَا؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ أَذَانُهُ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، فَيَأْتِيهِ السَّامِعُونَ لِلْأَذَانِ، وَالْبَعِيدَ رُبَّمَا سَمِعَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَسْجِدَ، فَيَغْتَرُّ بِهِ وَيَقْصِدُهُ، فَيَضِيعُ عَنْ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الَّذِي يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقٌ يُسْمِعُ النَّاسَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، فِيمَنْ يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَطْحٍ: مَعَاذَ اللَّهِ، مَا سَمِعْنَا أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا. فَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِهِ الْقَرِيبُ، وَلِهَذَا كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَى سَطْحِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، لَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ عَالِيًا. وَالثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى الْبَعِيدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَقَامَ] (603) فَصْلٌ: إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، وَأَقَامَ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لِسَائِرِ النَّاسِ أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ وَيُقِيمَ، بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ، وَلَكِنْ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ بِهَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 [بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ] ِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ إلَّا فِي الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . يَعْنِي نَحْوَهُ، كَمَا أَنْشَدُوا أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنَّا رَسُولًا ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو أَيْ نَحْوَ عَمْرٍو. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يُشَاطِرُونَنَا. إذَا كَانَتْ بُيُوتُهُمْ تُقَابِلُ بُيُوتَهُمْ. وَقَالَ عَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شَطْرَهُ قِبَلَهُ وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إنَّهُ وُجِّهَ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَرَّ رَجُلٌ، وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وُجِّهَ إلَى الْكَعْبَةِ. فَانْحَرَفُوا إلَى الْكَعْبَةِ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. [مَسْأَلَة إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ إلَى الْقِبْلَةِ] (604) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا رَاجِلًا وَرَاكِبًا، يُومِئُ إيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ؛ إمَّا لِهَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ سَيْلٍ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إلَّا بِالْهَرَبِ، أَوْ الْمُسَابَقَةِ، أَوْ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَالْحَاجَةِ إلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، رَاجِلًا وَرَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ - إنْ أَمْكَنَ -، أَوْ إلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ. وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْمَأَ بِهِمَا، وَيَنْحَنِي إلَى السُّجُودِ أَكْثَرَ مِنْ الرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ، سَقَطَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ أَوْ غَيْرِهِمَا، سَقَطَ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَعَلَ ذَلِكَ. وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ «ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا» . قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا أَمْكَنَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ، فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجِبْ الِاسْتِقْبَالُ فِيهِ، كَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهَا. قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ وَالثَّانِيَةُ، يَجِبُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أَمْكَنَهُ ابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلًا فَلَمْ يَجُزْ بِدُونِهِ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ. وَتَمَامُ شَرْحِ هَذِهِ الصَّلَاةِ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة اسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي صَلَاة الْخَوْفِ] (605) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَسَوَاءٌ كَانَ مَطْلُوبًا أَوْ طَالِبًا يَخْشَى فَوَاتَ الْعَدُوِّ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ إنْ كَانَ طَالِبًا، فَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاةَ آمِنٍ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي طَالِبِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَخَافُ فَوَاتَهُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، كَالْمَطْلُوبِ سَوَاءً، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَّا صَلَاةَ آمِنٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . فَشَرَطَ الْخَوْفَ، وَهَذَا غَيْرُ خَائِفٍ. وَلِأَنَّهُ آمِنٌ فَلَزِمَتْهُ صَلَاةُ الْآمِنِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْشَ فَوْتَهُمْ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ يَأْمَنُ رُجُوعَهُمْ عَلَيْهِ إنْ تَشَاغَلَ بِالصَّلَاةِ، وَيَأْمَنُ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَأَمَّا الْخَائِفُ مِنْ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَطْلُوبِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ " بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ أَوْ عَرَفَاتٍ، قَالَ: اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ. فَرَأَيْتُهُ، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقُلْت: إنِّي لَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي، وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إيمَاءً نَحْوَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ، قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْت: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ، بَلَغَنِي أَنَّك تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجِئْتُك لِذَلِكَ، قَالَ: إنِّي لَعَلَى ذَلِكَ. فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، حَتَّى إذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي حَتَّى بَرَدَ» . وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ جَوَازَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ مُخْطِئًا، وَهُوَ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَا يُخْبِرُهُ بِهِ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِهِ. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ سَابِقٍ الْبَرْبَرِيِّ، عَنْ كِتَابِ الْحَسَنِ: أَنَّ الطَّالِبَ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِالْأَرْضِ. فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَجَدْنَا الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ: لَا تُصَلُّوا الصُّبْحَ إلَّا عَلَى ظَهْرٍ. فَنَزَلَ الْأَشْتَرُ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ، فَمَرَّ بِهِ شُرَحْبِيلُ، فَقَالَ؛ مُخَالِفٌ، خَالَفَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ: فَخَرَجَ الْأَشْتَرُ فِي الْفِتْنَةِ. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَأْخُذُ بِهَذَا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى حَالَتَيْ الْحَرْبِ، أَشْبَهَتْ حَالَةَ الْهَرَبِ. وَالْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّ مَدْلُولَهَا إبَاحَةُ الْقَصْرِ. وَقَدْ أُبِيحَ الْقَصْرُ حَالَةَ الْأَمْنِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، ثُمَّ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَقَدْ أُبِيحَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ، لِلْخَوْفِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ سَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَنْطُوقِ فِيهَا، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْكُفَّارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، فَأُبِيحَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ عِنْدَ فَوْتِهِ، كَالْحَالَةِ الْأُخْرَى. [مَسْأَلَة التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ] (606) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. وَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ وَهُوَ مَا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ، فَإِنَّهُ تُبَاحُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عِنْدَ إمَامِنَا، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُبَاحُ إلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةُ سَفَرٍ، فَاخْتُصَّ بِالطَّوِيلِ كَالْقَصْرِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، حَيْثُ تَوَجَّهَ بِكَ بَعِيرُكَ. وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِلْبُخَارِيِّ: «إلَّا الْفَرَائِضَ» . وَلِمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُد: «غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَالْقَصْرُ وَالْفِطْرُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَشَقَّةُ، وَإِنَّمَا تُوجَدُ غَالِبًا فِي الطَّوِيلِ. قَالَ الْقَاضِي: الْأَحْكَامُ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الطَّوِيلُ مِنْ السَّفَرِ وَالْقَصِيرُ ثَلَاثَةٌ: التَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ، وَالتَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَبَقِيَّةُ الرُّخَصِ تَخُصُّ الطَّوِيلَ؛ الْفِطْرُ، وَالْجَمْعُ، وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا. [فَصْلٌ حُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ] (607) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ، فِي أَنَّهُ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. قَالَ جَابِرٌ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ، فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ.» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. لَكِنْ إنْ صَلَّى عَلَى حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ طَاهِرَةٌ. [فَصْلٌ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ] (608) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ، كَالْمُنْفَرِدِ فِي الْعِمَارِيَّةِ يَدُورُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَيَسْجُدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَأَوْمَأَ بِهِمَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْعَامَّةَ تَعُمُّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَغَيْرَهُ، كَالْقَصْرِ وَالْجَمْعِ. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِ، كَرَاكِبِ رَاحِلَةٍ لَا تُطِيعُهُ، أَوْ كَانَ فِي قِطَارٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ افْتِتَاحُهَا إلَى الْقِبْلَةِ، كَرَاكِبِ رَاحِلَةٍ مُنْفَرِدَةٍ تُطِيعُهُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ افْتِتَاحُهَا إلَى الْقِبْلَةِ؟ يُخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَافَرَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وِجْهَةُ رِكَابِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، كَالصَّلَاةِ كُلِّهَا. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ، فَسَقَطَ، وَخَبَرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْمَلُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالنَّدْبِ. (609) فَصْلٌ: وَقِبْلَةُ هَذَا الْمُصَلِّي حَيْثُ كَانَتْ وِجْهَتُهُ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهَا نَظَرْتَ، فَإِنْ كَانَ عُدُولُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُهَا لِلْعُذْرِ، فَإِذَا عَدَلَ إلَيْهَا أَتَى بِالْأَصْلِ، كَمَا لَوْ رَكَعَ فَسَجَدَ فِي مَكَانِ الْإِيمَاءِ. وَإِنْ عَدَلَ إلَى غَيْرِهَا عَمْدًا، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُ عَمْدًا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَغْلُوبًا، أَوْ نَائِمًا، أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا جِهَةُ سَفَرِهِ، فَهُوَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَيَرْجِعُ إلَى جِهَةِ سَفَرِهِ عِنْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ. لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى ذَلِكَ. فَأَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ. فَإِنْ تَمَادَى بِهِ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ عَمْدًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَمِيعِ التَّطَوُّعَاتِ فِي هَذَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ، وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَالْمُعَيَّنَةُ، وَالْوِتْرُ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ» ، «وَكَانَ يُسَبِّحُ عَلَى بَعِيرِهِ إلَّا الْفَرَائِضَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. [فَصْلٌ الْمَاشِي فِي السَّفَرِ لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ فِي حَالِ مَشْيِهِ] (610) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَاشِي فِي السَّفَرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ فِي حَالِ مَشْيِهِ؛ لِقَوْلِهِ: " وَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَرْضًا، وَلَا نَافِلَةً، إلَّا مُتَوَجِّهًا إلَى الْكَعْبَةِ ". وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 مَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِي الْمَاشِي: يُصَلِّي، إلَّا عَطَاءً، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ الْمَاشِي. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَاشِيًا. نَقَلَهَا مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ، وَذَكَرَهَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَنْحَرِفَ إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، وَيَقْرَأَ وَهُوَ مَاشٍ، وَيَرْكَعَ ثُمَّ يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، كَالرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ أُبِيحَ فِيهَا تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ كَالرَّاكِبِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِهِ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ، كَالْوَقْفِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّلَاةَ أُبِيحَتْ لِلرَّاكِبِ، لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ الْقَافِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمَاشِي، وَلِأَنَّهُ إحْدَى حَالَتَيْ سَيْرِ الْمُسَافِرِ، فَأُبِيحَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا كَالْأُخْرَى. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَمَشْيٍ مُتَتَابِعٍ، يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَيَقْتَضِي بُطْلَانَهَا، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الرَّاكِبِ، فَلَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِهِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . عَامٌّ تُرِكَ فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، بِشُرُوطٍ مَوْجُودَةٍ هَاهُنَا، فَيَبْقَى وُجُوبُ الِاسْتِقْبَالِ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. [فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمُصَلِّي بَلَدًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ فِيهِ] (611) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُصَلِّي بَلَدًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ فِيهِ، لَمْ يُصَلِّ بَعْدَ دُخُولِهِ إلَيْهِ إلَّا صَلَاةَ الْمُقِيمِ. وَإِنْ دَخَلَهُ مُجْتَازًا بِهِ، غَيْرَ نَاوٍ لِلْإِقَامَةِ فِيهِ، وَلَا نَازِلٍ بِهِ، أَوْ نَازِلًا بِهِ، ثُمَّ يَرْتَحِلُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ إقَامَةِ مُدَّةٍ يَلْزَمُهُ بِهَا إتْمَامُ الصَّلَاةِ، اسْتَدَامَ الصَّلَاةَ مَا دَامَ سَائِرًا، فَإِذَا نَزَلَ فِيهِ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، كَقَوْلِنَا فِي الْخَائِفِ إذَا أَمِنَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ. وَلَوْ ابْتَدَأَهَا، وَهُوَ نَازِلٌ إلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّكُوبَ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ، ثُمَّ رَكِبَ. وَقِيلَ: يَرْكَبُ فِي الصَّلَاةِ وَيُتِمُّهَا إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، كَالْآمِنِ إذَا خَافَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ أُبِيحَ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَيْهَا، فَلَا يُبَاحُ فِيهَا غَيْرُ مَا نُقِلَ فِيهَا، وَلَمْ يَرِدْ بِإِبَاحَةِ الرُّكُوبِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عَمَلٍ وَتَوَجُّهٍ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَا جِهَةِ سَيْرِهِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ] (612) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَرْضًا وَلَا نَافِلَةً إلَّا مُتَوَجِّهًا إلَى الْكَعْبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ يُعَايِنُهَا فَبِالصَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا فَبِالِاجْتِهَادِ بِالصَّوَابِ إلَى جِهَتِهَا) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْفَرْضُ وَالنَّفَلُ، كَالطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] عَامٌّ فِيهِمَا جَمِيعًا. ثُمَّ إنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى عَيْنِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ابْنُ عَقِيلٍ؛ إنْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ مُسَامَتَةِ الْكَعْبَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: النَّاسُ فِي اسْتِقْبَالِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ الْيَقِينُ، وَهُوَ مَنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، أَوْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ نَاشِئًا بِهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ مُحْدَثٍ كَالْحِيطَانِ، فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا. وَهَكَذَا إنْ كَانَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ صِحَّةَ قِبْلَتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ، وَقَدْ رَوَى أُسَامَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» . الثَّانِي: مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ، وَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ غَائِبًا عَنْ الْكَعْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَوَجَدَ مُخْبِرًا يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ أَوْ مُشَاهَدَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، وَعَلَى الْحَائِلِ مَنْ يُخْبِرُهُ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا نَزَلَ بِمَكَّةَ، فَأَخْبَرَهُ أَهْلُ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَحَارِيبِهِمْ وَقِبْلَتِهِمْ الْمَنْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِبَلَ يَنْصِبُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ، فَأَغْنَى عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْقِبْلَةِ؛ أَمَّا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، صَارَ إلَى خَبَرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ، كَمَا يَقْبَلُ الْحَاكِمُ النَّصَّ مِنْ الثِّقَةِ، وَلَا يَجْتَهِدُ. الثَّالِثُ: مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ مَنْ عَدِمَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِالْأَدِلَّةِ. الرَّابِعُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ، وَهُوَ الْأَعْمَى وَمَنْ لَا اجْتِهَادَ لَهُ، وَعَدِمَ الْحَالَتَيْنِ، فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ. وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَيْنِ وَسَائِرِ مَنْ بَعُدَ مِنْ مَكَّةَ طَلَبُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، دُونَ إصَابَةِ الْعَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ، فَإِنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ قَلِيلًا لَمْ يُعِدْ، وَلَكِنْ يَتَحَرَّى الْوَسَطَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ كَقَوْلِنَا، وَالْآخَرِ: الْفَرْضُ إصَابَةُ الْعَيْنِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ، فَلَزِمَهُ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِهَا، كَالْمُعَايِنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْضُ إصَابَةَ الْعَيْنِ، لَمَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ الصَّفِّ الطَّوِيلِ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ، وَلَا صَلَاةُ اثْنَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يَسْتَقْبِلَانِ قِبْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْكَعْبَةِ مَعَ طُولِ الصَّفِّ إلَّا بِقَدْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَعَ الْبَعِيدِ يَتَّسِعُ الْمُحَاذِي. قُلْنَا: إنَّمَا يَتَّسِعُ مَعَ تَقَوُّسِ الصَّفِّ، أَمَّا مَعَ اسْتِوَائِهِ فَلَا. وَشَطْرَ الْبَيْتِ: نَحْوَهُ وَقِبَلَهُ. [فَصْلٌ مَحَارِيبُ الْكُفَّارِ] فَصْلٌ: فَأَمَّا مَحَارِيبُ الْكُفَّارِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، فَمَحَارِيبُهُمْ أَوْلَى، إلَّا أَنْ نَعْلَمَ قِبْلَتَهُمْ كَالنَّصَارَى، نَعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُمْ الْمَشْرِقُ، فَإِذَا رَأَى مَحَارِيبَهُمْ فِي كَنَائِسِهِمْ عَلِمَ أَنَّهَا مُسْتَقْبِلَةٌ الْمَشْرِقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وَإِنْ وَجَدَ مِحْرَابًا لَا يَعْلَمُ هَلْ هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، اجْتَهَدَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا يَجُوزُ بِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُ ذَلِكَ. وَلَوْ رَأَى عَلَى الْمِحْرَابِ آثَارَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُصَلِّ إلَيْهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْبَانِي لَهُ مُشْرِكًا مُسْتَهْزِئًا، يَغُرُّ بِهِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ، وَيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ أَنَّهُ مِنْ مَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَسْتَقْبِلَهُ. [فَصْلٌ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ يَخْرُجُ عَنْ مُسَامَتَةِ الْكَعْبَةِ] (614) فَصْلٌ: وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ يَخْرُجُ عَنْ مُسَامَتَةِ الْكَعْبَةِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي مَكَان يَنْزِلُ عَنْ مُسَامَتَتِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُهَا وَمَا يُسَامِتُهَا مِنْ فَوْقِهَا وَتَحْتِهَا، بِدَلِيلِ مَا لَوْ زَالَتْ الْكَعْبَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِ جِدَارِهَا. [فَصْلٌ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ] (615) فَصْلٌ: وَالْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ هُوَ الْعَالِمُ بِأَدِلَّتِهَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ شَيْءٍ كَانَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ، وَإِنْ جَهِلَ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِقْبَالِهَا بِدَلِيلِهِ، فَكَانَ مُجْتَهِدًا فِيهَا كَالْفَقِيهِ، وَلَوْ جَهِلَ الْفَقِيهُ أَدِلَّتَهَا أَوْ كَانَ أَعْمَى، فَهُوَ مُقَلِّدٌ وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا. وَأَوْثَقُ أَدِلَّتِهَا النُّجُومُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] . وَآكَدُهَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ، وَهُوَ نَجْمٌ خَفِيٌّ حَوْلَهُ أَنْجُمٌ دَائِرَةٌ كَفَرَاشَةِ الرَّحَى، فِي أَحَدِ طَرَفَيْهَا الْفَرْقَدَانِ، وَفِي الْآخَرِ الْجَدْيُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أَنْجُمٌ صِغَارٌ، مَنْقُوشَةٌ كَنُقُوشِ الْفَرَاشَةِ، ثَلَاثَةٌ مِنْ فَوْقُ وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَسْفَلُ، تَدُورُ هَذِهِ الْفَرَاشَةُ حَوْلَ الْقُطْبِ، دَوَرَانَ فَرَاشَةِ الرَّحَى حَوْلَ سَفُّودِهَا، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً، فِي اللَّيْلِ نِصْفُهَا وَفِي النَّهَارِ نِصْفُهَا، فَيَكُونُ الْجَدْيُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي مَكَانِ الْفَرْقَدَيْنِ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ، وَالْأَزْمِنَةِ، لِمَنْ عَرَفَهَا، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ دَوَرَانِهَا، وَحَوْلَهَا بَنَاتُ نَعْشٍ مِمَّا يَلِي الْفَرْقَدَيْنِ تَدُورُ حَوْلَهَا، وَالْقُطْبُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ سَفُّودُ الرَّحَى بِدَوَرَانِهَا. وَقِيلَ: إنَّهُ يَتَغَيَّرُ تَغَيُّرًا يَسِيرًا لَا يَتَبَيَّنُ، وَلَا يُؤَثِّرُ، وَهُوَ نَجْمٌ خَفِيٌّ يَرَاهُ حَدِيدُ النَّظَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَمَرُ طَالِعًا، فَإِذَا قَوِيَ نُورُ الْقَمَرِ خَفِيَ، فَإِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ فِي الْأَرْضِ الشَّامِيَّةِ، كُنْتَ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ. وَقِيلَ: إنَّهُ يَنْحَرِفُ فِي دِمَشْقَ وَمَا قَارَبَهَا إلَى الْمَشْرِقِ قَلِيلًا، وَكُلَّمَا قَرُبَ إلَى الْمَغْرِبِ كَانَ انْحِرَافُهُ أَكْثَرَ. وَإِنْ كَانَ بِحَرَّانَ وَمَا يُقَارِبُهَا اعْتَدَلَ، وَجَعَلَ الْقُطْبَ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَدِلًا مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ. وَقِيلَ: أَعْدَلُ الْقِبَلِ قِبْلَةُ حَرَّانَ. وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 جَعَلَ الْقُطْبَ حَذْوَ ظَهْرِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى عَلَى عُلُوِّهَا، فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا بَابَ الْكَعْبَةِ إلَى الْمَقَامِ، وَمَتَى اسْتَدْبَرَ الْفَرْقَدَيْنِ أَوْ الْجَدْيَ، فِي حَالِ عُلُوِّ أَحَدِهِمَا وَنُزُولِ الْآخَرِ، عَلَى الِاعْتِدَالِ، كَانَ ذَلِكَ كَاسْتِدْبَارِ الْقُطْبِ. وَإِنْ اسْتَدْبَرَهُ، فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ، فَإِذَا اسْتَدْبَرَ الشَّرْقِيَّ مِنْهَا، كَانَ مُنْحَرِفًا إلَى الْغَرْبِ قَلِيلًا، وَإِذَا اسْتَدْبَرَ الْغَرْبِيَّ كَانَ مُنْحَرِفًا إلَى الشَّرْقِ، وَإِنْ اسْتَدْبَرَ بَنَاتَ نَعْشٍ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُ أَكْثَرُ فَصْلٌ: وَمَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا، وَهِيَ: السَّرَطَانُ، وَالْبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالزُّبَانَى، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ، وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ؛ وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ. مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَامِيَّةٌ تَطْلُعُ مِنْ وَسَطِ الْمَشْرِقِ أَوْ مَائِلَةً عَنْهُ إلَى الشَّمَالِ قَلِيلًا، أَوَّلُهَا السَّرَطَانُ، وَآخِرُهَا السِّمَاكُ. وَمِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَمَانِيَّةٌ، تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ مَا يَلِيهِ إلَى التَّيَامُنِ، أَوَّلُهَا الْغَفْرُ؛ وَآخِرُهَا بَطْنُ الْحُوتِ. وَلِكُلِّ نَجْمٍ مِنْ الشَّامِيَّةِ رَقِيبٌ مِنْ الْيَمَانِيَّةِ، إذَا طَلَعَ أَحَدُهُمَا غَابَ رَقِيبُهُ، وَيَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ بِمَنْزِلَةٍ مِنْهَا قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يَلِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] . وَالشَّمْسُ تَنْزِلُ بِكُلِّ مَنْزِلٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَيَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلَتْ بِهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلٍ كَامِلٍ مِنْ أَحْوَالِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ يَكُونُ مِنْهَا فِيمَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَنْزِلًا، وَمِنْ طُلُوعِهَا إلَى غُرُوبِهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَوَقْتُ الْفَجْرِ مِنْهَا مَنْزِلَانِ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَنْزِلٌ، وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ اثْنَا عَشَرَ مَنْزِلًا، وَكُلُّهَا تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، إلَّا أَنَّ أَوَائِلَ الشَّامِيَّةِ وَآخِرَ الْيَمَانِيَّةِ تَطْلُعُ مِنْ وَسَطِ الْمَشْرِقِ، بِحَيْثُ إذَا طَلَعَ جَعَلَ الطَّالِعَ مِنْهَا مُحَاذِيًا لِكَتِفِهِ الْأَيْسَرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ آخِرُ الشَّامِيَّةِ. وَأَوَّلُ الْيَمَانِيَّةِ يَكُونُ مُقَارِبًا لِذَلِكَ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ الشَّامِيَّةِ، وَهُوَ الذِّرَاعُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ جَانِبَيْهِ، يَمِيلُ مَطْلَعُهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ الْيَمَانِيَّةِ - نَحْوُ الْعَقْرَبِ، وَالنَّعَائِمِ، وَالْبَلْدَةِ، وَالسُّعُودِ - تَمِيلُ مَطَالِعُهَا إلَى الْيَمِينِ، فَالْيَمَانِيُّ مِنْهَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَمَامِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَالشَّامِيُّ يَجْعَلُهُ خَلْفَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ قَرِيبًا مِنْهَا، وَالْغَارِبُ مِنْهَا يَجْعَلُهُ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ. وَإِنْ عَرَفَ الْمُتَوَسِّطَ مِنْهَا بِأَنْ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُفُقِ السَّمَاءِ سَبْعَةً مِنْ هَاهُنَا وَسَبْعَةً مِنْ هَاهُنَا، اسْتَقْبَلَهُ، وَلِكُلِّ نَجْمٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ نُجُومٌ تُقَارِبُهُ، وَتَسِيرُ بِسَيْرِهِ، مِنْ عَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، يَكْثُرُ عَدَدُهَا، حُكْمُهَا حُكْمُهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، كَالنَّسْرَيْنِ والشعريين، وَالنَّظْمِ الْمُقَارِنِ لِلْهَقْعَةِ، وَالسِّمَاكِ الرَّامِحِ، وَالْفَكَّةِ، وَغَيْرِهَا، وَكُلُّهَا تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، وَسُهَيْلٌ نَجْمٌ كَبِيرٌ مُضِيءٌ يَطْلُعُ مِنْ نَحْوِ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، ثُمَّ يَسِيرُ حَتَّى يَصِيرَ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ يَتَجَاوَزُهَا، ثُمَّ يَغْرُبُ قَرِيبًا مِنْ مَهَبِّ الدَّبُورِ، وَالنَّاقَةُ أَنْجُمٌ عَلَى صُورَةِ النَّاقَةِ، تَطْلُعُ فِي الْمَجَرَّةِ مِنْ مَهَبِّ الصَّبَا، ثُمَّ تَغِيبُ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ. (617) فَصْلٌ: وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهَا وَمَغَارِبُهَا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَنَازِلِهَا، وَتَكُونُ فِي الشِّتَاءِ فِي حَالِ تَوَسُّطِهَا فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، وَفِي الصَّيْفِ مُحَاذِيَةً لِقِبْلَتِهِ. (618) فَصْلٌ: وَالْقَمَرُ يَبْدُو أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ هِلَالًا فِي الْمَغْرِبِ، عَنْ يَمِينِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مَنْزِلًا، حَتَّى يَكُونَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، أَوْ مَائِلًا عَنْهَا قَلِيلًا، ثُمَّ يَطْلُعُ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الْمَشْرِقِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بَدْرًا تَامًّا، وَلَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ يَكُونُ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقْتَ الْفَجْرِ، وَلَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ يَبْدُو عِنْدَ الْفَجْرِ كَالْهِلَالِ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهُ بِاخْتِلَافِ مَنَازِلِهِ. (619) فَصْلٌ: وَالرِّيَاحُ كَثِيرَةٌ يُسْتَدَلُّ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ، تَهُبُّ مِنْ زَوَايَا السَّمَاءِ؛ الْجَنُوبُ تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْرِقِ، مُسْتَقْبِلَةً بَطْنَ كَتِفِ الْمُصَلِّي الْأَيْسَرِ، مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ إلَى يَمِينِهِ، وَالشَّمَالُ مُقَابِلَتُهَا، تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالشَّمَالِ؛ مَارَّةً إلَى مَهَبِّ الْجَنُوبِ. وَالدَّبُورُ تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ، مُسْتَقْبِلَةً شَطْرَ وَجْهِ الْمُصَلِّي الْأَيْمَنَ، مَارَّةً إلَى الزَّاوِيَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا. وَالصَّبَا مُقَابِلَتُهَا، تَهُبُّ مِنْ ظَهْرِ الْمُصَلِّي. وَرُبَّمَا هَبَّتْ الرِّيَاحُ بَيْنَ الْحِيطَانِ وَالْجِبَالِ فَتَدُورُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا. وَبَيْنَ كُلِّ رِيحَيْنِ رِيحٌ تُسَمَّى النَّكْبَاءَ، لِتَنَكُّبِهَا طَرِيقَ الرِّيَاحِ الْمَعْرُوفَةِ، وَتُعْرَفُ الرِّيَاحُ بِصِفَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا، فَهَذَا أَصَحُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْمِيَاهِ، وَقَالُوا: الْأَنْهَارُ الْكِبَارُ كُلُّهَا تَجْرِي عَنْ يَمْنَةِ الْمُصَلِّي إلَى يَسْرَتِهِ، عَلَى انْحِرَافٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنَّهْرَوَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ إلَى الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا بِالسَّوَاقِي وَالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا ضَابِطَ لَهَا، وَلَا بِنَهْرَيْنِ يَجْرِيَانِ مِنْ يَسْرَةِ الْمُصَلِّي إلَى يَمِينِهِ، أَحَدُهُمَا الْعَاصِي بِالشَّامِ، وَالثَّانِي سَيْحُونُ بِالْمَشْرِقِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَنْضَبِطُ بِضَابِطٍ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَنْهَارِ الشَّامِ تَجْرِي عَلَى غَيْرِ السَّمْتِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، فَالْأُرْدُنُّ يَجْرِي نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا يَجْرِي نَحْوَ الْبَحْرِ، حَيْثُ كَانَ مِنْهَا حَتَّى يَصُبَّ فِيهِ. وَإِنْ اخْتَصَّتْ الدَّلَالَةُ بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الشَّامِ سِوَى الْعَاصِي، وَالْفُرَاتُ حَدُّ الشَّامِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ. فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ بِأَدِلَّةٍ تَخْتَصُّ بِبَلْدَتِهِمْ؛ مِنْ جِبَالِهَا، وَأَنْهَارِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ جَبَلًا بِعَيْنِهِ يَكُونُ فِي قِبْلَتِهِمْ، أَوْ عَلَى أَيْمَانِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ مَجْرَى نَهْرٍ بِعَيْنِهِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَجِدْ مُخْبِرًا، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى جِهَةٍ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا. فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ لِغَيْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ، تَحَرَّى فَصَلَّى، وَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَدِلَّتِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَاكِمَ وَالْعَالِمَ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ. [فَصْلٌ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى] (620) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى، لَزِمَهُ إعَادَةُ الِاجْتِهَادِ، كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فِي حَادِثَةٍ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلُهَا، لَزِمَهُ إعَادَةُ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، عَمِلَ بِالثَّانِي، وَلَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ عَمِلَ بِالثَّانِي فِي الْحَادِثَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ. وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الصَّلَاةِ، اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَالْآمِدِيُّ: لَا يَنْتَقِلُ، وَيَمْضِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؛ لِئَلَّا يَنْقُضَ الِاجْتِهَادَ بِالِاجْتِهَادِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَيْهَا، كَسَائِرِ مَحَالِّ الْوِفَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْضًا لِلِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَقْضًا لِلِاجْتِهَادِ أَنْ لَوْ أَلْزَمْنَاهُ إعَادَةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ نَعْتَدَّ لَهُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ اجْتِهَادُهُ وَظَنُّهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ جِهَةٌ أُخْرَى يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا. وَإِنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ، اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الصَّوَابِ، وَبَنَى كَأَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَبَنَوْا. وَإِنْ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ظَاهِرٌ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، وَلَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، كَرَجُلٍ كَانَ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ، فَرَأَى بَعْضَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَهُوَ فِي الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ، وَاحْتَاجَ إلَى الِاجْتِهَادِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدَامَتُهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَتْ لَهُ جِهَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا، فَبَطَلَتْ، لِتَعَذُّرِ إتْمَامِهَا. [مَسْأَلَة إذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فِي الْقِبْلَة] (621) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، لَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا، فَفَرْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّلَاةُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا، وَلَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَالْعَالِمَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الْحَادِثَةِ. وَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا اجْتَهَدَ، فَأَرَادَ الْآخَرُ تَقْلِيدَهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَجْتَهِدَ، سَوَاءٌ اتَّسَعَ الْوَقْتُ، أَوْ كَانَ ضَيِّقًا يَخْشَى خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَالْحَاكِمِ، لَا يَسُوغُ لَهُ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ اجْتِهَادِهِ، أَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ. وَأَشَارَ إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ، فِيمَنْ هُوَ فِي مَدِينَةٍ، فَتَحَرَّى، فَصَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي بَيْتٍ يُعِيدُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ، قَالَ: فَقَدْ جَعَلَ فَرْضَ الْمَحْبُوسِ السُّؤَالَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فِي الْمِصْرِ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى الْقِبْلَةِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، مَعَ اتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي حَقِّهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِضِيقِ الْوَقْتِ، مَعَ إمْكَانِهِ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ] (622) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ، فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِصَاحِبِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْتَقِدُ خَطَأَ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا رِيحٌ، وَاعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاةِ الْآخَرِ. فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اقْتِدَاءَهُ بِهِ اخْتِلَافُ جِهَتِهِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُسْتَدِيرِينَ حَوْلَهَا، وَكَالْمُصَلِّينَ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُصَلِّي فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ، إذَا كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . مَعَ كَوْنِ أَحْمَدَ لَا يَرَى طَهَارَتَهَا، وَفَارَقَ مَا إذَا اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَثَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينًا حَدَثُ نَفْسِهِ، لَزِمَتْهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ وَهَاهُنَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ يَمِينًا، وَيَمِيلُ الْآخَرُ شِمَالًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامَ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ، وَقَدْ اتَّفَقَا فِيهَا. [مَسْأَلَة إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ وَمَعَهُمَا أَعْمَى] (623) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتْبَعُ الْأَعْمَى أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ) يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَعَهُمَا أَعْمَى، قَلَّدَ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُهُمَا عِنْدَهُ وَأَصْدَقُهُمَا قَوْلًا، وَأَشَدُّهُمَا تَحَرِّيًا؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ إلَيْهِ أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَصِيرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْأَدِلَّةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَرْضُهُ أَيْضًا التَّقْلِيدُ، وَيُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قَلَّدَ الْمَفْضُولَ، فَظَاهِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ، فَلَمْ يَسُغْ لَهُ ذَلِكَ، كَالْمُجْتَهِدِ إذَا تَرَكَ جِهَةَ اجْتِهَادِهِ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِدَلِيلٍ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ اسْتَوَيَا، وَلَا عِبْرَةَ بِظَنِّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ مُصِيبٌ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ، فَلَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، كَالْعَامِّيِّ مَعَ الْعُلَمَاءِ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ. [فَصْلٌ الْمُقَلِّدُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ] (624) فَصْلٌ: وَالْمُقَلِّدُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، إمَّا لِعَدَمِ بَصَرِهِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ بَصِيرَتِهِ، وَهُوَ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ وَالصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا مَنْ يُمْكِنُهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ، فَإِنْ صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِالتَّقْلِيدِ كَالْمُجْتَهِدِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْعَامِّيَّ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ. فَهُوَ كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ أَخَّرَ هَذَا التَّعَلُّمَ وَالصَّلَاةَ إلَى حَالٍ يَضِيقُ وَقْتُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ وَالِاجْتِهَادِ، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِالتَّقْلِيدِ، كَاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ الْفَاتِحَةِ، فَيَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ تَعَلُّمِهَا. [فَصْلٌ كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَة بِهِ رَمَدٌ أَوْ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ رُؤْيَةَ الْأَدِلَّةِ] (625) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ رَمَدٌ، أَوْ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ رُؤْيَةَ الْأَدِلَّةِ، فَهُوَ كَالْأَعْمَى، فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاجْتِهَادِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي مَكَان لَا يَرَى فِيهِ الْأَدِلَّةَ، وَلَا يَجِدُ مُخْبِرًا إلَّا مُجْتَهِدًا آخَرَ فِي مَكَان يَرَى الْعَلَامَاتِ فِيهِ، فَلَهُ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَعْمَى. [فَصْلٌ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِتَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ قَدْ أَخْطَأْت الْقِبْلَةَ] (626) فَصْلٌ: وَإِذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِتَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: قَدْ أَخْطَأْتَ الْقِبْلَةَ، وَإِنَّمَا الْقِبْلَةُ هَكَذَا. وَكَانَ يُخْبِرُ عَنْ يَقِينٍ، مِثْلُ مَنْ يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ الشَّمْسَ، أَوْ الْكَوَاكِبَ، وَتَيَقَّنْتُ أَنَّك مُخْطِئٌ. فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ، وَيَسْتَدِيرُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَخْبَرَهُ أَنَّهَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي قَلَّدَهُ الْأَعْمَى، لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ، فَالْأَعْمَى أَوْلَى. وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخْبَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ أَوْثَقَ مِنْ الْأَوَّلِ، مَضَى عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِدَلِيلٍ يَقِينًا، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَقُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ. فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ خَاصَّةً، رَجَعَ إلَى قَوْلِهِ، كَالْبَصِيرِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ. [فَصْلٌ إذَا شَرَعَ مُجْتَهِدٌ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ فَعَمِيَ فِيهَا] فَصْلٌ: وَلَوْ شَرَعَ مُجْتَهِدٌ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ، فَعَمِيَ فِيهَا، بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى، فَإِنْ اسْتَدَارَ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِخَطَئِهِ عَنْ يَقِينٍ، رَجَعَ إلَيْهِ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ أَعْمَى، فَأَبْصَرَ فِي أَثْنَائِهَا، فَشَاهَدَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى صَوَابِ نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يَرَى الشَّمْسَ فِي قِبْلَتِهِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَيْنِ قَدْ اتَّفَقَا. وَإِنْ بَانَ لَهُ خَطَؤُهُ، اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّاهُ إلَيْهَا، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُ صَوَابُهُ وَلَا خَطَؤُهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَاجْتَهَدَ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ الِاجْتِهَادُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِالتَّقْلِيدِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَصِيرًا فِي ابْتِدَائِهَا. وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، مَضَى فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الدَّلِيلُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ فِيهَا. [مَسْأَلَة صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ] (628) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ. وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ الَّذِي صَلَّى بِتَقْلِيدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، أَوْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ سِتَارَةٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ حِيَالَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ، فَأَصَابَنَا غَيْمٌ، فَتَحَيَّرْنَا فَاخْتَلَفْنَا فِي الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِدَةٍ، وَجَعَلَ أَحَدُنَا يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِنَعْلَمَ أَمْكِنَتَنَا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالْإِعَادَةِ، وَقَالَ: قَدْ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْد اللَّه الْعُمَرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ. وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُرْوَى مَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] . فَمَرَّ رَجُلٌ بِبَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ. فَمَالُوا كُلُّهُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ» . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْتَفِي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتْرُكُ إنْكَارَهُ إلَّا وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَدْ كَانَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ، فَخَرَجَ عَنْ الْعَهْدِ، كَالْمُصِيبِ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، كَالْخَائِفِ يُصَلِّي إلَى غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 شَرْطٌ عَجَزَ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الشُّرُوطِ. وَأَمَّا الْمُصَلِّي قَبْلَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَلَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ الشُّرُوطِ، إذَا عَجَزَ عَنْهَا، سَقَطَتْ، كَذَا هَاهُنَا، وَأَمَّا إذَا ظَنَّ وُجُودَهَا فَأَخْطَأَ، فَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَنَظِيرُهُ: إذَا اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْحَضَرِ، فَأَخْطَأَ. (629) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَدِلَّةُ ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ، أَوْ مَسْتُورَةً بِغَيْمٍ أَوْ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا عَنْهُ، بِدَلِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ اسْتَتَرَتْ عَنْهُمْ بِالْغَيْمِ، فَلَمْ يُعِيدُوا، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَعَجَزَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ. [فَصْلٌ إنْ بَانَ لَهُ يَقِين الْخَطَأ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ] (630) فَصْلٌ: وَإِنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهَا كَانَ صَحِيحًا، فَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ الْخَطَأُ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، قَدْ أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلَى جِهَةٍ، فَقَدَّمُوا أَحَدَهُمْ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ الْخَطَأُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، اسْتَدَارُوا إلَى الْجِهَةِ الَّتِي بَانَ لَهُمْ الصَّوَابُ فِيهَا، كَبَنِي سَلَمَةَ، لَمَّا بَانَ لَهُمْ تَحَوُّلُ الْكَعْبَةِ. وَإِنْ بَانَ لِلْإِمَامِ وَحْدَهُ، أَوْ لِلْمَأْمُومِينَ دُونَهُ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ، اسْتَدَارَ مَنْ بَانَ لَهُ الصَّوَابُ وَحْدَهُ، وَيَنْوِي بَعْضُهُمْ مُفَارَقَةَ بَعْضٍ، إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ خَالَفَهُ فِي الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُقَلِّدٌ، تَبِعَ مَنْ قَلَّدَهُ وَانْحَرَفَ بِانْحِرَافِهِ. وَإِنْ قَلَّدَ الْجَمِيعَ، لَمْ يَنْحَرِفْ إلَّا بِانْحِرَافِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ بِدَلِيلٍ يَقِينِيٍّ، فَلَا يَنْحَرِفُ بِالشَّكِّ إلَّا مَنْ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ أَوْثَقِهِمْ، فَإِنَّهُ يَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِهِ. [مَسْأَلَة إذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ أَوْ الْأَعْمَى فَأَخْطَأَ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَة] (631) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ، فَأَخْطَأَ، أَوْ الْأَعْمَى بِلَا دَلِيلٍ، أَعَادَا) . أَمَّا الْبَصِيرُ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، سَوَاءٌ إذَا صَلَّى بِدَلِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ مَنْ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْقِبَلِ الْمَنْصُوبَةِ، وَيَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، كَالْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَأَخْطَأَ، لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ؛ لِتَفْرِيطِهِ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ، فَأَخْطَأَهُ، فَقَدْ غَرَّهُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ خَبَرَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ. فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا، لَا يَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: هُوَ كَالْمُسَافِرِ، يَتَحَرَّى فِي مَحْبِسِهِ، وَيُصَلِّي، مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَحَارِيبِ، فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ. وَأَمَّا الْأَعْمَى، فَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ، فَهُوَ كَالْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَحَارِيبِ، فَإِنَّ الْأَعْمَى إذَا لَمَسَ الْمِحْرَابَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِحْرَابٌ، وَأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْبَصِيرِ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الشَّمَالِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ، جَازَ لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَمَتَى أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَحُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْأَعْمَى فِي هَذَا. وَإِنْ كَانَ الْأَعْمَى، أَوْ الْمُقَلِّدُ مُسَافِرًا، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْبِرُهُ، وَلَا مُجْتَهِدًا يُقَلِّدُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يُعِيدُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ وَإِنْ أَصَابَ، كَانَ كَالْمُجْتَهِدِ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ، سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ: إحْدَاهُمَا: يُعِيدُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَهِدَ وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِ مَا أَتَى بِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ، كَسَائِرِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلدَّلِيلِ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَهِدَ، فِي الْغَيْمِ وَالْحَبْسِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ أَخْطَأَ أَعَادَ، وَإِنْ أَصَابَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَحُكْمُ الْمُقَلِّدِ لِعَدَمِ بَصِيرَتِهِ كَعَادِمِ بَصَرِهِ. فَأَمَّا إنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ، أَوْ مَنْ يُخْبِرُهُ، فَلَمْ يَسْتَخْبِرْهُ وَلَمْ يُقَلِّدْ، أَوْ خَالَفَ الْمُخْبِرَ وَالْمُجْتَهِدَ، وَصَلَّى، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَأَصَابَ، أَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ سَوَاءٌ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِهَا. [مَسْأَلَة لَا يَتَّبِعُ دَلَالَةَ مُشْرِكٍ بِحَالِ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَة] (632) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتْبَعُ دَلَالَةَ مُشْرِكٍ بِحَالٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَلَا رِوَايَتُهُ، وَلَا شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ أَمَانَةٍ) وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَأْتَمِنُوهُمْ بَعْدَ إذْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ. وَلَا يَقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَأْثَمٌ بِكَذِبِهِ، فَتَحَرُّزُهُ مِنْ الْكَذِبِ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ. وَقَالَ التَّمِيمِيُّ؛ يُقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الْمُخْبِرِ، فَإِنْ شَكَّ فِي إسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ، لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ مَحَارِيبَ لَا يَعْلَمُ هَلْ هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَتَهُ وَفِسْقَهُ، قَبِلَ خَبَرَهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يُبْنَى عَلَى الْعَدَالَةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهَا، وَيَقْبَلُ خَبَرَ سَائِرُ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ، سَوَاءٌ كَانُوا رِجَالًا أَوْ نِسَاءً، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ الدِّينِ، فَأَشْبَهَ الرِّوَايَةَ. وَيَقْبَلُ مِنْ الْوَاحِدِ كَذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 آدَابُ الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ، إذَا أَقْبَلَ إلَى الصَّلَاةِ، أَنْ يُقْبِلَ بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إلَيْهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إذَا أَتَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ " فَاقْضُوا ". قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى أَنْ يُسْرِعَ شَيْئًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تُقَبَّحُ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خُطَاهُ، لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ، فَإِنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، فِي " مُسْنَدِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ، فَقَارَبَ فِي الْخُطَى، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (633) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَأَعْطِنِي نُورًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ "، وَابْنُ مَاجَهْ فِي " السُّنَنِ "، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَخَرَجْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] » . (634) فَصْلٌ: فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَقَالَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ أَبِي أُسَيْدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ» ، وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيَشْتَغِلُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ يَسْكُتُ، وَلَا يَخُوضُ فِي حَدِيثِ الدُّنْيَا، وَلَا يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ؛ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " [فَصْلٌ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهَا بِنَافِلَةِ] (635) فَصْلٌ: وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهَا بِنَافِلَةٍ، سَوَاءٌ خَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ رَكَعَهُمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَرْكَعُهُمَا إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ، فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، كَمَا لَوْ خَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ السُّنَّةُ، فَمَنْ أَدْلَى بِهَا فَقَدْ فَلَحَ، وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا فَقَدْ نَجَا. قَالَ: وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ، فَقَالَ: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟» . وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَابْنُ بُحَيْنَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كُلَّهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " التَّمْهِيدِ ". قَالَ: وَكُلُّ هَذَا إنْكَارٌ مِنْهُ لِهَذَا الْفِعْلِ. فَأَمَّا إنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي النَّافِلَةِ، وَلَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ، أَتَمَّهَا، وَلَمْ يَقْطَعْهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يُتِمُّهَا؛ لِذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ، يَقْطَعُهَا؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. [فَصْلٌ دُعَاء الِافْتِتَاح] (636) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: قَبْلَ التَّكْبِيرِ يَقُولُ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. يَعْنِي لَيْسَ قَبْلَهُ دُعَاءٌ مَسْنُونٌ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 [بَاب صِفَةِ الصَّلَاةِ] ِ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ سَمِعْت أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ؛ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالُوا: فَاعْرِضْ. قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، حَتَّى يَقِرَّ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا. ثُمَّ يَقْرَأُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَعْتَدِلُ، فَلَا يُصَوِّبُ رَأْسَهُ وَلَا يُقْنِعُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ يَهْوِي إلَى الْأَرْضِ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ إذَا سَجَدَ، وَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَرْفَعُ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى، فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَةِ كَبَّرَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ. قَالُوا: صَدَقْتَ، هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: «فَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى قَائِمًا حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ، وَلَا قَابِضَهُمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْأُخْرَى، فَإِذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» . [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ عِنْد قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ] (637) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَى هَذَا أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُومُ إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَسَالِمٌ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، يَقُومُونَ فِي أَوَّلِ بَدْوَةٍ مِنْ الْإِقَامَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقُومُ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. كَبَّرَ. وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 يُكَبِّرُونَ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. وَبِهِ قَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بِلَالٍ: لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ قَبْلَ فَرَاغِهِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا أَنْ يُكَبِّرَ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ جُلُّ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَمْصَارِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ يَقُومُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَمَقْصُودُهُ الْإِعْلَامُ لِيَقُومُوا، فَيُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْقِيَامِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، وَتَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُعَدِّلُ الصُّفُوفَ بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ فِي الْإِقَامَةِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ، فَرَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْهُ قَالَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ: اسْتَوُوا وَاعْتَدِلُوا» . وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا» . وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ، فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَإِنَّ بِلَالًا كَانَ يُقِيمُ فِي مَوْضِعِ أَذَانِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مَا يَفُوتُ بِلَالًا " آمِينَ "، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَقُومُ الْمَأْمُومُونَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِهِ. قَالَ أَحْمَدُ. فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَقَمْنَا الصُّفُوفَ» . إسْنَادٌ جَيِّدٌ؛ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الصُّفُوفُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ، فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِنْ أُقِيمَتْ، وَالْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا قُرْبَهُ، لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: " قَدْ خَرَجْتُ "، وَخَرَجَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ قِيَامًا لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ] (638) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ، يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: اسْتَوُوا. رَحِمَكُمْ اللَّهُ. وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: «صَلَّيْت إلَى جَنْبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمًا، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي لِمَ صُنِعَ هَذَا الْعُودُ؟ قُلْت: لَا وَاَللَّهِ. فَقَالَ: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ أَخَذَهُ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ: اعْتَدِلُوا، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ. ثُمَّ أَخَذَهُ بِيَسَارِهِ، وَقَالَ: اعْتَدِلُوا، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلِ اللَّهُ أَكْبَرُ] (639) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَإِذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ ". عِنْدَ إمَامِنَا، وَمَالِكٍ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَطَاوُسٌ، وَأَيُّوبُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، يَقُولُونَ: افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ. وَعَلَى هَذَا عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ. لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَمْ تُغَيِّرْهُ عَنْ بِنْيَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَفَادَتْ التَّعْرِيفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ بِكُلِّ اسْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَظِيمٌ. أَوْ كَبِيرٌ، أَوْ جَلِيلٌ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَنَحْوِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، أَشْبَهَ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُطْبَةِ، حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَفْظُهَا. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، فَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» . «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ» . لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عُدُولٌ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ دَلَالَةَ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِقَوْلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا لَفْظٌ بِعَيْنِهِ فِي جَمِيعِ خُطَبِهِ، وَلَا أَمْرٌ بِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا وَالتَّلَفُّظِ بِمَا شَاءَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَالصَّلَاةُ بِخِلَافِهِ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عُدُولٌ عَنْ الْمَنْصُوصِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: اللَّهُ الْعَظِيمُ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ تُغَيَّرْ بِنْيَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ التَّنْكِيرِ إلَى التَّعْرِيفِ، وَكَانَ مُتَضَمِّنًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 لَإِضْمَارٍ أَوْ تَقْدِيرٍ. فَزَالَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " اللَّهُ أَكْبَرُ " التَّقْدِيرُ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي الْمُتَعَارَفِ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إلَّا هَكَذَا، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى قَوْلِ " بِسْمِ اللَّهِ " دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ مِثْلًا لَهَا. [فَصْلٌ التَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ] (640) فَصْلٌ: وَالتَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَهَذَا قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، أَجْزَأَتْهُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِهِ. [فَصْلٌ لَا يَصِحُّ التَّكْبِيرُ إلَّا مُرَتَّبًا] (641) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ التَّكْبِيرُ إلَّا مُرَتَّبًا، فَإِنْ نَكَسَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا. وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُسْمِعَهُ نَفْسَهُ إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَارِضٌ مِنْ طَرَشٍ، أَوْ مَا يَمْنَعُهُ السَّمَاعَ، فَيَأْتِيَ بِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا أَوْ لَا عَارِضَ بِهِ سَمِعَهُ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَحَلُّهُ اللِّسَانُ، وَلَا يَكُونُ كَلَامًا بِدُونِ الصَّوْتِ، وَالصَّوْتُ مَا يَتَأَتَّى سَمَاعُهُ، وَأَقْرَبُ السَّامِعِينَ إلَيْهِ نَفْسُهُ، فَمَتَى لَمْ يَسْمَعْهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَتَى بِالْقَوْلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ] (642) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمَأْمُومُونَ لِيُكَبِّرُوا، فَإِنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّكْبِيرُ إلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إسْمَاعُهُمْ، جَهَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ لِيَسْمَعَهُمْ، أَوْ لِيَسْمَعَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ؛ لِيُسْمِعَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ يُبَيِّنُ التَّكْبِيرَ وَلَا يَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمَدِّ] (643) فَصْلٌ: وَيُبَيِّنُ التَّكْبِيرَ، وَلَا يَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمَدِّ، فَإِنْ فَعَلَ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ الْمَعْنَى، مِثْلُ أَنْ يَمُدَّ الْهَمْزَةَ الْأُولَى، فَيَقُولَ: آللَّهُ. فَيَجْعَلَهَا اسْتِفْهَامًا، أَوْ يَمُدَّ أَكْبَرَ. فَيَزِيدَ أَلِفًا، فَيَصِيرَ جَمْعَ كَبَرٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَهُوَ الطَّبْلُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ. وَنَحْوَهُ، لَمْ يُسْتَحَبَّ. نَصَّ عَلَيْهِ، وَانْعَقَدَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. [فَصْلٌ التَّكْبِيرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ] فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُهُ التَّكْبِيرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . وَهَذَا قَدْ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ النُّصُوصِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا، وَهَذَا يَخُصُّ مَا ذَكَرُوا. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ، لَزِمَهُ تَعَلُّمُ التَّكْبِيرِ بِهَا، فَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ كَبَّرَ بِلُغَتِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ ". وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ ": لَا يُكَبِّرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَخْرَسِ، كَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَالذِّكْرُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ ذِكْرًا. [فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ أَخْرَسِ أَوْ عَاجِزًا عَنْ التَّكْبِيرِ بِكُلِّ لِسَانٍ] (645) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ أَوْ عَاجِزًا عَنْ التَّكْبِيرِ بِكُلِّ لِسَانٍ، سَقَطَ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْآخَرُ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ عَجَزَ عَنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ فِي مَوْضِعِهِ كَالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ضَرُورَةً يُوقَفُ التَّكْبِيرُ عَلَيْهَا، فَإِذَا سَقَطَ التَّكْبِيرُ سَقَطَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، كَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ، سَقَطَ عَنْهُ النُّهُوضُ إلَيْهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ عَبَثٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ، كَالْعَبَثِ بِسَائِرِ جَوَارِحِهِ. [فَصْلٌ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا] (646) فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا. فَإِنْ انْحَنَى إلَى الرُّكُوعِ بِحَيْثُ يَصِيرُ رَاكِعًا قَبْلَ إنْهَاءِ التَّكْبِيرِ، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نَافِلَةً؛ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ فِيهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الرُّكُوعِ غَيْرُ صِفَةِ الْقُعُودِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّكْبِيرَ قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا. وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَاعِدًا، كَانَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ وُجُودِ الرُّكُوعِ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَبَّرَ فِي الْفَرِيضَةِ، فِي حَالِ انْحِنَائِهِ إلَى الرُّكُوعِ، انْعَقَدَتْ نَفْلًا؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَ وُقُوعُهَا فَرْضًا، وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا نَفْلًا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا. [فَصْلٌ لَا يُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرَغَ إمَامُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ] (647) فَصْلٌ: وَلَا يُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرُغَ إمَامُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ مَعَهُ، كَمَا يَرْكَعُ مَعَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالرُّكُوعُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْكَعُ بَعْدَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالرُّكُوعِ مَعَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ. فَإِنْ كَبَّرَ قَبْلَ إمَامِهِ، لَمْ يَنْعَقِدْ تَكْبِيرُهُ، وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ. [فَصْلٌ التَّكْبِيرُ مِنْ الصَّلَاةِ] (648) فَصْلٌ: وَالتَّكْبِيرُ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ. لَيْسَ هُوَ مِنْهَا؛ بِدَلِيلِ إضَافَتِهِ إلَيْهَا، بِقَوْلِهِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» ، وَلَا يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ: «إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَمَا ذَكَرُوهُ غَلَطٌ؛ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ تُضَافُ إلَيْهِ، كَيَدِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِهِ وَأَطْرَافِهِ. [مَسْأَلَة وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ] (649) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَنْوِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ، يَعْنِي بِالتَّكْبِيرَةِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ. وَإِنْ لَفَظَ بِمَا نَوَاهُ، كَانَ تَأْكِيدًا. فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَكْتُوبَةً، لَزِمَتْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا؛ ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا، أَوْ غَيْرَهُمَا، فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ شَيْئَيْنِ؛ الْفِعْلِ، وَالتَّعْيِينِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، لِأَنَّ التَّعْيِينَ يُغْنِي عَنْهَا؛ لِكَوْنِ الظُّهْرِ مَثَلًا لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا مِنْ الْمُكَلَّفِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَةَ قَدْ تَكُونُ نَفْلًا، كَظُهْرِ الصَّبِيِّ وَالْمُعَادَةِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْفِعْلِ، وَالتَّعْيِينِ، وَالْفَرْضِيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا كَلَامَ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: " يَنْوِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ " أَيْ الْوَاجِبَةَ الْمُعَيَّنَةَ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْمَعْهُودِ، أَيْ أَنَّهَا الْمَكْتُوبَةُ الْحَاضِرَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الْمَفْرُوضَةَ انْصَرَفَتْ النِّيَّةُ إلَى الْحَاضِرَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْمَعْهُودِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْحُضُورُ لَا يَكْفِي عَنْ النِّيَّةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُغْنِ عَنْ نِيَّةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ، فَلَا تَتَعَيَّنُ إحْدَاهُنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ. فَأَمَّا الْفَائِتَةُ، فَإِنْ عَيَّنَهَا بِقَلْبِهِ أَنَّهَا ظُهْرُ الْيَوْمِ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَلَا الْأَدَاءِ، بَلْ لَوْ نَوَاهَا أَدَاءً، فَبَانَ أَنَّ وَقْتَهَا قَدْ خَرَجَ وَقَعَتْ قَضَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ، فَنَوَاهَا قَضَاءً، فَبَانَ أَنَّهَا فِي وَقْتِهَا، وَقَعَتْ أَدَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَالْأَسِيرِ إذَا تَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا، يُرِيدُ بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَوَافَقَهُ، أَوْ مَا بَعْدَهُ، أَجْزَأَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً، فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسِ، وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الظُّهْرِ. وَلَوْ نَوَى ظُهْرَ الْيَوْمِ فِي وَقْتِهَا، وَعَلَيْهِ فَائِتَةٌ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْهَا، وَيَتَخَرَّجُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ، فَنَوَى صَلَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، لَزِمَهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَدَّى الْفَائِتَةَ. وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً لَا يَدْرِي أَظُهْرٌ هِيَ أَمْ عَصْرٌ، لَزِمَهُ صَلَاتَانِ، فَإِنْ صَلَّى وَاحِدَةً يَنْوِي أَنَّهَا الْفَائِتَةُ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. (650) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّافِلَةُ، فَتَنْقَسِمُ إلَى مُعَيَّنَةٍ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالتَّرَاوِيحِ، وَالْوِتْرِ، وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا، وَإِلَى مُطْلَقَةٍ، كَصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَيُجْزِئُهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرُ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ فِيهَا. [فَصْلٌ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بُنَيَّة مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ إتْمَامِهَا وَقَطْعِهَا] (651) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ إتْمَامِهَا وَقَطْعِهَا، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَزْمٌ جَازِمٌ، وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ. وَإِنْ تَلَبَّسَ بِهَا بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، ثُمَّ نَوَى قَطْعَهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا، بَطَلَتْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ صَحَّ دُخُولُهُ فِيهَا، فَلَمْ تَفْسُدْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا كَالْحَجِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَطَعَ حُكْمَ النِّيَّةِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ، فَفَسَدَتْ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَطَعَهَا بِمَا حَدَثَ، فَفَسَدَتْ لِذَهَابِ شَرْطِهَا، وَفَارَقَتْ الْحَجَّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِمَحْظُورَاتِهِ، وَلَا بِمُفْسِدَاتِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا إنْ تَرَدَّدَ فِي قَطْعِهَا، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّيَّةِ شَرْطٌ مَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَكُونُ مُسْتَدِيمًا لَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا [فَصْلٌ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُون حَقِيقَتِهَا] (652) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي قَطْعَهَا. وَلَوْ ذَهَلَ عَنْهَا وَعَزَبَتْ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، بِدَلِيلِ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ حُصَاصٌ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا، اُذْكُرْ كَذَا، حَتَّى يَظَلَّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّك لَمْ تَقْرَأْ. فَقَالَ: إنِّي جَهَّزْتُ جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ وَادِيَ الْقُرَى [فَصْلٌ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ هَلْ نَوَى أَوْ لَا أَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ] (653) فَصْلٌ: فَإِنْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، هَلْ نَوَى أَوْ لَا؟ أَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، اسْتَأْنَفَهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ؛ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَوَى أَوْ كَبَّرَ قَبْلَ قَطْعِهَا، أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ، فَلَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مُبْطِلٌ لَهَا. وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا مَعَ الشَّكِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ وَحُكْمِهَا، فَإِنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِهَا مَعَ الشَّكِّ لَا يُوجَدُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَبْطُلُ، وَيَبْنِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ حُكْمَ النِّيَّةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ لَمْ يُحْدِثْ عَمَلًا، فَإِنَّهُ يَبْنِي، وَلَوْ زَالَ حُكْمُ النِّيَّةِ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا. وَإِنْ شَكَّ هَلْ نَوَى فَرْضًا أَوْ نَفْلًا؟ أَتَمَّهَا نَفْلًا، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ نَوَى الْفَرْضَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ عَمَلًا. وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ إحْدَاثِ عَمَلٍ، خُرِّجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنْ شَكَّ، هَلْ أَحْرَمَ بِظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ؟ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ شَكَّ؛ فِي النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، وَقَدْ زَالَ بِالشَّكِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُتِمَّهَا نَفْلًا، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، فَبَانَ أَنَّهُ قَبْلَ وَقْتِهِ. [فَصْلٌ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةِ ثُمَّ نَوَى نَقْلَهَا إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى] (654) فَصْلٌ: وَإِذَا أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ نَوَى نَقْلَهَا إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، لِأَنَّهُ قَطَعَ نِيَّتَهَا، وَلَمْ تَصِحَّ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا مِنْ أَوَّلِهَا. فَإِنْ نَقَلَهَا إلَى نَفْلٍ لِغَيْرِ غَرَضٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ فِي " الْجَامِعِ ": يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُكْرَهُ، وَيَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ يَدْخُلُ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ، وَصِحَّةُ نَقْلِهَا إذَا كَانَ لِغَرَضٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إنْ نَقَلَهَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، مِثْلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهَا مُنْفَرِدًا، فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، فَجَعَلَهَا نَفْلًا لِيُصَلِّيَ فَرْضَهُ فِي جَمَاعَةٍ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ النَّفَلَ مِنْ أَوَّلِهَا. وَالثَّانِيَةُ، يَصِحّ؛ لِأَنَّهُ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ تَأْدِيَةُ فَرْضِهِ فِي الْجَمَاعَةِ مُضَاعَفَةً لِلثَّوَابِ، بِخِلَافِ مَنْ نَقَلَهَا لِغَيْرِ غَرَضٍ، فَإِنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا فَائِدَةٍ. [مَسْأَلَة تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ] (655) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَفْسَخْهَا أَجْزَأَهُ) قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ أَوْ فَسَخَ نِيَّتَهُ بِذَلِكَ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى هَذَا، وَفَسَّرَهُ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . فَقَوْلُهُ (مُخْلِصِينَ) حَالٌ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْحَالَ وَصْفُ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ، وَالْإِخْلَاصُ هُوَ النِّيَّةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْلُوَ الْعِبَادَةُ عَنْهَا، كَسَائِرِ شُرُوطِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَجَازَ تَقْدِيمُ نِيَّتِهَا عَلَيْهَا، كَالصَّوْمِ، وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَنْوِيًّا، وَلَا يُخْرِجُ الْفَاعِلَ عَنْ كَوْنِهِ مُخْلِصًا، بِدَلِيلِ الصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ إذَا دَفَعَهَا إلَى وَكِيلِهِ، كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ. [مَسْأَلَة رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ] (656) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، أَوْ إلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي رَفْعِهِمَا إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ أَوْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَبْلُغَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَإِنَّمَا خُيِّرَ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالرَّفْعُ إلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ؛ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَالرَّفْعُ إلَى حَذْوِ الْأُذُنَيْنِ. رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَيْلُ أَحْمَدَ إلَيَّ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إلَى أَيْنَ يَبْلُغُ بِالرَّفْعِ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَذْهَبُ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إلَى حَذْوِ أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ رُوَاةَ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ وَأَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَّزَ الْآخَرَ لِأَنَّ صِحَّةَ رِوَايَتِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً. (657) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمُدَّ أَصَابِعَهُ وَقْتَ الرَّفْعِ، وَيَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يُفَرِّقَ أَصَابِعَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْشُرُ أَصَابِعَهُ لِلتَّكْبِيرِ» . وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَحَدِيثُهُمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ مَدَّ أَصَابِعِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: هَذَا الضَّمُّ. وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. وَهَذَا النَّشْرُ. وَمَدَّ أَصَابِعَهُ. وَهَذَا التَّفْرِيقُ. وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ. وَلِأَنَّ النَّشْرَ لَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ كَنَشْرِ الثَّوْبِ، وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ. (658) فَصْلٌ: وَيَبْتَدِئُ رَفْعَ يَدَيْهِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهُ مَعَ انْقِضَاءِ تَكْبِيرِهِ، وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا انْقَضَى التَّكْبِيرُ حَطَّ يَدَيْهِ، فَإِنْ نَسِيَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ، لَمْ يَرْفَعْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا. وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرِ رَفَعَ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ بَاقٍ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ يَدَيْهِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ رَفَعَهُمَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى رَفَعَهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُمَا إلَّا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَزِيَادَةٍ مَغْلُوبٍ عَلَيْهَا. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ. (659) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ فِي ثَوْبِهِ، رَفَعَهُمَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشِّتَاءِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابَهُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ فِي الصَّلَاةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّ الثِّيَابِ، تَتَحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَفِي رِوَايَةٍ؛ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى صُدُورِهِمْ. (660) فَصْلٌ: وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تَفْرِيقَ فِيهَا. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إحْدَاهُمَا، تَرْفَعُ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَتَا تَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَلِأَنَّ مَنْ شُرِعَ فِي حَقِّهِ التَّكْبِيرُ شُرِعَ فِي حَقِّهِ الرَّفْعُ كَالرَّجُلِ، فَعَلَى هَذَا تَرْفَعُ قَلِيلًا. قَالَ أَحْمَدُ: رَفْعٌ دُونَ الرَّفْعِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُشْرَعُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّجَافِي، وَلَا يُشْرَعُ ذَلِكَ لَهَا، بَلْ تَجْمَعُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ صَلَاتِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 [مَسْأَلَة وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ] (661) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِهِ الْيُسْرَى) أَمَّا وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، فَمِنْ سُنَّتِهَا فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ إرْسَالُ الْيَدَيْنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنِ. وَلَنَا: مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ وَهُوَ وَاضِعٌ شِمَالَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَأَخَذَ يَمِينَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى شِمَالِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. وَفِي (الْمُسْنَدِ) ، عَنْ غُطَيْفٍ، قَالَ: مَا نَسِيتُ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ أَنْسَ أَنِّي «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِعًا يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى كُوعِهِ، وَمَا يُقَارِبُهُ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي وَصْفِهِ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ. [مَسْأَلَة وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاة] (662) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَوْضِعِ وَضْعِهِمَا، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَضَعُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا فَوْقَ السُّرَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى» . وَعَنْهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَرْوِيٌّ،، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ [مَسْأَلَة الِاسْتِفْتَاح مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ] (663) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَاهُ، بَلْ يُكَبِّرُ وَيَقْرَأُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَفْتِحُ بِهِ فِي صَلَاتِهِ، يَجْهَرُ بِهِ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» . وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِالْفَاتِحَةِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ أَنَسٌ الِاسْتِفْتَاحُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى الِاسْتِفْتَاحِ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ، كَانَ حَسَنًا. أَوْ قَالَ " جَائِزًا "، وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، إلَى الِاسْتِفْتَاحِ بِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنَا عَبْدُك، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ أَسْكَتَ إسْكَاتَةً. حَسِبْته قَالَ: هُنَيْهَةً. بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ إسْكَاتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ، قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ أَنَسٌ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَمِلَ بِهِ السَّلَفُ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَفْتِحُ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَوَى الْأَسْوَدُ، أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عُمَرَ، فَسَمِعَهُ كَبَّرَ، فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ. فَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ أَحْمَدُ، وَجَوَّزَ الِاسْتِفْتَاحَ بِغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: بَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَتْرُوكٌ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَفْتِحُونَ بِأَوَّلِهِ. (664) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالِافْتِتَاحِ. وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْهَرْ بِهِ، وَإِنَّمَا جَهَرَ بِهِ عُمَرُ، لِيُعَلِّمَ النَّاسَ. وَإِذَا نَسِيَ الِاسْتِفْتَاحَ، أَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا حَتَّى شَرَعَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا. وَكَذَلِكَ إنْ نَسِيَ التَّعَوُّذَ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ لِذَلِكَ. [مَسْأَلَة الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ] (665) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (ثُمَّ يَسْتَعِيذُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْتَعِيذُ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَشْهَرُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَدْ مَضَى جَوَابُهُ. وَصِفَةُ الِاسْتِعَاذَةِ: أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُولُ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] وَهَذَا مُتَضَمِّنٌ لَزِيَادَةٍ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْهُ: أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَهَذَا كُلُّهُ وَاسِعٌ، وَكَيْفَمَا اسْتَعَاذَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَيُسِرُّ الِاسْتِعَاذَةَ، وَلَا يَجْهَرُ بِهَا، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [مَسْأَلَة قِرَاءَةَ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة] (666) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ. نَقَلَهُ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ، وَتُجْزِئُ قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَقَوْلِهِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] . وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ وَسَائِرَ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَكَذَا فِي الصَّلَاةِ. وَلَنَا مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَتْ مُعَيَّنَةً كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ» ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا، مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَتَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَاتِحَةَ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورٌ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَنَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ كَانَ مُسِيئًا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ السُّوَرِ. [مَسْأَلَة قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاة] (667) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . مَشْرُوعَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَأَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَقْرَؤُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ؟ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَبْغَضَ إلَيْهِ الْحَدَثُ فِي الْإِسْلَامِ - يَعْنِي مِنْهُ. فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا، فَلَا تَقُلْهَا، إذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَعَدَّهَا آيَةً، وَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] اثْنَيْنِ» . فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ. ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ. وَرَوَى شُعْبَةُ، وَشَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ «صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَفِي لَفْظٍ: فَكُلُّهُمْ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُسِرُّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا أَيْضًا، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وَلِأَنَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يُسْتَفْتَحُ بِهَا سَائِرُ السُّوَرِ، فَاسْتِفْتَاحُ الْفَاتِحَةِ بِهَا أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَفَاتِحَتُهُ، وَقَدْ سَلَّمَ مَالِكٌ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: لَا يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهَا بَقِيَّةَ السُّوَرِ. [مَسْأَلَة الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاة] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجْهَرُ بِهَا) يَعْنِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا غَيْرُ مَسْنُونٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَمَّارٍ. وَبِهِ يَقُولُ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، الْجَهْرُ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا أَخْفَيْنَاهُ عَلَيْكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّهُ صَلَّى وَجَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ: أَقْتَدِي بِصَلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَيَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، كَسَائِرِ آيَاتِهَا. وَلَنَا، حَدِيثُ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَذَكَرَ الْخَبَرَ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَالَ الْإِسْرَارِ، كَمَا سَمِعَ الِاسْتِفْتَاحَ وَالِاسْتِعَاذَةَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ إسْرَارِهِ بِهِمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا، وَسَائِرُ أَخْبَارِ الْجَهْرِ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ رُوَاتَهَا هُمْ رُوَاةُ الْإِخْفَاءِ، وَإِسْنَادُ الْإِخْفَاءِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ الْجَهْرِ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ. [فَصْلٌ الْبَسْمَلَة هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَة يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا] (669) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ؛ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا؟ فَعَنْهُ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ. وَذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ، وَأَبُو حَفْصٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ تَرَكَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَرَأْتُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَإِنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ، وَإِنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا» . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَثْبَتُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّهَا، وَلَمْ يُثْبِتُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ سِوَى الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَا آيَةً مِنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا، فَقِيلَ عَنْهُ: هِيَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ كَانَتْ تَنْزِلُ بَيْنَ سُورَتَيْنِ، فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ. وَعَنْهُ: إنَّمَا هِيَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْبَدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إلَّا فِي سُورَةِ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قَالَ اللَّهُ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَلَوْ كَانَتْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آيَةً لَعَدَّهَا، وَبَدَأَ بِهَا، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّنْصِيفُ، لِأَنَّ آيَاتِ الثَّنَاءِ تَكُونُ أَرْبَعًا وَنِصْفًا، وَآيَاتِ الدُّعَاءِ اثْنَتَيْنِ وَنِصْفًا. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ: «يَقُولُ عَبْدِي إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي» . قُلْنَا: ابْنُ سَمْعَانَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَاتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَى خِلَافِ رِوَايَتِهِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سُورَةٌ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِقَارِئِهَا، أَلَا وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، بِدُونِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَكَانَتْ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ الْآيِ تَجْرِي مَجْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الْآيِ أَنْفُسِهَا، فِي أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ تَوَاتُرٌ. فَأَمَّا قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ رَأْيِهَا، وَلَا يُنْكَرُ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ. عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ: هِيَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ، قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَاجَعْتُ فِيهِ نُوحًا فَوَقَفَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ كَانَ وَهْمًا مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ. وَأَمَّا إثْبَاتُهَا بَيْنَ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ، فَلِلْفَصْلِ بَيْنَهَا، وَلِذَلِكَ أُفْرِدَتْ سَطْرًا عَلَى حِدَتِهَا. [فَصْلٌ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاة مُرَتَّبَةً مُشَدَّدَةً غَيْرَ مُلِحُّونَ فِيهَا] فَصْلٌ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً مُشَدَّدَةً، غَيْرَ مَلْحُونٍ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، فَإِنْ تَرَكَ تَرْتِيبَهَا، أَوْ شَدَّةً مِنْهَا، أَوْ لَحَنَ لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، مِثْلُ أَنْ يَكْسِرَ كَافَ (إيَّاكَ) ، أَوْ يَضُمَّ تَاءَ (أَنْعَمْتَ) ، أَوْ يَفْتَحَ أَلِفَ الْوَصْلِ فِي (اهْدِنَا) ، لَمْ يَعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ غَيْرِ هَذَا. ذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا فِي (الْمُجَرَّدِ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي (الْجَامِعِ) : لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ شَدَّةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، هِيَ صِفَةٌ لِلْحَرْفِ، وَيُسَمَّى تَارِكُهَا قَارِئًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمُشَدَّدَ أُقِيمَ مَقَامَ حَرْفَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ شَدَّةَ رَاءِ (الرَّحْمَنِ) أُقِيمَتْ مَقَامَ اللَّازِمِ، وَشَدَّةَ لَامِ (الَّذِينَ) أُقِيمَتْ مَقَامَ اللَّازِمِ أَيْضًا، فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا أَخَلَّ بِالْحَرْفِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَغَيَّرَ الْمَعْنَى، إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْمُدْغَمَ، مِثْلُ مَنْ يَقُولُ " الرَّحْمَنِ " مُظْهِرًا لِلَّامِ، فَهَذَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْإِدْغَامَ، وَهُوَ مَعْدُودٌ لَحْنًا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى. قَالَ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ، أَنَّهُ إذَا لَيَّنَهَا، وَلَمْ يُحَقِّقْهَا عَلَى الْكَمَالِ، أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَرَادَ فِي (الْجَامِعِ) هَذَا الْمَعْنَى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ مُتَّفِقًا. وَلَا يُسْتَحَبُّ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّشْدِيدِ، بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ حَرْفٍ سَاكِنٍ؛ لِأَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُقِيمَتْ مَقَامَ حَرْفٍ سَاكِنٍ؛ فَإِذَا زَادَهَا عَلَى ذَلِكَ زَادَهَا عَمَّا أُقِيمَتْ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا. وَفِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَلَاثُ شَدَّاتٍ، وَفِيمَا عَدَاهَا إحْدَى عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 [فَصْلٌ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة] (671) فَصْلٌ: وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ، يُسْمِعُهَا نَفْسَهُ، أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا لَوْ كَانَ سَمِيعًا، كَمَا قُلْنَا فِي التَّكْبِيرِ، فَإِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّلَةً مُعْرَبَةً، يَقِفُ فِيهَا عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ، وَيُمَكِّنُ حُرُوفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى التَّمْطِيطِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] . وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، «أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي (مُسْنَدِهِ) وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ انْتَهَى ذَلِكَ إلَى التَّمْطِيطِ وَالتَّلْحِينِ كَانَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَعَلَ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا. قَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ السَّهْلَةُ. وَقَالَ: قَوْلُهُ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» قَالَ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: " أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً، مَنْ إذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ ". وَرُوِيَ: (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَاقْرَءُوهُ بِحُزْنٍ) [فَصْلٌ قَطَعَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة] (672) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِذِكْرٍ؛ مِنْ دُعَاءٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ، أَوْ سُكُوتٍ يَسِيرٍ، أَوْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، قَالَ: آمِينَ. وَلَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ: إذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ. وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ قِرَاءَتَهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مَأْمُورًا بِهِ، كَالْمَأْمُومِ يَشْرَعُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، فَيُنْصِتُ لَهُ، فَإِذَا سَكَتَ الْإِمَامُ أَتَمَّ قِرَاءَتَهَا، وَأَجْزَأَتْهُ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّكُوتُ نِسْيَانًا، أَوْ نَوْمًا، أَوْ لِانْتِقَالِهِ إلَى غَيْرِهَا غَلَطًا، لَمْ يَبْطُلْ، فَمَتَى ذَكَرَ أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَإِنْ تَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ، أَبْطَلَهَا، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بِذَلِكَ. فَإِنْ نَوَى قَطْعَ قِرَاءَتِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَهَا، لَمْ تَنْقَطِعْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُخَالِفٌ لِنِيَّتِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفِعْلِ لَا بِالنِّيَّةِ. وَكَذَا إنْ سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ سُكُوتًا يَسِيرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالنِّيَّةِ، فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي (الْجَامِعِ) ، أَنَّهُ مَتَى سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ أَبْطَلَهَا، وَمَتَى عَدَلَ إلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ عَمْدًا، أَوْ دُعَاءٍ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهِ، بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَإِنْ قَدَّمَ آيَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا عَمْدًا، أَبْطَلَهَا. وَإِنْ كَانَ غَلَطًا، رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْغَلَطِ فَأَتَمَّهَا. وَالْأَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ، مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِرَاءَةِ وُجُودُهَا، لَا نِيَّتُهَا، فَمَتَى قَرَأَهَا مُتَوَاصِلَةً تَوَاصُلًا قَرِيبًا صَحَّتْ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ غَلَطٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 [فَصْلٌ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ] (673) فَصْلٌ: وَيَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَسَبِّحْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَوْ وَجَبَتْ فِي بَقِيَّةِ الرَّكَعَاتِ، لَسُنَّ الْجَهْرُ بِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، كَالْأُولَيَيْنِ. وَعَنْ الْحَسَنِ: أَنَّهُ إنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَجْزَأَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ إنْ قَرَأَ فِي ثَلَاثٍ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعْظَمُ الصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُطَوِّلُ الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «. وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَعَنْهُ، وَعَنْ عُبَادَةَ، قَالَا: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» . رَوَاهُمَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الْأُولَى، ثُمَّ قَالَ: (وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا) . فَيَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: (مَنْ صَلَّى رَكْعَةً، فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا فَلَمْ يُصَلِّ. إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ) رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ ". وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ كَذَّابًا. ثُمَّ هُوَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَقَدْ خَالَفَهُ عُمَرُ، وَجَابِرٌ، وَالْإِسْرَارُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ بِدَلِيلِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. [فَصْلٌ لَا تُجَزِّئهُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاة] (674) فَصْلٌ: وَلَا تُجْزِئُهُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا إبْدَالُ لَفْظِهَا بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ قِرَاءَتَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أَنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] . وَلَا يُنْذَرُ كُلُّ قَوْمٍ إلَّا بِلِسَانِهِمْ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] . وقَوْله تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] . وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ؛ لَفْظَهُ، وَمَعْنَاهُ، فَإِذَا غُيِّرَ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ، فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا وَلَا مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ تَفْسِيرُهُ مِثْلَهُ لَمَا عَجَزُوا عَنْهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، أَمَّا الْإِنْذَارُ، فَإِنَّهُ إذَا فَسَّرَهُ لَهُمْ كَانَ الْإِنْذَارُ بِالْمُفَسَّرِ دُونَ التَّفْسِيرِ. (675) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَعَرَفَ مِنْ الْفَاتِحَةِ آيَةً، كَرَّرَهَا سَبْعًا. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مِنْهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ أَحْسَنَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَرَّرَهُ بِقَدْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَقِيَّةِ الْآيِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِقِرَاءَتِهَا، فَيَعْدِلُ عَنْ تَكْرَارِهَا إلَى غَيْرِهَا، كَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُ بِهِ، وَيَعْدِلُ إلَى التَّيَمُّمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فِي " الْجَامِعِ ". وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ عَرَفَ بَعْضَ آيَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَكْرَارُهَا، وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ أَنْ يَقُولَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَغَيْرَهَا. وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْرَارِهَا. وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهَا، وَكَانَ يَحْفَظُ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، قَرَأَ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إنْ قَدَرَ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَك قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَهَلِّلْهُ، وَكَبِّرْهُ» وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَانَ أَوْلَى. وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ بِعَدَدِ آيَاتِهَا. وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ حُرُوفِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي عَدَدُ الْحُرُوفِ دُونَهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ طَوِيلٍ، فَلَا يُعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ عَلَى قَدْرِ سَاعَاتِ الْأَدَاءِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ مَقْصُودٌ؛ بِدَلِيلِ تَقْدِيرِ الْحَسَنَاتِ بِهِ، وَيُخَالِفُ الصَّوْمَ، إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ فِي السَّاعَاتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا آيَةً، كَرَّرَهَا سَبْعًا. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَا أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ. فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ: هَذَا لِلَّهِ. فَمَا لِي؟ قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي» . وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسِ الْأُوَلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا زَادَهُ عَلَيْهَا حِينَ طَلَبَ الزِّيَادَةَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ كَلِمَتَيْنِ، حَتَّى تَكُونَ مَقَامَ سَبْعِ آيَاتٍ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ ذَلِكَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: عَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي. وَالسُّؤَالُ كَالْمُعْتَادِ فِي الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُكَ هَذَا. وَتُفَارِقُ الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كُلَّهَا، قَالَ مَا يُحْسِنُ مِنْهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُ مِنْهَا بِقَدْرِهَا، كَمَنْ يُحْسِنُ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ التَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَهَلِّلْهُ، وَكَبِّرْهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَة التَّأْمِينَ عِنْد فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاة] (676) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا قَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ: آمِينَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّأْمِينَ عِنْدَ فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: لَا يَحْسُنْ التَّأْمِينُ لِلْإِمَامِ؛ لِمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ. قَالَ: آمِينَ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ قَالَ بِلَالٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ) . وَحَدِيثُهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَعْرِيفُهُمْ مَوْضِعَ تَأْمِينِهِمْ، وَهُوَ عَقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ: (وَلَا الضَّالِّينَ) . لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَأْمِينِ الْإِمَامِ، لِيَكُونَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُوَافِقًا لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُصَرَّحًا بِهِ، كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فِي " مُسْنَدِهِ ". عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ. فَقُولُوا: آمِينَ. فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ. وَالْإِمَامُ يَقُولُ: آمِينَ. فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: (إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ) . يَعْنِي إذَا شَرَعَ فِي التَّأْمِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 (677) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِخْفَاؤُهَا فِيمَا يُخْفِي فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: يُسَنُّ إخْفَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ. فَاسْتُحِبَّ إخْفَاؤُهُ كَالتَّشَهُّدِ. وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آمِينَ. وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّأْمِينِ عِنْدَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ، فَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ لَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ، كَحَالَةِ الْإِخْفَاءِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِآخِرِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ وَيُجْهَرُ بِهِ، وَدُعَاءُ التَّشَهُّدِ تَابِعٌ لَهُ. فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِخْفَاءِ، وَهَذَا تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَيَتْبَعُهَا فِي الْجَهْرِ. فَصْلٌ: فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ؛ لِيُذَكِّرَ الْإِمَامَ، فَيَأْتِيَ بِهِ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ قَوْلِيَّةٌ إذَا تَرَكَهَا الْإِمَامُ أَتَى بِهَا الْمَأْمُومُ، كَالِاسْتِعَاذَةِ، وَإِنْ أَخْفَاهَا الْإِمَامُ جَهَرَ بِهَا الْمَأْمُومُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ تَرَكَ التَّأْمِينَ نِسْيَانًا، أَوْ عَمْدًا، حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ، لَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا. (679) فَصْلٌ: فِي " آمِينْ " لُغَتَانِ: قَصْرُ الْأَلِفِ، وَمَدُّهَا، مَعَ التَّخْفِيفِ فِيهِمَا، قَالَ الشَّاعِرُ: تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ إذْ دَعْوَتُهُ ... أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا وَأَنْشَدُوا فِي الْمَمْدُودِ: يَا رَبِّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا وَمَعْنَى " آمِينَ " اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِي. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا يَجُوزُ التَّشْدِيدُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ مَعْنَاهَا، فَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى قَاصِدِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] . (680) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ عَقِيبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سَكْتَةً يَسْتَرِيحُ فِيهَا، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَنْ خَلْفَهُ الْفَاتِحَةَ، كَيْ لَا يُنَازِعُوهُ فِيهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّ، سَمُرَةَ، حَدَّثَ، أَنَّهُ حَفِظَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكْتَتَيْنِ؛ سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ، وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ، فَكَتَبَا فِي ذَلِكَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ فِي كِتَابِهِ إلَيْهِمَا، أَنَّ سَمُرَةَ قَدْ حَفِظَ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنْ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ، إذَا قَالَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) . فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. [مَسْأَلَة قِرَاءَةُ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلّ صَلَاةٍ] (681) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً فِي ابْتِدَائِهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيَجْهَرُ بِهَا فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ، وَيُسِرُّ فِيمَا يُسِرُّ بِهَا فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَوَى «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: فِي الظُّهْرِ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو بَرْزَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ. وَقَدْ اشْتَهَرَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَأَمَرَ بِهِ مُعَاذًا، فَقَالَ: اقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَبِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَفْتَتِحَ السُّورَةَ بِقِرَاءَةِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: لَا يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهَا فِي بَقِيَّةِ السُّوَرِ. وَيُسِرُّ بِهَا فِي السُّورَةِ كَمَا يُسِرُّ بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَالْخِلَافُ هَاهُنَا كَالْخِلَافِ ثَمَّ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ [فَصْلٌ يَقْرَأُ الْفَاتِحَة بِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ] (682) فَصْلٌ: وَيَقْرَأُ بِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ. وَأَثْنَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. وَلَمْ يَكْرَهْ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنْ الْعَشْرِ، إلَّا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ، وَالتَّكَلُّفِ، وَزِيَادَةِ الْمَدِّ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ وَالتَّثْقِيلِ، نَحْوُ الْجُمُعَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّسْهِيلُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ قِرَاءَتَهُمَا فِي الصَّلَاةِ جَائِزَةٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إمَامٌ كَانَ يُصَلِّي بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا يَبْلُغُ بِهِ هَذَا كُلَّهُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. (683) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتْ التَّوَاتُرُ بِهَا، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، فَإِنْ قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَاتَّصَلَ إسْنَادُهَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِقِرَاءَتِهِمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةً بِغَيْرِ شَكٍّ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ وَهِشَامَ ابْنَ حَكِيمٍ حِينَ اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: «اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ» . وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَبْلَ جَمْعِ عُثْمَانَ الْمُصْحَفَ يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَاتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَيُصَلُّونَ بِهَا، لَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وَلَا بُطْلَانَ صَلَاتِهِمْ بِهِ [فَصْلٌ قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا فِي الصَّلَاة] (684) فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَمَا تَيَسَّرَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُخْرُجْ، فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ، أَنَّهُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الزِّيَادَةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، آخِرَ آلِ عِمْرَانَ وَآخِرَ الْفُرْقَانِ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْفَرِيضَةِ مِنْ السُّورَةِ بَعْضَهَا، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَقْرَأُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُكْرَهُ ذَلِكَ. نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ بِآخِرِ سُورَةٍ. وَقَالَ: سُورَةٌ أَعْجَبُ إلَيَّ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَكَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَرَابَةٌ يُصَلِّي بِهِ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ بِآخِرِ السُّورَةِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ. فَقُلْت لَهُ: هَذَا يُصَلِّي بِك مُنْذُ كَمْ، قَالَ: دَعْنَا مِنْهُ، يَجِيءُ بِآخِرِ السُّوَرِ. وَكَرِهَهُ وَلَعَلَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَحَبَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ. وَكَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِرَاءَةُ السُّورَةِ أَوْ بَعْضِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا، فَأَعْجَبَهُ مُوَافَقَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمْ يُعْجِبْهُ مُخَالَفَتُهُ. وَنُقِلَ عَنْهُ، فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ مِنْ أَوْسَطِ السُّوَرِ وَآخِرِهَا، فَقَالَ: أَمَّا آخِرُ السُّوَرِ فَأَرْجُو، وَأَمَّا أَوْسَطُهَا فَلَا وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، إلَى مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ. وَلَمْ يُنْقَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَوْسَطِهَا. وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَقْرَأُ آخِرَ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ فِي هَذَا رُخْصَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَأَمَّا قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى ذِكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ، وَقَرَأَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَرَّقَهَا مَرَّتَيْنِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ [فَصْلٌ الْجَمْعِ بَيْن السُّوَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ] (685) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ السُّوَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ عَرَفْت النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ. فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُثْمَانُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي أَكْثَرَ صَلَاتِهِ، وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاتِهِ كَذَلِكَ. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مُطْلَقٌ فِي الصَّلَاةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَرْضَ. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَكْتُوبَةِ بِالسُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ. وَإِنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةً، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» . (686) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ بَعْدَ السُّورَةِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِي النَّظْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا؟ قَالَ: ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ سُورَةً، ثُمَّ يَقْرَأَ بَعْدَهَا أُخْرَى، هِيَ قَبْلَهَا فِي النَّظْمِ. فَإِنْ قَرَأَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَا بَأْسَ بِهِ، أَلَيْسَ يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ عَلَى هَذَا؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ الْبَقَرَةِ إلَى أَسْفَلَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَحْنَفَ قَرَأَ بِالْكَهْفِ فِي الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا، اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلٌ يَثْبُتُ قَائِمًا وَيَسْكُتُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ نَفَسُهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ.] (687) فَصْلٌ: إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ، قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَثْبُتُ قَائِمًا، وَيَسْكُتُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ نَفَسُهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَلَا يَصِلُ قِرَاءَتَهُ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ؛ سَكْتَةٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ» . وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ سَمُرَةَ. كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. [مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَة كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ] (688) مَسْأَلَةٌ: (فَإِذَا فَرَغَ كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ) أَمَّا الرُّكُوعُ فَوَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ، وَأَنْ يُكَبِّرَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، مِنْهُمْ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ جَابِرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَعَوَامُّ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَمْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ. وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْهَا لَعَلَّمَهُ إيَّاهُ. وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا. وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَيَقُولُ، أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَلِأَنَّهُ شُرُوعٌ فِي رُكْنٍ، فَشُرِعَ فِيهِ التَّكْبِيرُ، كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ، فَشُرِعَ فِيهِ ذِكْرٌ يَعْلَمُ بِهِ الْمَأْمُومُ انْتِقَالَهُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ، كَحَالَةِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ. (689) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِهِ لِلْإِمَامِ لِيَسْمَعَ الْمَأْمُومُ، فَيَقْتَدِيَ بِهِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ جَمِيعًا، كَقَوْلِنَا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ بِحَيْثُ يُسْمِعُ الْجَمِيعَ، اُسْتُحِبَّ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ رَفْعُ صَوْتِهِ؛ لِيُسْمِعَهُمْ، كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ فِي مَرَضِهِ قَاعِدًا، وَأَبُو بَكْرٍ إلَى جَنْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِأَبِي بَكْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 [مَسْأَلَة رَفَعَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة] (690) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَرَفْعِهِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي يَرْفَعُهُمَا إلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، أَوْ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، كَفِعْلِهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ رَفْعِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ تَكْبِيرِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ عِنْدَ انْتِهَائِهِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٌ، وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَالِمٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي الِافْتِتَاحِ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَلَا أُصَلِّي لَكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَصَلَّى، فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَسَنٌ رَوَى يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لَا يَعُودُ» . قَالُوا وَالْعَمَلُ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ فَقِيهًا، مُلَازِمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَالِمًا بِأَحْوَالِهِ، وَبَاطِنِ أَمْرِهِ وَظَاهِرِهِ، فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَحَالِهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لِرَجُلٍ رَوَى حَدِيثَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: لَعَلَّ وَائِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ. فَتَرَى أَنْ نَتْرُكَ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي لَعَلَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةٌ، وَنَأْخُذَ بِرِوَايَةِ هَذَا. أَوْ كَمَا قَالَ. وَلَنَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ - وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ -: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَقَدْ رَوَاهُ، فِي عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَصَدَّقُوهُ، وَقَالُوا: هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَاهُ سِوَى هَذَيْنِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَأَنَسٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو أُسَيْدَ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو مُوسَى، وَجَابِرُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، فَصَارَ كَالْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ شَكٌّ مَعَ كَثْرَةِ رُوَاتِهِ، وَصِحَّةِ سَنَدِهِ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: رَأَيْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا كَبَّرُوا، وَإِذَا رَكَعُوا، وَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ كَأَنَّهَا الْمَرَاوِحُ. قَالَ أَحْمَدُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّفْعِ فَقَالَ: إي لَعَمْرِي. وَمَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا، كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا رَأَى مَنْ لَا يَرْفَعُ، حَصَبَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ. فَأَمَّا حَدِيثَاهُمْ فَضَعِيفَانِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَمْ يَثْبُتْ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ لَا يَعُودُ. فَلَمَّا قَدِمْت الْكُوفَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهِ، فَيَقُولُ: لَا يَعُودُ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَقَّنُوهُ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، وَغَيْرُهُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ سَاءَ حِفْظُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَخَلَّطَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّا كَانَ التَّرْجِيحُ لِأَحَادِيثِنَا أَوْلَى لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَصَحُّ إسْنَادًا، وَأَعْدَلُ رُوَاةً، فَالْحَقُّ إلَى قَوْلِهِمْ أَقْرَبُ. الثَّانِي: أَنَّهَا أَكْثَرُ رُوَاةً، فَظَنُّ الصِّدْقِ فِي قَوْلِهِمْ أَقْوَى، وَالْغَلَطِ مِنْهُمْ أَبْعَدُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ مُثْبِتُونَ، وَالْمُثْبِتُ يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ شَاهَدَهُ وَرَوَاهُ. فَقَوْلُهُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِزِيَادَةِ عِلْمِهِ. وَالنَّافِي لَمْ يَرَ شَيْئًا، فَلَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْجَارِحِ عَلَى الْمُعَدِّلِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ فَصَّلُوا فِي رِوَايَتِهِمْ، وَنَصُّوا عَلَى الرَّفْعِ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا،، وَالْمُخَالِفُ لَهُمْ عَمَّمَ بِرِوَايَتِهِ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ وَغَيْرَهُ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ أَحَادِيثِنَا لِنَصِّهَا وَخُصُوصِهَا، عَلَى أَحَادِيثِهِمْ الْعَامَّةِ، الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا كَمَا يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، وَالنَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُحْتَمَلِ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَحَادِيثَنَا عَمِلَ بِهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّتِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ إمَامٌ. قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُ، لَكِنْ بِحَيْثُ يُقَدَّمُ عَلَى أَمِيرَيْ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَائِرِ مَنْ مَعَهُمْ، كَلًّا، وَلَا يُسَاوِي وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يُرَجَّحُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؟ مَعَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ تُرِكَ قَوْلُهُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُطَبِّقُ فِي الرُّكُوعِ، يَضَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، فَلَمْ يُؤْخَذْ بِفِعْلِهِ، وَأُخِذَ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَتُرِكَتْ قِرَاءَتُهُ وَأُخِذَ بِقِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ، فَتُرِكَ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ رُوَاةِ أَحَادِيثِنَا وَأَدْنَى مِنْهُمْ فَضْلًا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِلرَّاكِعِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ] (691) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ، وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ، وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَلَا يَخْفِضُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلرَّاكِعِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ. وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى التَّطْبِيقِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُصَلِّي إحْدَى كَفَّيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إذَا رَكَعَ. وَهَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ: «رَكَعْت، فَجَعَلْت يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ. فَنَهَانِي أَبِي، وَقَالَ: إنَّا كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَكَرَ أَبُو حُمَيْدٍ، فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْتُهُ إذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ. يَعْنِي عَصَرَهُ حَتَّى يَعْتَدِلَ، وَلَا يَبْقَى مُحْدَوْدِبًا، وَفِي لَفْظٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ثُمَّ اعْتَدَلَ فَلَمْ يُصَوِّبْ وَلَمْ يُقْنِعْ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ،: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لَهُ إذَا رَكَعَ أَنْ يُلْقِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحَتَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيَعْتَمِدَ عَلَى ضَبْعَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ، وَلَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَلَا يُنَكِّسَهُ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا رَكَعَ لَوْ كَانَ قَدَحُ مَاءٍ عَلَى ظَهْرِهِ مَا تَحَرَّكَ. وَذَلِكَ لِاسْتِوَاءِ ظَهْرِهِ. وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ الِانْحِنَاءُ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ مَسُّ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ إلَّا بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ وَضْعُهُمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ كَانَتَا عَلِيلَتَيْنِ، لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُهُمَا، انْحَنَى وَلَمْ يَضَعْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا عَلِيلَةً وَضَعَ الْأُخْرَى. (692) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا حُمَيْدٍ ذَكَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَرَ يَدَيْهِ فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. [فَصْلٌ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوع] (693) فَصْلٌ: وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِي رُكُوعِهِ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَمْكُثَ إذَا بَلَغَ حَدَّ الرُّكُوعِ قَلِيلًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الطُّمَأْنِينَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . وَلَمْ يَذْكُرْ الطُّمَأْنِينَةَ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ. قِيلَ: وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا وَقَالَ: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِيهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الرُّكُوعَ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، فَالْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ رَفَعَ رَأْسَهُ وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَوَّلًا أَوْ هَلْ أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ أَوْ لَا] (694) فَصْلٌ: وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَوْ لَا، أَوْ هَلْ أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ أَوْ لَا؟ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَرْكَعَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَسْوَاسًا، فَلَا يَلْتَفِتَ إلَيْهِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 [مَسْأَلَة التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ] (695) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا. وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَالِ، وَإِنْ قَالَ مَرَّةً أَجْزَأَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ شَيْءٌ مَحْدُودٌ، وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. وَذَلِكَ أَدْنَاهُ.» أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى حُذَيْفَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا رَكَعَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَقُلْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجْزِئُ تَسْبِيحَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ أَدْنَاهُ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَذَلِكَ أَدْنَاهُ ". قَالَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْبِيحُ التَّامُّ سَبْعٌ، وَالْوَسَطُ خَمْسٌ، وَأَدْنَاهُ ثَلَاثٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْكَامِلُ فِي التَّسْبِيحِ، إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا، مَا لَا يُخْرِجُهُ إلَى السَّهْوِ، وَفِي حَقِّ الْإِمَامِ مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ؛ لِأَنَّ أَنَسًا رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي كَصَلَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَحَزَرُوا ذَلِكَ بِعَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْكَمَالُ أَنْ يُسَبِّحَ مِثْلَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَوَى عَنْهُ الْبَرَاءُ قَالَ: «قَدْ رَمَقْتُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ. (696) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ. فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، أَعْجَبُ إلَيْك، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؟ فَقَالَ: قَدْ جَاءَ هَذَا وَجَاءَ هَذَا، وَمَا أَدْفَعُ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ أَيْضًا: إنْ قَالَ: " وَبِحَمْدِهِ ". فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ رَوَى فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ) ، وَفِي سُجُودِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ) ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ: وَبِحَمْدِهِ. وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 أَبُو دَاوُد: نَخَافُ أَنْ لَا تَكُونَ مَحْفُوظَةً. وَقِيلَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. فَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ تَرَكَهَا لِضَعْفِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَهُ. [فَصْلٌ تَكْبِيرَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَتَسْبِيحَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ] (697) فَصْلٌ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ تَكْبِيرَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَتَسْبِيحَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقَوْلَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَرَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَقَوْلَ: رَبِّي اغْفِرْ لِي - بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ -، وَالتَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، وَاجِبٌ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَدَاوُد. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَسْقُطْ بِالسَّهْوِ، كَالْأَرْكَانِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ - وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ -، وَفَعَلَهُ. وَقَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ عَمِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ إلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَرْكَعُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرُ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي وُجُوبِ التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ. فَكَانَ فِيهَا ذِكْرٌ وَاجِبٌ كَالْقِيَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ تَعْلِيمُهُ ذَلِكَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ كُلَّ الْوَاجِبَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ التَّشَهُّدَ وَلَا السَّلَامَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيمِهِ مَا رَآهُ أَسَاءَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْوُجُوبِ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ، بِدَلِيلِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. [فَصْلٌ الزِّيَادَةُ فِي التَّسْبِيحِ فِي الصَّلَاة] (698) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ إمَامًا، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّطْوِيلُ، وَلَا الزِّيَادَةُ فِي التَّسْبِيحِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّطْوِيلُ، وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثٍ؛ كَيْ لَا يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَرْضَوْا بِالتَّطْوِيلِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ يَسِيرَةً، وَرَضُوا بِذَلِكَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّسْبِيحُ الْكَامِلُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَحْدَهُ [فَصْلٌ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ] (699) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا الرَّبَّ فِيهِ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَوْلُهُ (قَمِنٌ) مَعْنَاهُ: جَدِيرٌ وَحَرِيٌّ. [فَصْلٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ] (700) فَصْلٌ: وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْقِيَامُ، وَهُوَ يَأْتِي بِهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ، أَوْ انْتَهَى إلَى قَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ الْإِمَامُ عَنْ قَدْرِ الْإِجْزَاءِ. فَهَذَا يُعْتَدُّ لَهُ بِالرَّكْعَةِ، وَيَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يَرْكَعُ وَالْإِمَامُ يَرْفَعُ لَمْ يَجْزِهِ؛ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَةِ مُنْتَصِبًا، فَإِنْ أَتَى بِهَا بَعْدَ أَنْ انْتَهَى فِي الِانْحِنَاءِ إلَى قَدْرِ الرُّكُوعِ أَوْ بِبَعْضِهَا، لَمْ يَجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، إلَّا فِي النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُهُ الْقِيَامُ، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةٍ أُخْرَى لِلرُّكُوعِ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ إلَيْهِ، فَالْأُولَى رُكْنٌ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَسْقُطُ هَاهُنَا، وَيُجْزِئُهُ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ. نَقَلَهَا أَبُو دَاوُد وَصَالِحٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَيْهِ تَكْبِيرَتَانِ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَتَيْنِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُمَا مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ نُقِلَتْ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ مِنْ جِنْسٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَأَحَدُهُمَا رُكْنٌ، فَسَقَطَ بِهِ الْآخَرُ، كَمَا لَوْ طَافَ الْحَاجُّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ نَوَى بِالتَّكْبِيرِ الْإِحْرَامَ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِحْرَامَ وَالرُّكُوعَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فِي النِّيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَطَسَ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، يَنْوِيهَا. وَقَالَ: وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ نُصُوصَ أَحْمَدَ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ، فِيمَنْ جَاءَ بِهِ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ: كَبَّرَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً. قِيلَ لَهُ: يَنْوِي بِهَا الِافْتِتَاحَ؟ قَالَ: نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ؟ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الرُّكُوعِ لَا تُنَافِي نِيَّةَ الِافْتِتَاحِ، وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّةُ الرُّكُوعِ فِي فَسَادِهَا؛ وَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْزِئُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ إذَا نَوَاهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ نِيَّةِ الْوَاجِبَيْنِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَهُ وَلِلْوَدَاعِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ نَصِّ الْإِمَامِ وَمُخَالَفَتُهُ بِقِيَاسِ مَا نَصَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا لَا يُتْرَكُ نَصُّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِقِيَاسٍ، وَالْمُسْتَحَبُّ تَكْبِيرَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ يُكَبِّرُ مَرَّتَيْنِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: إنْ كَبَّرَ تَكْبِيرَتَيْنِ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 [فَصْلٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكْنٍ غَيْرِ الرُّكُوعِ] (701) فَصْلٌ:: وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكْنٍ غَيْرِ الرُّكُوعِ، لَمْ يُكَبِّرْ إلَّا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَيَنْحَطُّ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ، وَقَدْ فَاتَهُ مَحَلُّ التَّكْبِيرِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي السُّجُودِ أَوْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ كَبَّرَ فِي حَالِ قِيَامِهِ مَعَ الْإِمَامِ إلَى الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُومٌ لَهُ، فَيُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرِ، كَمَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِهَا، وَإِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ إلَى الْقَضَاءِ بِتَكْبِيرٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقُومُ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ كَبَّرَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّكْعَةِ، وَلَا إمَامَ لَهُ يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَامَ فِي الصَّلَاةِ إلَى رُكْنٍ مُعْتَدٍّ لَهُ بِهِ، فَيُكَبِّرُ، كَالْقَائِمِ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَكَمَا لَوْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّكْعَةِ، فَإِنَّ مَا كَبَّرَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الرَّكْعَةِ، إذْ لَيْسَ فِي أَوَّلِ الرَّكْعَةِ سُجُودٌ وَلَا تَشَهُّدٌ، وَإِنَّمَا ابْتِدَاءُ الرَّكْعَةِ قِيَامُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ فِيهِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالٍ مُتَابَعَتُهُ فِيهِ] (702) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالِ مُتَابَعَتُهُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا جِئْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: إذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ، وَلَا تُجْزِئُهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ أَنْ لَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ [مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ] (703) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، كَرَفْعِهِ الْأَوَّلِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ وَاعْتَدَلَ قَائِمًا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عُضْوٍ إلَى مَوْضِعِهِ، وَيَطْمَئِنَّ، يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ قَائِلًا: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ رَفْعِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ. وَفِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا بَعْدَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يَسْتَتِمَّ قَائِمًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ» . وَلِأَنَّهُ رَفْعٌ، فَلَا يُشْرَعُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ، كَرَفْعِ الرُّكُوعِ وَالْإِحْرَامِ. وَالثَّانِيَةُ: يَبْتَدِئُهُ حِينَ يَبْتَدِئُ رَفْعَ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ قَالَ «فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . وَرَفَعَ يَدَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ، لِلرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ، وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ أَخَذَ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ. كَقَوْلِهِ: (إذَا كَبَّرَ) أَيْ أَخَذَ فِي التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ حِينَ الِانْتِقَالِ، فَشُرِعَ الرَّفْعُ مِنْهُ كَحَالِ الرُّكُوعِ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ رَفْعِ الْمَأْمُومِ، فَكَانَ مَحَلًّا لِرَفْعِ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ الْمَأْمُومَ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهِ ذِكْرٌ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ، وَالرَّفْعُ إنَّمَا جُعِلَ هَيْئَةً لِلذِّكْرِ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَنْتَصِبُ قَائِمًا وَيَعْتَدِلُ، قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى قَائِمًا، حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ إلَى مَكَانِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (704) فَصْلٌ: وَهَذَا الرَّفْعُ وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ، فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَتَضَمَّنَ ذِكْرًا وَاجِبًا، كَالْقِيَامِ الْأَوَّلِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَدَاوَمَ عَلَى فِعْلِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ. قُلْنَا قَدْ أَمَرَ بِالْقِيَامِ، وَهَذَا قِيَامٌ، ثُمَّ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجِبُ امْتِثَالُهُ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ " لَا يَتَضَمَّنُ ذِكْرًا وَاجِبًا " مَمْنُوعٌ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُمَا رُكْنَانِ، وَلَا ذِكْرَ فِيهِمَا وَاجِبٌ، عَلَى قَوْلِهِمْ. [فَصْلٌ يُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيعِ] (705) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيعِ لِلْإِمَامِ، كَمَا يُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ، فَيُشْرَعُ الْجَهْرُ بِهِ لِلْإِمَامِ، كَالتَّكْبِيرِ. [مَسْأَلَة قَوْلُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فِي حَقَّ كُلِّ مُصَلٍّ] (706) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) وَجُمْلَتُهُ أَنْ يُشْرَعَ قَوْلُ (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو بُرْدَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَقُولُهُ الْمُنْفَرِدُ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 إِسْحَاقَ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي وَحْدَهُ، فَإِذَا قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) . قَالَ: (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هَذَا لِلْإِمَامِ جَمْعُهُمَا، وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ سِوَى الْإِمَامِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فِي حَقِّهِ. فَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ كَقَوْلِ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) . فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُشْرَعُ قَوْلُ هَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَلَا الْمُنْفَرِدِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَيُشْرَعُ فِيهِ ذِكْرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ تَرَكَ ذِكْرَهُ فِي حَدِيثِهِمْ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي أَحَادِيثِنَا، وَرَاوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِهِ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى، فَحَدِيثُهُمْ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، فَكَيْفَ نَتْرُكُ بِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَقُولُ كَمَا يَقُولُ الْإِمَامُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِبُرَيْدَةَ: يَا بُرَيْدَةَ: إذَا رَفَعْتَ رَأْسَك فِي الرُّكُوعِ، فَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ الرِّوَايَةُ بَيْنَ كَوْنِهِ إمَامًا وَمُنْفَرِدًا، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. (707) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ". بِوَاوٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُثْبِتُ أَمْرَ الْوَاوِ، وَقَالَ: رَوَى فِيهِ الزُّهْرِيُّ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِيهَا الْوَاوَ، وَمَنْ قَالَ: " رَبَّنَا " قَالَ: " وَلَكَ الْحَمْدُ "، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 كَمَا نَقَلَ الْإِمَامُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ» ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ؛ فَاسْتُحِبَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ يُعْطَفُ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ السُّنَّةَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْوَاوِ أَكْثَرُ حُرُوفًا، وَيَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ مُقَدَّرًا وَمُظْهَرًا، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: رَبَّنَا حَمِدْنَاكَ وَلَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّ الْوَاوَ لَمَّا كَانَتْ لِلْعَطْفِ وَلَا شَيْءَ هَاهُنَا تَعْطِفُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ مُقَدَّرًا، كَقَوْلِهِ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ "، أَيْ وَبِحَمْدِك سُبْحَانَك، وَكَيْفَمَا قَالَ جَازَ، وَكَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ كُلًّا قَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِهِ. [مَسْأَلَة لَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ قَوْلُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ] (708) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا، لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) لَا أَعْلَمُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ قَوْلُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: يَقُولُ ذَلِكَ كَالْإِمَامِ؛ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ شُرِعَ لِلْإِمَامِ فَيُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ " عَقِيبَ قَوْلِهِ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " بِغَيْرِ فَصْلٍ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَعَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، لِأَنَّ هَذَا صَحِيحٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَأْمُومِ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي إسْنَادِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ عَامٌّ، وَتَقْدِيمُ الصَّحِيحِ الْخَاصِّ أَوْلَى، فَأَمَّا قَوْلُ: " مِلْءَ السَّمَاءِ " وَمَا بَعْدَهُ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ لِلْمَأْمُومِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ عَلَى أَمْرِهِمْ بِقَوْلِ: " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِمْ سِوَاهُ. وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ، قَالَ: وَلَيْسَ يَسْقُطُ خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْهُ غَيْرُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ". وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ سَائِرَ الْأَذْكَارِ. [فَصْلٌ مَوْضِعُ قَوْلِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ] فَصْلٌ: وَمَوْضِعُ قَوْلِ: " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ " فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، بَعْدَ الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ رَفْعِهِ يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ قَوْلُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَفِي حَالِ رَفْعِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . يَقْتَضِي تَعْقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ قَوْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الْمَأْمُومِ، وَالْمَأْمُومُ يَأْخُذُ فِي الرَّفْعِ عَقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إذَا زَادَ عَلَى الذَّكَر الْمَأْثُور بَعْد الرَّفْع مِنْ الرُّكُوع] (710) فَصْلٌ: إذَا زَادَ عَلَى قَوْلِ: " مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ "، فَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَالَ: أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: «رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَادَ: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطِيلُ الْقِيَامَ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» ، وَقَالَ أَنَسٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَيْسَتْ حَالَةَ سُكُوتٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ كَانَ يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، لِكَوْنِهَا لَا تَسْتَغْرِقُ هَذَا الْقِيَامَ كُلَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَفَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا فَيَقُولَ: أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ؟ فَقَالَ: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ هَذَا، إلَى " مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ اتِّبَاعًا لِأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. [فَصْلٌ إذَا قَالَ مَكَانَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ] (711) فَصْلٌ: إذَا قَالَ مَكَانَ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ": " مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ ". لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَلَنَا أَنَّهُ عَكَسَ اللَّفْظَ الْمَشْرُوعَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي التَّكْبِيرِ: الْأَكْبَرُ اللَّهُ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَتَى بِالْمَعْنَى؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. صِيغَةُ خَبَرٍ، تَصْلُحُ دُعَاءً، وَاللَّفْظَ الْآخَرَ صِيغَةُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ. [فَصْلٌ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَعَطَسَ فَقَالَ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ] (712) فَصْلٌ: إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، فَعَطَسَ، فَقَالَ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. يَنْوِي بِذَلِكَ لِمَا عَطَسَ وَلِلرَّفْعِ، فَرُوِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْهُ لِلرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا ذِكْرٌ لَا تُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَأَجْزَأْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ ذَاهِلًا وَقَلْبُهُ غَيْرُ حَاضِرٍ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَا عَلَى نَفْيِ الْإِجْزَاءِ حَقِيقَةً. [فَصْلٌ إذَا أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرُّكُوعِ فَاعْتَرَضَتْهُ عِلَّةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ الْقِيَامِ] (713) فَصْلٌ: إذَا أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرُّكُوعِ، فَاعْتَرَضَتْهُ عِلَّةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ الْقِيَامِ، سَقَطَ عَنْهُ الرَّفْعُ؛ لِتَعَذُّرِهِ، وَيَسْجُدُ عَنْ الرُّكُوعِ. فَإِنْ زَالَتْ الْعِلَّةُ قَبْلَ سُجُودِهِ فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ لِإِمْكَانِهِ. فَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ سُجُودِهِ إلَى الْأَرْضِ، سَقَطَ الْقِيَامُ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ قَدْ صَحَّ وَأَجْزَأَ، فَسَقَطَ مَا قَبْلَهُ. فَإِنْ قَامَ مِنْ سُجُودِهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ فَعَلَهُ جَهْلًا أَوْ نِسْيَانًا، لَمْ تَبْطُلْ، وَيَعُودُ إلَى جَلْسَةِ الْفَصْلِ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. [فَصْلٌ أَرَادَ الرُّكُوعَ فَوَقَعَ إلَى الْأَرْضِ] فَصْلٌ: فَإِنْ أَرَادَ الرُّكُوعَ، فَوَقَعَ إلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ فَيَرْكَعُ. وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ وَسَقَطَ قَبْلَ طُمَأْنِينَتِهِ، لَزِمَتْهُ إعَادَةُ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسْقِطُ فَرْضَهُ. وَإِنْ رَكَعَ وَاطْمَأَنَّ، ثُمَّ سَقَطَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مُنْتَصِبًا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ فَرْضَهُ قَدْ سَقَطَ، وَالِاعْتِدَالَ عَنْهُ قَدْ سَقَطَ بِقِيَامِهِ. [فَصْلٌ إذَا رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَبِّحْ فِي رُكُوعِهِ] (715) فَصْلٌ: إذَا رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَبِّحْ فِي رُكُوعِهِ، لَمْ يَعُدْ إلَى الرُّكُوعِ، سَوَاءٌ ذَكَرَهُ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ سَقَطَ بِرَفْعِهِ، وَالرُّكُوعَ قَدْ وَقَعَ صَحِيحًا مُجْزِئًا، فَلَوْ عَادَ إلَيْهِ، زَادَ رُكُوعًا فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَإِنْ فَعَلَهُ عَمْدًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ، كَمَا لَوْ زَادَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَهُ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ. وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. فَإِنْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي هَذَا الرُّكُوعِ، لَمْ يُدْرِكْ الرَّكْعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رُكُوعَ الرَّكْعَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ رَاكِعًا. [مَسْأَلَة يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ] (716) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ) أَمَّا السُّجُودُ فَوَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الرُّكُوعِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ رُكْنٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» . وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ، وَيَنْحَطُّ إلَى السُّجُودِ مُكَبِّرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الْهَوِيَّ إلَى السُّجُودِ رُكْنٌ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرٍ، كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ انْحِطَاطِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ؛ وَالْكَلَامُ فِي التَّكْبِيرِ وَوُجُوبِهِ قَدْ مَضَى. وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يَدَيْهِ، فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ. وَسُئِلَ عَنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقَالَ: فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي حُمَيْدٍ أَحَادِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 صِحَاحٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ. فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ؛ وَلَمَّا وَصَفَ أَبُو حُمَيْدٍ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَالْأَحَادِيثُ الْعَامَّةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمُفَصَّلَةِ، الَّتِي رَوَيْنَاهَا، فَلَا يَبْقَى فِيهَا اخْتِلَافٌ. [مَسْأَلَة أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ عِنْد السُّجُود رُكْبَتَاهُ] (717) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ، ثُمَّ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ) هَذَا الْمُسْتَحَبُّ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْبَعِيرِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلَنَا، مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، فَأُمِرْنَا بِوَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ مَا تَقَدَّمَهُ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْفَحْلِ» . (718) فَصْلٌ: وَالسُّجُودُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَاجِبٌ، إلَّا الْأَنْفَ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: لَا يَجِبُ، السُّجُودُ عَلَى غَيْرِ الْجَبْهَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سَجَدَ وَجْهِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ السَّاجِدَ عَلَى الْوَجْهِ يُسَمَّى سَاجِدًا، وَوَضْعُ غَيْرِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُسَمَّى بِهِ سَاجِدًا، فَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُسَمَّى بِهِ سَاجِدًا دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ السُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَوَجَبَ كَشْفُهَا كَالْجَبْهَةِ. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ ": وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي الْمَرِيضِ يَرْفَعُ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ أَخَلَّ بِالسُّجُودِ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ بِالسُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ الْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، وَالْجَبْهَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَفْعُهُ: «إنَّ الْيَدَيْنِ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَسُجُودُ الْوَجْهِ لَا يَنْفِي سُجُودَ مَا عَدَاهُ، وَسُقُوطُ الْكَشْفِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السُّجُودِ، فَإِنَّا نَقُولُ كَذَلِكَ فِي الْجَبْهَةِ عَلَى رِوَايَةٍ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وَهِيَ مَكْشُوفَةٌ عَادَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِالسُّجُودِ بِعُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، سَجَدَ عَلَى بَقِيَّتِهَا، وَقَرَّبَ الْعُضْوَ الْمَرِيضَ مِنْ الْأَرْضِ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ السُّجُودَ هُوَ الْهُبُوطُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمَسْجُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَقَطَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ، لِعَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَقَطَ عَنْهُ السُّجُودُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّبَعُ، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَرِيضِ يَرْفَعُ إلَى جَبْهَتِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ: إنَّهُ يُجْزِئُهُ. (719) فَصْلٌ: وَفِي الْأَنْفِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِشَارَتُهُ إلَى أَنْفِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» . وَرَوَى عِكْرِمَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُصِيبُ أَنْفُهُ مِنْ الْأَرْضِ مَا تُصِيبُ الْجَبْهَةُ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ مُتَّصِلًا، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَنْفَ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّ جَابِرًا قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بِأَعْلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قِصَاصِ الشَّعَرِ.» رَوَاهُ تَمَّامٌ، فِي " فَوَائِدِهِ "، وَغَيْرُهُ، وَإِذَا سَجَدَ بِأَعْلَى الْجَبْهَةِ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْأَنْفِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ، أَجْزَأَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ عُضْوٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ الْجَبْهَةَ أَشَارَ إلَى أَنْفِهِ، وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ يُجْزِئُهُ السُّجُودُ عَلَى بَعْضِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْإِجْمَاعَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ. [فَصْلٌ إذَا سَجَدَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ ذَيْلِهِ] (720) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ مُبَاشَرَةُ الْمُصَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ قَالَ الْقَاضِي: إذَا سَجَدَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ أَوْ كُمِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أَوْ ذَيْلِهِ، فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ فِي السُّجُودِ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ. وَسَجَدَ شُرَيْحٌ عَلَى بُرْنُسِهِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجِبُ مُبَاشَرَةُ الْمُصَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ إلَّا الْجَبْهَةَ، فَإِنَّهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ السُّجُودِ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ؟ فَقَالَ: لَا يَسْجُدُ عَلَى كُورِهَا، وَلَكِنْ يَحْسُرُ الْعِمَامَةَ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا. فَلَمْ يُشْكِنَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ سَجَدَ عَلَى مَا هُوَ حَامِلٌ لَهُ، أَشْبَهَ مَا إذَا سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الصَّامِتِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُلْتَفٌّ بِهِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ، يَقِيهِ بَرْدَ الْحَصَى» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَرَأَيْته وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى قَرْنِهِ إذَا سَجَدَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ» ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ. وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، فَجَازَ السُّجُودُ عَلَى حَائِلِهِ، كَالْقَدَمَيْنِ. فَأَمَّا حَدِيثُ خَبَّابٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ، أَوْ تَسْقِيفَ الْمَسْجِدِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يُزِيلُ عَنْهُمْ ضَرَرَ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، أَمَّا الرُّخْصَةُ فِي السُّجُودِ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا طَلَبَهُ الْفُقَرَاءُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَائِمُ، وَلَا أَكْمَامٌ طِوَالٌ يَتَّقُونَ بِهَا الرَّمْضَاءَ، فَكَيْفَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الرُّخْصَةَ فِيهَا؟ وَلَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ، فَلَمْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؟ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي الْأَكُفِّ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَشْفُهُمَا. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، إنَّهُ يَجِبُ. وَإِنْ سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ لَمْ يَصِحَّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، فَالسُّجُودُ يُؤَدِّي إلَى تَدَاخُلِ السُّجُودِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ ": لَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ نَصًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ الْجَبْهَةِ. هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ جَازَ، كَمَا لَوْ سَجَدَ عَلَى الْعِمَامَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ لَمْ يَجُزْ؛ لِئَلَّا يَتَدَاخَلَ مَحَلُّ السُّجُودِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ. وَالْمُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَأْخُذَ بِالْعَزِيمَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي إلَّا فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ السُّجُودَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ، وَكَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ يَحْسُرُ عِمَامَتَهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَسْجُدُ عَلَى جَبِينِي أَحَبُّ إلَيَّ. [مَسْأَلَة الِاعْتِدَالَ فِي السُّجُودِ] (721) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ فِي سُجُودِهِ مُعْتَدِلًا) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَهْلُ الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ الِاعْتِدَالَ فِي السُّجُودِ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ» . وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَسْجُدْ أَحَدُكُمْ وَهُوَ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ كَالْكَلْبِ» . وَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاشُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ ذِرَاعَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ، وَقَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا. [مَسْأَلَة يُجَافِي عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ] (722) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُجَافِي عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَطْنِهِ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَفَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ، وَيَكُونُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ إذَا سَجَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فِي " رِسَالَتِهِ ": جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ كَانَ إذَا سَجَدَ لَوْ مَرَّتْ بَهِيمَةٌ لَنَفِدَتْ» ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مُبَالَغَتِهِ فِي رَفْعِ مَرْفِقَيْهِ وَعَضُدَيْهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ» ، وَلِأَبِي دَاوُد «. ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّعْبِيُّ: وَصَفَ لَنَا الْبَرَاءُ السُّجُودَ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ، وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ. وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ جَخَّ. وَالْجَخُّ: الْخَاوِي. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، وَيَثْنِيهِمَا إلَى الْقِبْلَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ، لِيَكُونَ أَصَابِعُهُمَا إلَى الْقِبْلَةِ. وَيَسْجُدُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» . ذَكَرَ مِنْهَا أَطْرَافَ الْقَدَمَيْنِ، وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَجَدَ غَيْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ» . مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَمِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: وَفَتَحَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ. وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: سَجَدَ، فَانْتَصَبَ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ. (723) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، مَبْسُوطَتَيْنِ، مَضْمُومَتَيْ الْأَصَابِعِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ، وَيَضَعَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ قَالَ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَجَدَ وَيَدَاهُ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فَجَعَلَ كَفَّيْهِ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ» ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ. وَالْجَمِيعُ حَسَنٌ. (724) فَصْلٌ: وَالْكَمَالُ فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يَضَعَ جَمِيعَ بَطْنِ كَفَّيْهِ، وَأَصَابِعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَرْفَعَ مِرْفَقَيْهِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ بَاطِنِهِمَا، أَجْزَأَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ وَضَعَ مِنْ الْيَدَيْنِ بِقَدْرِ الْجَبْهَةِ، أَجْزَأَهُ. وَإِنْ جَعَلَ ظُهُورَ كَفَّيْهِ إلَى الْأَرْضِ، وَسَجَدَ عَلَيْهِمَا، أَوْ سَجَدَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ، فَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَقَدْ سَجَدَ عَلَيْهِمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ سَجَدَ عَلَى ظُهُورِ قَدَمَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ سَجَدَ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ إصَابَةِ بَعْضِ أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ، فَيَكُونَ سَاجِدًا عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ الْأَحْسَنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ. (725) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ قَالَ: وَإِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ. (726) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ، فَمَاسَّتْ جَبْهَتُهُ الْأَرْضَ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. إلَّا أَنْ يَقْطَعَ نِيَّةَ السُّجُودِ، فَلَا يُجْزِئَهُ. وَإِنْ انْقَلَبَ عَلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ انْقَلَبَ، فَمَاسَّتْ جَبْهَتُهُ الْأَرْضَ، لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ السُّجُودَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّهُ هَاهُنَا خَرَجَ عَنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَهَيْئَاتِهَا، ثُمَّ كَانَ انْقِلَابُهُ الثَّانِي عَائِدًا إلَى الصَّلَاةِ، فَافْتَقَرَ إلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَسُنَّتِهَا، فَاكْتُفِيَ بِاسْتِدَامَةِ النِّيَّةِ. [مَسْأَلَة يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فِي السُّجُود] (727) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَإِنْ قَالَ مَرَّةً، أَجْزَأَهُ) الْحُكْمُ فِي هَذَا التَّسْبِيحِ كَالْحُكْمِ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» . وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَجَدَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَقُلْ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ". وَالْحُكْمُ فِي عَدَدِهِ وَتَطْوِيلِ السُّجُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرُّكُوعِ. [فَصْلٌ الزِّيَادَةُ عَلَى سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى فِي السُّجُود] (728) فَصْلٌ: وَإِنْ زَادَ دُعَاءً مَأْثُورًا، أَوْ ذِكْرًا - مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ «. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا مُعَاذُ، إذَا وَضَعْتَ وَجْهَكَ سَاجِدًا فَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى شُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَبُّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ - وَهُوَ سَاجِدٌ -: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجَلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ - فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ. وَقَدْ قَالَ: «وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى: " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " فِي الْفَرْضِ، وَفِي التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ؛ لِأَنَّهُ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سِوَى الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ، وَالْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفِ كَوْنَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا، وَلَوْ سَاغَ كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَافِيًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ نَافِيًا لِلتَّسْبِيحِ؛ لِصِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ، وَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِيهِ. [مَسْأَلَة إذَا قَضَى سُجُودَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا وَجَلَسَ وَاعْتَدَلَ] (729) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا) يَعْنِي إذَا قَضَى سُجُودَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَجَلَسَ، وَاعْتَدَلَ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ. وَهَذَا الرَّفْعُ وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ وَاجِبٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِثْلَ حَدِّ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَلْسَةُ فَصْلٍ بَيْنَ مُتَشَاكِلَيْنِ فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَجَلْسَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخَلَّ بِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ - تَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- إذَا رَفَعَ مِنْ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ رَفْعٌ وَاجِبٌ، فَكَانَ الِاعْتِدَالُ عَنْهُ وَاجِبًا، كَالرَّفْعِ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُمْ أَنَّ جَلْسَةَ التَّشَهُّدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. [مَسْأَلَة يَجْلِسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مُفْتَرِشًا] (730) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا جَلَسَ وَاعْتَدَلَ يَكُونُ جُلُوسُهُ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى) السُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مُفْتَرِشًا، وَهُوَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، فَيَبْسُطَهَا، وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُخْرِجَهَا مِنْ تَحْتِهِ، وَيَجْعَلَ بُطُونَ أَصَابِعِهِ عَلَى الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا؛ لِتَكُونَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهَا إلَى الْقِبْلَةَ. قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ، فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اعْتَدَلَ حَتَّى رَجَعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ هَوَى سَاجِدًا. وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي رَوَتْهُ عَائِشَةُ: «وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَحَ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَيَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَثْنِيَهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: تَفَقَّدْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَيَسْتَقْبِلُ بِهَا الْقِبْلَةَ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنَّا نُعَلَّمُ إذَا جَلَسْنَا فِي الصَّلَاةِ، أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ مِنَّا قَدَمَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى عَلَى صَدْرِ قَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَتْ إبْهَامُ أَحَدِنَا لَتَنْثَنِي فَيُدْخِلُ يَدَهُ حَتَّى يَعْدِلَهَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَنْصِبَ الْقَدَمَ الْيُمْنَى، وَاسْتِقْبَالُهُ بِأَصَابِعِهَا الْقِبْلَةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا صَلَّى اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى بِنَعْلَيْهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. [فَصْلٌ الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ] (731) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْإِقْعَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَفْرِشَ قَدَمَيْهِ، وَيَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ. بِهَذَا وَصَفَهُ أَحْمَدُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْإِقْعَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ: جُلُوسُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا فَخِذَيْهِ، مِثْلُ إقْعَاءِ الْكَلْبِ وَالسَّبُعِ. وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْإِقْعَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَرِهَهُ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: لَا تَقْتَدُوا بِي، فَإِنِّي قَدْ كَبِرْتُ. وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَعِيبُ مَنْ فَعَلَهُ. وَقَالَ: الْعَبَادِلَةُ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: رَأَيْت الْعَبَادِلَةَ يَفْعَلُونَهُ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَمَسَّ أَلْيَتَاكَ قَدَمَيْك. وَقَالَ طَاوُسٌ: «قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ؟ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ. قَالَ: قُلْنَا إنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ، فَقَالَ: هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وَلَنَا، مَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» . وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَفَعْتَ رَأْسَك مِنْ السُّجُودِ فَلَا تُقْعِ كَمَا يُقْعِي الْكَلْبُ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي صِفَةِ جُلُوسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، وَيَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ، فَتَكُونُ أَوْلَى. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكِبَرِهِ، وَيَقُولُ: لَا تَقْتَدُوا بِي. [مَسْأَلَة يَقُولَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي) الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي: يُكَرِّرُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثٌ، وَالْكَمَالُ مِنْهُ مِثْلُ الْكَمَالِ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى حُذَيْفَةُ «، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي» . احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي؛ وَارْزُقْنِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَإِنْ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لَنَا. أَوْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، مَكَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. جَازَ [مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ الْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ] (733) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيَخِرُّ سَاجِدًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، سَجَدَ سَجْدَةً أُخْرَى عَلَى صِفَةِ الْأُولَى، سَوَاءً. وَهِيَ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ شُرُوعُ الْمَأْمُومِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ الرَّفْعِ وَالْوَضْعِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ] (734) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شُرُوعُ الْمَأْمُومِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ مِنْ الرَّفْعِ وَالْوَضْعِ، بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهُ، وَيُكْرَهُ فِعْلُهُ مَعَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ مَعَ أَفْعَالِ الْإِمَامِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْبَرَاءُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ نَتَّبِعُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ» . وَعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَنَا، فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ: إذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا - إلَى قَوْلِهِ - فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَتِلْكَ بِتِلْكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ: «فَمَهْمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أَسْبِقْكُمْ بِهِ إذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي بِهِ إذَا رَفَعْتُ» . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا. وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: " فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا "، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُمْ بَعْدَ رُكُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقَّبَهُ بِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، فَيَكُونُ بَعْدَهُ، كَقَوْلِك: جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو. أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ. وَإِنْ وَافَقَ إمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَرَكَعَ وَسَجَدَ مَعَهُ، أَسَاءَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ. (735) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ إمَامَهُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ؛ وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَهُ، كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. فَإِنْ سَبَقَ إمَامَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ لِيَأْتِيَ بِذَلِكَ مُؤْتَمًّا بِإِمَامِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَفَعَ أَحَدُكُمْ رَأْسَهُ، وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ، فَلْيَسْجُدْ، وَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ بِرَأْسِهِ فَلْيَمْكُثْ قَدْرَ مَا رَفَعَ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى لَحِقَهُ الْإِمَامُ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبْقٌ يَسِيرٌ. وَإِنْ سَبَقَ إمَامَهُ عَمْدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ: لَيْسَ لِمَنْ سَبَقَ الْإِمَامَ صَلَاةٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» . وَلَوْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ لَرَجَا لَهُ الثَّوَابَ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهِ الْعِقَابَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَنْ سَبَقَ الْإِمَامَ، فَقَالَ: لَا وَحْدَك صَلَّيْتَ، وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْتَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالرُّكْنِ مُؤْتَمًّا بِإِمَامِهِ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَبَقَهُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ السَّلَامِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الرُّكْنِ، فَصَحَّتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ رَكَعَ مَعَهُ ابْتِدَاءً. [فَصْلٌ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ إمَامِهِ] (736) فَصْلٌ: فَإِنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ إمَامِهِ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ فَعَلَهُ عَمْدًا فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَكَعَ قَبْلَهُ حَسْبُ. وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. وَهَلْ يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الرَّكْعَةِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. فَأَمَّا إنْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ فَرَكَعَ قَبْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ سَجَدَ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَدِ بِإِمَامِهِ فِي أَكْثَرِ الرَّكْعَةِ. وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَلَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ لِعَدَمِ اقْتِدَائِهِ بِإِمَامِهِ فِيهَا. [فَصْلٌ سَبَقَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ بِرّكُنَّ كَامِلٍ] (737) فَصْلٌ: فَإِنْ سَبَقَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ بِرُكْنٍ كَامِلٍ؛ مِثْلُ أَنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ الْمَأْمُومِ، لِعُذْرٍ مِنْ نُعَاسٍ أَوْ زِحَامٍ أَوْ عَجَلَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا سُبِقَ بِهِ، وَيُدْرِكُ إمَامَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْإِمَامُ إذَا سَجَدَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ أَسْجُدَ؟ قَالَ: إنْ كَانَتْ سَجْدَةً وَاحِدَةً فَأَتَّبِعُهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ. وَهَذَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ سَبَقَهُ بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ إمَامَهُ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ نَعَسَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ رُكْنٍ، وَأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ إمَامَهُ، وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ رَكَعَ إمَامُهُ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ لَا يَشْعُرُ، وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ، فَقَالَ: يَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ مَكَانَهَا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْإِمَامُ إذَا سَجَدَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ أَسْجُدَ؟ قَالَ: إنْ كَانَتْ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فَاتَّبِعْهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَإِنْ كَانَ سَجْدَتَانِ فَلَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ بَطَلَتْ تِلْكَ الرَّكْعَةُ. وَإِنْ سَبَقَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ وَأَدْرَكَ إمَامَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا، فِيمَنْ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: يَنْتَظِرُ زَوَالَ الزِّحَامَ ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَتَّبِعُ الْإِمَامَ، مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا فَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ رُكْنٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ بِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاةِ عُسْفَانَ، حِينَ أَقَامَهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَسَجَدَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالصَّفُّ الثَّانِي قَائِمٌ، حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الثَّانِيَةِ، فَسَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ تَبِعَهُ» . وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِلْعُذْرِ. فَهَذَا مِثْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَهُمْ الْمَسْبُوقُ فِي أَوَّلِ سُجُودِهِمْ سَجَدَ مَعَهُمْ، وَاعْتَدَّ بِهَا. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوعِ، وَأَدْرَكَهُمْ فِي السُّجُودِ حَتَّى يَسْتَوُوا قِيَامًا، فَلْيَتَّبِعْهُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَةً، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَنَحْوِهِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَالْأَوْلَى فِي هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، مَا كَانَ عَلَى قِيَاسِ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ؛ فَإِنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ بِهِ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الِائْتِمَامَ بِإِمَامِهِ عَمْدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الصَّلَاة] (738) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَيَقُومُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا قَضَى سَجْدَتَهُ الثَّانِيَةَ نَهَضَ لَلْقِيَامَ مُكَبِّرًا، وَالْقِيَامُ رُكْنٌ، وَالتَّكْبِيرُ وَاجِبٌ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: هَلْ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ؟ فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا يَجْلِسُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا. وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ: أَدْرَكْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ. أَيْ لَا يَجْلِسُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: تِلْكَ السُّنَّةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجْلِسُ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْخَلَّالُ: رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى هَذَا. يَعْنِي تَرَكَ قَوْلَهُ بِتَرْكِ الْجُلُوسِ؛ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُصَلِّي ضَعِيفًا جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى الْجُلُوسِ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا لَمْ يَجْلِسْ؛ لِغِنَاهُ عَنْهُ، وَحُمِلَ جُلُوسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِهِ، وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوَسُّطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِذَا قُلْنَا: يَجْلِسُ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا عَلَى صِفَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ، وَقَعَدَ، وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ نَهَضَ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كَيْفِيَّةِ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: رَوَى عَنْ أَحْمَدَ مَنْ لَا أُحْصِيهِ كَثْرَةً، أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَجْلِسُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، مُفْضِيًا بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَلَسَ مُفْتَرِشًا لَمْ يَأْمَنْ السَّهْوَ، فَيَشُكَّ هَلْ جَلَسَ عَنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ؟ وَبِهَذَا يَأْمَنُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُلْصِقُ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ فِي جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، بَلْ يَجْلِسُ مُعَلَّقًا عَنْ الْأَرْضِ. وَعَلَى كِلْتَيْ الرِّوَايَتَيْنِ يَنْهَضُ إلَى الْقِيَامِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ، أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ أَوْ لَا يَجْلِسُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدَيْهِ فِي النُّهُوضِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، إنَّهُ لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا، ثُمَّ اعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لِلْمُصَلِّي. وَلَنَا مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالْأَثْرَمُ، وَفِي لَفْظٍ: «وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، إذَا نَهَضَ الرَّجُلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: بِذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي الصَّلَاةِ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: يَرْوِيهِ خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ. قَالَ أَحْمَدُ: تَرَكَ النَّاسُ حَدِيثَهُ. وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ فَكَانَ أَفْضَلَ، كَالتَّجَافِي وَالِافْتِرَاشِ. وَحَدِيثُ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَشَقَّةِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِ وَكِبَرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي قَدْ بَدَّنْتُ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ» [مَسْأَلَة إذَا شَقَّ عَلَيْهِ النُّهُوضِ مِنْ السُّجُود] (739) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَعْتَمِدَ بِالْأَرْضِ) يَعْنِي إذَا شَقَّ عَلَيْهِ النُّهُوضُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَلَا بَأْسَ بِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا. وَمَشَقَّةُ ذَلِكَ تَكُونُ لِكِبَرٍ، أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سِمَنٍ، وَنَحْوِهِ. [فَصْلٌ ابْتِدَاءِ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ رَأْسه مِنْ السُّجُودِ وَانْتِهَاؤُهُ عِنْدَ اعْتِدَالِهِ] (740) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ السُّجُودِ، وَانْتِهَاؤُهُ عِنْدَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا، لِيَكُونَ مُسْتَوْعِبًا بِالتَّكْبِيرِ جَمِيعَ الرُّكْنِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا بَقِيَّةُ التَّكْبِيرَاتِ، إلَّا مَنْ جَلَسَ جَلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، فَإِنَّهُ يَنْتَهِي تَكْبِيرُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ جُلُوسِهِ، ثُمَّ يَنْهَضُ لِلْقِيَامِ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَنْهَضُ مُكَبِّرًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ فِي رُكْنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَمْعِهِمَا فِيهِ. [مَسْأَلَة يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى] (741) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَفْعَلُ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى) يَعْنِي يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى مَا وُصِفَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» . وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَةَ تَنْقُصُ النِّيَّةَ وَتَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَالِاسْتِفْتَاحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرَادُ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْكُتْ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا، فِيمَا عَدَا الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَعَنْهُ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْقِرَاءَةُ فِيهَا كُلِّهَا كَالْقِرَاءَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِذَلِكَ اعْتَبَرْنَا التَّرْتِيبَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ. فَإِذَا أَتَى بِالِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِهَا كَفَى ذَلِكَ كَالِاسْتِفْتَاحِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إذَا تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فِي الْأُولَى لِنِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَتَى بِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. نُصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا فَاتَ فِي أَوَّلِهَا فَاتَ مَحِلُّهُ. وَالِاسْتِعَاذَةُ لِلْقِرَاءَةِ، وَهُوَ يَسْتَفْتِحُهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ، لَمْ يَأْتِ بِهَا فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَسْتَعِيذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَكْرِيرَ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ تَكْرِيرِ الْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلْقِرَاءَةِ، فَتُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي صَلَاتَيْنِ. [فَصْلٌ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى] فَصْلٌ: وَالْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى لَمْ يَسْتَفْتِحْ، وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَخْتَصُّ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى. لَمْ يَسْتَعِذْ؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرُ صَلَاتِهِ فَإِذَا قَامَ لِلْقَضَاءِ اسْتَفْتَحَ وَاسْتَعَاذَ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَعِيذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. اسْتَعَاذَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةِ كُلِّ رَكْعَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْمَأْمُومُ الْقِرَاءَةَ اسْتَعَاذَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] [مَسْأَلَة إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ] (743) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا جَلَسَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ يَكُونُ كَجُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَهَذَا الْجُلُوسُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ مَشْرُوعَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ نَقَلَهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَالْأُمَّةُ تَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا أَوْ رُبَاعِيَّةً، فَهُمَا وَاجِبَانِ فِيهَا، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَالْأُخْرَى: لَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ بِالسَّهْوِ، فَأَشْبَهَا السُّنَنَ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، وَدَاوَمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَمَرَ بِهِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: " قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ". وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ حِينَ نَسِيَهُ. وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي.» وَإِنَّمَا سَقَطَ بِالسَّهْوِ إلَى بَدَلٍ، فَأَشْبَهَ جُبْرَانَاتِ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، بِخِلَافِ السُّنَنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ التَّشَهُّدَيْنِ، فَكَانَ وَاجِبًا كَالْآخَرِ. وَصِفَةُ الْجُلُوسِ لِهَذَا التَّشَهُّدِ كَصِفَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ يَكُونُ مُفْتَرِشًا كَمَا وَصَفْنَا. وَسَوَاءٌ كَانَ آخِرَ صَلَاتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ مُتَوَرِّكًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا مُتَوَرِّكًا» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ آخِرَ صَلَاتِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ - يَعْنِي لِلتَّشَهُّدِ - فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَأَقْبَلَ بِصَدْرِ الْيُمْنَى عَلَى قِبْلَتِهِ.» وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: قُلْت: لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «فَلَمَّا جَلَسَ - يَعْنِي لِلتَّشَهُّدِ - افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى» . وَهَذَانِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ حَسَنَانِ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهِمَا، وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِصِحَّتِهِمَا وَكَثْرَةِ رُوَاتِهِمَا، فَإِنَّ أَبَا حُمَيْدٍ ذَكَرَ حَدِيثَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَدَّقُوهُ، وَهُمَا مُتَأَخِّرَانِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، فَتَكُونُ زِيَادَةً، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ وَاجِبٌ. [مَسْأَلَة الْمُصَلِّي إذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ] (744) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَبْسُطُ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَيَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيُحَلِّقُ الْإِبْهَامَ مَعَ الْوُسْطَى؛ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي إذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ وَضْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِ الْيُسْرَى، مَبْسُوطَةً مَضْمُومَةَ الْأَصَابِعِ، مُسْتَقْبِلًا بِجَمِيعِ أَطْرَافِ أَصَابِعِهَا الْقِبْلَةَ، وَيَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، يَقْبِضُ مِنْهَا الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ، وَيُحَلِّقُ الْإِبْهَامَ مَعَ الْوُسْطَى، وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَهِيَ الْإِصْبَعُ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ مَرْفِقَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ عَقَدَ مِنْ أَصَابِعِهِ الْخِنْصَرَ وَاَلَّتِي تَلِيهَا، وَحَلَّقَ حَلْقَةً بِإِصْبَعِهِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامِ، وَرَفَعَ السَّبَّابَةَ مُشِيرًا بِهَا» . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يَجْمَعُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَيَعْقِدُ الْإِبْهَامَ كَعَقْدِ الْخَمْسِينَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّهُ يَبْسُطُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ؛ لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَشَهُّدِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلَا يُحَرِّكُهَا؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ وَلَا يُحَرِّكُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَعَدَ - يَدْعُو - وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ.» [مَسْأَلَة أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ] (745) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَشَهَّدُ، فَيَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَهُوَ التَّشَهُّدُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» ) هَذَا التَّشَهُّدُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِنَا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ "، وَسَائِرُهُ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَيَقُولُ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ". وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» . وَفِي لَفْظٍ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَفِيهِ: فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ. وَفِيهِ: فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو مُوسَى، وَعَائِشَةُ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَتَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِهِ وَتَقْدِيمُهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ إجْمَاعًا؟ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي إجْزَائِهِ فِي الصَّلَاةِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنِ، وَالْأَحْسَنُ تَشَهُّدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي عَلَّمَهُ أَصْحَابَهُ وَأَخَذُوا بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَانْفَرَدَ بِهِ، وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " كَرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. ثُمَّ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ إسْنَادًا، وَأَكْثَرُ رُوَاةً، وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى رِوَايَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى، ثُمَّ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ السَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهُمَا لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَفَّظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا نَتَحَفَّظُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ» الْوَاوَ وَالْأَلِفَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهِ، فَكَانَ أَوْلَى. (746) فَصْلٌ: وَبِأَيِّ تَشَهُّدٍ تَشَهَّدَ مِمَّا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: تَشَهُّدُ عَبْدِ اللَّهِ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَإِنْ تَشَهَّدَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّمَهُ الصَّحَابَةَ مُخْتَلِفًا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمِيعِ، كَالْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْمُصْحَفُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَسْقَطَ لَفْظَةً هِيَ سَاقِطَةٌ فِي بَعْضِ التَّشَهُّدَاتِ الْمَرْوِيَّةِ صَحَّ تَشَهُّدُهُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: إذَا قَالَ: " وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ". وَلَمْ يَذْكُرْ " وَأَشْهَدُ " أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: لَوْ تَرَكَ وَاوًا أَوْ حَرْفًا أَعَادَ الصَّلَاةَ؛ لِقَوْلِ الْأَسْوَدِ: فَكُنَّا نَتَحَفَّظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا نَتَحَفَّظُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ الْأَسْوَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهِ وَحُرُوفِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَعَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يُرَخِّصُ فِي إبْدَالِ لَفَظَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَالتَّشَهُّدُ أَوْلَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ إنْسَانًا كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 44] . فَيَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَأَمَّا مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ التَّشَهُّدَاتُ كُلُّهَا فَيَتَعَيَّنُ الْإِتْيَانُ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (747) فَصْلٌ: وَلَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا التَّشَهُّدِ، وَلَا تَطْوِيلُهُ، وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا تَشَهَّدَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي فِي أَوَّلِهِ، وَقَالَ زِدْت فِيهِ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَبَاحَ الدُّعَاءَ فِيهِ بِمَا بَدَا لَهُ. وَقَالَ أَيُّوبُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَهِشَامٌ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي التَّسْمِيَةِ، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ قَالَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: بِسْمِ اللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَذَكَرَ التَّشَهُّدَ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ وَاسِعٌ. وَسَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ ". فَانْتَهَرَهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالرَّضْفُ: هِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ. يَعْنِي لِمَا يُخَفِّفُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَوِّلْهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّشَهُّدِ شَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا إذَا جَلَسْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي، فَإِذَا جَلَسَ فِي الْجَلْسَةِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ أَخَفَّ الْجُلُوسَ، ثُمَّ يَقُومُ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبِهِ. وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ التَّشَهُّدَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ. (748) فَصْلٌ: وَإِذَا أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَجَلَسَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، لَمْ يَزِدْ الْمَأْمُومُ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، بَلْ يُكَرِّرُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، قَالَ: يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ، وَلَا يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَدْعُو بِشَيْءٍ مِمَّا يُدْعَى بِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي التَّشَهُّدِ الَّذِي يُسَلِّمُ عَقِيبَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ. [مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّد الْأَوَّل نَهَضَ قَائِمًا] (749) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا كَنُهُوضِهِ مِنْ السُّجُودِ) يَعْنِي إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ نَهَضَ قَائِمًا عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي نُهُوضِهِ مِنْ السُّجُودِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَلَا يُقَدِّمُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عِنْدَ النُّهُوضِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكَرِهَهُ إِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ. وَرَخَّصَ فِيهِ مُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ لِلشَّيْخِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَرِهَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُمْكِنُ الشَّيْخَ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدَيْهِ، فَيَسْتَغْنِيَ عَنْهُ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ، وَلَا وُجِدَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ. (750) فَصْلٌ: ثُمَّ يُصَلِّي الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ كَالثَّانِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ: لَا يَقْرَأُ فِيهِمَا شَيْئًا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَجْهَرُ فِيهِمَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي] (751) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ تَوَرَّكَ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ بَاطِنَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى تَحْتَ فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَجْعَلُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ) السُّنَّةُ عِنْدَ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا كَجُلُوسِهِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَأَبِي حُمَيْدٍ، فِي صِفَةِ جُلُوسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَنَا قَوْلُ أَبِي حُمَيْدٍ: حَتَّى «إذَا كَانَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي يَقْضِي فِيهَا صَلَاتَهُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ.» وَهَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَزِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَالْمَصِيرُ إلَيْهَا، وَاَلَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 احْتَجُّوا بِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَأَبُو حُمَيْدٍ - رَاوِي حَدِيثِهِمْ - بَيَّنَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ افْتِرَاشَهُ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ تَوَرَّكَ فِي الثَّانِي، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ وَبَيَانِهِ. فَأَمَّا صِفَةُ التَّوَرُّكِ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَيَجْعَلُ بَاطِنَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى تَحْتَ فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَجْعَلُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى تَحْتَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: «جَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَلْيَتَيْهِ، وَجَعَلَ بَطْنَ قَدَمِهِ عِنْدَ مَأْبِضِ الْيُمْنَى، وَنَصَبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ فِي صِفَتِهِ، قَالَ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَتَوَرَّكُ فِي الرَّابِعَةِ فِي التَّشَهُّدِ، فَيُدْخِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، يُخْرِجُهَا مِنْ تَحْتِ سَاقِهِ الْأَيْمَنِ، وَلَا يَقْعُدُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَهُ، وَيُنَحِّي عَجُزَهُ كُلَّهُ، وَيَسْتَقْبِلُ بِأَصَابِعِهِ الْيُمْنَى الْقِبْلَةَ، وَرُكْبَتُهُ الْيُمْنَى عَلَى الْأَرْضِ مُلْزَقَةٌ. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّ أَبَا حُمَيْدٍ، قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَفْضَى بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إلَى الْأَرْضِ، وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَيُّهُمَا فُعِلَ فَحَسَنٌ. [فَصْلٌ التَّشَهُّدُ وَالْجُلُوسُ] (752) فَصْلٌ: وَهَذَا التَّشَهُّدُ وَالْجُلُوسُ لَهُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ عُمَرُ، وَابْنُهُ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَمْ يُوجِبْهُ مَالِكٌ، وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ الْجُلُوسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ. وَتَعَلُّقًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْأَعْرَابِيَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.» وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَفَعَلَهُ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ، قَبْلَ أَنْ يُفْرَضُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ. وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. إلَى آخِرِهِ» وَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ فُرِضَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَ تَعْلِيمَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ. [مَسْأَلَة التَّوَرُّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ يُسَلَّمُ فِيهِ] (753) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُتَوَرَّكُ إلَّا فِي صَلَاةٍ فِيهَا تَشَهُّدَانِ فِي الْأَخِيرِ مِنْهُمَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ جَمِيعَ جَلَسَاتِ الصَّلَاةِ لَا يُتَوَرَّكُ فِيهَا إلَّا فِي تَشَهُّدٍ ثَانٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ التَّوَرُّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ يُسَلِّمُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَانِيًا، كَتَشَهُّدِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ تَشَهُّدٌ يُسَنُّ تَطْوِيلُهُ، فَسُنَّ فِيهِ التَّوَرُّكُ كَالثَّانِي. وَلَنَا، حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 رِجْلَهُ الْيُمْنَى. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَلِّمُ فِيهِ وَمَا لَا يُسَلِّمُ.» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَانِ يَقْضِيَانِ عَلَى كُلِّ تَشَهُّدٍ بِالِافْتِرَاشِ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَشَهُّدٍ ثَانٍ، فَلَا يَتَوَرَّكُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الثَّانِيَ، إنَّمَا تَوَرَّكَ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَشَهُّدٌ وَاحِدٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى إنْ صَحَّ فَيُضَمُّ إلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَنُعَلِّلُ الْحُكْمَ بِهِمَا، وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّلَ بِعِلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَعَدِّيهِ لِتَعَدِّي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (754) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَمَا تَقُولُ فِي تَشَهُّدِ سُجُودِ السَّهْوِ؟ فَقَالَ " يُتَوَرَّكُ فِيهِ أَيْضًا، هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ. يَعْنِي إذَا كَانَ مِنْ السُّجُودِ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ تَشَهُّدَهَا يُتَوَرَّكُ فِيهِ، وَهَذَا تَابِعٌ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُتَوَرَّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ لِسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ رُبَاعِيَّةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَشَهُّدٌ ثَانٍ فِي الصَّلَاةِ، وَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشَهُّدِ صُلْبِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، فَيَجْلِسُ الْإِمَامُ فِي الرَّابِعَةِ، أَيَتَوَرَّكُ مَعَهُ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ فِي هَذِهِ الْجَلْسَةِ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ تَوَرَّكَ. قُلْت: فَإِذَا قَامَ يَقْضِي، يَجْلِسُ فِي الرَّابِعَةِ هُوَ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَرَّكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، يَتَوَرَّكُ، هَذَا لِأَنَّهَا هِيَ الرَّابِعَةُ لَهُ، نَعَمْ يَتَوَرَّكُ، وَيُطِيلُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ تَوَرَّكَ. عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ مَسْنُونٌ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَا يَتَوَرَّكَ إلَّا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ رِوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَة الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ فِي التَّشَهُّدِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَشَهَّدُ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَتَشَهَّدُ بِالتَّشَهُّدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. إنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ: مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ هَذَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هَذَا شُذُوذٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ قَوْلُ جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا الشَّافِعِيَّ. وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: لَا يُجْزِئُهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ عَامِدًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِأَنَّنِي لَا أَجِدُ الدَّلَالَةَ مَوْجُودَةً فِي إيجَابِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، ثُمَّ قَالَ: إذَا قُلْت هَذَا - أَوْ قَضَيْت هَذَا - فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك» . وَفِي لَفْظٍ: " وَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ عَقِيبَ التَّشَهُّدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّشَهُّدِ قَوْلًا، فَنَقَلَهُمْ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّشَهُّدِ وَحْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوبُهُ؛ فَإِنَّ أَبَا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَتَهَيَّبُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَبَيَّنْتُ، فَإِذَا الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إلَى هَذَا؛ لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عُلِّمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَجِلَ هَذَا. ثُمَّ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ» . وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ شُرِطَ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ، فَشُرِطَ ذِكْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَذَانِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (756) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: " كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ "، وَ " كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ " وَفِي رِوَايَةٍ: " كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ " وَ " كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ؛ فِي الْعَالَمِينَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ. لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 بْنِ عُجْرَةَ، وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِيهَا. وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ أَتَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، جَازَ، كَقَوْلِنَا فِي التَّشَهُّدِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا أَخَلَّ بِلَفْظٍ سَاقِطٍ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، جَازَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَغْفَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبُ؛ لِقَوْلِهِ فِي خَبَرِ أَبِي زُرْعَةَ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ، مَنْ تَرَكَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى آلِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ وَجْهَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِي خَبَرِ كَعْبٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِهَذَا حِينَ سَأَلُوهُ تَعْلِيمَهُمْ، وَلَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِهِ. (757) فَصْلٌ: آلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] . يَعْنِي أَتْبَاعَهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ سُئِلَ: مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: كُلُّ تَقِيٍّ» . أَخْرَجَهُ تَمَّامٌ فِي " فَوَائِدِهِ ". وَقِيلَ آلُهُ: أَهْلُهُ، الْهَاءُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْهَمْزَةِ، كَمَا يُقَالُ: أَرَقْتُ الْمَاءَ وَهَرَقْتُهُ. فَلَوْ قَالَ: وَعَلَى أَهْلِ مُحَمَّدٍ، مَكَانَ آلِ مُحَمَّدٍ، أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَالَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ لَوْ صُغِّرَ، قِيلَ: أُهَيْلٌ: قَالَ. وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا أَهْلُ دِينِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَأَبُو حَفْصٍ: لَا يُجْزِئُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ لَفْظِ الْأَثَرِ، وَتَغْيِيرِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْأَهْلَ إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْقَرَابَةِ، وَالْآلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَتْبَاعِ فِي الدِّينِ. (758) فَصْلٌ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ التَّحِيَّاتِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: التَّحِيَّةُ الْعَظَمَةُ، وَالصَّلَوَاتُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسِ، وَالطَّيِّبَاتُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: التَّحِيَّاتُ الْمُلْكُ. وَأَنْشَدَ: وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلَّا التَّحِيَّةَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ. وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَا الْبَيْتِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّحِيَّاتُ السَّلَامُ، وَالصَّلَوَاتُ الرَّحْمَةُ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنْ الْكَلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 (759) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ إخْفَاءُ التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهِ، إذْ لَوْ جَهَرَ بِهِ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَتْ الْقِرَاءَةُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مِنْ السُّنَّةِ إخْفَاءُ التَّشَهُّدِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ غَيْرُ الْقِرَاءَةِ لَا يُنْتَقَلُ بِهِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ، فَاسْتُحِبَّ إخْفَاؤُهُ، كَالتَّسْبِيحِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَصْلٌ (760) : وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ التَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي التَّكْبِيرِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ تَشَهَّدَ بِلِسَانِهِ، كَقَوْلِنَا فِي التَّكْبِيرِ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَشَهَّدَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَخْرَسِ. وَمَنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، فَلَزِمَهُ كَالْقِرَاءَةِ. فَإِنْ صَلَّى قَبْلَ تَعَلُّمِهِ مَعَ إمْكَانِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِهِ، أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْهُ، وَأَجْزَأَهُ؛ لِلضَّرُورَةِ. وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ، سَقَطَ كُلُّهُ. (761) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ تَرْتِيبُ التَّشَهُّدِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَأَتَى بِهِ مُنَكَّسًا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ، وَلَا إخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبِ فِيهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَقَدْ حَصَلَ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ رَتَّبَهُ. وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ فِي ذِكْرٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُرَتَّبًا، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْأَذَانِ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَوَّذ مِنْ أَرْبَعٍ بَعْد التَّشَهُّد] (762) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ أَرْبَعٍ. فَيَقُولَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ أَرْبَعٍ» وَذَكَرَهُ. [مَسْأَلَة الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ] (763) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ دَعَا فِي تَشَهُّدِهِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ فَلَا بَأْسَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ جَائِزٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ هَؤُلَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 يَقُولُونَ: لَا يَدْعُو فِي الْمَكْتُوبَةِ إلَّا بِمَا فِي الْقُرْآنِ. فَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُغْضَبِ، وَقَالَ: مَنْ يَقِفُ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ مَا قَالُوا، قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ يَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ بِمَا شَاءَ؟ قَالَ: بِمَا شَاءَ لَا أَدْرِي، وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا يَعْرِفُ وَبِمَا جَاءَ. فَقُلْت: عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، وَذَكَرَ التَّشَهُّدَ، ثُمَّ لِيَقُلْ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَك عِبَادُك الصَّالِحُونَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عِبَادُك الصَّالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِك وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ". رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَعَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَبْصَارِنَا وَأَسْمَاعِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِك، مُثْنِينَ عَلَيْك بِهَا، قَابِلِيهَا، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي، إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ: مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُمْ التَّشَهُّدَ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ» . وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: بِمَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ. يَعْنِي أَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَالسَّلَفِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَدْعُو بِمَا جَاءَ وَبِمَا يَعْرِفُ. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِك فَصُنْ وَجْهِي عَنْ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِك. وَقَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُهُ فِي سُجُودِهِ. وَقَالَ: سَمِعْت الثَّوْرِيَّ يَقُولُهُ فِي سُجُودِهِ. (764) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُقْصَدُ بِهِ مَلَاذُّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا، بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ وَأَمَانِيَّهُمْ، مِثْلُ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي جَارِيَةً حَسْنَاءَ، وَدَارًا قَوْرَاءَ، وَطَعَامًا طَيِّبًا، وَبُسْتَانًا أَنِيقًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي التَّشَهُّدِ: " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ أَوْ مَا أَحَبَّ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ أَرْبَعٍ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ» . وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ يُخَاطَبُ بِمِثْلِهِ، أَشْبَهَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلَامِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَمَا أَشْبَهَهُ. (765) فَصْلٌ: فَأَمَّا الدُّعَاءُ بِمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا لَيْسَ بِمَأْثُورٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ مَلَاذُّ الدُّنْيَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا جَاءَ وَبِمَا يَعْرِفُ. وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ حَوَائِجِهِ؛ مِنْ حَوَائِجِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ "، وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ ". وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ ". وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. فَقَالَ: احْمَدِي اللَّهَ عَشْرًا، وَسَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِي مَا شِئْتِ. يَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَدْعُونَ فِي صَلَاتِهِمْ بِمَا لَمْ يَتَعَلَّمُوهُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ: " مَا تَقُولُ فِي صَلَاتِك؟ " قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ. فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَّمَهُ إيَّاهُ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ» . لَمْ يُعَيِّنْ لَهُمْ مَا يَدْعُونَ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ كُلَّ الدُّعَاءِ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ بِالدَّلِيلِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ إذَا قَرَأَتْ: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ» . قَالَتْ: مُنَّ عَلَيْنَا، وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النِّفَاقِ. وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ الدُّعَاءَ الْمَأْثُورَ. (766) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ لَإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فِي صَلَاتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِابْنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَا أَدْعُو لِقَوْمٍ مُنْذُ سِنِينَ فِي صَلَاتِي؛ أَبُوك أَحَدُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ «؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» . وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ". وَالْأُخْرَى لَا يَجُوزُ. وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ؛ لِشَبَهِهِ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِمُعَيَّنٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ. (767) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي نَافِلَةً إذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَهَا، أَوْ آيَةُ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهَا؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ، «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، وَمَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ، وَلَا بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا فَتَعَوَّذَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ. قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ. وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَرِيضَةٍ، مَعَ كَثْرَةِ مَنْ وَصَفَ قِرَاءَتَهُ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 (768) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُرَتِّلَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّشَهُّدَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ يَثْقُلُ لِسَانُهُ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، قَدْرَ مَا يَرَى أَنَّ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالثَّقِيلَ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ. فَإِنْ خَالَفَ وَأَتَى بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ. وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّطْوِيلُ كَثِيرًا، فَيَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ» . وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَلَهُ الْإِطَالَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى حَالٍ يَخَافُ السَّهْوَ، فَتُكْرَهَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً أَوْجَزَ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أُبَادِرُ الْوَسْوَاسَ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا عَرَضَ فِي الصَّلَاةِ عَارِضٌ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، يَقْتَضِي خُرُوجَهُ، أَنْ يُخَفِّفَ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا] (769) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَعَيَّنُ السَّلَامُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، بَلْ إذَا خَرَجَ بِمَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ حَدَثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ، إلَّا أَنَّ السَّلَامَ مَسْنُونٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ وَجَبَ لَأَمَرَهُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَيُدِيمُ ذَلِكَ وَلَا يُخِلُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَلِأَنَّ الْحَدَثَ يُنَافِي الصَّلَاةَ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ] (770) فَصْلٌ: وَيُشْرَعُ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ: كَانَ مَسْجِدُ الْأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ فِيهِ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَكَانَ مَسْجِدُ الْمُهَاجِرِينَ يُسَلِّمُونَ فِيهِ تَسْلِيمَةً. وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ.» وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» ، رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى قَدْ خَرَجَ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُشْرَعْ مَا بَعْدَهَا كَالثَّانِيَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ.» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَرْوِيهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: يَرْوِي مَنَاكِيرَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَسَأَلَ الْأَثْرَمُ، أَحْمَدَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقُولُ هِشَامٌ: كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُنَا. قِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ عَنْ هِشَامٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَسْلِيمًا. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَسْلِيمَةً. قَالَ: هَذَا أَجْوَدُ. فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَدُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ يُسْمِعُهُمْ التَّسْلِيمَةَ الْوَاحِدَةَ، وَمَنْ رَوَى: تَسْلِيمًا. فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ. عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَنَا تَتَضَمَّنُ زِيَادَةً عَلَى أَحَادِيثِهِمْ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَيَجُوزُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِيُبَيِّنَ الْجَائِزَ وَالْمَسْنُونَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَحَلُّلَانِ كَالْحَجِّ. [فَصْلٌ الْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ] (771) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ صَلَاةَ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، جَائِزَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الثَّانِيَةَ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ: هِيَ أَصَحُّ؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهَا وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا تَحَلُّلَانِ، فَكَانَا وَاجِبَيْنِ، كَتَحَلُّلَيْ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْأُولَى. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَيْسَ نَصُّ أَحْمَدَ بِصَرِيحٍ بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ، إنَّمَا قَالَ: التَّسْلِيمَتَانِ أَصَحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ أَذْهَبُ إلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وَالِاسْتِحْبَابِ، دُونَ الْإِيجَابِ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: أَعْجَبُ إلَيَّ التَّسْلِيمَتَانِ. وَلِأَنَّ عَائِشَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ. قَدْ رَوَوْا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوعُ وَالْمَسْنُونُ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَالْوَاجِبُ وَاحِدَةً، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْمَلُ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلَا يُمْنَعُ حَمْلُ فِعْلِهِ لِهَذِهِ التَّسْلِيمَةِ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الْوَاحِدَةَ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فِيهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ، فَتُجْزِئُهُ فِيهَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَاحِدَةٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالنَّافِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ» فَإِنَّهُ يَعْنِي فِي إصَابَةِ السُّنَّةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: أَنْ «يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ.» وَكُلُّ هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، أَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَالنَّافِلَةِ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ، فَلَا خَوْفَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا - رِوَايَةً وَاحِدَةً - نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسَلِّمُوا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إلَّا تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فِي الصَّلَاة] (772) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ كَذَلِكَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهُ وَبَرَكَاتُهُ. وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَحَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ، وَطُرُقَهُ أَصَحُّ فَإِنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَلَمْ يَزِدْ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ. وَالتَّسْلِيمُ يَحْصُلُ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: «كُنْت أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، حَتَّى أَرَى بَيَاضَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 خَدِّهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ نَحْوَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.» رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ تَكْرِيرٌ لِلثَّنَاءِ، فَلَمْ يَجِبْ. كَقَوْلِهِ: وَبَرَكَاتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَلِأَنَّهُ سَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ، فَلَمْ يَجُزْ بِدُونِهَا، كَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ. [فَصْلٌ نَكَّسَ السَّلَام فِي الصَّلَاة فَقَالَ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ] (773) فَصْلٌ: فَإِنْ نَكَّسَ السَّلَامَ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ. لَمْ يَجْزِهِ. قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُجْزِئُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ، وَلَيْسَ هُوَ بِقُرْآنٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ النَّظْمُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ مُرَتَّبًا، وَأَمَرَ بِهِ كَذَلِكَ. وَقَالَ لِأَبِي تَمِيمَةَ: «لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَامُ. فَإِنَّ عَلَيْك السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُؤْتَى بِهِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ مُنَكَّسًا، كَالتَّكْبِيرِ. [فَصْلٌ قَالَ فِي الصَّلَاة سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مُنْكَرًا مُنَوَّنًا] (774) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: مُنَكِّرًا مُنَوِّنًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّنْوِينَ قَامَ مَقَامَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ السَّلَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] . وَقَوْلِهِ: {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] . وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر: 73] . وَلِأَنَّا أَجَزْنَا التَّشَهُّدَ بِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَفِيهِمَا: سَلَامٌ عَلَيْك. بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَالتَّسْلِيمَتَانِ وَاحِدٌ. وَالْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ صِيغَةَ السَّلَامِ الْوَارِدِ، وَيُخِلُّ بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَيَتَغَيَّرُ الْمَعْنَى، فَلَمْ يُجْزِئْ، كَمَا لَوْ أَثْبَتَ اللَّامَ فِي التَّكْبِيرِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنَوِّنَ التَّسْلِيمَ أَوْ لَا يُنَوِّنَهُ؛ لِأَنَّ حَذْفَ التَّنْوِينِ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ عَنْ يَمِينِهِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَعَنْ يَسَارِهِ فِي الثَّانِيَةِ] (775) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ عَنْ يَمِينِهِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَعَنْ يَسَارِهِ فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ» . وَيَكُونُ الْتِفَاتُهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْفَى؛ لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الْأَيْمَنِ وَالْأَيْسَرِ.» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ قَائِلًا: وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ.» مَعْنَاهُ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ، وَ " رَحْمَةُ اللَّهِ " يَكُونُ فِي حَالِ الْتِفَاتِهِ [فَصْلٌ الْجَهْر بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى فِي الصَّلَاة] فَصْلٌ: وَقَدْ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ أَخْفَى مِنْ الْأُولَى، يَعْنِي بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ. قَالَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ: سُئِلَ أَحْمَدُ: أَيُّ التَّسْلِيمَتَيْنِ أَرْفَعُ؟ قَالَ: الْأُولَى. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى أَرْفَعُ مِنْ الْأُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، وَأَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ وَحَمَلَ أَحْمَدُ حَدِيثَ عَائِشَةَ. أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِوَاحِدَةٍ، فَتُسْمَعُ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْجَهْرَ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِالِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْجَهْرِ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، فَلَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِغَيْرِهَا. وَكَانَ ابْنُ حَامِدٍ يُخْفِي الْأُولَى وَيَجْهَرُ بِالثَّانِيَةِ، لِئَلَّا يَسْبِقَهُ الْمَأْمُومُونَ بِالسَّلَامِ [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ حَذْف السَّلَامِ] (777) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ حَذْفُ السَّلَامِ، وَهُوَ أَلَّا يُمَدَّ بِطُولِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد،، وَالتِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ» . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَمُدَّهُ مَدًّا. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهَذَا الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، وَالسَّلَامُ جَزْمٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ إخْفَاءُ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ إسْقَاطُ بَعْضِ الشَّيْءِ، وَالْجَزْمَ قَطْعٌ لَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعْنَاهُمَا، وَالْإِخْفَاءُ بِخِلَافِهِ، وَيَخْتَصُّ بِبَعْضِ السَّلَامِ دُونَ جُمْلَتِهِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْأَثْرَمِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يُطَوِّلَ بِهِ صَوْتَهُ. وَطَوَّلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ. [فَصْلٌ يَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ] (778) فَصْلٌ: وَيَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نُطْقٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الصَّلَاةِ؛ فَاعْتُبِرَتْ لَهُ النِّيَّةُ، كَالتَّكْبِيرِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ شَمِلَتْ جَمِيعَ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَلِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 لَوْ وَجَبَتْ النِّيَّةُ فِي السَّلَامِ لَوَجَبَ تَعْيِينُهَا، كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ النِّيَّةُ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَقِيَاسُ الطَّرَفِ الْأَخِيرِ عَلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ اُعْتُبِرَتْ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، لِيَنْسَحِبَ حُكْمُهَا عَلَى بَقِيَّةِ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْأَخِيرِ، وَلِذَلِكَ فُرِّقَ الطَّرَفَانِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ مَعًا الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ نَوَى مَعَ ذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ إنْ كَانَ إمَامًا، أَوْ عَلَى الْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ إنْ كَانَ مَأْمُومًا، فَلَا بَأْسَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْوِي بِسَلَامِهِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَنَظَرَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، إذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْتَفِتْ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا يُومِئْ بِيَدِهِ» ، وَفِي لَفْظٍ «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد. قَالَ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَنْوِيَ بِسَلَامِهِ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُصَلِّينً وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُسْلِمِ - مِنْ أَصْحَابِنَا -: يَنْوِي بِالْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَيَنْوِي بِالثَّانِيَةِ السَّلَامَ عَلَى الْحَفَظَةِ وَالْمَأْمُومِينَ، إنْ كَانَ إمَامًا، وَالرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ وَالْحَفَظَةِ، إنْ كَانَ مَأْمُومًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ نَوَى فِي السَّلَامِ الرَّدَّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ مَعَ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى السَّلَامَ عَلَى آدَمِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَا يُصَلِّي مَعَهُ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ: يُسَلِّمُ لِلصَّلَاةِ، وَيَنْوِي فِي سَلَامِهِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ. رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ: إذَا نَوَى بِتَسْلِيمِهِ الرَّدَّ عَلَى الْحَفَظَةِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ: أَيْضًا: يَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ نَوَى الْمَلَكَيْنِ، وَمَنْ خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، وَالْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ نَخْتَارُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءُ عَقِيبَ صَلَاتِهِ] (779) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ عَقِيبَ صَلَاتِهِ، وَيُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ، مِثْلُ مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ثَوْبَانُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «جَاءَ الْفُقَرَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلُ أَمْوَالٍ، يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ؟ فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكُّمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا. فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. فَرَجَعْتُ إلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ» قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: يَقُولُ هَكَذَا وَلَا يَقْطَعُهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. فَإِنْ عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهَلِّلُ بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ.» وَعَنْ سَعْدٍ، أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ» . مِنْ الصِّحَاحِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ «رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ [فَصْلٌ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَام رِجَالٌ وَنِسَاءٌ] ٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَثْبُتَ هُوَ وَالرِّجَالُ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُنَّ قَدْ انْصَرَفْنَ، وَيَقُمْنَ هُنَّ عَقِيبَ تَسْلِيمِهِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «إنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ إذَا سَلَّمَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ صَلَّى مِنْ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ الرِّجَالُ.» قَالَ الزُّهْرِيُّ فَنَرَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لِكَيْ يَبْعُدَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنْ النِّسَاءِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا يُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نِسَاءٌ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إطَالَةُ الْجُلُوسِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: «رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ» إلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَقُمْ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْحَرِفَ عَنْ قِبْلَتِهِ، لَا يَلْبَثُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الشَّكِّ، هَلْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ لَا؟ ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ.» وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَجْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ انْحَرَفَ» . وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ صَلَّى بِقَوْمٍ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى الْقِبْلَةِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَأَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ عَلَى رَضْفَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حِينَ يُسَلِّمُ وَلَا يَنْحَرِفُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَاحْصِبُوهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا سَلَّمَ يَلْتَفِتُ وَيَتَرَبَّعُ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَأَيْتُهُ إذَا كَانَ إمَامًا فَسَلَّمَ انْحَرَفَ عَنْ يَمِينِهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَتَرَبَّعُ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ.» وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ إذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . وَعَنْ سَعْدٍ، قَالَ: «كُنْت أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعُ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ لَا يَجْلِسُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَّا قَدْرَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ» . يَعْنِي فِي مَقْعَدِهِ حَتَّى يَنْحَرِفَ، قَالَ: لَا أَدْرِي. وَرَوَى الْأَثْرَمُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ لَا يَثِبُوا قَبْلَ الْإِمَامِ، لِئَلَّا يَذْكُرَ سَهْوًا فَيَسْجُدَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي إمَامُكُمْ، فَلَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: فَلَا تَسْبِقُونِي. فَإِنْ خَالَفَ الْإِمَامُ السُّنَّةَ فِي إطَالَةِ الْجُلُوسِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوْ انْحَرَفَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُومَ الْمَأْمُومُ وَيَدَعَهُ. [فَصْلٌ الِانْصِرَاف مِنْ الصَّلَاة] (781) فَصْلٌ: وَيَنْصَرِفُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ؛ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صَلَاتِهِ، يَرَى حَقًّا عَلَيْهِ أَلَّا يَنْصَرِفَ إلَّا عَنْ يَمِينِهِ، «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يَنْصَرِفُ عَنْ شِقَّيْهِ.» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ] (782) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: كَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَحْمَدُ وَمَنْ صَلَّى وَرَاءُ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَوَّعَ مَكَانَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِإِسْنَادِهِ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالنَّاسِ.» [مَسْأَلَة يَثْبُتَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ مَا يَثْبُتُ لِلرِّجَالِ] (783) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَجْمَعُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَجْلِسُ مُتَرَبِّعَةً أَوْ تَسْدُلُ رِجْلَيْهَا فَتَجْعَلُهُمَا فِي جَانِبِ يَمِينِهَا. الْأَصْلُ أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ مَا يَثْبُتُ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَشْمَلُهَا، غَيْرَ أَنَّهَا خَالَفَتْهُ فِي تَرْكِ التَّجَافِي، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، فَاسْتُحِبَّ لَهَا جَمْعُ نَفْسِهَا، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ حَالَ التَّجَافِي. وَكَذَلِكَ فِي الِافْتِرَاشِ، قَالَ أَحْمَدُ: وَالسَّدْلُ أَعْجَبُ إلَيَّ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ. قَالَ عَلِيٌّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ فَلْتَحْتَفِزْ وَلْتَضُمَّ فَخِذَيْهَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَة الْمَأْمُومُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَلَا يَقْرَأُ بِالْحَمْدِ وَلَا بِغَيْرِهَا] (784) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْمَأْمُومُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَلَا يَقْرَأُ بِالْحَمْدِ، وَلَا بِغَيْرِهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ ، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ أَنْ يَقْرَءُوا فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُومَ إذَا كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، وَلَا تُسْتَحَبُّ عِنْدَ إمَامِنَا، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ قَالَ: يَقْرَأُ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ. وَنَحْوُهُ عَنْ اللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ عَوْنٍ وَمَكْحُولٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وَأَبِي ثَوْرٍ، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ» . قَالَ الرَّاوِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي، وَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهَا رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْ الْمَأْمُومِ، كَسَائِرِ أَرْكَانِهَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، كَالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَقَالَ أَحْمَدُ: فَالنَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالزُّهْرِيُّ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَلِأَنَّهُ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الصَّلَاةَ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْخِرَقِيِّ، رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً، فَلَمَّا قَضَاهَا قَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ إذَا أَسْرَرْتُ بِقِرَاءَتِي فَاقْرَءُوا، وَإِذَا جَهَرْتُ بِقِرَاءَتِي فَلَا يَقْرَأَنَّ مَعِي أَحَدٌ» . وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ، قَالَ أَحْمَدُ، مَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ إذَا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ. وَقَالَ: هَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ، وَهَذَا مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ وَهَذَا الثَّوْرِيُّ، فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهَذَا الْأَوْزَاعِيُّ، فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَهَذَا اللَّيْثُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فِي أَهْلِ مِصْرَ، مَا قَالُوا لِرَجُلٍ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ، وَقَرَأَ إمَامُهُ، وَلَمْ يَقْرَأْ هُوَ: صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ. وَلِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبُوقِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ، كَقِرَاءَةِ السُّورَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَسْبُوقِ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمَسْبُوقِ، كَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ، الصَّحِيحُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَأْمُومِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ رَوَاهُ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، إلَّا أَنْ تَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ» وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ جَابِرٍ. وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ. مِنْ كَلَامِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: اقْرَأْ بِهَا فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، أَوْ فِي حَالِ إسْرَارِهِ. فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: «إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا» ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ الْآخَرُ، لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ. كَذَلِكَ قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ. وَهُوَ أَدْنَى حَالًا مِنْ ابْنِ إِسْحَاقَ. فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالْمَسْبُوقِ. [فَصْلٌ الْمَأْمُومَ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ] (785) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنَّهُ - يَعْنِي الْمَأْمُومَ - قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، ثُمَّ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: يَقْطَعُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، وَيُنْصِتُ لِلْقِرَاءَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» . [فَصْلٌ هَلْ يَسْتَفْتِح الْمَأْمُوم وَيَسْتَعِيذ فِي الصَّلَاة] (786) فَصْلٌ: وَهَلْ يَسْتَفْتِحُ الْمَأْمُومُ وَيَسْتَعِيذُ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي حَقِّهِ قِرَاءَةٌ مَسْنُونَةٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُسِرُّ فِيهَا الْإِمَامُ، أَوْ الَّتِي فِيهَا سَكَتَاتٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ، اسْتَفْتَحَ الْمَأْمُومُ وَاسْتَعَاذَ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ أَصْلًا، فَلَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ، وَإِنْ سَكَتَ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلِافْتِتَاحِ فَحَسْبُ، اسْتَفْتَحَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: سُئِلَ سُفْيَانُ أَيَسْتَعِيذُ الْإِنْسَانُ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: إنَّمَا يَسْتَعِيذُ مَنْ يَقْرَأُ. قَالَ أَحْمَدُ: صَدَقَ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ فِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَعِيذُ فِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ قَامَ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ، بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ [مَسْأَلَة الِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَات الْإِمَامِ] (787) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: الِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَفِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ يَقْرَءُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فِيمَا أَسَرَّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إذَا جَهَرَ فَلَا تَقْرَأْ، وَإِذَا خَافَتَ فَاقْرَأْ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَكَمِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنْ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ، إذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ الْإِمَامُ بِحَالٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا أَسْرَرْت بِقِرَاءَتِي فَاقْرَءُوا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ عُمُومَ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي الْقِرَاءَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ، فَخَصَّصْنَاهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِحَالِ الْجَهْرِ، وَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ حَالَةِ الْجَهْرِ بِامْتِنَاعِ النَّاسِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي غَيْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي الْإِمَامِ يَقْرَأُ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ: يَقْرَأُ. قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ؟ فَقَالَ: هَذَا إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَمِعُ؟ . وَيُسَنُّ لَهُ قِرَاءَةُ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي مَوَاضِعِهَا. [مَسْأَلَة مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ] (788) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَأْمُومِ فِيمَا جَهَرَ بِهِ الْإِمَامُ، وَلَا فِيمَا أَسَرَّ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَبِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُد: يَجِبُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ فِي حَالِ الْجَهْرِ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» . وَرَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ، شُعْبَةَ، عَنْ مُوسَى، مُطَوَّلًا. وَأَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْبَطِّيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْبُحْتُرِيِّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ رَجُلٌ يُومِئُ إلَيْهِ أَنْ لَا يَقْرَأَ، فَأَبَى إلَّا أَنْ يَقْرَأَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا لَكَ تَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: مَا لَكَ تَنْهَانِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا كَانَ لَك إمَامٌ يَقْرَأُ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَك قِرَاءَةٌ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ جَابِرٍ: " إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ ". وَرَوَى الْخَلَّالُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَكْفِيك قِرَاءَةُ الْإِمَامِ، خَافَتَ أَوْ جَهَرَ» وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَوْ كَانَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وَاجِبَةً عَلَيْهِ لَمْ تَسْقُطْ كَبَقِيَّةِ أَرْكَانِهَا " [فَصْلٌ إذَا قَرَأَ بَعْض الْفَاتِحَةِ فِي سَكْتَةِ الْإِمَام ثُمَّ قَرَأَ الْإِمَامُ] (789) فَصْلٌ: وَإِذَا قَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ، ثُمَّ قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصَتَ لَهُ، وَقَطَعَ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ قَرَأَ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَلَا تَنْقَطِعُ الْقِرَاءَةُ بِسُكُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ سُكُوتٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِقِرَاءَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْطَلَهَا " لَمْ يَسْتَفِدْ فَائِدَةً، فَإِنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا قَرَأَهُ فِي الْأُولَى [فَصْلٌ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَام وَنَغْمَته] (790) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ لِبُعْدٍ، قَرَأَ. نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ الْأَثْرَمُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَيَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ: إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَنَغْمَتَهُ قَرَأَ، فَإِذَا سَمِعَ فَلْيُنْصِتْ قِيلَ لَهُ: فَالْأَطْرَشُ؟ قَالَ لَا أَدْرِي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّهِ الْقِرَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْصَاتُ كَالْبَعِيدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقْرَأَ كَيْ لَا يُخَلِّطَ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ سَمِعَ هَمْهَمَتَهُ وَلَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: لَا يَقْرَأُ وَنُقِلَ عَنْهُ، أَنَّهُ يَقْرَأُ إذَا سَمِعَ الْحَرْفَ بَعْدَ الْحَرْفِ [مَسْأَلَة الْإِسْرَار بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ] (791) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَيَجْهَرُ بِهَا فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي الصُّبْحِ كُلِّهَا. الْجَهْرُ فِي مَوَاضِعِ الْجَهْرِ، وَالْإِسْرَارُ فِي مَوَاضِعِ الْإِسْرَارِ، لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ، فَإِنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، تَرَكَ السُّنَّةَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ نَسِيَ فَجَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ، بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَإِنْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا يَمْضِي فِي قِرَاءَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ يَعُودُ فِي قِرَاءَتِهِ. عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ إنَّمَا لَمْ يَعُدْ إذَا جَهَرَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِزِيَادَةٍ. وَإِنْ خَافَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِصِفَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي الْقِرَاءَةِ، يُمْكِنْهُ أَنْ يَأْتِي بِهَا وَفَوَّتَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ سَمَاعَ الْقِرَاءَةِ [فَصْلٌ الْجَهْرُ مَشْرُوعٌ لِلْإِمَامِ وَلَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ] (792) فَصْلٌ: وَهَذَا الْجَهْرُ مَشْرُوعٌ لِلْإِمَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ، بَلْ قَدْ مُنِعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَامَ لِيَقْضِيَهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 مِنْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ، فَقَامَ لِيَقْضِيَ، أَيَجْهَرُ أَوْ يُخَافِتُ؟ قَالَ: إنْ شَاءَ جَهَرَ، وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ. ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا الْجَهْرُ لِلْجَمَاعَةِ، قُلْت لَهُ: وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، إنْ شَاءَ جَهَرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّمَا الْجَهْرُ لِلْجَمَاعَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ، فِيمَنْ فَاتَتْهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْإِنْصَاتِ إلَى أَحَدٍ، فَأَشْبَهَ الْإِمَامَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَأْمُومَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ إسْمَاعَ الْمَأْمُومِينَ، وَيَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْهُمْ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: إنَّمَا الْجَهْرُ لِلْجَمَاعَةِ، فَقَدْ تَوَسَّطَ الْمُنْفَرِدُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَفَارَقَهُمَا فِي كَوْنِهِ لَا يَقْصِدُ إسْمَاعَ غَيْرِهِ، وَلَا الْإِنْصَاتَ لَهُ، فَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحَالَيْنِ. [فَصْلٌ إنَّ قَضَى الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ] (793) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ قَضَى الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ نَهَارٍ أَسَرَّ، سَوَاءٌ قَضَاهَا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَإِنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ صَلَاةَ جَهْرٍ فَقَضَاهَا فِي لَيْلٍ، جَهَرَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ لَيْلٍ فَعَلَهَا لَيْلًا، فَيَجْهَرُ فِيهَا كَالْمُؤَدَّاةِ وَإِنْ قَضَاهَا نَهَارًا، فَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ فَيَحْتَمِلُ الْإِسْرَارَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ عَجْمَاءُ، وَهَذِهِ صَلَاةُ نَهَارٍ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْجُمُوهُ بِالْبَعْرِ» . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ. وَهَذِهِ قَدْ صَارَتْ صَلَاةَ نَهَارٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْعُولَةٌ بِالنَّهَارِ، فَأَشْبَهَ الْأَدَاءَ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى وَفْقِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لِشَبَهِ الصَّلَاةِ الْمَقْضِيَّةِ بِالْحَالَيْنِ. [مَسْأَلَة قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مَسْنُونَةٌ] (794) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: بِنَحْوِ الثَّلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْمَغْرِبِ، بِسُوَرِ آخِرِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " وَمَا أَشْبَهَهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مَسْنُونَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي بَيَّنَ الْخِرَقِيِّ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَنَحْوِهَا، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ إلَى التَّخْفِيفِ» . وَقَالَ قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَرَوَى النَّسَائِيّ، أَنَّهُ قَرَأَ فِيهَا الرُّومَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: «قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِ الْمُؤْمِنُونَ. فَلَمَّا أَتَى عَلَى ذِكْرِ عِيسَى أَصَابَتْهُ شَرْقَةٌ، فَرَكَعَ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: «كَأَنِّي أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فَأَمَّا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - يَعْنِي الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اجْتَمَعَ ثَلَاثُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَقِيسَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَجْهَرْ فِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، فَقَاسُوا قِرَاءَتَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الظُّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَاسُوا ذَلِكَ فِي الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ النِّصْفِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ.» هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: «حَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، قَدْرَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ قَدْرَ (الم تَنْزِيلُ) ، وَقَالَ: وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ: وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ» . وَفِي حَدِيثٍ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَشَبَهِهِمَا» . فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَعَنْ الْبَرَاءِ، «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي السَّفَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ وَيَكْفِيك أَنْ تَقْرَأَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] ، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] » . وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى، أَنْ اقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَأَقْرَأْ فِي الظُّهْرِ بِأَوَاسِطِ الْمُفَصَّلِ، وَاقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ [مَسْأَلَة مَا قَرَأَ بِهِ بَعْدَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ] (795) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَهْمَا قَرَأَ بِهِ بَعْدَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَالتَّقْدِيرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا وَاسِعٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ. وَثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ» ، وَقَرَأَ فِيهَا بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ فِيهَا بِالْأَعْرَافِ رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ. أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ «أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُطِيلُ تَارَةً وَيُقَصِّرُ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ؛ مَخَافَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» [فَصْلٌ إطَالَة الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ] (796) فَصْلٌ:: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُطِيلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِيَلْحَقَهُ الْقَاصِدُ لِلصَّلَاةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ الْأُولَيَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «حَزَرْنَا قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ الثَّلَاثِينَ آيَةً» وَلِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مُتَسَاوِيَتَانِ فَكَذَلِكَ الْأُولَيَانِ. وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الصُّبْحِ، خَاصَّةً، وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَالَ: " فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يُسْمَعَ وَقْعُ قَدَمٍ» وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، ثُمَّ لَوْ قَدَّرْنَا التَّعَارُضَ وَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ، وَيَتَضَمَّنُ زِيَادَةً، وَهِيَ ضَبْطُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْإِمَامِ يُطَوِّلُ فِي الثَّانِيَةِ، يَعْنِي أَكْثَرَ مِنْ الْأُولَى: يُقَالُ لَهُ فِي هَذَا تَعَلُّمٌ. وَقَالَ أَيْضًا، فِي الْإِمَامِ يُقَصِّرُ فِي الْأُولَى وَيُطَوِّلُ فِي الْآخِرَةِ: لَا يَنْبَغِي هَذَا، يُقَالُ لَهُ، وَيُؤْمَرُ. [فَصْلٌ قِرَاءَة السُّورَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاة] (797) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: لَا بَأْسَ بِالسُّورَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالْأَعْرَافِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ الْبَقَرَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ» ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَقَرَأَ بِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ مَا كِدْتَ تَفْرُغُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَالَ: لَوْ طَلَعَتْ لَأَلِفَتْنَا غَيْرَ غَافِلِينَ. وَقَدْ «قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى ذِكْرِ عِيسَى أَخَذَتْهُ شَرْقَةٌ فَرَكَعَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وَلَا بَأْسَ أَيْضًا بِقِرَاءَةِ بَعْضِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبْزَى قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ، فَقَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ حَتَّى إذَا بَلَغَ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] وَقَعَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ فَرَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةٍ مِنْ السُّورَةِ فَهِيَ بَعْضُ السُّورَةِ [فَصْلٌ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِسُورَةِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى] (798) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِسُورَةٍ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ: وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ؟ وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ مَعَهَا {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] أَيْضًا.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَرُفِعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ» . [فَصْلٌ يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيف فِي الصَّلَاةِ الْيَوْمَ سُورَةً وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا وَنَحْوَهُ] (799) فَصْلٌ: قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيفِ فِي الصَّلَاةِ الْيَوْمَ سُورَةً. وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا وَنَحْوَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ. إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فِي الْفَرَائِضِ إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ يَنْتَهِي جُزْؤُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ [فَصْلٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ] (800) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ لَهُ: فِي الْفَرِيضَةِ؟ قَالَ: لَا، لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَحْفَظْ، فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كُرِهَ أَيْضًا. قَالَ وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْإِمَامَةِ فِي الْمُصْحَفِ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ. نَقَلَهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ، وَصَالِحٌ، وَابْنُ مَنْصُورٍ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ فِي الْجَوَازِ سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَافِظًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ طَوِيلٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُد، فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَهَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَؤُمَّ النَّاسَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنْ يَؤُمَّنَا إلَّا مُحْتَلِمٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَالرَّبِيعِ، كَرَاهَةُ ذَلِكَ وَعَنْ سَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ قَالَا: تُرَدِّدُ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا تَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ يَؤُمُّهَا عَبْدٌ لَهَا فِي الْمُصْحَفِ وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: كَانَ خِيَارُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْمَصَاحِفِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَعَنْ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ فِي التَّطَوُّعِ وَلِأَنَّ مَا جَازَ قِرَاءَتُهُ ظَاهِرًا جَازَ نَظِيرُهُ كَالْحَافِظِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ طَوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُتَّصِلٌ وَاخْتَصَّتْ الْكَرَاهَةُ بِمَنْ يَحْفَظُ لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّظَرِ إلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَكُرِهَ فِي الْفَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا وَأُبِيحَتْ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْقِيَامِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَة زِيَادَة الْقِرَاءَة عَلَى أُمّ الْكِتَاب فِي الرَّكْعَتَيْنِ غَيَّرَ الْأُولَيَيْنِ] (801) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَا يَزِيدُ عَلَى قِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُسَنُّ زِيَادَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى أُمِّ الْكِتَابِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ غَيْرِ الْأُولَيَيْنِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ. الشَّالَنْجِيُّ عَنْهُمْ بِإِسْنَادِهِ إلَّا حَدِيثَ جَابِرٍ فَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَمَرَّةً قَالَ كَذَلِكَ وَمَرَّةً قَالَ: يَقْرَأُ بِسُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. لِمَا رَوَى الصُّنَابِحِيُّ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمَغْرِبَ، فَدَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إنَّ ثِيَابِي تَكَادُ تَمَسُّ ثِيَابَهُ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْآيَةِ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] وَلَنَا: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا» وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ: أَنْ اقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ. وَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الدُّعَاءَ، لَا الْقِرَاءَةَ. لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ وَلَوْ قُدِّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْقِرَاءَةَ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ تَرْكَ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ هَذَا. فَأَمَّا إنْ دَعَا إنْسَانٌ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ قَالَهُ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ قِرَاءَةً مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَوْ دُعَاءً؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُكْرَهْ، كَالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ [مَسْأَلَة سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاة] (802) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ وَعَلَيْهِ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ عَنْ النَّظَرِ بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَاجِبٌ، وَشَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: سَتْرُهَا وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ السَّهْوِ. احْتَجُّوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا بِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا، كَاجْتِنَابِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْدِ فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْإِيمَانِ وَالطَّهَارَةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ السَّتْرُ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، بِالْإِجْمَاعِ عَلَى إفْسَادِ مَنْ تَرَكَ ثَوْبَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِتَارِ بِهِ، وَصَلَّى عُرْيَانًا، قَالَ: وَهَذَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْكَلَامُ فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ، وَالصَّالِحُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهَا مِنْ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا الْفَرْجَانِ. قَالَ مُهَنَّا، سَأَلْت أَحْمَدَ مَا الْعَوْرَةُ؟ قَالَ: الْفَرْجُ وَالدُّبُرُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَدَاوُد لِمَا رَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ، حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ فَخِذِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَقَالَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ) ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لِلْحَدَثِ، فَلَمْ يَكُنْ عَوْرَةً، كَالسَّاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ؛ عَنْ جَرْهَدٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَدْ كَشَفَ عَنْ فَخِذِهِ، فَقَالَ: غَطِّ فَخِذَك؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ مِنْ الْعَوْرَةِ» قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ: لَا تَكْشِفْ فَخِذَك، وَلَا تَنْظُرْ فَخِذَ حَيٍّ، وَلَا مَيِّتٍ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْفَلُ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ الْعَوْرَةِ» وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ أَوْ أَجِيرَهُ، فَلَا يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ؛ فَإِنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ مِنْ عَوْرَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، وَفِي لَفْظٍ: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ، عَبْدَهُ، أَوْ أَجِيرَهُ، فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذِهِ نُصُوصٌ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهَا، وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ تُحْمَلُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْفَرْجَيْنِ عَوْرَةٌ غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ، وَالْمُغَلَّظَةُ هِيَ الْفَرْجَانِ. وَهَذَا نَصٌّ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، لِتَنَاوُلِ النَّصِّ لَهُمَا جَمِيعًا. (803) فَصْلٌ: وَلَيْسَتْ سُرَّتُهُ وَرُكْبَتَاهُ مِنْ عَوْرَتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. وَهَذَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ» . وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ؛ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ حَدٌّ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ. وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ أَبُو الْجَنُوبِ، لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ. وَقَدْ قَبَّلَ أَبُو هُرَيْرَةَ سُرَّةَ الْحَسَنِ، وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ. (804) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ السَّتْرُ بِمَا يَسْتُرُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَفِيفًا يَبِينُ لَوْنُ الْجِلْدِ مِنْ وَرَائِهِ، فَيُعْلَمُ بَيَاضُهُ أَوْ حُمْرَتُهُ، لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ لَوْنَهَا، وَيَصِفُ الْخِلْقَةَ، جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ السَّاتِرُ صَفِيقًا. [فَصْلٌ انْكَشَفَ مِنْ الْعَوْرَةِ يَسِيرٌ فِي الصَّلَاة] (805) فَصْلٌ: فَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْعَوْرَةِ يَسِيرٌ. لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبْطُلُ لِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْعَوْرَةِ، فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالنَّظَرِ. وَلَنَا: مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ قَالَ: «انْطَلَقَ أَبِي وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَعَلَّمَهُمْ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ. فَكُنْت أَقْرَأَهُمْ فَقَدَّمُونِي، فَكُنْت أَؤُمُّهُمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي صَفْرَاءُ صَغِيرَةٌ، وَكُنْتُ إذَا سَجَدْتُ انْكَشَفَتْ عَنِّي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسَاءِ: وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ. فَاشْتَرَوْا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحِي بِهِ.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد،، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: «فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ فِي بُرْدَةٍ مُوَصَّلَةٍ فِيهَا فَتْقٌ، فَكُنْتُ إذَا سَجَدْتُ فِيهَا خَرَجَتْ اسْتِي» . وَهَذَا يَنْتَشِرُ وَلَمْ يُنْكَرْ، وَلَا بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكَرَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ كَثِيرِهِ حَالَ الْعُذْرِ، فُرِّقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ، كَالْمَشْيِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْيَسِيرِ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَيَسِيرِ الدَّمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ حَدَّ الْكَثِيرِ مَا فَحُشَ فِي النَّظَرِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَرْجَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفْحُشُ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ، إلَّا أَنَّ الْمُغَلَّظَةَ يَفْحُشُ مِنْهَا مَا لَا يَفْحُشُ مِنْ غَيْرِهَا، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ أَوْ مِنْ الْمُخَفَّفَةِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِهَا، لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، بَطَلَتْ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالْكَثِيرِ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَسُوغُ. [فَصْلٌ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ فِي الصَّلَاة فَسَتَرَهَا فِي الْحَالِ] (806) فَصْلٌ: فَإِنْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ، فَسَتَرَهَا فِي الْحَالِ، مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ مِنْ الزَّمَانِ، أَشْبَهَ الْيَسِيرَ فِي الْقَدْرِ. وَقَالَ التَّمِيمِيُّ فِي " كِتَابِهِ ": إنْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ وَقْتًا وَاسْتَتَرَتْ وَقْتًا، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ. وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْيَسِيرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَفْحُشُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ فِيهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ، كَالْكَثِيرِ مِنْ الْقَدْرِ. [مَسْأَلَة كَانَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاة] (807) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: إذَا كَانَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْ اللِّبَاسِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا مِنْ اللِّبَاسِ، إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ مَنْ لَمْ يُخَمِّرْ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، فَأَشْبَهَا بَقِيَّةَ الْبَدَنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ فِي لِحَافٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ فِي سَرَاوِيلَ، لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ» . وَيُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَرْكِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا يُفْسِدُهَا، كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَخَذَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ صَلَّى وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ، وَثَوْبُهُ عَلَى إحْدَى عَاتِقَيْهِ، وَالْأُخْرَى مَكْشُوفَةٌ: يُكْرَهُ. قِيلَ لَهُ: يُؤْمَرُ أَنْ يُعِيدَ؟ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ إعَادَةً. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ؛ لِسَتْرِهِ بَعْضَ الْمَنْكِبَيْنِ، فَاجْتُزِئَ بِسَتْرِ أَحْدِ الْعَاتِقَيْنِ عَنْ سَتْرِ الْآخَرِ، لِامْتِثَالِهِ لِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ كَشْفِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَالْإِخْلَالُ بِهَا يُفْسِدُهَا كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. [فَصْلٌ سَتْرُ الْمَنْكِبَيْنِ فِي الصَّلَاة] (808) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ سَتْرُ الْمَنْكِبَيْنِ جَمِيعِهِمَا، بَلْ يُجْزِئُ سِتْرُ بَعْضِهِمَا، وَيُجْزِئُ سَتْرُهُمَا بِثَوْبٍ خَفِيفٍ يَصِفُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ سَتْرِهِمَا بِالْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ: «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . وَهَذَا يَقَعُ عَلَى مَا يَعُمُّ الْمَنْكِبَيْنِ، وَمَا لَا يَعُمُّهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ فِيمَنْ صَلَّى وَإِحْدَى مَنْكِبَيْهِ مَكْشُوفَةٌ، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ. فَإِنْ طَرَحَ عَلَى كِتْفِهِ حَبْلًا أَوْ خَيْطًا وَنَحْوَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِقَوْلِهِ شَيْئًا مِنْ اللِّبَاسِ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى لِبَاسًا. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّ عَلَى عَاتِقِهِ ذَنَبَ فَأْرَةٍ.» وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا أَلْقَى عَلَى عَاتِقِهِ عِقَالًا وَصَلَّى. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» . مِنْ الصِّحَاحِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِوَضْعِهِ عَلَى الْعَاتِقَيْنِ لِلسَّتْرِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِوَضْعِ خَيْطٍ وَلَا حَبْلٍ، وَلَا يُسَمَّى سُتْرَةً وَلَا لِبَاسًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ لَمْ يَصِحَّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ، إنْ صَحَّ عَنْهُمْ؛ فَلِعَدَمِ مَا سِوَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ مَا اُشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ اُشْتُرِطَ لِلنَّفْلِ] (809) فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَامٌّ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ مَا اُشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ اُشْتُرِطَ لِلنَّفْلِ، كَالطَّهَارَةِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَأْتَزِرَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ. وَلِذَلِكَ يُسَامَحُ فِيهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ» . قَالَ: هَذَا فِي التَّطَوُّعِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَرْضِ. [مَسْأَلَة كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فِي الصَّلَاة بَعْضُهُ عَلَى عَاتِقِهِ] [الْفَصْلُ الْأُوَلُ فِيمَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ] (810) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ بَعْضُهُ عَلَى عَاتِقِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي اللِّبَاسِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ؛ الْفَصْلُ الْأُوَلُ: فِيمَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: فِي الْفَضِيلَةِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يُكْرَهُ. وَالرَّابِعُ: فِيمَا يَحْرُمُ. (811) فَصْلٌ: أَمَّا الْأُوَلُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَبَعْضُهُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى عَاتِقِهِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَصَلَّى جَابِرٌ فِي قَمِيصٍ لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنِّي «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي قَمِيصٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْفَضِيلَةِ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّي فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ] (812) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنَّهُ إذًا أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَوْسَعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «إذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلَا يَشْتَمِلْ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ» . قَالَ التَّمِيمِيُّ: الثَّوْبُ الْوَاحِدُ يُجْزِئُ، وَالثَّوْبَانِ أَحْسَنُ، وَالْأَرْبَعُ أَكْمَلُ؛ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ وَإِزَارٌ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى نَافِعًا يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَالَ: أَلَمْ تَكْتَسِ ثَوْبَيْنِ؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: فَلَوْ أُرْسِلْت فِي الدَّارِ، أَكُنْتَ تَذْهَبُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ قُلْت لَا. قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ أَوْ النَّاسُ؟ قُلْت: بَلْ اللَّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَذَلِكَ فِي الْإِمَامِ آكَدُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ الْمَأْمُومِينَ، وَتَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَالْقَمِيصُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي السَّتْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْجَسَدِ إلَّا الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ الرِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَلِيهِ فِي السَّتْرِ، ثُمَّ الْمِئْزَرُ أَوْ السَّرَاوِيلُ. وَلَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْجَيْبِ بِحَيْثُ لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ رَأَى عَوْرَتَهُ، أَوْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَرَاهَا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» . قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ غَيْرَ مَزْرُورٍ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَزِرَّهُ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ لِحْيَتُهُ تُغَطِّيهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّسِعَ الْجَيْبِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 يَسِيرًا فَجَائِزٌ. فَعَلَى هَذَا مَتَى ظَهَرَتْ عَوْرَتُهُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لِكَوْنِ جَيْبِ الْقَمِيصِ ضَيِّقًا، أَوْ شَدَّ وَسَطَهُ بِمِئْزَرٍ أَوْ حَبْلٍ فَوْقَ الثَّوْبِ، أَوْ كَانَ ذَا لِحْيَةٍ تَسُدُّ الْجَيْبَ فَتَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ، أَوْ شَدَّ إزَارَهُ، أَوْ أَلْقَى عَلَى جَيْبِهِ رِدَاءً أَوْ خِرْقَةً، فَاسْتَتَرَتْ عَوْرَتُهُ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ مَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاة] (813) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِيمَا يُكْرَهُ؛ يُكْرَهُ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ: اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبٍ لَيْسَ بَيْنَ فَرْجِهِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ.» وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ أَنْ يَضْطَبِعَ بِالثَّوْبِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَمَعْنَى، الِاضْطِبَاعِ: أَنْ يَضَعَ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتِ عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَجْعَلَ طَرَفَيْهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَيَبْقَى مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا، وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ فِي اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ: أَنْ يَضْطَبِعَ الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ وَلَا إزَارَ عَلَيْهِ. فَيَبْدُوَ مِنْهُ شِقُّهُ وَعَوْرَتُهُ، أَمَّا إنْ كَانَ عَلَيْهِ إزَارٌ فَتِلْكَ لِبْسَةُ الْمُحْرِمِ، فَلَوْ كَانَ لَا يُجْزِئُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ ثَوْبًا وَاحِدًا، يَأْخُذُ بِجَوَانِبِهِ عَنْ مَنْكِبِهِ، فَيُدْعَى تِلْكَ الصَّمَّاءَ.» وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ يُخْرِجَ يَدَيْهِ مِنْ قِبَلِ صَدْرِهِ، فَتَبْدُوَ عَوْرَتُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنْ يَشْتَمِلَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ، يُجَلِّلُ بِهِ جَسَدَهُ كُلَّهُ، وَلَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا يُخْرِجُ مِنْهُ يَدَهُ. كَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهِ إلَى أَنَّهُ لَعَلَّهُ يُصِيبُهُ شَيْءٌ يُرِيدُ الِاحْتِرَاسَ مِنْهُ. فَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ. وَتَفْسِيرُ الْفُقَهَاءِ، أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَيَبْدُوَ مِنْهُ فَرْجُهُ، وَالْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ مَعَهُ. وَيُكْرَهُ السَّدْلُ. وَهُوَ أَنْ يُلْقِيَ طَرَفَ الرِّدَاءِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَرُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ الْأُخْرَى، وَلَا يَضُمَّ الطَّرَفَيْنِ بِيَدَيْهِ. وَكَرِهَ السَّدْلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ الرُّخْصَةُ فِيهِ، وَعَنْ مَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ، وَعَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا يَسْدُلَانِ فَوْقَ قَمِيصِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ حَدِيثًا يَثْبُتُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ عَطَاءً يُصَلِّي سَادِلًا. وَيُكْرَهُ إسْبَالُ الْقَمِيصِ وَالْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَفْعِ الْإِزَارِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخُيَلَاءِ حَرُمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَسْبَلَ إزَارَهُ فِي صَلَاتِهِ خُيَلَاءَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ أَوْ فَمَهُ. لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ.» وَهَلْ يُكْرَهُ التَّلَثُّمُ عَلَى الْأَنْفِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَهُ. وَالْأُخْرَى، لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفَمِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَتِهِ تَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ تَغْطِيَةِ غَيْرِهِ. وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ لِلرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَصْفَرُ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا رَوَيَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى الرَّجُلَ عَنْ التَّزَعْفُرِ.» وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَمْرٍو: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا» . وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا أَرْكَبُ الْأُرْجُوَانَ، وَلَا أَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ» . فَأَمَّا شَدُّ الْوَسَطِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ بِمِنْطَقَةٍ أَوْ مِئْزَرٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ شَدِّ قَبَاءٍ، فَلَا يُكْرَهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَأْتَزِرُ بِالْمِنْدِيلِ فَوْقَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَإِنْ كَانَ بِخَيْطٍ أَوْ حَبْلٍ مَعَ سُرَّتِهِ وَفَوْقَهَا فَهَلْ يُكْرَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقَالَ: «لَا تَشْتَمِلُوا اشْتِمَالَ الْيَهُودِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ، أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ مُحْتَزِمٌ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ مُحْتَزِمٌ» . قَالَ: كَأَنَّهُ مَنْ شَدَّ الْوَسَطَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ يُقَالُ، شُدَّ حَقْوَكَ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِعِقَالٍ " وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ مِثْلُهُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ. وَقَدْ اشْتَرَى عُمَرُ ثَوْبًا، فَرَأَى فِيهِ خَيْطًا أَحْمَرَ، فَرَدَّهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ.» وَقَالَ الْبَرَاءُ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ، وَعَلِيٌّ أَمَامَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ.» وَوَجْهُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَوَاحِلِنَا أَكْسِيَةً فِيهَا خُيُوطُ عِهْنٍ حُمْرٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا أَرَى هَذِهِ الْحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ. فَقُمْنَا سِرَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَفَرَ بَعْضُ إبِلِنَا، فَأَخَذْنَا الْأَكْسِيَةَ، فَنَزَعْنَاهَا عَنْهَا» وَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ أَثْبَتُ وَأَبْيَنُ فِي الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى غَيْرِ الْحُمْرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعَصْفَرَةً، وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَحَدِيثُ رَافِعٍ يَرْوِيهِ عَنْهُ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّ الْحُمْرَةَ لَوْنٌ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَلْوَانِ. (814) فَصْلٌ: وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: «انْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «قُلْنَا لِأَنَسٍ: أَيُّ اللِّبَاسِ كَانَ أَحَبَّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ الْحِبَرَةُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . (815) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَهُوَ قِسْمَانِ؛ قِسْمٌ تَحْرِيمُهُ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ بِالرِّجَالِ. فَالْأَوَّلُ، مَا يَعُمُّ تَحْرِيمُهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، النَّجِسُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ، وَقَدْ فَاتَتْ. وَالثَّانِي، الْمَغْصُوبُ، لَا يَحِلُّ لُبْسُهُ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهِ. وَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ. وَالثَّانِيَةُ تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ الصَّلَاةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وَلَا النَّهْيَ يَعُودُ إلَيْهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ غَسَلَ ثَوْبَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ مَغْصُوبَةٌ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَكَيْفَ يَتَقَرَّبُ بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، أَوْ يُؤْمَرُ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا إذَا صَلَّى فِي عِمَامَةٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى شَرْطِ الصَّلَاةِ، إذْ الْعِمَامَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا. وَإِنْ صَلَّى فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، فَالْخِلَافُ فِيهَا كَالْخِلَافِ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الْجُمُعَةِ: يُصَلِّي فِي مَوَاضِعِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، فَالْمَنْعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ إذَا كَانَ غَصْبًا يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِهَا. فَلِذَلِكَ أَجَازَ فِعْلَهَا فِيهِ، كَمَا أَجَازَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى تَعْطِيلِهَا. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْحَرِيرُ، وَالْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ، وَالْمُمَوَّهُ بِهِ، فَهُوَ حَرَامٌ لُبْسُهُ، وَافْتِرَاشُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حَرَامٌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ؛ فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ اخْتِلَافًا، إلَّا لِعَارِضٍ، أَوْ عُذْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا إجْمَاعٌ. فَإِنْ صَلَّى فِيهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْخِلَافِ وَالرِّوَايَتَيْنِ. وَالِافْتِرَاشُ كَاللُّبْسِ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «نَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَأَنْ نَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ.» [فَصْلٌ الْعَلَمُ الْحَرِيرُ فِي الثَّوْبِ فِي الصَّلَاة] (816) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ الْعَلَمُ الْحَرِيرُ فِي الثَّوْبِ إذَا كَانَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ فَمَا دُونَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي التَّنْبِيهِ. يُبَاحُ وَإِنْ كَانَ مُذَهَّبًا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الرِّقَاعِ، وَلَبِنَةِ الْجَيْبِ، وَسُجُفِ الْفِرَاءِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْحَدِيثُ. فَصْلٌ: فَإِنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ لِلْقَمْلِ أَوْ الْحَكَّةِ أَوْ الْمَرَضِ يَنْفَعُهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ جَازَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أَنَسًا رَوَى «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ: شَكَيَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ، وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ صَحَابِيٍّ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَغَيْرُ الْقَمْلِ الَّذِي يَنْفَعُ فِيهِ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي مَعْنَاهُ. فَيُقَاسُ عَلَيْهِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يُبَاحُ لُبْسُهُ لِلْمَرَضِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ خَاصَّةً لَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الرُّخْصَةِ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. فَأَمَّا لُبْسُهُ لِلْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، كَأَنْ كَانَ بِطَانَةً لِبَيْضَةٍ أَوْ دِرْعٍ وَنَحْوِهِ، أُبِيحَ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ؛ كَدِرْعٍ مُمَوَّهٍ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ لُبْسِهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُبَاحُ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لُبْسِهِ لِلْخُيَلَاءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَالْخُيَلَاءُ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ غَيْرُ مَذْمُومٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ: " إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ". وَالثَّانِي، يَحْرُمُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إبَاحَتُهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ يَلْمَقُ مِنْ دِيبَاجٍ، بِطَانَتُهُ سُنْدُسٌ، مَحْشُوٌّ قَزًّا، كَانَ يَلْبَسُهُ فِي الْحَرْبِ. [فَصْلٌ الْمَنْسُوجُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ فِي الصَّلَاة] (817) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَنْسُوجُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَثَوْبٍ مَنْسُوجٍ مِنْ قُطْنٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، أَوْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ فَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا. لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ، فَهُوَ كَالْبَيْضَةِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَالْعَلَمِ مِنْ الْحَرِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ الْحَرِيرِ، وَأَمَّا الْعَلَمُ، وَسَدَى الثَّوْبِ، فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَأَبُو دَاوُد قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 أَهْلِ الْعِلْمِ. أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْحَرِيرُ الصَّافِي، الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ الْحَرِيرَ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُطْنَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ. فَإِنْ اسْتَوَيَا فَفِي تَحْرِيمِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ، لِأَنَّ النِّصْفَ كَثِيرٌ، فَأَمَّا الْجِبَابُ الْمَحْشُوَّةُ مِنْ إبْرَيْسَمٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْرُمُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِعَدَمِ الْخُيَلَاءِ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَهَكَذَا الْفُرُشُ الْمَحْشُوَّةُ بِالْحَرِيرِ. [فَصْلٌ الثِّيَابُ الَّتِي عَلَيْهَا تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَات فِي الصَّلَاة] (818) فَصْلٌ: فَأَمَّا الثِّيَابُ الَّتِي عَلَيْهَا تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَاتِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ لُبْسُهَا، وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ هُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَرَهُ مُحَرَّمًا أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «إلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ يُبَاحُ إذَا كَانَ مَفْرُوشًا، أَوْ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَلْبُوسًا. [فَصْلٌ التَّصْلِيبُ فِي الثَّوْبِ] (819) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ التَّصْلِيبُ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إلَّا قَضَبَهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد يَعْنِي قَطَعَهُ. [فَصْلٌ لُبْسِ الْخَزِّ] (820) فَصْلٌ: قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ لُبْسِ الْخَزِّ؟ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَيْسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، وَشُبَيْلِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُمْ لَبِسُوا مَطَارِفَ الْخَزِّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو، وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا قَتَادَةَ، كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُمْ لَبِسُوا جِبَابَ الْخَزِّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَشُرَيْحٍ، أَنَّهُمْ لَبِسُوا بَرَانِسَ الْخَزِّ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: أَتَتْ مَرْوَانَ مَطَارِفُ مِنْ خَزٍّ، فَكَسَاهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَسَا أَبَا هُرَيْرَةَ مِطْرَفًا مِنْ خَزٍّ أَغْبَرَ، فَكَانَ يَلْبَسُهُ اثْنَانِ بِسَعَتِهِ. وَهَذَا اشْتَهَرَ فَلَمْ يَظْهَرْ بِخِلَافِهِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا أَبِي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعِيدٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ؛ فَقَالَ: كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي مُوَطَّئِهِ، أَنَّ عَائِشَةَ كَسَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مِطْرَفَ خَزٍّ كَانَتْ تَلْبَسُهُ. [فَصْلٌ هَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ] (821) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا بِالصَّوَابِ تَحْرِيمُهُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَنْزِعُهُ عَنْ الْغِلْمَانِ، وَنَتْرُكُهُ عَلَى الْجَوَارِي. وَقَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ سَفَرٍ، وَعَلَى صِبْيَانِهِ قُمُصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَمَزَّقَهَا عَلَى الصِّبْيَانِ، وَتَرَكَهَا عَلَى الْجَوَارِي، أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْت رَابِعَ أَرْبَعَةٍ، أَوْ خَامِسَ خَمْسَةٍ، مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ عَلَيْهِ قُمُصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ كَسَاك هَذَا؟ قَالَ: أُمِّي. فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَشَقَّهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، أَنَّهُ يُبَاحُ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِلُبْسِهِمْ، كَمَا لَوْ أَلْبَسَهُ دَابَّةً، وَلِأَنَّهُمْ مَحَلٌّ لِلزِّينَةِ فَأَشْبَهُوا النِّسَاءَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ. وَيَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَتَمْكِينِهِمْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَغَيْرِهِمَا، وَكَوْنُهُمْ مَحَلَّ الزِّينَةِ - مَعَ تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمْ - يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، لَا الْإِبَاحَةَ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاة] (822) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ صَلَّى جَالِسًا يُومِئُ إيمَاءً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْعَادِمَ لِلسُّتْرَةِ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ بِهِ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يُصَلِّي قَائِمًا، بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَجَالِسًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِلْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لَهُ كَالْقَادِرِ عَلَى السَّتْرِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فِي قَوْمٍ انْكَسَرَتْ بِهِمْ مَرَاكِبُهُمْ، فَخَرَجُوا عُرَاةً، قَالَ: يُصَلُّونَ جُلُوسًا، يُومِئُونَ إيمَاءً بِرُءُوسِهِمْ. وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّ السَّتْرَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ بِدَلِيلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالْقِيَامُ يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْقِيَامَ يَخْتَصُّ الصَّلَاةَ، وَالسَّتْرَ يَجِبُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَرْكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 أَحَدِهِمَا، فَتَرْكُ أَخَفِّهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ آكَدِهِمَا. وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَتَرَ أَتَى بِبَدَلٍ عَنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالسَّتْرُ لَا بَدَلَ لَهُ. وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ لَا تَتَضَمَّنُ تَرْكَ السُّتْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّتْرُ لَا يَحْصُلُ كُلُّهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْضُهُ، فَلَا يَفِي بِتَرْكِ الْقِيَامِ. قُلْنَا: إذَا قُلْنَا الْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ. فَقَدْ حَصَلَ السَّتْرُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْعَوْرَةُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَقَدْ حَصَلَ سَتْرُ آكَدِهَا وُجُوبًا فِي السَّتْرِ، وَأَفْحَشِهَا فِي النَّظَرِ، فَكَانَ سَتْرُهُ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَيْسَ عَلَى مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ إعَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ عَجَزَ عَنْهُ فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ صَلَّى الْعُرْيَانُ قَائِمًا، وَرَكَعَ وَسَجَدَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَقُعُودًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ قِيَامًا وَقُعُودًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي الْعُرَاةِ: يَقُومُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، إنْ تَوَارَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَّوْا قِيَامًا، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ لَهُ: فَيُومِئُونَ أَوْ يَسْجُدُونَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، السُّجُودُ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُومِئُ بِالسُّجُودِ فِي حَالٍ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْخَلْوَةِ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّ الْخَلَّالَ قَالَ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْ الْأَثْرَمِ. قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: يَقُومُ وَسَطَهُمْ. أَيْ يَكُونُ وَسَطَهُمْ، لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْقِيَامِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَنْبَغِي لِمَنْ صَلَّى عُرْيَانًا أَنْ يَضُمَّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، وَيَسْتُرَ مَا أَمْكَنَ سَتْرُهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَتَرَبَّعُونَ أَوْ يَتَضَامُّونَ؟ قَالَ: لَا بَلْ يَتَضَامُّونَ. وَإِذَا قُلْنَا: يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ. فَإِنَّهُمْ يَتَضَامُّونَ أَيْضًا. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ مَوْضِعَ الْقِيَامِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْلٌ إذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ جِلْدًا طَاهِرًا أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفَهُ عَلَيْهِ] (823) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ جِلْدًا طَاهِرًا، أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفُهُ عَلَيْهِ، أَوْ حَشِيشًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْبِطَهُ عَلَيْهِ فَيَسْتُرَ بِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ بِطَاهِرٍ لَا يَضُرُّهُ فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى سَتْرِهَا بِثَوْبٍ، وَقَدْ «سَتَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْإِذْخِرِ» لَمَّا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً. فَإِنْ وَجَدَ طِينًا يَطْلِي بِهِ جَسَدَهُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِفُّ وَيَتَنَاثَرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً وَلَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ جَسَدَهُ وَمَا تَنَاثَرَ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَيَسْتَتِرُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةً، وَيَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ السَّتْرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَاءً لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَدِرًا، لِأَنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 مِنْ السُّجُودِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ حُفْرَةً لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْصَقُ بِجِلْدِهِ، فَهِيَ كَالْجِدَارِ. وَإِنْ وَجَدَ سُتْرَةً تَضُرُّ بِجِسْمِهِ كَبَارِيَّةِ الْقَصَبِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَدْخُلُ فِي جِسْمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِتَارُ بِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَنْعِ مِنْ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. [فَصْلٌ إذَا بُذِلَ لَهُ سُتْرَة فِي الصَّلَاة] (824) فَصْلٌ: وَإِذَا بُذِلَ لَهُ سُتْرَةٌ لَزِمَهُ قَبُولُهَا إذَا كَانَتْ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. وَإِنْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَّةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ فِي بَقَاءِ عَوْرَتِهِ مَكْشُوفَةً أَكْبَرُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمِنَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ. وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ ثَوْبًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ يُؤَجِّرُهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، وَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الْعِوَضِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ. [فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ الْمُصَلَّيْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا] (825) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا، قَالَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي فِيهِ، وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْمُزَنِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُصَلِّي عُرْيَانًا، وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهَا سُتْرَةٌ نَجِسَةٌ، فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ، وَفِعْلِ وَاجِبٍ، فَاسْتَوَيَا. وَلَنَا أَنَّ السَّتْرَ آكَدُ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ جَالِسًا، فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «غَطِّ فَخِذَك» . وَهَذَا عَامٌّ، وَلِأَنَّ السُّتْرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهَا، وَالطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَكَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا إذَا انْفَرَدَ أَنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ قَدْ فَاتَتْ. وَقَدْ نَصَّ فِي مَنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ عَجَزَ عَنْهُ، فَسَقَطَ كَالسُّتْرَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ السُّتْرَةَ آكَدُ، بِدَلِيلِ تَقْدِيمِهَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، ثُمَّ قَدْ صَحَّتْ الصَّلَاةُ وَأَجْزَأَتْ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبَ حَرِيرٍ صَلَّى فِيهِ، وَلَا يُعِيدُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا مَغْصُوبًا صَلَّى عُرْيَانًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ. كَذَا هَاهُنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 [فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ أَوْ مَنْكِبَيْهِ فِي الصَّلَاة] (826) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ أَوْ مَنْكِبَيْهِ، سَتَرَ عَوْرَتَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» . وَهَذَا الثَّوْبُ ضَيِّقٌ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: «لَا يَشْتَمِلْ أَحَدُكُمْ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ، لِيَتَوَشَّحْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَأْتَزِرْ وَلْيَرْتَدِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ ثُمَّ لِيُصَلِّ» . وَلِأَنَّ السَّتْرَ لِلْعَوْرَةِ وَاجِبٌ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهِ مُتَأَكِّدٌ، وَسَتْرَ الْمَنْكِبَيْنِ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتَّخْفِيفِ مَا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الثَّوْبُ اللَّطِيفُ، لَا يَبْلُغُ أَنْ يَعْقِدَهُ، يَرَى أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ وَيُصَلِّيَ؟ قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لَطِيفًا صَلَّى قَاعِدًا، وَعَقَدَ مِنْ وَرَائِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ قَدْ سَتَرَ الْمَنْكِبَيْنِ عَلَى الْقِيَامِ، وَسَتَرَ مَا عَدَا الْفَرْجَيْنِ، وَلِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي سَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ أَصَحُّ مِنْهُ فِي سَتْرِ الْفَرْجَيْنِ، وَأَنَّ الْقِيَامَ لَهُ بَدَلٌ، وَسَتْرَ الْمَنْكِبَيْنِ لَا بَدَلَ لَهُ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَأَكُّدِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْقِيَامِ، وَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ رَوَاهَا أَبُو دَاوُد، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «سِرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ ذَهَبْت أُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ لِي، وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ، فَنَكَّسْتُهَا، ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَسْقُطَ، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ. قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمُقُنِي وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، ثُمَّ فَطِنْتُ بِهِ، فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ اتَّزِرْ بِهَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا جَابِرُ. قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إذَا كَانَ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ» . [فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة] (827) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ سَتَرَ الْفَرْجَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْحَشُ، وَسَتْرَهُمَا آكَدُ، وَهُمَا مِنْ الْعَوْرَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا سَتَرَ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوْلَاهُمَا بِالسَّتْرِ، فَقِيلَ: الدُّبُرُ؛ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ، لَا سِيَّمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَقِيلَ: الْقُبُلُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِهِ الْقِبْلَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَسْتُرُهُ، وَالدُّبُرُ مَسْتُورٌ بِالْأَلْيَتَيْنِ. [مَسْأَلَة صَلَّى جَمَاعَةٌ عُرَاةٌ] (828) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ صَلَّى جَمَاعَةٌ عُرَاةً، كَانَ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ وَسَطًا، يُومِئُونَ إيمَاءً. وَيَكُونُ سُجُودُهُمْ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْعُرَاةِ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلُّونَ فُرَادَى. قَالَ مَالِكٌ: وَيَتَبَاعَدُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَإِنْ كَانُوا فِي ظُلْمَةٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً، وَيَتَقَدَّمُهُمْ إمَامُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ كَقَوْلِهِمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْجَمَاعَةُ وَالِانْفِرَادُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي الْجَمَاعَةِ الْإِخْلَالَ بِسُنَّةِ الْمَوْقِفِ، وَفِي الِانْفِرَادِ الْإِخْلَالَ بِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَيَسْتَوِيَانِ، وَوَافَقَنَا فِي أَنَّ إمَامَهُمْ يَقُومُ وَسَطَهُمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ لِلنِّسَاءِ الْعُرَاةِ؛ لِأَنَّ مَوْقِفَ إمَامَتِهِنَّ فِي وَسَطِهِنَّ، فَمَا حَصَلَ فِي حَقِّهِنَّ إخْلَالٌ بِفَضِيلَةِ الْمَوْقِفِ، وَوَافَقَنَا فِي الرِّجَالِ إذَا كَانَ مَعَهُمْ مُكْتَسٍ يَصْلُحُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ الْجَمَاعَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَهُمْ كَالْمُسْتَتِرِينَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمِيعِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . عَامٌّ فِي كُلِّ مُصَلٍّ، وَلَا تَسْقُطُ الْجَمَاعَةُ لِتَعَذُّرِ سَبَبِهَا فِي الْمَوْقِفِ، كَمَا لَوْ كَانُوا فِي مَكَان ضَيِّقٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُمْ إمَامُهُمْ. وَإِذَا شُرِعَتْ الْجَمَاعَةُ لِعُرَاةِ النِّسَاءِ، مَعَ أَنَّ السَّتْرَ فِي حَقِّهِنَّ آكَدُ، وَالْجَمَاعَةَ فِي حَقِّهِنَّ أَخَفُّ، فَلِلرِّجَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَغَضُّ الْبَصَرِ يَحْصُلُ بِكَوْنِهِمْ صَفًّا وَاحِدًا، يَسْتُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَفًّا وَاحِدًا، وَيَكُونُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهُ، وَأَغَضَّ لِأَبْصَارِهِمْ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ سُنَّ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ الْقِيَامُ وَسَطَهُنَّ فِي كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّهُنَّ عَوْرَاتٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ نِسَاءٌ عُرَاةٌ تَنَحَّيْنَ عَنْهُمْ؛ لِئَلَّا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُصَلِّينَ جَمَاعَةً أَيْضًا كَالرِّجَالِ، إلَّا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّهِنَّ أَدْنَى مِنْهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، كَمَا لَوْ كَانُوا غَيْرَ عُرَاةٍ. فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ فِي مَجْلِسٍ، أَوْ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، صَلَّى الرِّجَالُ، وَاسْتَدْبَرَهُمْ النِّسَاءُ، ثُمَّ صَلَّى النِّسَاءُ وَاسْتَدْبَرَهُنَّ الرِّجَالُ؛ لِئَلَّا يَرَى بَعْضُهُمْ عَوْرَاتِ بَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ لَا يَسَعُهُمْ صَفٌّ وَاحِدٌ، وَالنِّسَاءُ وَقَفُوا صُفُوفًا، وَغَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. [مَسْأَلَة الْعُرَاةِ إذَا صَلُّوا قُعُودًا] (829) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْعُرَاةِ إذَا صَلَّوْا قُعُودًا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ سَقَطَ عَنْهُمْ لِحِفْظِ عَوْرَاتِهِمْ، فَيَسْقُطُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ ظُهُورَهَا بِالسُّجُودِ أَكْثَرُ وَأَفْحَشُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ؛ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَسْقُطُ فِيمَا يَسْقُطُ فِيهِ الْقِيَامُ، وَهُوَ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، فَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْقِيَامِ أَيْضًا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْعُرَاةَ يُصَلُّونَ قِيَامًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعُرَاةِ: يَقُومُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ تَوَارَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ؛ فَصَلَّوْا قِيَامًا، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ: فَيُومِئُونَ أَمْ يَسْجُدُونَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، السُّجُودُ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لَا يَسْقُطْ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ الْقِيَامُ فِي الْخَلْوَةِ، إلَّا أَنَّ الْخَلَّالَ قَالَ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْ الْأَثْرَمِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَقُومُ فِي وَسَطِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) . لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقِيَامَ عَلَى رِجْلٍ. [فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُرَاةِ وَاحِدٌ لَهُ ثَوْبٌ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ] (830) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُرَاةِ وَاحِدٌ لَهُ ثَوْبٌ، لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى السُّتْرَةِ. فَإِنْ أَعَارَهُ وَصَلَّى عُرْيَانًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيرَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ فِيهِ لِغَيْرِهِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِقَوْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، وَوُجِدَ مَنْ بِهِ ضَرُورَةٌ، لَزِمَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، فَإِذَا بَذَلَهُ لَهُمْ صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَمْ تَجُزْ لَهُمْ الصَّلَاةُ عُرَاةً؛ لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى السَّتْرِ، إلَّا أَنْ يَخَافُوا ضِيقَ الْوَقْتِ، فَيُصَلِّيَ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ عُرَاةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عُرْيَانًا. وَيَنْتَظِرُ الثَّوْبَ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ. وَلَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْوَقْتَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ فِي مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ، لَا يُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ الصَّلَاةُ فِيهِ قِيَامًا صَلَّى وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، إلَّا أَنْ يَخَافُوا فَوَاتَ الْوَقْتِ فَيُصَلُّونَ قُعُودًا، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا. وَالْقِيَامُ آكَدُ مِنْ السُّتْرَةِ عِنْدَهُ. وَعَلَى رِوَايَةٍ لَنَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَقْيَسُ عِنْدِي، فَإِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الشَّرْطِ مَعَ إمْكَانِهِ أَوْلَى مَعَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَدَّ مَا لَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، أَوْ سُتْرَةٌ يَخَافُ فَوَاتَ الْوَقْتِ إنْ تَشَاغَلَ بِالْمَخْشِيِّ إلَيْهَا، وَالِاسْتِتَارِ بِهَا. فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُقَدَّمًا عَلَى السَّتْرِ. فَإِنْ امْتَنَعَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مِنْ إعَارَتِهِمْ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ. فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَؤُمَّهُمْ صَاحِبُ الثَّوْبِ، وَيَقِفَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ أُمِّيًّا وَهُمْ قُرَّاءٌ، صَلَّى الْبَاقُونَ جَمَاعَةً عَلَى مَا أَسْلَفْنَا. قَالَ الْقَاضِي: يُصَلِّي هُوَ مُنْفَرِدًا، وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ إعَارَةَ ثَوْبِهِ، وَمَعَهُمْ نِسَاءٌ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ آكَدُ فِي السَّتْرِ. وَإِذَا صَلَّيْنَ فِيهِ أَخَذَهُ. فَإِذَا تَضَايَقَ الْوَقْتُ، وَفِيهِمْ قَارِئٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ؛ لِيَكُونَ إمَامَهُمْ. وَإِنْ أَعَادَهُ لِغَيْرِ الْقَارِئِ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ صَاحِبِ الثَّوْبِ. فَإِنْ اسْتَوَوْا، وَلَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهُوَ أَحَقُّ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَوُوا فَالْأَوْلَى بِهِ مَنْ تُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِإِعَارَتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَة كَانَ فِي الطِّينِ وَالْمَطَر وَلَمْ يُمَكِّنهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْض إلَّا بِالتَّلَوُّثِ] (831) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَوْمَأَ إيمَاءً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الطِّينِ وَالْمَطَرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّلَوُّثِ بِالطِّينِ وَالْبَلَلِ بِالْمَاءِ، فَلَهُ الصَّلَاةُ عَلَى دَابَّتِهِ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا أَوْمَأَ بِالسُّجُودِ أَيْضًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ. رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى دَابَّتِهِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ. وَفَعَلَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَمَرَ بِهِ طَاوُسٌ، وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَاقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْدُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلِأَنَّ السُّجُودَ وَالْقِيَامَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَطَرِ، كَبَقِيَّةِ أَرْكَانِهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ، يُومِئُونَ إيمَاءً، يَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الرَّمَّاحِ الْبَلْخِيّ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيَّ، فَقَالَ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْمَرَضِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ وَالْمَرَضِ. وَعَنْ مَالِكٍ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ.» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَنَا، مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ. وَفِعْلُ أَنَسٍ قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ صَلَّى أَنَسٌ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى سَرَابِيطَ. فِي يَوْمِ مَطَرٍ الْمَكْتُوبَةَ عَلَى الدَّابَّةِ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْمَطَرَ عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ، فَأَثَّرَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ كَالسَّفَرِ يُؤَثِّرُ فِي الْقَصْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الطِّينَ كَانَ يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَلْوِيثِ الثِّيَابِ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَة] (832) فَصْلٌ: فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ بِالنُّزُولِ فِي الْمَرَضِ أَشَدُّ مِنْهَا بِالنُّزُولِ فِي الْمَطَرِ، فَإِذَا أَثَّرَ الْمَطَرُ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَالْمَرَضُ أَوْلَى. وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ لَهَا أَحْمَدُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُنْزِلُ مَرْضَاهُ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى السُّجُودِ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ كَغَيْرِ الْمَرَضِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطَرِ، أَنَّ النُّزُولَ فِي الْمَطَرِ يُبَلِّلُ ثِيَابَهُ وَيُلَوِّثُهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْمَشَقَّةِ، وَنُزُولَ الْمَرِيضِ يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ أَسْكَنُ لَهُ وَأَمْكَنُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى الظَّهْرِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْمَشَقَّةِ، فَالْمَشَقَّةُ عَلَى الْمَرِيضِ فِي نَفْسِ جِهَةِ النُّزُولِ، لَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَشَقَّةُ عَلَى الْمَمْطُورِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، لَا فِي النُّزُولِ. وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ، فَإِنْ خَافَ الْمَرِيضُ مِنْ النُّزُولِ ضَرَرًا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ، كَالِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ، أَوْ الْعَجْزِ عَنْ الرُّكُوبِ، أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِ هَذَا، صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ [فَصْلٌ صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَة لِمَرَضِ أَوْ مَطَرٍ] (833) فَصْلٌ: وَمَتَى صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَطَرٍ، فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَرْضًا وَلَا نَافِلَةً، إلَّا مُتَوَجِّهًا إلَى الْكَعْبَةِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [سُورَةُ الْبَقَرَةِ] عَامٌّ، خَرَجَ مِنْهُ حَالُ الْخَوْفِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، مُحَافَظَةً عَلَى بَقَاءِ النَّفْسِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى الِاسْتِقْبَالُ لِعُمُومِ الْآيَةِ. [مَسْأَلَة إذَا انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ شَيْءٌ سِوَى وَجْهِهَا أَعَادَتْ الصَّلَاةَ] (834) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ شَيْءٌ سِوَى وَجْهِهَا، أَعَادَتْ الصَّلَاةَ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ كَشْفُ وَجْهِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا كَشْفُ مَا عَدَا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَفِي الْكَفَّيْنِ رِوَايَتَانِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ فَأَجْمَعَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَنْ تُخَمِّرَ رَأْسَهَا إذَا صَلَّتْ، وَعَلَى أَنَّهَا إذَا صَلَّتْ وَجَمِيعُ رَأْسِهَا مَكْشُوفٌ أَنَّ عَلَيْهَا الْإِعَادَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَدَمَانِ لَيْسَا مِنْ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ غَالِبًا، فَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 كَالْوَجْهِ، وَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعَرِهَا أَوْ رُبُعِ فَخِذِهَا أَوْ رُبُعِ بَطْنِهَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: جَمِيعُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَجِبُ سَتْرُهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ: الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى الْمُحْرِمَةَ عَنْ لُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ.» وَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ عَوْرَةً لَمَا حَرُمَ سَتْرُهُمَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كَشْفِ الْوَجْهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْكَفَّيْنِ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَكِنْ رُخِّصَ لَهَا فِي كَشْفِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا؛ لِمَا فِي تَغْطِيَتِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَأُبِيحَ النَّظَرُ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْخِطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: الْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفُرُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْقَدَمَيْنِ مَا رَوَتْ «أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: وَقَفَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَوَقَفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ ذَيْلَهُ خُيَلَاءَ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا. فَقَالَتْ: إذَنْ تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ. قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْقَدَمَيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَجِبُ كَشْفُهُ فِي الْإِحْرَامِ؛ فَلَمْ يَجِبْ كَشْفُهُ فِي الصَّلَاةِ، كَالسَّاقَيْنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَقْدِيرِ الْبُطْلَانِ بِزِيَادَةٍ عَلَى رُبُعِ الْعُضْوِ فَتَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَأَمَّا الْكَفَّانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَجِبُ سَتْرُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ: يَجِبُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» . وَهَذَا عَامٌّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. قَدْ رَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ خِلَافَهُ، قَالَ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] . قَالَ: الثِّيَابُ. وَلَا يَجِبُ كَشْفُ الْكَفَّيْنِ فِي الْإِحْرَامِ، إنَّمَا يَحْرُمُ أَنْ تَلْبَسَ فِيهِمَا شَيْئًا مَصْنُوعًا عَلَى قَدْرِهِمَا كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ، وَاَلَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 [فَصْلٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ] (835) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ - وَهُوَ الْقَمِيصُ، لَكِنَّهُ سَابِغٌ يُغَطِّي قَدَمَيْهَا -، وَخِمَارٍ - يُغَطِّي رَأْسَهَا وَعُنُقَهَا -، وَجِلْبَابٍ - وَهُوَ الْمِلْحَفَةُ، تَلْتَحِفُ بِهِ مِنْ فَوْقِ الدِّرْعِ -؛ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَائِشَةَ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ اتَّفَقَ عَامَّتُهُمْ عَلَى الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ، وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَسْتَرُ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ، فَإِنَّهَا تُجَافِيهِ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً؛ لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، فَتَبِينَ عَجِيزَتُهَا، وَمَوَاضِعُ عَوْرَاتِهَا الْمُغَلَّظَةِ. [فَصْلٌ يُجَزِّئهَا مِنْ اللِّبَاسِ السَّتْرُ الْوَاجِبُ] (836) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُهَا مِنْ اللِّبَاسِ السِّتْرُ الْوَاجِبُ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِحَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، لَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهُمَا كَانَتَا تُصَلِّيَانِ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، لَيْسَ عَلَيْهِمَا إزَارٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ اتَّفَقَ عَامَّتُهُمْ عَلَى الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ. وَلِأَنَّهَا سَتَرَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ، فَأَجْزَأَتْهَا صَلَاتُهَا كَالرَّجُلِ. [فَصْلٌ فَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ غَيْر الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ الصَّلَاة] (837) فَصْلٌ: فَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا قَوْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ " إذَا انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ شَيْءٌ سِوَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا أَعَادَتْ " يَقْتَضِي بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِانْكِشَافِ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ، يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْكَثِيرِ، لِمَا قَرَّرْنَا فِي عَوْرَةِ الرَّجُلِ أَنَّهُ يُعْفَى فِيهَا عَنْ الْيَسِيرِ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ الْيَسِيرِ، فَعُفِيَ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى يَسِيرِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ. [فَصْلٌ يُكْرَهُ أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تُصَلِّي] (838) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تُصَلِّي لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِمُبَاشَرَةِ الْمُصَلَّى بِجَبْهَتِهَا وَأَنْفِهَا، وَيَجْرِي مَجْرَى تَغْطِيَةِ الْفَمِ لِلرَّجُلِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْأَمَةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ] (839) فَصْلٌ: قَالَ: وَصَلَاةُ الْأَمَةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ جَائِزَةٌ هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْخِمَارَ إذَا تَزَوَّجَتْ، أَوْ اتَّخَذَهَا الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَبَّ لَهَا عَطَاءٌ أَنْ تُقَنِّعَ إذَا صَلَّتْ، وَلَمْ يُوجِبْهُ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ أَمَةً لِآلِ أَنَسٍ رَآهَا مُتَقَنِّعَةً، وَقَالَ: اكْشِفِي رَأْسَكِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وَلَا تَشَبَّهِي بِالْحَرَائِرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَا يُنْكَرُ، حَتَّى أَنْكَرَ عُمَرُ مُخَالَفَتَهُ كَانَ يَنْهَى الْإِمَاءَ عَنْ التَّقَنُّعِ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لَا يَدَعُ أَمَةً تُقَنِّعُ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا الْقِنَاعُ لِلْحَرَائِرِ. (840) فَصْلٌ: لَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْهُ سِوَى كَشْفِ الرَّأْسِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَإِنْ صَلَّتْ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ فَلَا بَأْسَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ عَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَقَدْ لَوَّحَ إلَيْهِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: إنْ انْكَشَفَ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَالصَّلَاةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ انْكَشَفَ مَا عَدَا ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: عَوْرَةُ الْأَمَةِ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَحْمَدَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُقَلِّبَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ إذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ مِنْ فَوْقِ الثَّوْبِ، وَيَكْشِفَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ. وَلِأَنَّ هَذَا يَظْهَرُ عَادَةً عِنْدَ الْخِدْمَةِ، وَالتَّقْلِيبِ لِلشِّرَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ عَوْرَةً كَالرَّأْسِ، وَمَا سِوَاهُ لَا يَظْهَرُ عَادَةً وَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى كَشْفِهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَظْهَرُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا لَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً، فَيَنْظُرَ إلَى مَا فَوْقَ الرُّكْبَةِ أَوْ دُونَ السُّرَّةِ، لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا عَاقَبْتُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ؛» فَإِنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى رُكْبَتِهِ مِنْ الْعَوْرَةِ. يُرِيدُ الْأَمَةَ. فَإِنَّ الْأَجِيرَ وَالْعَبْدَ لَا يُنْظَرُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُ مُزَوَّجًا وَغَيْرَ مُزَوَّجٍ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُهُ عَوْرَةً لَمْ يَكُنْ صَدْرُهُ عَوْرَةً، كَالرَّجُلِ. [فَصْلٌ صَلَاة الْمُكَاتَبَة وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا مَكْشُوفَة الرَّأْس] (841) فَصْلٌ: وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ كَالْأَمَةِ الْقِنِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُنَّ إمَاءٌ يَجُوزُ بَيْعُهُنَّ وَعِتْقُهُنَّ. فَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهَا، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ؛ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ. وَالثَّانِي كَالْأَمَةِ، لِعَدَمِ الْحُرِّيَّةِ الْكَامِلَةِ؛ وَلِذَلِكَ ضُمِنَتْ بِالْقِيمَةِ. [فَصْلٌ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ كَالرَّجُلِ فِي الصَّلَاة] (842) فَصْلٌ: وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ سَتْرَ مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ مُحْتَمَلٌ، فَلَا تُوجِبُ عَلَيْهِ حُكْمًا بأَمْرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 مُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَعَلَى قَوْلِنَا: الْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ اللَّذَانِ فِي قُبُلِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فَرْجٌ حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ تَغْطِيَتُهُ يَقِينًا إلَّا بِتَغْطِيَتِهِمَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ سَتْرُ مَا قَرُبَ مِنْ الْفَرْجَيْنِ، ضَرُورَةَ سَتْرِهِمَا. [فَصْلٌ إذَا تَلَبَّسَتْ الْأَمَةُ بِالصَّلَاةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ فَعَتَقَتْ فِي أَثْنَائِهَا] (843) فَصْلٌ: إذَا تَلَبَّسَتْ الْأَمَةُ بِالصَّلَاةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، فَعَتَقَتْ فِي أَثْنَائِهَا، فَهِيَ كَالْعُرْيَانِ يَجِدُ السُّتْرَةَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، إنْ أَمْكَنَهَا أَوْ أَمْكَنَهُ السُّتْرَةُ، مِنْ غَيْرِ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ، سَتَرَ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ، كَأَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا عَلِمُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَبَنَوْا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ السَّتْرُ إلَّا بِعَمَلٍ كَثِيرٍ، أَوْ زَمَنٍ طَوِيلٍ، بَطَلَتْ الصَّلَاةُ، إذْ لَا يُمْكِنُ الْمُضِيُّ فِيهَا لِكَوْنِ السُّتْرَةِ شَرْطًا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَوُجِدَتْ الْقُدْرَةُ، وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ كَثِيرًا، لِأَنَّهُ يُنَافِيهَا فَيُبْطِلُهَا. وَالْمَرْجِعُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ إلَى الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِالْخُطْوَةِ وَالْخُطْوَتَيْنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَنْ وَجَدَتْ مَنْ يُنَاوِلُهَا السُّتْرَةَ فَانْتَظَرَتْ، احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهَا. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ انْتِظَارٌ وَاحِدٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ: طَالَ عَلَيْهَا وَهِيَ بَادِيَةُ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّتْرِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُنْتَظِرَةً. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ حَتَّى أَتَمَّتْ صَلَاتَهَا، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ عَارِيَّةً جَهْلًا بِوُجُوبِ السَّتْرِ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَتْ الْعِتْقَ وَجَهِلَتْ الْحُكْمَ. وَإِنْ عَتَقَتْ وَلَمْ تَجِدْ مَا تَسْتَتِرُ بِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الْعَاجِزَةِ عَنْ الِاسْتِتَارِ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا فِي الصَّلَاةِ] (844) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا فِي الصَّلَاةِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ كَالْأَمَةِ فِي صَلَاتِهَا وَسُتْرَتِهَا، صَرَّحَ بِهَا الْخِرَقِيِّ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَ: وَإِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ كُرِهَ لَهَا ذَلِكَ وَأَجْزَأَهَا. وَمِمَّنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا تَغْطِيَةَ رَأْسِهَا النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَدْ نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ كَيْفَ تُصَلِّي أُمُّ الْوَلَدِ؟ قَالَ: تُغَطِّي شَعَرَهَا وَقَدَمَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ، وَهِيَ تُصَلِّي كَمَا تُصَلِّي الْحُرَّةُ. فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَيَكُونَ كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ، وَلَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ فِيهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّةَ، وَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ حُرِّيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، فَغَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَمَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ، إلَّا فِي أَنَّهَا لَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ فِيهَا، فَهِيَ كَالْمَوْقُوفَةِ، وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لِلْحُرِّيَّةِ لَا يُوجِبُ السَّتْرَ، كَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهَا السَّتْرُ، وَيُكْرَهُ لَهَا كَشْفُ الرَّأْسِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّبَهِ بِالْحَرَائِرِ. [مَسْأَلَة ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى] (845) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى، أَتَمَّهَا، وَقَضَى الْمَذْكُورَةَ، وَأَعَادَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إذَا كَانَ الْوَقْتُ مُبْقًى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ سَنَةٍ: يُصَلِّيهَا، وَيُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِمَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ، وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْفَرِيضَةِ فَائِتَةٌ، فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ، كَالصِّيَامِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ، فَقَضَاهُنَّ مُرَتَّبَاتٍ. وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي جُمُعَةَ حَبِيبِ بْنِ سِبَاعٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْأَحْزَابِ صَلَّى الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَلْ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنِّي صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتَهَا. فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَعَادَ الْمَغْرِبَ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُعِدْ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدْ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، فِي مُسْنِدِهِ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُؤَقَّتَتَانِ، فَوَجَبَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا. كَالْمَجْمُوعَتَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَشُقُّ، وَيُفْضِي إلَى الدُّخُولِ فِي التَّكْرَارِ، فَسَقَطَ، كَالتَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ صِيَامِ رَمَضَانَ. وَلَنَا أَنَّهَا صَلَوَاتٌ وَاجِبَاتٌ، تُفْعَلُ فِي وَقْتٍ يَتَّسِعُ لَهَا، فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالْخَمْسِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى التَّكْرَارِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ، كَتَرْتِيبِ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَخَلَّ بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُمُعَةَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، كَتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَهِيَ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَاضِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ، ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ، فِي الْمَأْمُومِ. وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَأْمُومِ، وَنَقَلَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ فِي الْمُنْفَرِدِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ فِي الْمُنْفَرِدِ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْإِمَامِ: يَنْصَرِفُ، وَيَسْتَأْنِفُ الْمَأْمُومُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَنْقُلُهَا غَيْرُ حَرْبٍ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي الْمَأْمُومِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ، وَفِي الْمُنْفَرِدِ، أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِمَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، فَيَكُونَ فِي الْجَمِيعِ أَدَاءً رِوَايَتَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 إحْدَاهُمَا يُتِمُّهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ لَا غَيْرُ. وَلَنَا عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ أَبِي جُمُعَةَ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، كَتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ. وَلَنَا عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ أَبِي جُمُعَةَ أَيْضًا، قَالَ: يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَهَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَكَرَ فِيهَا فَائِتَةً، فَلَمْ تَفْسُدْ كَمَا لَوْ كَانَ مَأْمُومًا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَمْضِي فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ كَلَامُ أَحْمَدَ، إذَا كَانَ وَرَاءَ الْإِمَامِ، أَنَّهُ يَمْضِي مَعَ الْإِمَامِ، وَيُعِيدُهُمَا جَمِيعًا ". وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، قَالَ: وَاَلَّذِي أَقُولُ، أَنَّهُ يَمْضِي، لِأَنَّهُ يَشْنُعُ أَنْ يَقْطَعَ مَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ، فَإِنْ مَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ، انْبَنَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا قُلْنَا: يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِيرُ نَفْلًا فَلَا يَلْزَمُ ائْتِمَامُهُ. قَالَ مُهَنَّا: قُلْت لِأَحْمَدَ: إنِّي كُنْتُ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ، فَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ، ثُمَّ أَعَدْتُ الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ؟ قَالَ: أَصَبْتَ. فَقُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أَخْرُجَ حِينَ ذَكَرْتُهَا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَكَيْفَ أَصَبْتُ؟ قَالَ: كُلٌّ جَائِزٌ. [فَصْلٌ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى] (846) فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى صَلَّى نَاسِيًا لِلْفَائِتَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ: مَتَى ذَكَرَ الْفَائِتَةَ وَقَدْ سَلَّمَ، أَجْزَأَتْهُ، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ التَّرْتِيبُ مَعَ النِّسْيَانِ. وَلَعَلَّ مَنْ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ أَبِي جُمُعَةَ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَجْمُوعَتَيْنِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلِأَنَّ الْمَنْسِيَّةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَمَارَةٌ، فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا النِّسْيَانُ، كَالصِّيَامِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُمُعَةَ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمَجْمُوعَتَانِ فَإِنَّمَا لَمْ يُعْذَرْ بِالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا أَمَارَةً، وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ ذِكْرُ الْفَائِتَةِ أَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ لَهَا ذِكْرٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 [مَسْأَلَة خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَة] (847) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ خَشِيَ خُرُوجَ الْوَقْتِ اعْتَقَدَ وَهُوَ فِيهَا أَنْ لَا يُعِيدَهَا، وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ) يَعْنِي إذَا خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ، قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ، وَإِعَادَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، سَقَطَ عَنْهُ التَّرْتِيبُ حِينَئِذٍ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ حَسْبُ. وَقَوْلُهُ " اعْتَقَدَ أَنْ لَا يُعِيدَهَا ". يَعْنِي لَا يُغَيِّرُ نِيَّتَهُ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُعِيدُهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِيهَا، لَكِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا قَدْرٌ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا فِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ، وَيُقَدِّمُ الْحَاضِرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَمَالِكٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْحَاضِرَةُ جُمُعَةً أَوْ غَيْرَهَا. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ مَا نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَلَطًا فِي النَّقْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا قَدِيمًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ نَسِيَ صَلَاةً وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ: يَبْدَأُ بِالْجُمُعَةِ، هَذِهِ يُخَافُ فَوْتُهَا. فَقِيلَ لَهُ: كُنْتُ أَحْفَظُ عَنْك أَنَّهُ إذَا صَلَّى وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَلَاةٍ فَائِتَةٍ أَنَّهُ يُعِيدُ هَذِهِ وَهَذِهِ. فَقَالَ: كُنْت أَقُولُ هَذَا. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إنْ كَانَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ يَتَّسِعُ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَجَبَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّسِعُ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ فِي مَنْ يَقْضِي صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ، فَتَحْضُرُ صَلَاةٌ، أَيُؤَخِّرُهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِذَا صَلَّاهَا يُعِيدُهَا؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ يُصَلِّيهَا فِي الْجَمَاعَةِ إذَا حَضَرَتْ، إذَا كَانَ لَا يَطْمَعُ أَنْ يَقْضِيَ الْفَوَائِتَ كُلَّهَا إلَى آخِرِ وَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي حَضَرَتْ، فَإِنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ قَضَى الْفَوَائِتَ، مَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا صَلَّى مَرَّةً. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ. وَعَلَّلَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَتَّسِعُ لِقَضَاءِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَفِعْلِ الْحَاضِرَةِ، فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ وَالشُّرُوعُ فِي أَدَاءِ الْحَاضِرَةِ، كَذَا هَاهُنَا. وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَ الْجَمَاعَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ مَشْرُوطًا لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ جَمِيعِهَا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ رِوَايَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى تَقْدِيمِ التَّرْتِيبِ بِكُلِّ حَالٍ، فَحُجَّتُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا» . وَهَذَا عَامٌّ فِي حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ مُسْتَحَقٌّ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ فَيُسْتَحَقُّ مَعَ ضِيقِهِ، كَتَرْتِيبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْحَاضِرَةَ صَلَاةٌ ضَاقَ وَقْتُهَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ. وَلِأَنَّ الْحَاضِرَةَ آكَدُ مِنْ الْفَائِتَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا، وَيُكَفَّرُ عَلَى رِوَايَةٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَالْفَائِتَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ أَخَّرَهَا شَيْئًا، وَأَمَرَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ» ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مُؤَقَّتٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ فَائِتَةٍ عَلَى حَاضِرَةٍ يُخَافُ فَوَاتُهَا كَالصِّيَامِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا» مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا ذُكِرَتْ فَوَائِتُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ إلَّا الْأُولَى، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَا إذَا اجْتَمَعَتْ حَاضِرَةٌ - يُخَافُ فَوْتُهَا - وَفَائِتَةٌ، لِتَأَكُّدِ الْحَاضِرَةِ بِمَا بَيَّنَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ» . قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ. قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ» فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذَا اللَّفْظَ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَلَا سَمِعْت بِهَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَبْدَأُ فَيَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ حَتَّى إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَاضِرَةِ، صَلَّاهَا، ثُمَّ عَادَ إلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. فَإِنْ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ فِي صَلَاةِ الْحَاضِرَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَائِتَةٌ فَأَدْرَكَتْهُ الظُّهْرُ، وَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَوَاتِ: يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ وَيَحْسُبُهَا مِنْ الْفَوَائِتِ، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَصْرٌ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. فِي مَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، وَخَشِيَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ، رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ، التَّرْتِيبُ وَالْجَمَاعَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا، فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِمَا. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْحَاضِرَةِ عَلَى الْفَوَائِتِ إذَا كَثُرَتْ، فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْحَاضِرَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ مَتَى حَضَرَتْ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةُ، لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِهِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ الْفَائِتَةَ خَلْفَ مَنْ يُؤَدِّي الظُّهْرَ ابْتَنَى ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ ائْتِمَامِ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ. وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، سَنَذْكُرُهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ سِنِينَ: يُعِيدُهَا، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا، وَيَجْعَلُهَا مِنْ الْفَوَائِتِ الَّتِي يُعِيدُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. وَقَالَ: لَا يُصَلِّي مَكْتُوبَةً إلَّا فِي آخِرِ وَقْتِهَا حَتَّى يَقْضِيَ الَّتِي عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ. [فَصْلٌ تَرَكَ ظُهْرًا وَعَصْرًا مِنْ يَوْمَيْنِ لَا يَدْرِي أَيّهمَا أَوَّلًا] (848) فَصْلٌ: إذَا تَرَكَ ظُهْرًا وَعَصْرًا مِنْ يَوْمَيْنِ، لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَوَّلًا. فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ يُجْزِئُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيَّهُمَا نَسِيَ أَوَّلًا، فَيَقْضِيَهَا، ثُمَّ يَقْضِيَ الْأُخْرَى. نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى أَكْثَرِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي. يَعْنِي أَنَّهُ يَتَحَرَّى أَيَّهُمَا نَسِيَ أَوَّلًا فَيَقْضِيهَا، ثُمَّ يَقْضِي الْأُخْرَى. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مِمَّا تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهُ، بِدَلِيلِ مَا إذَا تَضَايَقَ الْوَقْتُ أَوْ نَسِيَ الْفَائِتَةَ، فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ بِغَيْرِ تَحَرٍّ. نَقَلَهَا مُهَنَّا؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ فِيمَا فِيهِ أَمَارَةٌ، وَهَذَا لَا أَمَارَةَ فِيهِ يَرْجِعُ إلَيْهَا، فَرَجَعَ فِيهِ إلَى تَرْتِيبِ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ، ثُمَّ الْعَصْرِ، ثُمَّ الظُّهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أَوْ الْعَصْرِ ثُمَّ الظُّهْرِ ثُمَّ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ فَرَّطَ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ الْعَصْرَ، وَيَوْمٍ الظُّهْرَ، صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا قَالَ: يُعِيدُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ [فَصْلٌ تَرْكِ التَّرْتِيبِ بِالْجَهْلِ بِوُجُوبِهِ] (849) فَصْلٌ: وَلَا يُعْذَرُ فِي تَرْكِ التَّرْتِيبِ بِالْجَهْلِ بِوُجُوبِهِ، وَقَالَ زُفَرُ: يُعْذَرُ بِذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْمَجْمُوعَتَيْنِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ لَا يُسْقِطُ أَحْكَامَهَا كَالْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ. [فَصْلٌ إذَا كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ عَلَيْهِ يَتَشَاغَلُ بِالْقَضَاءِ] (850) فَصْلٌ: إذَا كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ عَلَيْهِ يَتَشَاغَلُ بِالْقَضَاءِ، مَا لَمْ يَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ، أَمَّا فِي بَدَنِهِ فَأَنْ يَضْعُفَ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ، وَأَمَّا فِي الْمَالِ فَأَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ عَنْ مَعَاشِهِ، أَوْ يُسْتَضَرُّ بِذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فِي الرَّجُلِ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ: يُعِيدُ حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِمَا قَدْ ضَيَّعَ. وَيَقْتَصِرُ عَلَى قَضَاءِ الْفَرَائِضِ، وَلَا يُصَلِّي بَيْنَهَا نَوَافِلَ، وَلَا سُنَنَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَهُمَا سُنَّةً، وَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَةَ أَهَمُّ، فَالِاشْتِغَالُ بِهَا أَوْلَى، إلَّا أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ يَسِيرَةً، فَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ سُنَنِهَا الرَّوَاتِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ، فَقَضَى سُنَّتَهَا قَبْلَهَا. فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ، لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، أَعَادَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ هَاهُنَا إلَّا بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلَزِمَهُ. [فَصْلٌ نَامَ فِي مَنْزِل فِي السَّفَر فَاسْتَيْقَظَ بَعْد خُرُوج وَقْت الصَّلَاة] (851) فَصْلٌ: وَإِذَا نَامَ فِي مَنْزِلٍ فِي السَّفَرِ، فَاسْتَيْقَظَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَالْمُسْتَحَبُّ. لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ، فَيُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «عَرَّسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَ فِيهِ الشَّيْطَانُ. قَالَ فَفَعَلْنَا. ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ» . وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ. فَإِنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَلَاةٍ أُخْرَى، كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّوْمِ، لَا يَتَطَوَّعُ بِهِ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، فَإِنْ فَعَلَ صَحَّ تَطَوُّعُهُ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي يَنْسَى فَرِيضَةً فَلَا يَذْكُرُهَا إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يُتَمِّمُهَا، فَحُكِمَ لَهُ بِصِحَّتِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، فَلَا يُكْرَهُ قَضَاؤُهَا قَبْلَ الْفَرَائِضِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. (852) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ لِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ إنْ تَشَاغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ، وَيُؤَخِّرُ الرَّكْعَتَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ: أَبُو الْحَارِثِ، نَقَلَ عَنْهُ، إذَا انْتَبَهَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَخَافَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ بَدَأَ بِالْفَرِيضَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَدِمَتْ الْحَاضِرَةُ عَلَى الْفَائِتَةِ، مَعَ الْإِخْلَالِ بِالتَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ مُرَاعَاةً لِوَقْتِ الْحَاضِرَةِ، فَتَقْدِيمُهَا عَلَى السُّنَّةِ أَوْلَى. وَهَكَذَا إنْ اسْتَيْقَظَ لَا يَدْرِي أَطَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَوْ لَا، بَدَأَ بِالْفَرِيضَةِ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ، وَإِمْكَانُ الْإِتْيَانِ بِالْفَرِيضَةِ فِيهِ. [فَصْلٌ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَة] (853) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَةٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَاتَهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، حِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ، أَوْ ذِكْرِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَّسَ بِنَا مِنْ السَّحَرِ، فَمَا اسْتَيْقَظْنَا إلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ؛ قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ دَهِشِينَ مُسْرِعِينَ؛ لِمَا فَاتَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْكَبُوا. فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلْنَا، وَقَضَى الْقَوْمُ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، وَتَوَضَّئُوا، فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَصَلَّيْنَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا؟ قَالَ: لَا، لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ. رَوَاهُ» الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ فِي دَار الْحَرْب فَتَرَكَ صَلَوَات أَوْ صِيَامًا لَا يَعْلَم وُجُوبه] فَصْلٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَتَرَكَ صَلَوَاتٍ، أَوْ صِيَامًا لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهُ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، فَلَزِمَتْهُ مَعَ الْجَهْلِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. [مَسْأَلَة يُؤَدِّب الْغُلَام عَلَى الطَّهَارَة وَالصَّلَاة إذَا تَمُتْ لَهُ عَشْر سِنِينَ] (855) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُؤَدَّبُ الْغُلَامُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إذَا تَمَّتْ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ.) مَعْنَى التَّأْدِيبِ، الضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالتَّعْنِيفُ، قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَيَأْمُرَهُ بِهَا، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَفْظُ حَدِيثِ غَيْرِهِ: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَهَذَا الْأَمْرُ وَالتَّأْدِيبُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، كَيْ يَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا، وَلَا يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: تَجِبُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تُشْرَعُ. إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْوَاجِبِ: مَا عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ، وَلِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي ابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ: إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ يُعِيدُ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَرَ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» . وَلِأَنَّهُ صَبِيٌّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَالصَّغِيرِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ ضَعِيفُ الْعَقْلِ وَالْبِنْيَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ يَضْبِطُ الْحَدَّ الَّذِي تَتَكَامَلُ فِيهِ بِنْيَتُهُ وَعَقْلُهُ، فَإِنَّهُ يَتَزَايَدُ تَزَايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ، فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَالْبُلُوغُ ضَابِطٌ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا تَجِبُ بِهِ الْحُدُودُ، وَتُؤْخَذُ بِهِ الْجِزْيَةُ مِنْ الذِّمِّيِّ إذَا بَلَغَهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَكْثَرُ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوا لَمَا اُخْتُصَّ بِابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّأْدِيبُ هَاهُنَا لِلتَّمْرِينِ وَالتَّعْوِيدِ، كَالضَّرْبِ عَلَى تَعَلُّمِ الْخَطِّ وَالْقُرْآنِ وَالصِّنَاعَةِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ يَعْتَبِر لِصَلَاةِ الصَّبِيّ مِنْ الشُّرُوط مَا يَعْتَبِر فِي صَلَاة الْبَالِغ] (856) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ لِصَلَاةِ الصَّبِيِّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي صَلَاةِ الْبَالِغِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ غَيْرِ الْحَائِضِ بِغَيْرِ الْخِمَارِ. [مَسْأَلَة سُجُودُ الْقُرْآن أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَجْدَة] (857) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَسُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِي الْمُفَصَّلِ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ. وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ،، وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً مِنْهَا سَجْدَةُ (ص) . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ» . وَقَالَ مَالِكٌ، فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: عَزَائِمُ السُّجُودِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمَالِكٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: «سَجَدْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى عَشْرَةَ لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ، قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] . فَسَجَدَ، فَقُلْت: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ قَالَ: سَجَدْت بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» . رَوَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] /وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] » وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ إلَّا سَجَدَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَأَبُو هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ. ثُمَّ إنَّ تَرْكَ السُّجُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالسُّجُودَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ أَبُو دَاوُد إسْنَادُهُ وَاهٍ. ثُمَّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُجُودُ غَيْرِ الْمُفَصَّلِ إحْدَى عَشْرَةَ فَيَكُونَ مَعَ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. (858) فَصْلٌ: فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَيْسَتْ " ص " مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ مِنْ الْعَزَائِمِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَعُثْمَانَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ فِيهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا. وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَجَدَ فِيهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ، فَسَجَدَ، وَسَجَدُوا» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي ص، وَقَالَ: سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً، وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ " ص " مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا، فَيَكُونُ سُجُودًا لِلشُّكْرِ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (859) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فِي الْحَجِّ مِنْهَا سَجْدَتَانِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَزِرٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ الْأَخِيرَةُ سَجْدَةً؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَلَمْ تَكُنْ سَجْدَةً، كَقَوْلِهِ {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] . وَلَنَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا.» وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُونَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ تَارِكًا إحْدَاهُمَا لَتَرَكْتُ الْأُولَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى إخْبَارٌ، وَالثَّانِيَةَ أَمْرٌ، وَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ أَوْلَى. وَذِكْرُ الرُّكُوعِ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ السُّجُودِ، كَمَا ذُكِرَ الْبُكَاءُ فِي قَوْلِهِ {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وَقَوْلِهِ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] . [فَصْلٌ مَوَاضِعُ السُّجُود فِي الْقُرْآن] (860) فَصْلٌ: وَمَوَاضِعُ السُّجُودِ: آخِرُ الْأَعْرَافِ: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] ، وَفِي الرَّعْدِ {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وَفِي النَّحْلِ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَفِي بَنِي إسْرَائِيلَ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] . وَفِي مَرْيَمَ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَفِي الْحَجِّ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وَقَوْلُهُ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] . وَفِي الْفُرْقَانِ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] . وَفِي النَّمْلِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] . وَفِي الم السَّجْدَةِ: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] . وَفِي حم تَنْزِيلٌ: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] . وَآخِرُ النَّجْمِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] . وَفِي الِانْشِقَاقِ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] . وَآخِرُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] . وَقَالَ مَالِكٌ: السُّجُودُ فِي حم عِنْدَ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ هُنَاكَ فِيهَا. وَلَنَا، أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي الثَّانِيَةِ، فَكَانَ السُّجُودُ بَعْدَهَا، كَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَذَكَرَ السُّجُودَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، كَذَا هَاهُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 [مَسْأَلَة لَا يَسْجُد لِلتِّلَاوَةِ إلَّا وَهُوَ طَاهِر] (861) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَسْجُدُ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلسُّجُودِ مَا يُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ مِنْ الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ، تُومِئُ بِرَأْسِهَا. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ فِي مَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» . فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ السُّجُودُ. وَلِأَنَّهُ صَلَاةٌ فَيُشْتَرَطُ لَهُ ذَلِكَ، كَذَاتِ الرُّكُوعِ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ ذَلِكَ كَسُجُودِ السَّهْوِ. (862) فَصْلٌ: وَإِذَا سَمِعَ السَّجْدَةَ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ وَلَا التَّيَمُّمُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَتَيَمَّمُ، وَيَسْجُدُ. وَعَنْهُ: يَتَوَضَّأُ، وَيَسْجُدُ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَنَا أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ، فَإِذَا فَاتَ لَمْ يَسْجُدْ كَمَا لَوْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْجُدْ، فَإِنَّهُ لَا يَسْجُدُ بَعْدَهَا. [مَسْأَلَة يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ إذَا سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ] (863) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ.» قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يُعْجِبُهُ هَذَا الْحَدِيثُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: يُعْجِبُهُ لِأَنَّهُ كَبَّرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ مُنْفَرِدٌ، فَشُرِعَ لَهُ التَّكْبِيرُ فِي ابْتِدَائِهِ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ كَسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَبَّرَ فِيهِ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ التَّكْبِيرَ لِلرَّفْعِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يُشْرَعُ فِي ابْتِدَاءِ السُّجُودِ أَكْثَرُ مِنْ تَكْبِيرَةٍ. قَالَ: يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ وَاحِدَةً، وَلِلسُّجُودِ أُخْرَى. وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَظَاهِرُهُ أَنْ يُكَبِّرَ وَاحِدَةً، وَقِيَاسُهُ عَلَى سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. . [فَصْلٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ تَكْبِيرَة سُجُودِ التِّلَاوَة] (864) فَصْلٌ: وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ السُّجُودِ إنْ سَجَدَ. فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَكْبِيرَةُ افْتِتَاحٍ، وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الرَّفْعُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 فَكَذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ لَا يَرْفَعُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الرَّفْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَفْعَلُهُ فِي السُّجُودِ. يَعْنِي رَفْعَ يَدَيْهِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «قُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَكَانَ يُكَبِّرُ إذَا خَفَضَ وَرَفَعَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرِ.» قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. [فَصْلٌ يَقُول فِي سُجُوده لِلتِّلَاوَةِ مَا يَقُول فِي سُجُود الصَّلَاة] (865) فَصْلٌ: وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ مَا يَقُولُ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَقَرَأْتُ السَّجْدَةَ، فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُد. فَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَمَهْمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فَحَسَنٌ. [مَسْأَلَة التَّسْلِيمِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَة] (866) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسَلِّمُ إذَا رَفَعَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّسْلِيمِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَرَأَى أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَرُوِيَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَحْمَدُ، أَمَّا التَّسْلِيمُ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: لَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ، فَافْتَقَرَتْ إلَى سَلَامٍ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى تَشَهُّدٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَلِأَنَّهُ لَا رُكُوعَ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَشَهُّدٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَيُجْزِئُهُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. قَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. قَالَ إِسْحَاقُ: يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَقَطْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: إنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى؛ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا اثْنَتَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 [مَسْأَلَة لَا يَسْجُد فِي الْأَوْقَات الَّتِي لَا يَجُوز أَنْ يُصَلِّي فِيهَا تَطَوُّعًا] (867) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَسْجُدُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا تَطَوُّعًا.) قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَمَّنْ قَرَأَ سُجُودَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، أَيَسْجُدُ؟ قَالَ: لَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَ مَالِكٌ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْجُدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ؛ وَرَخَّصَ فِيهِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، قَالَ: كُنْت أَقُصُّ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَسْجُدُ، فَنَهَانِي ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ أَنْتَهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: «إنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ يَسْجُدُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ: أَنَّ قَاصًّا كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَسْجُدُ، فَنَهَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. [مَسْأَلَة سُجُودَ التِّلَاوَة سُنَّةٌ مُؤَكَّدَة] (868) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ سَجَدَ فَحَسَنٌ، وَمَنْ تَرَكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ إمَامِنَا وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وَلَا يُذَمُّ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ. وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يُفْعَلُ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ وَاجِبًا كَسُجُودِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: «قَرَأْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ مِنَّا أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَالْأَثْرَمُ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إذَا جَاءَتْ السَّجْدَةُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ. وَفِي لَفْظٍ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ إلَّا أَنْ نَشَاءَ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ. فَقَرَأَهَا، وَلَمْ يَسْجُدْ، وَمَنَعَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا وَهَذَا بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَلَا نُقِلَ خِلَافُهُ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ لِتَرْكِ السُّجُودِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ فَضْلَهُ، وَلَا مَشْرُوعِيَّتَهُ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ وَاجِبٍ. [فَصْلٌ يُسَنُّ السُّجُودُ لِلتَّالِيَّ وَالْمُسْتَمِعِ] (869) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ السُّجُودُ لِلتَّالِي وَالْمُسْتَمِعِ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى لَا يَجِدَ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ» . فَأَمَّا السَّامِعُ غَيْرُ الْقَاصِدِ لِلسَّمَاعِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِمْرَانَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ السُّجُودُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَنَافِعٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ سَامِعٌ لِلسَّجْدَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ السُّجُودُ كَالْمُسْتَمِعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُؤَكِّدُ عَلَيْهِ السُّجُودَ، وَإِنْ سَجَدَ فَحَسَنٌ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ مَرَّ بِقَاصٍّ، فَقَرَأَ الْقَاصُّ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ عُثْمَانُ مَعَهُ، فَلَمْ يَسْجُدْ. وَقَالَ: إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانُ: مَا جَلَسْنَا لَهَا. وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا عَدَوْنَا لَهَا. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ نَعْلَمُهُ إلَّا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ سَمِعَ عَنْ قَصْدٍ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ جَمْعًا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ؛ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ السَّامِعِ عَلَى الْمُسْتَمِعِ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْأَجْرِ ". [فَصْلٌ يَشْتَرِط لِسُجُودِ الْمُسْتَمِع أَنْ يَكُون التَّالِي مِمَّنْ يُصْلَح أَنْ يَكُون لَهُ إمَامًا] (870) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِسُجُودِ الْمُسْتَمِعِ أَنْ يَكُونَ التَّالِي مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إمَامًا. فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً، فَلَا يَسْجُدُ السَّامِعُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ لَا يَسْجُدُ إذَا سَمِعَ الْمَرْأَةَ قَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ إمَامُك. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى إلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَجْدَةً، ثُمَّ نَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّكَ كُنْتَ إمَامَنَا، وَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ "، وَالْجُوزَجَانِيُّ، فِي " الْمُتَرْجَمِ "، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ التَّالِي أُمِّيًّا لَمْ يَسْجُدْ الْمُسْتَمِعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْجُدُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ مَوْجُودٌ، وَهُوَ سَبَبُ السُّجُودِ. وَلَنَا، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَلِأَنَّهُ إمَامٌ لَهُ فَلَمْ يَسْجُدْ بِدُونِ إمَامِهِ كَمَا لَوْ كَانَا فِي صَلَاةٍ وَإِنْ قَرَأَ الْأُمِّيُّ سَجْدَةً فَعَلَى الْقَارِئِ الْمُسْتَمِعِ السُّجُودُ مَعَهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فِي السُّجُودِ فَإِنْ كَانَ التَّالِي فِي صَلَاةٍ، وَالْمُسْتَمِعُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، سَجَدَ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ إنْ كَانَتْ فَرْضًا، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ نَفْلًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِصَلَاتِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَسْجُدُ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْجُدُ عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ، لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ لِتِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْ إذَا فَرَغَ، فَلَأَنْ لَا يَسْجُدَ بِحُكْمِ سَمَاعِهِ أَوْلَى، وَهَكَذَا الْحَكَمُ إنْ كَانَ التَّالِي فِي غَيْرِ صَلَاةٍ وَالْمُسْتَمِعُ فِي الصَّلَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 [فَصْلٌ لَا يَقُوم الرُّكُوعُ مَقَامَ سُجُودِ التِّلَاوَة] (871) فَصْلٌ: وَلَا يَقُومُ الرُّكُوعُ مَقَامَ السُّجُودِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقُومُ مَقَامَهُ اسْتِحْبَابًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وَلَنَا، أَنَّهُ سُجُودٌ مَشْرُوعٌ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ الرُّكُوعُ، كَسُجُودِ الصَّلَاةِ، وَالْآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا السُّجُودُ، لِأَنَّهُ قَالَ: (وَخَرَّ) وَلَا يُقَالُ لِلرَّاكِعِ: خَرَّ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - السُّجُودُ لَا الرُّكُوعُ، إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ، عَلَى أَنَّ سَجْدَةَ " ص " لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ دَاوُد رَكَعَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ دَاوُد إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةً، لَا لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ [فَصْلٌ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ] (872) فَصْلٌ: وَإِنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ؛ وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنْ شِئْتَ رَكَعْتَ وَإِنْ شِئْتَ سَجَدْتَ، وَبِهِ قَالَ. الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَمَسْرُوقٍ،. قَالَ مَسْرُوقٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ سُورَةً وَآخِرُهَا سَجْدَةٌ، فَلْيَرْكَعْ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَلْيَسْجُدْ؛ فَإِنَّ الرَّكْعَةَ مَعَ السَّجْدَةِ، وَإِنْ سَجَدَ فَلْيَقْرَأْ إذَا قَامَ سُورَةً، ثُمَّ لِيَرْكَعْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ بِالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى. [فَصْلٌ إذَا كَانَ عَلَى الرَّاحِلَة فِي السَّفَر جَازَ أَنْ يُومِئ بِالسُّجُودِ حَيْثُ كَانَ وَجْهه] فَصْلٌ:: وَإِذَا كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، جَازَ أَنْ يُومِئَ بِالسُّجُودِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ. فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عُمَرَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً، فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ» . وَلِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَهِيَ تُفْعَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا سَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْقِيَاسِ. وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: يُومِئُ. وَفَعَلَهُ عَلْقَمَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ فِي صَلَاةِ الْمَاشِي فِي التَّطَوُّعِ، أَنَّهُ يُومِئُ فِيهَا بِالسُّجُودِ، وَلَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ بِالْأَرْضِ، وَيَكُونُ هَاهُنَا مِثْلَهُ. [فَصْلٌ يَكْرَه أَنْ يَنْتَزِع الْآيَات الَّتِي فِيهَا السُّجُود فَيَقْرَأهَا وَيَسْجُد فِيهَا] (874) فَصْلٌ: يُكْرَهُ اخْتِصَارُ السُّجُودِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَزِعَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا السُّجُودُ فَيَقْرَأَهَا وَيَسْجُدَ فِيهَا. وَكَرِهَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَرَخَّصَ فِيهِ النُّعْمَانُ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْ السَّلَفِ فِعْلُهُ، بَلْ كَرَاهَتُهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ قِرَاءَة السَّجْدَة فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهَرُ فِيهَا] (875) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ قِرَاءَةُ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهَرُ فِيهَا، وَإِنْ قَرَأَ لَمْ يَسْجُدْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إيهَامًا عَلَى الْمَأْمُومِ. وَلَمْ يَكْرَهْهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ سَجَدَ فِي الظُّهْرِ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ، فَرَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ فِيهِ إيهَامًا عَلَى الْمَأْمُومِ. وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابُنَا: الْمَأْمُومُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اتِّبَاعِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَالْأَوْلَى اتِّبَاعُهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعِيدًا لَا يَسْمَعُ، أَوْ أُطْرُوشًا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، لَسَجَدَ بِسُجُودِ إمَامِهِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْد تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَم] (876) فَصْلٌ:: وَيُسْتَحَبُّ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ، وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي أَيَّامِهِ الْفُتُوحُ، وَاسْتَسْقَى فَسُقِيَ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ سَجَدَ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَمْ يُخِلَّ بِهِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يُسَرُّ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ قَالَ: «كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يُسَرُّ بِهِ، أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا؛ شُكْرًا لِلَّهِ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَسَجَدَ الصِّدِّيقُ حِينَ فَتَحَ الْيَمَامَةَ وَعَلِيٌّ حِينَ وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَثَبَتَ ظُهُورُهُ وَانْتِشَارُهُ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ، وَتَرْكُهُ تَارَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ يُفْعَلُ تَارَةً، وَيُتْرَكُ أُخْرَى. وَيُشْتَرَطُ لِسُجُودِ الشُّكْرِ مَا يُشْتَرَطُ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ لَا يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ] (877) فَصْلٌ: وَلَا يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. لِأَنَّ سَبَبَ السَّجْدَةِ لَيْسَ مِنْهَا. فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ. فَأَمَّا سَجْدَةُ " ص " إذَا سَجَدَهَا فِي الصَّلَاةِ وَقُلْنَا: لَيْسَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا مِنْ الصَّلَاةِ، وَتَتَعَلَّقُ بِالتِّلَاوَةِ، فَهِيَ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَالْعَشَاءُ بَدَأَ بِالْعَشَاءِ] (878) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَالْعَشَاءُ بَدَأَ بِالْعَشَاءِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَالْمُسْتَحَبُّ. أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَشَاءِ. قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِيَكُونَ أَفْرَغَ لِقَلْبِهِ، وَأَحْضَرَ لِبَالِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْجَلَ عَنْ عَشَائِهِ أَوْ غَدَائِهِ، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ» وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْضُرَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ وَيَخَافَ فَوْتَهَا فِي الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يَخَافَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُرِّبَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلَنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ وَقَوْلُهُ: وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ. يَعْنِي الْجَمَاعَةَ. وَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا يُقَدِّمُ الْعَشَاءَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الطَّعَامِ كَثِيرًا. وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَعَامًا خَفِيفًا. وَقَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عُمَرُ، وَابْنُهُ وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا نَقُومُ إلَى الصَّلَاةِ وَفِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، فَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ أَنَّ صَلَاتَهُ تُجْزِئُهُ. كَذَلِكَ إذَا صَلَّى حَاقِنًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْعَنْبَرِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَاقِنٌ، وَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَعَ ذَلِكَ، إنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يُعِيدَ إذَا شَغَلَهُ ذَلِكَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَوْ شُغِلَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا، أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ، كَذَلِكَ إذَا شَغَلَهُ الْبَوْلُ. [مَسْأَلَة إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْخَلَاءِ] (879) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْخَلَاءِ، بَدَأَ بِالْخَلَاءِ) يَعْنِي إذَا كَانَ حَاقِنًا كُرِهَتْ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، سَوَاءٌ خَافَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَمْ يَخَفْ. لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرَوَى ثَوْبَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ بَيْتِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، وَلَا يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاقِنٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ وَبِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ خُشُوعِهَا. وَحُضُورِ قَلْبِهِ فِيهَا، فَإِنْ خَالَفَ وَفَعَلَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا وَقَالَ، ابْنُ أَبِي مُوسَى: إنْ كَانَ بِهِ مِنْ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ مَا يُزْعِجُهُ وَيَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ، أَعَادَ، فِي الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِهِ. لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ. اللَّذَيْنِ رَوَيْنَاهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، فَهَذَانِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي يُعْذَرُ بِهَا فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ، لِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: «وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ» . عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَوْلُهُ: " لَا صَلَاةَ " عَامٌّ أَيْضًا. (880) فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا الْمَرِيضُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ. قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ. لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ يَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَرِيضٌ فَيَقُولُ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» . (881) فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا الْخَائِفُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعُذْرُ خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ» وَالْخَوْفُ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَالِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْأَهْلِ. فَالْأَوَّلُ، أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا، يَأْخُذُهُ أَوْ عَدُوًّا، أَوْ لِصًّا، أَوْ سَبُعًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ سَيْلًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ. أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلَازِمُهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُوفِيهِ، فَإِنْ حَبَسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ، لِأَنَّهُ يَجِبُ إيفَاؤُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَدُّ قَذْفٍ، فَخَافَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ إيفَاؤُهُ وَهَكَذَا إنْ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ يَرْجُو الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ، حَتَّى يُصَالِحَ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ، فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا الْمُصَالَحَةُ وَلَا الْعَفْوُ. وَحَدُّ الْعَفْوِ أَنْ يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُ، فَلَيْسَ يُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو إسْقَاطَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا بِالْمَطَرِ. الَّذِي يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَالْوَحْلِ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ؛ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إذَا قُلْت: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ، ابْنِ عُمَرَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ. صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَنَحْوَهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ: فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ وَرَوَى أَبُو الْمَلِيحِ أَنَّهُ «شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ لَمْ يَبْتَلَّ أَسْفَلُ نِعَالِهِمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَيُعْذَرُ أَيْضًا مَنْ يُرِيدُ سَفَرًا، وَيَخَافُ فَوَاتَ رُفْقَتِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ؛ بِخُرُوجِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ وَاللُّصُوصِ وَأَشْبَاهِهِمَا، أَوْ يَخَافُ أَنْ يُسْرَقَ مَنْزِلُهُ أَوْ يُحْرَقَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ لَهُ خُبْزٌ فِي التَّنُّورِ، أَوْ طَبِيخٌ عَلَى النَّارِ يَخَافُ حَرِيقَهُ بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ أَوْ يَكُونُ لَهُ غَرِيمٌ إنْ تَرَكَ مُلَازَمَتَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ، أَوْ يَكُونُ لَهُ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ إنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ذَهَبَ. فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ؛ النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَضِيعُوا، أَوْ يَكُونُ وَلَدُهُ ضَائِعًا فَيَرْجُو وُجُودَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَوْ يَكُونُ لَهُ قَرِيبٌ يَخَافُ إنْ تَشَاغَلَ بِهِمَا مَاتَ فَلَمْ يَشْهَدْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ يُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ النُّعَاسَ حَتَّى يَفُوتَاهُ فَيْصَلِي وَحْدَهُ وَيَنْصَرِفُ] فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ النُّعَاسَ حَتَّى يَفُوتَاهُ فَيْصَلِي وَحْدَهُ وَيَنْصَرِفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 [ باب ما يبطل الصلاة إذا تركه عامدا أو ساهيا ] رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي. قَالَ: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ زَادَ مُسْلِمٌ «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ.» (883) [مَسْأَلَةٌ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ] (885) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، أَوْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ - وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ -، أَوْ الرُّكُوعَ، أَوْ الِاعْتِدَالَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، أَوْ السُّجُودَ، أَوْ الِاعْتِدَالَ بَعْدَ السُّجُودِ، أَوْ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ، أَوْ السَّلَامَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الصَّلَاةِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: وَاجِبٍ، وَمَسْنُونٍ، فَالْوَاجِبُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَسْقُطُ فِي الْعَمْدِ وَلَا فِي السَّهْوِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَالْقِيَامُ، وَالرُّكُوعُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالسُّجُودُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَطْمَئِنَّ؛ وَالتَّشَهُّدُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَالسَّلَامُ، وَتَرْتِيبُ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذِهِ تُسَمَّى أَرْكَانًا لِلصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ فِي عَمْدٍ وَلَا سَهْوٍ. وَفِي وُجُوبِ بَعْضِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَمْ تُصَلِّ وَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ عَلَّمَهُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا بِدُونِهَا. وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ بِالسَّهْوِ، لَسَقَطَتْ عَنْ الْأَعْرَابِيِّ لِكَوْنِهِ جَاهِلًا بِهَا. وَالْجَاهِلُ كَالنَّاسِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 فَأَمَّا بُطْلَانُ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا سَهْوًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ، أَتَى بِهِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ. ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَنَى عَلَيْهَا، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ وَيُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَقَوْلِنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَصْلُ الطَّوِيلُ قَدْرُ رَكْعَةٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي نَسِيَ فِيهَا وَاَلَّذِي قُلْنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَيُرْجَعُ إلَى الْعُرْفِ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ بِالتَّحَكُّمِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَتَى تَرَكَ رُكْنًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى سَلَّمَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ مِنْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةٍ، ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي الصَّلَاةِ، سَجَدَهَا مَتَى ذَكَرَهَا، فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ، سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَعَنْ مَكْحُولٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ فِي الْمُصَلِّي يَنْسَى سَجْدَةً أَوْ رَكْعَةً، يُصَلِّيهَا مَتَى مَا ذَكَرَهَا، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي رَجُلٍ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَذَكَرَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ سَجَدَهَا. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ مَعَ قُرْبِ الْفَصْلِ، أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ الْفَصْلُ، أَتَى بِمَا تَرَكَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَإِذَا تَرَكَ رُكْنًا وَاحِدًا، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِ رَكْعَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِتَطَاوُلِ الْفَصْلِ، أَنَّهُ أَخَلَّ بِالْمُوَالَاةِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ فِي يَوْمٍ ثَانٍ. (884) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَأْتِي بِالرُّكْنِ وَمَا بَعْدَهُ لَا غَيْرُ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ: إذَا كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، قَضَى رَكْعَةً، لَا يَعْتَدُّ بِالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِسَجْدَتَيْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَسْجُدْ مَعَ الرَّكْعَةِ سَجْدَتَيْهَا، وَأَخَذَ فِي عَمَلٍ بَعْدَ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ، قَضَى رَكْعَةً، ثُمَّ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وَإِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ شَأْنِ الصَّلَاةِ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكٌ زَعَمُوا. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ وَسَأَلَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ: " أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ ثُمَّ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ رَكْعَةٍ كَالْحُكْمِ فِي تَرْكِ الرَّكْعَةِ بِكَمَالِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (885) فَصْلٌ: وَتَخْتَصُّ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مِنْ بَيْنِ الْأَرْكَانِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ بِتَرْكِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» . وَلَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِهَا. وَيَخْتَصُّ الْقِيَامُ بِسُقُوطِهِ فِي النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ، فَسَقَطَ فِي النَّافِلَةِ، مُبَالَغَةً فِي تَكْثِيرِهَا، كَمَا سَقَطَ التَّوَجُّهُ فِيهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، مُبَالَغَةً فِي تَكْثِيرِهَا. وَتَخْتَصُّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بِسُقُوطِهَا عَنْ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ إمَامِهِ لَهُ قِرَاءَةٌ. وَيَخْتَصُّ السَّلَامُ بِأَنَّهُ إذَا نَسِيَهُ أَتَى بِهِ خَاصَّةً. [مَسْأَلَة سُجُود السَّهْو] (886) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرِ - غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ -، أَوْ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ، أَوْ التَّسْبِيحِ فِي السُّجُودِ، أَوْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَوْ قَوْلِ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، أَوْ رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي، أَوْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، أَوْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ عَامِدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ سَاهِيًا أَتَى بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَفِي وُجُوبِهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْأُخْرَى، لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ مِنْهَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَمَّهُ إلَى الْأَرْكَانِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِهَا فِيمَا مَضَى، وَذَكَرْنَا حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّهُ لَا تَتِمُّ الصَّلَاةُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَرْفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وَحُكْمُ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ - إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا - أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا وَجَبَ عَلَيْهِ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَامَ إلَى ثَالِثَةٍ وَتَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ، حَتَّى إذَا جَلَسَ لِلتَّسْلِيمِ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ. فِي حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ. وَلَوْلَا أَنَّ التَّشَهُّدَ سَقَطَ بِالسَّهْوِ لَرَجَعَ إلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَمَا سَجَدَ جَبْرًا لِنِسْيَانِهِ، وَغَيْرُ التَّشَهُّدِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَمُشَبَّهٌ بِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادَةِ وَاجِبَاتٌ يَتَخَيَّرُ إذَا تَرَكَهَا، وَأَرْكَانٌ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِدُونِهَا، كَالْحَجِّ فِي وَاجِبَاتِهِ وَأَرْكَانِهِ. (887) فَصْلٌ: وَضَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَلَامِهِ، وَالتَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِوَاجِبَتَيْنِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي عَدَدِ الْوَاجِبَاتِ. وَيَخْتَصُّ «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» بِالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَفِي الْمُنْفَرِدِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَخْتَصُّ قَوْلُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمَشْرُوعِ فِي الصَّلَاةِ: الْمَسْنُونُ وَهُوَ مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ؛ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالرُّكُوعُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَوَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَحَطُّهَا تَحْتَ السُّرَّةِ، وَالنَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ وَالتَّعَوُّذُ، وَقِرَاءَةُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وَقَوْلُ " آمِينَ "، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ فِي مَوَاضِعِهِمَا، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ، وَمَدُّ الظَّهْرِ وَالِانْحِنَاءُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَمَا زَادَ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِمَا، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ فِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ، وَقَوْلُ (مِلْءَ السَّمَاءِ بَعْدَ التَّحْمِيدِ، وَالْبِدَايَةُ بِوَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَرَفْعُهُمَا فِي الْقِيَامِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فِي السُّجُودِ، وَوَضْعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ أَوْ حَذْوَ أُذُنَيْهِ، وَفَتْحُ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ فِيهِ، وَفِي الْجُلُوسِ، وَالِافْتِرَاشُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالتَّوَرُّكُ فِي الثَّانِي، وَوَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْفَخِذِ الْيُمْنَى مَقْبُوضَةً مُحَلَّقَةً، وَالْإِشَارَةُ بِالسَّبَّابَةِ، وَوَضْعُ الْيَدِ الْأُخْرَى عَلَى الْفَخِذِ الْأُخْرَى مَبْسُوطَةً، وَالِالْتِفَاتُ عَلَى الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَالسُّجُودُ عَلَى أَنْفِهِ، وَجَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ، وَنِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَلَامِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِنَّ. وَحُكْمُ هَذِهِ السُّنَنِ جَمِيعِهَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَفِي السُّجُودِ لَهَا عِنْدَ السَّهْوِ عَنْهَا تَفْصِيلٌ، نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ] (888) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ؛ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ، وَالطَّهَارَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَالسُّتْرَةُ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَدُخُولُ الْوَقْتِ، وَالنِّيَّةُ. فَمَتَى أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ. وَتَخْتَصُّ النِّيَّةُ بِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ عَدَمِهَا بِحَالٍ لَا فِي حَقِّ مَعْذُورٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَيَخْتَصُّ الْوَقْتُ بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ. وَكُلُّ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ وَقْتٌ فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ وَقْتِهِ، إلَّا الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، تُفْعَلُ فِي وَقْتِ الْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ، إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا. وَبَقِيَّةُ الشُّرُوطِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، عَلَى تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مَوَاضِعِهِ، فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ يُسْتَحَبّ لِلْمُصَلَّيْ أَنْ يَنْظُر إلَى مَوْضِع سُجُوده] فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَجْعَلَ نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ: أَنْ يَجْعَلَ نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَقَتَادَةَ، وَحُكِيَ عَنْ شَرِيكٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَنْظُرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي رُكُوعِهِ إلَى قَدَمَيْهِ، وَفِي حَالِ سُجُودِهِ إلَى أَنْفِهِ، وَفِي حَالِ التَّشَهُّدِ إلَى حِجْرِهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ، فِي الْأَفْرَادِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَجْعَلُ بَصَرِي فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: مَوْضِعَ سُجُودِكَ. قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ذَلِكَ لَشَدِيدٌ، إنَّ ذَلِكَ لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: فَفِي الْمَكْتُوبَةِ إذًا» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّجَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَيُرَاوِحَ بَيْنَهُمَا إذَا طَالَ جُلُوسُهُ، يَعْتَمِدُ عَلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَعَلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَلَا يُكْثِرُ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: رَأَى عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا يُصَلِّي صَافًّا بَيْنَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: لَوْ رَاوَحَ هَذَا بَيْنَ قَدَمَيْهِ كَانَ أَفْضَلَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَلَوْ رَاوَحَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُفَرِّجُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَرَأَيْته يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَالْحَسَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِنْدَ طُولِ الْقِيَامِ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ، قَالَ: إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يُقِلَّ فِيهِ التَّحْرِيكَ، وَأَنْ يَعْتَدِلَ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْسَانًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَإِنَّهُ يَطُولُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوَكُّؤِ عَلَى هَذِهِ مَرَّةً وَعَلَى هَذِهِ مَرَّةً. [فَصْلٌ تَرَكَ شَيِّئْ مِنْ سُنَن الصَّلَاة] (890) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ.» مِنْ الصِّحَاحِ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَفِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ الصَّلَاةِ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، قَالَ: «ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ.» قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إلَى الشِّعْبِ يَحْرُسُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالِالْتِفَاتِ إلَّا أَنْ يَسْتَدِيرَ بِجُمْلَتِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ، أَوْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الِالْتِفَاتَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ يَسِيرًا. وَيُكْرَهُ رَفْعُ الْبَصَرِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَنَسًا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يُلْهِيهِ، أَوْ يَنْظُرَ فِي كِتَابٍ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ. فَقَالَ: شَغَلَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّي وَيَدُهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُتَخَصِّرًا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ زِيَادِ بْنِ صُبَيْحٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: «صَلَّيْت إلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى خَاصِرَتَيَّ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَذَا الصَّلْبُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ مَعْقُوصٌ أَوْ مَكْتُوفٌ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي، وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَامَ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لَك وَرَأْسِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: إنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ.» وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُفَّ شَعَرَهُ وَثِيَابَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلَا أَكُفَّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ التَّشْبِيكُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصَابِعِهِ.» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مُشَبِّكٌ يَدَيْهِ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وَيُكْرَهُ فَرْقَعَةُ الْأَصَابِعِ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَك وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدِهِ فِي الْجُلُوسِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ.» وَيُكْرَهُ مَسْحُ الْحَصَا؛ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ، فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَا» . وَعَنْ مُعَيْقِيبٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْحِ الْحَصَا فِي الصَّلَاةِ: إنْ كُنْت فَاعِلًا فَمَرَّةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد. وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ كُلُّهُ، وَمَا يَشْغَلُ عَنْ الصَّلَاةِ وَيَذْهَبُ بِخُشُوعِهَا، وَقَدْ رُوِيَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَرَاهَةِ هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا، وَمِمَّنْ كَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ، وَنُقِلَ كَرَاهَةُ بَعْضِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُلْصِقَ إحْدَى قَدَمَيْهِ بِالْأُخْرَى فِي حَالِ قِيَامِهِ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْت مَعَ أَبِي فِي الْمَسْجِدِ، فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي، قَدْ صَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَأَلْزَقَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَقَالَ أَبِي: لَقَدْ أَدْرَكْت فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ هَذَا قَطُّ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُفَرِّجُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَلَا يَمَسُّ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، لَا يُقَارِبُ وَلَا يُبَاعِدُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ وَقَالَ: هُوَ فِعْلُ الْيَهُودِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُغْمِضْ عَيْنَيْهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْثِرَ الرَّجُلُ مَسْحَ جَبْهَتِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ يُكْثِرَ الرَّجُلُ مَسْحَ جَبْهَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا. وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ مِنْ الْجَفَاءِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا تَمْسَحْ جَبْهَتَكَ. وَلَا تَنْفُخْ، وَلَا تُحَرِّكْ الْحَصَا. وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وَكَرِهَ أَحْمَدُ التَّرَوُّحَ فِي الصَّلَاةِ، إلَّا مِنْ الْغَمِّ الشَّدِيدِ. وَبِذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَمَالِكٌ. وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ. وَكُرِهَ التَّمَيُّلُ فِي الصَّلَاةِ. لِمَا رَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَكِّنْ أَطْرَافَهُ. وَلَا يَتَمَيَّلْ مِثْلَ الْيَهُودِ» . وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِعْلًا، كَالْعَبَثِ، وَفَرْقَعَةِ الْأَصَابِعِ، إذَا كَثُرَ مُتَوَالِيًا، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. [فَصْلٌ عَدِّ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ] (891) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِعَدِّ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ. وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَدِّ الْآيِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَطَاوُسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ خُشُوعِ الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَلَنَا: أَنَّهُ إجْمَاعٌ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْتَشِرُ وَلَا يَخْفَى، فَيَكُونُ، إجْمَاعًا. وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ عَدَّ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَمَّنْ ذَكَرْنَاهُمْ عَدُّ الْآيِ قَالَ أَحْمَدُ أَمَّا عَدُّ الْآيِ فَقَدْ سَمِعْنَا، وَأَمَّا عَدُّ التَّسْبِيحِ فَمَا سَمِعْنَا. وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى بِعَدِّ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ بَأْسًا. وَكَرِهَ أَنْ يَحْسُبَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا سِوَاهُ. وَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ لِأَنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ» رَوَاهُ الدِّيرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، رِيشَةً حَسِبَهَا عَقْرَبًا، فَضَرَبَهَا بِنَعْلِهِ. فَأَمَّا الْقَمْلُ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى التَّغَافُلُ عَنْهُ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَالْبَرَاغِيثَ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَكَانَ عُمَرُ يَقْتُلُ الْقَمْلَ فِي الصَّلَاةِ، رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَإِذَا تَثَاءَبَ فِي الصَّلَاةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَكْظِمَ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» مِنْ الصِّحَاحِ. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وَإِذَا بَدَرَهُ الْبُصَاقُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ بَصَقَ فِي ثَوْبِهِ وَيَحُكُّ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ يَبْصُقُ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا. وَوَصَفَ الْقَاسِمُ: فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَلَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَجِئْتُ فَاسْتَفْتَحْتُ، فَمَشَى، فَفَتَحَ لِي، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مُصَلَّاهُ» وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي بِحَاجَةٍ فَأَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يُشِيرُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إلَيَّ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ إنَّك سَلَّمْتَ عَلَيَّ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي» وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَوَالَى وَيَكْثُرَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 [بَابُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ] [مَسْأَلَةٌ سَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يُحْفَظُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةُ أَشْيَاءَ؛ سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَسَجَدَ، وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ فَسَجَدَ وَفِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَقَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْخَمْسَةُ يَعْنِي حَدِيثَيْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ بُحَيْنَةَ (892) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَمَنْ سَلَّمَ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ، أَتَى بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ. كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ سَاهِيًا ثُمَّ عَلِمَ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ وَنَقْضِ وُضُوئِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ، ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَامَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْلِسَ لِيَنْهَضَ إلَى الْإِتْيَانِ بِمَا بَقِيَ عَنْ جُلُوسٍ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقِيَامَ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ قَاصِدًا لَهَا، فَكَانَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ نَسِيَ رَكْعَةً فَمَا زَادَ اخْتِلَافًا وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ - قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ أَنَا نَسِيتُ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ فَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ قَالَ لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تُقْصَرْ، فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ. قَالَ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ: ثُمَّ سَلَّمَ» ؟ قَالَ: فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ قَالَ: قُلْت فَالتَّشَهُّدُ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي التَّشَهُّدِ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَشَهَّدَ وَرَوَى مُسْلِمٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ «سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ الْعَصْرِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ فَقَامَ رَجُلٌ بَسِيطُ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَخَرَجَ مُغْضَبًا فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذُو الْيَدَيْنِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 (893) فَصْلٌ: فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، أَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ ذَكَرَ قَرِيبًا مِثْلَ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ، وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَبْنِي، مَا لَمْ يَنْقُضْ وُضُوءَهُ وَلَنَا، أَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ، كَمَا لَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ. وَيُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ وَعَنْهُ يُعْتَبَرُ قَدْرُ رَكْعَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ مُضِيِّ الصَّلَاةِ الَّتِي نَسِيَ فِيهَا. وَالصَّحِيحُ لَا حَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ وَالْمُقَارَبَةِ لِمِثْلِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ (894) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى نَظَرْت فَإِنْ كَانَ مَا عَمِلَ فِي الثَّانِيَةِ قَلِيلًا، وَلَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، عَادَ إلَى الْأُولَى فَأَتَمَّهَا. وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ الْأُولَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْمُبْهِجِ: يَجْعَلُ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ تَمَامًا لِلْأُولَى، فَيَبْنِي إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَيَكُونُ وُجُودُ السَّلَامِ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ سَهْوٌ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا شَرَعَ فِيهِ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا وَقَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَشَرَعَ فِي تَطَوُّعٍ يُبْطِلُ الْمَكْتُوبَةَ قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَبْتَدِئَهَا وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ فِي التَّطَوُّعِ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ؛ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ سَهْوًا، فَلَمْ تَبْطُلْ، كَمَا لَوْ زَادَ خَامِسَةً. وَأَمَّا بِنَاءُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْأُولَى وَلَمْ يَنْوِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَنِيَّةُ غَيْرِهَا لَا تُجْزِئُ عَنْ نِيَّتِهَا، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ [مَسْأَلَة كَانَ إمَامًا فَشَكَّ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى] (895) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ إمَامًا فَشَكَّ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ تَحَرَّى، فَبَنَى عَلَى أَكْثَرِ وَهْمِهِ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ " عَلَى أَكْثَرِ وَهْمِهِ " أَيْ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَلَّاهُ وَهَذَا فِي الْإِمَامِ خَاصَّةً، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ. كَالْمُنْفَرِدِ سَوَاءً، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامَ الْأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ وَالِاثْنَتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهُمَا وَاحِدَةً، حَتَّى يَكُونَ الْوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُسَلِّمْ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِمَا شَكَّ فِيهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَوْ لَا، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي الْإِرْشَادِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى فِي الْمُنْفَرِدِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَالْإِمَامِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ مَنْ قَالَ: بَيْنَ التَّحَرِّي وَالْيَقِينِ فَرْقٌ. أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَيَقُولُ إذَا لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ، جَعَلَهَا اثْنَتَيْنِ. قَالَ: فَهَذَا عَمِلَ عَلَى الْيَقِينِ، فَبَنَى عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي يَتَحَرَّى يَكُونُ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا، فَيَدْخُلُ قَلْبَهُ شَكٌّ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى اثْنَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مَا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا، وَقَدْ دَخَلَ قَلْبَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا يَتَحَرَّى أَصْوَبَ ذَلِكَ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ فَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ. فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ إنَّمَا يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ وَمَتَى كَانَ لَهُ غَالِبُ ظَنٍّ، عَمِلَ عَلَيْهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِنَحْوِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَقَالَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، إنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ مَا أَصَابَهُ، أَعَادَ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ» وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ: " بَعْدَ التَّسْلِيمِ ". وَفِي لَفْظٍ: " فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ " وَفِي لَفْظٍ: (فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ لِلصَّوَابِ) . وَفِي لَفْظٍ " فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ ". رَوَاهُ كُلَّهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، قَالَ: (إذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ، فَشَكَكْتَ فِي ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَأَكْثَرُ ظَنِّكَ عَلَى أَرْبَعٍ تَشَهَّدْتَ، ثُمَّ سَجَدْتَ سَجْدَتَيْنِ وَأَنْتَ جَالِسٌ) . فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَنْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ لَهُ رَأْيٌ وَظَنٌّ يَعْمَلُ بِظَنِّهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَعَمَلًا بِهِمَا فَيَكُونُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الظَّنَّ دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَاخْتَارَ الْخِرَقِيِّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فَجَعَلَ الْإِمَامَ يَبْنِي عَلَى الظَّنِّ، وَالْمُنْفَرِدَ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَذْهَبِ نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ فِي حَقِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 الْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ وَيُذَكِّرُهُ إذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ، فَلْيَعْمَلْ بِالْأَظْهَرِ عِنْدَهُ، فَإِنْ أَصَابَ أَقَرَّهُ الْمَأْمُومُونَ، فَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ صَوَابُ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ سَبَّحُوا بِهِ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، فَيَجْعَلُ لَهُ الصَّوَابَ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ، إذْ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُهُ، فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، لِيَحْصُلَ لَهُ إتْمَامُ صَلَاتِهِ، وَلَا يَكُونَ مَغْرُورًا بِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ» . وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْإِمَامِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهَا. فَإِنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ أَيْضًا. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى مَنْ لَا ظَنَّ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ لَهُ ظَنُّ. فَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ فَصَلَّى، جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبْطِلْهَا، كَمَا لَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (لَا غِرَارَ) . يَعْنِي لَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ فِي شَكٍّ مِنْ تَمَامِهَا، وَمَنْ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ لَمْ يَبْقَ فِي شَكٍّ مِنْ تَمَامِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ فَوَافَقَهُ الْمَأْمُومُونَ، أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ غَلَطَهُ، فَلَا شَكَّ عِنْدَهُ. (896) فَصْلٌ: وَمَتَى اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَأَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، لِمُعَارَضَتِهِ الظَّنَّ الْغَالِبَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ. [فَصْلٌ سَهَا الْإِمَامُ فَأَتَى بِفِعْلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ] (897) فَصْلٌ: وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ فَأَتَى بِفِعْلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، لَزِمَ الْمَأْمُومِينَ تَنْبِيهُهُ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا سَبَّحُوا بِهِ، وَإِنْ كَانُوا نِسَاءً صَفَّقْنَ بِبُطُونِ أَكُفِّهِنَّ عَلَى ظُهُورِ الْأُخْرَى، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَنْبِيهَ الْآدَمِيِّ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الْإِشَارَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابُ آدَمِيٍّ، وَقَدْ رَوَى أَبُو غَطَفَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فِي الصَّلَاةِ إشَارَةً تُفْقَهُ أَوْ تُفْهَمُ فَقَدْ قَطَعَ الصَّلَاةَ» . وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَابَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ شَيْءٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وَلْتُصَفِّقْ النِّسَاءُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: قُلْت لِبِلَالٍ:: «كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ» وَعَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: «مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ إشَارَةً. وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إشَارَةً بِإِصْبَعِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ مَالِكٍ فَفِي حَقِّ الرِّجَالِ، فَإِنَّ حَدِيثَنَا يُفَسِّرُهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَزِيَادَةَ بَيَانٍ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ فَضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ أَبُو غَطَفَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ (898) فَصْلٌ: إذَا سَبَّحَ بِهِ اثْنَانِ يَثِقُ بِقَوْلِهِمَا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خِلَافُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خَطَؤُهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، كَالْحَاكِمِ إذَا نَسِيَ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ، فَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ. وَلَنَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، لَمَّا سَأَلَهُمَا: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ» . مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَكِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ، لِيُذَكِّرُوا الْإِمَامَ، وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فَزَادَ أَوْ نَقَصَ، إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» . يَعْنِي بِالتَّسْبِيحِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَكَذَا نَقُولُ فِي الْحَاكِمِ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صَوَابِهِ، وَخَطَإِ الْمَأْمُومِينَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِمْ، كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ. وَيَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ خَطَأَهُمْ فَلَا يَتَّبِعُهُمْ فِي الْخَطَأِ. وَكَذَا نَقُولُ فِي الشَّاهِدَيْنِ: مَتَى عَلِمَ الْحَاكِمُ كَذِبَهُمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَاهِدَا زُورٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الزُّورِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْعَدَالَةُ فِي الشَّهَادَةِ لِيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الشُّهُودِ، وَرُدَّتْ شَهَادَةُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُمْ، فَمَعَ يَقِينِ الْعِلْمِ بِالْكَذِبِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا سَبَّحَ بِهِ الْمَأْمُومُونَ فَلَمْ يَرْجِعْ، فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَيْسَ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ، فَإِنْ اتَّبَعُوهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوْ جَاهِلِينَ بِهِ، فَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ عَمْدًا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 إحْدَاهَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مُتَابَعَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ انْتِظَارُهُ، إنْ كَانَ نِسْيَانُهُ فِي زِيَادَةٍ يَأْتِي بِهَا، وَإِنْ فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. وَالثَّانِيَةُ: يُتَابِعُونَهُ فِي الْقِيَامِ، اسْتِحْسَانًا. وَالثَّالِثَةُ: لَا يُتَابِعُونَهُ، وَلَا يُسَلِّمُونَ قَبْلَهُ، لَكِنْ يَنْتَظِرُونَهُ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخْطِئٌ فِي تَرْكِ مُتَابَعَتِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْخَطَأِ. الْحَالُ الثَّانِي: إنْ تَابَعُوهُ جَهْلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَابَعُوهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَفِي الْخَامِسَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّك صَلَّيْتَ رَكَعَاتٍ ثَلَاثًا. قَالَ أَكَذَاكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَرَجَعَ فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ صَلَّى بِنَا عَلْقَمَةُ الظُّهْرَ خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ الْقَوْمُ: يَا أَبَا شِبْلٍ، قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا. قَالَ: كَلًّا، مَا فَعَلْتُ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: وَكُنْتُ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْت: بَلَى قَدْ صَلَّيْت خَمْسًا. قَالَ لِي: يَا أَعْوَرُ، وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا؟ قُلْت: نَعَمْ. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. فَلَمْ يَأْمُرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ لَمْ تَبْطُلْ بِمُتَابَعَتِهِمْ. وَمَتَى عَمِلَ الْإِمَامُ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، فَسَبَّحَ بِهِ الْمَأْمُومُونَ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ، عَنْ رَجُلٍ جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَقَامَ، مَتَى يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ فَقَالَ: قَبْلَ السَّلَامِ. (899) فَصْلٌ: فَإِنْ سَبَّحَ بِالْإِمَامِ وَاحِدٌ لَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِهِ، إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَيَعْمَلَ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، لَا بِتَسْبِيحِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ، فَإِنْ سَبَّحَ فُسَّاقٌ لَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَإِنْ افْتَرَقَ الْمَأْمُومُونَ طَائِفَتَيْنِ، وَافَقَهُ قَوْمٌ وَخَالَفَهُ آخَرُونَ، سَقَطَ قَوْلُهُمْ؛ لِتَعَارُضِهِمْ، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا. وَمَتَى لَمْ يَرْجِعْ، وَكَانَ الْمَأْمُومُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ خَطَأِ الْإِمَامِ، لَمْ يُتَابِعْهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَهُ هَاهُنَا، لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ، صَحِيحَةٌ، لَمْ تَفْسُدْ بِزِيَادَةٍ، فَيَنْتَظِرُهُ كَمَا يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. [مَسْأَلَة سُجُود السَّهْوِ قَبْل السَّلَامِ أُمّ بَعْده] (900) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ السَّهْوِ فَسُجُودُهُ قَبْلَ السَّلَامِ، مِثْلُ الْمُنْفَرِدِ إذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَبَنَى عَلَى الْيَقِينِ، أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، أَوْ جَهَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 فِي مَوْضِعِ تَخَافُتٍ، أَوْ خَافَتَ فِي مَوْضِعِ جَهْرٍ، أَوْ صَلَّى خَمْسًا، أَوْ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ السُّجُودَ كُلَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، إلَّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ وَرَدَ النَّصُّ بِسُجُودِهِمَا بَعْدَ السَّلَامِ، وَهُمَا إذَا سَلَّمَ مِنْ نَقْصٍ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ تَحَرَّى الْإِمَامُ، فَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَمَا عَدَاهُمَا يَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ. نَصَّ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: أَنَا أَقُولُ، كُلُّ سَهْوٍ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَسْجُدُ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَسَائِرُ السُّجُودِ يَسْجُدُ فِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ، هُوَ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَيَقْضِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ. ثُمَّ قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي غَيْرِهَا قَبْلَ السَّلَامِ. قُلْت: اشْرَحْ الثَّلَاثَةَ مَوَاضِعَ الَّتِي بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ: سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، هَذَا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ. وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، هَذَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَوْضِعِ التَّحَرِّي سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَنْ سَهَا فَصَلَّى خَمْسًا، هَلْ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ يَسْجُدُ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَبِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ السُّجُودَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ. وَلِأَنَّهُ تَمَامُ الصَّلَاةِ وَجَبْرٌ لِنَقْصِهَا، فَكَانَ قَبْلَ سَلَامِهَا كَسَائِرِ أَفْعَالِهَا. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ. وَمَا كَانَ مِنْ زِيَادَةٍ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ شَكَكْتَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِك مِنْ نُقْصَانٍ، مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَاسْتَقْبِلْ أَكْثَرَ ظَنِّكَ، وَاجْعَلْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ فَاجْعَلْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: سُجُودُ السَّهْوِ كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلَهُ فِعْلُهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ. يُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّحَرِّي. وَرَوَى ثَوْبَانُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَبَعْدَهُ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَمَلٌ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَجَمْعٌ بَيْنَهَا، مِنْ غَيْرِ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِمُعَارِضٍ مِثْلِهِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي سُجُودِهِ، بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ قَبْلَهُ، فِي صُورَةٍ، مَا يَنْفِي سُجُودَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَذِكْرُ نَسْخِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ رَاوِيَيْهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ هِجْرَتُهُمَا مُتَأَخِّرَةٌ. وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ لَا يَقْتَضِي نَسْخًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِوُقُوعِ السَّهْوِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِيمَا سُجُودُهُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ رَاوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ ضَعْفٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ جَعْفَرٍ فِيهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى] (901) فَصْلٌ فِي تَفْصِيلِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلُهُ (مِثْلُ الْمُنْفَرِدِ إذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَبَنَى عَلَى الْيَقِينِ) . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ صَلَّاهُ مِنْ الرَّكَعَاتِ، فَيُتِمُّ عَلَيْهِ، وَيُلْغِي مَا شَكَّ فِيهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الثِّنْتَيْنِ وَالْوَاحِدَةِ، فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، وَإِذَا شَكَّ فِي الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، فَلْيَجْعَلْهُمَا ثِنْتَيْنِ، وَإِذَا شَكَّ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ لِيُتِمَّ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ. ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ هَكَذَا وَسَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خِلَافُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَهْمُ مِثْلَ الْوَسْوَاسِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى إذَا كَثُرَ السَّهْوُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْوَسْوَاسِ، لَهَا عَنْهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْمُنْفَرِدِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْحُكْمُ فِي الْإِمَامِ إذَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، أَنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ كَالْمُنْفَرِدِ. وَإِذَا تَحَرَّى الْمُنْفَرِدُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ [فَصْلٌ قَامَ الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَام] (902) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ ". أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا يُسْجَدُ لَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ يَقْعُدَانِ فِي الشَّيْءِ يُقَامُ فِيهِ، وَيَقُومَانِ فِي الشَّيْءِ يُقْعَدُ فِيهِ، فَلَا يَسْجُدَانِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَقَالَ: «إذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ سَهْوٌ فَسَجَدَ لَهُ كَغَيْرِهِ، مَعَ مَا نَذْكُرُهُ فِي تَفْصِيلِ الْمَسَائِلِ. فَأَمَّا الْقِيَامُ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ، فَفِي ثَلَاثِ صُوَرٍ: إحْدَاهَا، أَنْ يَتْرُكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَيَقُومَ،، وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ (903) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، ذِكْرُهُ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا، فَيَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى التَّشَهُّدِ. وَمِمَّنْ قَالَ يَجْلِسُ عَلْقَمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ فَارَقَتْ أَلْيَتَاهُ الْأَرْضَ مَضَى. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: إذَا تَجَافَتْ رُكْبَتَاهُ عَنْ الْأَرْضِ مَضَى. وَلَنَا، مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا، فَلَا يَجْلِسْ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ ذَكَرَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي رُكْنٍ مَقْصُودٍ. فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقْ أَلْيَتَاهُ الْأَرْضَ. (904) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذِكْرُهُ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا، وَقَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَجْلِسَ، وَإِنْ جَلَسَ جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ. النَّخَعِيُّ: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَسْتَفْتِحْ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: إنْ ذَكَرَ سَاعَةَ يَقُومُ جَلَسَ. وَلَنَا، حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ، وَمَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي رُكْنٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي رُكْنٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ (905) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ، وَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عُمَرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ. يَرْجِعُ مَا لَمْ يَرْكَعْ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَعَلَيْهِ الْجُلُوسُ، فَسُبِّحَ بِهِ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، حَتَّى إذَا جَلَسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 يُسَلِّمُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هَذَا. وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي رُكْنٍ مَقْصُودٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الرُّكُوعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنُ بُحَيْنَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [فَصْلٌ إذَا عِلْم الْمَأْمُومُونَ بِتَرْكِهِ التَّشَهُّد الْأَوَّل قَبْلَ قِيَامهمْ وَبَعْدَ قِيَام إمَامهمْ] (906) فَصْلٌ: إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ بِتَرْكِهِ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، قَبْلَ قِيَامِهِمْ، وَبَعْدَ قِيَامِ إمَامِهِمْ، تَابَعُوهُ فِي الْقِيَامِ، وَلَمْ يَجْلِسُوا لِلتَّشَهُّدِ. حَكَاهُ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَهَا عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَقَامَ، قَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، نَهَضُوا فِي الثَّانِيَةِ عَنْ الْجُلُوسِ، فَسَبَّحُوا بِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى مَنْ سَبَّحَ بِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ بِالْقِيَامِ، فَقَامُوا. قَالُوا وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ مَعَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ، أَخْبَرَنَا: الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عُلَاثَةَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَسَبَّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ قُومُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ مُضَرَ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: أُوهِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَعْدَةِ، فَسَبَّحُوا بِهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ هَكَذَا. أَيْ قُومُوا. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ سَعْدٍ. وَرَوَاهُ الْآجُرِّيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُكُمْ تَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ لِكَيْمَا أَجْلِسَ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ السُّنَّةَ، إنَّمَا السُّنَّةُ الَّتِي صَنَعْتُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ بُحَيْنَةَ فَأَمَّا إنْ سَبَّحُوا بِهِ قَبْلَ قِيَامِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ، تَشَهَّدُوا، لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا تَعَيَّنَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُتَابَعَتُهُ فِي تَرْكِهِ. وَلَوْ رَجَعَ إلَى التَّشَهُّدِ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُتَابَعَتُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ. فَأَمَّا الْإِمَامُ، فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا عَمْدًا، أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ نَاسِيًا، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا. وَمَتَى عَلِمَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ، نَهَضَ، وَلَمْ يُتِمَّ الْجُلُوسَ. وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ التَّشَهُّدَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ، وَبَعْدَ قِيَامِ الْمَأْمُومِينَ، وَشُرُوعِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَرَجَعَ، لَزِمَهُمْ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ إلَى وَاجِبٍ، فَلَزِمَهُمْ مُتَابَعَتُهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيَامِهِمْ قَبْلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 [فَصْلٌ نَسِيَ التَّشَهُّدَ دُونَ الْجُلُوسِ لَهُ] (907) فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ دُونَ الْجُلُوسِ لَهُ، فَحُكْمُهُ فِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ حُكْمُ مَا لَوْ نَسِيَهُ مَعَ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ هُوَ الْمَقْصُودُ. فَأَمَّا إنْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ الْوَاجِبَةِ، كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقَوْلِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَقَوْلِ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَحِلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الذِّكْرِ رُكْنٌ قَدْ وَقَعَ مُجْزِئًا صَحِيحًا. فَلَوْ رَجَعَ إلَيْهِ لَكَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ، وَتَكْرَارًا لِرُكْنٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِالذِّكْرِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ زَائِدٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ، وَلَكِنَّهُ يَمْضِي وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِهِ، قِيَاسًا عَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: قَامَ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَجْلِسْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَهَذَا قَدْ تَرَكَ رُكْنَيْنِ؛ جَلْسَةَ الْفَصْلِ، وَالسَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ. فَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَذْكُرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيَلْزَمَهُ الرُّجُوعُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، فَإِذَا رَجَعَ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ جَلْسَةَ الْفَصْلِ، ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ قَدْ حَصَلَ بِالْقِيَامِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْجَلْسَةَ وَاجِبَةٌ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهَا الْقِيَامُ كَمَا لَوْ عَمَدَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ جَلَسَ لِلْفَصْلِ، ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يَسْجُدْ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْجُلُوسُ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ؛ لِيَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ عَنْ جُلُوسٍ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْجَلْسَةِ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِسَهْوٍ بَعْدَهَا كَالسَّجْدَةِ الْأُولَى، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَجَدَ عَقِيبَ الْجُلُوسِ. فَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَجَلَسَ جَلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، لَمْ يَجْزِهِ عَنْ جَلْسَةِ الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهَا هَيْئَةٌ، فَلَا تَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ، ثُمَّ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي تَرْكِ رُكْنٍ غَيْرِ السُّجُودِ مِثْلِ الرُّكُوعِ، أَوْ الِاعْتِدَالِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَتَى ذَكَرَهُ، قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى، فَيَأْتِي بِهِ، ثُمَّ بِمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ. الْحَالُ الثَّانِي: تَرَكَ رُكْنًا؛ إمَّا سَجْدَةً، أَوْ رُكُوعًا، سَاهِيًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، بَطَلَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ الرُّكْنَ مِنْهَا، وَصَارَتْ الَّتِي شَرَعَ فِي قِرَاءَتِهَا مَكَانَهَا. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ قَالَ، الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ لِيُصَلِّيَ أُخْرَى، فَذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا سَجَدَ لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ أَوَّلُ مَا قَامَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ عَمَلَهُ لِلْأُخْرَى، فَإِنَّهُ، يَنْحَطُّ وَيَسْجُدُ، وَيَعْتَدُّ بِهَا. وَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ عَمَلَهُ لِلْأُخْرَى، أَلْغَى الْأُولَى، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُولَى. قُلْت: يَسْتَفْتِحُ أَوْ يُجْزِئُ الِاسْتِفْتَاحُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا يَسْتَفْتِحُ، وَيُجْزِئُهُ الْأَوَّلُ. قُلْت: فَنَسِيَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا يَعْتَدُّ بِتَيْنِكَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ ثَابِتٌ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا ذَكَرَ الرُّكْنَ الْمَتْرُوكَ قَبْلَ السُّجُودِ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَى السَّجْدَةِ الْأُولَى. وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ سُجُودِهِ فِي الثَّانِيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وَقَعَتَا عَنْ الْأُولَى، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى قَدْ صَحَّ فِعْلُهَا، وَمَا فَعَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ - سَهْوًا - لَا يُبْطِلُ الْأُولَى، كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَرَّبَهُ، وَقَالَ: هُوَ أَشْبَهُ. يَعْنِي مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. إلَّا أَنَّهُ اخْتَارَ الْقَوْلَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَرَكَ سَجْدَةً فَذَكَرَهَا قَبْلَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، أَلْغَى الْأُولَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ نَسِيَ سَجْدَةً، ثُمَّ ذَكَرَهَا، سَجَدَهَا فِي الصَّلَاةِ مَتَى مَا ذَكَرَهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَرْجِعُ إلَى حَيْثُ كَانَ مِنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ ذِكْرِهَا، فَيَمْضِي فِيهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، فِي مَنْ نَسِيَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي التَّشَهُّدِ: سَجَدَ فِي الْحَالِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَزْحُومَ فِي الْجُمُعَةِ، إذَا زَالَ الزِّحَامُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُهُ وَيَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَكُونُ السُّجُودُ مِنْ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، كَذَا هَاهُنَا [فَصْلٌ مَضَى الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِع يَلْزَمهُ الرُّجُوع أَوْ رَجَعَ فِي مَوْضِع يَلْزَمهُ الْمُضِيّ] (908) فَصْلٌ: فَإِنْ مَضَى فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، أَوْ رَجَعَ فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَضَى قَبْلَ ذِكْرِ الْمَتْرُوكِ، لَكِنْ إذَا مَضَى فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، فَسَدَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ رُكْنَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَإِنْ رَجَعَ فِي مَوْضِعِ الْمُضِيِّ لَمْ يَعْتَدَّ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي تَرَكَهُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا فَسَدَتْ بِشُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، فَلَمْ يَعُدْ إلَى الصِّحَّةِ بِحَالٍ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: قَامَ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَتَى مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ إلَى زِيَادَةٍ غَيْرِ مُعْتَدٍّ لَهُ بِهَا فَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ السُّجُودِ. وَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِيمَا إذَا صَلَّى خَمْسًا. وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ [فَصْلٌ جَلَسَ الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِعِ قِيَام] (909) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: " أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ " فَهَذَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَجْلِسَ عَقِيبَ الْأُولَى أَوْ الثَّالِثَةِ، يَظُنُّ أَنَّهُ مَوْضِعُ التَّشَهُّدِ أَوْ جَلْسَةِ الْفَصْلِ فَمَتَى مَا ذَكَرَ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَامَ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا مَا لَوْ فَعَلَهُ عَمْدًا أَبْطَلَهَا، فَلَزِمَهُ السُّجُودُ إذَا كَانَ سَهْوًا، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ [فَصْلٌ الزِّيَادَاتُ فِي الصَّلَاة عَلَى ضَرْبَيْنِ زِيَادَةُ أَفْعَالِ وَزِيَادَةُ أَقْوَال] (910) فَصْلٌ: وَالزِّيَادَاتُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ زِيَادَةِ أَفْعَالٍ، وَزِيَادَةِ أَقْوَالٍ: فَزِيَادَاتُ الْأَفْعَالِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا، زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُومَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أَوْ يَجْلِسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، أَوْ يَزِيدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 رَكْعَةً أَوْ رُكْنًا، فَهَذَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ، وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالثَّانِي، مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ كَالْمَشْيِ وَالْحَكِّ وَالتَّرَوُّحِ، فَهَذَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِكَثِيرِهِ، وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَلَا يَسْجُدُ لَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، زِيَادَاتُ الْأَقْوَالِ، وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا. أَحَدُهُمَا، مَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ، كَالسَّلَامِ وَكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِذَا أَتَى بِهِ سَهْوًا فَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، سَجَدَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا، فَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ أَوْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَأْتِيَ بِذِكْرٍ مَشْرُوعٍ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، كَالْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالتَّشَهُّدِ فِي الْقِيَامِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ أَوْ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إذَا فَعَلَهُ سَهْوًا، فَهَلْ يُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا، لَا يُشْرَعُ لَهُ سُجُودٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِعَمْدِهِ، فَلَمْ يُشْرَعْ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ، كَتَرْكِ سُنَنِ الْأَفْعَالِ. وَالثَّانِيَةُ، يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِذَا قُلْنَا: يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ. فَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِغَيْرِ وَاجِبٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَجَبْرِ سَائِرِ السُّنَنِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا السَّهْوُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ السُّجُودُ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ السُّجُودِ. النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا بِذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ فِيهَا، كَقَوْلِهِ " آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " وَقَوْلِهِ فِي التَّكْبِيرِ " اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا " وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى. فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالسُّجُودِ» [فَصْلٌ جَلَسَ فِي غَيْر مَوْضِع التَّشَهُّد قَدْرَ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَة] (911) فَصْلٌ: وَإِذَا جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشَهُّدِ قَدْرَ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ السُّجُودُ، سَوَاءٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قُلْنَا: جَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ، مَسْنُونَةٌ أَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا بِجُلُوسِهِ، إنَّمَا أَرَادَ غَيْرَهَا فَكَانَ سَهْوًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَوْ تَعَمَّدَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، كَالْعَمَلِ الْيَسِيرِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ [فَصْلٌ جَهَرَ الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِعِ تُخَافِت أَوْ خَافَتَ فِي مَوْضِعِ جَهَرَ] (912) فَصْلٌ: قَوْلُهُ أَوْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ تَخَافُتٍ، أَوْ خَافَتَ فِي مَوْضِعِ جَهْرٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِخْفَاتَ - فِي مَوْضِعِهِمَا - مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَهَلْ يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ مِنْ أَجْلِهِ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُشْرَعُ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَسَالِمٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَاكِمُ: لَا سَهْوَ عَلَيْهِ. وَجَهَرَ أَنَسٌ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، فَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِهِ الْيَدَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ يُشْرَعُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْإِمَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِسُنَّةٍ قَوْلِيَّةٍ، فَشُرِعَ السُّجُودُ لَهَا، كَتَرْكِ الْقُنُوتِ وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْقُنُوتِ، وَبِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سُنَّةٌ وَيَسْجُدُ تَارِكُهُ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا كَانَ السُّجُودُ مُسْتَحَبًّا غَيْرَ وَاجِبٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ سَهَا، فَجَهَرَ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ، فَهَلْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؟ قَالَ: أَمَّا عَلَيْهِ فَلَا أَقُولُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إنْ شَاءَ سَجَدَ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُ نَغْمَةٌ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ: وَأَنَسٌ جَهَرَ فَلَمْ يَسْجُدْ. وَقَالَ: إنَّمَا السَّهْوُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ السُّجُودُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِي إنْ سَجَدَ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ جَبْرٌ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَسَائِرِ السُّنَنِ [فَصْلٌ صَلَّى خَمْسًا فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّة] (913) فَصْلٌ: قَوْلُهُ أَوْ صَلَّى خَمْسًا يَعْنِي فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، أَوْ إلَى الرَّابِعَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَوْ إلَى الثَّالِثَةِ فِي الصُّبْحِ، لَزِمَهُ الرُّجُوعُ مَتَى مَا ذَكَرَ، فَيَجْلِسُ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا صَلَاتُهُ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ وَإِنْ كَانَ تَشَهَّدَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ، تَشَهَّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، عَقِيبَ ذِكْرِهِ، وَتَشَهَّدَ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ عَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ السُّجُودِ وَكَانَ جَلَسَ عَقِيبَ الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَيُضِيفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 إلَى الزِّيَادَةِ أُخْرَى، لِتَكُونَ نَافِلَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ بَطَلَ فَرْضُهُ، وَصَارَتْ صَلَاتُهُ نَافِلَةً وَلَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَنَحْوَهُ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، فِي مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا: يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى، فَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ تَطَوُّعًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي مَنْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ «فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَنَا: مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَإِنَّك قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا فَانْفَتَلَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ» . وَفِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ «فَإِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُ كُلَّهُ مُسْلِمٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْلِسْ عَقِيبَ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَلِأَنَّهُ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَامَ عَنْ ثَالِثَةٍ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِهَذَا، وَلَمْ يُضِفْ إلَى الْخَامِسَةِ أُخْرَى. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، فَإِنَّهُ جَعَلَ الزَّائِدَةَ نَافِلَةً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا بِجُلُوسٍ، وَجَعَلَ السَّجْدَتَيْنِ يَشْفَعَانِهَا، وَلَمْ يَضُمَّ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافٌ لِمَا قَالُوهُ، فَقَدْ خَالَفُوا الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا، وَقَوْلُنَا يُوَافِقُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [مَسْأَلَة نَسِيَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ سَهْوِ] (914) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِنْ نَسِيَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ سَهْوٍ وَسَلَّمَ، كَبَّرَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَتَشَهَّدَ، وَسَلَّمَ، مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ تَكَلَّمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ) . الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: (915) الْفَصْلُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولَانِ: إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ، لَمْ يَبْنِ، وَلَمْ يَسْجُدْ. وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، سَقَطَ عَنْهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحْدَثَ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَكَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ الْمَأْمُومُونَ، ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ لِقَوْلِهِ فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ. وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْكَلَامِ وَالِانْصِرَافِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَالسُّجُودُ أَوْلَى (916) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْجُدُ فِيهَا، فَفِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، يَسْجُدُ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ خَرَجَ لَمْ يَسْجُدْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ إلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَالسُّجُودُ أَوْلَى، وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْجُدُ وَإِنْ خَرَجَ وَتَبَاعَدَ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جُبْرَانٌ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ كَجُبْرَانِ الْحَجِّ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إنْ كَانَ لِزِيَادَةٍ وَإِنْ كَانَ لِنَقْصٍ أَتَى بِهِ مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ؛ لِأَنَّهُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَأْتِي بِهِ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ، كَرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَكَمَا لَوْ كَانَ مِنْ نَقْصٍ وَإِنَّمَا ضَبَطْنَاهُ بِالْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الصَّلَاةِ وَمَوْضِعُهَا، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُدَّةُ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ. (917) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَتَى سَجَدَ لِلسَّهْوِ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ سَلَّمَ عَقِبَهُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ تَشَهَّدَ، وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ مَحِلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ فَنَسِيَهُ إلَى مَا بَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ وَقَالَ أَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَشَهُّدٌ وَلَا تَسْلِيمٌ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِمَا تَسْلِيمٌ بِغَيْرِ تَشَهُّدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: التَّسْلِيمُ فِيهِمَا ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَفِي ثُبُوتِ التَّشَهُّدِ نَظَرٌ وَعَنْ عَطَاءٍ: إنْ شَاءَ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ. وَلَنَا، عَلَى التَّكْبِيرِ قَوْلُ ابْنِ بُحَيْنَةَ: «فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، كَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ.» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ. وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فَقَدْ ذَكَرَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فِي حَدِيثِهِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ فِيهِ «سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمَ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يُسَلِّمُ لَهُ، فَكَانَ مَعَهُ تَشَهُّدٌ، كَسُجُودِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 صُلْبِ الصَّلَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ التَّشَهُّدُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَشَهُّدٍ، وَهُمَا أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ مُفْرَدٌ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ تَشَهُّدٌ، كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ [فَصْلٌ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ حَتَّى طَالَ الْفَصْلُ] (918) فَصْلٌ: وَإِذَا نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ حَتَّى طَالَ الْفَصْلُ، لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي السُّجُودِ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ. وَلَنَا، أَنَّهُ جَابِرٌ لِلْعِبَادَةِ بَعْدَهَا، فَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ كَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَاةِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَلَمْ تَفْسُدْ بِتَرْكِهِ، كَالْأَذَانِ (919) فَصْلٌ: وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ مَا يَقُولُ فِي سُجُودِ صُلْبِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ سُجُودٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ سُجُودَ صُلْبِ الصَّلَاةِ [فَصْلٌ نَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى] (920) فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، سَجَدَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، إنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَسْجُدْ وَإِلَّا سَجَدَ. [فَصْلٌ سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَاجِبِ] (921) فَصْلٌ: وَسُجُودُ السَّهْوِ لِمَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَلَعَلَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي شُرِعَ السُّجُودُ لِجَبْرِهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَيَكُونُ جَبْرُهَا غَيْرَ وَاجِبٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ» . وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَفَعَلَهُ، وَقَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلُهُ " نَافِلَةً " يَعْنِي أَنَّ لَهُ ثَوَابًا فِيهِ كَمَا أَنَّهُ سَمَّى الرَّكْعَةَ أَيْضًا نَافِلَةً وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّاهِي بِلَا خِلَافٍ. فَأَمَّا الْمَشْرُوعُ لِمَا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ فَغَيْرُ وَاجِبٍ قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا يَجِبُ السُّجُودُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَنَقِيسُ عَلَى زِيَادَةِ خَامِسَةٍ سَائِرَ زِيَادَاتِ الْأَفْعَالِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ تَرْكَ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ نُقْصَانٍ زِيَادَاتِ الْأَقْوَالِ الْمُبْطِلَةِ عَمْدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 (922) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَمْدًا؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا. وَإِنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ بَعْدَ السَّلَامِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِلْعِبَادَةِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ كَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَحِلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ قَبْلَهُ، فَنَسِيَهُ، فَصَارَ بَعْدَ السَّلَامِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، فَنَقَلَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ فِي مَنْ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ فِي سَهْوٍ خَفِيفٍ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ قُلْت: فَإِنْ كَانَ فِيمَا سَهَا فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: هَاهْ. وَلَمْ يُجِبْ، فَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُعِيدَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي السَّهْوِ، فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى [مَسْأَلَة نَسِيَ أَرْبَع سَجَدَات مِنْ أَرْبَع رَكَعَات وَذَكَر وَهُوَ فِي التَّشَهُّد] (923) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِنْ نَسِيَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَذَكَرَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ، سَجَدَ سَجْدَةً تَصِحُّ لَهُ رَكْعَةٌ، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ: كَانَ هَذَا يَلْعَبُ، يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَنْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، بَطَلَتْ، فَلَمَّا شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هَاهُنَا قَبْلَ ذِكْرِ سَجْدَةِ الْأُولَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، وَلَمَّا شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ ذِكْرِ سَجْدَةِ الثَّانِيَةِ، بَطَلَتْ الثَّانِيَةُ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، تَبْطُلُ بِالشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الرَّابِعَةُ، وَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا إلَّا سَجْدَةً فَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ حِينَ ذَكَرَ وَتَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ بَطَلَتْ بِشُرُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَيَبْتَدِئُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَاعِبًا بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى إلْغَاءِ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ بَيْنَ التَّحْرِيمَةِ وَالرَّكْعَةِ الْمُعْتَدِّ بِهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَاغِيَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ لَهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ سَهْوًا قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى، كَانَ عَمَلُهُ فِيهَا لَاغِيًا، فَلَمَّا سَجَدَ فِيهَا، انْضَمَّتْ سَجْدَتُهَا إلَى سَجْدَةِ الْأُولَى، فَكَمَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهَكَذَا الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا رَكْعَةٌ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ أَشْبَهُ بِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَ الرَّأْيِ - قَالَ الْأَثْرَمُ: فَقُلْت لَهُ، فَإِنَّهُ إذًا فِعْلٌ لَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ، لَا عَنْ الْأُولَى. قَالَ: فَكَذَلِكَ أَقُولُ إنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْجُدَ لِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ الصَّحِيحَ، وَأَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَسَّنَهُ، وَإِنَّمَا اعْتَذَرَ عَنْ الْمَصِيرِ إلَيْهِ، لِكَوْنِهِ إنَّمَا نَوَى بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَعْلَهَا عَنْ الْأُولَى، كَمَا لَوْ سَجَدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَحْسِبُ أَنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ يَحْسِبُ أَنَّهُ فِي الْأُولَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَسْجُدُ فِي الْحَالِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، فِيمَنْ نَسِيَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْهَا: يَسْجُدُ فِي الْحَالِ ثَمَانِيَ سَجَدَاتٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الصَّلَاةِ شَرْطٌ فِيهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ نَاسِيًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى سَلَّمَ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُ رَكْعَةٍ تَنْقُصُ سَجْدَةً فَإِذَا سَلَّمَ بَطَلَتْ أَيْضًا. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى بُطْلَانِهَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ [فَصْلٌ تَرَكَ الْمُصَلَّيْ رُكْنًا ثُمَّ ذَكَرِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهُ] (924) فَصْلٌ: وَإِذَا تَرَكَ رُكْنًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهُ، بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ سَجْدَةً لَا يَعْلَمُ أَمِنْ الرَّكْعَةِ. الرَّابِعَةِ أَمْ مِنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا جَعَلَهَا مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ حَسِبَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ، أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ لَا يَعْلَمُ أَمِنْ الرَّكْعَتَيْنِ أَمْ مِنْ رَكْعَةٍ، جَعَلَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيَلْزَمَهُ رَكْعَتَانِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ هُوَ فِيهَا لَا يَعْلَمُ أَرُكُوعٌ هُوَ أَمْ سُجُودٌ، جَعَلَهُ رُكُوعًا؛ لِيَلْزَمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَبِمَا بَعْدَهُ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، يَأْتِي بِمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهَا وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا، فَيَكُونَ مَغْرُورًا بِهَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا إلَّا عَلَى يَقِينٍ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهَا قَدْ تَمَّتْ، وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْأُولَى فَذَكَرَهَا فِي التَّشَهُّدِ، أَتَى بِرَكْعَةٍ وَأَجْزَأَتْهُ وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ غَيْرَهَا، فَنَسِيَ أَنْ يَرْكَعَ فِي الثَّانِيَةِ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرَّابِعَةِ، قَالَ: يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِاَلَّتِي لَمْ يَرْكَعْ فِيهَا، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلْوَهْمِ [فَصْلٌ شَكَّ فِي تَرَكَ رُكْن مِنْ أَرْكَان الصَّلَاة وَهُوَ فِيهَا هَلْ أَخْلُ بِهِ أَوْ لَا] (925) فَصْلٌ: وَإِنْ شَكَّ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِيهَا - هَلْ أَخَلَّ بِهِ أَوْ لَا؟ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ، إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَإِنْ شَكَّ فِي زِيَادَةٍ تُوجِبُ السُّجُودَ، فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا فَلَا يَجِبُ السُّجُودُ بِالشَّكِّ فِيهَا. وَإِنْ شَكَّ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ يُوجِبُ تَرْكُهُ سُجُودَ السَّهْوِ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا سُجُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي الزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَلَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، أَوْ فِي رُكْنٍ ذُكِرَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ احْتِمَالِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ [فَصْلٌ سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرِ مِنْ جِنْس] (926) فَصْلٌ: إذَا سَهَا سَهْوَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ، كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِلْجَمِيعِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 السَّهْوُ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَكَذَلِكَ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلًا لِأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، يَسْجُدُ سُجُودَيْنِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودَانِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ. وَالْآخَرُ بَعْدَهُ، سَجَدَهُمَا فِي مَحِلَّيْهِمَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهَذَانِ سَهْوَانِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَهْوٍ يَقْتَضِي سُجُودًا، وَإِنَّمَا تَدَاخَلَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِاتِّفَاقِهِمَا، وَهَذَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَهَذَا يَتَنَاوَلُ السَّهْوَ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهَا فَسَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ بَعْدَ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ لَهُمَا سُجُودًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ السُّجُودَ أُخِّرَ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، لِيَجْمَعَ السَّهْوَ كُلَّهُ وَإِلَّا فَعَلَهُ عَقِيبَ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْجَبْرِ فَجَبَرَ نَقْصَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَثُرَ، بِدَلِيلِ السَّهْوِ مَرَّاتٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا انْجَبَرَتْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ آخَرَ فَنَقُولُ: سَهْوَانِ. فَأَجْزَأَ عَنْهُمَا سُجُودٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ. وَقَوْلُهُ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ لِكُلِّ سَهْوٍ فِي صَلَاةٍ، وَالسَّهْوُ وَإِنْ كَثُرَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ السَّهْوِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِكُلِّ صَلَاةٍ فِيهَا سَهْوٌ سَجْدَتَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» بَعْدَ السَّلَامِ " هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ السَّلَامِ سُجُودَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَعْنَى الْجِنْسَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا. قَبْلَ السَّلَامِ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَحِلَّيْهِمَا مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَلِكَ سَبَبَاهُمَا وَأَحْكَامُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْجِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَقْصٍ، وَالْآخَرُ مِنْ زِيَادَةٍ وَالْأَوْلَى مَا قُلْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا إذَا اجْتَمَعَا، سَجَدَ لَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَآكَدُ، وَلِأَنَّ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ قَدْ وَجَبَ لِوُجُوبِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ آخَرُ، وَإِذَا سَجَدَ لَهُ، سَقَطَ الثَّانِي؛ لِإِغْنَاءِ الْأَوَّلِ عَنْهُ، وَقِيَامِهِ مَقَامَهُ [فَصْلٌ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ] (927) فَصْلٌ: وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا، فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ نَوَى مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ، وَقُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَسَهَا فِيمَا انْفَرَدَ فِيهِ، وَسَهَا إمَامُهُ فِيمَا تَابَعَهُ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَنْتَهِي قَبْلَ صَلَاةِ إمَامِهِ فَعَلَى قَوْلِنَا هُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَ مَحِلُّهُمَا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْجِنْسَيْنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، يَحْتَمِلُ كَوْنَهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ صَلَّى مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَةً وَدَخَلَ مَعَ مُسَافِرٍ، فَنَوَى مُتَابَعَتَهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ إمَامُهُ قَامَ لِيُتِمَّ مَا عَلَيْهِ، فَقَدْ حَصَلَ مَأْمُومًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فِي وَسَطِ صَلَاتِهِ، مُنْفَرِدًا فِي طَرَفَيْهَا فَإِذَا سَهَا فِي الْوَسَطِ وَالطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا، فَعَلَى قَوْلِنَا إنْ كَانَ مَحِلُّ سُجُودِهِمَا وَاحِدًا فَهِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَحِلُّ السُّجُودِ فَهِيَ جِنْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هِيَ جِنْسَانِ. هَلْ يُجْزِئُهُ لَهَا سَجْدَتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْجُدَ سِتَّ سَجَدَاتٍ، لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ [مَسْأَلَة لَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ سُجُودُ سَهْو] (928) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ سُجُودُ سَهْوٍ، إلَّا أَنْ يَسْهُوَ إمَامُهُ، فَيَسْجُدَ مَعَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَأْمُومَ إذَا سَهَا دُونَ إمَامِهِ، فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحُكِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَامَ عَنْ قُعُودِ إمَامِهِ فَسَجَدَ. وَلَنَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ تَكَلَّمَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُجُودٍ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ سَهْوٌ فَإِنْ سَهَا إمَامُهُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ» . وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ إذَا سَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْهُ وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ سَهَا مَعَهُ، أَوْ انْفَرَدَ الْإِمَامُ بِالسَّهْوِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ أَنَّهُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ، أَوْ بَعْدَهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا فَسَهَا الْإِمَامُ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْهُ فِيهِ، فَعَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَإِسْحَاقُ: يَقْضِي ثُمَّ يَسْجُدُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ، كَقَوْلِنَا، وَبَعْدَهُ، كَقَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ خَارِجٌ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَتَّبِعْ الْإِمَامَ فِيهِ، كَصَلَاةٍ أُخْرَى. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «فَإِنْ سَهَا إمَامُهُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ» وَلِأَنَّ السُّجُودَ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ، كَاَلَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَفَارَقَ صَلَاةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ، غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِهِ فِيهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَتَى قَضَى فَفِي إعَادَةِ السُّجُودِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُعِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ السَّهْوِ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ السُّجُودِ مَعَ الْإِمَامِ كَانَ مُتَابِعًا لَهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا لَزِمَهُ، كَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمَهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ سُجُودَ إمَامِهِ قَدْ كَمَلَتْ بِهِ الصَّلَاةُ فِي حَقِّهِ، وَحَصَلَ بِهِ الْجُبْرَانُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى سُجُودٍ ثَانٍ، كَالْمَأْمُومِ إذَا سَهَا وَحْدَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 السُّجُودَ، سَجَدَ الْمَسْبُوقُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْإِمَامِ مَا يَكْمُلُ بِهِ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ. وَإِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ فِيمَا تَفَرَّدَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، سَجَدَ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُنْفَرِدًا، فَلَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ الْإِمَامُ وَهَكَذَا لَوْ سَهَا، فَسَلَّمَ مَعَ إمَامِهِ، قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، كَالْمُنْفَرِدِ، سَوَاءً [فَصْلٌ غَيْر الْمَسْبُوق إذَا سَهَا إمَامه فَلَمْ يَسْجُد فَهَلْ يَسْجُد الْمَأْمُوم] (929) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ الْمَسْبُوقِ إذَا سَهَا إمَامُهُ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَهَلْ يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَسْجُدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ نَقَصَتْ بِسَهْوِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَنْجَبِرْ بِسُجُودِهِ، فَيَلْزَمُ الْمَأْمُومَ جَبْرُهَا. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَسْجُدُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْقَاسِمِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ إنَّمَا يَسْجُدُ تَبَعًا، فَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ الْإِمَامُ لَمْ يُوجَدْ الْمُقْتَضِي لِسُجُودِ الْمَأْمُومِ. وَهَذَا إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ لِعُذْرٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا، وَكَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَرَى أَنَّ السُّجُودَ وَاجِبٌ، فَهُوَ كَتَارِكِهِ سَهْوًا. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا فَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا السَّلَامُ [فَصْلٌ قَامَ الْمَأْمُومُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَسَجَدَ إمَامُهُ بَعْدَ السَّلَام] (930) فَصْلٌ: إذَا قَامَ الْمَأْمُومُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَسَجَدَ إمَامُهُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَائِمِ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ؛ إنْ سَجَدَ إمَامُهُ قَبْلَ انْتِصَابِهِ قَائِمًا لَزِمَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ انْتَصَبَ قَائِمًا وَلَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ رَجَعَ جَازَ وَإِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا قَامَ لِيَقْضِيَ، إذَا عَلَى الْإِمَامِ سُجُودُ سَهْوٍ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَمِلَ فِي قِيَامِهِ، وَابْتَدَأَ فِي الْقِرَاءَةِ، مَضَى، ثُمَّ سَجَدَ. قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا؟ قَالَ: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَعْمَلْ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا؟ فَقَالَ: إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا، وَأَخَذَ فِي عَمَلِ الْقَضَاءِ، سَجَدَ بَعْدَمَا يَقْضِي. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَامَ عَنْ وَاجِبٍ إلَى رُكْنٍ أَشْبَهَ الْقِيَامَ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ فِيهِ رِوَايَاتٍ ثَلَاثًا. وَهَذَا أَوْلَى، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ سُجُودٌ لِذَلِكَ] (931) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ سُجُودٌ لِذَلِكَ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ، فِي مَنْ أَدْرَكَ وِتْرًا مِنْ صَلَاةِ إمَامِهِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشَهُّدِ وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَاقْضُوا» وَلَمْ يَأْمُرْ بِسُجُودٍ وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ، وَقَدْ فَاتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُ الصَّلَاةِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَضَاهَا وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ سُجُودٌ وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَشَهُّدِهِ، وَلِأَنَّ السُّجُودَ يُشْرَعُ لِلسَّهْوِ، هَاهُنَا وَلِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ، فَلَمْ يَسْجُدْ لِفِعْلِهَا كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. [فَصْلٌ لَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِشَيْءِ فَعَلَّه أَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا] (932) فَصْلٌ: وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْجُدُ لِتَرْكِ التَّشَهُّدِ وَالْقُنُوتِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ الْجَبْرُ بِسَهْوِهِ تَعَلَّقَ بِعَمْدِهِ، كَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ. وَلَنَا، أَنَّ السُّجُودَ يُضَافُ إلَى السَّهْوِ، فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ فِي السَّهْوِ، فَقَالَ «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْجِبَارِ السَّهْوِ بِهِ انْجِبَارُ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي السَّهْوِ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي الْعَمْدِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِزِيَادَةِ رُكْنٍ أَوْ رَكْعَةٍ، أَوْ قِيَامٍ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أَوْ جُلُوسٍ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، وَلَا يُشْرَعُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا تَكَادُ صَلَاةٌ تَخْلُو مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. [فَصْلٌ حُكْمُ النَّافِلَةِ حُكْمُ الْفَرْضِ فِي سُجُودِ السَّهْو] (933) فَصْلٌ: وَحُكْمُ النَّافِلَةِ حُكْمُ الْفَرْضِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ قَالَ: لَا يُشْرَعُ فِي النَّافِلَةِ. وَهَذَا يُخَالِفُ عُمُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ.» وَقَالَ «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَيَسْجُدُ لِسَهْوِهَا كَالْفَرِيضَةِ، وَلَوْ قَامَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِيَامِ إلَى ثَالِثَةٍ فِي الْفَجْرِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْعِرَاقِ كَقَوْلِهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ كَقَوْلِهِ، وَفِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: إنْ ذَكَرَ قَبْلَ رُكُوعِهِ فِي الثَّالِثَةِ جَلَسَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ رُكُوعِهِ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا. وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى» وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ شُرِعَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ حُكْمُهَا مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا صَلَاةُ النَّهَارِ فَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 [فَصْلٌ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَة] (934) فَصْلٌ: وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ لِأَنَّهَا لَا سُجُودَ فِي صُلْبِهَا، فَفِي جَبْرِهَا أَوْلَى وَلَا فِي سُجُودِ تِلَاوَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شُرِعَ لَكَانَ الْجَبْرُ زَائِدًا عَلَى الْأَصْلِ وَلَا فِي سُجُودِ سَهْوٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ هُوَ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ، وَلَوْ سَهَا بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ لَمْ يَسْجُدْ لِذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ الْكَلَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يُبْطَلُ الصَّلَاةَ] (935) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) أَمَّا الْكَلَامُ عَمْدًا، وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَالِمًا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا لِأَمْرٍ يُوجِبُ الْكَلَامَ، فَتَبْطُلَ الصَّلَاةُ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ يُرِيدُ صَلَاحَ صَلَاتِهِ، أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِمُسْلِمٍ: وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا. قَالَ: إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» فَأَمَّا الْكَلَامُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَتَكَلَّمَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ. فَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ " لَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَدَ نَصًّا فِي ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزِيدَ بْنِ أَرْقَمَ، وَلَا يَثْبُتْ حُكْمُ النَّسْخِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ حُكْمُ نَسْخِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ، فَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ بِخِلَافِ النَّاسِي، فَإِنَّ الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ، وَبِخِلَافِ الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْت: يَرْحَمُك اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْت وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُخَرَّجَ هَذَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي كَلَامِ النَّاسِي، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ مِثْلُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَتَكَلَّمَ نَاسِيًا، وَذَلِكَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْسَى أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ؛ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَلَمْ يَأْمُرْ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ بِالْإِعَادَةِ إذْ تَكَلَّمَ جَاهِلًا، وَمَا عُذِرَ فِيهِ بِالْجَهْلِ عُذِرَ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ. وَالثَّانِيَةُ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ أَحَادِيثِ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُسَامَحْ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ، كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَظُنَّ أَنَّ صَلَاتَهُ تَمَّتْ، فَيَتَكَلَّمَ، فَهَذَا إنْ كَانَ سَلَامًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَعَلُوهُ، وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، وَلِأَنَّ جِنْسَهُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَامًا، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، مِثْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الْيَدَيْنِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: يَا غُلَامُ اسْقِنِي مَاءً. فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى مَنْ تَكَلَّمَ نَاسِيًا فِي صَلَاتِهِ يَظُنُّ أَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ، إنْ كَانَ كَلَامُهُ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ الصَّلَاةُ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ كَمَا كَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الْيَدَيْنِ. وَإِذَا قَالَ: يَا غُلَامُ اسْقِنِي مَاءً. أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 شِبْهَهُ أَعَادَ وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ، وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، الزُّبَيْرُ، وَابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ خِلَافَهُ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ الصَّلَاةَ تَفْسُدُ بِكُلِّ حَالٍ. قَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: أَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ الْيَوْمَ وَأَجَابَهُ أَحَدٌ أَعَادَ الصَّلَاةَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. وَقَالَ: عَلَى هَذَا اسْتَقَرَّتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ تَوَقُّفِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ فِي مَنْعِ الْكَلَامِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِالْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ النِّسْيَانِ فَأَشْبَهَ الْمُتَكَلِّمَ جَاهِلًا، وَلِذَلِكَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ؛ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، وَتُخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنْ كَانَ إمَامًا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ غَيْرُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَتَكَلَّمَ مَغْلُوبًا عَلَى الْكَلَامِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَخْرُجَ الْحُرُوفُ مِنْ فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، مِثْلُ أَنْ يَتَثَاءَبَ، فَيَقُولَ: هَاهْ، أَوْ يَتَنَفَّسَ، فَيَقُولَ: آهْ. أَوْ يَسْعُلَ، فَيَنْطِقَ فِي السَّعْلَةِ بِحَرْفَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا أَوْ يَغْلَطَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيَعْدِلَ إلَى كَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، أَوْ يَجِيئَهُ الْبُكَاءُ فَيَبْكِيَ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى رَدِّهِ، فَهَذَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ فَيَجِيئُهُ الْبُكَاءُ فَيَبْكِي، فَقَالَ: إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَقَالَ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَبْكِي، حَتَّى يُسْمَعَ لَهُ نَشِيجٌ. وَقَالَ مُهَنَّا: صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ أَحْمَدَ فَتَثَاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَسَمِعْتُ لِتَثَاؤُبِهِ: هَاهْ هَاهْ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي مَنْ تَثَاءَبَ، فَقَالَ آهْ آهْ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِ أَحْمَدَ خِلَافَهُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَنَامَ فَيَتَكَلَّمَ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ أَوْ أَقَرَّ أَوْ أَعْتَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْكَلَامِ فَيَحْتَمِلَ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى كَلَامِ النَّاسِي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَفْوِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَقَالَ الْقَاضِي؛ هَذَا أَوْلَى بِالْعَفْوِ، وَصَحَّتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالٍ لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَوْ أَتْلَفَهُ نَاسِيًا ضَمِنَهُ وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ هَذَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ أَرْبَعًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى النَّاسِي لِوَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَكْثُرُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ فَزَادَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ نَسِيَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ هَذَا فِي الْإِكْرَاهِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاجِبٍ، مِثْلُ أَنْ يَخْشَى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ ضَرِيرٍ الْوُقُوعَ فِي هَلَكَةٍ، أَوْ يَرَى حَيَّةً وَنَحْوَهَا تَقْصِدُ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا أَوْ يَرَى نَارًا يَخَافُ أَنْ تَشْتَعِلَ فِي شَيْءٍ وَنَحْوَ هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ التَّنْبِيهُ بِالتَّسْبِيحِ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَذَا. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ الْمُكْرَهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ: إنَّمَا كَلَّمَ الْقَوْمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَلَّمَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُجِيبُوهُ. فَعَلَّلَ صِحَّةَ صَلَاتِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَوَجْهُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ هَاهُنَا، أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ كَلَامَ الْمُجِيبِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَكَلَّمَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ وَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (936) فَصْلٌ: وَكُلُّ كَلَامٍ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْيَسِيرِ مِنْهُ، فَإِنْ كَثُرَ، وَطَالَ، أَفْسَدَ الصَّلَاةَ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الْمُجَرَّدِ كَلَامُ النَّاسِي إذَا طَالَ يُعِيدُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ مَا عُفِيَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ اسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَلَنَا: أَنَّ دَلَالَةَ أَحَادِيثِ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ عَامَّةٌ تُرِكَتْ فِي الْيَسِيرِ بِمَا وَرَدَ فِيهِ الْأَخْبَارِ، فَتَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ [مَسْأَلَة الْإِمَامَ إذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاة] (937) مَسْأَلَةٌ: قَالَ إلَّا الْإِمَامَ خَاصَّةً؛ فَإِنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَمَنْ ذَكَرَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَلْيَأْتِ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَنْ نَقْصٍ مِنْ صَلَاتِهِ يَظُنُّ أَنَّهَا قَدْ تَمَّتْ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 مِثْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَكَلَّمُوا، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ - لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إمَامًا، فَتَكَلَّمَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ -، وَصَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا تَفْسُدُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا مُجِيبَيْنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجَابَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلَا بِذِي الْيَدَيْنِ، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ سَائِلًا عَنْ نَقْصِ الصَّلَاةِ، فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي زَمَانِنَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَاخْتُصَّ هَذَا بِالْكَلَامِ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي شَأْنِهَا، فَاخْتُصَّتْ إبَاحَةُ الْكَلَامِ بِوُرُودِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، دُونَ غَيْرِهِ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ، وَلَا ظَنَّ التَّمَامَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ؛ إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ، وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْإِمَامِ وَقَدْ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ: إنَّهَا الْعَصْرُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ تَطَرَّقَهُ حَالٌ يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِيهَا، وَهُوَ مَا لَوْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ فَذَكَرَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَقَدْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُبْدِلَهَا بِرَكْعَةٍ هِيَ فِي ظَنِّ الْمَأْمُومِينَ خَامِسَةٌ لَيْسَ لَهُمْ مُوَافَقَتُهُ فِيهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى إعْلَامِهِمْ بِغَيْرِ الْكَلَامِ وَقَدْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ، فَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُ الْكَلَامُ. وَلَمْ أَعْلَمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَا عَنْ الْإِمَامِ نَصًّا فِي الْكَلَامِ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي سَلَّمَ فِيهَا مُعْتَقِدًا تَمَامَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقِيَاسُ الْكَلَامِ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ عَالِمًا بِهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَالُ نِسْيَانٍ، غَيْرُ مُمْكِنٍ التَّحَرُّزُ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا، وَهِيَ أَيْضًا حَالٌ يَتَطَرَّقُ الْجَهْلُ إلَى صَاحِبِهَا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِيهَا، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ مَا يُفَارِقُهَا فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهَا، وَلَا نَصَّ فِيهَا، وَإِذَا عُدِمَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ وَالْإِجْمَاعُ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ الْمُبْطِلُ لِلصَّلَاةِ مَا انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ] فَصْلٌ: وَالْكَلَامُ الْمُبْطِلُ مَا انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ بِالْحَرْفَيْنِ تَكُونُ كَلِمَةٌ كَقَوْلِهِ: أَبٌ وَأَخٌ وَدَمٌ. وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ، وَلَا تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ مِنْ أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لَا. فَسَدَتْ صَلَاتَهُ، لِأَنَّهَا حَرْفَانِ لَامٌ وَأَلِفٌ. وَإِنْ ضَحِكَ فَبَانَ حَرْفَانِ. فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ وَإِنْ قَهْقَهَ وَلَمْ يَكُنْ حَرْفَانِ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الضَّحِكَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّبَسُّمَ لَا يُفْسِدُهَا، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ [فَصْلٌ النَّفْخُ فِي الصَّلَاة] (939) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَإِلَّا فَلَا يُفْسِدُهَا. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ النَّفْخُ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُهُ، وَلَا أَقُولُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، لَيْسَ هُوَ كَلَامًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَإِسْحَاقَ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ أَحْمَدُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَلَامًا وَلَا يَكُونُ كَلَامًا بِأَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا لَمْ يَنْتَظِمْ مِنْهُ حَرْفَانِ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ سُمِعَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يَنْتَظِمْ مِنْهُ حَرْفَانِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ نَفَخَ فِي سُجُودِهِ، فَقَالَ: أُفْ أُفْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ أَرَادَ مَا لَا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَفْخٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ إظْهَارُهُ أَبْطَلَهَا إسْرَارُهُ، وَمَا لَا فَلَا، كَالْكَلَامِ [فَصْلٌ النَّحْنَحَةُ إنَّ بَانَ مِنْهَا حَرْفَانِ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهَا] (940) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّحْنَحَةُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ بَانَ مِنْهَا حَرْفَانِ، بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهَا كَالنَّفْخِ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: كُنْت آتِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَيَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ، لِأَعْلَمَ أَنَّهُ يُصَلِّي. وَقَالَ مُهَنَّا: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَتَنَحْنَحُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْتَظِمُ حَرْفَيْنِ. وَظَاهِرُ حَالِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّحْنَحَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَتْ لِي سَاعَةٌ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 السَّحَرِ أَدْخُلُ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ تَنَحْنَحَ، فَكَانَ ذَلِكَ إذْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ أَذِنَ لِي» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي كَرَاهَةِ تَنْبِيهِ الْمُصَلِّي بِالنَّحْنَحَةِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَا تَنَحْنُحَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِكُمْ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ، وَلْتُصَفِّقْ النِّسَاءُ» وَرَوَى عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَحْنَحُ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ [فَصْلٌ الْبُكَاءُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ فِي الصَّلَاة] (941) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْبُكَاءُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ الَّذِي يَنْتَظِمُ مِنْهُ حَرْفَانِ فَمَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُؤَثِّرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، فِي الرَّجُلِ يَتَأَوَّهُ فِي الصَّلَاةِ: إنْ تَأَوَّهَ مِنْ النَّارِ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا تَأَوَّهَ، أَوْ أَنَّ، أَوْ بَكَى لِخَوْفِ اللَّهِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. قَالَ الْقَاضِي: التَّأَوُّهُ ذِكْرٌ، مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وَالذِّكْرُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةُ، وَمَدَحَ الْبَاكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَقَالَ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109] وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْت نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ. وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّأَوُّهِ شَيْئًا، وَلَا فِي الْأَنِينِ، وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا أَنَّهُ مَتَى فَعَلَهُ مُخْتَارًا أَفْسَدَ صَلَاتَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي الْبُكَاءِ الَّذِي لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ: إنَّهُ مَا كَانَ عَنْ غَلَبَةٍ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَالنُّصُوصُ الْعَامَّةُ تَمْنَعُ مِنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ مَا يَخُصُّهُمَا وَيُخْرِجُهُمَا مِنْ الْعُمُومِ، وَالْمَدْحُ عَلَى التَّأَوُّهِ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي هِيَ صَدَقَةٌ [فَصْلٌ أَتَى بِذَكَرِ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ فِي الصَّلَاة] (942) فَصْلٌ: إذَا أَتَى بِذِكْرٍ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ. فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَسْهُوَ إمَامُهُ فَيُسَبِّحَ بِهِ لِيُذَكِّرَهُ أَوْ يَتْرُكَ إمَامُهُ ذِكْرًا فَيَرْفَعَ الْمَأْمُومُ صَوْتَهُ لِيُذَكِّرَهُ أَوْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يُكَلِّمَهُ أَوْ يَنُوبَهُ شَيْءٌ، فَيُسَبِّحَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، أَوْ يَخْشَى عَلَى إنْسَانٍ الْوُقُوعَ فِي شَيْءٍ فَيُسَبِّحَ بِهِ لِيُوقِظَهُ، أَوْ يَخْشَى أَنْ يُتْلِفَ شَيْئًا، فَيُسَبِّحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 بِهِ لِيَتْرُكَهُ. فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَفْهَمْ غَيْرَ إمَامِهِ بِالتَّسْبِيحِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ إلَّا الْتَفَتَ وَفِي لَفْظٍ إذَا نَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ وَلْتُصَفِّقْ النِّسَاءُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَنُوبُ الْمُصَلِّيَ وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَلِيٍّ «كُنْت إذَا اسْتَأْذَنْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ سَبَّحَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ أَذِنَ» وَلِأَنَّهُ نَبَّهَ بِالتَّسْبِيحِ أَشْبَهَ مَا لَوْ نَبَّهَ الْإِمَامَ، وَلَوْ كَانَ تَنْبِيهُ غَيْرِ الْإِمَامِ كَلَامًا مُبْطِلًا لَكَانَ تَنْبِيهُ الْإِمَامِ كَذَلِكَ. (943) فَصْلٌ: وَفِي مَعْنَى هَذَا النَّوْعِ، إذَا فَتَحَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا ارْتَجَّ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ إذَا غَلِطَ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مَعْقِلٍ، وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ. وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ؛ لِمَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَفْتَحُ عَلَى الْإِمَامِ» وَلَنَا: مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً، فَقَرَأَ فِيهَا، فَلُبِسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأُبَيٍّ أَصْلَيْتَ مَعَنَا؟ . قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا مَنَعَك؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «تَرَدَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمْ يَفْتَحُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَمَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَكُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ؟ قَالُوا: لَا» فَرَأَى الْقَوْمُ أَنَّهُ إنَّمَا تَفَقَّدَهُ لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرَوَى مُسَوَّرُ بْنُ يَزِيدَ الْمَالِكِيُّ قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَكَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، آيَةَ كَذَا وَكَذَا تَرَكْتَهَا. قَالَ: فَهَلَّا ذَكَّرْتَنِيهَا؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَلِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ لِإِمَامِهِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ التَّسْبِيحَ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ كَذَّابًا، وَقَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: إذَا اسْتَطْعَمَك الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ. يَعْنِي إذَا تَعَايَى فَارْدُدْ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ إنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: لَا تَفْتَحْ عَلَى الْإِمَامِ. وَمَا بَأْسٌ بِهِ، أَلَيْسَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ الْحَارِثِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 [فَصْلٌ إذَا أَرْتَجّ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْفَاتِحَة] (944) فَصْلٌ: وَإِذَا ارْتَجَّ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْفَاتِحَةِ لَزِمَ مَنْ وَرَاءَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً لَزِمَهُمْ تَنْبِيهُهُ بِالتَّسْبِيحِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مِنْ أَجْلِهِ، كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ رُكْنٍ يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ، كَالرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةُ فَكَانَ بِالِاسْتِخْلَافِ أَوْلَى. وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَأْتِي بِمَا يُحْسِنُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ عَجَزَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَسَقَطَ كَالْقِيَامِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنْ كَانَ أُمِّيًّا عَاجِزًا عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَارِئًا نَوَى مُفَارَقَتَهُ، وَأَتَمَّ وَحْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إتْمَامُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِقِرَاءَتِهَا فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِدُونِ ذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأُمِّيِّ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَوْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِدُونِهَا، وَهَذَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَسْأَلَ عَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ وَيُصَلِّيَ، وَلَا قِيَاسُهُ عَلَى أَرْكَانِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ الصَّلَاةِ لَا يُزِيلُ عَجْزَهُ عَنْهَا، وَلَا يَأْمَنُ عَوْدَ مِثْلِ ذَلِكَ لِعَجْزٍ بِخِلَافِ هَذَا. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِتَنْبِيهِ آدَمِيٍّ، إلَّا أَنَّهُ لِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَعْطِسُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ، أَوْ تَلْسَعَهُ عَقْرَبٌ فَيَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ. أَوْ يَسْمَعَ، أَوْ يَرَى مَا يَغُمُّهُ فَيَقُولَ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] أَوْ يَرَى عَجَبًا فَيَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَهَذَا لَا يُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُبْطِلُهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، فِي مَنْ عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي مَنْ قِيلَ لَهُ وَهُوَ يُصَلِّي: وُلِدَ لَك غُلَامٌ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قِيلَ لَهُ: احْتَرَقَ دُكَّانُك قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ ذَهَبَ كِيسُك: فَقَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ قِيلَ: لَهُ مَاتَ أَبُوك. فَقَالَ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] فَلَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ حِينَ أَجَابَ الْخَارِجِيَّ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ قِيلَ لَهُ: وُلِدَ لَك غُلَامٌ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَوْ ذَكَرَ مُصِيبَةً، فَقَالَ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . قَالَ يُعِيدُ الصَّلَاةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ خِطَابَ آدَمِيٍّ. وَلَنَا مَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: «عَطَسَ شَابٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، حَتَّى يَرْضَى رَبُّنَا، وَبَعْدَمَا يَرْضَى مِنْ أَمْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ الْقَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، مَا تَنَاهَتْ دُونَ الْعَرْشِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَنَادَاهُ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . قَالَ: فَأَنْصَتَ لَهُ حَتَّى فَهِمَ، ثُمَّ أَجَابَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ابْتِدَاءً لَا يُبْطِلُهَا إذَا أَتَى بِهِ عَقِيبَ سَبَبٍ، كَالتَّسْبِيحِ لِتَنْبِيهِ إمَامِهِ. قَالَ الْخَلَّالُ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهُ - لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ - يَعْنِي: الْعَاطِسُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ - بِالْحَمْدِ، وَإِنْ رَفَعَ فَلَا بَأْسَ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي الْإِمَامِ يَقُولُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". فَيَقُولُ مَنْ خَلْفَهُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " يَرْفَعُونَ بِهَا أَصْوَاتَهُمْ، قَالَ: يَقُولُونَ، وَلَكِنْ يُخْفُونَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ ذَلِكَ، كَمَا كَرِهَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يَمْنَعُ الْإِنْصَاتَ، فَجَرَى مَجْرَى التَّأْمِينِ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِهَذَا؟ قَالَ: أَكْرَهُهُ. قِيلَ: فَيَنْهَاهُمْ الْإِمَامُ؟ قَالَ: لَا يَنْهَاهُمْ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا لَمْ يَنْهَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَهْرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا. (945) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] هَلْ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ". قَالَ: إنْ شَاءَ قَالَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَا يَجْهَرُ بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] . فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى،. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] . فَقَالَ: سُبْحَانَكَ، وَبَلَى. وَعَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ، فَكَانَ إذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] . قَالَ: سُبْحَانَكَ فَبَكَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، فَجَازَ التَّسْبِيحُ فِي مَوْضِعِهِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ آدَمِيٍّ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] . يُرِيدُ الْإِذْنَ، أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ يَحْيَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] . أَوْ {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ بِذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَلَّمَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ قِيلَ لَهُ: مَاتَ أَبُوكَ. فَقَالَ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، حِينَ قَالَ لِلْخَارِجِيِّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ يُصَلِّي. فَقَالَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] . فَقُلْنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] . وَلِأَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّنْبِيهَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ قَصَدَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّنْبِيهِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَصَدَ التَّنْبِيهَ دُونَ التِّلَاوَةِ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ آدَمِيًّا، وَإِنْ قَصَدَهُمَا جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ وَالْمَعْنَى. وَالثَّانِي: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ آدَمِيًّا، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ التِّلَاوَةَ. فَأَمَّا إنْ أَتَى مَا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ إبْرَاهِيمُ. يَا إبْرَاهِيمُ. أَوْ لِعِيسَى: يَا عِيسَى. وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ خُذْ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ. [فَصْلٌ يَكْرَه أَنْ يُفْتَح مِنْ هُوَ فِي الصَّلَاة عَلَى مِنْ هُوَ فِي صَلَاة أُخْرَى] (946) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَفْتَحَ مَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ جَالِسٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْرَأُ، فَإِذَا أَخْطَأَ، فَتَحَ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي. فَقَالَ: كَيْفَ يَفْتَحُ إذَا أَخْطَأَ هَذَا، وَيَتَعَجَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ قُرْآنٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ قِرَاءَتَهُ دُونَ خِطَابِ الْآدَمِيِّ بِغَيْرِهِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا بِمَكَّةَ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَ الْمَقَامِ يُصَلِّي، وَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ خَلْفَهُ يُلَقِّنُهُ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [فَصْلٌ إذَا سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي] (947) فَصْلٌ: إذَا سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ السَّلَامِ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنَّ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا، جَازَتْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ، فَرَجَعْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَوَجْهُهُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: أَمَا إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي كُنْت أُصَلِّي» . وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ «، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 عَلَيْنَا؟ قَالَ: إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ جَمِيلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَبَضَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذِرَاعِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ. رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَدَاوُد؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: «فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَأَخَذَنِي مَا قُدِّمَ وَمَا حَدَثَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» . فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ. وَقَدْ رَوَى صُهَيْبٌ، قَالَ: «مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَكَلَّمْتُهُ فَرَدَّ إشَارَةً» . قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ قَالَ: فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَقُلْت لِبِلَالٍ: كَيْفَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ يَعْقُوبُ: هَكَذَا: وَبَسَطَ - يَعْنِي كَفَّهُ - وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ، وَظُهْرَهُ إلَى فَوْقُ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ] (948) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى مُصَلٍّ. وَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ الْمُصَلِّي فَرَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَرَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَرَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى تَجْوِيزِهِ احْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أَيْ عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سَلَّمَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ إشَارَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الْفَرِيضَةِ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ] (949) فَصْلٌ: إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الْفَرِيضَةِ عَامِدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، رِوَايَةً، وَاحِدَةً. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ عَامِدًا أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الَّذِي لَا يَفْسُدُ بِالْأَفْعَالِ، فَالصَّلَاةُ أَوْلَى. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ أَبْطَلَهُ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَا أَبْطَلَ الْفَرْضَ أَبْطَلَ التَّطَوُّعَ، كَسَائِرِ مُبْطِلَاتِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمَا شَرِبَا فِي التَّطَوُّعِ. وَعَنْ طَاوُسٍ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَكْلِ، فَأَمَّا إنْ أَكْثَرَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنْ الْأَعْمَالِ يُفْسِدُ إذَا كَثُرَ، فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ أَوْلَى. وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ نَاسِيًا لَمْ تَفْسُدْ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُبْطِلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلِأَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ حَالَ الْعَمْدِ. وَيُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهَا، وَيُشْرَعُ لِذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّ مَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ إذَا عُفِيَ عَنْهُ لِأَجْلِ السَّهْوِ شُرِعَ لَهُ السُّجُودُ، كَالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، وَمَتَى كَثُرَ ذَلِكَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَعْفُوَّ عَنْ يَسِيرِهَا إذَا كَثُرَتْ أَبْطَلَتْ، فَهَذَا أَوْلَى. [فَصْلٌ إذَا تَرَكَ فِي فِيهِ مَا يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ فَذَابَ مِنْهُ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ] ُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ. وَإِنْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، أَوْ فِي فِيهِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ يَسِيرٌ يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ، فَابْتَلَعَهُ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. وَإِنْ تَرَكَ فِي فِيهِ لُقْمَةً وَلَمْ يَبْتَلِعْهَا، كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ خُشُوعِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَلَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَمْسَكَ شَيْئًا فِي يَدِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 [بَابُ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] [مَسْأَلَة إذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهُ طَاهِرَةً وَمَوْضِعُ صَلَاته طَاهِرًا] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهُ طَاهِرَةً، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهِ طَاهِرًا، أَعَادَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى ثَوْبٍ جَنَابَةٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ فِي ثَوْبٍ إعَادَةٌ، وَرَأَى طَاوُسٌ دَمًا كَثِيرًا فِي ثَوْبِهِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبَالِهِ. وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ الرَّجُلِ يَرَى فِي ثَوْبِهِ الْأَذَى وَقَدْ صَلَّى؟ فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا غَسْلُ الثِّيَابِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ. وَعَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ؟ قَالَ: اُقْرُصِيهِ، وَصَلِّي فِيهِ» . وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: «سَمِعْت امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تَصْنَعُ إحْدَانَا بِثَوْبِهَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ، أَتُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: تَنْظُرُ فِيهِ، فَإِنْ رَأَتْ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ، وَلْتُصَلِّ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ ". وَلِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَكَانَتْ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ، كَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 [فَصْلٌ طَهَارَةُ مَوْضِعِ الصَّلَاة] (952) فَصْلٌ: وَطَهَارَةُ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ شَرْطٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَقَعُ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ وَتُلَاقِيهِ ثِيَابُهُ الَّتِي عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَرَفُ عِمَامَةٍ، وَطَرَفُهَا الْآخَرُ يَسْقُطُ عَلَى نَجَاسَةٍ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ احْتِمَالًا فِيمَا تَقَعُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ خَاصَّةً، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُهَا بِمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى إلَى جَانِبِهِ إنْسَانٌ نَجِسُ الثَّوْبِ، فَالْتَصَقَ ثَوْبُهُ بِهِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ تَابِعَةٌ لَهُ، فَهِيَ كَأَعْضَاءِ سُجُودِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ ثَوْبُهُ يَمَسُّ شَيْئًا نَجِسًا، كَثَوْبِ مَنْ يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ، أَوْ حَائِطٍ لَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِبَدَنِهِ وَلَا سُتْرَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَفْسُدَ؛ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ مُلَاقِيَةٌ لِنَجَاسَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُحَاذِيَةً لِجِسْمِهِ فِي حَالِ سُجُودِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَصِقُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ وَلَا أَعْضَائِهِ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ النَّجَاسَةَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَتْ عَنْ مُحَاذَاتِهِ. [فَصْلٌ صَلَّى ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَة فِي بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ] (953) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى، ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَةً فِي بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، لَا يَعْلَمُ؛ هَلْ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ جَهِلَهَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَالثَّانِيَةُ: يُعِيدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مُشْتَرَطَةٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِجَهْلِهَا، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ: يُعِيدُ مَا كَانَ فِي الْوَقْتِ، وَلَا يُعِيدُ بَعْدَهُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟ . قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. قَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَوْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، وَتُفَارِقُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا، وَتَخْتَصُّ الْبَدَنَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ ثُمَّ نَسِيَهَا، وَصَلَّى، فَقَالَ الْقَاضِي: حَكَى أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ. وَذَكَرَ هُوَ فِي مَسْأَلَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 النِّسْيَانِ، أَنَّ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى التَّفْرِيطِ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ بِهَا. قَالَ الْآمِدِيُّ: يُعِيدُ إذَا كَانَ قَدْ تَوَانَى، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَالصَّحِيحُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا عُذِرَ فِيهِ بِالْجَهْلِ عُذِرَ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ، بَلْ النِّسْيَانُ أَوْلَى؛ لِوُرُودِ النَّصِّ بِالْعَفْوِ فِيهِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» وَإِنْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا. يُعْذَرُ. فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. ثُمَّ إنْ طَرَحَ النَّجَاسَةَ مِنْ غَيْرِ زَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ، أَلْقَاهَا، وَبَنَى، كَمَا خَلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعْلَيْهِ حِينَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِالْقَذَرِ فِيهِمَا. وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدَ هَذَيْنِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا اسْتِصْحَابُ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، أَوْ يَعْمَلُ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا كَثِيرًا، فَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَصَارَ كَالْعُرْيَانِ يَجِدُ السُّتْرَةَ بَعِيدَةً مِنْهُ. (954) فَصْلٌ: وَإِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ، أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَالِ، لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا، وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ زَمَنِهَا، كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ صَلَّى عَلَى مِنْدِيل طَرَفُهُ نَجِسِ] (955) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى عَلَى مِنْدِيلٍ، طَرَفُهُ نَجِسٌ أَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمِهِ حَبْلٌ مَشْدُودٌ فِي نَجَاسَةٍ، وَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ طَاهِرٌ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ النَّجِسُ بِحَرَكَتِهِ، أَوْ لَمْ يَتَحَرَّكْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلنَّجَاسَةِ، وَلَا بِمُصَلٍّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ مُصَلَّاهُ بِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَرْضٍ نَجِسَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا كَانَ النَّجِسُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَبْلُ أَوْ الْمَنْدِيلُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، بِحَيْثُ يَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لَهَا، فَهُوَ كَحَامِلِهَا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ وَسَطِهِ حَبْلٌ مَشْدُودٌ فِي نَجَاسَةٍ، أَوْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ، أَوْ سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ تَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لَهَا، فَهُوَ كَحَامِلِهَا. وَإِنْ كَانَتْ السَّفِينَةُ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُهُ جَرُّهَا، أَوْ الْحَيَوَانُ كَبِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَرِّهِ إذَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَتْبِعٍ لَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَ الشَّدُّ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِمَا هُوَ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِتْبَاعِ مَا هُوَ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَمْسَكَ سَفِينَةً عَظِيمَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ، أَوْ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ. [فَصْلٌ إذَا حَمَلَ فِي الصَّلَاةِ حَيَوَانًا طَاهِرًا أَوْ صَبِيًّا] (956) فَصْلٌ: وَإِذَا حَمَلَ فِي الصَّلَاةِ حَيَوَانًا طَاهِرًا أَوْ صَبِيًّا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أُمَامَةَ ابْنَةَ أَبِي الْعَاصِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَكِبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَلِأَنَّ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي مَعِدَتِهِ، فَهِيَ كَالنَّجَاسَةِ فِي مَعِدَةِ الْمُصَلِّي، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ مَسْدُودَةً، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا، فَهِيَ كَالْحَيَوَانِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ. [مَسْأَلَة الصَّلَاة فِي الْمَقْبَرَة أَوَالْحَشّ أَوْ الْحِمَام أَوْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِل] (957) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ أَوْ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ؛ أَعَادَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَرُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ فِيهَا بِحَالٍ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ رَأَى أَنْ يُصَلَّى فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا يُصَلَّى فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَفِي لَفْظٍ «فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ، فَصَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ، كَالصَّحْرَاءِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا خَاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ مَا رَوَوْهُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنُصَلِّي فِي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ". وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَهَذَا خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ مَا رَوَوْهُ، وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، رَوَاهُنَّ الْأَثْرَمُ. فَأَمَّا الْحُشُّ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِيهِ بِالتَّنْبِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِكَوْنِهَا مَظَانَّ النَّجَاسَةِ، فَالْحُشُّ مُعَدٌّ لِلنَّجَاسَةِ وَمَقْصُودٌ لَهَا، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَالِمًا بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِصَلَاتِهِ فِيهَا، وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ، فَلَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ، كَالصَّلَاةِ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ. وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 (958) فَصْلٌ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَعَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمَزْبَلَةَ، وَالْمَجْزَرَةَ، وَمَحَجَّةَ الطَّرِيقِ، وَظَهْرَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالْمَوْضِعَ الْمَغْصُوبَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ، وَالْمَقْبَرَةُ، وَالْمَزْبَلَةُ، وَالْمَجْزَرَةُ، وَالْحَمَّامُ، وَعَطَنُ الْإِبِلِ، وَمَحَجَّةُ الطَّرِيقِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِن. وَذَكَرَهَا، وَقَالَ: وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ الْكَعْبَةِ» . وَقَالَ: الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ سَوَاءً. وَلِأَنَّ الْمَوَاضِعَ مَظِنَّةُ النَّجَاسَاتِ، فَعُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا، كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِالنَّوْمِ، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. (959) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: الْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَعَبُّدٌ، لَا لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ كُلَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَلَا فَرْقَ فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَمَا تَقَلَّبَتْ أَتْرِبَتُهَا أَوْ لَمْ تَتَقَلَّبْ؛ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ قَبْرٌ أَوْ قَبْرَانِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا. لِأَنَّهَا لَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْمَقْبَرَةِ. وَإِنْ نُقِلَتْ الْقُبُورُ مِنْهَا، جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا فَرْقَ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ مَكَانِ الْغَسْلِ وَصَبِّ الْمَاءِ، وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَسْلَخِ - الَّذِي يُنْزَعُ فِيهِ الثِّيَابُ - وَالْأَتُّونِ وَكُلِّ مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ الْحَمَّامِ؛ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ. وَأَمَّا الْمَعَاطِنُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هِيَ الَّتِي تُقِيمُ فِيهَا الْإِبِلُ وَتَأْوِي إلَيْهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا إذَا وَرَدَتْ. وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُقَابِلَةَ مَرَاحِ الْغَنَمِ. وَالْحُشُّ: الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيمَا هُوَ دَاخِلُ بَابِهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالْكَلَامِ، فَمَنْعُ الصَّلَاةِ فِيهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِكَوْنِهَا مَظَانَّ لِلنَّجَاسَاتِ، فَهَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ بُنِيَ لَهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهَا مَظَانُّ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنَّ الْمَقْبَرَةَ تُنْبَشُ وَيَظْهَرُ التُّرَابُ الَّذِي فِيهِ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَدِمَاؤُهُمْ وَلُحُومُهُمْ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ يُبَالُ فِيهَا، فَإِنَّ الْبَعِيرَ الْبَارِكَ كَالْجِدَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ بِهِ وَيَبُولَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَنَاخَ بَعِيرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إلَيْهِ. وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي حَيَوَانٍ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ رَبْضِهِ لَا يَسْتُرُ، وَفِي حَالِ قِيَامِهِ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَسْتُرُ. وَالْحَمَّامُ مَوْضِعُ الْأَوْسَاخِ وَالْبَوْلِ، فَنُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِذَلِكَ. وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 خَفِيَتْ الْحِكْمَةُ فِيهَا، وَمَتَى أَمْكَنَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ تَعَيَّنَ تَعْلِيلُهُ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ قَهْرِ التَّعَبُّدِ وَمَرَارَةِ التَّحَكُّمِ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى الْحُشِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، بِالتَّنْبِيهِ مِنْ وُجُودِ مَعْنَى الْمَنْطُوقِ فِيهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ قَصْرُ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مَظِنَّةٌ مِنْهَا، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَنْعِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْلَخِ مِنْ الْحَمَّامِ، وَلَا فِي وَسَطِهِ، لِعَدَمِ الْمَظِنَّةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (960) فَصْلٌ: وَزَادَ أَصْحَابُنَا الْمَجْزَرَةَ، وَالْمَزْبَلَةَ، وَمَحَجَّةَ الطَّرِيقِ، وَظَهْرَ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي خَبَرِ عُمَرَ وَابْنِهِ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ. وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْخِرَقِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا» وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَقْبَرَةَ، وَالْحَمَّامَ، وَمَعَاطِنَ الْإِبِلِ، بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ خَاصَّةٍ، فَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ. وَحَدِيثُ عُمَرَ وَابْنِهِ يَرْوِيهِمَا الْعُمَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِمَا مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِمَا، فَلَا يُتْرَكُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِحَدِيثِهِمَا. وَهَذَا أَصَحُّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، فِيمَا عَلِمْتُ، عَمِلُوا بِخَبَرِ عُمَرَ وَابْنِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ. وَمَعْنَى مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ: الْجَادَّةُ الْمَسْلُوكَةُ الَّتِي تَسْلُكُهَا السَّابِلَةُ. وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ: يَعْنِي الَّتِي تَقْرَعُهَا الْأَقْدَامُ، فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِثْلُ الْأَسْوَاقِ وَالْمَشَارِعِ وَالْجَادَّةِ لِلسَّفَرِ. وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيمَا عَلَا مِنْهَا يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَلَمْ يَكْثُرْ قَرْعُ الْأَقْدَامِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَقِلُّ سَالِكُوهَا، كَطُرُقِ الْأَبْيَاتِ الْيَسِيرَةِ. وَالْمَجْزَرَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَذْبَحُ الْقَصَّابُونَ فِيهِ الْبَهَائِمَ، وَشِبْهَهُمْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ مُعَدًّا. وَالْمَزْبَلَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الزِّبْلُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا طَاهِرًا وَنَجِسًا، وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ فِيهَا سَالِكًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلَا فِي الْمَعَاطِنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إبِلٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَبِيتُ فِيهَا الْإِبِلُ فِي مَسِيرِهَا، أَوْ تُنَاخُ فِيهَا لِعَلْفِهَا أَوْ وِرْدِهَا، فَلَا يُمْنَعُ الصَّلَاةُ فِيهَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْإِبِلِ يُصَلَّى فِيهِ؟ فَرَخَّصَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، الَّتِي تَأْوِي إلَيْهَا الْإِبِلُ. (961) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ فَعَلَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْحُشِّ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ قَبْرٌ، وَلَا حُشٌّ وَلَا حَمَّامٌ، فَإِنْ كَانَ يُجْزِئُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَتَوَجَّهُ فِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ؛ لِمَوْضِعِ النَّهْيِ، وَبِهِ أَقُولُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 صَلَّى إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحُشِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا إلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: ذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَبِي مَرْثَدٍ، ثُمَّ قَالَ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: رَآنِي عُمَرُ، وَأَنَا أُصَلِّي إلَى قَبْرٍ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيَّ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَّا الْمَقْبَرَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مَنْ هِيَ فِي قِبْلَتِهِ، وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ إنْ كَانَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى امْتَنَعَ تَعْدِيَتُهُ وَدُخُولُ الْقِيَاسِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهَا، وَهُوَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسْجِدًا، وَالتَّشَبُّهُ بِمَنْ يُعَظِّمُهَا وَيُصَلِّي إلَيْهَا، فَلَا يَتَعَدَّاهَا الْحُكْمُ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَقَالَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَى الْقُبُورِ لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَيَصِحُّ إلَى غَيْرِهَا لِبَقَائِهَا فِي عُمُومِ الْإِبَاحَةِ وَامْتِنَاعِ قِيَاسِهَا عَلَى مَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (962) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ عَطَنِ الْإِبِلِ أَوْ غَيْرِهَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهَا؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَدَخَلَ سَطْحَهَا، حَنِثَ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنْ كَانَ تَعَبُّدِيًّا فَالْقِيَاسُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ عُلِّلَ فَإِنَّمَا تَعَلَّلَ بِكَوْنِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَلَا يُتَخَيَّلُ هَذَا فِي سَطْحِهَا. فَأَمَّا إنْ بَنَى عَلَى طَرِيقٍ سَابَاطًا أَوْ أُخْرِجَ عَلَيْهِ خُرُوجًا، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّرِيقِ، لِمَا ذَكَرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَى قَوْلِنَا، إنْ كَانَ السَّابَاطُ مُبَاحًا لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، أَوْ مُسْتَحِقًّا لَهُ، أَوْ حَدَثَ الطَّرِيقُ بَعْدَهُ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، فَيَكُونُ الْمُصَلِّي فِيهِ كَالْمُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ السَّابَاطُ عَلَى نَهْرٍ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، فَهُوَ كَالسَّابَاطِ عَلَى الطَّرِيقِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ تَابِعًا لِلْقَرَارِ، لَجَازَتْ الصَّلَاةُ هَاهُنَا، لِكَوْنِ الْقَرَارِ غَيْرَ مَمْنُوعٍ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ لَوْ جَمَدَ مَاؤُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، صَحَّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرَهُ لَصَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَا حَاذَى مَيْمَنَةَ الطَّرِيقِ وَمَيْسَرَتَهَا، وَمَا لَا تَقْرَعُهُ الْأَقْدَامُ مِنْهَا، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ السَّطْحُ جَارِيًا عَلَى مَوْضِعِ النَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ سَابِقًا، وَجُعِلَ تَحْتَهُ طَرِيقٌ أَوْ عَطَنٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ مَوَاضِعِ النَّهْيِ. أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةٍ فَحَدَثَتْ الْمَقْبَرَةُ حَوْلَهُ، لَمْ تَمْتَنِعْ الصَّلَاةُ فِيهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْمَقْبَرَة بَيْنَ الْقُبُور] (963) فَصْلٌ: وَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقُبُورِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ: أَنَّ أَنَسًا مَرَّ عَلَى مَقْبَرَةٍ، وَهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا مَسْجِدًا، فَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ فِي وَسَطِ الْقُبُورِ. [فَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا] (964) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا. وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلَاةِ النَّفْلِ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ، كَخَارِجِهَا. وَلَنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا، وَالنَّافِلَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ، بِدَلِيلِ صَلَاتِهَا قَاعِدًا، وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. (965) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ النَّافِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ. إلَّا أَنَّهُ إنْ صَلَّى تِلْقَاءَ الْبَابِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُتَّصِلٌ بِهَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ آجُرٌّ مُعَبَّأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ، أَوْ خَشْبٌ غَيْرُ مَسْمُورٍ فِيهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ مَسْمُورًا وَالْآجُرُّ مَبْنِيًّا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لَهَا. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ مَوْضِعِهَا وَهَوَائِهَا، دُونَ حِيطَانِهَا، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْهَدَمْت الْكَعْبَةُ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ يَخْرُجُ عَنْ مُسَامَتَتِهَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ إلَى هَوَائِهَا، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوب] (966) فَصْلٌ: وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ رِوَايَتَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقًا، يُمْكِنُهُ إنْقَاذُهُ، فَلَمْ يُنْقِذْهُ، أَوْ حَرِيقًا يَقْدِرُ عَلَى إطْفَائِهِ، فَلَمْ يُطْفِئْهُ، أَوْ مَطَلَ غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إيفَاؤُهُ وَصَلَّى. وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَصَلَاةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْلِ، وَاجْتِنَابَهُ، وَالتَّأْثِيمَ بِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، مُمْتَثِلًا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، مُتَقَرِّبًا بِمَا يَبْعُدُ بِهِ، فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، هُوَ عَاصٍ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْحَرِيقَ فَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْ الصَّلَاةِ، إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ، وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، وَبِالصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا آكَدُ مِنْ الْآخَرِ، أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ غَصْبِهِ لِرَقَبَةِ الْأَرْضِ بِأَخْذِهَا، أَوْ دَعْوَاهُ مِلْكِيَّتَهَا، وَبَيْنَ غَصْبِهِ مَنَافِعَهَا، بِأَنْ يَدَّعِيَ إجَارَتَهَا ظَالِمًا، أَوْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِيَسْكُنَهَا مُدَّةً أَوْ يُخْرِجَ رَوْشَنًا أَوْ سَابَاطًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لَهُ، أَوْ يَغْصِبَ رَاحِلَةً وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَوْ سَفِينَةً وَيُصَلِّيَ فِيهَا، أَوْ لَوْحًا فَيَجْعَلَهُ فِي سَفِينَةٍ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، كُلُّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الدَّارِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. (967) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُصَلَّى الْجُمُعَةُ فِي الْمَوْضِعِ الْغَصْبِ. يَعْنِي لَوْ كَانَ الْجَامِعُ أَوْ مَوْضِعٌ مِنْهُ مَغْصُوبًا صَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ، تَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّاهَا الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَتْ خَلْفَ الْخَوَارِجِ وَالْمُبْتَدِعَةِ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ فِي الطُّرُقِ وَرِحَابِ الْمَسْجِدِ، لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَى فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجِنَازَةِ. [فَصْلٌ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ الْخَسْف] (968) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ الْخَسْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ مَرَّ بِالْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 [فَصْلٌ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَة] (969) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَةِ، رَخَّصَ فِيهَا الْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ الْكَنَائِسَ؛ مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ. وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَفِيهَا صُوَرٌ» ، ثُمَّ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ» [فَصْلٌ حُكْم الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَة إذَا بَسَطَ عَلَيْهَا شَيْء طَاهِر] (970) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ نَجِسَةً، فَطَيَّنَهَا بِطَاهِرٍ، أَوْ بَسَطَ عَلَيْهَا شَيْئًا طَاهِرًا، صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مَدْفِنُ النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَتْ الْمَقْبَرَةَ. وَلَنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَوْضِعِ صَلَاتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَلَا نُسَلِّمُ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفِنًا لِلنَّجَاسَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؛ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ تَطْيِينُ الْمَسْجِدِ بِطِينِ نَجِسِ] (971) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ تَطْيِينُ الْمَسْجِدِ بِطِينٍ نَجِسٍ، أَوْ تَطْبِيقُهُ بِطَوَابِقَ نَجِسَةٍ، أَوْ بِنَاؤُهُ بِلَبِنٍ نَجِسٍ، أَوْ آجُرٍّ نَجِسٍ، فَإِنْ فُعِلَ، وَبَاشَرَ الْمُصَلِّي أَرْضَهُ النَّجِسَةَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا الْآجُرُّ الْمَعْجُونُ بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُطَهِّرُهُ، فَإِنْ غُسِلَ طَهُرَ ظَاهِرُهُ؛ لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ، وَبَقِيَ أَثَرُهَا، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، كَالْأَرْضِ النَّجِسَةِ وَيَبْقَى بَاطِنُهَا نَجِسًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الْغَسْلِ فَهُوَ كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ طَاهِرٍ مَفْرُوشٍ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبِسَاطِ الَّذِي بَاطِنُهُ نَجِسٌ وَظَاهِرُهُ طَاهِرٌ. وَمَتَى انْكَسَرَ مِنْ الْآجُرِّ النَّجِسِ قِطْعَةٌ، فَظَهَرَ بَعْضُ بَاطِنِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ، لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ الصَّلَاة عَلَى الْحَصِير وَالْبَسْط مِنْ الصُّوف وَالشَّعْر وَالْوَبَر] (972) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ وَالْبُسُطِ مِنْ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ وَالْوَبَرِ، وَالثِّيَابِ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ. وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عَبْقَرِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى طُنْفُسَةٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَابِرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 عَلَى حَصِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ عَلَى الْمَنْسُوجِ. وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَاسْتَحَبَّ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي بِسَاطِ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ: إذَا كَانَ سُجُودُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ أَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ بَأْسًا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَصِيرٍ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَأَنَسٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَرَوَى عَنْهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ» . وَفِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى مُلْتَفًّا بِكِسَاءٍ، يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ إذَا سَجَدَ» . وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالْكَتَّانِ وَالْخُوصِ. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ، إذَا أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ، وَالنَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ. وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا، أَوْ عَلَيْهِ بِسَاطٌ طَاهِرٌ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى حِمَارٍ. وَفَعَلَهُ أَنَسٌ وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَهِيَ خَشَبٌ عَلَى بَكَرَاتٍ، إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَحَلٌّ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا. [مَسْأَلَة صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَة] (973) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ، وَإِنْ قَلَّتْ، أَعَادَ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا، إلَّا فِيمَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْبَوْلِ مِثْلِ رُءُوسِ الْإِبَرِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُتَحَرَّى فِيهَا بِالْمَسْحِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا لَمْ يَكْفِ فِيهَا الْمَسْحُ كَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَالدَّمِ. وَلَنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا تَشُقُّ إزَالَتُهَا، فَوَجَبَتْ إزَالَتُهَا كَالْكَثِيرِ، وَأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ بَثْرَةٍ أَوْ حَكَّةٍ أَوْ دُمَّلٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ وَفِيهِ وَغَيْرِهِمَا، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ يَسِيرِهِ أَكْثَرَ مِنْ كَثِيرِهِ، وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْوُضُوءِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُرْوَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ، وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 يَنْصَرِفُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ. فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدْ كَانَ يَكُونُ لِإِحْدَانَا الدِّرْعُ، فِيهِ تَحِيضُ وَفِيهِ تُصِيبُهَا الْجَنَابَةُ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ، فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا. وَفِي لَفْظٍ: مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إلَّا ثَوْبٌ، فِيهِ تَحِيضُ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا، ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهَّرُ بِهِ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا، وَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَمَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ، فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ، فَيَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا، مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَانْصِرَافُهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ لَا يُنَافِي مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، فَقَدْ يَتَوَرَّعُ الْإِنْسَانُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرَى جَوَازَهُ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ. (975) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إلَّا إذَا كَانَ فَاحِشًا أَعَادَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَثِيرِ؟ فَقَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ، قَالَ: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، أَنَّهُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك. قَالَ الْخَلَّالُ: وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْفَاحِشِ، أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَفْحِشُهُ كُلُّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، فِي مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ: فَاحِشٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدَّمِ» . وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَمَا رَوَوْهُ لَا يَصِحُّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيَّ، قَالَ: هُوَ مَوْضُوعٌ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً. (976) فَصْلٌ: وَالْقَيْحُ، وَالصَّدِيدُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ الدَّمِ، بِمَنْزِلَتِهِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: هُوَ أَسْهَلُ مِنْ الدَّمِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَاهُ كَالدَّمِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ، فِي الصَّدِيدِ: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَقَالَ أُمَيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، رَأَيْت طَاوُسًا كَأَنَّ إزَارَهُ نُطِعَ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِرِجْلَيْهِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ السَّرَّاجُ: رَأَيْت حَاشِيَةَ إزَارِ مُجَاهِدٍ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِسَاقَيْهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ، فِي الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحُبُونُ: يُصَلِّي، وَلَا يَغْسِلُهُ، فَإِذَا بَرِئَ غَسَلَهُ. وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْحُشُ مِنْهُ إلَّا أَكْثُرُ مِنْ الدَّمِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ الدَّمِ إلَى حَالٍ مُسْتَقْذَرَةٍ. (977) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّمِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، بِحَيْثُ إذَا جُمِعَ بَلَغَ هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ صَفِيقٍ، قَدْ نَفَذَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَاتَّصَلَ ظَاهِرُهُ بِبَاطِنِهِ، فَهُوَ نَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلَا، بَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الدَّمُ، فَهُمَا نَجَاسَتَانِ، إذَا بَلَغَا - لَوْ جُمِعَا - قَدْرًا لَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يُعْفَ عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَا فِي جَانِبَيْ الثَّوْبِ (978) . فَصْلٌ: وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَعَنْ سَائِرِ دِمَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ. فَأَمَّا دَمُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ؛ لِأَنَّ رُطُوبَاتِهِ الطَّاهِرَةَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَدَمُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ أَصَابَ جِسْمَ الْكَلْبِ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ، كَالْمَاءِ إذَا أَصَابَهُ. وَهَكَذَا كُلُّ دَمٍ أَصَابَ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِذَلِكَ. (979) فَصْلٌ: وَدَمُ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، كَالْبَقِّ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَالذُّبَابِ، وَنَحْوِهِ، فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجُسَ الْمَاءُ الْيَسِيرُ إذَا مَاتَ فِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا مَكَثَ فِي الْمَاءِ لَا يَسْلَمُ مِنْ خُرُوجِ فَضْلَةٍ مِنْهُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ مَسْفُوحٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ إذَا كَثُرَ: إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: اغْسِلْ مَا اسْتَطَعْتَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ: إذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُغْسَلَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ. لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَجَاسَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَوَقُّفِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْبَرَاغِيثِ دَمًا إنَّمَا هُوَ بَوْلُهَا فِي الظَّاهِرِ، وَبَوْلُ هَذِهِ الْحَشَرَاتِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: دَمُ السَّمَكِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى سَفْحِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا، لَوَقَفَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَى إرَاقَتِهِ بِالذَّبْحِ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ اسْتَحَالَ فَصَارَ مَاءً. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ مَسْفُوحٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] . (980) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْإِنْسَانِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، فَأَشْبَهَ الدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَذْيِ أَنَّهُ قَالَ: يُغْسَلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ قَالَ: سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ الْمَذْيِ يَخْرُجُ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْحَةِ، فَمَا عَلِمْت مِنْهُ فَاغْسِلْهُ، وَمَا غَلَبَك مِنْهُ فَدَعْهُ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الشَّبَابِ كَثِيرًا، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ، كَالدَّمِ. وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ إذَا قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْوَدْيِ مِثْلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَخْرَجِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَعَرَقِهِمَا، إذَا كَانَ يَسِيرًا. وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا مِمَّنْ يَرْكَبُ الْحَمِيرَ، إلَّا إنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا خَفَّ مِنْهُ أَسْهَلَ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا، وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ وَحَمَّادُ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: لَا بَأْسَ بِبَوْلِ الْخَفَافِيشِ. وَكَذَلِكَ الْخُفَّاشُ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ فِي الْمَسَاجِدِ يَكْثُرُ، فَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لَمْ يُقَرَّ فِي الْمَسَاجِدِ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، خُولِفَ فِي الدَّمِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ. [فَصْلٌ النَّجَاسَات الْمُغَلَّظَة] (981) فَصْلٌ: وَقَدْ عُفِيَ عَنْ النَّجَاسَاتِ الْمُغَلَّظَةِ لِأَجْلِ مَحَلِّهَا، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ أَحَدُهَا، مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ، فَعُفِيَ فِيهِ عَنْ أَثَرِ الِاسْتِجْمَارِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَهَارَتِهِ، فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْمَسْلَمَةِ، إلَى طَهَارَتِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَجْمِرُ يَعْرَقُ فِي سَرَاوِيلِهِ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجَّسَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، فِي الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ: إنَّهُمَا لَا يَطْهُرَانِ» . مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا يَطْهُرُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، فَيُزِيلُهَا كَالْمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ: لَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ، بَلْ هُوَ نَجِسٌ، فَلَوْ قَعَدَ الْمُسْتَجْمِرُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ نَجَّسَهُ، وَلَوْ عَرِقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ كُلَّهَا، فَالْبَاقِي مِنْهَا نَجِسٌ، لِأَنَّهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَحَلِّ وَحْدَهُ. الثَّانِي: أَسْفَلُ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ، إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ، فَدَلَكَهَا بِالْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ، يُجْزِئُ دَلْكُهُ بِالْأَرْضِ، وَتُبَاحُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» . وَفِي لَفْظٍ: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذَى، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى، فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ. قَالَ أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّعْلَ لَا تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ تُصِيبُهَا، فَلَوْ لَمْ يُجْزِئْ دَلْكُهَا لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ، يَجِبُ غَسْلُهُ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ؛ فَإِنَّ الدَّلْكَ لَا يُزِيلُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ. وَالثَّالِثَةُ يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِتَغَلُّظِ نَجَاسَتِهِمَا وَفُحْشِهِمَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ وَاجِبٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَعْلَيْهِ، إنَّ فِيهِمَا قَذَرًا. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ دَلْكُهُمَا، وَلَمْ يَزُلْ الْقَذَرُ مِنْهُمَا. قُلْنَا: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ دَلَكَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَدْلُكْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْقَذَرِ فِيهِمَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ دَلْكَهُمَا يُطَهِّرُهُمَا فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَقَالَ غَيْرُهُ: يُعْفَى عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ نَجَاسَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُجْزِئُ دَلْكُهُمَا بَعْدَ جَفَافِ نَجَاسَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ وَإِنْ دَلَكَهُمَا قَبْلَ جَفَافِهِمَا لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رُطُوبَةَ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةٌ فَلَا يُعْفَى عَنْهَا. وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ رَطْبٍ وَجَافٍّ. وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ اُجْتُزِئَ فِيهِ بِالْمَسْحِ، فَجَازَ فِي حَالِ رُطُوبَةِ الْمَمْسُوحِ كَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْمَحَلِّ مَعْفُوٌّ عَنْهَا إذَا جَفَّتْ قَبْلَ الدَّلْكِ، فَيُعْفَى عَنْهَا إذَا جَفَّتْ بِهِ كَالِاسْتِجْمَارِ. الثَّالِثُ: إذَا جَبَرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَجُبِرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَلْعُهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ، وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ بَاطِنَةٌ يَتَضَرَّرُ بِإِزَالَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ دِمَاءَ الْعُرُوقِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ قَلْعُهُ، مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ. وَإِنْ سَقَطَ سِنٌّ مِنْ أَسْنَانِهِ فَأَعَادَهَا بِحَرَارَتِهَا، فَثَبَتَتْ، فَهِيَ طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُهُ، وَالْآدَمِيُّ بِجُمْلَتِهِ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَذَلِكَ بَعْضُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الْعِظَامِ النَّجِسَةِ؛ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ. وَإِنَّمَا حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ لِحُرْمَتِهَا، وَحُرْمَتُهَا آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَعْضِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ مَا دُونَهَا. (982) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ نَجَاسَةٌ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهَا، كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ، عُفِيَ عَنْ أَثَرِ كَثِيرِهَا بِالْمَسْحِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمَسْحِ يَسِيرٌ. وَإِنْ كَثُرَ مَحَلُّهُ، عُفِيَ عَنْهُ، كَيَسِيرِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة إذَا خَفِيَ عَلَى الْمُصَلَّيْ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْب] (983) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (: وَإِذَا خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْبِ اسْتَظْهَرَ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْغَسْلَ قَدْ أَتَى عَلَى النَّجَاسَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا خَفِيَتْ فِي بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ، وَأَرَادَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ زَوَالَهَا، وَلَا يَتَيَقَّنُ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَ كُلَّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ أَصَابَتْهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ جِهَتَهَا مِنْ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ. وَإِنْ عَلِمَهَا فِي إحْدَى جِهَتَيْهِ غَسَلَ تِلْكَ الْجِهَةَ كُلَّهَا. وَإِنْ رَآهَا فِي بَدَنِهِ، أَوْ ثَوْبٍ - هُوَ لَابِسُهُ -، غَسَلَ كُلَّ مَا يُدْرِكُهُ بَصَرُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إذَا خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ نَضَحَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَتَحَرَّى مَكَانَ النَّجَاسَةِ فَيَغْسِلُهُ. وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: «يُجْزِئُكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَتَنْضَحَ بِهِ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ.» فَأَمَرَهُ بِالتَّحَرِّي وَالنَّضْحِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لِلْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ. فَلَمْ تُبَحْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَّا بِتَيَقُّنِ زَوَالِهِ كَمَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، وَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ فِي الْمَذْيِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُعَدَّى، لِأَنَّ أَحْكَامَ النَّجَاسَةِ تَخْتَلِفُ. وَقَوْلُهُ: حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ ". مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَصَابَ نَاحِيَةً مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ، فَيُجْزِئُهُ نَضْحُ الْمَكَانِ أَوْ غَسْلُهُ. [فَصْلٌ إنَّ خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي فَضَاءٍ وَاسِع صَلَّى حَيْثُ شَاءَ] (984) فَصْلٌ: وَإِنْ خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي فَضَاءٍ وَاسِعٍ، صَلَّى حَيْثُ شَاءَ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ، فَلَوْ مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَجِدَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَوْضِعًا صَغِيرًا، كَبَيْتٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ غَسْلُهُ، فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ. [مَسْأَلَة مَا خَرَجَ مِنْ الْإِنْسَان أَوَ الْبَهِيمَة الَّتِي لَا يُؤْكَل لَحْمهَا مِنْ بَوْل أَوَغَيْره] (985) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا خَرَجَ مِنْ الْإِنْسَانِ، أَوْ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ) يَعْنِي مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَالدَّمِ، وَغَيْرِهِ. فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِي نَجَاسَتِهِ خِلَافًا، إلَّا أَشْيَاءَ يَسِيرَةً، نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الَّذِي مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ إنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ «أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ» . وَأَمَّا الْوَدْيُ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ خَاثِرٌ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَوْلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَجَارٍ مَجْرَاهُ. وَأَمَّا الْمَذْيُ، فَهُوَ مَاءٌ لَزِجٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عَقِيبَ الشَّهْوَةِ، عَلَى طَرَفِ الذَّكَرِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ. قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَذْهَبُ فِي الْمَذْيِ إلَى أَنَّهُ يَغْسِلَ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ فِيمَا مَضَى وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنِيِّ. قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَذْيِ أَشَدُّ أَوْ الْمَنِيُّ، قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، لَيْسَا مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، إنَّمَا هُمَا مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ هَذَا، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمَذْيَ جُزْءٌ مِنْ الْمَنِيِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُمَا جَمِيعًا الشَّهْوَةُ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ، أَشْبَهَ الْمَنِيَّ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، لَيْسَ بَدْءًا لِخَلْقِ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ: هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ النَّضْحُ، أَوْ يَجِبُ غَسْلُهُ؟ قَالَ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: الْمَذْيُ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ لَيْسَ يَدْفَعُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ، مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَرْوِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُخَالِفُهُ. وَهُوَ مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، قَالَ: «كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يُجْزِئُكَ مِنْهُ الْوُضُوءُ. قُلْت: فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيك أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ وُجُوبُ غَسْلِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، كَيْفَ الْعَمَلُ فِيهِ؟ قَالَ: الْغَسْلُ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ: حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْمَذْيِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، وَلِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ غَسْلُهَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا أَحْكُمُ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَرُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. [فَصْلٌ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَة] فَصْلٌ: وَفِي رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَرْجِ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، أَشْبَهَ الْمَذْيَ. وَالثَّانِي: طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ جِمَاعٍ، فَإِنَّهُ مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ، وَهُوَ يُلَاقِي رُطُوبَةَ الْفَرْجِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، لَحَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا، فَيَتَنَجَّسُ بِرُطُوبَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَصَابَ مِنْهُ فِي حَالِ الْجِمَاعِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْمَذْيِ، وَهُوَ نَجِسٌ. وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ إذَا اشْتَدَّتْ خَرَجَ الْمَنِيُّ دُونَ الْمَذْيِ، كَحَالِ الِاحْتِلَامِ. [فَصْلٌ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِر] (987) فَصْلٌ: وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِرٌ. وَهَذَا مَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَرَى أَهْلُ الْعِلْمِ أَبْوَالَ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَشُرِبَ لَبَنُهُ نَجِسًا. وَرَخَّصَ فِي أَبْوَالِ الْغَنَمِ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الصَّلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، إلَّا الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا. وَرَخَّصَ فِي ذَرْقِ الطَّائِرِ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ ذَلِكَ نَجِسٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ» . وَلِأَنَّهُ رَجِيعٌ، فَكَانَ نَجِسًا كَرَجِيعِ الْآدَمِيِّ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْعُرَنِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ» ، وَالنَّجِسُ لَا يُبَاحُ شُرْبُهُ، وَلَوْ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ لَأَمَرَهُمْ بِغَسْلِ أَثَرِهِ إذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ «، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْغَنَمِ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَقَدَّمْت إلَى هَاهُنَا؟ فَقَالَ: هَذَا وَذَاكَ وَاحِدٌ. وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَاشِرُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مُتَحَلِّلٌ مُعْتَادٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَكَانَ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ، وَذَرْقِ الطَّائِرِ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتْ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا، فَيَتَنَجَّسُ بَعْضُهَا، وَيَخْتَلِطُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ، فَيَصِيرُ حُكْمُ الْجَمِيعِ حُكْمَ النَّجِسِ. [فَصْلٌ الْخَارِج مِنْ غَيْر السَّبِيلَيْنِ] (988) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، فَالْحَيَوَانَاتُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْآدَمِيُّ، فَالْخَارِجُ مِنْهُ نَوْعَانِ، طَاهِرٌ وَهُوَ رِيقُهُ وَدَمْعُهُ وَعَرَقُهُ وَمُخَاطُهُ، وَنُخَامَتُهُ، فَإِنَّهُ جَاءَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، أَنَّهُ مَا تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْلَا طَهَارَتُهَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ، فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا» . وَوَصَفَ الْقَاسِمُ: فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّأْسِ وَالْبَلْغَمِ الْخَارِجِ مِنْ الصَّدْرِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْبَلْغَمُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْمَعِدَةِ، أَشْبَهَ الْقَيْءَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وَلَنَا، أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ النُّخَامَةِ، أَشْبَهَ الْآخَرَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا نَجُسَ بِهِ الْفَمُ، وَنَقَضَ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ " إنَّهُ طَعَامٌ مُسْتَحِيلٌ فِي الْمَعِدَةِ " غَيْرُ مُسَلَّمٍ، إنَّمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ الْأَبْخِرَةِ، فَهُوَ كَالنَّازِلِ مِنْ الرَّأْسِ، وَكَالْمُخَاطِ؛ وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الْمُخَاطَ. النَّوْعُ الثَّانِي: نَجِسٌ، وَهُوَ الدَّمُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعِدَةِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ، فَهَذَا نَجِسٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا أُكِلَ لَحْمُهُ، فَالْخَارِجُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا، نَجِسٌ، وَهُوَ الدَّمُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ. الثَّانِي، طَاهِرٌ، وَهُوَ الرِّيقُ وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ وَاللَّبَنُ. فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. الثَّالِثُ: الْقَيْءُ، وَنَحْوُهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُسْتَحِيلٌ، فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنِيُّهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا. الثَّانِي، مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا. فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ، عَلَى مَا فُصِّلَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، مَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهُ فِي الْخِلْقَةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْآدَمِيِّ؛ مَا حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهِ مِنْ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ مِنْهُ نَجِسٌ. وَمَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ مِنْ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ مِنْهُ طَاهِرٌ، إلَّا مَنِيَّهُ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ فَشَرُفَ بِتَطْهِيرِهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ هَاهُنَا. النَّوْعُ الثَّانِي، مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، فَهُوَ طَاهِرٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَفَضَلَاتِهِ. [مَسْأَلَة بَوْلُ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَام] (989) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا بَوْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، فَإِنَّهُ يُرَشُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْكَلَامِ طَهَارَةَ بَوْلِ الْغُلَامِ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ بَوْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ الطَّعَامَ يُجْزِئُ فِيهِ الرَّشُّ، وَهُوَ أَنْ يَنْضَحَ عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى يَغْمُرَهُ، وَلَا يَحْتَاجَ إلَى رَشٍّ وَعَصْرٍ،، وَبَوْلَ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ وَإِنْ لَمْ تَطْعَمْ. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي: رَأَيْت لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ. (1) وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُغْسَلُ بَوْلُ الْغُلَامِ كَمَا يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بَوْلٌ نَجِسٌ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ النَّجِسَةِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّجَاسَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِمَا. وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مُحْصِنٍ «، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ، لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَبِيٍّ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: «كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَقُلْت: الْبَسْ ثَوْبًا آخَرَ، وَأَعْطِنِي إزَارَك حَتَّى أَغْسِلَهُ. فَقَالَ: إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيَنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الذَّكَرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَوْلُ الْغُلَامِ يُنْضَحُ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا الطَّعَامَ، فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَ بَوْلُهُمَا. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاتِّبَاعُهَا أَوْلَى، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ. (990) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إذَا طَعِمَ الطَّعَامَ، وَأَرَادَهُ، وَاشْتَهَاهُ، غُسِلَ بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إذَا أُطْعِمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ سَاعَةَ يُولَدُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَنَّكَ بِالتَّمْرِ. وَلَكِنْ إذَا كَانَ يَأْكُلُ وَيُرِيدُ الْأَكْلَ، فَعَلَى هَذَا مَا يُسْقَاهُ الصَّبِيُّ أَوْ يَلْعَقُهُ لِلتَّدَاوِي لَا يُعَدُّ طَعَامًا يُوجِبُ الْغَسْلَ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ، هُوَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ بَوْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْمَنِيُّ طَاهِر] (991) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَنِيُّ طَاهِرٌ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ كَالدَّمِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَنِيِّ، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَعَنْهُ أَنَّهُ كَالدَّمِ، أَيْ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ. وَعَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ. وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْسَحْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ، وَلَا تَغْسِلْهُ إنْ شِئْت. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: إذَا صَلَّى فِيهِ لَمْ يُعِدْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: غَسْلُ الِاحْتِلَامِ أَمْرٌ وَاجِبٌ. وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ نَجِسٌ، وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: ثُمَّ أَرَى فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِي: غَسْلُ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ أَحْوَطُ وَأَثْبَتُ فِي الرِّوَايَةِ. وَقَدْ جَاءَ الْفَرْكُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ: إنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ. وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ» . وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مُعْتَادٌ مِنْ السَّبِيلِ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيُصَلِّي فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْسَحْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ، وَلَا تَغْسِلْهُ، إنَّمَا هُوَ كَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا جَفَّ، فَلَمْ يَكُنْ نَجِسًا كَالْمُخَاطِ، وَلِأَنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَكَانَ طَاهِرًا كَالطِّينِ، وَيُفَارِقُ الْبَوْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ. (992) فَصْلٌ: فَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ الْمَنِيِّ فَرَكَ الثَّوْبُ كُلُّهُ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ اُسْتُحِبَّ فَرْكُهُ. وَإِنْ صَلَّى فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْكٍ، أَجْزَأَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ بِالطَّهَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْضَحُ الثَّوْبَ كُلَّهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ: يُغْسَلُ الثَّوْبُ كُلُّهُ. وَلَنَا، أَنَّ فَرْكَهُ يُجْزِئُ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خَفِيَ، وَأَمَّا النَّضْحُ فَلَا يُفِيدُ، فَإِنَّهُ لَا يُطَهِّرُهُ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خَفِيَ. وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالطَّهَارَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، كَحَالِ الْعِلْمِ بِهِ. فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّمَا يُفْرَكُ مَنِيُّ الرَّجُلِ، أَمَّا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ فَلَا يُفْرَكُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لِلرَّجُلِ ثَخِينٌ، وَاَلَّذِي لِلْمَرْأَةِ رَقِيقٌ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ الْفَرْكَ يُرَادُ لِلتَّخْفِيفِ وَالرَّقِيقُ لَا يَبْقَى لَهُ جِسْمٌ بَعْدَ جَفَافِهِ يَزُولُ بِالْفَرْكِ، فَلَا يُفِيدُ فِيهِ شَيْئًا، فَعَلَى هَذَا إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، كَالْبَوْلِ. وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ، اُسْتُحِبَّ غَسْلُهُ، كَمَا يُسْتَحَبُّ فَرْكُ مَنِيِّ الرَّجُلِ. وَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ فَلَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنِيٌّ، وَهُوَ بَدْءٌ لِخَلْقِ آدَمِيٍّ، خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ. (994) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْعَلَقَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهَا رِوَايَتَانِ، كَالْمَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ. وَالصَّحِيحُ نَجَاسَتُهَا؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 لِأَنَّهَا دَمٌ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ فِيهَا طَهَارَةٌ، وَقِيَاسُهَا عَلَى الْمَنِيِّ مُمْتَنِعٌ، لِكَوْنِهَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ، فَأَشْبَهَتْ دَمَ الْحَيْضِ (995) . فَصْلٌ: وَمَنْ أَمْنَى وَعَلَى فَرْجِهِ نَجَاسَةٌ نَجُسَ مَنِيُّهُ؛ لِإِصَابَتِهِ النَّجَاسَةَ، وَلَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لِذَلِكَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمَنِيِّ مِنْ الْجِمَاعِ أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْمَذْيِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ هَذَا. فَإِنَّ مَنِيَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِفَرْكِهِ، وَالطَّهَارَةُ لِغَيْرِهِ إنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ طَهَارَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْبَوْلَةُ عَلَى الْأَرْضِ يُطَهِّرُهَا دَلْوٌ مِنْ مَاءِ] (996) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْبَوْلَةُ عَلَى الْأَرْضِ يُطَهِّرُهَا دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا تَنَجَّسَتْ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ، كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا. فَطَهُورُهَا أَنْ يَغْمُرَهَا بِالْمَاءِ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا. فَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَنْفَصِلَ الْمَاءُ، فَيَكُونَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ. وَلَنَا. مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» . وَفِي لَفْظٍ: فَدَعَاهُ، فَقَالَ: " إنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ". أَوْ كَمَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْمُنْفَصِلَ طَاهِرٌ لَكَانَ قَدْ أَمَرَ بِزِيَادَةِ تَنْجِيسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فَصَارَ فِي مَوَاضِعَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْهِيرَ الْمَسْجِدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً» . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سَمْعَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَحُفِرَ. قُلْنَا: لَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي خَبَرٍ مُتَّصِلٍ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَعْقِلٍ مُرْسَلٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: ابْنُ مَعْقِلٍ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَحَدِيثُ سَمْعَانَ مُنْكَرٌ. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ: مَا أَعْرِفُ سَمْعَانَ. وَلِأَنَّ الْبَلَّةَ الْبَاقِيَةَ فِي الْمَحَلِّ بَعْدَ غَسْلِهِ طَاهِرَةٌ، وَهِيَ بَعْضُ الْمُنْفَصِلِ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ. قُلْنَا: بَعْدَ طَهَارَتِهَا، لِأَنَّ الْمَاءَ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْهَا لَنَجُسَ بِهَا حَالَ مُلَاقَاتِهِ لَهَا، وَلَوْ نَجُسَ بِهَا لَمَا طَهُرَ الْمَحَلُّ، وَلَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ فِي الْمَحَلِّ نَجِسًا. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْمُنْفَصِلِ إذَا نَشَفَتْ النَّجَاسَةُ، وَذَهَبَتْ أَجْزَاؤُهَا، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَثَرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهَا بَاقِيَةً، طَهُرَ الْمَحَلُّ، وَنَجُسَ الْمُنْفَصِلُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ أَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِبَقَاءِ أَجْزَائِهَا بَقَاءَ رُطُوبَتِهَا، فَهُوَ خِلَافُ الْخَبَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صُبَّ عَلَيْهِ عَقِيبَ فَرَاغِهِ مِنْهُ. وَإِنْ أَرَادَ بَقَاءَ الْبَوْلِ مُتَنَقِّعًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّطُوبَةِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْبَوْلِ وَكَثِيرَهُ فِي التَّنْجِيسِ سَوَاءٌ. وَالرُّطُوبَةُ أَجْزَاءٌ تَنْجُسُ كَمَا تَنْجُسُ الْمُتَنَقِّعُ، فَلَا فَرْقَ إذًا. [فَصْلٌ أَصَابَ الْأَرْض مَاء الْمَطَر أَوْ السُّيُول فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا] (997) فَصْلٌ: وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوْ السُّيُولِ، فَغَمَرَهَا، وَجَرَى عَلَيْهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ صُبَّ عَلَيْهَا؛ لَأَنْ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْبَوْلِ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ فَتُمْطِرُ عَلَيْهِ السَّمَاءُ: إذَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ ذَنُوبًا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْبَوْلِ، فَقَدْ طَهُرَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ يَخْتَلِطُ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ: مَاءُ الْمَطَرِ عِنْدِي لَا يُخَالِطُ شَيْئًا إلَّا طَهَّرَهُ، إلَّا الْعَذِرَةَ. فَإِنَّهَا تُقْطَعُ. وَسُئِلَ عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيلَ فِيهِ بَعْدَ الْمَطَرِ. وَقَالَ: كُلّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ نَظِيفٌ، دَاسَتْهُ الدَّوَابُّ أَوْ لَمْ تَدُسْهُ. وَقَالَ فِي الْمِيزَابِ: إذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ النَّظِيفِ فَلَا بَأْسَ بِمَا قَطَرَ عَلَيْك مِنْ الْمَطَرِ. إذَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَذَرٌ. قِيلَ لَهُ: فَأَسْأَلُ عَنْهُ؟ قَالَ: لَا تَسْأَلْ، وَمَا دَعَاك إلَى أَنْ تَسْأَلَ وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ مَخْرَجٍ، أَوْ مَوْضِعَ قَذَرٍ. فَلَا تَغْسِلْهُ. وَاحْتُجَّ فِي طَهَارَةِ طِينِ الْمَطَرِ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ. وَاحْتُجَّ بِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ الْمَطَرَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَلَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ، لَمَّا غَلَبَ الْمَاءُ الْقَذِرُ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَاضَ طِينَ الْمَطَرِ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَالْحَسَنُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ. لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. (998) فَصْلٌ: وَلَا تُطَهَّرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إلَّا بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إزَالَتُهَا، كَالثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ. " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 (999) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ ذَاتَ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، كَالرَّمِيمِ، وَالرَّوْثِ، وَالدَّمِ إذَا جَفَّ، فَاخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ، لَمْ تَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تَنْقَلِبُ، وَلَا تَطْهُرُ إلَّا بِإِزَالَةِ أَجْزَاءِ الْمَكَانِ، بِحَيْثُ يُتَيَقَّنُ زَوَالُ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ. وَلَوْ بَادَرَ الْبَوْلَ وَهُوَ رَطْبٌ، فَقَلَعَ التُّرَابَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُهُ، فَالْبَاقِي طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ كَانَ رَطْبًا وَقَدْ زَالَ. وَإِنْ جَفَّ فَأَزَالَ مَا وَجَدَ عَلَيْهِ الْأَثَرَ، لَمْ يَطْهُرْ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ إنَّمَا يَبِينُ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ، لَكِنْ إنْ قَلَعَ مَا تَيَقَّنَ بِهِ زَوَالَ مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ، فَالْبَاقِي طَاهِرٌ. فَصْلٌ: وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ النَّجِسَةُ بِشَمْسٍ وَلَا رِيحٍ وَلَا جَفَافٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَطْهُرُ إذَا ذَهَبَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: جُفُوفُ الْأَرْضِ طَهُورُهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تَبُولُ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» . وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ، فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ، كَالثِّيَابِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَوْلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ، ثُمَّ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَكُونُ إقْبَالُهَا وَإِدْبَارُهَا فِيهِ بَعْدَ بَوْلِهَا. (1001) فَصْلٌ: وَلَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَلَوْ أُحْرِقَ السِّرْجِينُ النَّجِسُ فَصَارَ رَمَادًا، أَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلَّاحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، لَمْ تَطْهُرْ. لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَمْ تَحْصُلْ بِالِاسْتِحَالَةِ. فَلَمْ تَطْهُرْ بِهَا، كَالدَّمِ إذَا صَارَ قَيْحًا أَوْ صَدِيدًا، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ بِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 [فَصْلٌ الْمُنْفَصِل مِنْ غَسَّالَة النَّجَاسَة يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَة أَقْسَام] (1002) فَصْلٌ: وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ غُسَالَةِ النَّجَاسَةِ، يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْفَصِلَ مُتَغَيِّرًا بِهَا، فَهُوَ نَجِسٌ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِالنَّجَاسَةِ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْفَصِلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ نَجِسٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَاقَى نَجَاسَةً لَمْ يُطَهِّرْهَا، فَكَانَ نَجِسًا، كَالْمُتَغَيِّرِ، وَكَالْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ فِي الْمَحَلِّ نَجِسٌ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي غُسِلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَحَلِّ نَجِسًا، وَعَصْرُهُ لَا يَجْعَلُهُ طَاهِرًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَنْفَصِلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ الْمَحَلَّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُتَّصِلِ، وَالْمُتَّصِلُ طَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَزَالَ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَالْمُنْفَصِلِ مِنْ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي، هُوَ نَجِسٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَاقَى نَجَاسَةً، فَنَجُسَ بِهَا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ، فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَكُونُ طَهُورًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهُورِيَّتُهُ، وَلِأَنَّ الْحَادِثَ فِيهِ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، فَلَمْ تَزُلْ طَهُورِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبًا طَاهِرًا. وَالثَّانِي، أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، لِأَنَّهُ أَزَالَ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ مَا رُفِعَ بِهِ الْحَدَثُ. (1003) فَصْلٌ: إذَا جُمِعَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ وَبَعْدَهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَالْجَمِيعُ نَجِسٌ، تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَاءَ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ الْمَحَلَّ. وَلَنَا، أَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمَاءُ النَّجِسُ وَالطَّاهِرُ وَهُوَ يَسِيرٌ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ مَعَ مَاءٍ غَيْرِ الَّذِي غَسَلَ الْمَحَلَّ. [مَسْأَلَة إذَا نَسِيَ فَصَلَّى بِهِمْ جُنُبًا] (1004) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا نَسِيَ فَصَلَّى بِهِمْ جُنُبًا، أَعَادَ وَحْدَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ مُحْدِثًا، أَوْ جُنُبًا، غَيْرَ عَالِمٍ بِحَدَثِهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ هُوَ وَلَا الْمَأْمُومُونَ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مُحْدِثًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرُفِ، فَأَهْرَقَ الْمَاءَ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَارْتَفَعَ النَّهَارُ فَإِذَا هُوَ بِأَثَرِ الْجَنَابَةِ. فَقَالَ: كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ آمُرُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُعِيدَ، وَلَا آمُرُهُمْ أَنْ يُعِيدُوا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْغَدَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا. رَوَاهُ كُلَّهُ الْأَثْرَمُ. وَهَذَا فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ فِي خِلَافِهِ، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ، أَعَادَ صَلَاتَهُ، وَتَمَّتْ لِلْقَوْمِ صَلَاتُهُمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، فِي " جُزْءٍ ". وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مِمَّا يَخْفَى، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَأْمُومِ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ الْإِمَامِ، فَكَانَ مَعْذُورًا فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ حَدَثُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْزِئًا بِالصَّلَاةِ فَاعِلًا لِمَا لَا يَحِلُّ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ، فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَقِيَاسُ الْمَعْذُورِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ، وَالْحُكْمُ فِي النَّجَاسَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَدَثِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْأُخْرَى، وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا فِي خَفَائِهَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، بَلْ حُكْمُ النَّجَاسَةِ أَخَفُّ، وَخَفَاؤُهَا أَكْثَرُ، إلَّا أَنَّ فِي النَّجَاسَةِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ تَصِحُّ أَيْضًا، إذَا نَسِيَهَا. [فَصْلٌ إذَا عَلِمَ بِحَدَثِ نَفْسه فِي الصَّلَاة أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ] (1005) فَصْلٌ: إذَا عَلِمَ بِحَدَثِ نَفْسِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ، لَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ. نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، بَعْضَ الصَّلَاةِ، فَذَكَرَ؟ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَبْتَدِئُوا الصَّلَاةَ. قُلْت لَهُ: يَقُولُ لَهُمْ اسْتَأْنِفُوا الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يَنْصَرِفُ وَيَتَكَلَّمُ، وَيَبْتَدِئُونَ هُمْ الصَّلَاةَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ، أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ صَحِيحٌ، فَكَانَ لَهُمْ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ. وَلَنَا، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مَعَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ. وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِيمَا إذَا اسْتَمَرَّ الْجَهْلُ مِنْهُمَا لِلْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ حَالَ اسْتِمْرَارِ الْجَهْلِ يَشُقُّ، لِتَفَرُّقِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمُوا فِي الصَّلَاةِ. وَإِنْ عَلِمَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ دُونَ بَعْضٍ، فَالْمَنْصُوصُ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمِيعِ تَفْسُدُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ الْبُطْلَانُ بِمَنْ عَلِمَ دُونَ مَنْ جَهِلَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مُبْطِلٌ اخْتَصَّ بِهِ، فَاخْتَصَّ بِالْبُطْلَانِ، كَحَدَثِ نَفْسِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 (1006) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، كَالسِّتَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى غَالِبًا، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ. وَكَذَا إنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَرْكِ رُكْنٍ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ، يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ، وَكَذَلِكَ فِي مَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ. (1007) فَصْلٌ: وَإِنْ فَسَدَتْ لِفِعْلٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ، أَفْسَدَ صَلَاةَ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الضَّحِكِ أَنَّهُ يُبْطِلُ صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَفْسَدَ صَلَاةَ الْإِمَامِ، فَأَفْسَدَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ كَتَرْكِ الشَّرْطِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الشَّرْطِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُ قِرَاءَةً، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّك خَفَضْتَ مِنْ صَوْتِك: قَالَ: وَمَا سَمِعْتُمْ؟ قَالُوا: مَا سَمِعْنَا لَك قِرَاءَةً. قَالَ: فَمَا قَرَأْتُ فِي نَفْسِي، شَغَلَتْنِي عِيرٌ جَهَّزْتُهَا إلَى الشَّامِ. ثُمَّ قَالَ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ. ثُمَّ أَقَامَ، فَأَعَادَ وَأَعَادَ النَّاسُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لَلَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُهَا، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى تَرْكِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ آكَدُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْمُبْطِلِ. [فَصْلٌ إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَث] (1008) فَصْلٌ: إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَعَلْقَمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ، وَجَبُنْتُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فُقِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، فَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَقَوْلُهُمَا عِنْدَهُ حُجَّةٌ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: جَبُنْتُ عَنْهُ. إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَتَوَقُّفُهُ مَرَّةً لَا يُبْطِلُ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، كَمَا فَعَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَقَدَّمَ الْمَأْمُومُونَ مِنْهُمْ رَجُلًا فَأَتَمَّ بِهِمْ، جَازَ. وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا جَازَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ، فِي إمَامٍ يَنُوبُهُ الدَّمُ أَوْ رَعَفَ أَوْ يَجِدُ مَذْيًا يَنْصَرِفُ، وَلْيَقُلْ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ فُرَادَى إذَا كَانَ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ تَوَقُّفَ أَحْمَدَ إنَّمَا كَانَ فِي الِاسْتِخْلَافِ، لَا فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ لَا تَفْسُدُ بِضَحِكِ الْإِمَامِ، فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ قَدَّمَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ لَهُمْ إمَامًا فَصَلَّى بِهِمْ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ كُلِّهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا. فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا، كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ رَجُلًا، وَصَلَّى الْبَاقُونَ وُحْدَانًا، جَازَ. (1009) فَصْلٌ: فَأَمَّا الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ، فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ. هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَبْنِي. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ» . وَعَنْهُ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إنْ كَانَ الْحَدَثُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ابْتَدَأَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا بَنَى لِأَنَّ حُكْمَ نَجَاسَةِ السَّبِيلِ أَغْلَظُ، وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ بِالْبِنَاءِ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي بِهِمْ، فَانْصَرَفَ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ: إنِّي قُمْتُ بِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنِّي كُنْتُ جُنُبًا وَلَمْ أَغْتَسِلْ، فَانْصَرَفْتُ فَاغْتَسَلْتُ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْكُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنِي، أَوْ أَصَابَهُ فِي بَطْنِهِ رِزٌّ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَغْتَسِلْ، أَوْ لِيَتَوَضَّأْ، وَلْيَسْتَقْبِلْ صَلَاتَهُ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ نَجَاسَةً يَحْتَاجُ فِي إزَالَتِهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ السُّتْرَةَ إلَّا بَعِيدَةً مِنْهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ، أَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ. (1010) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَخْلَفَ مَنْ سُبِقَ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ، فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ، وَيَقْضِي بَعْدَ فَرَاغِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَأَكْثَرِ مَنْ وَافَقَهُمَا فِي الِاسْتِخْلَافِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَبْتَدِئَ قَالَ مَالِكٌ: وَيُصَلِّي لِنَفْسِهِ صَلَاةً تَامَّةً، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ قَعَدُوا وَانْتَظَرُوهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْمَأْمُومِينَ لِلْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ إذَا فَرَغَ الْمَأْمُومُونَ قَبْلَ فَرَاغِ إمَامِهِمْ، وَقَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ وَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَانْتِظَارُهُمْ لَهُ أَوْلَى. وَإِنْ سَلَّمُوا وَلَمْ يَنْتَظِرُوهُ جَازَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَالْأَوْلَى انْتِظَارُهُ. وَإِنْ سَلَّمُوا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى خَلِيفَةٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا السَّلَامُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِخْلَافِ فِيهِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَنَى جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ، وَصَارَ تَابِعًا لِلْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ ابْتَدَأَ جَلَسَ الْمَأْمُومُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِمْ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الِاسْتِخْلَافُ فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إذَا اسْتَخْلَفَ مِنْ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى] (1011) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَخْلَفَ مَنْ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ احْتَمَلَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ، وَإِلَّا سَبَّحُوا بِهِ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ مَنْ خَلْفَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ. يَتَصَنَّعُ، فَإِنْ سَبَّحُوا بِهِ جَلَسَ، وَعَلِمَ أَنَّهَا الرَّابِعَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بَقَاءَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، فَإِذَا سَلَّمَ قَامَ الرَّجُلُ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّي لِنَفْسِهِ صَلَاةً تَامَّةً فَإِنْ فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ قَعَدُوا وَانْتَظَرُوهُ. وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى مُتَقَارِبَةٌ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ، أَنَّهُ إنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ لِذَلِكَ، كَغَيْرِ الْمُسْتَخْلَفِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ أَنَّهُ شَكٌّ مِمَّنْ لَا ظَنَّ لَهُ، فَوَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، كَسَائِرِ الْمُصَلَّيْنَ. [فَصْلٌ مِنْ أَجَازَ الِاسْتِخْلَاف فَقَدْ أَجَازَ نَقُلْ الْجَمَاعَة إلَى جَمَاعَة أُخْرَى] (1012) فَصْلٌ: وَمَنْ أَجَازَ الِاسْتِخْلَافَ، فَقَدْ أَجَازَ نَقْلَ الْجَمَاعَةِ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى، لِلْعُذْرِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ. وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ. وَفَعَلَ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى، جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَانِبِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَسَارٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ قَائِمٌ، يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ.» وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا يُقَوِّي جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ جَمَاعَةٍ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى حَالَ الْعُذْرِ. فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ اثْنَانِ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَنَوَى الْآخَرُ إمَامَتَهُ، أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ الِاسْتِخْلَافَ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وَلَوْ تَخَلَّفَ إمَامُ الْحَيِّ مِنْ الصَّلَاةِ لِغَيْبَةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ، وَصَلَّى غَيْرُهُ، وَحَضَرَ إمَامُ الْحَيِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ، وَتَقَدَّمَ إمَامُ الْحَيِّ، فَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الْفَضْلِ. [فَصْلٌ إذَا وُجِدَ الْمُبْطِلُ فِي الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَام] (1013) فَصْلٌ: إذَا وُجِدَ الْمُبْطِلُ فِي الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَوْ ضَحِكَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبْطِلَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الصَّلَاةُ سِوَاهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ الْإِمَامِ مَعَهُ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ؛ لِأَنَّ ارْتِبَاطَ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْمَأْمُومِ كَارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ، فَمَا فَسَدَ ثَمَّ فَسَدَ هَاهُنَا، وَمَا صَحَّ ثَمَّ صَحَّ هَاهُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ رَجُلَيْنِ أُمّ أَحَدهمَا صَاحِبه فَشَمَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا رِيحًا] (1014) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رَجُلَيْنِ أَمَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَشَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيحًا، أَوْ سَمِعَ صَوْتًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ وَكُلٌّ يَقُولُ لَيْسَ مِنِّي: يَتَوَضَّآنِ جَمِيعًا، وَيُصَلِّيَانِ؛ إنَّمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ صَارَ فَذًّا، وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِفَسَادِ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِفَسَادِ صَلَاةِ صَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ صَارَ فَذًّا. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُورَةِ، يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادَ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِفَسَادِ صَلَاتِهِمَا إذَا أَتَمَّا الصَّلَاةَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُحْدِثِ، وَالْإِمَامَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَؤُمُّ مُحْدِثًا. وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَتَوَضَّآنِ لِتَصِحَّ صَلَاتُهُمَا جَمَاعَةً. إذْ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ أَوْ يَؤُمَّهُ مَعَ اعْتِقَادِ حَدَثِهِ، وَلَعَلَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ احْتِيَاطًا، أَمَّا إذَا صَلَّيَا مُنْفَرِدَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ يَقِينَ الطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحَدَثَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. (1015) فَصْلٌ: وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي إمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ، فَشَهِدَ اثْنَانِ عَنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ، وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ وَبَقِيَّةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الْمَأْمُومِينَ: يُعِيدُ، وَيُعِيدُونَ. وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إثْبَاتٌ يُقَدَّمُ عَلَى النَّفْيِ، لِاحْتِمَالِ عِلْمِهِمَا بِهِ، مَعَ خَفَائِهِ عَنْهُ وَعَنْ بَقِيَّةِ الْمَأْمُومِينَ. وَقَوْلُهُ: " يُعِيدُونَ ". لِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ مَتَى عَلِمَ بَعْضُهُمْ بِحَدَثِ إمَامِهِمْ، لَزِمَتْ الْجَمِيعَ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَخْتَصُّ الْإِعَادَةُ مَنْ عَلِمَ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 [بَابُ السَّاعَات الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا] رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي لَفْظٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ حَدِيثِ عُمَرَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ. قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، حَتَّى تَرْتَفِعَ؛ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ، حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ» . رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ. [مَسْأَلَة قَضَاء الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةَ فِي جَمِيع أَوْقَات النَّهْي وَغَيْرِهَا] (1016) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَيَقْضِي الْفَوَائِتَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْفَرْضِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُقْضَى الْفَوَائِتُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ يُصَلِّيهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَخَّرَهَا حَتَّى ابْيَضَّتْ الشَّمْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ، فَلَمْ تَجُزْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالنَّوَافِلِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَامَ فِي دَالِيَةٍ، فَاسْتَيْقَظَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَانْتَظَرَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى. وَعَنْ كَعْبٍ - أَحْسِبُهُ ابْنَ عُجْرَةَ - أَنَّهُ نَامَ حَتَّى طَلَعَ قَرْنُ الشَّمْسِ فَأَجْلَسَهُ، فَلَمَّا أَنْ تَعَالَتْ الشَّمْسُ قَالَ لَهُ: صَلِّ الْآنَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَخَبَرُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالْقَضَاءِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَبِعَصْرِ يَوْمِهِ، فَنَقِيسُ مَحَلَّ النِّزَاعِ عَلَى الْمَخْصُوصِ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ. [فَصْلٌ طَلَعْت الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْح] (1017) فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَعْت الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَتَمَّهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي وَقْتِ النَّهْيِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فِي وَقْتِ النَّهْي] (1018) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُهُ بِنَاءً عَلَى صَوْمِ الْوَاجِبِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَلَنَا أَنَّهَا صَلَاةٌ وَاجِبَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الْفَوَائِتَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ وَافَقَنَا فِيهِ فِيمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ. [مَسْأَلَة يَرْكَعُ لِلطَّوَافِ] (1019) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْكَعُ لِلطَّوَافِ) يَعْنِي فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَمِمَّنْ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَفَعَلَهُ عُرْوَةُ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وَلَنَا، مَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَابِعَةٌ لَهُ، فَإِذَا أُبِيحَ الْمَتْبُوعُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ التَّبَعُ، وَحَدِيثُهُمْ مَخْصُوصٌ بِالْفَوَائِتِ، وَحَدِيثُنَا لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. [مَسْأَلَةَ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةَ فِي أَوْقَات النَّهْي] (1020) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ) أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَمِيلَ لِلْغُرُوبِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَا يَجُوزُ. ذَكَرَهَا الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ؟ قَالَ: أَمَّا حِينَ تَطْلُعُ فَمَا يُعْجِبُنِي. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُبَاحُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَأُبِيحَتْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، كَالْفَرَائِضِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» . وَذِكْرُهُ لِلصَّلَاةِ مَقْرُونًا بِالدَّفْنِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّ مُدَّتَهُمَا تَطُولُ، فَالِانْتِظَارُ يُخَافُ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ مُدَّتُهَا تَقْصُرُ، وَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا آكَدُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِيهَا آكَدُ، وَزَمَنُهَا أَقْصَرُ، فَلَا يُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْ الدَّفْنِ فِيهَا، وَالصَّلَاةُ الْمَقْرُونَةُ بِالدَّفْنِ تَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَتَمْنَعُهَا الْقَرِينَةُ مِنْ الْخُرُوجِ بِالتَّخْصِيصِ، بِخِلَافِ الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةَ وَقَدْ كَانَ صَلَّاهَا] (1021) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُصَلِّي إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَقَدْ كَانَ صَلَّاهَا) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَتُهَا، أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ، بِشَرْطِ أَنْ تُقَامَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. فَإِنْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الدُّخُولُ. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي لِجَوَازِ الْإِعَادَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، أَنْ يَكُونَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ. وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ إمَامِ الْحَيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الْمُصَلِّي جَمَاعَةً وَفُرَادَى. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، أَيُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. إنَّمَا هِيَ نَافِلَةٌ فَلَا يَدْخُلُ، فَإِنْ دَخَلَ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَالْمَغْرِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْمَغْرِبِ يَشْفَعُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ صَلَّى وَحْدَهُ أَعَادَ الْمَغْرِبَ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يُعِدْهَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى الْإِعَادَةِ قَالَ فِيهِ: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعَادُ الْفَجْرُ وَلَا الْعَصْرُ وَلَا الْمَغْرِبُ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِيهِ، وَلَا تُعَادُ الْمَغْرِبُ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَكُونُ بِوِتْرٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيِّ: تُعَادُ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا إلَّا الصُّبْحَ وَالْمَغْرِبَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: تُعَادُ كُلُّهَا إلَّا الْمَغْرِبَ، لِئَلَّا يَتَطَوَّعَ بِوِتْرٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: إلَّا الصُّبْحَ وَحْدَهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّتَهُ فَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: لَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ؛ فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ بُسْرِ بْنِ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُذِّنَ لِلصَّلَاةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ . فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي قَدْ صَلَّيْت فِي أَهْلِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا جِئْت فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «إنَّ خَلِيلِي - يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَانِي أَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِذَا أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إنِّي قَدْ صَلَّيْت، فَلَا أُصَلِّي» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِعُمُومِهَا تَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ صَرِيحٌ فِي إعَادَةِ الْفَجْرِ، وَالْعَصْرُ مِثْلُهَا، وَالْأَحَادِيثُ بِإِطْلَاقِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى الْغَدَاةَ فِي الْمِرْبَدِ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْمَسْجِدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 الْجَامِعِ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّيْنَا مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَعَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ، وَكَانَ قَدْ صَلَّاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. [فَصْلٌ إذَا أَعَادَ الْمَغْرِبَ شَفَعَهَا بِرَابِعَةِ] (1022) فَصْلٌ: إذَا أَعَادَ الْمَغْرِبَ شَفَعَهَا بِرَابِعَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرَوَى صِلَةُ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الْمَغْرِبَ، قَالَ: ذَهَبْت أَقُومُ فِي الثَّالِثَةِ، فَأَجْلَسَنِي، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ؛ لِتَكُونَ شَفْعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ نَافِلَةٌ، وَلَا يُشْرَعُ التَّنَفُّلُ بِوِتْرٍ غَيْرِ الْوِتْرِ، فَكَانَ زِيَادَةُ رَكْعَةٍ أَوْلَى مِنْ نُقْصَانِهَا؛ لِئَلَّا يُفَارِقَ إمَامَهُ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ. [فَصْلٌ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِد] (1023) فَصْلٌ: إنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الدُّخُولُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُمْ، وَإِنْ دَخَلَ وَصَلَّى مَعَهُمْ فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ أَبِي مُوسَى. وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: خَرَجْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ إذَا النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى صَلَّى النَّاسُ، وَقَالَ: إنِّي صَلَّيْت فِي الْبَيْتِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. [فَصْلٌ إذَا أَعَادَ الصَّلَاةَ] (1024) فَصْلٌ: إذَا أَعَادَ الصَّلَاةَ فَالْأُولَى فَرْضُهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، الَّتِي صَلَّى مَعَهُمْ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا جِئْت إلَى الصَّلَاةِ فَوَجَدْت النَّاسَ فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةً» . وَلَنَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً» . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» . وَلِأَنَّ الْأُولَى قَدْ وَقَعَتْ فَرِيضَةً، وَأَسْقَطَتْ الْفَرْضَ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ ثَانِيًا؛ وَإِذَا بَرِئَتْ الذِّمَّةُ بِالْأُولَى اسْتَحَالَ كَوْنُ الثَّانِيَةِ فَرِيضَةً، وَجَعْلُ الْأُولَى نَافِلَةً. قَالَ حَمَّادٌ، قَالَ إبْرَاهِيمُ: إذَا نَوَى الرَّجُلُ صَلَاةً وَكَتَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَوِّلَهَا، فَمَا صَلَّى بَعْدَهَا فَهُوَ تَطَوُّعٌ. وَحَدِيثُهُمْ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ سَوَاءً. فَعَلَى هَذَا لَا يَنْوِي الثَّانِيَةَ فَرْضًا، لَكِنْ يَنْوِيهَا ظُهْرًا مُعَادَةً، وَإِنْ نَوَاهَا نَافِلَةً صَحَّ. (1025) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا تَجِبُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى: إنَّهَا تَجِبُ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَالنَّافِلَةُ لَا تَجِبُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَعْنَاهُ وَاجِبَتَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ. فَعَلَى هَذَا إنْ قَصَدَ الْإِعَادَةَ فَلَمْ يُدْرِكْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ الْآمِدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتِمَّهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَهَا أَرْبَعًا. وَنَصَّ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . [مَسْأَلَةَ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا] (1026) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فِي كُلِّ وَقْتٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا؛ فَذَهَبَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلَى أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَحَالَ قِيَامِ الشَّمْسِ حَتَّى تَزُولَ، وَعَدَّهَا أَصْحَابُهُ خَمْسَةَ أَوْقَاتٍ؛ مِنْ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتٌ، وَمِنْ طُلُوعِهَا إلَى ارْتِفَاعِهَا وَقْتٌ، وَحَالَ قِيَامِهَا وَقْتٌ، وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى شُرُوعِ الشَّمْسِ فِي الْغُرُوبِ وَقْتٌ، وَإِلَى تَكَامُلِ الْغُرُوبِ وَقْتٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَقْتَ الْخَامِسَ مِنْ حِينِ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ؛ لِأَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ. فَجَعَلَ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، وَقَدْ ثَبَتَ لَنَا وَقْتَانِ آخَرَانِ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ خَمْسَةً. وَمَنْ جَعَلَ الْخَامِسَ وَقْتَ الْغُرُوبِ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّهُ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ» . وَفِي حَدِيثٍ: «وَلَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا» . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الْمَذْكُورَةُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ؛ بِدَلِيلِ تَخْصِيصِهَا بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِهِ وَحَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 ابْنِ عُمَرَ. وَقَوْلُهُ: «لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا أَنْ تُصَلُّوا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِمَ عُمَرُ إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبُهَا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَالتَّخْصِيصُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَا يُعَارِضُ الْعُمُومَ الْمُوَافِقَ لَهُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْحُكْمِ فِيمَا خَصَّهُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي رَدِّ خَبَرِ عُمَرَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنَّهُ مُثْبِتٌ لِرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَقُولُ بِرَأْيِهَا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَحُّ مِنْ قَوْلِهَا، ثُمَّ هِيَ قَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا، فَرَوَى ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ، وَيَنْهَى عَنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَكَيْفَ يُقْبَلُ رَدُّهَا لِمَا قَدْ أَقَرَّتْ بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالصُّنَابِحِيُّ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، كَنَحْوِ رِوَايَةِ عُمَرَ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا بِمُجَرَّدِ رَأْيٍ مُخْتَلِفٍ مُتَنَاقِضٍ. (1027) فَصْلٌ: وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ أُبِيحَ لَهُ التَّنَفُّلُ، وَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ. وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَفُّلُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ سِوَاهُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَأَمَّا النَّهْيُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ. يَعْنِي التَّطَوُّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا كَالْعَصْرِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا صَلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدِيثَ عُمَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ، كَذَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَصَلِّ مَا شِئْت، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَكْتُوبَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَقْصِرْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَتَرْتَفِعَ قَدْرَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ» . وَلِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَصْرِ عُلِّقَ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ وَقْتِهَا، فَكَذَلِكَ الْفَجْرُ، وَلِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ بَعْدَ صَلَاةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا، كَبَعْدِ الْعَصْرِ. وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رَوَى «يَسَارٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَالَ: يَا يَسَارُ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ، لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي لَفْظٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 «لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَانِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي لَفْظٍ: «إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» ، وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ، رَوَاهُ قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ: هَذَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» . وَهَذَا يُبَيِّنُ مُرَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَلَا يُعَارِضُهُ تَخْصِيصُ مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالنَّهْيِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ خِطَابٍ، وَهَذَا مَنْطُوقٌ، فَيَكُونُ أَوْلَى. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِيهِ، وَهُوَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: «حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» . [مَسْأَلَةَ لَا يَبْتَدِئُ فِي أَوْقَات النَّهْي عَنْ الصَّلَاة بِتَطَوُّعِ] (1028) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَبْتَدِئُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَاةً يَتَطَوَّعُ بِهَا) . لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ غَيْرَ ذَاتِ سَبَبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَابْنِهِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَعَائِشَةَ، وَفَعَلَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعُمَرُ، وَابْنُ مَيْمُونٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَشُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفْعَلُهُ وَلَا نَعِيبُ فَاعِلَهُ. وَذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ» . وَقَوْلُهَا: وَهِمَ عُمَرُ، إنَّمَا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبُهَا» . رَوَاهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 مُسْلِمٌ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ» . وَلَنَا، الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَرَوَى أَبُو بَصْرَةَ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعَصْرِ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا خَاصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ؛ فَقَدْ رَوَى عَنْهَا ذَكْوَانُ مَوْلَاهَا، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ رَأَيْته يُصَلِّيهِمَا، وَقَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، إنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَهُ لِسَبَبٍ، وَهُوَ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُمَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَنَهْيِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَهُ. (1029) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّطَوُّعُ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْوِتْرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: أَيُوتِرُ الرَّجُلُ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ: إنَّ أَكْثَرَ وِتْرِنَا لَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: لَنِعْمَ سَاعَةُ الْوِتْرِ هَذِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى أَبِي مُوسَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُوتِرْ حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ؟ قَالَ: لَا وِتْرَ لَهُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، الْوِتْرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى عَلَى مَا حَكَيْنَا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ النَّهْيِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، الْوِتْرُ الْوِتْرُ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الصَّحِيحَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، إنَّمَا فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ، فَلْيُصَلِّهِ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ تَرْكَ الْوِتْرِ حَتَّى يُصْبِحَ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ " مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَمْ يَثْبُتْ النَّهْيُ فِيهِ صَرِيحًا، فَكَانَ حُكْمُهُ خَفِيفًا. [فَصْلٌ قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَهَا] (1030) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَهَا فَجَائِزٌ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ اخْتَارَ أَنْ يَقْضِيَهُمَا مِنْ الضُّحَى، وَقَالَ: إنْ صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالشَّافِعِيُّ: يَقْضِيهِمَا بَعْدَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ، قَالَ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ؟ . قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَكُنْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَسُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهَذِهِ فِي مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ سَبَبٍ، فَأَشْبَهَتْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَجُوزُ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْضِيهِمَا مِنْ الضُّحَى، وَحَدِيثُ قَيْسٍ مُرْسَلٌ، قَالَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ قَيْسٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدِّهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْت رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. قَالَ: فَلَا إذًا» . وَهَذَا يَحْتَمِلُ النَّهْيَ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا كَانَ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ الضُّحَى أَحْسَنَ؛ لِنَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَلَا نُخَالِفُ عُمُومَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ فَعَلَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَوَازِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَضَاء السنن الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ] (1031) فَصْلٌ: وَأَمَّا قَضَاءُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَضَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ بَعْدَهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَالِاقْتِدَاءُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَيَّنٌ. وَلِأَنَّ النَّهْيِ بَعْدَ الْعَصْرِ خَفِيفٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي خِلَافِهِ مِنْ الرُّخْصَةِ، وَمَا وَقَعَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا لِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا عَلَى الدَّوَامِ، وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمَنَعَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ خَاصٌّ، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ أَنَّهَا لَا تُقْضَى؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهُمَا. فَقُلْت لَهُ: أَنَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا؟ قَالَ: لَا» . رَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِ، فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ حَدِيثِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 [فَصْلٌ قَضَاءُ السُّنَنِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْي] (1032) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَضَاءُ السُّنَنِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَفِعْلُ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْكُسُوفِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا» . وَهَذَا خَاصٌّ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى النَّهْيِ الْعَامِّ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ سَبَبٍ، فَأَشْبَهَتْ مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَمْرَ خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ. قُلْنَا: وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي الْوَقْتِ، وَالنَّهْيُ خَاصٌّ فِيهِ، فَيُقَدَّمُ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ فِيهِ أَخَفُّ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا عَلَى قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ لَهُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ، وَلَا عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا عَلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، لِأَنَّهُمَا تَابِعَتَانِ لِمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ النَّهْيُ، مَعَ أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ لِلطَّوَافِ فِيهَا، وَلَا يُعِيدَ فِيهَا جَمَاعَةً. وَإِذَا مُنِعَتْ هَذِهِ الصَّلَوَاتُ الْمُتَأَكِّدَةُ فِيهَا فَغَيْرُهَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1033) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُمْنَعُ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، إلَّا بِمَكَّةَ يَقُولُ: قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّلَاةَ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ مَكَّةُ وَغَيْرُهَا، كَالْحَيْضِ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، فَيَخْتَصُّ بِهِمَا، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ ضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. (1034) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «كُنَّا نُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . وَقَالَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ: أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يَتَّقُونَ ذَلِكَ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت أَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَامُوا فَصَلَّوْا أَرْبَعًا. وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلُهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَظِرُونَ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ قَطْعُ النَّوَافِلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهْهُ إذَا عَلِمْت انْتِصَافَ النَّهَارِ، وَإِذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا أَعْلَمُهُ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ، فَإِنِّي أَرَاهُ وَاسِعًا. وَأَبَاحَهُ فِيهَا عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ؛ لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ حِينَ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ. وَلَنَا، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ. وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: فِيهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَحَدِيثُ الصُّنَابِحِيِّ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا» . وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ. وَلِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ، كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ، فِي إسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ أَبَا الْخَلِيلِ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْجُمُعَةَ. قُلْنَا: إذَا عَلِمَ وَقْتَ النَّهْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ شَكَّ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَعْلَمَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى] (1035) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى) يَعْنِي يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَالتَّطَوُّعُ قِسْمَانِ؛ تَطَوُّعُ لَيْلٍ، وَتَطَوُّعُ نَهَارٍ، فَأَمَّا تَطَوُّعُ اللَّيْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَثْنَى مَثْنَى. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شِئْت رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا، وَإِنْ شِئْت سِتًّا، وَإِنْ شِئْت ثَمَانِيًا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَسْلِيمَةٌ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. [مَسْأَلَةٌ إنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلَا بَأْسَ] (1036) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلَا بَأْسَ) الْأَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ: أَنْ يَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى. لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ السَّهْوِ، وَأَشْبَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَتَطَوُّعَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي تَطَوُّعَاتِهِ رَكْعَتَانِ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى لِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ فَلَا بَأْسَ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: صَلَاةُ النَّهَارِ أَخْتَارُ أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَازَ. وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تَسْلِيمَ فِيهِنَّ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ. وَلَنَا عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ مَثْنَى، مَا تَقَدَّمَ، وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ يَرْوِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَتَّبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَرْبَعِ لَا عَلَى تَفْضِيلِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَارِقِيِّ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِزِيَادَةِ لَفْظَةِ " النَّهَارِ " مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْفَضِيلَةُ، مَعَ جَوَازِ غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1037) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَلَا يُزَادُ فِي اللَّيْلِ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَلَا فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَةٍ وَلَا بِثَلَاثٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَوْ صَلَّى سِتًّا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كُرِهَ وَصَحَّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي صِحَّةِ التَّطَوُّعِ بِرَكْعَةٍ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ خَرَجَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً. قَالَ: هُوَ تَطَوُّعٌ، فَمَنْ شَاءَ زَادَ، وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا خِلَافُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ، وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ، إمَّا مِنْ نَصِّهِ، أَوْ مَعْنَى نَصِّهِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. [فَصْلٌ التَّطَوُّعَاتُ قِسْمَانِ] فَصْلٌ: وَالتَّطَوُّعَاتُ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ، وَهُوَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ، وَنَذْكُرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فِي مَوَاضِعِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَالثَّانِي، مَا يُفْعَلُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهِيَ قِسْمَانِ؛ سُنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَنَافِلَةٌ مُطْلَقَةٌ، فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ مِنْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، قَالَ: «سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُلُ بَيْتِي، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ رَكَعَاتٍ؛ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ، كَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ سَجْدَتَيْنِ. وَلَمْ يَذْكُرْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . تَرْغِيبٌ فِيهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِيهِ، وَلَمْ يَحْفَظْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْهَا مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ. [فَصْلٌ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ] (1039) فَصْلٌ: وَآكَدُ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَسْرَعَ مِنْهُ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَفِي لَفْظٍ: أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ، حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «رَمَقْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْهُمَا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَجِعَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ] (1040) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَجِعَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَفْعَلُونَهُ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ الْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَنَافِعٌ لَا يَفْعَلُونَهُ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَلْيَضْطَجِعْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ: «عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. [فَصْلٌ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ] (1041) فَصْلٌ: وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ؛ لِمَا رَوَى «ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. [فِعْلُ السُّنَنِ فِي الْبَيْتِ] وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُ السُّنَنِ فِي الْبَيْتِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي بَيْتِهِ» ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: مَا رَأَيْت أَحْمَدَ رَكَعَهُمَا، يَعْنِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فِي الْمَسْجِدِ قَطُّ، إنَّمَا كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ أَيْنَ يُصَلَّيَانِ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ. ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ آكَدُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ: «صَلُّوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» . قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُ الرَّجُلِ بَعِيدًا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ بَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، فَرَآهُمْ يَتَطَوَّعُونَ بَعْدَهَا. فَقَالَ: هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «أَتَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ فِي مَسْجِدِنَا، ثُمَّ قَالَ: ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَثْرَمُ، وَلَفْظُهُ، قَالَ: «صَلُّوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» . [فَصْلٌ كُلُّ سُنَّةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا مِنْ دُخُولِ وَقْتِهَا] (1042) فَصْلٌ: كُلُّ سُنَّةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَوَقْتُهَا مِنْ دُخُولِ وَقْتِهَا إلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَكُلُّ سُنَّةٍ بَعْدَهَا، فَوَقْتُهَا مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا، فَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ وَقْتِ هَذِهِ السُّنَنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى شَيْئًا مِنْ التَّطَوُّعِ، إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا أَوْقَاتَ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بَعْضَهَا، وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُقْضَى إلَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ تُقْضَى، إلَى وَقْتِ الضُّحَى، وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: مَا أَعْرِفُ وِتْرًا بَعْدَ الْفَجْرِ. وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ تُقْضَى إلَى وَقْتِ الضُّحَى. قَالَ مَالِكٌ: تُقْضَى رَكْعَتَا الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَلَا تُقْضَى بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَلَا وِتْرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَلَا وِتْرَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّوَافِلِ يُحَافِظُ عَلَيْهِ، إذَا فَاتَ قَضَى. النَّوْعُ الثَّانِي: تَطَوُّعَاتٌ مَعَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الْعَصْرِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَلَى أَرْبَعٍ بَعْدَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ، عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 عُمَرَ بْنِ أَبِي خَثْعَمٌ. وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ جِدًّا. وَعَلَى أَرْبَعٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ قَطُّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْل اُخْتُلِفَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْهَا رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْأَذَانِ] (1043) فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، مِنْهَا رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْأَذَانِ؛ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ وَلَيْسَتَا سُنَّةً. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ؟ قَالَ: مَا فَعَلْته قَطُّ إلَّا مَرَّةً، حِينَ سَمِعْت الْحَدِيثَ، وَقَالَ: فِيهِمَا أَحَادِيثُ جِيَادٌ، أَوْ قَالَ: صِحَاحٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ. إلَّا أَنَّهُ قَالَ: " لِمَنْ شَاءَ ". فَمَنْ شَاءَ صَلَّى. وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ يُنْكِرُهُ النَّاسُ. وَضَحِكَ كَالْمُتَعَجِّبِ، وَقَالَ: هَذَا عِنْدَهُمْ عَظِيمٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِمَا مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. قَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ: فَقُلْت لَهُ، أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ، مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ. قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَقَالَ عُقْبَةُ: كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُزَنِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ شَاءَ. خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا، الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُمَا، وَإِنْ فَعَلَهُمَا إنْسَانٌ جَازَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ، فَمَا تَرَى فِيهِمَا؟ فَقَالَ: أَرْجُو إنْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ أَنْ لَا يُضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ وَهُوَ جَالِسٌ، كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ. قُلْت: تَفْعَلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، مَا أَفْعَلُهُ. وَعَدَّهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِسُنَّةٍ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ وَصَفَ تَهَجُّدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْهُمَا؛ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَعَائِشَةَ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُمَا عُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَالْقَاسِمُ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَرْكِهِمَا. وَوَجْهُ الْجَوَازِ، مَا رَوَى سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 تِسْعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ، وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» . وَقَالَ «أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَرَوَى ذَلِكَ أَبُو أُمَامَةَ أَيْضًا، وَأَوْصَى بِهِمَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَكَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيُّ، وَفَعَلَهُمَا الْحَسَنُ، فَهَذَا وَجْهُ جَوَازِهِمَا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: صَلَوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ سِوَى ذَلِكَ، مِنْهَا صَلَاةُ الضُّحَى، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْت: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ» . وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. فَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَكْثَرُهَا ثَمَانٍ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَوَقْتُهَا إذَا عَلَتْ الشَّمْسُ وَاشْتَدَّ حَرُّهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا، «قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى قَطُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: «قُلْت لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: «مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أُمُّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، مَا رَأَيْته قَطُّ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ. وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 أَبُو الْخَطَّابِ: تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَى بِهَا أَصْحَابَهُ. وَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ النَّهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ. وَلِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ التَّسْبِيحِ] (1044) فَصْلٌ: فَأَمَّا صَلَاةُ التَّسْبِيحِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي. قِيلَ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ. وَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا عَمَّاهُ، أَلَا أُعْطِيكَ، أَلَا أَمْنَحُكَ، أَلَا أَحْبُوكَ، أَلَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَك، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَقَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، وَخَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ عَشْرَ خِصَالٍ؛ أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ الْقُرْآنِ، قُلْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ الرُّكُوعِ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَسْجُدُ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا. ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلَمْ يُثْبِتْ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً، وَإِنْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فَلَا بَأْسَ؛ فَإِنَّ النَّوَافِلَ وَالْفَضَائِلَ لَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا. [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ] (1045) فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ -، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعِيشَتِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْحَاجَةِ] (1046) فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ الْحَاجَةِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لِيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إلَّا غَفَرْتَهُ، وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْتَهُ، وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إلَّا قَضَيْتَهَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّوْبَةِ] (1047) فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ التَّوْبَةِ: عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا غَفَرَ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] إلَى آخِرِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [فَصْلٌ يُسَنُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ جُلُوسِهِ] (1048) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ جُلُوسِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَلَسَ قَبْلَ الصَّلَاةِ سُنَّ لَهُ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ: يَا سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِمِثْلِ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى الْفَجْرَ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ - مِقْدَارَهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ الْعَصْرِ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ - قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ - مِقْدَارَهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ هَاهُنَا قَامَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَتِلْكَ سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً، تَطَوُّعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهَارِ، وَقَلَّ مَنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا.» [فَصْل النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ] (1049) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ فَتُشْرَعُ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ مَفْرُوضًا؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] الْآيَةَ. [فَصْلٌ أَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِر] (1050) فَصْلٌ: وَأَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَصَلِّ مَا شِئْتَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ دَاوُد، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صِفَةِ تَهَجُّدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ - فَوَصَفَ تَهَجُّدَهُ حَتَّى قَالَ: ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ نَامَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ وَثَبَ، فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ تَوَضَّأَ. وَقَالَتْ: مَا أَلْفَى عِنْدِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّحَرُ الْأَعْلَى فِي بَيْتِي إلَّا نَائِمًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: «فَمَا يَجِيءُ السَّحَرُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ وِتْرِهِ» ، وَلِأَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ يَنْزِلُ فِيهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا أَغْفَى - يَعْنِي بَعْدَ التَّهَجُّدِ - فَإِنَّهُ لَا يَبِينُ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّهَرِ، وَإِذَا لَمْ يُغْفِ يَبِينُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: «سَأَلْت عَائِشَةَ: أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: كَانَ إذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ، فَصَلَّى.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 (1051) فَصْلٌ: وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِبَاهِهِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ؛ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي مُسْلِمٍ: «أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَفِيهِ: أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» . وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهَا. قَالَتْ: «كَانَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ كَبَّرَ عَشْرًا، وَحَمَدَ عَشْرًا، وَسَبَّحَ عَشْرًا، وَهَلَّلَ عَشْرًا، وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمُقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (1052) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَوَّكَ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَيْقَظَ، فَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ] (1053) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَالَتْ عَائِشَةُ، مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ: مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَلَعَلَّهَا لَمْ تَعُدَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَفِي لَيْلَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُتَهَجِّدُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي تَهَجُّدِهِ] (1054) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُتَهَجِّدُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي تَهَجُّدِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا، فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ، أَوْ مَنْ يُسْتَضَرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ فَالْإِسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ. «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ: سَأَلْت عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: كُلَّ ذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ طَوْرًا، وَيَخْفِضُ طَوْرًا» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ مَنْ فِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 يُصَلِّي، يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ، قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ قَالَ: إنِّي أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ارْفَعْ قَلِيلًا. وَقَالَ لِعُمَرَ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَك. قَالَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ. قَالَ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَفَاتَهُ] (1055) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَفَاتَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ قَضَاؤُهُ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَتْ: وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إلَّا رَمَضَانَ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. [فَصْل التَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء] (1056) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ التَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يُصَلُّونَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [فَصْلٌ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ تَخْفِيفُهُ أَوْ تَطْوِيلُهُ فَالْأَفْضَلُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ] فَصْلٌ: وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْفِيفُهُ أَوْ تَطْوِيلُهُ، فَالْأَفْضَلُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَفِّفُهُ وَيُطَوِّلُهُ» ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ؛ فَرُوِيَ أَنَّ الْأَفْضَلَ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، «لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنِّي لَأَعْلَمُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ عَبْدٍ سَجَدَ سَجْدَةً إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَالثَّانِيَةُ، التَّطْوِيلُ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ التَّهَجُّدَ وَكَانَ يُطِيلُهُ، عَلَى مَا قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، وَلَا يُدَاوِمُ إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ» . وَالثَّالِثَةُ، هُمَا سَوَاءٌ؛ لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل التَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ] (1058) فَصْلٌ: وَالتَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا، إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: «إذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ أَقْرَبُ إلَى الْإِخْلَاصِ. وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ السِّرِّ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَانِيَةٌ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا] (1059) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا فَاتَتْ يَقْضِيهَا. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ رَكَعَاتٌ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا نَشِطَ، طَوَّلَهَا، وَإِذَا لَمْ يَنْشَطْ خَفَّفَهَا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ الَّذِي يُدَاوِمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا» . وَقَالَتْ: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَكَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ التَّطَوُّع جَمَاعَةً وَفُرَادَى] (1060) فَصْلٌ: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً، وَبِابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً، وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً، وَأَمَّهُمْ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ثَلَاثًا» ، وَسَنَذْكُرُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ كُلُّهَا صِحَاحٌ جِيَادٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 [مَسْأَلَةَ يُبَاحُ أَنْ يَتَطَوَّعَ جَالِسًا] (1061) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُبَاحُ أَنْ يَتَطَوَّعَ جَالِسًا) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ» . وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ حَفْصَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُولُ الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ، كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَسَامَحَ فِي نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا] (1062) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ يَجْلِسُ كَيْفَ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ عُمَرَ: يَجْلِسُ كَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ سَقَطَ، فَسَقَطَتْ هَيْئَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَبُونَ فِي التَّطَوُّعِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّ الْقِيَامَ يُخَالِفُ الْقُعُودَ فَيَنْبَغِي أَنْ تُخَالِفَ هَيْئَتُهُ فِي بَدَلِهِ هَيْئَةَ غَيْرِهِ، كَمُخَالَفَةِ الْقِيَامِ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَبْعَدُ مِنْ السَّهْوِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَلَيْسَ إذَا سَقَطَ الْقِيَامُ لِمَشَقَّتِهِ يَلْزَمُ سُقُوطُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، كَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، لَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْإِيمَاءِ بِهِمَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْجُلُوسِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، إذْ لَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهِ دَلِيلٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ أَحْمَدُ: يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ صَلَّى مُتَرَبِّعًا، فَلَمَّا رَكَعَ ثَنَى رِجْلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، أَنَّهُ لَا يَثْنِي رِجْلَيْهِ إلَّا فِي السُّجُودِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ فِي الرُّكُوعِ عَلَى هَيْئَةِ الْقِيَامِ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ هَيْئَةَ الرَّاكِعِ فِي رِجْلَيْهِ هَيْئَةُ الْقَائِمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي النَّظَرِ إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى فِعْلِ أَنَسٍ، وَأَخَذَ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 (1063) فَصْلٌ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إنْ شَاءَ مِنْ قِيَامٍ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ قُعُودٍ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ» . «قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ، حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَاعِدٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ، قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: وَالْعَمَلُ عَلَى كِلَا الْحَدِيثَيْنِ. (1064) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرِيضُ إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ صَلَّى قَاعِدًا) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] » . وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: «سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسٍ، فَخُدِشَ أَوْ جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ. فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قُعُودًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّهُ يَخْشَى زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِهِ، أَوْ تَبَاطُؤَ بُرْئِهِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ لِدُنْيَاهُ، فَلْيُصَلِّ جَالِسًا. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَتَكْلِيفُ الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَرَجٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لَكِنْ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ سَقَطَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِ. وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَإِنَّهُ يَكُونُ جُلُوسُهُ عَلَى صِفَةِ جُلُوسِ الْمُتَطَوِّعِ، جَالِسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ إنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ بِأَنْ يَتَّكِئَ عَلَى عَصَى أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى حَائِطٍ] (1065) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، بِأَنْ يَتَّكِئَ عَلَى عَصًى، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى حَائِطٍ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 [فَصْل إنَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الرَّاكِعِ] (1066) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الرَّاكِعِ كَالْأَحْدَبِ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي بَيْتٍ قَصِيرِ السَّقْفِ، لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، أَوْ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ خَائِفٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِحَدَبٍ أَوْ كِبَرٍ، لَزِمَهُ قِيَامُ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، احْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيَامُ، قِيَاسًا عَلَى الْأَحْدَبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ فِي الَّذِي فِي السَّفِينَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا، لِقِصَرِ سَمَاءِ السَّفِينَةِ: يُصَلِّي قَاعِدًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا. فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ مَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» وَهَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ. [فَصْل قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ] (1067) فَصْلٌ: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِيَامُ، وَيُصَلِّي قَائِمًا، فَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُومِئُ بِالسُّجُودِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ الْقِيَامُ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ، فَسَقَطَ فِيهَا الْقِيَامُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ قَائِمًا» . وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَالْقِرَاءَةِ، وَالْعَجْزُ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لَا يَسْقُطُ فِيهَا الرُّكُوعُ. وَالثَّانِي، أَنَّ النَّافِلَةَ لَا يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ، فَمَا سَقَطَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِسُقُوطِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ. [فَصْلٌ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهُ قَائِمًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ] (1068) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهُ قَائِمًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ لِتَطْوِيلِهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيَامُ وَيُصَلِّيَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ آكَدُ لِكَوْنِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَالْجَمَاعَةُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ تَرْكَ الْقِيَامِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، مَعَ إمَامِ الْحَيِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ، مُرَاعَاةً لِلْجَمَاعَةِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَضَاعَفُ بِالْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَاعُفِهِ بِالْقِيَامِ، بِدَلِيلِ أَنَّ «صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ» . وَ «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . وَهَذَا أَحْسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَة عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ قَاعِدًا] (1069) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُطِقْ جَالِسًا فَنَائِمًا) يَعْنِي مُضْطَجِعًا، سَمَّاهُ نَائِمًا لِأَنَّهُ فِي هَيْئَةِ النَّائِمِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 قَالَ: «صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا. فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ قَاعِدًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا، وَوَجْهُهُ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِيَكُونَ إيمَاؤُهُ إلَيْهَا، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ كَانَ وَجْهُهُ فِي الْإِيمَاءِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا. وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ إذَا كَانَ عَلَى جَنْبِهِ، وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ السَّمَاءَ، وَلِذَلِكَ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَلَى جَنْبِهِ قَصْدَ التَّوْجِيهِ إلَى الْقِبْلَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ وَجْهَهُ فِي الْإِيمَاءِ يَكُونُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قُلْنَا: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ مِنْ الصَّحِيحِ لَا يَكُونَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ بِوَجْهِهِ، وَلَا فِي حَالِ السُّجُودِ، إنَّمَا يَكُونُ إلَى الْأَرْضِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِيهِمَا أَيْضًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ صَلَّى عَلَى الْأَيْسَرِ، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَيِّنْ جَنْبًا بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ عَلَى أَيِّ الْجَنْبَيْنِ كَانَ. وَإِنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ، مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِقْبَالٍ، وَلِهَذَا يُوَجَّهُ الْمَيِّتُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: (فَعَلَى جَنْبٍ. وَلِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى الِاسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، وَلِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ مَعَ إمْكَانِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، صَلَّى مُسْتَلْقِيًا؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاة عَلَى جَنْبِهِ، فَسَقَطَ، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيع مَعَهُ الصَّلَاةَ مُسْتَلْقِيًا] (1070) فَصْلٌ: إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ مَرَضٌ. فَقَالَ ثِقَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ: إنْ صَلَّيْت مُسْتَلْقِيًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ. فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَكَرِهَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبُو وَائِلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَوْ صَبَرْت عَلَيَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَمْ تُصَلِّ إلَّا مُسْتَلْقِيًا دَاوَيْتُ عَيْنَكَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَبْرَأَ. فَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلٌّ قَالَ لَهُ: إنْ مِتَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَمَا الَّذِي تَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟ فَتَرَكَ مُعَالَجَةَ عَيْنِهِ. وَلَنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ، لَكِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 كَانَتْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِيهِ، أَوْ خَوْفُ ضَرَرٍ، وَأَيُّهُمَا قُدِّرَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ هَاهُنَا، وَلِأَنَّا أَبَحْنَا لَهُ تَرْكَ الْوُضُوءِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ - حِفْظًا لِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ -، وَتَرْكَ الصَّوْمِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ وَالرَّمَدِ، وَدَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، خَوْفًا مِنْ ضَرَرِ الطِّينِ فِي ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، وَجَازَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ وَثِيَابِهِ مِنْ الْبَلَلِ وَالتَّلَوُّثِ بِالطِّينِ، وَجَازَ تَرْكُ الْقِيَامِ اتِّبَاعًا لِإِمَامِ الْحَيِّ إذَا صَلَّى جَالِسًا، وَالصَّلَاةُ عَلَى جَنْبِهِ وَمُسْتَلْقِيًا فِي حَالِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَلَا يَنْقُصُ الضَّرَرُ بِفَوَاتِ الْبَصَرِ عَنْ الضَّرَرِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - إنْ صَحَّ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُخْبِرَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ يَقِينٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَرْجُو. أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا، أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ] (1071) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِهِمَا، كَمَا يُومِئُ بِهِمَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ وَحْدَهُ رَكَعَ، وَأَوْمَأَ بِالسُّجُودِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْنِيَ ظَهْرَهُ حَنَى رَقَبَتَهُ، وَإِنْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ، فَمَتَى أَرَادَ الرُّكُوعَ زَادَ فِي انْحِنَائِهِ قَلِيلًا، وَيُقَرِّبُ وَجْهَهُ إلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ عَلَى صُدْغِهِ لَمْ يَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ. وَإِنْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وِسَادَةً، أَوْ شَيْئًا عَالِيًا، أَوْ سَجَدَ عَلَى رَبْوَةٍ أَوْ حَجَرٍ، جَازَ، إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَنْكِيسُ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْتَارُ السُّجُودَ عَلَى الْمِرْفَقَةِ. وَقَالَ: هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْإِيمَاءِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ. وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَسَجَدَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى الْمِرْفَقَةِ. وَكَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّجُودَ عَلَى عُودٍ، وَقَالَ: يُومِئُ إيمَاءً. وَوَجْهُ الْجَوَازِ؛ أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الِانْحِطَاطِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَوْمَأَ، فَأَمَّا إنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُجْزِئُهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يُومِئُ، وَلَا يَرْفَعُ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ، فَلَا بَأْسَ، يُومِئُ، أَوْ يَرْفَعُ الْمِرْفَقَةَ فَيَسْجُدُ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: الْمِرْوَحَةُ؟ قَالَ: لَا. أَمَّا الْمِرْوَحَةُ فَلَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الْإِيمَاءُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَإِنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْحِطَاطُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ وَضْعِ رَأْسِهِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَوْمَأَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى مَا هُوَ حَامِلٌ لَهُ، فَلَمْ يَجْزِهِ، كَمَا لَوْ سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ. [فَصْلٌ لَمْ يَقْدِرْ الْمُصَلَّيْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ] (1072) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ، أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ، وَنَوَى بِقَلْبِهِ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهُ مَا دَامَ عَقْلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ثَابِتًا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ: الصَّلَاةَ. فَقَالَ: قَدْ كَفَانِي، إنَّمَا الْعَمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ عَجَزَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَلَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ، كَالْقَادِرِ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَاءِ، أَشْبَهَ الْأَصْلَ. [فَصْلٌ إذَا صَلَّى جَالِسًا فَسَجَدَ سَجْدَةً وَأَوْمَأَ بِالثَّانِيَةِ] (1073) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى جَالِسًا، فَسَجَدَ سَجْدَةً، وَأَوْمَأَ بِالثَّانِيَةِ، مَعَ إمْكَانِ السُّجُودِ، جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ عَلِمَ قَبْلَ سَلَامِهِ، سَجَدَ سَجْدَةً تُتِمُّ لَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَأَتَى بِرَكْعَةٍ، كَمَا لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ نِسْيَانًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ تَتِمُّ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى بِسَجْدَةِ الثَّانِيَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا؛ فَإِنَّهُ مَتَى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ. [فَصْلٌ قَدَرَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاء الصَّلَاةِ عَلَى مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ] (1074) فَصْلٌ: وَمَتَى قَدَرَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ، مِنْ قِيَامٍ، أَوْ قُعُودٍ، أَوْ رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، أَوْ إيمَاءٍ، انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَادِرًا، فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ صَحِيحًا، فَيَبْنِي عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. [مَسْأَلَةَ الْوِتْرُ رَكْعَةٌ] (1075) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْوِتْرُ رَكْعَةٌ) نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَقَالَ: إنَّا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو مُوسَى، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُعَاذٌ الْقَارِئُ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْوِتْرُ رَكْعَةٌ، كَانَ ذَلِكَ وِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . وَقَالَتْ: عَائِشَةُ: «كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ. (1076) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ» يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: جَمِيعُ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَمَا يُصَلَّى قَبْلَهُ لَيْسَ مِنْ الْوِتْرِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّمَا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ، وَلَكِنْ يَكُونُ قَبْلَهَا صَلَاةُ عَشْرِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ وَيُسَلِّمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إنَّا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا بَأْسَ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ؛ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَأَكْثَرُهُ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ: الْوِتْرُ ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: ثَلَاثٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَخَمْسٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَسَبْعٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ خَمْسٍ، وَتِسْعٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَبْعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ، أَوْ خَمْسٌ، أَوْ سَبْعٌ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، يُوتِرُ بِمَا شَاءَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعٍ، وَرَوَتْ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ، وَرَوَتْ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ» . رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: «قُلْت لِعَائِشَةَ: بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ؟ قَالَتْ: كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ، وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ، وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ، وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَةَ الْقُنُوتَ مَسْنُونٌ فِي الْوِتْرِ] (1077) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (يَقْنُتُ فِيهَا) يَعْنِي أَنَّ الْقُنُوتَ مَسْنُونٌ فِي الْوِتْرِ، فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. هَذَا الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيُّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 لَيْلَةً، وَلَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقْنُتُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَعَنْهُ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ بِحَالٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ إنِّي قَنَتُّ، هُوَ دُعَاءٌ وَخَيْرٌ. وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ، فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . وَكَانَ لِلدَّوَامِ، وَفِعْلُ أُبَيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ. وَلَا يُنْكَرُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، وَلِأَنَّهُ وِتْرٌ، فَيُشْرَعُ فِيهِ الْقُنُوتُ، كَالنِّصْفِ الْآخِرِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُشْرَعُ فِي الْوِتْرِ، فَيُشْرَعُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. [فَصْلٌ الْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ] (1078) فَصْلٌ: وَيَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ قَنَتَ قَبْلَهُ، فَلَا بَأْسَ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ؛ لِمَا رَوَى حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: كُنَّا نَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَالْبَرَاءِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ» . وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: أَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيهِ أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَحَدِيثُ أُبَيٍّ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ أَيْضًا، وَقِيلَ ذِكْرُ الْقُنُوتِ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدُّعَاء فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ] (1079) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ مَا رَوَى «الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِي مَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِي مَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِي مَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْرِفُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. وَيَقُولُ مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُ فِي وِتْرِهِ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَنَشْكُرُكَ، وَلَا نَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ، اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ» . وَهَاتَانِ سُورَتَانِ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْت فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ. اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ ". وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَتَبَهُمَا أُبَيٌّ فِي مُصْحَفِهِ. يَعْنِي إلَى قَوْلِهِ: " بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ ". قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: " نَحْفِدُ " نُبَادِرُ. وَأَصْلُ الْحَفْدِ: مُدَارَكَةُ الْخَطْوِ وَالْإِسْرَاعُ. " وَالْجِدُّ " بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ الْحَقُّ لَا اللَّعِبُ، " مُلْحِقٌ " بِكَسْرِ الْحَاءِ لَاحِقٌ. وَهَكَذَا يُرْوَى هَذَا الْحَرْفُ، يُقَالُ: لَحِقْتُ الْقَوْمَ وَأَلْحَقْتُهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَنْ فَتَحَ الْحَاءَ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يُلْحِقُهُ إيَّاهُ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ هِيَ الْأُولَى. وَقَالَ الْخَلَّالُ: سَأَلْت ثَعْلَبًا عَنْ مُلْحِقٍ وَمُلْحَقٍ؟ فَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُهُمَا مَعًا. [فَصْلٌ إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ] (1080) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ، أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَالَهُ إِسْحَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَإِنْ دَعَوْا مَعَهُ فَلَا بَأْسَ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إذَا لَمْ أَسْمَعْ قُنُوتَ الْإِمَامِ أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ. فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي حَالِ الْقُنُوتِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ إلَى صَدْرِهِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ إلَى صَدْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَعَوْت اللَّهَ فَادْعُ بِبُطُونِ كَفَّيْكَ، وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ فِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقُنُوتِ فَهَلْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 إحْدَاهُمَا، لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ مَسْحُ وَجْهِهِ فِيهِ، كَسَائِرِ دُعَائِهَا. الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَرَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَعَا رَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الصَّلَاةِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ. [فَصْلٌ لَا يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَات سِوَى الْوِتْرِ] (1081) فَصْلٌ: وَلَا يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ، سِوَى الْوِتْرِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَنَسًا قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "، وَكَانَ عُمَرُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا، يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. وَعَنْ «أَبِي مَالِكٍ قَالَ: قُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ، إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَوَّلُ مَنْ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ عَلِيٌّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُحَارِبًا يَدْعُو عَلَى أَعْدَائِهِ. وَرَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قَنَتَ عَلِيٌّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، إلَّا إذَا دَعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ طُولَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى قُنُوتًا. وَقُنُوتُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوْقَاتِ النَّوَازِلِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قُنُوتَهُ كَانَ فِي وَقْتِ نَازِلَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 (1082) فَصْلٌ: فَإِنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْنُتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ؟ فَقَالَ: إذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، قَنَتَ الْإِمَامُ وَأَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ. ثُمَّ قَالَ: مِثْلُ مَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْكَافِرِ. يَعْنِي بَابَكَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ؟ فَقَالَ: لَوْ قَنَتَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، ثُمَّ يَتْرُكُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَنَتَ عَلَى الْخَرْمِيَّةِ أَوْ قَنَتَ عَلَى الدَّوَامِ. وَالْخُرَّمِيَّةُ: هُمْ أَصْحَابُ بَابَكَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ؛ وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَنَّ عَلِيًّا قَنَتَ، وَقَالَ: إنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا وَلَا يَقْنُتُ آحَادُ النَّاسِ. وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ نَحْوًا مِمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُنُوتِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَلَا يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مِنْ الْفَرَائِضِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ: كُلُّ شَيْءٍ يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَجْرِ. وَلَا يَقْنُتُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي الْوِتْرِ وَالْغَدَاةِ إذَا كَانَ مُسْتَنْصِرًا يَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّهُمَا صَلَاتَا جَهْرٍ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ. وَقِيلَ: يَقْنُتُ، فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ كُلِّهَا، قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ [مَسْأَلَةَ يَفْصِلَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ بِمَا قَبْلَهَا] (1083) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا) الَّذِي يَخْتَارُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَفْصِلَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ بِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ: إنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُسَلِّمْ فِيهِنَّ، لَمْ يُضَيَّقْ عَلَيْهِ عِنْدِي. وَقَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُسَلِّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَمِمَّنْ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُعَاذٍ الْقَارِئِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 لَا يَفْصِلُ بِسَلَامٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ فَصَلَ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ فَحَسَنٌ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ قَوْلُ عَائِشَةَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ، وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ» وَقَوْلُهَا «كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الثَّلَاثَ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ، وَرَوَتْ أَيْضًا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ مَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ يُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ، ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِتْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْصِلْ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ وَهَذَا نَصٌّ. فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ وَقَدْ قَالَتْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا إذَا أَوْتَرَ بِخَمْسٍ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي الثَّلَاثَ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ تَابَعَهُ لِئَلَّا يُخَالِفَ إمَامَهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي مَنْ يُوتِرُ فَيُسَلِّمُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ، فَيَكْرَهُونَهُ. يَعْنِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَالَ: فَلَوْ صَارَ إلَى مَا يُرِيدُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ، لَا تَضُرُّ مُوَافَقَتُهُ إيَّاهُمْ فِيهِ (1084) فَصْلٌ: يَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَبِتِسْعٍ وَبِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ وَبِثَلَاثٍ وَبِوَاحِدَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَإِنْ أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ سَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، سَلَّمَ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَأَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ وَإِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَإِنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، جَلَسَ عَقِيبَ السَّادِسَةِ، فَتَشَهَّدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ السَّابِعَةِ، فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا عَقِيبَ الثَّامِنَةِ فَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِالتَّاسِعَةِ، وَيُسَلِّمُ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي: فِي السَّبْعِ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ أَيْضًا، كَالْخَمْسِ. فَأَمَّا الْإِحْدَى عَشْرَةَ وَالثَّلَاثُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا وَأَمَّا الْخَمْسُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، لَا يَنْصَرِفُ إلَّا فِي آخِرِهَا وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إلَّا فِي آخِرِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثُمَّ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُنَّ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى سَبْعًا أَوْ خَمْسًا، أَوْتَرَ بِهِنَّ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ: أَدْرَكْت النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِخَمْسٍ، يُسَلِّمُونَ بَيْنَ كُلِّ اثْنَتَيْنِ، وَيُوتِرُونَ بِوَاحِدَةٍ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ جَمِيعًا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَمَّا التِّسْعُ وَالسَّبْعُ فَرَوَى زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: «قُلْت يَعْنِي لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي سَبْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صُنْعِهِ فِي الْأَوَّلِ. قَالَ: فَانْطَلَقْت إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْته بِحَدِيثِهَا فَقَالَ: صَدَقَتْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا هُوَ الْحَدِيثُ. وَفِيهِ: أَوْتَرَ بِسَبْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ وَفِيهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَيُسَلِّمُ بِتَسْلِيمَةٍ شَدِيدَةٍ يَكَادُ يُوقِظُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ شِدَّةِ تَسْلِيمِهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ السَّبْعَ يَجْلِسُ فِيهَا عَقِيبَ السَّادِسَةِ وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَلَّى سَبْعًا، أَوْ خَمْسًا أَوْتَرَ بِهِنَّ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِسَبْعٍ، أَوْ خَمْسٍ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ وَلَا كَلَامٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِيهِ شَكٌّ فِي السَّبْعِ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ عَقِيبَ السَّادِسَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَهُوَ ثَابِتٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ [فَصْلٌ الْوِتْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ] (1085) فَصْلٌ: الْوِتْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ وَاجِبٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا خِفْت الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» وَأَمَرَ بِهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْوِتْرُ حَقٌّ؛ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ مِنْ (الْمُسْنَدِ) أَيْضًا وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ، قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْوِتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، الْوِتْرُ الْوِتْرُ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ، سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ. قَالَ: فَرُحْتُ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِخَتْمٍ، وَلَا كَصَلَوَاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْتَرَ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ لَا، إلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ» وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَالسُّنَنِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قَبْلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَأَحَادِيثُهُمْ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهَا، ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَأْكِيدُهُ وَفَضِيلَتُهُ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَذَلِكَ حَقٌّ، وَزِيَادَةُ الصَّلَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً، وَالتَّوَعُّدُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِهِ، كَقَوْلِهِ: «مَنْ أَكَلَ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» [فَصْل تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا] (1086) فَصْلٌ: وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وَأَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِهِ؛ لِمَا قَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَمْرِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ كَلَامُهُ مَخْرَجَ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَحْدَهَا، جَازَ لَهُ وَهُمَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالْوِتْرُ، فَإِنْ شَاءَ قَضَى الْوِتْرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ، وَلَيْسَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَقَالَ الْقَاضِي: رَكْعَتَا الْفَجْرِ آكَدُ مِنْ الْوِتْرِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِعَدَدٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَأَشْبَهَا الْمَكْتُوبَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوِتْرُ آكَدُ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، وَفِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، لَكِنْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ تَلِيهِ فِي التَّأْكِيدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَقْتُ الْوِتْرُ] (1087) فَصْلٌ: وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، لَمْ يَصِحَّ. وِتْرُهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَلَّاهُ قَبْلَ الْعِشَاءِ نَاسِيًا لَمْ يُعِدْهُ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. فَقَالَا: يُعِيدُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوِتْرُ جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ.» وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَصْرَةَ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «زَادَنِي رَبِّي صَلَاةً، وَهِيَ الْوِتْرُ، وَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَلِأَنَّهُ صَلَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى نَهَارًا. وَإِنْ أَخَّرَ الْوِتْرَ حَتَّى يَطْلُعَ الصُّبْحُ، فَاتَ وَقْتُهُ وَصَلَّاهُ قَضَاءً. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْوِتْرُ مَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوُهُ، لِحَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَقْتَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . وَقَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» وَقَالَ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» وَقَالَ «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ» . أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ الْأَفْضَلُ التَّهَجُّد فِي آخِرِ اللَّيْلِ] (1088) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ، فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ» وَذَلِكَ أَفْضَلُ وَهَذَا صَرِيحٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ آخِرَ اللَّيْلِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ» . وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ جَعَلَ الْوِتْرَ بَعْدَ تَهَجُّدِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ. فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوتِرَ أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَى أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا ذَرٍّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ. وَقَالَ مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا صِحَاحٌ، رَوَاهَا مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَتَى تُوتِرُ؟ قَالَ: أُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ. وَقَالَ لِعُمَرَ: مَتَى تُوتِرُ؟ قَالَ: آخِرَ اللَّيْلِ. فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخَذَ هَذَا بِالْحَزْمِ وَأَخَذَ هَذَا بِالْقُوَّةِ» وَأَيَّ وَقْتٍ أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ، بَعْدَ الْعِشَاءِ أَجْزَأَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ أُوتِرُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَامَ لِلتَّهَجُّدِ] (1089) فَصْلٌ: وَمَنْ أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ لِلتَّهَجُّدِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ مَثْنَى مَثْنَى، وَلَا يَنْقُضَ وِتْرَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَمَّارٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ. وَكَانَ عَلْقَمَةُ لَا يَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ. وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: وَلَا تَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ؟ فَقَالَ لَا ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَأَرْجُو، لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ. وَمَرْوِيٌّ. عَنْ عَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَسَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ يُصَلِّي رَكْعَةً تَشْفَعُ الْوِتْرَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، ثُمَّ يُوتِرُ فِي آخِرِ التَّهَجُّدِ. وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . وَلَنَا: مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ، قَالَ: «زَارَنَا طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمْسَى عِنْدَنَا وَأَفْطَرَ، ثُمَّ قَامَ بِنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ انْحَدَرَ إلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، حَتَّى إذَا بَقِيَ الْوِتْرُ قَدَّمَ رَجُلًا، فَقَالَ: أَوْتِرْ بِأَصْحَابِكَ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَامُ عَلَى فِرَاشِي، فَإِنْ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى الصَّبَاحِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَفْعَلُهُ. [فَصْلٌ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ وَأَحَبَّ مُتَابَعَتَهُ فِي الْوِتْرِ وَأَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ آخِرَ اللَّيْلِ] (1090) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، وَأَحَبَّ مُتَابَعَتَهُ فِي الْوِتْرِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ مَعَهُ، وَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى يَشْفَعُ بِهَا صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إنْ شَاءَ أَقَامَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 عَلَى وِتْرٍ وَشَفَعَ إذَا قَامَ. وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مَثْنَى، قَالَ: وَيَشْفَعُ مَعَ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ أَوْتَرَ، يُصَلِّي بَعْدَهَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْوِتْرُ بَعْدَ ضِجْعَةٍ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكَعَات الْوِتْرِ الثَّلَاثِ] (1091) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكَعَاتِ الْوِتْرِ الثَّلَاثِ، فِي الْأُولَى بِ {سَبِّحْ} ، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْوِتْرِ. وَقَالَ فِي الشَّفْعِ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ، يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ؟ قَالَ: وَلِمَ لَا يَقْرَأُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى " بِسَبِّحْ "، وَفِي الثَّانِيَةِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ "، وَفِي الثَّالِثَةِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلَنَا: مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ " بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا لَا يَثْبُتُ؛ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ زِيَادَةَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ. [فَصْل الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ] (1092) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، كَانَ قَبْلَهَا صَلَاةٌ مُتَقَدِّمَةٌ» . قِيلَ لَهُ: أَوْتَرَ فِي السَّفَرِ بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: يُصَلِّي قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ. قِيلَ لَهُ: يَكُونُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَبَيْنَ الْمَثْنَى سَاعَةٌ؟ قَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَمَعَهُ. ثُمَّ احْتَجَّ فَقَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ» . فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ تَنَفَّلَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ثُمَّ تَعَشَّى، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ يُعْجِبُكَ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُوتِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَسُئِلَ عَمَّنْ صَلَّى مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَامَ وَلَمْ يُوتِرْ؟ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَصْبَحَ وَلَمْ يُوتِرْ؟ قَالَ: لَا يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، إلَّا أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الشَّمْسِ. قِيلَ: يُوتِرُ بِثَلَاثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الشَّمْسِ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَا لَحِقَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةَ الْوِتْرِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ أَجْزَأَتْهُ الرَّكْعَةُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يُسَلِّمُ فِي الثِّنْتَيْنِ تَبِعَهُ، وَيَقْضِي مِثْلَ مَا صَلَّى، فَإِذَا فَرَغَ قَامَ يَقْضِي وَلَا يَقْنُتُ. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ ابْتَدَأَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَجَعَلَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وِتْرًا؟ فَقَالَ: لَا، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ قَدْ قَلَبَ نِيَّتَهُ. قِيلَ لَهُ: أَيَبْتَدِئُ الْوِتْرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقُنُوتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ، ثُمَّ قَنَتَ، ثُمَّ كَبَّرَ حِينَ يَرْكَعُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْبَرَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ وِتْرِهِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثًا] (1093) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ وِتْرِهِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ. ثَلَاثًا، وَيَمُدَّ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ؛ لِمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ مِنْ الْوِتْرِ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الْوِتْرِ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ» . أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ ". [مَسْأَلَةَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرُونَ رَكْعَةً] (1094) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرُونَ رَكْعَةً) . (يَعْنِي) (صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ) وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْغَبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ، وَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: قَدْ رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ قَالَ: وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ. فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتْ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: قُلْت: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ. ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا النَّاسُ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِهِمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصَابُوا، وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَنُسِبَتْ التَّرَاوِيحُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 بِهِمْ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِي، قَالَ: خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ. فَقَالَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. (1095) فَصْلٌ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ. وَزَعَمَ أَنَّهُ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ، وَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ صَالِحًا مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً، يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي. فَإِذَا كَانَتْ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ أُبَيٌّ، فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: أَبَقَ أُبَيٌّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ صَالِحٌ، فَإِنَّ صَالِحًا ضَعِيفٌ، ثُمَّ لَا نَدْرِي مَنْ النَّاسُ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ؟ فَلَعَلَّهُ قَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ فَعَلُوهُ لَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَصْرِهِ، أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا فَعَلَ هَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مُسَاوَاةَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَطُوفُونَ سَبْعًا بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ، فَجَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَكَانَ كُلِّ سَبْعٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. [فَصْلٌ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ] (1096) فَصْلٌ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فِعْلُهَا فِي الْجَمَاعَةِ، قَالَ، فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِهِ، فَصَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ، خِفْت أَنْ يَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتَدُوا بِالْخُلَفَاءِ» وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْجَمَاعَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ جَابِرٌ، وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ يُصَلُّونَهَا فِي جَمَاعَةٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كُلُّ مَنْ اخْتَارَ التَّفَرُّدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ مَعَهُ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ، فَأَمَّا التَّفَرُّدُ الَّذِي يَقْطَعُ مَعَهُ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: قِيَامُ رَمَضَانَ لِمَنْ قَوِيَ فِي الْبَيْتِ أَحَبُّ إلَيْنَا؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: «احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. فَتَتَبَّعَ إلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ قَالَ ثُمَّ: جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا، فَقَالَ: مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَجَمْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ وَأَهْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَوْلُهُ لَهُ: «إنَّ الْقَوْمَ إذَا صَلَّوْا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ» . وَهَذَا خَاصٌّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَهُمْ مُعَلَّلٌ بِخَشْيَةِ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِيَامَ بِهِمْ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ أَيْضًا، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهُ النَّاسُ فَرْضًا، وَقَدْ أُمِنَ هَذَا أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلِيٌّ لَمْ يَقُمْ مَعَ الصَّحَابَةِ؟ قُلْنَا: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ. وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: مَرَّ عَلِيٌّ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَفِيهَا الْقَنَادِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فَقَالَ نَوَّرَ اللَّهُ عَلَى عُمَرَ قَبْرَهُ، كَمَا نَوَّرَ عَلَيْنَا مَسَاجِدَنَا. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. [فَصْلٌ يَقْرَأُ بِالْقَوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يَخِفُّ عَلَى النَّاسِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ] (1097) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَقْرَأُ بِالْقَوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يَخِفُّ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيَالِي الْقِصَارِ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ النُّقْصَانُ عَنْ خَتْمِهِ فِي الشَّهْرِ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ كَرَاهِيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ. وَالتَّقْدِيرُ بِحَالِ النَّاسِ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ لَوْ اتَّفَقَ جَمَاعَةٌ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ وَيَخْتَارُونَهُ، كَانَ أَفْضَلَ. كَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: «قُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ. يَعْنِي السُّحُورَ.» وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا يَسْتَعْجِلُونَ خَدَمَهُمْ بِالطَّعَامِ، مَخَافَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ. [فَصْلٌ يُصَلَّى مَعَ الْإِمَامِ وَيُوتِرُ مَعَهُ] (1098) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ، وَيُوتِرَ مَعَهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ، حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ» . قَالَ: وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيُوتِرُ مَعَهُمْ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ يَؤُمُّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُمْ التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا وَالْوِتْرَ. قَالَ: وَيَنْتَظِرُنِي بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَقُومَ ثُمَّ يَقُومَ، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ» قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْمٍ صَلَّوْا فِي رَمَضَانَ خَمْسَ تَرَاوِيحَ، لَمْ يَتَرَوَّحُوا بَيْنَهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ. قَالَ: وَسُئِلَ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ تَرْوِيحِهِ رَكْعَتَيْنِ، يُصَلِّي إلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ؟ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ. وَقَالَ هِيَ تَطَوُّعٌ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: تُؤَخِّرُ الْقِيَامَ يَعْنِي فِي التَّرَاوِيحِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: لَا، سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إلَيَّ. [فَصْل التَّطَوُّعَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ] (1099) فَصْلٌ: وَكَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّطَوُّعَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ، وَقَالَ: فِيهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عُبَادَةُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. فَذُكِرَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ رُخْصَةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ، إنَّمَا فِيهِ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَطَوَّعُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ أَبْصَرَ قَوْمًا يُصَلُّونَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ أَتُصَلِّي وَإِمَامُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ؟ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَغِبَ عَنَّا. وَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُرَى أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ فِي صَلَاةٍ. [فَصْلٌ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّرَاوِيح] (1100) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّعْقِيبُ، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ نَافِلَةً أُخْرَى جَمَاعَةً، أَوْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى. فَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: مَا يَرْجِعُونَ إلَّا لِخَيْرٍ يَرْجُونَهُ، أَوْ لِشَرٍّ يَحْذَرُونَهُ. وَكَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا. وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ، إلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، أَوْ إلَى آخِرِهِ، لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَ النَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ، فَلَمْ يُكْرَهْ، كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ. [فَصْلٌ فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةَ] (1101) فَصْلٌ: فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت: أَخْتِمُ الْقُرْآنَ، أَجْعَلُهُ فِي الْوِتْرِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَاءً بَيْنَ اثْنَيْنِ. قُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ.؟ قَالَ إذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فَرَغْتَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ، وَادْعُ بِنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَطِلْ الْقِيَامَ. قُلْت: بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: بِمَا شِئْت. قَالَ: فَفَعَلْت بِمَا أَمَرَنِي، وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ: إذَا فَرَغْت مِنْ قِرَاءَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاءِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. قُلْت: إلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْت أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَفْعَلُهُ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ. قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ: وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَبِمَكَّةَ. وَيَرْوِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. [فَصْلٌ فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الشَّكِّ] (1102) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الشَّكِّ؛ فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي وَقْتِ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَصَلَّى، وَصَلَّاهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ» فَجَعَلَ الْقِيَامَ مَعَ الصِّيَامِ. وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ إلَى تَرْكِ الْقِيَامِ، وَقَالَ: الْمُعَوَّلُ فِي الصِّيَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَاخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّونَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إلَى الصَّوْمِ احْتِيَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَالصَّلَاةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [فَصْلٌ إذَا قَرَأَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ هَلْ يَقْرَأُ مِنْ الْبَقَرَةِ شَيْئًا] (1103) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ إذَا قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] يَقْرَأُ مِنْ الْبَقَرَةِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا فَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَصِلَ خَتْمَتَهُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ أَثَرٌ صَحِيحٌ يَصِيرُ إلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَذَكَرْت لِأَحْمَدَ قَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ: إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَاخْتِمْ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَاخْتِمْهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ. وَذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، قَالَ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْخَيْرِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْخَتْمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَفِي أَوَّلِ النَّهَارِ، يَقُولُونَ: إذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ خَتْمَةَ النَّهَارِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُمَا، وَخَتْمَةَ اللَّيْلِ فِي رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ أَوْ بَعْدَهُمَا، يَسْتَقْبِلُ بِخَتْمِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَوَّلَ النَّهَارِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ لِحُضُورِ الدُّعَاءِ] (1104) فَصْلٌ:: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ؛ لِحُضُورِ الدُّعَاءِ. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ أَنَسٌ إذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاسْتَحْسَنَ أَبُو بَكْرٍ التَّكْبِيرَ عِنْدَ آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ» ، رَوَاهُ الْقَاضِي، فِي " الْجَامِعِ " بِإِسْنَادِهِ. [فَصْلٌ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَدَعُ الْآيَاتِ مِنْ السُّورَةِ تَرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا] (1105) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، يَدَعُ الْآيَاتِ مِنْ السُّورَةِ، تَرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ يُوكِلُونَ رَجُلًا يَكْتُبُ مَا تَرَكَ الْإِمَامُ مِنْ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْخَتْمَةِ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِتَتِمَّ الْخَتْمَةُ، وَيَكْمُلَ الثَّوَابُ. [فَصْلٌ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ وَالْإِنْسَانُ مُضْطَجِعٌ] (1106) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْإِنْسَانُ مُضْطَجِعٌ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إلَى الْجَامِعِ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: كُنْت أَقْرَأُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، فَإِذَا قَرَأْت السَّجْدَةَ قُلْت لَهُ: أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ نَعَمْ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إنِّي لَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى سَرِيرِي. رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ، فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَائِشَةَ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ] (1107) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، لِيَكُونَ لَهُ خَتْمَةٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي النَّهَارِ فِي كُلِّ سَبْعَةٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبُعًا، لَا يَتْرُكُهُ نَظَرًا. وَقَالَ حَنْبَلٌ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَخْتِمُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ. قَالَ إنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ حَتَّى أُتِمَّهُ» قَالَ أَوْسٌ سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؛ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ خَتْمَةَ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فِي كَمْ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: فِي شَهْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فِي عِشْرِينَ ثُمَّ قَالَ: فِي خَمْسَ عَشْرَةَ. ثُمَّ قَالَ: فِي عَشْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فِي سَبْعٍ» . لَمْ يَنْزِلْ مِنْ سَبْعٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا سَمِعْتُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ فِي أَرْبَعِينَ. وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَوَاسِعٌ لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 (1108) فَصْلٌ: وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ؛ لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ بِي قُوَّةً قَالَ: اقْرَأْهُ فِي ثَلَاثٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِدُ مِنْ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مَعَ الْعَجَلَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] . وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهَا قَالَتْ: وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ» ، وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَهَذُّهُ كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَنَثْرٌ كَنَثْرِ الدَّقَلِ. [فَصْلٌ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ] (1109) فَصْلٌ: كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ، وَقَالَ: هِيَ بِدْعَةٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ، يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ وَلَا أَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً» وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ، وَالْأَلْحَانُ تُغَيِّرُهُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِي ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَجْعَلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا، وَيَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا تَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَالتَّرْجِيعُ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ. قَالَ: فَقَرَأَ ابْنُ الْمُغَفَّلِ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ» قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ. . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَقَالَ: " أأ أ ". وَرَوَى أَبُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» ، يَجْهَرُ بِهِ. يَعْنِي لِيُسْتَمَعَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ " فَقَالَ: ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَغَيْرُهُمَا: مَعْنَاهُ يَسْتَغْنِي بِالْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَعْنَاهُ يُحْسِنُ قِرَاءَتَهُ، وَيَتَرَنَّمُ بِهِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ. كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حُزْنُهُ فَيَقْرَؤُهُ بِحُزْنٍ مِثْلُ صَوْتِ أَبِي مُوسَى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَحْسِينَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، وَتَطْرِيبَهُ، مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، مَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ إلَى تَغْيِيرِ لَفْظِهِ، وَزِيَادَةِ حُرُوفِهِ، فَقَدْ رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ أَسْمَعْ قِرَاءَةً أَحْسَنَ مِنْ قِرَاءَتِهِ. فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَمَعَ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ قَالَ هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا» . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مُوسَى: إنِّي مَرَرْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، فَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا» . مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 [بَابُ الْإِمَامَةِ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ] ِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَمْ يُوجِبْهَا مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى اللَّذَيْنِ قَالَا: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ لَكَانَتْ شَرْطًا لَهَا كَالْجُمُعَةِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] . الْآيَةَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَرَخَّصَ فِيهَا حَالَةَ الْخَوْفِ، وَلَمْ يُجِزْ الْإِخْلَالَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِهَا، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبِ لِيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا؛ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ لَمَا هَمَّ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَإِذَا لَمْ يُرَخَّصْ لِلْأَعْمَى الَّذِي لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَهُ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ، أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ بَلَدٍ، لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الْقَاصِيَةَ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 } . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَحَدِيثُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ الِاشْتِرَاطُ، كَوَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَالْإِحْدَادِ فِي الْعِدَّةِ. (1110) فَصْلٌ: وَلَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا فِي اشْتِرَاطِهَا، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بِدَلِيلِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ احْتَجُّوا بِهِمَا وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَتَخَلَّفَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ. [فَصْلٌ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا] (1111) فَصْلٌ: وَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» . وَأَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُذَيْفَةَ مَرَّةً، وَابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّةً، وَابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّةً. وَلَوْ أَمَّ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ أَمَّ صَبِيًّا جَازَ فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ صَبِيٌّ. وَإِنْ أَمَّهُ فِي الْفَرْضِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا؛ لِنَقْصِ حَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا بِالْمُفْتَرِضِ، كَالْبَالِغِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ الَّذِي فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ: «مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» . [فَصْلٌ فِعْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ] (1112) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ، وَقِيلَ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» . وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 طَيِّبَةً وَطَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلَيْنِ: «إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْجَمَاعَةَ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً» . وَقَوْلُهُ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ " لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْجَمَاعَةَ؛ وَعَبَّرَ بِالْمَسْجِدِ عَنْ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهَا، وَمَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْكَمَالَ وَالْفَضِيلَةَ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ [فَصْلٌ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْجَمْعُ مِنْ الْمَسَاجِدِ] (1113) فَصْلٌ: وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْجَمْعُ مِنْ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ؛ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ "، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْجَمَاعَةِ فَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَكْثَرُ. وَإِنْ كَانَ فِي جِوَارِهِ أَوْ غَيْرِ جِوَارِهِ مَسْجِدٌ لَا تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ فِيهِ إلَّا بِحُضُورِهِ فَفِعْلُهَا فِيهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَعْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَيُحَصِّلُهَا لِمَنْ يُصَلِّي فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ، وَكَانَ فِي قَصْدِهِ غَيْرَهُ كَسْرُ قَلْبِ إمَامِهِ أَوْ جَمَاعَتِهِ، فَجَبْرُ قُلُوبِهِمْ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَلْ الْأَفْضَلُ قَصْدُ الْأَبْعَدِ أَوْ الْأَقْرَبِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا قَصْدُ الْأَبْعَدِ؛ لِتَكْثُرَ خُطَاهُ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ فَتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ. وَالثَّانِيَةُ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ لَهُ جِوَارًا، فَكَانَ أَحَقَّ بِصَلَاتِهِ كَمَا أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِهَدِيَّةِ جَارِهِ وَمَعْرُوفِهِ مِنْ الْبَعِيدِ. وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا، فَالْأَفْضَلُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَعْلَى لِلْكَلِمَةِ، وَأَوْقَعَ لِلْهَيْبَةِ، وَإِذَا جَاءَهُمْ خَبَرٌ عَنْ عَدُوِّهِمْ سَمِعَهُ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّشَاوُرَ فِي أَمْرٍ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ جَاءَ عَيْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الْكُفَّارِ رَآهُمْ فَأَخْبَرَ بِكَثْرَتِهِمْ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ لَسَمَّرْت أَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الثُّغُورِ أَوْ نَحْوِ هَذَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ. [فَصْلٌ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ] (1114) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ سَالِمٌ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَاللَّيْثُ، وَالْبَتِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُعَادُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ، فِي غَيْرِ مَمَرِّ النَّاسِ. فَمَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، صَلَّى مُنْفَرِدًا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَالْعَدَاوَةِ وَالتَّهَاوُنِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَسْجِدٌ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ، فَكُرِهَ فِيهِ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ، كَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ، وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّكُمْ يَتَّجِرُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَصَلَّى مَعَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، فَقَالَ: " أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ ". وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، وَزَادَ: قَالَ فَلَمَّا صَلَّيَا، قَالَ: " وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ ". وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ. (1115) فَصْلٌ: فَأَمَّا إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا. وَذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، لِئَلَّا يَتَوَانَى النَّاسُ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِيهَا إذَا أَمْكَنَتْهُمْ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ مَعَ غَيْرِهِ. وَظَاهِرُ خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ تَحْصُلُ فِيهَا، كَحُصُولِهَا فِي غَيْرِهَا. [مَسْأَلَةٌ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى] (1116) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) لَا خِلَافَ فِي التَّقْدِيمِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ عَلَى غَيْرِهِمَا. وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا يُقَدَّمُ عَلَى صَاحِبِهِ؟ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، تَقْدِيمُ الْقَارِئِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَؤُمُّهُمْ أَفْقَهُهُمْ إذَا كَانَ يَقْرَأُ مَا يَكْفِي فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ فِيهِ إلَّا بِالْفِقْهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى، كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْحُكْمِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَوْسُ بْنُ ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا.» أَوْ قَالَ: " سِلْمًا ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ.» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ، مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَكَانَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» . وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهَا أَوْلَى، كَالْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ الْعَاجِزِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانَ أَقْرَؤُهُمْ أَفْقَهَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ تَعَلَّمُوا مَعَهُ أَحْكَامَهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا لَا نُجَاوِزُ عَشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ أَمْرَهَا، وَنَهْيَهَا، وَأَحْكَامَهَا. قُلْنَا: اللَّفْظُ عَامُّ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِعُمُومِهِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَا يُخَصُّ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ، عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» . فَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْقَارِئَ لِزِيَادَةِ عِلْمٍ لَمَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ التَّسَاوِي فِيهِ إلَى الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ عَلَى قَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَلَزِمَ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْقِرَاءَةِ التَّسَاوِي فِيهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» . فَقَدْ فَضَّلَ بِالْفِقْهِ مَنْ هُوَ مَفْضُولٌ بِالْقِرَاءَةِ، وَفَضَّلَ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ هُوَ مَفْضُولٌ بِالْقَضَاءِ وَالْفَرَائِضِ وَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ " أَهُوَ خِلَافُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ - عِنْدِي - " يُصَلِّي بِالنَّاسِ " لِلْخِلَافَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَأَ مِنْهُ، فَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ بِالصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِخْلَافَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 (1117) فَصْلٌ: وَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَارِئَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا.» وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي قَدْرِ مَا يَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَأُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» . وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ حِفْظًا، وَالْآخَرُ أَقَلَّ لَحْنًا وَأَجْوَدَ قِرَاءَةً، فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي قِرَاءَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (1118) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَفْقَهُهُمْ) وَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» وَلِأَنَّ الْفِقْهَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْإِتْيَانِ بِوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا، وَجَبْرِهَا إنْ عَرَضَ مَا يُحْوِجُ إلَيْهِ فِيهَا، فَإِنْ اجْتَمَعَ فَقِيهَانِ قَارِئَانِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَأُ، وَالْآخَرُ أَفْقَهُ، قُدِّمَ الْأَقْرَأُ. نَصَّ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْأَفْقَهُ أَوْلَى؛ لِتَمَيُّزِهِ بِمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا يُخَالِفُ عُمُومَ الْخَبَرِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ فَقِيهَانِ، أَحَدُهُمَا أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالْآخَرُ أَعْرَفُ بِمَا سِوَاهَا، فَالْأَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ أَوْلَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ يُؤَثِّرُ فِي تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ. (1119) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَسَنُّهُمْ) . يَعْنِي: أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، يُقَدَّمُ عِنْدَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ أَقْدَمُهُمَا هِجْرَةً، ثُمَّ أَسَنُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ، وَهُوَ مُرَتَّبٌ هَكَذَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تُوجَدُ أَكْثَرُ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ. وَمَعْنَى تُقَدَّمُ الْهِجْرَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ هِجْرَةً مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ إلَيْهَا لِسَبْقِهِ إلَى الطَّاعَةِ. فَإِذَا اسْتَوَيَا فِيهَا، إمَّا لِهِجْرَتِهِمَا مَعًا، أَوْ عَدَمِهَا مِنْهُمَا، فَأَسَنُّهُمْ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَالِكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْأَسَنَّ أَحَقُّ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّقْدِيمِ. وَكَذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، لَمَّا تَكَلَّمَ فِي أَخِيهِ: كَبِّرْ كَبِّرْ» . أَيْ دَعْ الْأَكْبَرَ يَتَكَلَّمُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ أَحَقُّهُمْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ أَشْرَفُهُمْ، ثُمَّ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، ثُمَّ أَسَنُّهُمْ. وَالصَّحِيحُ، الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْدِيمِ السَّابِقِ بِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ الْأَسَنِّ؛ لِتَصْرِيحِهِ بِالدَّلَالَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمَا هِجْرَةٌ وَلَا تَفَاضُلُهُمَا فِي شَرَفٍ، وَيُرَجَّحُ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ كَالتَّرْجِيحِ بِتَقْدِيمِ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: «فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا» وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَشْرَفُ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَإِذَا قُدِّمَ بِتَقَدُّمِهَا فَتَقَدُّمُهُ أَوْلَى. فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ قُدِّمَ أَشْرَفُهُمْ، أَيْ أَعْلَاهُمْ نَسَبًا، وَأَفْضَلُهُمْ فِي نَفْسِهِ، وَأَعْلَاهُمْ قَدْرًا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا» . (1120) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، قُدِّمَ أَتْقَاهُمْ وَأَوْرَعُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ فِي الدِّينِ، وَأَفْضَلُ وَأَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ، وَقَدْ جَاءَ: " إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ ". ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " رِسَالَتِهِ "، وَيُحْمَلُ تَقْدِيمُ هَذَا عَلَى الْأَشْرَفِ، لِأَنَّ شَرَفَ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَذَانِ، فَالْإِمَامَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَقُومُ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَتَعَاهُدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الْجِيرَانُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، قُدِّمَ بِذَلِكَ. وَلَا يُقَدَّمُ بِحُسْنِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَقْدِيمُ اسْتِحْبَابٍ، لَا تَقْدِيمُ اشْتِرَاطٍ، وَلَا إيجَابٍ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَلَوْ قُدِّمَ الْمَفْضُولُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَذَا أَمْرُ أَدَبٍ وَاسْتِحْبَابٍ. [مَسْأَلَةٌ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَةٍ أَوْ يَسْكَرُ] (1121) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَةٍ، أَوْ يَسْكَرُ، أَعَادَ) . الْإِعْلَانُ الْإِظْهَارُ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِسْرَارِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَنْ ائْتَمَّ بِمَنْ يُظْهِرُ بِدْعَتَهُ، وَيَتَكَلَّمُ بِهَا، وَيَدْعُو إلَيْهَا، أَوْ يُنَاظِرُ عَلَيْهَا، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ بِدْعَتَهُ، فَلَا إعَادَةَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لَهَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا تَعْرِفُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، آمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: لَا، إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْكُتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، إذَا كَانَ دَاعِيَةً إلَى هَوَاهُ. وَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ الْمُرْجِئِ إذَا كَانَ دَاعِيَةً. وَتَخْصِيصُهُ الدَّاعِيَةَ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْإِعَادَةِ، دُونَ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُعْلِنُ بِالْبِدْعَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا بِدَلِيلٍ، وَغَيْرُ الْمُعْلِنِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا تَقْلِيدًا. وَلَنَا، أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعْلَانِ هُوَ الْإِظْهَارُ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ وَالْإِسْرَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن: 4] وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} [إبراهيم: 38] وَلِأَنَّ الْمُظْهِرَ لِبِدْعَتِهِ لَا عُذْرَ لِلْمُصَلِّي خَلْفَهُ - لِظُهُورِ حَالِهِ -، وَالْمُخْفِيَ لَهَا مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مَعْذُورٌ، وَهَذَا لَهُ أَثَرٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ خَلْفَ الْمُحْدِثِ وَالنَّجِسِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُمَا؛ لِخَفَاءِ ذَلِكَ وَمِنْهُمَا وَوَجَبَتْ عَلَى الْمُصَلِّي خَلْفَ الْكَافِرِ وَالْأُمِّيِّ، لِظُهُورِ حَالِهِمَا غَالِبًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ بِحَالٍ. قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يُصَلِّي خَلْفَ مُرْجِئٍ وَلَا رَافِضِيٍّ، وَلَا فَاسِقٍ، إلَّا أَنْ يَخَافَهُمْ فَيُصَلِّيَ، ثُمَّ يُعِيدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد، قَالَ أَحْمَدُ: مَتَى مَا صَلَّيْت خَلْفَ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَأَعِدْ. قُلْت: وَتَعْرِفُهُ. قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ مُعْلِنٍ بِبِدْعَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَمَنْ لَمْ يُعْلِنْهَا فَفِي الْإِعَادَةِ خَلْفَهُ رِوَايَتَانِ. وَأَبَاحَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَغَيْرِهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مَعَ الْخَشَبِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ. فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي مَعَ هَؤُلَاءِ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا؟ فَقَالَ: مَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى قَتْلِ أَخِيك الْمُسْلِمِ، وَأَخْذِ مَالِهِ. قُلْت: لَا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ نُكَفِّرُهُ بِبِدْعَتِهِ كَاَلَّذِي يُكَذِّبُ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ بِبِدْعَتِهِ، لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ، وَمَنْ لَا نُكَفِّرُهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. وَلَنَا: مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ، أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُ، وَحَدِيثُهُمْ نَقُولُ بِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَتُعَادُ، وَهُوَ مُطْلَقٌ، فَالْعَمَلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يُحَصِّلُ الْوَفَاءَ بِدَلَالَتِهِمْ، وَقِيَاسِهِمْ مَنْقُوضٌ بِالْخُنْثَى وَالْأُمِّيِّ. وَيُرْوَى عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُمَرَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ، قُلْت: أُصَلِّي خَلْفَ الْقَدَرِيِّ؟ قَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا أَنَا لَوْ صَلَّيْت خَلْفَهُ لَأَعَدْت صَلَاتِي. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " أَوْ يَسْكَرُ ". فَإِنَّهُ يَعْنِي مَنْ يَشْرَبُ مَا يُسْكِرُهُ مِنْ أَيِّ شَرَابٍ كَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ لِفِسْقِهِ. وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، فِيمَا يُرَى مِنْ سَائِرِ الْفُسَّاقِ، لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَأَلْت أَحْمَدَ وَقِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ يَسْكَرُ؟ قَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَهُ أَلْبَتَّةَ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ، قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ رَجُلٍ، ثُمَّ عَلِمْت أَنَّهُ يَسْكَرُ، أُعِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعِدْ. قَالَ: أَيَّتُهُمَا صَلَاتِي؟ قَالَ: الَّتِي صَلَّيْتَ وَحْدَك. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ. قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا سَكْرَانَ، أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأُصَلِّي وَحْدِي؟ قَالَ أَيْنَ أَنْتَ؟ فِي الْبَادِيَةِ؟ الْمَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ. قَالَ: أَنَا فِي حَانُوتِي. قَالَ: تَخَطَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ. فَأَمَّا مَنْ يَشْرَبُ مِنْ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مَا لَا يُسْكِرُهُ، مُعْتَقِدًا حِلَّهُ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَقَالَ: يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ عَلَى التَّأْوِيلِ، نَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ الْحَدِيثَ، وَلَا نُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَسْكَرُ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ بِمَفْهُومِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِتَخْصِيصِهِ مَنْ سَكِرَ بِالْإِعَادَةِ خَلْفَهُ. وَفِي مَعْنَى شَارِبِ مَا يُسْكِرُ كُلُّ فَاسِقٍ، فَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ فَاجِرٍ وَلَا فَاسِقٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، سُئِلَ عَنْ إمَامٍ، قَالَ: أُصَلِّي بِكُمْ رَمَضَانَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ هَذَا؟ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُصَلُّوا خَلْفَ مَنْ لَا يُؤَدِّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الزَّكَاةَ، وَقَالَ لَا تُصَلِّ خَلْفَ مَنْ يُشَارِطُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ، ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَالْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ مَرْوَانَ. وَاَلَّذِينَ كَانُوا فِي وِلَايَةِ زِيَادٍ وَابْنِهِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمَا. وَصَلَّوْا وَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا، وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ. فَصَارَ هَذَا إجْمَاعًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قَالَ: قُلْت. فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ نَافِلَةً، وَإِلَّا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إنِّي قَدْ صَلَّيْت، فَلَا أُصَلِّي» . وَفِي لَفْظٍ: " فَإِنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ ". وَهَذَا فِعْلٌ يَقْتَضِي فِسْقَهُمْ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» عَامٌّ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ، فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَالْعَدْلِ. وَوَجْهُ الْأُولَى قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُؤَمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانِهِ أَوْ سَيْفِهِ» . وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَتَضَمَّنُ حَمْلَ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يُؤْمَنُ تَرْكُهُ لَهَا، وَلَا يُؤْمَنُ تَرْكُ بَعْضِ شَرَائِطِهَا كَالطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ ثَمَّ أَمَارَةٌ وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ يُؤَمِّنَانِ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ أَجَبْنَا عَنْهُ، وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ خَافُوا الضَّرَرَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ، فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ، فَصَلَّيَا بِالْإِيمَاءِ، وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا إنْ صَلَّيَا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ بِهِمَا. وَرَوَيْنَاهُ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ. قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ فُلَانٍ مَا كَانَ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا، فَإِنَّا لَا نُصَلِّي خَلْفَك. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا نَافِلَةً، وَالنِّزَاعُ فِي الْفَرْضِ. (1122) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ. وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ يَشْهَدُهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ فِي عَصْرِهِ. وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مُحَمَّدَ بْنَ النَّضْرِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ لِي جِيرَانًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، لَا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ. قَالَ حَسْبُكَ، مَا تَقُولُ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: رَجُلُ سَوْءٍ. قَالَ: فَإِنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: يُكَفَّرُ. قَالَ: فَإِنْ رَدَّ عَلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؟ ثَمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: رَدُّوا عَلَيْهِ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَإِنَّهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ سَيَلُونَهَا. وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ؛ وَتَلِيهَا الْأَئِمَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَتَرْكُهَا خَلْفَهُمْ يُفْضِي إلَى تَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تُعَادُ خَلْفَ مَنْ يُعَادُ خَلْفَهُ غَيْرُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَيَنْبَغِي شُهُودُهَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَلِّي مِنْهُمْ أَعَادَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَهَذَا يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعَادُ خَلْفَ فَاسِقٍ وَلَا مُبْتَدِعٍ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ أُمِرَ بِهَا، فَلَمْ تَجِبْ إعَادَتُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (1123) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهَا عَدْلًا، وَالْمُوَلِّي لَهُ غَيْرَ مَرْضِيِّ الْحَالِ لِبِدْعَتِهِ أَوْ فِسْقِهِ، لَمْ يُعِدْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا كَانَ الَّذِي وَضَعَهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ. قَالَ: لَسْت أَقُولُ بِهَذَا. وَلِأَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا تَرْتَبِطُ بِصَلَاةِ إمَامِهِ، فَلَا يَضُرُّ وُجُودُ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ، كَالْحَدَثِ أَوْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا. وَعَنْهُ: تُعَادُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. (1124) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِسْقَ إمَامِهِ، وَلَا بِدْعَتَهُ، حَتَّى صَلَّى مَعَهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، فَأَشْبَهَ الْمُحْدِثَ وَالنَّجِسَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخْفِي بِدْعَتَهُ وَفُسُوقَهُ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ ذَلِكَ، وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ خَلْفَهُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِوُجُوبِ إعَادَتِهَا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعِلْمُ وَعَدَمُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ أُمِّيًّا، وَالْحَدَثُ وَالنَّجَاسَةُ يُشْتَرَطُ خَفَاؤُهُمَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مَعًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَاسِقِ فِسْقُ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْإِعَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ. (1125) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ بِهِ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ السَّلَامَةُ. وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشُكُّ فِي إسْلَامِهِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ لِلْإِمَامَةِ إلَّا مُسْلِمٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 [فَصْلٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْفُرُوعِ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ] (1126) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فِي الْفُرُوعِ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ بَعْضُهُمْ يَأْتَمُّ بِبَعْضٍ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ لِإِصَابَتِهِ، أَوْ مُخْطِئًا فَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ مَحْطُوطٌ عَنْهُ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتْرُكُ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ دُونَ الْإِمَامِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ، وَعَلَيْهِ جُلُودُ الثَّعَالِبِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ يَلْبَسُهُ وَهُوَ يَتَأَوَّلُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . يُصَلَّى خَلْفَهُ. قِيلَ لَهُ، أَفَتَرَاهُ أَنْتَ جَائِزًا؟ قَالَ: لَا، نَحْنُ لَا نَرَاهُ جَائِزًا وَلَكِنْ إذَا كَانَ هُوَ يَتَأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ لَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ؟ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ، فَلَا نُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٍ وَمَنْ سَهَّلَ فِي الدَّمِ؟ أَيْ: بَلَى. وَرَأَيْت لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَسْأَلَةً مُفْرَدَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ كَالْمُصِيبِ فِي حَطِّ الْمَأْثَمِ عَنْهُ، وَحُصُولِ الثَّوَابِ، وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ لِنَفْسِهِ، فَجَائِزٌ الِائْتِمَامُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ائْتِمَامُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ، كَمَا لَوْ خَالَفَهُ فِي الْقِبْلَةِ حَالَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا. (1127) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ مَا يَعْتَقِدُهُ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ أَوْ وَاجِبًا فِيهَا، فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يُخَالِفُهُ فِي اعْتِقَادِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ، كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، كَالْمُتَزَوِّجِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِمَّنْ يَرَى فَسَادَهُ، وَشَارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَهَذَا إنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ فَاسِقٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْفُسَّاقِ، فَإِنْ لَمْ يَدُمْ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ. وَمَتَى كَانَ الْفَاعِلُ كَذَلِكَ عَامِّيًّا قَلَّدَ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعَامِّيِّ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ وَتَقْلِيدُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] [فَصْلٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَجْنُونٍ] (1128) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَجْنُونٍ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ لِنَفْسِهِ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ تَارَةً، وَيُفِيقُ أُخْرَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فَصَلَّى وَرَاءَهُ حَالَ إفَاقَتِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَيُكْرَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ احْتَلَمَ حَالَ جُنُونِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَلِئَلَّا يُعَرِّضَ الصَّلَاةَ لِلْإِبْطَالِ فِي أَثْنَائِهَا، لِوُجُودِ الْجُنُونِ فِيهَا، وَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، فَلَا تَفْسُدُ بِالِاحْتِمَالِ. [فَصْلٌ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ] (1129) فَصْلٌ: وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، فَإِنْ شَاءَ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَعَادَ وَإِنْ نَوَى الصَّلَاةَ وَحْدَهُ، وَوَافَقَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا عَلَى الْكَمَالِ، فَلَا تَفْسُدُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَهُ فِي الْأَفْعَالِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُوَافَقَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعِيدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، وَيَكُونُ الرَّجُلُ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَهُ، وَيُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: إنْ خَرَجَ كَانَ فِي ذَلِكَ شُنْعَةٌ، وَلَكِنْ يُصَلِّي مَعَهُ، وَيُعِيدُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ، وَيَكُونَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِنَفْسِهِ وَيَرْكَعُ لِنَفْسِهِ، وَيَسْجُدُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُبَالِي أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُ مَعَ سُجُودِهِ، وَتَكْبِيرُهُ مَعَ تَكْبِيرِهِ. قُلْت: فَإِنْ فَعَلَ هَذَا لِنَفْسِهِ أَيُعِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فَكَيْفَ يُعِيدُ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْأَوْلَى، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً» . قَالَ: إنَّمَا ذَاكَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَنَوَى الْفَرْضَ، أَمَّا إذَا صَلَّى مَعَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا. فَقَدْ نَصَّ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَلَكِنَّ تَعْلِيلَهُ إفْسَادَهَا بِكَوْنِهِ نَوَى أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهَا، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا إذَا نَوَى الِاعْتِدَادَ بِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِينَ لَا يَرْضَوْنَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ جَمَاعَةً، فَأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَوَافَقُوا الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، كَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى جَائِزَةٌ] (1130) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى جَائِزَةٌ) . هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ غُلَامًا لَهَا كَانَ يَؤُمُّهَا. وَصَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو ذَرٍّ وَرَاءَ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، وَهُوَ عَبْدٌ. وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ: الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَزٍ إمَامَةَ الْعَبْدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَؤُمُّهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَارِئًا وَهُمْ أُمِّيُّونَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: «إنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ، وَأَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الْقَوْمَ وَقَدْ صَلَّوْا، كُنْتَ أَحْرَزْتَ صَلَاتَك، وَإِلَّا كَانَتْ لَك نَافِلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَعَلَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، قَالَ: تَزَوَّجْت وَأَنَا عَبْدٌ، فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابُونِي، فَكَانَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَهُمْ فِي بَيْتِي، فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ. وَرَاءَك؟ فَالْتَفَتَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا عَبْدٌ، فَصَلَّيْت بِهِمْ. رَوَاهُ صَالِحٌ فِي " مَسَائِلِهِ " بِإِسْنَادِهِ، وَهَذِهِ قِصَّةٌ مِثْلُهَا يَنْتَشِرُ، وَلَمْ يُنْكَرْ وَلَا عُرِفَ مُخَالِفٌ لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الرِّقَّ حَقٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ إمَامَتِهِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ لِلرِّجَالِ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ كَالْحُرِّ. وَأَمَّا الْأَعْمَى فَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ خِلَافًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ أَؤُمُّهُمْ وَهُمْ يَعْدِلُونَنِي إلَى الْقِبْلَةِ. وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ وَهُوَ أَعْمَى، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ وَجَابِرٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. . وَعَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «غَزَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، كُلَّ ذَلِكَ يُقَدِّمُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ. وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ حَاسَّةٍ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَا بِشُرُوطِهَا، فَأَشْبَهَ فَقْدَ الشَّمِّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ إمَامًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِعِلْمِهِ، وَيَتَوَقَّى النَّجَاسَاتِ بِبَصَرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى أَخْشَعُ، لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ فِي الصَّلَاةِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يُلْهِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ فَضِيلَةِ الْبَصِيرِ عَلَيْهِ، فَيَتَسَاوَيَانِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْبَصِيرَ لَوْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَضِيلَةً لَكَانَ مُسْتَحَبًّا، لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ بِتَغْمِيضِهِ مَا يُحَصِّلُهُ الْأَعْمَى، وَلِأَنَّ الْبَصِيرَ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ مَعَ إمْكَانِ النَّظَرِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الْمَكْرُوهَ مَعَ إمْكَانِهِ اخْتِيَارًا، وَالْأَعْمَى يَتْرُكُهُ اضْطِرَارًا فَكَانَ أَدْنَى حَالًا، وَأَقَلَّ فَضِيلَةً. [فَصْلٌ إمَامَةُ الْأَخْرَسِ] (1131) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْأَخْرَسِ بِمِثْلِهِ، وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ رُكْنًا، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ، تَرْكًا مَأْيُوسًا مِنْ زَوَالِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ إمَامَتُهُ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. [فَصْلٌ إمَامَةُ الْأَصَمِّ] (1132) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ إمَامَةُ الْأَصَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا شُرُوطِهَا، فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى؛ فَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 كَانَ أَصَمَّ أَعْمَى صَحَّتْ إمَامَتُهُ لِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تَصِحُّ إمَامَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَهَا لَا يُمْكِنُ تَنْبِيهُهُ بِتَسْبِيحٍ وَلَا إشَارَةٍ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ احْتِمَالُ عَارِضٍ لَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ، كَالْمَجْنُونِ حَالَ إفَاقَتِهِ. [فَصْلٌ إمَامَةُ أَقْطَعِ الْيَدَيْنِ] (1133) فَصْلٌ: فَأَمَّا أَقْطَعُ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: تَصِحُّ إمَامَتُهُ. اخْتَارَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ لَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ فِي الصَّلَاةِ. فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ إمَامَتِهِ، كَأَقْطَعِ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ وَالْأَنْفِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا تَصِحُّ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالسُّجُودِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، أَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى جَبْهَتِهِ. وَحُكْمُ أَقْطَعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ كَالْحُكْمِ فِي قَطْعِهِمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا أَقْطَعُ الرِّجْلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ قِيَامِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ إمَامَتُهُ كَالزَّمِنِ. وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَيُمْكِنُهُ الْقِيَامُ، صَحَّتْ إمَامَتُهُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا تَصِحَّ إمَامَتُهُ؛ لِإِخْلَالِهِ بِالسُّجُودِ عَلَى عُضْوٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى الْبَاقِي مِنْ رِجْلِهِ أَوْ حَائِلِهَا. [مَسْأَلَةٌ أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا] (1134) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ) (أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا) (أَعَادَ الْقَارِئُ وَحْدَهُ) . الْأُمِّيُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ يُخِلُّ بِحَرْفٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ غَيْرَهَا، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَيَصِحُّ لِمِثْلِهِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ الْخِرَقِيِّ الْقَارِئَ بِالْإِعَادَةِ فِيمَا إذَا أَمَّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ مَعَ جَمَاعَةٍ أُمِّيِّينَ حَتَّى إذَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ بَقِيَ خَلْفَ الْإِمَامِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أُمِّيٌّ وَاحِدٌ، وَكَانَا خَلْفَ الْإِمَامِ أَعَادَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ صَارَ فَذًّا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا قَصَدَ بَيَانَ مَنْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالِائْتِمَامِ بِالْأُمِّيِّ، وَهَذَا يَخُصُّ الْقَارِئَ دُونَ الْأُمِّيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ؛ لِكَوْنِهِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، أَوْ كَوْنِهِمَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ مَعَهُمْ أُمِّيٌّ آخَرُ، وَإِنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِكَوْنِهِ فَذًّا، فَمَا فَسَدَتْ لِائْتِمَامِهِ بِمِثْلِهِ، إنَّمَا فَسَدَتْ لِمَعْنًى آخَرَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقِيلَ عَنْهُ: يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ دُونَ صَلَاةِ الْجَهْرِ. وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ، فَجَازَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ الِائْتِمَامُ بِهِ، كَالْقَاعِدِ بِالْقَائِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ مَعَهُ الْقَارِئُ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ عَنْهُ، لِكَوْنِ الْإِمَامِ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ، فَعَجَزَ عَنْهَا، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا عَلَى الْأَوَّلِ، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِعَاجِزٍ عَنْ رُكْنٍ سِوَى الْقِيَامِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَالْمُؤْتَمِّ بِالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ، وَهَذَا عَاجِزٌ عَنْ التَّحَمُّلِ لِلْقِرَاءَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالْأَخْرَسِ وَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّحَمُّلِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ. وَلَنَا عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَنَّهُ أَمَّ مَنْ لَا يَصِحُّ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ أَمَّتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَنِسَاءً. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَلْزَمُ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْقَارِئِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ نَفْسِهِ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى. وَإِنْ أَمَّ الْأُمِّيُّ قَارِئًا وَاحِدًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ نَوَى الْإِمَامَةَ وَقَدْ صَارَ فَذًّا. (1135) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى الْقَارِئُ خَلْفَ مَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَلَمْ يَتَخَرَّمْ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، وَإِنْ كَانَ يُسِرُّ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَارِئِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ لَجَهَرَ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ النَّاسَ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَإِسْرَارُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نِسْيَانًا، أَوْ لِجَهْلِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَكْثَرَ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالِاحْتِمَالِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَرَأْتُ فِي الْإِسْرَارِ. صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ. وَيُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَلَوْ أَسَرَّ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْت قَرَأْت الْفَاتِحَةَ. لَزِمَهُ وَمَنْ وَرَاءَهُ الْإِعَادَةُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: أَمَّا سَمِعْتُمُونِي قَرَأْتُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَا قَرَأْتُ فِي نَفْسِي. فَأَعَادَ بِهِمْ الصَّلَاةَ. (1136) فَصْلٌ: وَمَنْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؛ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، أَوْ أَبْدَلَهُ بِغَيْرِهِ، كَالْأَلْثَغِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّاءَ غَيْنًا، وَالْأَرَتِّ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا فِي حَرْفٍ، أَوْ يَلْحَنُ لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، كَاَلَّذِي يَكْسِرُ الْكَافَ مِنْ إيَّاكَ، أَوْ يَضُمُّ التَّاءَ مِنْ أَنْعَمْتَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إصْلَاحِهِ، فَهُوَ كَالْأُمِّيِّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ قَارِئٌ. وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا أُمِّيَّانِ، فَجَازَ لِأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِالْآخَرِ، كَاَللَّذَيْنِ لَا يُحْسِنَانِ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إصْلَاحِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ. (1137) فَصْلٌ: إذَا كَانَ رَجُلَانِ لَا يُحْسِنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْفَاتِحَةَ، وَأَحَدُهُمَا يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْآخَرُ لَا يُحْسِنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَهُمَا أُمِّيَّانِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِائْتِمَامُ بِالْآخَرِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَؤُمَّ الَّذِي يُحْسِنُ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَأُ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا فِي الْجَهْلِ أَوْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِيهِ. (1138) فَصْلٌ: تُكْرَهُ إمَامَةُ اللَّحَّان، الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِمَنْ لَا يَلْحَنُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ أَحَالَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، لَمْ يُمْنَعْ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، وَلَا الِائْتِمَامِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَتَعَمَّدَهُ، فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُمَا. (1139) فَصْلٌ: وَمَنْ لَا يُفْصِحُ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ، كَالضَّادِ وَالْقَافِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تُكْرَهُ إمَامَتُهُ، وَتَصِحُّ، أَعْجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا، وَقِيلَ فِي مَنْ قَرَأَ {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بِالظَّاءِ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ الْمَعْنَى يُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا: إذَا فَعَلَهُ نَهَارًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَلْثَغِ. وَتُكْرَهُ إمَامَةُ التَّمْتَامِ - وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ التَّاءَ -، وَالْفَأْفَاءِ، وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ الْفَاءَ. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِالْحُرُوفِ عَلَى الْكَمَالِ، وَيَزِيدَانِ زِيَادَةً هُمَا مَغْلُوبَانِ عَلَيْهَا، فَعُفِيَ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُهُمَا لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ مُشْرِكٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ.] (1140) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى خَلْفَ مُشْرِكٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أَعَادَ الصَّلَاةَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ عَلِمَ بِكُفْرِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى مَنْ صَلَّى وَرَاءَهُ الْإِعَادَةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ: لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُحْدِثٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمَجْنُونٍ، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَعْلَمَ حَدَثَ نَفْسِهِ، وَالْكَافِرُ يَعْلَمُ حَالَ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهَا الرَّجُلُ بِحَالٍ، فِي فَرْضٍ وَلَا نَافِلَةٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهَا. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيّ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الرِّجَالَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَتَكُونَ وَرَاءَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا» ، وَلِأَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ، فَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 يَجُزْ أَنْ تَؤُمَّهُمْ، كَالْمَجْنُونِ. وَحَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ إنَّمَا أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا، كَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ لَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرَائِضِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا، وَالْأَذَانُ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي الْفَرَائِضِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُمْ فِي الْفَرَائِضِ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِالتَّرَاوِيحِ وَاشْتِرَاطَ تَأَخُّرِهَا تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ الْأُصُولَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِأُمِّ وَرَقَةَ، لَكَانَ خَاصًّا بِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِغَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، فَتَخْتَصُّ بِالْإِمَامَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَلَا يَؤُمُّ خُنْثَى مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً وَالْمَأْمُومُ رَجُلًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّهُ امْرَأَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا. قَالَ الْقَاضِي: رَأَيْت لِأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ أَنَّ الْخُنْثَى لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَ مَعَ الرِّجَالِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ قَامَ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ وَحْدَهُ أَوْ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَإِنْ أَمَّ الرِّجَالَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً. وَإِنْ أَمَّ النِّسَاءَ فَقَامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَإِنْ قَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ مَأْمُومًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَامَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا. (1141) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ نِسَاءً أَجَانِبَ، لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ، وَأَنْ يَؤُمَّ النِّسَاءَ مَعَ الرِّجَالِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءً، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَسًا وَأُمَّهُ فِي بَيْتِهِمْ. (1142) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ شَكَّ فِي إسْلَامِهِ، أَوْ كَوْنِهِ خُنْثَى، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، مَا لَمْ يَبِنْ كُفْرُهُ، وَكَوْنُهُ خُنْثَى مُشْكِلًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُصَلِّينَ الْإِسْلَامُ، سِيَّمَا إذَا كَانَ إمَامًا، وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ مِنْ كَوْنِهِ خُنْثَى، سِيَّمَا مَنْ يَؤُمُّ الرِّجَالَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ خُنْثَى مُشْكِلًا، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يُسْلِمُ تَارَةً وَيَرْتَدُّ أُخْرَى، لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ عَلَى أَيِّ دِينٍ هُوَ، فَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ عَلَيْهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ إسْلَامَهُ، وَشَكَّ فِي رِدَّتِهِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَإِنْ عَلِمَ رِدَّتَهُ، وَشَكَّ فِي إسْلَامِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. فَإِنْ كَانَ عَلِمَ إسْلَامَهُ، فَصَلَّى خَلْفَهُ، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: مَا كُنْت أَسْلَمْت أَوْ ارْتَدَدْت. لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ صَحِيحَةً حُكْمًا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ هَذَا فِي إبْطَالِهَا؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَإِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ عَلِمَ رِدَّتَهُ، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: قَدْ كُنْتُ أَسْلَمْتُ. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُسْلِمٌ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَافِرِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا فِي الْمَسْجِدِ، كَقَوْلِنَا، وَإِنْ صَلَّى فُرَادَى فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إلَّا بِحَقِّهَا.» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الِاسْتِتَارَ بِالصَّلَاةِ، وَإِخْفَاءَ دِينِهِ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» . وَقَالَ: «بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ.» فَجَعَلَ الصَّلَاةَ حَدًّا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَمَنْ صَلَّى فَقَدْ دَخَلَ فِي حَدِّ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي الْمَمْلُوكِ: «فَإِذَا صَلَّى فَهُوَ أَخُوكَ» . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَالْإِتْيَانُ بِهَا إسْلَامٌ كَالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَالصِّيَامُ إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ مَنْ لَيْسَ بِصَائِمٍ. (1144) فَصْلٌ: فَأَمَّا صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ، فَأَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ، وَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، كَانَ حَالَ شُرُوعِهِ فِيهَا غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَلَا مُتَطَهِّرٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسَاءِ] (1145) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّتْ امْرَأَةٌ بِالنِّسَاءِ قَامَتْ مَعَهُنَّ فِي الصَّفِّ وَسَطًا) . اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ، هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ بِالنِّسَاءِ جَمَاعَةً؟ فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَؤُمُّ النِّسَاءَ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَكَرِهَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَإِنْ فَعَلَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 أَجْزَأَهُنَّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ: لَهُنَّ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ دُونَ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: لَا تَؤُمُّ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَؤُمَّ أَحَدًا، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهَا الْأَذَانُ، وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْجَمَاعَةِ، فَكُرِهَ لَهَا مَا يُرَادُ الْأَذَانُ لَهُ. وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ وَلِأَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهْنَ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُنَّ الْأَذَانُ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَلَسْنَ مِنْ أَهْلِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إذَا صَلَّتْ بِهِنَّ قَامَتْ فِي وَسَطِهِنَّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ مَنْ رَأَى لَهَا أَنْ تَؤُمَّهُنَّ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّسَتُّرُ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّجَافِي، وَكَوْنُهَا فِي وَسَطِ الصَّفِّ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَتِرُ بِهِنَّ مِنْ جَانِبَيْهَا، فَاسْتُحِبَّ لَهَا ذَلِكَ كَالْعُرْيَانِ، فَإِنْ صَلَّتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَوْقِفٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا كَانَ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ مَوْقِفَهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَفَ الرَّجُلُ مَوْقِفَهُ. (1146) فَصْلٌ: وَتَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَإِنْ كَانَ ثُمَّ رِجَالٌ لَا تَجْهَرُ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهَا، فَلَا بَأْسَ. فَصْلٌ: وَيُبَاحُ لَهُنًّ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ. يَعْنِي غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ لَهَا وَأَفْضَلُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ إذَا أَمَّتْ الْمَرْأَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً] (1148) فَصْلٌ: إذَا أَمَّتْ الْمَرْأَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً، قَامَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ يَمِينِهَا، كَالْمَأْمُومِ مَعَ الرِّجَالِ، وَإِنْ صَلَّتْ خَلْفَ رَجُلٍ قَامَتْ خَلْفَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ قَامَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا، كَمَا رَوَى «أَنَسٌ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ، وَكَانُوا فِي تَطَوُّعٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 قَامَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. كَمَا رَوَى أَنَسٌ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ، قَالَ: فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا جَعَلَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْغُلَامَ عَنْ يَسَارِهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ وَقَفَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ وَقَفَا وَرَاءَهُ فَرَوَى الْأَثْرَمُ أَنَّ أَحْمَدَ تَوَقَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي. فَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ أَنَسٍ. فَقَالَ: ذَاكَ فِي التَّطَوُّعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الْفَرَائِضِ فَلَمْ يُصَافَّهُمْ كَالْمَرْأَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الرَّجُلَ فِي النَّفْلِ فَصَحَّ فِي الْفَرْضِ، كَالْمُتَنَفِّلِ يَقِفُ مَعَ الْمُفْتَرِضِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ مُصَافَّتِهِ صِحَّةُ إمَامَتِهِ، بِدَلِيلِ الْفَاسِقِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْجُمُعَةِ، وَالْمُفْتَرِضِ مَعَ الْمُتَنَفِّلِ، وَيُفَارِقُ الْمَرْأَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الرِّجَالَ فِي التَّطَوُّعِ وَيَؤُمَّهُمْ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي ثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ امْرَأَةٌ: يَقُومُونَ مُتَوَاتِرِينَ، بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَنَسٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ، إلَّا الْحَسَنَ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى، وَقَوْلُ الْحَسَنِ يُفْضِي إلَى وُقُوفِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ فَذًّا، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ وَابِصَةَ وَعَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ. وَإِنْ اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ تَقَدَّمَ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى فَصَفَّ الرِّجَالَ، ثُمَّ صَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (1149) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرِّجَالِ كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا وَمَنْ خَلْفَهَا دُونَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْوُقُوفِ إلَى جَانِبِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ. وَلَنَا، أَنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَنْهِيٌّ قُلْنَا: هِيَ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهَا، فَصَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ] (1150) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَصَاحِبُ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ذَا سُلْطَانٍ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أُقِيمَتْ فِي بَيْتٍ، فَصَاحِبُهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ، إذَا كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ إمَامَتُهُمْ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُمْ وَرَاءَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَحُذَيْفَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «وَلَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ ذُو سُلْطَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَأَنَسًا فِي بُيُوتِهِمَا. (1151) فَصْلٌ: وَإِمَامُ الْمَسْجِدِ الرَّاتِبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى صَاحِبِ الْبَيْتِ وَالسُّلْطَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا لَهُ، وَعِنْدَهَا مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ مَوْلًى لِابْنِ عُمَرَ، فَصَلَّى مَعَهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ، فَأَبَى، وَقَالَ: صَاحِبُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ. وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ» . (1152) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ لِرَجُلٍ فِي الْإِمَامَةِ، جَازَ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَذِنَ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّقَدُّمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إلَّا بِإِذْنِهِ ". وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَقٌّ لَهُ فَلَهُ نَقْلُهَا إلَى مَنْ شَاءَ، قَالَ أَحْمَدُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي الْكُلِّ، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ. (1153) فَصْلٌ: وَإِنْ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَلَدًا لَهُ فِيهِ خَلِيفَةٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ خَلِيفَتِهِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى خَلِيفَتِهِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ اجْتَمَعَ الْعَبْدُ وَسَيِّدُهُ فِي بَيْتِ الْعَبْدِ فَالسَّيِّدُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَوِلَايَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَيِّدُهُ مَعَهُمْ فَالْعَبْدُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اجْتَمَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو ذَرٍّ فِي بَيْتِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ وَهُوَ عَبْدٌ، تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَرَاءَك. فَالْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَتَأَخَّرَ، وَقَدَّمُوا أَبَا سَعِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمْ وَإِنْ اجْتَمَعَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى وَالْمَنْفَعَةِ. (1154) فَصْلٌ: وَالْمُقِيمُ أَوْلَى مِنْ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إمَامًا حَصَلَتْ لَهُ الصَّلَاةُ كُلُّهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ أَمَّهُ الْمُسَافِرُ احْتَاجَ إلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا. وَإِنْ ائْتَمَّ بِالْمُسَافِرِ جَازَ، وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ. فَإِنْ أَتَمَّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِينَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَفْلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 أَمَّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى إتْمَامَ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ فَرْضًا. [مَسْأَلَةٌ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ مَنْ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ إذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ] (1155) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ مَنْ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ، إذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مُسَاوِيًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، كَاَلَّذِي عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى دِكَّةٍ عَالِيَةٍ، أَوْ رَفٍّ فِيهِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَفَعَلَهُ سَالِمٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ يُعِيدُ الْجُمُعَةَ إذَا صَلَّى فَوْقَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَعْلُ الْإِمَامُ، فَصَحَّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَلَا يُعْتَبَرُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ إذَا كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَقْصَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ، أَنَّهُ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلْجَمَاعَةِ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ فِيهِ فَقَدْ حَصَلَ فِي مَحَلِّ الْجَمَاعَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، صَحَّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، كَثِيرًا كَانَ الْعُلُوُّ أَوْ قَلِيلًا، بِشَرْطِ كَوْنِ الصُّفُوفِ مُتَّصِلَةً وَيُشَاهِدُ مَنْ وَرَاءَ الْإِمَامِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي رَحْبَةِ الْجَامِعِ، أَوْ دَارٍ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ وَالْإِمَامُ عَلَى سَطْحٍ آخَرَ، أَوْ كَانَا فِي صَحْرَاءَ، أَوْ فِي سَفِينَتَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الِائْتِمَامِ بِهِ، كَالْفَصْلِ الْيَسِيرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَعْنَى اتِّصَالِ الصُّفُوفِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَمْنَعُ إمْكَانَ الِاقْتِدَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَدَّ الِاتِّصَالَ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ مِائَةِ ذِرَاعٍ. وَالتَّحْدِيدَاتُ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، وَالْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا نَصًّا نَرْجِعُ إلَيْهِ وَلَا إجْمَاعًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1156) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ حَائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ. وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْغَالِبِ. وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ يُصَلِّي خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةٌ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ قَالَ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِ إذَا قَطَعَ الصَّفَّ: لَا يَضُرُّ. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ، كَالْأَعْمَى، وَلِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تُرَادُ لِلْعِلْمِ بِحَالِ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ، فَجَرَى مَجْرَى الرُّؤْيَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَحَلُّ الْجَمَاعَةِ، وَفِي مَظِنَّةِ الْقُرْبِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ أَوْ الْمَانِعَ قَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ لَا يُشَاهِدُ أَنْ يَسْمَعَ التَّكْبِيرَ، لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، لَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ اعْتَبَرْنَا الْمُشَاهَدَةَ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ مُشَاهَدَةُ مَنْ وَرَاءُ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ شَاهَدَهُ مِنْ بَابٍ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ شَاهَدَهُ طَرَفَ الصَّفِّ الَّذِي وَرَاءَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُشَاهَدَةُ تَحْصُلُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي حَالِ قِيَامِهِ. (1158) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، أَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا يَمْنَعُ الِاتِّصَالَ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي مَنْعِ ذَلِكَ، وَلَا إجْمَاعَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ أَوْ سَمَاعَ الصَّوْتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا يَمْنَعُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَصِحُّ فِي النَّهْرِ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي السَّفِينَةِ، وَإِذَا كَانَ جَامِدًا، ثُمَّ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّلَاةِ إنَّمَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهِ، أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ، لَا يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةَ جِنَازَةٍ أَوْ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ صَلَّى أَنَسٌ فِي مَوْتِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَبَيْنَهُمَا طَرِيقٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 [مَسْأَلَةٌ ارْتِفَاعُ الْإِمَامِ عَنْ الْمَأْمُومِ] (1159) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِ) . الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمْ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَأَلَنِي أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ. فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْتَارُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يُعَلِّمُ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ، فَيَرَاهُ مَنْ خَلْفَهُ، فَيَقْتَدُونَ بِهِ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَيْهِ - يَعْنِي الْمِنْبَرَ - فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَانَ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ عَمَّارٌ فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ، وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارٌ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ، فَلَا يَقُومَنَّ فِي مَكَان أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ» ؟ قَالَ عَمَّارٌ: فَلِذَلِكَ اتَّبَعْتُك حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ. وَعَنْ هَمَّامٍ، أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ، فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى، فَذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ يَؤُمُّ بِقَوْمٍ عَلَى مَكَان، فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ، فَنَهَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ لِلْإِمَامِ: اسْتَوِ مَعَ أَصْحَابِك. وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِإِمَامِهِ، فَيَنْظُرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، فَإِذَا كَانَ أَعْلَى مِنْهُ احْتَاجَ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَبِيرٍ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، فَيَكُونَ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا وَنَهَى عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ لَهُ وَنَهْيُهُ لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُهُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ وَجُلُوسَهُ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. (1160) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْعُلُوِّ الْيَسِيرِ؛ لِحَدِيثِ سَهْلٍ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 يَخُصُّ الْكَثِيرَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْيَسِيرُ مِثْلَ دَرَجَةِ الْمِنْبَرِ وَنَحْوِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1161) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مَكَان أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَبْطُلُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ عَمَّارًا أَتَمَّ صَلَاتَهُ؛ وَلَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً، لَاسْتَأْنَفَهَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُهَا، فَسَبَبُهُ أَوْلَى. (1162) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ هُوَ مُسَاوٍ لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، وَمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ اخْتَصَّتْ الْكَرَاهَةُ بِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى وُجِدَ فِيهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ النَّهْيُ الْإِمَامَ؛ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ الْقِيَامِ فِي مَكَان أَعْلَى مِنْ مَقَامِهِمْ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ عِنْدَ مَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَوْ قَامَ بِجَنْبِ الْإِمَامِ عَنْ يَسَارِهِ أَعَادَ الصَّلَاةَ] (1163) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، أَوْ قَامَ بِجَنْبِ الْإِمَامِ عَنْ يَسَارِهِ، أَعَادَ الصَّلَاةَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعَادَةِ، وَلِأَنَّهُ مَوْقِفٌ لِلْمَرْأَةِ فَكَانَ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ وَابِصَةَ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَّتَ الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَفِي لَفْظٍ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ صَلَّى وَرَاءُ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ. قَالَ: يُعِيدُ» . رَوَاهُ تَمَّامٌ فِي " الْفَوَائِدِ ". وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ، أَنَّهُ «صَلَّى بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْصَرَفَ وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، فَوَقَفَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَك، وَلَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ.» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا أَيْضًا - حَسَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَوْقِفَ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ أَمَامَ الْإِمَامِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَاهُ فَقَالَ: " لَا تُعِدْ ". وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَلِلْجَهْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَوْقِفًا لِلْمَرْأَةِ كَوْنُهُ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ، بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي كَرَاهِيَةِ الْوُقُوفِ وَاسْتِحْبَابِهِ. وَأَمَّا إذَا وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ أَحَدٌ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 بَيْنَ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ وَسَطَ الصَّفِّ مَوْقِفٌ لِلْإِمَامِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْعُرَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ يَمِينِهِ أَحَدٌ فَصَلَاةُ مَنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَاسِدَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ لِلْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ، خَالَفَ السُّنَّةَ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مَأْمُومٌ وَاحِدٌ جَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَارَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْقِفًا، لَاسْتَأْنَفَ التَّحْرِيمَةَ، كَأَمَامِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَوْقِفٌ فِيمَا إذَا كَانَ عَنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ آخَرُ، فَكَانَ مَوْقِفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آخَرُ كَالْيَمِينِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ جَانِبَيْ الْإِمَامِ، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَجِئْت، فَقُمْت فَوَقَفْت عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَجِئْت، فَوَقَفْت عَنْ يَسَارِهِ، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِابْتِدَاءِ التَّحْرِيمَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لَا يُؤَثِّرُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُحْرِمُ قَبْلَ الْمَأْمُومِينَ، وَلَا يَضُرُّ انْفِرَادُهُ بِمَا قَبْلَ إحْرَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُونَ يُحْرِمُ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْبَاقِينَ فَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ الْعَفْوُ عَنْ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَوْقِفٌ إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ آخَرُ. قُلْنَا: كَوْنُهُ مَوْقِفًا فِي صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَوْقِفًا فِي أُخْرَى، كَمَا خَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنَّهُ مَوْقِفٌ لِاثْنَيْنِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقِفًا لِوَاحِدٍ، فَإِنْ مَنَعُوا هَذَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّصِّ. (1164) فَصْلٌ: فَإِنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ إمَامِهِ وَخَلْفَ الْإِمَامِ صَفٌّ، احْتَمَلَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ وَلِأَنَّ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ بِهِ، فَصَحَّ الْوُقُوفُ عَنْ يَسَارِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ عَنْ يَمِينِهِ آخَرُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْقِفٍ إذَا لَمْ يَكُنْ صَفٌّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فَلَمْ يَكُنْ مَوْقِفًا مَعَ الصَّفِّ كَأَمَامِ الْإِمَامِ، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ آخَرُ، لِأَنَّهُ مَعَهُ فِي الصَّفِّ، فَكَانَ صَفًّا وَاحِدًا، كَمَا لَوْ كَانَ وَقَفَ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ. (1165) فَصْلٌ: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنْ وَقَفُوا قُدَّامَهُ، لَمْ تَصِحَّ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: تَصِحُّ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ خَلْفَهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ". وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْقُولِ. فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَيُفَارِقُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ. (1166) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا ذَكَرًا، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ رَجُلًا كَانَ، أَوْ غُلَامًا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «سِرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً تَقَدَّمَ الْإِمَامُ، وَوَقَفَ الْمَأْمُومَانِ خَلْفَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنْ يَقِفُوا جَمِيعًا صَفًّا. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْرَجَ جَبَّارًا وَجَابِرًا، فَجَعَلَهُمَا خَلْفَهُ، وَلَمَّا صَلَّى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمِ جَعَلَهُمَا خَلْفَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَجَبَّارٍ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُمَا إلَى خَلْفِهِ، وَلَا يَنْقُلُهُمَا إلَّا إلَى الْأَكْمَلِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَأْمُومَيْنِ صَبِيًّا، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ تَطَوُّعًا، جَعَلَهُمَا خَلْفَهُ، لِخَبَرِ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا، جَعَلَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْغُلَامَ عَنْ يَسَارِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَإِنْ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ جَازَ، وَإِنْ وَقَفَهُمَا خَلْفَهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤُمُّهُ، فَلَمْ يُصَافَّهُ كَالْمَرْأَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَنَفِّلِ، وَالْمُتَنَفِّلُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الْمُفْتَرِضَ، كَذَا هَاهُنَا. (1167) فَصْلٌ: وَإِنْ أَمَّ امْرَأَةً وَقَفَتْ خَلْفَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . وَلِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 أُمَّ أَنَسٍ وَقَفَتْ خَلْفَهُمَا وَحْدَهَا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ، وَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلَانِ وَقَفَا خَلْفَهُ، وَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غُلَامًا فِي تَطَوُّعٍ، وَقَفَ الرَّجُلُ وَالْغُلَامُ وَرَاءَهُ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً، فَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. وَتَقِفُ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. وَإِنْ وَقَفَتْ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ وَقَفَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُ، فَلَا تَكُونُ مَعَهُ صَفًّا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تَصِحُّ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ مَعَهُ مُفْتَرِضٌ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ مَعَهُ رَجُلٌ، وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَصِحُّ إمَامَتُهُ، بِدَلِيلِ الْقَارِئِ. مَعَ الْأُمِّيِّ، وَالْفَاسِقِ وَالْمُتَنَفِّلِ مَعَ الْمُفْتَرِضِ (1168) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا، فَكَبَّرَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، أَدَارَهُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُهُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ. وَإِنْ كَبَّرَ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَوَقَفَ مَعَهُ، أَوْ تَقَدَّمَ إلَى صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ كَانَا اثْنَيْنِ فَكَبَّرَ أَحَدُهُمَا وَتَوَسْوَسَ الْآخَرُ، ثُمَّ كَبَّرَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، أَوْ كَبَّرَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِهِ فَأَحَسَّ بِآخَرَ، فَتَأَخَّرَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ الثَّانِي، ثُمَّ أَحْرَمَ مَعَهُ أَوْ أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَاءَ آخَرُ، فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي الرَّجُلَيْنِ يَقُومَانِ خَلْفَ الْإِمَامِ، لَيْسَ خَلْفَهُ غَيْرُهُمَا، فَإِنْ كَبَّرَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ خَافَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ، ذَاكَ فِي الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَأَمَّا هَذَا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَلَوْ أَحْرَمَ رَجُلٌ خَلْفَ الصَّفِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الصَّفِّ رَجُلٌ فَوَقَفَ مَعَهُ، صَحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (1169) فَصْلٌ: وَإِنْ كَبَّرَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَكَبَّرَ عَنْ يَسَارِهِ، أَخْرَجَهُمَا الْإِمَامُ إلَى وَرَائِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَابِرٍ وَجَبَّارٍ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ ضَيِّقٌ. وَإِنْ تَقَدَّمَ، جَازَ، وَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ عَنْ الْيَمِينِ وَخَرَجَا، جَازَ. وَإِنْ دَخَلَ الثَّالِثُ، وَهُمَا فِي التَّشَهُّدِ، كَبَّرَ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ صَاحِبِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا يَتَأَخَّرَانِ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً. (1170) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ اثْنَانِ وَرَاءُ الْإِمَامِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، دَخَلَ الْآخَرُ فِي الصَّفِّ، أَوْ نَبَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 رَجُلًا فَخَرَجَ مَعَهُ، أَوْ دَخَلَ فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَوَى الِانْفِرَادَ، وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ حَدَثَ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَبَقَ إمَامَهُ الْحَدَثُ. [فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمَأْمُومُ فَوَجَدَ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً] (1171) فَصْلٌ: إذَا دَخَلَ الْمَأْمُومُ، فَوَجَدَ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً، دَخَلَ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْذِبَ رَجُلًا، فَيَقُومَ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ نَبَّهَ رَجُلًا فَخَرَجَ فَوَقَفَ مَعَهُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، قَالَا: يَجْذِبُ رَجُلًا فَيَقُومُ مَعَهُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا، وَاخْتَارَ هُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَجَازَ، كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَالَ الزِّحَامِ وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ لَهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانِكُمْ» . يُرِيدُ ذَلِكَ. فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ. [فَصْلٌ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَيَتَقَدَّمُهُمَا] (1172) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي الْإِمَامُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَيَتَقَدَّمُهُمَا. وَقَالَ: إذَا أَمَّ بِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ طَاهِرٍ، ائْتَمَّ الطَّاهِرُ مَعَهُ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا عَلِمَ الْمُحْدِثُ بِحَدَثِهِ، فَخَرَجَ، ائْتَمَّ الْآخَرُ إنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ يَمِينِهِ صَارَ عَنْ يَمِينِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ خَلْفَهُ، وَعَلِمَ الْمُحْدِثُ، فَإِنَّمَا الصَّلَاةُ لَمْ تَصِحَّ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُحْدِثُ بِحَدَثِهِ حَتَّى تَمَّتْ الصَّلَاةُ، صَحَّتْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامًا صَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ، فَلَأَنْ تَصِحَّ مُصَافَّتُهُ أَوْلَى. [فَصْلٌ وَقَفَ مَعَهُ كَافِرٌ أَوْ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ] فَصْلٌ: (1173) وَمَنْ وَقَفَ مَعَهُ كَافِرٌ، أَوْ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ تَصِحَّ مُصَافَّتُهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ فَاسِقٌ، أَوْ مُتَنَفِّلٌ، صَارَ صَفًّا؛ لِأَنَّهُمَا رَجُلَانِ صَلَاتُهُمَا صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ قَارِئٌ مَعَ أُمِّيٍّ، أَوْ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ مَعَ صَحِيحٍ، أَوْ مُتَيَمِّمٌ مَعَ مُتَوَضِّئٍ، كَانَا صَفًّا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ خُنْثَى مُشْكِلٌ، لَمْ يَكُنْ صَفًّا مَعَهُ، إلَّا مَنْ أَجَازَ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 (1174) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ خُنْثَى مُشْكِلٌ وَحْدَهُ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقِفَهُ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ وَقَفَ فِي مَوْقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا بِوُقُوفِهَا مَعَ الْإِمَامِ، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِوُقُوفِهَا مَعَ الرِّجَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ، وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَالْخُنْثَى عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِ الرَّجُلِ، وَلَا يَقِفَا خَلْفَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، إلَّا عِنْدَ مَنْ أَجَازَ مُصَافَّةَ الْمَرْأَةِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ رَجُلٌ آخَرُ، وَقَفَ الثَّلَاثَةُ خَلْفَهُ صَفًّا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخُنْثَى خُنْثَى آخَرُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَقِفُ الْخُنْثَيَانِ صَفًّا خَلْفَ الرَّجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَا مَعَ الرَّجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ رَجُلًا، فَلَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ، وَقَفْنَ خَلْفَ الْخَنَاثَى. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ، تَقَدَّمَ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ. وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَفَّ الرِّجَالَ، وَصَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَلَاتُهُ» . قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: لَا أَحْسِبُهُ إلَّا قَالَ: " صَلَاةُ أُمَّتِي ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ الْأَحَقّ بِالْوُقُوفِ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَمَنْ يَلِي الْإِمَامَ] فَصْلٌ (1175) : السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أُولُو الْفَضْلِ وَالسِّنِّ، وَيَلِي الْإِمَامَ أَكْمَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ. قَالَ أَحْمَدُ: يَلِي الْإِمَامَ الشُّيُوخُ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ، وَتُؤَخَّرُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ، وَلَا يَلُونَ الْإِمَامَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؛ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ: «تَقَدَّمُوا فَأَتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ "، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: أَتَيْت الْمَدِينَةَ لِلِقَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَخَرَجَ عُمَرُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْت فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَعَرَفَهُمْ غَيْرِي، فَنَحَّانِي، وَقَامَ فِي مَكَانِي، فَمَا عَقَلْت صَلَاتِي، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَا يَسُؤْكَ اللَّهُ، فَإِنِّي لَمْ آتِكَ الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 أَتَيْتُ بِجَهَالَةٍ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَنَا: «كُونُوا فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِيَنِي» . وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَعَرَفْتُهُمْ غَيْرَك. وَكَانَ الرَّجُلُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ. [فَصْلٌ خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ] فَصْلٌ: (1176) وَخَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مُقَابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ] (1177) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مُقَابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَاقِ الْقِبْلَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا، وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ. وَفَعَلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ. وَلَنَا: أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ فَكُرِهَ، كَمَا لَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا. (1178) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ السَّوَارِي، وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِينَ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ صُفُوفَهُمْ. وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصَّفَّ، فَإِنْ كَانَ الصَّفُّ صَغِيرًا قَدْرَ مَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ إذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ جَالِسًا صَلَّى مَنْ وَرَاءَهُ جُلُوسًا] (1179) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ جَالِسًا صَلَّى مَنْ وَرَاءَهُ جُلُوسًا) . الْمُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا مَرِضَ، وَعَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ كَامِلَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ. قُلْنَا: صَلَّى قَاعِدًا لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ، وَاسْتَخْلَفَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِأَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدًا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ غَيْرِهِ قَائِمًا. فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا جَازَ، وَيُصَلُّونَ مِنْ وَرَائِهِ جُلُوسًا، فَعَلَ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَجَابِرٌ، وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ: لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ خَلْفَ الْقَاعِدِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَادِرِ عَلَيْهِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قِيَامًا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَأَجْلَسَاهُ إلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُهُ، كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ، أَنْ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» وَرَوَى أَنَسٌ نَحْوَهُ، أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَرَوَى جَابِرٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَاهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَمِلَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، كُلُّهَا بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ. وَلِأَنَّهَا حَالَةُ قُعُودِ الْإِمَامِ، فَكَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مُتَابَعَتُهُ، كَحَالِ التَّشَهُّدِ. فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَمُرْسَلٌ، يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَدْ فَعَلَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْآخَرِينَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا صَلَّوْا قِيَامًا. فَأَشَارَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ جَالِسًا، وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ، وَمَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجَبَ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا. وَقَالَ أَنَسٌ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَا يُعْرَفُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ صَلَاةٌ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ» . قَالَ مَالِكٌ: الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى حَدِيثِ رَبِيعَةَ هَذَا، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ لَكَانَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ صَفًّا. (1180) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّوْا وَرَاءَهُ قِيَامًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا، وَاَلَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا. لَمْ يَقْتَدُوا بِالْإِمَامِ، إنَّمَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّوْا جُلُوسًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَلَا تَقُومُوا وَالْإِمَامُ جَالِسٌ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا. فَقَعَدْنَا» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَلِأَنَّهُ تَرَكَ اتِّبَاعَ إمَامِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ تَارِكَ الْقِيَامِ فِي حَالِ قِيَامِ إمَامِهِ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلْقِيَامِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ أَشْبَهَ الْمَرِيضَ إذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْجَاهِلِ بِوُجُوبِ الْقُعُودِ، دُونَ الْعَالِمِ بِذَلِكَ، كَقَوْلِنَا فِي الَّذِي رَكَعَ دُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الصَّفِّ. فَأَمَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فَقَعَدَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ. فَصْلٌ: وَلَا يَؤُمُّ الْقَاعِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ إمَامَ الْحَيِّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: ذَلِكَ لِإِمَامِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى تَقْدِيمِ عَاجِزٍ عَنْ الْقِيَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ. فَلَا يَتَحَمَّلُ إسْقَاطَ رُكْنٍ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يُرْجَى زَوَالُهُ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الزَّمِنِ، وَمَنْ لَا يُرْجَى قُدْرَتُهُ عَلَى الْقِيَامِ إمَامًا رَاتِبًا، يُفْضِي إلَى تَرْكِهِمْ الْقِيَامَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ. [مَسْأَلَةٌ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ] (1182) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ، ائْتَمُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا.) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَيْثُ ابْتَدَأَ بِهِمْ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهِمْ جَالِسًا، أَتَمُّوا قِيَامًا، وَلَمْ يَجْلِسُوا. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنْ بَدَأَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَزِمَهُ فِي جَمِيعِهَا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، كَالتَّنَازُعِ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا، وَإِنْ حَدَثَ مُبِيحُ الْقَصْرِ فِي أَثْنَائِهَا. (1183) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَخْلَفَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِنَا، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ فَحَضَرَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِي بَكْرٍ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: ذَلِكَ خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، فَإِنَّ انْتِقَالَ الْإِمَامِ مَأْمُومًا، وَانْتِقَالَ الْمَأْمُومِينَ مِنْ إمَامٍ إلَى آخَرَ، لَا يَجُوزُ إلَّا لِعُذْرٍ يُحْوِجُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ مَا يُحْوِجُ إلَى هَذَا، أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ لَهُ مِنْ الْفَضِيلَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَعِظَمِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ، مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: مَنْ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ، وَيَقْعُدُ إلَى جَنْبِ الْإِمَامِ، يَبْتَدِئُ الْقِرَاءَةَ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ الْإِمَامُ، وَيُصَلِّي لِلنَّاسِ قِيَامًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَائِزًا لِأُمَّتِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْخَلِيفَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَيْسَ هَذَا لَأَحَدٍ إلَّا لِلْخَلِيفَةِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وَذَلِكَ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْخِلَافَةِ تَفْضُلُ رُتْبَةَ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ، فَلَا يُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لِلْخَلِيفَةِ؛ لِأَنَّ خَلِيفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ مَقَامَهُ [فَصْلٌ يَجُوزُ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ] (1184) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمَّ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ فَمِثْلُهُ أَوْلَى، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامًا رَاتِبًا، وَلَا مَرْجُوًّا زَوَالُ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إمَامَتِهِ لَهُمْ تَرْكُ رُكْنٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ إمَامَتِهِ لِلْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِتَارِكِ رُكْنٍ مِنْ الْأَفْعَالِ إمَامَةُ أَحَدٍ] (1185) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِتَارِكِ رُكْنٍ مِنْ الْأَفْعَالِ إمَامَةُ أَحَدٍ، كَالْمُضْطَجِعِ، وَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ أَجَازَهُ الْمَرَضُ، فَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَ الِائْتِمَامِ، كَالْقَاعِدِ بِالْقِيَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَخَلَّ بِرُكْنٍ لَا يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ الِائْتِمَامُ بِهِ، كَالْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ، وَحُكْمُ الْقِيَامِ حَقٌّ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ فِي النَّافِلَةِ، وَعَنْ الْمُقْتَدِينَ بِالْعَاجِزِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُصَلِّينَ خَلْفَ الْجَالِسِ بِالْجُلُوسِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْمُضْطَجِعِ لَا يَضْطَجِعُ. فَأَمَّا إنْ أَمَّ مِثْلَهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْمَطَرِ بِالْإِيمَاءِ، وَالْعُرَاةُ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً بِالْإِيمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالَ الْمُسَايَفَةِ. [فَصْلٌ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ] (1186) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ، بِالْمُتَيَمِّمِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ مُتَيَمِّمًا، وَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَصْحَابَهُ مُتَيَمِّمًا، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرُوهُ. وَلِأَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ طَهَارَةً صَحِيحَةً، فَأَشْبَهَ الْمُتَوَضِّئَ. وَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الصَّحِيحِ بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَلَا غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِهَا: لِأَنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ مَعَ خُرُوجِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ فَتَيَمَّمَ لَهَا، جَازَ لِلطَّاهِرِ الِائْتِمَامُ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَمِّمِ لِلْحَدَثِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ثَوْبِهِ، لَمْ يَصِحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ. وَلَا يَجُوزُ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ وَلَا الْمُتَيَمِّمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 بِعَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَاللَّابِسِ بِالْعَارِي، وَلَا الْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَأَشْبَهَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ. وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرَاةَ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ] (1187) فَصْلٌ: وَفِي صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَا تَصِحُّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَحَنْبَلٍ. وَاخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ، أَشْبَهَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ. وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ. نَقَلَهَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ جَاءَ فَنَسِيَ، فَتَقَدَّمَ يُصَلِّي بِقَوْمٍ تِلْكَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَمَّا أَنْ صَلَّى رَكْعَةً، فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَأَبِي رَجَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيِّ، وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا تَقَعُ نَافِلَةً، وَقَدْ أَمَّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا رَجَاءٍ لِنُصَلِّيَ مَعَهُ الْأُولَى، فَوَجَدْنَاهُ قَدْ صَلَّى، فَقُلْنَا: جِئْنَاك لِنُصَلِّيَ مَعَك. فَقَالَ: قَدْ صَلَّيْنَا وَلَكِنْ لَا أُخَيِّبُكُمْ، فَأَقَامَ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ اتَّفَقَتَا فِي الْأَفْعَالِ، فَجَازَ ائْتِمَامُ الْمُصَلِّي فِي إحْدَاهُمَا بِالْمُصَلِّي فِي الْأُخْرَى، كَالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ، لَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . وَلِهَذَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ مَعَ اخْتِلَافِ نِيَّتِهِمَا،، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْجُمُعَةِ يُدْرِكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، يَنْوِي الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ. فَصْلٌ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ وَرَاءَ الْمُفْتَرِضِ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَوَى مَكْتُوبَةً، فَبَانَ قَبْلَ وَقْتِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 (1189) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَفِيهِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ: نَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ جَوَازَهُ. وَنَقَلَ غَيْرُهُ الْمَنْعَ مِنْهُ. وَنَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فَمَا تَرَى إنْ صَلَّى فِي رَمَضَانَ خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي بِهِمْ التَّرَاوِيحَ؟ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ قَوْمٍ التَّرَاوِيحَ، وَيَأْتَمَّ بِهَا لِلْعَتَمَةِ. وَهَذِهِ فَرْعٌ عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا. (1190) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِي الْأَفْعَالِ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، أَوْ الْجُمُعَةِ، خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي غَيْرَهُمَا، وَصَلَاةِ غَيْرِهِمَا وَرَاءَ مَنْ يُصَلِّيهِمَا، لَمْ تَصِحَّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى مُخَالَفَةِ إمَامِهِ فِي الْأَفْعَالِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. (1191) فَصْلٌ: وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ شَكَّ، هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ لَا؟ أَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ صَلَّاهَا، هَلْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا أَوْ قَبْلَهُ؟ لَزِمَتْهُ إعَادَتُهَا، وَلَهُ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْإِعَادَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي إمَامَةِ الْمُتَنَفِّلِ مُفْتَرِضًا. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَوُجُوبُ فِعْلِهَا، فَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا مُفْتَرِضًا، كَمَا لَوْ شَكَّ، هَلْ صَلَّى أَمْ لَا؟ وَلَوْ فَاتَتْ الْمَأْمُومَ رَكْعَةٌ فَصَلَّى الْإِمَامُ خَمْسًا سَاهِيًا، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يُعْتَدُّ لِلْمَأْمُومِ بِالْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهَا سَهْوٌ وَغَلَطٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةٌ لَهُ، وَفَرْضٌ لِلْمَأْمُومِ. فَيُخَرَّجُ فِيهَا الرِّوَايَتَانِ. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَتَوَقَّفَ فِيهَا. وَالْأَوْلَى، أَنْ يُحْتَسَبَ لَهُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهَا لَلَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَمْسًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْخَامِسَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ، وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ نَفْلًا، فَالصَّحِيحُ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ غَلَطٌ. قُلْنَا: لَا يُخْرِجُهُ الْغَلَطُ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَفْلًا مُثَابًا فِيهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ» . وَإِنْ صَلَّى بِقَوْمٍ الظُّهْرَ يَظُنُّهَا الْعَصْرَ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعِيدُ، وَيُعِيدُونَ. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي مَنَعَ فِيهَا ائْتِمَامَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. فَإِنْ ذَكَرَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَتَمَّهَا عَصْرًا، كَانَتْ لَهُ نَافِلَةً، وَإِنْ قَلَبَ نِيَّتَهُ إلَى الظُّهْرِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مُتَقَدِّمًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُتِمُّهَا وَالْفَرْضُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ. [فَصْلٌ ائْتِمَامُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ] (1192) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى إمَامَةِ الْمُتَنَفِّلِ لِلْمُفْتَرِضِ؛ وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» . وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْجَرْمِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَوْمِهِ: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ. قَالَ: فَكُنْت أَؤُمُّهُمْ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. وَلِأَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ، فَجَازَ أَنْ يَؤُمَّهُمْ كَالْبَالِغِ. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَالُ كَمَالٍ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ كَالْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الصَّبِيِّ الْإِخْلَالُ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ حَالَ الْإِسْرَارِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ يُضَعِّفُ أَمْرَ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ. وَقَالَ مَرَّةً: دَعْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بَيِّنٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ هَذَا، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ بُلُوغَ الْأَمْرِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ بِالْبَادِيَةِ فِي حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ بَعِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَقَوَّى هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَكُنْت إذَا سَجَدْت خَرَجَتْ اسْتِي. وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ. (1193) فَصْلٌ: فَأَمَّا إمَامَتُهُ فِي النَّفْلِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَرْضِ. وَالثَّانِيَةُ، تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُتَنَفِّلِينَ، وَلِأَنَّ النَّافِلَةَ يَدْخُلُهَا التَّخْفِيفُ، وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِهِ فِيهَا إذَا كَانَ مَأْمُومًا. [فَصْلٌ يَؤُمّ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ] (1194) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاةٌ: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا هُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ يَأْتِي الصَّلَاةَ دِبَارًا - وَالدِّبَارُ: أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوَقْتُ - وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وَقَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ: إنَّكَ لَخَرُوطٌ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَرِهَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَلَا بَأْسَ، حَتَّى يَكْرَهَهُ أَكْثَرُ الْقَوْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسُنَّةٍ فَكَرِهَهُ الْقَوْمُ لِذَلِكَ، لَمْ تُكْرَهْ إمَامَتُهُ. قَالَ مَنْصُورٌ: أَمَا إنَّا سَأَلْنَا أَمْرَ الْإِمَامَةِ، فَقِيلَ لَنَا: إنَّمَا عَنَى بِهَذَا الظَّلَمَةَ فَأَمَّا مَنْ أَقَامَ السُّنَّةَ فَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ. [فَصْلٌ إمَامَةُ الْأَعْرَابِيِّ] (1195) فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ الْأَعْرَابِيِّ إذَا كَانَ يَصْلُحُ لَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَزٍ إمَامَتَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَؤُمُّهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» . وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، أَشْبَهَ الْمُهَاجِرَ، وَالْمُهَاجِرُ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِالْهِجْرَةِ، فَمَنْ لَا هِجْرَةَ لَهُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَالْحَضَرِيُّ أَوْلَى مِنْ الْبَدَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إمَامَتِهِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ جَفَاؤُهُمْ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُدُودِ اللَّهِ. [فَصْلٌ إمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا] فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا إذَا سَلِمَ دِينُهُ. قَالَ عَطَاءٌ: لَهُ أَنْ يَؤُمَّ إذَا كَانَ مَرْضِيًّا، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا رَاتِبًا. وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ إمَامَتَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَوْضِعُ فَضِيلَةٍ، فَكُرِهَ تَقْدِيمُهُ فِيهَا كَالْعَبْدِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ وِزْرِ أَبَوَيْهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَقَالَ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَالْعَبْدُ لَا تُكْرَهُ إمَامَتُهُ، وَإِنَّمَا الْحُرُّ أَوْلَى مِنْهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ فِي أَحْكَامِهِ، لَا يَلِي النِّكَاحَ وَلَا الْمَالَ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، بِخِلَافِ هَذَا. (1197) فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ الْجُنْدِيِّ وَالْخَصِيِّ إذَا سَلِمَ دِينُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ حَالَهُمَا] (1198) فَصْلٌ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ حَالَهُمَا، فَيَنْوِي الْإِمَامُ أَنَّهُ إمَامٌ، وَالْمَأْمُومُ أَنَّهُ مَأْمُومٌ، فَإِنْ صَلَّى رَجُلَانِ يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إمَامُ صَاحِبِهِ، أَوْ مَأْمُومٌ لَهُ، فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ. نُصَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَأَمَّ مَنْ لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْ رَأَى رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ، فَنَوَى الِائْتِمَامَ بِالْمَأْمُومِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهُ. وَإِنْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ، حَتَّى يُعَيِّنَ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ شَرْطٌ. وَإِنْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِهِمَا مَعًا، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ نَوَى الِائْتِمَامَ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ، وَلِأَنَّهُ نَوَى الِائْتِمَامَ بِاثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَلَوْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِإِمَامَيْنِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُمَا مَعًا. [فَصْلٌ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ فَنَوَى إمَامَتَهُ] (1199) فَصْلٌ: وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ، فَنَوَى إمَامَتَهُ، صَحَّ فِي النَّفْلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ، فَقَامَ إلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْت لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ فَتَوَضَّأْتُ مِنْ الْقِرْبَةِ، ثُمَّ قُمْتُ إلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدَيْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ إلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. فَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ، فَإِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ أَحَدًا كَإِمَامِ الْمَسْجِدِ يُحْرِمُ وَحْدَهُ وَيَنْتَظِرُ مَنْ يَأْتِي فَيُصَلِّي مَعَهُ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ وَحْدَهُ، ثُمَّ جَاءَ جَابِرٌ وَجُبَارَةُ فَأَحْرَمَا مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمَا، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَلَاةً مَفْرُوضَةً، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمَأْمُومٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: فِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ. مَعَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُقَوِّيهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي النَّفْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَالْأَصْلُ مُسَاوَاةُ الْفَرْضِ لِلنَّفْلِ فِي النِّيَّةِ، وَقَوَّى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ وَجُبَارَةَ فِي الْفَرْضِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى نَقْلِ النِّيَّةِ إلَى الْإِمَامَةِ فَصَحَّ كَحَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وَبَيَانُ الْحَاجَةِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ إذَا جَاءَ قَوْمٌ فَأَحْرَمُوا وَرَاءَهُ، فَإِنْ قَطَعَ الصَّلَاةَ وَأَخْبَرَ بِحَالِهِ قَبُحَ، وَكَانَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ كَانَ أَقْبَحَ وَأَشَقَّ. وَلِأَنَّ الِانْفِرَادَ أَحَدُ حَالَتَيْ عَدَمِ الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَجَازَ الِانْتِقَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 مِنْهَا إلَى الْإِمَامَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَأْمُومًا، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِحَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ. [فَصْلٌ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ نَوَى جَعْلَ نَفْسِهِ مَأْمُومًا] (1200) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ نَوَى جَعْلَ نَفْسِهِ مَأْمُومًا، بِأَنْ يَحْضُرَ جَمَاعَةً، فَيَنْوِيَ الدُّخُولَ مَعَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، هُوَ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، أَوْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الْجَمَاعَةِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ نَوَى الْإِمَامَةَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى جَعْلِهِ مَأْمُومًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْإِمَامِ، وَفَارَقَ نَقْلَهُ إلَى الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، يَنْوِي الظُّهْرَ، ثُمَّ جَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ: سَلَّمَ مِنْ هَذِهِ، وَتَصِيرُ لَهُ تَطَوُّعًا، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْقَوْمِ، وَاحْتَسَبَ بِهِ. قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي ابْتِدَاءِ الْفَرْضِ. [فَصْلٌ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ثُمَّ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ وَإِتْمَامَهَا مُنْفَرِدًا لِعُذْرٍ] (1201) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ، وَإِتْمَامَهَا مُنْفَرِدًا لِعُذْرٍ، جَازَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ، فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَصَلَّى مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَتَأَخَّرَ رَجُلٌ فَصَلَّى وَحْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: نَافَقْت يَا فُلَانُ. قَالَ: مَا نَافَقْت، وَلَكِنْ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُخْبِرُهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ مَرَّتَيْنِ اقْرَأْ سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا، قَالَ: وَسُورَةَ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ، وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يَخْرُجُ لِأَجْلِهَا، مِثْلُ الْمَشَقَّةِ بِتَطْوِيلِ الْإِمَامِ، أَوْ الْمَرَضِ، أَوْ خَشْيَةِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ، أَوْ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ مَالٍ أَوْ تَلَفِهِ، أَوْ فَوْتِ رُفْقَتِهِ، أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ الصَّفِّ لَا يَجِدُ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ، وَأَشْبَاهُ هَذَا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ. وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْمُنْفَرِدُ كَوْنَهُ مَأْمُومًا لَصَحَّ فِي رِوَايَةٍ، فَنِيَّةُ الِانْفِرَادِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَهُوَ الْمَسْبُوقُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ، وَغَيْرُهُ لَا يَصِيرُ مَأْمُومًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِحَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 [فَصْلٌ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ثُمَّ صَارَ إمَامًا أَوْ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامِ آخَر] (1202) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ صَارَ إمَامًا، أَوْ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامٍ آخَرَ، جَازَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ، فَاسْتَخْلَفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا. وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يُدْرِكَ اثْنَانِ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إمَامُ صَاحِبِهِ، أَوْ مَأْمُومٌ لَهُ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ الِائْتِمَامَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إذَا اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مَنْ يُصَلِّي، ثُمَّ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَتَقَدَّمَ فَصَارَ إمَامًا، وَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، قَدْ ذَكَرْنَاهَا. [مَسْأَلَةٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ] (1203) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرَةَ: «زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» قِيلَ لَهُ: لَا تَعُدْ. وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ النَّهْيِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ، وَنَصَّ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ، لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً كَامِلَةً، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» . وَالثَّانِي، أَنْ يَدِبَّ رَاكِعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ آخَرُ فَيَقِفَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّفِّ مَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي رُكُوعِ الرَّجُلِ دُونَ الصَّفِّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَفَعَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَجَوَّزَهُ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الصَّفِّ. الْحَالُ الثَّالِثُ، إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَوَقَفَ مَعَهُ قَبْلَ إتْمَامِ الرَّكْعَةِ، فَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَنَصُّ أَحْمَدَ ". فَمَتَى كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ عَلِمَ، لَمْ تَصِحَّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَفَعَلَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعٌ، فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ، قَالَ: «أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَادَك اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ» . فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْعَوْدِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ التَّهَاوُنِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ الصَّلَاةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَعُودُ النَّهْيُ إلَى الْمَذْكُورِ، وَالْمَذْكُورُ الرُّكُوعُ دُونَ الصَّفِّ، وَلَمْ يَنْسُبهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّهَاوُنِ، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إلَى الْحِرْصِ، وَدَعَا لَهُ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ، فَكَيْفَ يَنْهَاهُ عَنْ التَّهَاوُنِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى ضِدِّهِ؟ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ فِي الصَّفِّ مَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ، عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا يَرْكَعْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَأْخُذَ مَقَامَهُ مِنْ الصَّفِّ. وَلَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ مِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ثُمَّ دَخَلَ، وَبَيْنَ مِنْ دَخَلَ فِيهِ رَاكِعًا، وَكَذَلِكَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، وَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، فَيُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا. (1204) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ هَذَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا خَشِيَ الْفَوَاتَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْزِ مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِ حَالَ الْعُذْرِ، كَالرَّكْعَةِ كُلِّهَا. وَالثَّانِي، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِكَوْنِهِ يَفُوتُهُ فِي الصَّفِّ مَا تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوَاتِهِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ فِي الْمَعْذُورِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، فَفِي غَيْرِهِ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [فَصْل أَحَسَّ الْإِمَام بِدَاخِلِ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ] (1205) فَصْلٌ: إذَا أَحَسَّ بِدَاخِلٍ، وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ، يُرِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ، وَكَانَتْ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً، كُرِهَ انْتِظَارُهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ يَسِيرَةً، وَكَانَ انْتِظَارُهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، كُرِهَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ مَعَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الدَّاخِلِ، فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ لِنَفْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ لِكَوْنِهِ يَسِيرًا، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: يَنْتَظِرُهُ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَظِرُهُ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَشْرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَا يُشْرَعُ، كَالرِّيَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ انْتِظَارٌ يَنْفَعُ وَلَا يَشُقُّ، فَشُرِعَ، كَتَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ وَتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى حَتَّى لَا يَسْمَعَ وَقْعَ قَدَمٍ. وَأَطَالَ السُّجُودَ حِينَ رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَقَالَ: «إنَّ ابْنِي هَذَا ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ» . وَقَالَ: «إنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 فِي الصَّلَاةِ فَأُخَفِّفُهَا كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» . وَقَالَ: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ» . وَشُرِعَ الِانْتِظَارُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِتُدْرِكَهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، وَلِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ، فَقَالَ جَابِرٌ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعِشَاءَ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ» وَبِهَذَا كُلِّهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّشْرِيكِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالِانْتِظَارُ جَائِزٌ، غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ مَنْ كَانَ ذَا حُرْمَةٍ، كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ [مَسْأَلَة سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ] (1206) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ إلَى سُتْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بَيْتٍ صَلَّى إلَى الْحَائِطِ أَوْ سَارِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَاءٍ صَلَّى إلَى شَيْءٍ شَاخِصٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ نَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَرْبَةً أَوْ عَصًا، أَوْ عَرَضَ الْبَعِيرَ فَصَلَّى إلَيْهِ، أَوْ جَعَلَ رَحْلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي الرَّاحِلُ إلَى سُتْرَةٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، وَيُعْرَضُ الْبَعِيرُ فَيُصَلِّي إلَيْهِ» ، وَرَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكِّزَتْ لَهُ الْعَنَزَةُ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، لَا يُمْنَعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ، فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكْت مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُنْتَهَى إلَى قَوْلِهِمْ؛ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَغَيْرُهُمْ، يَقُولُونَ: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِنَصْبِ سُتْرَةٍ أُخْرَى. وَفِي حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ أَهْلِ الصَّفِّ، فَنَزَلْت، فَأَرْسَلْت الْأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْت فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ. أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحُلْ بَيْنَ الْإِمَامِ وَسُتْرَتِهِ شَيْءٌ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ صَحِيحَةٌ، لَا يَضُرُّهَا مُرُورُ شَيْءٍ بَيْنَ أَيْدِيهمْ فِي بَعْضِ الصَّفِّ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَإِنْ مَرَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَسُتْرَتِهِ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَصَلَاتَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «هَبَطْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ - يَعْنِي فَصَلَّى إلَى جُدُرٍ - فَاِتَّخَذَهَا قِبْلَةً، وَنَحْنُ خَلْفَهُ، فَجَاءَتْ بَهْمَةٌ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا زَالَ يَدْرَؤُهَا حَتَّى لَصِقَ بَطْنُهُ بِالْجُدُرِ، فَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَلَوْلَا أَنَّ سُتْرَتَهُ سُتْرَةٌ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مُرُورِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ فَرْقٌ. [فَصْلٌ قَدْرُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلَّيْ] (1207) فَصْلٌ: وَقَدْرُ السُّتْرَةِ فِي طُولِهَا ذِرَاعٌ أَوْ نَحْوُهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ آخِرَةِ الرَّحْلِ كَمْ مِقْدَارُهَا؟ قَالَ: ذِرَاعٌ. كَذَا قَالَ عَطَاءٌ: ذِرَاعٌ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا قَدْرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لَا التَّحْدِيدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَهَا بِآخِرَةِ الرَّحْلِ، وَآخِرَةُ الرَّحْلِ تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَتَارَةً تَكُونُ ذِرَاعًا، وَتَارَةً تَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ، فَمَا قَارَبَ الذِّرَاعَ أَجْزَأَ الِاسْتِتَارُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا قَدْرُهَا فِي الْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ فَلَا حَدَّ لَهُ نَعْلَمُهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَقِيقَةً كَالسَّهْمِ وَالْحَرْبَةِ، وَغَلِيظَةً كَالْحَائِطِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْعَنَزَةِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنَّا نَسْتَتِرُ بِالسَّهْمِ وَالْحَجَرِ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ سَبْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَتِرُوا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِسَهْمٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِئْهُ السَّهْمُ وَالسَّوْطُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا كَانَ أَعْرَضَ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ " وَلَوْ بِسَهْمٍ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْنُوَ مِنْ سُتْرَتِهِ] (1208) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْنُوَ مِنْ سُتْرَتِهِ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مَمَرُّ الشَّاةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْهَقُوا الْقِبْلَةَ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ كَانَ يُصَلِّي يَوْمًا مُتَنَائِيًا عَنْ السُّتْرَةِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُصَلِّي، اُدْنُ مِنْ سُتْرَتِكَ. فَجَعَلَ مَالِكٌ يَتَقَدَّمُ وَهُوَ يَقْرَأُ {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] . وَلِأَنَّ قُرْبَهُ مِنْ السُّتْرَةِ أَصُونُ لِصَلَاتِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي، كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ؟ قَالَ يَدْنُو مِنْ الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَعْبَةِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» . قَالَ الْمَيْمُونِي: فَقَدْ رَأَيْتُك عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ. قَالَ: بِالسَّهْوِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. قَالَ عَطَاءٌ: أَقَلُّ مَا يَكْفِيك ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» . وَكَلَّمَا دَنَا فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْنَى. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الْمُصَلِّي بِبَعِيرِ أَوْ حَيَوَانٍ] (1209) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِبَعِيرٍ أَوْ حَيَوَانٍ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يَسْتَتِرُ بِدَابَّةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى بَعِيرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ، وَيُصَلِّي إلَيْهَا. قَالَ: قُلْت: فَإِذَا ذَهَبَ الرِّكَابُ؟ قَالَ: يَعْرِضُ الرَّحْلَ، وَيُصَلِّي إلَى آخِرَتِهِ، فَإِنْ اسْتَتَرَ بِإِنْسَانٍ فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ مِنْ السُّتْرَةِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا يُصَلِّي، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ هَكَذَا، وَبَسَطَ يَدَيْهِ هَكَذَا. وَقَالَ: صَلِّ، وَلَا تُعَجِّلْ. وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَلِّنِي ظَهْرَكَ. رَوَاهُمَا النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 [فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ الْمُصَلَّيْ سُتْرَةً] (1210) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً خَطَّ خَطًّا، وَصَلَّى إلَيْهِ، وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ السُّتْرَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ الْخَطَّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْخَطِّ بِالْعِرَاقِ، وَقَالَ بِمِصْرَ: لَا يَخُطُّ الْمُصَلِّي خَطًّا، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُنَّةٌ تُتَّبَعُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ. (1211) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الْخَطِّ مِثْلُ الْهِلَالِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسُئِلَ عَنْ الْخَطِّ فَقَالَ: هَكَذَا عَرْضًا مِثْلَ الْهِلَالِ. قَالَ: وَسَمِعْت مُسَدِّدًا، قَالَ: قَالَ ابْنُ دَاوُد: الْخَطُّ بِالطُّولِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: قَالُوا: طُولًا، وَقَالُوا: عَرْضًا. وَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ هَذَا. وَدَوَّرَ بِإِصْبَعِهِ مِثْلَ الْقَنْطَرَةِ. وَكَيْفَ مَا خَطَّهُ أَجْزَأَهُ، فَقَدْ نَقَلَ حَنْبَلٌ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ مُعْتَرِضًا، وَإِنْ شَاءَ طُولًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِي الْخَطِّ، فَكَيْفَ مَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْخَطِّ، فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1212) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَصَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ نَصْبُهَا. فَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَهُ عَصًا، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَرْزِهَا، فَأَلْقَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيُلْقِيهَا طُولًا أَمْ عَرْضًا؟ قَالَ: لَا، بَلْ عَرْضًا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَطِّ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُ الْخَطِّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. [فَصْلٌ إذَا صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَيْءٍ فِي مَعْنَاهُمَا] (1213) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَيْءٍ فِي مَعْنَاهُمَا، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَنْحَرِفَ عَنْهُ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمَدًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ إلَى عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ، إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمَدًا. أَيْ لَا يَسْتَقْبِلُهُ فَيَجْعَلُهُ وَسَطًا» . وَمَعْنَى الصَّمَدِ: الْقَصْدُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 [فَصْلٌ الصَّلَاةُ إلَى الْمُتَحَدِّثِينَ وَالنَّائِمِ] (1214) فَصْلٌ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ إلَى الْمُتَحَدِّثِينَ، لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِحَدِيثِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً، وَلَا يُكْرَهُ فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا فِي التَّطَوُّعِ، وَالْفَرِيضَةُ أَشَدُّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَخَرَجَ التَّطَوُّعُ مِنْ عُمُومِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، بَقِيَ الْفَرْضُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ ضَعِيفٌ. قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ إلَّا فِي صَلَاةِ الرَّاكِبِ. وَتَقْدِيمُ قِيَاسِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ الضَّعِيفِ. [فَصْلٌ الصَّلَاة مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ إنْسَانٍ] (1215) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي حِذَاءَ وَسَطِ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلَّ انْسِلَالًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ شِبْهُ السُّجُودِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى نَارٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ التَّنُّورُ فِي قِبْلَتِهِ لَا يُصَلِّي إلَيْهِ. وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي السِّرَاجِ وَالْقِنْدِيلِ يَكُونُ فِي الْقِبْلَةِ: أَكْرَهُهُ. وَأَكْرَهُ كُلَّ شَيْءٍ. حَتَّى كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا شَيْئًا فِي الْقِبْلَةِ حَتَّى الْمُصْحَفَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّارَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالصَّلَاةُ إلَيْهَا تُشْبِهُ الصَّلَاةَ لَهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُصَلِّ إلَى صُورَةٍ مَنْصُوبَةٍ فِي وَجْهِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّورَةَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ لَنَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَجَعَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَهَانِي. أَوْ قَالَتْ: كَرِهَ ذَلِكَ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ التَّصَاوِيرَ تَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا، وَتُذْهِلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ مُعَلَّقٌ، مُصْحَفٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا بِالْأَرْضِ. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَدَعُ شَيْئًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ إلَّا نَزَعَهُ، لَا سَيْفًا وَلَا مُصْحَفًا. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُكْتَبُ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي، وَرُبَّمَا اشْتَغَلَ بِقِرَاءَتِهِ عَنْ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَزْوِيقُهَا، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: «اذْهَبُوا بِهَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي. وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ: «أَمِيطِي عَنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 قِرَامَك، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْخُشُوعِ، يَشْغَلُهُ ذَلِكَ، فَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ أَوْلَى. [فَصْل الصَّلَاة وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ تُصَلِّي] (1216) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ؛ تُصَلِّي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . فَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُكْرَهُ؛ لِخَبَرِ عَائِشَةَ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنْ كَانَتْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَافِرٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَجَسٌ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ] (1217) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ، قِيلَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يُصَلِّي بِمَكَّةَ، وَلَا يَسْتَتِرُ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى ثَمَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ سُتْرَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا، كَأَنَّ مَكَّةَ مَخْصُوصَةٌ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ الْمُطَّلَبِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حِيَالَ الْحِجْرِ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُطَّلَبِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ، جَاءَ حَتَّى يُحَاذِيَ الرُّكْنَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ السَّقِيفَةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْهِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَحَدٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ يُصَلِّي، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَمُرُّ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَنْتَظِرهَا حَتَّى تَمُرَّ، ثُمَّ يَضَعُ جَبْهَتَهُ فِي مَوْضِعِ قَدَمِهَا. رَوَاهُ حَنْبَلٌ، فِي كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ ". وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ، قُلْت لِطَاوُسٍ: الرَّجُلُ يُصَلِّي - يَعْنِي بِمَكَّةَ - فَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: أُوَلًا يَرَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَإِذَا هُوَ يَرَى أَنَّ لِهَذَا الْبَلَدِ حَالًا لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 لِغَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ قَضَاءِ نُسُكِهِمْ، وَيَزْدَحِمُونَ فِيهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَكَّةَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا، أَيْ: يَزْدَحِمُونَ وَيَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَوْ مَنَعَ الْمُصَلِّي مَنْ يَجْتَازُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَحُكْمُ الْحَرَمِ كُلِّهِ حُكْمُ مَكَّةَ فِي هَذَا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنَى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَحِلُّ الْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ، فَجَرَى مَجْرَى مَكَّةَ فِي مَا ذَكَرْنَاهُ. فَصْلٌ: وَلَوْ صَلَّى فِي غَيْرِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْن يَدَيْهِ شَيْءٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ فِي بَادِيَتِهِمْ فَصَلَّى إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ. وَلِأَنَّ السُّتْرَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَا خَطٌّ: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ: أَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ يُجَزِّئهُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَلْيَرْدُدْهُ] (1219) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَلْيَرْدُدْهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَمْ يَمُرّ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو جَهْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمِ: «لَأَنْ يَقِفَ أَحَدُكُمْ مِائَةَ عَامٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي» . وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي شَيْطَانًا، وَأَمَرَ بِرَدِّهِ وَمُقَاتَلَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْن نِمْرَانِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا بِتَبُوك مُقْعَدًا، فَقَالَ: «مَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ فَمَا مَشَيْت عَلَيْهَا بَعْدُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «قَطَعَ صَلَاتَنَا، قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ» . وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، فَلَهُ مَنَعَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَسَالِم. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 هُوَ شَيْطَانٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُ رِوَايَتِهِ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . وَمَعْنَاهُ: أَيْ لِيَدْفَعْهُ. وَهَذَا فِي أُولِي الْأَمْرِ لَا يَزِيدُ عَلَى دَفْعِهِ، فَإِنْ أَبَى، وَلَجَّ، فَلِيُقَاتِلْهُ، أَيْ يُعَنِّفْهُ فِي دَفْعِهِ مِنْ الْمُرُورِ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، أَيْ فِعْلُهُ فِعْلُ الشَّيْطَانِ، أَوْ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَعَهُ شَيْطَانًا. وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي إذَا لَجَّ فِي الْمُرُورِ، وَأَبَى الرُّجُوعَ، أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ، وَيَجْتَهِدُ فِي رَدِّهِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى إفْسَادِ صَلَاتِهِ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَدْرَأُ مَا اسْتَطَاعَ، وَأَكْرَهُ الْقِتَالَ فِي الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَفَسَادِ الصَّلَاةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ بِرَدِّهِ وَدَفْعِهِ حِفْظًا لِلصَّلَاةِ عَمَّا يَنْقُصُهَا، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَا يُفْسِدُهَا وَيَقْطَعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَيُحْمَلُ لَفْظُ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى دَفْعٍ أَبْلَغَ مِنْ الدَّفْعِ الْأَوَّلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ؛ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ، أَوْ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ. فَقَالَ بِيَدِهِ، فَرَجَعَ، فَمَرَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَمَضَتْ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هُنَّ أَغْلَبُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الدَّفْعِ. فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَإِنْسَانٍ وَبَهِيمَةٍ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ رَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ وَزَيْنَبَ وَهُمَا صَغِيرَانِ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى جُدُرٍ، فَاِتَّخَذَهُ قِبْلَةً وَنَحْنُ خَلْفَهُ، فَجَاءَتْ بَهِيمَةٌ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا زَالَ يَدْرَأُ بِهَا حَتَّى لَصِقَ بَطْنُهُ بِالْجِلْدِ، فَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهِ. (1221) فَصْلٌ: فَإِنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ إنْسَانٌ فَعَبَرَ، لَمْ يُسْتَحَبَّ رَدُّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ يَرُدُّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَفَعَلَهُ سَالِمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَدِّهِ، فَتَنَاوَلَ الْعَابِرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُرُورٌ ثَانٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيْهِ كَالْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْمَارَّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ لَكَانَ مَأْمُورًا بِمَنْعِهِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْعَابِرِ الْعَوْدُ، وَالْحَدِيثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَابِرَ، إنَّمَا فِي الْخَبَرِ: «فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ» . وَبَعْدَ الْعُبُورِ فَلَيْسَ هَذَا مُرِيدًا لِلِاجْتِيَازِ. (1222) فَصْلٌ: وَالْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَنْقُصُ الصَّلَاةَ وَلَا يَقْطَعُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: يَضَعُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْطَعُهَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ مَمَرَّ الرَّجُلِ يَضَعُ نِصْفَ الصَّلَاةِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ الْتَزَمَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَقْصُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ الرَّدُّ فَلَمْ يَفْعَلْهُ، أَمَّا إذَا رَدَّ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الرَّدُّ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَنْقُصُ الصَّلَاةَ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ذَنْبُ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ] (1223) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ فِي الصَّلَاةِ الْفَرِيضَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَفْتَحَتْ الْبَابَ، فَمَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى فَتَحَ لَهَا. وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. فَإِذَا رَأَى الْعَقْرَبَ خَطَا إلَيْهَا، وَأَخَذَ النَّعْلَ، وَقَتَلَهَا، وَرَدَّ النَّعْلَ إلَى مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَظَرَ إلَى رِيشَةٍ فَحَسِبَهَا عَقْرَبًا، فَضَرَبَهَا بِنَعْلِهِ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ الْتَحَفَ بِإِزَارِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. فَلَا بَأْسَ إنْ سَقَطَ رِدَاءُ الرَّجُلِ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَإِنْ انْحَلَّ إزَارُهُ أَنْ يَشُدَّهُ. وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ وَهِيَ تُصَلِّي اخْتَمَرَتْ، وَبَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا. وَقَالَ: مِنْ فَعَلَ كَفِعْلِ أَبِي بَرْزَةَ، حِينَ مَشَى إلَى الدَّابَّةِ وَقَدْ أَفْلَتَتْ مِنْهُ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ. وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُشَرِّعُ، فَمَا فَعَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَمِثْلُ هَذَا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى مِنْبَرِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمِنْبَرِ كَذَلِكَ، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، قَالَ: ثُمَّ تَأَخَّرَ، وَتَأَخَّرَتْ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 يُصَلِّي بِنَا، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَجِيءُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَرْفَعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ رَفْعًا رَفِيقًا حَتَّى يَضَعَهُ بِالْأَرْضِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزُلْ يُدَارِئُ الْبَهْمَةَ حَتَّى لَصِقَ بِالْجُدُرِ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ بِالْأَمْرِ بِدَفْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَمُقَاتَلَتِهِ إذَا أَبَى الرُّجُوعَ. فَكُلُّ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُبْطِلُهَا، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، كُرِهَ، وَلَا يُبْطِلُهَا أَيْضًا. وَلَا يَتَقَدَّرُ الْجَائِزُ مِنْ هَذَا بِثَلَاثٍ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظَّاهِرُ مِنْهُ زِيَادَتُهُ عَلَى ثَلَاثٍ، كَتَأَخُّرِهِ حَتَّى تَأَخَّرَ الرِّجَالُ فَانْتَهَوْا إلَى النِّسَاءِ، وَفِي حَمْلِهِ أُمَامَةَ وَوَضْعِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ، وَكَذَلِكَ مَشْيُ أَبِي بَرْزَةَ مَعَ دَابَّتِهِ. وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ، وَهَذَا لَا تَوْقِيفَ فِيهِ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ إلَى الْعُرْفِ، فِيمَا يُعَدُّ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا، وَكُلُّ مَا شَابَهُ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَعْدُودٌ يَسِيرًا. وَإِنْ فَعَلَ أَفْعَالًا مُتَفَرِّقَةً لَوْ جُمِعَتْ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ يَسِيرٌ، فَهِيَ فِي حَدِّ الْيَسِيرِ؛ بِدَلِيلِ حَمْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَامَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَوَضْعِهَا. وَمَا كَثُرَ وَزَادَ عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِضَرُورَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخَائِفِ، فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، قَطَعَ الصَّلَاةَ، وَفَعَلَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا رَأَى صَبِيَّيْنِ يَقْتَتِلَانِ، يَتَخَوَّفُ أَنْ يُلْقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الْبِئْرِ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إلَيْهِمَا فَيُخَلِّصُهُمَا، وَيَعُودُ فِي صَلَاتِهِ. وَقَالَ: إذَا لَزِمَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا سَجَدَ الْإِمَامُ خَرَجَ الْمَلْزُومُ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَلْزَمُهُ يَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ. يَعْنِي: وَيَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ. وَهَكَذَا لَوْ رَأَى حَرِيقًا يُرِيدُ إطْفَاءَهُ، أَوْ غَرِيقًا يُرِيدُ إنْقَاذَهُ، خَرَجَ إلَيْهِ، وَابْتَدَأَ الصَّلَاةَ. وَلَوْ انْتَهَى الْحَرِيقُ إلَيْهِ، أَوْ السَّيْلُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَفَرَّ مِنْهُ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَتَمَّهَا صَلَاةَ خَائِفٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إلَّا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ] (1224) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إلَّا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ) . يَعْنِي إذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ. هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ لَا يَقْطَعُهَا عِنْدِي شَيْءٌ إلَّا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ. وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَرَوَى عَنْ مُعَاذٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ شَيْطَانٌ، وَهُوَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ. وَمَعْنَى الْبَهِيمِ الَّذِي لَيْسَ فِي لَوْنِهِ شَيْءٌ سِوَى السَّوَادِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، وَالْمَرْأَةُ إذَا مَرَّتْ، وَالْحِمَارُ. قَالَ: وَحَدِيثُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 عَائِشَةَ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِحَجَّةِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَارَّ غَيْرُ اللَّابِثِ، وَهُوَ فِي التَّطَوُّعِ، وَهُوَ أَسْهَلُ، وَالْفَرْضُ آكَدُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ. لَيْسَ بِحَجَّةِ؛ لِأَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَأَلْتنِي فَقَالَ «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى حِمَارٍ: " قَطَعَ صَلَاتَنَا ". وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ يَقُولَانِ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ أَبُو دَاوُد: رَفَعَهُ شُعْبَةُ، وَوَقَفَهُ، سَعِيدٌ، وَهِشَامٌ، وَهَمَّامٌ، عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ، فَصَلَّى فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، وَحِمَارَةٌ لَنَا وَكَلْبَةٌ يَعْبَثَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا بَالَى ذَلِكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ، وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَمَرَرْت عَلَى بَعْضِ الصَّفِّ، وَنَزَلْت، فَأَرْسَلْت الْأَتَانَ تَرْتَعُ. فَدَخَلْت فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَحَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، حِينَ مَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي، فَجَاءَتْ جَارِيَتَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى أَخَذَتَا بِرُكْبَتَيْهِ، فَقَرَعَ بَيْنَهُمَا فَمَا بَالَى ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ» . يَرْوِيهِ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، ثُمَّ حَدِيثُنَا أَخَصُّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِصِحَّتِهِ وَخُصُوصِهِ، وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي إسْنَادِهِ مُقَاتِلٌ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْكَلْبَ لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ وَلَا بَهِيمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا بَعِيدَيْنِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الْمَرْأَةِ، وَالْحِمَارِ، يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ فِيهِمَا، فَيَبْقَى الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ خَالِيًا عَنْ مُعَارِضٍ، فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ لِثُبُوتِهِ، وَخُلُوِّهِ عَنْ مُعَارِضٍ (1225) فَصْلٌ: وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَا، لَا مِنْ الْكِلَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّهَا بِالذِّكْرِ. وَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: " الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ " وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَهِيمًا لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ؛ لِتَخْصِيصِهِ الْبَهِيمَ بِالذِّكْرِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْت بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» . فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الْبَهِيمُ كُلُّ لَوْنٍ لَمْ يُخَالِطْهُ لَوْنٌ آخَرُ فَهُوَ بَهِيمٌ. فَمَتَى كَانَ فِيهِ لَوْنٌ آخَرُ فَلَيْسَ بِبَهِيمِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ يُخَالِفَانِ لَوْنَهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا عَنْ كَوْنِهِ بَهِيمًا، يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ؛ مِنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمِ صَيْدِهِ، وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ: «عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الْغُرَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» . [فَصْلٌ لَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ] (1226) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَلِأَنَّ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يَتَسَاوَى فِيهَا الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ هَذَا، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى التَّسْهِيلِ فِي التَّطَوُّعِ، وَالصَّحِيحُ التَّسْوِيَةُ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: يَحْتَجُّونَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَمَا أَعْلَمُ بَيْنِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرِيضَةِ فَرْقًا إلَّا أَنَّ التَّطَوُّعَ يُصَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ. [فَصْلٌ مُرُور الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي] (1227) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، أَوْ نَائِمًا وَلَمْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَشْبَهَ الْمَارَّ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: عَدَلْتُمُونَا بِالْكِلَابِ وَالْحُمُرِ وَذَكَرَتْ فِي مُعَارَضَةِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ» . وَلَمْ يَذْكُرْ مُرُورًا. وَالثَّانِيَةُ، لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ وَالنَّوْمَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْمُرُورِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 تَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكْرَهُهُ، وَلَا يُنْكِرهُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَارِّ: " لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ". وَكَانَ يُصَلِّي إلَى الْبَعِيرِ، وَلَوْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ يَدَعْهُ، وَلِهَذَا مَنَعَ الْبَهِيمَةَ مِنْ الْمُرُورِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِنَافِعِ: وَلِّنِي ظَهْرَكَ. لِيَسْتَتِرَ بِهِ مِمَّنْ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقَعَدَ عُمَرُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَسْتُرُهُ مِنْ الْمُرُورِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمُرُورِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ". لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارِ الْمُرُورِ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ [فَصْلٌ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَمَرَّ مِنْ وَرَائِهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ] (1228) فَصْلٌ: وَمَنْ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَمَرَّ مِنْ وَرَائِهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، لَمْ تَنْقَطِعْ. وَإِنْ مَرَّ مِنْ وَرَائِهَا غَيْرُ مَا يَقْطَعُهَا، لَمْ يُكْرَهْ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَإِنْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَطَعَهَا إنْ كَانَ مِمَّا يَقْطَعُهَا، كُرِهَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْطَعُهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْهُ مَا يَقْطَعُهَا، قَطَعَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْطَعُهَا، كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ. وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدَّ الْبَعِيدَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْقَرِيبَ، إلَّا أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: إذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الَّذِي يَقْطَعُ الصَّلَاةَ قَذْفَةٌ بِحَجَرٍ، لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْكَلْبُ، وَالْحِمَارُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَالْمَجُوسِيُّ، وَالْيَهُودِيُّ، وَالْمَرْأَةُ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ إذَا مَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ قَذْفَةٌ بِحَجَرِ» هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد. وَفِي " مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ ": " وَالنَّصْرَانِيُّ، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ ثَبَتَ، لَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ، وَفِيهِ مَا هُوَ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا عَدَا الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، قَطَعَ صَلَاتَهُ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ ". يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ السُّتْرَةِ تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ بِمُرُورِ الْكَلْبِ فِيهِ، وَالسُّتْرَةُ تَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَالصَّحِيحُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا إذَا مَشَى إلَيْهِ، وَدَفَعَ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَقَيَّدَ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، بِحَيْثُ إذَا مَشَى إلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَاللَّفْظُ فِي الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ حَمْلُهُمَا عَلَى إطْلَاقِهِمَا، وَقَدْ تَقَيَّدَ أَحَدُهُمَا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ بِقَيْدٍ، فَتَقَيَّدَ الْآخَرُ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 [فَصْلٌ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ مَغْصُوبَةٍ فَاجْتَازَ وَرَاءَهَا كَلْبٌ أَسْوَدُ فَهَلْ تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ] (1229) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ مَغْصُوبَةٍ، فَاجْتَازَ وَرَاءَهَا كَلْبٌ أَسْوَدُ، فَهَلْ تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ: أَحَدُهُمَا، تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ نَصْبِهَا، وَالصَّلَاةِ إلَيْهَا، فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَالثَّانِي، لَا تَبْطُلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقِي ذَلِكَ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ ". وَهَذَا قَدْ وُجِدَ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ إذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 [بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ] الْأَصْلُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . «قَالَ - يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ - قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ؟ فَقَالَ: عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي أَسْفَارِهِ، حَاجًّا، وَمُعْتَمِرًا، وَغَازِيًا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قُبِضَ - يَعْنِي فِي السَّفَرِ - وَكَانَ «لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ. وَوَدِدْت أَنَّ لِي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ، وَأَقَمْنَا بِمَكَّةَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ حَتَّى رَجَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا تَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فِي حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ جِهَادٍ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ الرَّبَاعِيَّةَ فَيُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ مَسَافَةُ الْقَصْر فِي السَّفَرِ] (1230) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ مَسَافَةُ سَفَرِهِ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، أَوْ ثَمَانِيَةَ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ) . قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ. قِيلَ لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَالَ: لَا. أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَمَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ. فَمَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَالْفَرْسَخُ: ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا، قَالَ الْقَاضِي: وَالْمِيلُ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ. وَقَدْ قَدَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مِنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ الطَّائِفِ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَسَالِكِ، أَنَّ مِنْ دِمَشْقَ إلَى الْقَطِيفَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا، وَمِنْ دِمَشْقَ إلَى الْكُسْوَةِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَمِنْ الْكُسْوَةِ إلَى جَاسِمٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي مَسِيرَةِ عَشْرَةِ فَرَاسِخَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ إلَى أَرْضٍ لَهُ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ مِيلًا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَقْصُرُ فِي الْيَوْمِ، وَلَا يَقْصُرُ فِيمَا دُونَهُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ: عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ. وَبِهِ نَأْخُذُ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهنَّ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ لَهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ أَنَسٌ يَقْصُرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ. وَكَانَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَهَانِئُ بْنُ كُلْثُومٍ، وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ يَقْصُرُونَ فِيمَا بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَصْرِهِ بِالْكُوفَةِ حَتَّى أَتَى النُّخَيْلَةَ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ، فَقَالَ: أَرَدْت أَنَّ أُعَلِّمَكُمْ سُنَّتَكُمْ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ، قَالَ: «خَرَجْت مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ إلَى قَرْيَةٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْت لَهُ، فَقَالَ: رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُصَلِّي بِالْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْت كَمَا رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرُوِيَ «أَنَّ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ خَرَجَ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ دِمَشْقَ مَرَّةً إلَى قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ إنَّهُ أَفْطَرَ، وَأَفْطَرَ مَعَهُ أُنَاسٌ، وَكَرِهَ آخَرُونَ أَنْ يُفْطِرُوا، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ، قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت الْيَوْمَ أَمْرًا مَا كُنْت أَظُنُّ أَنِّي أَرَاهُ، إنَّ قَوْمًا رَغِبُوا عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَقُولُ ذَلِكَ لِلَّذِينَ صَامُوا قَبْلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى سَعِيدٌ، ثنا هَاشِمٌ عَنْ أَبِي هَارُونُ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَافَرَ فَرْسَخًا قَصَرَ الصَّلَاةَ» . وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . شُعْبَةُ الشَّاكُّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَبُو دَاوُد. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بُقُولِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مَنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تَجْمَعُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ، مِنْ الْحَلِّ وَالشَّدِّ، فَجَازَ الْقَصْرُ فِيهَا، كَمَسَافَةِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْقَصْرَ فِيهِ. وَقَوْلُ: أَنَسٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا سَافَرَ سَفَرًا طَوِيلًا قَصَرَ إذَا بَلَغَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 كَمَا قَالَ فِي لَفْظِهِ الْآخَرِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا أَرَى لِمَا صَارَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ حُجَّةً، لِأَنَّ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ مُتَعَارِضَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، خِلَافُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا. ثُمَّ لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ حُجَّةٌ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ أَقْوَالُهُمْ امْتَنَعَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إبَاحَةُ الْقَصْرِ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] . وَقَدْ سَقَطَ شَرْطُ الْخَوْفِ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ. فَبَقِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلًا كُلَّ ضَرْبٍ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . جَاءَ لِبَيَانِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ هَاهُنَا، وَعَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْقَصِيرَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَفَرًا، فَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِرَأْيٍ مُجَرَّدٍ، سِيَّمَا وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ، إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ. (1231) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَهُوَ كَالْبَرِّ، إنْ كَانَتْ مَسَافَةُ سَفَرِهِ تَبْلُغُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أُبِيحَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، سَوَاءٌ قَطَعَهَا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ، اعْتِبَارًا بِالْمَسَافَةِ وَإِنْ شَكَّ هَلْ السَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْقَصْرِ أَوْ لَا؟ لَمْ يُبَحْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ قَصَرَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَهَا أَنَّهُ طَوِيلٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى شَاكًّا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ. [فَصْلٌ الِاعْتِبَارُ بِالنِّيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَنْوِيَ مَسَافَةً تُبِيحُ الْقَصْرَ] (1232) فَصْلٌ: وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَنْوِيَ مَسَافَةً تُبِيحُ الْقَصْرَ، فَلَوْ خَرَجَ يَقْصِدُ سَفَرًا بَعِيدًا، فَقَصَرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ، كَانَ مَا صَلَّاهُ مَاضِيًا صَحِيحًا، وَلَا يَقْصُرُ فِي رُجُوعِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الرُّجُوعِ مُبِيحَةٌ بِنَفْسِهَا. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. وَلَوْ خَرَجَ طَالِبًا لِعَبْدِ آبِقٍ، لَا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، أَوْ مُنْتَجَعًا غَيْثًا أَوْ كَلَأً، مَتَى وَجَدَهُ أَقَامَ أَوْ رَجَعَ، أَوْ سَائِحًا فِي الْأَرْضِ لَا يَقْصِدُ مَكَانًا، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ سَارَ سَفَرًا أَيَّامًا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ إذَا بَلَغَ مَسَافَةً مُبِيحَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا طَوِيلًا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ، كَابْتِدَاءِ سَفَرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُبِحْ الْقَصْرَ فِي ابْتِدَائِهِ فَلَمْ يُبِحْهُ فِي أَثْنَائِهِ، إذَا لَمْ يُغَيِّرْ نِيَّتَهُ، كَالسَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَتَى رَجَعَ هَذَا يَقْصِدُ بَلَدَهُ، أَوْ نَوَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَهُ الْقَصْرُ؛ لِوُجُودِ نِيَّتِهِ الْمُبِيحَةِ، وَلَوْ قَصَدَ بَلَدًا بَعِيدًا، أَوْ فِي عَزْمِهِ أَنَّهُ مَتَى وَجَدَ طَلَبَتْهُ دُونَهُ رَجَعَ أَوْ أَقَامَ، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِسَفَرٍ طَوِيلٍ. وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجِعُ وَلَا يُقِيمُ بِوُجُودِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ. [فَصْلٌ كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ يُبَاحُ الْقَصْرُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرَ] (1233) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ، يُبَاحُ الْقَصْرُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرَ، فَسَلَكَ الْبَعِيدَ لِيَقْصُرَ الصَّلَاةَ فِيهِ، أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا مُبَاحًا، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ أَوْ كَانَ الْآخَرُ مَخُوفًا أَوْ شَاقًّا [فَصْلٌ صَلَاة الْمُسَافِر إذَا خَرَجَ مُكْرَهًا] (1234) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ الْإِنْسَانُ إلَى السَّفَرِ مُكْرَهًا، كَالْأَسِيرِ، فَلَهُ الْقَصْرُ إذَا كَانَ سَفَرُهُ بَعِيدًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاوٍ لِلسَّفَرِ وَلَا جَازِمٍ بِهِ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ أَنَّهُ مَتَى أَفْلَتَ رَجَعَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا غَيْر مُحَرَّمٍ، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ، كَالْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ، إذَا كَانَ عَزْمُهُمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَوْ زَالَ مُلْكُهُمَا، رَجَعَ. وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِهَذَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُتِمُّ إذَا صَارَ فِي حُصُونِهِمْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَضَى سَفَرُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّ فِي عَزْمِهِ أَنَّهُ مَتَى أَفْلَتَ رَجَعَ، فَأَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ ظُلْمًا. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ الْقَصْرُ حَتَّى يَخْرُج مِنْ بُيُوت قَرْيَتِهِ] (1235) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إذَا جَاوَزَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ الْقَصْرُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ، وَيَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، أَنَّهُمَا أَبَاحَا الْقَصْرَ فِي الْبَلَدِ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ. . وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَنَّهُ أَرَادَ سَفَرًا، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَنْزِلِهِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِمْ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ. وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ جَبْرٍ، قَالَ: «كُنْت مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرُبَ غِذَاؤُهُ، فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ. فَقُلْت: أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَكَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَلَا يَكُونُ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ الْقَصْرَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ أَنَسٌ: «صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَبُو بَصْرَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى دَفَعَ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ: مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَبْعُدْ مِنْهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُبَيْدٍ لَهُ: أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 إذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ لِلَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا خَرَجْت مُسَافِرًا فَلَا تَقْصُرْ الصَّلَاةَ يَوْمَك ذَلِكَ إلَى اللَّيْلِ، وَإِذَا رَجَعْت لَيْلًا فَلَا تَقْصُرْ لَيْلَتَك حَتَّى تُصْبِحَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] . وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا. وَحَدِيثُ أَبِي بَصْرَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْهَمَذَانِيُّ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَخْرَجَهُ إلَى صِفِّينَ، فَرَأَيْته صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْجِسْرِ وَقَنْطَرَةِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: خَرَجَ عَلِيٌّ فَقَصَرَ، وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ. قَالَ: لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا. وَلِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ، كَمَا لَوْ بَعُدَ. (1236) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ، وَصَارَ بَيْنَ حِيطَانِ بَسَاتِينِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَوْلَ الْبَلَدِ خَرَابٌ قَدْ تَهَدَّمَ وَصَارَ فَضَاءً، أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ كَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ قَائِمَةً فَكَذَلِكَ. قَالَهُ الْآمِدِيُّ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُبَاحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ السُّكْنَى فِيهِ مُمْكِنَةٌ، أَشْبَهَ الْعَامِرَ. وَلَنَا، أَنَّهَا غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلسُّكْنَى، أَشْبَهَتْ حِيطَانَ الْبَسَاتِينِ. وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ نَهْرٌ فَاجْتَازَهُ، فَلَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَلَدِ وَلَمْ يُفَارِقْ الْبُنْيَانَ، فَأَشْبَهَ الرَّحْبَةَ وَالْمَيْدَانَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ. وَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ مَحَالُّ، كُلُّ مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْأُخْرَى، كَبَغْدَادَ، فَمَتَى خَرَجَ مِنْ مَحَلَّتِهِ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ إذَا فَارَقَ مَحَلَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ، لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ جَمِيعَهَا. وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ مُتَدَانِيَتَيْنِ، فَاتَّصَلَ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَهُمَا كَالْوَاحِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ، فَلِكُلِّ قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا. (1237) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْبَدَوِيُّ فِي حِلَّةٍ، لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ حِلَّتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ حِلَلًا فَلِكُلِّ حِلَّةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا، كَالْقُرَى. وَإِنْ كَانَ بَيْتُهُ مُنْفَرِدًا فَحَتَّى يُفَارِقَ مَنْزِلَهُ وَرَحْلَهُ، وَيَجْعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، كَالْحَضَرِيِّ. [مَسْأَلَة الرُّخَصَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسَّفَرِ مِنْ الْقَصْرِ وَالْجَمْع] (1238) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إذَا كَانَ سَفَرُهُ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرُّخَصَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسَّفَرِ؛ مِنْ الْقَصْرِ، وَالْجَمْعِ، وَالْفِطْرِ، وَالْمَسْحِ ثَلَاثًا، وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَطَوُّعًا، يُبَاحُ فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يُتْرَكُ إلَّا لِوَاجِبٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَعَنْهُ: لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَصَرَ فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَانِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَالْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَالْعِيدِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ الْبَحْرَيْنِ فِي تِجَارَةٍ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ» . وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ التَّرَخُّصِ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَرَخَّصُ فِي عَوْدِهِ مِنْ سَفَرِهِ، وَهُوَ مُبَاحٌ. [فَصْلٌ لَا تُبَاح الرُّخَصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ] (1239) فَصْلٌ: وَلَا تُبَاحُ هَذِهِ الرُّخَصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَالْإِبَاقِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ مَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِتَخْصِيصِهِ الْوَاجِبَ وَالْمُبَاحَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ؛ احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّرَخُّصَ كَالْمُطِيعِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] أَبَاحَ الْأَكْلَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَادِيًا وَلَا بَاغِيًا، فَلَا يُبَاحُ لِبَاغٍ وَلَا عَادٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ، يُخِيفُ السَّبِيلَ، وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ. وَلِأَنَّ التَّرَخُّصَ شُرِعَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الْمُبَاحِ، تَوَصُّلًا إلَى الْمَصْلَحَةِ، فَلَوْ شُرِعَ هَاهُنَا لَشُرِعَ إعَانَةٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ، تَحْصِيلًا لِلْمَفْسَدَةِ، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا، وَالنُّصُوصُ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ أَسْفَارُهُمْ مُبَاحَةً، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَنْ سَفَرُهُ مُخَالِفٌ لِسَفَرِهِمْ، وَيَتَعَيَّنْ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَقِيَاسُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الطَّاعَةِ بَعِيدٌ، لِتَضَادِّهِمَا. (1240) فَصْلٌ: فَإِنْ عَدِمَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ الْمَاءَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ لَا تَسْقُطُ، وَالطَّهَارَةُ لَهَا وَاجِبَةٌ أَيْضًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَزِيمَةً، وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، بِدَلِيلِ وُجُوبِهِ، وَالرُّخَصُ لَا تَجِبُ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ، أَشْبَهَ بَقِيَّةَ الرُّخَصِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهَا، وَيُفَارِقُ بَقِيَّةَ الرُّخَصِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهَا، وَهَذَا يَجِبُ فِعْلُهُ، وَلِأَنَّ حُكْمَ بَقِيَّةِ الرُّخَصِ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ هَذَا الْحُكْمِ إلَى التَّيَمُّمِ، وَلَا إلَى الصَّلَاةِ، لِوُجُوبِ فِعْلِهِمَا، وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ لَيْسَ بِحُكْمٍ فِي بَقِيَّةِ الرُّخَصِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهَا أَوْ تَعْدِيَتُهُ عَنْهَا. وَيُبَاحُ لَهُ الْمَسْحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ السَّفَرَ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِجْمَارَ، وَالتَّيَمُّمَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ رُخَصِ الْحَضَرِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ، فَلَمْ تُبَحْ لَهُ كَرُخْصِ السَّفَرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِسَائِرِ رُخَصِ الْحَضَرِ. [فَصْلٌ حُكْم الْقَصْر إذَا كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا فَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إلَى الْمَعْصِيَة] (1241) فَصْلٌ: إذَا كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا، فَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إلَى الْمَعْصِيَةِ، انْقَطَعَ التَّرَخُّصُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ. وَلَوْ سَافَرَ لِمَعْصِيَةٍ فَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إلَى مُبَاحٍ، صَارَ سَفَرًا مُبَاحًا، وَأُبِيحَ لَهُ مَا يُبَاحُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ، وَتُعْتَبَرُ مَسَافَةُ السَّفَرِ مِنْ حِينِ غَيَّرَ النِّيَّةَ. وَلَوْ كَانَ سَفَرُهُ مُبَاحًا، فَنَوَى الْمَعْصِيَةَ بِسَفَرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نِيَّةِ الْمُبَاحِ، اُعْتُبِرَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ مِنْ حِينَ رُجُوعِهِ إلَى نِيَّةِ الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ سَفَرِهِ انْقَطَعَ بِنِيَّةِ الْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ، ثُمَّ عَادَ فَنَوَى السَّفَرَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا، لَكِنَّهُ يَعْصِي فِيهِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ التَّرَخُّصَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ، وَقَدْ وُجِدَ، فَثَبَتَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ وُجُودُ مَعْصِيَةٍ، كَمَا أَنَّ مَعْصِيَتَهُ فِي الْحَضَرِ لَا تَمْنَعُ التَّرَخُّصَ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 [فَصْلٌ فِي سَفَرِ التَّنَزُّهِ وَالتَّفَرُّجِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا تُبِيحُ التَّرَخُّصَ] (1242) فَصْلٌ: وَفِي سَفَرِ التَّنَزُّهِ وَالتَّفَرُّجِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تُبِيحُ التَّرَخُّصَ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى سَفَرِ التِّجَارَةِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَتَرَخَّصُ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ تَنَزُّهًا وَتَلَذُّذًا، وَلَيْسَ فِي طَلَبِ حَدِيثٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ إعَانَةً عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِي هَذَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْلٌ حُكْم الْقَصْر إذَا سَافَرَ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ] (1243) فَصْلٌ: فَإِنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ إبَاحَتُهُ، وَجَوَازُ الْقَصْرِ فِيهِ؛ لَانَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَكَانَ يَزُورُ الْقُبُورَ، وَقَالَ: «زُورُوهَا تُذَكِّرْكُمْ الْآخِرَةَ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ " فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ التَّفْضِيلِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَتْ الْفَضِيلَةُ شَرْطًا فِي إبَاحَةِ الْقَصْرِ، فَلَا يَضُرُّ انْتِفَاؤُهَا. [فَصْلٌ الْمَلَّاحُ هَلْ يَقْصُرُ فِي السَّفِينَة] (1244) فَصْلٌ: وَالْمَلَّاحُ الَّذِي يَسِيرُ فِي سَفِينِهِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْتٌ سِوَى سَفِينَتِهِ، فِيهَا أَهْلُهُ وَتَنُّورُهُ وَحَاجَتُهُ، لَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمَلَّاحِ، أَيَقْصُرُ، وَيُفْطِرُ فِي السَّفِينَةِ؟ قَالَ: أَمَّا إذَا كَانَتْ السَّفِينَةُ بَيْتَهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ وَيَصُومُ. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَكُونُ بَيْتَهُ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ بَيْتٌ غَيْرَهَا، مَعَهُ فِيهَا أَهْلُهُ وَهُوَ فِيهَا مُقِيمٌ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ كَوْنَ أَهْلِهِ مَعَهُ لَا يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ، كَالْجَمَّالِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ ظَاعِنٍ عَنْ مَنْزِلِهِ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ التَّرَخُّصُ، كَالْمُقِيمِ فِي الْمُدُنِ، فَأَمَّا النُّصُوصُ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الظَّاعِنُ عَنْ مَنْزِلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْجَمَّالُ وَالْمُكَارِي فَلَهُمْ التَّرَخُّصُ وَإِنْ سَافَرُوا بِأَهْلِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 قَالَ: أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي الْمُكَارِي الَّذِي هُوَ دَهْرُهُ فِي السَّفَرِ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ فَيُقِيمَ الْيَوْمَ. قِيلَ: فَيُقِيمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي تَهَيُّئِهِ لِلسَّفَرِ. قَالَ: هَذَا يَقْصُرُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ كَالْمَلَّاحِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ مَشْفُوقٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الْقَصْرُ كَغَيْرِهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَلَّاحِ؛ فَإِنَّ الْمَلَّاحَ فِي مَنْزِلِهِ سَفَرًا وَحَضَرَا، وَمَعَهُ مَصَالِحُهُ وَتَنُّورُهُ وَأَهْلُهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ سَافَرَ هَذَا بِأَهْلِهِ كَانَ أَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَبْلَغَ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّرَخُّصِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَالنُّصُوصُ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا بِعُمُومِهَا، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَخْصُوصِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حُكْمِ النَّصِّ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ إلَى الصَّلَاةِ] (1245) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ إلَى الصَّلَاةِ لَمْ يَقْصُرْ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ نِيَّةَ الْقَصْرِ شَرْطٌ فِي جَوَازِهِ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ، كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تُشْتَرَطُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ خُيِّرَ فِي الْعِبَادَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا خُيِّرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا، كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَصْلُ؛ بِدَلِيلِ خَبَرِ عَائِشَةَ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، كَالْإِتْمَامِ فِي الْحَضَرِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِتْمَامَ هُوَ الْأَصْلُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَسْأَلَةِ " وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ وَلَهُ أَنْ يُتِمَّ "، وَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِتَعْيِينِ مَا يَصْرِفُهُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَنْوِ إمَامًا وَلَا مَأْمُومًا، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الِانْفِرَادِ، إذْ هُوَ الْأَصْلُ. وَالتَّفْرِيعُ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَوْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، هَلْ نَوَى الْقَصْرَ فِي ابْتِدَائِهَا أَوْ لَا، لَزِمَهُ إتْمَامُهَا احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا، فَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، فَلَمْ يَزُلْ. وَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ، أَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، فَفَسَدَتْ الصَّلَاةُ، وَأَرَادَ إعَادَتَهَا، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً بِتَلَبُّسِهِ بِهَا خَلْفَ الْمُقِيمِ، وَنِيَّةِ الْإِتْمَامِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ عَادَ الْمُسَافِرُ إلَى حَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا تَامَّةً، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَفْسُدْ. [فَصْلٌ نَوَى الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ] (1246) فَصْلٌ: وَمِنْ نَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ، أَوْ نَوَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْإِتْمَامُ مِنْ الْإِقَامَةِ، أَوْ قَلَبَ نِيَّتَهُ إلَى سَفَرِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ نَوَى الرُّجُوعَ عَنْ سَفَرِهِ، وَمَسَافَةُ رُجُوعِهِ لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَنَحْوُ هَذَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَزِمَ مَنْ خَلْفَهُ مُتَابَعَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ: مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى عَدَدًا، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ، حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وَلَنَا، أَنَّ نِيَّةَ صَلَاةِ الْوَقْتِ قَدْ وُجِدَتْ، وَهِيَ أَرْبَعٌ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ رَكْعَتَيْنِ رُخْصَةً، فَإِذَا أَسْقَطَ نِيَّةَ التَّرَخُّصِ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ بِنِيَّتِهِمَا، وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلِأَنَّ الْإِتْمَامَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُهُ بِشَرْطٍ، فَإِذَا زَالَ الشَّرْطُ عَادَ الْأَصْلُ إلَى حَالِهِ. [فَصْلٌ إذَا قَصَرَ الْمُسَافِرُ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِ الْقَصْرِ] (1247) فَصْلٌ: وَإِذَا قَصَرَ الْمُسَافِرُ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِ الْقَصْرِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَلَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا، كَمَنْ صَلَّى يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ، وَهَذَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَاصٍ، فَلَمْ تَحْصُلُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ. [مَسْأَلَة الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ لَا يُقْصَرَانِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ لَا يُقْصَرَانِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ) . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا يُقْصَرَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ، وَأَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا هُوَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَلِأَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ، فَلَوْ قُصِرَتْ صَارَتْ رَكْعَةً، وَلَيْسَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ إلَّا الْوَتْرَ، وَالْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ، فَلَوْ قُصِرَ مِنْهَا رَكْعَةٌ لَمْ تَبْقَ وِتْرًا، وَإِنْ قُصِرَتْ اثْنَتَانِ صَارَتْ رَكْعَةً، فَيَكُونُ إجْحَافًا بِهَا، وَإِسْقَاطًا لَأَكْثَرِهَا. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: «افْتَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَاِتَّخَذَهَا دَارَ هِجْرَةٍ، زَادَ إلَى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا صَلَاةَ الْغَدَاةِ؛ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَإِلَّا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لِلْخُطْبَةِ، وَإِلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، فَافْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ إلَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ، فَإِذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ.» [مَسْأَلَة لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمّ وَيَقْصُرَ كَمَا لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ] (1249) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ وَيَقْصُرَ، كَمَا لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ) . الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمُسَافِرَ إنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ، وَقَالَ: أَنَا أُحِبُّ الْعَافِيَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ: عُثْمَانُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَيْسَ لَهُ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَوْجَبَ حَمَّادٌ الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ أَتَمَّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَ جَلَسَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ حَتْمٌ، لَا يَصْلُحُ غَيْرُهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فَهُوَ كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، فَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ، وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إلَى غَيْرِ بَدَلٍ، فَلَمْ تَجُزْ زِيَادَتُهُمَا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ الْمَفْرُوضَتَيْنِ، كَمَا لَوْ زَادَهُمَا عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، كَسَائِرِ الرُّخَصِ. وَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ: «قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فَقَالَ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَلَيْسَ بِعَزِيمَةٍ، وَأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ. وَرَوَى الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ، فَأَفْطَرَ وَصُمْت، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَفْطَرْت وَصُمْت، وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت. فَقَالَ: أَحْسَنْت» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ ". وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ صَلَّى أَرْبَعًا، وَصَحَّتْ الصَّلَاةُ، وَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ بِالِائْتِمَامِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي إجْمَاعِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِينَ، فَأَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْبَعٌ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ، إذْ لَوْ كَانَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَرْبَعٌ بِحَالٍ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ» . وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا - أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُسَافِرُ، فَيُتِمُّ بَعْضُنَا، وَيَقْصُرُ بَعْضُنَا، وَيَصُومُ بَعْضُنَا، وَيُفْطِرُ بَعْضُنَا، فَلَا يَعِيبُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُتِمُّ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَأَتَمَّهَا عُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعْدٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَتْ عَائِشَةُ وَسَعْدٌ يُوفِيَانِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَيَصُومَانِ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سَعْدٍ، أَنَّهُ أَقَامَ بِعَمَّانَ شَهْرَيْنِ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي أَرْبَعًا. وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِبَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُهَا سَعْدٌ وَنُتِمُّهَا. وَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجُلٌ، فَقَالَ: كُنْت أُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ. فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ. فَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ. فَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهَا كَانَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِمَّتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَصَارَتْ أَرْبَعًا. وَقَدْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ حِينَ شَرَحَتْ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَلَوْ اعْتَقَدَتْ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ لَمْ تُتِمَّ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ فَرْضِ الصَّلَاةِ فِي سِنِّ مَنْ يَعْقِلُ الْأَحْكَامَ، وَيَعْرِفُ حَقَائِقَهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، أَوْ كَانَ فَرْضُهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي حَدِيثِهِ مَا اُتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْخَوْفُ رَكْعَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَتْ عَائِشَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْفَرْضِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَتَمَّ بِالْإِعَادَةِ. وَقَوْلُ عُمَرَ: تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ. أَرَادَ بِهَا تَمَامٌ فِي فَضْلِهَا غَيْرُ نَاقِصَةِ الْفَضِيلَةِ. وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُورَةِ الرَّكَعَاتِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْإِجْمَاعُ، إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إنِّي وَصَاحِبٌ لِي كُنَّا فِي سَفَرٍ، وَكَانَ صَاحِبِي يَقْصُرُ وَأَنَا أُتِمُّ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتَ كُنْت تَقْصُرُ وَصَاحِبُك يُتِمُّ؛ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، أَرَادَ أَنَّ فِعْلَهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِك. ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ رَكْعَتَانِ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، وَيُخَالِفُ زِيَادَةَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهُمَا بِحَالٍ. (1250) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْقَصْرُ وَالْفِطْرُ أَعْجَبُ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ) . أَمَّا الْقَصْرُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْإِتْمَامَ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: كُنْت أُتِمُّ الصَّلَاةَ وَصَاحِبِي يَقْصُرُ: أَنْتَ الَّذِي كُنْت تَقْصُرُ وَصَاحِبُك يُتِمُّ. وَشَدَّدَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، فَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ حَرْبٍ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ: كَيْفَ صَلَاةُ السَّفَرِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ إمَّا أَنْتُمْ تَتَّبِعُونَ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرْتُكُمْ، وَإِمَّا لَا تَتَّبِعُونَ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ فَلَا أُخْبِرُكُمْ؟ قُلْنَا: فَخَيْرُ مَا اُتُّبِعَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا.» رَوَاهُ سَعِيدٌ. قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ بِشْرٍ. وَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى أَرْبَعًا اسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ، وَوَدِدْت أَنَّ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ» . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، قَالَ: الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَعَدَدًا، وَهُوَ الْأَصْلُ، فَكَانَ أَفْضَلَ، كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الْقَصْرِ» ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْت أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْت عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 تَعَالَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خِيَارُكُمْ مَنْ قَصَرَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِيمَا مَضَى، وَلِأَنَّهُ إذَا قَصَرَ أَدَّى الْفَرْضَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذْ أَتَمَّ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَأَمَّا الْغَسْلُ فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْحِ، وَالْفِطْرُ نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ. [فَصْلٌ فِي جَمْعِ الصَّلَاة] (1251) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْجَمْعِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَخْفِيفًا وَسُهُولَةً، فَكَانَ أَفْضَلَ كَالْقَصْرِ. وَعَنْهُ التَّفْرِيقُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ الْخِلَافِ، فَكَانَ أَفْضَلَ كَالْقَصْرِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ لَأَدَامَهُ كَالْقَصْرِ. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى مُسَافِرٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَحِلَ] (1252) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى مُسَافِرٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّاهَا وَارْتَحَلَ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّاهَا، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا فَأَحَبَّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَجَائِزٌ) . جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعْدٌ، وَأُسَامَةُ، وَمُعَاذُ بْن جَبَلٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ: طَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ أَخِي زُرَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: مَرَّ بِنَا نَائِلَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَأَشْيَاخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَتَيْنَاهُمْ فِي مَنْزِلِهِمْ، وَقَدْ أَخَذُوا فِي الرَّحِيلِ، فَصَلَّوْا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا زُرَيْقُ بْنُ حَكِيمٍ يُصَلِّي لِلنَّاسِ الظُّهْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَلَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ بِهَا، وَهَذَا رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِك وَاخْتِيَارُهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ تَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَيَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا.» وَعَنْ أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِمُسْلِمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا عَجِلَ عَلَيْهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ.» وَرَوَى الْجَمْعَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَنَذْكُرُ أَحَادِيثَهُمَا فِيمَا بَعْدُ، وَقَوْلُهُمْ: لَا نَتْرُكُ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ. قُلْنَا: لَا نَتْرُكُهَا، وَإِنَّمَا نُخَصِّصُهَا، وَتَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْأَخْبَارِ أَنْ يُصَلِّيَ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْأُخْرَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْخَبَرُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُمَا فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِقَوْلِ أَنَسٌ: أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِين يَغِيبَ الشَّفَقُ. فَيَبْطُلُ التَّأْوِيلُ. الثَّانِي، أَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ، فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ أَشَدِّ ضِيقًا، وَأَعْظَمِ حَرَجًا مِنْ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَوْسَعُ مِنْ مُرَاعَاةِ طَرَفَيْ الْوَقْتَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى إلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا، وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَهُ كَمَا وَصَفْنَا، وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ هَكَذَا لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ (أَوْلَى) مِنْ هَذَا (التَّكَلُّفِ) الَّذِي يُصَانُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَفْهُومُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَيُؤَخَّرُ إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ سَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةَ، أَخْذًا بِالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إلَى الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. قَالَ الْقَاضِي: الْأَوَّلُ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا، جَازَ، نَازِلًا كَانَ، أَوْ سَائِرًا، أَوْ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ إقَامَةً لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ، فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، صَلَّى الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَارَ، وَإِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، عَجَّلَ الْعِشَاءَ، فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، أَنَّ مُعَاذًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُمْ «خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا.» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ثَابِتُ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: إنَّ غَزْوَةَ (تَبُوكَ) كَانَتْ فِي رَجَبٍ، سَنَةَ تِسْعٍ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ، وَأَقْوَى الْحُجَجِ، فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ وَهُوَ نَازِلٌ غَيْرُ سَائِرٍ، مَاكِثٌ فِي خِبَائِهِ، يَخْرُجُ فَيُصَلِّي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلَى خِبَائِهِ. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ: فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا. وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ (مُتَعَيَّنٌ) ؛ لِثُبُوتِهِ وَكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْحُكْمِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِحَالَةِ السَّيْرِ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ التَّأْخِيرُ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ، وَخُرُوجٌ مِنْ خِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْجَمْعِ، وَعَمَلٌ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا. (1253) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا فِي سَفَرٍ يُبِيحُ الْقَصْرَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَهُوَ سَفَرٌ قَصِيرٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ رُخْصَةٌ تَثْبُتُ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ، فَاخْتَصَّتْ بِالطَّوِيلِ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ ثَلَاثًا؛ وَلِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا، فَأَشْبَهَ الْفِطْرَ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْجَمْعِ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا فِي مِثْلِهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَمَعَ إلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ. (1254) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَفَعَلَهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلَمْ (يُجَوِّزْهُ) أَصْحَابُ الرَّأْيِ. فَصْلٌ: وَلَنَا، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ: إنَّ مِنْ السُّنَّةِ إذَا كَانَ يَوْمٌ مَطِيرٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ نَافِعٌ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 يَجْمَعُ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: رَأَيْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ؛ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَيُصَلِّيَهُمَا مَعَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَا يُنْكِرُونَهُ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ (1255) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ: الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْمَطَرِ؟ قَالَ: لَا، مَا سَمِعْت. وَهَذَا (اخْتِيَارُ) أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: فِيهِ (قَوْلَانِ،) أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ، (وَمَذْهَبُ) الشَّافِعِيِّ، لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْمَطَرِ» . وَلِأَنَّهُ (مَعْنًى) أَبَاحَ الْجَمْعَ، فَأَبَاحَهُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، كَالسَّفَرِ. وَلَنَا، أَنَّ مُسْتَنَدَ الْجَمْعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ (أَبِي سَلَمَةَ) ، وَالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحَدِيثُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: مَا سَمِعْتُ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ الظُّلْمَةِ وَالْمَضَرَّةِ، وَلَا الْقِيَاسُ عَلَى السَّفَرِ؛ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ لِأَجْلِ السَّيْرِ وَفَوَاتِ الرُّفْقَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا. (1256) فَصْلٌ: وَالْمَطَرُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا (يَبُلُّ) الثِّيَابَ، وَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ بِالْخُرُوجِ فِيهِ. وَأَمَّا الطَّلُّ، وَالْمَطَرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، فَلَا يُبِيحُ، وَالثَّلْجُ كَالْمَطَرِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْبَرَدُ. [فَصْلٌ حُكْم الْوَحْلُ بِمُجَرَّدِهِ فِي جَمَعَ الصَّلَاة] (1257) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَحْلُ بِمُجَرَّدِهِ. فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ عُذْرٌ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ تَلْحَقُ بِذَلِكَ فِي النِّعَالِ وَالثِّيَابِ، كَمَا تَلْحَقُ بِالْمَطَرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا ثَانِيًا، أَنَّهُ لَا يُبِيحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ دُونَ مَشَقَّةِ الْمَطَرِ، فَإِنَّ الْمَطَرَ يَبُلُّ النِّعَالَ وَالثِّيَابَ، وَالْوَحْلُ لَا يَبُلُّهَا، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَحْلَ يُلَوِّثُ الثِّيَابَ وَالنِّعَالَ، وَيَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لِلزَّلَقِ، فَيَتَأَذَّى نَفْسُهُ وَثِيَابُهُ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ الْبَلَلِ، وَقَدْ سَاوَى الْمَطَرَ فِي الْعُذْرِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَشَقَّةِ الْمَرْعِيَّةِ فِي الْحُكْمِ. [فَصْلٌ جَمَعَ الصَّلَاة مَعَ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَة الْبَارِدَةِ] (1258) فَصْلٌ: فَأَمَّا الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ، فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَةِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُبِيحُ الْجَمْعَ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَر، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي مُنَادِيهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، أَوْ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ. وَالثَّانِي، لَا يُبِيحُهُ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَطَرِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَشَقَّتَهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَشَقَّةِ الْمَطَرِ، وَلَا ضَابِطَ لِذَلِكَ يَجْتَمِعَانِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِهِ. [فَصْلٌ هَلْ يَجُوزُ جَمْعُ لِمُنْفَرِدِ] (1259) فَصْلٌ: هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِمُنْفَرِدٍ، أَوْ مَنْ كَانَ طَرِيقُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فِي ظِلَالٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَطَرِ إلَيْهِ، أَوْ مَنْ كَانَ مُقَامُهُ فِي الْمَسْجِدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ إذَا وُجِدَ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا، كَالسَّفَرِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ إذَا وُجِدَتْ أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ، كَالسَّلَمِ، وَإِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ فِي الْمَطَرِ، وَلَيْسَ بَيْنَ حُجْرَتِهِ وَالْمَسْجِدِ شَيْءٌ. وَالثَّانِي، الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ، دُونَ مَنْ لَا تَلْحَقُهُ؛ كَالرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، يَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ، دُونَ مِنْ لَا تَلْحَقُهُ، كَمَنْ فِي الْجَامِعِ وَالْقَرِيبِ مِنْهُ. [فَصْلٌ جَمْعُ الصَّلَاة لِأَجْلِ الْمَرَضِ] (1260) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْمَرَضِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ أَخْبَارَ التَّوْقِيتِ ثَابِتَةٌ، فَلَا تُتْرَكُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ.» وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ لِمَرَضٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا عِنْدِي رُخْصَةٌ لِلْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، لَمَّا كَانَتَا مُسْتَحَاضَتَيْنِ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ وَتَعْجِيلِ الْعَصْرِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. فَأَبَاحَ لَهُمَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الِاسْتِحَاضَةِ. وَأَخْبَارُ الْمَوَاقِيتِ مَخْصُوصَةٌ بِالصُّوَرِ الَّتِي أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِيهَا، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ بِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ الْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِجَمْعِ الصَّلَاة] (1261) فَصْلٌ: وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَلْحَقهُ بِهِ بِتَأْدِيَةِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْمَرِيضُ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؟ فَقَالَ: إنِّي لِأَرْجُوَ لَهُ ذَلِكَ إذَا ضَعُفَ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَرِيضُ مُخَيَّر فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَالْمُسَافِرِ فِي جَمْعِ الصَّلَاةِ] فَصْلٌ: وَالْمَرِيضُ مُخَيَّرٌ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَالْمُسَافِرِ. فَإِنْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَافِرِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ فَإِنَّمَا يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى، لِأَنَّ السَّلَفَ إنَّمَا كَانُوا يَجْمَعُونَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ يُفْضِي إلَى لُزُومِ الْمَشَقَّةِ، وَالْخُرُوجِ فِي الظُّلْمَةِ، أَوْ طُولِ الِانْتِظَارِ فِي الْمَسْجِدِ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ لِلْمَغْرِبِ، فَإِذَا حَبَسَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، كَانَ أَشَقَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَرُبَّمَا يَزُولُ الْعُذْرُ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْأُولَى، فَيَبْطُلُ الْجَمْعُ وَيَمْتَنِعُ. وَإِنْ اخْتَارُوا تَأْخِيرَ الْجَمْعِ، جَازَ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا شَيْئًا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، إذَا اخْتَلَطَ الظَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، كَذَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ أُمَرَاؤُنَا إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الْمَطِيرَةِ أَبْطَئُوا بِالْمَغْرِبِ، وَعَجَّلُوا الْعِشَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مَعَهُمْ، وَلَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَرَأَيْت الْقَاسِمَ وَسَالِمًا يُصَلِّيَانِ مَعَهُمْ، فِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَكَأَنَّ سُنَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ عِنْدَك أَنْ يُجْمَعَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَفِي السَّفَرِ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ. قَالَ: نَعَمْ. [فَصْلٌ الْجَمْعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ] (1263) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَجُوزُ إذَا كَانَتْ حَاجَةٌ أَوْ شَيْءٌ، مَا لَمْ يَتَّخِذْهُ عَادَةً؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ.» فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وَلَنَا، عُمُومُ أَخْبَارِ التَّوْقِيتِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَمَلْنَاهُ عَلَى حَالَةِ الْمَرَضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَنْ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 مَشَقَّةٌ، كَالْمُرْضِعِ، وَالشَّيْخِ الضَّعِيفِ، وَأَشْبَاهِهِمَا مِمَّنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِي تَرْكِ الْجَمْعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَالثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عَمْرُو: قُلْت: لَجَابِرٍ أَبَا الشَّعْثَاءِ، أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ؟ قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْجَمْع] (1264) فَصْلٌ: قَالَ وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْجَمْعِ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْآخَرُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَالتَّفْرِيعُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ. وَمَوْضِعُ النِّيَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجَمْعِ، فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَمَوْضِعُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهَا نِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَيْهَا، فَاعْتُبِرَتْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، كَنِيَّةِ الْقَصْرِ. وَالثَّانِي مَوْضِعُهَا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ الْأُولَى إلَى سَلَامِهَا، أَيَّ ذَلِكَ نَوَى فِيهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْجَمْعِ حِينَ الْفَرَاغِ مِنْ آخِرِ الْأُولَى إلَى الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِذَا لَمْ تَتَأَخَّرْ النِّيَّةُ عَنْهُ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فَمَوْضِعُ النِّيَّةِ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِهِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ مَا يُصَلِّيهَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَخَّرَهَا عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ صَارَتْ قَضَاءً لَا جَمْعًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ النِّيَّةِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ مَا يُدْرِكُهَا بِهِ، وَهُوَ رَكْعَةٌ، أَوْ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَوْلَى، فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا مِنْ الْقَدْرِ الَّذِي يَضِيقُ عَنْ فِعْلِهَا حَرَامٌ. [فَصْل فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُعْتُبِرَتْ الْمُوَاصَلَةُ بَيْنَهُمَا] (1265) فَصْلٌ: فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُعْتُبِرَتْ الْمُوَاصَلَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا تَفْرِيقًا يَسِيرًا. فَإِنْ أَطَالَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بَطَلَ الْجَمْعُ. لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُتَابَعَةُ أَوْ الْمُقَارَنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ الْمُتَابَعَةُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُقَارَنَةُ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا كَثِيرًا، بَطَلَ الْجَمْعُ، سَوَاءٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِنَوْمٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ شُغْلٍ أَوْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ الْمَشْرُوطُ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَمْنَعْ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْمَرْجِعُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، لَا حَدَّ لَهُ سِوَى ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ وَالْوُضُوءِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيرِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالْإِحْرَازِ وَالْقَبْضِ، وَمَتَى احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَعَلَهُ إذَا لَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يَسِيرٍ، لَمْ يَبْطُلْ الْجَمْعُ، وَإِنْ صَلَّى بَيْنَهُمَا السُّنَّةَ، بَطَلَ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِصَلَاةٍ فَبَطَلَ الْجَمْعُ، كَمَا لَوْ صَلَّى بَيْنَهُمَا غَيْرَهَا. وَعَنْهُ: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ يَسِيرٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَضَّأَ. وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، جَازَ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى الْأُولَى فَالثَّانِيَةُ فِي وَقْتِهَا، لَا تَخْرُجُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ كَوْنِهَا مُؤَدَّاةً. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْمُتَابَعَةَ مُشْتَرَطَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ حَقِيقَتُهُ ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ التَّفْرِيقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى بَعْدَ وُقُوعِهَا صَحِيحَةً لَا تَبْطُلُ بِشَيْءٍ يُوجَدُ بَعْدَهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا تَقَعُ إلَّا فِي وَقْتِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 [فَصْلٌ مَتَى جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُعْتُبِرَ وُجُودُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ] (1266) فَصْلٌ: وَمَتَى جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُعْتُبِرَ وُجُودُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ حَالَ افْتِتَاحِ الْأُولَى وَالْفَرَاغِ مِنْهَا وَافْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ، فَمَتَى زَالَ الْعُذْرُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُبَحْ الْجَمْعُ. وَإِنْ زَالَ الْمَطَرُ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى، ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، أَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالثَّانِيَةِ، جَازَ الْجَمْعُ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ انْقِطَاعُهُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ وُجِدَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى، وَفِي وَقْتِ الْجَمْعِ، وَهُوَ آخِرُ الْأُولَى وَأَوَّلُ الثَّانِيَةِ، فَلَمْ يَضُرَّ عَدَمُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ الْأُولَى، انْقَطَعَ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ، وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوْ عَادَ فَنَوَى السَّفَرَ، لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّرَخُّصُ حَتَّى يُفَارِقَ الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالثَّانِيَةِ، أَوْ دَخَلَتْ بِهِ السَّفِينَةُ بَلَدَهُ فِي أَثْنَائِهَا، احْتَمَلَ أَنْ يُتِمَّهَا، وَيَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى انْقِطَاعِ الْمَطَرِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَلِبَ نَفْلًا، وَيَبْطُلَ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ رُخَصِ السَّفَرِ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ، وَلِأَنَّهُ زَالَ شَرْطُهَا فِي أَثْنَائِهَا، أَشْبَهَ بِسَائِرِ شُرُوطِهَا. وَيُفَارِقُ انْقِطَاعَ الْمَطَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ انْقِطَاعُهُ؛ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي أَنْ يَخْلُفَهُ عُذْرٌ مُبِيحٌ، وَهُوَ الْوَحْلُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَرِيضِ يَبْرَأُ وَيَزُولُ عُذْرُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ. فَأَمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ اُعْتُبِرَ بَقَاءُ الْعُذْرِ إلَى حِينِ دُخُولِ وَقْتِهَا، فَإِنْ زَالَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، كَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ، وَالْمَطَرِ يَنْقَطِعُ، لَمْ يُبَحْ الْجَمْعُ؛ لِزَوَالِ سَبَبِهِ. وَإِنْ اسْتَمَرَّ إلَى حِينِ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، جَمَعَ، وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا وَاجِبَتَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِمَا. [فَصْلٌ أَتَمَّ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ] (1267) فَصْلٌ: وَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، أَجْزَأَتْهُ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الثَّانِيَةُ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً مُجْزِيَةً عَنْ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا، فَلَمْ تَشْتَغِلْ الذِّمَّةُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ حَالَ الْعُذْرِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِزَوَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ إذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا] (1268) فَصْلٌ: وَإِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا، وَيُوتِرُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهَا تَابِعَةٌ لَهَا، فَيَتْبَعُهَا فِي فِعْلِهَا وَوَقْتِهَا، وَالْوِتْرُ وَقْتُهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَدَخَلَ وَقْتُهُ. [فَصْل صَلَّى إحْدَى صَلَاتِي الْجَمْعِ مَعَ إمَامٍ وَصَلَّى الثَّانِيَةَ مَعَ إمَامٍ آخَرَ] (1269) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى إحْدَى صَلَاتَيْ الْجَمْعِ مَعَ إمَامٍ، وَصَلَّى الثَّانِيَةَ مَعَ إمَامٍ آخَرَ، وَصَلَّى مَعَهُ مَأْمُومٌ فِي إحْدَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الصَّلَاتَيْنِ، وَصَلَّى مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ مَأْمُومٌ ثَانٍ، صَحَّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَحَدُ مَنْ يَتِمُّ بِهِ الْجَمْعُ، فَلَمْ يَجُزْ اخْتِلَافُهُ، وَإِذَا اُشْتُرِطَ دَوَامُهُ كَالْعُذْرِ اُشْتُرِطَ دَوَامُهُ فِي الصَّلَاتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا، وَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ بِنِيَّتِهَا، فَلَمْ يُشْتَرَطْ اتِّحَادُ الْإِمَامِ وَلَا الْمَأْمُومِ، كَغَيْرِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ أَحَدُ مَنْ يَتِمُّ بِهِ الْجَمْعُ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ الْجَمْعُ مُنْفَرِدًا وَفِي الْمَطَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْجَمْعَ فِي الْمَطَرِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْجَمَاعَةِ. فَاَلَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْجَمْعُ الْجَمَاعَةُ، لَا عَيْنُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَلَمْ تَخْتَلَّ الْجَمَاعَةُ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَوْ ائْتَمَّ الْمَأْمُومُ بِإِمَامٍ لَا يَنْوِي الْجَمْعَ، فَنَوَاهُ الْمَأْمُومُ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى الْمَأْمُومُ الثَّانِيَةَ، جَازَ. لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ مُفَارَقَةَ إمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لِعُذْرِ، فَفِي الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ نِيَّتَهُمَا لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا نَوَى أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى إتْمَامَ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا لَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِمُقِيمِينَ، فَنَوَى الْجَمْعَ، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْأُولَى قَامَ فَصَلَّى الثَّانِيَةَ، جَازَ عَلَى هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى أَحَدَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ يُصَلُّونَ الثَّانِيَةَ، فَأَمَّهُمْ فِيهَا، أَوْ صَلَّى مَعَهُمْ مَأْمُومًا، جَازَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ نَسِيَ صَلَاةَ حَضَرٍ فَذَكَرِهَا فِي السَّفَرِ] (1270) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةَ حَضَرٍ، فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ، أَوْ صَلَاةَ سَفَرٍ، فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ، صَلَّى فِي الْحَالَتَيْنِ صَلَاةَ حَضَرٍ) . نَصَّ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْأَثْرَمِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَمَّا الْمُقِيمُ إذَا ذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ، فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَإِذَا نَسِيَهَا فِي السَّفَرِ، فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ، صَلَّى أَرْبَعًا بِالِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ السَّاعَةَ، فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ: " فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ". أَمَّا إذَا نَسِيَ صَلَاةَ الْحَضَرِ، فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ، فَعَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إجْمَاعًا، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا أَرْبَعًا، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ، وَقَدْ فَاتَهُ أَرْبَعٌ. وَأَمَّا إنْ نَسِيَ صَلَاةَ السَّفَرِ، فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ احْتِيَاطًا. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُد، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلِّيهَا صَلَاةَ سَفَرٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ، وَلَمْ يَفُتْهُ إلَّا رَكْعَتَانِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، فَيَبْطُلُ بِزَوَالِهِ، كَالْمَسْحِ ثَلَاثًا. وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ". وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي الْحَضَرِ، غَلَبَ فِيهَا حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ دَخَلَتْ بِهِ السَّفِينَةُ الْبَلَدَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَكَالْمَسْحِ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْ، وَبِالْمُتَيَمِّمِ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، فَقَضَاهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 [فَصْلٌ نَسِيَ صَلَاةً فِي سَفَرٍ ثُمَّ ذَكَرَهَا فِيهِ] (1271) فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَهَا فِي سَفَرٍ، فَذَكَرَهَا فِيهِ، قَضَاهَا مَقْصُورَةً، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي السَّفَرِ، وَفُعِلَتْ فِيهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا. وَإِنْ ذَكَرَهَا فِي سَفَرٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَسَوَاءٌ ذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ لَزِمَتْهُ تَامَّةً؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا تَامَّةً بِذِكْرِهِ إيَّاهَا. فَبَقِيَتْ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا وَفِعْلَهَا فِي السَّفَرِ، فَكَانَتْ صَلَاةَ سَفَرٍ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْحَضَرِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَصْرِ كَوْنَ الصَّلَاةِ مُؤَدَّاةً؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَقْصُورَةٌ، فَاشْتُرِطَ لَهَا الْوَقْتُ، كَالْجُمُعَةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ هَذَا اشْتِرَاطٌ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى، وَيُشْتَرَطُ لَهَا الْخُطْبَتَانِ وَالْعَدَدُ وَالِاسْتِيطَانُ، فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْوَقْتِ لَهَا، بِخِلَافِ صَلَاةِ السَّفَرِ. [فَصْلٌ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ] (1272) فَصْلٌ: وَإِذَا سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، قَصْرُهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لَهُ قَصْرَهَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ سَافَرَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا. أَشْبَهَ مَا لَوْ سَافَرَ قَبْلَ وُجُوبِهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ قَصْرُهَا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ، فَلَزِمَهُ إتْمَامُهَا، كَمَا لَوْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، أَوْ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِهَا، وَفَارَقَ مَا قَبْلَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ الصَّلَاةَ مَعَ مُقِيمٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ] (1273) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ مَعَ مُقِيمٍ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، ائْتَمَّ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ مَتَى ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ أَوْ رَكْعَةً، أَوْ أَقَلَّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمُسَافِرِ، يَدْخُلُ فِي تَشَهُّدِ الْمُقِيمِينَ؟ قَالَ: يُصَلِّي أَرْبَعًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ إِسْحَاقُ: لِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ تَزِدْ بِالِائْتِمَامِ، كَالْفَجْرِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَتَمِيمُ بْنُ حَذْلَمَ، فِي الْمُسَافِرِ يُدْرِكُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ: يُجْزِيَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ دُونَهَا قَصَرَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . وَلِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَمَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهَا. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، وَأَرْبَعًا إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ؟ فَقَالَ: تِلْكَ السُّنَّةُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَقَوْلُهُ: السُّنَّةُ. يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ فِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا. قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّاهَا أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى رَكْعَتَيْنِ، فَلَا يُصَلِّيهَا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ كَالْجُمُعَةِ وَمَا ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا؛ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ، وَإِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ يُخَالِفُ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ رَجَعَ إلَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» . وَمُفَارَقَةُ إمَامِهِ اخْتِلَافٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ إمْكَانِ مُتَابَعَتِهِ. وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُسَافِرُونَ خَلْفَ مُسَافِرٍ فَأَحْدَثَ، وَاسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا آخَرَ، فَلَهُمْ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتَمُّوا بِمُقِيمٍ. وَإِنْ اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا، لَزِمَهُمْ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُمْ ائْتَمُّوا بِمُقِيمٍ، وَلِلْإِمَامِ الَّذِي أَحْدَثَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ. وَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُونَ خَلْفَ مُقِيمٍ، فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا، لَزِمَهُمْ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُمْ ائْتَمُّوا بِمُقِيمٍ، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ. [فَصْلٌ أَحْرَمَ الْمُسَافِرُ خَلْفَ مُقِيمٍ] (1274) فَصْلٌ: وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُسَافِرُ خَلْفَ مُقِيمٍ، أَوْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ، أَوْ مَنْ يَشُكُّ هَلْ هُوَ مُقِيمٌ أَوْ مُسَافِرٌ؟ لَزِمَ الْإِتْمَامُ، وَإِنْ قَصَرَ إمَامُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ تَامَّةً، فَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ قَصْرِهَا مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ إتْمَامِهَا، وَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْإِمَامَ مُسَافِرٌ؛ لِرُؤْيَةِ حِلْيَةِ الْمُسَافِرِينَ عَلَيْهِ وَآثَارِ السَّفَرِ، فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ، فَإِنْ قَصَرَ إمَامُهُ قَصَرَ مَعَهُ، وَإِنْ أَتَمَّ لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ، وَإِنْ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، سَوَاءٌ قَصَرَ إمَامُهُ، أَوْ أَتَمَّ، اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ. وَإِنْ نَوَى الْقَصْرَ فَأَحْدَثَ إمَامُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ إمَامَهُ مُسَافِرٌ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِهِ، وَقَدْ أُبِيحَتْ لَهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ، بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ احْتِيَاطًا. [فَصْلٌ صَلَّى الْمُسَافِرُ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِمُسَافِرِينَ] (1275) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِمُسَافِرِينَ، فَفَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَأَحْدَثَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا، لَزِمَ الطَّائِفَتَيْنِ الْإِتْمَامُ، لِوُجُودِ الِائْتِمَامِ بِمُقِيمٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأُولَى، أَتَمَّتْ الثَّانِيَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَحْدَهَا، لِاخْتِصَاصِهَا بِالِائْتِمَامِ بِالْمُقِيمِ. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا، فَاسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَعَلَى الْجَمِيعِ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِاقْتِدَائِهِ بِالْمُقِيمِ، فَصَارَ كَالْمُقِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ اسْتِخْلَافُهُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْأُولَى، فَعَلَيْهَا الْإِتْمَامُ؛ لِائْتِمَامِهَا بِمُقِيمٍ، وَيَقْصُرُ الْإِمَامُ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ. وَإِنْ اسْتَخْلَفَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِيَةِ مَعَهُ، فَعَلَى الْجَمِيعِ الْإِتْمَامُ، وَلِلْمُسْتَخْلَفِ الْقَصْرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ خَلْفَ مُسَافِرٍ] (1276) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ خَلْفَ مُسَافِرٍ، أَتَمَّ الْمُقِيمُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا ائْتَمَّ بِالْمُسَافِرِ، وَسَلَّمَ الْمُسَافِرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، أَنَّ عَلَى الْمُقِيمِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «شَهِدْتُ الْفَتْحَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا، فَإِنَّا سَفَرٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ رَكَعَاتِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُسَافِرٍ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا صَلَّى بِمُقِيمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ عَقِيبَ تَسْلِيمِهِ] (1277) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا صَلَّى بِمُقِيمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ عَقِيبَ تَسْلِيمِهِ: أَتِمُّوا، فَإِنَّا سَفَرٌ. لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ عَلَى الْجَاهِلِ عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَيَظُنُّ أَنَّ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَانِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُثْمَانَ إنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ حَجُّوا، فَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ. [فَصْلٌ أَمَّ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمِينَ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ] (1278) فَصْلٌ: وَإِذَا أَمَّ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمِينَ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ صَحِيحَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْمُسَافِرِينَ مَعَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ نَفْلٌ مِنْ الْإِمَامِ، فَلَا يَؤُمُّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِنِيَّتِهِ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ وَاجِبًا، وَلَوْ كَانَتْ نَفْلًا فَائْتِمَامُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ جَائِزٌ، عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلٌ أَمَّ الْمُسَافِرُ مُسَافِرِينَ فَنَسِيَ فَصَلَّاهَا تَامَّةً] (1279) فَصْلٌ: وَإِنْ أَمَّ الْمُسَافِرُ مُسَافِرِينَ، فَنَسِيَ فَصَلَّاهَا تَامَّةً، صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ، وَلَا يَلْزَمُ لِذَلِكَ سُجُودُ سَهْوٍ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهَا، فَلَا يَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهَا، كَزِيَادَاتِ الْأَقْوَالِ، مِثْلِ الْقِرَاءَةِ فِي السُّجُودِ وَالْقُعُودِ، وَهَلْ يُشْرَعُ السُّجُودُ لَهَا؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الزِّيَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَاخْتَارَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى سُجُودٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَصْلِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى جُبْرَانٍ. وَوَجْهُ مَشْرُوعِيَّتِهِ أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ نَقَصَتْ الْفَضِيلَةَ، وَأَخَلَّتْ بِالْكَمَالِ، فَأَشْبَهَتْ الْقِرَاءَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَقِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. وَإِذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ بَعْدَ قِيَامِهِ إلَى الثَّالِثَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ، وَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْإِتْمَامِ نِيَّتُهُ، أَوْ الِائْتِمَامُ بِمُقِيمٍ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ قِيَامَهُ لِسَهْوٍ، وَسَبَّحُوا بِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ مُتَابَعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَهْوٌ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ، وَلَهُمْ مُفَارَقَتُهُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ، كَمَا لَوْ قَامَ إلَى ثَالِثَةٍ فِي الْفَجْرِ، وَإِنْ تَابَعُوهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْإِمَامِ، فَلَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ بِمُتَابَعَتِهِ فِيهَا، كَزِيَادَاتِ الْأَقْوَالِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ فَارَقُوا الْإِمَامَ، وَأَتَمُّوا، صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، فَمَعَ مُوَافَقَتِهِ أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي: تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا رَكْعَتَيْنِ عَمْدًا. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا هَلْ قَامَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، لَزِمَهُمْ مُتَابَعَتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُفَارَقَتُهُ، لِأَنَّ حُكْمَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ ثَابِتٌ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. [مَسْأَلَةٌ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً] (1280) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً، أَتَمَّ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي تُلْزِمُ الْمُسَافِرَ الْإِتْمَامَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا، هِيَ مَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالْمَرُّوذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَعَنْهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا قَصَرَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ حَدُّ الْقِلَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ مَنْسَكِهِ ثَلَاثًا» . وَلَمَّا أَخْلَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْلَ الذِّمَّةِ، ضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا ثَلَاثًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حُكْمِ السَّفَرِ، وَمَا زَادَ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَعَ الْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ أَتَمَّ، وَإِنْ نَوَى دُونَ ذَلِكَ قَصَرَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا قَدِمْتَ وَفِي نَفْسِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ، قَالَ: إذَا أَقَمْتَ أَرْبَعًا فَصَلِّ أَرْبَعًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يُتِمُّ الصَّلَاةَ الَّذِي يُقِيمُ عَشْرًا، وَيَقْصُرُ الصَّلَاةَ الَّذِي يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ، أَخْرُجُ غَدًا، شَهْرًا. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِهِ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا قَدِمْتَ بَلْدَةً، فَلَمْ تَدْرِ مَتَى تَخْرُجُ، فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ، وَإِنْ قُلْتَ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ، أَخْرُجُ غَدًا. فَأَقَمْتَ عَشْرًا، فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ إذَا أَقَمْنَا تِسْعَ عَشْرَةَ نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا زِدْنَا عَلَى ذَلِكَ أَتْمَمْنَا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إلَى أَنْ تَقْدَمَ مِصْرًا، فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ وَصُمْ. وَقَالَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 عَائِشَةُ: إذَا وَضَعْتَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ. وَكَانَ طَاوُسٌ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى أَرْبَعًا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَوْمَ الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ، وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالْأَبْطَحِ يَوْمَ الثَّامِنِ» فَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى إقَامَتِهَا. قَالَ: فَإِذَا أَجْمَعَ أَنْ يُقِيمَ كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَرَ، وَإِذَا أَجْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَذْكُرُ حَدِيثَ أَنَسٌ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ. فَقَالَ: هُوَ كَلَامٌ لَيْسَ يَفْقَهُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصُبْحِ رَابِعَةٍ وَخَامِسَةٍ وَسَادِسَةٍ وَسَابِعَةٍ. ثُمَّ قَالَ: وَثَامِنَةِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَتَاسِعَةٍ وَعَاشِرَةٍ. فَإِنَّمَا وَجْهُ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ حَسَبُ مُقَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَمِنًى، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ بِهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ تَمَامُ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً يَقْصُرُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَامَ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً يَقْصُرُ، وَهِيَ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي خِلَافِ قَوْلِ مَنْ حَدَّهُ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْهُمْ، وَذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ خِلَافَ مَا حَكَوْهُ عَنْهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، وَلَمْ أَجِدْ مَا حَكَوْهُ عَنْهُ فِيهِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إقَامَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجْمِعْ الْإِقَامَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ زَمَنَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ حُنَيْنًا، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ إجْمَاعُ الْمُقَامِ. وَهَذِهِ هِيَ إقَامَتُهُ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَصَدَ بَلَدًا بِعَيْنِهِ فَوَصَلَهُ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْإِقَامَةِ بِهِ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ] (1281) فَصْلٌ: وَمَنْ قَصَدَ بَلَدًا بِعَيْنِهِ، فَوَصَلَهُ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْإِقَامَةِ بِهِ مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا حُكْمُ سَفَرِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى إقَامَةٍ تَزِيدُ عَلَى إقَامَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ: فَلَهُ الْقَصْرُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي أَسْفَارِهِ يَقْصُرُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَحِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا مَا أَقَامَ كَانَ يَقْصُرُ فِيهَا، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُرِيدَ بَلَدًا آخَرَ، كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 [فَصْلٌ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى بَلَدٍ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَالٌ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ] (1282) فَصْلٌ: وَإِنْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى بَلَدٍ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَالٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي مَوْضِعٍ: يُتِمُّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يُتِمُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَارًّا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إذَا مَرَّ بِمَزْرَعَةٍ لَهُ أَتَمَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَرَّ بِقَرْيَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ أَتَمَّ، إذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَقْصُرُ، مَا لَمْ يُجْمِعْ عَلَى إقَامَةِ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى أَرْبَعٍ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا قَدِمْتَ عَلَى أَهْلٍ لَكَ أَوْ مَالٍ، فَصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ. وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ بِبَلَدٍ فِيهِ أَهْلُهُ، فَأَشْبَهَ الْبَلَدَ الَّذِي سَافَرَ مِنْهُ. [فَصْلٌ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ] (1283) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ، فَلَا يُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَهَذَا يُصَلِّي بِعَرَفَةَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ أَنْشَأَ السَّفَرَ، فَهُوَ فِي سَفَرٍ مِنْ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مُقِيمًا بِبَغْدَادَ، فَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْكُوفَةِ، فَعَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِالنَّهْرَوَانِ، ثُمَّ رَجَعَ فَمَرَّ بِبَغْدَادَ ذَاهِبًا إلَى الْكُوفَةِ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إذَا كَانَ يَمُرُّ بِبَغْدَادَ مُجْتَازًا، لَا يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا. وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ إلَى عَرَفَةَ فِي نِيَّتِهِ الْإِقَامَةُ بِمَكَّةَ إذَا رَجَعَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ بِعَرَفَةَ، وَلِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ لَا يَقْصُرُونَ. وَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ خَلْفَ مَكِّيٍّ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَأَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ يَقْصُرُ بِتَأْوِيلٍ، فَصَحَّتْ صَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ. [فَصْلٌ خَرَجَ الْمُسَافِرُ فَذَكَرَ حَاجَةً فَرَجَعَ إلَيْهَا هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ] (1284) فَصْلٌ: وَإِذَا خَرَجَ الْمُسَافِرُ، فَذَكَرَ حَاجَةً، فَرَجَعَ إلَيْهَا، فَلَهُ الْقَصْرُ فِي رُجُوعِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يُقِيمَ إذَا رَجَعَ مُدَّةً تَقْطَعُ الْقَصْرَ، أَوْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. هَكَذَا حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَوْلُهُ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَتَمَّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَارًّا. يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَصَدَ أَخْذَ حَاجَتِهِ، وَالرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 إقَامَةٍ، أَنَّهُ يَقْصُرُ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَى لَهُ الْقَصْرَ، مَا لَمْ يَنْوِ فِي رُجُوعِهِ الْإِقَامَةَ فِي الْبَلَدِ أَرْبَعًا، قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَتَمَّ أَحَبُّ إلَيَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُتِمُّ حَتَّى يَخْرُجَ فَاصِلًا لِلثَّانِيَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِخُرُوجِهِ، وَلَمْ تُوجَدْ إقَامَةٌ تَقْطَعُ حُكْمَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتَى قَرْيَةً غَيْرَ مَخْرَجِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ الْيَوْمَ أَخْرُجُ وَغَدًا أَخْرُجُ قَصَرَ وَإِنْ أَقَامَ شَهْرًا] (1285) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ قَالَ الْيَوْمَ أَخْرُجُ، وَغَدًا أَخْرُجُ. قَصَرَ، وَإِنْ أَقَامَ شَهْرًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الْإِقَامَةَ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَلَهُ الْقَصْرُ، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ، مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا، أَوْ لِجِهَادِ عَدُوٍّ، أَوْ حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ مَرَضٌ، وَسَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْقِضَاءُ الْحَاجَةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، أَوْ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ أَنْ يَحْتَمِلَ انْقِضَاؤُهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سِنُونَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ جَابِرٌ: «أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ". وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِعَمَّانَ أَوْ سَلْمَانَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي أَرْبَعًا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِبَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُهَا سَعْدٌ، وَنُتِمُّهَا. وَقَالَ نَافِعٌ: أَقَامَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ. وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَقَامَ بِالشَّامِ سَنَتَيْنِ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَامَهُرْمُزَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. وَعَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: أَقَمْتُ مَعَهُ سَنَتَيْنِ بِكَابُلَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُجْمِعُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُقِيمُونَ بِالرَّيِّ السَّنَةَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَبِسِجِسْتَانَ السَّنَتَيْنِ، يُجْمِعُونَ وَلَا يَصُومُونَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: وَيَقْصُرُ إذَا قَالَ: الْيَوْمَ أَخْرُجُ، غَدًا أَخْرُجُ - شَهْرًا. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ نِهَايَةَ الْقَصْرِ إلَى شَهْرٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِلْقَصْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَزَمَ عَلَى إقَامَةٍ طَوِيلَةٍ فِي رُسْتَاقٍ يَتَنَقَّلُ فِيهِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ] (1286) فَصْلٌ: وَإِنْ عَزَمَ عَلَى إقَامَةٍ طَوِيلَةٍ فِي رُسْتَاقٍ، يَتَنَقَّلُ فِيهِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ، لَا يُجْمِعُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 مُدَّةً تُبْطِلُ حُكْمَ السَّفَرِ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ عَشْرًا بِمَكَّةَ وَعَرَفَةَ وَمِنًى، فَكَانَ يَقْصُرُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوَرِّقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، قُلْتُ: إنِّي رَجُلٌ تَاجِرٌ، آتِي الْأَهْوَازَ، فَأَنْتَقِلُ فِي قُرَاهَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ، فَأُقِيمُ الشَّهْرَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: تَنْوِي الْإِقَامَةَ؟ . قُلْتُ: لَا. قَالَ: لَا أَرَاك إلَّا مُسَافِرًا، صَلِّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُتَنَقِّلَ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَنْزِلٍ إلَى مَنْزِلٍ. [فَصْلٌ دَخَلَ بَلَدًا فَقَالَ إنْ لَقِيتُ فُلَانًا أَقَمْتُ وَإِنْ لَمْ أَلْقَهُ لَمْ أُقِمْ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ] (1287) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ بَلَدًا، فَقَالَ: إنْ لَقِيتُ فُلَانًا أَقَمْتُ، وَإِنْ لَمْ أَلْقِهِ لَمْ أُقِمْ. لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ سَفَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِحُكْمِ السَّفَرِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ نَازِلًا وَسَائِرًا عَلَى الرَّاحِلَةِ] (1288) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ نَازِلًا وَسَائِرًا عَلَى الرَّاحِلَةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ.» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَرَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي السَّفَرِ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوَتْرَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ وَلَمَّا نَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَأَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِالتَّطَوُّعِ فِي السَّفَرِ بَأْسٌ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَافِرُونَ، فَيَتَطَوَّعُونَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَثِيرٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَتَطَوَّعُ مَعَ الْفَرِيضَةِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، إلَّا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَوْمًا يُسَبِّحُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ صَلَاتِي، يَا ابْنَ أَخِي: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. وَذَكَرَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْحَضَرِ، فَكُنَّا نُصَلِّي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَكُنَّا نُصَلِّي فِي السَّفَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا، فَمَا رَأَيْتُهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ذَكَرْنَاهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِفِعْلِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِهَا، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 [كِتَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] ِ الْأَصْلُ فِي فَرْضِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَأَمَرَ بِالسَّعْيِ، وَيَقْتَضِي الْأَمْرُ الْوُجُوبَ، وَلَا يَجِبُ السَّعْيُ إلَّا إلَى الْوَاجِبِ. وَنَهَى عَنْ الْبَيْعِ؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِ عَنْهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ مِنْ أَجْلِهَا، وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ هَاهُنَا الذَّهَابُ إلَيْهَا، لَا الْإِسْرَاعُ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْعَدْوُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس: 8] . وَقَالَ: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وَقَالَ: {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] . وَقَالَ: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] . وَأَشْبَاهُ هَذَا لَمْ يُرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَدْوِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، مِنْ عَامِي هَذَا، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي، وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ، اسْتِخْفَافًا بِهَا، أَوْ جُحُودًا لَهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا وَلَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا وَلَا حَجَّ لَهُ، أَلَا وَلَا صَوْمَ لَهُ، وَلَا بِرَّ لَهُ، حَتَّى يَتُوبَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ] (1289) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ) الْمُسْتَحَبُّ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 فِي ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقْتٌ لِلْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا قَبْلَهُ. وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ إقَامَتِهَا عَقِيبَ الزَّوَالِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ، فَلَوْ انْتَظَرُوا الْإِبْرَادَ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِلْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرٍ لِيُسْمِعَ النَّاسَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: «أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى فُلَانَةَ - امْرَأَةٍ سَمَّاهَا سَهْلٌ - أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ: «مَا أَخَذْتُ ق إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ» . وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا، فَلَوْ خَطَبَ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ عَلَى رَبْوَةٍ، أَوْ وِسَادَةٍ، أَوْ عَلَى رَاحِلَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُصْنَعَ الْمِنْبَرُ يَقُومُ عَلَى الْأَرْضِ اهـ. (1290) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا صَنَعَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا اسْتَقْبَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَرَدُّوا عَلَيْهِ وَجَلَسَ] (1291) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا اسْتَقْبَلَ النَّاسَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ، وَجَلَسَ) يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَقْبَلَ الْحَاضِرِينَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَجَلَسَ إلَى أَنْ يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ أَذَانِهِمْ. كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا عَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ سَلَّمَ، وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسَنُّ السَّلَامُ عَقِيبَ الِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ حَالَ خُرُوجِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَلَّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ جَالِسًا، فَإِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ تَوَجَّهَ النَّاسَ ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ. عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ سُورَةً، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلَانِهِ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَمَتَى سَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ آكَدُ مِنْ ابْتِدَائِهِ. ثُمَّ يَجْلِسُ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ لِيَسْتَرِيحَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرَغَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الْمُؤَذِّنُونَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَلَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَةٌ إذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1292) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ، وَهَذَا الْأَذَانُ الَّذِي يَمْنَعُ الْبَيْعَ، وَيُلْزِمُ السَّعْيَ، إلَّا لِمَنْ مَنْزِلُهُ فِي بُعْدٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ) أَمَّا مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ عَقِيبَ صُعُودِ الْإِمَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ يُؤَذَّنُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: «كَانَ النِّدَاءُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ كَثُرَ النَّاسُ، فَزَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " هَذَا الْأَذَانُ الَّذِي يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَيُلْزِمُ السَّعْيَ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ، وَنَهَى عَنْ الْبَيْعِ بَعْدَ النِّدَاءِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: «إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» وَالنِّدَاءُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ النِّدَاءُ عَقِيبَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ. وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْبَيْعَ يَحْرُمُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَهُ عَلَى النِّدَاءِ، لَا عَلَى الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا إدْرَاكُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا دُونَ مَا ذَكَرَهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ لَمَا اخْتَصَّ بِالزَّوَالِ، فَإِنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتٌ أَيْضًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا لَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ بِالسَّعْيِ وَقْتَ النِّدَاءِ، فَعَلَيْهِ السَّعْيُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ، وَالسَّعْيُ قَبْلَ النِّدَاءِ مِنْ ضَرُورَةِ إدْرَاكِهَا، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ، كَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ لِلْوُضُوءِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ، وَنَحْوِهِمَا. [فَصْلٌ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ وَوُجُوبُ السَّعْيِ يَخْتَصُّ بِالْمُخَاطَبِينَ بِالْجُمُعَةِ] (1293) فَصْلٌ: وَتَحْرِيمُ الْبَيْعِ، وَوُجُوبُ السَّعْيِ، يَخْتَصُّ بِالْمُخَاطَبِينَ بِالْجُمُعَةِ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمُسَافِرِينَ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ رِوَايَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ مَنْ أَمَرَهُ بِالسَّعْيِ، فَغَيْرُ الْمُخَاطَبِ بِالسَّعْيِ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُعَلَّلٌ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِمْ. فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ، أَوْ كَانَ إنْسَانًا مُقِيمًا بِقَرْيَةٍ لَا جُمُعَةَ عَلَى أَهْلِهَا، لَمْ يَحْرُمْ الْبَيْعُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَمْ يُكْرَهْ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مُخَاطَبًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُخَاطَبٍ، حَرُمَ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ، وَكُرِهَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْرُمَ أَيْضًا: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 [فَصْلٌ لَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْبَيْعِ مِنْ الْعُقُودِ] (1294) فَصْلٌ: وَلَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْبَيْعِ مِنْ الْعُقُودِ، كَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْبَيْعِ، وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي الشَّغْلِ عَنْ السَّعْيِ؛ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ. [فَصْلٌ لِلسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَقْتَانِ] (1295) فَصْلٌ: وَلِلسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَقْتَانِ: وَقْتُ وُجُوبٍ، وَوَقْتُ فَضِيلَةٍ. فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَمِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَكُلَّمَا كَانَ أَبْكَرَ كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ ". وَالرَّوَاحُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالْغُدُوُّ قَبْلَهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . وَيُقَالُ: تَرَوَّحْتُ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَرُوحُ مِنْ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ: خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى الْجُمُعَةِ، فَوَجَدْتُ ثَلَاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ، فَقَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ، إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ، صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ: «وَمَشَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ.» قَوْلُهُ " بَكَّرَ " أَيْ خَرَجَ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، وَهِيَ أَوَّلُهُ " وَابْتَكَرَ " بَالَغَ فِي التَّبْكِيرِ، أَيْ جَاءَ فِي أَوَّلِ الْبُكْرَةِ، عَلَى مَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَرُوحُ مِنْ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ابْتَكَرَ الْعِبَادَةَ مَعَ بُكُورَةٍ. وَقِيلَ: ابْتَكَرَ الْخُطْبَةَ. أَيْ: حَضَرَ الْخُطْبَةَ، مَأْخُوذٌ مِنْ بَاكُورَةِ الثَّمَرَةِ، وَهِيَ أَوَّلُهَا. وَغَيْرُ هَذَا أَجْوَدُ؛ لِأَنَّ مَنْ جَاءَ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، لَزِمَ أَنْ يَحْضُرَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ وَقَوْلُهُ: " غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ " أَيْ: جَامَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ. وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ» . قَالَ أَحْمَدُ: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: " مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ " مُشَدَّدَةً، يُرِيدُ يُغَسِّلُ أَهْلَهُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يَطَأَ وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِنَفْسِهِ، وَأَغَضَّ لِطَرْفِهِ فِي طَرِيقِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَكِيعٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ غَسَّلَ رَأْسَهُ، وَاغْتَسَلَ فِي بَدَنِهِ. حُكِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ. وَقَوْلُهُ: " غُسْلَ الْجَنَابَةِ " عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَيْ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَكِّرُ بِهَا، وَمَتَى خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ، فَلَمْ يُكْتَبْ مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَيُّ فَضِيلَةٍ لِهَذَا؟ وَإِنْ أَخَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا دَخَلَ فِي النَّهْيِ وَالذَّمِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي جَاءَ يَتَخَطَّى النَّاسَ: «رَأَيْتُكَ آنَيْتَ وَآذَيْتَ» . أَيْ أَخَّرْتَ الْمَجِيءَ. وَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ حِينَ جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ: أَيُّ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَّرَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ بَدَنَةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ فَضْلٌ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ. وَقَوْلُهُ: " رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ " أَيْ: ذَهَبَ إلَيْهَا. لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَا. [فَصْلٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ وَلَا يَرْكَبَ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْجُمُعَةِ] (1296) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ وَلَا يَرْكَبَ فِي طَرِيقِهَا؛ لِقَوْلِهِ: " وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ.» وَالْجُمُعَةُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَابُ حُجْرَتِهِ شَارِعًا فِي الْمَسْجِدِ، يَخْرُجُ مِنْهُ إلَيْهِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّكُوبَ، وَلِأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْخُطُوَاتِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي حَالِ مَشْيِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَا تُسْرِعُوا» . وَلِأَنَّ الْمَاشِيَ إلَى الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ، وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيُقَارِبُ بَيْنَ خُطَاهُ، لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَارَبَ بَيْنَ خُطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا فَعَلْتُ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَيَخْلَعُ نَعْلَيْهِ، وَيَمْشِي حَافِيًا، وَيَقْصُرُ فِي مَشْيِهِ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَيُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ فِي طَرِيقِهِ، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ، وَيَقُولُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَيَقُولُ أَيْضًا: " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْكَ، وَأَقْرَبِ مَنْ تَوَسَّلَ إلَيْكَ، وَأَفْضَلِ مَنْ سَأَلَكَ وَرَغِبَ إلَيْكَ ". وَرَوَيْنَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ مَشَى إلَى الْجُمُعَةِ حَافِيًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ.» [فَصْلٌ تَجِبُ الْجُمُعَةُ وَالسَّعْيُ إلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْ يُقِيمُهَا سُنِّيًّا أَوْ مُبْتَدِعًا] (1297) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ وَالسَّعْيُ إلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ يُقِيمُهَا سُنِّيًّا، أَوْ مُبْتَدِعًا، أَوْ عَدْلًا، أَوْ فَاسِقًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ - يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَيَنْبَغِي شُهُودُهَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَلِّي مِنْهُمْ، أَعَادَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَلَا يُعِيدُ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ يُقَالُ: إنَّهُ قَدْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ قَالَ: حَتَّى يَسْتَيْقِنَ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَقَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ، اسْتِخْفَافًا بِهَا، أَوْ جُحُودًا بِهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ» . وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَشْهَدُونَهَا مَعَ الْحَجَّاجِ وَنُظَرَائِهِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ التَّخَلُّفُ عَنْهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ: تَذَاكَرْنَا الْجُمُعَةَ أَيَّامَ الْمُخْتَارِ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَذِبُهُ. وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، وَيَتَوَلَّاهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ وَلَّوْهُ، فَتَرْكُهَا خَلْفَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهَا. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ، فَقَالَ: إنَّ لِي جِيرَانًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَكُنْتُ أَعِيبُهُمْ وَأَنْقُصُهُمْ، فَجَاءُونِي فَقَالُوا: مَا تَخْرُجُ تُذَكِّرُنَا؟ قَالَ: وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُونَ؟ قَالَ: أَوَّلُ مَا أَقُولُ لَكَ، أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْجُمُعَةَ. قَالَ: حَسْبُكَ، مَا قَوْلُكَ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ؟ قَالَ: قُلْتُ رَجُلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 سُوءٍ. قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: قُلْتُ كَافِرٌ. ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا قَوْلُكَ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؟ ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَمَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: رَدُّوا عَلَيْهِ وَاَللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قَالَهَا وَاَللَّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ يَسْأَلُونَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا لَا تُعَادُ خَلْفَ مَنْ يُعَادُ خَلْفَهُ بَقِيَّةُ الصَّلَوَاتِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تُعَادُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا فَرَغُوا مِنْ الْأَذَانِ خَطَبَهُمْ قَائِمًا] (1298) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْأَذَانِ خَطَبَهُمْ قَائِمًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ، لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا كَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا الْحَسَنَ، قَالَ: تُجْزِئُهُمْ جَمِيعَهُمْ، خَطَبَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَخْطُبْ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ عِيدٍ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لَهَا الْخُطْبَةُ، كَصَلَاةِ الْأَضْحَى. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالذِّكْرُ هُوَ الْخُطْبَةُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَكَ الْخُطْبَةَ لِلْجُمُعَةِ فِي حَالٍ؛ وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ الْجُمُعَةُ أَرْبَعًا فَجُعِلَتْ الْخُطْبَةُ مَكَانَ الرَّكْعَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: " خَطَبَهُمْ قَائِمًا ". يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى خَطَبَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، لَمْ تَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْخُطْبَةِ قَاعِدًا، أَوْ يَقْعُدُ فِي إحْدَى الْخُطْبَتَيْنِ؟ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا. فَقَالَ لَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْلِسُ فِي خُطْبَتِهِ فَظَهَرَ مِنْهُ إنْكَارٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ الْخُطْبَةُ قَاعِدًا. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الِاسْتِقْبَالُ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَاَللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. فَأَمَّا إنْ قَعَدَ لِعُذْرٍ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ الْقِيَامِ، فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْخُطْبَةِ عِنْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ أَذَانِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّاسُ الْخَطِيبَ إذَا خَطَبَ] (1299) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّاسُ الْخَطِيبَ إذَا خَطَبَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَكُونُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِي مُتَبَاعِدًا، فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَرِفَ إلَيْهِ حَوَّلْتُ وَجْهِي عَنْ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، تَنْحَرِفُ إلَيْهِ وَمِمَّنْ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ جَابِرٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا كَالْإِجْمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَلَمْ يَنْحَرِفْ إلَى الْإِمَامِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَقْبِلُ هِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ إذَا خَطَبَ، فَوَكَلَ بِهِ هِشَامٌ شُرْطِيًّا يَعْطِفُهُ إلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ مُطِيعِ بْنِ يَحْيَى الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَقْبَلْنَا بِوُجُوهِنَا إلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي سَمَاعِهِمْ، فَاسْتُحِبَّ، كَاسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ. [مَسْأَلَةٌ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ وَجَلَسَ وَقَامَ] (1300) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسَ وَقَامَ، فَأَتَى أَيْضًا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَرَأَ وَوَعَظَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِإِنْسَانٍ دَعَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ خُطْبَتَانِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِيهِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَكُونُ الْخُطْبَةُ إلَّا كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خُطْبَةً تَامَّةً. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، كَمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ. فَكُلُّ خُطْبَةٍ مَكَانَ رَكْعَةٍ، فَالْإِخْلَالُ بِإِحْدَاهُمَا كَالْإِخْلَالِ بِإِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ. وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» . وَإِذَا وَجَبَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَبَ ذِكْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قَالَ: لَا أُذْكَرُ إلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ وَجَبَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ فِي خُطَبِهِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ شَرْطًا فِيهِمَا كَالرَّكْعَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُشْتَرَطَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 إحْدَاهُمَا؛ لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ سُورَةً، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ثُمَّ يَنْزِلُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلَانِهِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إنَّمَا قَرَأَ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى، وَوَعَظَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَجِبُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا بَيَانُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْخُطْبَةِ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَتَى بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَلَمْ يُعَيِّنْ ذِكْرًا، فَأَجْزَأَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ، وَيَقَعُ اسْمُ الْخُطْبَةِ عَلَى دُونِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: " لَئِنْ أَقْصَرْتَ فِي الْخُطْبَةِ لَقَدْ أَعْرَضْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ ". وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الذِّكْرَ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ، قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: «كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا، يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ» . وَقَالَ جَابِرٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ. كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ» . فَأَمَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ فَلَا يُسَمَّى خُطْبَةً. وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْخُطْبَةُ، وَمَا رَوَوْهُ مَجَازٌ؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ لَا يُسَمَّى خُطْبَةً، وَلِذَلِكَ لَوْ أَلْقَى مَسْأَلَةً عَلَى الْحَاضِرِينَ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَكْفِي فِي الْقِرَاءَةِ أَقَلُّ مِنْ آيَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهَا، بِدَلِيلِ مَنْعِ الْجُنُبِ مِنْ قِرَاءَتِهَا، دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ، مَا شَاءَ قَرَأَ. وَقَالَ: إنْ خَطَبَ بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ. وَالْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنْ قِرَاءَةِ آيَةٍ. وَالْخِرَقِيُّ قَالَ: قَرَأَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْمَقْرُوءَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ سِوَى حَمْدِ اللَّهِ وَالْمَوْعِظَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى خُطْبَةً، وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، فَأَجْزَأَ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ دَلِيلٌ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى صِفَةِ خُطْبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 يَقْرَأُ آيَاتٍ وَلَا يَجِبُ قِرَاءَةُ آيَاتٍ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ آيَاتٍ كَذَلِكَ، وَلِمَا رَوَتْ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَتْ: «مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بِهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» . وَعَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْهَا مِثْلُ هَذَا، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ ، وَفِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ سُورَةً. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً] (1301) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُهَا وَلَنَا، أَنَّهَا جَلْسَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً كَالْأُولَى، وَقَدْ سَرَدَ الْخُطْبَةَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. قَالَهُ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى فَرَغَ. وَجُلُوسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَالْأُولَى، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا لِعُذْرٍ فَصَلَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ خَطَبَ قَائِمًا فَلَمْ يَجْلِسْ. قَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْعِرَاقِيُّونَ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا الشَّافِعِيَّ، أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ. [فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ مُتَطَهِّرًا] (1302) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ مُتَطَهِّرًا. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِهَا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ: يُجْزِئُهُ. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَطَبَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، أَوْ خَطَبَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يُشْتَرَطُ قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، وَلِأَنَّ الْخِرَقِيِّ اشْتَرَطَ لِلْأَذَانِ الطَّهَارَةَ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فَلَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ فِيهِ شَرْطًا كَالْأَذَانِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي عَقِيبَ الْخُطْبَةِ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ. وَلِأَنَّنَا اسْتَحْبَبْنَا ذَلِكَ لِلْأَذَانِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا طَوَّلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 [فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ] (1303) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَإِنْ خَطَبَ رَجُلٌ، وَصَلَّى آخَرُ لِعُذْرٍ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَوْ خَطَبَ أَمِيرٌ، فَعُزِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لِلْعُذْرِ، فَفِي الْخُطْبَةِ مَعَ الصَّلَاةِ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُعْجِبُنِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا، وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْنِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مِمَّنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ إمَامٌ فِي الْجُمُعَةِ، فَاشْتُرِطَ حُضُورُهُ الْخُطْبَةَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُشْتَرَطُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، فَجَازَ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا. كَمَا لَوْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ لِعُذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ. قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِي الْإِمَامِ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ مَا خَطَبَ، فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ: لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ إلَّا أَرْبَعًا، إلَّا أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ، ثُمَّ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ. [فَصْلٌ سُنَنُ الْخُطْبَةِ] (1304) فَصْلٌ: وَمِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ أَنْ يَقْصِدَ الْخَطِيبُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي سَمَاعِ النَّاسِ، وَأَعْدَلُ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ الْتَفَتَ إلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ لَأَعْرَضَ عَنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَوْ خَالَفَ هَذَا، وَاسْتَدْبَرَ النَّاسَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، صَحَّتْ الْخُطْبَةُ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَذَّنَ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ؛ لِيُسْمِعَ النَّاسَ. قَالَ جَابِرٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَيُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا رَوَى عَمَّارٌ، قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» . وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: «كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» ، رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إنَّمَا هِيَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ عَصًا؛ لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَالَ: «وَفَدْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ طَيِّبَاتٍ خَفِيفَاتٍ مُبَارَكَاتٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَكِّنَ أَطْرَافَهُ، إمَّا أَنْ يَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، أَوْ يُرْسِلَهُمَا سَاكِنَتَيْنِ مَعَ جَنْبَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، ثُمَّ يُثْنِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَعِظُ. فَإِنْ عَكَسَ ذَلِكَ صَحَّ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ مُتَرَسِّلًا، مُبِينًا، مُعْرِبًا، لَا يُعَجِّلْ فِيهَا، وَلَا يَمْطُطْهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَّعِظًا بِمَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ قَوْمٌ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقِيلَ لِي: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.» [فَصْلٌ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الْمِنْبَرِ] (1305) فَصْلٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَيُجْزِئُهُ؟ قَالَ: لَا. لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَخْطُبُونَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: لَا تَكُونُ الْخُطْبَةُ إلَّا كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خُطْبَةً تَامَّةً، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى خُطْبَةً، وَلَا يَجْمَعُ شُرُوطَهَا. وَإِنْ قَرَأَ آيَاتٍ فِيهَا حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَوْعِظَةُ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّ؛ لِاجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ. [فَصْلٌ قِرَاءَةُ السَّجْدَةِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ] (1306) فَصْلٌ: وَإِنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ شَاءَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَإِنْ أَمْكَنَ السُّجُودُ عَلَى الْمِنْبَرِ، سَجَدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ، فَلَا حَرَجَ، فَعَلَهُ عُمَرُ وَتَرَكَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَتَرَكَ عُثْمَانُ، وَأَبُو مُوسَى، وَعَمَّارٌ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْزِلُ؛ لِأَنَّهُ صَلَاةُ تَطَوُّعٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ. وَلَنَا، فِعْلُ عُمَرَ وَتَرْكُهُ، وَفِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ سُنَّةٌ وُجِدَ سَبَبُهَا، لَا يَطُولُ الْفَصْلُ بِهَا، فَاسْتُحِبَّ فِعْلُهَا، كَحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا عَطَسَ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَيُفَارِقُ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ، لِأَنَّ سَبَبَهَا لَمْ يُوجَدْ، وَيَطُولُ الْفَصْلُ بِهَا. [فَصْلٌ الْمُوَالَاةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخُطْبَةِ] (1307) فَصْلٌ: وَالْمُوَالَاةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخُطْبَةِ فَإِنْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، بِكَلَامٍ طَوِيلٍ، أَوْ سُكُوتٍ طَوِيلٍ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ، اسْتَأْنَفَهَا. وَالْمَرْجِعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ تَطَهَّرَ، وَبَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلِنَفْسِهِ وَالْحَاضِرِينَ] (1308) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلِنَفْسِهِ، وَالْحَاضِرِينَ، وَإِنْ دَعَا لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاحِ فَحَسَنٌ. وَقَدْ رَوَى ضَبَّةُ بْنُ مُحَصِّنٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ إذَا خَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو لِعُمَرَ، وَأَبِي بَكْرٍ. وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ضَبَّةُ الْبِدَايَةَ بِعُمَرَ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِأَبِي بَكْرٍ، وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ لِضَبَّةَ: أَنْتَ أَوْثَقُ مِنْهُ وَأَرْشَدُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَطَاءً قَالَ: هُوَ مُحَدِّثٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِعْلَ الصَّحَابَةِ لَهُ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ؛ وَلِأَنَّ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ إذَا صَلَحَ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ، فَفِي الدُّعَاءِ لَهُ دُعَاءٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. [مَسْأَلَةٌ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةً] (1309) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُورَةً) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ عَقِيبَ الْخُطْبَةِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَسُورَةً، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا. لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَالثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ: إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ. فَلَمَّا قَضَى أَبُو هُرَيْرَةَ الصَّلَاةَ أَدْرَكْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيٌّ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ. قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمُعَةِ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ، فَحَسَنٌ؛ فَإِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: «مَاذَا كَانَ يَقْرَؤُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ، عَلَى إثْرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ بِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِ (سَبِّحْ) وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ، فَحَسَنٌ؛ فَإِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ، بِ " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى "، وَ " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قَرَأَ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] مَعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: أَمَّا الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَاَلَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ بِ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الثَّانِيَةِ (سَبِّحْ) ، وَلَعَلَّهُ صَارَ إلَى مَا حَكَاهُ مَالِكٌ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَاتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنُ. وَمَهْمَا قَرَأَ فَهُوَ جَائِزٌ حَسَنٌ، إلَّا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنُ، وَلِأَنَّ سُورَةَ الْجُمُعَةِ تَلِيقُ بِالْجُمُعَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِهَا، وَالْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1310) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى، وَكَانَتْ لَهُ جُمُعَةً) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا، يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى، وَيُجْزِئُهُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَعُرْوَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَكْحُولٌ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ صَلَّى أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ لِلْجُمُعَةِ، فَلَا تَكُونُ جُمُعَةً فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ شَرْطُهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: " فَلْيَصِلْ إلَيْهَا أُخْرَى " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 [مَسْأَلَةٌ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَام أَقَلَّ مِنْ رَكْعَة يَوْم الْجُمُعَةَ] (1311) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، بَنَى عَلَيْهَا ظُهْرًا، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ) . أَمَّا مَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، وَيُصَلِّي ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذِهِ. وَقَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِأَيِّ قَدْرٍ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً، لَزِمَهُ إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْهَا، كَالْمُسَافِرِ يُدْرِكُ الْمُقِيمَ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا، كَالظُّهْرِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لَهَا. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَقَدْ رَوَى بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الزَّيَّاتُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ أَدْرَكَ دُونَهَا صَلَّاهَا أَرْبَعًا» وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً، فَلَمْ تَصِحَّ لَهُ الْجُمُعَةُ، كَالْإِمَامِ إذَا انْفَضُّوا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَإِدْرَاكُهُ إدْرَاكُ إلْزَامٍ، وَهَذَا إدْرَاكُ إسْقَاطٍ لِلْعَدَدِ، فَافْتَرَقَا، وَكَذَلِكَ يُتِمُّ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ، وَلَا يَقْصُرُ الْمُقِيمُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ، وَأَمَّا الظُّهْرُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فَاتَتْهُ السَّجْدَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ] (1312) فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ " بِسَجْدَتَيْهَا " فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الَّذِي أَدْرَكَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ فَاتَتْهُ السَّجْدَتَانِ، أَوْ إحْدَاهُمَا، حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ، لِزِحَامٍ، أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ غَفْلَةٍ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ زُحِمَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ، وَالْمَيْمُونِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ رَكَعَ وَسَجَدَ مَعَهُ. وَنَقَلَ صَالِحٌ، وَابْنُ مَنْصُورٍ، وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً، فَلَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ الْمَزْحُومُ إذَا سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ أَوْ قَدَمِهِ] (1313) فَصْلٌ: وَمَتَى قَدَرَ الْمَزْحُومُ عَلَى السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ، أَوْ قَدَمِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَأَجْزَأَهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 أَحْمَدَ بْنِ هَاشِمٍ يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ الرَّجُلِ وَالْقَدَمِ، وَيُمَكِّنُ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ، فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ: لَا يَفْعَلُ. قَالَ مَالِكٌ: وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ إنْ فَعَلَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنْ الْأَرْضِ» . وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: إذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَهَذَا قَالَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ حَالَ الْعَجْزِ، فَصَحَّ، كَالْمَرِيضِ يَسْجُدُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ، وَالْخَبَرُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَاجِزَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يَأْمُرُ الْعَاجِزَ عَنْ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ. [فَصْلٌ إذَا زُحِمَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1314) فَصْلٌ: وَإِذَا زُحِمَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُزْحَمَ فِي الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنْ زُحِمَ فِي الْأُولَى، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرٍ وَلَا قَدَمٍ، انْتَظَرَ حَتَّى يَزُولَ الزِّحَامُ، ثُمَّ يَسْجُدُ، وَيَتْبَعُ إمَامَهُ، مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ، سَجَدَ مَعَهُ صَفٌّ، وَبَقِيَ صَفٌّ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ سَجَدُوا، وَجَازَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، كَذَا هَاهُنَا. فَإِذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْقِيَامِ، أَوْ فِي الرُّكُوعِ، أَتْبَعَهُ فِيهِ، وَصَحَّتْ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَكَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ السُّجُودُ مَعَ إمَامِهِ، لِمَرَضٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ نِسْيَانٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ الْمَزْحُومَ. فَإِنْ خَافَ أَنَّهُ إنْ تَشَاغَلَ بِالسُّجُودِ فَاتَهُ الرُّكُوعُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ، لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ، وَتَصِيرُ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ زَالَ الزِّحَامُ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ وَلِلشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا» . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: " فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ". قُلْنَا: قَدْ سَقَطَ الْأَمْرُ بِالْمُتَابَعَةِ فِي السُّجُودِ عَنْ هَذَا لِعُذْرِهِ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْمُتَابَعَةِ فِي الرُّكُوعِ مُتَوَجِّهًا لِإِمْكَانِهِ، وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ فَوَاتَ الرُّكُوعِ، فَلَزِمَهُ مُتَابَعَةُ إمَامِهِ فِيهِ، كَالْمَسْبُوقِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَائِمًا فَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ بِعُسْفَانَ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا عَمْدًا، وَفَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ. وَإِنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ ذَلِكَ فَسَجَدَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِسُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ جَهْلًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فَأَشْبَهَ السَّاهِيَ، ثُمَّ إنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ، رَكَعَ مَعَهُ، وَصَحَّتْ لَهُ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى، وَتَصِيرُ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ، وَإِنْ فَاتَهُ الرُّكُوعُ سَجَدَ مَعَهُ، فَإِنْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ مَعَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُتِمُّ بِهِمَا الرَّكْعَةَ الْأُولَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَتَى قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ، وَشَرَعَ فِي رُكُوعِهَا، أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهَا الْمَقْصُودَةِ، أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى تَبْطُلُ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَلَكِنْ إنْ لَمْ يَقُمْ، وَلَكِنْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ، تَمَّتْ رَكْعَتُهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا سَجَدَ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ، اُعْتُدَّ لَهُ بِهِ، وَتَصِحُّ لَهُ الرَّكْعَةُ، كَمَا لَوْ سَجَدَ وَإِمَامُهُ قَائِمٌ، ثُمَّ إنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، صَحَّتْ لَهُ الرَّكْعَتَانِ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ وَيَتْبَعَهُ، لِأَنَّ هَذَا سَبْقٌ يَسِيرٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَفُوتَهُ الثَّانِيَةُ بِفَوَاتِ الرُّكُوعِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ، تَابَعَهُ، وَقَضَى رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِهِ كَالْمَسْبُوقِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَلَا وَجْهَ لِلسُّجُودِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِسَهْوٍ، وَلِأَنَّ هَذَا فَعَلَهُ عَمْدًا، وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِلْعَمْدِ. وَإِنْ زُحِمَ عَنْ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ عَنْ الِاعْتِدَالِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، أَوْ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الزِّحَامِ عَنْ السُّجُودِ. فَأَمَّا إنْ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ فِي الثَّانِيَةِ، فَزَالَ الزِّحَامُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، سَجَدَ، وَاتَّبَعَهُ، وَصَحَّتْ الرَّكْعَةُ. وَإِنْ لَمْ يَزُلْ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا، فَإِنْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ بِإِدْرَاكِهَا، وَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، وَقَدْ تَمَّتْ جُمُعَتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ الْأُولَى، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ، وَتَصِحُّ لَهُ الرَّكْعَةُ. وَهَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَلَمَّا قَامَ لِيَقْضِيَ الْأُخْرَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ إمَامِهِ إلَّا سَجْدَةً] (1315) فَصْلٌ: وَإِذَا رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، فَلَمَّا قَامَ لِيَقْضِيَ الْأُخْرَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ إمَامِهِ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً، أَوْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ؟ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، رَجَعَ فَسَجَدَ لِلْأُولَى، فَأَتَمَّهَا، وَقَضَى الثَّانِيَةَ، وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَإِنْ كَانَ شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، بَطَلَتْ الْأُولَى، وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ. وَعَلَى كِلَا الْحَالَتَيْنِ يُتِمُّهَا جُمُعَةً، عَلَى مَا نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ. وَقِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الْمَزْحُومِ أَنَّهُ يُتِمُّهَا هَاهُنَا ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً. وَلَوْ قَضَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَاهُمَا، لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الرَّكْعَتَيْنِ تَرَكَهَا، أَوْ شَكَّ فِي تَرْكِهَا، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَيَجْعَلُهَا مِنْ الْأُولَى، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ مَكَانَهَا. وَفِي كَوْنِهِ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ شَكَّ فِي إدْرَاكِ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ، مِثْلُ أَنْ كَبَّرَ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ، فَرَفَعَ إمَامُهُ رَأْسَهُ، فَشَكَّ هَلْ أَدْرَكَ الْمُجْزِئَ مِنْ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ لَا؟ لَمْ يُعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَيُصَلِّي ظُهْرًا، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مَا أَتَى بِهَا مَعَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 [فَصْلٌ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مَا لَا يَتِمُّ بِهِ جُمُعَةٌ] (1316) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مَا لَا يَتِمُّ بِهِ جُمُعَةٌ، فَإِنَّهُ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يَنْوِي ظُهْرًا، فَإِنْ نَوَى جُمُعَةً لَمْ تَصِحَّ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ لِلْبِنَاءِ عَلَى مَا أَدْرَكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ، يَحْتَمِلُ هَذَا؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ أَحْرَمَ، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ إمَامُهُ، قَالَ: يَسْتَقْبِلُ ظُهْرًا أَرْبَعًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ دَوَامًا، كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا يَنْوِي جُمُعَةً؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ نِيَّةَ إمَامِهِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهَا ظُهْرًا. أَرْبَعًا. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَأَيُّوبَ، وَيُونُسَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الَّذِي أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِالْجُمُعَةِ، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ: أَتَمَّهَا أَرْبَعًا. فَجَوَّزُوا لَهُ إتْمَامَهَا ظُهْرًا، مَعَ كَوْنِهِ إنَّمَا أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مِنْهَا سَجْدَةً، قَالَ: يَسْجُدُ سَجْدَةً، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِمَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَجَازَ أَنْ يَبْنِيَ صَلَاتَهُ عَلَى نِيَّتِهَا، كَصَلَاةِ الْمُقِيمِ مَعَ الْمُسَافِرِ، وَكَمَا يَنْوِي أَنَّهُ مَأْمُومٌ، وَيُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي ابْتِدَائِهَا، وَكَذَلِكَ فِي أَثْنَائِهَا. [فَصْلٌ صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَأَدْرَكَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ] (1317) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَأَدْرَكَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الدُّخُولُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ ظُهْرٌ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ، كَعُذْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ كَانَتْ نَفْلًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ تُجْزِئْهُ عَنْ الظُّهْرِ. وَلَوْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ سُجُودِهَا، وَقُلْنَا تَصِيرُ ظُهْرًا، فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ نَفْلًا؛ لِئَلَّا تَكُونَ ظُهْرًا قَبْلَ وَقْتِهَا. [فَصْلٌ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ثُمَّ زُحِمَ فِي الثَّانِيَةِ وَأُخْرِجَ مِنْ الصَّفِّ] (1318) فَصْلٌ: وَلَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، ثُمَّ زُحِمَ فِي الثَّانِيَةِ، وَأُخْرِجَ مِنْ الصَّفِّ، فَصَارَ فَذًّا، فَنَوَى الِانْفِرَادَ عَنْ الْإِمَامِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِرَكْعَةٍ مِنْهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَيَبْنِي عَلَيْهَا جُمُعَةً، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الِانْفِرَادَ، وَأَتَمَّهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فَذٌّ فِي رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا. وَالثَّانِيَةُ، تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْفَى فِي الْبِنَاءِ عَنْ تَكْمِيلِ الشُّرُوطِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، وَكَالْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ، يَقْضِي رَكْعَةً وَحْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً أَتَمُّوا بِرَكْعَةٍ أُخْرَى] (1319) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، أَتَمُّوا بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَأَجْزَأَتْهُمْ جُمُعَةً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ فِي وَقْتِهَا، وَمَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ رَكْعَةٍ لَمْ تَكُنْ جُمُعَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِهَا أَتَمَّهَا جُمُعَةً. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا فِي وَقْتِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَتَمَّهَا فِيهِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ، سَلَّمَ وَأَجْزَأَتْهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ الْوَقْتُ قَبْلَ ذَلِكَ، بَطَلَتْ أَوْ انْقَلَبَتْ ظُهْرًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا خَرَجَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، بَطَلَتْ، وَلَا يَبْنِي عَلَيْهَا ظُهْرًا، لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عِنْدَهُ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَيَبْنِي عَلَيْهَا ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَا وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجَازَ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، كَصَلَاةِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً، بِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي بَعْضِهَا كَانَ شَرْطًا فِي جَمِيعِهَا، كَالطَّهَارَةِ، وَسَائِرِ الشُّرُوطِ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقْد أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا، كَالْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ، وَلِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ يَخْتَصُّ الْجُمُعَةَ، فَاكْتُفِيَ بِهِ فِي رَكْعَةٍ، كَالْجَمَاعَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِإِدْرَاكِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَعَلَى هَذَا إنْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ رَكْعَةٍ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، تَفْسُدُ وَيَسْتَأْنِفُهَا ظُهْرًا، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا، يُتِمُّهَا ظُهْرًا. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ. [فَصْلٌ أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَخْطُبَ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً] (1320) فَصْلٌ: إذَا أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَخْطُبَ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً، فَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ لَهُ التَّلَبُّسَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُدْرِكُهَا فِيهِ فَإِنْ شَكَّ هَلْ أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُدْرِكُهَا بِهِ أَوْ لَا؟ صَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ وَصِحَّتُهَا. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ] (1321) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، يُوجِزُ فِيهِمَا) وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، يَجْلِسُ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لِلَّذِي جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ وَأَنَيْتَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ يَشْغَلُهُ عَنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، فَكُرِهَ، كَرُكُوعِ غَيْرِ الدَّاخِلِ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ، فَارْكَعْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وَلِمُسْلِمٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ، فَسُنَّ لَهُ الرُّكُوعُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُهُمْ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ يَضِيقُ عَنْ الصَّلَاةِ، أَوْ يَكُونَ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ، بِحَيْثُ لَوْ تَشَاغَلَ بِالصَّلَاةِ فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ، لِيَكُفَّ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ، لِتَخَطِّيهِ إيَّاهُمْ فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ، بِحَيْثُ إذَا تَشَاغَلَ بِالرُّكُوعِ فَاتَهُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّشَاغُلُ بِالرُّكُوعِ. [فَصْلٌ يَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ] (1322) فَصْلٌ: وَيَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرَ الدَّاخِلِ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَيَتَجَوَّزُ فِيهَا؛ لِمَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ، فَإِذَا خَرَجَ عُمَرُ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، حَتَّى إذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ وَقَامَ عُمَرُ سَكَتُوا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ. [فَصْلٌ الْإِنْصَاتُ مِنْ حِينِ يَأْخُذُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ] (1323) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْإِنْصَاتُ مِنْ حِينِ يَأْخُذُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْكَلَامُ لِأَحَدٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا رَأَيْتَهُ يَتَكَلَّمُ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَاقْرَعْ رَأْسَهُ بِالْعَصَا. وَكَرِهَ ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ لَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ يَتَكَلَّمُونَ وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إذْ قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَرْفَعْهَا عَنَّا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَامَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْمَأَ النَّاسُ إلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَعَادَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْحَكَ، مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: إنَّكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامَهُمْ، وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ لَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ - وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " تَبَارَكَ " فَذَكَّرَنَا بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَوْ أَبُو ذَرٍّ يَغْمِزُنِي فَقَالَ: مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْهَا إلَّا الْآنَ؟ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، قَالَ: سَأَلْتُكَ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ فَلَمْ تُخْبِرْنِي. قَالَ أُبَيٌّ: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ الْيَوْمَ إلَّا مَا لَغَوْتَ فَذَهَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أُبَيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " صَدَقَ أُبَيٌّ " رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ. وَمَا احْتَجُّوا بِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَلَّمَ الْإِمَامَ، أَوْ كَلَّمَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ سَمَاعِ خُطْبَتِهِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ صَلَّى؟ فَأَجَابَهُ. وَسَأَلَ عُمَرُ عُثْمَانَ حِينَ دَخَلَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَأَجَابَهُ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ أَخْبَارِهِمْ عَلَى هَذَا، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ فَالْأَخْذُ بِحَدِيثِنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصُّهُ، وَذَلِكَ سُكُوتُهُ، وَالنَّصُّ أَقْوَى مِنْ السُّكُوتِ (1324) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ قَرِيبًا يَسْمَعُ وَيُنْصِتُ وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا يُنْصِتُ؛ فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِنْ الْحَظِّ مَا لِلسَّامِعِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو، وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُونٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (1325) فَصْلٌ: وَلِلْبَعِيدِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ عَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، وَلَا يُذَاكِرَ فِي الْفِقْهِ، وَلَا يُصَلِّيَ، وَلَا يَجْلِسَ فِي حَلْقَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ لَهُ الْمُذَاكَرَةَ فِي الْفِقْهِ، وَصَلَاةَ النَّافِلَةِ. وَلَنَا، عُمُومُ مَا رَوَيْنَاهُ، وَأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْحَلْقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ مَنَعَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ مِنْ السَّمَاعِ، فَيَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ إثْمُ مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ، وَصَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْمِعَ أَحَدًا، فَلَا بَأْسَ. وَهَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَوْ الْإِنْصَاتُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، الْإِنْصَاتُ أَفْضَلُ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَوْلِ عُثْمَانَ. وَالثَّانِي، الذِّكْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَكَانَ أَفْضَلَ، كَمَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ. [فَصْلٌ لَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْخَطِيبِ وَلَا عَلَى مَنْ سَأَلَهُ الْخَطِيبُ] (1326) فَصْلٌ: وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْخَطِيبِ، وَلَا عَلَى مَنْ سَأَلَهُ الْخَطِيبُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ سُلَيْكًا الدَّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ. قَالَ عُمَرُ: الْوُضُوءَ أَيْضًا؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ عِلَّتُهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ الْإِنْصَاتِ الْوَاجِبِ، وَسَمَاعِ الْخُطْبَةِ. وَلَا يَحْصُلُ هَاهُنَا، وَكَذَلِكَ مَنْ كَلَّمَ الْإِمَامَ لِحَاجَةٍ، أَوْ سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [فَصْلٌ إذَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُتَكَلِّمًا لَمْ يَنْهَهُ بِالْكَلَامِ] (1327) فَصْلٌ: وَإِذَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ مُتَكَلِّمًا لَمْ يَنْهَهُ بِالْكَلَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» وَلَكِنْ يُشِيرُ إلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَيَضَعُ أُصْبُعَهُ عَلَى فِيهِ. وَمِمَّنْ رَأَى أَنْ يُشِيرَ وَلَا يَتَكَلَّمَ، زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَرِهَ الْإِشَارَةَ طَاوُسٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَلَنَا، أَنَّ الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتَى السَّاعَةُ؟ أَوْمَأَ النَّاسُ إلَيْهِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسُّكُوتِ، وَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يُبْطِلُهَا الْكَلَامُ، فَفِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى. [فَصْلٌ الْكَلَامُ الْوَاجِبُ كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ مِنْ الْبِئْرِ] (1328) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكَلَامُ الْوَاجِبُ، كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ مِنْ الْبِئْرِ، أَوْ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ نَارًا، أَوْ حَيَّةً أَوْ حَرِيقًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَهُ فِعْلُهُ، لِأَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مَعَ إفْسَادِهَا، فَهَاهُنَا أَوْلَى فَأَمَّا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَرَدُّ السَّلَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ: يَرُدُّ الرَّجُلُ السَّلَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِد قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ، فَوَجَبَ، الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْخُطْبَةِ، كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ رَدَّ السَّلَامَ وَشَمَّتَ الْعَاطِسَ، وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ أَحْمَدُ: إذَا سَمِعْتَ الْخُطْبَةَ فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ، وَلَا تَقْرَأْ، وَلَا تُشَمِّتْ، وَإِذَا لَمْ تَسْمَعْ الْخُطْبَةَ فَاقْرَأْ وَشَمِّتْ وَرُدَّ السَّلَامَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد، قُلْتُ لِأَحْمَدَ: يَرُدُّ السَّلَامَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ لَيْسَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَيَرُدُّ، وَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ فَلَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ نَغْمَةَ الْإِمَامِ بِالْخُطْبَةِ، وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، يَرُدُّ السَّلَامَ؟ قَالَ: لَا، إذَا سَمِعَ شَيْئًا وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجُزْ الْكَلَامُ الْمَانِعُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، كَالْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَرُدُّ وَلَا يُشَمِّتُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِمَنْ يَسْمَعُ دُونَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَيَكُونُ مِثْلَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي كُلِّ حَاضِرٍ يَسْمَعُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ شَامِلٌ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ، كَالسَّامِعِينَ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا] (1329) فَصْلٌ: لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْخُطْبَةِ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَبَكْرٌ الْمُزَنِيّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَمُحَمَّدٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَكَرِهَهُ، الْحَكَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَرُمَ الْكَلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَكْرَهَانِ الْكَلَامَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ» فَخَصَّهُ بِوَقْتِ الْخُطْبَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ: إنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ إذَا خَرَجَ عُمَرُ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، حَتَّى إذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ، وَقَامَ عُمَرُ سَكَتُوا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا حَرُمَ لِأَجْلِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ مَعَ عَدَمِهَا. وَقَوْلُهُمْ: لَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ. قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ عُمُومِهِمْ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي الْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ] (1330) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ غَيْرُ خَاطِبٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ سُكُوتٌ يَسِيرٌ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ، أَشْبَهَ السُّكُوتَ لِلتَّنَفُّسِ. [فَصْلٌ إذَا بَلَغَ الْخَطِيبُ إلَى الدُّعَاءِ فَهَلْ يُسَوَّغُ الْكَلَامُ] (1331) فَصْلٌ: إذَا بَلَغَ الْخَطِيبُ إلَى الدُّعَاءِ، فَهَلْ يُسَوَّغُ الْكَلَامُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَشَرَعَ فِي غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَزَلَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْخُطْبَةِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا ثَبَتَ لَهَا، كَالتَّطْوِيلِ فِي الْمَوْعِظَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ دُعَاءً مَشْرُوعًا، كَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلِلْإِمَامِ الْعَادِلِ، أَنْصَتَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِنْصَاتُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ. [فَصْلٌ الْعَبَثُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ] (1332) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَاللَّغْوُ: الْإِثْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] وَلِأَنَّ الْعَبَثَ يَمْنَعُ الْخُشُوعَ وَالْفَهْمَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، إنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْمَعُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَرَخَّصَ فِيهِ مُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُ عَنْ السَّمَاعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ فِعْلٌ يَشْتَغِلُ بِهِ، أَشْبَهَ مَسَّ الْحَصَى. فَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ، فَلَا يُكْرَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِعُ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ. [فَصْلٌ لَا تَتَصَدَّقْ عَلَى السُّؤَالِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ] (1333) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا تَتَصَدَّقْ عَلَى السُّؤَالِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا لَا يَجُوزُ، فَلَا يُعِينُهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَإِنْ حَصَبَهُ كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى سَائِلًا يَسْأَلُ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَحَصَبَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ، فَنَاوَلَهُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ؟ قَالَ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ قِيلَ: فَإِنْ سَأَلَ قَبْلَ خُطْبَةِ الْإِمَامِ، ثُمَّ جَلَسَ، فَأَعْطَانِي رَجُلٌ صَدَقَةً أُنَاوِلُهَا إيَّاهُ؟ قَالَ نَعَمْ، هَذَا لَمْ يَسْأَلْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. [فَصْلٌ الِاحْتِبَاءُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ] (1334) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِبَاءِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَسَالِمٌ، وَنَافِعٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا كَرِهَهُ إلَّا عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ، لِأَنَّ سَهْلَ بْنَ مُعَاذٍ رَوَى، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، مَا رَوَى يَعْلَى بْنُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَجَمَّعَ بِنَا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُهُمْ مُحْتَبِينَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا، فَصَارَ إجْمَاعًا وَالْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ لِأَجْلِ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَهَيِّئًا لِلنَّوْمِ وَالْوُقُوعِ وَانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْمَلُ النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيُحْمَلُ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْخَبَرُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا عُقَلَاءُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ] (1335) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا عُقَلَاءُ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِسَبْعَةِ شَرَائِطَ: إحْدَاهَا، أَنْ تَكُونَ فِي قَرْيَةٍ. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ. وَالثَّالِثُ، الذُّكُورِيَّةُ. وَالرَّابِعُ، الْبُلُوغُ. وَالْخَامِسُ، الْعَقْلُ. وَالسَّادِسُ، الْإِسْلَامُ. وَالسَّابِعُ، الِاسْتِيطَانُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَمَّا الْقَرْيَةُ فَيُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِبِنَائِهَا بِهِ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ وَبُيُوتِ الشَّعْرِ وَالْحَرَكَاتِ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْصَبُ لِلِاسْتِيطَانِ غَالِبًا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُقِيمُوا جُمُعَةً، وَلَا أَمَرَهُمْ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ، وَلَمْ يُتْرَكْ نَقْلُهُ، مَعَ كَثْرَتِهِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ، لَكِنْ إنْ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 إلَيْهَا، كَأَهْلِ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ إلَى جَانِبِ الْمِصْرِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَرْيَةِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةَ الْمَنَازِلِ تَفَرُّقًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ، إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهَا مَا يَسْكُنُهُ أَرْبَعُونَ، فَتَجِبُ الْجُمُعَةُ بِهِمْ، وَيَتْبَعُهُمْ الْبَاقُونَ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْبُنْيَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ الْمُتَقَارِبَةَ الْبُنْيَانِ قَرْيَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُرَى، فَأَشْبَهَتْ الْمُتَّصِلَةَ، وَمَتَى كَانَتْ الْقَرْيَةُ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ مِنْ مِصْرٍ، أَوْ مِنْ قَرْيَةٍ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا، لِعُمُومِ الْآيَةِ. (1336) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالذُّكُورِيَّةُ، فَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهَا لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ شَرْطَانِ لِلتَّكْلِيفِ وَصِحَّةِ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ، وَالذُّكُورِيَّةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا الرِّجَالُ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحُضُورِ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهَا تَصِحُّ مِنْهَا لِصِحَّةِ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا، فَإِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَمَاعَةِ. وَأَمَّا الْبُلُوغُ، فَهُوَ شَرْطٌ أَيْضًا لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى تَكْلِيفِهِ، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ. (1337) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَصِحَّتِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِخَمْسِينَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الرَّقَاشِيِّ، حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى خَمْسِينَ رَجُلًا، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَى كَمْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ مِنْ رَجُلٍ؟ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسِينَ جَمَّعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَمْعِ، فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ كَالْأَرْبَعِينَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهَذِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، أَشْبَهَ الْأَرْبَعِينَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ عِنْدَ الزَّوَالِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنْ يَخْطُبَ فِيهِمَا فَجَمَّعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ سُوَيْقَةٌ، فَخَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، أَنَا فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] . إلَى آخِرِ الْآيَةِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَا يُشْتَرَطُ لِلِابْتِدَاءِ يُشْتَرَطُ لِلِاسْتِدَامَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فِي هَزْمِ النَّبِيتِ، مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ قُلْتُ لَهُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى خُصَيْفٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهَا جُمُعَةً. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: مَضَتْ السُّنَّةُ. يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَصَحُّ مِنْهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. وَالْخَبَرُ الْآخَرُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَادُوا فَحَضَرُوا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ. فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ فَتَحَكُّمٌ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَاتِ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، فَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهَا، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ جَمْعًا، وَلَا لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْجَمْعِ، إذْ لَا نَصَّ فِي هَذَا وَلَا مَعْنَى نَصٍّ، وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ كَافِيًا فِيهِ، لَاكْتُفِيَ بِالِاثْنَيْنِ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تَنْعَقِدُ بِهِمَا. (1338) فَصْلٌ: فَأَمَّا الِاسْتِيطَانُ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي قَرْيَةٍ، عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَلَى مُقِيمٍ فِي قَرْيَةٍ يَظْعَنُ أَهْلُهَا عَنْهَا فِي الشِّتَاءِ دُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 الصَّيْفِ، أَوْ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَإِنْ خَرِبَتْ الْقَرْيَةُ أَوْ بَعْضُهَا، وَأَهْلُهَا مُقِيمُونَ بِهَا، عَازِمُونَ عَلَى إصْلَاحِهَا، فَحُكْمُهَا بَاقٍ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِهَا. وَإِنْ عَزَمُوا عَلَى النُّقْلَةِ عَنْهَا، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ؛ لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، الْحُرِّيَّةُ. وَنَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي، إذْنُ الْإِمَامِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَالثَّانِيَةُ: هُوَ شَرْطٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُهَا إلَّا الْأَئِمَّةُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَلَنَا، أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَصَوَّبَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ، فَرَوَى حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، وَأَنْتَ إمَامُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ يُصَلِّي بِنَا إمَامُ فِتْنَةٍ، وَأَنَا أَتَحَرَّجُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَهُ. فَقَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْأَثْرَمُ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ تِسْعَ سِنِينَ، فَكَانُوا يُجَمِّعُونَ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ رَأَى صَاحِبَ الْمَقْصُورَةِ فِي الْفِتْنَةِ حِينَ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ النَّاسَ، يَقُولُ: مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. حَتَّى انْتَهَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَلِأَنَّهَا مِنْ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا إذْنُ الْإِمَامِ، كَالظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ أَشْبَهَتْ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ إجْمَاعًا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ الْجُمُعَاتِ فِي الْقُرَى مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا ذَلِكَ لَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ مَا وَقَعَ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِهِ، كَالْحَجِّ يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ شَرْطٌ فَلَمْ يَأْذَنْ الْإِمَامُ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلُّوا جُمُعَةً وَصَلَّوْا ظُهْرًا. وَإِنْ أَذِنَ فِي إقَامَتِهَا ثُمَّ مَاتَ، بَطَلَ إذْنُهُ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ صَلَّوْا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهَلْ تُجْزِئُهُمْ صَلَاتُهُمْ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: أَصَحُّهُمَا، أَنَّهَا تُجْزِئُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْصَارِ النَّائِيَةِ عَنْ بَلَدِ الْإِمَامِ لَا يُعِيدُونَ مَا صَلَّوْا مِنْ الْجُمُعَاتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ يَشُقُّ؛ لِعُمُومِهِ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ إذْنُ الْإِمَامِ لِفِتْنَةٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِ صِحَّتُهَا بِغَيْرِ إذْنٍ، عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا مَعَ إمْكَانِهِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِتَعَذُّرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 [فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ الْمِصْرُ] (1340) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ الْمِصْرُ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَمَكْحُولٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَبِهِ قَالَ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ.» وَلَنَا، مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: تَعْنِي إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ. نَعَمْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَرَّةُ بَنِي بَيَاضَةَ قَرْيَةٌ عَلَى مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ لَجُمُعَةٌ جُمِّعَتْ بِجُوَاثَا مِنْ الْبَحْرَيْنِ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ عَامَلَهُ عَلَيْهَا فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: جَمِّعُوا حَيْثُ كُنْتُمْ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ قَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ فَأَمَّا خَبَرُهُمْ فَلَمْ يَصِحَّ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ هَذَا بِحَدِيثٍ، وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ، وَلَمْ يَلْقَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: الْأَعْمَشُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، إنَّمَا هُوَ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ (1341) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إقَامَتُهَا فِي الْبُنْيَانِ، وَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنْ الصَّحْرَاءِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ الْبُنْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْمِصْرِ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْبَعِيدَ. وَلَنَا، أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ جَمَّعَ بِالْأَنْصَارِ فِي هَزْمِ النَّبِيتِ فِي نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ، وَالنَّقِيعُ: بَطْنٌ مِنْ الْأَرْضِ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ مُدَّةً، فَإِذَا نَضَبَ الْمَاءُ نَبَتَ الْكَلَأُ. وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، فَجَازَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ، كَالْجَامِعِ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةُ عِيدٍ، فَجَازَتْ فِي الْمُصَلَّى كَصَلَاةِ الْأَضْحَى، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَلَا نَصَّ فِي اشْتِرَاطِهِ، وَلَا مَعْنَى نَصٍّ، فَلَا يُشْتَرَطُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَّوْا جُمُعَةً مَعَ اخْتِلَالِ بَعْضِ شُرُوطِهَا] (1342) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّوْا أَعَادُوهَا ظُهْرًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِهَا، فَمَتَى صَلَّوْا جُمُعَةً مَعَ اخْتِلَالِ بَعْضِ شُرُوطِهَا، لَمْ يَصِحَّ، وَلَزِمَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا، وَلَا يُعَدُّ فِي الْأَرْبَعِينَ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ، وَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ لِلصِّحَّةِ، بَلْ تَصِحُّ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، تَبَعًا لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا كَوْنُهُ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْمَعُ النِّدَاءَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ. (1343) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الشُّرُوطِ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْعَدَدُ، كَالْأَذَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْعَدَدُ، كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَيُفَارِقُ الْأَذَانَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْإِعْلَامُ، وَالْإِعْلَامُ لِلْغَائِبِينَ، وَالْخُطْبَةُ مَقْصُودُهَا التَّذْكِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاضِرِينَ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاضِرِينَ فَعَلَى هَذَا إنْ انْفَضُّوا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ عَادُوا فَحَضَرُوا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، أَجْزَأَهُمْ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُمْ، إلَّا أَنْ يَحْضُرُوا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، ثُمَّ يَنْفَضُّوا وَيَعُودُوا قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ، مِنْ غَيْرِ طُولِ الْفَصْلِ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ، إنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ لَهَا، لِتَصِحَّ لَهُمْ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّوْا ظُهْرًا، وَالْمَرْجِعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ (1344) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الشُّرُوطِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ نَقَصَ الْعَدَدُ قَبْلَ كَمَالِهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ فَقَدَ بَعْضَ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ فَقْدَ الطَّهَارَةِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ إنْ انْفَضُّوا بَعْدَ رَكْعَةٍ، أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى» . وَلِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا رَكْعَةً، فَصَحَّتْ لَهُمْ جُمُعَةً، كَالْمَسْبُوقِينَ بِرَكْعَةٍ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ يَخْتَصُّ الْجُمُعَةَ، فَلَمْ يَفُتْ بِفَوَاتِهِ فِي رَكْعَةٍ، كَمَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ انْفَضُّوا بَعْدَمَا صَلَّى رَكْعَةً بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكُوهَا بِسَجْدَتَيْهَا. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، أَتَمَّهَا جُمُعَةً لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْفَضُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَتَمَّهَا جُمُعَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: إنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ أَتَمَّهَا جُمُعَةً؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا رَكْعَةً كَامِلَةً بِشُرُوطِ الْجُمُعَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْفَضَّ الْجَمِيعُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فِي الْأُولَى. وَقَوْلُهُمْ: أَدْرَكَ مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ، يَبْطُلُ بِمَنْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْ الرَّكْعَةِ إلَّا السَّجْدَتَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مُعْظَمَهَا. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: بَقِيَ مَعَهُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَكْفِي فِي الدَّوَامِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً، فَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَيَسْتَأْنِفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 ظُهْرًا، إلَّا أَنْ يُمْكِنَهُمْ فِعْلُ الْجُمُعَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيُعِيدُونَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا عَنْ أَحْمَدَ، إنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَقَالَ: قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي الَّذِي زُحِمَ عَنْ أَفْعَالِ الْجُمُعَةِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ، يُتِمُّهَا ظُهْرًا، وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا يَحْتَاجُ إلَى جَوَامِعَ فَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي جَمِيعِهَا جَائِزَةٌ] (1345) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا يَحْتَاجُ إلَى جَوَامِعَ، فَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي جَمِيعِهَا جَائِزَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْبَلَدَ مَتَى كَانَ كَبِيرًا، يَشُقُّ عَلَى أَهْلِهِ الِاجْتِمَاعُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِهِ، أَوْ ضِيقِ مَسْجِدِهِ عَنْ أَهْلِهِ، كَبَغْدَادَ وَأَصْبَهَانَ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَمْصَارِ الْكِبَارِ، جَازَتْ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِهَا، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي بَغْدَادَ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالْجُمُعَةُ حَيْثُ تُقَامُ الْحُدُودُ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: إنَّهُ لَوْ وُجِدَ بَلَدٌ آخَرُ تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي مَوْضِعَيْنِ، جَازَتْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ حَيْثُ تُقَامُ الْحُدُودُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُجَمِّعُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ» وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلَوْ جَازَ لَمْ يُعَطِّلُوا الْمَسَاجِدَ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تُقَامُ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ، الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْإِمَامُ. وَلَنَا، أَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ وَالْخُطْبَةُ، فَجَازَتْ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ، كَصَلَاةِ الْعِيدِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْمُصَلَّى، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، فَيُصَلِّي بِهِمْ. فَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إقَامَةَ جُمُعَتَيْنِ، فَلِغِنَاهُمْ عَنْ إحْدَاهُمَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَرَوْنَ سَمَاعَ خُطْبَتِهِ، وَشُهُودَ جُمُعَتِهِ، وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ، لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَارِعُ الْأَحْكَامِ، وَلَمَّا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ صُلِّيَتْ فِي أَمَاكِنَ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَصَارَ إجْمَاعًا. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، يَعْنِي أَنَّهَا لَا تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ الصِّغَارِ وَيُتْرَكُ الْكَبِيرُ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: أَيُّ حَدٍّ كَانَ يُقَامُ بِالْمَدِينَةِ، قَدِمَهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُمْ مُخْتَبِئُونَ فِي دَارٍ، فَجَمَّعَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ. (1346) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَإِنْ حَصَلَ الْغِنَى بِاثْنَتَيْنِ لَمْ تَجُزْ الثَّالِثَةُ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا، إلَّا أَنَّ عَطَاءً قِيلَ لَهُ: إنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لَا يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ الْأَكْبَرُ. قَالَ: لِكُلِّ قَوْمٍ مَسْجِدٌ يُجَمِّعُونَ فِيهِ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ مِنْ التَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ. وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ أَنَّهُمْ جَمَّعُوا أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ، إذْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِالتَّحَكُّمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَإِنْ صَلَّوْا جُمُعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِحْدَاهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 جُمُعَةُ الْإِمَامِ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، وَالْأُخْرَى بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ جُمُعَةِ الْإِمَامِ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ، وَتَفْوِيتًا لَهُ الْجُمُعَةَ وَلِمَنْ يُصَلِّي مَعَهُ، وَيُفْضِي إلَى أَنَّهُ مَتَى شَاءَ أَرْبَعُونَ أَنْ يُفْسِدُوا صَلَاةَ أَهْلِ الْبَلَدِ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ، بِأَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَوْضِعٍ، وَيَسْبِقُوا أَهْلَ الْبَلَدِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ: السَّابِقَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ، لِأَنَّهَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا مَا يُفْسِدُهَا، وَلَا تَفْسُدُ بَعْدَ صِحَّتِهَا بِمَا بَعْدَهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَالْأُخْرَى فِي مَكَان صَغِيرٍ لَا يَسَعُ الْمُصَلِّينً، أَوْ لَا يُمْكِنُهُمْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِاخْتِصَاصِ السُّلْطَانِ وَجُنْدِهِ بِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي قَصَبَةِ الْبَلَدِ، وَالْآخَرُ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، كَانَ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْمَعَانِي صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ دُونَ الْأُخْرَى. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أَرَى الْجُمُعَةَ إلَّا لِأَهْلِ الْقَصَبَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِهَذِهِ الْمَعَانِي مَزِيَّةً تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ، فَقُدِّمَ بِهَا، كَجُمُعَةِ الْإِمَامِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ السَّابِقَةُ مِنْهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ آكَدُ، وَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ، لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا مَأْذُونًا فِيهِمَا، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَتَسَاوَى الْمَكَانَانِ فِي إمْكَانِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالسَّابِقَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِشُرُوطِهَا، وَلَمْ يُزَاحِمْهَا مَا يُبْطِلُهَا، وَلَا سَبَقَهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا، وَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي مِصْرٍ أُقِيمَتْ فِيهِ جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ، تُغْنِي عَمَّا سِوَاهَا وَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ بِالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَحْرَمَ بِإِحْدَاهُمَا حَرُمَ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِهَا؛ لِلْغِنَى عَنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ الْإِحْرَامُ بِهِمَا مَعًا فَهُمَا بَاطِلَتَانِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صِحَّتُهُمَا مَعًا، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِالْفَسَادِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَبَطَلَتَا كَالْمُتَزَوِّجِ أُخْتَيْنِ، أَوْ إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ رَجُلَيْنِ. وَإِنْ لَمْ تُعْلَم الْأَوْلَى مِنْهُمَا، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ كَيْفِيَّةُ وُقُوعِهِمَا، بَطَلَتَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا بَاطِلَةٌ، وَلَمْ تُعْلَمْ بِعَيْنِهَا، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِالْإِبْطَالِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَبَطَلَتَا كَالْمَسْأَلَتَيْنِ. ثُمَّ إنْ عَلِمْنَا فَسَادَ الْجُمُعَتَيْنِ لِوُقُوعِهِمَا مَعًا، وَجَبَ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، لِبَقَاءِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ مِصْرٌ مَا أُقِيمَتْ فِيهِ جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ لِإِقَامَتِهَا فَلَزِمَتْهُمْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُصَلُّوا شَيْئًا. وَإِنْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا إلَّا ظُهْرًا، لِأَنَّهُ مِصْرٌ تَيَقَّنَّا سُقُوطَ فَرْضِ الْجُمُعَةِ فِيهِ بِالْأَوْلَى مِنْهُمَا، فَلَمْ تَجُزْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ، كَمَا لَوْ عَلِمْنَاهَا وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمْ إقَامَةَ جُمُعَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِفَسَادِهِمَا مَعًا، فَكَأَنَّ الْمِصْرَ مَا صُلِّيَتْ فِيهِ جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَةَ لَمْ تَفْسُدْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ حُكْمِ الصِّحَّةِ لَهَا بِعَيْنِهَا؛ لِجَهْلِهَا، فَيَصِيرُ هَذَا كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَجَهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الصِّحَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَثَبَتَ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، بِحَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ فَأَمَّا إنْ جَهِلْنَا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِمَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ إحْدَاهُمَا، لِأَنَّ وُقُوعَهُمَا مَعًا - بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُ إحْرَامُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى - بَعِيدٌ جِدًّا، وَمَا كَانَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ، وَلِأَنَّنَا شَكَكْنَا فِي شَرْطِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ إقَامَتُهَا مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الشَّكِّ فِي شَرْطِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمْ إقَامَتَهَا؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّتِهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى (1347) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ فَتَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ أُقِيمَتْ فِي الْمِصْرِ، بَطَلَتْ الْجُمُعَةُ، وَلَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ، فَلَا تَصِحُّ، فَأَشْبَهَ، مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ ظُهْرًا، وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ إتْمَامَهَا ظُهْرًا قِيَاسًا عَلَى الْمَسْبُوقِ الَّذِي أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ، وَكَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ فَانْفَضَّ الْعَدَدُ قَبْلَ إتْمَامِهَا. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ هَذَا أَحْرَمَ بِهَا فِي وَقْتٍ لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِهَا، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ هَذَا. (1348) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ إلَى جَانِبِ مِصْرٍ، يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ مِنْهُ، فَأَقَامُوا جُمُعَةً فِيهَا، لَمْ تَبْطُلْ جُمُعَةُ أَهْلِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ، وَلِأَنَّ لِجُمُعَةِ الْمِصْرِ مَزِيَّةً بِكَوْنِهَا فِيهِ. وَلَوْ كَانَ مِصْرَانِ مُتَقَارِبَانِ، يَسْمَعُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ نِدَاءَ الْمِصْرِ الْآخَرِ، كَأَهْلِ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ، لَمْ تَبْطُلْ جُمُعَةُ أَحَدِهِمَا بِجُمُعَةِ الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ الْقَرْيَتَانِ الْمُتَقَارِبَتَانِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْهُمْ حُكْمَ أَنْفُسِهِمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ جُمُعَةَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لَا يَتِمُّ عَدَدُهَا بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَلَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ بِكَمَالِ الْعِدَّةِ بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ السَّعْيُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جُمُعَةٌ، فَهُمْ كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ. [مَسْأَلَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ] (1349) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا امْرَأَةٍ) وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي الْعَبْدِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّ الْجُمُعَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَيْسَتْ عَلَيْهِ بِوَاجِبَةٍ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا جُمُعَةَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ. وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحُضُورِ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَجِبُ عَلَيْهِ، فَالْجُمُعَةُ أَوْلَى وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَافِرُ فَلَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي سَفَرِهِ وَكَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُصَلِّ جُمُعَةً» وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، كَانُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 يُسَافِرُونَ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْجُمُعَةَ فِي سَفَرِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُقِيمُونَ بِالرَّيِّ السَّنَةَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَبِسِجِسْتَانَ السِّنِينَ. لَا يُجَمِّعُونَ وَلَا يُشَرِّقُونَ وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: أَقَمْتُ مَعَهُ سَنَتَيْنِ بِكَابُلَ، يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُجَمِّعُ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَأَقَامَ أَنَسٌ بِنَيْسَابُورَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، فَكَانَ لَا يُجَمِّعُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهَذَا إجْمَاعٌ مَعَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِيهِ، فَلَا يُسَوَّغُ مُخَالَفَتُهُ. (1350) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ. وَالثَّانِيَةُ، تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَذْهَبُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. نَقَلَهَا الْمَرُّوذِيُّ، وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ، إلَّا أَنَّ لَهُ تَرْكَهَا إذَا مَنَعَهُ السَّيِّدُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْجُمُعَةُ آكَدُ مِنْهَا، فَتَكُونُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي يُؤَدِّي الضَّرِيبَةَ، لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ قَدْ تَحَوَّلَ إلَى الْمَالِ، فَأَشْبَهَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. وَلَنَا، مَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: طَارِقٌ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلَّا مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، أَوْ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ مَمْلُوكًا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى خَمْسَةٍ: امْرَأَةٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوْ مُسَافِرٍ، أَوْ عَبْدٍ» . رَوَاهُ رَجَاءُ بْنُ مُرَجًّى الْغِفَارِيُّ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ يَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهَا مِنْ مَكَان بَعِيدٍ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكُ الْمَنْفَعَةِ، مَحْبُوسٌ عَلَى السَّيِّدِ أَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَجَازَ لَهُ الْمُضِيُّ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهَا، كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ، وَهَذَا مِنْهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 (1351) فَصْلٌ: وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ حُكْمُهُمَا فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْقِنِّ، لِبَقَاءِ الرِّقِّ فِيهِمَا. وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَإِنَّ حَقَّ سَيِّدِهِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ. (1352) فَصْلٌ: إذَا أَجْمَعَ الْمُسَافِرُ إقَامَةً تَمْنَعُ الْقَصْرَ، وَلَمْ يُرِدْ اسْتِيطَانَ الْبَلَدِ كَطَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ الرِّبَاطِ، أَوْ التَّاجِرِ الَّذِي يُقِيمُ لِبَيْعِ مَتَاعِهِ، أَوْ مُشْتَرِي شَيْءٍ لَا يُنْجَزُ إلَّا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَهَا إلَّا عَلَى الْخَمْسَةِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَوْطِنٍ، وَالِاسْتِيطَانُ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي هَذَا الْبَلَدِ عَلَى الدَّوَامِ، فَأَشْبَهَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَهَا صَيْفًا وَيَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ لَا يُجَمِّعُونَ وَلَا يُشَرِّقُونَ، أَيْ لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا عِيدًا. فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِهِ، لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ شَرْطِ الِانْعِقَادِ. (1353) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ فِي طَرِيقِهِ إلَيْهَا مَطَرٌ يَبُلُّ الثِّيَابَ، أَوْ وَحَلٌ يَشُقُّ الْمَشْيُ إلَيْهَا فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ الْمَطَرَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَمَرَ مُؤَذِّنَهُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَقَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ. فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ إلَيْهَا فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ عُذْرٌ فِي الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ عُذْرًا فِي الْجُمُعَةِ، كَالْمَرَضِ، وَتَسْقُطُ الْجُمُعَةُ بِكُلِّ عُذْرٍ يُسْقِطُ الْجَمَاعَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَعْذَارَ فِي آخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الْمَطَرَ هَاهُنَا لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 (1354) فَصْلٌ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْأَعْمَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ، وَالْأَخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ» وَمَا ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ. (1355) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْهُمْ) يَعْنِي تُجْزِئُهُمْ الْجُمُعَةُ عَنْ الظُّهْرِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُنَّ إذَا حَضَرْنَ فَصَلَّيْنَ الْجُمُعَةَ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُنَّ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْجُمُعَةِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُنَّ، فَإِذَا تَحَمَّلُوا الْمَشَقَّةَ وَصَلَّوْا، أَجْزَأَهُمْ، كَالْمَرِيضِ. (1356) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ،؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ. فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي حُضُورِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِيَنَالَ فَضْلَ الْجُمُعَةِ وَثَوَابَهَا، وَيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ مَنَعَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُضُورُهَا، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ كَانَتْ مُسِنَّةً فَلَا بَأْسَ بِحُضُورِهَا وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً، جَازَ حُضُورُهَا، وَصَلَاتُهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا خَيْرٌ لَهُمَا، كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» . وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يُخْرِجُ النِّسَاءَ مِنْ الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، يَقُولُ: اُخْرُجْنَ إلَى بُيُوتِكُنَّ خَيْرٌ لَكُنَّ. (1357) فَصْلٌ: وَلَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ إمَامًا فِيهَا، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُسَافِرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ رِجَالٌ تَصِحُّ مِنْهُمْ الْجُمُعَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ بِهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمُّوا فِيهَا، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ تَبَعًا لِمَنْ انْعَقَدَتْ بِهِ، فَلَوْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ أَوْ كَانُوا أَئِمَّةً فِيهَا صَارَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ الْحُرُّ الْمُقِيمُ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَوْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ لَانْعَقَدَتْ بِهِمْ مُنْفَرِدِينَ، كَالْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (1358) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَرِيضُ، وَمَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ مِنْ الْمَطَرِ وَالْخَوْفِ، فَإِذَا تَكَلَّفَ حُضُورَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِيهَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَهَا عَنْهُمْ إنَّمَا كَانَ لِمَشَقَّةِ السَّعْيِ، فَإِذَا تَكَلَّفُوا وَحَصَلُوا فِي الْجَامِعِ، زَالَتْ الْمَشَقَّةُ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، كَغَيْرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَعَادَهَا بَعْدَ صَلَاتِهِ ظُهْرًا) يَعْنِي مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ، لَمْ يَصِحَّ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ إنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا؛ لِأَنَّهَا الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهَا مَعَهُ صَلَّاهَا، وَإِنْ فَاتَتْهُ فَعَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهَا انْتَظَرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ صَلَّى، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: تَصِحُّ ظُهْرُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الْوَقْتِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا الْجُمُعَةُ بَدَلٌ عَنْهَا، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا، وَلِهَذَا إذَا تَعَذَّرَتْ الْجُمُعَةُ صَلَّى ظُهْرًا، فَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فَقَدْ أَتَى بِالْأَصْلِ، فَأَجْزَأَهُ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ سَعَى بَطَلَتْ ظُهْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ، أَجْزَأَتْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَلَّى مَا لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ، وَتَرَكَ مَا خُوطِبَ بِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْعَصْرَ مَكَانَ الظُّهْرِ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْجُمُعَةِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الظُّهْرُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعِيدًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ السَّعْيِ إلَيْهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَاطَبَ بِالظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ فِي الْوَقْتِ بِصَلَاتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ، وَلَا يَأْثَمُ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الظُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْوَاجِبُ مَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ دُونَ مَا لَمْ يَأْثَمْ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الْأَصْلَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، وَأَثِمَ بِتَرْكِهَا، وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَعَ إمْكَانِهَا، فَإِنَّ الْبَدَلَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَبْدَالِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا، وَلِأَنَّ الظُّهْرَ لَوْ صَحَّتْ لَمْ تَبْطُلْ بِالسَّعْيِ إلَى غَيْرِهَا، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا صَحَّتْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا، وَأَسْقَطَتْ الْفَرْضَ عَمَّنْ صَلَّاهَا، فَلَا يَجُوزُ اشْتِغَالُهَا بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا فُرِغَ مِنْهَا لَمْ تَبْطُلْ بِشَيْءٍ مِنْ مُبْطِلَاتِهَا، فَكَيْفَ تَبْطُلُ بِمَا لَيْسَ مِنْ مُبْطِلَاتِهَا، وَلَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطِهَا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَضَائِهَا، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَى الظُّهْرِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَهَذَا حَالُ الْبَدَلِ (1360) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرِ، ثُمَّ شَكَّ: هَلْ صَلَّى قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهَا؟ لَزِمَهُ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهَا إلَّا بِيَقِينٍ، وَلِأَنَّهُ، صَلَّاهَا مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهَا، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ صَلَّاهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 مَعَ الشَّكِّ فِي طَهَارَتِهَا. وَإِنْ صَلَّاهَا مَعَ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّاهَا قَبْلَهُ فِي وَقْتٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهَا. (1361) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، كَالْمُسَافِرِ، وَالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَرِيضِ، وَسَائِرِ الْمَعْذُورِينَ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بَقَاءَ الْعُذْرِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِالْجُمُعَةِ، فَصَحَّتْ مِنْهُ الظُّهْرُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَتَيَقَّنُ بَقَاءُ الْعُذْرِ. قُلْنَا: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَمَعْلُومٌ بَقَاءُ عُذْرِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَالظَّاهِرُ بَقَاءُ عُذْرِهِ، وَالْأَصْلُ اسْتِمْرَارُهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَيَمِّمَ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمَرِيضَ إذَا صَلَّى جَالِسًا، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ صَلَّاهَا، ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ، لَمْ تَبْطُلْ ظُهْرُهُ، وَكَانَتْ الْجُمُعَةُ نَفْلًا فِي حَقِّهِ، سَوَاءٌ زَالَ عُذْرُهُ أَوْ لَمْ يَزُلْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّامِتِ، فَقُلْتُ: نُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ أُمَرَاءَ فَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً.» وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» . وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ أَسْقَطَتْ فَرْضَهُ، وَأَبْرَأَتْ ذِمَّتَهُ، فَأَشْبَهَتْ مَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ سَعَى إلَى الْجَمَاعَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُصَلُّوا إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ؛ لِيَخْرُجُوا مِنْ الْخِلَافِ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ، فَيُدْرِكُونَ الْجُمُعَةَ. (1362) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ لِمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا، أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي جَمَاعَةٍ إذَا أَمِنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ، وَالرَّغْبَةِ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَهُ، أَوْ أَنَّهُ يَرَى الْإِعَادَةَ إذَا صَلَّى مَعَهُ. فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَعْمَشِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخْلُ مِنْ مَعْذُورِينَ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا جَمَاعَةً. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ، فَصَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَفَعَلَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَمُطَرِّفٌ، وَإِبْرَاهِيمُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَعْجَبَ النَّاسَ يُنْكِرُونَ هَذَا، فَأَمَّا زَمَنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مَعْذُورُونَ يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إعَادَتُهَا جَمَاعَةً فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي مَسْجِدٍ تُكْرَهُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ. وَتُكْرَهُ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُقِيمَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى النِّسْبَةِ إلَى الرَّغْبَةِ عَنْ الْجُمُعَةِ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ، أَوْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ فِيهِ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى فِتْنَةٍ، أَوْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُصَلِّيهَا فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ بِصَلَاتِهَا فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ] (1363) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَيَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ، وَيَتَطَيَّبَ) لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَفِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا إجْمَاعٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَاجِبٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ وَقَاوَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَجُلًا، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَنَا إذًا أَشَرُّ مِمَّنْ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَوَجْهُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَتَى مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ، حَيْثُ قَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْوُضُوءِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ؟» وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَدَّهُ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى تَأْكِيدِ النَّدْبِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي سِيَاقِهِ: " وَسِوَاكٌ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا " كَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالسِّوَاكُ، وَمَسُّ الطِّيبِ، لَا يَجِبُ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا يَرُوحُونَ إلَى الْجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ، فَتَظْهَرُ لَهُمْ رَائِحَةٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ اغْتَسَلْتُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى (1364) فَصْلٌ: وَقْتُ الْغُسْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَمَنْ اغْتَسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ اغْتَسَلَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ إلَّا أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الرَّوَاحُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» وَالْيَوْمُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَحْدَثَ، أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ، وَكَفَاهُ الْوُضُوءُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَاسْتَحَبَّ طَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، إعَادَةَ الْغُسْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ، وَالْحَدَثُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْغُسْلِ، وَهُوَ التَّنْظِيفُ، وَإِزَالَةُ الرَّائِحَةِ، وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْحَدَثُ فِي إبْطَالِهِ، كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ. (1365) فَصْلٌ: وَيَفْتَقِرُ الْغُسْلُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ مَحْضَةٌ، فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ، كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ غُسْلًا وَاحِدًا وَنَوَاهُمَا، أَجْزَأَهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَكْحُولٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ» أَيْ: جَامَعَ وَاغْتَسَلَ، وَلِأَنَّهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 غُسْلَانِ اجْتَمَعَا، فَأَشْبَهَا غُسْلَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، وَإِنْ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ، وَلَمْ يَنْوِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا لَا يُجْزِئُهُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُغْتَسِلًا، فَقَالَ: لِلْجُمُعَةِ اغْتَسَلْتَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ لِلْجَنَابَةِ. قَالَ: فَأَعِدْ غُسْلَ الْجُمُعَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ مُغْتَسِلٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيفُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِهَذَا الْغُسْلِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ» (1366) فَصْلٌ: وَمَنْ لَا يَأْتِي الْجُمُعَةَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى قِيَاسِهِنَّ الصِّبْيَانُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَلْقَمَةُ، لَا يَغْتَسِلَانِ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ طَلْحَةُ يَغْتَسِلُ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَطَاوُسٍ، وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْعَامَّةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيفُ، وَقَطْعُ الرَّائِحَةِ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى غَيْرُهُ بِهِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ، وَالْأَخْبَارُ الْعَامَّةُ يُرَادُ بِهَا هَذَا، وَلِهَذَا سَمَّاهُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَمَنْ لَا يَأْتِيهَا لَا يَكُونُ غُسْلُهُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ أَتَاهَا أَحَدٌ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْغُسْلُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ لِلْجُمُعَةِ] (1367) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقُولُ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمُعَةٍ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ: «مَنْ لَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاغْتَسَلَ.» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ؛ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضُ، أَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمَّ وَيَرْتَدِيَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَالْإِمَامُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ آكَدُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 [فَصْلٌ مِنْ آدَابِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ التَّطَيُّبُ وَالسِّوَاكُ] (1368) فَصْلٌ: وَالتَّطَيُّبُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَالسِّوَاكُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدَّهِنَ، وَيَتَنَظَّفَ بِأَخْذِ الشَّعْرِ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى.» [فَصْلٌ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ] (1369) فَصْلٌ: إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ.» وَقَوْلِهِ: «وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا» . وَقَوْلِهِ فِي الَّذِي جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: «اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، فَأَمَّا الْإِمَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ التَّخَطِّي، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. [فَصْلٌ رَأَى فُرْجَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي] (1370) فَصْلٌ: فَإِنْ رَأَى فُرْجَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَهُ التَّخَطِّي. قَالَ أَحْمَدُ: يَدْخُلُ الرَّجُلُ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يَدَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَوْضِعًا فَارِغًا، فَإِنْ جَهِلَ فَتَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَالِيًا فَلْيَتَخَطَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ، وَيَتَجَاوَزْهُ إلَى الْمَوْضِعِ الْخَالِي، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَنْ تَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَالِيًا، وَقَعَدَ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَتَخَطَّاهُمْ إلَى السَّعَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَتَخَطَّاهُمْ إلَى مُصَلَّاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَخَطُّوا رِقَابَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ، وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، إنْ كَانَ يَتَخَطَّى الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ يَسِيرٌ، فَعُفِيَ عَنْهُ، وَإِنْ كَثُرَ كَرِهْنَاهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ السَّبِيلَ إلَى مُصَلَّاهُ إلَّا بِأَنْ يَتَخَطَّى، فَيَسَعُهُ التَّخَطِّي، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَلَعَلَّ قَوْلَ أَحْمَدَ، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فِيمَا إذَا تَرَكُوا مَكَانًا وَاسِعًا، مِثْلُ الَّذِينَ يَصُفُّونَ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ، وَيَتْرُكُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ صُفُوفًا خَالِيَةً، فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَغِبُوا عَنْ الْفَضِيلَةِ وَخَيْرِ الصُّفُوفِ، وَجَلَسُوا فِي شَرِّهَا، وَلِأَنَّ تَخَطِّيَهُمْ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ الثَّانِي فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُفَرِّطُوا، وَإِنَّمَا جَلَسُوا فِي مَكَانِهِمْ؛ لِامْتِلَاءِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، لَكِنْ فِيهِ سَعَةٌ يُمْكِنُ الْجُلُوسُ فِيهِ لِازْدِحَامِهِمْ، وَمَتَى كَانَ لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا بِالدُّخُولِ وَتَخَطِّيهِمْ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. [فَصْلٌ إذَا جَلَسَ فِي مَكَان ثُمَّ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ] (1371) فَصْلٌ: إذَا جَلَسَ فِي مَكَان، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ. «قَالَ عُقْبَةُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى حُجَرِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَحُكْمُهُ فِي التَّخَطِّي إلَى مَوْضِعِهِ حُكْمُ مَنْ رَأَى بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةً. (1372) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ إنْسَانًا وَيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ رَاتِبًا لِشَخْصٍ يَجْلِسُ فِيهِ، أَوْ مَوْضِعَ حَلْقَةٍ لِمَنْ يُحَدِّثُ فِيهَا، أَوْ حَلْقَةً لِلْفُقَهَاءِ يَتَذَاكَرُونَ فِيهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ - يَعْنِي أَخَاهُ - مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَكَان فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَكَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَمَشَارِعِ الْمِيَاهِ وَالْمَعَادِنِ، فَإِنْ قَدَّمَ صَاحِبًا لَهُ، فَجَلَسَ فِي مَوْضِعٍ، حَتَّى إذَا جَاءَ قَامَ النَّائِبُ وَأَجْلَسَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَقُومُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يُرْسِلُ غُلَامًا لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيَجْلِسُ فِيهِ، فَإِذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ قَامَ الْغُلَامُ، وَجَلَسَ مُحَمَّدٌ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا فَقَامَ لِيَجْلِسَ آخَرُ فِي مَكَانِهِ، فَلَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ النَّائِبَ. وَأَمَّا الْقَائِمُ فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مِثْلِ مَكَانِهِ الَّذِي آثَرَ بِهِ فِي الْقُرْبِ، وَسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مَا دُونَهُ، كُرِهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الدِّينِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكْرَهَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَهْلِ الْفَضْلِ إلَى مَا يَلِي الْإِمَامَ مَشْرُوعٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» وَلَوْ آثَرَ شَخْصًا بِمَكَانِهِ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْبِقَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْجَالِسِ آثَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَقَامَ مَقَامَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 فِي اسْتِحْقَاقِهِ، كَمَا لَوْ يَحْجُرُ مَوَاتًا، أَوْ سَبَقَ إلَيْهِ، ثُمَّ آثَرَ غَيْرَهُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْقِيَامِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ، فَكَانَ السَّابِقُ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ، كَمَنْ وَسَّعَ لِرَجُلٍ فِي طَرِيقٍ، فَمَرَّ غَيْرُهُ، وَمَا قُلْنَا أَصَحُّ، وَيُفَارِقُ التَّوْسِعَةَ فِي الطَّرِيقِ، لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِلْمُرُورِ فِيهَا، فَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ مَكَان فِيهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ يُؤْثِرُ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَسْجِدُ، فَإِنَّهُ لِلْإِقَامَةِ فِيهِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُنْتَقِلِ مِنْ مَكَانِهِ إذَا انْتَقَلَ لِحَاجَةٍ، وَهَذَا إنَّمَا انْتَقَلَ مُؤْثِرًا لِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ النَّائِبَ الَّذِي بَعَثَهُ إنْسَانٌ لِيَجْلِسَ فِي مَوْضِعٍ يَحْفَظُهُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْجَالِسُ مَمْلُوكًا، لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُقِيمَهُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَهُوَ حَقٌّ دِينِيٌّ، فَاسْتَوَى هُوَ وَسَيِّدُهُ فِيهِ، كَالْحُقُوقِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إنْ فَرَشَ مُصَلًّى لَهُ فِي مَكَان] (1373) فَصْلٌ: وَإِنْ فَرَشَ مُصَلَّى لَهُ فِي مَكَان، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ رَفْعُهُ، وَالْجُلُوسُ فِي مَوْضِعِهِ، لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّبْقَ بِالْأَجْسَامِ، لَا بِالْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ صَاحِبَهُ يَتَأَخَّرُ، ثُمَّ يَتَخَطَّى رِقَابَ الْمُصَلِّينَ، وَرَفْعُهُ يَنْفِي ذَلِكَ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ؛ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى صَاحِبِهِ، رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْخُصُومَةِ، وَلِأَنَّهُ سَبَقَ إلَيْهِ، فَكَانَ كَمُحْتَجِرِ الْمَوَاتِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ الدُّنُوُّ مِنْ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1374) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ الدُّنُوُّ مِنْ الْإِمَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ، وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ، وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ، أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا لَفْظُهُ. وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُحْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا مِنْ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ دَخَلَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ مِنْ السَّمَاعِ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ فِي الْمَقْصُورَةِ] (1375) فَصْلٌ: وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَقْصُورَةِ الَّتِي تُحْمَى نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، وَهُوَ فِي الْمَقْصُورَةِ، خَرَجَ. وَكَرِهَهُ الْأَحْنَفُ، وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَرَخَّصَ فِيهَا أَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَنَافِعٌ، لِأَنَّهُ مَكَانٌ مِنْ الْجَامِعِ، فَلَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ، كَسَائِرِ الْمَسْجِدِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ يُمْنَعُ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، كَالْمَغْصُوبِ، فَكُرِهَ لِذَلِكَ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَا تُحْمَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُكْرَهَ الصَّلَاةُ فِيهَا، لِعَدَمِ شَبَهِ الْغَصْبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُكْرَهَ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصُّفُوفَ، فَأَشْبَهَتْ مَا بَيْنَ السَّوَارِي. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هُوَ الَّذِي يَلِي الْمَقْصُورَةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُورَةَ تُحْمَى. وَقَالَ: مَا أَدْرِي هَلْ الصَّفُّ الْأَوَّلُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمِنْبَرُ، أَوْ الَّذِي يَلِيهِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمِنْبَرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مَا دُونَهُ أَفْضَى إلَى خُلُوِّ مَا يَلِي الْإِمَامَ. وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلِيهِ فُضَلَاؤُهُمْ، وَلَوْ كَانَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَرَاءَ الْمِنْبَرِ، لَوَقَفُوا فِيهِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ نَعَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ مَوْضِعِهِ] (1376) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ نَعَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ مَوْضِعِهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَجْلِسِهِ، فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ» رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، فِي " سُنَنِهِ "، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَلِأَنَّ تَحَوُّلَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ يَصْرِفُ عَنْهُ النَّوْمَ. [فَصْلٌ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1377) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ، أَيْ بَلِيتَ. قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1378) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إلَى ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ» . رَوَاهُ زَيْدُونُ بْنُ عَلِيٍّ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنْ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَبَلَغَ نُورُهَا الْبَيْتَ الْعَتِيقَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 [فَصْلٌ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.] (1379) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَعَلَّهُ يُوَافِقُ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» . وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَفِي لَفْظٍ: «وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَطَاوُسٌ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَفَسَّرَ ابْنُ سَلَامٍ الصَّلَاةَ بِانْتِظَارِهَا. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ: إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إلَّا قَضَى اللَّهُ حَاجَتَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: فَأَشَارَ إلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ. فَقُلْتُ: صَدَقْتَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ. قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ. قُلْتُ: إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ. قَالَ: بَلَى، إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى، ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلِسُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَيَكُونُ الْقِيَامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقِيلَ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ مِنْ النَّهَارِ، لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أُعْطِيَ سُؤْلَهُ. قِيلَ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ السَّاعَةُ مُخْتَلِفَةً، فَتَكُونُ فِي حَقِّ كُلِّ قَوْمٍ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِهَا. وَقِيلَ: هِيَ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ النَّهَارِ. وَقَالَ كَعْبٌ: لَوْ قَسَّمَ الْإِنْسَانُ جُمَعَهُ فِي جُمَعٍ أَتَى عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ. وَقِيلَ هِيَ مُتَنَقِّلَةٌ فِي الْيَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ طَلَبَ حَاجَةٍ فِي يَوْمٍ لَيَسِيرٌ. وَقِيلَ: أَخْفَى اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السَّاعَةَ لِيَجْتَهِدَ عِبَادُهُ فِي دُعَائِهِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ طَلَبًا لَهَا، كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَأَوْلِيَاءَهُ فِي الْخَلْقِ، لِيُحْسَنَ الظَّنُّ بِالصَّالِحِينَ كُلِّهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 [مَسْأَلَةٌ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ] (1380) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ، أَجْزَأَتْهُمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ. وَالصَّحِيحُ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَلَاتُهَا فِيمَا قَبْلَ السَّادِسَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ، وَسَعِيدٍ، وَمُعَاوِيَةَ، أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَرَوَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَذْهَبُ إلَى أَنَّهَا كَصَلَاةِ الْعِيدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا كَانَ لِلنَّاسِ عِيدٌ إلَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كُلُّ عِيدٍ حِينَ يَمْتَدُّ الضُّحَى؛ الْجُمُعَةُ، وَالْأَضْحَى، وَالْفِطْرُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ عِيدٌ إلَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِنَا الْجُمُعَةَ فِي ظِلِّ الْحَطِيمِ» . رَوَاهُ ابْنُ الْبَخْتَرِيِّ فِي " أَمَالِيهِ " بِإِسْنَادِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةَ، أَنَّهُمَا صَلَّيَا الْجُمُعَةَ ضُحًى، وَقَالَا: إنَّمَا عَجَّلْنَا خَشْيَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلِأَنَّهَا عِيدٌ فَجَازَتْ فِي وَقْتِ الْعِيدِ، كَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عِيدٌ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ» . وَقَوْلُهُ: «قَدْ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ» . وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَقْتُهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا؛ لِقَوْلِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتْبَعُ الْفَيْءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَا وَقْتٍ، فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا، كَالْمَقْصُورَةِ وَالتَّامَّةِ، وَلِأَنَّ إحْدَاهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْأُخْرَى، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا، فَأَشْبَهَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، وَلِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهِمَا وَاحِدٌ، فَكَانَ أَوَّلُهُ وَاحِدًا، كَصَلَاةِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِهَا فِي السَّادِسَةِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي - يَعْنِي الْجُمُعَةَ - ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «مَا كُنَّا نُقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا يُسَمَّى غَدَاءٌ، وَلَا قَائِلَةٌ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَعَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ الْخُطْبَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَشَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ قَدْ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ صَلَّيْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ قَدْ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ، وَسَعِيدٍ، وَمُعَاوِيَةَ، أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَحَادِيثُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَأَنَّهُ الْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى، وَأَحَادِيثُنَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، لِمَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ، مِنْ نَصٍّ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ خُلَفَائِهِ، أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ كَوْنُ وَقْتِهَا وَقْتَ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالسَّاعَةِ السَّادِسَةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَنَّهَا لَوْ صُلِّيَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَفَاتَتْ أَكْثَرَ الْمُصَلِّينَ، فَإِنَّ الْعَادَةَ اجْتِمَاعُهُمْ لَهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهَا ضُحًى آحَادٌ مِنْ النَّاسِ، وَعَدَدٌ يَسِيرٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَوَجَدَ أَرْبَعَةً قَدْ سَبَقُوهُ، فَقَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَفْعَلُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا فِيهِ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ، وَيُعَجِّلُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَجِّلُهَا، بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَيُبَكِّرُونَ إلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَوْ انْتَظَرَ الْإِبْرَادَ بِهَا لَشَقَّ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ أَعْظَمُ مِنْهَا بِالْإِبْرَادِ بِالْجُمُعَةِ. [فَصْلٌ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ] (1381) فَصْلٌ: وَإِنْ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، سَقَطَ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ، إلَّا الْإِمَامَ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ الْجُمُعَةَ. وَقِيلَ: فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ وَمِمَّنْ قَالَ بِسُقُوطِهَا الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقِيلَ: هَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَسَعِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَجِبُ الْجُمُعَةُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ وَاجِبَتَانِ، فَلَمْ تَسْقُطْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَالظُّهْرِ مَعَ الْعِيدِ. وَلَنَا، مَا رَوَى إيَاسُ بْنُ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيُّ، قَالَ: «شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ «مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا زَادَتْ عَنْ الظُّهْرِ بِالْخُطْبَةِ، وَقَدْ حَصَلَ سَمَاعُهَا فِي الْعِيدِ، فَأَجْزَأَ عَنْ سَمَاعِهَا ثَانِيًا، وَلِأَنَّ وَقْتَهُمَا وَاحِدٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ، فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَالْجُمُعَةِ مَعَ الظُّهْرِ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مَخْصُوصٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالظُّهْرِ مَعَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَامْتَنَعَ فِعْلُ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُرِيدُهَا مِمَّنْ سَقَطَتْ عَنْهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ. (1382) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَّمَ الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: تُجْزِئُ الْأُولَى مِنْهُمَا، فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ عَنْ الْعِيدِ وَالظُّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَى الْعَصْرِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِ الْعِيدِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: عِيدَانِ قَدْ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَجَمَّعَهُمَا وَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً، فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ فِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى تَقْدِيمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَسَقَطَ الْعِيدُ، وَالظُّهْرُ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ تَأَكُّدِهَا، فَالْعِيدُ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهَا، أَمَّا إذَا قَدَّمَ الْعِيدَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي وَقْتِهَا إذَا لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ. [مَسْأَلَةٌ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَامِعِ فَرْسَخٌ] (1383) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَامِعِ فَرْسَخٌ) هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ أَهْلِ الْمِصْرِ، أَمَّا أَهْلُ الْمِصْرِ فَيَلْزَمُهُمْ كُلَّهُمْ الْجُمُعَةُ، بَعُدُوا أَوْ قَرُبُوا. قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَهْلُ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ شُهُودِهَا، سَمِعُوا النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ بُنِيَ لِلْجُمُعَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَلِأَنَّ الْمِصْرَ لَا يَكَادُ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ فَرْسَخٍ، فَهُوَ فِي مَظِنَّةِ الْقُرْبِ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمِصْرِ، فَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَامِعِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ، فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 «قَالَ لِلْأَعْمَى الَّذِي قَالَ: لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي: أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ» . وَلِأَنَّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَالْحَسَنِ، وَنَافِعٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَكَمِ وَعَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أَهْلِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أَهْلِهِ» . وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا جُمُعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى الْعِيدَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْعَوَالِي: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَنْصَرِفْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ فَلْيُقِمْ. وَلِأَنَّهُمْ خَارِجُ الْمِصْرِ، فَأَشْبَهَ أَهْلَ الْحِلَلِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِأَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْمِصْرِ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ، فَلَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا، كَأَهْلِ الْمِصْرِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ، يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ: ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ، اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ. وَإِنَّمَا فَعَلَ أَحْمَدُ هَذَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْحَدِيثَ شَيْئًا لِحَالِ إسْنَادِهِ. قَالَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا تَرْخِيصُ عُثْمَانَ لِأَهْلِ الْعَوَالِي فَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عِيدَانِ اُجْتُزِئَ بِالْعِيدِ، وَسَقَطَتْ الْجُمُعَةُ عَمَّنْ حَضَرَهُ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَهْلِ الْقُرَى بِأَهْلِ الْحِلَلِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِلَلِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ، وَلَا هُمْ سَاكِنُونَ بِقَرْيَةٍ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ جُعِلَ لِلِاسْتِيطَانِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ النِّدَاءِ فَلَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ النَّاسِ الْأَصَمُّ وَثَقِيلُ السَّمْعِ، وَقَدْ يَكُونُ النِّدَاءُ بَيْنَ يَدَيْ الْمِنْبَرِ، فَلَا يَسْمَعُهُ إلَّا مَنْ فِي الْجَامِعِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُؤَذِّنُ خَفِيَّ الصَّوْتِ، أَوْ فِي يَوْمٍ ذِي رِيحٍ، وَيَكُونُ الْمُسْتَمِعُ نَائِمًا أَوْ مَشْغُولًا بِمَا يَمْنَعُ السَّمَاعَ، فَلَا يَسْمَعُ، وَيَسْمَعُ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، فَيُفْضِي إلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ بِمِقْدَارٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْهُ النِّدَاءُ فِي الْغَالِبِ - إذَا كَانَ الْمُنَادِي صَيِّتًا، فِي مَوْضِعٍ عَالٍ، وَالرِّيحُ سَاكِنَةٌ، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ، وَالْمُسْتَمِعُ سَمِيعٌ غَيْرُ سَاهٍ وَلَا لَاهٍ - فَرْسَخٌ، أَوْ مَا قَارَبَهُ، فَحُدَّ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1384) فَصْلٌ: وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ لَا يَخْلُونَ مِنْ حَالَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ، أَوْ لَا، فَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 كَانَ بَيْنَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ السَّعْيُ إلَيْهِ، وَحَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ وَاجْتَمَعَتْ فِيهِمْ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ، فَعَلَيْهِمْ إقَامَتُهَا، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْمِصْرِ، وَبَيْنَ إقَامَتِهَا فِي قَرْيَتِهِمْ، وَالْأَفْضَلُ إقَامَتُهَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى سَعَى بَعْضُهُمْ أَخَلَّ عَلَى الْبَاقِينَ الْجُمُعَةَ، وَإِذَا أَقَامُوا حَضَرَهَا جَمِيعُهُمْ، وَفِي إقَامَتِهَا بِمَوْضِعِهِمْ تَكْثِيرُ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا، وَالْأَفْضَلُ السَّعْيُ إلَيْهَا، لِيَنَالَ فَضْلَ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَالْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ، فَيُنْظَرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ، لِمَا قَدَّمْنَا. وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِنْهُمْ قَرْيَةً أُخْرَى، لَمْ يَلْزَمْهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا، وَصَلَّوْا فِي مَكَانِهِمْ، إذْ لَيْسَتْ إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى. وَإِنْ أَحَبُّوا السَّعْيَ إلَيْهَا، جَازَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَكَانِهِمْ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. فَإِنْ سَعَى بَعْضُهُمْ فَنَقَصَ عَدَدُ الْبَاقِينَ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِصْرًا، فَهُمْ مُخَيَّرُونَ أَيْضًا بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْمِصْرِ، وَبَيْنَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِمْ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ السَّعْيَ يَلْزَمُهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ فَيُصَلُّونَ جُمُعَةً. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ جُمُعَةُ أَهْلِ الْمِصْرِ، فَكَانَ لَهُمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِمْ، كَمَا لَوْ سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنْ قَرْيَةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى يُقِيمُونَ الْجُمَعَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ الْمِصْرِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ بِأَقَلَّ مِنْ الْأَرْبَعِينَ] (1385) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْمِصْرِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَجَاءَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، فَأَقَامُوا الْجُمُعَةَ فِي الْمِصْرِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْمِصْرِ، وَأَهْلُ الْمِصْرِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ لِقِلَّتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ لَزِمَ أَهْلَ الْمِصْرِ السَّعْيُ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ أَقَلُّ مِنْ فَرْسَخٍ، فَلَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا، كَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ السَّعْيُ إلَى الْمِصْرِ إذَا أُقِيمَتْ بِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ. وَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، لَمْ يَجُزْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا] (1386) فَصْلٌ: وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مُسَافِرٍ يَسْمَعُ أَذَانَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ أَسْرَجَ دَابَّتَهُ، فَقَالَ: لِيَمْضِ فِي سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْجُمُعَةُ لَا تَحْبِسُ عَنْ سَفَرٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، لَا يُصْحَبُ فِي سَفَرِهِ، وَلَا يُعَانُ عَلَى حَاجَتِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَهَذَا وَعِيدٌ لَا يَلْحَقُ بِالْمُبَاحِ. وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهَا، كَاللَّهْوِ، وَالتِّجَارَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِهِ وَعَائِشَةَ، أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَتُعَارِضُ قَوْلَهُ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى السَّفَرِ قَبْلَ الْوَقْتِ. (1387) فَصْلٌ: وَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا، الْمَنْعُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَالثَّانِيَةَ، الْجَوَازُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِقَوْلِ عُمَرَ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ تَجِبْ، فَلَمْ يَحْرُمْ السَّفَرُ كَاللَّيْلِ. وَالثَّالِثَةَ، يُبَاحُ لِلْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَّهَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ، فَتَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا خَلَّفَكَ؟ قَالَ: الْجُمُعَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ قَالَ: غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَ: فَرَاحَ مُنْطَلِقًا.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَالْأَوْلَى الْجَوَازُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِيئَةٌ مِنْ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ إمْكَانُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَمَا قَبْلَ يَوْمِهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَمْنَعُ السَّفَرَ، وَيُخْتَلَفُ فِيمَا قَبْلَهُ، زَوَالُ الشَّمْسِ. وَلَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَعَلَّهُ بَنَى عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ الْعِيدِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهَا رُخْصَةٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْمَنْعِ، كَتَقْدِيمِ الْآخِرَةِ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ إلَى وَقْتِ الْأُولَى. (1388) فَصْلٌ: وَإِنْ خَافَ الْمُسَافِرُ فَوَاتِ رُفْقَتِهِ، جَازَ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي بَلَدِهِ فَأَرَادَ إنْشَاءَ السَّفَرِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ. [فَصْلٌ إنْ شَاءَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا] (1389) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إنْ شَاءَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ شَاءَ سِتًّا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَرَوْنَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا أَرْبَعًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ يُصَلِّي سِتًّا، لِمَا رُوِيَ «عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ، فَصَلَّى الْجُمُعَةَ، تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: وَكَانَ لَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَلَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ شَيْئًا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ، كَانَ جَائِزًا. قَدْ فَعَلَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ. يَعْنِي بَعْدَ الْجُمُعَةِ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ] (1390) فَصْلٌ: فَأَمَّا الصَّلَاةُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَعُ مِنْ قَبْلِ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ أَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَامُوا فَصَلَّوْا أَرْبَعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُنَّا نَكُونُ مَعَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ فِي الْجُمُعَةِ، فَيَقُولُ: أَزَالَتْ الشَّمْسُ بَعْدُ؟ وَيَلْتَفِتُ وَيَنْظُرُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، صَلَّى الْأَرْبَعَ الَّتِي قَبْلَ الْجُمُعَةِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. (1391) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الرُّكُوعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِكَلَامٍ، أَوْ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانِهِ، أَوْ خُرُوجٍ إلَى مَنْزِلِهِ؛ لِمَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إلَيَّ، فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِذَلِكَ، أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَدَفَعَهُ، وَقَالَ: أَتُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَرْبَعًا؟ «وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» [فَصْلٌ إذَا كَانُوا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ] (1392) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانُوا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَسْمَعَ إذَا كَانَ فَتْحًا مِنْ فُتُوحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَسْتَمِعْ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُهُمْ فَلَا يَسْتَمِعْ. وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الطُّرُقَاتِ: إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ بَابٌ مُغْلَقٌ فَلَا بَأْسَ. وَسُئِلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةٌ، قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ. قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ: إذَا دَخَلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي دَارٍ فِي الرَّحْبَةِ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَخْرُجُوا، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ التَّكْبِيرَ، فَإِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا وَيَرَوْنَ النَّاسَ، كَانَ جَائِزًا، وَيُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ مُغْلَقًا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مَعَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا فِي دَارٍ وَلَمْ يَرَوْا الْإِمَامَ، كَانُوا مُتَحَيِّزِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا اتَّفَقَ مَعَ ذَلِكَ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا إنْ كَانُوا فِي الرَّحْبَةِ أَوْ الطَّرِيقِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمْ إلَّا بَابُ الْمَسْجِدِ، وَيَسْمَعُونَ حِسَّ الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَفُتْ إلَّا الرُّؤْيَةُ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ. [فَصْلٌ مَا يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (1393) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " الم " وَ " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ " نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَلَمْ تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهَا مُفَضَّلَةٌ بِسَجْدَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسْتَحَبَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَدَامَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 [بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] ِ. الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «شَهِدْتُ صَلَاةَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ.» وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعِيدَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ. وَصَلَاةُ الْعِيدِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إذَا قَامَ بِهَا مَنْ يَكْفِي سَقَطَتْ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَلَيْسَتْ فَرْضًا، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْخُطْبَةُ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ، وَلَيْسَتْ فَرْضًا. كَالْجُمُعَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ ذَكَرَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ.» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ.» الْحَدِيثَ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَمْ يُشْرَعْ لَهَا أَذَانٌ، فَلَمْ تَجِبْ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ، كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا امْتَنَعَ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُقَاتِلُهُمْ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَا يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْأَعْيَانِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ صَلَاةٍ سِوَى الْخَمْسِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ صَلَّى مَعَهُ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ لَوَجَبَتْ خُطْبَتُهَا، وَوَجَبَ اسْتِمَاعُهَا كَالْجُمُعَةِ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْجُمْلَةِ، أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، بِقَوْلِهِ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَمُدَاوَمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلِهَا، وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَلِأَنَّهَا مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَجِبْ لَمْ يَجِبْ قِتَالُ تَارِكِيهَا، كَسَائِرِ السُّنَنِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقِتَالَ عُقُوبَةٌ لَا تَتَوَجَّهُ إلَى تَارِكِ مَنْدُوبٍ كَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ. فَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ لَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ، لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ، فَالْعِيدُ أَوْلَى. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ، لِتَأْكِيدِهَا وَوُجُوبِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وَوُجُوبِهَا عَلَى الدَّوَامِ، وَتَكَرُّرِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَغَيْرُهَا يَجِبُ نَادِرًا وَلِعَارِضٍ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَنْذُورَةِ وَالصَّلَاةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَقِيَاسُهُمْ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَا أَثَرَ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّوَافِلَ كُلَّهَا فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ، وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَيَجِبُ حَذْفُ هَذَا الْوَصْفِ، لِعَدَمِ أَثَرِهِ، ثُمَّ يُنْقَضُ قِيَاسُهُمْ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَيَنْتَقِضُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالْمَنْذُورَةِ. [مَسْأَلَةٌ إظْهَارُ التَّكْبِيرِ فِي لَيَالِي الْعِيدَيْنِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيُظْهِرُونَ التَّكْبِيرَ فِي لَيَالِي الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ فِي الْفِطْرِ آكَدُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ إظْهَارُ التَّكْبِيرِ فِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَطُرُقِهِمْ، مُسَافِرِينَ كَانُوا أَوْ مُقِيمِينَ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِهَا: لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عِنْدَ إكْمَالِهِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ. وَمَعْنَى إظْهَارِ التَّكْبِيرِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ، وَاسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَتَذْكِيرِ الْغَيْرِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، يَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا، وَيُعْجِبُنَا ذَلِكَ. وَاخْتُصَّ الْفِطْرُ بِمَزِيدِ تَأْكِيدٍ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ، وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ وَاجِبًا. وَقَالَ دَاوُد: هُوَ وَاجِبٌ فِي الْفِطْرِ؛ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَكْبِيرٌ فِي عِيدٍ، فَأَشْبَهَ تَكْبِيرَ الْأَضْحَى، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ إيجَابُهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَالْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ، إنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إرَادَتِهِ، فَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] (1395) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي طَرِيقِ الْعِيدِ، وَيَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: يُكَبِّرُ النَّاسُ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِصَلَاتَيْ الْعِيدَيْنِ جَهْرًا، حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامُ الْمُصَلَّى، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَتِهِ، وَيُنْصِتُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْعِيدِ كَبَّرَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ (1396) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: التَّكْبِيرُ فِي الْأَضْحَى مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ؛ فَالْمُقَيَّدُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ. وَالْمُطْلَقُ فِي كُلِّ حَالٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا الْفِطْرُ فَمَسْنُونُهُ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُكَبِّرُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى الصَّلَاةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَفِي الْأُخْرَى إلَى فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْغُسْلِ لِلْعِيدِ] (1397) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا أَصْبَحُوا تَطَهَّرُوا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْغُسْلِ لِلْعِيدِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ، وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْفَاكِهُ بْنُ سَعْدٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى» . وَرُوِيَ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنْ الْجُمَعِ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكُونُ الْجُمُعَةُ عِيدًا. وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ، فَاسْتُحِبَّ الْغُسْلُ فِيهِ، كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِيهَا، فَغَيْرُهَا أَوْلَى (1398) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ، وَيَتَطَيَّبَ، وَيَتَسَوَّكَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا، فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَتَجَمَّلْ بِهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْوَفْدِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجَمُّلَ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ مَشْهُورًا. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقِيمُ وَيَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَ حِبَرَةٍ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوْبَانِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ لِجُمُعَتِه وَعِيدِهِ.» وَقَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُلِّ عِيدٍ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ، لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ إلَّا أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ، لِيَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: طَاوُسٌ كَانَ يَأْمُرُ بِزِينَةِ الثِّيَابِ وَعَطَاءٌ قَالَ: هُوَ يَوْمُ التَّخَشُّعِ. وَأَسْتَحْسِنُهُمَا جَمِيعًا. وَذَكَرَ اسْتِحْبَابَ خُرُوجِهِ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 (1399) فَصْلٌ: وَوَقْتُ الْغُسْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، لِقَوْلِهِ: " فَإِذَا أَصْبَحُوا تَطَهَّرُوا ". قَالَ الْقَاضِي، وَالْآمِدِيُّ: إنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُصِبْ سُنَّةَ الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّهُ غُسْلُ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الْعِيدِ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ وُقِفَ عَلَى الْفَجْرِ رُبَّمَا فَاتَ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ فِي اللَّيْلِ لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي النَّظَافَةِ، لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " تَطَهَّرُوا " لَمْ يَخُصَّ بِهِ الْغُسْلَ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَا بَعْدَ الْفَجْرِ. [مَسْأَلَةٌ السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يَأْكُلَ فِي الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ] (1400) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَكَلُوا إنْ كَانَ فِطْرًا) السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَأْكُلَ فِي الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا قَالَ: أَنَسٌ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ اسْتَشْهَدَ بِهَا: " وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا ". وَرُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: " حَتَّى يُضَحِّيَ ". وَلِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ يَوْمٌ حَرُمَ فِيهِ الصِّيَامُ عَقِيبَ وُجُوبِهِ، فَاسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ لِإِظْهَارِ الْمُبَادَرَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي الْفِطْرِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَالْأَضْحَى بِخِلَافِهِ. وَلِأَنَّ فِي الْأَضْحَى شُرِعَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. قَالَ أَحْمَدُ: وَالْأَضْحَى لَا يَأْكُلُ فِيهِ حَتَّى يَرْجِعَ إذَا كَانَ لَهُ ذِبْحٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِبْحٌ لَمْ يُبَالِ أَنْ يَأْكُلَ. (1401) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى التَّمْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفْطِرُ عَلَيْهِ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا، لِقَوْلِ أَنَسٍ: يَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَلِأَنَّ الصَّائِمَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ كَذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى] (1402) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ غَدَوْا إلَى الْمُصَلَّى، مُظْهِرِينَ لِلتَّكْبِيرِ) السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى، أَمَرَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ وَاسِعًا، فَالصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَيْرُ الْبِقَاعِ وَأَطْهَرُهَا، وَلِذَلِكَ يُصَلِّي أَهْلُ مَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى وَيَدَعُ مَسْجِدَهُ» ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلَا يَتْرُكُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَفْضَلَ مَعَ قُرْبِهِ، وَيَتَكَلَّفُ فِعْلَ النَّاقِصِ مَعَ بُعْدِهِ، وَلَا يَشْرَعُ لِأُمَّتِهِ تَرْكَ الْفَضَائِلِ، وَلِأَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ النَّاقِصَ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْكَامِلَ، وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ بِمَسْجِدِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ النَّاسَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى، فَيُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى، مَعَ سَعَةِ الْمَسْجِدِ وَضِيقِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى مَعَ شَرَفِ مَسْجِدِهِ، وَصَلَاةُ النَّفْلِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ شَرَفِهِ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: قَدْ اجْتَمَعَ فِي الْمَسْجِدِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَعُمْيَانُهُمْ فَلَوْ صَلَّيْتَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: أُخَالِفُ السُّنَّةَ إذًا، وَلَكِنْ نَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى، وَأَسْتَخْلِفُ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ أَنْ يُخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ] (1403) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ أَنْ يُخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَى هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ أَمَرْتَ رَجُلًا يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ هَوْنًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ؟ قَالَ: إنْ أَمَرْتُ رَجُلًا يُصَلِّي أَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ أَرْبَعًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ أَبَا مَسْعُودٍ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ. (1404) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْخُرُوجَ، مِنْ مَطَرٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ غَيْرِهِ، صَلَّوْا فِي الْجَامِعِ، كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ «أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ إلَى الْعِيدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَّا الْإِمَامَ] (1405) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ إلَى الْعِيدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَّا الْإِمَامَ فَإِنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يُنْتَظَرُ وَلَا يَنْتَظِرُ، وَلَوْ جَاءَ إلَى الْمُصَلَّى وَقَعَدَ فِي مَكَان مُسْتَتِرٍ عَنْ النَّاسِ، فَلَا بَأْسَ. قَالَ مَالِكٌ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ مِنْ مَنْزِلِهِ قَدْرَ مَا يَبْلُغُ مُصَلَّاهُ، وَقَدْ حَلَّتْ الصَّلَاةُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّبْكِيرُ، وَالدُّنُوُّ مِنْ الْإِمَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 لِيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُ التَّبْكِيرِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ، وَلَا أَذَى أَحَدٍ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ يُصَلِّيَانِ الْفَجْرَ يَوْمَ الْعِيدِ، وَعَلَيْهِمَا ثِيَابُهُمَا، ثُمَّ يَتَدَافَعَانِ إلَى الْجَبَّانَةِ، أَحَدُهُمَا يُكَبِّرُ، وَالْآخَرُ يُهَلِّلُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ حَتَّى تَخْرُجَ الشَّمْسُ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ] (1406) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ. وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ الْمَشْيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْكَبْ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ» . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَأْتِيَ الْعِيدَ مَاشِيًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، وَكَانَ مَكَانُهُ بَعِيدًا فَرَكِبَ، فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَحْنُ نَمْشِي وَمَكَانُنَا قَرِيبٌ، وَإِنْ بَعُدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَ. قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زُبَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَقُولُ: إنَّ الْفِطْرَ غَدًا، فَامْشُوا إلَى مُصَلَّاكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلْيَرْكَبْ، فَإِذَا جَاءَ الْمَدِينَةَ فَلْيَمْشِ إلَى الْمُصَلَّى. (1407) فَصْلٌ: وَيُكَبِّرُ فِي طَرِيقِ الْعِيدِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: " مُظْهِرِينَ لِلتَّكْبِيرِ ". قَالَ أَحْمَدُ: يُكَبِّرُ جَهْرًا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَأَبِي رُهْمٍ، وَنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَفَعَلَهُ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى. وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَلَا يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَ التَّكْبِيرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَقِيلَ: يُكَبِّرُونَ. فَقَالَ: أَمَجَانِينُ النَّاسُ؟ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْحَوَّاكُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وَلَنَا، أَنَّهُ فِعْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَوْلُهُمْ. قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْعِيدِ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ. وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَبِّرُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْجَبَّانَةِ. فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَقُولُ: يُكَبِّرُونَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يُكَبِّرُونَ وَحْدَهُمْ. وَهَذَا خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى، أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ؟ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ. [فَصْلٌ خُرُوجُ النِّسَاءِ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْمُصَلَّى] (1408) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْمُصَلَّى. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُمَا قَالَا: حَقٌّ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ أَنْ تَخْرُجَ إلَى الْعِيدَيْنِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْرِجُ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْ أَهْلِهِ فِي الْعِيدَيْنِ. وَرَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَتْ: «كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْبِكْرُ مِنْ خِدْرِهَا، وَحَتَّى يَخْرُجَ الْحُيَّضُ فِيكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ» . وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، فَسَلَّمَ، فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكُنَّ، وَأَمَرَنَا بِالْعِيدَيْنِ أَنْ نُخْرِجَ فِيهِمَا الْحُيَّضَ وَالْعُتَّقَ، وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْنَا، وَنَهَانَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» . رَوَاهُ. أَبُو دَاوُد. وَقَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَا: لَا نَعْرِفُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ فِي الْعِيدَيْنِ عِنْدَنَا. وَكَرِهَهُ سُفْيَانُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَرَخَّصَ أَهْلُ الرَّأْيِ لِلْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ، وَكَرِهُوهُ لِلشَّابَّةِ؛ لِمَا فِي خُرُوجِهِنَّ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَقَوْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَحْدَثَتْ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ بِأَنَّ تِلْكَ يُكْرَهُ لَهَا الْخُرُوجُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْخُرُوجُ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ وَلَا يَلْبَسْنَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ وَلَا زِينَةٍ، وَلَا يَخْرُجْنَ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» . وَلَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ، بَلْ يَكُنَّ نَاحِيَةً مِنْهُمْ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ] (1409) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ، تَقَدَّمَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَفِيمَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ رَكْعَتَيْنِ، وَفَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى عَصْرِنَا، لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا خَالَفَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صَلَاةُ الْعِيدِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى وَقَوْلُهُ: " حَلَّتْ الصَّلَاةُ " يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا، أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، وَالصَّلَاةُ هَاهُنَا صَلَاةُ الْعِيدِ، وَحَلَّتْ مِنْ الْحُلُولِ كَقَوْلِهِمْ: حَلَّ الدَّيْنُ. إذَا جَاءَ أَجَلُهُ. وَالثَّانِي، مَعْنَاهُ إذَا أُبِيحَتْ الصَّلَاةُ. يَعْنِي النَّافِلَةَ، وَمَعْنَاهُ إذَا خَرَجَ وَقْتُ النَّهْيِ، وَهُوَ إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، وَحَلَّتْ مِنْ الْحِلِّ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] . وَهَذَا الْمَعْنَى أَحْسَنُ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْسِيرًا لِوَقْتِهَا، وَتَعْرِيفًا لَهُ بِالْوَقْتِ الَّذِي عُرِفَ فِي مَكَان آخَرَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ، لِوَقْتِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَقْتُهَا مِنْ حِينِ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، إلَى أَنْ يَقُومَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ وَقْتَيْ النَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: أَوَّلُ وَقْتِهَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ؛ لِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ، قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى، فَأَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ، وَقَالَ: إنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ، وَذَلِكَ حِينَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ» . وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْعِيدِ، كَقَبْلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلُّوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ، بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِعْلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى، وَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ تَحَكُّمًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا مَعْنَى نَصٍّ، وَلَا يَجُوزُ التَّوْقِيتُ بِالتَّحَكُّمِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، فَإِنَّهُ أَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْطَاءً، وَلَا جَازَ إنْكَارُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ خِلَافُهُ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُدَاوِمَ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَلَا الْمَفْضُولِ، وَلَوْ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (1410) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَضْحَى؛ لِيَتَّسِعَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ، وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ؛ لِيَتَّسِعَ وَقْتُ إخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ أَخِّرْ صَلَاةَ الْفِطْرِ، وَعَجِّلْ صَلَاةَ الْأَضْحَى» . وَلِأَنَّ لِكُلِّ عِيدٍ وَظِيفَةً، فَوَظِيفَةُ الْفِطْرِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ، وَوَقْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَوَظِيفَةُ الْأَضْحَى التَّضْحِيَةُ، وَوَقْتُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي تَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَتَقْدِيمِ الْأَضْحَى تَوْسِيعٌ لِوَظِيفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا. [مَسْأَلَةٌ لَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ] (1411) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ) وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ فِي الْعِيدِ ابْنُ زِيَادٍ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعِيدَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» . وَعَنْ جَابِرٍ مِثْلُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 أَنْ لَا أَذَانَ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ، وَلَا بَعْدَ مَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ، وَلَا إقَامَةَ، وَلَا نِدَاءَ وَلَا شَيْءَ، لَا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا إقَامَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. (1412) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا بِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " وَسُورَةٍ، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ يُشْرَعُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ الْجَهْرُ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَرَأَ فِي الْعِيدَيْنِ أَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ، وَلَمْ يَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَفِي إخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَ بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ عِيدٍ، فَأَشْبَهَتْ الْجُمُعَةَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأَوْلَى بِ (سَبِّحْ) ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَقَرَأَ بِهِمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْرَأُ بِ (ق) وَ (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ) . لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَاذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهِ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ بِ ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ، وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُوَقَّتُ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ. وَمَهْمَا قَرَأَ بِهِ أَجْزَأَهُ، وَكَانَ حَسَنًا، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمِلَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ، وَلِأَنَّ فِي (سَبِّحْ) الْحَثَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ. عَلَى مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] فَاخْتُصَّتْ الْفَضِيلَةُ بِهَا، كَاخْتِصَاصِ الْجُمُعَةِ بِسُورَتِهَا. (1413) فَصْلٌ: وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأَوْلَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَأَبِي مُوسَى، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ. وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَبُو عَائِشَةَ، جَلِيسٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ أَبَا مُوسَى وَحُذَيْفَةَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَدَقَ» . وَلَنَا، مَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ، فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الْأُولَى، وَخَمْسٌ فِي الْأَخِيرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلَيْهِمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعْدٍ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى ضَعِيفٌ. قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. [مَسْأَلَةٌ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ مِنْهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، مِنْهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ) قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا قِرَاءَةً، وَيُكَبِّرُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَا يَعْتَدُّ بِتَكْبِيرَةِ النُّهُوضِ، ثُمَّ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْكَعُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْمُزَنِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، قَالُوا: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكَبِّرُ سَبْعًا فِي الْأُولَى سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ» . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ: يُكَبِّرُ سَبْعًا سَبْعًا: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثَيْ أَبِي مُوسَى اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَلَنَا، أَحَادِيثُ كَثِيرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَائِشَةَ، الَّتِي قَدَّمْنَاهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رُوِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ حِسَانٍ «، أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الْعِيدِ سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ.» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي وَاقِدٍ، وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ خِلَافُ هَذَا، وَهُوَ أَوْلَى مَا عُمِلَ بِهِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَعْرُوفُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى سَبْعًا وَخَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى ضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ، أَبُو عَائِشَةَ جَلِيسٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. (1415) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تَكْبِيرِهِ حَسَبَ رَفْعِهِمَا مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَرْفَعُهُمَا فِيمَا عَدَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَأَشْبَهَتْ تَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ.» قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي الْجِنَازَةِ وَفِي الْعِيدِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا تَكْبِيرَ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يَقَعُ طَرَفَاهَا فِي حَالِ الْقِيَامِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ. [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ] (1416) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَسْتَفْتِحُ فِي أَوَّلِهَا، وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ، وَإِنْ أَحَبَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهُ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَحَبَّ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَيُكَبِّرُ فِي الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ سِوَى التَّكْبِيرَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مِنْ السُّجُودِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ) قَوْلُهُ: " يَسْتَفْتِحُ ". يَعْنِي يَدْعُو بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ يَقْرَأُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ تَلِيهِ الِاسْتِعَاذَةُ، وَهِيَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَعَوَّذُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ؛ لِئَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ شُرِعَ لِيَسْتَفْتِحَ بِهِ الصَّلَاةَ، فَكَانَ فِي أَوَّلِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ شُرِعَتْ لِلْقِرَاءَةِ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهَا، فَتَكُونُ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.» وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَلِي الِاسْتِفْتَاحَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، فَلَزِمَ أَنْ يَلِيَهُ مَا يَكُونُ فِي أَوَّلِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَأَيًّا مَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ فَعَلَ هَذَا بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ قَالَ غَيْرَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. أَوْ مَا شَاءَ مِنْ الذِّكْرِ، فَجَائِزٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُكَبِّرُ مُتَوَالِيًا، لَا ذِكْرَ بَيْنَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِلَ، كَمَا نُقِلَ التَّكْبِيرُ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ جِنْسٍ مَسْنُونٍ، فَكَانَ مُتَوَالِيًا، كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَلْقَمَةُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَأَبَا مُوسَى، وَحُذَيْفَةَ، خَرَجَ عَلَيْهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ قَبْلَ الْعِيدِ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذَا الْعِيدَ قَدْ دَنَا، فَكَيْفَ التَّكْبِيرُ فِيهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ تَبْدَأُ فَتُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً تَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلَاةَ، وَتَحْمَدُ رَبَّكَ، وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَقْرَأُ ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَرْكَعُ، ثُمَّ تَقُومُ فَتَقْرَأُ وَتَحْمَدُ رَبَّكَ، وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرْكَعُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ حَالَ الْقِيَامِ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا ذِكْرٌ، كَتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ، وَتُفَارِقُ التَّسْبِيحَ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَخْفَى وَلَا يَظْهَرُ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ. وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ. قَالَ الْقَاضِي: يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ آيَةٍ، لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (1417) فَصْلٌ: وَالتَّكْبِيرَاتُ وَالذِّكْرُ بَيْنهَا سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ، وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ، كَالِاسْتِفْتَاحِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَعُودُ إلَى التَّكْبِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ، فَيَأْتِي بِهِ كَمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقِيَامُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ وَيُكَبِّرُ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ، لِأَنَّهُ قَطَعَهَا مُتَعَمِّدًا بِذِكْرٍ طَوِيلٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَنْسِيُّ شَيْئًا يَسِيرًا احْتَمَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 أَنْ يَبْنِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَهَا بِقَوْلِ " آمِينَ ". وَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْتَدِئَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ بَعْدَهُ، فَيَسْتَأْنِفُهَا، لِيَأْتِيَ بِهَا بَعْدَهُ وَإِنْ ذَكَرَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، فَأَتَى بِهِ، لَمْ يُعِدْ الْقِرَاءَةَ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى رَكَعَ، سَقَطَ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ فَاتَ الْمَحَلَّ. وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ، لَمْ يُكَبِّرْ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ، بِدَلِيلِ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ حَالَ الْقِيَامِ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي الرُّكُوعِ، كَالِاسْتِفْتَاحِ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ، وَالْقُنُوتِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ بِإِدْرَاكِهِ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مُعْظَمَهَا، وَلَمْ يَفُتْهُ إلَّا الْقِيَامُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُ مَا يُجْزِئُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَحَلَّهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكَبِّرَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَنْصَتَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَبَّرَ. (1418) فَصْلٌ: وَإِذَا شَكَّ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ كَبَّرَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَى الْإِحْرَامَ أَوْ لَا، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَسْوَاسًا، فَلَا يَلْتَفِتْ إلَيْهِ. وَسَائِرُ الْمَسْأَلَةِ قَدْ سَبَقَ شَرْحُهَا. [مَسْأَلَةٌ إذَا سَلَّمَ خَطَبَ بِهِمْ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا] (1419) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا سَلَّمَ خَطَبَ بِهِمْ خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِطْرًا حَضَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يُخْرِجُونَ، وَإِنْ كَانَ أَضْحَى يُرَغِّبُهُمْ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُضَحَّى بِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا فَعَلَاهُ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ بَنِي أُمَيَّةَ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُمْ، وَمُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُمْ، وَعُدَّ بِدْعَةً وَمُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ، وَرَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَالَ: قَدَّمَ مَرْوَانُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: خَالَفْتَ السُّنَّةَ، كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَقَالَ: تُرِكَ ذَاكَ يَا أَبَا فُلَانٍ. فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا الْمُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ.» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُهُ: " فَلْيُغَيِّرْهُ ". فَعَلَى هَذَا مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَخْطُبْ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْخُطْبَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَطَبَ فِي الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ صِفَةَ الْخُطْبَتَيْنِ كَصِفَةِ خُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ، إلَّا أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ الْأُولَى بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ مُتَوَالِيَاتٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا تَهْلِيلًا أَوْ ذِكْرًا فَحَسَنٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: يُكَبِّرُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَخْطُبُ، وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ التَّكْبِيرَ فِي أَضْعَافِ خُطْبَتِهِ. وَرَوَى سَعْدٌ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ بَيْنَ أَضْعَافِ الْخُطْبَةِ، يُكْثِرُ التَّكْبِيرَ فِي خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فَإِذَا كَبَّرَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ كَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْعِيدِ عَلَى الْمِنْبَرِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ تَكْبِيرَةً، وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى، فَخَطَبَ قَائِمًا، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قَامَ.» وَيَجْلِسُ عَقِيبَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ. وَقِيلَ: لَا يَجْلِسُ عَقِيبَ صُعُودِهِ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْجُمُعَةِ لِلْأَذَانِ، وَلَا أَذَانَ هَاهُنَا. فَإِنْ كَانَ فِي الْفِطْرِ أَمَرَهُمْ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وُجُوبَهَا، وَثَوَابَهَا، وَقَدْرَ الْمُخْرَجِ، وَجِنْسَهُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَالْوَقْتَ الَّذِي يُخْرَجُ فِيهِ. وَفِي الْأَضْحَى يَذْكُرُ الْأُضْحِيَّةَ، وَفَضْلَهَا، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَمَا يُجْزِئُ فِيهَا، وَوَقْتَ ذَبْحِهَا، وَالْعُيُوبَ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْهَا، وَكَيْفِيَّةَ تَفْرِقَتِهَا، وَمَا يَقُولُهُ عِنْدَ ذَبْحِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ. وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ فَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَقَدْ أَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» . (1420) فَصْلٌ: وَالْخُطْبَتَانِ سُنَّةٌ، لَا يَجِبُ حُضُورُهَا وَلَا اسْتِمَاعُهَا؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ: إنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ. وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ عَنْ الصَّلَاةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ جُعِلَتْ فِي وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ مَنْ أَرَادَ تَرْكَهَا، مِنْ تَرْكِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَالِاسْتِمَاعُ لَهَا أَفْضَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا كَرِهَا الْكَلَامَ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: يَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْعِيدِ قَدْرَ مَا يَرْجِعُ النِّسَاءُ إلَى بُيُوتِهِنَّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْجُلُوسُ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، لِئَلَّا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ. وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْعِظَتِهِ النِّسَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُطْبَتِهِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُنَّ لَمْ يَنْصَرِفْنَ قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَسُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ. (1421) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى، فَخَطَبَ قَائِمًا، ثُمَّ قَعَدَ ثُمَّ قَامَ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهَا خُطْبَةُ عِيدٍ، فَأَشْبَهَتْ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ. وَإِنْ خَطَبَ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ. وَإِنْ خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَحَسَنٌ. قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمِيلَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ عَلَى دَابَّتِهِ، وَرَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَخْطُبُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَرَأَيْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَخْطُبُ عَلَى رَاحِلَتِهِ. [مَسْأَلَة لَا يَتَنَفَّل قَبْل صَلَاة الْعِيد وَلَا بَعْدهَا] (1422) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَنَفَّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا بَعْدَهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُصَلَّى أَوْ الْمَسْجِدِ. وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَبُرَيْدَةَ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَقَالَ بِهِ شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَسْرُوقٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا يَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا. يَعْنِي صَلَاةَ الْعِيدِ. وَقَالَ: مَا صَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ بَدْرِيٌّ. وَنَهَى عَنْهُ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ. وَرُوِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْعِيدِ، فَقَالَ: مَا كَانَ هَذَا يُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَتَطَوَّعُونَ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَتَطَوَّعُونَ قَبْلَهَا، وَبَعْدَهَا، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لَا يَتَطَوَّعُونَ قَبْلَهَا، وَيَتَطَوَّعُونَ بَعْدَهَا. وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَطَوَّعُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. وَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَتَطَوَّعُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ لِلْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّشَاغُلُ عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُكْرَهْ لِلْمَأْمُومِ، لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَمْ يُنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، أَشْبَهَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَنَهَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَرَوَوْا الْحَدِيثَ وَعَمِلُوا بِهِ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ الْإِمَامُ عَنْ التَّنَفُّلِ فِيهِ، فَكُرِهَ لِلْمَأْمُومِ، كَسَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَكَمَا قَبْلَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَمَا لَوْ كَانَ فِي الْمُصَلَّى عِنْد مَالِكٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: إنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّطَوُّعَ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامًا. قَالَ أَحْمَدُ: فَاَلَّذِينَ رَوَوْا هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَطَوَّعُوا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، هُمَا رَاوِيَاهُ، وَأَخَذَا بِهِ. يُشِيرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى أَنَّ عَمَلَ رَاوِي الْحَدِيثِ بِهِ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَتَفْسِيرُهُ يُقَدَّمُ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ لِلْإِمَامِ كَيْ لَا يَشْتَغِلَ عَنْ الصَّلَاةِ، لَاخْتَصَّتْ بِمَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، إذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا مَا يَشْتَغِلُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ تَنَفُّلٌ فِي الْمُصَلَّى وَقْتَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَكُرِهَ، كَاَلَّذِي سَلَّمُوهُ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالْإِمَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُكَبِّرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ سَبْعًا وَخَمْسًا، وَيَقُولُ: لَا صَلَاةَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا» . حَكَى ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ بَطَّةَ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ. [فَصْل رَجُلٌ يُصَلِّي صَلَاة فِي وَقْت الْعِيد] (1423) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي صَلَاةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَرَاهُ. يَعْنِي لَا يُصَلِّي. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَتَعَمَّدَ لِقَضَاءِ، صَلَاةٍ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ (1424) . فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَلَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ فِيهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا» . وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكَعَاتٍ فِي الْبَيْتِ، وَرُبَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ، يَدْخُلُ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَلِاشْتِغَالِهِ بِالصَّلَاةِ وَانْتِظَارِهَا، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةٌ الرُّجُوع فِي غَيْر الطَّرِيق الَّتِي غَدًا مِنْهَا فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ سُنَّة] (1425) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا غَدَا مِنْ طَرِيقٍ رَجَعَ مِنْ غَيْرِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي غَدَا مِنْهَا سُنَّةٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ رَجَعَ فِي غَيْرِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا فَعَلَ هَذَا قَصْدًا لِسُلُوكِ الْأَبْعَدِ فِي الذَّهَابِ لِيَكْثُرَ ثَوَابُهُ وَخُطُوَاتُهُ إلَى الصَّلَاةِ. وَيَعُودُ فِي الْأَقْرَبِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى مَنْزِلِهِ. وَقِيلَ: كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ. وَقِيلَ: كَانَ يُحِبُّ الْمُسَاوَاةَ بَيْن أَهْلِ الطَّرِيقَيْنِ فِي التَّبَرُّكِ بِمُرُورِهِ بِهِمْ، وَسُرُورِهِمْ بِرُؤْيَتِهِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَسْأَلَتِهِ. وَقِيلَ: لِتَحْصُلَ الصَّدَقَةُ مِمَّنْ صَحِبَهُ عَلَى أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ. وَقِيلَ: لِتَبَرُّكِ الطَّرِيقَيْنِ بِوَطْئِهِ عَلَيْهِمَا. وَفِي الْجُمْلَةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ؛ لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ أَجْلِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِمَعْنَى وَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ سُنَّةً، مَعَ زَوَالِ الْمَعْنَى، كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، فَعَلَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْكُفَّارِ، وَبَقِيَ سُنَّةً بَعْدَ زَوَالِهِمْ. وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ، وَلِمَنْ نُبْدِي مَنَاكِبَنَا وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ؟ ثُمَّ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: لَا نَدَعُ شَيْئًا فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ] (1426) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَإِنْ أَحَبَّ فَصَلَّ بِسَلَامٍ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَامَ بِهَا مَنْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ قَضَاءَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ صَلَّاهَا أَرْبَعًا، إمَّا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا بِسَلَامَيْنِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا، وَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَمَرْت رَجُلًا أَنْ يُصَلِّيَ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، أَمَرْته أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقَوِّي ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ أَرْبَعًا، وَلَا يَخْطُبُ. وَلِأَنَّهُ قَضَاءُ صَلَاةِ عِيدٍ، فَكَانَ أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ. وَإِنْ شَاءَ صَلَّاهَا عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ. نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاخْتَارَهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ بِالْبَصْرَةِ جَمَعَ أَهْلَهُ وَمَوَالِيهِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَاهُ فَيُصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، يُكَبِّرُ فِيهِمَا. وَلِأَنَّهُ قَضَاءُ صَلَاةٍ، فَكَانَ عَلَى صِفَتِهَا، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ صَلَّاهَا وَحْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ فِي جَمَاعَةٍ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَيْنَ يُصَلِّي؟ قَالَ: إنْ شَاءَ مَضَى إلَى الْمُصَلَّى، وَإِنْ شَاءَ حَيْثُ شَاءَ. (1427) فَصْلٌ: وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ جَلَسَ مَعَهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، يَأْتِي فِيهِمَا بِالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُبْدَلَةً مِنْ أَرْبَعٍ، فَقَضَاهَا عَلَى صِفَتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْخُطْبَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهَا إذَا صُلِّيَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي يَجِبُ الْإِنْصَاتُ لَهَا، فَفِي خُطْبَةِ الْعِيدِ أَوْلَى، وَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ فِي تَرْكِ التَّحِيَّةِ حُكْمَ مَنْ أَدْرَكَ الْعِيدَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجْلِسُ فَيَسْتَمِعُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يُصَلِّي؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَبْطُلُ بِالدَّاخِلِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الدَّاخِلَ بِالرُّكُوعِ، مَعَ أَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ آكَدُ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ فَيَسْتَمِعُ، ثُمَّ إنْ أَحَبَّ قَضَى صَلَاةَ الْعِيدِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ لَمْ يَعْلَم بِيَوْمِ الْعِيد إلَّا بَعْد زَوَال الشَّمْس] (1428) فَصْلٌ: إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِيَوْمِ الْعِيدِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، خَرَجَ مِنْ الْغَدِ، فَصَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَصَوَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُقْضَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ عَلِمَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَقَوْلِنَا، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُصَلِّ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ وَالْخُطْبَةُ، فَلَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَإِنَّمَا يُصَلِّيهَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْعِيدَ هُوَ الْغَدُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تُعَرِّفُونَ» . وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو عُمَيْرِ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا. فَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إلَى مُصَلَّاهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى، وَحَدِيثُ أَبِي عُمَيْرٍ صَحِيحٌ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَلَا تَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ الظُّهْرِ بِشَرَائِطَ مِنْهَا الْوَقْتُ، فَإِذَا فَاتَ وَاحِدٌ مِنْهَا رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ. [فَصْل فَاتَتْهُ صَلَاة الْعِيد حَتَّى زَالَتْ الشَّمْس وَأُحِبّ قَضَاءَهَا] (1429) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَاحِد إذَا فَاتَتْهُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَأَحَبَّ قَضَاءَهَا، قَضَاهَا مَتَى أَحَبَّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَقْضِيهَا إلَّا مِنْ الْغَدِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ تَطَوُّعٌ، فَمَتَى أَحَبَّ أَتَى بِهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ، لِأَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا يَوْمئِذٍ عَلَى أَنَّ الْعِيدَ فِي الْغَدِ، فَلَا يَجْتَمِعُونَ إلَّا مِنْ الْغَدِ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ. وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ، الَّتِي يُعْتَبَرُ لَهَا شُرُوطُ الْعِيدِ وَمَكَانُهُ وَصِفَةُ صَلَاتِهِ، فَاعْتُبِرَ لَهَا الْوَقْتُ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ شَرْط صَلَاة الْعِيدَيْنِ الِاسْتِيطَان] (1430) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ الِاسْتِيطَانُ لِوُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا فِي سَفَرِهِ. وَلَا خُلَفَاؤُهُ وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ الْمُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ عِيدٍ، فَأَشْبَهَتْ الْجُمُعَةَ. وَفِي إذْنِ الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا، لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِصِحَّتِهَا، لِأَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ فِي الْقَضَاءِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُقَامُ الْعِيدُ إلَّا حَيْثُ تُقَامُ الْجُمُعَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ إلَّا فِي مِصْرٍ، لِقَوْلِهِ: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَالثَّانِيَةُ، يُصَلِّيهَا الْمُنْفَرِدُ وَالْمُسَافِرُ، وَالْعَبْدُ وَالنِّسَاءُ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الِاسْتِيطَانُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ، كَالنَّوَافِلِ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ مَرَّةً، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا، لَمْ يَخْطُبُوا وَصَلَّوْا بِغَيْرِ خُطْبَةٍ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْرِيق الْكَلِمَةِ، وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مَا قِيلَ بِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ التَّكْبِير يَوْم عَرَفَة] (1431) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ) لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فِي أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ النَّحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّتِهِ، فَذَهَبَ إمَامُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّهُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِهِ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وَهِيَ الْعَشْرُ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ، وَالْحُجَّاجُ يَقْطَعُونَ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، وَيُكَبِّرُونَ مَعَ الرَّمْيِ، وَإِنَّمَا يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأَوَّلُ صَلَاةٍ بَعْدَ ذَلِكَ الظُّهْرُ، وَآخِرُ صَلَاةٍ يُصَلُّونَ بِمِنًى الْفَجْرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طُرُقٍ، وَفِي بَعْضِهَا: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ". وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَتَانَا عَلِيٌّ بَعْدَهُ فَكَبَّرَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قِيلَ لِأَحْمَدْ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِأَيِّ حَدِيثٍ تَذْهَبُ، إلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ قَالَ: بِالْإِجْمَاعِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] . وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَتَعَيَّنَ الذِّكْرُ فِي جَمِيعِهَا. وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ يُرْمَى فِيهَا، فَكَانَ التَّكْبِيرُ فِيهَا كَيَوْمِ النَّحْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] . فَالْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْهَدَايَا وَالْأَضَاحِيّ. وَيُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَنْعَامِ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَتَفْسِيرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي كُلِّ الْعَشْرِ وَلَا فِي أَكْثَرِهِ، وَإِنْ صَحَّ قَوْلُهُمْ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَيُعْمَلُ بِهِ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمُحْرِمُونَ فَإِنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَغَيْرُهُمْ يَبْتَدِئُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لَهُمْ فِي هَذَا. دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، فَلَا تُسْمَعُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 [فَصْلٌ صِفَة تَكْبِير الْعِيدَيْنِ] (1432) فَصْلٌ: وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ: عَلَى مَا هَدَانَا. لِقَوْلِهِ: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] . وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ جَابِرًا صَلَّى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شِعَارُ الْعِيدِ، فَكَانَ وِتْرًا، كَتَكْبِيرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ. وَلَنَا، خَبَرُ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَصٌّ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْبِيرِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُ جَابِرٍ لَا يُسْمَعُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، فَكَيْفَ قَدَّمُوهُ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِهِمْ؟ وَلِأَنَّهُ تَكْبِيرٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَكَانَ شَفْعًا، كَتَكْبِيرِ الْأَذَانِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ جَابِرًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا تَوْقِيفًا. فَاسِدٌ؛ لَوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ قَدْ رَوَى خِلَافَ قَوْلِهِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا صَرَّحَ بِهِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ ضِدِّهِ؟ الثَّانِي، أَنَّهُ إنْ كَانَ قَوْلُهُ تَوْقِيفًا، كَانَ قَوْلُ مَنْ خَالَفَهُ تَوْقِيفًا، فَكَيْفَ قَدَّمُوا الضَّعِيفَ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، مَعَ إمَامَةِ مَنْ خَالَفَهُ وَفَضْلِهِمْ فِي الْعِلْمِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَتِهِمْ؟ الثَّالِثُ، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَهُمْ، فَإِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يُحْمَلُ عَلَى التَّوْقِيفِ عِنْدَهُمْ. الرَّابِعُ، أَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى التَّوْقِيفِ مَا خَالَفَ الْأُصُولَ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ وِتْرًا. [مَسْأَلَةٌ التَّكْبِير عَقِيب الْفَرَائِض فِي الْعِيدَيْنِ] (1433) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (ثُمَّ لَا يَزَالُ يُكَبِّرُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، حَتَّى يُكَبِّرَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ يَقْطَعُ) الْمَشْرُوعُ عِنْدَ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، التَّكْبِيرُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ فِي الْجَمَاعَاتِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَذْهَبُ إلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ لَا يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّمَا التَّكْبِيرُ عَلَى مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَ النَّوَافِلِ، وَيُكَبِّرُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ كُلِّهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ عَقِيبَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَرِيضَةً كَانَتْ، أَوْ نَافِلَةً، مُنْفَرِدًا صَلَّاهَا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْعُولَةٌ، فَيُكَبِّرُ عَقِيبَهَا، كَالْفَرْضِ فِي جَمَاعَةٍ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 ذِكْرٌ مُخْتَصٌّ بِوَقْتِ الْعِيدِ. فَاخْتُصَّ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِلْفَرَائِضِ مَشْرُوعِيَّتُهُ لِلنَّوَافِلِ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِلْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَسْبُوقِ، فَاسْتُحِبَّ لِلْمُنْفَرِدِ، كَالسَّلَامِ. [فَصْلٌ النِّسَاء يُكَبِّرْنَ فِي الْجَمَاعَة فِي الْعِيدَيْنِ] (1434) فَصْلٌ: وَالْمُسَافِرُونَ كَالْمُقِيمِينَ، فِيمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِي تَكْبِيرِهِنَّ فِي الِانْفِرَادِ رِوَايَتَانِ كَالرِّجَالِ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ، قَالَ سُفْيَانُ: لَا يُكَبِّرُ النِّسَاءُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ. قَالَ: أَحْسَنُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ. وَيَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ يَخْفِضْنَ أَصْوَاتَهُنَّ، حَتَّى لَا يَسْمَعَهُنَّ الرِّجَالُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُنَّ لَا يُكَبِّرْنَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الصَّوْتِ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِي حَقِّهِنَّ، كَالْأَذَانِ [فَصْلٌ الْمَسْبُوق بِبَعْضِ الصَّلَاة يَكْبَر إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاء مَا فَاتَهُ فِي الْعِيدَيْنِ] (1435) فَصْلٌ: وَالْمَسْبُوقُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقْضِي، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، فَيَأْتِي بِهِ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، كَالتَّشَهُّدِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَمَكْحُولٍ: يُكَبِّرُ، ثَمَّ يَقْضِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذِكْرٌ شُرِعَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، كَالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالدُّعَاءِ بَعْدَهَا. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُصَلِّي سُجُودُ سَهْوٍ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُجُودٌ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَاةِ، فَكَانَ التَّكْبِيرُ بَعْدَهُ، وَبَعْدَ تَشَهُّدِهِ كَسُجُودِ صُلْبِ الصَّلَاةِ، وَآخِرُ مُدَّةِ التَّكْبِيرِ الْعَصْرُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ فَاتَتْهُ صَلَاة مِنْ أَيَّام التَّشْرِيق فَقَضَاهَا فِيهَا] (1436) فَصْلٌ: وَإِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِيهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤَدَّاةِ فِي التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَاتَتْهُ مِنْ غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِيهَا كَذَلِكَ. وَإِنْ فَاتَتْهُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَضَاهَا فِي غَيْرِهَا، لَمْ يُكَبِّرْ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مُقَيَّدٌ بِالْوَقْتِ، فَلَمْ يُفْعَلْ فِي غَيْرِهِ، كَالتَّلْبِيَةِ. [فَصْلٌ يَكْبَر مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة لِلْعِيدَيْنِ] (1437) فَصْلٌ: وَيُكَبِّرُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. حَكَاهُ أَحْمَدُ عَنْ إبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ، أَشْبَهَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَ كَيْفَمَا شَاءَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ» . وَإِنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكَبِّرْ. وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ مِنْ بَعْدِهَا، فَأَشْبَهَ سُجُودَ السَّهْوِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، فَاسْتُحِبَّ وَإِنْ خَرَجَ وَبَعُدَ، كَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَعْدَهَا. وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِهِ، فَجَلَسَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ مَاشِيًا. وَهَذَا أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الذِّكْرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَحْدَثَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُكَبِّرْ، عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا، لِأَنَّ الْحَدَثَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ. وَبَالَغَ ابْنُ عَقِيلٍ، فَقَالَ: إنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَكَلَّمَ، لَمْ يُكَبِّرْ. وَالْأَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذِكْرٌ مُنْفَرِدٌ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ، كَسَائِرِ الذِّكْرِ، وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ إمَّا بِنَصٍّ أَوْ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَإِذَا نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ كَبَّرَ الْمَأْمُومُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتْبَعُ الصَّلَاةَ، أَشْبَهَ سَائِرَ الذِّكْرِ. (1438) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي جَمَاعَةٍ، فَأَشْبَهَتْ الْفَجْرَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُسَنُّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَشْبَهَتْ النَّوَافِلَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَخَصُّ بِالْعِيدِ، فَكَانَتْ أَحَقَّ بِتَكْبِيرِهِ. [فَصْلٌ التَّكْبِير فِي غَيْر أَدْبَار الصَّلَوَات] (1439) فَصْلٌ: وَيُشْرَعُ التَّكْبِيرُ فِي غَيْرِ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ، تِلْكَ الْأَيَّامِ جَمِيعًا، وَكَانَ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمَا يَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ كُلِّهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] . كَمَا قَالَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] . وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا. وَيُسْتَحَبُّ الِاجْتِهَادُ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، مِنْ الذِّكْرِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ. لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلٌ قَوْل النَّاس فِي الْعِيدَيْنِ تَقْبَل اللَّه مِنَّا وَمِنْكُمْ] (1440) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُل لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك. وَقَالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ فِي الْعِيدَيْنِ تَقَبَّلَ اللَّهُ وَمِنْكُمْ. قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، يَرْوِيه أَهْلُ الشَّامِ عَنْ أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 أُمَامَةَ. قِيلَ: وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: فَلَا تُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا يَوْمَ الْعِيدِ. قَالَ: لَا. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَهْنِئَةِ الْعِيدِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ، قَالَ: كُنْت مَعَ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا مِنْ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لَبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك. وَقَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مُنْذُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَالَ: لَمْ يَزُلْ يُعْرَفُ هَذَا بِالْمَدِينَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَبْتَدِي بِهِ أَحَدًا، وَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ رَدَدْتُهُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لَا بَأْس بِالتَّعْرِيفِ عَشِيَّة عَرَفَة بِالْأَمْصَارِ بِمُقَدَّمِ الْعِيد] (1441) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْأَمْصَارِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ، يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَبَكْرٌ، وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَذِكْرٌ لِلَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ حَضَرَ مَعَ النَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 [كِتَاب صَلَاة الْخَوْف] ِ صَلَاةُ الْخَوْفِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الْآيَةُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ» ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّمَا كَانَتْ تَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ فِي حَقِّنَا، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] «. وَسُئِلَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَجَابَ: بِأَنَّنِي أَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ السَّائِلُ: لَسْتَ مِثْلَنَا، فَغَضِبَ وَقَالَ: إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» . وَلَوْ اخْتَصَّ بِفِعْلِهِ لَمَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِفِعْلِهِ جَوَابًا، وَلَا غَضِبَ مِنْ قَوْلِ السَّائِلِ: لَسْت مِثْلَنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - إذًا - يَكُونُ صَوَابًا. وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجُّونَ بِأَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرَوْنَهَا مُعَارِضَةً لِقَوْلِهِ وَنَاسِخَةً لَهُ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ «بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ» . تَرَكُوا بِهِ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» . وَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: هُنَّ أَعْلَمُ، إنَّمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ. وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَجْمَعُوا عَلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ لَيْلَةَ الْهَدِيرِ، وَصَلَّى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ بِطَبَرِسْتَانَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا. فَقَدَّمَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ. فَأَمَّا تَخْصِيصُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخِطَابِ، فَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِالْحُكْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنْكَرُوا عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ قَوْلَهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ، بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يُصَلِّ. قُلْنَا: هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالْإِجْمَاعَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 أَخَّرَ الصَّلَاةَ نِسْيَانًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُمْ عَنْ صَلَاتِهَا، فَقَالُوا: مَا صَلَّيْنَا» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ «قَالَ: مَا صَلَّيْت الْعَصْرَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» . أَوْ كَمَا جَاءَ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قِتَالٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاة الْخَوْف إذَا كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوّ وَهُوَ فِي سَفَر] (1442) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَصَلَاةُ الْخَوْفِ إذَا كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، ثُمَّ ذَهَبَتْ تَحْرُسُ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّتْ مَعَهُ رَكْعَةً وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، وَيُطِيلُ التَّشَهُّدَ حَتَّى يُتِمُّوا التَّشَهُّدَ، وَيُسَلِّمُ بِهِمْ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جَمِيعًا، فَإِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ يُبِيحُ الْقَصْرَ، صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَتُتِمُّ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِشَرَائِطَ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مُبَاحَ الْقِتَالِ، وَأَنْ لَا يُؤْمَنَ هُجُومُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ شَرْطِهَا كَوْنُ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْت لَهُ، حَدِيثُ سَهْلٍ، نَسْتَعْمِلُهُ مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ كَانُوا أَوْ مُسْتَدْبِرِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ أَنْكَى. وَلِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ يَكُونُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ عُسْفَانَ لِانْتِشَارِهِمْ، أَوْ اسْتِتَارِهِمْ، أَوْ الْخَوْفِ مِنْ كَمِينٍ، فَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ يُفْضِي إلَى تَفْوِيتهَا. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُصَلِّينَ كَثْرَةٌ يُمْكِنْ تَفْرِيقُهُمْ طَائِفَتَيْنِ، كُلُّ طَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ فَأَكْثَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَرِهْنَاهُ، لِأَنَّ أَحْمَدْ ذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَوَجْهُ. قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّائِفَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] . وَأَقَلُّ لَفْظِ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُشْتَرَطَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ عَدَدٌ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ طَائِفَةً كَالثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ مِثْلَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَدَدِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَيْنَا بِثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَفِّفَ بِهِمْ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُفَارِقُهُ تُصَلِّي لِنَفْسِهَا، تَقْرَأُ بِسُورَةٍ خَفِيفَةٍ، وَلَا تُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَقِلَّ قَائِمًا؛ لِأَنَّ النُّهُوضَ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 جَمِيعًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى مُفَارَقَتِهِمْ إيَّاهُ قَبْلَهُ، وَالْمُفَارَقَةُ إنَّمَا جَازَتْ لِلْعُذْرِ. وَيَقْرَأُ، وَيَتَشَهَّدُ، وَيُطِيلُ فِي حَالِ الِانْتِظَارِ حَتَّى يُدْرِكُوهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَقْرَأُ حَالَ الِانْتِظَارِ، بَلْ يُؤَخِّرُ الْقِرَاءَةَ لِيَقْرَأَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، لِيَكُونَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ سُكُوتٍ، وَالْقِيَامُ مَحَلٌّ لِلْقِرَاءَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِيهِ، كَمَا فِي التَّشَهُّدِ إذَا انْتَظَرَهُمْ فَإِنَّهُ يَتَشَهَّدُ وَلَا يَسْكُتُ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ تَحْصُلُ بِانْتِظَارِهِ إيَّاهُمْ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالْأَوْلَى فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ قَرَأَ فِي انْتِظَارِهِمْ قَرَأَ بَعْدَ مَا جَاءُوا بِقَدْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ خَفِيفَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي انْتِظَارِهِمْ قَرَأَ إذَا جَاءُوا بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ خَفِيفَةٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَوْ قَرَأَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ ثُمَّ رَكَعَ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ أَوْ قَبْلَهُ فَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا رَكَعُوا مَعَهُ، وَصَحَّتْ لَهُمْ الرَّكْعَةُ مَعَ تَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا فَصَلَّوْا رَكْعَةً أُخْرَى، وَأَطَالَ التَّشَهُّدَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ حَتَّى يُدْرِكُوهُ وَيَتَشَهَّدُوا، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَشَهَّدُونَ مَعَهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامُوا فَقَضَوْا مَا فَاتَهُمْ كَالْمَسْبُوقِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ كُلَّهَا مَعَهُ. وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّهُ سَلَّمَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ. وَلِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ بِالثَّانِيَةِ، لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَّا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلِّي كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، ثُمَّ صَلَّى لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَهِيَ فِي صَلَاتِهَا، ثُمَّ تَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَتُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ، وَتَرْجِعُ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَأَتَّى الطَّائِفَةُ الْأُولَى إلَى مَوْضِعِ صَلَاتِهَا، فَتُصَلِّي رَكْعَةً مُنْفَرِدَةً وَلَا تَقْرَأُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، فَتُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مُنْفَرِدَةً، وَتَقْرَأُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَارَقَتْ الْإِمَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسْبُوقِ إذَا فَارَقَ إمَامَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّكُمْ جَوَّزْتُمْ لِلْمَأْمُومِ فِرَاقَ إمَامِهِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الْأُولَى، وَلِلثَّانِيَةِ فِرَاقُهُ فِي الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ يَأْتُونَ بِرَكْعَةٍ وَهُمْ فِي إمَامَتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وَلَنَا، مَا رَوَى «صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ. أَمَّا مُوَافَقَةُ الْكِتَابِ، فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] . يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ صَلَاتِهَا مَعَهُ، وَعِنْدَهُ تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً فَقَطْ، وَعِنْدَنَا جَمِيعُ صَلَاتِهَا مَعَهُ، إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ تُوَافِقُهُ فِي أَفْعَالِهِ وَقِيَامِهِ، وَالثَّانِيَةُ تَأْتِي بِهَا قَبْلَ سَلَامِهِ، ثُمَّ تُسَلِّمُ مَعَهُ، وَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: لَمْ يُصَلُّوا أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَلَّتْ جَمِيعَ صَلَاتِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِمْ: لَمْ تُصَلِّ إلَّا بَعْضَهَا. وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَأْتِي بِصَلَاتِهَا مُتَوَالِيَةً، بَعْضُهَا تُوَافِقُ الْإِمَامَ فِيهَا فِعْلًا، وَبَعْضُهَا تُفَارِقُهُ، وَتَأْتِي بِهِ وَحْدَهَا كَالْمَسْبُوقِ. وَعِنْدَهُ تَنْصَرِفُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِمَّا أَنْ تَمْشِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَهَذَا عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَتَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ، وَهَذَا يُنَافِي الصَّلَاةَ، وَتَفَرَّقُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ تَفْرِيقًا كَثِيرًا بِمَا يُنَافِيهَا. ثُمَّ جَعَلُوا الطَّائِفَةَ الْأُولَى مُؤْتَمَّةً بِالْإِمَامِ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مَأْمُومًا فِي رَكْعَةٍ يَأْتِي بِهَا بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ. وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ لِلْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ وَالطَّعْنِ وَالتَّحْرِيضِ، وَإِعْلَامِ غَيْرِهِ بِمَا يَرَاهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ وَتَحْذِيرِهِ، وَإِعْلَامِ الَّذِينَ مَعَ الْإِمَامِ بِمَا يَحْدُثُ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمْ، وَلِأَنَّ مَبْنَى صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ تَطُولُ الصَّلَاةُ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ حَالَ الْأَمْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَحْتَاجُ إلَى مُضِيٍّ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ، وَرُجُوعٍ إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ، وَانْتِظَارٍ لِمُضِيِّ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَرُجُوعِهَا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ نِصْفُ مِيلٍ، تَحْتَاجُ كُلُّ طَائِفَةٍ إلَى مَشْيِ مِيلٍ، وَانْتِظَارٍ لِلْأُخْرَى قَدْرَ مَشْيِ مِيلٍ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَحْتَاجُ إلَى تَكْلِيفِ الرُّجُوعِ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ. وَلَا مَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، فَلَوْ احْتَاجَ الْآمِنُ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكُلْفَةِ فِي الْجَمَاعَةِ لَسَقَطَتْ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُكَلَّفُ الْخَائِفُ هَذَا وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ التَّخْفِيفِ، وَالْحَاجَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 إلَى الرِّفْقِ بِهِ. وَأَمَّا مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ فَجَائِزَةٌ لِلْعُذْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ وَالذَّهَابَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. (1443) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَكِنْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْأَوْلَى وَالْأَحْسَنِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. (1444) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِذَلك نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ. وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مِمَّنْ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِكِفَايَتِهَا وَحِرَاسَتِهَا، وَمَتَى خُشِيَ اخْتِلَالُ حَالِهِمْ وَاحْتِيجَ إلَى مَعُونَتِهِمْ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْهَدَ إلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ، وَيَبْنُوا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ. [فَصْلٌ صَلَّوْا الْجُمُعَة صَلَاة الْخَوْف] (1445) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَازَ، إذَا كَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَرْبَعِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَدَدُ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ كُلِّهَا، وَمَتَى ذَهَبَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بَقِيَ الْإِمَامُ مُنْفَرِدًا، فَتَبْطُلُ كَمَا لَوْ نَقَصَ الْعَدَدُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا جَازَ لِأَجْلِ الْعُذْرِ، وَلِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ مَجِيءَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ الِانْفِضَاضِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَيُصَلِّيَ بِالْأُخْرَى، حَتَّى يُصَلِّيَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. [فَصْلٌ الطَّائِفَة الْأُولَى فِي حُكْم الِائْتِمَام فِي صَلَاة الْخَوْف] (1446) فَصْلٌ: وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ سَهَا لَحِقَهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِ فِيمَا قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ، وَإِنْ سَهَوْا لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُومُونَ. وَأَمَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ: فَإِنْ سَهَا لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِ، فَإِنْ سَهَوْا لَحِقَهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، فَيَلْحَقُهَا حُكْمُ سَهْوِ إمَامِهَا فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ، مَا أَدْرَكَتْ مِنْهَا وَمَا فَاتَهَا، كَالْمَسْبُوقِ يَلْحَقُهُ حُكْمُ سَهْوِ إمَامِهِ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْهُ. وَلَا يَلْحَقُهَا حُكْمُ سَهْوِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ فَارَقَتْهُ فِعْلًا لِقَضَاءِ مَا فَاتَهَا، فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ بِسَلَامِهِ، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهَا، سَجَدَ وَسَجَدَتْ مَعَهُ، فَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِهَا سَجَدَتْ؛ لِأَنَّهَا مُؤْتَمَّةٌ بِهِ، فَيَلْزَمُهَا مُتَابَعَتُهُ، وَلَا تُعِيدُ السُّجُودَ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنْ التَّشَهُّدِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْفَرِدْ عَنْ الْإِمَامِ، فَلَا يَلْزَمُهَا مِنْ السُّجُودِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمهُ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَنْبَنِي هَذَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْبُوقِ إذَا سَجَدَ مَعَ إمَامِهِ ثُمَّ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 [مَسْأَلَةٌ خَافَ وَهُوَ مُقِيم أَنَّ يُصَلِّي] (1447) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ خَافَ وَهُوَ مُقِيمٌ، صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَأَتَمَّتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى تُتِمُّ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ فِي الْحَضَرِ، إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ بِنُزُولِ الْعَدُوِّ قَرِيبًا مِنْ الْبَلَدِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْحَضَرِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاةُ الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهَا فِي الْحَضَرِ. وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا كَقَوْلِنَا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الْآيَةُ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ، وَتَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَهَا فِي الْحَضَرِ إنَّمَا كَانَ لِغِنَاهُ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْحَضَرِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. قُلْنَا: وَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ، الصُّبْحُ وَالْجُمُعَةُ، وَالْمَغْرِبُ ثَلَاثٌ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ، وَلِأَنَّهَا حَالَةُ خَوْفٍ، فَجَازَتْ فِيهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ كَالسَّفَرِ، فَإِذَا صَلَّى بِهِمْ الرُّبَاعِيَّةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَهَلْ تُفَارِقُهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، أَوْ حِينَ يَقُومُ إلَى الثَّالِثَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، حِينَ قِيَامِهِ إلَى الثَّالِثَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّطْوِيلِ مِنْ أَجْلِ الِانْتِظَارِ، وَالتَّشَهُّدُ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ. وَلِأَنَّ ثَوَابَ الْقَائِمِ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّهُ إذَا انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا، فَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ، فَإِنَّهُ يَقُومُ قَبْل إحْرَامِهِمْ، فَلَا يَحْصُلُ اتِّبَاعُهُمْ لَهُ فِي الْقِيَامِ. وَالثَّانِي، فِي التَّشَهُّدِ؛ لِتُدْرِكْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَة، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ فِي الْجُلُوسِ أَخَفُّ عَلَى الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَتَى انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا احْتَاجَ إلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ. وَأَيًّا مَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا. وَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، جَلَسَتْ الطَّائِفَةُ مَعَهُ، فَتَشَهَّدَتْ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، وَقَامَتْ وَهُوَ جَالِسٌ فَأَتَمَّتْ صَلَاتَهَا، وَتَقْرَأُ فِي كُلّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ؛ لِأَنَّ مَا تَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهَا، وَلِأَنَّهَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَعَ الْإِمَامِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ. وَيُطَوِّلُ الْإِمَامُ التَّشَهُّدَ وَالدُّعَاءَ حَتَّى تُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ بِهِمْ. فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى، فَإِنَّمَا تَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ إمَامِهَا الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتِهَا. وَقَدْ قَرَأَ إمَامُهَا بِهَا السُّورَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ مَا تَقْضِيهِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَوَّلُ صَلَاتِهَا، فَعَلَى هَذَا تَسْتَفْتِحُ إذَا فَارَقَتْ إمَامَهَا، وَتَسْتَعِيذُ، وَتَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَلَّا تَسْتَفْتِحَ وَلَا تَسْتَعِيذَ وَلَا تَقْرَأَ السُّورَةَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُخَفِّفَ، وَإِنْ قَرَأَتْ سُورَةً فَلْتَكُنْ مِنْ أَخَفِّ السُّوَرِ، أَوْ تَقْرَأَ آيَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ مِنْ سُورَةٍ. وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالسَّلَامِ حَتَّى يَفْرَغَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ فَرَاغِ بَعْضِهِمْ، أَتَمَّ تَشَهُّدَهُ وَسَلَّمَ. [فَصْلٌ الرِّوَايَة فِيمَا يَقْضِيه الْمَسْبُوق فِي صَلَاة الْخَوْف] (1448) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَهَا. وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنْ مَا يَقْضِيه آخِرُ صَلَاتِهِ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٌ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ آخِرَهَا حُكْمًا، كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَلِأَنَّهُ يَتَشَهَّدُ فِي آخِرِ مَا يَقْضِيه وَيُسَلِّمُ، وَلَوْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَمَا تَشَهَّدَ وَكَانَ يَكْفِيهِ تَشَهُّدُهُ مَعَ الْإِمَامِ. وَلِلرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» . وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ لِلْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " فَأَتِمُّوا " أَيْ اقْضُوا، لِأَنَّ الْقَضَاءَ إتْمَامٌ؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ فَائِتًا، وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ يَقْرَأُ فِيمَا يَقْضِيهِ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً، فَكَانَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ. وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا يَقُولُونَ: يَقْضِي مَا فَاتَهُ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، عَلَى حَسَبِ مَا قَرَأَ إمَامُهُ، إلَّا إِسْحَاقَ وَالْمُزَنِيِّ وَدَاوُد، قَالُوا: يَقْرَأُ بِالْحَمْدُ وَحْدَهَا. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْقَضَاءِ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ، لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ حَالَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ، وَفِي مَوْضِعِ الْجَلْسَةِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فِي حَقِّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ وَالرُّبَاعِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الْمَغْرِب أَوْ الرَّبَاعِيَة فِي صَلَاة الْخَوْف] (1449) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَوْضِعِ الْجَلْسَةِ وَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ أَوْ الرُّبَاعِيَّةِ، إذَا قَضَى، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا قَامَ اسْتَفْتَحَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَفَعَلَ ذَلِكَ جُنْدُبٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَتَشَهَّدْ بَيْنَهُمَا كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَا جُلُوسَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، فَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا كالمؤداتين. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ، يَقْرَأُ فِيهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِيَ بِأُخْرَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، فِي الْمَغْرِبِ، أَوْ بِرَكْعَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، يَقْرَأُ فِي أُولَاهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْحَمْدُ وَحْدَهَا. نَقَلَهَا صَالِحٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَفَعَلَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ يَفْعَلُ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلزُّهْرِيِّ: مَا صَلَاةٌ يَجْلِسُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: هِيَ الْمَغْرِبُ إذَا أَدْرَكْت مِنْهَا رَكْعَةً، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ صَلَاتِهِ فِعْلًا، فَيَجِبُ أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَهَا كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: جَاءَ جُنْدُبٌ وَمَسْرُوقٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ، فَدَخَلَا فِي الصَّفِّ، فَقَرَأَ جُنْدُبٌ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَقْرَأْ مَسْرُوقٌ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَرَأَ جُنْدُبٌ وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ، وَجَلَسَ مَسْرُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَقَامَ جُنْدُبٌ، وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْرَأْ جُنْدُبٌ، فَلَمَّا قَضَيَا الصَّلَاةَ أَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ يُفْعَلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إذَا أَدْرَكْت رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ فَاجْلِسْ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ. وَأَيًّا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى جُنْدُبٍ فِعْلَهُ، وَلَا أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ صَلَاتِهِ. (1450) فَصْلٌ: إذَا فَرَّقَهُمْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ فِرْقَتَيْنِ، فَصَلَّى بِالْأُولَى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً، أَوْ بِالْأُولًى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا، صَحَّتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى انْتِظَارَيْنِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لِلسَّهْوِ، وَلَا سَهْوَ هَاهُنَا، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى سُجُودٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ، فَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، كَمَا لَوْ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ وَتَرَكَ رَفْعَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ. فَأَمَّا إِن فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ، فَصَلَّى فِي كُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ فِرَقٍ فَصَلَّى بِإِحْدَاهُنَّ رَكْعَتَيْنِ، وَبِالْبَاقِينَ رَكْعَةً رَكْعَةً. صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّا بِمَنْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا مَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُمَا، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَادَ انْتِظَارًا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِهِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ إنَّمَا يُصَارُ فِيهَا إلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ؛ لِائْتِمَامِهَا بِمَنْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً مِنْ أَوَّلِهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُحَدِّثٍ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَخْفَى عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، كَمَا اعْتَبَرْنَا فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ ائْتَمَّ بِمُحَدِّثٍ - خَفَاءَهُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ يَعْلَمَانِ وُجُودَ الْمُبْطِلِ. وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 حَدَثَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَعْلَمَا كَوْنَهُ مُبْطِلًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَنْصُوصُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ تَبْطُلُ بِالِانْتِظَارِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى انْتِظَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِيَادَةً لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا. وَلَنَا عَلَى الْأَوَّلِ، أَنَّ الرُّخَصَ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا. وَعَلَى الثَّانِي، أَنَّ طُولَ الِانْتِظَارِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَبْطَأَتْ الثَّانِيَةُ فِيمَا إذَا فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ الصَّلَاة مَغْرِبًا فِي صَلَاة الْخَوْف] (1451) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَةً تَقْرَأُ فِيهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَيُصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَتَيْنِ، تَقْرَأُ فِيهِمَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي آخَرَ: يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَةً، وَالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى لَيْلَةَ الْهَدِيرِ هَكَذَا، وَلِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ وَالتَّقَدُّمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَزِيدَ الثَّانِيَةُ فِي الرَّكَعَاتِ؛ لِيُجْبَرَ نَقْصُهُمْ، وَتُسَاوِيَ الْأُولَى. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّفْضِيلِ، فَالْأُولَى أَحَقُّ بِهِ، وَلِأَنَّهُ يُجْبَرُ مَا فَاتَ الثَّانِيَةَ بِإِدْرَاكِهَا السَّلَامَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهَا تُصَلِّي جَمِيعَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ، وَالْأُولَى تَفْعَلُ بَعْضَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ الِانْفِرَادِ، وَأَيًّا مَا فَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَهَلْ تُفَارِقُهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ، أَوْ حِينَ يَقُومُ إلَى الثَّالِثَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِذَا صَلَّى بِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ، وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ تَقُومُ وَلَا تَتَشَهَّدُ مَعَهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِتَشَهُّدِهَا، بِخِلَافِ الرُّبَاعِيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَتَشَهَّدَ مَعَهُ، لِأَنَّهَا تَقْضِي رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَيُفْضِي إلَى أَنْ تُصَلِّيَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا فِي الصَّلَوَاتِ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَتَشَهَّدُ مَعَهُ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ تَقُومُ، كَالصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ سَوَاءً. [فَصْل يُسْتَحَبّ أَنْ يَحْمِل السِّلَاح فِي صَلَاة الْخَوْف] فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ السِّلَاحَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] . وَلِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَيَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] . وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ. كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَلَا يُثْقِلُهُ، كَالْجَوْشَنِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ إكْمَالِ السُّجُودِ، كَالْمِغْفَرِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَلَا مَا يُؤْذِي غَيْرَهُ، كَالرُّمْحِ إذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاشِيَةِ لَمْ يُكْرَهْ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ نَجَسٍ، وَلَا مَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، مِثْلُ أَنْ يَخَافَ وُقُوعَ الْحِجَارَةِ أَوْ السِّهَامِ بِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ حَمْلُهُ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجِبُ حَمْلُ السِّلَاحِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ كَالسُّتْرَةِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِيجَابِ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَهَى عَنْ الْوِصَالِ رِفْقًا بِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْحُجَّةُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْإِيجَابِ بِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] . وَنَفْيُ الْحَرَجِ مَشْرُوطًا بِالْأَذَى دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ بِهِمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلَا يَجِبُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، بِتَصْرِيحِ النَّصِّ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فِيهِ. [فَصْل يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف عَلَى كُلّ صِفَة صَلَّاهَا رَسُول اللَّه] . (1453) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَحْمَدُ: كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ. وَقَالَ: سِتَّةُ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٌ يُرْوَى فِيهَا، كُلُّهَا جَائِزٌ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا كُلُّ حَدِيثٍ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ تَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهَا. قَالَ: أَنَا أَقُولُ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهَا كُلَّهَا فَحَسَنٌ، وَأَمَّا حَدِيث سَهْلٍ فَأَنَا أَخْتَارُهُ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَذْكُرُ الْوُجُوهَ الَّتِي بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا، مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ حَدِيثُ سَهْلٍ. وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ، صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُسْفَانَ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ قَالَ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُسْفَانَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَصَلَّيْنَا الظُّهْرَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَصَبْنَا غِرَّةً لَوْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْقَصْرِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالْمُشْرِكُونَ أَمَامَهُ، فَصَفَّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفٌّ، وَصَفَّ خَلْفَ ذَلِكَ الصَّفِّ صَفٌّ آخَرُ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى بِهَؤُلَاءِ السَّجْدَتَيْنِ وَقَامُوا، سَجَدَ الْآخَرُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُمْ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ إلَى مَقَامِ الْآخَرِينَ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْآخَرُ إلَى مَقَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ سَجَدَ الْآخَرُونَ، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَصَلَّاهَا بِعُسْفَانَ، وَصَلَّاهَا يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ أَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ حِينَ سَأَلَهُمْ: أَيُّكُمْ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا. وَأَمَرَهُ بِنَحْوِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: وَتَأْمُرُ أَصْحَابَكَ إنْ هَاجَهُمْ هَيْجٌ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ الْقِتَالُ وَالْكَلَامُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي الْأُولَى، وَالثَّانِي فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ الثَّانِي إلَى مَقَامِ الْأَوَّلِ، أَوْ حَرَسَ بَعْضُ الصَّفِّ وَسَجَدَ الْبَاقُونَ، جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ، لَكِنَّ الْأُولَى فِعْلُ مِثْلَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِرَاسَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَّا كَذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يُخَافُ كَمِينٌ لَهُمْ. (1454) فَصْلٌ: الْوَجْهُ الرَّابِعُ، أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً مُنْفَرِدَةً، وَيُسَلِّمَ بِهَا، كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ: قَالَ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَوْفٍ الظُّهْرَ، فَصَفَّ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، وَبَعْضُهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعٌ، وَلِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَانِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَهَذِهِ صِفَةٌ حَسَنَةٌ، قَلِيلَةُ الْكُلْفَةِ، لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ، وَلَا إلَى تَعْرِيفِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي الثَّانِيَةِ مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُفْتَرِضِينَ. (1455) فَصْلٌ: الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يُسَلِّمَ، ثُمَّ تُسَلِّمُ الطَّائِفَةُ، وَتَنْصَرِفُ وَلَا تَقْضِي شَيْئًا. وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَيُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ، وَيُسَلِّمُ بِهَا، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا. وَهَذَا مِثْلُ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَضَتْ رَكْعَتَيْنِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ صِفَةَ الرِّوَايَةِ، وَقَوْلَ أَحْمَدَ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى مَحْمَلٍ فَاسِدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 أَمَّا الرِّوَايَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: سِتَّةُ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٌ، يُرْوَى فِيهَا، كُلُّهَا جَائِزٌ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا تَكُونُ سِتَّةً وَلَا خَمْسَةً. وَلِأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَهُوَ جَائِزٌ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا فَسَادُ الْمَحْمَلِ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي تَخْفِيفَ الصَّلَاةِ وَقَصْرَهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجْعَلُ مَكَانَ الرَّكْعَتَيْنِ أَرْبَعًا. وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ الْمَقْصُورَةَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ السَّفَرِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ أَتَمَّهَا، فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ. (1456) فَصْلٌ: الْوَجْهُ السَّادِسُ، أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي قَرَدٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَفَّ صَفًّا خَلْفَهُ، وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وَرَجَعَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ، وَكَانَتْ لَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ.» رَوَاهُ. الْأَثْرَمُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. رَوَاهُنَّ الْأَثْرَمُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو دَاوُد، فِي " السُّنَنِ "، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ. قَالَ: إنَّمَا الْقَصْرُ رَكْعَةٌ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ كَذَا يَقُولُونَ: رَكْعَةً فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ، يُومِئُ إيمَاءً. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُجْزِئُكَ عِنْدَ الشِّدَّةِ رَكْعَةٌ، تُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَتَكْبِيرَةٌ، لِأَنَّهَا ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ الضَّحَّاكِ، أَنَّهُ قَالَ: رَكْعَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. فَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي عُمُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازَهَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ سِتَّةَ أَوْجُهٍ، وَلَا أَعْلَمُ وَجْهًا سَادِسًا سِوَاهَا، وَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: لَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، لَا يُجِيزُونَ رَكْعَةً، وَاَلَّذِي قَالَ مِنْهُمْ رَكْعَةً، إنَّمَا جَعَلَهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ وَاَلَّذِينَ رَوَيْنَا عَنْهُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا عَنْ رَكْعَتَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَحْضُرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَوَاتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ وَصَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 [فَصْلٌ صَلَّى بِهِمْ صَلَاة الْخَوْف مِنْ غَيْر خَوْف] (1457) فَصْلٌ: وَمَتَى صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ مُفَارِقِ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَتَارِكِ مُتَابَعَةِ إمَامِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ، أَوْ قَاصِرٍ لِلصَّلَاةِ مَعَ إتْمَامِ إمَامِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، إلَّا مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ. وَإِذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى إمَامًا بِمَنْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الثَّانِيَةِ تُبْنَى عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَقَدْ نَصَرْنَا جَوَازَهُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْخَوْف شَدِيدًا وَهُمْ فِي حَالَ الْمُسَايَفَة] (1458) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ شَدِيدًا، وَهُمْ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، صَلَّوْا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا، يُومِئُونَ إيمَاءً، يَبْتَدِئُونَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ قَدَرُوا، أَوْ إلَى غَيْرِهَا) . أَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يُصَلِّي مَعَ الْمُسَايَفَةِ، وَلَا مَعَ الْمَشْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَنَعَهَا مَعَهُ، كَالْحَدَثِ وَالصِّيَاحِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلِّي، وَلَكِنْ إنْ تَابَعَ الطَّعْنَ، أَوْ الضَّرْبَ، أَوْ الْمَشْيَ، أَوْ فَعَلَ مَا يَطُولُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ الْحَدَثَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، صَلُّوا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَشْيِ إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِقَضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، وَهَذَا مَشْيٌ كَثِيرٌ، وَعَمَلٌ طَوِيلٌ، وَاسْتِدْبَارٌ لِلْقِبْلَةِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ الَّذِي لَيْسَ بِشَدِيدٍ، فَمَعَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ أَوْلَى. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ دُونَ سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْعَمَلِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَسَوَّغَهُ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ، وَإِمْكَانِ الصَّلَاةِ بِدُونِهِ، ثُمَّ مَنَعَهُ فِي حَالٍ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ الْعَكْسُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرُّخْصَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إخْلَاءُ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَنْ فِعْلِهَا، كَالْمَرِيضِ، وَيَخُصُّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ عَمَلٌ أُبِيحَ مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ، فَلَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ بِهِ، كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ، وَالرُّكُوبِ، وَالْإِيمَاءِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ الْكَثِيرِ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي تَحْرِيمِهِ، أَوْ تَرْكُ الْقِتَالِ وَفِيهِ هَلَاكُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 أَوْ مُتَابَعَةُ الْعَمَلِ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَعَيَّنَ فِعْلُهُ وَصِحَّةُ الصَّلَاةِ مَعَهُ. ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْمَشْيِ الْكَثِيرِ، وَالْعَدْوِ فِي الْهَرَبِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَغَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فَنَسِيَ الصَّلَاةَ، فَقَدْ نُقِلَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَأَكَّدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا فِي مُسَايَفَةٍ تُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الصِّيَاحُ، وَالْحَدَثُ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِ، وَيُمْكِنُهُمْ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبْطِلًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَنْ يُبْطِلَ مَعَهُ، كَخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ. وَإِنْ هَرَبَ مِنْ الْعَدُوِّ هَرَبًا مُبَاحًا، أَوْ مِنْ سَيْلٍ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ حَرِيقٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ بِدُونِ الْهَرَبِ. فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ. وَالْأَسِيرُ إذَا خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ إنْ صَلَّى، وَالْمُخْتَفِي فِي مَوْضِعٍ، يُصَلِّيَانِ كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْأَسِيرِ. وَلَوْ كَانَ الْمُخْتَفِي قَاعِدًا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ، أَوْ مَضْجَعًا لَا يُمْكِنُهُ الْقُعُودُ، وَلَا الْحَرَكَةُ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلِّي وَيُعِيدُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ خَائِفٌ صَلَّى عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ كَالْهَارِبِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ خَوْفُ الْهَلَاكِ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ، وَمَتَى أَمْكَنَ التَّخَلُّصُ بِدُونِ ذَلِكَ، كَالْهَارِبِ مِنْ السَّيْلِ يَصْعَدُ إلَى رَبْوَةٍ، وَالْخَائِفِ مِنْ الْعَدُوِّ يُمْكِنُهُ دُخُولُ حِصْنٍ يَأْمَنُ فِيهِ صَوْلَةَ الْعَدُوِّ، وَلُحُوقَ الضَّرَرِ، فَيُصَلِّي فِيهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَاخْتَصَّتْ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ. (1459) فَصْلٌ: وَالْعَاصِي بِهَرَبِهِ كَاَلَّذِي يَهْرُبُ مِنْ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ، وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَاللِّصُّ، وَالسَّارِقُ، لَيس لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ، فَلَا تَثْبُتُ بِالْمَعْصِيَةِ، كَرُخَصِ السَّفَرِ. (1460) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يُصَلُّوا فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ جَمَاعَةً، رِجَالًا، وَرُكْبَانًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمُوا الْإِمَامَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ الِائْتِمَامُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا حَالَةٌ يَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَجَازَ فِيهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، كَرُكُوبِ السَّفِينَةِ، وَيُعْفَى عَنْ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ. وَلِمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ أَنْ يَقُولَ: الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْعَمَلِ الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ لَا يَخْتَصُّ الْإِمَامَةَ، بَلْ هُوَ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، كَحَالِ الِائْتِمَامِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الِانْفِرَادُ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 (1461) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ثُمَّ عَدُوًّا، فَبَانَ أَنَّهُ لَا عَدُوَّ، أَوْ بَانَ عَدُوٌّ لَكِنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ عُبُورَهُ إلَيْهِمْ، فَعَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ، سَوَاءٌ صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَوْ غَيْرَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ ظَنُّهُمْ مُسْتَنِدًا إلَى خَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ رُؤْيَةِ سَوَادٍ، أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْضَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ ظَنًّا مِنْهُمْ سُقُوطَهَا، فَلَزِمَتْهُمْ الْإِعَادَةُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمُتَوَضِّئُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ وَصَلَّى، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ خُفَّهُ كَانَ مُخَرَّقًا، وَكَمَا لَوْ ظَنَّ الْمُحْدِثُ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْإِعَادَةُ إذَا كَانَ عَدُوًّا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لِلْخَوْفِ مُتَحَقِّقٌ، وَإِنَّمَا خَفِيَ الْمَانِعُ [مَسْأَلَةٌ أُمَنِّ وَهُوَ فِي الصَّلَاة الْخَوْف] (1462) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَمِنَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، أَتَمَّهَا صَلَاةَ آمِنٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ آمِنًا، فَاشْتَدَّ خَوْفُهُ، أَتَمَّهَا صَلَاةَ خَائِفٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، مَعَ الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، كَالِاسْتِقْبَالِ وَغَيْرِهِ، فَأَمِنَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَتَمَّهَا آتِيًا بِوَاجِبَاتِهَا، فَإِذَا كَانَ رَاكِبًا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، نَزَلَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا، وَقَفَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى؛ لِأَنَّ مَا مَضَى كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ الْأَمْنِ، فَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَإِنْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ حَالَ نُزُولِهِ، أَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا بَعْدَ أَمْنِهِ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ آمِنًا بِشُرُوطِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، ثُمَّ حَدَثَ شِدَّةُ خَوْفٍ، أَتَمَّهَا، عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقْبِلًا، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، أَتَمَّهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَيَطْعَنُ وَيَضْرِبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَيْهِ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا أَمِنَ نَزَلَ فَبَنَى، وَإِذَا خَافَ فَرَكِبَ ابْتَدَأَ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ قَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، فَمِثْلُهُ فِي حَقِّ الْآمِنِ لَا يُبْطِلُ، فَفِي حَقِّ الْخَائِفِ أَوْلَى كَالنُّزُولِ، وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الصَّلَاةِ كَالْهَرَبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 [كِتَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ الْكُسُوفُ وَالْخُسُوفُ] [مَسْأَلَةٌ مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الْكُسُوف] ُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَكِلَاهُمَا قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْخُسُوفِ. (1463) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَإِذَا خَسَفَتْ الشَّمْسُ أَوْ الْقَمَرُ، فَزِعَ النَّاسُ إلَى الصَّلَاةِ، إنْ أَحَبُّوا جَمَاعَةً، وَإِنْ أَحَبُّوا فُرَادَى) صَلَاةُ الْكُسُوفِ ثَابِتَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ خِلَافًا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ، فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيس لِكُسُوفِ الْقَمَرِ سُنَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يُصَلِّي النَّاسُ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ وُحْدَانًا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يُصَلُّونَ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ فِي خُرُوجِهِمْ إلَيْهَا مَشَقَّةً. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ لَهُمَا أَمْرًا وَاحِدًا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: إنَّمَا صَلَّيْت لِأَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْكُسُوفَيْنِ، فَأَشْبَهَ كُسُوفَ الشَّمْسِ. وَيُسَنُّ فِعْلُهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ صَلَّاهَا الْإِمَامُ صَلُّوهَا مَعَهُ، وَإِلَّا فَلَا تُصَلُّوا. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا» . وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، فَجَازَتْ فِي الِانْفِرَادِ، كَسَائِرِ النَّوَافِلِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ فِعْلَهَا فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا فِيهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ وَقْتَ الْكُسُوفِ يَضِيقُ، فَلَوْ خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى احْتَمَلَ التَّجَلِّي قَبْلَ فِعْلِهَا. وَتُشْرَعُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ إذْنِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، فِيهَا رِوَايَتَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا» . وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ أَشْبَهَتْ سَائِرَ النَّوَافِلِ. وَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ صَلَّتَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وَيُسَنُّ أَنْ يُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُودِيَ بِالصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، وَلِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ النَّوَافِلِ [مَسْأَلَة الْمُسْتَحَبّ فِي صَلَاة الْكُسُوف] (1464) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ طَوِيلَةٍ، يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ الرُّكُوعَ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ وَيُطِيلُ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، فَإِذَا قَامَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، يُحْرِمُ بِالْأُولَى، وَيَسْتَفْتِحُ، وَيَسْتَعِيذُ، وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ قَدْرَهَا فِي الطُّولِ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، أَوْ قَدْرَهَا، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ثُلُثَيْ رُكُوعِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيُسَمِّعُ وَيَحْمَدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيُطِيلُ السُّجُودَ فِيهِمَا، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُسَبِّحُ بِقَدْرِ ثُلُثَيْ تَسْبِيحِهِ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالْمَائِدَةَ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيُسَمِّعُ وَيَحْمَد، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيُطِيلُ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ وَقِرَاءَتَانِ وَرُكُوعَانِ وَسُجُودَانِ. وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا. وَلَيْسَ هَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ مَنْقُولًا عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنْ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْأُولَى أَطْوَلُ مِنْ الثَّانِيَةِ، وَجَاءَ التَّقْدِيرُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثٍ لِعَائِشَةَ: «حَزَرْت قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْت أَنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ» . وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُطِيلُ السُّجُودَ. حَكَاهُ عَنْهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ. وَقَالَا: لَا يُجْهَرُ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَيُجْهَرُ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ. وَوَافَقَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ: حَزَرْت قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَرَوَى سَمُرَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ، فَلَمْ يَجْهَرْ فِيهَا كَالظُّهْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ، حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ النُّعْمَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وَرَوَى قَبِيصَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ» . وَلَنَا، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُسُوفِ: ثُمَّ سَجَدَ، فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ السُّجُودِ الْأَوَّلِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَتَرْكُ ذِكْرِهِ فِي حَدِيثٍ لَا يَمْنَعُ مَشْرُوعِيَّتَهُ إذَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْجَهْرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَبِحَضْرَتِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا الْجَهْرُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدِ وَالتَّرَاوِيحِ. فَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: حَزَرْت قِرَاءَتَهُ. فَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْ صَوْتَهُ وَلَمْ تَفْهَمْ لِلْبُعْدِ، أَوْ قَرَأَ مِنْ غَيْرِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ حَدِيثُنَا صَحِيحٌ صَرِيحٌ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ هَذَا، وَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ لِبُعْدِهِ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ: دَفَعْت إلَى الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بَازِرٌ. يَعْنِي مُغْتَصًّا بِالزِّحَامِ. قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَمَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يَصِلُ مَكَانًا يَسْمَعُ مِنْهُ. ثُمَّ هَذَا نَفْيٌ مُحْتَمِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ مِنْ أَجْلِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَقِيَاسُ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الظُّهْرِ؛ لِبُعْدِهَا مِنْهَا، وَشَبَهِهَا بِهَذِهِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِفَةِ الصَّلَاةِ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ، وَكَبَّرَ، وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ.» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِيهِ «أَنَّهُ قَامَ فِي الْأُولَى قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» . مُتَّفَقٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 عَلَيْهِمَا. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُشْرَعُ لَهَا الِاجْتِمَاعُ، فَخَالَفَتْ سَائِرَ النَّوَافِلِ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ فَمَتْرُوكَةٌ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا بِاتِّفَاقِنَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ، وَحَدِيثُ قَبِيصَةَ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا. وَأَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ يُخَالِفُ الْآخَرَ. ثُمَّ حَدِيثُ قَبِيصَةَ مُرْسَلٌ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ، وَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ لَكَانَ الْأَخْذُ بِأَحَادِيثِنَا أَوْلَى؛ لِصِحَّتِهَا وَشُهْرَتِهَا، وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَالْأَخْذِ بِهَا، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، ثُمَّ هِيَ نَافِلَةٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ أَخَاك صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ: إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. (1465) فَصْلٌ: وَمَهْمَا قَرَأَ بِهِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَقَرَأَ فِي الْأُولَى بِالْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيس. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. (1466) فَصْلٌ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لَهَا خُطْبَةً، وَأَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهَا لَا خُطْبَةَ لَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخْطَبُ كَخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، هَذَا الْخَبَرُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَأَمَرَهُمْ بِهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ، فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ، وَإِنَّمَا خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الصَّلَاةِ لِيُعَلِّمَهُمْ حُكْمَهَا، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَطَبَ كَخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ. (1467) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالِاسْتِغْفَارُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْعِتْقُ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ؛ لِخَبَرِ عَائِشَةَ هَذَا. وَفِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى: " فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدُعَائِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وَاسْتِغْفَارِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ، «أَنَّهَا قَالَتْ: إنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْعِتْقِ فِي الْكُسُوفِ» . وَلِأَنَّهُ تَخْوِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَكْشِفَهُ عَنْ عِبَادِهِ (1468) فَصْلٌ: وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، إلَّا أَنَّ اخْتِيَارَهُ مِنْ ذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَيَقُولُ: سِتُّ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعُ سَجَدَاتٍ. فَذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. وَكَذَلِكَ حُذَيْفَةُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: تَجُوزُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَسَجْدَتَيْنِ، فِي كُلّ رَكْعَةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا صَلَّيَا هَذِهِ الصَّلَاةَ. وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ إذَا لَمْ يَرَ الشَّمْسَ قَدْ انْجَلَتْ، فَإِذَا انْجَلَتْ سَجَدَ، فَمِنْ هَاهُنَا صَارَتْ زِيَادَةُ الرَّكَعَاتِ، وَلَا يُجَاوِزُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. [فَصْلٌ صَلَاة الْكُسُوف سُنَّة] (1469) فَصْلٌ: وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا، وَأَمَرَ بِهَا، وَوَقْتُهَا مِنْ حِينِ الْكُسُوفِ إلَى حِينِ التَّجَلِّي، فَإِنْ فَاتَتْ لَمْ تُقْضَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ حَتَّى تَنْجَلِيَ» . فَجَعَلَ الِانْجِلَاءَ غَايَةً لِلصَّلَاةِ. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا سُنَّتْ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي رَدِّهَا، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ. وَإِنْ انْجَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا، وَخَفَّفَهَا. وَإِنْ اسْتَتَرَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالسَّحَابِ، وَهُمَا مُنْكَسِفَانِ، صَلَّى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكُسُوفِ. وَإِنْ غَابَتْ الشَّمْسُ كَاسِفَةً، أَوْ طَلَعَتْ عَلَى الْقَمَرِ وَهُوَ خَاسِفٌ، لَمْ يُصَلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ وَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِنُورِهِمَا. وَإِنْ غَابَ الْقَمَرُ لَيْلًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يُصَلِّي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ وَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِنُورِهِ وَضَوْئِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ مَا يُصَلِّي لَهُ قَدْ غَابَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَابَتْ الشَّمْسُ. وَإِنْ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْكُسُوفُ قَائِمٌ لَمْ يَزِدْ، وَاشْتَغَلَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 [فَصْلٌ اُجْتُمِعَ صَلَاتَانِ كَالْكُسُوفِ مَعَ غَيْره] فَصْلٌ: وَإِذَا اجْتَمَعَ صَلَاتَانِ، كَالْكُسُوفِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْجُمُعَةِ، أَوْ الْعِيدِ، أَوْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوْ الْوِتْرِ، بَدَأَ بِأَخْوَفِهِمَا فَوْتًا، فَإِنْ خِيفَ فَوْتُهُمَا بَدَأَ بِالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا وَاجِبَةٌ كَالْكُسُوفِ وَالْوِتْرِ أَوْ التَّرَاوِيحِ، بَدَأَ بِآكَدِهِمَا، كَالْكُسُوفِ وَالْوِتْرِ، بَدَأَ بِالْكُسُوفِ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ، وَلِهَذَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى، وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ لَا تُقْضَى. فَإِنْ اجْتَمَعَتْ التَّرَاوِيحُ وَالْكُسُوفُ، فَبِأَيِّهِمَا يُبْدَأُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةَ الَّتِي تُصَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْكُسُوفِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْكُسُوفِ عَلَيْهَا يُفْضِي إلَى الْمَشَقَّةِ، لِإِلْزَامِ الْحَاضِرِينَ بِفِعْلِهَا مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَانْتِظَارِهِمْ لِلصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، كِير لَا يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، فَإِلْحَاقُ الْمَشَقَّةِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ الطَّوِيلَةِ الشَّاقَّةِ، مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، أَوْلَى. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ التَّرَاوِيحِ، قُدِّمَتْ التَّرَاوِيحُ لِذَلِكَ، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ مَعَ الْوِتْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْوِتْرِ، قُدِّمَتْ لِأَنَّ الْوِتْرَ لَا يَفُوتُ، وَإِنْ خِيفَ فَوَاتُ الْوِتْرِ قُدِّمَ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ يُمْكِنُ فِعْلُهُ وَإِدْرَاكُ وَقْتِ الْكُسُوفِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَدْرُ الْوِتْرِ، فَلَا حَاجَةَ بِالتَّلَبُّسِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَقَعُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ الْكُسُوفُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، قُدِّمَتْ الْجِنَازَةُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ يُخَافُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل أَدْرَكَ الْمَأْمُوم الْإِمَام فِي الرُّكُوع الثَّانِي فِي صَلَاة الْكُسُوف] (1471) فَصْلٌ: إذَا أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي، احْتَمَلَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ رُكُوعٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَهُ الرُّكُوعُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ، فَاجْتُزِئَ بِهِ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَانَ الْكُسُوف فِي غَيْر وَقْت الصَّلَاة] (1472) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْكُسُوفُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، جَعَلَ مَكَانَ الصَّلَاةِ تَسْبِيحًا، هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ لَا تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا سَبَبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْكُسُوفِ يَكُونُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَلَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي وَقْتِ صَلَاةٍ. قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَجْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَا يُصَلُّونَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَقَامُوا قِيَامًا يَدْعُونَ، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ عَطَاءً، قَالَ: هَكَذَا يَصْنَعُونَ، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: هَكَذَا يَصْنَعُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْكُسُوفَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ. وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِهِ. [فَصْلٌ يُصَلِّي لِلزَّلْزَلَةِ كَصَلَاةِ الْكُسُوف] (1473) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُصَلِّي لِلزَّلْزَلَةِ كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُصَلِّي لِلرَّجْفَةِ، وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَنَحْوِهَا. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: يُصَلِّي لِذَلِكَ، وَلِرَمْيِ الْكَوَاكِبِ وَالصَّوَاعِقِ وَكَثْرَةِ الْمَطَرِ. وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الصَّلَاةُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ حَسَنَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ الْكُسُوفَ بِأَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لِلزَّلْزَلَةِ بِالْبَصْرَةِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُصَلِّي لِشَيْءِ مِنْ الْآيَاتِ سِوَى الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ. وَوَجْهُ الصَّلَاةِ لِلزَّلْزَلَةِ فِعْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهَا لَا يُصَلِّي لَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 [بَاب صَلَاة الِاسْتِسْقَاء] ِ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، ثَابِتَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (1474) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِم، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ، وَاحْتَبَسَ الْقَطْرُ، خَرَجُوا مَعَ الْإِمَامِ، فَكَانُوا فِي خُرُوجِهِمْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ، خَرَجَ مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَذَلِّلًا، مُتَضَرِّعًا» ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ تَعَالَى، مُتَبَذِّلًا، أَيْ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ، أَيْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الزِّينَةِ، وَلَا يَتَطَيَّبُ، لِأَنَّهُ مِنْ كَمَالِ الزِّينَةِ، وَهَذَا يَوْمُ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ، وَيَكُونُ مُتَخَشَّعًا فِي مَشْيِهِ وَجُلُوسِهِ، فِي خُضُوعٍ، مُتَضَرِّعًا لِلَّهِ تَعَالَى، مُتَذَلِّلًا لَهُ، رَاغِبًا إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلِاسْتِسْقَاءِ مُتَبَذِّلًا، مُتَوَاضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَيُسْتَحَبُّ التَّنْظِيفُ بِالْمَاءِ، وَاسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ وَمَا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ، وَيُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَخُرُوجُ مَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسِتْرٍ وَصَلَاحٍ، وَالشُّيُوخُ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا، لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِلْإِجَابَةِ. فَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ، وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا، فَأَمَّا الشَّوَابُّ وَذَوَاتُ الْهَيْئَةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْخُرُوجُ، لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي خُرُوجِهِنَّ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ. وَإِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعِدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَتَرْكِ التَّشَاحُنِ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ لَإِجَابَتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ الْجَدْبِ، وَالطَّاعَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْبَرَكَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . [مَسْأَلَةٌ صِفَة صَلَاة الِاسْتِسْقَاء] (1475) مَسْأَلَةٌ؛ (قَالَ: فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهَا رَكْعَتَانِ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي صِفَتِهَا، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهِمَا كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَدَاوُد، وَالشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ، يُكَبِّرُونَ فِيهَا سَبْعًا وَخَمْسًا» . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: اسْتَسْقَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْبِيرَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَكَيْفَمَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُسَنُّ الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا الْخُرُوجُ لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَسْقَى عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ لَهَا» ، وَاسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يُصَلِّ. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ خَرَجَ وَصَلَّى، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَوْهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ فِعْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ، بَلْ قَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَمْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ، وَخَطَبَ. وَبِهِ قَالَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَوَافَقَا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ، وَالسُّنَّةُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ كُلِّ قَوْلٍ. وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَرَأَ فِيهِمَا ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] فَحَسَنٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ. وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، و " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» . [فَصْلٌ لَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ] (1476) فَصْلٌ: وَلَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ خَطَبَنَا، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ، فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهَا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. كَقَوْلِهِمْ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 [فَصْلٌ لَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء وَقْت] (1477) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، إلَّا أَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مُتَّسِعٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ، وَالْأَوْلَى فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي الْمَوْضِعِ وَالصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا لَا يَفُوتُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا يَوْمٌ مُعَيَّنٌ، فَلَا يَكُونُ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْخُرُوجُ إلَيْهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَبَا بَكْرِ بْنَ حَزْمٍ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، لَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ فِي صَلَاة الِاسْتِسْقَاء خُطْبَة] (1478) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (ثُمَّ يَخْطُبُ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْخُطْبَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي وَقْتِهَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِيهَا خُطْبَةً بَعْدَ الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقُوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خُطْبَةً، وَصُعُودًا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَنَا. وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَنَعَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدَيْنِ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ تَكْبِيرٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْعِيدِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يُخْطَبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَهِشَامُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. وَذَهَبَ إلَيْهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ وَعَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ وَصَلَّى» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ: أَدْرَكْت أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَهِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَسْقُوا، خَرَجُوا لِلْبَرَازِ، فَكَانُوا يَخْطُبُونَ، ثُمَّ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيُحَوِّلُونَ وُجُوهَهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ حِينَ يَدْعُونَ، ثُمَّ يُحَوِّلُ أَحَدُهُمْ رِدَاءَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَمَا عَلَى الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ، وَيَنْزِلُ أَحَدُهُمْ فَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، يَجْهَرُ بِهِمْ. الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا؛ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ، وَدَلَالَتِهَا عَلَى كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ. وَالرَّابِعَةُ، أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ، وَإِنَّمَا يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، لَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَالتَّضَرُّعِ. وَأَيًّا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَةً وَاحِدَةً؛ لِتَكُونَ كَالْعِيدِ، وَلِيَكُونُوا قَدْ فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ أُجِيبَ دُعَاؤُهُمْ فَأُغِيثُوا، فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَطَرِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ. نَفْيٌ لِلصِّفَةِ لَا لِأَصْلِ الْخُطْبَةِ، أَيْ لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، إنَّمَا كَانَ جُلُّ خُطْبَتِهِ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ وَالتَّكْبِيرَ [مَسْأَلَةٌ لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي أَثْنَاء الْخُطْبَة لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء] (1479) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ، فَيَجْعَلُ الْيَمِينَ يَسَارًا، وَالْيَسَارَ يَمِينًا، وَيَفْعَلُ النَّاسُ كَذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ: «فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ سِرًّا حَالَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّك أَمَرْتَنَا بِدُعَائِك، وَوَعَدْتَنَا إجَابَتَك، فَقَدْ دَعَوْنَاك كَمَا أَمَرْتنَا، فَاسْتَجِبْ لَنَا كَمَا وَعَدْتنَا، اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِنَا، وَإِجَابَتِنَا فِي سُقْيَانَا، وَسَعَةِ أَرْزَاقِنَا. ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ دِينٍ وَدُنْيَا. وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَارُ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ مِنْ الْإِخْلَاصِ، وَأَبْلَغَ فِي الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّضَرُّعِ، وَأَسْرَعَ فِي الْإِجَابَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وَاسْتُحِبَّ الْجَهْرُ بِبَعْضِهِ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ، فَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ فِي حَالِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «فَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» . وَفِي لَفْظٍ: «وَقَلَبَ رِدَاءَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسَنُّ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ فِيهِ، كَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، أَنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أَصْحَابِهِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ دَلِيلٌ، كَيْفَ وَقَدْ عُقِلَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، وَهُوَ التَّفَاؤُلُ بِقَلْبِ الرِّدَاءِ، لِيَقْلِبَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ. وَصِفَةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ، وَمَا عَلَى الْيَسَارِ عَلَى الْيَمِينِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمَالِكٍ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُول بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ جَعَلَ الْعِطَافَ الَّذِي عَلَى الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَاَلَّذِي عَلَى الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَالزِّيَادَةُ الَّتِي نَقَلُوهَا، إنْ ثَبَتَتْ، فَهِيَ ظَنُّ الرَّاوِي، لَا يُتْرَكُ لَهَا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَقَلَ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ جَمَاعَةٌ، لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِثِقَلِ الرِّدَاءِ. [فَصْلٌ رَفَعَ الْأَيْدِي فِي دُعَاء الِاسْتِسْقَاء] (1480) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ، إلَّا الِاسْتِسْقَاءَ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ.» وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا لَأَنَسٍ: «فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ» . [مَسْأَلَةٌ يَدْعُو وَيَدْعُونَ وَيُكْثِرُونَ فِي دُعَائِهِمْ الِاسْتِغْفَار فِي صَلَاة الِاسْتِسْقَاء] (1481) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَدْعُو، وَيَدْعُونَ، وَيُكْثِرُونَ فِي دُعَائِهِمْ الِاسْتِغْفَارَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ جَلَسَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْلِسْ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لَمْ يُنْقَلْ، وَلَا هَاهُنَا أَذَانٌ لِيَجْلِسَ فِي وَقْتِهِ، ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً، يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدِ. وَلِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، فَتُشْبِهُهَا فِي الْخُطْبَتَيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا فَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ بِسُكُوتٍ وَلَا جُلُوسٍ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَقَلَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَنْقُلْ خُطْبَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِيُغِيثَهُمْ، وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهَا خُطْبَتَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ. وَلَوْ كَانَ النَّقْلُ كَمَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ أَوَّلِ الْحَدِيثِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الْخُطْبَةَ بِالتَّكْبِيرِ، كَخُطْبَةِ الْعِيدِ، وَيُكْثِرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقْرَأَ كَثِيرًا: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وَسَائِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِإِرْسَالِ الْغَيْثِ إذَا اسْتَغْفَرُوهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، وَقَالَ: لَقَدْ اسْتَسْقَيْت بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ يَقُولُ: قَدْ كَتَبْت إلَى الْبُلْدَانِ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الِاسْتِسْقَاءِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . وَأَمَرْتهمْ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ أَبُوهُمْ آدَم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ نُوحٌ: {وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] . وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ يُونُسُ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16] . وَلِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ، وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ تَمْحُو الْمَعَاصِيَ الْمَانِعَةَ مِنْ الْغَيْثِ، فَيَأْتِي اللَّهُ بِهِ. وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو بِدُعَائِهِ، فَرَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَرِيعًا يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ بِالْيَاءِ وَالْبَاءِ، فَمَنْ رَوَاهُ بِالْيَاءِ جَعَلَهُ مِنْ الْمُرَاعَةِ، يُقَال: أَمْرَعَ الْمَكَانُ: إذَا أَخْصَبَ، وَمَنْ رَوَاهُ مُرْبِعًا، كَانَ مَعْنَاهُ مُنْبِتًا لِلرَّبِيعِ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَسْقَى، قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَك وَبَهَائِمَك، وَانْشُرْ رَحْمَتَك، وَأَحْيِ بَلَدَك الْمَيِّتَ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 رَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، بِإِسْنَادِهِ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ "، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، و " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى "، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ "، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً قَبْلَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَأَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، وَحَيًّا رَبِيعًا، وَجَدًّا طَبَقًا غَدَقًا مُغْدِقًا مُونِقًا، هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا مَرْبَعًا مَرْتَعًا، سَائِلًا مُسْبِلًا مُجَلِّلًا، دِيَمًا دَرُورًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ؛ اللَّهُمَّ تُحْيِي بِهِ الْبِلَادَ، وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادَ، وَتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ مِنَّا وَالْبَادِ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا زِينَتَهَا، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِنَا سَكَنَهَا، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، فَأَحْيِي بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، وَأَسْقِهِ مِمَّا خَلَقْت أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا.» قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُغِيثُ: الْمُحْيِي بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَيَا: الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ وَالْمَالُ. وَالْجَدَّا: الْمَطَرُ الْعَامُّ، وَمِنْهُ أُخِذَ جَدَّا الْعَطِيَّةِ، وَالْجَدْوَى مَقْصُورٌ. وَالطَّبَقُ: الَّذِي يُطْبِقُ الْأَرْضَ. وَالْغَدَقُ وَالْمُغْدِقُ: الْكَثِيرُ الْقَطْرِ. وَالْمُونِقُ: الْمُعْجِبُ. وَالْمَرِيعُ: ذُو الْمَرَاعَةِ وَالْخِصْبِ. وَالْمَرْبَعُ مِنْ قَوْلِك: رَبَعْت مَكَانَ كَذَا: إذَا أَقَمْت بِهِ. وَارْبَعْ عَلَى نَفْسِك: اُرْفُقْ. وَالْمَرْتَعُ: مِنْ رَتَعَتْ الْإِبِلُ، إذَا أَرْعَتْ. وَالسَّابِلُ: مِنْ السَّبْلِ، وَهُوَ الْمَطَرُ. يُقَال سَبَلٌ سَابِلٌ، كَمَا يُقَال: مَطَرٌ مَاطِرٌ. وَالرَّائِثُ: الْبَطِيءُ. وَالسَّكَنُ: الْقُوَّة، لِأَنَّ الْأَرْضَ تَسْكُنُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اسْتَسْقَى، قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيعًا، غَدَقًا مُجَلِّلًا، طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالضَّنْكِ وَالْجَهْدِ مَا لَا نَشْكُوهُ إلَّا إلَيْك، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُك، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إنَّك كُنْت غَفَّارًا، فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 [فَصْلٌ شَرْط صَلَاة الِاسْتِسْقَاء] (1482) فَصْلٌ: وَهَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الصَّلَاةِ إذْنُ الْإِمَامِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا بِخُرُوجِ الْإِمَامِ، أَوْ رَجُلٍ مِنْ قِبَلِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِذَا خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ دَعَوْا، وَانْصَرَفُوا بِلَا صَلَاةٍ وَلَا خُطْبَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَخْطُبُ بِهِمْ أَحَدُهُمْ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الِاسْتِسْقَاءُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ؛ مُقِيمٍ، وَمُسَافِرٍ، وَأَهْلِ الْقُرَى، وَالْأَعْرَابِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهَا عَلَى صِفَةٍ، فَلَا يَتَعَدَّى تِلْكَ الصِّفَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا تُشْرَعُ إلَّا فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ. [فَصْلٌ يَسْتَسْقِي بِمِنْ ظُهْر صَلَاحه] (1483) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِمَنْ ظَهَرَ صَلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ عَامَ الرَّمَادَةِ بِالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا عَمُّ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَوَجَّهُ إلَيْك بِهِ فَاسْقِنَا. فَمَا بَرِحُوا حَتَّى سَقَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَلَمَّا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: أَيْنَ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ؟ فَقَامَ يَزِيدُ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ، فَأَجْلَسَهُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، يَا يَزِيدُ، ارْفَعْ يَدَيْكَ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَثَارَتْ فِي الْغَرْبِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ، فَسُقُوا حَتَّى كَادُوا لَا يَبْلُغُونَ مَنَازِلَهُمْ. وَاسْتَسْقَى بِهِ الضَّحَّاكُ مَرَّةً أُخْرَى. [مَسْأَلَةٌ كم مَرَّةً يَخْرُجُونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ سُقُوا، وَإِلَّا عَادُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا يَخْرُجُونَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخْرُجْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَوْا، وَيَدْعُو الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَمِّنُ النَّاسُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» . وَأَمَّا النَّبِيُّ فَلَمْ يَخْرُجْ ثَانِيًا؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْخُرُوجِ بِإِجَابَتِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَالْخُرُوجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى آكَدُ مِمَّا بَعْدَهَا؛ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 [فَصْلٌ الدُّعَاء عِنْد نُزُول الْغَيْث] (1485) فَصْلٌ: وَإِنْ تَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ، فَسُقُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ، لَمْ يَخْرُجُوا، وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَسَأَلُوهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِنْ خَرَجُوا فَسُقُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلُّوا، صَلَّوْا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَمِدُوهُ وَدَعَوْهُ. وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُطْلُبُوا اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى الْمَطَرَ، قَالَ: صَيِّبًا نَافِعًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبّ أَنْ يَقِف فِي أَوَّل الْمَطَر وَيَخْرُج رَحْله لِيُصِيبَهُ الْمَطَر] (1486) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي أَوَّلِ الْمَطَرِ، وَيُخْرِجَ رَحْلَهُ؛ لِيُصِيبَهُ الْمَطَرُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَنْ لِحْيَتِهِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ قَالَ لِغُلَامِهِ. أَخْرِجْ رَحْلِي وَفِرَاشِي يُصِبْهُ الْمَطَرُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا سَالَ السَّيْلُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا سَالَ السَّيْلُ يَقُول: اُخْرُجُوا بِنَا إلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا، فَنَتَطَهَّرَ» . [فَصْلٌ يُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَسْقُوا عَقِيب صَلَوَاتهمْ] (1487) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَسْقُوا عَقِيبَ صَلَوَاتِهِمْ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ يَدْعُو الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَمِّنُ النَّاسُ. قَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ، أَكْمَلُهَا الْخُرُوجُ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَيَلِيهِ اسْتِسْقَاءُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ لِمَا رُوِيَ، «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّه يُغِثْنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» . «قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاَللَّهِ مَا يُرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ وَلَا شَيْءٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ رَجُلٌ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا. قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. قَالَ: فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى عَقِيبَ صَلَوَاتِهِمْ، وَفِي خَلَوَاتِهِمْ. [فَصْلٌ كُثْر الْمَطَر بَعْد طَلَب الِاسْتِسْقَاء] (1488) فَصْلٌ: وَإِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ بِحَيْثُ يَضُرُّهُمْ أَوْ مِيَاهُ الْعُيُونِ، دَعَوْا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخَفِّفَهُ، وَيَصْرِفَ عَنْهُمْ مَضَرَّتَهُ، وَيَجْعَلَهُ فِي أَمَاكِنَ تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، كَدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ بِزِيَادَةِ الْمَطَرِ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ، فَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِإِزَالَتِهِ كَانْقِطَاعِهِ. [مَسْأَلَةٌ خَرَجَ أَهْل الذِّمَّة لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء مَعَ الْمُسْلِمِينَ] (1489) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَمْ يُمْنَعُوا وَأُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مُنْفَرِدِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَبَدَّلُوا نِعْمَتَهُ كُفْرًا، فَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ أُغِيثَ الْمُسْلِمُونَ فَرُبَّمَا قَالُوا: هَذَا حَصَلَ بِدُعَائِنَا وَإِجَابَتِنَا. وَإِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمَرُوا بِالِانْفِرَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ، فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ اسْتَسْقَوْا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، فَأَهْلَكَتْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا الْخُرُوجَ يَوْمَ يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ السُّقْيَا بِدُعَائِهِمْ. قُلْنَا: وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَّفِقَ نُزُولُ الْغَيْثِ يَوْمَ يَخْرُجُونَ وَحْدَهُمْ، فَيَكُونُ أَعْظَمَ لِفِتْنَتِهِمْ، وَرُبَّمَا افْتَتَنَ غَيْرُهُمْ بِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 [بَابُ الْحُكْمِ فِي مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ] [مَسْأَلَةٌ تَرَكَ الصَّلَاة وَهُوَ بَالِغ عَاقِل جَاحِدًا لَهَا أَوْ غَيْر جَاحِد] َ (1490) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، جَاحِدًا لَهَا، أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ، دُعِيَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى، وَإِلَّا قُتِلَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا، أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، كَالْحَدِيثِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا، وَعُلِّمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، كَالنَّاشِئِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، لَمْ يُعْذَرْ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ادِّعَاءُ الْجَهْلِ، وَحُكِمَ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَا يَخْفَى وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ، فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا تَكْذِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ، فِي الِاسْتِتَابَةِ وَالْقَتْلِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ تَرَكَهَا لِمَرَضٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، قِيلَ لَهُ: إنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ. وَإِنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا أَوْ كَسَلًا، دُعِيَ إلَى فِعْلِهَا، وَقِيلَ لَهُ: إنْ صَلَّيْت، وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ. فَإِنْ صَلَّى، وَإِلَّا وَجَبَ قَتْلُهُ. وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يُحْبَسَ ثَلَاثًا، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيُدْعَى فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى فِعْلِهَا، وَيُخَوَّفَ بِالْقَتْلِ، فَإِنْ صَلَّى، وَإِلَّا قُتِلَ بِالسَّيْفِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَوَكِيعٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُضْرَبُ وَيُسْجَنُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ: وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ. فَلَا يَحِلُّ دَمُهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ. فَلَا يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَوْ شُرِعَ لَشُرِعَ زَجْرًا عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَجُوزُ شَرْعُ زَاجِرٍ تَحَقَّقَ الْمَزْجُورُ عَنْهُ، وَالْقَتْلُ يَمْنَعُ فِعْلَ الصَّلَاةِ دَائِمًا، فَلَا يُشْرَعُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الدَّمِ، فَلَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ. وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلَى قَوْله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فَأَبَاحَ قَتْلَهُمْ، وَشَرَطَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ التَّوْبَةَ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، فَمَتَى تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يَأْتِ بِشَرْطِ تَخْلِيَتِهِ، فَيَبْقَى عَلَى وُجُوبِ الْقَتْلِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» . فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُصَلِّينَ يُبَاحُ قَتْلُهُمْ. وَلِأَنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ بِنَفْسٍ وَلَا مَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ تَارِكُهُ كَالشَّهَادَةِ، وَحَدِيثُهُمْ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا كُفْرٌ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ اسْتَثْنَى مِنْهُ «إلَّا بِحَقِّهَا» . وَالصَّلَاةُ مِنْ حَقِّهَا. وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوْا الزَّكَاةَ.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. ثُمَّ إنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ، فَنَخُصُّ بِهَا عُمُومَ مَا ذَكَرُوهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ، وَلَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِفِعْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ إنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لَا يَتْرُكُهَا، سِيَّمَا بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَ هَذَا كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهِ، وَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ هُوَ الْمُفَوِّتُ لَهُ، ثُمَّ لَوْ فَاتَ بِهِ احْتِمَالُ الصَّلَاةِ، لَحَصَلَ بِهِ صَلَاةُ أَلْفِ إنْسَانٍ، وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ بِتَفْوِيتِ احْتِمَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَزِمَ قَتْلُهُ، كَتَارِكِ ثَلَاثٍ، وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَتَنَاوَلُ تَارِكَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَا يُعْلَمُ تَرْكُهَا إلَّا بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، فَتَصِيرُ فَائِتَةً لَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِفَوَاتِهَا، فَإِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا عُلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَرْكَهَا، فَوَجَبَ قَتْلُهُ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجِبُ قَتْلُهُ حَتَّى يَتْرُكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ، وَيَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ عَنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّلَاتَيْنِ لِشُبْهَةٍ، فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. تَحَقَّقَ أَنَّهُ تَارِكٌ لَهَا رَغْبَةً عَنْهَا، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَة عَنْ فِعْلِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَحَكَى ابْنُ حَامِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا، أَنَّهُ إنْ تَرَكَ صَلَاةً لَا تُجْمَعُ إلَى مَا بَعْدَهَا، كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَجَبَ قَتْلُهُ، وَإِنْ تَرَكَ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ، لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَيْنِ كَالْوَقْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ، هَلْ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ، أَوْ حَدًّا؟ فَرُوِيَ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ كَالْمُرْتَدِّ، فَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُكَفَّنُ، وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَرِثُ أَحَدًا، اخْتَارَهَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا وَابْنُ حَامِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 الْمُبَارَكِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» . وَعَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةُ» . قَالَ أَحْمَدُ: كُلُّ شَيْءٍ ذَهَبَ آخِرُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا دِينَ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ، تَرْكُهُ كُفْرٌ، غَيْرَ الصَّلَاةِ. وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ، فَيَخْرُجُ بِتَرْكِهَا مِنْهُ كَالشَّهَادَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُقْتَلُ حَدًّا، مَعَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، وَأَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَكْفُر. وَذَكَرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى هَذَا، لَمْ يَجِدْ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا يَنْفَعُهُمْ؟ قَالَ: تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ، لَا أَبَا لَكَ. وَعَنْ وَالَانَ، قَالَ: انْتَهَيْت إلَى دَارِي، فَوَجَدْت شَاةً مَذْبُوحَةً، فَقُلْت: مَنْ ذَبَحَهَا؟ قَالُوا: غُلَامُك. قُلْت: وَاَللَّهِ إنَّ غُلَامِي لَا يُصَلِّي، فَقَالَ النِّسْوَةُ: نَحْنُ عَلَّمْنَاهُ، يُسَمِّيَ، فَرَجَعْتُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ» . وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ. وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» . وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْمَشِيئَةِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ، فِي " جَامِعِهِ ": ثنا يَحْيَى، ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، ثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي شَمِيلَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى قُبَاءَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَحْمِلُونَ جِنَازَةً عَلَى بَابٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَمْلُوكٌ لِآلِ فُلَانٍ، كَانَ مِنْ أَمْرِهِ. قَالَ: أَكَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ وَكَانَ. فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا كَانَ يُصَلِّي؟ فَقَالُوا: قَدْ كَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُ. فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا بِهِ، فَغَسِّلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ، وَادْفِنُوهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ كَادَتْ الْمَلَائِكَةُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» . وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَّوْا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ أَحَدًا مِنْ تَارِكِي الصَّلَاةِ تُرِكَ تَغْسِيلُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِر الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مُنِعَ وَرَثَتُهُ مِيرَاثَهُ، وَلَا مُنِعَ هُوَ مِيرَاثَ مُوَرِّثِهِ، وَلَا فُرِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ مَعَ كَثْرَةِ تَارِكِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ، وَالتَّشْبِيهِ لَهُ بِالْكُفَّارِ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» . وَقَوْلِهِ: «كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَبَرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ» . وَقَوْلُهُ: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» . وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . قَالَ: «وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْكَوَاكِبِ. فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ، مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ» . وَقَوْلُهُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» . وَقَوْلِهِ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» . وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا أُرِيدَ بِهِ التَّشْدِيدُ فِي الْوَعِيدِ، وَهُوَ أَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 [فَصْلٌ تَرَكَ شَرْطًا مَجْمَعًا عَلَى صِحَّته أَوْ رُكْنًا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوع وَالسُّجُود] (1491) فَصْلٌ: وَمَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، أَوْ رُكْنًا، كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَهُوَ كَتَارِكِهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ ذَلِكَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. وَإِنْ تَرَكَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةَ، وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالِاعْتِدَالِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَكَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَلَا يُقْتَلُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْمُتَزَوِّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَسَارِقَ مَالٍ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 [كِتَاب الْجَنَائِز] ِ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ إلَّا قَلَّلَهُ، وَلَا فِي قَلِيلٍ إلَّا كَثَّرَهُ» . رَوَى الْبُخَارِيُّ أَوَّلَهُ. وَإِذَا مَرِضَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ، وَيُكْرَهُ الْأَنِينُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ. وَلَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ تَعَالَى، قَالَ جَابِرٌ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ، إنَّهُ قَالَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: حَدِّثْنِي بِالرُّخَصِ. [فَصْلٌ عِيَادَة الْمَرِيض] (1492) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ، قَالَ الْبَرَاءُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا مُمْسِيًا، إلَّا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَتَاهُ مُصْبِحًا، خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَإِذَا دَخَلَ عَلَى الْمَرِيضِ دَعَا لَهُ، وَرَقَاهُ. قَالَ ثَابِتٌ لَأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، اشْتَكَيْتُ. قَالَ أَنَسٌ، أَفَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيك، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيك، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَيْنٍ حَاسِدَةٍ اللَّهُ يَشْفِيك» . وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كِلَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِنَّهُ يُطَيِّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُرَغِّبُهُ فِي التَّوْبَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 [فَصْلٌ يُسْتَحَبّ أَنْ يَلِي الْمَرِيض مَرَض الْمَوْت أُرْفِق أَهْله بِهِ وَأَعْلَمهُمْ بِسِيَاسَتِهِ] (1493) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَ الْمَرِيضَ أَرْفَقُ أَهْلِهِ بِهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِيُذَكِّرَهُ اللَّهَ تَعَالَى، وَالتَّوْبَةَ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالْخُرُوجَ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَالْوَصِيَّةَ. وَإِذَا رَآهُ مَنْزُولًا بِهِ تَعَهَّدَ بَلَّ حَلْقِهِ، بِتَقْطِيرِ مَاءٍ أَوْ شَرَابٍ فِيهِ، وَيُنَدِّي شَفَتَيْهِ بِقُطْنَةٍ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» . وَيُلَقِّنُهُ قَوْلَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ يَوْمَ تَمُوتُ وَلِسَانُك رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي لُطْفٍ وَمُدَارَاةٍ، وَلَا يُكَرِّرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُضَجِّرَهُ، إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، فَيُعِيدُ تَلْقِينَهُ؛ لِتَكُونَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ آخِرَ كَلَامِهِ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَعَلَ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: إذَا قُلْت مَرَّةً فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ أَتَكَلَّمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّمَا أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ قَالَ: كَلِمَةٌ سَمِعْتهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْت أَخْبَؤُهَا، وَلَوْلَا مَا حَضَرَنِي مِنْ الْمَوْتِ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إلَّا هَدَمَتْ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، فَلَقِّنُوهَا مَوْتَاكُمْ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ هِيَ لِلْأَحْيَاءِ؟ قَالَ هِيَ أَهْدَمُ وَأَهْدَمُ» . قَالَ أَحْمَدُ: وَيَقْرَءُونَ عِنْدَ الْمَيِّتِ إذَا حَضَرَ، لِيُخَفَّفَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ، يُقْرَأُ {يس} [يس: 1] ، وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا فَرْجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ أَسَدِ بْنِ وَدَاعَةَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ غُضَيْفَ بْنَ حَارِثٍ الْمَوْتُ، حَضَرَهُ إخْوَانُهُ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ سُورَةَ (يس) ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: نَعَمْ. قَالَ: اقْرَأْ، وَرَتِّلْ، وَأَنْصِتُوا. فَقَرَأَ، وَرَتَّلَ. وَأَسْمَعَ الْقَوْمَ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] . خَرَجَتْ نَفْسُهُ. قَالَ أَسَدُ بْنُ وَدَاعَةَ: فَمَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمَيِّتَ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، فَلْيَقْرَأْ عِنْدَهُ سُورَةَ (يس) ، فَإِنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْمَوْتُ. [مَسْأَلَةٌ التَّوْجِيه إلَى الْقِبْلَة لِلْمَرِيضِ مَرَض الْمَوْت] (1494) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: " (وَإِذَا تُيُقِّنَ الْمَوْتُ، وُجِّهَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَغُمِّضَتْ عَيْنَاهُ، وَشُدَّ لَحْيَاهُ، لِئَلَّا يَسْتَرْخِيَ فَكُّهُ، وَجُعِلَ عَلَى بَطْنِهِ مِرْآةٌ أَوْ غَيْرُهَا؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ بَطْنُهُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 قَوْله: " إذَا تُيُقِّنَ الْمَوْتُ " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ حُضُورَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ التَّوْجِيهَ إلَى الْقِبْلَةِ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَاسْتَحَبَّهُ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَإِسْحَاقُ، وَأَنْكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوهُ إلَى الْقِبْلَةِ، قَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: نُحَوِّلُك إلَى الْقِبْلَةِ. قَالَ: أَلَمْ أَكُنْ عَلَى الْقِبْلَةِ إلَى يَوْمِي هَذَا؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: وَجِّهُونِي. وَلِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِسَعِيدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِمَوْتَاهُمْ، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ تَيَقُّنَ وُجُودِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ سَائِرَ مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ عَقِيبَ الْمَوْتِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ. فَضَجَّ النَّاسُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ، فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ، فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ، وَقُولُوا خَيْرًا؛ فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِابْنِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: اُدْنُ مِنِّي، فَإِذَا رَأَيْت رُوحِي قَدْ بَلَغَتْ لَهَاتِي، فَضَعْ كَفَّك الْيُمْنَى عَلَى جَبْهَتِي، وَالْيُسْرَى تَحْتَ ذَقَنِي، وَأَغْمِضْنِي. وَيُسْتَحَبُّ شَدُّ لَحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ، يَرْبُطُهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ وَالْفَمِ، فَلَمْ يُغَمَّضْ حَتَّى يَبْرُدَ، بَقِيَ مَفْتُوحًا، فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ دُخُولُ الْهَوَامِّ فِيهِ، وَالْمَاءِ فِي وَقْتِ غُسْلِهِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: وَيَقُولُ الَّذِي يُغَمِّضُهُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيدِ، كَمِرْآةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ بَطْنُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيدِ فَطِينٌ مَبْلُولٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ أَرْفَقُ النَّاسِ بِهِ، بِأَرْفَقِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: تُغَمِّضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَيْهِ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ. وَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ، وَأَنْ تَقْرَبَاهُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ عَلْقَمَةُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، أَنْ يُغَسِّلَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُغَسِّلُهُ الْجُنُبُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِنَجَسٍ» . وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 اخْتِلَافًا فِي صِحَّةِ تَغْسِيلِهِمَا وَتَغْمِيضِهِمَا لَهُ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِهِ، فِي تَغْمِيضِهِ وَتَغْسِيلِهِ، طَاهِرًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَحْسَنُ [فَصْلٌ الْمُسَارَعَة إلَى تَجْهِيزه إذَا تَيَقُّن مَوْته] (1495) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ الْمُسَارَعَةُ إلَى تَجْهِيزِهِ إذَا تُيُقِّنَ مَوْتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَصْوَبُ لَهُ، وَأَحْفَظُ مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ، وَتَصْعُبَ مُعَافَاتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: كَرَامَةُ الْمَيِّتِ تَعْجِيلُهُ. وَفِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي لَأُرَى طَلْحَةَ قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَآذِنُونِي بِهِ، وَعَجِّلُوا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» . وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَجْتَمِعُ لَهَا جَمَاعَةٌ؛ لِمَا يُؤَمَّلُ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ، أَوْ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَإِنْ اشْتَبَهَ أَمْرُ الْمَيِّتِ، اُعْتُبِرَ بِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ، مِنْ اسْتِرْخَاءِ رِجْلَيْهِ، وَانْفِصَالِ كَفَّيْهِ، وَمَيْلِ أَنْفِهِ، وَامْتِدَادِ جِلْدَةِ وَجْهِهِ، وَانْخِسَافِ صُدْغَيْهِ. وَإِنْ مَاتَ فَجْأَةً كَالْمَصْعُوقِ، أَوْ خَائِفًا مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَبُعٍ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، اُنْتُظِرَ بِهِ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ، حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ. قَالَ الْحَسَنُ فِي الْمَصْعُوقِ: يُنْتَظَرُ بِهِ ثَلَاثًا. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ رُبَّمَا تَغَيَّرَ فِي الصَّيْفِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. قِيلَ: فَكَيْفَ تَقُولُ؟ قَالَ: يُتْرَكُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ. قِيلَ لَهُ: مِنْ غَدْوَةٍ إلَى اللَّيْلِ. قَالَ: نَعَمْ. [فَصْل يُسَارَعُ فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ] (1496) فَصْلٌ: وَيُسَارَعُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَإِنْ تَعَذَّرَ إيفَاءُ دَيْنِهِ فِي الْحَالِ، اُسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَتَكَفَّلَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا فَعَلَ أَبُو قَتَادَةَ لَمَّا أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِنَازَةٍ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ. فَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَيُسْتَحَبُّ الْمُسَارَعَةُ إلَى تَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ؛ لِيُعَجَّلَ لَهُ ثَوَابُهَا بِجَرَيَانِهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ. [فَصْلٌ خَلَعَ ثِيَاب الْمَيِّت] (1497) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ خَلْعُ ثِيَابِ الْمَيِّتِ؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ يَفْسُدُ بِهِ، وَيَتَلَوَّثُ بِهَا، إذَا نُزِعَتْ عَنْهُ، وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُتْرَكُ الْمَيِّتُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِفَسَادِهِ، وَلَكِنْ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْحٍ، لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 [مَسْأَلَةٌ تَجْرِيد الْمَيِّت عِنْدَ غَسْلِهِ وَسِتْر عَوْرَته بِمِئْزَرِ] (1498) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِذَا أَخَذَ فِي غُسْلِهِ سَتَرَ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ عِنْدَ غُسْلِهِ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ بِمِئْزَرٍ. هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ فَقَالَ: يُغَطِّي مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتَيْهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سِيرِينَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُغَسِّلَ الْمَيِّتَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ يُدْخِلُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الثَّوْبِ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو قِلَابَةَ إذَا غَسَّلَ مَيِّتًا جَلَّلَهُ بِثَوْبٍ. قَالَ الْقَاضِي: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يَنْزِلُ الْمَاءُ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إلَى بَدَنِهِ، وَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ، فَيُمِرُّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ، فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ. وَقَالَ سَعْدٌ اصْنَعُوا بِي كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَحْمَدُ غُسِّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَمِيصِهِ، وَقَدْ أَرَادُوا خَلْعَهُ، فَنُودُوا، أَنْ لَا تَخْلَعُوهُ، وَاسْتُرُوا نَبِيَّكُمْ. وَلَنَا، أَنَّ تَجْرِيدَهُ أَمْكَنُ لِتَغْسِيلِهِ، وَأَبْلَغُ فِي تَطْهِيرِهِ، وَالْحَيُّ يَتَجَرَّدُ إذَا اغْتَسَلَ، فَكَذَا الْمَيِّتُ، وَلِأَنَّهُ إذَا غُسِّلَ فِي ثَوْبِهِ تَنَجَّسَ الثَّوْبُ بِمَا يَخْرُجُ، وَقَدْ لَا يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَيَتَنَجَّسَ الْمَيِّتُ بِهِ. فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَاكَ خَاصٌّ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: نُجَرِّدُهُ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا. كَذَلِكَ رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهَا مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ تَجْرِيدَ الْمَيِّتِ فِيمَا عَدَا الْعَوْرَةَ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا لِيَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّ مَا يُخْشَى مِنْ تَنْجِيسِ قَمِيصِهِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ كَانَ مَأْمُونًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ طَيِّبٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ سَعْدٌ الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصُبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْغُسْلَ فَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ. وَأَمَّا سَتْرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: لَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ، وَلَا مَيِّتٍ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ: " النَّاظِرُ مِنْ الرِّجَالِ إلَى فُرُوجِ الرِّجَالِ، كَالنَّاظِرِ مِنْهُمْ إلَى فُرُوجِ النِّسَاءِ، وَالْمُتَكَشِّفُ مَلْعُونٌ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 (1499) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ الصَّبِيُّ يُسْتَرُ كَمَا يُسْتَرُ الْكَبِيرُ، أَعْنِي الصَّبِيَّ الْمَيِّتَ فِي الْغُسْلِ. قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يُسْتَرُ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ عَوْرَتُهُ بِعَوْرَةٍ وَيُغَسِّلُهُ النِّسَاءُ؟ [مَسْأَلَةٌ يُسْتَحَبّ أَنْ يَغْسِل الْمَيِّت فِي بَيْت وَلَا يُحَضِّرهُ إلَّا مِنْ يُعِين فِي أَمَرَهُ] (1500) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالِاسْتِحْبَابُ أَنْ لَا يُغَسَّلَ تَحْتَ السَّمَاءِ، وَلَا يَحْضُرُهُ إلَّا مَنْ يُعِينُ فِي أَمْرِهِ، مَا دَامَ يُغَسَّلُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي بَيْتٍ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ مُظْلِمًا. وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سِتْرًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ النَّخَعِيُّ يُحِبُّ أَنْ يُغَسَّلَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سُتْرَةٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ؛ قَالَ: أَوْصَى الضَّحَّاكُ أَخَاهُ سَالِمًا، قَالَ: إذَا غَسَّلْتنِي فَاجْعَلْ حَوْلِي سِتْرًا، وَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَ السَّمَاءِ سِتْرًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَجَعَلْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّقْفِ سِتْرًا» . قَالَ: وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّمَاءَ بِعَوْرَتِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَحْضُرَهُ مَنْ لَا يُعِينُ فِي أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَيِّتِ إلَّا لِحَاجَةٍ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاضِرِينَ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ، إلَّا مِنْ حَاجَةٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بِالْمَيِّتِ عَيْبٌ يَكْتُمُهُ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ أَمْرٌ يَكْرَهُ الْحَيُّ أَنْ يُطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهِ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ فَيُحَدَّثُ بِهِ، فَيَكُونُ فَضِيحَةً لَهُ، وَرُبَّمَا بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَشَاهَدَهَا، وَلِهَذَا أَحْبَبْنَا أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ ثِقَةً أَمِينًا صَالِحًا؛ لِيَسْتُرَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِيُغَسِّلْ مَوْتَاكُمْ الْمَأْمُونُونَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، ثُمَّ لَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، فَأَدَّى فِيهِ الْأَمَانَةَ، وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَقَالَ: «لِيَلِهِ أَقْرَبُكُمْ مِنْهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَمَنْ تَرَوْنَ أَنَّ عِنْدَهُ حَظًّا مِنْ وَرَعٍ وَأَمَانَةٍ» . وَقَالَ الْقَاضِي: لِوَلِيِّهِ أَنْ يَدْخُلَ كَيْفَ شَاءَ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَامٌّ فِي الْمَنْعِ، وَلَعَلَّهُ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْغَاسِلِ وَلِمَنْ حَضَرَ إذَا رَأَى مِنْ الْمَيِّت شَيْئًا التَّحَدُّث بِهِ] (1501) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْغَاسِلِ، وَلِمَنْ حَضَرَ، إذَا رَأَى مِنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِمَّا يُحِبُّ الْمَيِّتُ سَتْرَهُ، أَنْ يَسْتُرَهُ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَإِنْ رَأَى حَسَنًا مِثْلَ أَمَارَاتِ الْخَيْرِ، مِنْ وَضَاءَةِ الْوَجْهِ، وَالتَّبَسُّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، اُسْتُحِبَّ إظْهَارُهُ، لِيَكْثُرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلَ الْحَثُّ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِ، وَالتَّشَبُّهُ بِجَمِيلِ سِيرَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالسُّنَّةِ، مَشْهُورًا بِبِدْعَتِهِ، فَلَا بَأْسَ بِإِظْهَارِ الشَّرِّ عَلَيْهِ، لِتُحْذَرَ طَرِيقَتُهُ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُمَ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْخَيْرِ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ مُغْتَرٌّ بِذَلِكَ، فَيَقْتَدِيَ بِهِ فِي بِدْعَتِهِ. (1502) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَتُلَيَّنُ مَفَاصِلُهُ إنْ سَهُلَتْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا تَرَكَهَا) مَعْنَى تَلْيِينِ الْمَفَاصِل هُوَ أَنْ يَرُدَّ ذِرَاعَيْهِ إلَى عَضُدَيْهِ، وَعَضُدَيْهِ إلَى جَنْبَيْهِ، ثُمَّ يَرُدَّهُمَا، وَيَرُدّ سَاقَيْهِ إلَى فَخِذَيْهِ، وَفَخِذَيْهِ، إلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْقَى لِلِينِهِ، فَيَكُون ذَلِكَ أَمْكَنَ لِلْغَاسِلِ، مِنْ تَكْفِينِهِ، وَتَمْدِيدِهِ، وَخَلْعِ ثِيَابِهِ، وَتَغْسِيلِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ، عَقِيبَ مَوْتِهِ قَبْلَ قَسْوَتِهَا بِبُرُودَتِهِ، وَإِذَا أَخَذَ فِي غُسْلِهِ. وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ لِقَسْوَةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهَا، تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ، وَيَصِيرَ بِهِ ذَلِكَ إلَى الْمُثْلَةِ. [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّة غَسَلَ الْمَيِّت] (1503) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً، فَيُنَقِّي مَا بِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ عَصْرًا رَفِيقًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ عَلَى سَرِيرٍ، يُتْرَكُ عَلَيْهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ، لِيَنْحَدِرَ الْمَاءُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا يَرْجِعَ إلَى جِهَةِ رَأْسِهِ، وَيَبْدَأُ الْغَاسِلُ، فَيَحْنِي الْمَيِّتَ حَنْيًا رَفِيقًا، لَا يَبْلُغُ بِهِ قَرِيبًا مِنْ الْجُلُوسِ، لِأَنَّ فِي الْجُلُوسِ أَذِيَّةً لَهُ، ثُمَّ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ، يَعْصِرُهُ عَصْرًا رَفِيقًا؛ لِيُخْرِج مَا مَعَهُ مِنْ نَجَاسَةٍ، لِئَلَّا يَخْرُجَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حِينَ يُمِرُّ يَدَهُ صَبًّا كَثِيرًا، لِيُخْفِيَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَيَذْهَبُ بِهِ الْمَاءُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِهِ مِجْمَرٌ فِيهِ بَخُورٌ حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهُ رِيحٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَعْصِرُ بَطْنَ الْمَيِّتِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَعْصِرُ بَطْنَهُ فِي الثَّالِثَةِ، يَمْسَحُ مَسْحًا رَفِيقًا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَالَ أَيْضًا: عَصْرُ بَطْنِ الْمَيِّتِ فِي الثَّانِيَةِ أَمْكَنُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلِينُ حَتَّى يُصِيبَهُ الْمَاءُ. وَيَلُفُّ الْغَاسِلُ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً، فَيُنْجِيهِ بِهَا؛ لِئَلَّا يَمَسَّ عَوْرَتَهُ، لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، فَاللَّمْسُ أَوْلَى، وَيُزِيلُ مَا عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ يَبْدَأُ بِذَلِكَ فِي اغْتِسَالِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَمَسَّ بَقِيَّةَ بَدَنِهِ إلَّا بِخِرْقَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: يُعِدُّ الْغَاسِلُ خِرْقَتَيْنِ، يَغْسِلُ بِإِحْدَاهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 السَّبِيلَيْنِ، وَبِالْأُخْرَى سَائِرَ بَدَنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً حَامِلًا لَمْ يَعْصِرْ بَطْنَهَا، لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْوَلَدَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تُوُفِّيَتْ الْمَرْأَةُ، فَأَرَادُوا غَسْلَهَا، فَلْيَبْدَأْ بِبَطْنِهَا، فَلْيَمْسَحْ مَسْحًا رَفِيقًا إنْ لَمْ تَكُنْ حُبْلَى، فَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى فَلَا يُحَرِّكْهَا.» [مَسْأَلَةٌ يُوَضِّئ الْمَيِّت وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ وَلَا يَدْخُل الْمَاء فِي فِيهِ وَلَا فِي أَنْفه] (1504) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُوَضِّئُهُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي فِيهِ، وَلَا فِي أَنْفِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذَى أَزَالَهُ بِخِرْقَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَنْجَاهُ، وَأَزَالَ عَنْهُ النَّجَاسَةَ، بَدَأَ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَضَّأَهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، فَيَغْسِلُ كَفَّيْهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً خَشِنَةً فَيَبُلُّهَا وَيَجْعَلُهَا عَلَى أُصْبُعِهِ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ وَأَنْفَهُ، حَتَّى يُنَظِّفَهُمَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي رِفْقٍ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ، وَيُتِمُّ وُضُوءَهُ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ يُبْدَأُ بِهِ فِي غُسْلِ الْحَيِّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ: «فَإِذَا فَرَغْتِ مِنْ غَسْلِ سُفْلَتِهَا غَسْلًا نَقِيًّا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، فَوَضِّئِيهَا وُضُوءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ اغْسِلِيهَا» وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فَاهُ، وَلَا مَنْخَرَيْهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. كَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُمَضْمِضُهُ وَيُنَشِّقُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ. وَلَنَا، أَنَّ إدْخَالَ الْمَاءِ فَاهُ وَأَنْفَهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ وُصُولُهُ إلَى جَوْفِهِ، فَيُفْضِي إلَى الْمُثْلَةِ بِهِ، وَلَا يُؤْمَنُ خُرُوجُهُ فِي أَكْفَانِهِ. [مَسْأَلَةٌ يَبْدَأ فِي غَسَلَ الْمَيِّت بِمَيَامِنِهِ وَيُقَلِّبهُ عَلَى جَنْبَيْهِ لِيَعُمّ الْمَاء سَائِر جِسْمه] (1505) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، فَيَبْدَأُ بِمَيَامِنِهِ، وَيَقْلِبُهُ عَلَى جَنْبَيْهِ، لِيَعُمَّ الْمَاءُ سَائِرَ جِسْمِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَضَّأَهُ بَدَأَ بِغَسْلِ رَأْسِهِ، ثُمَّ لِحْيَتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَيَضْرِبُ السِّدْرَ فَيَغْسِلُهُمَا بِرَغْوَتِهِ، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ، وَيَغْسِلُ الْيَدَ الْيُمْنَى مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْكَفَّيْنِ وَصَفْحَةَ عُنُقِهِ الْيُمْنَى، وَشِقَّ صَدْرِهِ وَجَنْبَيْهِ وَفَخِذَهُ وَسَاقَهُ، يَغْسِلُ الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ، ثُمَّ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، وَلَا يَكُبُّهُ لِوَجْهِهِ، فَيَغْسِلُ الظَّهْرَ وَمَا هُنَاكَ مِنْ وَرِكِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُحَرِّفهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ كَذَلِكَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْقَاضِي. وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا» . وَهُوَ أَشْبَهُ بِغُسْلِ الْحَيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 [مَسْأَلَةٌ الْمَيِّت يَغْسِل بِمَاءِ وَسِدْر] (1506) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَكُونُ فِي كُلِّ الْمِيَاهِ شَيْءٌ مِنْ السِّدْرِ، وَيَضْرِبُ السِّدْرَ فَيَغْسِلُ بِرَغْوَتِهِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ) . هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِي: الْمَيِّتُ يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ، قُلْت: فَيَبْقَى عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هُوَ أَنْقَى لَهُ. وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ: إنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ السِّدْرُ إذَا غُسِّلَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ. فَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ طَهُورٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: قُلْت، يَعْنِي لِأَحْمَدَ: أَفَلَا تَصُبُّونَ مَاءً قَرَاحًا يُنَظِّفُهُ؟ قَالَ: إنْ صَبُّوا فَلَا بَأْسَ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ قَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إنْ رَأَيْتُنَّ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ: «ثُمَّ اغْسِلِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ.» وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، إلَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مَعَ الْمَاءِ سِدْرًا يُغَيِّرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُطْرَحُ فِي كُلِّ الْمِيَاهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ السِّدْرِ لَا يُغَيِّرُهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَيَكُونَ الْمَاءُ بَاقِيًا عَلَى طَهُورِيَّته. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُغَسَّلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِالسِّدْرِ، ثُمَّ يُغَسَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ غَسْلَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِالْآخِرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، شَبَّهَ غُسْلَهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَلِأَنَّ السِّدْرَ إنْ غَيَّرَ الْمَاءَ سَلَبَهُ وَصْفَ الطَّهُورِيَّة، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَرْكِ يَسِيرٍ لَا يُؤَثِّرُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ. وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ دَالًّا عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالسِّدْرِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَهُورِيَّته. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَتَّخِذُ الْغَاسِلُ ثَلَاثَةَ أَوَانٍ؛ آنِيَةً كَبِيرَةً يَجْمَعُ فِيهَا الْمَاءَ الَّذِي يُغَسِّلُ بِهِ الْمَيِّتَ يَكُونُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، وَإِنَاءَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَطْرَحُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَالثَّالِثَ يَغْرِفُ بِهِ مِنْ الْكَبِيرِ فِي الصَّغِيرِ الَّذِي يُغَسِّلُ بِهِ الْمَيِّتَ، لِيَكُونَ الْكَبِيرُ مَصُونًا، فَإِذَا فَسَدَ الْمَاءُ الَّذِي فِي الصَّغِيرِ، وَطَارَ فِيهِ مِنْ رَشَّاش الْمَاءِ، كَانَ مَا بَقِيَ فِي الْكَبِيرِ كَافِيًا، وَيَضْرِبُ السِّدْرَ، فَيَغْسِلُ بِرَغْوَتِهِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَيُبْلِغُهُ سَائِرَ بَدَنِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ إذَا اغْتَسَلَ. (1507) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ السِّدْرَ غَسَّلَهُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ، كَالْخَطْمِيِّ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْهُ، وَإِنْ غَسَّلَهُ بِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ السِّدْرِ جَازَ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذَا لِمَعْنًى مَعْقُولٍ، وَهُوَ التَّنْظِيفُ، فَيَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 [مَسْأَلَةٌ الرِّفْق بِالْمَيِّتِ فِي تَقْلِيبه وَعْرك أَعْضَائِهِ] (1508) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَسْتَعْمِلُ فِي كُلِّ أُمُورِهِ الرِّفْقَ بِهِ) وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقُ بِالْمَيِّتِ فِي تَقْلِيبِهِ، وَعَرْكِ أَعْضَائِهِ، وَعَصْرِ بَطْنِهِ، وَتَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ، وَسَائِرِ أُمُورِهِ، احْتِرَامًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْحَيِّ فِي حُرْمَتِهِ، وَلَا يَأْمَنُ إنْ عَنُفَ بِهِ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْهُ عُضْوٌ، فَيَكُونَ مُثْلَةً بِهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» . وَقَالَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» . [مَسْأَلَةٌ الْمَاء الْحَارّ وَالْأُشْنَان وَالْخِلَال يَسْتَعْمِل إنَّ اُحْتِيجَ إلَيْهِ فِي غَسَلَ الْمَيِّت] (1509) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَالْمَاءُ الْحَارُّ وَالْأُشْنَانُ، وَالْخِلَالُ، يُسْتَعْمَلُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، مِثْلُ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى الْمَاءِ الْحَارِّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لَوَسَخٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِهِ، وَكَذَا الْأُشْنَانُ يُسْتَعْمَلُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ وَسَخٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا طَالَ ضَنَى الْمَرِيضِ غُسِّلَ بِالْأُشْنَانِ. يَعْنِي أَنَّهُ يَكْثُرُ وَسَخُهُ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْأُشْنَانِ لِيُزِيلَهُ. وَالْخِلَالُ: يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَجَرَةٍ لَيِّنَةٍ كَالصَّفْصَافِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يُنَقِّي وَلَا يَجْرَحُ، وَإِنْ لَفَّ عَلَى رَأْسِهِ قُطْنًا، فَحَسَنٌ. وَيَتَتَبَّعُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَبَّ اسْتِعْمَالُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُسَخَّنُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ يُنَقِّي مَا لَا يُنَقِّي الْبَارِدُ. وَلَنَا، أَنَّ الْبَارِدَ يُمْسِكُهُ وَالْمُسَخَّنَ يُرْخِيهِ، وَلِهَذَا يُطْرَحُ الْكَافُورُ فِي الْمَاءِ لِيَشُدَّهُ وَيُبَرِّدَهُ، وَالْإِنْقَاءُ يَحْصُلُ بِالسِّدْرِ إذَا لَمْ يَكْثُرْ وَسَخُهُ، فَإِنْ كَثُرَ وَلَمْ يَزُلْ إلَّا بِالْحَارِّ صَارَ مُسْتَحَبًّا. [مَسْأَلَةٌ يَغْسِل الْمَيِّت الْمَرَّة الثَّالِثَة بِمَاءِ فِيهِ كَافُور وَسِدْر] (1510) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُغَسَّلُ الثَّالِثَةَ بِمَاءٍ فِيهِ كَافُورٌ وَسِدْرٌ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ سِدْرٌ صِحَاحٌ) الْوَاجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ، فَكَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ ثَلَاثًا، كُلُّ غَسْلَةٍ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَيُجْعَلَ فِي الْمَاءِ كَافُورٌ فِي الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِيَشُدَّهُ وَيُبَرِّدَهُ وَيُطَيِّبَهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: «اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ، وَاجْعَلْنَ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ كَافُورًا» . وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ: «فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ غَسْلَةٍ مِنْ الثَّالِثَةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَاجْعَلِي مَاءً فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَافُورٍ، وَشَيْءٌ مِنْ سِدْرٍ، ثُمَّ اجْعَلِي ذَلِكَ فِي جَرَّةٍ جَدِيدَةٍ، ثُمَّ أَفْرِغِيهِ عَلَيْهَا، وَابْدَئِي بِرَأْسِهَا حَتَّى يَبْلُغَ رِجْلَيْهَا» . وَلَا يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ سِدْرٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّ السِّدْرَ إنَّمَا أُمِرَ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 لِلتَّنْظِيفِ، وَالْمُعَدُّ لِلتَّنْظِيفِ إنَّمَا هُوَ الْمَطْحُونُ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُغْتَسِلُ بِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ إلَّا كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ إنَّهُمْ يَأْتُونَ بِسَبْعِ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ، فَيُلْقُونَهَا فِي الْمَاءِ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِ الْمَيِّتِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَقَعَ فِي أَكْفَانِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَيُوَضَّأُ الْمَيِّتُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى. وَمَا سَمِعْنَا إلَّا أَنَّهُ يُوَضَّأُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَمَتَى خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَعَادَ وُضُوءَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْحَيِّ وَيُوجِبُهُ، وَإِنْ رَأَى الْغَاسِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثٍ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُنَقَّ بِهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، غَسَلَهُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَلَمْ يَقْطَعْ إلَّا عَلَى وِتْرٍ. قَالَ أَحْمَدُ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا» لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ وَتْرًا وَقَالَ أَيْضًا: " اغْسِلْنَهَا وِتْرًا " وَإِنْ لَمْ يُنَقَّ بِسَبْعٍ فَالْأَوْلَى غَسْلُهُ حَتَّى يُنَقَّى، وَلَا يُقْطَعُ إلَّا عَلَى وَتْرٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ". وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ إنَّمَا كَانَتْ لِلْإِنْقَاءِ، وَلِلْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَكَذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ السَّبْعِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ. [مَسْأَلَةٌ خَرَجَتْ نَجَاسَة مِنْ قَبْل الْمَيِّت أَوْ دُبْره وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَله بَعْد الثَّلَاث] (1511) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: " فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ إلَى خَمْسٍ، فَإِنْ زَادَ فَإِلَى سَبْعٍ " يَعْنِي إنْ خَرَجَتْ نَجَاسَةٌ مِنْ قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ، وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَلِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، غَسَلَهُ إلَى خَمْسٍ، فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ الْخَامِسَةِ، غَسَلَهُ إلَى سَبْعٍ وَيُوَضِّئُهُ فِي الْغَسْلَةِ الَّتِي تَلِي خُرُوجَ النَّجَاسَةِ. قَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِي: يُوَضَّأُ الْمَيِّتُ مَرَّةً وَاحِدَةً، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيُعَادُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَيَغْسِلُهُ إلَى سَبْعٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِسْحَاقَ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ، وَيُوَضَّأُ، وَلَا يَجِبُ إعَادَةُ غُسْلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ الْحَيِّ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا يُبْطِلُهُ، فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ. وَعَنْ الشَّافِعِيَّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ الطَّهَارَةَ الْكَامِلَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْتَ جَرَى مَجْرَى زَوَالِ الْعَقْلِ فِي حَقِّ الْحَيِّ، وَقَدْ أُوجِبَ الْغُسْلُ فِي حَقِّ الْحَيِّ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» . (1512) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ. فَقَالَ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد: الدَّمُ أَسْهَلُ مِنْ الْحَدَثِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ أَسْهَلُ مِنْ الْحَدَثِ فِي أَنْ لَا يُعَادَ لَهُ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْغُسْلَ لَا يُعَادُ مِنْ يَسِيرِهِ، كَمَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، بِخِلَافِ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 [مَسْأَلَةٌ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْمَيِّت نَجَاسَة بَعْد السَّبْع لَمْ يَعُدْ إلَى الْغُسْل] (1513) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ زَادَ حَشَاهُ بِالْقُطْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَبِالطِّينِ الْحُرِّ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ بَعْدَ السَّبْعِ لَمْ يَعْدُ إلَى الْغُسْلِ. قَالَ أَحْمَدُ مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا لَمْ يُغَسِّلْهُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ، لَا يُجَاوِزُهُ، خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ. قِيلَ لَهُ: فَنُوَضِّئُهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ السَّبْعِ؟ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا أَمَرَ، ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْغُسْلِ وَتَكْرِيرَهُ عِنْدَ كُلِّ خَارِجٍ يُرْخِيهِ، وَيُفْضِي إلَى الْحَرَجِ، لَكِنَّهُ يَغْسِلُ النَّجَاسَةَ، وَيَحْشُو مَخْرَجَهَا بِالْقُطْنِ. وَقِيلَ: يُلَجِّمُ بِالْقُطْنِ كَمَا تَفْعَلُ الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، فَإِنْ لَمْ يُمْسِكْهُ ذَلِكَ حُشِيَ بِالطِّينِ الْحُرِّ، وَهُوَ الْخَالِصُ الصُّلْبِ الَّذِي لَهُ قُوَّةٌ تُمْسِكُ الْمَحَلَّ. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يُوَضَّأُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، كَالْجُنُبِ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ غُسْلِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ. [فَصْلٌ الْحَائِض وَالْجَنْب إذَا مَاتَا كَغَيْرِهِمَا فِي الْغُسْل] (1514) فَصْلٌ: وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ إذَا مَاتَا كَغَيْرِهِمَا فِي الْغُسْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: مَا مَاتَ مَيِّتٌ إلَّا جُنُبٌ. وَقِيلَ عَنْ الْحَسَنِ: إنَّهُ يُغَسَّلُ الْجُنُبُ لِلْجَنَابَةِ، وَالْحَائِضُ لِلْحَيْضِ، ثُمَّ يُغَسَّلَانِ لِلْمَوْتِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ، وَإِنَّمَا الْغُسْلُ لِلْمَيِّتِ تَعَبُّدٌ، وَلِيَكُونَ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنْ النَّظَافَةِ وَالنَّضَارَةِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْغُسْلَ الْوَاحِدَ يُجْزِئُ مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ مُوجِبَانِ لَهُ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ الْحَيْضُ وَالْجَنَابَةُ. [فَصْلٌ الْوَاجِب فِي غَسَلَ الْمَيِّت] (1515) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ النِّيَّةُ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَغَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ غُسْلُ تَعَبُّدٍ عَنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ ذَلِكَ فِيهِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَقَدْ شَبَّهَ أَحْمَدُ غُسْلَهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَلَمَّا تَعَذَّرَتْ النِّيَّةُ وَالتَّسْمِيَةُ مِنْ الْمَيِّتِ اُعْتُبِرَتْ فِي الْغَاسِلِ، لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِالْغُسْلِ. قَالَ عَطَاءٌ يُجْزِئُهُ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ أَنْقَوْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُغَسَّلَ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا» . وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ دُونَ الْإِجْزَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ، لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّنْظِيفُ، فَأَشْبَهَ غَسْلَ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ غَسْلُ مُتَنَظِّفٍ، وَلَجَازَ غَسْلُهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَسَائِرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْظِيفُ، وَإِنَّمَا هُوَ غُسْلُ تَعَبُّدٍ، أَشْبَهَ غُسْلَ الْجَنَابَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 [مَسْأَلَةٌ إذَا فَرَغَ الْغَاسِل مِنْ غَسَلَ الْمَيِّت نَشْفِهِ بِثَوْبِ] (1516) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ، وَيُجَمِّرُ أَكْفَانَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ الْغَاسِلُ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ، نَشَّفَهُ بِثَوْبِ لِئَلَّا يَبُلَّ أَكْفَانَهُ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ: " فَإِذَا فَرَغْتِ مِنْهَا، فَأَلْقِي عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا ". وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي غُسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ. وَمَعْنَى تَجْمِيرِ أَكْفَانِهِ تَبْخِيرُهَا بِالْعُودِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الْعُودُ عَلَى النَّارِ فِي مِجْمَرٍ، ثُمَّ يُبَخَّرُ بِهِ الْكَفَنُ حَتَّى تَعْبَقَ رَائِحَتُهُ، وَيَطِيبَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُرَشَّ عَلَيْهِ مَاءُ الْوَرْدِ، لِتَعْلَقَ الرَّائِحَةُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَمَّرْتُمْ الْمَيِّتَ فَجَمِّرُوهُ ثَلَاثًا» وَأَوْصَى أَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ تُجَمَّرَ أَكْفَانُهُمْ بِالْعُودِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُجَمَّرُ الْمَيِّتُ. وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ عِنْدَ غُسْلِهِ، وَتَجْمِيرِ ثِيَابِهِ، أَنْ يُجَمِّرَ بِالطِّيبِ وَالْعُودِ، فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ. [مَسْأَلَةٌ يُكَفَّنُ الرَّجُل فِي ثَلَاثِ لَفَائِف بِيض] (1517) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ، يُدْرَجُ فِيهَا إدْرَاجًا، وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ فِيمَا بَيْنَهَا) الْأَفْضَلُ عِنْدَ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْكَفَنِ أَبْيَضَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبِيضَ، فَإِنَّهُ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُغَفَّلِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُفِّنَ فِي قَمِيصِهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ، وَكَفَّنَهُ بِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلَنَا، قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي كَفَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَائِشَةُ أَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْرَفُ بِأَحْوَالِهِ وَلِهَذَا لَمَّا ذُكِرَ لَهَا قَوْلُ النَّاسِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي بُرْدٍ، قَالَتْ: قَدْ أُتِيَ بِالْبُرْدِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّنُوهُ فِيهِ، فَحَفِظَتْ مَا أَغْفَلَهُ غَيْرُهَا. وَقَالَتْ أَيْضًا: «أُدْرِجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْحُلَّةَ، وَقَالَ: أُكَفَّنُ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُكَفَّنْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُكَفَّنُ فِيهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ حَالَ الْإِحْرَامِ أَكْمَلُ أَحْوَالِ الْحَيِّ وَهُوَ لَا يَلْبَسُ الْمَخِيطَ، وَكَذَلِكَ حَالَةُ الْمَوْتِ أَشْبَهُ بِهَا. وَأَمَّا إلْبَاسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ، فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَكْرِمَةً لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَإِجَابَةً لِسُؤَالِهِ حِين سَأَلَهُ ذَلِكَ؛ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ أَبُوهُ، وَيَنْدَفِعَ عَنْهُ الْعَذَابُ بِبَرَكَةِ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَنْ كُسْوَتِهِ الْعَبَّاسَ قَمِيصَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل الزِّيَادَة عَلَى ثَلَاثَة أَثْوَاب فِي الْكَفَن] فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤْخَذَ أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ وَأَوْسَعُهَا، فَيُبْسَطَ أَوَّلًا؛ لِيَكُونَ الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ أَحْسَنَهَا، فَإِنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ، يَجْعَلُ الظَّاهِرَ أَفْخَرَ ثِيَابِهِ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهَا حَنُوطًا، ثُمَّ يَبْسُطُ الثَّانِيَةَ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْحُسْنِ وَالسَّعَةِ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطًا وَكَافُورًا، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُمَا الثَّالِثَةَ، وَيَجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطًا وَكَافُورًا، وَلَا يُجْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْعُلْيَا، وَلَا عَلَى النَّعْشِ شَيْءٌ مِنْ الْحَنُوطِ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تَجْعَلُوا عَلَى أَكْفَانِي حَنُوطًا. ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ فَيُوضَعُ فِيهَا مُسْتَلْقِيًا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِإِدْرَاجِهِ فِيهَا، وَيُجْعَلُ مَا عِنْدَ رَأْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَيُجْعَلُ مِنْ الطِّيبِ عَلَى وَجْهِهِ وَمَوَاضِعِ سُجُودِهِ وَمَغَابِنِهِ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ يَتَطَيَّبُ هَكَذَا، وَيُجْعَلُ بَقِيَّةُ الْحَنُوطِ وَالْكَافُورِ فِي قُطْنٍ، وَيُجْعَلُ مِنْهُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ بِرِفْقٍ، وَيُكْثِرُ ذَلِكَ لِيَرُدَّ شَيْئًا إنْ خَرَجَ مِنْهُ حِينَ تَحْرِيكِهِ، وَيَشُدُّ فَوْقَهُ خِرْقَةً مَشْقُوقَةَ الطَّرَفِ كَالتُّبَّانِ، وَهُوَ السَّرَاوِيلُ بِلَا أَكْمَامٍ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ، فِي فِيهِ، وَمَنْخِرَيْهِ، وَعَيْنَيْهِ؛ لِئَلَّا يَحْدُثَ مِنْهُنَّ حَادِثٌ. وَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ النَّافِذَةِ، وَيَتْرُكُ عَلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ شَرِيفَةٌ، ثُمَّ يَثْنِي طَرَفَ اللِّفَافَةِ الْعُلْيَا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَرُدُّ طَرَفَهَا الْآخَرَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْقُطَ عَنْهُ الطَّرَفُ الْأَيْمَنُ إذَا وُضِعَ عَلَى يَمِينه فِي الْقَبْرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا فَضَلَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، فَيُرَدَّ عَلَى وَجْهِهِ وَرِجْلَيْهِ، وَإِنْ خَافَ انْتِشَارَهَا عَقَدَهَا، وَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ حَلَّهَا، وَلَمْ يَخْرِقْ الْكَفَنَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 (1519) فَصْل: وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فِي الْكَفَنِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْرُمُ تَرْكُ شَيْءٍ مَعَ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تُرِكَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فِي قَبْرِهِ، فَإِنْ تُرِكَ نَحْوُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ. [مَسْأَلَةٌ التَّكْفِين فِي الْقَمِيص وَالْمِئْزَر وَاللِّفَافَة] (1520) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَإِنْ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَلِفَافَةٍ جُعِلَ الْمِئْزَرُ مِمَّا يَلِي جِلْدَهُ، وَلَمْ يُزَرَّ عَلَيْهِ الْقَمِيصُ) . التَّكْفِينُ فِي الْقَمِيصِ وَالْمِئْزَرِ وَاللِّفَافَةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنَّمَا الْأَفْضَلُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا جَائِزٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ لَمَّا مَاتَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَيُؤْزَرُ بِالْمِئْزَرِ، وَيُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ يُلَفُّ بِاللِّفَافَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ جَعَلُوهُ قَمِيصًا فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَمِيصِ الْحَيِّ، لَهُ كُمَّانِ وَدَخَارِيصُ وَأَزْرَارٌ، وَلَا يُزَرُّ عَلَيْهِ الْقَمِيصُ. [فَصْلٌ يَتَّخِذ الرَّجُل كَفَنه يُصَلِّي فِيهِ أَيَّامًا أَوْ يُحْرِم فِيهِ ثُمَّ يَغْسِلهُ وَيَضَعهُ لِكَفَنِهِ] (1521) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: يَتَّخِذُ الرَّجُلُ كَفَنَهُ يُصَلِّي فِيهِ أَيَّامًا، أَوْ قُلْت: يُحْرِمُ فِيهِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ وَيَضَعُهُ لِكَفَنِهِ؟ فَرَآهُ حَسَنًا. قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ جَدِيدًا أَوْ غَسِيلًا وَكَرِهَ أَنْ يَلْبَسَهُ حَتَّى لَا يُدَنِّسَهُ. [فَصْلٌ التَّكْفِين فِي ثَوْبَيْنِ] (1522) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي ثَوْبَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَانَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ يَقُولُ: يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِئُ ثَوْبَانِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ. «قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: لَمَّا فَرَغْنَا. يَعْنِي مِنْ غُسْلِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْقَى إلَيْنَا حَقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ: مَعْنَى أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ اُلْفُفْنَهَا فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْعَوْرَةُ الْمُغَلَّظَةُ يَسْتُرُهَا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَجَسَدُ الْمَيِّتِ أُولَى. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا. وَيُرْوَى مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَقَلُّ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ التَّكْفِينُ بِهَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ أَيْتَامٌ، احْتِيَاطًا لَهُمْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّكْفِينُ بِالْحَسَنِ مَعَ حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِمَا دُونَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 [فَصْل يُكَفِّن الصَّبِيّ فِي خِرْقَة] (1523) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يُكَفَّنُ الصَّبِيُّ فِي خِرْقَةٍ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ وَنَحْوُهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ ثَوْبًا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ ذَكَرٌ فَأَشْبَهَ الرَّجُلَ. [فَصْلٌ لَمْ يُوجَد ثَوْبًا يَسْتُر جَمِيع الْمَيِّت] (1524) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلُ ثَوْبًا يَسْتُرُ جَمِيعَهُ، سَتَرَ رَأْسَهُ، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ حَشِيشًا أَوْ وَرَقًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ، «أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ، إلَّا نَمِرَةً. فَكُنَّا إذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ سَتَرَهَا؛ لِأَنَّهَا أَهَمُّ فِي السَّتْرِ، بِدَلِيلِ حَالَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنْ كَثُرَ الْقَتْلَى، وَقَلَّتْ الْأَكْفَانُ، كُفِّنَ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، كَمَا صُنِعَ بِقَتْلَى أُحُدٍ. قَالَ أَنَسٌ: كَثُرَتْ قَتْلَى أُحُدٍ، وَقَلَّتْ الثِّيَابُ. قَالَ: فَكُفِّنَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [مَسْأَلَةٌ يَتْبَع مَغَابِن الْمَيِّت وَمَرَافِقه بِالْمِسْكِ] (1525) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَجْعَلُ الذَّرِيرَةَ فِي مَفَاصِلِهِ، وَيَجْعَلُ الطِّيبَ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ وَالْمَغَابِنِ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْعَرُوسِ) الذَّرِيرَةُ هِيَ الطِّيبُ الْمَسْحُوقُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَفَاصِلِ الْمَيِّتِ وَمَغَابِنِهِ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَنْثَنِي مِنْ الْإِنْسَانِ، كَطَيِّ الرُّكْبَتَيْنِ، وَتَحْتَ الْإِبْطَيْنِ، وَأُصُولِ الْفَخِذَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الْوَسَخِ، وَيَتْبَعُ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ مِنْهَا مِنْ الْحَيِّ، وَيَتْبَعُ بِالطِّيبِ مِنْ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ مَوَاضِعَ السُّجُودِ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ شَرِيفَةٌ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْعَرُوسِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتْبَع مَغَابِنَ الْمَيِّتِ وَمَرَافِقَهُ بِالْمِسْكِ. قَالَ أَحْمَدُ يُخْلَطُ الْكَافُورُ بِالذَّرِيرَةِ. وَقِيلَ لَهُ: يُذَرُّ الْمِسْكُ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ يُطْلَى بِهِ؟ قَالَ: لَا يُبَالِي، قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَرَّ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَهُ بِالْمِسْكِ مَسْحًا، وَابْنُ سِيرِينَ طَلَى إنْسَانًا بِالْمِسْكِ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُوضَعُ الْحَنُوطُ عَلَى أَعْظُمِ السُّجُودِ، الْجَبْهَةِ، وَالرَّاحَتَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَصُدُورِ الْقَدَمَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 (1526) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجْعَلُ فِي عَيْنَيْهِ كَافُورًا) إنَّمَا كُرِهَ هَذَا لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْعُضْوَ وَيُتْلِفُهُ، وَلَا يُصْنَعُ مِثْلُهُ بِالْحَيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا سَمِعْنَا إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ. وَحُكِيَ لَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلَهُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ خُرُوج شَيْء يَسِير مِنْهُ بَعْد وَضَعَهُ فِي أَكْفَانه] (1527) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي أَكْفَانِهِ، لَمْ يُعَدْ إلَى الْغُسْلِ، وَحُمِلَ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إعَادَةَ الْغُسْلِ فِيهَا مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ، وَإِعَادَةِ غُسْلِهِ وَغَسْلِ أَكْفَانِهِ، وَتَجْفِيفِهَا أَوْ إبْدَالِهَا، ثُمَّ لَا يُؤْمَنُ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، فَسَقَطَ لِذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى إعَادَةِ وُضُوئِهِ، وَلَا غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَشَقَّةِ، وَيُحْمَلُ بِحَالِهِ. وَيُرْوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَةً لَهُ لَمَّا لُفَّتْ فِي أَكْفَانِهَا. بَدَا مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: ارْفَعُوا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْخَارِجُ كَثِيرًا فَاحِشًا فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ يُعَادُ غُسْلُهُ إنْ كَانَ قَبْلَ تَمَامِ السَّبْعَةِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَتَفَاحَشُ، وَيُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، لِتَحَفُّظِهِمْ، بِالشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ وَنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، كُلُّهُمْ رَوَوْا عَنْهُ: لَا يُعَادُ إلَى الْغُسْلِ بِحَالٍ. قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَشَقَّةِ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَتَانِ عَلَى حَالَتَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ لَا يُعَادُ غُسْلُهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا وَيَخْفَى عَلَى الْمُشَيِّعِينَ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَمَرَ بِإِعَادَتِهِ إذَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَفْحُشُ. [مَسْأَلَةٌ أَحَبَّ أَهْلُ الْمَيِّت أَنْ يَرَوْهُ] (1528) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَحَبَّ أَهْلُهُ أَنْ يَرَوْهُ لَمْ يُمْنَعُوا) وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْت أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْهَانِي.» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، حَتَّى رَأَيْت الدُّمُوعَ تَسِيلُ» . وَقَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُسَجَّى بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى. فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْك مَوْتَتَيْنِ. وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. [مَسْأَلَةٌ تُكَفِّن الْمَرْأَة فِي خَمْسَة أَثْوَاب] (1529) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٍ، وَمِئْزَرٍ، وَلِفَافَةٍ، وَمُقَنَّعَةٍ، وَخَامِسَةٍ تُشَدُّ بِهَا فَخِذَاهَا) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا عَلَى الرَّجُلِ فِي السَّتْرِ لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَتْ تَلْبَسُ الْمَخِيطَ فِي إحْرَامِهَا، وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ، اُسْتُحِبَّ إلْبَاسُهَا إيَّاهُ بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 مَوْتِهَا، وَالرَّجُلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَافْتَرَقَا فِي اللُّبْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِيهِ فِي الْحَيَاةِ، وَاسْتَوَيَا فِي الْغُسْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي الْحَيَاةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّة، قَالَتْ: كُنْت فِي مَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ وَفَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَقْوَ، ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ الْآخِرِ. قَالَتْ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا، يُنَاوِلُنَاهَا ثَوْبًا ثَوْبًا. إلَّا أَنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا ذَكَرَ لِفَافَةً وَاحِدَةً، فَعَلَى هَذَا تُشَدُّ الْخِرْقَةُ عَلَى فَخِذَيْهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تُؤْزَرُ بِالْمِئْزَرِ، ثُمَّ يُلْبَسُ الْقَمِيصُ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِالْمُقَنَّعَةِ، ثُمَّ تُلَفُّ بِلِفَافَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: تُخَمَّرُ، وَيُتْرَكُ قَدْرُ ذِرَاعٍ، يُسْدَلُ عَلَى وَجْهِهَا، وَيُسْدَلُ عَلَى فَخِذَيْهَا الْحَقْوُ. وَسُئِلَ عَنْ الْحَقْوِ؟ فَقَالَ: هُوَ الْإِزَارُ. قِيلَ: الْخَامِسَةُ. قَالَ: خِرْقَةٌ تُشَدُّ عَلَى فَخِذَيْهَا. قِيلَ لَهُ: قَمِيصُ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: يُخَيَّطُ. قِيلَ: يُكَفُّ وَيُزَرُّ؟ قَالَ: يُكَفُّ وَلَا يُزَرُّ عَلَيْهَا. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ الْأَثْوَابَ الْخَمْسَةَ إزَارٌ، وَدِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَلِفَافَتَانِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِحَدِيثِ لَيْلَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاوَلَهَا إزَارًا، وَدِرْعًا، وَخِمَارًا، وَثَوْبَيْنِ. [فَصْلٌ فِي كَمْ تُكَفِّن الْجَارِيَة إذَا لَمْ تَبْلُغ] فَصْلٌ: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ إذَا لَمْ تَبْلُغْ؟ قَالَ: فِي لِفَافَتَيْنِ، وَقَمِيصٍ، لَا خِمَارَ فِيهِ. وَكَفَّنَ ابْنُ سِيرِينَ بِنْتًا لَهُ قَدْ أَعْصَرَتْ فِي قَمِيصٍ وَلِفَافَتَيْنِ. وَرُوِيَ فِي بَقِيرٍ وَلِفَافَتَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ: الْبَقِيرُ الْقَمِيصُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كُمَّانِ. وَلِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَدِّ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْكَفَنِ، فَرُوِيَ عَنْهُ: إذَا بَلَغَتْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى خِمَارٍ فِي صَلَاتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهَا. وَلِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَفَّنَ ابْنَتَهُ، وَقَدْ أَعْصَرَتْ أَيْ قَارَبَتْ الْمَحِيضَ بِغَيْرِ خِمَارٍ. وَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ: إذَا كَانَتْ بِنْتَ تِسْعٍ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ. وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ» . وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إذَا بَلَغْت الْجَارِيَةُ تِسْعًا فَهِيَ امْرَأَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 [فَصْلٌ تَكْفِينَ الْمَرْأَة بِالْحَرِيرِ] (1531) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ تُكَفَّنَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَرِيرِ. وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَحْفَظُ مِنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَفِي جَوَازِ تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ بِالْحَرِيرِ احْتِمَالَانِ؛ لِأَنَّ أَقْيَسَهُمَا الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ مِنْ لِبَاسِهَا فِي حَيَاتِهَا، لَكِنْ كَرِهْنَاهُ لَهَا، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِلزِّينَةِ وَالشَّهْوَةِ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَكْفِينُهَا بِالْمُعَصْفَرِ، وَنَحْوِهِ؛ لِذَلِكَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ فِي الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْعَصْبِ، يَعْنِي مَا صُنِعَ بِالْعَصْبِ، وَهُوَ نَبْتٌ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ. [مَسْأَلَةٌ يُضَفَّر شَعْر الْمَيِّتَة ثَلَاثَة قُرُون وَيَسْدُل مِنْ خَلْفهَا] (1532) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُضَفَّرُ شَعْرُهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَيُسْدَلُ مِنْ خَلْفِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ شَعْرَ الْمَيِّتَةِ يُغْسَلُ، وَإِنْ كَانَ مَعْقُوصًا نُقِضَ، ثُمَّ غُسِلَ، ثُمَّ ضُفِّرَ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، قَرْنَيْهَا، وَنَاصِيَتَهَا، وَيُلْقَى مِنْ خَلْفِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُضَفَّرُ، وَلَكِنْ يُرْسَلُ مَعَ خَدَّيْهَا، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَلُ عَلَيْهِ الْخِمَارُ؛ لِأَنَّ ضُفْرَهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْرِيحِهَا، فَيَنْقَطِعُ، شَعْرُهَا وَيُنْتَفُ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: «ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفهَا. يَعْنِي بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ؛ قَرْنَيْهَا، وَنَاصِيَتَهَا. وَلِلْبُخَارِيِّ: جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. وَإِنَّمَا غَسَلْنَهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْلِيمِهِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاضْفِرْنَ شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ؛ قُصَّةٍ، وَقَرْنَيْنِ، وَلَا تُشَبِّهْنَهَا بِالرِّجَالِ» . فَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَكَرِهَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ؟ قَالَ: يَعْنِي لَا تُسَرِّحُوا رَأْسَهُ بِالْمُشْطِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ شَعْرَهُ وَيَنْتِفُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: مَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا ضَفَّرْنَ. وَأَنْكَرَ الْمُشْطَ. فَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَهَا: مَشَطْنَاهَا. عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتْ ضَفَّرْنَاهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِسْرَاع بِالْجِنَازَةِ] (1533) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: " وَالْمَشْيُ بِالْجِنَازَةِ الْإِسْرَاعُ " لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فِي اسْتِحْبَابِ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ، وَبِهِ وَرَدَ النَّصُّ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُنْ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَبِعَ الْجِنَازَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 قَالَ: انْبَسِطُوا بِهَا، وَلَا تَدِبُّوا دَبِيبَ الْيَهُودِ بِجَنَائِزِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِسْرَاعِ الْمُسْتَحَبِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْمُسْتَحَبُّ إسْرَاعٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَخُبُّ، وَيَرْمُلُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: «كُنَّا فِي جِنَازَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَكُنَّا نَمْشِي مَشْيًا خَفِيفًا، فَلَحِقَنَا أَبُو بَكْرٍ؛ فَرَفَعَ سَوْطَهُ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَرْمُلُ رَمْلًا» . وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ تَمْخُضُ مَخْضًا، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي جَنَائِزِكُمْ» . مِنْ " الْمُسْنَدِ ". وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «سَأَلْنَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ. فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: يَرْوِيهِ أَبُو مَاجِدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انْبَسِطُوا بِهَا، وَلَا تَدِبُّوا دَبِيبَ الْيَهُودِ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إسْرَاعٌ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ شِبْهِ مَشْيِ الْيَهُودِ بِجَنَائِزِهِمْ، وَلِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْإِسْرَاعِ يَمْخُضُهَا، وَيُؤْذِي حَامِلِيهَا وَمُتَّبِعِيهَا، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الْمَيِّتِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي جِنَازَةِ مَيْمُونَةَ: لَا تُزَلْزِلُوا، وَارْفُقُوا، فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ. [فَصْلٌ اتِّبَاع الْجَنَائِز] (1534) فَصْلٌ: وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ سُنَّةٌ. قَالَ الْبَرَاءُ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» . وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إذَا صَلَّيْت فَقَدْ قَضَيْت الَّذِي عَلَيْك. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَأَيْت أَحْمَدَ مَا لَا أُحْصِي صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ، وَلَمْ يَتْبَعْهَا إلَى الْقَبْرِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ. الثَّانِي، أَنْ يَتْبَعَهَا إلَى الْقَبْرِ، ثُمَّ يَقِفَ حَتَّى تُدْفَنَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقِفَ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَيَسْتَغْفِرَ لَهُ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ، وَيَدْعُوَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ مَيِّتًا وَقَفَ، وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لَهُ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 (1535) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَفَكِّرًا فِي مَآلِهِ، مُتَّعِظًا بِالْمَوْتِ، وَبِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَلَا يَتَحَدَّثُ بِأَحَادِيثِ الدُّنْيَا، وَلَا يَضْحَكُ، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: مَا تَبِعْت جِنَازَةً فَحَدَّثْت نَفْسِي بِغَيْرِ مَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهَا. وَرَأَى بَعْضُ السَّلَفِ رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: أَتَضْحَكُ وَأَنْتَ تَتْبَعُ الْجِنَازَةَ؟ لَا كَلَّمْتُك أَبَدًا. [مَسْأَلَةٌ فَصْلٌ الْمَاشِي خَلَف الْجِنَازَة] (1536) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ " أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْفَضِيلَةَ لِلْمَاشِي أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَأَبِي أُسَيْدَ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، وَلَا تُتْبَعُ، لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فَضْلُ الْمَاشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَاشِي قُدَّامَهَا، كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى التَّطَوُّعِ، سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَلِأَنَّهَا مَتْبُوعَةٌ فَيَجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً ". وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ مِائَةً، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ، إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ الْمَشْفُوعَ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيه أَبُو مَاجِدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، قِيلَ لِيَحْيَى: مَنْ أَبُو مَاجِدٍ هَذَا؟ قَالَ: طَائِرٌ طَارَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. وَقَالُوا: هُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهَا إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ أَوْ الدَّفْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِسُنَّةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُمَا، وَتَتَقَدَّمُهُمَا فِي الْوُجُودِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 [فَصْلٌ الرُّكُوب فِي اتِّبَاع الْجَنَائِز] (1537) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. قَالَ ثَوْبَانُ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ، فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. فَإِنْ رَكِبَ فِي جِنَازَةٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الرَّاكِبِ: لَا أَعْلَمُهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَكُونُ خَلْفَهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا، وَعَنْ يَمِينهَا وَعَنْ يَسَارِهَا، قَرِيبًا مِنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَلَفْظُهُ: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّ سَيْرَ الرَّاكِبِ أَمَامَهَا يُؤْذِي الْمُشَاةَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مَشْيِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَأَمَّا الرُّكُوب فِي الرُّجُوعِ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّبَعَ جِنَازَةَ ابْنِ الدَّحْدَاحِ مَاشِيًا، وَرَجَعَ عَلَى فَرَسٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. [فَصْلٌ رَفَعَ الصَّوْت عِنْد الْجِنَازَة] (1538) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجِنَازَةِ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُتْبَعَ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَوَيْنَا عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ؛ عِنْدَ ثَلَاثٍ؛ عِنْدَ الْجَنَائِزِ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ، وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَذَكَرَ الْحَسَنُ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثٍ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَكَرِهَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيّ، وَإِمَامُنَا وَإِسْحَاقُ، قَوْلَ الْقَائِلِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ بِدْعَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مُحْدَثَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب فِي مَرَضِهِ: إيَّايَ وَحَادِيهمْ، هَذَا الَّذِي يَحْدُو لَهُمْ، يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَكْم. وَقَالَ فُضَيْلٍ بْنُ عَمْرٍو: بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ، إذْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. قَالَ أَحْمَدُ وَلَا يَقُولُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ: سَلِّمْ رَحِمَك اللَّهُ. فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ. وَلَكِنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَذْكُرُ اللَّهَ إذَا تَنَاوَلَ السَّرِيرَ. [فَصْلٌ مَسَّ الْجِنَازَة بِالْأَيْدِي وَالْأَكْمَام وَالْمَنَادِيل] فَصْلٌ: وَمَسُّ الْجِنَازَةِ بِالْأَيْدِي وَالْأَكْمَامِ وَالْمَنَادِيلِ مُحْدَثٌ مَكْرُوهٌ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ فَسَادُ الْمَيِّتِ، وَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 مَنَعَ الْعُلَمَاءُ مَسَّ الْقَبْرِ، فَمَسُّ الْجَسَدِ مَعَ خَوْفِ الْأَذَى أَوْلَى بِالْمَنْعِ. [فَصْلٌ اتِّبَاع الْمَيِّت بِنَارِ] (1540) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ اتِّبَاعُ الْمَيِّتِ بِنَارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُمْ وَصَّوْا أَنْ لَا يُتْبَعُوا بِنَارٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: «لَا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ. قَالُوا لَهُ: أَوَسَمِعْت فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ» . فَإِنْ دُفِنَ لَيْلًا فَاحْتَاجُوا إلَى ضَوْءٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كُرِهَ الْمَجَامِرُ فِيهَا الْبَخُورُ. وَفِي حَدِيثٍ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا، فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. [فَصْلٌ اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز] (1541) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ اتِّبَاعُ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعَائِشَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ جُلُوسٌ، قَالَ مَا يُجْلِسُكُنَّ؟ قُلْنَ: نَنْتَظِرُ الْجِنَازَةَ. قَالَ: هَلْ تُغَسِّلْنَ؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: هَلْ تَحْمِلْنَ؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: هَلْ تُدْلِينَ فِي مَنْ يُدْلِي؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك؟ . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْت أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ، فَرَحِمْت إلَيْهِمْ مَيِّتَهُمْ، أَوْ عَزَّيْتُهُمْ بِهِ. قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى؟ . قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَقَدْ سَمِعْتُك تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ. قَالَ: لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى. فَذَكَرَ تَشْدِيدًا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 [فَصْلٌ كَانَ مَعَ الْجِنَازَة مُنْكَر يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعهُ] (1542) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعُهُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إنْكَارِهِ وَإِزَالَتِهِ، أَزَالَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إزَالَتِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُنْكِرُهُ وَيَتْبَعُهَا، فَيَسْقُطُ فَرْضُهُ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا يَتْرُكُ حَقًّا لِبَاطِلٍ. وَالثَّانِي، يَرْجِعُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِمَاعِ مَحْظُورٍ وَرُؤْيَتِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ. وَأَصْلُ هَذَا فِي الْغُسْلِ، فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، فَيُخَرَّجُ فِي اتِّبَاعِهَا وَجْهَانِ. [مَسْأَلَةٌ حَمَلَ الْمَيِّت] (1543) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالتَّرْبِيعُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْكَتِفِ الْيُمْنَى إلَى الرِّجْلِ، ثُمَّ الْكَتِفِ الْيُسْرَى إلَى الرِّجْلِ) التَّرْبِيعُ هُوَ الْأَخْذُ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعِ، وَهُوَ سُنَّةٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إذَا تَبِعَ أَحَدُكُمْ جِنَازَةً، فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ لْيَتَطَوَّعْ بَعْدُ أَوْ لِيَذَرْ، فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَهَذَا يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَصِفَةُ التَّرْبِيعِ الْمَسْنُونِ أَنْ يَبْدَأَ فَيَضَعَ قَائِمَةَ السَّرِيرِ الْيُسْرَى عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى، مِنْ عِنْدِ رَأْسِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ يَضَعَ الْقَائِمَةَ الْيُسْرَى مِنْ عِنْدِ الرِّجْلِ عَلَى الْكَتِفِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَعُود أَيْضًا إلَى الْقَائِمَةِ الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِ الْمَيِّتِ فَيَضَعَهَا عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَنْتَقِلَ إلَى الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا فَيَأْخُذُ بَعْدَ يَاسِرَةِ الْمُؤَخِّرَةِ يَامِنَةَ الْمُؤَخِّرَةِ ثُمَّ الْمُقَدِّمَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَيُّوبَ وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ بِمُقَدَّمِهِ كَالْأَوَّلِ. فَأَمَّا الْحَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَوَيْنَا عَنْ عُثْمَانَ وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ. وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، قَدْ فَعَلُوهُ، وَفِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي حَمْلِ الْمَيِّتِ تَوْقِيتٌ يَحْمِلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ. وَنَحْوُهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاتِّبَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فِيمَا فَعَلُوهُ وَقَالُوهُ، أَحْسَنُ وَأَوْلَى [فَصْل إذَا مَرَّتْ بِهِ جِنَازَة لَمْ يُسْتَحَبّ لَهُ الْقِيَام لَهَا] (1544) فَصْلٌ: إذَا مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْقِيَامُ لَهَا؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَعَدَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ إِسْحَاقُ مَعْنَى قَوْل عَلِيٍّ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَى جِنَازَةً قَامَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ قَامَ لَمْ أَعِبْهُ، وَإِنْ قَعَدَ فَلَا بَأْسَ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وَالْقَاضِي، أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الْجِنَازَةَ فَلْيَقُمْ حِينَ يَرَاهَا، حَتَّى تَخْلُفَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا: أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكُ الْقِيَامِ لَهَا، وَالْأَخْذُ بِالْآخِرِ مِنْ أَمْرِهِ أَوْلَى، فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ «أَنَّ يَهُودِيًّا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لِلْجِنَازَةِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: هَكَذَا نَصْنَعُ. فَتَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِيَامَ لَهَا» [فَصْلٌ مِنْ يَتْبَع الْجِنَازَة اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ لَا يَجْلِس حَتَّى تُوضَع] (1545) فَصْلٌ: وَمَنْ يَتَّبِعُ الْجِنَازَةَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى تُوضَعَ، مِمَّنْ رَأَى أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اتَّبَعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ» وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ وَالسَّبَبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ عُمُومٌ، فَيَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِأَمْرِ مُحْتَمَلٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَعَدَ. يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِ الْقِيَامِ، وَهَا هُنَا إنَّمَا وُجِدَتْ مِنْهُ الِاسْتِدَامَةُ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْوَضْعِ وَضْعُهَا عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ الْحَدِيثَ: «إذَا اتَّبَعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ» وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» وَحَدِيثُ سُفْيَانَ أَصَحُّ. فَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَيْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَدَّمُونَ الْجِنَازَةَ، فَيَجْلِسُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَيْهِمْ، فَإِذَا جَاءَتْ الْجِنَازَةُ لَمْ يَقُومُوا لَهَا. لِمَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ أَحَقّ النَّاس بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّت] (1546) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَنْ أَوْصَى لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ) هَذَا مَذْهَبُ أَنَسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي بَرْزَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: الْوَلِيُّ أَحَقُّ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَتَرَتَّبُ بِتَرَتُّبِ الْعَصَبَاتِ، فَالْوَلِيُّ فِيهَا أَوْلَى، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عُمَرُ قَالَهُ أَحْمَدُ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وَعُمَرُ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو بَكْرَةَ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَبُو بَرْزَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَائِشَةُ أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ، وَيُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو سَرِيحَةَ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةَ لِيَتَقَدَّمَ فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ. فَقَالَ ابْنُهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إنَّ أَبِي أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَدَّمَ زَيْدًا وَهَذِهِ قَضَايَا انْتَشَرَتْ، فَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَإِنَّهَا شَفَاعَةٌ لَهُ، فَتُقَدَّمُ وَصِيَّتُهُ فِيهَا كَتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ يُقَدَّمُ فِيهَا الْوَصِيُّ أَيْضًا، فَهِيَ كَمَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ سُلِّمَتْ فَلَيْسَتْ حَقًّا لَهُ، إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمِيرَ يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ، وَالشَّفَاعَةُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْمَيِّتُ يَخْتَارُ لِذَلِكَ مَنْ هُوَ أَظْهَرُ صَلَاحًا، وَأَقْرَبُ إجَابَةً فِي الظَّاهِرِ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ (1547) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَاسِقًا، أَوْ مُبْتَدِعًا، لَمْ تُقْبَلْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَهِلَ الشَّرْعَ فَرَدَدْنَا وَصِيَّتَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ ذِمِّيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ إلَيْهِ كَذَلِكَ لَمْ يُقَدَّمْ، وَصَلَّى غَيْرُهُ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْأَمِيرِ عَلَى الْأَقَارِبِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ] (1548) مَسْأَلَةٌ قَالَ: " ثُمَّ الْأَمِيرُ " أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَقْدِيمَ الْأَمِيرِ عَلَى الْأَقَارِبِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُقَدَّمُ الْوَلِيُّ، قِيَاسًا عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي النِّكَاحِ، بِجَامِعِ اعْتِبَارِ تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ» . وَحَكَى أَبُو حَازِمٍ قَالَ: شَهِدْت حُسَيْنًا حِينَ مَاتَ الْحَسَنُ، وَهُوَ يَدْفَعُ فِي قَفَا سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَيَقُول: تَقَدَّمْ، لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُك وَسَعِيدٌ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ: شَهِدْت جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ عُمَرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ وَخَلْفَهُ يَوْمئِذٍ ثَمَانُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وَالْحُسَيْنُ وَسَمَّى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِمَامُ أَحَقُّ مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا اشْتَهَرَ فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَتْ فِيهَا الْجَمَاعَةُ، فَكَانَ الْإِمَامُ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ، مَعَ حُضُورِ أَقَارِبِهَا، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّهُمْ اسْتَأْذَنُوا أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهَا. (1549) فَصْلٌ: وَالْأَمِيرُ هَاهُنَا الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْأَمِيرُ مِنْ قِبَلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالنَّائِبُ مِنْ قِبَلِهِ فِي الْإِمَامَةِ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْحَاكِمُ [مَسْأَلَةٌ أَوْلَى النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (ثُمَّ الْأَبُ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ) الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بَعْدَ الْأَمِيرِ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ الْأَخُ الَّذِي هُوَ عَصَبَةٌ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ الْعَصَبَاتِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا اجْتَمَعَ جَدٌّ وَأَخٌ، فَفِيهِ قَوْلَانِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِابْنَ أَحَقُّ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْهُ، بِدَلِيلِ الْإِرْثِ، وَالْأَخَ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ وَالْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِنَفْسِهِ، وَالْأَبُ أَرْأَفُ وَأَشْفَقُ، وَدُعَاؤُهُ لِأَبْنِهِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ، فَكَانَ أَوْلَى، كَالْقَرِيبِ مَعَ الْبَعِيدِ، إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةَ لَهُ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ [فَصْلٌ اُجْتُمِعَ زَوْج الْمَرْأَة الْمَيِّتَة وَعُصْبَتهَا فِي الصَّلَاة عَلَيْهَا] (1551) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَعَصَبَتُهَا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ تَقْدِيمُ الْعَصَبَاتِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَبُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ عَلَى ابْنِهَا مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تَقْدِيمُ الزَّوْجِ عَلَى الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ صَلَّى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ إخْوَتَهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِسْحَاقَ، وَلِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْغُسْلِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ، كَمَحَلِّ الْوِفَاقِ وَلَنَا، أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ امْرَأَتِهِ: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ زَالَتْ زَوْجِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا، وَالْقَرَابَةُ لَمْ تَزُلْ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَاتٌ، فَالزَّوْجُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا وَشَفَقَةً، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 [فَصْلٌ اُجْتُمِعَ أَخ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَأَخ مِنْ أَب فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت] (1552) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَ أَخٌ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَأَخٌ مِنْ أَبٍ فَفِي تَقْدِيمِ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ التَّسْوِيَةِ، وَجْهَانِ، أَخْذًا مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَالْحُكْمُ فِي أَوْلَادِهِمَا، وَفِي الْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِهِمْ، كَالْحُكْمِ فِيهِمَا سَوَاءٌ. فَإِنْ انْقَرَضَ الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ فَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ، ثُمَّ الرَّجُلُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ [فَصْل اسْتَوَى وَلِيَّانِ فِي دَرَجَة وَاحِدَة فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت] (1553) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَوَى وَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَوْلَاهُمَا أَحَقُّهُمَا بِالْإِمَامَةِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّمَ لَهُ الْأَسَنُّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَفَضِيلَةُ السِّنِّ مُعَارَضَةٌ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَقَدْ رَجَّحَهَا الشَّارِعُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، مَعَ أَنَّهُ يُقْصَدُ فِيهَا إجَابَةُ الدُّعَاءِ وَالْحَظُّ لِلْمَأْمُومِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ» وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَسَنَّ الْجَاهِلَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ الْعَالِمِ، وَلَا أَقْرَبُ إجَابَةً فَإِنْ اسْتَوَوْا وَتَشَاحُّوا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ [فَصْلٌ وَمِنْ قَدِمَهُ الْوَلِيّ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت] (1554) فَصْلٌ: وَمَنْ قَدَّمَهُ الْوَلِيُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَثْبُتُ لَهُ، فَكَانَتْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، وَيُقَدَّمُ نَائِبُهُ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. [فَصْلٌ الْحُرّ الْبَعِيد أَوْلَى مِنْ الْعَبْد الْقَرِيب فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت] (1555) فَصْلٌ: وَالْحُرُّ الْبَعِيدُ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ الْقَرِيبِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا وِلَايَة لَهُ، وَلِهَذَا لَا يَلِي فِي النِّكَاحِ وَلَا الْمَالِ فَإِنْ اجْتَمَعَ صَبِيٌّ وَمَمْلُوكٌ وَنِسَاءٌ فَالْمَمْلُوكُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ إمَامَتُهُ بِهِمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ الْآخَرَ، وَيُصَلِّي كُلُّ نَوْعٍ لَأَنْفُسِهِمْ وَإِمَامُهُمْ مِنْهُمْ، وَيُصَلِّي النِّسَاءُ جَمَاعَةً إمَامَتُهُنَّ فِي وَسَطِهِنَّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلِّينَ مُفْرَدَاتٍ، لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا، وَإِنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَ. وَلَنَا، أَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ، فَيُصَلِّينَ جَمَاعَةً كَالرِّجَالِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ، لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا، تَحَكُّمٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَقَدْ صَلَّى أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 [فَصْلٌ اُجْتُمِعَ جَنَائِز فَتَشَاحَّ أَوْلِيَاؤُهُمْ فِي مِنْ يَتَقَدَّم لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ] (1556) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ، فَتَشَاحَّ أَوْلِيَاؤُهُمْ فِي مَنْ يَتَقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، قُدِّمَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِي الْفَرَائِضِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقَدَّمُ السَّابِقُ، يَعْنِي مَنْ سَبَقَ مَيِّتُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فَأَشْبَهُوا الْأَوْلِيَاءَ إذَا تَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ، مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» وَإِنْ أَرَادَ وَلِيُّ كُلِّ مَيِّتٍ إفْرَادَ مَيِّتِهِ بِصَلَاةٍ جَازَ. [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّة صَلَاة الْجِنَازَة] (1557) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، يُكَبِّرُ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ، وَلَا تُسَنُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهَا، فَيُكَبِّرُ الْأُولَى، ثُمَّ يَسْتَعِيذُ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدَ، وَيَبْدَؤُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَا يُسَنُّ الِاسْتِفْتَاحُ. قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك؟ قَالَ: مَا سَمِعْت قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْتَفْتَحَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَمْ نَجِدْهُ فِي كُتُبِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِ الثَّوْرِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ فِيهَا مَشْرُوعَةٌ فَسُنَّ فِيهَا الِاسْتِفْتَاحُ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا، أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَ فِيهَا التَّخْفِيفُ، وَلِهَذَا لَا يُقْرَأُ فِيهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ لِلْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً. وَلِأَنَّ مَا لَا رُكُوعَ فِيهِ لَا قِرَاءَةَ فِيهِ، كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ: إنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ. أَوْ: مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ قَالَتْ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا، وَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ثُمَّ هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ صَحَّ مَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّمَا قَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ. أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ. وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى جِنَازَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ يُقَدَّمُ، عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ، وَيُفَارِقُ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهُ لَا قِيَامَ فِيهِ، وَالْقِرَاءَةُ إنَّمَا مَحَلُّهَا الْقِيَامُ [فَصْل يُسْر الْقِرَاءَة وَالدُّعَاء فِي صَلَاة الْجِنَازَة] (1558) فَصْلٌ: وَيُسِرُّ الْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا، وَلَا يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ شَيْئًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا جَهَرَ لِيُعَلِّمَهُمْ [مَسْأَلَةٌ يَكْبَر الثَّانِيَة وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ فِي صَلَاة الْجِنَازَة] (1559) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ) هَكَذَا وَصَفَ أَحْمَدُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَرَأَ وَجَهَرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ دَعَا لِصَاحِبِهَا فَأَحْسَنَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَالَ: هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ، ثُمَّ يَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُخْلِصَ الدُّعَاءَ لِلْجِنَازَةِ فِي التَّكْبِيرَاتِ، لَا يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ ثُمَّ يُسَلِّمَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ. وَصِفَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَصِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلُوهُ: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ عَلَّمَهُمْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَتَى بِهَا عَلَى غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي التَّشَهُّدِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ. قَالَ الْقَاضِي، يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِك الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيَائِك الْمُرْسَلِينَ وَأَهْلِ طَاعَتِك أَجْمَعِينَ، مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرَضِينِ، إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُصَلِّي عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ [مَسْأَلَةٌ يَكْبَر الثَّالِثَة وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدِيهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُو لِلْمَيِّتِ] (1560) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ، وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُو لِلْمَيِّتِ) . وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، إنَّك تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ أَمَتِك، نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَجَازِهِ بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ. وَالْوَاجِبُ أَدْنَى دُعَاءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى دُعَاءٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ، وَالدُّعَاءُ فَيَجِبُ أَقَلُّ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَالَ أَحْمَدُ وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ حَسَنٌ، يَجْمَعُ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَكْثَرُهُ فِي الْحَدِيثِ، فَمِنْ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ، قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَزَادَ: " اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتهَا، وَأَنْتَ هَدَيْتهَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ قَبَضْتهَا، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ، فَاغْفِرْ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِنَازَةٍ فَحَفِظْت مِنْ دُعَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْت الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ. حَتَّى تَمَنَّيْت أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْمَيِّتَ.» (1561) فَصْلٌ: زَادَ أَبُو الْخَطَّابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ: اللَّهُمَّ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ، فَشَفِّعْنَا فِيهِ، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَعَذَابَ النَّارِ، وَأَكْرِمْ مَثْوَاهُ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَجِوَارًا خَيْرًا مِنْ جِوَارِهِ، وَافْعَلْ بِنَا ذَلِكَ وَبِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَزَادَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى، لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ، وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالثَّنَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك، ابْنُ عَبْدِك، ابْنُ أَمَتِك، أَنْتَ خَلَقْته وَرَزَقْته، وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ سِرَّهُ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ، إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ، اللَّهُمَّ وَقِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَجَازِهِ بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمَّ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك، وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ، وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ. (1562) فَصْلٌ: وَقَوْله: لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا إنَّمَا يَقُولُهُ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ شَرًّا، لِئَلَّا يَكُونَ كَاذِبًا. وَقَدْ رَوَى الْقَاضِي حَدِيثًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُمْ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ إنَّ عَبْدَك وَابْنَ عَبْدِك نَزَلَ بِفِنَائِك فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا فَقُلْت، وَأَنَا أَصْغَرُ الْجَمَاعَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ أَعْلَمْ خَيْرًا؟ قَالَ لَا تَقْلُ إلَّا مَا تَعْلَمُ» وَإِنَّمَا شُرِعَ هَذَا لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُثْنِيَ عِنْدَهُ عَلَى جِنَازَةٍ بِخَيْرٍ، فَقَالَ: " وَجَبَتْ " وَأُثْنِيَ عَلَى أُخْرَى بِشَرٍّ، فَقَالَ: " وَجَبَتْ " ثُمَّ قَالَ «إنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، يَشْهَدُ لَهُ اثْنَانِ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْت شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا، وَغَفَرْت مَا أَعْلَمُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَفِي لَفْظٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ رَجُلَانِ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ، فَيَقُولَانِ: اللَّهُمَّ لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْت شَهَادَتَهُمَا لِعَبْدِي، وَغَفَرْت لَهُ مَا لَا يَعْلَمَانِ» أَخْرَجَهُ اللَّالَكَائِيُّ. (1563) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا، جَعَلَ مَكَانَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِوَالِدَيْهِ، وَذُخْرًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَجِرْهُ بِرَحْمَتِك مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَوْ نَحْوَهُ أَجْزَأَهُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ [مَسْأَلَةٌ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيَقِفُ قَلِيلًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] (1564) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ، وَيَقِفُ قَلِيلًا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْعُو بَعْدَ الرَّابِعَةِ شَيْئًا وَنَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ دُعَاءٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِلَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ، لِأَنَّهُ قِيَامٌ فِي صَلَاةٍ، فَكَانَ فِيهِ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، كَاَلَّذِي قَبْلَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْخَطَّابِ يَقُولُ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَقِيلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْوُقُوفَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ قَلِيلًا مَشْرُوعٌ، وَقَدْ رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا ثُمَّ، يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ وَكُنْتُ أَحْسَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 أَنَّ هَذِهِ الْوَقْفَةَ لِيُكَبِّرَ آخِرُ الصُّفُوفِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا كَبَّرَ ثُمَّ سَلَّمَ، خِفْتُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ آخِرُ الصُّفُوفِ، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ أَتَأَوَّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرًا لَمْ يُرِدْهُ، أَوْ أَرَادَ خِلَافَهُ. [مَسْأَلَةٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] (1565) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ) . أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ يُكَبِّرُهَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ سَالِمٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مَقَامُ رَكْعَةٍ، وَلَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ حَالَ الِاسْتِقْرَارِ أَشْبَهَتْ الْأُولَى، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ يَحُطُّهُمَا عِنْدَ انْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ، وَيَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، كَمَا فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ. وَفِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي مُوسَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ.» [مَسْأَلَةٌ يُسَلِّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً] (1566) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ. السُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّسْلِيمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ إلَّا عَنْ إبْرَاهِيمَ وَرُوِيَ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْحَارِثُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ سَلَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَتَيْنِ فَهُوَ جَاهِلٌ جَاهِلٌ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَسْلِيمَتَانِ، وَتَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً.» رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ إلَّا عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ هَذَا عِنْدَنَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرَانِ وَالْأَشْكَالِ، أَمَّا إذَا أَجْمَعَ النَّاسُ وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَشَذَّ عَنْهُمْ رَجُلٌ، لَمْ يُقَلْ لِهَذَا اخْتِلَافٌ. وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ إمَامِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 وَأَصْحَابِهِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَا بَأْسَ قَالَ أَحْمَدُ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. وَسُئِلَ يُسَلِّمُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؟ قَالَ: كُلُّ هَذَا، وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ يَمِينِهِ. قِيلَ: خِفْيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ. يَعْنِي أَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ، وَالتَّسْلِيمُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا رُوِيَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. قَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. أَجْزَأَهُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُكَفِّفِ فَسَلَّمَ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. [فَصْلٌ لَا تُنْقَضُ الصُّفُوفُ حَتَّى تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ] (1567) فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّيْتَ فَلَا تَبْرَحْ مُصَلَّاكَ حَتَّى تُرْفَعَ. قَالَ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَا يَبْرَحُ مُصَلَّاهُ إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ حَتَّى يَرَاهَا عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا تُنْقَضُ الصُّفُوفُ حَتَّى تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ. [فَصْلٌ الْوَاجِبُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] (1568) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ النِّيَّةُ، وَالتَّكْبِيرَاتُ، وَالْقِيَامُ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدْنَى دُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ، وَتَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرَائِطُ الْمَكْتُوبَةِ، إلَّا الْوَقْتَ. وَتَسْقُطُ بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا عَنْ الْمَسْبُوقِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ وَهُوَ رَاكِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ يُصَفُّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ] (1569) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَفَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ - حِمْصِيٌّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ» قَالَ فَكَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجِنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ أَحْمَدُ: أُحِبُّ إذَا كَانَ فِيهِمْ قِلَّةٌ أَنْ يَجْعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ يَجْعَلُهُمْ؟ قَالَ: يَجْعَلُهُمْ صَفَّيْنِ، فِي كُلِّ صَفٍّ رَجُلَيْنِ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً فَيَكُونُ فِي صَفٍّ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَكَانُوا سَبْعَةً، فَجَعَلَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ ثَلَاثَةً، وَالثَّانِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 اثْنَيْنِ، وَالثَّالِثَ وَاحِدًا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُعَايَا بِهَا، فَيُقَالُ: أَيْنَ تَجِدُونَ فَذًّا انْفِرَادُهُ أَفْضَلُ؟ وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحًا، فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ فِي غَيْرِ كِتَابِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَأَحْمَدُ قَدْ صَارَ إلَى خِلَافِهِ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ صَفًّا، وَلَوْ عَلِمَ أَحْمَدُ فِي هَذَا حَدِيثًا لَمْ يَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ صَفًّا. [فَصْلٌ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ] (1570) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقِيلَ لِعَطَاءٍ: أُخِذَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَصُفُّوا عَلَى الْجِنَازَةِ كَمَا يَصُفُّونَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا، قَوْمٌ يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَلَمْ يُعْجِبْ أَحْمَدَ، قَوْلُ عَطَاءٍ هَذَا. وَقَالَ يُسَوُّونَ صُفُوفَهُمْ، فَإِنَّهَا صَلَاةٌ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَالْتَفَتَ، فَقَالَ اسْتَوُوا لِتَحْسُنَ شَفَاعَتُكُمْ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ] (1571) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُخَفْ تَلْوِيثُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» مِنْ الْمُسْنَدِ. وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مُرُّوا بِهِ عَلَيَّ حَتَّى أَدْعُوَ لَهُ. فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ، مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ لَا يَقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا لِضَعْفِهِ، لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ خَاصَّةً، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الِانْفِجَارُ، وَتَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 [فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ] (1572) فَصْلٌ: فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: لَا بَأْسَ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ فِي الْمَقْبَرَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ذَكَرَ نَافِعٌ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسْطَ قُبُورِ الْبَقِيعِ صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكُرِهَتْ فِيهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ كَالْحَمَّامِ. [مَسْأَلَةٌ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ التَّكْبِيرِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] (1573) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ التَّكْبِيرِ قَضَاهُ مُتَتَابِعًا، فَإِنْ سَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَقْضِ، فَلَا بَأْسَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ بِتَكْبِيرِ الصَّلَاةِ فِي الْجِنَازَةِ يُسَنُّ لَهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا. وَمِمَّنْ قَالَ: يَقْضِي مَا فَاتَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا بَأْسَ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالُوا: لَا يَقْضِي مَا فَاتَ مِنْ تَكْبِيرَةِ الْجِنَازَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا لَمْ يَقْضِ لَمْ يُبَالِ. الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي. وَإِنْ كَبَّرَ مُتَتَابِعًا فَلَا بَأْسَ. كَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ وَقَالَ أَيْضًا يُبَادِرُ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إنْ سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا تَصِحُّ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَفِي لَفْظٍ: " فَاقْضُوا " وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ التَّكْبِيرِ؟ قَالَ: «مَا سَمِعْتِ فَكَبِّرِي، وَمَا فَاتَكِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْكِ» وَهَذَا صَرِيحٌ. وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ مُتَوَالِيَاتٌ حَالَ الْقِيَامِ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا، كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَحَدِيثُهُمْ وَرَدَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: «وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وَرُوِيَ أَنَّهُ سَعَى فِي جِنَازَةِ سَعْدٍ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَعُلِمَ، أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْحَدِيثِ هَذِهِ الصَّلَاةَ، ثُمَّ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. وَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ التَّكْبِيرَ الْمُنْفَرِدَ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ مَتَى قَضَى أَتَى بِالتَّكْبِيرِ مُتَوَالِيًا، لَا ذِكْرَ مَعَهُ كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَحَكَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: يُبَادِرُ بِالتَّكْبِيرِ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ قَضَى مَا فَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ تَابَعَهُ فِيهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ كَبَّرَ، وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرَ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَتَى دَخَلَ الْمَسْبُوقُ فِي الصَّلَاةِ ابْتَدَأَ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ أَتَى بِالصَّلَاةِ فِي الثَّانِيَةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ يَقْرَأُ فِيمَا يَقْضِيهِ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً، عَلَى صِفَةِ مَا فَاتَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ هَاهُنَا بِالْقِرَاءَةِ عَلَى صِفَةِ مَا فَاتَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] (1574) فَصْلٌ: وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ مَعَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ كَالرَّكَعَاتِ، ثُمَّ لَوْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ لَمْ يَتَشَاغَلْ بِقَضَائِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةٌ. وَالثَّانِيَةُ، يُكَبِّرُ وَلَا يَنْتَظِرْ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مَتَى أَدْرَكَ الْإِمَامَ كَبَّرَ مَعَهُ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ، وَلَيْسَ هَذَا اشْتِغَالًا بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، وَإِنَّمَا يُصَلِّي مَعَهُ مَا أَدْرَكَهُ، فَيُجْزِئُهُ، كَاَلَّذِي عَقِيبَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلًا. وَعَنْ مَالِكٍ كَالرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: سَهَّلَ أَحْمَدُ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَمَتَى أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَكَبَّرَ، وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ، وَيُتَابِعُهُ، وَيَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ كَالْمَسْبُوقِ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، إذَا رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِ الْقِرَاءَةِ. [مَسْأَلَةٌ يُدْخَلُ قَبْرَهُ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ] (1575) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُدْخَلُ قَبْرَهُ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ إنْ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " رِجْلَيْهِ " يَعُودُ إلَى الْقَبْرِ. أَيْ: مِنْ عِنْدِ مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُوضَعَ رَأْسُ الْمَيِّتِ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُسَلُّ سَلًّا إلَى الْقَبْرِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُوضَعُ الْجِنَازَةُ عَلَى جَانِبِ الْقَبْرِ، مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، ثُمَّ يُدْخَلُ الْقَبْرَ مُعْتَرِضًا؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ النَّخَعِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُدْخِلُونَ مَوْتَاهُمْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَأَنَّ السَّلَّ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، «أَنَّ الْحَارِثَ أَوْصَى أَنْ يَلِيَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْقَبْرَ، فَأَدْخَلَهُ مِنْ رِجْلَيْ الْقَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا السُّنَّةُ» . وَهَذَا يَقْتَضِي سُنَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا.» وَمَا ذُكِرَ عَنْ النَّخَعِيِّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَنْ يُغَيِّرُوا سُنَّةً ظَاهِرَةً فِي الدَّفْنِ إلَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ، أَوْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ. قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَوْ ثَبَتَ فَسُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمَةٌ عَلَى فِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَسْهَلُ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، أَوْ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ، فَلَا حَرَجَ فِيهِ، لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ أَخْذِهِ مِنْ رِجْلَيْ الْقَبْرِ، إنَّمَا كَانَ طَلَبًا لِلسُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْأَسْهَلُ غَيْرَهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلٌّ لَا بَأْسَ بِهِ. [فَصْلٌ يُعَمَّقُ الْقَبْرُ إلَى الصَّدْرِ] (1576) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُعَمَّقُ الْقَبْرُ إلَى الصَّدْرِ، الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. كَانَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبَّانِ أَنْ يُعَمَّقُ الْقَبْرُ إلَى الصَّدْرِ. وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْفِرُوا قَبْرَهُ إلَى السُّرَّةِ وَلَا يُعَمِّقُوا، فَإِنَّ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِمَّا سَفَلَ مِنْهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَمَّقَ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةً. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَعْمِقُوا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْصَى بِذَلِكَ فِي قَبْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ لَا تَنَالَهُ السِّبَاعُ، وَأَبْعَدُ عَلَى مَنْ يَنْبُشُهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَعْمِيقُهُ إلَى الصَّدْرِ، لِأَنَّ التَّعْمِيقَ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ يَشُقُّ، وَيَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَعْمِقُوا) لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِقَدْرِ التَّعْمِيقِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى بِذَلِكَ فِي قَبْرِهِ، وَلَوْ صَحَّ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُهُ وَتَعْمِيقُهُ وَتَوْسِيعُهُ؛ لِلْخَبَرِ. وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَبْرٍ، فَقَالَ: (اصْنَعُوا كَذَا، اصْنَعُوا كَذَا) ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بِي أَنْ يَكُونَ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إذَا عُمِلَ الْعَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ» قَالَ مَعْمَرُ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: " وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِأَنْفُسِ أَهْلِهِ " رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ. [فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يُلْحَدَ قَبْرُ الْمَيِّتِ] (1577) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يُلْحَدَ قَبْرُ الْمَيِّتِ، كَمَا صُنِعَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَعْنَى اللَّحْدِ، أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَرْضَ الْقَبْرِ حَفَرَ فِيهِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ مَكَانًا يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ رَخْوَةً جَعَلَ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 مِنْ الْحِجَارَةِ شِبْهَ اللَّحْدِ. قَالَ أَحْمَدُ وَلَا أُحِبُّ الشَّقَّ. لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اللَّحْدُ شُقَّ لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْنَى الشَّقِّ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَرْضِ الْقَبْرِ شَقًّا يَضَعُ الْمَيِّتَ فِيهِ، وَيَسْقُفَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَيَضَعَ الْمَيِّتَ فِي اللَّحْدِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ، وَيَضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةً، أَوْ حَجَرًا، أَوْ شَيْئًا مُرْتَفِعًا، كَمَا يَصْنَعُ الْحَيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا جَعَلْتُمُونِي فِي اللَّحْدِ فَأَفْضُوا بِخَدِّي إلَى الْأَرْضِ. وَيُدْنَى مِنْ الْحَائِطِ لِئَلَّا يَنْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ وَيُسْنَدُ مِنْ وَرَائِهِ بِتُرَابٍ، لِئَلَّا يَنْقَلِبَ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا أُحِبُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْقَبْرِ مُضَرَّبَةٌ وَلَا مِخَدَّةٌ. وَقَدْ جُعِلَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ، فَإِنْ جَعَلُوا قَطِيفَةً فَلِعِلَّةٍ، فَإِذَا فَرَغُوا نَصَبُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ نَصْبًا. وَيُسَدُّ خَلَلُهُ بِالطِّينِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَيْهِ التُّرَابُ، وَإِنْ جَعَلَ مَكَانَ اللَّبِنِ قَصَبًا، فَحَسَنٌ. لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: جُعِلَ عَلَى لَحْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طُنُّ قَصَبٍ، فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ. قَالَ الْخَلَّالُ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَمِيلُ إلَى اللَّبِنِ، وَيَخْتَارُهُ عَلَى الْقَصَبِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ. وَمَالَ إلَى اسْتِحْبَابِ الْقَصَبِ عَلَى اللَّبِنِ، وَأَمَّا الْخَشَبُ فَكَرِهَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ اسْتِحْبَابُ اللَّبِنِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْقَصَبِ؛ لِقَوْلِ سَعْدٍ: انْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُ سَعْدٍ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَرَ، وَلَمْ يَحْضُرْ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَهُ كَانَ حَسَنًا. قَالَ حَنْبَلٌ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَبِنٌ؟ قَالَ يُنْصَبُ عَلَيْهِ الْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ، وَمَا أَمْكَنَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ. [فَصْلٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَثَى عَلَى الْمَيِّتِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ] (1578) فَصْلٌ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ حَضَرَ جِنَازَةً، فَلَمَّا أُلْقِيَ عَلَيْهَا التُّرَابُ، قَامَ إلَى الْقَبْرِ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَانِهِ وَقَالَ: قَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ وَصَحَّ، أَنَّهُ حَثَى عَلَى قَبْرِ ابْنِ مُكَفِّفٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ. وَوَجْهُ اسْتِحْبَابِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثًا.» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ رَأْسِهِ.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَثَى عَلَى الْمَيِّتِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا.» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَفَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَمَّا دَفَنَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَثَى فِي قَبْرِهِ ثَلَاثًا، وَقَالَ: هَكَذَا يَذْهَبُ الْعِلْمُ. [فَصْلٌ مَا يَقُولُ حِينَ يَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ] (1579) فَصْلٌ: وَيَقُولُ حِينَ يَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «حَضَرْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي اللَّحْدِ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَخَذَ فِي تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ عَلَى اللَّحْدِ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهَا، وَصَعِّدْ رُوحَهَا، وَلَقِّهَا مِنْكَ رِضْوَانًا قُلْتُ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ قُلْتَهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: إنِّي إذًا لَقَادِرٌ عَلَى الْقَوْلِ، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إلَيْكَ الْأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْعَشِيرَةُ، وَذَنْبُهُ عَظِيمٌ، فَاغْفِرْ لَهُ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. [فَصْلٌ إذَا مَاتَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ] (1580) فَصْلٌ: إذَا مَاتَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُنْتَظَرُ بِهِ إنْ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَجِدُوا لَهُ مَوْضِعًا يَدْفِنُونَهُ فِيهِ، حَبَسُوهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، مَا لَمْ يَخَافُوا عَلَيْهِ الْفَسَادَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا غُسِّلَ، وَكُفِّنَ، وَحُنِّطَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُثَقَّلُ بِشَيْءٍ، وَيُلْقَى فِي الْمَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ. قَالَ الْحَسَنُ: يُتْرَكُ فِي زِنْبِيلٍ، وَيُلْقَى فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرْبَطُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ؛ لِيَحْمِلَهُ الْبَحْرُ إلَى السَّاحِلِ فَرُبَّمَا وَقَعَ إلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ، وَإِنْ أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ لَمْ يَأْثَمُوا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ السَّتْرُ الْمَقْصُودُ مِنْ دَفْنِهِ، وَإِلْقَاؤُهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ تَعْرِيضٌ لَهُ لِلتَّغَيُّرِ وَالْهَتْكِ، وَرُبَّمَا بَقِيَ عَلَى السَّاحِلِ مَهْتُوكًا عُرْيَانًا، وَرُبَّمَا وَقَعَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ يُخَمِّر قَبْرُهَا بِثَوْبِ] (1581) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ يُخَمَّرُ قَبْرُهَا بِثَوْبٍ) لَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُغَطِّي قَبْرَ الْمَرْأَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ قَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا، وَبَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ، فَجَذَبَهُ وَقَالَ: إنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ. وَشَهِدَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دَفْنَ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فَخَمَّرَ الْقَبْرَ بِثَوْبٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ: ارْفَعُوا الثَّوْبَ، إنَّمَا يُخَمَّرُ قَبْرُ النِّسَاءِ، وَأَنَسٌ شَاهِدٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لَا يُنْكِرُ. وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُونَ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كُرِهَ سَتْرُ قَبْرِهِ. لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَرِهَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِعْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَسٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَلِأَنَّ كَشْفَهُ أَمْكَنُ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [مَسْأَلَةٌ أَوْلَى النَّاسِ بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ قَبْرَهَا] (1582) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُدْخِلُهَا مَحْرَمُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالنِّسَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَشَايِخُ.) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ قَبْرَهَا مَحْرَمُهَا، وَهُوَ مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا، وَلَهَا السَّفَرُ مَعَهُ، وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَامَ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقَالَ: أَلَا إنِّي أَرْسَلْتُ إلَى النِّسْوَةِ مَنْ يُدْخِلُهَا قَبْرَهَا فَأَرْسَلْنَ مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا. فَرَأَيْتُ أَنْ قَدْ صَدَقْنَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ امْرَأَةُ عُمَرَ قَالَ لِأَهْلِهَا: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا وَلِأَنَّ مَحْرَمَهَا أَوْلَى النَّاسِ بِوَلَايَتِهَا فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْأَقَارِبَ يُقَدَّمُونَ عَلَى الزَّوْجِ. قَالَ الْخَلَّالُ: اسْتَقَامَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْأَوْلِيَاءُ وَالزَّوْجُ، فَالْأَوْلِيَاءُ أَحَبُّ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوْلِيَاءُ فَالزَّوْجُ أَحَقُّ مِنْ الْغَرِيبِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عُمَرَ. وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ زَالَتْ زَوْجِيَّتُهُ بِمَوْتِهَا، وَالْقَرَابَةُ بَاقِيَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: الزَّوْجُ أَحَقُّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَدْخَلَ امْرَأَتَهُ قَبْرَهَا دُونَ أَقَارِبِهَا، وَلِأَنَّهُ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا مِنْهُمْ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِدْخَالِهَا قَبْرَهَا، كَمَحَلِّ الْوِفَاقِ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ فَالْآخَرُ بَعْدَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُدْخِلَهَا النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ النَّظَرُ إلَيْهَا، وَهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا. وَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُنَّ فَالْأَقْرَبُ، كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَسْتَطِعْنَ أَنْ يَدْخُلْنَ الْقَبْرَ، وَلَا يَدْفِنَّ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَحْسَنُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ مَاتَتْ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّكُمْ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا. فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ فَأَدْخَلَهَا قَبْرَهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: " هَلْ تَحْمِلْنَ؟ " قُلْنَ: لَا. قَالَ: " هَلْ تُدْلِينَ فِي مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 يُدْلِي؟ " قُلْنَ: لَا. قَالَ: «فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهُنَّ بِحَالٍ وَكَيْفَ يُشْرَعُ لَهُنَّ وَقَدْ نَهَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ؟ وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِلَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خُلَفَائِهِ، وَلَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَلِأَنَّ الْجِنَازَةَ يَحْضُرُهَا جُمُوعُ الرِّجَالِ، وَفِي نُزُولِ النِّسَاءِ فِي الْقَبْرِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هَتْكٌ لَهُنَّ، مَعَ عَجْزِهِنَّ عَنْ الدَّفْنِ، وَضَعْفِهِنَّ عَنْ حَمْلِ الْمَيِّتَةِ وَتَقْلِيبِهَا، فَلَا يُشْرَعُ. لَكِنْ إنْ عُدِمَ مَحْرَمُهَا، اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِلْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ شَهْوَةً وَأَبْعَدُ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَأَهْلِ الدِّينِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَزَلَ فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ أَوْلَى النَّاسِ بِدَفْنِ الرَّجُلِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ] (1583) فَصْلٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ فَأَوْلَى النَّاسِ بِدَفْنِهِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ طَلَبُ الْحَظِّ لِلْمَيِّتِ وَالرِّفْقُ بِهِ. قَالَ عَلِيٌّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا يَلِي الرَّجُلَ أَهْلُهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْحَدَهُ الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا تَوْقِيفَ فِي عَدَدِ مَنْ يَدْخُلُ الْقَبْرَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمَيِّتِ وَحَاجَتِهِ وَمَا هُوَ أَسْهَلُ فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْحَدَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ اتِّفَاقًا أَوْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مَرْحَبٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ نَزَلَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةً. وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي فَقِيهًا كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَصْنَعُهُ فِي الْقَبْرِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُشَقُّ الْكَفَنُ فِي الْقَبْرِ وَتُحَلُّ الْعُقَدُ] (1584) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَا يُشَقُّ الْكَفَنُ فِي الْقَبْرِ، وَتُحَلُّ الْعُقَدُ.) أَمَّا شَقُّ الْكَفَنِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ إتْلَافٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَتَخْرِيقُهُ يُتْلِفُهُ، وَيَذْهَبُ بِحُسْنِهِ. وَأَمَّا حَلُّ الْعُقَدِ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، فَمُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا كَانَ لِلْخَوْفِ مِنْ انْتِشَارِهَا، وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ بِدَفْنِهِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَدْخَلَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ الْقَبْرَ نَزَعَ الْأَخِلَّةَ بِفِيهِ.» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ نَحْوُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُدْخِلُ الْقَبْرَ آجُرًّا وَلَا خَشَبًا وَلَا شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ] (1585) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: " وَلَا يُدْخِلُ الْقَبْرَ آجُرًّا، وَلَا خَشَبًا، وَلَا شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ مُسْتَحَبٌّ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْخَشَبَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَيَكْرَهُونَ الْخَشَبَ. وَلَا يُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي تَابُوتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَرْضُ أَنْشَفُ لِفَضَلَاتِهِ. وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بِنَاءِ الْمُتْرَفِينَ، وَسَائِرُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، تَفَاؤُلًا بِأَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ. [فَصْلٌ إذَا فَرَغَ مِنْ اللَّحْدِ أَهَالَ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ] (1586) فَصْلٌ: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ اللَّحْدِ أَهَالَ عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ. وَرَوَى السَّاجِيُّ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ قَبْرُهُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ تُرَابِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُجْعَلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ التُّرَابِ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ حِينَ حُفِرَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُزَادَ عَلَى الْقَبْرِ عَلَى حُفْرَتِهِ» وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْقَبْرِ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْقَاسِمِ فِي صِفَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ: لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَشَّ عَلَى الْقَبْرِ مَاءٌ لِيَلْتَزِقَ تُرَابُهُ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ «سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدًا وَرَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً» رَوَاهُمَا الْخَلَّالُ جَمِيعًا. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ] (1587) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعَلِّمَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ عَلَامَةً يَعْرِفُهُ بِهَا، وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُطَّلِبِ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ، فَدُفِنَ، أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ. [فَصْلٌ تَسْنِيمُ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَسْطِيحِهِ] (1588) فَصْلٌ: وَتَسْنِيمُ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَسْطِيحِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَسْطِيحُهُ أَفْضَلُ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ. وَعَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَطَّحَةً. وَلَنَا مَا رَوَى سُفْيَانُ التَّمَّارُ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَنَّمًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ وَلِأَنَّ التَّسْطِيحَ يُشْبِهُ أَبْنِيَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِشِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَكَانَ مَكْرُوهًا. وَحَدِيثُنَا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَأَصَحُّ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ الْوُقُوفُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَمَا يَدْفِنُ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ] (1589) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَمَا يَدْفِنُ، يَدْعُو لِلْمَيِّتِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَدْ وَقَفَ عَلِيٌّ وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَفَنَ الرَّجُلَ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» . وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَمُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ السَّرِيِّ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الْوَفَاةُ، قَالَ: اجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ، فَإِنِّي أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ. [فَصْلٌ التَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ] (1590) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ شَيْئًا، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ لِلْأَئِمَّةِ قَوْلًا، سِوَى مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَهَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَ إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ، يَقِفُ الرَّجُلُ، وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ، اُذْكُرْ مَا فَارَقْتَ عَلَيْهِ، شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَلَ هَذَا إلَّا أَهْلَ الشَّامِ، حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ جَاءَ إنْسَانٌ، فَقَالَ ذَاكَ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو الْمُغِيرَةِ يَرْوِي فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَشْيَاخِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ ابْنُ عَيَّاشٍ يَرْوِي فِيهِ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ: إنَّمَا لِأُثْبِتَ عَذَابَ الْقَبْرِ. قَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَرَوَيَا فِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 قَالَ: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلْيَقِفْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ، وَلَا يُجِيبُ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَرْشِدْنَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَا تَسْمَعُونَ. فَيَقُولُ: اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا، شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا. فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَتَأَخَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فَمَا يُقْعِدُنَا عِنْدَ هَذَا وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ، وَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى حُجَّتَهُ دُونَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ أُمِّهِ؟ قَالَ: فَلْيَنْسُبْهُ إلَى حَوَّاءَ» رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ فِي (كِتَابِ ذِكْرِ الْمَوْتِ) بِإِسْنَادِهِ. [فَصْلٌ تَطْيِينُ الْقُبُورِ] (1591) فَصْلٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَطْيِينِ الْقُبُورِ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَاهَدُ قَبْرَ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ. قَالَ نَافِعٌ وَتُوُفِّيَ ابْنٌ لَهُ وَهُوَ غَائِبٌ، فَقَدِمَ فَسَأَلَنَا عَنْهُ، فَدَلَلْنَاهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ الْقَبْرَ وَيَأْمُرُ بِإِصْلَاحِهِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مَا لَمْ يُطَيَّنْ قَبْرُهُ. أَوْ قَالَ: مَا لَمْ يُطْوَ قَبْرُهُ.» [فَصْلٌ الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ وَتَجْصِيصُهُ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ] (1592) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ، وَتَجْصِيصُهُ، وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ.» زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، فَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي طِينِ الْقَبْرِ، لِتَخْصِيصِهِ التَّجْصِيصَ بِالنَّهْيِ وَنَهَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ بِآجُرٍّ، وَأَوْصَى بِذَلِكَ. وَأَوْصَى الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنْ لَا تَجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي آجُرًّا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ فِي قُبُورِهِمْ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَى الْقَبْرِ فُسْطَاطٌ وَأَوْصَى أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَنْ لَا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا. [فَصْلٌ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَالْمَشْيُ عَلَيْهِ وَالتَّغَوُّطُ بَيْنَ الْقُبُورِ] (1593) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ، وَالْمَشْيُ عَلَيْهِ، وَالتَّغَوُّطُ بَيْنَ الْقُبُورِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» صَحِيحٌ. وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ أَنَّ مَالِكًا يَتَأَوَّلُ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُجْلَسَ عَلَى الْقُبُورِ أَيْ لِلْخَلَاءِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ رَأْيُ مَالِكٍ وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَلَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي، أَوْ وَسْطَ السُّوقِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ اتِّخَاذُ السَّرْجِ عَلَى الْقُبُورِ] (1594) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ السَّرْجِ عَلَى الْقُبُورِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، الْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ أُبِيحَ لَمْ يَلْعَنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِفْرَاطًا فِي تَعْظِيمِ الْقُبُورِ أَشْبَهَ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ لِهَذَا الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّمَا لَمْ يُبْرَزْ قَبْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقُبُورِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَهَا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ بِالسُّجُودِ لَهَا، وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهَا، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ تَعْظِيمُ الْأَمْوَاتِ، بِاتِّخَاذِ صُوَرِهِمْ، وَمَسْحِهَا، وَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا. [فَصْلٌ الدَّفْنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَبُ مِنْ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ] (1595) فَصْلٌ: وَالدَّفْنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَبُ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَأَشْبَهُ بِمَسَاكِنِ الْآخِرَةِ، وَأَكْثَرُ لِلدُّعَاءِ لَهُ، وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَزَلْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُقْبَرُونَ فِي الصَّحَارِي. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِرَ فِي بَيْتِهِ، وَقُبِرَ صَاحِبَاهُ مَعَهُ؟ قُلْنَا: قَالَتْ عَائِشَةُ إنَّمَا فُعِلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْفِنُ أَصْحَابَهُ فِي الْبَقِيعِ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ رَأَوْا تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ رُوِيَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 " يُدْفَنُ الْأَنْبِيَاءُ حَيْثُ يَمُوتُونَ " وَصِيَانَةً لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الطُّرَّاقِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ الدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الصَّالِحُونَ وَالشُّهَدَاءُ] (1596) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الصَّالِحُونَ وَالشُّهَدَاءُ؛ لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِمَا «أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْنِيَهُ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ.» [فَصْلٌ جَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي الدَّفْنِ] (1597) فَصْلٌ: وَجَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي الدَّفْنِ حَسَنٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لِزِيَارَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ. وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَبِ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ، إذَا أَمْكَنَ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ دَفْنُ الشَّهِيدِ حَيْثُ قُتِلَ] (1598) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ الشَّهِيدِ حَيْثُ قُتِلَ قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا الْقَتْلَى فَعَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ. فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا يُنْقَلُ الْمَيِّتُ مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشَةِ، فَحُمِلَ إلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إلَّا حَيْثُ مِتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ لِمُؤْنَتِهِ وَأَسْلَمُ لَهُ مِنْ التَّغْيِيرِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ جَازَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْلَمُ بِنَقْلِ الرَّجُلِ يَمُوتُ فِي بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى بَأْسًا. وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ حُمِلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، مِنْ الْعَقِيقِ إلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَاتَ ابْنُ عُمَرَ هُنَا، فَأَوْصَى أَنْ لَا يُدْفَنَ هَاهُنَا، وَأَنْ يُدْفَنَ بِسَرِفٍ. [فَصْلٌ تَنَازَعَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا يُدْفَنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ وَقَالَ الْآخَرُ يُدْفَنُ فِي مِلْكِهِ] (1599) فَصْلٌ: وَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يُدْفَنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ. وَقَالَ الْآخَرُ: يُدْفَنُ فِي مِلْكِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 دُفِنَ فِي الْمُسَبَّلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِنَّةَ فِيهِ، وَهُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْوَارِثِ. فَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْكَفَنِ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نُكَفِّنُهُ مِنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ عَلَى الْوَارِثِ بِلُحُوقِ الْمِنَّةِ، وَتَكْفِينُهُ مِنْ مَالِهِ قَلِيلُ الضَّرَرِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُوصِي أَنْ يُدْفَنَ فِي دَارِهِ قَالَ: يُدْفَنُ فِي الْمَقَابِرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، إنْ دُفِنَ فِي دَارِهِ أَضَرَّ بِالْوَرَثَةِ. وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، وَيُوصِيَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ، فَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَائِشَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - [فَصْلٌ إذَا تَشَاحَّ اثْنَانِ فِي الدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ] (1600) فَصْلٌ: وَإِذَا تَشَاحَّ اثْنَانِ فِي الدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَرِحَابِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ إنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا جَازَ نَبْشُ قَبْرِهِ وَدَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ] (1601) فَصْلٌ: وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، جَازَ نَبْشُ قَبْرِهِ، وَدَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ رَجَعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. فَإِنْ حَفَرَ، فَوَجَدَ فِيهَا عِظَامًا دَفَنَهَا، وَحَفَرَ فِي مَكَان آخَرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَيِّتِ يُخْرَجُ مِنْ قَبْرِهِ إلَى غَيْرِهِ فَقَالَ: إذَا كَانَ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ، قَدْ حُوِّلَ طَلْحَةُ وَحُوِّلَتْ عَائِشَةُ وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ دُفِنُوا فِي بَسَاتِينَ وَمَوَاضِعَ رَدِيئَةٍ. فَقَالَ: قَدْ نَبَشَ مُعَاذٌ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ كَانَتْ كُفِّنَتْ فِي خَلَقَيْنِ فَكَفَنَهَا وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَأْسًا أَنْ يُحَوَّلُوا. [مَسْأَلَةٌ مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ] (1602) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا، مَا لَمْ تُدْفَنْ، فَإِنْ دُفِنَتْ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ إلَى شَهْرٍ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ، إلَّا لِلْوَلِيِّ إذَا كَانَ غَائِبًا، وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إلَّا كَذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ قَبْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وَلَنَا، مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ رَجُلًا مَاتَ، فَقَالَ: فَدَلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ.» قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِتَّةِ وُجُوهٍ كُلُّهَا حِسَانٌ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَيُسَنُّ لَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، كَالْوَلِيِّ، وَقَبْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ شَهْرٍ. [فَصْلٌ إذَا صُلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً لَمْ تُوضَعْ لِأَحَدٍ يُصَلِّي عَلَيْهَا] (1603) فَصْلٌ: وَمَنْ صَلَّى مَرَّةً فَلَا يُسَنُّ لَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَإِذَا صُلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً لَمْ تُوضَعْ لِأَحَدٍ يُصَلِّي عَلَيْهَا. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْسُنُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَيُبَادَرُ بِدَفْنِهِ، فَإِنْ رُجِيَ مَجِيءُ الْوَلِيِّ أُخِّرَ إلَى أَنْ يَجِيءَ، إلَّا أَنْ يُخَافَ تَغَيُّرُهُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي طَلْحَةَ بْنِ الْبَرَاءِ «اعْجَلُوا بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» فَأَمَّا مَنْ أَدْرَكَ الْجِنَازَةَ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَأَنَسٌ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو حَمْزَةَ وَمَعْمَرُ بْنُ سَمِيرٍ. [فَصْلٌ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى] (1604) فَصْلٌ: وَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى. نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ وَقَالَ: وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ، قَدْ فَعَلَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «انْتَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قَبْرٍ رَطْبٍ، فَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ] (1605) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ فِي بَلَدٍ آخَرَ بِالنِّيَّةِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ كَصَلَاتِهِ عَلَى حَاضِرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ حُضُورَهَا، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا مَعَ غَيْبَتِهَا عَنْهُ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَعَى النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَصَلَّى بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ، فَأُرِيَ الْجِنَازَةَ. قُلْنَا: هَذَا لَمْ يُنْقَلْ، وَلَوْ كَانَ لَأَخْبَرَ بِهِ. وَلَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَثْبُتْ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ مَعَ الْبُعْدِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ رُئِيَ، ثُمَّ لَوْ رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاخْتَصَّتْ الصَّلَاةُ بِهِ، وَقَدْ صَفَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ بِالْحَبَشَةِ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مَذْهَبَكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تُجِيزُونَ الصَّلَاةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 عَلَى الْغَرِيقِ، وَالْأَسِيرِ، وَمَنْ مَاتَ بِالْبَوَادِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَظَهَرَ إسْلَامُهُ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَيِّتُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْبَلَدِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مَنْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ] (1606) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْبَلَدِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ مَنْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ قَالَ: وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى قَبْرِهِ، وَصَلَّى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَلَى مَيِّتٍ مَاتَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ بَغْدَادَ وَهُوَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ غَائِبٌ، فَجَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، كَالْغَائِبِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَهَذَا مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا كَانَ مَعَهُ فِي هَذَا الْجَانِبِ. [فَصْلٌ تَتَوَقَّفُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ بِشَهْرٍ] (1607) فَصْلٌ: وَتَتَوَقَّفُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ بِشَهْرٍ، كَالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَلَاشٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي أَكِيلِ السَّبُعِ، وَالْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِذَهَابِهِ بِخِلَافِ الضَّائِعِ وَالْغَرِيقِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا غَرِقَ قَبْلَ الْغُسْلِ، كَالْغَائِبِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَعَذَّرَ لِمَانِعٍ، أَشْبَهَ الْحَيَّ إذَا عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ إنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا كَبَّرَ بِتَكْبِيرِهِ] (1608) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا كَبَّرَ بِتَكْبِيرِهِ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَا أَنْقَصُ، مِنْ أَرْبَعٍ وَالْأَوْلَى أَرْبَعٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَبَّرَ خَمْسًا تَابَعَهُ الْمَأْمُومُ، وَلَا يُتَابِعُهُ فِي زِيَادَةٍ عَلَيْهَا. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ إذَا كَبَّرَ خَمْسًا، لَا يُكَبِّرُ مَعَهُ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَكُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُخَالِفُهُ. وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي زِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعٍ؛ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ لِلْإِمَامِ، فَلَا يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ فِيهَا، كَالْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. وَلَنَا: مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ «كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا، وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُهَا.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ: فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ سَعِيدٌ: ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَحْيَى الْجَابِرِيِّ عَنْ عِيسَى مَوْلًى لِحُذَيْفَةَ، أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: مَوْلَايَ وَوَلِيُّ نِعْمَتِي صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَكَبَّرَ عَلَيْهَا خَمْسًا. وَذَكَرَ حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا. وَكَانَ أَصْحَابُ مُعَاذٍ يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسًا وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَرْبَعٍ. قَالَ أَحْمَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 فِي إسْنَادِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُصَلِّينَ مَعَهُ كَانُوا يُتَابِعُونَهُ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا. وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ. فَأَمَّا إنْ زَادَ الْإِمَامُ عَنْ خَمْسٍ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ إلَى سَبْعٍ. قَالَ الْخَلَّالُ: ثَبَتَ الْقَوْلُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ إلَى سَبْعٍ، ثُمَّ لَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ. وَهَذَا قَوْلُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ كَبِّرْ مَا كَبَّرَ إمَامُكَ فَإِنَّهُ لَا وَقْتٌ وَلَا عَدَدٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعًا» رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ. وَكَبَّرَ عَلِيٌّ عَلَى جِنَازَةِ أَبِي قَتَادَةَ سَبْعًا وَعَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إنَّهُ بَدْرِيٌّ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ النَّاسَ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَمْسًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْبَعًا، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَالَ: هُوَ أَطْوَلُ الصَّلَاةِ وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: إنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ سِتًّا، وَكَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا. فَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعٍ لَمْ يُتَابِعْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: إنْ زَادَ عَلَى سَبْعٍ يَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ بِهِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبْعٍ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّ عَلْقَمَةَ رَوَى أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ مُعَاذٍ يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسًا، فَلَوْ وَقَّتَّ لَنَا وَقْتًا فَقَالَ: إذَا تَقَدَّمَكُمْ إمَامُكُمْ فَكَبِّرُوا مَا يُكَبِّرُ، فَإِنَّهُ لَا وَقْتٌ وَلَا عَدَدٌ. رَوَاهُ سَعِيدٌ وَالْأَثْرَمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُ حَتَّى يُسَلِّمَ إمَامُهُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ إذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعٍ، أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ، بَلْ يَتْبَعُهُ وَيَقِفُ فَيُسَلِّمُ مَعَهُ. قَالَ الْخَلَّالُ الْعَمَلُ فِي نَصِّ قَوْلِهِ، وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ إلَى سَبْعٍ وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعٍ فَلَا، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَنْصَرِفُ، كَمَا لَوْ قَامَ الْإِمَامُ إلَى خَامِسَةٍ، فَارَقَهُ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَسْلِيمَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَعْجَبَ حَالَ الْكُوفِيِّينَ، سُفْيَانُ يَنْصَرِفُ إذَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ خَمْسًا، وَفَعَلَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَحُذَيْفَةُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَبِّرْ مَا كَبَّرَ إمَامُكَ. وَلِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةُ قَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلَا يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ إذَا اشْتَغَلَ بِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقْنُتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فِي صَلَاةٍ يُخَالِفُهُ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ فِيهَا. وَيُخَالِفُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الرَّكْعَةَ الْخَامِسَةَ لَا خِلَافَ فِيهَا. وَالثَّانِي، أَنَّهَا فِعْلٌ، وَالتَّكْبِيرَةُ الزَّائِدَةُ بِخِلَافِهَا، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ قُلْنَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِيهَا فَلَهُ فِعْلُهَا، وَمَا لَا فَلَا. (1609) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعٍ لِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ التَّكْبِيرَ أَرْبَعًا؛ مِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَبَّرَ عَلَى قَبْرٍ بَعْدَمَا دُفِنَ أَرْبَعًا. وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعٍ. وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ لَا تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُعْجِبْ ذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ: قَدْ كَبَّرَ أَنَسٌ ثَلَاثًا نَاسِيًا فَأَعَادَ. وَلِأَنَّهُ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ إذَا نَقَصَ مِنْهَا رَكْعَةً بَطَلَتْ، كَذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا تَكْبِيرَةً عَامِدًا بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً عَمْدًا، وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا احْتَمَلَ أَنْ يُعِيدَهَا، كَمَا فَعَلَ أَنَسٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَهَا، مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، كَمَا لَوْ نَسِيَ رَكْعَةً، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا سُجُودُ سَهْوٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. [فَصْلٌ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى] (1610) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَجِيئُونَ بِأُخْرَى، يُكَبِّرُ إلَى سَبْعٍ ثُمَّ يَقْطَعُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُرْفَعَ الْأَرْبَعُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى، كَبَّرَ الثَّانِيَةَ عَلَيْهِمَا، وَيَنْوِيهِمَا فَإِنْ جِيءَ بِثَالِثَةٍ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ عَلَيْهِنَّ، وَنَوَاهُنَّ، فَإِنْ جِيءَ بِرَابِعَةٍ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ عَلَيْهِنَّ، وَنَوَاهُنَّ، ثُمَّ يُكْمِلُ التَّكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ إلَى سَبْعٍ، لِيَحْصُلَ لِلرَّابِعَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، إذْ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُنَّ، وَيَحْصُلُ لِلْأُولَى سَبْعٌ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ التَّكْبِيرُ، فَإِنْ جِيءَ بِخَامِسَةٍ لَمْ يَنْوِهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَإِنْ نَوَاهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَبْعٍ أَوْ يَنْقُصَ فِي تَكْبِيرِهَا عَنْ أَرْبَعٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ، وَهَكَذَا لَوْ جِيءَ بِثَانِيَةٍ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَبِّرَ عَلَيْهَا الْخَامِسَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْجِنَازَةِ الْأُولَى رَفْعَهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ رُكْنٌ لَا تَتِمُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي التَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ الْفَاتِحَةَ، وَفِي السَّادِسَةِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو فِي السَّابِعَةِ لِيَكْمُلَ لِجَمِيعِ الْجَنَائِزِ الْقِرَاءَةُ وَالْأَذْكَارُ كَمَا كَمُلَ لَهُنَّ التَّكْبِيرَاتُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا ثَانِيًا، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ مُتَتَابِعًا، كَمَا قُلْنَا فِي الْقَضَاءِ لِلْمَسْبُوقِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ سَبْعًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ قَرَأَ قِرَاءَتَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا جَنَائِزُ، فَيُعْتَبَرُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِنَّ شُرُوطُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتُهَا، كَالْأُولَى. [مَسْأَلَةٌ مَوْقِفُ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] (1611) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْإِمَامُ يَقُومُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَوَسَطِ الْمَرْأَةِ) ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حِذَاءَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ، وَعِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ أَوْ عِنْدَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِنْ وَقَفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْقِفِ خَالَفَ سُنَّةَ الْمَوْقِفِ، وَأَجْزَأَهُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَالَ: يَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رَجُلٍ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَقَامَكَ مِنْهَا، وَمِنْ الرَّجُلِ مَقَامَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: احْفَظُوا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقُومُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ، فَإِذَا وَقَفَ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ فَكَذَا الْمَرْأَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقِفُ مِنْ الرَّجُلِ عِنْدَ وَسَطِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَقِفُ مِنْ الْمَرْأَةِ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ أَعَالِيهَا أَمْثَلُ وَأَسْلَمُ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَمُرَةُ، قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالْمَرْأَةُ تُخَالِفُ الرَّجُلَ فِي الْمَوْقِفِ، فَجَازَ أَنْ تُخَالِفَهُ هَاهُنَا. وَلِأَنَّ قِيَامَهُ عِنْدَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ أَسْتَرُ لَهَا مِنْ النَّاسِ، فَكَانَ أَوْلَى. فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ فَغَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ، فَالْوَاقِفُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَاقِفٌ عِنْدَ الْآخَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ] (1612) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُسَوِّي بَيْنَ رُءُوسِهِمْ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ رُءُوسِهِمْ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ تُوُفِّيَا جَمِيعًا، فَأُخْرِجَتْ جِنَازَتَاهُمَا، فَصَلَّى عَلَيْهِمَا أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَسَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمَا وَأَرْجُلِهِمَا حِينَ صَلَّى عَلَيْهِمَا وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِمَا، فَأَرَادَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا رَأْسَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وَسَطِ الرَّجُلِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَصُفَّ الرِّجَالَ صَفًّا وَالنِّسَاءَ صَفًّا، وَيَجْعَلَ وَسَطَ النِّسَاءِ عِنْدَ صُدُورِ الرِّجَالِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ لِيَكُونَ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَوَسَطِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الدِّمَشْقِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: رَأَيْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يُصَلِّي عَلَى جَنَائِزِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ، فَيَصُفُّ الرِّجَالَ صَفًّا، ثُمَّ يَصُفُّ النِّسَاءَ خَلْفَ الرِّجَالِ، رَأْسُ أَوَّلِ امْرَأَةٍ يَضَعُهَا عِنْدَ رُكْبَةِ آخِرِ الرِّجَالِ، ثُمَّ يَصُفُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُومُ وَسَطَ الرِّجَالِ، وَإِذَا كَانُوا رِجَالًا كُلُّهُمْ صَفَّهُمْ، ثُمَّ قَامَ وَسَطَهُمْ. وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَقَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ خَالَفَ فِعْلَهُ أَوْ قَوْلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ شَهْرٍ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ شَهْرٍ) . وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَيْهِ أَبَدًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ. حَدِيثٌ صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلَ جَسَدُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَلِيُّ إلَى ثَلَاثٍ، وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِحَالٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُصَلِّي عَلَيْهِ الْغَائِبُ إلَى شَهْرٍ، وَالْحَاضِرُ إلَى ثَلَاثٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ «، أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَائِبٌ، فَلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَيْهَا، وَقَدْ مَضَى لِذَلِكَ شَهْرٌ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا سَمِعْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ أُمِّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بَعْدَ شَهْرٍ. وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَيِّتِ فِيهَا، فَجَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهَا، كَمَا قَبْلَ الثَّلَاثِ، وَكَالْغَائِبِ، وَتَجْوِيزُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا بَاطِلٌ بِقَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ الْآنَ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ التَّحْدِيدُ بِبِلَى الْمَيِّتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبْلَى، وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْخَبَرُ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَ شَهْرٍ، فَكَيْفَ مَنَعْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: تَحْدِيدُهُ بِالشَّهْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَ رَأْسِهِ، لِيَكُونَ مُقَارِبًا لِلْحَدِّ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ بَعْدَ الشَّهْرِ قَرِيبًا مِنْهُ؛ لِدَلَالَةِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُرُودِهِ. [مَسْأَلَةٌ تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ] (1614) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ، جُعِلَ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَبِخَمْسِينَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ كَفَنِ الْمَيِّتِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، فَقَالَ: «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» . وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُهُ فِي الْبَيَاضِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ؛ فَإِنَّهُ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَكُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سَحُولِيَّةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ، جُعِلَ كَفَنُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ، إنْ كَانَ مُوسِرًا كَانَ كَفَنُهُ رَفِيعًا حَسَنًا، وَيُجْعَلُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْبَسُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَى حَسَبِ حَالِهِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " جُعِلَ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَبِخَمْسِينَ " لَيْسَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ، إذْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا فِيهِ إجْمَاعٌ، وَالتَّحْدِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَحْصُلُ الْجَيِّدُ وَالْمُتَوَسِّطُ فِي وَقْتِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي جَدِيدٍ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَتُمْتَثَلُ وَصِيَّتُهُ. كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمَهْنَةِ وَالتُّرَابِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الْخَلِيعِ أَوْلَى لِهَذَا الْخَبَرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِدَلَالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ وُجُوبُ كَفَنِ الْمَيِّتِ] (1615) فَصْلٌ: وَيَجِبُ كَفَنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، وَلِأَنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ حَمْزَةَ، وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَمْ يُوجَدْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا ثَوْبٌ، فَكُفِّنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ كَفَنُ الْمَيِّتِ. وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ دَفْنِهِ وَتَجْهِيزِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لِلْمَيِّتِ مِنْهُ، فَأَمَّا الْحَنُوطُ وَالطِّيبُ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَحْسِينِ الْكَفَنِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. [فَصْلٌ كَفَنُ الْمَرْأَةِ وَمَئُونَةُ دَفْنِهَا مِنْ مَالِهَا] (1616) فَصْلٌ: وَكَفَنُ الْمَرْأَةِ وَمَئُونَةُ دَفْنِهَا مِنْ مَالِهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ. وَاخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِيهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُسْوَتَهَا وَنَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَفَنُهَا، كَسَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْوَالِدِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْفُرْقَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتْ الْأَجْنَبِيَّةَ، وَفَارَقَتْ الْمَمْلُوكَ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَا بِالِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْآبِقِ وَفِطْرَتُهُ، وَالْوَلَدُ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْوَالِدَ أَحَقُّ بِدَفْنِهِ وَتَوَلِّيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ، فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا مِنْ الْأَقَارِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ، كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا. [مَسْأَلَةٌ السِّقْطُ إذَا وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ] (1617) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالسِّقْطُ إذَا وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. السِّقْطُ: الْوَلَدُ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ مَيِّتًا، أَوْ لِغَيْرِ تَمَامٍ، فَأَمَّا إنْ خَرَجَ حَيًّا وَاسْتَهَلَّ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ وَاسْتَهَلَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ، فَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَتَى لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَإِسْحَاقَ، وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنٍ لِابْنَتِهِ وُلِدَ مَيِّتًا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَهِلَّ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، حَتَّى يَسْتَهِلَّ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَنْ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي لَفْظِ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: (وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا أَحَدٌ أَحَقَّ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنْ الطِّفْلِ، وَلِأَنَّهُ نَسَمَةٌ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهِلِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ فِي حَدِيثِهِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، أَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَحَدِيثُهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَدْ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهِ، فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَوْقُوفًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَأَنَّ هَذَا أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ. وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ حَالَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ، وَذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ. وَالصَّلَاةُ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تُصَادِفَ مَنْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ دُعَاءٌ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ، وَخَيْرٌ، فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْيَقِينِ؛ لِوُجُودِ الْحَيَاةِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ، وَيُدْفَنُ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَحَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ إلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَسَمَةً، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَالْجَمَادَاتِ وَالدَّمِ. [مَسْأَلَةٌ إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ السِّقْطُ أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى] (1618) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ، أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى، سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ، فَإِنَّهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 أَسْلَافُكُمْ» رَوَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ بِإِسْنَادِهِ قِيلَ: إنَّهُمْ إنَّمَا يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ. فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ السِّقْطُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا؛ كَسَلَمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَسَعَادَةَ، وَهِنْدٍ، وَعُتْبَةَ، وَهِبَةِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا] (1619) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَتُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا إذَا مَاتَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا نِسَاؤُهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَكَانَتْ صَائِمَةً، فَعُزِمَ عَلَيْهَا أَنْ تُفْطِرَ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ غُسْلِهِ ذَكَرَتْ يَمِينَهُ، فَقَالَتْ: لَا أُتْبِعُهُ الْيَوْمَ حِنْثًا. فَدَعَتْ بِمَاءٍ فَشَرِبَتْ. وَغَسَّلَ أَبَا مُوسَى امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَوْصَى جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ. [مَسْأَلَةٌ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ] (1620) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، فَلَا بَأْسَ. الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْلَ امْرَأَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، لَيْسَ لِلزَّوْجِ غَسْلُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ فُرْقَةٌ تُبِيحُ أُخْتَهَا، وَأَرْبَعًا سِوَاهَا، فَحَرَّمَتْ النَّظَرَ وَاللَّمْسَ، كَالطَّلَاقِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غَسَّلَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «لَوْ مِتَّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الشَّخْصِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَاشَرَةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَأُبِيحَ لَهُ غَسْلُ صَاحِبِهِ كَالْآخَرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إطْلَاعُ الْآخَرِ عَلَى عَوْرَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ، وَيَأْتِي بِالْغُسْلِ عَلَى أَكْمَلِ مَا يُمْكِنُهُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ. وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّوْجَةَ مِنْ النَّظَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إلَّا بَقَاءُ الْعِدَّةِ، وَلَا أَثَرَ لَهَا، بِدَلِيلِ، مَا لَوْ مَاتَ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا غَسْلُهُ مَعَ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا عَقِبَ مَوْتِهِ كَانَ لَهَا غَسْلُهُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَلَا بَأْسَ " يَعْنِي بِهِ، أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ غَسْلُهَا مَعَ وُجُودِ مَنْ يُغَسِّلُهَا سِوَاهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ فَإِنَّ غَسْلَهَا لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَمْ تُبِحْهُ الضَّرُورَةُ، كَغَسْلِ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 [فَصْلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَمْ يُبَحْ لِأَحَدِهِمَا غَسْلُ صَاحِبِهِ] (1621) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا، وَيُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا. وَإِنْ كَانَ بَائِنًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ اللَّمْسَ وَالنَّظَرَ مُحَرَّمٌ حَالَ الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ أَوْلَى. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ لَمْ يُبَحْ لِأَحَدِهِمَا غَسْلُ صَاحِبِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ حُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي الْجَنَائِزِ كَحُكْمِ الْمَرْأَةِ] (1622) فَصْلٌ: وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهَا غَسْلُ سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا حَصَلَ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُبْقِ عُلْقَةً مِنْ مِيرَاثٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَنَا، أَنَّهَا فِي مَعْنَى الزَّوْجَةِ فِي اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ، وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَضَى، بِدَلِيلِ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، وَالِاسْتِبْرَاءُ هَاهُنَا كَالْعِدَّةِ. وَلِأَنَّهَا إذَا مَاتَتْ يَلْزَمُهُ كَفَنُهَا وَدَفْنُهَا وَمُؤْنَتُهَا، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ. فَأَمَّا غَيْرُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْإِمَاءِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهَا غَسْلُ سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ مَا تَصِيرُ بِهِ فِي مَعْنَى الزَّوْجَاتِ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِامْرَأَتِهِ احْتَمَلَ أَنْ لَا يُبَاحَ لَهَا غَسْلُهُ لِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً فَلَيْسَ لَهَا غَسْلُ زَوْجِهَا] (1623) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً، فَلَيْسَ لَهَا غَسْلُ زَوْجِهَا، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُغَسِّلُ الْمُسْلِمَ، لِأَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْلِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا غَسْلُهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُغَسِّلُ الْكَافِرَ، وَلَا يَتَوَلَّى دَفْنَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُوَالَاةَ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ غَسْلِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ. [فَصْلٌ هَلْ يُغَسِّلُ الرَّجُلُ أُخْتَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ نِسَاءً] (1624) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الرِّجَالِ غَسْلُ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ غَسْلُ غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الرِّجَالِ وَإِنْ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ غَسَّلَ ابْنَتَهُ. وَاسْتَعْظَمَ أَحْمَدُ هَذَا، وَلَمْ يُعْجِبْهُ وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ قِيلَ: اسْتَأْذِنْ عَلَى أُمِّكَ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ غَسْلُهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ. فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ يُغَسِّلُ الْمَرْأَةَ مِنْ النِّسَاءِ، فَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُغَسِّلُ أُخْتَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ نِسَاءً قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: يُغَسِّلُهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا، يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ صَبًّا. قُلْتُ لِأَحْمَدَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَاتِ مَحْرَمٍ تُغَسَّلُ وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ: لَا بَأْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 بِغَسْلِ ذَاتِ مَحْرَمٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَأَمَّا إنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسْوَةٍ أَجَانِبَ، أَوْ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ أَجَانِبَ، أَوْ مَاتَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً ثَانِيَةً، أَنَّهُ يُغَسَّلُ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ، يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ صَبًّا، وَلَا يُمَسُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ. وَلَنَا، مَا رَوَى تَمَّامٌ الرَّازِيّ فِي " فَوَائِدِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مَحْرَمٌ، تُيَمَّمُ كَمَا يُيَمَّمُ الرِّجَالُ» . وَلِأَنَّ الْغُسْلَ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْظِيفُ، وَلَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، بَلْ رُبَّمَا كَثُرَتْ وَلَا يَسْلَمُ مِنْ النَّظَرِ، فَكَانَ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ أَوْلَى، كَمَا لَوْ عُدِمَ الْمَاءُ. [فَصْلٌ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ] (1625) فَصْلٌ: وَلِلنِّسَاءِ غَسْلُ الطِّفْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَهُنَّ غَسْلُ مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إذَا كَانَ فَطِيمًا، أَوْ فَوْقَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ابْنُ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ. - وَلَنَا، أَنَّ مَنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ لَمْ نُؤْمَرْ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ، وَلَا عَوْرَةَ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا سَلَّمُوهُ، فَأَمَّا مَنْ بَلَغَ السَّبْعَ وَلَمْ يَبْلُغْ عَشْرًا، فَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ بَلَغَ عَشْرًا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ لِلصَّلَاةِ لِعَشْرٍ. وَمَنْ دُونَ الْعَشْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ دُونَ السَّبْعِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِ، لِأَنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي أَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ، وَقُرْبِهِ مِنْ الْمُرَاهَقَةِ. فَأَمَّا الْجَارِيَةُ الصَّغِيرَةُ، فَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرَّجُلُ، وَقَالَ: النِّسَاءُ أَعْجَبُ إلَيَّ. وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: تُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ، وَالرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ. قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يُغَسِّلُ الصَّبِيَّةَ فَلَا أَجْتَرِئُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ غَسَّلَ بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً. وَالْحَسَنُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ، إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ غَسْلَ الرَّجُلِ الصَّغِيرَةَ سَعِيدٌ وَالزُّهْرِيُّ. قَالَ الْخَلَّالُ: الْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، لَوْلَا أَنَّ التَّابِعِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَكَرِهَهُ أَحْمَدُ لِذَلِكَ. وَسَوَّى أَبُو الْخَطَّابِ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ، جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ. وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ، مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ الْجَارِيَةَ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ عَوْرَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ عَوْرَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 الْجَارِيَةِ أَفْحَشُ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مُعَانَاةُ الْمَرْأَةِ لِلْغُلَامِ الصَّغِيرِ، وَمُبَاشَرَةُ عَوْرَتِهِ فِي حَالِ تَرْبِيَتِهِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَةِ الرَّجُلِ عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا غَسَّلَ الْمَيِّتَ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا صَحَّ غَسْلُهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَهَارَتُهُ، فَصَحَّ أَنْ يُطَهِّرَ غَيْرَهُ، كَالْكَبِيرِ فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَنْ يُغَسِّلَ الْمُحْرِمُ الْحَلَالَ، وَالْحَلَالُ الْمُحْرِمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ وَغَسْلُهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَ غَيْرَهُ. [فَصْل غُسْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ] (1627) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ غُسْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهَا. وَقَالَ مَكْحُولٌ فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ فِي سَفَرٍ، وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَنِسَاءٌ نَصَارَى: يُغَسِّلُهَا النِّسَاءُ. وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رَجُلٍ مَاتَ مَعَ نِسَاءٍ، لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، قَالَ: إنْ وَجَدُوا نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا، فَلَا بَأْسَ إذَا تَوَضَّأَ أَنْ يُغَسِّلَهُ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ. وَغَسَّلَتْ امْرَأَةَ عَلْقَمَةَ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ. وَلَمْ يُعْجِبْ هَذَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ: لَا يُغَسِّلُهُ إلَّا مُسْلِمٌ، وَيُيَمَّمُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجِسٌ، فَلَا يُطَهِّرُ غُسْلُهُ الْمُسْلِمَ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهُ لِلْمُسْلِمِ، كَالْمَجْنُونِ. وَإِنْ مَاتَ كَافِرٌ مَعَ مُسْلِمِينَ، لَمْ يُغَسِّلُوهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَتَوَلَّوْا دَفْنَهُ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدُوا مَنْ يُوَارِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: يَجُوزُ لَهُ غُسْلُ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، وَدَفْنُهُ. وَحَكَاهُ قَوْلًا لِأَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ فَوَارِهِ» . وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَا يَدْعُو لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ غُسْلُهُ، وَتَوَلِّي أَمْرِهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْحَدِيثُ إنْ صَحَّ يَدُلُّ عَلَى مُوَارَاتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ إذَا خَافَ مِنْ التَّعْيِيرِ بِهِ، وَالضَّرَرِ بِبَقَائِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مَاتَ، وَلَهُ وَلَدٌ مُسْلِمٌ: فَلْيَرْكَبْ دَابَّةً، وَلْيَسِرْ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ رَجَعَ، مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [مَسْأَلَة الشَّهِيدُ إذَا مَاتَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ] (1628) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالشَّهِيدُ إذَا مَاتَ فِي مَوْضِعِهِ، لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) يَعْنِي إذَا مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ، فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 خِلَافًا، إلَّا عَنْ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَا: يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ، مَا مَاتَ مَيِّتٌ إلَّا جُنُبًا. وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ أَوْلَى. فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. إلَّا أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مُسْتَحَبَّةٌ، غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قَالَ فِي مَوْضِعٍ: إنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، قَالَ: يُصَلَّى، وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَمَا تَضُرُّهُ الصَّلَاةُ، لَا بَأْسَ بِهِ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَجْوَدُ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ أَجْزَأَ. فَكَأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ، لَا فِي وُجُوبِهَا، إحْدَاهُمَا يُسْتَحَبُّ؛ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» . وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ مَعَ إمْكَانِ غُسْلِهِ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ مَنْ لَمْ يُغَسَّلْ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ مَخْصُوصٌ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ، وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْقَبْرِ أَصْلًا، وَنَحْنُ لَا نُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ شُعْبَةُ رِوَايَةَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ: إنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ يُكَلِّمُنِي فِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمْ فِي الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَكَيْفَ لَا أَتَكَلَّمُ فِيهِ وَهُوَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْغُسْلُ مِنْ إزَالَةِ أَثَرِ الْعِبَادَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: أَمَّا الْأَثَرَانِ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْمَيِّتَ لَا فِعْلَ لَهُ، فَأُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لِنُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَمَنْ لَمْ تَجِبْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ، كَالْحَيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ فِي الْمَعْرَكَةِ يَكْثُرُونَ، فَيَشُقُّ غُسْلُهُمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ الْجِرَاحُ فَيَتَضَرَّرُونَ، فَعُفِيَ عَنْ غُسْلِهِمْ لِذَلِكَ. وَأَمَّا سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ كَوْنَهُمْ أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمَوْتَى. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ لِغِنَاهُمْ عَنْ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ الشَّهِيدَ يُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَفِيعٍ، وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلشَّفَاعَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا] (1629) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا غُسِّلَ، وَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهَدَاءِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُغَسَّلُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَأْنُ حَنْظَلَةَ؟ فَإِنِّي رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ. فَقَالُوا: إنَّهُ جَامَعَ، ثُمَّ سَمِعَ الْهَيْعَةَ فَخَرَجَ إلَى الْقِتَالِ.» رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، فِي " الْمَغَازِي ". وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الْمَوْتِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَحَدِيثُهُمْ لَا عُمُومَ لَهُ، فَإِنَّهُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ وَرَدَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ فِي حَنْظَلَةَ، وَهُوَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَنْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَوْتِ، كَالْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، ثُمَّ تُقْتَلُ، فَهِيَ كَالْجُنُبِ؛ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَلَوْ قُتِلَتْ فِي حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا، لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطٌ فِي الْغُسْلِ، أَوْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ. فَأَمَّا إنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أُصَيْرِمَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَسْلَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلَ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِغُسْلِهِ. [فَصْل الْبَالِغُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي غَسَلَ الشَّهِيد] (1630) فَصْلٌ: وَالْبَالِغُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وَلَنَا، أَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِهِمْ، أَشْبَهَ الْبَالِغَ، وَلِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْبَالِغَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْغُسْلِ إذَا لَمْ يَقْتُلْهُ الْمُشْرِكُونَ، فَيُشْبِهُهُ فِي سُقُوطِ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ، وَهُمَا صَغِيرَانِ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالنِّسَاءِ. [مَسْأَلَةٌ الشَّهِيد يَدْفِنَ فِي ثِيَابِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجُلُودِ وَالسِّلَاحِ نُحِّيَ عَنْهُ] (1631) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَدُفِنَ فِي ثِيَابِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجُلُودِ وَالسِّلَاحِ نُحِّيَ عَنْهُ) أَمَّا دَفْنُهُ بِثِيَابِهِ، فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَهُوَ ثَابِتٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ، بِدِمَائِهِمْ.» وَلَيْسَ هَذَا بِحَتْمٍ، لَكِنَّهُ الْأَوْلَى. وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، «أَنَّ صَفِيَّةَ أَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَيْنِ؛ لِيُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ، فَكَفَّنَهُ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَفَّنَ فِي الْآخَرِ رَجُلًا آخَرَ.» رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، وَقَالَ: هُوَ صَالِحُ الْإِسْنَادِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ مِنْ لِبَاسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَامَّةِ لِبَاسِ النَّاسِ، مِنْ الْجُلُودِ وَالْفِرَاءِ وَالْحَدِيدِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ فَرْوٌ، وَلَا خُفٌّ، وَلَا جِلْدٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُنْزَعُ عَنْهُ فَرْوٌ وَلَا خُفٌّ وَلَا مَحْشُوٌّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ.» وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَمَا رَوَيْنَاهُ أَخَصُّ، فَكَانَ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ الشَّهِيد إنْ حُمِلَ وَبِهِ رَمَقٌ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ] (1632) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ حُمِلَ وَبِهِ رَمَقٌ غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) مَعْنَى قَوْلِهِ: " رَمَقٌ " أَيْ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ. فَهَذَا يُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غَسَّلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَانَ شَهِيدًا، رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِسَهْمٍ، فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَحُمِلَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَلَبِثَ فِيهِ أَيَّامًا، حَتَّى حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ انْفَتَحَ جُرْحُهُ فَمَاتَ» . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ مَتَى طَالَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ حَمْلِهِ غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ، أَوْ عَقِبَ حَمْلِهِ، لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ: إنْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ بَقِيَ يَوْمَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 أَوْ ثَلَاثَةً، غُسِّلَ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ: إنْ تَكَلَّمَ، أَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، صُلِّيَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَجْرُوحِ إذَا بَقِيَ فِي الْمُعْتَرَكِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ مَاتَ، فَرَأَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ مَاتَ حَالَ الْحَرْبِ، لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالصَّحِيحُ: التَّحْدِيدُ بِطُولِ الْفَصْلِ، أَوْ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَطُولُ الْفَصْلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِع. وَأَمَّا الْكَلَامُ وَالشُّرْبُ، وَحَالَةُ الْحَرْبِ، فَلَا يَصِحُّ التَّحْدِيدُ بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا، بِهِ رَمَقٌ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ فِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ قَالَ: فَأَنَا فِي الْأَمْوَاتِ، فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِّي السَّلَامَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ أَنْ مَاتَ» . وَرُوِيَ أَنَّ أُصَيْرِمَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وُجِدَ صَرِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: أَسْلَمْت، ثُمَّ جِئْت. وَهُمَا مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، دَخَلَا فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ» . وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَكَلَّمَا، وَمَاتَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ. وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَافَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدَ أَبَا عَقِيلٍ الْأُنَيْفِيَّ قَالَ: فَسَقَيْته مَاءً، وَبِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُرْحًا، كُلُّهَا قَدْ خَلَصَ إلَى مَقْتَلٍ، فَخَرَجَ الْمَاءُ مِنْ جِرَاحَاتِهِ كُلِّهَا، فَلَمْ يُغَسَّل. . وَفِي فُتُوحِ الشَّامِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَخَذْت مَاءً لِعَلِيٍّ أَسْقِي ابْنَ عَمِّي إنْ وَجَدْت بِهِ حَيَاةً، فَوَجَدْت الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ فَأَرَدْت أَنْ أَسْقِيَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَأَوْمَأَ لِي أَنْ أَسْقِيَهُ، فَذَهَبْت إلَيْهِ لِأَسْقِيَهُ، فَإِذَا آخَرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَأَوْمَأَ لِي أَنْ أَسْقِيَهُ، فَلَمْ أَصِلْ إلَيْهِ حَتَّى مَاتُوا كُلُّهُمْ، وَلَمْ يُفْرَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِغُسْلٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَقَدْ مَاتُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ. (1633) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ بِأَيْدِي الْعَدُوِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِغَيْرِ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ «رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَغَرْنَا عَلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَطَلَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ، فَأَصَابَ نَفْسَهُ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخُوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ. فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ، فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشَهِيدٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ.» وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَهَبَ يُسْفِلُ لَهُ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ. فَلَمْ يُفْرَدْ عَنْ الشُّهَدَاءِ بِحُكْمٍ. وَلِأَنَّهُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ، وَبِهَذَا فَارَقَ، مَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، فَأَمَّا إنْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ: «ادْفِنُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ» . فَإِذَا كَانَ بِهِ كَلْمٌ لَمْ يُغَسَّلْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الَّذِي يُوجَدُ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُغَسَّلُ بِحَالٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْغُسْلِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مَقْرُونٌ بِمَنْ كُلِمَ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ. [فَصْلٌ حُكْم غَسَلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعْرَكَةِ] (1634) فَصْلٌ: وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَحُكْمُهُ فِي الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، حُكْمُ مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ، وَعَمَّارٌ أَوْصَى أَنْ لَا يُغَسَّلَ، وَقَالَ: ادْفِنُونِي فِي ثِيَابِي، فَإِنِّي مُخَاصِمٌ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ أَوْصَى أَصْحَابُ الْجَمَلِ: إنَّا مُسْتَشْهِدُونَ غَدًا، فَلَا تَنْزِعُوا عَنَّا ثَوْبًا، وَلَا تَغْسِلُوا عَنَّا دَمًا. وَلِأَنَّهُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ، أَشْبَهَ قَتِيلَ الْكُفَّارِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُغَسَّلُونَ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ غَسَّلَتْ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ، فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا، وَلَيْسَ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ. وَأَمَّا الْبَاغِي، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، غُسِّلَ، وَكُفِّنَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِأَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا غُسْلُ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلِأَنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي الْمُعْتَرَكِ، فَيَشُقُّ غُسْلُهُمْ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْعَدْلِ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّنَا شَبَّهْنَاهُمْ بِشُهَدَاءِ مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْغُسْلِ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى عَلَيْهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 [فَصْلٌ حُكْم غَسَلَ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا أَوْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ] (1635) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا، أَوْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُغَسَّلُ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّ رُتْبَتَهُ دُونَ رُتْبَةِ الشَّهِيدِ فِي الْمُعْتَرَكِ، فَأَشْبَهَ الْمَبْطُونَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَكْثُرُ الْقَتْلُ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ بِشُهَدَاءِ الْمُعْتَرَكِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ فِي الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا، أَشْبَهَ شَهِيدَ الْمُعْتَرَكِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.» [فَصْلٌ حُكْم غَسَلَ الشَّهِيدُ بِغَيْرِ قَتْلٍ كَالْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ] (1636) فَصْلٌ: فَأَمَّا الشَّهِيدُ بِغَيْرِ قَتْلٍ، كَالْمَبْطُونِ، وَالْمَطْعُونِ، وَالْغَرِقِ، وَصَاحِبِ الْهَدْمِ، وَالنُّفَسَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ الْحَسَنِ: لَا يُصَلَّى عَلَى النُّفَسَاءِ؛ لِأَنَّهَا شَهِيدَةٌ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَصَلَّى عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهُوَ شَهِيدٌ» . وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُمَا شَهِيدَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ.» وَزَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: " صَاحِبُ الْحَرِيقِ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدَةٌ ". وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ غُسْلَ الشَّهِيدِ فِي الْمَعْرَكَةِ؛ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إزَالَةِ الدَّمِ الْمُسْتَطَابِ شَرْعًا، أَوْ لِمَشَقَّةِ غُسْلِهِمْ، لِكَثْرَتِهِمْ، أَوْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجِرَاحِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هَاهُنَا. [فَصْلٌ إنْ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ صَلَّى عَلَى جَمِيعِهِمْ] (1637) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يُمَيَّزُوا، صَلَّى عَلَى جَمِيعِهِمْ يَنْوِي الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَحْمَدُ: وَيَجْعَلُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ، صَلَّى عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَكْثَرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ دَارَ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ؛ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَعَكْسُهَا دَارُ الْحَرْبِ، لِكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنْ الْكُفَّارِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَوَجَبَ، كَمَا لَوْ كَانُوا أَكْثَرَ، وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقْصِدَ بِصَلَاتِهِ وَدُعَائِهِ الْأَكْثَرَ، جَازَ قَصْدُ الْأَقَلِّ، وَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ بِمَا إذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتٍ، ثَبَتَ الْحُكْمُ لِلْأَقَلِّ، دُونَ الْأَكْثَرِ. [فَصْلٌ وُجِدَ مَيِّتٌ لَمْ يُعْلَمْ أَمُسْلِمٌ هُوَ أُمّ كَافِرٌ] (1638) فَصْلٌ: وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتٌ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ، نُظِرَ إلَى الْعَلَامَاتِ، مِنْ الْخِتَانِ، وَالثِّيَابِ، وَالْخِضَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ، وَكَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْكُفْرِ، لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمْ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ. [مَسْأَلَةٌ الْمُحْرِمُ يُغَسَّلُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ] (1639) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُحْرِمُ يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُقَرَّبُ طِيبًا، وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَلَا رِجْلَاهُ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ إحْرَامِهِ بِمَوْتِهِ، فَلِذَلِكَ جُنِّبَ مَا يُجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الطِّيبِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَلُبْسِ الْمَخِيطِ، وَقَطْعِ الشَّعْرِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ إحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ، وَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَبَطَلَتْ بِالْمَوْتِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبَّدًا.» وَفِي رِوَايَةٍ " مُلَبِّيًا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. قُلْنَا: حُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَاحِدٍ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهِ، إلَّا أَنْ يَرِدَ تَخْصِيصُهُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي سَائِرِ الشُّهَدَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ.» قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَمْسُ سُنَنٍ؛ كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، أَيْ يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ. وَأَنْ يَكُونَ فِي الْغَسَلَاتِ كُلِّهَا سِدْرٌ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، وَيَكُون الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ: يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا، وَلَا يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ. وَإِنَّمَا كُرِهَ عَرْكُ رَأْسِهِ، وَمَوَاضِعِ الشَّعْرِ، كَيْ لَا يَتَقَطَّعَ شَعْرُهُ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي تَغْطِيَةِ رِجْلَيْهِ، فَرَوَى حَنْبَلٌ عَنْهُ: لَا تُغَطَّى رِجْلَاهُ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: لَا أَعْرِفُ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ حَنْبَلٍ، وَهُوَ عِنْدِي وَهْمٌ مِنْ حَنْبَلٍ، وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُغَطَّى جَمِيعُ الْمُحْرِمِ، إلَّا رَأْسَهُ، لِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ رِجْلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَلِكَ فِي مَمَاتِهِ. وَاخْتَلَفُوا عَنْ أَحْمَدَ فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ، فَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: لَا يُغَطَّى وَجْهُهُ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ» . وَنَقَلَ عَنْهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ: لَا بَأْسَ بِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْمَنْعُ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ فِي الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ أَوْلَى، وَلَمْ يَرَ أَنْ يُلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا لَا يَلْبَسهُ فِي حَيَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً مُحْرِمَةً، أُلْبِسَتْ الْقَمِيصَ، وَخُمِّرَتْ، كَمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهَا، وَلَمْ تَقْرَبْ طِيبًا؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا. [مَسْأَلَةٌ إنْ سَقَطَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ غُسِّلَ وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ] (1640) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ سَقَطَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ غُسِّلَ، وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا بَانَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، غُسِّلَ، وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ. قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا غَسَّلَتْ ابْنَهَا، فَكَانَتْ تَنْزِعُهُ أَعْضَاءً، كُلَّمَا غَسَّلَتْ عُضْوًا طَيَّبَتْهُ، وَجَعَلَتْهُ فِي كَفَنِهِ. وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعَ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا. [فَصْل إنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بَعْضُ الْمَيِّتِ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ] (1641) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بَعْضُ الْمَيِّتِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجَوَارِحِ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَلَعَلَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْأَعْضَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: إنْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ بَعْضٌ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ، فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، كَاَلَّذِي بَانَ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ، كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ أَحْمَدُ: صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ. رَوَاهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَلْقَى طَائِرٌ يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا أَهْلُ مَكَّةَ. وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةٍ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْأَكْثَرِ، وَفَارَقَ مَا بَانَ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ لَا حَيَاةَ فِيهِ. [فَصْلٌ وُجِدَ جُزْءُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ] (1642) فَصْلٌ: وَإِنْ وُجِدَ الْجُزْءُ بَعْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ، غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إلَى جَانِبِ الْقَبْرِ، أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ وَدُفِنَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ ضَرَرَ نَبْشِ الْمَيِّتِ وَكَشْفِهِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أَجْزَائِهِ. [فَصْلٌ الْمَجْدُورُ وَالْمُحْتَرِقُ وَالْغَرِيقُ إذَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ غَسَلَ] (1643) فَصْلٌ: وَالْمَجْدُورُ، وَالْمُحْتَرِقُ، وَالْغَرِيقُ، إذَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ غُسِّلَ، وَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْغُسْلِ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا، وَلَمْ يُمَسَّ، فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْمَاءِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَيُيَمَّمُ إنْ أَمْكَنَ، كَالْحَيِّ الَّذِي يُؤْذِيه الْمَاءُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لِعَدَمِ الْمَاءِ يُيَمَّمُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، غُسِّلَ مَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ، وَيُيَمَّمُ الْبَاقِي، كَالْحَيِّ سَوَاءً. [فَصْلٌ إنَّ مَاتَ فِي بِئْرٍ ذَات نَفَسٍ] (1644) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ فِي بِئْرٍ ذَاتِ نَفَسٍ، فَأَمْكَنَ مُعَالَجَةُ الْبِئْرِ بِالْأَكْسِيَةِ الْمَبْلُولَةِ تُدَارُ فِي الْبِئْرِ حَتَّى تَجْتَذِبَ بُخَارَهُ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَنْ يُطْلِعُهُ، أَوْ أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ بِكَلَالِيبَ مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ، لَزِمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ غُسْلُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. وَإِذَا شُكَّ فِي زَوَالِ بُخَارِهِ، أُنْزِلَ إلَيْهِ سِرَاجٌ أَوْ نَحْوُهُ، فَإِنْ انْطَفَأَ فَالْبُخَارُ بَاقٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْطَفِئْ فَقَدْ زَالَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَا تَبْقَى النَّارُ إلَّا فِيمَا يَعِيشُ فِيهِ الْحَيَوَانُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِمُثْلَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ إلَى الْبِئْرِ حَاجَةٌ، طُمَّتْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ قَبْرَهُ. وَإِنْ كَانَ طَمُّهَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، أُخْرِجَ بِالْكَلَالِيبِ، سَوَاءٌ أَفْضَى إلَى الْمُثْلَةِ أَوْ لَمْ يُفْضِ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ؛ نَفْعِ الْمَارَّةِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُثْلَةُ فِي بَقَائِهِ أَعْظَمَ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ وَيُنْتِنُ. فَإِنْ نَزَلَ عَلَى الْبِئْرِ قَوْمٌ، فَاحْتَاجُوا إلَى الْمَاءِ، وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَهُمْ إخْرَاجُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ حَصَلَتْ مُثْلَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ تَلَفِ نُفُوسِ الْأَحْيَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْ السُّتْرَةِ إلَّا كَفَنَ الْمَيِّتِ، وَاضْطُرَّ الْحَيُّ إلَيْهِ، قُدِّمَ الْحَيُّ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ، وَحِفْظَ نَفْسِهِ، أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْمَيِّت عَنْ الْمُثْلَةِ. لِأَنَّ زَوَالَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ بَلَعَ مَالَ غَيْرِهِ شُقَّ بَطْنُهُ لِحِفْظِ مَالِ الْحَيِّ، وَحِفْظُ النَّفْسِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْمَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إنْ كَانَ شَارِبُ الْمَيِّت طَوِيلًا أُخِذَ وَجُعِلَ مَعَهُ] (1645) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ شَارِبُهُ طَوِيلًا أُخِذَ، وَجُعِلَ مَعَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ طَوِيلًا اُسْتُحِبَّ قَصُّهُ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمْ يُسْتَحَبَّ، كَالْخِتَانِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ كَالْقَوْلَيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ» . وَالْعَرُوسُ يُحَسَّنُ، وَيُزَالُ عَنْهُ مَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُقَبِّحُ مَنْظَرَهُ، فَشُرِعَتْ إزَالَتُهُ، كَفَتْحِ عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ شُرِعَ مَا يُزِيلُهُ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَسْنُونٌ فِي الْحَيَاةِ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَشُرِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَالِاغْتِسَالِ. وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِتَانُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ. فَإِذَا أُخِذَ الشَّعْرُ جُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَيِّتِ، فَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهُ فِي أَكْفَانِهِ كَأَعْضَائِهِ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ الْمَيِّتِ مِنْ شَعْرٍ أَوْ ظُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُجْعَلُ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ كَذَلِكَ. (1646) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَظْفَارُ إذَا طَالَتْ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تُقَلَّمُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ، وَيُنَقَّى وَسَخُهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: وَالْخِلَالُ يُسْتَعْمَلُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ. وَالْخِلَالُ يُزَالُ بِهِ مَا تَحْتَ الْأَظْفَارِ؛ لِأَنَّ الظُّفْرَ لَا يَظْهَرُ كَظُهُورِ الشَّارِبِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَصِّهِ. وَالثَّانِيَةُ، يُقَصُّ إذَا كَانَ فَاحِشًا. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَيُشْرَعُ أَخْذُهُ كَالشَّارِبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فَاحِشَةً. وَأَمَّا الْعَانَةُ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ؛ لِتَرْكِهِ ذِكْرَهَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَمَالِكٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهَا إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَلَمْسِهَا، وَهَتْكِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يُفْعَلُ لِغَيْرِ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ الْعَوْرَةَ مَسْتُورَةٌ يُسْتَغْنَى بِسَتْرِهَا عَنْ إزَالَتِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَخْذَهَا مَسْنُونٌ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ جَزَّ عَانَةَ مَيِّتٍ. وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ إزَالَتُهُ مِنْ السُّنَّةِ، فَأَشْبَهَ الشَّارِبَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُفَارِقُ الشَّارِبُ الْعَانَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يُتَفَاحَشُ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَلَا مَسِّهَا. فَإِذَا قُلْنَا بِأَخْذِهَا، فَإِنَّ حَنْبَلًا رَوَى أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ: تَرَى أَنْ تُسْتَعْمَلَ النُّورَةُ؟ قَالَ: الْمُوسَى، أَوْ مِقْرَاضٌ يُؤْخَذُ بِهِ الشَّعْرُ مِنْ عَانَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تُزَالُ بِالنُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ، وَلَا يَمَسُّهَا. وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِعْلُ سَعْدٍ، وَالنُّورَةُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تُتْلِفَ جِلْدَ الْمَيِّتِ. (1647) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْخِتَانُ فَلَا يُشْرَعُ؛ لِأَنَّهُ إبَانَةُ جُزْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُخْتَنُ. حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يُحْلَقُ رَأْسُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِزِينَةِ أَوْ نُسُكٍ، وَلَا يُطْلَبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَاهُنَا. [فَصْلٌ جُبِرَ عَظْمُهُ بِعَظْمِ فَجَبَرَ ثُمَّ مَاتَ] (1648) فَصْلٌ: وَإِنْ جُبِرَ عَظْمُهُ بِعَظْمٍ فَجَبَرَ، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يُنْزَعْ إنْ كَانَ طَاهِرًا. وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَأَمْكَنَ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ أُزِيلَ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ مَقْدُورٌ عَلَى إزَالَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ. وَإِنْ أَفْضَى إلَى الْمُثْلَةِ لَمْ يُقْلَعْ، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ جَبِيرَةٌ يُفْضِي نَزْعُهَا إلَى مُثْلَةٍ، مُسِحَتْ كَمَسْحِ جَبِيرَةِ الْحَيِّ. وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إلَى مُثْلَةٍ، نُزِعَتْ فَغُسِلَ مَا تَحْتَهَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الْمَيِّتِ تَكُونُ أَسْنَانُهُ مَرْبُوطَةً بِذَهَبٍ: إنْ قَدَرَ عَلَى نَزْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ نَزَعَهُ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُهَا تَرَكَهُ. (1649) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ مُشَنَّجًا، أَوْ بِهِ حُدْبٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمْكَنَ تَمْدِيدُهُ بِالتَّلْيِينِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ، فُعِلَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِعُنْفٍ، تَرَكَهُ بِحَالِهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ عَلَى النَّعْشِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَشْتَهِرُ بِالْمُثْلَةِ، تُرِكَ فِي تَابُوتٍ، أَوْ تَحْتَ مُكِبَّةٍ، مِثْلُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهُ، وَأَسْتَرُ لِحَالِهِ. (1650) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتْرَكَ فَوْقَ سَرِيرِ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الْخَشَبِ أَوْ الْجَرِيدِ، مِثْلُ الْقُبَّةِ، يُتْرَكُ فَوْقَهُ ثَوْبٌ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوَّلُ مَنْ صُنِعَ لَهَا ذَلِكَ بِأَمْرِهَا. [مَسْأَلَةٌ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ] (1651) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، إلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَالَ: لَا تُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ بَعْدَ الدَّفْنِ؛ لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْن عَمْرو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَزَّى ثَكْلَى، كُسِيَ بُرْدًا فِي الْجَنَّةِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّعْزِيَةِ تَسْلِيَةُ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ، وَقَضَاءُ حُقُوقِهِمْ، وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِمْ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا بَعْدَ الدَّفْنِ كَالْحَاجَةِ إلَيْهَا قَبْلَهُ. [فَصْل تَعْزِيَةُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ كِبَارِهِمْ وَصِغَارِهِمْ] (1652) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ، كِبَارِهِمْ وَصِغَارِهِمْ، وَيَخُصُّ خِيَارَهُمْ، وَالْمَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ لِيَسْتَنَّ بِهِ غَيْرُهُ، وَذَا الضَّعْفِ مِنْهُمْ عَنْ تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ، لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَلَا يُعَزِّي الرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ شَوَابَّ النِّسَاءِ؛ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ. [فَصْلٌ لَا نَعْلَمُ فِي التَّعْزِيَةِ شَيْئًا مَحْدُودًا] (1653) فَصْلٌ: وَلَا نَعْلَمُ فِي التَّعْزِيَةِ شَيْئًا مَحْدُودًا، إلَّا أَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَزَّى رَجُلًا، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ وَآجَرَكَ.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَزَّى أَحْمَدُ أَبَا طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا عَزَّى مُسْلِمًا بِمُسْلِمٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَنَ عَزَاك، وَرَحِمَ اللَّهُ مَيِّتَك. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَتْ التَّعْزِيَةُ، سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ.» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَإِنْ عَزَّى مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَنَ عَزَاءَك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 [فَصْلٌ تَعْزِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ] (1654) فَصْلٌ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَنْ تَعْزِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهِيَ تُخَرَّجُ عَلَى عِيَادَتِهِمْ، وَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا نَعُودُهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا نُعَزِّيهِمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ» . وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَالثَّانِيَةُ، نَعُودُهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَى غُلَامًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ. فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَعَلَى هَذَا نُعَزِّيهِمْ فَنَقُولُ فِي تَعْزِيَتِهِمْ بِمُسْلِمٍ: أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَك، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك. وَعَنْ كَافِرٍ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك، وَلَا نَقَصَ عَدَدَك. وَيَقْصِدُ زِيَادَةَ عَدَدِهِمْ لِتَكْثُرَ جِزْيَتُهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، يَقُولُ: أَعْطَاك اللَّهُ عَلَى مُصِيبَتِك أَفْضَلَ مَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ دِينِك. فَأَمَّا الرَّدُّ مِنْ الْمُعَزَّى، فَبَلَغَنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يُعَزِّي فِي عَبْثَرٍ ابْنِ عَمِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاك، وَرَحِمَنَا وَإِيَّاكَ. [فَصْلٌ الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ] (1655) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ الِاجْتِمَاعُ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَهْيِيجًا لِلْحُزْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ التَّعْزِيَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ، إلَّا لِمَنْ لَمْ يُعَزِّ، فَيُعَزِّي إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ. وَقَالَ: إنْ شِئْت أَخَذْت بِيَدِ الرَّجُلِ فِي التَّعْزِيَةِ، وَإِنْ شِئْت لَمْ تَأْخُذْ. وَإِذَا رَأَى الرَّجُلَ قَدْ شَقَّ ثَوْبَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ عَزَّاهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ حَقًّا لِبَاطِلٍ، وَإِنْ نَهَاهُ فَحَسَنٌ. [مَسْأَلَةٌ الْبُكَاءُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَدْبٌ وَلَا نِيَاحَةٌ] (1656) مَسْأَلَةٌ؛ (قَالَ: وَالْبُكَاءُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَدْبٌ وَلَا نِيَاحَةٌ) أَمَّا الْبُكَاءُ بِمُجَرَّدِهِ فَلَا يُكْرَهُ فِي حَالٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ الرُّوحُ، وَيُكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ يَعُودُهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: غُلِبْنَا عَلَيْك أَبَا الرَّبِيعِ. فَصَاحَ النِّسْوَةُ، وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِينَ بَاكِيَةٌ.» يَعْنِي إذَا مَاتَ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ» . «وَقَبَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَعَيْنَاهُ تُهْرَاقَانِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتَذْرِفَانِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وَقَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى. وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. وَرَوَى الْأُمَوِيُّ، فِي " الْمَغَازِي "، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا مَاتَ، جَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْتَحِبَانِ، حَتَّى اخْتَلَطَتْ عَلَيَّ أَصْوَاتُهُمَا. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَهُوَ فِي غَاشِيَتِهِ، فَبَكَى، وَبَكَى أَصْحَابُهُ، وَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ. أَوْ يَرْحَمُ.» وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ. ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: إنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالنَّدْبِ وَشِبْهِهِمَا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ ابْنَهُ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَتَبْكِي؟ أَوْ لَمْ تَكُنْ نَهَيْت عَنْ الْبُكَاءِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ؛ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَخَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ مُطْلَقِ الْبُكَاءِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا عَلَى نِسَاءِ بَنِي الْمُغِيرَة أَنْ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: اللَّقْلَقَةُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ. [فَصْل النَّدْبُ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ] (1657) فَصْلٌ: وَأَمَّا النَّدْبُ فَهُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَمَا يَلْقَوْنَ بِفَقْدِهِ بِلَفْظِ النِّدَاءِ؛ إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ بِالْوَاوِ مَكَانَ الْيَاءِ، وَرُبَّمَا زِيدَتْ فِيهِ الْأَلْفُ وَالْهَاءُ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: وَارَجُلَاه وَاجَبَلَاه، وَانْقِطَاعُ ظَهْرَاهُ. وَأَشْبَاهُ هَذَا. وَالنِّيَاحَةُ، وَخَمْشُ الْوُجُوهِ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، وَضَرْبُ الْخُدُودِ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ مَكْرُوهٌ. وَنَقَلَ حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامًا فِيهِ احْتِمَالُ إبَاحَةِ النَّوْحِ وَالنَّدْبِ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ، وَأَبَا وَائِلٍ، كَانَا يَسْتَمِعَانِ النَّوْحَ وَيَبْكِيَانِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا ذَكَرَتْ الْمَرْأَةُ مِثْلَ مَا حُكِيَ عَنْ فَاطِمَةَ، فِي مِثْلِ الدُّعَاءِ، لَا يَكُونُ مِثْلَ النَّوْحِ. يَعْنِي لَا بَأْسَ بِهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، إلَى جِبْرِيلَ أَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَتْهَا عَلَى عَيْنِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 مَاذَا عَلَى مُشْتَمِّ تُرْبَةِ أَحْمَدَ ... أَنْ لَا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مُصِيبَةٌ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ النَّوْحِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَة؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] . قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ النَّوْحُ. «وَلَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» . وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ. وَالصَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا. وَعَنْ ابْن مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالسَّخَطَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ إذَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَقَفَ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي عَتَبَةِ الْبَابِ، وَقَالَ: إنْ كَانَتْ صَيْحَتُكُمْ عَلَيَّ فَإِنِّي مَأْمُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَيِّتِكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى رَبِّكُمْ فَالْوَيْلُ لَكُمْ وَالثُّبُورُ، وَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَاتٍ ثُمَّ عَوْدَاتٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَضَرْتُمْ الْمَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» . [فَصْل الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا يُنَاحُ عَلَيْهِ] (1658) فَصْلٌ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا يُنَاحُ عَلَيْهِ» . وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . وَرَوَى ذَلِكَ عُمَرُ وَابْنُهُ، وَالْمُغِيرَةُ، وَهِيَ أَحَادِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَاهَا، فَحَمَلَهَا قَوْمٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا؛ وَقَالُوا: يَتَصَرَّفُ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَاجَبَلَاهْ، وَاسَنَدَاهْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْت؟» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي، وَتَقُولُ: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا. تُعَدِّدُ عَلَيْهِ. فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْت لِي شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 حَمْلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَوَافَقَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرْت ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، وَاَللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . وَقَالَتْ: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاَللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَوَى حَدِيثَهُ، فَمَا قَالَ شَيْئًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى مَنْ كَانَ النَّوْحُ سُنَّتَهُ، وَلَمْ يَنْهَ أَهْلَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى مَنْ أَوْصَى بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ: إذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشِقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ وَقَالَ آخَرُ: مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّهَاتِي بَاكِيًا أَبَدًا ... فَالْيَوْمَ إنِّي أَرَانِي الْيَوْمَ مَقْبُوضًا يُسْمِعْنَنِيهِ فَإِنِّي غَيْرُ سَامِعِهِ ... إذَا جُعِلْت عَلَى الْأَعْنَاقِ مَعْرُوضًا وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْبُكَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْبُكَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ الَّذِي مَعَهُ نَدْبٌ وَنِيَاحَةٌ وَنَحْوُ هَذَا، بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ. [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُصَابِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَزَّى بِعَزَائِهِ] (1659) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْمُصَابِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَعَزَّى بِعَزَائِهِ، وَيَمْتَثِلَ أَمْرَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَيَتَنَجَّزَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الصَّابِرِينَ، حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] . وَرَوَى مُسْلِمٌ، فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا. إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْت كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْلَفَ لِي خَيْرًا مِنْهُ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُحْبِطُ أَجْرَهُ، وَيُسْخِطُ رَبَّهُ، مِمَّا يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ وَالِاسْتِغَاثَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَجُورُ، وَلَهُ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، فَلَا يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» . وَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْمَدُهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَك، وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُصْلِحَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا] (1660) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْلِحَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ، وَلَا يُصْلِحُونَ هُمْ طَعَامًا يُطْعِمُونَ النَّاسَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إصْلَاحُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ، إعَانَةً لَهُمْ، وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِمْ عَنْ إصْلَاحِ طَعَامٍ لَأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: فَمَازَالَتْ السُّنَّةُ فِينَا، حَتَّى تَرَكَهَا مَنْ تَرَكَهَا. فَأَمَّا صُنْعُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا لِلنَّاسِ، فَمَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُصِيبَتِهِمْ، وَشُغْلًا لَهُمْ إلَى شُغْلِهِمْ، وَتَشَبُّهًا بِصُنْعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ جَرِيرًا وَفَدَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: هَلْ يُنَاحُ عَلَى مَيِّتِكُمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَيَجْعَلُونَ الطَّعَامَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ النَّوْحُ. وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ جَازَ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مَيِّتَهُمْ مِنْ الْقُرَى وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ إلَّا أَنْ يُضَيِّفُوهُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ إذَا مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ يَتَحَرَّك] (1661) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ إذَا مَاتَتْ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ يَتَحَرَّكُ، فَلَا يُشَقُّ بَطْنُهَا، وَيَسْطُو عَلَيْهِ الْقَوَابِلُ، فَيُخْرِجْنَهُ) مَعْنَى " يَسْطُو الْقَوَابِلُ " أَنْ يُدْخِلْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِي فَرْجِهَا، فَيُخْرِجْنَ الْوَلَدَ مِنْ مَخْرَجِهِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشَقُّ بَطْنُ الْمَيِّتَةِ لِإِخْرَاجِ وَلَدِهَا، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، وَتُخْرِجُهُ الْقَوَابِلُ إنْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِحَرَكَةٍ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نِسَاءٌ لَمْ يَسْطُ الرِّجَالُ عَلَيْهِ، وَتُتْرَكُ أُمُّهُ حَتَّى يُتَيَقَّنُ مَوْتُهُ، ثُمَّ تُدْفَنُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشَقَّ بَطْنُ الْأُمِّ، إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْجَنِينَ يَحْيَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْمَيِّتِ لِإِبْقَاءِ حَيٍّ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا، وَلَمْ يُمْكِنْ خُرُوجُ بَقِيَّتِهِ إلَّا بِشَقٍّ، وَلِأَنَّهُ يُشَقُّ لِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْهُ، فَلِإِبْقَاءِ الْحَيِّ أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وَلَنَا، أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ عَادَةً، وَلَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَحْيَا، فَلَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لَأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِيهِ مُثْلَةٌ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ» . وَفَارَقَ الْأَصْلَ؛ فَإِنَّ حَيَاتَهُ مُتَيَقَّنَةٌ، وَبَقَاءَهُ مَظْنُونٌ، فَعَلَى هَذَا إنْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ حَيًّا، وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهُ إلَّا بِشَقٍّ، شُقَّ الْمَحَلُّ، وَأُخْرِجَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ مَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَأَمْكَنَ إخْرَاجُهُ، أُخْرِجَ وَغُسِّلَ. وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ تُرِكَ، وَغُسِّلَتْ الْأُمُّ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ الْوَلَدِ، وَمَا بَقِيَ فَفِي حُكْمِ الْبَاطِنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّيَمُّمِ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَانَ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، فَظَهَرَ الْبَعْضُ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. ذَكَرَ هَذَا ابْنُ عَقِيلٍ. وَقَالَ: هِيَ حَادِثَةٌ سُئِلْت عَنْهَا، فَأَفْتَيْت فِيهَا. [فَصْلٌ بَلَعَ الْمَيِّتُ مَالًا] (1662) فَصْلٌ: وَإِنْ بَلَعَ الْمَيِّتُ مَالًا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ لَمْ يُشَقَّ بَطْنُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسِيرًا تُرِكَ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ، شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ، وَنَفْعَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ لِغَيْرِهِ، وَابْتَلَعَهُ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ كَمَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ فِي إتْلَافِهِ. وَإِنْ بَلَعَهُ غَصْبًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يُشَقُّ بَطْنُهُ، وَيُغَرَّمُ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشَقَّ مِنْ أَجْلِ الْوَلَدِ الْمَرْجُوِّ حَيَاتُهُ، فَمِنْ أَجْلِ الْمَالِ أَوْلَى. وَالثَّانِي، يُشَقُّ إنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ بِرَدِّ مَالِهِ إلَيْهِ، وَعَنْ الْمَيِّتِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، وَعَنْ الْوَرَثَةِ بِحِفْظِ التَّرِكَةِ لَهُمْ. وَيُفَارِقُ الْجَنِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ حَيَاتَهُ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مَا حَصَلَ بِجِنَايَتِهِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إذَا بَلِيَ جَسَدُهُ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ظُهُورُ الْمَالِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وَتَخَلُّصُهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ، جَازَ نَبْشُهُ وَإِخْرَاجُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهَبٍ، إنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ» . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ. وَلَوْ كَانَ فِي أُذُنِ الْمَيِّتِ حَلَقٌ، أَوْ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ أُخِذَ. فَإِنْ صَعُبَ أَخْذُهُ، بُرِدَ، وَأُخِذَ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ. [فَصْلٌ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ] (1663) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ، جَازَ أَنْ يَنْبُشَ عَنْهَا. وَقَالَ فِي الشَّيْءِ يَسْقُطُ فِي الْقَبْرِ، مِثْلُ الْفَأْسِ وَالدَّرَاهِمِ: يُنْبَشُ. قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ. يَعْنِي يُنْبَشُ. قِيلَ: فَإِنْ أَعْطَاهُ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ؟ قَالَ: إنْ أَعْطَوْهُ حَقَّهُ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ طُرِحَ خَاتَمُهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: خَاتَمِي. فَفُتِحَ مَوْضِعٌ مِنْهُ، فَأَخَذَ الْمُغِيرَةُ خَاتَمَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ] (1664) فَصْلٌ: وَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، نُبِشَ، وَغُسِّلَ، وَوُجِّهَ، إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ، فَيُتْرَكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُنْبَشُ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا. وَلَنَا، أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ وَلَا تَسْقُطُ بِذَلِكَ، كَإِخْرَاجِ مَا لَهُ قِيمَةٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ. قُلْنَا: إنَّمَا هُوَ مُثْلَةٌ فِي حَقِّ مَنْ يُقْبَرُ وَلَا يُنْبَشُ. [فَصْلٌ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ] (1665) فَصْلٌ: وَإِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ إنْ صُلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ جَازَ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَلَا يُنْبَشُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ وَلَمْ يَنْبُشْهَا» . وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ دُفِنَ قَبْلَ وَاجِبٍ، فَنُبِشَ، كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا الْمِسْكِينَةُ فَقَدْ كَانَتْ صُلِّيَ عَلَيْهَا، وَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 تَبْقَ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةً، فَلَمْ تُنْبَشْ لِذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ، لَمْ يُنْبَشْ بِحَالٍ. [فَصْلٌ دُفِنَ بِغَيْرِ كَفَنٍ] (1666) فَصْلٌ: وَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ كَفَنٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُتْرَكُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْكَفَنِ سَتْرُهُ، وَقَدْ حَصَلَ سَتْرُهُ بِالتُّرَابِ. وَالثَّانِي، يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ، فَأَشْبَهَ الْغُسْلَ. وَإِنْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا يُنْبَشُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِدُونِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْبَشَ، إذَا كَانَ الْكَفَنُ بَاقِيًا بِحَالِهِ؛ لِيُرَدَّ إلَى مَالِكِهِ عَنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بَالِيًا فَقِيمَتُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ. فَإِنْ دُفِنَ فِي أَرْضِ غَصْبٍ، أَوْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ فِي الْأَرْضِ يَدُومُ ضَرَرُهُ، وَيَكْثُرُ، بِخِلَافِ الْكَفَنِ. وَإِنْ أَذِنَ الْمَالِكُ فِي الدَّفْنِ فِي أَرْضِهِ، ثُمَّ أَرَادَ إخْرَاجَهُ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا. وَإِنْ بَلِيَ الْمَيِّتُ وَعَادَ تُرَابًا، فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَخْذُهَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَجَزْنَا نَبْشَهُ لِحُرْمَةِ مِلْكِ الْآدَمِيِّ، فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ احْتِرَامًا لِلْمَيِّتِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا حَضَرَتْ الْجِنَازَةُ وَصَلَاةُ أُخْرَى] (1667) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَتْ الْجِنَازَةُ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، بُدِئَ بِالْجِنَازَةِ، وَإِذَا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بُدِئَ بِالْمَغْرِبِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى حَضَرَتْ الْجِنَازَةُ وَالْمَكْتُوبَةُ، بُدِئَ بِالْمَكْتُوبَةِ، إلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُمَا وَقْتٌ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ. وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَبْدَأُ بِالْمَكْتُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا أَهَمُّ وَأَيْسَرُ، وَالْجِنَازَةُ يَتَطَاوَلُ أَمْرُهَا، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا، فَإِنْ قَدَّمَ جَمِيعَ أَمْرِهَا عَلَى الْمَكْتُوبَةِ أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِهَا، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ انْتَظَرَ فَرَاغَ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يَعُدْ تَقْدِيمُهَا شَيْئًا، إلَّا فِي الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، فَإِنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا بَعِيدٌ أَنْ يَقَعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ أَوَّلًا. [فَصْلٌ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ] (1668) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ - يَعْنِي عَلَى الْمَيِّتِ - فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَنِصْفِ النَّهَارِ، وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى يَمِيلَ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَى تَتَضَيَّفُ: أَيْ تَجْنَحُ وَتَمِيلُ لِلْغُرُوبِ، مِنْ قَوْلِك: تَضَيَّفْتُ فُلَانًا: إذَا مِلْت إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَى أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا، يَعْنِي الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: الشَّمْسُ عَلَى الْحِيطَانِ مُصْفَرَّةٌ؟ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 مَا لَمْ تُدْلِ لِلْغُرُوبِ. فَلَا. وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّ مُدَّتَهُمَا تَطُولُ، فَيُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ فِيهِمَا، وَيَشُقُّ انْتِظَارُ خُرُوجِهِمَا، بِخِلَافِ هَذِهِ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَيْضًا دَفْنَ الْمَيِّتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ وَالْغَائِبِ، فَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَجْوِيزِهَا عَلَى الْمَيِّتِ مُعَلَّلَةٌ بِالْخَوْفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ هَاهُنَا، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ، وَالْعَمَلِ بِعُمُومِ النَّهْيِ [فَصْلٌ حُكْم الدَّفْنُ لَيْلًا] (1669) فَصْلٌ: فَأَمَّا الدَّفْنُ لَيْلًا، فَقَالَ أَحْمَدُ: وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ. وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ دُفِنَ لَيْلًا، وَعَلِيٌّ دَفَنَ فَاطِمَةَ لَيْلًا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: كُنَّا سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَّاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فِي دَفْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلًا: عُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، فِي " صَحِيحِهِ "، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَدُفِنَ لَيْلًا، فَزَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إلَى ذَلِكَ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إلَيْهِ أَذْهَبُ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: «وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِي قَبْرِ ذِي النِّجَادَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَهُوَ يَقُول: أَدْنِيَا مِنِّي أَخَاكُمَا حَتَّى أُسْنِدَهُ فِي لَحْدِهِ. ثُمَّ قَالَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ، وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَمْسَيْت عَنْهُ رَاضِيًا، فَارْضَ عَنْهُ. وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، قَالَ: فَوَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوَدِدْت أَنِّي مَكَانَهُ، وَلَقَدْ أَسْلَمْت قَبْلَهُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ.» رَوَاهُ الْخَلَّالُ، فِي " جَامِعِهِ ". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا، فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ، فَأَخَذَ مَنْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ: رَحِمَك اللَّهُ، إنْ كُنْت لَأَوَّاهًا، تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَأَلَ عَنْ رَجُلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ. فَصَلَّى عَلَيْهِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْآيَتَيْنِ، فَجَازَ الدَّفْنُ فِيهِ كَالنَّهَارِ، وَحَدِيثُ الزَّجْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّأْدِيبِ؛ فَإِنَّ الدَّفْنَ نَهَارًا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِهَا، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَأَمْكَنُ لِإِتْبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ وَإِلْحَادِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ] (1670) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَا عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ) الْغَالُّ: هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ غَنِيمَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا، لِيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَخْتَصَّ بِهِ. فَهَذَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَلَا عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ مُتَعَمِّدًا. وَيُصَلِّي عَلَيْهِمَا سَائِرُ النَّاسِ. نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: يُصَلِّي الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءُوهُ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّ رَجُلًا انْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيك؟ قَالَ: رَأَيْته يَنْحَرُ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، قَالَ: أَنْتَ رَأَيْته؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إذًا لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ» . وَرَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ، قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ قَالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ» . احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَاخْتَصَّ هَذَا الِامْتِنَاعُ بِالْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْإِمَامَ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ سَاوَاهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكُ صَلَاةِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ سَكَنٌ. قُلْنَا: مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِ دَلِيلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ. قُلْنَا: ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدُ، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَقُولُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ وَفَاءٍ؟ . فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ قَامَ فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَرَكَ دَيْنًا، عَلَيَّ قَضَاؤُهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَرَثَةِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَوْلَا النَّسْخُ كَانَ كَمَسْأَلَتِنَا، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ خَاصَّةٌ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَيْنِ، وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ أَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا مُنَافِيًا لِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. [فَصْلٌ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجَهْمِيَّةَ وَلَا الرَّافِضَةَ] (1671) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَشْهَدُ الْجَهْمِيَّةَ وَلَا الرَّافِضَةَ، وَيَشْهَدُهُ مَنْ شَاءَ، قَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ هَذَا؛ الدَّيْنُ، وَالْغُلُولُ، وَقَاتِلُ نَفْسِهِ. وَقَالَ: لَا يُصَلَّى عَلَى الرَّافِضِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: لَا أُصَلِّي عَلَى رَافِضِيٌّ، وَلَا حَرُورِيٍّ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: مَنْ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ فَهُوَ كَافِرٌ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: لَا تَمَسُّوهُ بِأَيْدِيكُمْ، ارْفَعُوهُ بِالْخَشَبِ حَتَّى تُوَارُوهُ فِي حُفْرَتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْبِدَعِ لَا يُعَادُونَ إنْ مَرِضُوا، وَلَا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ إنْ مَاتُوا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ يُصَلُّونَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرَكَ الصَّلَاةَ بِأَدْوَنَ مِنْ هَذَا، فَأَوْلَى أَنْ نَتْرُكَ الصَّلَاةَ بِهِ» ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسًا، وَإِنَّ مَجُوسَ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ، فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. [فَصْلٌ لَا يُصَلَّى عَلَى أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ] (1672) فَصْلٌ: وَلَا يُصَلَّى عَلَى أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حُكْمَ آبَائِهِمْ، إلَّا مَنْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ، مِثْل أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 أَبَوَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ، أَوْ يُسْبَى مُنْفَرِدًا مِنْ أَبَوَيْهِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ مَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، حَتَّى يَخْتَارَ الْإِسْلَامَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سُبِيَ مُنْفَرِدًا مِنْهُمَا. [فَصْلٌ يُصَلَّى عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْمَرْجُومِ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِمْ] (1673) فَصْلٌ: وَيُصَلَّى عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَالْمَرْجُومِ فِي الزِّنَا، وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى بِصَلَاتِنَا، نُصَلِّي عَلَيْهِ وَنَدْفِنُهُ. وَيُصَلَّى عَلَى وَلَدِ الزِّنَا، وَالزَّانِيَةِ، وَاَلَّذِي يُقَادُ مِنْهُ بِالْقِصَاصِ، أَوْ يُقْتَلُ فِي حَدٍّ. وَسُئِلَ عَمَّنْ لَا يُعْطِي زَكَاةَ مَالِهِ، فَقَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ، مَا يُعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ، إلَّا عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَالْغَالِّ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، قَالَ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ، وَلَا الْمُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَنُوا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَشْبَهُوا أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ؛ لِأَنَّ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ قَالَ: «لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي شُمَيْلَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى قُبَاءَ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، يَحْمِلُونَ جِنَازَةً عَلَى بَابٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَمْلُوكٌ لِآلِ فُلَانٍ. قَالَ: أَكَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ وَكَانَ. فَقَالَ: أَكَانَ يُصَلِّي؟ قَالُوا: قَدْ كَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُ. فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا بِهِ، فَغَسِّلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ، وَادْفِنُوهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَادَتْ الْمَلَائِكَةُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» . وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِمْ شَفَاعَةٌ، وَلَا يُسْتَجَابُ فِيهِمْ دُعَاءٌ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وَقَالَ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] . وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى مَاعِزٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ لِعُذْرٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وَصَلَّى عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَرْجُمُهَا، وَتُصَلِّي عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» . كَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ. وَرَوَى مَعْمَرٌ، وَهِشَامٌ، عَنْ أَبَانَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا حَضَرَتْ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ] (1674) مَسْأَلَةٌ؛ (قَالَ: وَإِذَا حَضَرَتْ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، جُعِلَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ، وَالصَّبِيُّ خَلْفَهُمَا) لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الرِّجَالِ غَيْرُهُمْ، أَنَّهُ يُجْعَلُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، فَنَقَلَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقَدَّمُ مِمَّا يَلِي الرَّجُل، ثُمَّ يُجْعَلُ الصَّبِيُّ خَلْفَهُمَا مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ شَخْصٌ مُكَلَّفٌ، فَهِيَ أَحْوَجُ إلَى الشَّفَاعَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ وَابْنِهَا، فَجُعِلَ الْغُلَامُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، فَأَنْكَرْت ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْمِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالُوا: هَذِهِ السُّنَّةُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَنَّ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ، وَالنِّسَاءَ يَلِينَ الْقِبْلَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَدَّمُونَ عَلَيْهِنَّ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُونَ عَلَيْهِنَّ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْجَنَائِزِ، كَالرِّجَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ، فَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَهَا مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ ابْنَهَا مِمَّا يَلِيهِ. كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَعَمَّارٌ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ. وَأَخْرَجَهُ كَذَلِكَ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُهُ قَالَ: شَهِدْت جِنَازَةَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، فَقُدِّمَ الصَّبِيُّ مِمَّا يَلِي الْقَوْمَ، وَوُضِعَتْ الْمَرْأَةُ وَرَاءَهُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فَقُلْنَا لَهُمْ، فَقَالُوا: السُّنَّةُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ عُمَرَ هُوَ ابْنُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ، الَّذِي صُلِّيَ عَلَيْهِ مَعَهَا، وَكَانَ رَجُلًا لَهُ أَوْلَادٌ. كَذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ. وَلَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ زَيْدًا ضُرِبَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ عَدِيٍّ فِي خِلَافَةِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ فَصُرِعَ وَحُمِلَ، وَمَاتَ، وَالْتَفَّتْ صَارِخَتَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا رَجُلًا. (1675) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ الْخُنْثَى عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهَا، وَلَا فِي تَقْدِيمِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِشَرَفِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَلَا فِي تَقْدِيمِ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ كَذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، يُجْعَلُ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالْمَرْأَةُ أَمَامَ ذَلِكَ، وَالْكَبِيرُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالصَّغِيرُ أَمَامَ ذَلِكَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وَالْحُرُّ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالْمَمْلُوكُ أَمَامَ ذَلِكَ. فَإِنْ اجْتَمَعَ حُرٌّ صَغِيرٌ وَعَبْدٌ كَبِيرٌ، قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فِي غُلَامٍ حُرٍّ وَشَيْخٍ عَبْدٍ: يُقَدَّمُ الْحُرُّ إلَى الْإِمَامِ. هَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ، وَغَلِطَ مَنْ رَوَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ: الْحُرُّ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالْمَمْلُوكُ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ: يُقَدَّمُ أَكْبَرُهُمَا إلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ أَرَادَ بِهِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَالْكَبِيرُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالصَّغِيرُ أَمَامَ ذَلِكَ. (1676) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانُوا نَوْعًا وَاحِدًا، قُدِّمَ إلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ يَدْفِنُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، وَيُقَدِّمُ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ.» وَلِأَنَّ الْأَفْضَلَ يُقَدَّمُ فِي صَفِّ الْمَكْتُوبَةِ، فَيُقَدَّمُ هَاهُنَا، كَالرِّجَالِ مَعَ الْمَرْأَةِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى.» وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْفَضْلِ، قُدِّمَ الْأَكْبَرُ فَالْأَكْبَرُ. فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ السَّابِقُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقَدَّمُ السَّابِقُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا، وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً؛ لِمَوْضِعِ الذُّكُورِيَّةِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا قَدَّمَ الْإِمَامُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَشَاحَّ الْأَوْلِيَاءُ فِي ذَلِكَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. [فَصْلٌ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِز دَفْعَةً وَاحِدَةً] فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِز، دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ أَفْرَدَ كُلَّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ جَازَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ مَعَ غَيْرِهِ» . وَقَالَ حَنْبَلٌ: صَلَّيْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى جِنَازَةِ امْرَأَةٍ مَنْفُوسَةٍ، فَصَلَّى أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى الْأُمِّ، وَاسْتَأْمَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: صَلِّ عَلَى ابْنَتِهَا الْمَوْلُودَةِ أَيْضًا؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّهُمَا وُضِعَا جَمِيعًا كَانَتْ صَلَاتُهُمَا وَاحِدَةً، تَصِيرُ إذَا كَانَتْ أُنْثَى عَنْ يَمِينِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَكَرًا عَنْ يَسَارِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إفْرَادُ كُلِّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ أَفْضَلُ، مَا لَمْ يُرِيدُوا الْمُبَادَرَةَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِفْرَادِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَالِ السَّلَفِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ دَفْنُ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَبْرِ] (1678) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ دُفِنُوا فِي قَبْرٍ يَكُونُ الرَّجُلُ مَا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ، وَالصَّبِيُّ خَلْفَهُمَا، وَيَجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ حَاجِزًا مِنْ تُرَابٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا دُفِنَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَبْرِ، قُدِّمَ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ، عَلَى حَسَبِ تَقْدِيمِهِمْ إلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءً، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذِهِ؛ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 قَالَ: «شُكِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِرَاحَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ حَاجِزًا مِنْ التُّرَابِ، فَيَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ الْقَبْرِ الْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ حَائِلٌ غَيْرُ حَصِينٍ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ جُعِلَ لَهُمْ شِبْهُ النَّهْرِ، وَجُعِلَ رَأْسُ أَحَدِهِمْ عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ، وَجُعِلَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. أَوْ كَمَا قَالَ. (1679) فَصْلٌ: وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ: أَمَّا فِي مِصْرٍ فَلَا، وَأَمَّا فِي بِلَادِ الرُّومِ فَتَكْثُرُ الْقَتْلَى، فَيَحْفِرُ شِبْهَ النَّهْرِ، رَأْسُ هَذَا عِنْدَ رِجْلِ هَذَا، وَيَجْعَلُ بَيْنهمَا حَاجِزًا، لَا يَلْتَزِقُ وَاحِدٌ بِالْآخَرِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ فِي الْغَالِبِ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَبْرٍ فِي الْمِصْرِ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ غَالِبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِي مَوْضِعِ الْمُعْتَرَكِ. وَإِنْ وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ جَازَ دَفْنُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَأَكْثَرَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، حَيْثُمَا كَانَ مِنْ مِصْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَإِنْ مَاتَ لَهُ أَقَارِبُ بَدَأَ بِمَنْ يَخَافُ تَغَيُّرَهُ، وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ بَدَأَ بِأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ، عَلَى تَرْتِيبِ النَّفَقَاتِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ قَدَّمَ أَنْسَبَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةٌ وَهِيَ حَامِلَة مِنْ مُسْلِمٍ فَأَيْنَ تُدْفَن] (1680) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةٌ، وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ، دُفِنَتْ بَيْنَ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَةِ النَّصَارَى) اخْتَارَ هَذَا أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، لَا تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلَا فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ، وَتُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً. مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهَا الْأَيْسَرِ، لِيَكُونَ وَجْهُ الْجَنِينِ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ إلَى ظَهْرِهَا. [مَسْأَلَةٌ خَلْعُ النِّعَالِ إذَا دَخَلَ الْمَقَابِرَ] (1681) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَخْلَعُ النِّعَالَ إذَا دَخَلَ الْمَقَابِرَ) . هَذَا مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا رَوَى بَشِيرُ ابْنُ الْخَصَاصِيَةِ، قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الْقُبُورِ، عَلَيْهِ نَعْلَانِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْك. فَنَظَرَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا عَرَفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَعَهُمَا، فَرَمَى بِهِمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادُ حَدِيثِ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ جَيِّدٌ، أَذْهَبُ إلَيْهِ، إلَّا مِنْ عِلَّةٍ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا. قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ: رَأَيْت الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ، يَمْشِيَانِ بَيْنَ الْقُبُورِ فِي نِعَالِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَرِهَ لِلرَّجُلِ الْمَشْيَ فِي نَعْلَيْهِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْخُيَلَاءِ، فَإِنَّ نِعَالَ السِّبْتِ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ النَّعِيمِ، قَالَ عَنْتَرَةُ: يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ وَلَنَا، أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَبَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ النَّدْبُ، وَلِأَنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ، وَزِيُّ أَهْلِ التَّوَاضُعِ، وَاحْتِرَامُ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ لَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ هَذَا مِنْهُمْ، وَلَا نِزَاعَ فِي وُقُوعِهِ وَفِعْلِهِمْ إيَّاهُ مَعَ كَرَاهِيَتِهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَاشِيَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ خَلْعِ نَعْلَيْهِ، مِثْلُ الشَّوْكِ يَخَافُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ، أَوْ نَجَاسَةٍ تَمَسُّهُمَا، لَمْ يُكْرَه الْمَشْيُ فِي النَّعْلَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْمَقَابِرَ وَفِيهَا شَوْكٌ يَخْلَعُ نَعْلَيْهِ: هَذَا يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَمْشِيَ الرَّجُلُ فِي الشَّوْكِ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَحَسَنٌ، هُوَ أَحْوَطُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ رَجُلٌ. يَعْنِي لَا بَأْسَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُذْرَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالِاسْتِحْبَابُ أَوْلَى، وَلَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِحْبَابِ نَزْعُ الْخِفَافِ؛ لِأَنَّ نَزْعَهَا يَشُقُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجِنَازَةِ لَبِسَ خُفَّيْهِ، مَعَ أَمْرِهِ بِخَلْعِ النِّعَالِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَتَعَدَّى النِّعَالَ إلَى الشِّمْشِكَاتِ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، فَلَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ. [فَصْلُ الْمَشْيِ عَلَى الْقُبُورِ] (1682) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ عَلَى الْقُبُورِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تُوطَأَ الْقُبُورُ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَمَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ - كَذَا قَالَ - قَضَيْتُ حَاجَتِي، أَوْ وَسْطَ السُّوقِ» . وَلِأَنَّهُ كَرِهَ الْمَشْيَ بَيْنهَا بِالنَّعْلَيْنِ، فَالْمَشْيُ عَلَيْهَا أَوْلَى. [فَصْلُ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا] (1683) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَيْهَا، وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ، تَحْرِقُ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا قَدْ اتَّكَأَ عَلَى قَبْرٍ، فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ.» [مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَزُورَ الرَّجُلُ الْمَقَابِرَ] (1684) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَزُورَ الرَّجُلُ الْمَقَابِرَ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ زِيَارَةِ الرِّجَالِ الْقُبُورَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، تَرْكُهَا أَفْضَلُ عِنْدَك أَوْ زِيَارَتُهَا؟ قَالَ: زِيَارَتُهَا. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ ". (1685) فَصْلٌ: وَإِذَا مَرَّ بِالْقُبُورِ، أَوْ زَارَهَا، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ.» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ» . وَإِنْ أَرَادَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ. كَانَ حَسَنًا. [فَصْلُ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ] (1686) فَصْلٌ: قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا دَخَلْتُمْ الْمَقَابِرَ اقْرَءُوا آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنَّ فَضْلَهُ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ رُجُوعًا أَبَانَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَرَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ أَحْمَدَ نَهَى ضَرِيرًا أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَالَ لَهُ: إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي مُبَشِّرٍ الْحَلَبِيِّ؟ قَالَ: ثِقَةٌ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مُبَشِّرٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ يُقْرَأُ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا، وَقَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يُوصِي بِذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَارْجِعْ فَقُلْ لِلرَّجُلِ يَقْرَأُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَزَّارُ، شَيْخُنَا الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ، قَالَ: رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُصَلِّي خَلْفَ ضَرِيرٍ يَقْرَأُ عَلَى الْقُبُورِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خُفِّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَقَرَأَ عِنْدَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 أَوْ عِنْدَهُمَا يس غُفِرَ لَهُ» . [فَصْلُ أَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ] فَصْلٌ: وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ، نَفَعَهُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ، وَالِاسْتِغْفَارُ، وَالصَّدَقَةُ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إذَا كَانَتْ الْوَاجِبَاتُ مِمَّا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] . «وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي سَلَمَةَ حِينَ مَاتَ» ، وَلِلْمَيِّتِ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَلِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ. وَلِذِي النِّجَادَيْنِ حَتَّى دَفَنَهُ. وَشَرَعَ اللَّهُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ «وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، فَيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. «وَجَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى.» «وَقَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِسَائِرِ الْقُرَبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ أَوْصَلَ اللَّه نَفْعَهَا إلَى الْمَيِّتِ، فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ يس، وَتَخْفِيفِ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْمَقَابِرِ بِقِرَاءَتِهِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَوْ كَانَ أَبُوك مُسْلِمًا، فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ» . وَهَذَا عَامٌ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَطَاعَةٍ، فَوَصَلَ نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ، كَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الْوَاجِبَ وَالصَّدَقَةَ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ، لَا يُفْعَلُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَلَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . وَلِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَتَعَدَّى فَاعِلَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 فَلَا يَتَعَدَّى ثَوَابُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ عِنْدَ الْمَيِّتِ، أَوْ أُهْدِيَ إلَيْهِ ثَوَابُهُ، كَانَ الثَّوَابُ لِقَارِئِهِ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا، فَتُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهُ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَجْتَمِعُونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيُهْدُونَ ثَوَابَهُ إلَى مَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . وَاَللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُوصِلَ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ إلَيْهِ، وَيَحْجُبَ عَنْهُ الْمَثُوبَةَ. وَلِأَنَّ الْمُوصِلَ لِثَوَابِ مَا سَلَّمُوهُ، قَادِرٌ عَلَى إيصَالِ ثَوَابِ مَا مَنَعُوهُ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا سَلَّمُوهُ، وَمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فِي مَعْنَاهُ، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهِ. وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ عَمَلِهِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَا سَلَّمُوهُ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا مَنَعُوهُ، فَيَتَخَصَّصُ بِهِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنْ تَعَدِّيَ الثَّوَابِ لَيْسَ بِفَرْعِ لِتَعَدِّي النَّفْعِ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالصَّوْمِ اوَالْحَجِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ زِيَارَةِ النِّسَاءِ لِلْقُبُورِ] (1688) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 «نُهِينَا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ، وَالنَّهْيُ الْمَنْسُوخُ كَانَ عَامًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ خَاصًّا لِلرِّجَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا كَوْنَ الْخَبَرِ فِي لَعْنِ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، بَعْدَ أَمْرِ الرِّجَالِ بِزِيَارَتِهَا، فَقَدْ دَارَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ. وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَلِيلَةُ الصَّبْرِ، كَثِيرَةُ الْجَزَعِ، وَفِي زِيَارَتِهَا لِلْقَبْرِ تَهْيِيجٌ لِحُزْنِهَا، وَتَجْدِيدٌ لِذِكْرِ مُصَابِهَا، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُفْضِيَ بِهَا ذَلِكَ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا اخْتَصَصْنَ بِالنُّوحِ وَالتَّعْدِيدِ، وَخُصِصْنَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْحَلْقِ وَالصَّلْقِ وَنَحْوِهِمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُكْرَهُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ النَّهْيِ وَنَسْخِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقُلْت لَهَا: قَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَدْ نَهَى، ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا» ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ عَائِشَةَ زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا، وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ شَهِدْته مَا زُرْته. [فَصْلُ يُكْرَهُ النَّعْيُ] (1689) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ النَّعْيُ، وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ: إنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ. لِيَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يُعْلَمَ النَّاسُ بِجَنَائِزِهِمْ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَصْحَابُهُ عَلْقَمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ. قَالَ عَلْقَمَةُ: لَا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ: إذَا أَنَا مِتَّ فَلَا أُنْعَى إلَى أَحَدٍ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَعْلَمَ بِالرَّجُلِ إخْوَانُهُ وَمَعَارِفُهُ وَذَوُو الْفَضْلِ، مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤْذِنَ صَدِيقَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُطَافَ فِي الْمَجَالِسِ: أَنْعِي فُلَانًا. كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي هَذَا؛ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نُعِيَ إلَيْهِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: كَيْفَ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا بِهِ؟ قَالَ: نَحْبِسُهُ حَتَّى نُرْسِلَ إلَى قُبَاءَ، وَإِلَى مِنْ قَدْ بَاتَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ لِيَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ. قَالَ: نَعَمْ مَا رَأَيْتُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الَّذِي دُفِنَ لَيْلًا: أَلَا آذَنْتُمُونِي» . وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 إلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: لَا يَمُوتُ فِيكُمْ أَحَدٌ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ» . أَوْ كَمَا قَالَ. وَلِأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْمُصَلَّيْنَ عَلَيْهِ أَجْرًا لَهُمْ، وَنَفْعًا لِلْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْهُمْ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ. وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَوْجَبَ» ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَالْتَفَتَ فَقَالَ: اسْتَوُوا. وَلْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ، أَلَا وَإِنَّهُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلِيطٍ، عَنْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ مَيْمُونَةُ، وَكَانَ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» . فَسَأَلْت أَبَا الْمَلِيحِ عَنْ الْأُمَّةِ؟ فَقَالَ: أَرْبَعُونَ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 [كِتَابُ الزَّكَاةِ] [فَصْلٌ أَنْكَرَ وُجُوبَ الزَّكَاة جَهْلًا بِهِ] قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: الزَّكَاةُ مِنْ الزَّكَاءِ وَالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُثْمِرُ الْمَالَ وَتُنَمِّيه. يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ، إذَا كَثُرَ رَيْعُهُ. وَزَكَّتْ النَّفَقَةُ، إذَا بُورِكَ فِيهَا. وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ حَقٌّ يَجِبُ فِي الْمَالِ، فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهَا فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ. وَالزَّكَاةُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرَةٍ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُوبهَا، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مِنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ؟» فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: " لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعِقَالُ، صَدَقَةُ الْعَامِ. قَالَ الشَّاعِرُ: سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرو عِقَالَيْنِ وَقِيلَ: كَانُوا إذَا أَخَذُوا الْفَرِيضَةَ أَخَذُوا مَعَهَا عِقَالَهَا. وَمِنْ رَوَاهُ " عَنَاقًا " فَفِي رِوَايَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَخْذِ الصَّغِيرَةِ مِنْ الصِّغَارِ. (1690) فَصْلٌ: فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهَا جَهْلًا بِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ إمَّا لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَشَأَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا، وَلَا يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى أَحَدِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِذَا جَحَدَهَا لَا يَكُونُ إلَّا لِتَكْذِيبِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَكُفْرِهِ بِهِمَا. [فَصْلُ مَنْعِ الزَّكَاةِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا] (1691) فَصْلٌ: وَإِنْ مَنَعَهَا مُعْتَقِدًا وُجُوبَهَا، وَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، أَخَذَهَا وَعَزَّرَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ زِيَادَةً عَلَيْهَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ. وَكَذَلِكَ إنَّ غَلَّ مَالَهُ فَكَتَمَهُ حَتَّى لَا يَأْخُذَ الْإِمَامُ زَكَاتَهُ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَأْخُذُهَا وَشَطْرَ مَالِهِ؛ لِمَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ الْإِبِلِ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ أَبَاهَا فَإِنِّي آخُذْهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» وَذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَحْمَدَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ؟ وَسُئِلَ عَنْ إسْنَادِهِ، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَالِحُ الْإِسْنَادِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، فِي " سُنَنِهِمَا ". وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» . وَلِأَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ كَانَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُمْ زِيَادَةً، وَلَا قَوْلًا بِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْعُذْرِ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ. فَقِيلَ: كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ كَانَتْ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَالِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِنْ خِيَارِ مَالِهِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي سِنٍّ وَلَا عَدَدٍ، لَكِنَّ يَنْتَقِي مِنْ خَيْرِ مَالِهِ مَا تَزِيدُ بِهِ صَدَقَتُهُ فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ شَطْرِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ ب " مَا لَهُ " هَاهُنَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَيُزَادُ عَلَيْهِ فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ شَطْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ مَانِعُ الزَّكَاةِ خَارِجًا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ قَاتَلَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَاتَلُوا مَانِعِيهَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ وَبِمَالِهِ، أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَيْضًا، وَلَمْ تُسْبَ ذُرِّيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ لَا يُسْبَى، فَذُرِّيَّتُهُ أَوْلَى. وَإِنْ ظَفِرَ بِهِ دُونَ مَالِهِ، دَعَاهُ إلَى أَدَائِهَا، وَاسْتَتَابَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَأَدَّى، وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ بِقِتَالِهِ عَلَيْهَا، فَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 عَنْهُ: إذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ كَمَا مَنَعُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَاتَلُوا عَلَيْهَا، لَمْ يُوَرَّثُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا تَارِكُ الزَّكَاةِ بِمُسْلِمٍ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَاتَلَهُمْ، وَعَضَّتْهُمْ الْحَرْبُ، قَالُوا: نُؤَدِّيهَا. قَالَ: لَا أَقْبَلُهَا حَتَّى تَشْهَدُوا أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ. وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ امْتَنَعُوا مِنْ الْقِتَالِ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، وَلَوْ اعْتَقَدُوا كُفْرَهُمْ لَمَا تَوَقَّفُوا عَنْهُ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى الْقِتَالِ، وَبَقِيَ الْكُفْرُ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، فَلَمْ يَكْفُرْ تَارِكُهُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ؛ كَالْحَجِّ، وَإِذَا لَمْ يَكْفُرْ بِتَرْكِهِ، لَمْ يَكْفُرْ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ هَذَا الْقَوْلَ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ جَحَدُوا وُجُوبَهَا، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ سَكَنٌ لَنَا، وَلَيْسَ صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ سَكَنًا لَنَا، فَلَا نُؤَدِّي إلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ جَحَدُوا وُجُوبَ الْأَدَاءِ إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ هَذَا الْقَوْلَ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ جَحَدُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ارْتَكَبُوا كَبَائِرَ، وَمَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، فَحُكِمَ لَهُمْ بِالنَّارِ ظَاهِرًا، كَمَا حُكِمَ لِقَتْلَى الْمُجَاهِدِينَ بِالْجَنَّةِ ظَاهِرًا، وَالْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِالتَّخْلِيدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ بِالنَّارِ الْحُكْمُ بِالتَّخْلِيدِ، بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. [مَسْأَلَةُ نِصَابُ الْإِبِلِ] (1692) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ) . بَدَأَ الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بِذِكْرِ صَدَقَةِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّهَا أَهَمُّ، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ النَّعَمِ قِيمَةً وَأَجْسَامًا، وَأَكْثَرُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ، فَالِاهْتِمَامُ بِهَا أَوْلَى، وَوُجُوبُ زَكَاتِهَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَصَحَّتْ فِيهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٌ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، لَمَّا وَجَّهَ إلَى الْبَحْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيُعْطِهَا، وَمِنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ: " فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ، فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَفِيهَا شَاةٌ ". وَذِكْرُ تَمَامِ الْحَدِيثِ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبْوَابِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، وَزَادَ: " وَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَفِيهَا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ". وَهَذَا كُلّه مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. يَعْنِي مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ. وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَعْنِي قَدَّرَ، وَالتَّقْدِيرُ يُسَمَّى فَرْضًا، وَمِنْهُ فَرَضَ الْحَاكِمُ لِلْمَرْأَةِ فَرْضًا. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ. يَعْنِي لَا يُعْطِي فَوْقَ الْفَرْضِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا» . وَقَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالسَّائِمَةُ: الرَّاعِيَةُ، وَقَدْ سَامَتْ تَسُومُ سَوْمًا: إذَا رَعَتْ، وَأَسْمَتْهَا إذَا رَعَيْتهَا، وَسَوَّمْتهَا: إذَا جَعَلْتهَا سَائِمَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] أَيْ تَرْعَوْنَ. وَفِي ذِكْرِ السَّائِمَةِ احْتِرَازٌ مِنْ الْمَعْلُوفَةِ وَالْعَوَامِلِ؛ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي الْإِبِلِ النَّوَاضِحِ وَالْمَعْلُوفَةِ الزَّكَاةَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي كُلِّ خَمْسِ شِيَاهٍ» . قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ زَكَاةٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ فِيهَا الزَّكَاةَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا أَصْلٌ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» . فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، فَقَيَّدَهُ بِالسَّائِمَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِهَا، وَحَدِيثُهُمْ مُطْلَقٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلِأَنَّ وَصْفَ النَّمَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ، وَالْمَعْلُوفَةُ يَسْتَغْرِقُ عَلْفُهَا نَمَاءَهَا، إلَّا أَنْ يُعِدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ. (1693) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ، فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ) وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا رَوَيْنَاهُ وَغَيْرِهِ، إلَّا قَوْلَهُ: " فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ ". فَإِنَّ مَذْهَبَ إمَامِنَا وَمَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ سَائِمَةً أَكْثَرَ السَّنَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ فِي الزَّكَاةِ، فَاعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، كَالْمِلْكِ وَكَمَالِ النِّصَابِ، وَلِأَنَّ الْعَلْفَ يُسْقِطُ وَالسَّوْمَ يُوجِبُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الْإِسْقَاطُ، كَمَا لَوْ مَلَكَ نِصَابًا بَعْضُهُ سَائِمَةٌ وَبَعْضُهُ مَعْلُوفَةٌ. وَلَنَا عُمُومُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي نُصُبِ الْمَاشِيَةِ، وَاسْمُ السَّوْمِ لَا يَزُولُ بِالْعَلْفِ الْيَسِيرِ، فَلَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا فِي الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ حَقَّهُ لَلْمُؤْنَةُ، فَأَشْبَهَتْ السَّائِمَةَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، وَلِأَنَّ الْعَلْفَ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَاعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ بِالْكُلِّيَّةِ، سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْفِرَارُ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَلَفَهَا يَوْمًا فَأَسْقَطَهَا، وَلِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ فِي رَفْعِ الْكُلْفَةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ، كَالسَّقْيِ بِمَا لَا كُلْفَةَ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ. وَقَوْلُهُمْ " السَّوْمُ شَرْطٌ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ. وَنَقُولُ: بَلْ الْعَلْفُ إذَا وُجِدَ فِي نِصْفِ الْحَوْلِ فَمَا زَادَ مَانِعٌ، كَمَا أَنَّ السَّقْيَ بِكُلْفَةِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْعُشْرِ، وَلَا يَكُونُ مَانِعًا حَتَّى يُوجَدَ فِي النِّصْفِ فَصَاعِدًا، كَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ شَرْطًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ وُجُودِهِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ، كَالسَّقْيِ بِمَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ، وَيُكْتَفَى بِوُجُودِهِ فِي الْأَكْثَرِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ فِي بَعْضِ النِّصَابِ مَعْلُوفٌ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي جَمِيعِهِ، وَأَمَّا الْحَوْلُ فَإِنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الشَّرْطُ فِي أَكْثَرِهِ. (1694) فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُ فِي الْغَنَمِ الْمُخْرَجَةِ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ، وَكَذَلِكَ شَاةُ الْجُبْرَانِ، وَأَيَّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ. وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهَا مِنْ جِنْسِ غَنَمِهِ، وَلَا جِنْسِ غَنَمِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مُطْلَقَةٌ فِي الْخَبَرِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ وُجُوبُهَا، وَلَيْسَ غَنَمُهُ وَلَا غَنَمُ الْبَلَدِ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِذَلِكَ، كَالشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْفِدْيَةِ، وَتَكُونُ أُنْثَى، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَكَرًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ الْوَاجِبَةَ فِي نُصُبِهَا إنَاثٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ لَفْظَ الشَّاةِ، فَدَخْلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَلِأَنَّ الشَّاةَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِالذِّمَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 دُونَ الْعَيْنِ أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ كَالْأُضْحِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ لَزِمَهُ شِرَاءُ شَاةٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُخْرِجُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، قِيَاسًا عَلَى شَاةِ الْجُبْرَانِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الشَّاةِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِنَصِّهِ، وَلِأَنَّ هَذَا إخْرَاجُ قِيمَةٍ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً فِي نِصَابِهَا، وَشَاةُ الْجُبْرَانِ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَدَلِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بَدَلًا عَنْ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ. [فَصْلُ أَخْرَجَ عَنْ الشَّاةِ بَعِيرًا] (1695) فَصْل: فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ الشَّاةِ بَعِيرًا لَمْ يُجْزِئْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَدَاوُد. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِئُهُ الْبَعِيرُ عَنْ الْعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُخْرَجُ مِمَّا يُجْزِئُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالْعِشْرُونَ دَاخِلَةٌ فِيهَا، وَلِأَنَّ مَا أَجْزَأَ عَنْ الْكَثِيرِ أَجْزَأَ عَمَّا دُونَهُ، كَابْنَتَيْ لَبُونٍ عَمَّا دُونَ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةً، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالشَّاةِ، فَلَمْ يُجْزِئ الْبَعِيرُ كَالْأَصْلِ، أَوْ كَشَاةِ الْجُبْرَانِ، وَلِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ وَجَبَتْ فِيهَا شَاةٌ فَلَمْ يُجْزِئْ عَنْهَا الْبَعِيرُ، كَنِصَابِ الْغَنَمِ، وَيُفَارِقُ ابْنَتَيْ لَبُونٍ عَنْ الْجَذَعَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْجِنْسِ. [فَصْلُ تَكُونُ الشَّاةُ الْمُخْرَجَةُ كَحَالِ الْإِبِلِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ] (1696) فَصْلٌ: وَتَكُونُ الشَّاةُ الْمُخْرَجَةُ كَحَالِ الْإِبِلِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، فَيُخْرِجُ عَنْ الْإِبِلِ السِّمَانِ سَمِينَةً، وَعَنْ الْهُزَالِ هَزِيلَةً، وَعَنْ الْكَرَائِمِ كَرِيمَةً، وَعَنْ اللِّئَامِ لَئِيمَةً، فَإِنْ كَانَتْ مِرَاضًا أَخْرَجَ شَاةً صَحِيحَةً عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ صِحَاحًا كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ الشَّاةِ؟ فَيُقَالُ: قِيمَةُ الْإِبِلِ مِائَةٌ وَقِيمَةُ الشَّاةِ خَمْسَةٌ، فَيَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهَا قَدْرُ مَا نَقَصَتْ الْإِبِلُ، فَإِذَا نَقَصَتْ الْإِبِلُ خُمْسَ قِيمَتِهَا وَجَبَ شَاةٌ قِيمَتُهَا أَرْبَعَةٌ. وَقِيلَ: تُجْزِئُهُ شَاةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْقِيمَةِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا تُجْزِئُهُ مَرِيضَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَلَيْسَ كُلُّهُ مِرَاضًا، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الصِّحَاحِ، وَالْمِرَاضُ لَا تُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الصَّحِيحَةُ. [مَسْأَلَةُ فَإِذَا صَارَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ] (1697) مَسْأَلَةٌ: (قَالَ: فَإِذَا صَارَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، إلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ. وَابْنَةُ الْمَخَاضِ: الَّتِي لَهَا سَنَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ حَمَلَتْ غَيْرَهَا، وَالْمَاخِضُ الْحَامِلُ، وَلَيْسَ كَوْنُ أُمِّهَا مَاخِضًا شَرْطًا فِيهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ تَعْرِيفًا لَهَا بِغَالِبِ حَالِهَا، كَتَعْرِيفِهِ الرَّبِيبَةَ بِالْحِجْرِ، وَكَذَلِكَ بِنْتُ لَبُونٍ وَبِنْتُ الْمَخَاضِ أَدْنَى سِنٍّ يُوجَدُ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ خَاصَّةً. وَبِنْتُ اللَّبُونِ: الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَلَهَا لَبَنٌ. وَالْحِقَّةُ: الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَلِهَذَا قَالَ: طَرُوقَةُ الْفَحْلِ. وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا وَتُرْكَبَ. وَالْجَذَعَةُ: الَّتِي لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ، وَقِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَجْذَعُ إذَا سَقَطَتْ سِنُّهَا، وَهِيَ أَعْلَى سِنٍّ تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَإِنْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ مَكَانَهَا ثَنِيَّةً جَازَ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ، وَسُمِّيَتْ ثَنِيَّةً، لِأَنَّهَا قَدْ أَلْقَتْ ثَنِيَّتَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَسْنَانِ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَحَكَاهُ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي زِيَادٍ الْكِلَابِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ " أَرَادَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي إبِلِهِ ابْنَةُ مَخَاضٍ أَجْزَأَهُ ابْنُ لَبُونٍ، وَلَا يُجْزِئُهُ مَعَ وُجُودِ ابْنَةِ مَخَاضٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» . فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ شَرَطَ فِي إخْرَاجِهِ عَدَمَهَا. فَإِنْ اشْتَرَاهَا وَأَخْرَجَهَا جَازَ، وَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ ابْنِ لَبُونٍ بَعْدَ شِرَائِهَا لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي إبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إبِلِهِ ابْنُ لَبُونٍ، وَأَرَادَ الشِّرَاءَ، لَزِمَهُ شِرَاءُ بِنْتِ مَخَاضٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئْهُ شِرَاءُ ابْنِ لَبُونٍ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَعُمُومِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وَلَنَا، أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْعَدَمِ، فَلَزِمَتْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ، كَمَا لَوْ اسْتَوَيَا فِي الْوُجُودِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلرِّفْقِ بِهِ، إغْنَاءً لَهُ عَنْ الشِّرَاءِ، وَمَعَ عَدَمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الشِّرَاءِ، فَكَانَ شِرَاءُ الْأَصْلِ أَوْلَى. عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: " فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ ". فَشَرَطَ فِي قَبُولِهِ وُجُودَهُ وَعَدَمَهَا، وَهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: " وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُ لَبُونٍ ". وَهَذَا يَفْسُدُ بِتَعَيُّنِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ مُعَيَّنَةً، فَلَهُ الِانْتِقَالُ إلَى ابْنِ لَبُونٍ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، عَلَى وَجْهِهَا " وَلِأَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا، لِكَوْنِهَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا، فَأَشْبَهَ الَّذِي لَا يَجِدُ إلَّا مَا لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ فِي انْتِقَالِهِ إلَى التَّيَمُّمِ. وَإِنْ وَجَدَ ابْنَةَ مَخَاضٍ أَعْلَى مِنْ صِفَةِ الْوَاجِبِ، لَمْ يُجْزِهِ ابْنُ لَبُونٍ؛ لِوُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَيُخَيَّرُ بَيْن إخْرَاجِهَا وَبَيْنَ شِرَاءِ بِنْتِ مَخَاضٍ عَلَى صِفَةِ الْوَاجِبِ، وَلَا يُخَيَّرُ بَعْضُ الذُّكُورِيَّةِ بِزِيَادَةِ سِنٍّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ ابْنِ لَبُونٍ حِقًّا، وَلَا عَنْ الْحِقَّةِ جَذَعًا، لِعَدَمِهِمَا وَلَا وُجُودِهِمَا. وَقَالَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَعْلَى وَأَفْضَلُ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِمَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمَا عَلَى ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ بِنْتِ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ سِنِّ ابْنِ لَبُونٍ عَلَى بِنْتِ مَخَاضٍ يَمْتَنِعُ بِهَا مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، وَيَرْعَى الشَّجَرَ بِنَفْسِهِ، وَيَرِدُ الْمَاءَ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي الْحِقِّ مَعَ بِنْتِ لَبُونٍ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي هَذَا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ السِّنِّ فَلَمْ يُقَابَلْ إلَّا بِتَوْجِيهٍ. وَقَوْلُهُمَا: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ. قُلْنَا: بَلْ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ دُونَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ دُونَهُمَا. [فَصْلُ أَخْرَجَ عَنْ الْوَاجِبِ سِنًّا أَعْلَى مِنْ جِنْسِهِ] (1698) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ الْوَاجِبِ سِنًّا أَعْلَى مِنْ جِنْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ لَبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَحِقَّةً عَنْ بِنْتِ لَبُونٍ أَوْ بِنْتِ مَخَاضٍ، أَوْ أَخْرَجَ عَنْ الْجَذَعَةِ ابْنَتَيْ لَبُونٍ أَوْ حِقَّتَيْنِ، جَازَ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ جِنْسِهِ مَا يُجْزِئُ عَنْهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُجْزِيًا عَنْهُ عَلَى انْفِرَادِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَأَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصَدِّقًا، فَمَرَرْت بِرَجُلٍ، فَلَمَّا جَمَعَ لِي مَالَهُ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا بِنْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 مَخَاضٍ. فَقُلْت لَهُ: أَدِّ بِنْتَ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا صَدَقَتُك. فَقَالَ: ذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ، وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ، فَخُذْهَا. فَقُلْت: مَا أَنَا بِآخِذِ مَا لَمْ أُؤْمَرْ بِهِ، وَهَذَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك قَرِيبٌ، فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا عَرَضْت عَلَيَّ فَافْعَلْ، فَإِنْ قَبِلَهُ مِنْك قَبِلْته، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْك رَدَدْته. قَالَ: فَإِنِّي فَاعِلٌ. فَخَرَجَ مَعِي وَخَرَجَ بِالنَّاقَةِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيَّ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتَانِي رَسُولُك لِيَأْخُذَ مِنِّي صَدَقَةَ مَالِي، وَأَيْمُ اللَّهِ، مَا قَامَ فِي مَالِي رَسُولُ اللَّهِ وَلَا رَسُولُهُ قَطُّ قَبْلَهُ، فَجَمَعْت لَهُ مَالِي، فَزَعَمَ أَنَّ مَا عَلَيَّ فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ، وَقَدْ عَرَضْت عَلَيْهِ نَاقَةً فَتِيَّةً سَمِينَةً عَظِيمَةً لِيَأْخُذَهَا فَأَبَى، وَهَا هِيَ ذِهِ، قَدْ جِئْتُك بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَاكَ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْك، فَإِنْ تَطَوَّعْت بِخَيْرٍ أَجْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَقَبِلْنَاهُ مِنْك. فَقَالَ: فَهَا هِيَ ذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ جِئْتُك بِهَا. قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبْضِهَا، وَدَعَا لَهُ فِي مَالِهِ بِالْبَرَكَةِ.» وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا أَخْرَجَ أَعْلَى مِنْ الْوَاجِبِ فِي الصِّفَةِ مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ السَّمِينَةَ مَكَانَ الْهَزِيلَةِ، وَالصَّحِيحَةَ مَكَانَ الْمَرِيضَةِ، وَالْكَرِيمَةَ مَكَانِ اللَّئِيمَةِ، وَالْحَامِلَ عَنْ الْحَوَائِلِ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَتُجْزِئُهُ، وَلَهُ أَجْرُ الزِّيَادَةِ. [فَصْلُ يُخْرِجُ عَنْ مَاشِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى صِفَتِهَا] (1699) فَصْلٌ: وَيُخْرِجُ عَنْ مَاشِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى صِفَتِهَا، فَيُخْرِجُ عَنْ الْبَخَاتِيِّ بُخْتِيَّةً، وَعَنْ الْعِرَابِ عَرَبِيَّةً، وَعَنْ الْكِرَامِ كَرِيمَةً، وَعَنْ السِّمَانِ سَمِينَةً، وَعَنْ اللِّئَامِ وَالْهُزَالِ لَئِيمَةً هَزِيلَةً. فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ الْبَخَاتِيِّ عَرَبِيَّةً بِقِيمَةِ الْبُخْتِيَّةِ، أَوْ أَخْرَجَ عَنْ السِّمَانِ هَزِيلَةً بِقِيمَةِ السَّمِينَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ هِيَ الْمَقْصُودُ. أَجَازَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَفَارَقَ خِلَافَ الْجِنْسِ. فَإِنَّ الْجِنْسَ مَرْعِيٌّ فِي الزَّكَاةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَخْرَجَ الْبَعِيرَ عَنْ الشَّاةِ لَمْ يَجُزْ، وَمَعَ الْجِنْسِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْجَيِّدِ عَنْ الرَّدِيءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. [مَسْأَلَةُ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.] (1700) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَتَعَدَّى الْفَرْضُ إلَى ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وَلِمَالِكٍ رِوَايَتَانِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ؛ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْفُرُوضِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» . وَالْوَاحِدَةُ زِيَادَةٌ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي أَحَادِيثِ الصَّدَقَاتِ. وَفِيهِ: «فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَأَخْرَجَ حَدِيثَ أَنَسٍ، مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ النَّضْرِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخَذْنَا هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ أَنَسٍ. وَفِيهِ: «فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» . وَلِأَنَّ سَائِرَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَايَةً لِلْفَرْضِ، إذَا زَادَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ تَغَيَّرَ الْفَرْضُ، كَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ. قُلْنَا: وَهَذَا مَا تَغَيَّرَ بِالْوَاحِدَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ بِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا، فَأَشْبَهَتْ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ عَنْ التِّسْعِينَ وَالسِّتِّينَ وَغَيْرَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ، فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، إلَى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ. وَتُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا، ذَكَرَ فِيهِ الصَّدَقَاتِ وَالدِّيَاتِ، وَذَكَرَ فِيهِ مِثْلَ هَذَا. وَلَنَا، أَنَّ فِي حَدِيثَيْ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَسِ، وَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ» . وَأَمَّا كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِفَتِهِ، فَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي " سُنَنِهِ " مِثْلَ مَذْهَبِنَا. وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ أَوْلَى، لِمُوَافَقَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ، وَمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا وَجَبَ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَجِبْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَسَائِرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ احْتَمَلَ الْمُوَاسَاةَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، لِأَنَّهُ مَا احْتَمَلَ الْمُوَاسَاةَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَعَدَلْنَا إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ ضَرُورَةً، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ يَنْقُلُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إلَى حِقَّةٍ، بِزِيَادَةِ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ يَسِيرَةٌ لَا تَقْتَضِي الِانْتِقَالَ إلَى حِقَّةٍ، فَإِنَّا لَمْ نَنْقُلْ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إلَى حِقَّةٍ، إلَّا بِزِيَادَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَإِنَّ زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ بَعِيرٍ، لَمْ يَتَغَيَّرْ الْفَرْضُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً ". وَهَذَا يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ جُزْءٍ. وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ مَتَى بَلَغْت الْإِبِلُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ. ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ عَشْرًا أُبْدِلَتْ مَكَانَ بِنْتِ لَبُونٍ حِقَّةٌ، فَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَابْنَتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ. فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ اجْتَمَعَ الْفَرْضَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا خَمْسِينَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَأَرْبَعِينَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، أَيَّ الْفَرْضَيْنِ شَاءَ أَخْرَجَ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَفْضَلِ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ بِصِيغَةِ التَّخْيِيرِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْرِجُ وَلِيًّا لِيَتِيمٍ أَوْ مَجْنُونٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَدْنَى الْفَرْضَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخِيَرَةُ إلَى السَّاعِي. وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا أَخْرَجَ لَزِمَهُ إخْرَاجُ أَعْلَى الْفَرْضَيْنِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وَلِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْفَرْضَيْنِ، فَكَانَتْ الْخِيَرَةُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَوْ نَائِبِهِ، كَقَتْلِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ، الَّذِي كَتَبَهُ، وَكَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ، فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، أَيُّ الْبِنْتَيْنِ وُجِدَتْ أُخِذَتْ» . وَهَذَا نَصٌّ لَا يَعْرُجُ مَعَهُ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُهُ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لِمُعَاذٍ: إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» . وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ ثَبَتَ فِيهَا الْخِيَارُ، فَكَانَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ، كَالْخِيَرَةِ فِي الْجُبْرَانِ بَيْنَ مِائَتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَ النُّزُولِ وَالصُّعُودِ، وَتَعْيِينِ الْمُخْرَجِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ الْآيَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْفَرْضَ بِصِفَةِ الْمَالِ، فَيَأْخُذُ مِنْ الْكِرَامِ كَرَائِمَ، وَمِنْ غَيْرِهَا مِنْ وَسَطِهَا، فَلَا يَكُونُ خَبِيثًا، لِأَنَّ الْأَدْنَى لَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ وَجَبَ إخْرَاجُهُ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِشَاةِ الْجُبْرَانِ، وَقِيَاسُنَا أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّكَاةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الدِّيَاتِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَانَ أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ فِي مَالِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِهِ أَوْ شِرَاءِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ سِوَى إخْرَاجِ الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي عَيْنِ الْمَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْمَوْجُودِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبْ فِي عَيْنِ الْمَالِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شِرَاءِ الْآخَرِ. [فَصْلُ أَرَادَ إخْرَاجَ الْفَرْضِ مِنْ النَّوْعَيْنِ فِي زَكَاة الأبل] (1701) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الْفَرْضِ مِنْ النَّوْعَيْنِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَشْقِيصٍ، كَرَجُلٍ عِنْدَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 يُخْرِجُ مِنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، جَازَ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى تَشْقِيصٍ، كَزَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّشْقِيصِ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالتَّشْقِيصِ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ لَهَا أَوْقَاصًا، دَفْعًا لِلتَّشْقِيصِ عَنْ الْوَاجِبِ فِيهَا، وَعَدَلَ فِيهَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ عَنْ إيجَابِ الْإِبِلِ إلَى إيجَابِ الْغَنَمِ، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِهِ مَعَ إمْكَانِ الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى إيجَابِ فَرِيضَةٍ كَامِلَةٍ. وَإِنْ وَجَدَ أَحَدَ الْفَرْضَيْنِ كَامِلًا وَالْآخَرَ نَاقِصًا، لَا يُمْكِنُهُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِجُبْرَانٍ مَعَهُ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَ فِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثَ حِقَاقٍ، تَعَيَّنَ أَخْذُ الْفَرِيضَةِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْجُبْرَانَ بَدَلٌ يُشْتَرَطُ لَهُ عَدَمُ الْمُبْدَلِ. وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَحْتَاجُ إلَى جُبْرَانٍ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَ أَرْبَعَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثَ حِقَاقٍ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ أَيَّهُمَا شَاءَ أَخْرَجَ مَعَ الْجُبْرَانِ، إنْ شَاءَ أَخْرَجَ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَحِقَّةً وَأَخَذَ بِالْجُبْرَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْحِقَاقَ وَبِنْتَ اللَّبُونِ مَعَ جُبْرَانِهَا. فَإِنْ قَالَ: خُذُوا مِنِّي حِقَّةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ الْجُبْرَانِ. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ الْفَرْضِ مَعَ وُجُودِهِ إلَى الْجُبْرَانِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجُبْرَانِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا حِقَّةٌ وَأَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، أَدَّاهَا وَأَخَذَ الْجُبْرَانَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَفْعُ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ الْجُبْرَانِ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعْدُومَيْنِ، أَوْ مَعِيبَيْنِ، فَلَهُ الْعُدُولُ عَنْهُمَا مَعَ الْجُبْرَانِ، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ أَرْبَعَ جَذَعَاتٍ وَأَخَذَ ثَمَانِيَ شِيَاهٍ أَوْ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ خَمْسَ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَمَعَهَا عَشْرُ شِيَاهٍ أَوْ مِائَةُ دِرْهَمٍ. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْحِقَاقِ إلَى بَنَاتِ الْمَخَاضِ، أَوْ عَنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إلَى الْجِذَاعِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحِقَاقَ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِنَّ فِي هَذَا الْمَالِ، فَلَا يَصْعَدُ إلَى الْحِقَاقِ بِجُبْرَانٍ، وَلَا يَنْزِلُ إلَى بَنَاتِ اللَّبُونِ بِجُبْرَانٍ. [مَسْأَلَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ] (1702) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ، أُخِذَتْ مِنْهُ وَمَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، أُخِذَتْ مِنْهُ وَأُعْطِيَ الْجُبْرَانَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا) الْمَذْهَبُ فِي هَذَا أَنَّهُ مَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ سِنًّا أَعْلَى مِنْهَا، وَيَأْخُذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ سِنًّا أَنْزَلَ مِنْهَا وَمَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، إلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ أَنْزَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى سِنٍّ تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ، أَوْ جَذَعَةً. فَلَا يُخْرِجُ أَعْلَى مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَرْضَى رَبُّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا لَا جُبْرَانَ مَعَهَا، فَتُقْبَلَ مِنْهُ. وَالِاخْتِيَارُ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، وَالشِّيَاهِ وَالدَّرَاهِمِ، إلَى رَبِّ الْمَالِ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُخْرِجُ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ فِي الشَّرْعِ مُتَقَوِّمَةٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، بِدَلِيلِ أَنَّ نِصَابَهَا أَرْبَعُونَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وَنِصَابَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَدْفَعُ قِيمَةَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ دُونَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ وَفَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا دَرَاهِمَ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: «وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِي شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ» وَهَذَا نَصٌّ ثَابِتٌ صَحِيحٌ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَى مَا سِوَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى هَذَا الْجُبْرَانِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْخَبَرِ بِعَدَمِ الْأَصْلِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ فِي الْجُبْرَانِ شَاةً، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُمْنَعُ هَذَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَةِ، فَلَهُ إخْرَاجُهَا مِنْ جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مَقَامُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِذَا اخْتَارَ إخْرَاجَهَا وَعَشَرَةً جَازَ. وَيَحْتَمِلُ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ بَيْنَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ، فَتَجْوِيزُهُ يُخَالِفُ الْخَبَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَعَدِمَهَا وَعَدِمَ الْحِقَّةَ] (1703) فَصْلٌ: فَإِنْ عَدِمَ السِّنَّ الْوَاجِبَةَ وَاَلَّتِي تَلِيهَا، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَعَدِمَهَا وَعَدِمَ الْحِقَّةَ، أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ فَعَدِمَهَا وَعَدِمَ الْجَذَعَةَ وَابْنَةَ اللَّبُونِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى السِّنِّ الثَّالِثِ مَعَ الْجُبْرَانِ، فَيُخْرِجَ ابْنَةَ اللَّبُونِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَيُخْرِجَ مَعَهَا أَرْبَعَ شِيَاهٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَيُخْرِجَ ابْنَةَ مَخَاضٍ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُخْرِجَ مَعَهَا مِثْلَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَنْتَقِلُ إلَى سِنٍّ تَلِي الْوَاجِبَ، فَأَمَّا إنَّ انْتَقَلَ مِنْ حِقَّةٍ إلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، أَوْ مِنْ جَذَعَةٍ إلَى بِنْتِ لَبُونٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْعُدُولِ إلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، كَمَا اقْتَصَرْنَا فِي أَخْذِ الشِّيَاهِ عَنْ الْإِبِلِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ جَوَّزَ الِانْتِقَالَ إلَى السِّنِّ الَّذِي تَلِيه مَعَ الْجُبْرَانِ، وَجَوَّزَ الْعُدُولَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا عَدِمَ مَعَ الْجُبْرَانِ إذَا كَانَ هُوَ الْفَرْضَ، وَهَاهُنَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا أَجْزَأَ، فَإِنْ عَدِمَ جَازَ الْعُدُولُ إلَى مَا يَلِيهِ مَعَ الْجُبْرَانِ، وَالنَّصُّ إذَا عَقَلَهُ عَدَّى وَعَمِلَ بِمَعْنَاهُ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْجَذَعَةِ إلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ مَعَ سِتِّ شِيَاهٍ، أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا، وَيَعْدِلُ عَنْ ابْنَةِ الْمَخَاضِ إلَى الْجَذَعَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وَيَأْخُذُ سِتَّ شِيَاهٍ، أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الْأَرْبَعِ شِيَاهٍ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، جَازَ. لِأَنَّهُمَا جُبْرَانَانِ، فَهُمَا كَالْكَفَّارَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ فِي الْجُبْرَانِ الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْ فَرْضِ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ، إذَا أَخْرَجَ عَنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ خَمْسَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، أَوْ مَكَانَ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَرْبَعَ جَذَعَاتٍ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَ الْجُبْرَانِ دَرَاهِمَ، وَبَعْضَهُ شِيَاهًا. وَمَتَى وَجَدَ سِنًّا تَلِي الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى سِنٍّ لَا تَلِيه؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ عَنْ السِّنِّ الَّتِي تَلِيه إلَى السِّنِّ الْأُخْرَى بَدَلٌ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ. فَإِنْ عَدِمَ الْحِقَّةَ وَابْنَةَ اللَّبُونِ، وَوَجَدَ الْجَذَعَةَ وَابْنَةَ الْمَخَاضِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الْحِقَّةَ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ إلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ ابْنَةَ لَبُونٍ، لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ الْجَذَعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلُ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ مِرَاضًا وَفَرِيضَتُهُ مَعْدُومَةً] فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ مِرَاضًا، وَفَرِيضَتُهُ مَعْدُومَةً، فَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى السِّنِّ السُّفْلَى مَعَ دَفْعِ الْجُبْرَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْعَدَ مَعَ أَخْذِ الْجُبْرَانِ، لِأَنَّ الْجُبْرَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ الْجُبْرَانُ جَبْرًا مِنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّ قِيمَةَ الصَّحِيحَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْمَرِيضَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ قِيمَةُ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي الصُّعُودِ، وَجَازَ فِي النُّزُولِ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقْبَلُ مِنْهُ الْفَضْلُ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَنْ يُعْطِيَ الْفَضْلَ مِنْ الْمَسَاكِينِ. فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ وَلِيَّ الْيَتِيمِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَيْضًا النُّزُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، فَيَتَعَيَّنُ شِرَاءُ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ. [فَصْلُ لَا يَدْخُلُ الْجُبْرَانِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ] (1705) فَصْلٌ: وَلَا يَدْخُلُ الْجُبْرَانِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ فِيهَا وَرَدَ، وَلَيْسَ غَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ قِيمَةً، وَلِأَنَّ الْغَنَمَ لَا تَخْتَلِفُ فَرِيضَتُهَا بِاخْتِلَافِ سِنِّهَا، وَمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْبَقَرِ يُخَالِفُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْإِبِلِ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ. فَمِنْ عَدِمَ فَرِيضَةَ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ، وَوَجَدَ دُونَهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ إخْرَاجُهَا، فَإِنْ وَجَدَ أَعْلَى مِنْهَا، فَأَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَهَا مُتَطَوِّعًا بِغَيْرِ جُبْرَانٍ، قُبِلَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كُلِّفَ شِرَاءَهَا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ. [فَصْلُ تَفْسِيرُ الْأَوْقَاصِ] (1706) فَصْلٌ: قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَفْسِيرُ الْأَوْقَاصِ. قَالَ: الْأَوْقَاصُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ. قُلْت لَهُ: كَأَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ فِي الْبَقَرِ وَمَا أَشْبَهِ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالسَّبَقُ مَا دُونَ الْفَرِيضَةِ. قُلْت لَهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 كَأَنَّهُ مَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، وَمَا دُونَ الْفَرِيضَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: السَّبَقُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْفَرِيضَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْده ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ، فَالزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، دُونَ الْخَمْسَةِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَتَلِفَتْ الْخَمْسُ الزَّائِدَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا، وَقُلْنَا: إنَّ تَلَفَ النِّصَابِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، لَمْ يَسْقُطْ هَاهُنَا مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ التَّالِفَ لَمْ تَتَعَلَّقْ الزَّكَاةُ بِهِ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْهَا عَشْرٌ سَقَطَ مِنْ الزَّكَاةِ خُمْسُهَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَلَفِ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ، وَإِنَّمَا تَلِفَ مِنْهَا مِنْ النِّصَابِ خَمْسَةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا تَأْثِيرَ لِتَلَفِ النِّصَابِ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْخِلَافِ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أَعْلَمُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 [بَابُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ] ِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَمِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً. قَالَ: فَعَرَضُوا عَلَيَّ أَنْ آخُذَ مَا بَيْن الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَمَا بَيْنَ الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ، فَأَبَيْت ذَلِكَ. وَقُلْت لَهُمْ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَدِمْت، فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَمِنْ السِّتِّينَ تَبِيعَيْنِ، وَمِنْ السَّبْعِينَ مُسِنَّةً وَتَبِيعًا، وَمِنْ الثَّمَانِينَ مُسِنَّتَيْنِ، وَمِنْ التِّسْعِينَ ثَلَاثَةَ أَتْبَاعٍ، وَمِنْ الْمِائَةِ مُسِنَّةً وَتَبِيعَيْنِ، وَمِنْ الْعَشَرَةِ وَمِائَةٍ مُسِنَّتَيْنِ وَتَبِيعًا، وَمِنْ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلَاثَ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةَ أَتْبَاعٍ، وَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا آخُذَ فِيهَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا إنْ بَلَغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا. يَعْنِي تَبِيعًا. وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا فَرِيضَةَ فِيهَا» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا أَعْلَمْ اخْتِلَافًا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ الْيَوْمَ. وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي سَائِمَتِهَا، كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ. [مَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ] (1707) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ. وَلِأَنَّهَا عَدَلَتْ بِالْإِبِلِ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ، فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ نُصُبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَاهُ نَصٌّ وَلَا تَوْقِيفٌ، فَلَا يَثْبُتُ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ، فَإِنَّ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ مِنْ الْغَنَمِ تَعْدِلُ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فِي الْهَدْيِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْ الْبَقَرِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي الْعَوَامِلِ وَالْمَعْلُوفَةِ صَدَقَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي الْإِبِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الرَّاوِي: أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ، قَالَ: " وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ شَيْءٌ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» . وَهَذَا مُقَيَّدٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَجَابِرٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا صَدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ. وَلِأَنَّ صِفَةَ النَّمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا فِي السَّائِمَةِ. [مَسْأَلَةُ إذَا مَلَكَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ] (1708) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا مَلَكَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ، فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا مُسِنَّةٌ، إلَى تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ، فَفِيهَا تَبِيعَانِ، إلَى تِسْعٍ وَسِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ، فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، فَإِذَا زَادَتْ، فَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ) التَّبِيعُ: الَّذِي لَهُ سَنَةٌ، وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ. وَالْمُسِنَّةُ: الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ، وَهِيَ الثَّنِيَّةُ. وَلَا فَرْضَ فِي الْبَقَرِ غَيْرُهُمَا، وَبِمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِسَابِهِ، فِي كُلِّ بَقَرَةٍ رُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ. فِرَارًا مِنْ جَعْلِ الْوَقْصِ تِسْعَةَ عَشَرَ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَوْقَاصِهَا، فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْقَاصِهَا عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ. وَلَنَا، حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ؛ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْبَقَرَ أَحَدُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا يَجُوزُ فِي زَكَاتِهَا كَسْرٌ كَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَلَا يُنْقَلُ مِنْ فَرْضٍ فِيهَا إلَى فَرْضٍ بِغَيْرِ وَقْصٍ، كَسَائِرِ الْفُرُوضِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ لَا يَتِمُّ بِهَا أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ، كَمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَمُخَالَفَةُ قَوْلِهِمْ لِلْأُصُولِ أَشَدُّ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَعَلَى أَنَّ أَوْقَاصَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مُخْتَلِفَةٌ، فَجَازَ الِاخْتِلَافُ هَاهُنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 [فَصْلُ إذَا رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ بِإِعْطَاءِ الْمُسِنَّةِ عَنْ التَّبِيعِ وَالتَّبِيعَيْنِ عَنْ الْمُسِنَّةِ أَوْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ مِنْهَا سِنًّا عَنْهَا] (1709) فَصْلٌ: وَإِذَا رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ بِإِعْطَاءِ الْمُسِنَّةِ عَنْ التَّبِيعِ، وَالتَّبِيعَيْنِ عَنْ الْمُسِنَّةِ، أَوْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ مِنْهَا سِنًّا عَنْهَا، جَازَ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْجُبْرَانِ فِيهَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ. [فَصْلُ لَا يُخْرَجُ الذَّكَرُ فِي الزَّكَاةَ] (1710) فَصْلٌ: وَلَا يُخْرَجُ الذَّكَرُ فِي الزَّكَاةِ أَصْلًا إلَّا فِي الْبَقَرِ، فَإِنَّ ابْنَ اللَّبُونِ لَيْسَ بِأَصْلٍ، إنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ ابْنَةِ مَخَاضٍ، وَلِهَذَا لَا يُجْزِئُ مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا يُجْزِئُ الذَّكَرُ فِي الْبَقَرِ عَنْ الثَّلَاثِينَ، وَمَا تَكَرَّرَ مِنْهَا، كَالسِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ الثَّلَاثِينَ وَغَيْرِهَا، كَالسَّبْعِينَ، فِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، وَالْمِائَةُ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ. وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ مَكَانَ الذُّكُورِ إنَاثًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ وَمَا تَكَرَّرَ مِنْهَا كَالثَّمَانِينَ، فَلَا يُجْزِئُ فِي فَرْضِهَا إلَّا الْإِنَاثُ، إلَّا أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الْمُسِنَّةِ تَبِيعِينَ، فَيَجُوزُ. وَإِذَا بَلَغْت الْبَقَرُ مِائَةً وَعِشْرِينَ، اتَّفَقَ الْفَرْضَانِ جَمِيعًا، فَيُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ إخْرَاجِ ثَلَاثِ مُسِنَّاتٍ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَتْبِعَةٍ، وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا، أَيَّهُمَا شَاءَ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ، وَالْخِيَرَةُ فِي الْإِخْرَاجِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا إنَاثٌ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا، أَجْزَأَ الذَّكَرُ فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ، فَلَا يُكَلَّفُ الْمُوَاسَاةَ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا إنَاثٌ فِي الْأَرْبَعِينِيَّات؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْمُسِنَّاتِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَوْرِدِهِ، فَيُكَلَّفُ شِرَاءَهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَاشِيَتِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا دُونَهَا فِي السِّنِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّنَا أَخَّرْنَا الذَّكَرَ فِي الْغَنَمِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي زَكَاتِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِنَاثِ، فَالْبَقَرُ الَّتِي لِلذَّكَرِ فِيهَا مَدْخَلٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لِلذَّكَرِ فِيهَا مَدْخَلًا. [مَسْأَلَةُ الْجَوَامِيسِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْبَقَرِ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ] (1711) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْجَوَامِيسُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْبَقَرِ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا، وَلِأَنَّ الْجَوَامِيسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَقَرِ، كَمَا أَنَّ الْبَخَاتِيَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِبِلِ، فَإِذَا اتَّفَقَ فِي الْمَالِ جَوَامِيسُ وَصِنْفٌ آخَرُ مِنْ الْبَقَرِ، أَوْ بَخَاتِيٌّ وَعِرَابٌ، أَوْ مَعْزٌ وَضَأْنٌ، كَمَّلَ نِصَابَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَأَخَذَ الْفَرْضَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ هَلْ فِيهَا زَكَاةَ] فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ، فَرُوِيَ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ يَشْمَلُهَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 فَيَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْخَبَرِ. وَعَنْهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا. وَهِيَ أَصَحُّ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ، إذَا كَانَتْ لَا تُسَمَّى بَقَرًا بِدُونِ الْإِضَافَةِ، فَيُقَالُ: بَقَرُ الْوَحْشِ. وَلِأَنَّ وُجُودَ نِصَابٍ مِنْهَا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ السَّوْمِ حَوْلًا لَا وُجُودَ لَهُ، وَلِأَنَّهَا حَيَوَانٌ لَا يُجْزِئُ نَوْعُهُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالظِّبَاءِ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، كَسَائِرِ الْوُحُوشِ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا، لِكَثْرَةِ النَّمَاءِ فِيهَا مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا، وَكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لِكَثْرَتِهَا وَخِفَّةِ مَئُونَتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهَا، فَاخْتَصَّتْ الزَّكَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الظِّبَاءِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْغَنَمِ لَهَا. [فَصْلُ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ] (1713) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَحْشِيَّةُ الْفُحُولَ أَوْ الْأُمَّهَاتِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ أَهْلِيَّةً وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْبَهِيمَةِ يَتْبَعُ أُمَّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ وَحْشِيٍّ، أَشْبَهَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ وَحْشِيَّيْنِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، كَالْمُتَوَلِّدَةِ بَيْنِ سَائِمَةٍ وَمَعْلُوفَةٍ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ غَنَمَ مَكَّةَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الظِّبَاءِ وَالْغَنَمِ، وَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُضَمُّ إلَى جِنْسِهَا مِنْ الْأَهْلِيِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَتُكْمَلُ بِهَا نِصَابُهُ، وَتَكُونُ كَأَحَدِ أَنْوَاعِهِ، وَالْقَوْلُ بِانْتِفَاءِ الزَّكَاةِ فِيهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ انْتِفَاءُ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ وَلَا إجْمَاعَ، إنَّمَا هُوَ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ دَاخِلَةً فِي أَجْنَاسِهَا، وَلَا حُكْمِهَا، وَلَا حَقِيقَتِهَا، وَلَا مَعْنَاهَا. فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ وَجِنْسِهِ وَحُكْمِهِ عَنْهُمَا، كَالْبَغْلِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَالسَّبْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، وَالْعِسْبَارِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعَانِ وَالذِّئْبَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الظِّبَاءِ وَالْمَعْزِ لَيْسَ بِمَعْزٍ وَلَا ظَبْيٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ نُصُوصُ الشَّارِعِ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا، لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا، فِي كَوْنِهِ لَا يُجْزِئُ فِي هَدْيٍ وَلَا أُضْحِيَّةٍ وَلَا دِيَةٍ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي الْغَنَمِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ، وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ شَاةٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَكَالَةِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْ الشِّيَاهِ؛ مِنْ الدَّرِّ، وَكَثْرَةِ النَّسْلِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْسَلُّ لَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ ثِنْتَيْنِ لَا نَسْلَ لَهُ كَالْبِغَالِ، وَمَا لَا نَسْلَ لَهُ لَا دَرَّ فِيهِ، فَامْتَنَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 الْقِيَاسُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، فَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهَا تَحَكُّمٌ بِالرَّأْيِ. وَإِذَا قِيلَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ احْتِيَاطًا وَتَغْلِيبًا لِلْإِيجَابِ، كَمَا أَثْبَتِنَا التَّحْرِيمَ فِيهَا فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ احْتِيَاطًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا تَثْبُتُ احْتِيَاطًا بِالشَّكِّ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَهَا، وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا السَّوْمُ وَالْعَلَفُ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لَا بِأَصْلِهِ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَلَفَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ السَّائِمَةِ لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، وَلَوْ أَسَامَ أَوْلَادَ الْمَعْلُوفَةِ، لَوَجَبَتْ زَكَاتُهَا. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ غَنَمَ مَكَّةَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْغَنَمِ وَالظِّبَاءِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَحُرِّمَتْ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ، وَوَجَبَ فِيهَا الْجَزَاءُ، كَسَائِرِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مُتَوَلِّدَةً مِنْ جِنْسَيْنِ لَمَا كَانَ لَهَا نَسْلٌ كَالسَّبُعِ وَالْبِغَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 [بَابُ صَدَقَةِ الْغَنَمِ] ِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَنَسٌ، فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ، قَالَ: «وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا، إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَلَا يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً، وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسًا، إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ» . وَاخْتَارَ سِوَى هَذَا كَثِيرٌ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. (1714) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ، فَفِيهَا شَاةٌ، إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً، فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ) وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إلَّا الْمَعْلُوفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْحَوْلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، لِيَكُونَ مِثْلَيْ مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ. وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ خَالِدِ، بْنِ مُغِيرَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: كَانَ إذَا بَلَغَتْ الشِّيَاهُ مِائَتَيْنِ لَمْ يُغَيِّرْهَا، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ، لَمْ يُغَيِّرْهَا، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثَمِائَةٍ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا أَرْبَعًا. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهِ، وَالشَّعْبِيُّ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا. (1715) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ) ظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ، حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَقْصُ مَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَمِائَةٍ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَقْصُ الْكَبِيرُ بَيْنَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ أَيْضًا مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ حَدًّا لِلْوَقْصِ، وَغَايَةً لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ تَغَيُّرُ النِّصَابِ، كَالْمِائَتَيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا زَادَتْ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي دُونِ الْمِائَةِ شَيْءٌ، وَفِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وَوَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ". وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَتَحْدِيدُ النِّصَابِ لِاسْتِقْرَارِ الْفَرِيضَةِ، لَا لِلْغَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ لَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ] (1716) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ، وَلَا هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) ذَاتُ الْعَوَارِ: الْمَعِيبَةُ. وَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا تُؤْخَذُ لِدَنَاءَتِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ» . وَقَدْ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ تَيْسُ الْغَنَمِ، وَهُوَ فَحْلُهَا لِفَضِيلَتِهِ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَرْوِي الْحَدِيثَ: " إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدَّقُ ". بِفَتْحِ الدَّالِ. يَعْنِي صَاحِبَ الْمَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَدِيثِ رَاجِعًا إلَى التَّيْسِ وَحْدَهُ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ جَمِيعَ الرُّوَاةِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا، فَيَرْوُونَهُ: " الْمُصَدِّقُ " بِكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ الْعَامِلُ. وَقَالَ: التَّيْسُ لَا يُؤْخَذُ؛ لِنَقْصِهِ، وَفَسَادِ لَحْمِهِ، وَكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَعَلَى هَذَا لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ، وَهُوَ السَّاعِي، أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ فَيَأْخُذَ هَرِمَةً، وَهِيَ الْكَبِيرَةُ مِنْ الْهَرِمَاتِ، وَذَاتَ عَوَارٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَتَيْسًا مِنْ التُّيُوسِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إنَّ رَأَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ أَخْذَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَهُ أَخْذُهُ؛ لِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الذَّكَرِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَاةِ، إذَا كَانَ فِي النِّصَابِ إنَاثٌ، فِي غَيْرِ أَتْبِعَةِ الْبَقَرِ وَابْنِ اللَّبُونِ، بَدَلًا عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إذَا عَدِمَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إخْرَاجُ الذَّكَرِ مِنْ الْغَنَمِ الْإِنَاثِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . وَلَفْظُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِأَنَّ الشَّاةَ إذَا أُمِرَ بِهَا مُطْلَقًا، أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ، كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَكَانَتْ الْأُنُوثَةُ مُعْتَبَرَةً فِي فَرْضِهِ، كَالْإِبِلِ، وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ النُّصُبِ، وَالْأُضْحِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالْمَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ التَّيْسِ بِالنَّهْيِ إذَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَنْ الذُّكُورِ أَيْضًا، فَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ ذَكَرًا وَفِيهَا تَيْسٌ مُعَدٌّ لِلضِّرَابِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ؛ إمَّا لِفَضِيلَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ لِلضِّرَابِ إلَّا أَفْضَلُ الْغَنَمِ وَأَعْظَمُهَا، وَإِمَّا لِدَنَاءَتِهِ وَفَسَادِ لَحْمِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَخْذِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا، جَازَ إخْرَاجُ الذَّكَرِ فِي الْغَنَمِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَفِي الْبَقَرِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْإِبِلِ وَجْهَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّصُبِ الثَّلَاثَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْأُنْثَى فِي فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَأَطْلَقَ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ، وَقَالَ فِي الْإِبِلِ «مَنْ لَمْ يَجِدْ بِنْتَ مَخَاضٍ، أَخْرَجَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا» . وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِبِلَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ، فَإِذَا جَوَّزْنَا إخْرَاجَ الذَّكَرِ أَفْضَى إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ابْنَ لَبُونٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَيُخْرِجُهُ عَنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ الْإِبِلَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْبَقَرُ أَيْضًا يَأْخُذُ مِنْهَا تَبِيعًا عَنْ ثَلَاثِينَ، وَتَبِيعًا عَنْ أَرْبَعِينَ إذَا كَانَتْ أَتْبِعَةً كُلُّهَا، وَقُلْنَا: تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 عَنْ الصِّغَارِ. قُلْنَا: هَذَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي إخْرَاجِ الْأُنْثَى، فَلَا فَرْقَ، وَمِنْ جَوَّزَ إخْرَاجَ الذَّكَرِ فِي الْكُلِّ، قَالَ: يَأْخُذُ ابْنَ لَبُونٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، قِيمَتُهُ دُونَ قِيمَةِ ابْنِ لَبُونٍ يَأْخُذُهُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ كَمَا بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ بِصِفَةِ الْمَالِ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ لَمْ يُؤَدِّ إلَى التَّسْوِيَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْغَنَمِ. [فَصْلُ إخْرَاج الْمَعِيبَة عَنْ الصِّحَاح فِي صَدَقَة الشياه] (1717) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنْ الصِّحَاحِ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا؛ لِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ رَدَّهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا وَإِنْ كَانَ فِي النِّصَابِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ، أَخْرَجَ صَحِيحَةً، قِيمَتُهَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ مِرَاضًا إلَّا مِقْدَارَ الْفَرْضِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِهِ، وَبَيْنَ شِرَاءِ مَرِيضَةٍ قَلِيلَةِ الْقِيمَةِ فَيُخْرِجُهَا، وَلَوْ كَانَتْ الصَّحِيحَةُ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ بِعَدَدِ الْفَرِيضَةِ، مِثْلُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ابْنَتَا لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِوَارَانِ صَحِيحَانِ، كَانَ عَلَيْهِ شِرَاءُ صَحِيحَتَيْنِ، فَيُخْرِجُهُمَا. وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّتَانِ وَعِنْدَهُ ابْنَتَا لَبُونٍ صَحِيحَتَانِ، خُيِّرَ بَيْنَ إخْرَاجِهِمَا مَعَ الْجُبْرَانِ، وَبَيْنَ شِرَاءِ حِقَّتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَذَعَتَانِ صَحِيحَتَانِ، فَلَهُ إخْرَاجُهُمَا مَعَ أَخْذِ الْجُبْرَانِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حِقَّتَانِ وَنِصْفُ مَالِهِ صَحِيحٌ وَنِصْفُهُ مَرِيضٌ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَهُ إخْرَاجُ حِقَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَحِقَّةٍ مَرِيضَةٍ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ إحْدَى الْحِقَّتَيْنِ مَرِيضٌ كُلُّهُ. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ هَذَا؛ لِأَنَّ فِي مَالِهِ صَحِيحًا وَمَرِيضًا، فَلَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَ مَرِيضَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ نِصَابًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ النِّصْفُ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْحِقَّةُ فِي الْمِرَاضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِشَرِيكَيْنِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي الْمِرَاضِ دُونَ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ النِّصَابُ مِرَاضًا كُلُّهُ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ جَوَازُ إخْرَاجِ الْفَرْضِ مِنْهُ، وَيَكُونُ وَسَطًا فِي الْقِيمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِلَّةِ الْعَيْبِ وَكَثْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَأْتِي عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَتْ كُلُّهَا جَرْبَاءَ أَخْرَجَ جَرْبَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا هَتْمَاءَ كُلِّفَ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا تُجْزِئُ إلَّا صَحِيحَةٌ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ، وَلِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ ذَاتِ الْعَوَارِ، فَعَلَى هَذَا يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمَرِيضَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» وَقَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَتَكْلِيفُ الصَّحِيحَةِ عَنْ الْمِرَاضِ إخْلَالٌ بِالْمُوَاسَاةِ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْ الرَّدِيءِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ مِنْ جِنْسِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ اللِّئَامِ وَالْهُزَالِ مِنْ الْمَوَاشِي مِنْ جِنْسِهِ، كَذَا هَاهُنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْمَعِيبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ فِيهِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْغَالِبَ الصِّحَّةُ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ النِّصَابِ مَرِيضًا إلَّا بَعْضَ الْفَرِيضَةِ، أَخْرَجَ الصَّحِيحَةَ، وَتَمَّمَ الْفَرِيضَةَ مِنْ الْمِرَاضِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالْحُكْمُ فِي الْهَرِمَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمَعِيبَةِ سَوَاءٌ. [مَسْأَلَة مَا يُجْزِئ فِي الصَّدَقَة] (1718) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا الرُّبَى، وَلَا الْمَاخِضُ، وَلَا الْأَكُولَةُ) قَالَ أَحْمَدُ: الرُّبَى الَّتِي قَدْ وَضَعَتْ وَهِيَ تُرَبِّي وَلَدَهَا. يَعْنِي قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي رُبَابِهَا. كَمَا تَقُولُ: فِي نِفَاسِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: حُنَيْنَ أُمِّ الْبَوِّ فِي رُبَابِهَا قَالَ أَحْمَدُ: وَالْمَاخِضُ الَّتِي قَدْ حَانَ وِلَادُهَا، فَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ لَمْ يَحِنْ وِلَادُهَا، فَهِيَ خِلْفَةٌ وَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا تُؤْخَذُ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ. قَالَ عُمَرُ لِسَاعِيهِ: لَا تَأْخُذْ الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا الْأَكُولَةَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ. وَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا جَازَ أَخْذُهَا، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الرَّدِيءِ مِنْ أَجْلِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مِنْ أَجْلِ أَرْبَابِهِ، ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْوَسَطِ مِنْ الْمَالِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ قَسَّمَ الشِّيَاهَ أَثْلَاثًا: ثُلُثٌ خِيَارٌ، وَثُلُثٌ أَوْسَاطٌ وَثُلُثٌ شِرَارٌ، وَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْ الْوَسَطِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَهُ إمَامُنَا، وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ دُلَيْمٍ، «قَالَ: كُنْت فِي غَنَمٍ لِي، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَا: إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكَ؛ لِتُؤَدِّيَ إلَيْنَا صَدَقَةَ غَنَمِك، قُلْت: وَمَا عَلَيَّ فِيهَا؟ قَالَا: شَاةٌ. فَعَمَدَ إلَى شَاةٍ قَدْ عَرَفَ مَكَانَهَا مُمْتَلِئَةً مَخْضًا وَشَحْمًا، فَأَخْرَجَهَا إلَيْهِمَا. فَقَالَا: هَذِهِ شَافِعٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَأْخُذَ شَاةً شَافِعًا» . وَالشَّافِعُ: الْحَامِلُ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ وَلَدَهَا قَدْ شَفَعَهَا، وَالْمَخْضُ: اللَّبَنُ. «وَقَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ: سِرْت، أَوْ أَخْبَرَنِي مَنْ سَارَ، مَعَ مُصَدِّقِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ. قَالَ: فَكَانَ يَأْتِي الْمِيَاهَ حِينَ تَرِدُ الْغَنَمُ فَيَقُولُ: أَدُّوا صَدَقَاتِ أَمْوَالِكُمْ. قَالَ: فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ، وَهِيَ الْعَظِيمَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 السَّنَامِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، وَلَمْ يُعْطِ الْهَرِمَةَ، وَلَا الدَّرِنَةَ، وَلَا الْمَرِيضَةَ، وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ.» رَافِدَةً: يَعْنِي مَعِيبَةً، وَالدَّرِنَةُ: الْجَرْبَاءُ، وَالشَّرَطُ: رَذَالَةُ الْمَالِ. [مَسْأَلَة لَا زَكَاةَ فِي السِّخَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ] (1719) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُعَدُّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةُ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ) السَّخْلَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا: الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ كَامِلٌ فَنُتِجَتْ مِنْهُ سِخَالٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْجَمِيعِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ لَا زَكَاةَ فِي السِّخَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.» وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ نِصَابٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ، كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِمَالِ التِّجَارَةِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ إلَّا بِالسِّخَالِ، اُحْتُسِبَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَوْلُ الْجَمِيعِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْأُمَّهَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ دُونَ السِّخَالِ فِيمَا إذَا كَانَتْ نِصَابًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ نِصَابًا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ، فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِيهَا، كَمَا لَوْ كَمَلَتْ بِغَيْرِ سِخَالِهَا، أَوْ كَمَالِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِيهِ. وَإِنْ نُتِجَتْ السِّخَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ، ضُمَّتْ إلَى أُمَّهَاتِهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي وَحْدَهُ. وَالْحُكْمُ فِي فِصْلَانِ الْإِبِلِ، وَعُجُولِ الْبَقَرِ، كَالْحُكْمِ فِي السِّخَالِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ السَّخْلَةَ لَا تُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ، وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ كُلُّهُ صِغَارًا، فَيَجُوزُ أَخْذُ الصَّغِيرَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، بِأَنْ يُبَدِّلَ كِبَارًا بِصِغَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ الْكِبَارِ، فَتَوَالَدَ نِصَابٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 مِنْ الصِّغَارِ، ثُمَّ تَمُوتُ الْأُمَّهَاتُ، وَيَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى الصِّغَارِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُؤْخَذُ أَيْضًا إلَّا كَبِيرَةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ» أَوْ الثَّنِيَّةِ. وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ فِي الْمَالِ لَا يَزِيدُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَذَلِكَ نُقْصَانُهُ لَا يَنْقُصُ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ الْعَنَاقَ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ كِبَارٌ. وَأَمَّا زِيَادَةُ السِّنِّ فَلَيْسَ تَمْنَعُ الرِّفْقَ بِالْمَالِكِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، كَمَا أَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ عَفْوٌ، وَمَا فَوْقَهُ عَفْوٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ، كَالْحُكْمِ فِي السِّخَالِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْغَنَمِ، وَيَكُونُ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ مَكَانَ زِيَادَةِ السِّنِّ، كَمَا قُلْنَا فِي إخْرَاجِ الذَّكَرِ مِنْ الذُّكُورِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ إخْرَاجُ الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفُرُوضِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى إخْرَاجِ ابْنَةِ الْمَخَاضِ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَسِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَسِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَإِحْدَى وَسِتِّينَ، وَيُخْرِجُ ابْنَتَيْ اللَّبُونِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَإِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَيُفْضِي إلَى الِانْتِقَالِ مِنْ ابْنَةِ اللَّبُونِ الْوَاحِدَةِ مِنْ إحْدَى وَسِتِّينَ، إلَى اثْنَتَيْنِ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ، مَعَ تَقَارُبِ الْوَقْصِ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ أَرْبَعُونَ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي السِّخَالِ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُ الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ عَلَيْهِمَا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ. [فَصْلُ مِلْك نَصَّابًا مِنْ الصِّغَار فِي صَدَقَة الشياه] (1720) فَصْلٌ: وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ الصِّغَارِ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْلُغَ سِنًّا يُجْزِئُ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي السِّخَالِ زَكَاةٌ.» وَقَالَ: «لَا تَأْخُذْ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ.» وَلِأَنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ، فَكَانَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ، كَالْعَدَدِ. وَلَنَا، أَنَّ السِّخَالَ تُعَدُّ مَعَ غَيْرِهَا، فَتُعَدُّ مُنْفَرِدَةً، كَالْأُمَّهَاتِ، وَالْخَبَرُ يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهَا قَبْلَ حَوْلِ الْحَوْلِ، وَالْعَدَدُ تَزِيدُ الزَّكَاةُ بِزِيَادَتِهِ، بِخِلَافِ السِّنِّ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَإِذَا مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ إلَّا وَاحِدَةً، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ، وَإِنْ مَاتَتْ كُلُّهَا، انْقَطَعَ الْحَوْلُ. [مَسْأَلَة مَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ] (1721) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَعْزِ الثَّنِيُّ، وَمِنْ الضَّأْنِ الْجَذَعُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ، وَهُوَ مَا لَهُ سَنَةٌ. فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمَالِكُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا فِي السِّنِّ جَازَ، فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِي النِّصَابِ أَخَذَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ فَوْقَ الْفَرْضِ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ دَفْعِ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، وَبَيْنَ شِرَاءِ الْفَرْضِ فَيُخْرِجُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لَا يُجْزِئُ إلَّا الثَّنِيَّةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ، فَكَانَ الْفَرْضُ مِنْهُمَا وَاحِدًا، كَأَنْوَاعِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ تُجْزِئُ الْجَذَعَةُ مِنْهُمَا، لِذَلِكَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ» . وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، «قَوْلُ سَعْدِ بْنِ دُلَيْمٍ: أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَا: إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكَ؛ لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِك. قُلْت: فَأَيَّ شَيْءٍ تَأْخُذَانِ؟ قَالَا: عَنَاقَ جَذَعَةٍ أَوْ ثَنِيَّةً.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: «أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنْ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيَّةَ مِنْ الْمَعْزِ» . وَهَذَا صَرِيحٌ، وَفِيهِ بَيَانُ الْمُطْلَقِ فِي الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، بِخِلَافِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ، بِدَلِيلِ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، فِي جَذَعَةِ الْمَعْزِ: تُجْزِئُكَ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.» قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إنَّمَا أَجْزَأَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، لِأَنَّهُ يُلَقِّحُ، وَالْمَعْزُ لَا يُلَقِّحُ إلَّا إذَا كَانَ ثَنِيًّا. [مَسْأَلَة ضَمَّ أَنْوَاع الْأَجْنَاس بَعْضهَا إلَى بَعْض فِي إيجَاب الزَّكَاة] (1722) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ عِشْرِينَ ضَأْنًا، وَعِشْرِينَ مَعْزًا، أَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ قِيمَتُهُ نِصْفَ شَاةِ ضَأْنٍ وَنِصْفَ مَعْزٍ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ضَمِّ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى ضَمَّ الضَّأْنِ إلَى الْمَعْزِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ أَحَبَّ، سَوَاءٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا، أَوْ لَا يَكُونَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مُوجِبًا لِوَاحِدٍ، أَوْ لَمْ يَدَّعِ، بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَجِبُ فِيهِ فَرِيضَةٌ كَامِلَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ يُخْرِجُ مِنْ أَكْثَرِ الْعَدَدَيْنِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَخْرَجَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ. اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِأَنَّهَا أَنْوَاعٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَتَجِبُ زَكَاةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، كَأَنْوَاعِ الثَّمَرَةِ وَالْحُبُوبِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ، فَجَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، كَمَا لَوْ اسْتَوَى الْعَدَدَانِ، وَكَالسِّمَانِ وَالْمَهَازِيلِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْفَرْضِ، وَقَدْ عَدَلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ أَجْلِهِ، فَالْعُدُولُ إلَى النَّوْعِ أَوْلَى. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مَا قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ الْمُخْرَجِ مِنْ النَّوْعَيْنِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 سَوَاءً، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ أَحَدِهِمَا اثْنَا عَشَرَ، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مَعْزًا، وَالثُّلُثَانِ ضَأْنًا، أَخْرَجَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ ضَأْنًا، وَالثُّلُثَانِ مَعْزًا، أَخْرَجَ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ فِي إبِلِهِ عَشْرٌ بَخَاتِيٌّ، وَعَشْرٌ مُهْرِيَّةٌ، وَعَشْرٌ عَرَابِيَّةٌ، وَقِيمَةُ ابْنَةِ الْمَخَاضِ الْبُخْتِيَّةُ ثَلَاثُونَ، وَقِيمَةُ الْمُهْرِيَّةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيمَةُ الْعَرَابِيَّةِ اثْنَا عَشَرَ، أَخْرَجَ ابْنَةَ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا ثُلُثُ قِيمَةِ ابْنَةِ مَخَاضٍ بُخْتِيَّةٍ، وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَثُلُثَ قِيمَةِ مُهْرِيَّةٍ ثَمَانِيَةٌ، وَثُلُثَ قِيمَةِ عَرَابِيَّةٍ أَرْبَعَةٌ، فَصَارَ الْجَمِيعُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي أَنْوَاعِ الْبَقَرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السِّمَانِ مَعَ الْمَهَازِيلِ، وَالْكِرَامِ مَعَ اللِّئَامِ. فَأَمَّا الصِّحَاحُ مَعَ الْمِرَاضِ، وَالذُّكُورُ مَعَ الْإِنَاثِ، وَالْكِبَارُ مَعَ الصِّغَارِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ أُنْثَى، عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ، إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِالْفَضْلِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا. [فَصْلُ أَخْرَجَ عَنْ النِّصَاب مِنْ غَيْر نَوْعه مِمَّا لَيْسَ فِي مَاله مِنْهُ شَيْء] (1723) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَالِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ نَوْعَيْنِ، فَأَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنْهُمَا. وَالثَّانِي، لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ، مِنْ غَيْرِ نَوْعِ مَالِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ جَازَ فِرَارًا مِنْ تَشْقِيصِ الْفَرْضِ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الْإِخْرَاجَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فِي قَلِيلِ الْإِبِلِ وَشَاةِ الْجُبْرَانِ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَة الْخُلْطَة فِي السَّائِمَة] مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِنَّ اخْتَلَطَ جَمَاعَةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ، وَكَانَ مَرْعَاهُمْ وَمَسْرَحُهُمْ وَمَبِيتُهُمْ وَمُحْلَبُهُمْ وَفَحْلُهُمْ وَاحِدًا، أُخِذَتْ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَلْطَةَ فِي السَّائِمَةِ تَجْعَلُ مَالَ الرَّجُلَيْنِ كَمَالِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الزَّكَاةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خُلْطَةَ أَعْيَانٍ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبٌ مَشَاعٌ، مِثْلُ أَنْ يَرِثَا نِصَابًا أَوْ يَشْتَرِيَاهُ، أَوْ يُوهَبَ لَهُمَا، فَيُبْقِيَاهُ بِحَالِهِ، أَوْ خُلْطَةَ أَوْصَافٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمَيَّزًا، فَخَلَطَاهُ، وَاشْتَرَكَا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، وَسَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الشَّرِكَةِ، أَوْ اخْتَلَفَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَجِلٍ شَاةٌ، وَلِآخَرَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، أَوْ يَكُونَ لِأَرْبَعِينَ رَجُلًا أَرْبَعُونَ شَاةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ، نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّمَا تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ نِصَابٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا أَثَرَ لَهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ دُونَ النِّصَابِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِغَيْرِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَا فِي نِصَابَيْنِ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وَلَنَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ". وَلَا يَجِيءُ التَّرَاجُعُ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ. وَقَوْلُهُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ. إنَّمَا يَكُونُ هَذَا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةٍ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَضُمُّ مَالَهُ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمَاكِنَ، وَهَكَذَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ. وَلِأَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ، فَجَازَ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي الزَّكَاةِ كَالسَّوْمِ وَالسَّقْيِ، وَقِيَاسُهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَسْمُوعٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ خُلْطَةَ الْأَوْصَافِ يُعْتَبَرُ فِيهَا اشْتِرَاكُهُمْ فِي خَمْسَةِ أَوْصَافٍ: الْمَسْرَحُ، وَالْمَبِيتُ، وَالْمَحْلَبُ، وَالْمَشْرَبُ، وَالْفَحْلُ. قَالَ أَحْمَدُ: الْخَلِيطَانِ أَنْ يَكُونَ رَاعِيهُمَا وَاحِدًا، وَمُرَاحُهُمَا وَاحِدًا، وَشِرْبُهُمَا وَاحِدًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ فِي كَلَامِهِ شَرْطًا سَادِسًا، وَهُوَ الرَّاعِي. قَالَ الْخِرَقِيِّ: " وَكَانَ مَرْعَاهُمْ وَمَسْرَحُهُمْ وَاحِدًا ". فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْعَى الرَّاعِيَ، لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ أَحْمَدَ، وَلِكَوْنِ الْمَرْعَى هُوَ الْمَسْرَحُ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: الْمَرْعَى وَالْمَسْرَحُ شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَحْمَدُ الْمَسْرَحَ لِيَكُونَ فِيهِ رَاعٍ وَاحِدٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، فِي " سُنَنِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِي " وَرُوِيَ " الْمَرْعَى ". وَبِنَحْوٍ مِنْ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْخُلْطَةِ إلَّا شَرْطَانِ: الرَّاعِي، وَالْمَرْعَى؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ". وَالِاجْتِمَاعُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى خُلْطَةً، فَاكْتُفِيَ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْخَلِيطَانِ: مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ.» فَإِنَّ قِيلَ: فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ زِيَادَةً عَلَى هَذَا؟ قُلْنَا: هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّرَائِطِ، وَإِلْغَاءٌ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَأْثِيرًا. فَاعْتُبِرَ كَالْمَرْعَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمَبِيتُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الْمُرَاحُ الَّذِي تَرُوحُ إلَيْهِ الْمَاشِيَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] . وَالْمَسْرَحُ وَالْمَرْعَى وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الْمَاشِيَةُ، يُقَالُ: سَرَحَتْ الْغَنَمُ، إذَا مَضَتْ إلَى الْمَرْعَى، وَسَرَحْتهَا، أَيْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] . وَالْمَحْلَبُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُحْلَبُ فِيهِ الْمَاشِيَةُ، يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، وَلَا يُفْرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِحَلْبِ مَاشِيَتِهِ مَوْضِعًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَلْطَ اللَّبَنِ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرْفِقٍ، بَلْ مَشَقَّةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى قَسْمِ اللَّبَنِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْفَحْلِ وَاحِدًا، أَنْ لَا تَكُونَ فُحُولَةُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ لَا تَطْرُقُ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ الرَّاعِي، هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِكُلِّ مَالٍ رَاعٍ، يَنْفَرِدُ بِرِعَايَتِهِ دُونَ الْآخَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِطَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يُعْتَدَّ بِخَلْطَتِهِ، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْخُلْطَةِ وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ اشْتَرَطَهَا. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ» . وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْخُلْطَةِ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِي حُكْمِهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُلْطَةِ مِنْ الِارْتِفَاقِ يَحْصُلُ بِدُونِهَا، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ وُجُودُهَا مَعَهُ، كَمَا لَا تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ السَّوْمِ فِي الْإِسَامَةِ، وَلَا نِيَّةُ السَّقْيِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَلَا نِيَّةُ مُضِيِّ الْحَوْلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِيهِ. [فَصْلُ زَكَاة خُلْطَةِ الْأَنْعَام] (1725) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَالِ الرَّجُلِ مُخْتَلِطًا، وَبَعْضُهُ مُنْفَرِدًا، أَوْ مُخْتَلِطًا مَعَ مَالٍ لِرَجِلٍ آخَرَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَصِيرُ مَالُهُ كُلُّهُ كَالْمُخْتَلِطِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْخُلْطَةِ نِصَابًا، فَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا، فَلَوْ كَانَ لِرَجِلٍ سِتُّونَ شَاةً، مِنْهَا عِشْرُونَ مُخْتَلِطَةٌ مَعَ عِشْرِينَ لِرَجِلٍ آخَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ، رُبْعُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ، وَبَاقِيهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا ضَمَمْنَا مِلْكَ صَاحِبِ السِّتِّينَ صَارَ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ كَالْمُخَالِطِ لِسِتِّينَ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ ثَمَانِينَ، عَلَيْهَا شَاةٌ بِالْحِصَصِ. وَلَوْ كَانَ لِصَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةُ خُلَطَاءَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعِشْرِينَ، وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ شَاةٌ، نِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ، وَنِصْفُهَا عَلَى الْخُلَطَاءِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدْسُ شَاةٍ. وَلَوْ كَانَ رَجُلَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتُّونَ، فَخَالَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِعِشْرِينَ فَقَطْ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَإِنْ اخْتَلَطَا فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ اخْتَلَطَا فِي أَرْبَعِينَ، لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُونَ، ثَبَتَ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ لِوُجُودِهَا فِي نِصَابٍ كَامِلٍ. (1726) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُهُمْ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الِانْفِرَادِ فِي بَعْضِهِ زَكَّوْا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِينَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُهُمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» . يَعْنِي فِي وَقْتِ أَخْذِ الزَّكَاةِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مَالٌ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجْتَمِعِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَتَى كَانَ لِرَجُلَيْنِ ثَمَانُونَ شَاةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَكَانَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ السِّنِينَ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، فَإِنْ اتَّفَقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 حَوْلَاهُمَا أَخْرَجَا شَاةً عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ حَوْلٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَإِنْ اخْتَلَفَ حَوْلَاهُمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ نِصْفُ شَاةٍ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِ، فَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ شَاةٍ أَيْضًا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ النِّصَابِ نَظَرْت، فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ جَمِيعَهَا عَنْ مِلْكِهِ، فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ، وَإِنْ أَخْرَجَ نِصْفَ شَاةٍ فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ. [فَصْلُ إذَا كَانَ لَأَحَدِهِمَا نِصَابٌ وَلِلْآخَرِ دُونَ النِّصَابِ فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ] (1727) فَصْلٌ: وَإِنْ ثَبَتَ لَأَحَدِهِمَا حُكْمُ الِانْفِرَادِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يَمْلِكَ رَجُلَانِ نِصَابَيْنِ فَيَخْلِطَاهُمَا، ثُمَّ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا نِصَابٌ مُنْفَرِدٌ، فَيَشْتَرِي آخَرُ نِصَابًا، وَيَخْلِطُهُ بِهِ فِي الْحَالِ، إذَا قُلْنَا: الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَقِيبَ مِلْكِهَا مُنْفَرِدَةً فِي جُزْءٍ، وَإِنْ قَلَّ، أَوْ يَكُونَ لَأَحَدِهِمَا نِصَابٌ وَلِلْآخَرِ دُونَ النِّصَابِ، فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْخُلْطَةِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَيُزَكِّيَانِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، كُلَّمَا تَمَّ حَوْلُ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْجَمِيعِ بِقَدْرِ مَالِهِ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَالَانِ جَمِيعًا ثَمَانِينَ شَاةً، فَأَخْرَجَ الْأَوَّلُ مِنْهَا شَاةً، زَكَاةَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي يَمْلِكُهَا، فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا. فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ كُلَّهَا مِنْ مِلْكِهِ، وَحَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ شَاةٍ، زَكَاةَ خُلْطَةِ. فَإِنْ أَخْرَجَهُ وَحْدَهُ، فَعَلَى الثَّانِي تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا، مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ، وَإِنْ تَوَالَدَتْ شَيْئًا حُسِبَ مَعَهَا. [فَصْلُ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ شَاة مُخْتَلِطَة مَضَى عَلَيْهَا بَعْض الْحَوْل فَتُبَايِعَاهَا] (1728) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ شَاةً مُخْتَلِطَةً، مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ، فَتَبَايَعَاهَا، بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَنَمَهُ صَاحِبَهُ مُخْتَلِطَةً، وَبَعَثَاهَا عَلَى الْخُلْطَةِ، لَمْ يُقْطَعْ حَوْلُهُمَا، وَلَمْ تَزُلْ خُلْطَتُهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بَعْضَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِ إفْرَادٍ، قَلَّ الْمَبِيعُ أَوْ كَثُرَ. فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَاهَا ثُمَّ تَبَايَعَاهَا ثُمَّ خَلَطَاهَا، وَتَطَاوَلَ زَمَنُ الْإِفْرَادِ، بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ. وَإِنْ خَلَطَاهَا عَقِيبَ الْبَيْعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ هَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ يُعْفَى وَالثَّانِي، يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، فَيُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدَيْنِ. وَإِنْ أَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ نِصَابٍ وَتَبَايَعَاهُ، لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَكَأَنَّ الثَّمَانِينَ مُخْتَلِطَةٌ بِحَالِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا أَقَلِّ مِنْ النِّصْفِ. وَإِنْ تَبَايَعَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ مُنْفَرِدًا، بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَهَا فِي نِصَابٍ، فَمَتَى بَقِيَتْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ صَارَا مُنْفَرِدَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ الْخُلْطَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَبِيعِ، وَيَصِيرُ مُنْفَرِدًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ بِجِنْسِهِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فِيهِ. فَتَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْحَوْلِ. وَسَنُبَيِّنُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ لَا يَنْقَطِعُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَلَا تَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمُشْتَرَى بِبِنَائِهِ عَلَى حَوْلِ الْمَبِيعِ، فَيَجِبُ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ فِي الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، فَخَلَطَاهُ، ثُمَّ تَبَايَعَاهُ، فَعَلَيْهِمَا فِي الْحَوْلِ زَكَاةُ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ بِبِنَائِهِ عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجِلٍ نِصَابٌ مُنْفَرِدٌ، فَبَاعَهُ بِنِصَابٍ مُخْتَلِطٍ، زَكَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي الثَّانِي تَجِبُ بِبِنَائِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَهُمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَصَلَ الِانْفِرَادُ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ مُخْتَلِطَةٌ مَعَ مَالٍ آخَرَ، فَتَبَايَعَاهَا، وَبَعَثَاهَا مُخْتَلِطَةً، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ. وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِالْأَرْبَعِينَ الْمُخْتَلِطَةِ أَرْبَعِينَ مُنْفَرِدَةً، وَخَلَطَهَا فِي الْحَالِ، احْتَمَلَ أَنْ يُزَكِّيَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ مُخْتَلِطَةٍ، وَزَمَنُ الِانْفِرَادِ يَسِيرٌ، فَعُفِيَ عَنْهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُزَكِّيَ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، لِوُجُودِ الِانْفِرَادِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ. [فَصْلُ لِرَجِلٍ أَرْبَعُونَ شَاة وَمَضَى عَلَيْهَا بَعْض الْحَوْل فَبَاعَ بَعْضهَا مُشَاعًا فِي بَعْض الْحَوْل] (1729) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجِلٍ أَرْبَعُونَ شَاةً، وَمَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ، فَبَاعَ بَعْضَهَا مَشَاعًا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ، وَيَسْتَأْنِفَانِ حَوْلًا مِنْ حِينِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمُشْتَرَى قَدْ انْقَطَعَ الْحَوْلُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ أَصْلًا، فَلَزِمَ انْقِطَاعُ الْحَوْلِ فِي الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ فِيمَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْخُلْطَةِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ، فَلَا يَمْنَعُ اسْتَدَامَتْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَالَطَ غَيْرَهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، فَإِذَا خَالَطَ فِي بَعْضِهِ نَفْسَهُ، وَفِي بَعْضِهِ غَيْرَهُ، كَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ حَوْلُ الْمَبِيعَةِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْعِشْرُونَ لَمْ تَزَلْ مُخَالِطَةً لِمَالٍ جَارٍ فِي الزَّكَاةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَلَّمَ عَلَى بَعْضِهَا وَبَاعَهُ مُخْتَلِطًا. فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ بَعْضَهَا وَبَاعَهُ، فَخَلَطَهُ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ بِغَنَمِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ؛ لِثُبُوتِ حُكْمِ الِانْفِرَادِ فِي الْبَعْضِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا مُخْتَلِطَةً؛ لِأَنَّ هَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأَرْبَعُونَ لِرَجُلَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَجْنَبِيًّا، فَعَلَى هَذَا إذَا تَمَّ حَوْلُ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ، ثُمَّ إذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي نَظَرْنَا فِي الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مُخَالِطًا لَهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي صَارَ لَهُ، فَلَا يَنْقُصُ النِّصَابُ إذًا، وَيُخْرِجُ الثَّانِي نِصْفَ شَاةٍ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ، وَقُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ. وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ شَاةٍ. وَإِنْ قُلْنَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ. فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 نِصْفُ شَاةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ مَلَكُوا جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِالْجَانِي، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ نَقَصَ النِّصَابَ. وَهَذَا الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ فَائِدَةَ قَوْلِنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، لَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ نِصَابٌ خُلْطَةٌ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا خَلِيطَهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، فَهِيَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الصُّورَةِ، وَمِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ خَلِيطَ نَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ خَلِيطَ أَجْنَبِيٍّ، وَهَا هُنَا كَانَ خَلِيطَ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ صَارَ خَلِيطَ نَفْسِهِ. وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ رَجُلَانِ مُتَوَارِثَانِ، لَهُمَا نِصَابُ خُلْطَةٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، فَوَرِثَهُ صَاحِبُهُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ، مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لَهُمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِمُفْرَدِهِ يَبْلُغُ نِصَابًا. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ لَهُ خَاصَّةً. [فَصْل اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَرْعَى لَهُ بِشَاةِ مُعِينَة مِنْ النِّصَاب فَحَال الْحَوْل وَلَمْ يُفَرِّدهَا] (1730) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَرْعَى لَهُ بِشَاةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ النِّصَابِ، فَحَالَ الْحَوْلُ، وَلَمْ يُفْرِدْهَا، فَهُمَا خَلِيطَانِ تَجِبُ عَلَيْهِمَا زَكَاةُ الْخُلْطَةِ. وَإِنْ أَفْرَدَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِنُقْصَانِ النِّصَابِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِشَاةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، صَحَّ أَيْضًا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْتَضِيه غَيْرُ النِّصَابِ، انْبَنَى عَلَى الدَّيْنِ، هَلْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ؟ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة السَّاعِيَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَيِّ الْخَلِيطَيْنِ شَاءَ] (1731) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَرَاجَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلَطَاءَ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْوَاحِدِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَيِّ الْخَلِيطَيْنِ شَاءَ، سَوَاءٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ عَيْنًا وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ لَا يَجِدَ فَرْضَهُمَا جَمِيعًا إلَّا فِي أَحَدِ الْمَالَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَالُ أَحَدِهِمَا صِحَاحًا كِبَارًا، وَمَالُ خَلِيطِهِ صِغَارًا أَوْ مِرَاضًا، فَإِنَّهُ تَجِبُ صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَجِدَ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا يَجِيءُ الْمُصَدِّقُ فَيَجِدُ الْمَاشِيَةَ، فَيُصَدِّقُهَا، لَيْسَ يَجِيءُ فَيَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ لَك؟ وَإِنَّمَا يُصَدِّقُ مَا يَجِدُهُ، وَالْخَلِيطُ قَدْ يَنْفَعُ وَقَدْ يَضُرُّ. قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَا رَأَيْت مِسْكِينًا كَانَ لَهُ فِي غَنَمٍ شَاتَانِ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ فَأَخَذَ إحْدَاهُمَا. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وَقَوْلُهُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ.» وَهُمَا خَشْيَتَانِ: خَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ، وَخَشْيَةُ السَّاعِي مِنْ نُقْصَانِهَا. فَلَيْسَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَجْمَعُوا أَمْوَالَهُمْ الْمُتَفَرِّقَةَ، الَّتِي كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَاةً، لِيَقِلَّ الْوَاجِبُ فِيهَا، وَلَا أَنْ يُفَرِّقُوا أَمْوَالَهُمْ الْمُجْتَمِعَةَ، الَّتِي كَانَ فِيهَا بِاجْتِمَاعِهَا فَرْضٌ، لِيَسْقُطَ عَنْهَا بِتَفْرِقَتِهَا، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ، لِتَكْثُرَ الزَّكَاةُ، وَلَا أَنْ يَجْمَعَهَا إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً لِتَجِبَ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّ الْمَالَيْنِ قَدْ صَارَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ فِي إخْرَاجِهَا. وَمَتَى أَخَذَ السَّاعِي الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا، رَجَعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنْ الْفَرْضِ، فَإِذَا كَانَ لَأَحَدِهِمَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ، فَأَخَذَ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، رَجَعَ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْآخَرِ، رَجَعَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا اخْتَلَفَا، وَعَدِمَتْ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَالْغَاصِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ تَلَفِهِ. [فَصْل أَخَذَ السَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الْفَرْضِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ] (1732) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ السَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الْفَرْضِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ شَاتَيْنِ مَكَانَ شَاةٍ، أَوْ يَأْخُذَ جَذَعَةً مَكَانَ حِقَّةٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَّا بِقَدْرِ الْوَاجِبِ. وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّحِيحَةَ عَنْ الْمِرَاضِ، وَالْكَبِيرَةَ عَنْ الصِّغَارِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْحِصَّةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَخْذِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إلَيْهِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ، رَجَعَ بِمَا يَخُصُّ شَرِيكَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ بِتَأْوِيلٍ. [فَصْل مِلْك رَجُل أَرْبَعِينَ شَاة فِي الْمُحْرِم وَأَرْبَعِينَ فِي صَفَر وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيع] (1733) فَصْلٌ: إذَا مَلَكَ رَجُلٌ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي الْمُحَرَّمِ، وَأَرْبَعِينَ فِي صَفَرٍ، وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيعٍ، فَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي، فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكُ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَزِدْ فَرْضُهُ عَلَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُ. وَالثَّانِي، فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَقَلَّ بِشَاةٍ، فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الثَّانِي، وَهِيَ نِصْفُ شَاةٍ؛ لِاخْتِلَاطِهَا بِالْأَرْبَعِينَ الْأُولَى مِنْ حِينِ مَلَكَهَا. وَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّالِثِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَالثَّانِي، فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ ثُلُثُ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُخْتَلِطًا بِالثَّمَانِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الثَّالِثِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ نِصَابٌ كَامِلٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَتْ فِيهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَالِكُ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ أَجْنَبِيَّيْنِ، مَلَكَاهُمَا مُخْتَلِطَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا إلَّا زَكَاةُ خُلْطَةٍ، فَإِذَا كَانَ لِمَالِكِ الْأَوَّلِ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ ضَمَّ بَعْضَ مَالِهِ إلَى بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ ضَمِّ مِلْكِ الْخَلِيطِ إلَى خَلِيطِهِ. وَإِنْ مَلَكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ، مِثْلُ أَنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ، فَعَلَيْهِ فِيهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ ثَانِيَةٌ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ مِلْكَهُ فِي الْإِيجَابِ، كَمِلْكِهِ لِلْكُلِّ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ كُلِّ مَالٍ شَاةٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي حِصَّتُهُ مِنْ فَرْضِ الْمَالَيْنِ مَعًا، وَهُوَ شَاةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْمَالَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَانَ عَلَيْهِ فِيهِمَا شَاتَانِ، حِصَّةُ الْمِائَةِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِمَا، وَهُوَ شَاةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ شَاةٍ، وَعَلَيْهِ فِي الثَّالِثِ شَاةٌ وَرُبْعٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْجَمِيعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً، لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، حِصَّةُ الثَّالِثِ مِنْهُنَّ رُبْعُهُنَّ وَسُدْسُهُنَّ، وَهُوَ شَاةٌ وَرُبْعٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ لِلْأَمْوَالِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ، وَمَلَكَ الثَّانِي سَائِمَتَهُ مُخْتَلِطَةً بِسَائِمَةِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَلَكَ الثَّالِثُ سَائِمَتَهُ مُخْتَلِطَةً بِغَنَمِهِمَا، لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، لَا غَيْرُ. [فَصْل مِلْك عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِل فِي الْمُحْرِم وَخَمْسًا فِي صَفَر] (1734) فَصْلٌ: فَإِنْ مَلَكَ عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَخَمْسًا فِي صَفَرٍ، فَعَلَيْهِ فِي الْعِشْرِينَ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي الْخَمْسِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا خُمْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ. عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ، عَلَيْهِ شَاةٌ. وَإِنْ مَلَكَ فِي الْمُحَرَّمِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَفِي صَفَرٍ خَمْسًا، فَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي: عَلَيْهِ سُدْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ. وَعَلَى الثَّالِثِ عَلَيْهِ فِيهَا شَاةٌ. فَإِنْ مَلَكَ مَعَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ شَيْئًا، فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ السِّتِّ، فَيَجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ بِنْتِ لَبُونٍ وَنِصْفُ تُسْعِهَا. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي، عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ سُدْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ إذَا تَمَّ حَوْلُهَا، وَفِي السِّتِّ سُدْسُ بِنْتِ لَبُونٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا. وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، وَفِي السِّتِّ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا. [فَصْل كَانَتْ سَائِمَة الرَّجُل فِي بَلَدَانِ شَتَّى وَبَيْنَهُمَا مَسَافَة لَا تُقَصِّر فِيهَا الصَّلَاة] (1735) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، أَوْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَكَانَتْ زَكَاتُهَا كَزَكَاةِ الْمُخْتَلِطَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبُلْدَانِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ لِكُلِّ مَالٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، يُعْتَبَرُ عَلَى حِدَتِهِ، إنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 يُضَمُّ إلَى الْمَالِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ. نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا أَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ غَيْرِ أَحْمَدَ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ.» وَهَذَا مُفَرَّقٌ فَلَا يُجْمَعُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ اجْتِمَاعُ مَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ، فِي كَوْنِهِمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ، يَجِبُ أَنْ يُؤَثِّرَ افْتِرَاقُ مَالِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، حَتَّى يَجْعَلَهُ كَالْمَالَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَ فِي مَنْ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ فِي بُلْدَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ: لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَصَاحِبُهَا إذَا ضَبَطَ ذَلِكَ وَعَرَفَهُ أَخْرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ، يَضَعُهَا فِي الْفُقَرَاءِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ الْمَيْمُونِيِّ وَحَنْبَلٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَاتَهَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، إلَّا أَنَّ السَّاعِيَ لَا يَأْخُذُهَا؛ لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ نِصَابًا كَامِلًا مُجْتَمِعًا، وَلَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِيهَا، فَأَمَّا الْمَالِكُ الْعَالِمُ بِمِلْكِهِ نِصَابًا كَامِلًا، فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمَذْهَبُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي مَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ عَلَى رَاعِيَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بِبُلْدَانٍ شَتَّى، أَنَّ ذَلِكَ يُجْمَعُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَيُؤَدِّي صَدَقَتَهُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ". وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ وَاحِدٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي بُلْدَانٍ مُتَقَارِبَةٍ، أَوْ غَيْرَ السَّائِمَةِ. وَنَحْمِلُ كَلَامَ أَحْمَدَ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ لَا يَأْخُذُهَا، وَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَيُخْرِجُ. فَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ الْفَرْضَ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. [مَسْأَلَة اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوض التِّجَارَة وَالزُّرُوع وَالثِّمَار] (1736) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ هَذَا، أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، إذَا كَانَ مَا يَخُصُّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، لَمْ تُؤَثِّرْ خَلَطَتْهُمْ شَيْئًا، وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ الْمُنْفَرِدِينَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ شَرِكَةَ الْأَعْيَانِ تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ، فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ فِي الزَّرْعِ، إذَا كَانُوا شُرَكَاءَ فَخَرَجَ لَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، يَقُولُ: فِيهِ الزَّكَاةُ. قَاسَهُ عَلَى الْغَنَمِ، وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ بِحَالٍ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ لَا يَحْصُلُ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَخِفُّ إذَا كَانَ الْمُلَقِّحُ وَاحِدًا، وَالصِّعَادُ، وَالنَّاطُورُ، وَالْجَرِينُ، وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ؛ الدُّكَّانُ وَاحِدٌ، وَالْمَخْزَنُ وَالْمِيزَانُ وَالْبَائِعُ، فَأَشْبَهَ الْمَاشِيَةَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا حَكَيْنَا فِي مَذْهَبِنَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اشْتَرَكَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِي.» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ خُلْطَةً مُؤَثِّرَةً، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» . إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَقِلُّ بِجَمْعِهَا تَارَةً، وَتَكْثُرُ أُخْرَى، وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ تَجِبُ فِيهَا فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ، فَلَا أَثَرَ لِجَمْعِهَا، وَلِأَنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَاشِيَةِ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْعِ تَارَةً، وَفِي الضَّرَرِ أُخْرَى، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مَحْضًا بِرَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ وَقْفٌ أَوْ حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ زَرْعٌ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ كَامِلٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي بَابِ الْوَقْفِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، إذَا كَانَ الْخَارِجُ نِصَابًا، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ نِصَابًا مِنْ السَّائِمَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مِلْكِ نِصَابٍ تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُخْرَجَ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِنَقْصِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ، بِدَلِيلِ مَالِ الْمُكَاتَبِ. [فَصْل لَا زَكَاة فِي غَيْر بَهِيمَة الْأَنْعَام مِنْ الْمَاشِيَة] (1737) فَصْلٌ: وَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ الْمَاشِيَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْخَيْلِ الزَّكَاةُ، إذَا كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُفْرَدَةً، أَوْ إنَاثًا مُفْرَدَةً، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ، وَزَكَاتُهَا دِينَارٌ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ، أَوْ رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهَا، وَالْخِيَرَةُ فِي ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهَا، أَيَّهُمَا شَاءَ أَخْرَجَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ، فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ الرَّأْسِ عَشَرَةً، وَمِنْ الْفَرَسِ عَشَرَةً، وَمِنْ الْبِرْذَوْنِ خَمْسَةً. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُطْلَبُ نَمَاؤُهُ مِنْ جِهَةِ السَّوْمِ، أَشْبَهَ النَّعَمَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي فَرَسِهِ وَلَا فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ.» وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْغَرِيبِ "، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ، وَلَا فِي النُّخَّةِ، وَلَا فِي الْكُسْعَةِ صَدَقَةٌ.» وَفَسَّرَ الْجَبْهَةَ بِالْخَيْلِ، وَالنُّخَّةَ بِالرَّقِيقِ، وَالْكُسْعَةَ بِالْحَمِيرِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: النُّخَّةُ: بِضَمِّ النُّونِ: الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ. وَلِأَنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِي ذُكُورِهِ الْمُفْرَدَةِ، وَإِنَاثِهِ الْمُفْرَدَةِ، لَا زَكَاةَ فِيهِمَا إذَا اجْتَمَعَا، كَالْحَمِيرِ. وَلِأَنَّ مَا لَا يُخْرَجُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ السَّائِمَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ، كَسَائِرِ الدَّوَابِّ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ دَوَابُّ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا، كَسَائِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 الدَّوَابِّ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا، كَالْوُحُوشِ. وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ غَوْرَكُ السَّعْدِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا تَبَرَّعُوا بِهِ، وَسَأَلُوهُ أَخْذَهُ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْهُ بِرِزْقِ عَبِيدِهِمْ، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَارِثَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إنَّا قَدْ أَصَبْنَا مَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا، نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ. قَالَ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي، فَأَفْعَلُهُ فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ جِزْيَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ أَحْمَدُ: فَكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَرْزُقُ عَبِيدَهُمْ،. فَصَارَ حَدِيثُ عُمَرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، قَوْلُهُ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ. يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَا فِعْلَهُ. الثَّانِي، أَنَّ عُمَرَ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْوَاجِبِ. الثَّالِثُ، قَوْلُ عَلِيٍّ: هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ جِزْيَةٌ يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ. فَسَمَّى جِزْيَةً إنْ أُخِذُوا بِهَا، وَجَعَلَ حُسْنَهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ أَخْذِهِمْ بِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الرَّابِعُ، اسْتِشَارَةُ عُمَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَخْذِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ إلَى الِاسْتِشَارَةِ. الْخَامِسُ، أَنَّهُ لَمْ يُشِرْ عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ أَحَدٌ سِوَى عَلِيٍّ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَشَارُوا بِهِ. السَّادِسُ، أَنَّ عُمَرَ عَوَّضَهُمْ عَنْهُ رِزْقَ عَبِيدِهِمْ، وَالزَّكَاةُ لَا يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى النَّعَمِ؛ لِأَنَّهَا يَكْمُلُ نَمَاؤُهَا، وَيُنْتَفَعُ بِدَرِّهَا وَلَحْمِهَا، وَيُضَحَّى بِجِنْسِهَا، وَتَكُونُ هَدْيًا، وَفِدْيَةً عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنِهَا، وَيُعْتَبَرُ كَمَالُ نِصَابِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، وَالْخَيْلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة الصَّدَقَة لَا تَجِب إلَّا عَلَى أَحْرَار الْمُسْلِمِينَ] (1738) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: " إلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ". وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى حُرٍّ مُسْلِمٍ تَامِّ الْمِلْكِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَلَى الْعَبْدِ زَكَاةُ مَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةٌ، كَالْمُكَاتَبِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَمَتَى صَارَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ، اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا ثُمَّ زَكَّاهُ، فَأَمَّا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ إذَا مَلَكَ نِصَابًا خَالِيًا عَنْ دَيْنٍ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، أَوْ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا. [مَسْأَلَة وُجُوب الزَّكَاة فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ فِيهِمَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَالْعَنْبَرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلَا تُخْرَجُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، وَيُفِيقَ الْمَعْتُوهُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أُحْصِي مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ أُعْلِمُهُ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُزَكِّ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِمَا وَثَمَرَتِهِمَا، وَتَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا. وَاحْتَجَّ فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ.» وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ؛ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ.» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي رُوَاتِهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَفِيهِ مَقَالٌ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ: " وَإِنَّمَا تَأْكُلُهُ الصَّدَقَةُ بِإِخْرَاجِهَا ". وَإِنَّمَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَلِأَنَّ مِنْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَجَبَ رُبْعُ الْعُشْرِ فِي وَرِقِهِ، كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَيُخَالِفُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْبَدَنِ، وَبِنْيَةُ الصَّبِيِّ ضَعِيفَةٌ عَنْهَا، وَالْمَجْنُونُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ نِيَّتُهَا، وَالزَّكَاةُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَأُرُوشَ الْجِنَايَات، وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَالْحَدِيثُ أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالزَّكَاةُ فِي الْمَالِ فِي مَعْنَاهُ، فَنَقِيسُهَا عَلَيْهِ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُخْرِجُهَا عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ إخْرَاجُهَا، كَزَكَاةِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَالْوَلِيُّ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَكَانَ عَلَى الْوَلِيِّ أَدَاؤُهُ عَنْهُمَا، كَنَفَقَةِ أَقَارِبِهِ، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ، كَمَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ. [مَسْأَلَة السَّيِّد يُزَكِّي عَمَّا فِي يَد عَبْده] (1740) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالسَّيِّدُ يُزَكِّي عَمَّا فِي يَدِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ) يَعْنِي أَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي زَكَاةِ مَالِ الْعَبْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 الَّذِي مَلَّكَهُ إيَّاهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ: زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ. هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْهُ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ؛ لَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ، إذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَمْلِكُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّيِّدَ مَالِكًا لِمَالِ عَبْدِهِ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ مِلْكَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ كَالْبَهَائِمِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ فِي يَدِ عَبْدِهِ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ، كَالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِيَةُ، يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَمْلِكُ النِّكَاحَ، فَمَلَكَ الْمَالَ، كَالْحُرِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَالَ لِبَنِي آدَمَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. فَبِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ وَيَصْلُحُ لَهُ، كَمَا يَتَمَهَّدُ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى السَّيِّدِ فِي مَالِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى تَامِّ الْمِلْكِ. (1741) فَصْلٌ: وَمِنْ بَعْضُهُ حُرٌّ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَمِلْكُهُ كَامِلٌ فِيهِ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ، كَالْحُرِّ الْكَامِلِ. وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ فِيهِمَا. [مَسْأَلَة لَا زَكَاة عَلَى مُكَاتَب] (1742) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ عَلَى مُكَاتَبٍ) فَإِنْ عَجَزَ اسْتَقْبَلَ سَيِّدُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ حَوْلًا وَزَكَاةً، إنْ كَانَ نِصَابًا، وَإِنْ أَدَّى، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ، اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا. لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ فِي مَالِهِ؛ إلَّا قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَ هَذَا. وَاحْتَجَّ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ السَّيِّدِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْهُونِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.» رَوَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، فَلَمْ تَجِبْ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَفَارَقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُنِعَ التَّصَرُّفَ لِنَقْصِ تَصَرُّفِهِ، لَا لِنَقْصِ مِلْكِهِ، وَالْمَرْهُونُ مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِعَقْدِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى كَانَ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِدَيْنٍ لَا يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، صَارَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَا نِصَابًا، أَوْ يَبْلُغُ بِضَمِّهِ إلَى مَا فِي يَدِهِ نِصَابًا، اسْتَأْنَفَ لَهُ حَوْلًا مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَزَكَّاهُ، كَالْمُسْتَفَادِ سَوَاءً. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ نُجُومَ كِتَابَتِهِ، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا كَامِلَ الْمِلْكِ، فَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ حِينِ عِتْقِهِ، وَيُزَكِّيه إذَا تَمَّ الْحَوْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل] (1743) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ، فِي " السُّنَنِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَهَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ مُبْقًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الزَّكَاتِيَّةَ خَمْسَةٌ: السَّائِمَةُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَثْمَانُ؛ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَقِيَمُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، سِوَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمُسْتَفَادِ. وَالرَّابِعُ: مَا يُكَالُ وَيُدَّخَرُ مِنْ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالْخَامِسُ: الْمَعْدِنُ. وَهَذَانِ لَا يُعْتَبَرُ لَهُمَا حَوْلٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ، أَنَّ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ مَرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ، فَالْمَاشِيَةُ مُرْصَدَةٌ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ مُرْصَدَةٌ لِلرِّبْحِ، وَكَذَا الْأَثْمَانُ، فَاعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ؛ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ، لِيَكُونَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنَّهُ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوَاسَاةً، وَلَمْ نَعْتَبِرْ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِ، وَعَدَمِ ضَبْطِهِ، وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَتْ مَظِنَّتُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى حَقِيقَتِهِ، كَالْحُكْمِ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ضَابِطٍ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى تَعَاقُبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ مَرَّاتٍ، فَيَنْفَدَ مَالُ الْمَالِكِ. أَمَّا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَهِيَ نَمَاءٌ فِي نَفْسِهَا، تَتَكَامَلُ عِنْدَ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا، فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ تَعُودُ فِي النَّقْصِ لَا فِي النَّمَاءِ؛ فَلَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِعَدَمِ إرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ، وَالْخَارِجُ مِنْ الْمَعْدِنِ مُسْتَفَادٌ خَارِجٌ مِنْ الْأَرْضِ، بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُلِّ حَوْلٍ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلنَّمَاءِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَثْمَانَ قِيَمُ الْأَمْوَالِ، وَرَأْسُ مَالِ التِّجَارَاتِ، وَبِهَذَا تَحْصُلُ الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِذَلِكَ، فَكَانَتْ بِأَصْلِهَا وَخِلْقَتِهَا، كَمَالِ التِّجَارَةِ الْمُعَدِّ لَهَا. (1744) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَفَادَ مَالًا مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْلُ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، وَكَانَ نِصَابًا، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ جِنْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 لَا يَبْلُغُ نِصَابًا، فَبَلَغَ بِالْمُسْتَفَادِ نِصَابًا، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينَئِذٍ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ، لَمْ يَخْلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ نَمَائِهِ كَرِبْحِ مَالِ التِّجَارَةِ وَنَتَاجِ السَّائِمَةِ، فَهَذَا يَجِبُ ضَمُّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَيُعْتَبَرُ حَوْلُهُ بِحَوْلِهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَشْبَهَ النَّمَاءَ الْمُتَّصِلَ، وَهُوَ زِيَادَةُ قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَيَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، فَهَذَا لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي حَوْلٍ وَلَا نِصَابٍ، بَلْ إنْ كَانَ نِصَابًا اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا وَزَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ حِينَ اسْتَفَادَهُ. قَالَ أَحْمَدُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعْطِينَا وَيُزَكِّيه. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي مَنْ بَاعَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ، أَنَّهُ يُزَكِّي الثَّمَنَ حِينَ يَقَعُ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَهْرٌ يُعْلَمُ، فَيُؤَخِّرَهُ حَتَّى يُزَكِّيَهُ مَعَ مَالِهِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ شُذُوذٌ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ بَاعَ دَارِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ، إذَا قَبَضَ الْمَالَ يُزَكِّيهِ. وَإِنَّمَا نَرَى أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَصَارَتْ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِلْحَوْلِ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: إذَا كَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا فِي سَنَةٍ بِأَلْفٍ، فَحَصَلَتْ لَهُ الدَّرَاهِمُ وَقَبَضَهَا، زَكَّاهَا إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، مِنْ حِينِ قَبَضَهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُكْتَرِي فَمِنْ يَوْمِ وَجَبَتْ لَهُ فِيهَا الزَّكَاةُ. بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، زَكَاةٌ مِنْ يَوْمِ وَجَبَ لَهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَسْتَفِيدَ مَالًا مِنْ جِنْسِ نِصَابٍ عِنْدَهُ، قَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ، مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ، فَيَشْتَرِي أَوْ يَتَّهِبُ مِائَةً، فَهَذَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ حَوْلٌ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَضُمُّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ، فَيُزَكِّيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْمَالِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ مَالٍ مُزَكًّى؛ لِأَنَّهُ يُضَمُّ إلَى جِنْسِهِ فِي النِّصَابِ، فَوَجَبَ ضَمُّهُ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ كَالنِّتَاجِ، وَلِأَنَّهُ إذَا ضُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 فِي النِّصَابِ وَهُوَ سَبَبٌ، فَضَمُّهُ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ أَوْلَى. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، مَضَى عَلَيْهَا نِصْفُ الْحَوْلِ، فَوَهَبَ لَهُ مِائَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا إذَا تَمَّ حَوْلُهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَوْلَا الْمِائَتَانِ مَا وَجَبَ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى الْمِائَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ، وَلِأَنَّ إفْرَادَهُ بِالْحَوْلِ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْوَاجِبِ فِي السَّائِمَةِ، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْوَاجِبِ، وَالْحَاجَةِ إلَى ضَبْطِ مَوَاقِيتِ التَّمَلُّكِ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مَلَكَهُ، وَوُجُوبِ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إخْرَاجِهِ، ثُمَّ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَوْلٍ وَوَقْتٍ، وَهَذَا حَرَجٌ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ غَيْرِ الْجِنْسِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، وَجَعَلَ الْأَوْقَاصَ فِي السَّائِمَةِ، وَضَمَّ الْأَرْبَاحَ وَالنِّتَاجَ إلَى حَوْلِ أَصْلِهَا مَقْرُونًا بِدَفْعِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ، فَيَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِهِ فِي السَّائِمَةِ؛ دَفْعًا لِلتَّشْقِيصِ فِي الْوَاجِبِ، وَكَقَوْلِنَا فِي الْأَثْمَانِ؛ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلَنَا، حَدِيثُ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَإِنَّمَا رَفَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَالِمٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَفَادِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَصْلًا، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ شَرْطًا، كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْأَمْوَالُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، لِأَنَّهَا تَتَكَامَلُ ثِمَارُهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا لَا تَتَكَرَّرُ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَهَذِهِ نَمَاؤُهَا بِنَقْلِهَا، فَاحْتَاجَتْ إلَى الْحَوْلِ. وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ وَالنِّتَاجُ، فَإِنَّمَا ضُمَّتْ إلَى أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ، وَمُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ ضَمِّهَا، مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَرَجِ، فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ تَكْثُرُ وَتَتَكَرَّرُ فِي الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَيَعْسَرُ ضَبْطُهَا، وَكَذَلِكَ النِّتَاجُ، وَقَدْ يُوجَدُ وَلَا يُشْعَرُ بِهِ، فَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَتَمُّ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَقِلَّةِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ وَالِاغْتِنَامَ وَالِاتِّهَابَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْدُرُ وَلَا يَتَكَرَّرُ، فَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِنْ شَقَّ فَهُوَ دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَرْبَاحِ وَالنِّتَاجِ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. وَالْيُسْرُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ، وَمَا ذَكَرُوهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْجِيلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَيْسَرُ مِنْ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ مَعَ التَّخْيِيرِ، فَيَخْتَارُ أَيْسَرَهُمَا عَلَيْهِ، وَأَحَبَّهُمَا إلَيْهِ، وَمَعَ التَّعْيِينِ يَفُوتُهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا ضَمُّهُ إلَيْهِ فِي النِّصَابِ، فَلِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ لِحُصُولِ الْغِنَى، وَقَدْ حَصَلَ الْغِنَى بِالنِّصَابِ الْأَوَّلِ، وَالْحَوْلُ مُعْتَبَرٌ، لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ؛ لِيَحْصُلَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمُرُورِ الْحَوْلِ عَلَى أَصْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْحَوْلُ لَهُ. (1745) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَإِنْ نَقَصَ الْحَوْلُ نَقْصًا يَسِيرًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ، أَنَّ نَقْصَ الْحَوْلِ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي، أَنَّ النَّقْصَ الْيَسِيرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَتْ مِنْهَا شَاةٌ وَنُتِجَتْ أُخْرَى: إذَا كَانَ النِّتَاجُ وَالْمَوْتُ حَصَلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَنْقُصْ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ النِّتَاجُ الْمَوْتَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَوْتُ النِّتَاجَ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ سَقَطَ بِنُقْصَانِ النِّصَابِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ أَرَادَ بِهِ النَّقْصَ فِي طَرَفِ الْحَوْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَرَادَ بِالْوَقْتِ الْوَاحِدِ الزَّمَنَ الْمُتَقَارِبَ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصَابَ إذَا كَمَلَ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ، لَمْ يَضُرَّ نَقْصُهُ فِي وَسَطِهِ. وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.» يَقْتَضِي مُرُورَ الْحَوْلِ عَلَى جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ اُعْتُبِرَ فِي وَسَطِهِ، كَالْمِلِكِ وَالْإِسْلَامِ. (1746) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ مَا حَالُ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ إلَّا مُنْذُ شَهْرٍ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِي وَدِيعَةً، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته مِنْ قَرِيبٍ، أَوْ قَالَ: بِعْته فِي الْحَوْلِ، ثُمَّ اشْتَرَيْته. أَوْ رُدَّ عَلَيَّ وَنَحْوَ هَذَا، مِمَّا يَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ وُجُوبًا وَلَا اسْتِحْبَابًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَالصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ. [مَسْأَلَة تَقْدِيم الزَّكَاة] (1747) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجُوزُ تَقْدِمَةُ الزَّكَاةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ النِّصَابُ الْكَامِلُ، جَازَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ وَدَاوُد لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 لَا تُؤَدَّى زَكَاةٌ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ» . وَلِأَنَّ الْحَوْلَ أَحَدُ شَرْطَيْ الزَّكَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ كَالنِّصَابِ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ وَقْتًا، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَلِيٌّ، «أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَفِي لَفْظٍ: فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: هُوَ أَثْبَتُهَا إسْنَادًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّا قَدْ أَخَذْنَا زَكَاةَ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ لِلْعَامِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ الْعَبَّاسِ لِعَامِنَا هَذَا عَامَ أَوَّلَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِمَالٍ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَجَازَ، كَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَأَدَاءِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الزَّهُوقِ، وَقَدْ سَلَّمَ مَالِكٌ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ، وَفَارَقَ تَقْدِيمَهَا عَلَى النِّصَابِ، لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لَهَا عَلَى سَبَبِهَا، فَأَشْبَهَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْجَرْحِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَهَا عَلَى الشَّرْطَيْنِ، وَهَاهُنَا قَدَّمَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ لِلزَّكَاةِ وَقْتًا. قُلْنَا: الْوَقْتُ إذَا دَخَلَ فِي الشَّيْءِ رِفْقًا بِالْإِنْسَانِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ وَيَتْرُكَ الْإِرْفَاقَ بِنَفْسِهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَكَمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِ غَائِبٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِهَا، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ تَالِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ فَتَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِمَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيُجِبْ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ. [فَصْل تَعْجِيل الزَّكَاة قَبْل مِلْك النِّصَاب] (1748) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ نِصَابٍ، فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ، أَوْ زَكَاةَ نِصَابٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْحُكْمَ قَبْلَ سَبَبِهِ. وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ مَا يَسْتَفِيدُهُ، وَمَا يُنْتَجُ مِنْهُ، أَوْ يَرْبَحُهُ فِيهِ، أَجْزَأَهُ عَنْ النِّصَابِ دُونَ الزِّيَادَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا هُوَ مَالِكُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالٍ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَالنِّصَابِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى زَكَاةِ النِّصَابِ إنَّمَا سَبَبُهَا الزَّائِدُ فِي الْمِلْكِ، فَقَدْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ تَابِعٌ، قُلْنَا: إنَّمَا يَتْبَعُ فِي الْحَوْلِ، فَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ بِالزِّيَادَةِ، لَا بِالْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ لَهُ حُكْمٌ بَعْدَ الْوُجُودِ، فَأَمَّا قَبْلَ ظُهُورِهِ فَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 [فَصْل عَجَّلَ زَكَاة نِصَاب مِنْ الْمَاشِيَة فَتَوَالَدَتْ نَصَّابًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَات وَحَال الْحَوْل عَلَى النَّتَاجِ] (1749) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ، فَتَوَالَدَتْ نِصَابًا، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّتَاجِ، أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ، وَقَامَتْ مَقَامَهَا، فَأَجْزَأَتْ زَكَاتُهَا عَنْهَا. فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ، فَعَجَّلَ عَنْهَا شَاةً، ثُمَّ تَوَالَدَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً، وَمَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى السِّخَالِ، أَجْزَأَتْ الْمُعَجَّلَةُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُجْزِئَةً عَنْهَا وَعَنْ أُمَّهَاتِهَا لَوْ بَقِيَتْ، فَلَأَنْ تُجْزِئَ عَنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ، فَعَجَّلَ عَنْهَا تَبِيعًا، ثُمَّ تَوَالَدَتْ ثَلَاثِينَ عِجْلَةً، وَمَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْعُجُولِ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهَا، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا فِي الْحَوْلِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ عَنْهَا تَبِيعًا مَعَ بَقَاءِ الْأُمَّهَاتِ لَمْ يُجْزِئْ عَنْهَا، فَلَأَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْهَا إذَا كَانَ التَّعْجِيلُ عَنْ غَيْرِهَا أَوْلَى. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي مِائَةِ شَاةٍ إذَا عَجَّلَ عَنْهَا شَاةً فَتَوَالَدَتْ مِائَةً، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى السِّخَالِ. وَإِنْ تَوَالَدَ نِصْفُهَا، وَمَاتَ نِصْفُ الْأُمَّهَاتِ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الصِّغَارِ وَنِصْفِ الْكِبَارِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَعَلَيْهِ فِي الْخَمْسِينَ سَخْلَةً شَاةٌ؛ لِأَنَّهَا نِصَابٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْعُجُولِ إذَا كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أُمَّهَاتِهَا الَّتِي عُجِّلَتْ زَكَاتُهَا. وَإِنْ مَلَكَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، فَعَجَّلَ مُسِنَّةً زَكَاةً لَهَا وَلِنَتَاجِهَا، فَنُتِجَتْ عَشْرًا، أَجْزَأَتْهُ عَنْ الثَّلَاثِينَ دُونَ الْعَشْرِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرَ رُبْعُ مُسِنَّةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُجْزِئَهُ الْمُسِنَّةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنْ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ تَابِعَةٌ لِلثَّلَاثِينَ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ فَإِنَّهُ لَوْلَا مِلْكُهُ لِلثَّلَاثِينَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرِ شَيْءٌ. فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصَابِ مُنْقَسِمَةً أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، مَا لَا يَتْبَعُ فِي وُجُوبٍ وَلَا حَوْلٍ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَكَمَالِ نِصَابِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. الثَّانِي، مَا يَتْبَعُ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْحَالِ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْجِنْسِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فَلَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ أَيْضًا قَبْلَ وُجُودِهِ، مَعَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. الثَّالِثُ، مَا يَتْبَعُ فِي الْحَوْلِ دُونَ الْوُجُوبِ، كَالنِّتَاجِ وَالرِّبْحِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا، فَإِنَّهُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فِي الْحَوْلِ، فَلَا يُجْزِئُ التَّعْجِيلُ عَنْهُ قَبْلَ وُجُودِهِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. الرَّابِعُ، مَا يَتْبَعُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ، وَهُوَ الرِّبْحُ وَالنِّتَاجُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، فَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ، فَأَشْبَهَ الْمَوْجُودَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 [فَصْل تَعْجِيل الزَّكَاة لِأَكْثَر مِنْ حَوْل] (1750) فَصْلٌ: إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ بِتَعْجِيلِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ. وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ حِلِّهَا لِثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لَهَا بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ، أَشْبَهَ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْحَوْلِ الْوَاحِدِ. وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّصُّ يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى سِوَى أَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْمَالِ الَّذِي وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ عَلَى شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْحَوْلَيْنِ، كَتَحَقُّقِهِ فِي الْحَوْلِ الْوَاحِدِ. فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ النِّصَابِ، فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ لِحَوْلَيْنِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ قَدْرُ النِّصَابِ مِثْلَ مَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ لِحَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمُعَجِّلُ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ وَإِنْ أَخْرَجَ شَاةً مِنْهُ وَشَاةً مِنْ غَيْرِهِ جَازَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فَإِنْ كَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارَ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ وَتَعْجِيلُهُ لَهَا قَبْلَ كَمَالِ نِصَابِهَا وَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ النِّصَابِ لَمْ تَجُزْ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ارْتِجَاعُ مَا عَجَّلَهُ لِأَنَّهُ كَالتَّالِفِ فَيَكُونُ النِّصَابُ نَاقِصًا فَإِنْ كَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ وَكَانَ مَا عَجَّلَهُ سَابِقًا عَلَى كَمَالِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ عَنْهُ. [فَصْل عَجَّلَ زَكَاة مَاله فَحَال الْحَوْل وَالنِّصَاب نَاقِص] (1751) فَصْلٌ وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ فَحَالُ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ مِقْدَارَ مَا عَجَّلَهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَيَكُونُ حُكْمُ مَا عَجَّلَهُ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ يَتِمُّ النِّصَابُ بِهِ فَلَوْ زَادَ مَالُهُ حَتَّى بَلَغَ النِّصَابَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ وَحَالَ الْحَوْلُ أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْ زَكَاتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ نَقَصَ أَكْثَرُ مِمَّا عَجَّلَهُ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلزَّكَاةِ، مِثْلُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاةً ثُمَّ تَلِفَتْ أُخْرَى فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلزَّكَاةِ فَإِنْ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا بِنَتَاجٍ أَوْ شِرَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ وَلَمْ يَجُزْ مَا عَجَّلَهُ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ زَادَ بِحَيْثُ يَكُونُ انْضِمَامُهُ إلَى مَا عَجَّلَهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ، مِثْلُ مَنْ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ أُنْتِجَتْ سَخْلَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا عَجَّلَهُ فِي حُكْمِ التَّالِفِ فَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَا يَكُونُ الْمُخْرَجُ زَكَاةً. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُحْسَبْ مِنْ مَالِهِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ تَطَوُّعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وَلَنَا أَنَّ هَذَا نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْحَوْلِ فَجَازَ تَعْجِيلُهَا مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَلِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي إجْزَائِهِ عَنْ مَالِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُعَجَّلْ كَانَ عَلَيْهِ شَاتَانِ. فَكَذَلِكَ إذَا عُجِّلَتْ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ إنَّمَا كَانَ رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ فَلَا يَصِيرُ سَبَبًا لِنَقْصِ حُقُوقِهِمْ، وَالتَّبَرُّعُ يُخْرِجُ مَا تَبَرَّعَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ وَهَذَا فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ الزَّكَاةِ (1752) فَصْلٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا لَا يُجْزِئُهُ مَا عَجَّلَهُ عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى وَجْهَيْنِ يَأْتِي تَوْجِيهُهُمَا [فَصْل تَعْجِيل الْعَشْر مِنْ الزَّرْع وَالثَّمَر] (1753) فَصْلٌ فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعُشْرِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِسَبَبَيْنِ: حَوْلٌ وَنِصَابٌ جَازَ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ. فَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ زَكَاةِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُعَلَّقَةٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ادِّرَاكُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ فَإِذَا قَدَّمَهَا قَدَّمَهَا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا لَكِنْ إنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَقَبْلَ يُبْسِ الثَّمَرَةِ وَتَصْفِيَةِ الْحَبِّ جَازَ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَجُوزُ إخْرَاجُهَا بَعْدَ وُجُودِ الطَّلْعِ وَالْحِصْرِمِ، وَنَبَاتِ الزَّرْعِ. وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الزَّرْعِ وَاطِّلَاعَ النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ النِّصَابِ، وَالْإِدْرَاكُ بِمَنْزِلَةِ حُلُولِ الْحَوْلِ؛ فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، وَتَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِالْإِدْرَاكِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِهِلَالِ شَوَّالٍ، وَهُوَ زَمَنُ الْوُجُوبِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا. [فَصْلُ عَجَّلَ زَكَاة مَاله ثُمَّ مَاتَ فَأَرَادَ الْوَارِث الِاحْتِسَاب بِهَا عَنْ زَكَاة حَوْله] (1754) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَأَرَادَ الْوَارِثُ الِاحْتِسَابَ بِهَا عَنْ زَكَاةِ حَوْلِهِ، لَمْ يَجُزْ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي جَوَازِهِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ عَامَيْنِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِلزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ، وَمِلْكُ الْوَارِثِ حَادِثٌ، وَلَا يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَى حَوْلِ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا غَيْرُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِخْرَاجُ الْغَيْرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ لَا يُجْزِئُ وَلَوْ نَوَى، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَنْوِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ وَقَالَ: إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ، فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعُ. وَهَذَا أَبْلَغُ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا تَعْجِيلَ زَكَاةِ الْعَامَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَأَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ الْحَوْلِ، كَانَ لِلْوَارِثِ ارْتِجَاعُهَا، فَإِذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا احْتَسَبَ بِهَا كَالدَّيْنِ قُلْنَا: فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ الدَّيْنَ عَنْ زَكَاتِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ شَاةٌ مِنْ غَصْبٍ أَوْ قَرْضٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْسُبَهَا عَنْ زَكَاتِهِ، لَمْ تُجْزِهِ. [مَسْأَلَةُ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَة أَقْسَامٍ] (1755) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَدَّمَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَأَعْطَاهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، فَمَاتَ الْمُعْطَى قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَلَغَ الْحَوْلَ وَهُوَ غَنِيٌّ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، أَجْزَأَتْ عَنْهُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْحَالُ، فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ يَقَعُ مَوْقِعَهُ، وَيُجْزِئُ عَنْ الْمُزَكِّي، وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ، وَلَا لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا. الثَّانِي: أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْآخِذِ لَهَا، بِأَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ يَسْتَغْنِيَ، أَوْ يَرْتَدَّ قَبْلَ الْحَوْلِ. فَهَذَا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِلزَّكَاةِ إذَا عُدِمَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَالُ، أَوْ مَاتَ رَبُّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَدَّى الزَّكَاةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَلَمْ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ تَغَيُّرُ حَالِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى بِهَا، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ أَدَّاهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَالدَّيْنِ يُعَجِّلُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا اسْتَغْنَى بِهَا، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا تَلِفَ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْوُجُوبِ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّى إلَى غَرِيمِهِ دَرَاهِمَ يَظُنُّهَا عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ، وَكَمَا لَوْ أَدَّى الضَّامِنُ الدَّيْنَ، فَبَانَ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ قَدْ قَضَاهُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْحَقُّ وَاجِبٌ، وَقَدْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ رَبِّ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِمَوْتِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، أَوْ تَلَفِ النِّصَابِ، أَوْ نَقْصِهِ، أَوْ بَيْعِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدِي؛ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْفَقِيرِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ارْتِجَاعُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ دُفِعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ حَالُ الْفَقِيرِ وَحْدَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا السَّاعِيَ، اسْتَرْجَعَهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَالِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ، رَجَعَ بِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ دَفَعَهُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْقَابِضُ فِي الثَّانِي؛ فَإِذَا طَرَأَ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ، وَجَبَ رَدُّهُ، كَالْأُجْرَةِ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ قَبْلَ السُّكْنَى، أَمَّا إذَا لَمْ يُعْلِمْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هِبَةً، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ، أَخَذَهَا، وَإِنْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ فِي الْفُسُوخِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً، أَخَذَهَا دُونَ زِيَادَتِهَا؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْفَقِيرِ. وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، رَجَعَ عَلَى الْفَقِيرِ بِالنَّقْصِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَهَا بِالنَّقْصِ؛ فَكَانَ نَقْصُهَا عَلَيْهِ، كَالْمَبِيعِ إذَا نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ. وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً أَخَذَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكُ الْفَقِيرِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالصَّدَاقِ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُمَا جَمِيعًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ. [فَصْلُ قَالَ رَبّ الْمَال قَدْ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهَا زَكَاة مُعَجَّلَة فَلِي الرُّجُوع فَأَنْكَرَ الْآخِذ] (1756) فَصْلٌ: إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ: قَدْ أَعْلَمْته أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ، فَلِي الرُّجُوعُ. فَأَنْكَرَ الْآخِذُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِعْلَامِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَإِنْ مَاتَ الْآخِذُ، وَاخْتَلَفَ الْمُخْرِجُ وَوَارِثُ الْآخِذِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوَرِّثَهُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الِاسْتِرْجَاعِ، فَلَا يَمِينَ وَلَا غَيْرَهَا. [فَصْلُ تُسَلِّف الْإِمَام الزَّكَاة فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ] (1757) فَصْلٌ: إذَا تَسَلَّفَ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْفُقَرَاءُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْفُقَرَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ تَسَلَّفَهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ رُشَّدٌ، لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ضَمِنَ، كَالْأَبِ إذَا قَبَضَ لِابْنِهِ الْكَبِيرِ. وَإِنْ كَانَ بِسُؤَالِهِمْ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ. فَإِذَا كَانَ بِسُؤَالِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لَمْ يُجْزِئْهُمْ الدَّفْعُ، وَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ. وَإِنْ كَانَ بِسُؤَالِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا، أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ. وَلَنَا، أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ قَبْضِ الصَّدَقَةِ لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ سَلَفًا وَغَيْرِهِ، فَإِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَضْمَنْ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا قَبَضَ لَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَفَارَقَ الْأَبَ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَبْضُ لَهُ؛ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ. (1758) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ) . إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا. مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ فَلَا تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِهَذَا يُخْرِجُهَا وَلِيُّ الْيَتِيمِ، وَيَأْخُذُهَا السُّلْطَانُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَأَدَاؤُهَا عَمَلٌ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وَنَفْلٍ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ، وَتُفَارِقُ قَضَاءَ الدَّيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ مُسْتَحِقِّهِ، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالسُّلْطَانُ يَنُوبَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ النِّيَّةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا زَكَاتُهُ، أَوْ زَكَاةُ مَنْ يُخْرِجُ عَنْهُ. كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا الْقَلْبُ. (1759) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَاعْتِبَارُ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلْإِخْرَاجِ يُؤَدِّي إلَى التَّغْرِيرِ بِمَالِهِ، فَإِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى وَكِيلِهِ، وَنَوَى هُوَ دُونَ الْوَكِيلِ، جَازَ إذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ نِيَّتُهُ الدَّفْعَ بِزَمَنِ طَوِيلٍ. وَإِنْ تَقَدَّمَتْ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ لَمْ يَجُزْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى حَالَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَلَوْ نَوَى الْوَكِيلُ وَلَمْ يَنْوِ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَالْإِجْزَاءُ يَقَعُ عَنْهُ. وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ نَاوِيًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ حَالَ دَفْعِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ، جَازَ، وَإِنْ طَالَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ. وَلَوْ تَصَدَّقَ الْإِنْسَانُ بِجَمِيعِ مَالِهِ تَطَوُّعًا وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الزَّكَاةَ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ اسْتِحْبَابًا وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ بِهَا. (1760) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ فَشَكَّ فِي سَلَامَتِهِ، جَازَ لَهُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَكَانَتْ نِيَّةُ الْإِخْرَاجِ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ. فَإِنْ نَوَى إنْ كَانَ مَالِي سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَهِيَ تَطَوُّعٌ. فَبَانَ سَالِمًا، أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهَا النَّفَلَ، وَهَذَا حُكْمُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْهُ، فَإِذَا قَالَهُ لَمْ يَضُرَّ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ أَوْ الْحَاضِرِ. صَحَّ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا إذَا أَخْرَجَ نِصْفَ دِينَارٍ عَنْهَا، صَحَّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ عَنْ عِشْرِينَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ. وَإِنْ قَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ أَوْ تَطَوُّعٌ. لَمْ يُجْزِئْهُ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ. أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أُصَلِّي فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا. وَإِنْ قَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إنْ كَانَ سَالِمًا وَإِلَّا فَهُوَ زَكَاةُ مَالِي الْحَاضِرِ. أَجْزَأَهُ عَنْ السَّالِمِ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَا سَالِمَيْنِ فَعَنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَإِنْ قَالَ: زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ. وَأَطْلَقَ، فَبَانَ تَالِفًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى زَكَاةِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَةٍ عَيَّنَهَا فَلَمْ يَقَعْ عَنْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 هَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُعَيَّنَةَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ فِي بَلَدِ رَبِّ الْمَالِ؛ إمَّا لِقُرْبِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْبَلَدِ لَا يُوجَدُ فِيهِ أَهْلُ السَّهْمَانِ، أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِإِخْرَاجِهَا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مُوَرِّثٌ غَائِبٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ، فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ الَّذِي وَرِثْته مِنْهُ، فَبَانَ مَيِّتًا، لَمْ يُجْزِئْهُ مَا أَخْرَجَ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْلَةَ الشَّكِّ: إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ نَفْلٌ. [مَسْأَلَةُ نِيَّة الزَّكَاة] (1761) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا) . مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى دَفَعَ زَكَاتَهُ طَوْعًا لَمْ تُجْزِئْهُ إلَّا بِنِيَّةٍ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا، أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ النِّيَّةِ فِي حَقِّهِ أَسْقَطَ وُجُوبَهَا عَنْهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَتَى أَخَذَهَا الْإِمَامُ أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَسْمِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً فِي أَخْذِهَا، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ اتِّفَاقًا وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ لَمَّا أَخَذَهَا، أَوْ لَأَخَذَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَنْفَدَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا إنْ كَانَ لِإِجْزَائِهَا فَلَا يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لِوُجُوبِهَا فَالْوُجُوبِ بَاقٍ بَعْدَ أَخْذِهَا. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِنِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إمَّا وَكِيلُهُ، وَإِمَّا وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَكِيلُهُمَا مَعًا، وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْ نِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، فَلَا تُجْزِئُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ حِرَاسَةً لِلْعِلْمِ الظَّاهِرِ كَالصَّلَاةِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِيَأْتِيَ بِصُورَتِهَا، وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: يُجْزِئُ عَنْهُ. أَيْ فِي الظَّاهِرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهَا ثَانِيًا، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ، فَمَتَى أَتَى بِهَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا صِحَّةَ مَا يَلْفِظُ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ بَاطِنًا. قَالَ: وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ. مَعْنَاهُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِحَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَظْهَرَ إيمَانَهُ، وَقَدْ كَانَ دَهْرَهُ يُظْهِرُ إيمَانَهُ، وَيَسْتُرُ كُفْرَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا تَصِحُّ إذَا عُلِمَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ، وَصِدْقُ التَّوْبَةِ، وَاعْتِقَادُ الْحَقِّ وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ، قَالَ: إنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَقَامَتْ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ، وَفَارَقَ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّ النِّيَابَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ فَاعِلِهَا. وَقَوْلُهُ: لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ وَكِيلًا لَهُ، أَوْ وَكِيلًا لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ لَهُمَا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ وَالٍ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِالْقِسْمَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ عِبَادَةً، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهَا نِيَّةٌ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. [فَصْلُ تَوَلَّى الْمُزَكَّى تَفْرِقَة الزَّكَاة] (1762) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَلِيَ تَفْرِقَةَ الزَّكَاةِ بِنَفْسِهِ؛ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُصُولِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَعْجَبُ إلَى أَنْ يُخْرِجَهَا، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى السُّلْطَانِ. فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَكْحُولٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ يَضَعُهَا رَبُّ الْمَالِ فِي مَوْضِعِهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ احْلِفْ لَهُمْ، وَأَكْذِبْهُمْ، وَلَا تُعْطِهِمْ شَيْئًا، إذَا لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَالَ لَا تُعْطِهِمْ: وَقَالَ عَطَاءٌ: أَعْطِهِمْ. إذَا وَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا. فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ إذَا رَأَيْت الْوُلَاةَ لَا يَعْدِلُونَ، فَضَعْهَا فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِهَا: وَقَالَ إبْرَاهِيمُ ضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِنْ أَخَذَهَا السُّلْطَانُ أَجْزَأَك. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: أَتَيْت أَبَا وَائِلٍ وَأَبَا بُرْدَةَ بِالزَّكَاةِ وَهُمَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَأَخَذَاهَا، ثُمَّ جِئْت مَرَّةً أُخْرَى، فَرَأَيْت أَبَا وَائِلٍ وَحْدَهُ. فَقَالَ لِي: رُدَّهَا فَضَعْهَا مَوَاضِعَهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا صَدَقَةُ الْأَرْضِ فَيُعْجِبُنِي دَفْعُهَا إلَى السُّلْطَانِ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ كَالْمَوَاشِي، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتَحَبَّ دَفْعَ الْعُشْرِ خَاصَّةً إلَى الْأَئِمَّةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُشْرَ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ مَئُونَةُ الْأَرْضِ، فَهُوَ كَالْخَرَاجِ يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الزَّكَاةِ. وَاَلَّذِي رَأَيْت فِي " الْجَامِعِ " قَالَ: أَمَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، فَيُعْجِبُنِي دَفْعُهَا إلَى السُّلْطَانِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ بِهَا الْكِلَابَ، وَيَشْرَبُونَ بِهَا الْخُمُورَ؟ ، قَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْخَطَّابِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ أَفْضَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ: يَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ؛ الشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِمَصَارِفِهَا، وَدَفْعُهَا إلَيْهِ يُبَرِّئُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَدَفْعُهَا إلَى الْفَقِيرِ لَا يُبَرِّئُهُ بَاطِنًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ، وَتَزُولُ عَنْهُ التُّهْمَةُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى مِنْ جَاءَهُ مِنْ سُعَاةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: أَتَيْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَقُلْت: عِنْدِي مَالٌ، وَأُرِيدُ أَنْ أُخْرِجَ زَكَاتَهُ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى مَا تَرَى، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ. فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَتَيْت أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُفَرِّقُ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ إلَّا الْإِمَامُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، طَالَبَهُمْ بِالزَّكَاةِ، وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا. وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا، وَلِأَنَّ مَا لِلْإِمَامِ قَبْضُهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ دَفْعِهَا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ الْجَائِزِ تَصَرُّفُهُ. فَأَجْزَأهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّيْنَ إلَى غَرِيمِهِ، وَكَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ النَّوْعَ الْآخَرَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَخْذَهَا. وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمُطَالَبَةُ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ بِهَا، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤَدُّوهَا إلَى أَهْلِهَا، وَلَوْ أَدَّوْهَا إلَى أَهْلِهَا لَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِي إجْزَائِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُقَاتَلَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْإِمَامُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ جَازَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ رُشْدٍ، فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْيَتِيمِ. وَأَمَّا وَجْهُ فَضِيلَةِ دَفْعِهَا بِنَفْسِهِ، فَلِأَنَّهُ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، مَعَ تَوْفِيرِ أَجْرِ الْعِمَالَةِ، وَصِيَانَةِ حَقِّهِمْ، عَنْ خَطَرِ الْخِيَانَةِ، وَمُبَاشَرَةِ تَفْرِيجِ كُرْبَةِ مُسْتَحِقِّهَا، وَإِغْنَائِهِ بِهَا، مَعَ إعْطَائِهَا لِلْأَوْلَى بِهَا؛ مِنْ مَحَاوِيجِ أَقَارِبِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ، وَصِلَةِ رَحِمِهِ بِهَا، فَكَانَ أَفْضَلَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ آخِذُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْكَلَامُ فِي الْإِمَامِ الْعَادِلِ، إذْ الْخِيَانَةُ مَأْمُونَةٌ فِي حَقِّهِ. قُلْنَا: الْإِمَامُ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُفَوِّضُهُ إلَى نُوَّابِهِ، فَلَا تُؤْمَنُ مِنْهُمْ الْخِيَانَةُ، ثُمَّ رُبَّمَا لَا يَصِلُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْمَالِكُ مِنْ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِ وَصَدَقَتِهِ وَمُوَاسَاتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يُبَرِّئُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قُلْنَا: يَبْطُلُ هَذَا بِدَفْعِهَا إلَى غَيْرِ الْعَادِلِ؛ فَإِنَّهُ يُبَرِّئُهُ أَيْضًا، وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ، ثُمَّ إنَّ الْبَرَاءَةَ الظَّاهِرَةَ تَكْفِي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ تَزُولُ بِهِ التُّهْمَةُ. قُلْنَا: مَتَى أَظْهَرَهَا زَالَتْ التُّهْمَةُ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ دَفْعَهَا إلَى الْإِمَامِ، سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ غَيْرَ عَادِلٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ، وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ تَتْلَفْ، أَوْ صَرَفَهَا فِي مَصَارِفِهَا أَوْ لَمْ يَصْرِفْهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْهُمْ شَرْعًا فَبَرِئَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا قَبَضَهَا لَهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَيْضًا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 [فَصْلُ أَخَذَ الْخَوَارِج وَالْبُغَاة الزَّكَاة] (1763) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ وَالْبُغَاةُ الزَّكَاةَ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، فِي الْخَوَارِجِ، أَنَّهُ يُجْزِئُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَخَذَهَا مِنْ السَّلَاطِينِ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، سَوَاءٌ عَدَلَ فِيهَا أَوْ جَارَ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا قَهْرًا أَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ اخْتِيَارًا. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: سَأَلْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنَ عُمَرَ وَجَابِرًا وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْت: هَذَا السُّلْطَانُ يَصْنَعُ مَا تَرَوْنَ، أَفَأَدْفَعُ إلَيْهِمْ زَكَاتِي؟ فَقَالُوا كُلُّهُمْ: نَعَمْ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يُجْزِئُ عَنْك مَا أَخَذَ مِنْك الْعَشَّارُونَ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى نَجْدَةَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُصَدِّقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُصَدِّقِ نَجْدَةَ، فَقَالَ: إلَى أَيِّهِمَا دَفَعْت أَجْزَأَ عَنْك. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِيمَا غُلِبُوا عَلَيْهِ. وَقَالُوا: إذَا مَرَّ عَلَى الْخَوَارِجِ فَعَشَّرُوهُ، لَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْخَوَارِجِ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ: عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْإِعَادَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَئِمَّةٍ، فَأَشْبَهُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ. وَلَنَا، قَوْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي عَصْرِهِمْ عَلِمْنَاهُ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى أَهْلِ الْوِلَايَةِ، فَأَشْبَهَ دَفْعَهَا إلَى أَهْلِ الْبَغْيِ. [فَصْلُ دُعَاء دَافِع الزَّكَاة وَدُعَاء الْآخِذ لَهَا] (1764) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ لِأَدَائِهَا. فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا فَيَقُولَ آجَرَك اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْت، وَبَارَكَ لَك فِيمَا أَنْقَقْت، وَجَعَلَهُ لَك طَهُورًا. وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ إلَى السَّاعِي، أَوْ الْإِمَامِ شَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ. فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالصَّلَاةُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ وَالتَّبْرِيكُ وَلَيْسَ هَذَا بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَالنَّائِبُ أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 [فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى الْكَبِير وَالصَّغِير] (1765) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ. قَالَ أَحْمَدُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ فِي أَجْرِ رَضَاعِ لَقِيطِ غَيْرِهِ، هُوَ فَقِيرٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ. وَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَّا إلَى مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَرَى أَنْ يُعْطَى الصَّغِيرُ مِنْ الزَّكَاةِ، إلَّا أَنْ يَطْعَمَ الطَّعَامَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ، فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَاَلَّذِي طَعِمَ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الزَّكَاةِ لِأَجْرِ رَضَاعِهِ وَكِسْوَتِهِ وَسَائِرِ حَوَائِجِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ، وَيَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ حُقُوقَهُ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ دَفَعَهَا إلَى مَنْ يُعْنَى بِأَمْرِهِ، وَيَقُومُ بِهِ مِنْ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ، قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ: قُلْت لِأَحْمَدَ فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِالصِّغَارِ؟ قَالَ: يُعْطَى أَوْلِيَاؤُهُمْ. فَقُلْت: لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ، قَالَ: فَيُعْطَى مَنْ يُعْنَى بِأَمْرِهِمْ مِنْ الْكِبَارِ فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْمَجْنُونُ، وَالذَّاهِبُ عَقْلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: مَنْ يَقْبِضُهَا لَهُ؟ قَالَ: وَلِيُّهُ. قُلْت: لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ؟ قَالَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَحْمَدَ يُعْطَى غُلَامٌ يَتِيمٌ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَيِّعَهُ. قَالَ: يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا سَاعِيًا، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا» وَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا لَا مَالَ لِي، فَأَعْطَانِي قَلُوصًا. [فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى مِنْ يَظُنّهُ فَقِيرًا] (1766) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا، لَمْ يَحْتَجْ إلَى إعْلَامِهِ أَنَّهَا زَكَاةٌ. قَالَ الْحَسَنُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقْرِعَهُ، لَا تُخْبِرْهُ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: قُلْت لِأَحْمَدَ: يَدْفَعُ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ الزَّكَاةِ. أَوْ يَسْكُتُ؟ قَالَ: وَلِمَ يُبَكِّتْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ يُعْطِيه وَيَسْكُتُ، وَمَا حَاجَتُهُ إلَى أَنْ يُقْرِعَهُ؟ . [مَسْأَلَةُ لَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لِلْوَالِدَيْنِ] (1767) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا لِلْوَلَدِ، وَإِنْ سَفَلَ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ، فِي الْحَالِ الَّتِي يُجْبَرُ الدَّافِعُ إلَيْهِمْ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ تُغْنِيهِمْ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَتُسْقِطُهَا عَنْهُ، وَيَعُودُ نَفْعُهَا إلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ تَجُزْ، كَمَا لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " لِلْوَالِدَيْنِ " يَعْنِي الْأَبَ وَالْأُمَّ. وَقَوْلُهُ: " وَإِنْ عَلَوْا " يَعْنِي آبَاءَهُمَا وَأُمَّهَاتِهِمَا، وَإِنْ ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُمْ مِنْ الدَّافِعِ، كَأَبَوَيْ الْأَبِ، وَأَبَوَيْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 الْأُمِّ، وَأَبَوَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُمْ، مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ. وَقَوْلُهُ: " وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ " يَعْنِي وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، الْوَارِثِ وَغَيْرِ الْوَارِثِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: لَا يُعْطِي الْوَالِدَيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا الْوَلَدَ وَلَا وَلَدَ الْوَلَدِ، وَلَا الْجَدَّ وَلَا الْجَدَّةَ وَلَا وَلَدَ الْبِنْتِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» يَعْنِي الْحَسَنَ، فَجَعَلَهُ ابْنَهُ وَلِأَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَارِثَ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً جُزْئِيَّةً وَبَعْضِيَّةً، بِخِلَافِ غَيْرِهَا. [فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة لِمَنْ لَا يَرِث مِنْ الْأَقَارِبِ] (1768) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَارِبِ، فَمَنْ لَا يُوَرَّثُ مِنْهُمْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، لِكَوْنِهِ بَعِيدَ الْقَرَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ مِيرَاثًا، أَوْ كَانَ لِمَانِعٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ، كَالْأَخِ الْمَحْجُوبِ بِالِابْنِ أَوْ الْأَبِ، وَالْعَمِّ الْمَحْجُوبِ بِالْأَخِ وَابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ؛ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ جُزْئِيَّةً بَيْنِهِمَا وَلَا مِيرَاثَ، فَأَشْبَهَا الْأَجَانِبَ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ كَالْأَخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى الْآخَرِ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ عَنْهُ، رَوَاهَا عَنْهُ الْجَمَاعَةُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ: يُعْطِي الْأَخَ وَالْأُخْتَ وَالْخَالَةَ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: يُعْطِي كُلَّ الْقَرَابَةِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الْقَوْلُ عِنْدِي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ لِذِي الرَّحِمِ اثْنَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» فَلَمْ يَشْتَرِطْ نَافِلَةً وَلَا فَرِيضَةً، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْمَوْرُوثِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ " وَعَلَى الْوَارِثِ مُؤْنَةُ الْمَوْرُوثِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَيُغْنِيه بِزَكَاتِهِ عَنْ مُؤْنَتِهِ، وَيَعُودُ نَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَدَفْعِهَا إلَى وَالِدِهِ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِهَا. وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ، وَلَا يَرِثُهُ الْآخَرُ، كَالْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا، وَالْعَتِيقِ مَعَ مُعْتِقِهِ، فَعَلَى الْوَارِثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ مُوَرِّثِهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْرُوثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ وَارِثِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ. وَلَوْ كَانَ الْأَخَوَانِ لَأَحَدِهِمَا ابْنٌ، وَالْآخَرِ لَا وَلَدَ لَهُ، فَعَلَى أَبِي الِابْنِ نَفَقَةُ أَخِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، وَلِلَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى أَخِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَرِثُونَ فِيهَا، فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ، لَا يَرِثُ بِهَا مَعَ عَصَبَةٍ، وَلَا ذِي فَرْضٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 غَيْرَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَمْ تَمْنَعْ دَفْعَ الزَّكَاةِ كَقَرَابَةِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَالَهُ يَصِيرُ إلَيْهِمْ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ. [مَسْأَلَةُ مِنْ لَا تُعْطِي لَهُمْ الصَّدَقَة] (1769) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِلزَّوْجِ، وَلَا لِلزَّوْجَةِ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهَا إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الزَّوْجُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ كَالْآخَرِ، وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، تَمَكَّنَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْإِنْفَاقِ، فَيَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا، وَلَكِنَّهُ أَيْسَرِ بِهَا، لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، فَتَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْحَالَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا لَوْ دَفَعَتْهَا فِي أُجْرَةِ دَارٍ، أَوْ نَفَقَةِ رَقِيقِهَا أَوْ بَهَائِمِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَيُلْزَمُ عَلَى هَذَا الْغَرِيمَ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى غَرِيمِهِ، وَيُلْزَمُ الْآخِذَ بِذَلِكَ وَفَاءُ دَيْنِهِ؛ فَيَنْتَفِعُ الدَّافِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ فِي النَّفَقَةِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْغَرِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ مُقَدَّمَةٌ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَأَنَّهَا تَمْلِكُ أَخْذَهَا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْبَسِطُ فِي مَالِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَيُعَدُّ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا لِلْآخَرِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي عَبْدٍ سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ. وَلَمْ يَقْطَعْهُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، بِخِلَافِ الْغَرِيمِ مَعَ غَرِيمِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ لَهَا دَفْعُ زَكَاتِهَا إلَى زَوْجِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ «لِأَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّك أَمَرْت الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْت أَنَّ أَتَصَدَّقْ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ هُوَ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَنِي أَخٍ لَهَا أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا، أَفَتُعْطِيهِمْ زَكَاتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَلَيَّ نَذْرًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّ لِي زَوْجًا فَقِيرًا، أَفَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 أُعْطِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَك كِفْلَانِ مِنْ الْأَجْرِ.» وَلِأَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ، فَلَا يُمْنَعُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الدَّفْعِ لِدُخُولِ الزَّوْجِ فِي عُمُومِ الْأَصْنَافِ الْمُسَمَّيْنَ فِي الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْمَنْعِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ. وَقِيَاسُهُ عَلَى مِنْ ثَبَتَ الْمَنْعُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَيَبْقَى جَوَازُ الدَّفْعِ ثَابِتًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا أَقْوَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّصُوصِ، لِضَعْفِ دَلَالَتِهَا؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لِقَوْلِهَا: أَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِحُلِيٍّ لِي. وَلَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بِالْحِلِّي، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ.» وَالْوَلَدُ لَا تُدْفَعُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزَّوْجِ، وَذِكْرُ الزَّكَاةِ فِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ أَحْمَدُ مَنْ ذَكَرَ الزَّكَاةَ فَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ مَحْفُوظٍ، إنَّمَا ذَاكَ صَدَقَةٌ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَهُوَ فِي النَّذْرِ. (1770) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي عَائِلَتِهِ مِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَيَتِيمِ أَجْنَبِيٍّ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، لِإِغْنَائِهِ بِهَا عَنْ مُؤْنَتِهِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، جَوَازُ دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مَنْعِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، قُلْنَا: قَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا الدَّافِعُ، وَإِنْ قَدَّرَ الِانْتِفَاعَ فَإِنَّهُ نَفْعٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْتَلَبُ بِهِ مَالٌ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الدَّفْعَ، كَمَا لَوْ كَانَ يَصِلُهُ تَبَرُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَائِلَتِهِ. [فَصْلُ لَيْسَ لِمَخْرَجِ الزَّكَاة شِرَاؤُهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ] (1771) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِمُخْرِجِ الزَّكَاةِ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمَالِكٍ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يُنْقَضْ الْبَيْعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ؛ رَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ» وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ «أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 بِصَدَقَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَدْ قَبِلَ اللَّهُ صَدَقَتَك، وَرَدَّهَا إلَيْكَ الْمِيرَاثُ.» وَهَذَا فِي مَعْنَى شِرَائِهَا. وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ إرْثًا، صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ ابْتِيَاعًا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ، «أَنَّهُ قَالَ: حَمَلْت عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، وَظَنَنْت أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ لِذَلِكَ. قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ حَبِيسًا لَمَا بَاعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ، وَلَا هَمَّ عُمَرُ بِشِرَائِهَا، بَلْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْبَائِعِ وَيَمْنَعُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنْكَرَ بَيْعَهَا، إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ الشِّرَاءَ، مُعَلِّلًا بِكَوْنِهِ عَائِدًا فِي الصَّدَقَةِ. الثَّانِي، أَنَّنَا نَحْتَجُّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى خُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك» أَيْ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ التَّمَسُّكِ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الشِّرَاءَ فَإِنَّ الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَةِ ارْتِجَاعُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ، كَالْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.» وَلَوْ وَهَبَ إنْسَانًا شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، جَازَ. قُلْنَا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِعُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ شِرَاءِ الْفَرَسِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلشِّرَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ خُصُوصِ السَّبَبِ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ السُّؤَالُ عَنْ الْجَوَابِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَك، وَلَا تَشْتَرِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ابْتَعْهَا فَأَقُولُ: إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكَ. وَلِأَنَّ فِي شِرَائِهِ لَهَا وَسِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحْيِ مِنْهُ، فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا رَخَّصَهَا لَهُ طَمَعًا فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ أَوْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا. وَهُوَ أَيْضًا ذَرِيعَةٌ إلَى إخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا حَدِيثُهُمْ فَنَقُولُ بِهِ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ: إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ طَابَتْ لَهُ، إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ. وَلَيْسَ الْبَيْعُ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ بِالْمِيرَاثِ حُكْمًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 بِوَسِيلَةٍ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ عَامٌّ، وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ صَحِيحٌ، فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. (1772) فَصْلٌ: فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى شِرَاءِ صَدَقَتِهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ جُزْءًا مِنْ حَيَوَانٍ لَا يُمْكِنُ الْفَقِيرَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَجِدُ مِنْ يَشْتَرِيه سِوَى الْمَالِكِ لِبَاقِيهِ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ غَيْرُهُ لَتَضَرَّرَ الْمَالِكُ بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، أَوْ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ عِنَبًا وَرُطَبًا، فَاحْتَاجَ السَّاعِي إلَى بَيْعِهَا قَبْلَ الْجِذَاذِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى شِرَائِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الشِّرَاءِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْفَقِيرِ، وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ هَاهُنَا أَعْظَمُ، فَدَفْعُهُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ أَوْلَى. [فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى الْغَرِيم] (1773) فَصْلٌ: قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِرَهْنٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا الرَّجُلِ زَكَاةُ مَالٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ رَهْنَهُ وَيَقُولُ لَهُ: الدَّيْنُ الَّذِي لِي عَلَيْك هُوَ لَك. وَيَحْسُبُهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ. قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ. فَقُلْت لَهُ: فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ زَكَاتَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ قَضَاءً مِمَّا لَهُ، أَخْذُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَعْطَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ بِحِيلَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اسْتَقْرَضَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ، فَقَضَاهُ إيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَحَسَبَهَا مِنْ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: إذَا أَرَادَ بِهَا إحْيَاءَ مَالِهِ فَلَا يَجُوزُ فَحَصَلَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْغَرِيمِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا ابْتِدَاءً، أَوْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ دَفَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ بِالدَّفْعِ إحْيَاءَ مَالِهِ، أَوْ اسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَحِقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى نَفْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَسِبَ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهَا وَإِيتَائِهَا، وَهَذَا إسْقَاطٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ زَكَاة الْأَمْوَال لَا تُعْطَى لِكَافِرِ وَلَا لِمَمْلُوكِ] (1774) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِكَافِرٍ، وَلَا لِمَمْلُوكٍ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ وَلَا لِمَمْلُوكٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُعْطَى مِنْ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ شَيْئًا. «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . فَخَصَّهُمْ بِصَرْفِهَا إلَى فُقَرَائِهِمْ، كَمَا خَصَّهُمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ. وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَلَا يَمْلِكُهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، وَمَا يُعْطَاهُ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ نَفَقَتُهُ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِغِنَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 [مَسْأَلَةُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذ عِمَالَته مِنْ الزَّكَاة سَوَاء كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا] (1775) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَيُعْطَوْنَ بِحَقِّ مَا عَمِلُوا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ عِمَالَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ. وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُ عَلَى الْعِمَالَةِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَخْذِهِ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ كَافِرًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، وَالْكُفْرُ يُنَافِي الْأَمَانَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا، وَذَا قَرَابَةٍ لِرَبِّ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ: " بِحَقِّ مَا عَمِلُوا " يَعْنِي يُعْطِيهِمْ بِقَدْرِ أُجْرَتِهِمْ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إذَا بَعَثَ عَامِلًا؛ إنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ بِغَيْرِ إجَارَةٍ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ. وَهَذَا كَانَ الْمَعْرُوفَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَاطَعَ أَحَدًا مِنْ الْعُمَّالِ عَلَى أَجْرٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: «اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْت مِنْهَا وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعِمَالَةٍ فَقُلْت، إنَّمَا عَمِلْت لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ. قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي قَدْ عَمِلْت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَمِلَنِي، فَقُلْت مِثْلَ قَوْلِك، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» (1776) فَصْلٌ: وَيُعْطِي مِنْهَا أَجْرَ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ وَالْحَاشِرِ وَالْخَازِنِ وَالْحَافِظِ وَالرَّاعِي وَنَحْوِهِمْ. فَكُلُّهُمْ مَعْدُودُونَ مِنْ الْعَامِلِينَ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَأَمَّا أَجْرُ الْوَزَّانِ وَالْكَيَّالِ لِيَقْبِضَ السَّاعِي الزَّكَاةَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ دَفْعِ الزَّكَاةِ. [فَصْلٌ لَا يُعْطَى الْكَافِر مِنْ الزَّكَاة إلَّا لِكَوْنِهِ مُؤَلَّفًا] (1777) فَصْلٌ: وَلَا يُعْطَى الْكَافِرُ مِنْ الزَّكَاةِ، إلَّا لِكَوْنِهِ مُؤَلَّفًا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْإِنْسَانُ ذَا قَرَابَتِهِ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِكَوْنِهِ غَازِيًا، أَوْ مُؤَلَّفًا، أَوْ غَارِمًا فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوْ عَامِلًا، وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ رَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ، فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَى الْغَنِيِّ» وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 [فَصْلُ اُجْتُمِعَ فِي وَاحِد أَسْبَاب تَقْتَضِي أَخَذَ الزَّكَاة بِهَا] (1778) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ تَقْتَضِي الْأَخْذَ بِهَا، جَازَ أَنْ يُعْطَى بِهَا، فَالْعَامِلُ الْفَقِيرُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِمَالَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تُغْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَتِمُّ بِهِ غِنَاهُ، فَإِنْ كَانَ غَازِيًا فَلَهُ أَخْذُ مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ، وَإِنْ كَانَ غَارِمًا أَخَذَ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِانْفِرَادِهِ، فَوُجُودِ غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ وُجُودَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُغْنِيَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ إلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَإِذَا أُعْطِيَ لِأَجْلِ الْغُرْمِ وَجَبَ صَرْفُهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ أُعْطِيَ لِلْفَقِيرِ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ. [مَسْأَلَةُ بَنِي هَاشِم لَا تَحِلّ لَهُمْ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِبَنِي هَاشِمٍ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَخَذَ الْحَسَنُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كِخْ كِخْ. لِيَطْرَحَهَا، وَقَالَ: أَمَا شَعَرْت أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةُ مَوَالِي بَنِي هَاشِم وَهُمْ مِنْ أَعْتَقَهُمْ هَاشِمِيّ لَا يُعْطُونَ مِنْ الزَّكَاة] (1780) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِمَوَالِيهِمْ) يَعْنِي أَنَّ مَوَالِيَ بَنِي هَاشِمٍ، وَهُمْ مَنْ أَعْتَقَهُمْ هَاشِمِيٌّ، لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُمْنَعُوا الصَّدَقَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَوَّضُوا عَنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَرِّمُوهَا كَسَائِرِ النَّاسِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي كَيْمَا تُصِيبَ مِنْهَا. فَقَالَ: لَا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْأَلَهُ. فَانْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَرِثُهُمْ بَنُو هَاشِمٍ بِالتَّعْصِيبِ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ كَبَنِي هَاشِمٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةٍ. قُلْنَا: هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَرَابَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ.» وَقَوْلُهُ: «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ.» وَثَبَتَ فِيهِمْ حُكْمُ الْقَرَابَةِ مِنْ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ وَالنَّفَقَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِيهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 [فَصْلُ بَنُو الْمُطَّلِبِ هَلْ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاة] (1781) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَلْ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. نَقَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، إنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ":: «إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْأَخْذُ كَبَنِي هَاشِمٍ، وَقَدْ أَكَّدَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ مَنْعَهُمْ الصَّدَقَةَ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ؟» . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . الْآيَةُ. لَكِنْ خَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ» ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَنْعُ بِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ بَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشْرَفُ، وَهُمْ آلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَمُشَارَكَةُ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَهُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِمُجَرَّدِ الْقَرَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ يُسَاوُونَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ، وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا، وَإِنَّمَا شَارَكُوهُمْ بِالنُّصْرَةِ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، وَالنُّصْرَةُ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الزَّكَاةِ. (1782) فَصْلُ وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بَعَثَ إلَى عَائِشَةَ سُفْرَةً مِنْ الصَّدَقَةِ. فَرَدَّتْهَا، وَقَالَتْ: إنَّا آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (1783) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُمْنَعُونَ الصَّدَقَةَ، وَإِنْ كَانُوا عَامِلِينَ، وَذَكَرَ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْأَخْذِ لَهُمْ عِمَالَةً. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ أَجْرٌ، فَجَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ، كَالْحَمَّالِ وَصَاحِبِ الْمَخْزَنِ إذَا أَجَرَهُمْ مَخْزَنَهُ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّهُ اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا: وَاَللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَاهُ، فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَأَصَابَا مَا يُصِيبُ النَّاسُ؟ فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إذْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَفْعَلَا. فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إلَّا نَفَاسَةً مِنْك عَلَيْنَا. قَالَ: فَأَلْقَى عَلِيٌّ رِدَاءَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ. وَاَللَّهِ لَا أَرِيمُ مَكَانِي حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْكُمَا ابْنَاكُمَا بِخَبَرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إلَيْك كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ. فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . (1784) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِذَوِي الْقُرْبَى الْأَخْذُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّمَا لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَأَمَّا التَّطَوُّعِ، فَلَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ أَيْضًا؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . وَقَالَ تَعَالَى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] . وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ الْمَعْرُوفِ إلَى الْهَاشِمِيِّ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ وَإِنْظَارِهِ. وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] . وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ كَانَ لَهَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَعُودُ إلَى الْمَعْهُودِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَقُلْت لَهُ: أَتَشْرَبُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْوَصَايَا لِلْفُقَرَاءِ، وَمِنْ النُّذُورِ؛ لِأَنَّهُمَا تَطَوُّعٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَكَاةٍ وَلَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَأَشْبَهَتْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَشْبَهَتْ الزَّكَاةَ. (1785) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ حُرِمَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَقَرَابَةِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْكَافِرِ وَغَيْرِهِمْ، يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . وَلَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إلَّا كَافِرًا، وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَتْ: «قَدِمْتُ عَلَى أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّك» . وَكَسَا عُمَرُ أَخًا لَهُ حُلَّةً كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ إيَّاهَا. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ: «إنَّ نَفَقَتَك عَلَى أَهْلِك صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُك صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلُ حُرْمَة الصَّدَقَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1786) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَمِيعَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَهَا كَانَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ سَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَهُ، قَالَ: «إنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ. قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَحْمٍ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي لَأَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فِي بَيْتِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلْقِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَشْرَفَ الْخَلْقِ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمْسُ الْخُمْسِ وَالصَّفِيُّ، فَحُرِمَ نَوْعَيْ الصَّدَقَةِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، وَآلُهُ دُونَهُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 الشَّرَفِ، وَلَهُمْ خُمْسُ الْخُمْسِ وَحْدَهُ، فَحُرِمُوا أَحَدَ نَوْعَيْهَا، وَهُوَ الْفَرْضُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: الصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ بَيْتِهِ؛ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، وَالصَّدَقَةُ يَصْرِفُهَا الرَّجُلُ عَلَى مُحْتَاجٍ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا، أَلَيْسَ يُقَالُ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ؟ وَقَدْ كَانَ يُهْدَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَقْرِضُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ لَهُ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَالْقَرْضِ وَالْهَدِيَّةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، لَكِنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آلِهِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِمْ، لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُحْتَاجِ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا هُوَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَصَارَتْ الرِّوَايَتَانِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى آلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ لَا يُعْطَى مِنْ سَهْم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين غَنِيّ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِغَنِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ) . يَعْنِي لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ غَنِيٌّ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَنِيُّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ. وَقَالَ: لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. وَقَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْغَنِيِّ مِنْهَا يَمْنَعُ وُصُولَهَا إلَى أَهْلِهَا، وَيُخِلُّ بِحِكْمَةِ وُجُوبِهَا، وَهُوَ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ بِهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْغِنَى الْمَانِعِ مِنْ أَخْذِهَا. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا، أَنَّهُ مِلْكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ وُجُودُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ؛ مِنْ كَسْبٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ عَقَارٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَوْ مَلَكَ مِنْ الْعُرُوضِ، أَوْ الْحُبُوبِ أَوْ السَّائِمَةِ، أَوْ الْعَقَارِ، مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا، هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ عَدْلُهَا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا، أَوْ خُدُوشًا، أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْغِنَى؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَرْوِيهِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَانَ شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنْهُ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ. قُلْنَا: قَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ لِسُفْيَانَ: حِفْظِي أَنَّ شُعْبَةَ لَا يَرْوِي عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ. فَقَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَاهُ زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْغِنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا، وَالْأَثْمَانُ وَغَيْرُهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَمَدَّ إبَاحَةَ الْمَسْأَلَةِ إلَى وُجُودِ إصَابَةِ الْقِوَامِ أَوْ السِّدَادِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ هِيَ الْفَقْرُ، وَالْغِنَى ضِدُّهَا، فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَهُوَ فَقِيرٌ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ، وَمَنْ اسْتَغْنَى دَخَلَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِيهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَحْرُمَ الْمَسْأَلَةُ وَلَا يَحْرُمُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إذَا جَاءَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمَسْأَلَةِ، فَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: الْغِنَى مِلْكُ أُوقِيَّةٍ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ» . وَكَانَتْ الْأُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ أَخْذِهَا، وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ الْعُرُوضِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ السَّائِمَةِ، أَوْ غَيْرِهَا «؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» ، فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ غَنِيٌّ، وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، فَيَكُونُ فَقِيرًا، فَتُدْفَعُ الزَّكَاةُ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: " فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ ". وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلزَّكَاةِ غِنًى، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا نِصَابَ لَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا، كَمَنْ يَمْلِكُ دُونَ الْخَمْسِينَ، وَلَا لَهُ مَا يَكْفِيه. فَيَحْصُلُ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الْغِنَى الْمَانِعَ مِنْ الزَّكَاةِ غَيْرُ الْمُوجِبِ لَهَا عِنْدَنَا. وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ. فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ دَلَّ عَلَى الْغِنَى الْمُوجِبِ، وَحَدِيثُنَا دَلَّ عَلَى الْغِنَى الْمَانِعِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ. قُلْنَا: قَدْ قَامَ دَلِيلُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ. الثَّانِي، أَنَّ مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيه مِنْ مَالٍ غَيْرِ زَكَائِيٍّ، أَوْ مِنْ مَكْسَبِهِ، أَوْ أُجْرَةِ عَقَارَاتٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَيْهِ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، لِمَا ذَكَرُوهُ فِي حُجَّتِهِمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا يُحْيِي بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، «عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، فَصَعَّدَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ. وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَصِحُّ. قِيلَ: فَحَدِيثُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: سَالِمٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلِأَنَّ لَهُ مَا يُغْنِيه عَنْ الزَّكَاةِ. فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَمَالِكِ النِّصَابِ. الثَّالِثُ، أَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا زَكَائِيًّا، لَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: ذَاكَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت: قَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَيَكُونُ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، وَتَكُونُ لَهُمْ الضَّيْعَةُ لَا تَكْفِيه، فَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ أَعْطُوهُمْ، وَإِنْ رَاحَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبِلِ كَذَا وَكَذَا. قُلْت: فَهَذَا قَدْرٌ مِنْ الْعَدَدِ أَوْ الْوَقْتِ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَ لَهُ عَقَارٌ يَشْغَلُهُ أَوْ ضَيْعَةٌ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا تُقِيمُهُ، يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا إذَا مَلَكَ نِصَابًا زَكَائِيًّا؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ تَجِبْ لَهُ لِلْخَبَرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا يُغْنِيه، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَكْفِيه، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّ الْفَقْرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَاجَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] . أَيْ: الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 فَيَا رَبِّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِك عَابِدٌ مُقِرٌّ بِزَلَّاتِي إلَيْك فَقِيرُ وَقَالَ آخَرُ: وَإِنِّي إلَى مَعْرُوفِهَا لَفَقِيرُ وَهَذَا مُحْتَاجٌ، فَيَكُونُ فَقِيرًا غَيْرَ غَنِيٍّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لَكَانَ فَقِيرًا، وَلَا فَرْقَ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ بَيْنَ الْمَالَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ فِي الْبَحْرِ مَسَاكِينَ، فَقَالَ تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] وَقَدْ بَيَّنَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْغِنَى يَخْتَلِفُ مُسَمَّاهُ، فَيَقَعُ عَلَى مَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ، وَعَلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ، وَلَا مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْغِنَى هُوَ الْكِفَايَةُ. سَوَّى بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا، وَجَوَّزَ الْأَخْذَ لِكُلِّ مَنْ لَا كِفَايَةَ لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ نُصُبًا مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ. وَمَنْ قَالَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا؛ لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِأَنَّ الْأَثْمَانَ آلَةُ الْإِنْفَاقِ الْمُعَدَّةُ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا، فَجَوَّزَ الْأَخْذَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ، وَلَا مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، مِنْ مَكْسَبٍ، أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ عَقَارٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ نَمَاءِ سَائِمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُعَدٌّ لِلْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي حَوْلٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِتَكَرُّرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهَا كُلَّ حَوْلِ مَا يَكْفِيه إلَى مِثْلِهِ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعَائِلَتِهِ وَمَنْ يَمُونُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُودٌ دَفْعُ حَاجَتِهِ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مَا يُعْتَبَرُ لِلْمُنْفَرِدِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ لِعَائِلَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُونَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَنْ يُعْطِي الزَّكَاةَ وَلَهُ عِيَالٌ: يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِيَالِهِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ. وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ إنَّمَا هُوَ إلَى الْعِيَالِ؛ وَهَذَا نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي الْأَخْذِ. (1788) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ الْفَقِيرَةِ زَوْجٌ مُوسِرٌ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ حَاصِلَةٌ لَهَا بِمَا يَصِلُهَا مِنْ نَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَهُ عَقَارٌ يَسْتَغْنِي بِأُجْرَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهَا، كَمَا لَوْ تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقَارِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. [مَسْأَلَةُ مَصَارِف الزَّكَاة] (1789) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُعْطَى إلَّا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى) يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وَقَدْ ذَكَرَهُمْ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَنُؤَخِّرُ شَرْحَهُمْ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ. قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ. قَالَ: فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَحْكَامُهُمْ كُلُّهَا بَاقِيَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: انْقَطَعَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَأَغْنَاهُ عَنْ أَنْ يَتَأَلَّفَ عَلَيْهِ رِجَالٌ، فَلَا يُعْطَى مُشْرِكٌ تَالِفًا بِحَالٍ. قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَلَنَا، كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُؤَلَّفَةَ فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّى الصَّدَقَةَ لَهُمْ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ. وَكَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ كَثِيرًا، فِي أَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ» ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ إلَّا بِنَسْخٍ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. ثُمَّ إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ بِنَصٍّ، وَلَا يَكُونُ النَّصُّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْقِرَاضِ زَمَنِ الْوَحْيِ، ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَسْخٌ كَذَلِكَ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالتَّحَكُّمِ، أَوْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً يُتْرَكُ لَهَا قِيَاسٌ، فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا نَسَخَ حُكْمَ الْمُؤَلَّفَةِ. عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا خِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْغِنَى عَنْهُمْ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ عَطِيَّتَهُمْ حَالَ الْغِنَى عَنْهُمْ، فَمَتَى دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إعْطَائِهِمْ أُعْطُوا، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ، إذَا عُدِمَ مِنْهُمْ صِنْفٌ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، سَقَطَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ خَاصَّةً، فَإِذَا وُجِدَ عَادَ حُكْمُهُ، كَذَا هُنَا. [فَصْلُ صَرْف الزَّكَاة إلَى غَيْر مَنْ ذَكَر اللَّهَ تَعَالَى] (1790) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الطُّرُقَاتِ، وَسَدِّ الْبُثُوقِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَضْيَافِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . " وَإِنَّمَا " لِلْحَصْرِ وَالْإِثْبَاتِ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ، وَسُئِلَ: يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ هُوَ الْمَيِّتُ وَلَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ صَارَ الدَّفْعُ إلَى الْغَرِيمِ لَا إلَى الْغَارِمِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْحَيِّ، وَلَا يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَكُونُ غَارِمًا. قِيلَ: فَإِنَّمَا يُعْطِي أَهْلُهُ. قَالَ: إنْ كَانَتْ عَلَى أَهْلِهِ فَنِعْمَ. [فَصْلُ إذَا أَعْطَى الزَّكَاة لِمَنْ يَظُنّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا] (1791) فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْطَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ الْجَلْدَيْنِ، وَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ الصَّدَقَةَ «إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» . وَلَوْ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الْغِنَى لَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْوَاجِبَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَتِهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى كَافِرٍ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ، وَكَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، لَمْ يُجْزِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يُجْزِهِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَفَارَقَ مَنْ بَانَ غَنِيًّا؛ بِأَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مِمَّا يَعْسَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] . فَاكْتَفَى بِظُهُورِ الْفَقْرِ، وَدَعْوَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَةُ الرَّجُل إذَا تَوَلَّى إخْرَاج زَكَاته بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقّ الْعَامِل مِنْهَا] (1792) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ، فَيَسْقُطُ الْعَامِلُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَلَّى إخْرَاجَ زَكَاتِهِ بِنَفْسِهِ، سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ أَجْرًا لِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا شَيْئًا فَلَا حَقَّ لَهُ، فَيَسْقُطُ، وَتَبْقَى سَبْعَةُ أَصْنَافٍ، إنْ وَجَدَ جَمِيعَهُمْ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ اكْتَفَى بِعَطِيَّتِهِ، وَإِنْ أَعْطَى الْبَعْضَ مَعَ إمْكَانِ عَطِيَّةِ الْجَمِيعِ، جَازَ أَيْضًا. . [مَسْأَلَةُ أَعْطَى الزَّكَاة كُلّهَا فِي صِنْف وَاحِد] (1793) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَجْزَأَهُ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ، قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ، وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ أَنْ يَقْسِمَ زَكَاةَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ مَالِهِ، عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّذِينَ سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ، قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، لَا تُصْرَفُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، إنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا وَاحِدًا، صَرَفَ حِصَّةَ ذَلِكَ الصِّنْفِ إلَيْهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِجَمِيعِهِمْ، وَشَرَّك بَيْنَهُمْ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَأَهْلِ الْخُمْسِ. وَلَنَا «، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ سِوَى الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَزَيْدٌ الْخَيْرُ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ. ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ؛ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ؛ لِقَوْلِهِ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقُ حِينَ تَحَمَّلَ حِمَالَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا» . وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَّاضِي، أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ. وَلَوْ وَجَبَ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهَا لَا يَجِبُ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ إذَا أَخَذَهَا السَّاعِي، فَلَمْ يَجِبْ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ إذَا فَرَّقَهَا الْمَالِكُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا صِنْفًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْمِيمُ أَهْلِ كُلِّ صِنْفٍ بِهَا، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْخُمْسُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَفْرِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ مُسْتَحِقِّيهِ، وَاسْتِيعَابُ جَمِيعِهِمْ بِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، دُونَ غَيْرِهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، أَوْ إلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الْخِلَافِ، وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ يَقِينًا فَكَانَ أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 (1794) فَصْلٌ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى ". يَعْنِي بِهِ الْغِنَى الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا يُغْنِيه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُعْطَى أَلْفًا وَأَكْثَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا، وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْغِنَى لَوْ كَانَ سَابِقًا مَنَعَ، فَيَمْنَعُ إذَا قَارَنَ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ. [فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى الْأَصْنَاف عَلَى قَدْر حَاجَتهمْ إلَيْهَا] (1795) فَصْلٌ: وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَالْغَارِمُ وَالْمُكَاتَبُ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَإِنْ كَثُرَ، وَابْنُ السَّبِيلِ يُعْطَى مَا يُبْلِغُهُ إلَى بَلَدِهِ، وَالْغَازِي يُعْطَى مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ، وَالْعَامِلُ يُعْطَى بِقَدْرِ أَجْرِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ، قِيلَ لَهُ: يَحْمِلُ فِي السَّبِيلِ بِأَلْفٍ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: مَا أَعْطَى فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَهَا، فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا تَقْتَضِيه. . [فَصْلُ أَرْبَعَة أَصْنَاف يَأْخُذُونَ أَخَذَا مُسْتَقَرًّا مِنْ الزَّكَاة] (1796) فَصْلٌ: وَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا، فَلَا يُرَاعَى حَالُهُمْ بَعْدَ الدَّفْعِ، وَهُمْ: الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ، فَمَتَى أَخَذُوهَا مَلَكُوهَا مِلْكًا دَائِمًا مُسْتَقِرًّا، لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا بِحَالٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ الْغَارِمُونَ، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ؛ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُرَاعًى، فَإِنْ صَرَفُوهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ لِأَجْلِهَا، وَإِلَّا اُسْتُرْجِعَ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا لِمَعْنًى لَمْ يَحْصُلْ بِأَخْذِهِمْ لِلزَّكَاةِ، وَالْأَوَّلُونَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِأَخْذِهِمْ، وَهُوَ غِنَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَتَأْلِيفُ الْمُؤَلَّفِينَ، وَأَدَاءُ أَجْرِ الْعَامِلِينَ. وَإِنْ قَضَى هَؤُلَاءِ حَاجَتَهُمْ بِهَا، وَفَضَلَ مَعَهُمْ فَضْلٌ، رَدُّوا الْفَضْلَ، إلَّا الْغَازِي، فَإِنَّ مَا فَضَلَ لَهُ بَعْدَ غَزْوِهِ فَهُوَ لَهُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَا فَضَلَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَالْكَوْسَجِ. وَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ: إذَا عَجَزَ يَرُدُّ مَا فِي يَدَيْهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: إنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا دُفِعَ إلَيْهِ لِيَعْتِقَ بِهِ وَلَمْ يَقَعْ وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الْقَاضِي: كَلَامُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيهَا وَحَصَلَ عِوَضُهَا وَفَائِدَتُهَا. وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. [مَسْأَلَةُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ) الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الزَّكَاةِ يُبْعَثُ بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؟ قَالَ لَا. قِيلَ: وَإِنْ كَانَ قَرَابَتُهُ بِهَا؟ قَالَ: لَا. وَاسْتَحَبَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا تُنْقَلَ مِنْ بَلَدِهَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ فِي كِتَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: مَنْ أَخْرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ، فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ تُرَدُّ إلَى مِخْلَافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَدَّ زَكَاةً أُتِيَ بِهَا مِنْ خُرَاسَانَ إلَى الشَّامِ، إلَى خُرَاسَانَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا كَرِهَا نَقْلَ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ. وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَبْعَثُ بِزَكَاتِهِ إلَى الْمَدِينَةِ. وَلَنَا، «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . وَهَذَا يَخْتَصُّ بِفُقَرَاءِ بَلَدِهِمْ. وَلَمَّا بَعَثَ مُعَاذٌ الصَّدَقَةَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى عُمَرَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عُمَرُ، وَقَالَ: لَمْ أَبْعَثْك جَابِيًا، وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُك لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ، فَتَرُدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ. فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا بَعَثْت إلَيْك بِشَيْءِ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَطَاءٍ مَوْلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ زِيَادًا، أَوْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، بَعَثَ عِمْرَانَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: أَلِلْمَالِ بَعَثْتَنِي؟ أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ بِهَا، فَإِذَا أَبَحْنَا نَقْلَهَا أَفْضَى إلَى بَقَاءِ فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مُحْتَاجِينَ. (1798) فَصْلٌ: فَإِنْ خَالَفَ وَنَقَلَهَا، أَجْزَأَتْهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ. وَاخْتَارَهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ كَالدَّيْنِ، وَكَمَا لَوْ فَرَّقَهَا فِي بَلَدِهَا. وَالْأُخْرَى، لَا تُجْزِئُهُ. اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ مَنْ أُمِرَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ الْأَصْنَافِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 [فَصْلُ اسْتَغْنَى عَنْ الزَّكَاة فُقَرَاءُ أَهْلِ بَلَدِهَا] (1799) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا فُقَرَاءُ أَهْلِ بَلَدِهَا، جَازَ نَقْلُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: قَدْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ إلَى الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فُقَرَاءُ أَوْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِمْ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا تُخْرَجُ صَدَقَةُ قَوْمٍ عَنْهُمْ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَجِيءُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ مِنْ الصَّدَقَةِ، إنَّمَا كَانَ عَنْ فَضْلٍ مِنْهُمْ، يُعْطَوْنَ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُخْرَجُ الْفَضْلُ عَنْهُمْ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمْ يَزَلْ بِالْجُنْدِ، إذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، فَرَدَّهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إلَيْهِ مُعَاذٌ بِثُلُثِ صَدَقَةِ النَّاسِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَقَالَ: لَمْ أَبْعَثْك جَابِيًا، وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ، لَكِنْ بَعَثْتُك لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ، فَتَرُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا بَعَثْت إلَيْك بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّانِي، بَعَثَ إلَيْهِ بِشَطْرِ الصَّدَقَةِ، فَتَرَاجَعَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّالِثُ بَعَثَ إلَيْهِ بِهَا كُلِّهَا، فَرَاجَعَهُ عُمَرُ بِمِثْلِ مَا رَاجَعَهُ، فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا وَجَدْت أَحَدًا يَأْخُذُ مِنِّي شَيْئًا. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِبَادِيَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ، فَرَّقَهَا عَلَى فُقَرَاءِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ. [فَصْلُ إذَا كَانَ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ] فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي بَلَدٍ، وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تُؤَدَّى حَيْثُ كَانَ الْمَالُ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَيْثُ هُوَ، وَبَعْضُهُ فِي مِصْرٍ، يُؤَدِّي زَكَاةَ كُلِّ مَالٍ حَيْثُ هُوَ. فَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ مِصْرِهِ وَأَهْلِهِ، وَالْمَالُ مَعَهُ، فَأَسْهَلُ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَبَعْضَهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَبَعْضَهُ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَتَّى يَمْكُثَ فِيهِ حَوْلًا تَامًّا، فَلَا يَبْعَثُ بِزَكَاتِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ. فَإِنْ كَانَ الْمَالُ تِجَارَةً يُسَافِرُ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُفَرِّقُ زَكَاتَهُ حَيْثُ حَالَ حَوْلُهُ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي اعْتِبَارِهِ الْحَوْلَ التَّامَّ، أَنَّهُ يَسْهُلُ فِي أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ. وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنْ أَهْلِهِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ: يُزَكِّيه فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَثُرَ مُقَامُهُ فِيهِ. فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَفُرِّقَتْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَبَبُهَا فِيهِ. [فَصْلُ الْمُسْتَحَبُّ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَةِ فِي بَلَدِهَا] (1801) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَةِ فِي بَلَدِهَا، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهُ مَا لَمْ تُقْصَرْ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَائِهَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وَيَبْدَأُ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ. وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى الْبَعِيدِ لِتَحَرِّي قَرَابَةٍ، أَوْ مَنْ كَانَ أَشَدَّ حَاجَةً، فَلَا بَأْسَ، مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ. [فَصْلُ أَخَذَ السَّاعِي الصَّدَقَةَ وَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةِ مَنْ كَلَّفَهُ فِي نَقْلِهَا أَوْ مَرَضِهَا] (1802) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخَذَ السَّاعِي الصَّدَقَةَ، وَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةِ مَنْ كَلَّفَهُ فِي نَقْلِهَا أَوْ مَرَضِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ، فَسَأَلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ الْمُصَدِّقُ: إنِّي ارْتَجَعْتهَا بِإِبِلٍ. فَسَكَتَ.» رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ "، وَقَالَ: الرَّجْعَةُ أَنْ يَبِيعَهَا، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مِثْلَهَا أَوْ غَيْرَهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى بَيْعِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِحَدِيثِ قَيْسٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ حِينَ أَخْبَرَهُ الْمُصَدِّقُ بِارْتِجَاعِهَا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ. [مَسْأَلَةُ بَاعَ مَاشِيَةً قَبْلَ الْحَوْلِ بِمِثْلِهَا] (1803) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ مَاشِيَةً قَبْلَ الْحَوْلِ بِمِثْلِهَا، زَكَّاهَا إذَا تَمَّ حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ مِلْكِهِ الْأَوَّلِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ، مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بِجِنْسِهِ، كَالْإِبِلِ بِالْإِبِلِ، أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوْ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ، وَبَنَى حَوْلَ الثَّانِي عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْبَنِي حَوْلُ نِصَابٍ عَلَى حَوْلِ غَيْرِهِ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِهِ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَنْبَنِ عَلَى حَوْلِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ. وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَثْمَانِ. وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِيمَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْأَثْمَانِ لِكَوْنِهَا ثَمَنًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ إلَيْهِ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْلِ، فَبُنِيَ حَوْلُ بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ، كَالْعُرُوضِ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ وَالْعُرُوضِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَالْجِنْسَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ مَعَ وُجُودِهِمَا. فَأَوْلَى أَنْ لَا يُبْنَى حَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. (1804) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ غَنَمٌ سَائِمَةٌ، فَيَبِيعُهَا بِضِعْفِهَا مِنْ الْغَنَمِ، أَيُزَكِّيهَا كُلَّهَا، أَمْ يُعْطِي زَكَاةَ الْأَصْلِ؟ قَالَ: بَلْ يُزَكِّيهَا كُلَّهَا، عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ فِي السَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي؛ لِأَنَّ نَمَاءَهَا مَعَهَا. قُلْت: فَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ؟ قَالَ: يُزَكِّيهَا كُلَّهَا عَلَى حَدِيثِ حَمَاسٍ، فَأَمَّا إنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 بَاعَ النِّصَابَ بِدُونِ النِّصَابِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَانِ فَبَاعَهُمَا بِمِائَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مِائَةٍ وَحْدَهَا. [مَسْأَلَةُ أَبْدَلَ الْمُزَكِّي نِصَابًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ] (1805) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَ عِشْرِينَ دِينَارًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، لَمْ تَبْطُلْ الزَّكَاةُ بِانْتِقَالِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَبْدَلَ نِصَابًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، انْقَطَعَ حَوْلُ الزَّكَاةِ وَاسْتَأْنَفَ حَوْلًا، إلَّا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، أَوْ عُرُوضَ التِّجَارَةِ؛ لِكَوْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْمَالِ الْوَاحِدِ، إذْ هُمَا أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، وَيَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بِنِصَابٍ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ بَاعَ عَرْضًا بِنِصَابٍ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْعُرُوضِ، لَا فِي نَفْسِهَا، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْأَثْمَانُ، فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، لَمْ يُبْنَ حَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى حَوْلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَلَمْ يُبْنَ حَوْلُهُ عَلَى حَوْلِهِ، كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ الْمَاشِيَةِ. وَأَمَّا عُرُوضُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ حَوْلَهَا يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْأَثْمَانِ بِكُلِّ حَالٍ. [مَسْأَلَةُ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِدَرَاهِم فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ] (1806) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ، فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِدَرَاهِمَ، فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إبْدَالَ النِّصَابِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يَقْطَعُ الْحَوْلَ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا آخَرَ. فَإِنْ فَعَلَ هَذَا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُبْدَلُ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ النُّصُبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ، قَصْدًا لِلتَّنْقِيصِ، لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، لَمْ تَسْقُطْ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، إذَا كَانَ إبْدَالُهُ وَإِتْلَافُهُ عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلْفِرَارِ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20] . فَعَاقَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، لِفِرَارِهِمْ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ إسْقَاطَ نَصِيبِ مَنْ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ قَصْدًا فَاسِدًا، اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ مُعَاقَبَتَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَنْ قَتَلَ مَوْرُوثَهُ لِاسْتِعْجَالِ مِيرَاثِهِ، عَاقَبَهُ الشَّرْعُ بِالْحِرْمَانِ، وَإِذَا أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ، لَمْ يَقْصِدْ قَصْدًا فَاسِدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 [فَصْلُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الْمَبِيعِ دُونَ الْمَوْجُودِ] (1807) فَصْلٌ: وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الْمَبِيعِ، دُونَ الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ، وَلَوْلَاهُ لَمْ تَجِبْ فِي هَذَا زَكَاةٌ. [فَصْلُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْبَيْعِ وَلَا بِالتَّنْقِيصِ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاة] فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِالْبَيْعِ وَلَا بِالتَّنْقِيصِ الْفِرَارَ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ، وَاسْتَأْنَفَ بِمَا اسْتَبْدَلَ بِهِ حَوْلًا، إنْ كَانَ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ فَإِنْ وَجَدَ بِالثَّانِي عَيْبًا، فَرَدَّهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ، اسْتَأْنَفَ أَيْضًا حَوْلًا؛ لِزَوَالِ؛ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، قَلَّ الزَّمَانُ أَوْ كَثُرَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَالْمَاشِيَةُ إذَا بِيعَتْ بِالْخِيَارِ فَلَمْ يَنْقَضِ الْخِيَارُ حَتَّى رُدَّتْ، اسْتَقْبَلَ الْبَائِعُ بِهَا حَوْلًا، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ. وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّصَابِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَبْلَ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَلَهُ الرَّدُّ، سَوَاءٌ قُلْنَا الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، أَوْ بِالذِّمَّةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْفُقَرَاءِ جُزْءًا مِنْهُ، بَلْ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ حَقٍّ بِهِ، كَتَعَلُّقِ الْأَرْشِ بِالْجَانِي، فَيَرُدُّ النِّصَابَ، وَعَلَيْهِ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ. فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهُ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُ، انْبَنَى عَلَى الْمَعِيبِ إذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ آخَرُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، هَلْ لَهُ رَدُّهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَانْبَنَى أَيْضًا عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ. جَازَ الرَّدُّ هَاهُنَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ. وَمَتَى رَدَّهُ فَعَلَيْهِ عِوَضُ الشَّاةِ الْمُخْرَجَةِ، تُحْسَبُ عَلَيْهِ بِالْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قِيمَتِهَا مَعَ يَمِينِهِ، إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، فَهُوَ أَعْرَفُ بِقِيمَتِهَا، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مُدَّعَاةٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ غَارِمٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْأُصُولِ قَوْلُ الْغَارِمِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَغْرَمُ الثَّمَنَ، فَيَرُدُّهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ لِثَمَنِ الشَّاةِ الْمُدَّعَاةِ هُوَ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ، فَلَهُ الرَّدُّ وَجْهًا وَاحِدًا. (1809) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ، وَبَنَى عَلَى حَوْلِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا انْتَقَلَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ رَدُّهُ، فَيَصِيرَ كَالْمَغْصُوبِ، عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلُ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَاب الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ] (1810) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ، بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَات، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي فَسْخُ الْبَيْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ نَقَضَ الْبَيْعَ فِي قَدْرِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا إنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَقَدْ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ قُلْنَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، فَقَدْرُ الزَّكَاةِ مُرْتَهَنٌ بِهَا، وَبَيْعُ الرَّهْنِ غَيْرُ جَائِزٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَفْهُومُهُ صِحَّةُ بَيْعِهَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا، وَهُوَ عَامٌّ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَغَيْرُهُ. وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَبَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ. وَهُمَا مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ، وَالْمَالُ خَالٍ عَنْهَا، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ آدَمِيٍّ، أَوْ زَكَاةُ فِطْرٍ. وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ، فَهُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ، فَلَمْ يَمْنَعْ بَيْعَ جَمِيعِهِ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَقَوْلُهُمْ: بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْفُقَرَاءِ فِي النِّصَابِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْفُقَرَاءُ مِنْ إلْزَامِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِرَهْنٍ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الرَّهْنِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ ثَمَّ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا كُلِّفَ إخْرَاجَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُلِّفَ تَحْصِيلَهَا، فَإِنْ عَجَزَ بَقِيَتْ الزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّصَابِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا؛ لِأَنَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ضَرَرًا فِي إتْمَامِ الْبَيْعِ، وَتَفْوِيتًا لِحُقُوقِهِمْ، فَوَجَبَ فَسْخُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهَذَا أَصَحُّ. [مَسْأَلَةُ الزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ] (1811) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهَا مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ جَائِزٌ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِيهِ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِيهِ، لَامْتَنَعَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِيهِ، وَلَتَمَكَّنَ الْمُسْتَحِقُّونَ مِنْ إلْزَامِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ ثُبُوتِهِ فِيهِ، وَلَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، كَسُقُوطِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِتَلَفِ الْجَانِي. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ. وَقَوْلِهِ: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ أَوْ نَضْحٍ نِصْفُ الْعُشْرِ» . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ بِحَرْفِ " فِي " وَهِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَإِنَّمَا جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ رُخْصَةً. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، فَحَالَ عَلَى مَالِهِ حَوْلَانِ، لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِمَا مَضَى، وَلَا تَنْقُصُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، لَمْ تَنْقُصْ الزَّكَاةُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ أَحْوَالٌ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ، فَعَلَيْهِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ النِّصَابِ. لَكِنْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْهُ، احْتَمَلَ أَنْ تَسْقُطَ الزَّكَاةُ فِي قَدْرِهَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَذَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُسْقِطُ نَفْسَهُ، وَقَدْ يُسْقِطُ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَحَلِّهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ طَهَارَتِهَا وَإِزَالَتِهَا بِهِ، وَيَمْنَعُ إزَالَةَ نَجَاسَةِ غَيْرِهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. وَإِنْ قُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ. وَكَانَ النِّصَابُ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَحَالَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهَا، تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ النِّصَابِ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فِيمَا بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ عَزَلَ قَدْرَ فَرْضِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ، فَلَمْ يَأْتِهِ الْمُصَدِّقُ عَامَيْنِ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ شَاةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْبَاقِي، وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَلَمْ يُزَكِّهَا حَتَّى حَالَ عَلَيْهَا حَوْلٌ آخَرُ، يُزَكِّيهَا لِلْعَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَصِيرُ مِائَتَيْنِ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وَقَالَ، فِي رَجُلٍ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يُزَكِّهَا سِنِينَ: يُزَكِّي فِي أَوَّلِ سَنَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ نُتِجَتْ سَخْلَةً فِي كُلّ حَوْلٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ فِي كُلّ سَنَةٍ شَاةٌ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ كَمَلَ بِالسَّخْلَةِ الْحَادِثَةِ، فَإِنْ كَانَ نَتَاجُ السَّخْلَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِمُدَّةٍ، اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ الثَّانِي مِنْ حِينِ نُتِجَتْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَمَلَ. [فَصْلُ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَحْوَالًا] فَصْلٌ: فَإِنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَحْوَالًا، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَاةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: الْمَالُ غَيْرُ الْإِبِلِ إذَا أُدِّيَ مِنْ الْإِبِلِ، لَمْ يَنْقُصْ، وَالْخَمْسُ بِحَالِهَا، وَكَذَلِكَ مَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، لَا تَنْقُصُ زَكَاتُهَا فِيمَا بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَجِبُ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِالْعَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ زَكَاتَهَا تَنْقُصُ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَمَضَى عَلَيْهَا أَحْوَالٌ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ خَمْسٍ كَامِلَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعًا وَجُزْءًا مِنْ بَعِيرٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ، فَلَمْ يَنْقُصْ بِهِ النِّصَابُ، كَمَا لَوْ أَدَّاهُ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْمَالِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِعَيْنِهِ، فَيَنْقُصُهُ، كَمَا لَوْ أَدَّاهُ مِنْ النِّصَابِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَحَالَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 عَلَيْهَا أَحْوَالٌ، فَعَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ حَوْلٍ بَعْدَهُ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عَيْنِهَا، فَيَجِبُ أَنْ لَا تَنْقُصَ زَكَاتُهَا أَيْضًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. قُلْنَا: إذَا أَدَّى عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَكْبَرَ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، جَازَ فَقَدْ أَمْكَنَ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِعَيْنِهَا، لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ مِنْهَا، بِخِلَافِ عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَافْتَرَقَا. [فَصْلُ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ] (1813) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الثَّانِي، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ شَرْطٌ، فَيُشْتَرَطُ لِلْوُجُوبِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الْمَاشِيَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . فَمَفْهُومُهُ، وُجُوبُهَا عَلَيْهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْأَدَاءِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْحَوْلَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ وُجُوبُ فَرْضَيْنِ فِي نِصَابٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّنَا نَقُولُ: هَذِهِ عِبَادَةٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ أَدَائِهِ، وَالصَّلَاةُ تَجِبُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ جُزْءًا ثُمَّ جُنَّ أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ، وَالْحَجُّ يَجِبُ عَلَى مِنْ أَيْسَرَ فِي وَقْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجِّ فِيهِ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ مَانِعٌ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ تِلْكَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، يُكَلَّفُ فِعْلَهَا بِبَدَنِهِ، فَأَسْقَطَهَا تَعَذُّرُ فِعْلِهَا، وَهَذِهِ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، يُمْكِنُ ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ لِلْمَسَاكِينِ فِي مَالِهِ وَالْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَعَلُّقِهَا بِمَالِهِ بِجِنَايَتِهِ. [فَصْلُ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ] (1814) فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ. هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ، سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ، لَمْ تَسْقُطْ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا فِي الْمَاشِيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى يَجِيءَ الْمُصَدِّقُ، فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ مَجِيئِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ النِّصَابِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ طَالَبَهُ بِهَا فَمَنَعَهَا؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ قَبْلَ مَحَلِّ الِاسْتِحْقَاقِ، فَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ تَلْفِت الثَّمَرَةُ قَبْلَ الْجِذَاذِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي. وَمَنْ اشْتَرَطَ التَّمَكُّنَ قَالَ: هَذِهِ عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَيَسْقُطُ فَرْضُهَا بِتَلَفِهِ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَائِهَا، كَالْحَجِّ. وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ قَالَ: مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ، كَالدَّيْنِ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي ضَمَانِهِ إمْكَانُ الْأَدَاءِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَرَةُ لَا تَجِبُ زَكَاتُهَا فِي الذِّمَّةِ حَتَّى تُحْرَزَ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ. وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ، فَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِهَا، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ، إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى التَّفْرِيطِ، أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا فَلَا يُخْرِجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إخْرَاجِهَا، فَلَيْسَ بِمُفْرِطٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ لِبُعْدِ الْمَالِ عَنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْفَرْضِ لَا يُوجَدُ فِي الْمَالِ، وَيَحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ، فَلَمْ يَجِدْ مَا يَشْتَرِيه، أَوْ كَانَ فِي طَلَبِ الشِّرَاءِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَالِ، فَأَمْكَنَ الْمَالِكَ أَدَاؤُهَا أَدَّاهَا، وَإِلَّا أُنْظِرَ بِهَا إلَى مَيْسَرَتِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَ إنْظَارُهُ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ الْمُتَعَيِّنِ فَبِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى. [فَصْلُ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ] (1815) فَصْلٌ: وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، تُؤْخَذُ مِنْ الثُّلُثِ، مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا، وَلَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَالْمُثَنَّى، وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُخْرَجُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى بِهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَجَعَلُوهَا إذَا أَوْصَى بِهَا وَصِيَّةً تُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُزَاحَمُ بِهَا أَصْحَابُ الْوَصَايَا، وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا سَقَطَتْ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَسَقَطَتْ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، كَالصَّوْمِ. وَلَنَا، أَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالدَّيْنِ، وَيُفَارِقُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا، وَلَا النِّيَابَةُ فِيهِمَا. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 [فَصْلُ وُجُوب الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْر] (1816) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إخْرَاجِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ، إذَا لَمْ يَخْشَ ضَرَرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ التَّأْخِيرُ مَا لَمْ يُطَالَبْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ، فَلَا يَتَعَيَّنْ الزَّمَنُ الْأَوَّلُ لِأَدَائِهَا دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ مَكَانٌ دُونَ مَكَان. وَلَنَا، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَخِّرُ لِلِامْتِثَالِ الْعِقَابَ، وَلِذَلِكَ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ وَوَبَّخَهُ، بِامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ، فَأَخَّرَ ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، وَلِأَنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ يُنَافِي الْوُجُوبَ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ مَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ، لَجَازَ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ، فَتَنْبَغِي الْعُقُوبَةُ بِالتَّرْكِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، لَاقْتَضَاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا، إذْ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ هَاهُنَا لَأَخَّرَهُ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، أَوْ بِتَلَفِ مَالِهِ، أَوْ بِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، فَيَتَضَرَّرَ الْفُقَرَاءُ. وَلِأَنَّ هَاهُنَا قَرِينَةً تَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ، وَهِيَ نَاجِزَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ، نَاجِزًا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَكَرَّرُ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ مِثْلِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ، فَيُؤَخِّرُ عَنْ وَقْتِ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَمْ يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا؟ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: فَابْتَدَأَ فِي إخْرَاجِهَا، فَجَعَلَ يُخْرِجُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا. فَقَالَ: لَا، بَلْ يُخْرِجُهَا كُلَّهَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِخْرَاجِ، مِثْلُ مَنْ يَحُولُ حَوْلُهُ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، وَيَخْشَى إنْ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ خَشِيَ فِي إخْرَاجِهَا ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ لَهُ سِوَاهَا، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا؛؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ، فَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ أَوْلَى. [فَصْلُ أَخَّرَ الزَّكَاة لِيَدْفَعهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا] (1817) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا، مِنْ ذِي قَرَابَةٍ، أَوْ ذِي حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، لَمْ يَجُزْ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُ عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ. يَعْنِي لَا يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ مُتَفَرِّقَةً، فِي كُلِّ شَهْرٍ شَيْئًا، فَأَمَّا إنْ عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ، أَوْ إلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مَجْمُوعَةً، جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالَانِ، أَوْ أَمْوَالٌ، زَكَاتُهَا وَاحِدَةٌ، وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ، وَقَدْ اسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الزَّكَاةِ لِيَجْمَعَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَمْعُهَا بِتَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ مِنْهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 [فَصْلُ أَخَّرَ الزَّكَاةَ فَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى الْفَقِيرِ حَتَّى ضَاعَتْ] (1818) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ، فَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى الْفَقِيرِ حَتَّى ضَاعَتْ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ. كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي حِفْظِ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ، رُجِعَ إلَى مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ زَكَاةٌ أَخْرَجَهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُزَكِّي مَا بَقِيَ، إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ النِّصَابِ فَتَسْقُطَ الزَّكَاةُ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَرَاهَا تُجْزِئُهُ إذَا أَخْرَجَهَا فِي مَحَلِّهَا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُزَكِّي مَا بَقِيَ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ بَقِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، تَلِفَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِذَلِكَ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ دَفَعَ إلَى أَحَدٍ زَكَاتَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ، قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا ثَوْبًا أَوْ طَعَامًا. فَذَهَبَتْ الدَّرَاهِمُ، أَوْ اشْتَرَى بِهَا مَا قَالَ فَضَاعَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ مَكَانَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ، وَلَوْ قَبَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ، وَقَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا. فَضَاعَتْ، أَوْ ضَاعَ مَا اشْتَرَى بِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَمْلِكُهَا الْفَقِيرُ إلَّا بِقَبْضِهَا، فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهَا كَانَ التَّوْكِيلُ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِمَا لَيْسَ لَهُ، وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا تَلِفَتْ كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ. [فَصْلُ عَزَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فَنَوَى أَنَّهُ زَكَاةٌ فَتَلِفَ] فَصْلٌ: وَلَوْ عَزَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ، فَنَوَى أَنَّهُ زَكَاةٌ، فَتَلِفَ، فَهُوَ فِي ضَمَانِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. اهـ. [مَسْأَلَةُ رَهَنَ مَاشِيَةً فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ] (1820) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ رَهَنَ مَاشِيَةً، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، أَدَّى مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُؤَدِّي عَنْهَا، وَالْبَاقِي رَهْنٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَهَنَ مَاشِيَةً، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَدَاؤُهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَجَبَتْ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ، وَمُؤْنَةُ الرَّهْنِ تَلْزَمُ الرَّاهِنَ، كَنَفَقَةِ النِّصَابِ، وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ النِّصَابِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ، وَالزَّكَاةُ لَا يَتَعَيَّنُ إخْرَاجُهَا مِنْهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَهَا مِنْهُ كَزَكَاةِ مَالٍ سِوَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُؤَدِّي مِنْهُ سِوَى هَذَا الرَّهْنِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَيَبْقَى بَعْدَ قَضَائِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ زَائِدَةً عَلَى النِّصَابِ قَدْرًا يُمْكِنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَيَبْقَى النِّصَابُ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَاشِيَةِ، وَيُقَدِّمُ حَقَّ الزَّكَاةِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ، وَحُقُوقُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ لَا بَدَلَ لَهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، وَيَبْقَى بَعْدَ قَضَائِهِ نِصَابٌ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تَجِبُ الزَّكَاةُ أَيْضًا. وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ الْمَوَاشِي وَالْحُبُوبُ. قَالَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ لَوْ جَاءَ فَوَجَدَ إبِلًا وَغَنَمًا، لَمْ يَسْأَلْ صَاحِبَهَا أَيَّ شَيْءٍ عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ يُزَكِّيهَا، وَالْمَالُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَاشِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ آكَدُ؛ لِظُهُورِهَا، وَتَعَلُّقِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ بِهَا، لِرُؤْيَتِهِمْ. إيَّاهَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى حِفْظِهَا أَشَدُّ، وَلِأَنَّ السَّاعِيَ يَتَوَلَّى أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْهَا وَلَا يَسْأَلُ عَنْ دَيْنِ صَاحِبِهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ؛ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَيَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا مِنْ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَكْحُولٍ، وَالثَّوْرِيِّ. وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ فِي الزَّرْعِ إذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ، فَيَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَهَا، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَ مُحْتَاجٌ، وَالصَّدَقَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» . «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ "، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ، حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ زَكَاةٌ لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُ، حَتَّى يَأْتِيَ تَطَوُّعًا. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَرَاهُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ. [فَصْلُ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةً] (1821) فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةً، أَوْ غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلْدَةٍ، فَأَقَامَ أَهْلُهُ سِنِينَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ، أَدَّوْا الْمَاضِيَ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ لِمَا مَضَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ تَسْقُطْ عَمَّنْ هُوَ فِي غَيْرِ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. [فَصْلُ إذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ فَلِيَبْدَأْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ] (1822) فَصْلٌ: إذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ؛ «فَإِنَّ زَيْنَبَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُجْزِئُ عَنِّي مِنْ الصَّدَقَةِ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي لَفْظٍ: أَيَسَعُنِي أَنْ أَضَعَ صَدَقَتِي فِي زَوْجِي وَبَنِي أَخٍ لِي أَيْتَامٍ؟ فَقَالَ " نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ ". رَوَاهُ النَّسَائِيّ. «وَلَمَّا تَصَدَّقَ أَبُو طَلْحَةَ بِحَائِطِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ حَاجَةً فَيُقَدِّمَهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْقَرَابَةِ أَحْوَجَ أَعْطَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مُحْتَاجَةً أَعْطَاهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ أَعْطَاهُمْ، وَيُعْطِي الْجِيرَانَ. وَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْ عَوَّدَ قَوْمًا بِرًّا فَيَجْعَلُهُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا يُعْطِي الزَّكَاةِ مَنْ يَمُونُ، وَلَا مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إذَا عَوَّدَهُمْ بِرًّا مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا أَعْطَى مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ شَيْئًا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ، فَأَمَّا إنَّ عَوَّدَهُمْ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ، أَوْ أَعْطَى مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ تَطَوُّعًا شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ يَصْرِفُهُ فِي غَيْرِ النَّفَقَة وَحَوَائِجِهِ، فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: يُعْطِي أَخَاهُ وَأُخْتَه مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ إذَا لَمْ يَقِ بِهِ مَالَهُ، أَوْ يَدْفَعْ بِهِ مَذَمَّةً. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِذَا اسْتَوَى فُقَرَاءُ قَرَابَاتِي وَالْمَسَاكِينُ؟ قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ أَوْلَى، فَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ يُغْنِيهِمْ وَيَدَعُ غَيْرَهُمْ، فَلَا. قِيلَ لَهُ: فَيُعْطِي امْرَأَةَ ابْنِهِ مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ: إنْ كَانَ لَا يُرِيدُ بِهِ كَذَا - شَيْئًا ذَكَرَهُ - فَلَا بَأْسَ بِهِ. كَأَنَّهُ أَرَادَ مَنْفَعَةَ ابْنِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ فِي الزَّكَاةِ: لَا تُدْفَعُ بِهَا مَذَمَّةٌ، وَلَا يُحَابَى بِهَا قَرِيبٌ، وَلَا يُبْقِي بِهَا مَالًا. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرَابَةٌ يُجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ عَدَّهَا مِنْ عِيَالِهِ، فَلَا يُعْطِيهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُجْرِي عَلَيْهَا شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: إذَا كَفَاهَا ذَلِكَ. وَفِي الْجُمْلَةِ، مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، فَلَهُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَيُقَدِّمُ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ، فَإِنْ شَاءُوا قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دَيْنًا. وَكَيْفَ فَرَّقَهَا، بَعْدَ مَا يَضَعُهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، جَازَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 [بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوع وَالثِّمَارِ] ِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَالزَّكَاةُ تُسَمَّى نَفَقَةً، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقُّهُ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَالَ مَرَّةً: الْعُشْرُ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ. . وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ [مَسْأَلَةُ نِصَاب زَكَاة الزُّرُوع وَالثِّمَار] (1823) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (وَكُلُّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْأَرْضِ مِمَّا يَيْبَسُ وَيَبْقَى، مِمَّا يُكَالُ وَيَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا، فَفِيهِ الْعُشْرُ، إنْ كَانَ سَقْيُهُ مِنْ السَّمَاءِ والسوح، وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِالدَّوَالِي وَالنَّوَاضِحِ وَمَا فِيهِ الْكَلَفُ، فَنِصْفُ الْعُشْرِ) . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ؛ مِنْهَا، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ: الْكَيْلُ، وَالْبَقَاءُ، وَالْيُبْسُ، مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، مِمَّا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ، إذَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا، كَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، وَالْأُرْزِ، وَالذُّرَةِ، وَالدُّخْنِ، أَوْ مِنْ الْقُطْنِيَّاتِ، كَالْبَاقِلَّا، وَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِ وَالْحِمَّصِ، أَوْ مِنْ الْأَبَازِيرِ، كَالْكُسْفُرَةِ، وَالْكَمُّونِ، وَالْكَرَاوْيَا، أَوْ الْبُزُورِ، كَبَزْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 الْكَتَّانِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، أَوْ حَبِّ الْبُقُولِ، كَالرَّشَادِ، وَحَبِّ الْفُجْلِ، وَالْقُرْطُمِ، وَالتُّرْمُسِ، وَالسِّمْسِمِ، وَسَائِرِ الْحُبُوبِ، وَتَجِبُ أَيْضًا فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مِنْ الثِّمَارِ، كَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْمِشْمِشِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ. وَلَا زَكَاةَ فِي سَائِرِ الْفَوَاكِهِ، كَالْخَوْخِ، وَالْإِجَّاصِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالتُّفَّاحِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالتِّينِ، وَالْجَوْزِ. وَلَا فِي الْخُضَرِ، كَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَالْبَاذِنْجَانِ.، وَاللِّفْتِ، وَالْجَزَرِ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ فِي الْحُبُوبِ كُلِّهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا شَيْءَ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ، إلَّا مَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ، يَبْلُغُ مَكِيلُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَا شَيْءَ فِي الْأَبَازِيرِ، وَلَا الْبُزُورِ، وَلَا حَبِّ الْبُقُولِ. وَلَعَلَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ إلَّا فِيمَا كَانَ قُوتًا أَوْ أُدْمًا؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا زَكَاةَ فِي ثَمَرٍ، إلَّا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ، وَلَا فِي حَبٍّ، إلَّا مَا كَانَ قُوتًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِذَلِكَ، إلَّا فِي الزَّيْتُونِ، عَلَى اخْتِلَافٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ: إلَّا فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَالسُّلْت: نَوْعٌ مِنْ الشَّعِيرِ. وَوَافَقَهُمْ إبْرَاهِيمُ، وَزَادَ الذُّرَةَ. وَوَافَقَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَادَ الزَّيْتُونَ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ.» وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَالْعُشْرُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ» . وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ.» وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ» . رَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 فِي مَعْنَاهَا فِي غَلَبَةِ الِاقْتِيَاتِ بِهَا، وَكَثْرَةِ نَفْعِهَا، وَوُجُودِهَا، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا، وَلَا إلْحَاقُهُ بِهَا، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ، إلَّا الْحَطَبَ، وَالْقَصَبَ، وَالْحَشِيشَ؛ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» . وَهَذَا عَامٌّ، وَلِأَنَّ هَذَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ، فَأَشْبَهَ الْحَبَّ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ: «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ» . يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي جَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ، خَرَجَ مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ، وَمَا لَيْسَ بِحَبٍّ، بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ مِمَّا لَا، تَوْسِيقَ فِيهِ، وَهُوَ مِكْيَالٌ، فَفِيمَا هُوَ مَكِيلٌ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ التَّوْسِيقِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» . وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا أَنْبَتَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْخَضِرِ صَدَقَةٌ» . وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. رَوَاهُنَّ الدَّارَقُطْنِيّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ «مُعَاذٍ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ عَنْ الْخَضْرَاوَاتِ، وَهِيَ: الْبُقُولُ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ» . وَقَالَ: يَرْوِيه الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ: جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالسُّلْت، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَلَا عُشْرَ فِيهِ. وَقَالَ: إنَّ مُعَاذًا لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْخَضِرِ صَدَقَةً. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِ فِي كُرُومٍ، فِيهَا مِنْ الْفِرْسِكِ وَالرُّمَّانِ مَا هُوَ أَكْثَرُ غَلَّةً مِنْ الْكُرُومِ أَضْعَافًا فَكَتَبَ عُمَرُ: إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا عُشْرٌ، هِيَ مِنْ الْعِضَاهِ. [فَصْلُ لَا زَكَاة فِيمَا يَنْبُتُ مِنْ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ إلَّا بِأَخْذِهِ] (1824) فَصْلٌ: وَلَا شَيْءَ فِيمَا يَنْبُتُ مِنْ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ إلَّا بِأَخْذِهِ، كَالْبُطْمِ، وَالْعَفْصِ، وَالزَّعْبَلِ وَهُوَ شَعِيرُ الْجَبَلِ، وَبَزْرُ قَطُونَا، وَبَزْرُ الْبَقْلَةِ، وَحَبُّ الثُّمَامِ، وَالْقَتُّ وَهُوَ بَزْرُ الْأُشْنَانِ إذَا أَدْرَكَ وَتَنَاهَى نُضْجُهُ حَصَلَتْ فِيهِ مُرُورَةٌ وَمُلُوحَةٌ، وَأَشْبَاهُ هَذَا. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِحِيَازَتِهِ، وَأَخْذُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الزَّكَاةِ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ إذَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، كَاَلَّذِي يَلْتَقِطُهُ اللَّقَّاطُ مِنْ السُّنْبُلِ، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُبَاحِ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ إذَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ، وَلَعَلَّهُ بَنَى هَذَا عَلَى أَنَّ مَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْكَلَأِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. فَأَمَّا إنْ نَبَتَ فِي أَرْضِهِ مَا يَزْرَعُهُ الْآدَمِيُّونَ، مِثْلُ أَنْ سَقَطَ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ حَبٌّ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ، فَنَبَتَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ. وَلَوْ اشْتَرَى زَرْعًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِيهِ، أَوْ ثَمَرَةً قَدْ بَدَا صَلَاحُهَا، أَوْ مَلَكَهَا بِجِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْمِلْكِ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلُ لَا زَكَاة فِيمَا لَيْسَ بِحُبِّ وَلَا ثَمَرٍ] (1825) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِحَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ، سَوَاءٌ وُجِدَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالِادِّخَارُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَلَا تَجِبُ فِي وَرَقٍ مِثْلِ وَرَقِ السِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَالْأُشْنَانِ وَالصَّعْتَرِ وَالْآسِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا زَكَاةَ فِي حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» . أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي غَيْرِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِي ثَمَرِ السِّدْرِ، فَوَرَقُهُ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْحَبِّ الْمُبَاحِ، فَفِي الْوَرَقِ أَوْلَى. وَلَا زَكَاةَ فِي الْأَزْهَارِ، كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْعُصْفُرِ، وَالْقُطْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ، وَلَا هُوَ بِمَكِيلٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ، كَالْخَضْرَاوَاتِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي الْقُطْنِ شَيْءٌ. وَقَالَ: لَيْسَ فِي الزَّعْفَرَانِ زَكَاةٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْفَاكِهَةِ وَالْبَقْلِ وَالتَّوَابِلِ وَالزَّعْفَرَانِ زَكَاةٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ فِي الْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ زَكَاةً. وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْعُصْفُرِ وَالْوَرْسِ وَجْهًا، قِيَاسًا عَلَى الزَّعْفَرَانِ. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَدَ؛ قَالَ: الْمَرْوِيُّ عَنْهُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ إلَّا فِي الْأَرْبَعَةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالذُّرَةِ وَالسُّلْتِ وَالْأُرْزِ وَالْعَدَسِ، وَكُلِّ شَيْءٍ يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ حَتَّى يُدَّخَرَ، وَيَجْرِيَ فِيهِ الْقَفِيزُ، مِثْلُ: اللُّوبِيَا وَالْحِمَّصِ وَالسَّمَاسِمِ وَالْقُطْنِيَّاتِ؛ فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْقَفِيزُ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا سَمَّاهُ. [فَصْلُ اُخْتُلِفَ فِي زَكَاة الزَّيْتُونِ] (1826) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الزَّيْتُونِ. فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ - يَعْنِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ - وَإِنْ عُصِرَ قُوِّمَ ثَمَنُهُ؛ لِأَنَّ الزَّيْتَ لَهُ بَقَاءٌ. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 141] . وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ ادِّخَارُ غَلَّتِهِ، أَشْبَهَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدَّخَرُ يَابِسًا، فَهُوَ كَالْخَضْرَاوَاتِ، وَالْآيَةُ لَمْ يُرَدْ بِهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَلِهَذَا ذُكِرَ الرُّمَّانُ وَلَا عُشْرَ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا حَصَدَ زَرْعَهُ أَلْقَى لَهُمْ مِنْ السُّنْبُلِ، وَإِذَا جَذَّ نَخْلَهُ أَلْقَى لَهُمْ مِنْ الشَّمَارِيخِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، عَلَى أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَتَأَتَّى حَصَادُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرُّمَّانَ مَذْكُورٌ بَعْدَهُ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اهـ. [فَصْلُ الْحَكَم الثَّانِي لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ] (1827) فَصْلٌ: الْحَكَمُ الثَّانِي، أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالْحَكَمُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ، إلَّا مُجَاهِدًا، وَأَبَا حَنِيفَةَ، وَمَنْ تَابَعَهُ، قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» . وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ فَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ نِصَابٌ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَاصٌّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ مَا رَوَوْهُ بِهِ، كَمَا خَصَّصْنَا قَوْلَهُ: «فِي سَائِمَةِ الْإِبِلِ الزَّكَاةُ» بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» . وَقَوْلَهُ: «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ، فَلَمْ تَجِبْ فِي يَسِيرِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ يَكْمُلُ نَمَاؤُهُ بِاسْتِحْصَادِهِ لَا بِبَقَائِهِ، وَاعْتُبِرَ الْحَوْلُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِكَمَالِ النَّمَاءِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالنِّصَابُ اُعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ مِنْهُ، فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، بِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَحْصُلُ الْغِنَى بِدُونِ النِّصَابِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ. اهـ. [فَصْلُ تُعْتَبَرُ الْخَمْسَةُ أَوْسُقٍ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ وَالْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ] (1828) فَصْلٌ: وَتُعْتَبَرُ خَمْسَةُ الْأَوْسُقِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ، وَالْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ عِنَبًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 لَا يَجِيءُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَبِيبًا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ حَالُ وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ بِحَالِهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْهُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ نِصَابُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ عِنَبًا وَرُطَبًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ عُشْرِ الرُّطَبِ تَمْرًا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ يُؤْخَذُ عُشْرُ مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْهُ مِنْ التَّمْرِ إذَا بَلَغَ رُطَبُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ إيجَابَ قَدْرِ عُشْرِ الرُّطَبِ مِنْ التَّمْرِ إيجَابٌ لِأَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ، وَلَا قَوْلُ إمَامٍ اهـ. [فَصْلُ الْعَلَسُ نَوْعٌ مِنْ الْحِنْطَةِ يُدَّخَرُ فِي قِشْرِهِ] (1829) فَصْلٌ: وَالْعَلَسُ: نَوْعٌ مِنْ الْحِنْطَةِ يُدَّخَرُ فِي قِشْرِهِ، وَيَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ مِنْ قِشْرِهِ لَا يَبْقَى بَقَاءَ غَيْرِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى النِّصْفِ فَيُعْتَبَرُ نِصَابُهُ فِي قِشْرِهِ لِلضَّرَرِ فِي إخْرَاجِهِ، فَإِذَا بَلَغَ بِقِشْرِهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي بُلُوغِهِ نِصَابًا، خُيِّرَ صَاحِبُهُ بَيْنَ إخْرَاجِ عُشْرِهِ وَبَيْنَ إخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرِهِ، لِيُقَدِّرَهُ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ. كَقَوْلِنَا فِي مَغْشُوشِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إذَا شَكَكْنَا فِي بُلُوغِ مَا فِيهِمَا نِصَابًا. وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ غَيْرِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ فِي قِشْرِهِ، وَلَا إخْرَاجُهُ قَبْلَ تَصْفِيَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى إبْقَائِهِ فِي قِشْرِهِ، وَلَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ وَلَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ. [فَصْلُ نِصَابَ الْأُرْزِ مَعَ قِشْرِهِ] (1830) فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ نِصَابَ الْأُرْزِ مَعَ قِشْرِهِ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ مَعَ قِشْرِهِ، وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ قِشْرِهِ، لَمْ يَبْقَ بَقَاءَ مَا فِي الْقِشْرِ، فَهُوَ كَالْعَلَسِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُعْتَبَرُ نِصَابُهُ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَقُولَ ثِقَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ إنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى النِّصْفِ فَيَكُونُ كَالْعَلَسِ، وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ ثِقَاتٌ يُخْبِرُونَ بِهَذَا، أَوْ شَكَكْنَا فِي بُلُوغِهِ نِصَابًا، خَيَّرْنَا رَبَّهُ بَيْنَ إخْرَاجِ عُشْرِهِ فِي قِشْرِهِ، وَبَيْنَ تَصْفِيَتِهِ لِيُعْلَمَ قَدْرُهُ مُصَفًّى، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا أُخِذَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ، فَاعْتَبَرْنَاهُ كَمَغْشُوشِ الْأَثْمَانِ اهـ. [فَصْلُ نِصَابُ الزَّيْتُونِ] (1831) فَصْلٌ: وَنِصَابُ الزَّيْتُونِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ. وَنِصَابُ الزَّعْفَرَانِ وَالْقُطْنِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ، أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ، فَيَقُومُ وَزْنُهُ مَقَامَ كَيْلِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ". وَحُكِيَ عَنْهُ: إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مِنْ أَدْنَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الزَّعْفَرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ بِغَيْرِهِ، كَالْعُرُوضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 تُقَوَّمُ بِأَدْنَى النِّصَابَيْنِ مِنْ الْأَثْمَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّعْفَرَانِ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَلَا أَعْلَمُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا، وَلَا أَصْلًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَيَرُدُّهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَاعْتِبَارُهُ بِغَيْرِهِ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَجِبُ عُشْرُهُ، وَاعْتِبَارُهُ بِأَقَلَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ قِيمَةً لَا نَظِيرَ لَهُ أَصْلًا، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعُرُوضِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي قِيمَتِهَا، تُؤَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي اُعْتُبِرَتْ بِهَا، وَالْقِيمَةُ يُرَدُّ إلَيْهَا كُلُّ الْأَمْوَالِ الْمُتَقَوِّمَاتِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الرَّدِّ إلَيْهَا الرَّدُّ إلَى مَا لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا، وَلَا تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهِ، فَاعْتُبِرَ نِصَابُهُ بِنَفْسِهِ، كَالْحُبُوبِ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْأَرْضِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ يَجِبْ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيمَا ذَكَرُوهُ وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا. فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ، لِعَدَمِ دَلِيلِهِ. اهـ. انْتَهَى [فَصْلُ الْحُكْمُ الثَّالِثُ الْعُشْرَ يَجِبُ فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ] (1832) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الثَّالِثُ، أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، كَاَلَّذِي يَشْرَبُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ، وَمَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَاؤُهَا قَرِيبٌ مِنْ وَجْهِهَا، فَتَصِلُ إلَيْهِ عُرُوقُ الشَّجَرِ، فَيَسْتَغْنِي عَنْ سَقْيٍ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَتْ عُرُوقُهُ تَصِلُ إلَى نَهْرٍ أَوْ سَاقِيَةٍ. وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالْمُؤَنِ، كَالدَّوَالِي وَالنَّوَاضِحِ؛ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَغَيْرِهِمْ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعَثَرِيُّ: مَا تَسْقِيهِ السَّمَاءُ، وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ: الْعِذْيَ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بِرْكَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، يَصُبُّ إلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ فِي سَوَاقٍ تُشَقُّ لَهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ سُقِيَ مِنْهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعَاثُورِ، وَهِيَ السَّاقِيَةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ، لِأَنَّهَا يَعْثُرُ بِهَا مَنْ يَمُرُّ بِهَا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «وَفِيمَا يُسْقَى بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . وَالسَّوَانِي: هِيَ النَّوَاضِحُ، وَهِيَ الْإِبِلُ يُسْتَقَى بِهَا لِشِرْبِ الْأَرْضِ. وَعَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِمَّا سَقَتْ السَّمَاءُ، أَوْ سُقِيَ بِعَلَا، الْعُشْرَ، وَمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ نِصْفَ الْعُشْرِ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْبَعْلُ، مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ. وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سُقِيَ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ، مِنْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ أَوْ دُولَابٍ أَوْ نَاعُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ لِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرًا فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ جُمْلَةً، بِدَلِيلِ الْمَعْلُوفَةِ، فَبِأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي، وَلِلْكُلْفَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 تَأْثِيرٌ فِي تَقْلِيلِ النَّمَاءِ، فَأَثَّرَتْ فِي تَقْلِيلِ الْوَاجِبِ فِيهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ حَفْرُ الْأَنْهَارِ وَالسَّوَاقِي فِي نُقْصَانِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَقِلُّ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ إحْيَاءِ الْأَرْضِ وَلَا تَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ. وَكَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ احْتِيَاجُهَا إلَى سَاقٍ يَسْقِيهَا، وَيُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي نَوَاحِيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ سَقْيٍ بِكُلْفَةٍ، فَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُؤْنَةِ فِي التَّنْقِيصِ، يَجْرِي مَجْرَى حَرْثِ الْأَرْضِ وَتَحْسِينَهَا. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ النَّهْرِ فِي سَاقِيَةٍ إلَى الْأَرْضِ، وَيَسْتَقِرُّ فِي مَكَان قَرِيبٍ مِنْ وَجْهِهَا، لَا يَصْعَدُ إلَّا بِغَرْفٍ أَوْ دُولَابٍ، فَهُوَ مِنْ الْكُلْفَةِ الْمُسْقِطَةِ لِنِصْفِ الزَّكَاةِ، عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْكُلْفَةِ وَقُرْبَ الْمَاءِ وَبُعْدَهُ لَا يُعْتَبَرُ، وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ هُوَ أَنْ يَحْتَاجَ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ بِآلَةٍ مِنْ غَرْفٍ أَوْ نَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَقَدْ وُجِدَ. اهـ. [فَصْلُ النِّصَاب فِي مَا سُقِيَ نِصْفَ السَّنَةِ بِكُلْفَةِ وَنِصْفَهَا بِغَيْرِ كُلْفَةٍ] (1833) فَصْلٌ: فَإِنْ سُقِيَ نِصْفَ السَّنَةِ بِكُلْفَةٍ، وَنِصْفَهَا بِغَيْرِ كُلْفَةٍ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ وُجِدَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لَأَوْجَبَ مُقْتَضَاهُ، فَإِذَا وُجِدَ فِي نِصْفِهَا أَوْجَبَ نِصْفَهُ، وَإِنْ سُقِيَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ اُعْتُبِرَ أَكْثَرُهُمَا، فَوَجَبَ مُقْتَضَاهُ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْآخَرِ. نَصَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُؤْخَذُ بِالْقِسْطِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا نِصْفَيْنِ أَخَذَ بِالْحِصَّةِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ نَوْعَيْنِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ اعْتِبَارَ مِقْدَارِ السَّقْيِ وَعَدَدِ مَرَّاتِهِ وَقَدْرِ مَا يُشْرَبُ فِي كُلِّ سَقْيَةٍ يَشُقُّ وَيَتَعَذَّرُ، فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا كَالسَّوْمِ فِي الْمَاشِيَةِ. وَإِنْ جُهِلَ الْمِقْدَارُ، غَلَّبْنَا إيجَابَ الْعُشْرِ احْتِيَاطًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِوُجُودِ الْكُلْفَةِ، فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُسْقِطُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكُلْفَةِ فِي الْأَكْثَرِ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُودُهَا مَعَ الشَّكِّ فِيهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ، فِي أَيِّهِمَا سُقِيَ بِهِ أَكْثَرَ، فَالْقَوْلُ، قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. اهـ. [فَصْلُ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ سَقَى أَحَدَهُمَا بِمُؤْنَةِ وَالْآخَرَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ] (1834) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ، سَقَى أَحَدَهُمَا بِمُؤْنَةٍ، وَالْآخَرَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، ضَمَّ غَلَّةَ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ أَوْ أَخْرَجَ مِنْ الَّذِي سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ عُشْرَهُ، وَمِنْ الْآخَرِ نِصْفَ عُشْرِهِ، كَمَا يَضُمُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ إلَى الْآخَرِ، وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا وَجَبَ فِيهِ. [مَسْأَلَةُ الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ] (1835) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ) أَمَّا كَوْنُ الْوَسْقِ سِتِّينَ صَاعًا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هُوَ قَوْلُ كُلِّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 الْعِلْمِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا» . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، وَجَابِرٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَأَمَّا كَوْنُ الصَّاعِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا فَفِيهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ ثَلَاثَمِائَةِ صَاعٍ، وَهُوَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَالرِّطْلُ الْعِرَاقِيُّ: مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَوَزْنُهُ بِالْمَثَاقِيلِ سَبْعُونَ مِثْقَالًا، ثُمَّ زِيدَ فِي الرِّطْلِ مِثْقَالٌ آخَرُ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ فَصَارَ إحْدَى وَتِسْعِينَ مِثْقَالًا، وَكَمَلَتْ زِنَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَوَّلِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، فَيَكُونُ الصَّاعُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ، الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، رِطْلًا وَسُبْعًا، وَذَلِكَ أُوقِيَّةٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ، وَمَبْلَغُ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَعَشْرُ أَوَاقٍ وَسُبْعُ أُوقِيَّةٍ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ. [فَصْلُ النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ بِالْكَيْلِ] (1836) فَصْلٌ: وَالنِّصَابُ مُعْتَبَرٌ بِالْكَيْلِ، فَإِنَّ الْأَوْسَاقَ مَكِيلَةٌ، وَإِنَّمَا نُقِلَتْ إلَى الْوَزْنِ لِتُضْبَطَ وَتُحْفَظَ وَتُنْقَلَ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالْمَكِيلَاتِ دُونَ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَكِيلَاتُ تَخْتَلِفُ فِي الْوَزْنِ، فَمِنْهَا الثَّقِيلُ، كَالْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ. وَمِنْهَا الْخَفِيفُ، كَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَمِنْهَا الْمُتَوَسِّطِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ مِنْ الْحِنْطَةِ وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: الصَّاعُ وَزَنْتُهُ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثَيْ رِطْلٍ حِنْطَةً. وَقَالَ حَنْبَلٌ قَالَ: أَحْمَدُ أَخَذْت الصَّاعَ مِنْ أَبِي النَّضْرِ، وَقَالَ أَبُو النَّضِرِ: أَخَذْته مِنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ. وَقَالَ: هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ، فَعَيَّرْنَا بِهِ، وَهُوَ أَصْلَحُ مَا يُكَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَكِلْنَا بِهِ وَوَزَنَّاهُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. وَهَذَا أَصَحُّ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، وَمَا بُيِّنَ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِطْلٌ وَثُلُثٌ قَمْحًا مِنْ أَوْسَطِ الْقَمْحِ، فَمَتَى بَلَغَ الْقَمْحُ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ رِطْلٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَّرُوا الصَّاعَ بِالثَّقِيلِ، فَأَمَّا الْخَفِيفُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، إذَا قَارَبَ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ. وَمَتَى شَكَّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِكْيَالٌ يُقَدِّرُ بِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ الْإِخْرَاجُ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ فَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ. [فَصْلُ مَتَى نَقَصَ مِنْ النِّصَاب شَيْئًا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ] (1837) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ تَحْدِيدًا، فَمَتَى نَقَصَ شَيْئًا، لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . وَالنَّاقِصُ عَنْهَا لَمْ يَبْلُغْهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا يَسِيرًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 يَدْخُلُ فِي الْمَكَايِيلِ، كَالْأُوقِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمَكَايِيلِ، فَلَا يَنْضَبِطُ، فَهُوَ كَنَقْصِ الْحَوْلِ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ. [فَصْلُ لَا وَقَصَّ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ] (1838) فَصْلٌ: وَلَا وَقَصَ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بَلْ مَهْمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ أَخْرَجَ مِنْهُ بِالْحِسَابِ، فَيُخْرِجُ عُشْرَ جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ. فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ، فَإِنَّ فِيهَا ضَرَرًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [فَصْلُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرٌ مَرَّةً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عُشْرٌ آخَرُ وَإِنْ حَالَ عِنْدَهُ أَحْوَالًا] (1839) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرٌ مَرَّةً، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عُشْرٌ آخَرُ، وَإِنْ حَالَ عِنْدَهُ أَحْوَالًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ غَيْرُ مُرْصَدَةٍ لِلنَّمَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ هِيَ إلَى النَّقْصِ أَقْرَبُ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَشْيَاءِ النَّامِيَةِ، لِيُخْرِجَ مِنْ النَّمَاءِ فَيَكُونَ أَسْهَلَ. فَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلتِّجَارَةِ صَارَ عَرْضًا، تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلُ وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ إذَا اشْتَدَّ وَفِي الثَّمَرَةِ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا] (1840) فَصْلٌ: وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ إذَا اشْتَدَّ، وَفِي الثَّمَرَةِ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: تَجِبُ زَكَاةُ الْحَبِّ يَوْمَ حَصَادِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الثَّمَرَةِ أَوْ الْحَبِّ قَبْلَ الْوُجُوبِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ السَّائِمَةَ أَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّائِمَةِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَتَّى تَصِيرَ الثَّمَرَةُ فِي الْجَرِيبِ وَالزَّرْعُ فِي الْبَيْدَرِ وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إتْلَافِهِ أَوْ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فِيهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا خُرِصَ وَتُرِكَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَذَهَبَتْ الثَّمَرَةُ، سَقَطَ عَنْهُمْ الْخَرْصُ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْجِذَاذِ، وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الْجِذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ إلَّا يَوْمَ حَصَادِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 النِّصَابِ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ وَقْتُ الْوُجُوبِ لَمْ يَجِبْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ وَاشْتَدَّ الْحَبُّ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ: إنْ تَلِفَ الْبَعْضُ. إنْ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَجَبَ فِي الْبَاقِي بِقَدْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ اخْتَصَّ بِالْبَعْضِ، فَاخْتَصَّ السُّقُوطُ بِهِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بَعْضُ نِصَابِ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. وَهَذَا فِيمَا إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ وَعُدْوَانِهِ. فَأَمَّا إنْ أَتْلَفَهَا، أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ عُدْوَانِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، سَقَطَتْ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ، فَيَضْمَنُهَا، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَمَتَى ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ تَلَفَهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْخَرْصِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قَدْرِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَدِّ. [فَصْلُ جَذَّهَا وَجَعَلَهَا فِي الْجَرِينِ أَوْ جَعَلَ الزَّرْعَ فِي الْبَيْدَرِ اسْتَقَرَّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ] (1841) فَصْلٌ: وَإِنْ جَذَّهَا وَجَعَلَهَا فِي الْجَرِينِ، أَوْ جَعَلَ الزَّرْعَ فِي الْبَيْدَرِ، اسْتَقَرَّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، عِنْدَ مَنْ لَمْ يَرَ التَّمَكُّنَ مِنْ الْأَدَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ. فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ تَلِفَ نِصَابُ السَّائِمَةِ أَوْ الْأَثْمَانِ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فِي كَوْنِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرًا، لَا يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ فِيهَا حَتَّى تَجِفَّ الثَّمَرَةُ، وَيُصَفَّى الْحَبُّ، وَيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ، فَلَا يَفْعَلُ، وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا. [فَصْلُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي النِّصَابِ قَبْلَ الْخَرْصِ وَبَعْدَهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَة وَغَيْرهمَا] (1842) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي النِّصَابِ قَبْلَ الْخَرْصِ، وَبَعْدَهُ، بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَصَدَقَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُبْتَاعِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ ثَمَرًا أَوْ مِنْ الثَّمَنِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ عُشْرَ الثَّمَرَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ، عَلَى صَحِيحِ الْمَذْهَبِ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِالثَّمَرَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ مِنْهَا ثَمَرًا، فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بِبَيْعِهَا وَلَا هِبَتِهَا. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ يَوْمَ حَصَادِهِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، ثُمَّ بَدَا صَلَاحُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَخْلَةً مُثْمِرَةً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وَيَشْتَرِطَ ثَمَرَتَهَا، أَوْ وُهِبَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ الْمُتَّهِبِ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِثَمَرَةٍ فَقَبِلَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، ثُمَّ بَدَا صَلَاحُهَا، فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ فِي مِلْكِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَائِمَةً أَوْ اتَّهَبَهَا، فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ. اهـ [فَصْلُ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا] (1843) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْقَطْعَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَزَكَاتُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقَطْعَ، وَرُوِيَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ حِصَّتِهِ مِنْهَا إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ عَادَ الْبَائِعُ فَاشْتَرَاهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِبَيْعِهَا الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ، فَلَا تَسْقُطُ. [فَصْلُ تَلَفُ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ الزَّرْعُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ] (1844) فَصْلٌ: وَإِنْ تَلِفَتْ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، أَوْ الزَّرْعُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إنَّ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَهَا لِلْأَكْلِ، أَوْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ النَّخِيلِ لِتَحْسِينِ بَقِيَّةِ الثَّمَرَةِ، أَوْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ إذَا خَافَ عَلَيْهَا الْعَطَشَ أَوْ ضَعْفَ الْجِمَارِ، فَقَطَعَ الثَّمَرَةَ أَوْ بَعْضَهَا، بِحَيْثُ نَقَصَ النِّصَابُ، أَوْ قَطَعَهَا لِغَيْرِ غَرَضٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ هَلَكَتْ السَّائِمَةُ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ قَصَدَ بِقَطْعِهَا الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَطْعَ حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. [فَصْلُ مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ وَإِدْرَاكِهِ بِالْخَرْصِ] (1845) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ سَاعِيَهُ إذَا بَدَا صَلَاحُ الثِّمَارِ، لِيَخْرُصَهَا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ وَيُعَرِّفَ الْمَالِكَ ذَلِكَ. وَمِمَّنْ كَانَ يَرَى الْخَرْصَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَمَرْوَانُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْخَرْصَ بِدْعَةٌ. وَقَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ، لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلْأَكَرَةِ لِئَلَّا يَخُونُوا، فَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ، فَلَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وَلَنَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ عَتَّابٍ، قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ، كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، وَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا، كَمَا تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا» . وَقَدْ عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَصَ عَلَى امْرَأَةٍ بِوَادِي الْقُرَى حَدِيقَةً لَهَا، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ". وَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَالْخُلَفَاءُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى يَهُودَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُمْ: هُوَ ظَنٌّ. قُلْنَا: بَلْ هُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ وَإِدْرَاكِهِ بِالْخَرْصِ، الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمَقَادِيرِ وَالْمَعَايِيرِ، فَهُوَ كَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَوَقْتُ الْخَرْصِ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ، قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ. وَلِأَنَّ فَائِدَةَ الْخَرْصِ مَعْرِفَةُ الزَّكَاةِ، وَإِطْلَاقُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تَدْعُو إلَى ذَلِكَ حِينَ يَبْدُو الصَّلَاحُ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ [فَصْلُ يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ] (1846) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ الْخَارِصَ يَفْعَلُ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْحَاكِمِ وَالْقَائِفِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ. [فَصْلُ صِفَةُ الْخَرْصِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَرَةِ] (1847) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الْخَرْصِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ يُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ، وَيَنْظُرُ كَمْ فِي الْجَمِيعِ رُطَبًا أَوْ عِنَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ مَا يَجِيءُ مِنْهَا تَمْرًا، وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا خَرَصَ كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ تَخْتَلِفُ، فَمِنْهَا مَا يَكْثُرُ رُطَبُهُ وَيَقِلُّ تَمْرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَهَكَذَا الْعِنَبُ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ كُلِّ نَوْعٍ، حَتَّى يُخْرِجَ عُشْرَهُ، فَإِذَا خَرَصَ عَلَى الْمَالِكِ، وَعَرَّفَهُ قَدْرَ الزَّكَاةِ، خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ قَدْرَ الزَّكَاةِ، وَيَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ مِنْ أَكْلٍ وَغَيْرِهِ، وَبَيْنَ حِفْظِهَا إلَى وَقْتِ الْجَدَادِ وَالْجَفَافِ، فَإِنْ اخْتَارَ حِفْظَهَا ثُمَّ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ الْفُقَرَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بِالْخَرْصِ، وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَجْفِيفُ هَذَا الرُّطَبِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي مَنْ أَتْلَفَ أُضْحِيَّتَهُ الْمُتَعَيِّنَةَ: عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ مَكَانَهَا. وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا. وَإِنْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ، سَقَطَ عَنْهُمْ الْخَرْصُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ زَكَاتِهَا، وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ حَفِظَهَا إلَى وَقْتِ الْإِخْرَاجِ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَوْجُودِ لَا غَيْرُ، سَوَاءٌ اخْتَارَ الضَّمَانَ، أَوْ حَفِظَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا خَرَصَهُ الْخَارِصُ أَوْ أَقَلَّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ مَا قَالَ الْخَارِصُ، زَادَ أَوْ نَقَصَ، إذَا كَانَتْ الزَّكَاةُ مُتَقَارِبَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ إلَى مَا قَالَ السَّاعِي، بِدَلِيلِ وُجُوبِ مَا قَالَ عِنْدَ تَلَفِ الْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الزَّكَاةَ أَمَانَةٌ، فَلَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالشَّرْطِ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ إلَى مَا قَالَ السَّاعِي، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الثَّمَرَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا خَرَصَ عَلَى الرَّجُلِ، فَإِذَا فِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ، مِثْلُ الضَّعْفِ، تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُصُ بِالسَّوِيَّةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ: إذَا تَجَافَى السُّلْطَانُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْعُشْرِ، يُخْرِجُهُ فَيُؤَدِّيهِ. وَقَالَ: إذَا حَطَّ مِنْ الْخَرْصِ عَنْ الْأَرْضِ، يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ مَا نَقَصُوهُ مِنْ الْخَرْصِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُحْتَسَبُ لَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ لِسَنَةٍ أُخْرَى وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد لَا يُحْتَسَبُ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ هَذَا غَاصِبٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ إذَا نَوَى صَاحِبُهُ بِهِ التَّعْجِيلَ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ إذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ. [فَصْلُ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطَ الْخَارِصِ] فَصْلٌ وَإِنْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطَ الْخَارِصِ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ غَلَطَ النِّصْفِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ، فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدَيَّ غَيْرُ هَذَا. قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ بَعْضُهَا بِآفَةٍ لَا نَعْلَمُهَا. [فَصْلُ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْخَرْصِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ] (1849) فَصْلٌ: وَعَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْخَرْصِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ، تَوْسِعَةً عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 إلَى الْأَكْلِ هُمْ وَأَضْيَافُهُمْ، وَيُطْعِمُونَ جِيرَانَهُمْ وَأَهْلَهُمْ وَأَصْدِقَاءَهُمْ وَسُؤَّالَهُمْ. وَيَكُونُ فِي الثَّمَرَةِ السُّقَاطَةُ، وَيَنْتَابُهَا الطَّيْرُ وَتَأْكُلُ مِنْهُ الْمَارَّةُ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الْكُلَّ مِنْهُمْ أَضَرَّ بِهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَنَحْوُهُ قَالَ اللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْمَتْرُوكِ إلَى السَّاعِي بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ رَأْي الْأَكَلَةَ كَثِيرًا تَرَكَ الثُّلُثَ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا تَرَكَ الرُّبْعَ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعُ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ الْخُرَّاصَ قَالَ: خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَاطِئَةَ وَالْأَكَلَةَ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوَاطِئَةُ: السَّابِلَةُ سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمْ بِلَادَ الثِّمَارِ مُجْتَازِينَ. وَالْأَكَلَةُ: أَرْبَابُ الثِّمَارِ وَأَهْلُوهُمْ، وَمَنْ لَصِقَ بِهِمْ. وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي مَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَعْدٍ، حِينَ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي وَجَدْت فِيهِ أَرْبَعِينَ عَرِيشًا، لَخَرَصْته تِسْعَمِائَةِ وَسْقٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعُرُشُ لِهَؤُلَاءِ الْأَكَلَةِ. وَالْعَرِيَّةُ: النَّخْلَةُ أَوْ النَّخَلَاتُ يَهَبُ إنْسَانًا ثَمَرَتَهَا. فَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْعَرَايَا صَدَقَةٌ» . وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: إذَا أَتَيْت عَلَى نَخْلٍ قَدْ حَضَرَهَا قَوْمٌ، فَدَعْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَالْحُكْمُ فِي الْعِنَبِ كَالْحُكْمِ فِي النَّخِيلِ سَوَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ الْخَارِصُ شَيْئًا، فَلَهُمْ الْأَكْلُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ الْإِمَامُ خَارِصًا فَاحْتَاجَ رَبُّ الْمَالِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَرَةِ، فَأَخْرَجَ خَارِصًا، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَإِنْ خَرَصَ هُوَ وَأَخَذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، جَازَ وَيَحْتَاطُ فِي أَنْ لَا يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ أَخْذُهُ. [فَصْلُ يُخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ] (1850) فَصْلٌ: وَيُخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِمَا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِالْخَرْصِ فِي غَيْرِهِمَا، فَلَا يُخْرَصُ الزَّرْعُ فِي سُنْبُلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْخَرْصِ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ تُؤْكَلُ رُطَبًا، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ، لِيُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَكْلِ الثَّمَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مِنْهَا عَلَى مَا خُرِصَ، وَلِأَنَّ ثَمَرَةَ الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ ظَاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَخَرْصُهَا أَسْهَلُ مِنْ خَرْصِ غَيْرِهَا، وَمَا عَدَاهُمَا فَلَا يُخْرَصُ. وَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ الْأَمَانَةُ إذَا صَارَ مُصَفًّى يَابِسًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّا يَأْكُلُ أَرْبَابُ الزُّرُوعِ مِنْ الْفَرِيكِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ صَاحِبُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا يَأْكُلُهُ أَرْبَابُ الثِّمَارِ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَإِذَا صُفِّيَ الْحَبُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَوْجُودِ كُلِّهِ، وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تُرِك لَهُمْ فِي الثَّمَرَةِ شَيْءٌ لِكَوْنِ النُّفُوسِ تَتُوقُ إلَى أَكْلِهَا رَطْبَةً، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ، وَفِي الزَّرْعِ إنَّمَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ يَسِيرٌ، لَا وَقْعَ لَهُ. [فَصْلُ لَا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ وَلَا غَيْرُ النَّخْلَ وَالْكَرْمِ] (1851) فَصْلٌ: وَلَا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ، وَلَا غَيْرُ النَّخْلَ وَالْكَرْمِ؛ لِأَنَّ حَبَّهُ مُتَفَرِّقٌ فِي شَجَرِهِ، مَسْتُورٌ بِوَرَقِهِ، وَلَا حَاجَةَ بِأَهْلِهِ إلَى أَكْلِهِ، بِخِلَافِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ، فَإِنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ مُجْتَمِعَةٌ فِي عُذُوقِهِ، وَالْعِنَبِ فِي عَنَاقِيدِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ الْخَرْصُ عَلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى أَكْلِهِمَا فِي حَالِ رُطُوبَتِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ: يُخْرَصُ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَيُخْرَصُ كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ. وَلَنَا: أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي خَرْصِهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [فَصْلُ وَقْتُ الْإِخْرَاجِ لِزَكَاةِ الزُّرُوع] (1852) فَصْلٌ: وَوَقْتُ الْإِخْرَاجِ لِلزَّكَاةِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ وَالْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ الْكَمَالِ وَحَالُ الِادِّخَارِ. وَالْمُؤْنَةُ الَّتِي تَلْزَمُ الثَّمَرَةَ إلَى حِينِ الْإِخْرَاجِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ كَالْمَاشِيَةِ، وَمُؤْنَةُ الْمَاشِيَةِ وَحِفْظُهَا وَرَعْيُهَا، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا إلَى حِينَ الْإِخْرَاجِ، عَلَى رَبِّهَا، كَذَا هَاهُنَا. فَإِنْ أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ قَبْلَ التَّجْفِيفِ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَيَرُدُّهُ إنْ كَانَ رَطْبًا بِحَالِهِ، وَإِنْ تَلِفَ رَدَّ مِثْلَهُ، وَإِنْ جَفَّفَهُ وَكَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ، فَقَدْ اسْتَوْفَى الْوَاجِبَ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ أَخَذَ الْبَاقِيَ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا رَدَّ الْفَضْلَ. وَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهَا رَبَّ الْمَالِ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَزِمَهُ إخْرَاجُ الْفَضْلِ بَعْدَ التَّجْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ غَيْرَ الْفَرْضِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ الْمَاشِيَةِ عَنْ الْكِبَارِ. [فَصْلُ قَطْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ كَمَالِهَا خَوْفًا مِنْ الْعَطَشِ أَوْ لِضَعْفِ الْجِمَارِ] (1853) فَصْلٌ: وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ كَمَالِهَا، خَوْفًا مِنْ الْعَطَشِ، أَوْ لِضَعْفِ الْجِمَارِ، جَازَ قَطْعُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، فَلَا يُكَلَّفُ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُهْلِكُ أَصْلَ مَالِهِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ الْأَصْلِ أَحْفَظُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ حِفْظِ الثَّمَرَةِ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَكَرَّرُ بِحِفْظِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي النَّخْلِ. ثُمَّ إنْ كَانَ يَكْفِي تَجْفِيفُ الثَّمَرَةِ دُونَ قَطْعِ جَمِيعِهَا، جَفَّفَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكْفِ إلَّا قَطْعُ جَمِيعِهَا، جَازَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ قَطْعَ الثَّمَرَةَ لِتَحْسِينِ الْبَاقِي مِنْهَا جَازَ. وَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُخَيَّرُ السَّاعِي بَيْنَ أَنْ يُقَاسِمَ رَبَّ الْمَالِ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الْجَدَادِ بِالْخَرْصِ، وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُمْ نَخْلَةً مُفْرَدَةً، وَيَأْخُذَ ثَمَرَتَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَجُذَّهَا، وَيُقَاسِمَهُ إيَّاهَا بِالْكَيْلِ، وَيَقْسِمَ الثَّمَرَةَ فِي الْفُقَرَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 قَبْلَ الْجَدَادِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَقْسِمَ ثَمَنَهَا فِي الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ يَابِسًا. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعِنَبِ الَّذِي لَا يَجِيءُ مِنْهُ زَبِيبٌ، كَالْخَمْرِيِّ، وَالرُّطَبِ الَّذِي لَا يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ جَيِّد، كالبرنبا والهلياث. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدَّخَرُ، فَهُوَ كَالْخَضْرَاوَاتِ، وَطَلْعِ الْفُحَّالِ. قُلْنَا: لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدَّخَرْ هَاهُنَا، لِأَنَّ أَخْذَهُ رُطَبًا أَنْفَعُ، فَلَمْ تَسْقُطْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِذَلِكَ، وَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ حَدًّا يَكُونُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَإِذَا أَتْلَفَ رَبُّ الْمَالِ هَذِهِ الثَّمَرَةَ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا غَيْرُ رَبِّ الْمَالِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ الْعُشْرُ تَمْرًا، أَوْ زَبِيبًا، كَمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّمَرَةِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجُدَّ التَّمْرَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ. [فَصْلُ كَيْفِيَّةُ الْإِخْرَاجِ لِزَكَاةِ الزُّرُوع] (1854) فَصْلٌ: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْإِخْرَاجِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ نَوْعًا وَاحِدًا، أَخَذَ مِنْهُ جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ يَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّرَكَاءِ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا، أَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ الْوَسَطِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، إذَا شَقَّ عَلَيْهِ إخْرَاجُ زَكَاةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ غَيْرُهُمَا: يُؤْخَذُ عُشْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِهِ. وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشُّرَكَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ إذَا كَانَتْ أَنْوَاعًا، فَإِنَّ إخْرَاجَ حِصَّةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْوَاجِبِ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ بِخِلَافِ الثِّمَارِ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي الزَّائِدِ بِحِسَابِهِ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الرَّدِيءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: « {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] قَالَ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: وَهُمَا ضَرْبَانِ مِنْ التَّمْرِ. أَحَدُهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ قِشْرًا عَلَى نَوَى، وَالْآخَرُ إذَا أَثْمَرَ صَارَ حَشَفًا. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجَيِّدِ عَنْ الرَّدِيءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» . فَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ، جَازَ، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ الْمَاشِيَةِ. [فَصْلُ زَكَاة الزَّيْتُونُ إنْ كَانَ مِمَّا لَا زَيْتَ لَهُ] (1855) فَصْلٌ: فَأَمَّا الزَّيْتُونُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا زَيْتَ لَهُ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ عُشْرَهُ حَبًّا، إذَا بَلَغَ النِّصَابَ، لِأَنَّهُ حَالَ كَمَالِهِ وَادِّخَارِهِ يُخْرِجُ مِنْهُ، كَمَا يَخْرُصُ الرُّطَبَ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ زَيْتٌ أَخْرَجَ مِنْهُ زَيْتًا، إذَا بَلَغَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 الْحَبُّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ. قَالُوا: يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ، وَيُؤْخَذُ زَيْتًا صَافِيًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ زَيْتِهِ بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُخْرِجُ مِنْ حَبِّهِ كَسَائِرِ الثِّمَارِ، وَلِأَنَّهُ الْحَالَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِيهَا الْأَوْسَاقُ، فَكَانَ إخْرَاجُهُ فِيهَا كَسَائِرِ الثِّمَارِ. وَهَذَا جَائِزٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي الْفُقَرَاءَ مُؤْنَتَهُ، فَيَكُونُ أَفْضَلِ، كَتَجْفِيفِ التَّمْرِ، وَلِأَنَّهُ حَالُ كَمَالِهِ وَادِّخَارِهِ، فَيُخْرِجُ مِنْهُ، كَمَا يَخْرُصُ الرُّطَبَ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ، وَيُخْرِجُ مِنْهُ إذَا يَبِسَ. [فَصْلُ الصَّدَقَةِ فِي الْعَسَلِ] (1856) فَصْلٌ: وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَنْتَ تَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِي الْعَسَلِ زَكَاةً؟ قَالَ: نَعَمْ. أَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِي الْعَسَلِ زَكَاةً، الْعُشْرُ، قَدْ أَخَذَ عُمَرُ مِنْهُمْ الزَّكَاةَ. قُلْت: ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ تَطَوَّعُوا بِهِ؟ قَالَ لَا. بَلْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ. وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ حَيَوَانٍ، أَشْبَهَ اللَّبَنَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَسَلِ خَبَرٌ يَثْبُتُ وَلَا إجْمَاعٌ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِرَبِ الْعَسَلِ، مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا.» رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ مُوسَى «، أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ الْمُتَعِيَّ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ لِي نَحْلًا. قَالَ: أَدِّ عُشْرَهَا. قَالَ: فَاحْمِ إذَا جَبَلَهَا. فَحَمَاهُ لَهُ.» رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَهُ فِي الْعَسَلِ بِالْعُشْرِ. أَمَّا الِابْنُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي أَصْلِهِ وَهِيَ السَّائِمَةُ، بِخِلَافِ الْعَسَلِ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلُ نِصَابُ زَكَاة الْعَسَلِ] (1857) فَصْلٌ: وَنِصَابُ الْعَسَلِ عَشَرَةُ أَفَرَاقٍ. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: خَمْسَةُ أَوْسَاقٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ.» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَاسًا سَأَلُوهُ، فَقَالُوا: إنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ لَنَا وَادِيًا بِالْيَمَنِ، فِيهِ خَلَايَا مِنْ نَحْلٍ، وَإِنَّا نَجِدُ نَاسًا يَسْرِقُونَهَا. فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ أَدَّيْتُمْ صَدَقَتَهَا، مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرَقًا، حَمَيْنَاهَا لَكُمْ. . رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَهَذَا تَقْدِيرٌ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْفَرْقَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ، فَيَكُونُ نِصَابُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلًا. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: قَالَ الزُّهْرِيُّ، فِي عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرَقٌ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ الْفَرَقُ سِتُّونَ رِطْلًا، فَيَكُونُ النِّصَابُ سِتَّمِائَةِ رِطْلٍ، فَإِنَّهُ يَرْوِي أَنَّ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ، قَالَ: الْفَرْقُ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ: مِكْيَالٌ ضَخْمٌ مِنْ مَكَايِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقِيلَ: هُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نِصَابُهُ أَلْفَ رِطْلٍ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّهُ كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِرَبِ الْعَسَلِ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا. وَالْقِرْبَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مِائَةُ رِطْلٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَبٍ، وَهِيَ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ. وَرَوَى سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: إنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ. قَالَ: فَأَخَذْت مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً، فَجِئْت بِهَا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَهَا، فَجَعَلَهَا فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ عُمَرَ: مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرَقًا وَالْفَرَقُ، بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ: سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ، فِي أَنَّ الْفَرَق ثَلَاثَةُ آصُعٍ «. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ طَعَامٍ. فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ.» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ، هُوَ الْفَرَقُ» . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فَيَنْصَرِفُ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ. وَالْفَرَقُ: هُوَ مِكْيَالٌ ضَخْمٌ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي كَلَامِهِمْ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِهِمْ. قَالَ ثَعْلَبٌ: قُلْ فَرَّقَ وَلَا تَقُلْ فَرَقٌ. قَالَ خِدَاشُ بْنُ زُهَيْرٍ: يَأْخُذُونَ الْأَرْشَ فِي إخْوَتِهِمْ فَرَقَ السَّمْنِ وَشَاةً فِي الْغَنَمِ الثَّانِي، أَنَّ عُمَرَ، قَالَ: مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَفِرَاق فَرَّقَ، والأفراق جَمْعُ فَرَّقَ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَجَمْعُ الْفَرْقِ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، فُرُوقٌ، وَفِي الْقِلَّةِ أَفْرُق؛ لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ سَاكِنَ الْعَيْنِ غَيْرَ مُعْتَلٍّ، فَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَفْعَلُ، وَفِي الْكَثْرَةِ فِعَالُ أَوْ فَعُوِّلَ. وَالثَّالِثُ، أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي هُوَ مِكْيَالٌ ضَخْمٌ مِنْ مَكَايِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّمَا يُحْمَلُ كَلَامُ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَكَايِيلِ أَهْلِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّهُ بِهَا وَمِنْ أَهْلِهَا، وَيُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الزُّهْرِيِّ لَهُ فِي نِصَابِ الْعَسَلِ بِمَا قُلْنَاهُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ الْأَرْضَ فِي الْخُرَّاج قِسْمَانِ صُلْحٌ وَعَنْوَةٌ] (1858) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأَرْضُ أَرْضَانِ: صُلْحٌ، وَعَنْوَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَرْضَ قِسْمَانِ: صُلْحٌ وَعَنْوَةٌ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَهُوَ كُلُّ أَرْضٍ صَالَحَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا لِتَكُونَ لَهُمْ، وَيُؤَدُّونَ خَرَاجًا مَعْلُومًا، فَهَذِهِ الْأَرْضُ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا، وَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَلَهُمْ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَرَهْنُهَا؛ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحُوا عَلَى أَدَاءِ شَيْءٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ وَشِبْهِهَا، فَهَذِهِ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا، لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، وَلَهُمْ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا فُتِحَ عَنْوَةً، فَهِيَ مَا أُجْلِيَ عَنْهَا أَهْلُهَا بِالسَّيْفِ، وَلَمْ تُقَسَّمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَهَذِهِ تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ، يُضْرَبُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ مَعْلُومٌ، يُؤْخَذُ مِنْهَا فِي كُلِّ عَامٍ، يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا، وَتَقَرُّ فِي أَيْدِي أَرْبَابِهَا، مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا، سَوَاء كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَلَا يَسْقُطُ خَرَاجُهَا بِإِسْلَامِ أَرْبَابِهَا، وَلَا بِانْتِقَالِهَا إلَى مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَتِهَا، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً قُسِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا خَيْبَرَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ نِصْفَهَا، فَصَارَ ذَلِكَ لِأَهْلِهِ، لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ، وَسَائِرُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً مِمَّا فَتَحَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ بَعْدَهُ، كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرهَا، لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ " أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدِمَ الْجَابِيَةَ، فَأَرَادَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: وَاَللَّهِ إذَا لَيَكُونَنَّ مَا تَكْرَهُ، إنَّك إنَّ قَسَّمْتهَا الْيَوْمَ صَارَ الرَّيْعُ الْعَظِيمُ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، ثُمَّ يَبِيدُونَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَالْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدِهِمْ قَوْمٌ أَخَّرَ يَسُدُّونَ مِنْ الْإِسْلَامِ مَسَدًّا وَهُمْ لَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ. فَصَارَ عُمَرُ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ وَرَوَى أَيْضًا، قَالَ: قَالَ الْمَاجِشُونِ: قَالَ بِلَالٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقُرَى الَّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً: اقْسِمْهَا بَيْنَنَا، وَخُذْ خُمْسَهَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَا، هَذَا عَيْنُ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَحْبِسُهُ فَيْئًا يَجْرِي عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ لِعُمَرَ: اقْسِمْهَا بَيْنَنَا. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ. قَالَ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. وَرَوَى، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِصْرَ، قَامَ ابْنُ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ: يَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، اقْسِمْهَا. فَقَالَ عَمْرو: لَا أَقْسِمُهَا. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرُ: لَتَقْسِمَنهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ. فَقَالَ عَمْرو: لَا أَقْسِمُهَا حَتَّى أَكْتُبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: أَنَّ دَعْهَا حَتَّى يَعْرَوْا مِنْهَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَسَمَ أَرْضًا عَنْوَةً إلَّا خَيْبَرَ. [فَصْلُ مَنْ يَقُومُ عَلَى أَرْضِ الصُّلْحِ وَأَرْضِ الْعَنْوَةِ فِي الْخَرَاجَ] (1859) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ يَقُومُ عَلَى أَرْضِ الصُّلْحِ وَأَرْضِ الْعَنْوَةِ، وَمِنْ أَيْنَ هِيَ، وَإِلَى أَيْنَ هِيَ؟ وَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 أَرْضُ الشَّامِ عَنْوَةٌ، إلَّا حِمْصَ وَمَوْضِعًا آخَرَ. وَقَالَ: مَا دُونَ النَّهْرِ صُلْحٌ، وَمَا وَرَاءَهُ عَنْوَةٌ، وَقَالَ: فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ السَّوَادَ عَنْوَةً، إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ صُلْحٌ، وَهِيَ أَرْضُ الْحِيرَةِ، وَأَرْضُ مَانَقِيَا. وَقَالَ: أَرْضُ الثَّرِيِّ خَلَطُوا فِي أَمْرِهَا، فَأَمَّا مَا فُتِحَ عَنْوَةً مِنْ نَهَاوَنْدَ إلَى طَبَرِسْتَانَ خَرَاجٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَرْضُ الشَّامِ عَنْوَةٌ، مَا خَلَا مُدُنَهَا، فَإِنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، إلَّا قَيْسَارِيَّةَ، اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً، وَأَرْضُ السَّوَادِ وَالْحِلِّ وَنَهَاوَنْدَ وَالْأَهْوَازَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ: الْمَغْرِبُ كُلُّهُ عَنْوَةٌ. فَأَمَّا أَرْضُ الصُّلْحِ فَأَرْضُ هَجَرَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَأَيْلَةَ، وَدُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَذْرُحَ، فَهَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَدَّتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ، وَمُدُن الشَّامِ مَا خَلَا أَرْضَهَا إلَّا قَيْسَارِيَّةَ وَبِلَادَ الْجَزِيرَةِ كُلَّهَا، وَبِلَادُ خُرَاسَانَ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا صُلْحٌ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ فُتِحَ عَنْوَةً فَإِنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلُ حُكْم خَرَاج مَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ فَتْحَهُ] (1860) فَصْلٌ: وَمَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ فَتْحَهُ، فَإِنْ فُتِحَ عَنْوَةً فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ، أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ، وَبَيْنَ وَقَفَّيْتهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حُجَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ نِصْفَ خَيْبَرَ، وَوَقَفَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَوَقَفَ عُمَرُ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَسَائِرَ مَا فَتَحَهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَسَمَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي افْتَتَحُوهَا. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا؛ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَقِسْمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ، فَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ، وَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ. وَالثَّالِثَةُ، أَنَّ الْوَاجِبَ قِسْمَتُهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . الْآيَةُ. يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسهَا لِلْغَانِمِينَ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فِي خَيْبَرَ، وَلِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ لَقَسَمْت الْأَرْضَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ. فَقَدْ وَقَفَ الْأَرْضَ مَعَ عِلْمِهِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، كَيْفَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَقَفَ نِصْفَ خَيْبَرَ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْغَانِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْفُهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ فِي افْتِتَاحِ الْأَرْضِينَ عَنْوَةً بِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ؛ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَيْبَرَ حِينَ قَسَمَهَا، وَبِهِ أَشَارَ بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عُمَرَ فِي أَرْضِ الشَّامِ، وَأَشَارَ بِهِ الزُّبَيْرُ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَحُكْمِ عُمَرَ فِي أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهِ حِينَ وَقَفَهُ، وَبِهِ أَشَارَ عَلِيٌّ، وَمُعَاذٌ، عَلَى عُمَرَ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَلَيْسَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَادًّا لِفِعْلِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتَّبَعَ آيَةً مُحْكَمَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . وَقَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] . الْآيَةُ. فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَائِزًا، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، فَمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الْمُفَوَّضَ إلَى الْإِمَامِ اخْتِيَارُ مَصْلَحَةٍ، لَا اخْتِيَارُ تُشَهِّ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ، كَالْخِيَرَةِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ فِي الْأَسْرَى، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النُّطْقِ بِالْوَقْفِ، بَلْ تَرْكُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ هُوَ وَقْفُهُ لَهَا، كَمَا أَنَّ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى لَفْظٍ؛ وَإِنْ عُمَرَ وَغَيْرَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ لَفْظُ الْوَقْفِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى وَقْفِهَا هَاهُنَا، أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، يُؤْخَذُ خَرَاجُهَا، وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَلَا يُخَصُّ أَحَدٌ بِمِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا حَاصِلٌ بِتَرْكِهَا. [فَصْلُ مَا صَالِح عَلَيْهِ الْكُفَّار مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ مَعْلُومٍ] فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَانِمٌ، فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْفَيْءِ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَنْوَةِ إذَا وُقِفَتْ. وَمَا صَالَحَ عَلَيْهِ الْكُفَّارَ مِنْ أَرْضِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا، وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ، مَعْلُومٍ، فَهُوَ وَقْفٌ أَيْضًا، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحَ خَيْبَرَ، وَصَالَحَ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ يَعْمُرُوا أَرْضَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ ثَمَرَتِهَا، فَكَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَصَالَحَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ مَا أُقِلْت الْإِبِلُ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، إلَّا الْحَلْقَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ - فَكَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. فَأَمَّا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ، وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ مَعْلُومٍ. فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ، تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ الَّذِي ضُرِبَ عَلَيْهِمْ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 الْمَضْرُوبَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَإِذَا أَسْلَمُوا سَقَطَ، كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ مِلْكًا لَهُمْ، لَاخْرَاجَّ عَلَيْهَا. وَلَوْ انْتَقَلَتْ الْأَرْضُ إلَى مُسْلِمٍ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ لِذَلِكَ. [فَصْلُ شِرَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ أَوْ بَيْعه] (1862) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَلَا بَيْعُهُ، فِي قَوْلَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، وَمُسْلِمِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمْ يَزُلْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ شِرَاءِ أَرْضِ الْجِزْيَةِ، وَيَكْرَهُهُ عُلَمَاؤُهُمْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَجْمَعَ رَأْيُ عُمَرَ، وَأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى الشَّامِ، عَلَى إقْرَارِ أَهْلِ الْقُرَى فِي قُرَاهُمْ، عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، يَعْمُرُونَهَا، وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شِرَاءُ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ الْأَرْضِ طَوْعًا وَلَا كَرِهَا. وَكَرِهُوا ذَلِكَ مِمَّا كَانَ مِنْ اتِّفَاقِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْأَرْضِينَ الْمَحْبُوسَةِ عَلَى آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ، قُوَّةً عَلَى جِهَادِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ بَعْدُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا أَقَرَّ الْإِمَامُ أَهْلَ الْعَنْوَةِ فِي أَرْضِهِمْ، تَوَارَثُوهَا وَتَبَايَعُوهَا وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْقُرْطُبِيِّ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ، ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِنْ دِهْقَانَ أَرْضًا، عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ جِزْيَتَهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ السَّفَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» . ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَكَيْفَ بِمَالِ بِزَاذَانَ، وَبِكَذَا، وَبِكَذَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مَالًا بِزَاذَانَ. وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ لَهُمْ، فَجَازَ بَيْعُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الشِّرَاءُ أَسْهَلَ يَشْتَرِي الرَّجُلُ مَا يَكْفِيه وَيُغْنِيه عَنْ النَّاسِ، هُوَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَرِهَ الْبَيْعَ فِي أَرْضِ السَّوَادِ. وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي الشِّرَاءِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ اشْتَرَى، وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ الْبَيْعُ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْتِخْلَاصٌ لِلْأَرْضِ، فَيَقُومُ فِيهَا مَقَامَ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَالْبَيْعُ أَخْذُ عِوَضٍ عَنْ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ، فَلَا يَجُوزُ. وَلَنَا: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا أَرْضَهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: اشْتَرَى عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ أَرْضًا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، لِيَتَّخِذَ فِيهَا قَصَبًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: مِمَّنْ اشْتَرَيْتهَا؟ قَالَ: مِنْ أَرْبَابِهَا. فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 قَالَ: هَؤُلَاءِ أَرْبَابُهَا، فَهَلْ اشْتَرَيْت مِنْهُمْ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْدُدْهَا عَلَى مَنْ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ، وَخُذْ مَالَك. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِمَحْضَرِ سَادَةِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ، فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلَا سَبِيلَ إلَى وُجُودِ إجْمَاعٍ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَشِبْهِهِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْلِ قَوْلِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةٍ، وَلَا إلَى نَقْلِ قَوْلِ الْعَشَرَةِ، وَلَا يُوجَدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا الْقَوْلَ. الْمُنْتَشِرَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ الْمُخَالَفَةَ. وَقَوْلُهُمْ اشْتَرَى. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ: اكْتَرَى. كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ جِزْيَتَهَا. وَلَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لَهَا وَجِزْيَتُهَا عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْقَاسِمُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ بِالطَّسْقِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالصِّغَارِ وَالذُّلِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ هَاهُنَا الِاكْتِرَاءُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رُوِيَتْ عَنْهُ الرُّخْصَةُ فِي الشِّرَاءِ فَمَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ بِمَالِ بِزَاذَانَ. فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الشِّرَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ أَرْضٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَالًا مِنْ السَّائِمَةِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ الزَّرْعِ. أَوْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرْضٌ أَكْتَرَاهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَعِيبُ الْإِنْسَانُ الْفِعْلَ الْمَعِيبَ مِنْ غَيْرِهِ. جَوَابٌ ثَانٍ، أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الشِّرَاءَ، وَبَقِيَ قَوْلُ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ غَيْرَ مُعَارِضٍ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَسَائِرِ الْأَحْبَاسِ وَالْوُقُوفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وَقْفِهَا النَّقْلُ وَالْمَعْنَى؛ أَمَّا النَّقْلُ، فَمَا نُقِلَ مِنْ الْأَخْبَارِ، أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْسِمْ الْأَرْضَ الَّتِي افْتَتَحَهَا، وَتَرَكَهَا لِتَكُونَ مَادَّةً لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ نَقَلْنَا بَعْضَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ تُغْنِي شُهْرَتُهُ عَنْ نَقْلِهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى، فَلِأَنَّهَا لَوْ قُسِمَتْ لَكَانَتْ لِلَّذِينَ افْتَتَحُوهَا، ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ، أَوْ لِمَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ عَنْهُمْ، وَلَمْ تَكُنْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ قُسِمَتْ، وَلَمْ تَخْفَ بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَهَا لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامُ نَائِبُهُمْ، فَيَفْعَلُ مَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَهَا لِأَرْبَابِهَا، كَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ عُمَرَ إنَّمَا تَرَكَ قِسْمَتَهَا لِتَكُونَ مَادَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، يَنْتَفِعُونَ بِهَا، مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا، وَهَذَا مَعْنَى الْوَقْفِ، وَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ قَوْمٍ بِأَصْلِهَا لَكَانَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا أَحَقَّ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهَا أَهْلَهَا لِمُفْسِدَةِ، ثُمَّ يَخُصُّ بِهَا غَيْرَهُمْ مَعَ وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ الْمَانِعَةِ. وَالثَّانِي أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إذَا مَنَعَهَا الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ، كَيْفَ يَخُصُّ بِهَا أَهْلَ الذِّمَّةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ وَلَا نَصِيبَ؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 [فَصْلُ شَرَطَ الْمُشْتَرَى الْخَرَاجَ عَلَى الْبَائِعِ] (1863) فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ، يُؤَدِّي خَرَاجَهَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الشِّرَاءِ هَاهُنَا نَقْلَ الْيَدِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضِ. وَإِنْ شَرَطَ الْخَرَاجَ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَيَكُونُ اكْتِرَاءً لَا شِرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ بَيَانَ مُدَّتِهِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ. (1864) فَصْلٌ: وَإِذَا بِيعَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ، فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ حَاكِمٌ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَصَحَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، كَسَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ. وَإِنْ بَاعَ الْإِمَامُ شَيْئًا لِمُصْلِحَةِ رَآهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ لَا يَعْمُرُهَا إلَّا مِنْ يَشْتَرِيهَا، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ، فِي كِتَابِ فُتُوحِ الشَّامِ، قَالَ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشْيَخَتِنَا إنَّ النَّاسَ سَأَلُوا عَبْدَ الْمَلِكِ وَالْوَلِيدَ وَسَلْمَانَ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَذِنُوا لَهُمْ عَلَى إدْخَالِ أَثْمَانِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَلَمَّا وَلِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الْأَشْرِيَةِ؛ لِاخْتِلَاطِ الْأُمُورِ فِيهَا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الْمَوَارِيثِ وَمُهُورِ النِّسَاءِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِهِ وَلَا مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَكَتَبَ كِتَابًا قُرِئَ عَلَى النَّاسِ سَنَةَ الْمِائَةِ، أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بَعْدَ سَنَةِ مِائَةٍ فَإِنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ وَسَمَّيْ سَنَةَ مِائَةٍ سَنَةَ الْمُدَّةِ، فَتَنَاهَى النَّاسُ عَنْ شِرَائِهَا، ثُمَّ اشْتَرَوْا أَشَرْيَةً كَثِيرَةً كَانَتْ بِأَيْدِي أَهْلِهَا تُؤَدِّي الْعُشْرَ وَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إلَى الْمَنْصُورِ رُفِعَتْ تِلْكَ الْأَشْرِيَةِ إلَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَضَرَّ بِالْخَرَاجِ فَأَرَادَ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا فَقِيلَ لَهُ: قَدْ وَقَعَتْ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمُهُورِ، وَاخْتَلَطَ أَمْرُهَا فَبَعَثَ الْمُعَدِّلِينَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ إلَى حِمْصَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشِ إلَى بَعْلَبَكَّ، وَهِضَابُ بْنُ طَوْقٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زُرَيْقٍ إلَى الْغُوطَةِ. وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَضَعُوا عَلَى الْقَطَائِعِ وَالْأَشْرِيَةِ الْعَظِيمَةِ الْقَدِيمَةِ خَرَاجًا وَوَضَعُوا الْخَرَاجَ عَلَى مَا بَقِيَ بِأَيْدِي الْأَنْبَاطِ، وَعَلَى الْأَشْرِيَةِ الْمُحْدَثَةِ مِنْ بَعْدِ سَنَةِ مِائَةٍ إلَى السَّنَةِ الَّتِي عُدِّلَ فِيهَا. فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ مَا بَاعَهُ إمَامٌ، أَوْ بِيعَ بِإِذْنِهِ أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّ بَيْعِهِ، هَذَا الْمَجْرَى، فِي أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِل، وَيُتْرَكَ فِي يَدِ مُشْتَرِيه، أَوْ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ، إلَّا مَا بِيعَ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّنَة فَإِنَّهُ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ، كَمَا نُقِلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ. (1865) فَصْلٌ: وَحُكْمُ إقْطَاعِ هَذِهِ الْأَرْضِ حُكْمُ بَيْعِهَا فِي أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عُمَرَ، أَوْ مِمَّا كَانَ قَبْلَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَهُوَ لِأَهْلِهِ. وَمَا كَانَ بَعْدَهَا، ضُرِبَ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَ الْمَنْصُورُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَذَكَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 ابْنُ عَائِذٍ، فِي كِتَابِهِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَظُنُّهُ الْمَنْصُورَ - سَأَلَهُ فِي مَقْدِمِهِ الشَّامَ، سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، عَنْ سَبَبِ الْأَرْضِينَ الَّتِي بِأَيْدِي أَبْنَاء الصَّحَابَةِ، يَذْكُرُونَ أَنَّهَا قَطَائِعُ لِآبَائِهِمْ قَدِيمَةٌ. فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَصَالَحُوا أَهْلَ دِمَشْق وَأَهْلَ حِمْصَ، كَرِهُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا دُونَ أَنْ يَتِمَّ ظُهُورُهُمْ، وَإِثْخَانُهُمْ فِي عَدُوِّ اللَّهِ، فَعَسْكَرُوا فِي مَرْجِ بَرَدَى، بَيْنَ الْمِزَّةِ إلَى مَرْجِ شَعْبَانَ، وَجَنْبَتَيْ بَرَدَى مُرُوجٌ كَانَتْ مُبَاحَةً فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ دِمَشْق وَقُرَاهَا، لَيْسَتْ لَأَحَدٍ مِنْهُمْ، فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى أَوْطَأَ اللَّهُ بِهِمْ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا وَذُلًّا، فَأَحْيَا كُلُّ قَوْمٍ مَحَلَّتَهُمْ، وَهَيَّئُوا بِهَا بِنَاءً، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَأَمْضَاهُ لَهُمْ، وَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى وِلَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَقَدْ أَمْضَيْنَاهُ لَهُمْ. وَعَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَتَحُوا حِمْصَ لَمْ يَدْخُلُوهَا، بَلْ عَسْكَرُوا عَلَى نَهْرِ الْأَرْبَدِ، فَأَحْيَوْهُ، فَأَمْضَاهُ لَهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ تَعَدَّوْا إذْ ذَاكَ إلَى جِسْرِ الْأَرْبَدِ، الَّذِي عَلَى بَابِ الرَّسْتَنِ، فَعَسْكَرُوا فِي مَرْجِهِ مُسَلَّحَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا أَمْضَاهُ عُمَرُ لِلْمُعَسْكِرِينَ عَلَى نَهْرِ الْأَرْبَدِ، سَأَلُوا أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِي تِلْكَ الْقَطَائِعِ، وَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ فِيهِ، فَكَتَبَ أَنْ يُعَوَّضُوا مِثْلَهُ مِنْ الْمُرُوجِ الَّتِي كَانُوا عَسْكَرُوا فِيهَا عَلَى بَابِ الرَّسْتَنِ، فَلَمْ تَزُلْ تِلْكَ الْقَطَائِعُ عَلَى شَاطِئِ الْأَرْبَدِ، وَعَلَى بَابِ حِمْصَ، وَعَلَى بَابِ الرستن، مَاضِيَةً لِأَهْلِهَا، لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، تُؤَدِّي الْعُشْرَ. (1866) فَصْلٌ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُغِلَّةِ، أَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا بَأْسَ بِحِيَازَتِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَسُكْنَاهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا عَلِمْنَا أَحَدًا كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَدْ اقْتَسَمَتْ الْكُوفَةُ خِطَطًا فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِذْنِهِ، وَالْبَصْرَةُ، وَسَكَنِهِمَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الشَّامُ وَمِصْرُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْبُلْدَانِ، فَمَا عَابَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ. [مَسْأَلَةُ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ] (1867) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَمَا كَانَ مِنْ الصُّلْحِ، فَفِيهِ الصَّدَقَةُ) يَعْنِي مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ لِأَهْلِهِ، وَلَنَا عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ، فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ، وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْبَحْرَيْنِ وَإِلَى هَجَرَ، فَكُنْت آتِي الْحَائِطَ تَكُونُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ، يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنْ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فَهَذَا فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْبَلَدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فُتِحَا صُلْحًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ، فَهِيَ مِلْكٌ لَهُمْ، لَيْسَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ وَلَا شَيْءٌ. أَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا قَبْلَ قَهْرِهِمْ عَلَيْهَا، أَنَّهَا لَهُمْ، وَأَنَّ أَحْكَامَهُمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا زَرَعُوا فِيهَا الزَّكَاةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 [مَسْأَلَةُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضُرِبَ عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ] (1868) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا كَانَ عَنْوَةً أُدِّيَ عَنْهَا الْخَرَاجُ، وَزُكِّيَ مَا بَقِيَ إذَا كَانَ خَمْسَةَ أَوَسْقً، وَكَانَ لِمُسْلِمٍ) . يَعْنِي مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَضُرِبَ عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي الْخَرَاجُ مِنْ غَلَّتِهِ، وَيُنْظَرُ فِي بَاقِيهَا، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ لِمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، أَوْ بَلَغَ نِصَابًا وَلَمْ يَكُنْ لِمُسْلِمِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمُغِيرَةَ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا عُشْرَ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ» . وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ سَبَبَاهُمَا مُتَنَافِيَانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ، كَزَكَاةِ السَّوْمِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْعُشْرِ، وَزَكَاةِ الْقِيمَةِ. وَبَيَانُ تَنَافِيهِمَا أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةُ الْأَرْضِ، وَالزَّكَاةُ وَجَبَتْ طُهْرَةً وَشُكْرًا، وَلَنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ.» وَغَيْرُهُ مِنْ عُمُومَاتِ الْأَخْبَارِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . ثُمَّ قَالَ: نَتْرُكُ الْقُرْآنَ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ يَجِبَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ يَجُوزُ وُجُوبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمُسْلِمِ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْكَفَّارَةِ وَالْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ الْمَمْلُوكِ، وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيه يَحْيَى بْنُ عَنْبَسَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ جِزْيَةٌ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَكَانَ لِمُسْلِمِ " يَعْنِي أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي أَرْضِهِ سِوَى الْخَرَاجِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ فِي أَرْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَدَقَةٌ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . فَأَيُّ طُهْرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ سَبَبَيْهِمَا يَتَنَافَيَانِ. غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، وَالْعُشْرُ زَكَاةُ الزَّرْعِ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، وَلَوْ كَانَ الْخَرَاجُ عُقُوبَةً لِمَا وَجَبَ عَلَى مُسْلِمٍ، كَالْجِزْيَةِ. . [فَصْلُ كَانَ فِي غَلَّةِ الْأَرْضِ مَا لَا عُشْرَ فِيهِ] (1869) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي غَلَّةِ الْأَرْضِ مَا لَا عُشْرَ فِيهِ، كَالثِّمَارِ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَالْخَضْرَاوَاتِ، وَفِيهَا زَرْعٌ فِيهِ الزَّكَاةُ، جُعِلَ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَرَاجِ، وَزُكِّيَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، إذَا كَانَ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَافِيًا بِالْخَرَاجِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ إلَّا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أُدِّيَ الْخَرَاجُ مِنْ غَلَّتِهَا، وَزُكِّيَ مَا بَقِيَ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ عَامِلِهِ عَلَى فِلَسْطِينَ، فِي مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَرْضٌ يَحْرُثهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يَقْبِضَ مِنْهَا جِزْيَتَهَا، ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهَا زَكَاةَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْجِزْيَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَنَا اُبْتُلِيت بِذَلِكَ، وَمِنِّي أَخَذُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ، فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي قَدْرِهِ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ اسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَرْعِهِ، وَاسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ، احْتَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَرْعِهِ دُونَ مَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ الزَّرْعِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَحْتَسِبُ بِالدَّيْنَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يُخْرِجُ مِمَّا بَعْدَهُمَا. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الدَّيْنَ كُلَّهُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَحْسِبُ كُلَّ دَيْنٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْعُشْرَ مِمَّا بَقِيَ إنَّ بَلَغَ نِصَابًا. وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَا عُشْرَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةٌ، فَمَنَعَ الدَّيْنُ وُجُوبَهَا، كَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ، فَمَنَعَ وُجُوبَ الْعُشْرِ، كَالْخَرَاجِ، وَمَا أَنْفَقَهُ عَلَى زَرْعِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مُؤْنَةِ الزَّرْعِ، فَالْحَاصِلُ فِي مُقَابَلَتِهِ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ. [فَصْلُ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا فَمَا حُكْم زَكَاتهَا] (1870) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ دُونَ مَالِكِ الْأَرْضِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَلَى مَالِك الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَأَشْبَهَ الْخَرَاجَ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الزَّرْعِ، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهِ، كَزَكَاةِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا أَعَدَّهُ لِلتِّجَارَةِ، وَكَعُشْرِ زَرْعِهِ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مُؤْنَتِهَا لَوَجَبَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ تُزْرَعْ، كَالْخَرَاجِ، وَلَوَجَبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَالْخَرَاجِ، وَلْتُقَدَّرْ بِقَدْرِ الْأَرْضِ لَا بِقَدْرِ الزَّرْعِ، وَلَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَى مَصَارِفِ الْفَيْءِ دُونَ مَصْرِفِ الزَّكَاةِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، فَالزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ. وَإِنْ غَصَبَهَا فَزَرَعَهَا وَأَخَذَ الزَّرْعَ، فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى مِلْكِهِ. وَإِنْ أَخَذَهُ مَالِكُهَا قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ، فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، احْتَمَلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهُ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ زَرْعِهِ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهُ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ حِينَ وُجُوبِ عُشْرِهِ، وَهُوَ حِينَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ. وَإِنْ زَارَعَ رَجُلًا مُزَارِعَةً فَاسِدَةً، فَالْعُشْرُ عَلَى مَنْ يَجِبُ الزَّرْعُ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرُ حِصَّتِهِ. وَإِنْ بَلَغَتْ خَمْسَةَ أَوَسْقً، أَوْ كَانَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ مَا يَبْلُغُ بِضَمِّهِ إلَيْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَإِلَّا فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ بَلَغَتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ النِّصَابَ، فَعَلَى مَنْ بَلَغَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 حِصَّتُهُ النِّصَابَ عُشْرُهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، فِي الصَّحِيحِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ، فَيَلْزَمُهُمَا الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الزَّرْعُ جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَيُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرَ نَصِيبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ، كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ؛ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عُشْرٌ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ حِصَّتُهُ نِصَابًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسَاقَاةِ. [فَصْلُ حُكْم الْمُسْلِمِ الَّذِي يُؤَاجِرُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ] (1871) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ أَرْضِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ وَإِجَارَتُهَا مِنْهُ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى إسْقَاطِ عُشْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الْمُسْلِمِ يُؤَاجِرُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ؟ قَالَ: لَا يُؤَاجِرُ مِنْ الذِّمِّيِّ، إنَّمَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَهَذَا ضَرَرٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ. فَإِنْ آجَرَهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ، أَوْ بَاعَ أَرْضَهُ الَّتِي لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ذِمِّيًّا، صَحَّ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَشَرِيكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهَا عُشْرٌ وَلَا خَرَاجٌ. قَالَ حَرْبٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الذِّمِّيِّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ شَيْئًا، إنَّمَا الصَّدَقَةُ كَهَيْئَةِ مَالِ الرَّجُلِ، وَهَذَا الْمُشْتَرِي لَيْسَ عَلَيْهِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ فِي هَذَا قَوْلًا حَسَنًا، يَقُولُونَ: لَا نَتْرُكُ الذِّمِّيَّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ. وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ قَوْلًا عَجِيبًا. يَقُولُونَ: يُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ شِرَائِهَا. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَصَاحِبِهِ. فَإِنْ اشْتَرَوْهَا ضُوعِفَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ فِي إسْقَاطِ الْعُشْرِ مِنْ غَلَّةِ هَذِهِ الْأَرْضِ إضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ، وَتَقْلِيلًا لِحَقِّهِمْ، فَإِذَا تَعْرِضُوا لِذَلِكَ ضُوعِفَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ، كَمَا لَوْ اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِمْ، ضُوعِفَتْ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ، فَأُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْعُشْرُ بِحَالِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَصِيرُ أَرْضَ خَرَاجٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا الْخَرَاجُ بِبَيْعِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا مُسْلِمًا، وَلِأَنَّهَا مَالُ مُسْلِمٍ يَجِبْ الْحَقُّ فِيهِ لِلْفُقَرَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِهِ لِلذِّمِّيِّ كَالسَّائِمَةِ، وَإِذَا مَلَكَهَا الذِّمِّيُّ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ، كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالسَّائِمَةِ؛ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَضْعِيفِ الْعُشْرِ، تَحَكُّمٌ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا قِيَاسَ. [مَسْأَلَةُ تُضَمُّ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ وَتُزَكَّيْ إذَا كَانَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ] (1872) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُضَمُّ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ، وَتُزَكَّى إذَا كَانَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَكَذَلِكَ الْقِطْنِيَّاتُ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ) ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تُضَمُّ، وَتُخْرَجُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إنْ كَانَ مَنْصِبًا لِلزَّكَاةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 الْقِطْنِيَّاتُ، بِكَسْرِ الْقَافِ: جَمْعُ قِطْنِيَّةٍ؛ وَيُجْمَعُ أَيْضًا قَطَانِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ صُنُوفُ الْحُبُوبِ، مِنْ الْعَدَسِ، وَالْحِمَّصِ، وَالْأُرْزِ، وَالْجُلُبَّانِ، وَالْجُلْجُلَانِ - يَعْنِي السِّمْسِمَ - وَزَادَ غَيْرُهُ: الدُّخْنَ، وَاللُّوبِيَا، وَالْفُولَ، وَالْمَاشَ. وَسُمِّيَتْ قِطْنِيَّةً، فِعْلِيَّةٌ، مِنْ قَطَنَ يَقْطُنُ فِي الْبَيْتِ، أَيْ يَمْكُثُ فِيهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي غَيْرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، أَنَّهُ لَا يُضَمُّ جِنْسٌ إلَى جِنْسٍ آخَرَ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ. فَالْمَاشِيَةُ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، لَا يُضَمُّ جِنْسٌ مِنْهَا إلَى آخَرَ. وَالثِّمَارُ لَا يُضَمُّ جِنْسٌ إلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُضَمُّ التَّمْرُ إلَى الزَّبِيبِ، وَلَا إلَى اللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ وَلَا يُضَمُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا تُضَمُّ الْأَثْمَارُ إلَى شَيْءٍ مِنْ السَّائِمَةِ، وَلَا مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، فِي أَنَّ أَنْوَاعَ الْأَجْنَاسِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي إكْمَالِ النِّصَابِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَيْضًا فِي أَنَّ الْعُرُوضَ تُضَمُّ إلَى الْأَثْمَانِ، وَتُضَمُّ الْأَثْمَانُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَضُمُّهَا إلَّا إلَى جِنْسِ مَا اُشْتُرِيَتْ بِهِ، لِأَنَّ نِصَابَهَا مُعْتَبَرٌ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمِّ الْحُبُوبِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، وَفِي ضَمِّ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحُبُوبِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، لَا يُضَمُّ جِنْسٌ مِنْهَا إلَى غَيْرِهِ، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مُنْفَرِدًا هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَشَرِيكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مُنْفَرِدًا، كَالثِّمَارِ أَيْضًا وَالْمَوَاشِي. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْحُبُوبَ كُلَّهَا تُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ طَاوُسٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمَاضِينَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا إلَّا عِكْرِمَةَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» وَمَفْهُومُهُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَلِأَنَّهَا تَتَّفِقُ فِي النِّصَابِ وَقَدْرِ الْمُخْرَجِ، وَالْمَنْبِتِ وَالْحَصَادِ، فَوَجَبَ ضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، كَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ مُنْتَقِضٌ بِالثِّمَارِ. وَالثَّالِثَةُ، أَنَّ الْحِنْطَةَ تُضَمُّ إلَى الشَّعِيرِ، وَتُضَمُّ الْقِطْنِيَّاتُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ. نَقَلَهَا أَبُو الْحَارِثِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَاهَا الْخِرَقِيِّ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 فَقَالَ: السُّلْتُ، وَالذُّرَةُ، وَالدُّخْنُ، وَالْأُرْزُ، وَالْقَمْحُ، وَالشَّعِيرُ، صِنْفٌ وَاحِدٌ وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُقْتَاتٌ، فَيُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، كَأَنْوَاعِ الْحِنْطَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: تُضَمُّ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهَا تَتَّفِقُ فِي الِاقْتِيَاتِ وَالْمَنْبَتِ وَالْحَصَادِ وَالْمَنَافِعِ، فَوَجَبَ ضَمُّهَا، كَمَا يُضَمُّ الْعَلَسُ إلَى الْحِنْطَةِ، وَأَنْوَاعُ الْجِنْسِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا، فَلَمْ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَالثِّمَارِ. وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْعَلَسِ مَعَ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا، وَلَا عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهَا، وَثَبَتَ حُكْمُ الْجِنْسِ فِي جَمِيعِهَا، بِخِلَافِ الْأَجْنَاسِ. وَإِذَا انْقَطَعَ الْقِيَاسُ، لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الزَّكَاةِ بِالتَّحَكُّمِ، وَلَا بِوَصْفٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالثِّمَارِ، فَإِنَّهَا تَتَّفِقُ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَمَا لَمْ يَرِدْ بِالْإِيجَابِ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ مَعْنَاهُمَا، لَا يَثْبُتُ إيجَابُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا خِلَافَ فِيمَا نَعْلَمُهُ فِي ضَمِّ الْحِنْطَةِ إلَى الْعَلَسِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا. وَعَلَى قِيَاسِهِ السُّلْتُ يُضَمُّ إلَى الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ. (1873) فَصْلٌ: وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ؛ لِوُضُوحِهِمَا. فَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَهِيَ ضَمُّ الْحِنْطَةِ إلَى الشَّعِيرِ، وَالْقِطْنِيَّاتُ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الذُّرَةَ تُضَمُّ إلَى الدُّخْنِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَقْصِدِ، فَإِنَّهُمَا يُتَّخَذَانِ خُبْزًا وَأُدْمًا، وَقَدْ ذُكِرَا مِنْ جُمْلَةِ الْقِطْنِيَّاتِ أَيْضًا، فَيَضُمَّانِ إلَيْهَا. وَأَمَّا الْبُزُورُ فَلَا تُضَمُّ إلَى الْقِطْنِيَّاتِ، وَلَكِنَّ الْأَبَازِيرَ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ؛ لِتَقَارُبِهَا فِي الْمَقْصِدِ، فَأَشْبَهَتْ الْقِطْنِيَّاتِ. وَحُبُوبُ الْبُقُولِ لَا تُضَمُّ إلَى الْقِطْنِيَّاتِ، وَلَا إلَى الْبُزُورِ، فَمَا تَقَارَبَ مِنْهَا ضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، وَمَا لَا فَلَا، وَمَا شَكَكْنَا فِيهِ لَا يُضَمُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (1874) فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي ضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ رِوَايَتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، مَعَ اخْتِيَارِهِ الضَّمَّ فِي الْحُبُوبِ؛ لِاخْتِلَافِ نِصَابِهِمَا، وَاتِّفَاقِ نِصَابِ الْحُبُوبِ. . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 [فَصْلُ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَخُصُّهُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ جِنْسٍ عَنْ غَيْرِهِ] (1875) فَصْلٌ: وَمَتَى قُلْنَا بِالضَّمِّ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَخُصُّهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ جِنْسٍ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّنَا إذَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ الْجِنْسِ: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ. فَأَوْلَى أَنْ يُعْتَدَّ ذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، مَعَ تَفَاوُتِ مَقَاصِدهَا، إلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلُ يُضَمُّ زَرْعُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ] (1876) فَصْلٌ: وَيُضَمُّ زَرْعُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ وَقْتُ زَرْعِهِ وَإِدْرَاكِهِ، أَوْ اخْتَلَفَ. وَلَوْ كَانَ مِنْهُ صَيْفِيٌّ وَرَبِيعِيٌّ، ضُمَّ الصَّيْفِيُّ إلَى الرَّبِيعِيِّ. وَلَوْ حَصَدْت الذُّرَةَ وَالدُّخْنَ، ثُمَّ نَبَتَ أُصُولُهُمَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ زَرْعُ عَامٍ وَاحِدٍ، فَضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، كَمَا لَوْ تَقَارَبَ زَرْعُهُ وَإِدْرَاكُهُ. [فَصْلُ تُضَمُّ ثَمَرَةُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ] (1877) فَصْلٌ: وَتُضَمُّ ثَمَرَةُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ وَقْتُ إطْلَاعِهَا وَإِدْرَاكِهَا، أَوْ اخْتَلَفَ، فَيُقَدَّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ الثَّمَرَةَ جُذَّتْ ثُمَّ أَطْلَعَتْ الْأُخْرَى وَجُذَّتْ، ضُمَّتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى. فَإِنْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ حَمْلَيْنِ، ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُضَمُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَمَلٌ يَنْفَصِلُ عَنْ الْأَوَّلِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ حَمْلِ عَامٍ آخَرَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ يَحْمِلُ مَرَّةً، وَنَخْلٌ يَحْمِلُ مَرَّتَيْنِ، ضَمَمْنَا الْحَمْلَ الْأَوَّلَ إلَى الْحَمْلِ الْمُنْفَرِدِ، وَلَمْ يَجِبْ فِي الثَّانِي شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ بِمُفْرَدِهِ نِصَابًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَحَدَ الْحَمْلَيْنِ يُضَمُّ إلَى الْآخَرِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُمَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ، فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، كَزَرْعِ الْعَامِ الْوَاحِدِ، وَكَالذُّرَةِ الَّتِي تُنْبِتُ، مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ الثَّانِي يُضَمُّ إلَى الْحَمْلِ الْمُنْفَرِدِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ أَوَّلُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ، فَإِنَّ وُجُودَ الْحَمْلِ الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا، بِدَلِيلِ حَمَلِ الذُّرَةِ الْأَوَّلِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الِانْفِصَالِ يَبْطُلُ بِالذُّرَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 [بَاب زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] ِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ زَكَاةِ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . وَالْآيَةُ الْأُخْرَى. وَلَا يُتَوَعَّدُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ عَلَيْهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، فِي كِتَابِ أَنَسٍ: «وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا» . وَالرِّقَةُ: هِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى أَنَّ الذَّهَبَ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبْ فِيهِ، إلَّا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ الْحَسَنِ. [مَسْأَلَةُ نِصَابَ الْفِضَّةِ] (1878) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ ذَهَبٌ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ، فَيُتِمُّ بِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا بِحَمْدِ اللَّهِ، وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي يُعْتَبَرُ بِهَا النِّصَابُ هِيَ الدَّرَاهِمُ الَّتِي كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ بِمِثْقَالِ الذَّهَبِ، وَكُلُّ دِرْهَمٍ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَخُمْسُهُ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي تُقَدَّرُ بِهَا نُصُبُ الزَّكَاةِ، وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ، وَالدِّيَاتُ، وَنِصَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ صِنْفَيْنِ، سُودًا، وَطَبَرِيَّةً، وَكَانَتْ السُّودُ ثَمَانِيَةَ دَوَانِيقَ، وَالطَّبَرِيَّةُ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ، فَجُمِعَا فِي الْإِسْلَامِ، وَجُعِلَا دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، فِي كُلِّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، فَعَلَ ذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ، فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أَحَدُهَا، أَنَّ كُلَّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَالثَّالِثُ، أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْهَمِهِ الَّذِي قَدَّرَ بِهِ الْمَقَادِيرَ الشَّرْعِيَّةَ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التِّبْرِ وَالْمَضْرُوبِ. وَمَتَى نَقَصَ النِّصَابُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. بِغَيْرِ خِلَافٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنْ كَانَ النَّقْصُ يَسِيرًا، كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ غَالِبًا، فَهُوَ كَنَقْصِ الْحَوْلِ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ نَقْصًا بَيِّنًا، كَالدَّانَقِ وَالدَّانَقَيْنِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ. أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ إذَا نَقَصَ ثُلُثَ مِثْقَالٍ زَكَّاهُ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُفْيَانَ. وَإِنْ نَقَصَ نِصْفًا لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إذَا نَقَصَ ثُمْنًا لَا زَكَاةَ فِيهِ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا نَقَصَتْ نَقْصًا يَسِيرًا يَجُوزُ جَوَازَ الْوَازِنَةِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا تَجُوزَ جَوَازَ الْوَازِنَةِ، أَشْبَهَتْ الْوَازِنَةَ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ ذَهَبٌ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَيُتِمُّ بِهِ ". فَإِنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ تُضَمُّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَكْمُلُ بِهِ نِصَابُهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ عَامَّتَهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبْ فِي قِيمَتِهَا، فَتُقَوَّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَتُضَمُّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَعُرُوضٌ، وَجَبَ ضَمُّ الْجَمِيعِ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ مَضْمُومٌ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَجِبُ ضَمُّهُمَا إلَيْهِ، وَجَمْعُ الثَّلَاثَةِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا لَا يَبْلُغُ نِصَابًا بِمُفْرَدِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ مِنْ الْآخَرِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَجَمَاعَةٍ، وَقَطَعَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا. وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، إحْدَاهُمَا لَا يُضَمُّ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَشَرِيكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ.» وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ يَخْتَلِفُ نِصَابُهُمَا، فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، كَأَجْنَاسِ الْمَاشِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ، يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُضَمُّ إلَى مَا يُضَمُّ إلَيْهِ الْآخَرُ، فَيُضَمُّ إلَى الْآخَرِ. كَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُمَا وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا مُتَّحِدٌ. فَإِنَّهُمَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَأَثْمَانُ الْبِيَاعَاتِ، وَحُلِيٌّ لِمَنْ يُرِيدُهُمَا لِذَلِكَ، فَأَشْبَهَا النَّوْعَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِعَرْضِ التِّجَارَةِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالضَّمِّ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُضَمُّ إلَى الْآخَرِ بِالْأَجْزَاءِ، يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحْتَسَبُ مِنْ نِصَابِهِ، فَإِذَا كَمَلَتْ أَجْزَاؤُهُمَا نِصَابًا، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصْفُ نِصَابٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَنِصْفُ نِصَابٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ ثُلُثٌ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَثُلُثَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ. فَلَوْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا. وَإِنْ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُمَا عَنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِمَا. سُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِيهَا الزَّكَاةُ، إذَا كَانَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا، فَلَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَضْمُونَةً كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، أَنَّهَا تُضَمُّ بِالْأَحْوَطِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَالْقِيمَةِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْغَالِي مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الرَّخِيصِ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُمَا بِالرَّخِيصِ مِنْهُمَا نِصَابًا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا؛ فَلَوْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةَ دَنَانِيرَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا قِيمَتُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْوِيمِ الدَّنَانِيرِ بِالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ نِصَابِ وَجَبَ فِيهِ ضَمُّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ، ضُمَّ بِالْقِيمَةِ، كَنِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّ أَصْلَ الضَّمِّ لِتَحْصِيلِ حَظِّ الْفُقَرَاءِ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّمِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَعْيَانِهَا، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ. وَيُخَالِفُ نِصَابَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ نِصَابَ الْقَطْعِ فِيهِ الْوَرِقُ خَاصَّةً فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ رُبْعَ دِينَارٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ مَا دُونَ الْعِشْرِينَ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا زَكَاةَ فِيهِ] (1879) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ دُونَ الْعِشْرِينَ مِثْقَالًا) يَعْنِي أَنَّ مَا دُونَ الْعِشْرِينَ لَا زَكَاةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتِمَّ بِوَرِقٍ أَوْ عُرُوضِ تِجَارَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَلَا يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: نِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْفِضَّةِ، فَمَا كَانَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْدِيرٌ فِي نِصَابِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْفِضَّةِ. وَلَنَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا» . وَرَوَى سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ، عَنْ عَلِيٍّ: " فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا، وَفِي كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ "، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِغَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ. [فَصْلُ مَلَكَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً مَغْشُوشَةً أَوْ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ] (1880) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً مَغْشُوشَةً، أَوْ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نِصَابًا؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ.» فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مَا فِيهِ مِنْهُمَا، وَشَكَّ هَلْ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَا، خُيِّرَ بَيْنَ سَبْكِهِمَا لِيَعْلَمَ قَدْرَ مَا فِيهِ مِنْهُمَا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ وَيُخْرِجَ، لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ. فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُخْرِجَ اسْتِظْهَارًا، فَأَرَادَ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَغْشُوشَةِ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ الْغِشُّ لَا يَخْتَلِفُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْغِشُّ فِي كُلِّ دِينَارٍ سُدُسَهُ، وَعَلِمَ ذَلِكَ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُخْرِجًا لِرُبْعِ الْعُشْرِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ قَدْرُ مَا فِيهَا، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، لَمْ يَجُزْهُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَسْتَظْهِرَهُ، بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الذَّهَبِ مُحِيطٌ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ. وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْهَا ذَهَبًا لَا غِشَّ فِيهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَ الْغِشِّ، وَإِخْرَاجَ الزَّكَاةِ عَنْ قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ، كَمَنْ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا، سُدُسُهَا غِشٌّ، فَأَسْقَطَ السُّدُسَ أَرْبَعَةً، وَأَخْرَجَ نِصْفَ دِينَارٍ عَنْ عِشْرِينَ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَبَكَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ذَلِكَ، وَلِأَنَّ غِشَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِضَّةً، وَلَهُ مِنْ الْفِضَّةِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ، أَوْ لَهُ نِصَابٌ سِوَاهُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْغِشِّ حِينَئِذٍ. وَكَذَلِكَ إنَّ قُلْنَا بِضَمِّ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ. وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغِشَّ، أَوْ أَنَّهُ اسْتَظْهَرَهُ وَأَخْرَجَ الْفَرْضَ، قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمَغْشُوشِ بِالْغِشِّ، فَصَارَتْ قِيمَةُ الْعِشْرِينَ تُسَاوِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ رُبْعِ عُشْرِهَا مِمَّا قِيمَتُهُ كَقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ إخْرَاجَ زَكَاةِ الْمَالِ الْجَيِّدِ مِنْ جِنْسِهِ، بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ عَنْ قِيمَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ مِقْدَار زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا تَمَّتْ، فَفِيهَا رُبْعُ الْعُشْرِ) . يَعْنِي إذَا تَمَّتْ الْفِضَّةُ مِائَتَيْنِ، وَالدَّنَانِيرُ عِشْرِينَ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا رُبْعُ عُشْرِهَا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ رُبْعُ عَشْرِهَا، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 شَيْءٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ صَحِيحٌ عِنْدِي. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ، وَلَفْظُهُ: " فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ". وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا.» [مَسْأَلَةُ لَا زَكَاةَ فِي زِيَادَةِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ] (1882) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي زِيَادَتِهَا وَإِنْ قَلَّتْ) رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا شَيْءَ فِي زِيَادَةِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، وَلَا فِي زِيَادَةِ الدَّنَانِيرِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا» . وَعَنْ مُعَاذٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْنِ، فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.» وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ لَهُ عَفْوًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَانَ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ، كَالْمَاشِيَةِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ حَتَّى يَتِمَّ مِائَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَالْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَّجَرٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ كَالْحُبُوبِ. وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَهُوَ احْتِجَاجٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيه أَبُو الْعَطُوفِ الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ دَجَّالٌ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ. وَيَرْوِيه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ مُعَاذٍ، وَلَمْ يَلْقَ عُبَادَةَ مُعَاذًا، فَيَكُونُ مُرْسَلًا. وَالْمَاشِيَةُ يَشُقُّ تَشْقِيصُهَا، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 [فَصْلُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ] (1883) فَصْلٌ: وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ. فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُتَسَاوِيَةَ الْقِيَمِ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ أَحَدِهَا، كَمَا تُخْرَجُ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْ الْغَنَمِ. وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ. وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ أَوْسَطِهَا مَا يَفِي بِقَدْرِ الْوَاجِبِ وَقِيمَتِهِ، جَازَ. وَإِنْ أَخْرَجَ الْفَرْضَ مِنْ أَجْوَدِهَا بِقَدْرِ الْوَاجِبِ، جَازَ، وَلَهُ ثَوَابُ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ بِالْقِيمَةِ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نِصْفِ دِينَارٍ ثُلُثَ دِينَارٍ جَيِّدٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى نِصْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَجُزْ النَّقْصُ مِنْهُ. وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ الْأَدْنَى، وَزَادَ فِي الْمُخْرَجِ مَا يَفِي بِقِيمَةِ الْوَاجِبِ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ دِينَارٍ دِينَارًا وَنِصْفًا يَفِي بِقِيمَتِهِ، جَازَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ عَنْ الصِّحَاحِ مُكَسَّرَةً، وَزَادَ بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَضْلِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِيمَةً وَقَدْرًا. وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ كَثِيرِ الْقِيمَةِ قَلِيلَ الْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ. فَإِنْ أَخْرَجَ بَهْرَجًا عَنْ الْجَيِّدِ، وَزَادَ بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي قِيمَةَ الْجَيِّدِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ جَيِّدٍ، وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَعِيبِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَعِيبًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَ مَرِيضَةً عَنْ صِحَاحٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا: لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا أَخْرَجَ مِنْ الْمَعِيبِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إخْرَاجُ الرَّدِيئَةِ عَنْ الْجَيِّدَةِ، وَالْمَكْسُورَةِ عَنْ الصَّحِيحَةِ، مِنْ غَيْرِ جُبْرَانٍ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ إذَا لَاقَتْ جِنْسَهَا فِيمَا فِيهِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا. وَلَنَا، أَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَيِّدًا، لَمْ يُجْزِئْهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ رَدِيئًا، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْبُرْهُ بِمَا يُتِمُّ بِهِ قِيمَةَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ رَدِيئًا عَنْ جَيِّدٍ بِقَدْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا فِي الْمَاشِيَةِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، فَلَمْ يَجُزْ النَّقْصُ فِي الصِّفَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْقَدْرِ. وَأَمَّا الرِّبَا فَلَا يَجْرِي هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَالْقَصْدُ مِنْ الزَّكَاةِ الْمُوَاسَاةُ، وَإِغْنَاءُ الْفَقِيرِ، وَشُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَدْخُلُ الرِّبَا فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَخْرَجَ فِي الْمَاشِيَةِ رَدِيئَتَيْنِ عَنْ جَيِّدَةٍ، أَوْ أَخْرَجَ قَفِيزَيْنِ رَدِيئَيْنِ عَنْ قَفِيزٍ جَيِّدٍ، لَمْ يَجُزْ، فَلِمَ أَجَزْتُمْ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الصَّحِيحِ أَكْثَرَ مِنْهُ مُكَسَّرًا؟ قُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إخْرَاجِهِ عَيْبٌ سِوَى نَقْصِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْأَثْمَانِ الْقِيمَةُ لَا غَيْرُ، فَإِذَا تَسَاوَى الْوَاجِبُ وَالْمُخْرَجُ فِي الْقِيمَةِ وَالْقَدْرِ، جَازَ، وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ يُقْصَدُ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْأَمْرَيْنِ الْإِجْزَاءُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَفُوتَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 [فَصْلُ إخْرَاجُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ] (1884) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. نَصَّ عَلَيْهِمَا؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْجِنْسِ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ إذَا كَانَ أَقَلَّ فِي الْمِقْدَارِ، فَمَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَوْلَى. وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ، وَهُوَ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحَدِهِمَا يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ الْآخَرِ، فَيُجْزِئُ، كَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا جَمِيعًا الثَّمَنِيَّةُ وَالتَّوَسُّلُ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ، وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ، فَأَشْبَهَ إخْرَاجَ الْمُكَسَّرَةِ عَنْ الصِّحَاحِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ مَقْصُودًا مُخْتَصًّا بِهِ، لَا يَحْصُلُ مِنْ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُهَا، فَلَا يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ غَيْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ، وَهَا هُنَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، فَوَجَبَ إجْزَاؤُهُ، إذْ لَا فَائِدَةَ بِاخْتِصَاصِ الْإِجْزَاءِ بِعَيْنٍ، مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي الْحِكْمَةِ وَكَوْنِ ذَلِكَ أَرْفَقَ بِالْمُعْطِي وَالْآخِذِ، وَأَنْفَعَ لَهُمَا، وَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ إخْرَاجُ زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ مِنْهَا، شَقَّ عَلَى مِنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ دِينَارٍ، وَيَحْتَاجُ إلَى التَّشْقِيصِ، وَمُشَارَكَةِ الْفَقِيرِ لَهُ فِي دِينَارٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ بَيْعِ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ، فَيَسْتَضِرُّ الْمَالِكُ وَالْفَقِيرُ، وَإِذَا جَازَ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ عَنْهَا، دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ، فَيَسْهُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَنْتَفِعُ الْفَقِيرُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَضَرَّةٍ. وَلِأَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ قِطْعَةً مِنْ الذَّهَبِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُتَعَامَلُ بِهَا فِيهِ، أَوْ قِطْعَةً مِنْ دِرْهَمٍ فِي مَكَان لَا يُتَعَامَلُ بِهَا فِيهِ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهَا، وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا بِحَسَبِ مَا يُتَعَامَلُ بِهَا احْتَاجَ إلَى كُلْفَةِ الْبَيْعِ، وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَإِنْ أَمْكَنَ بَيْعُهَا احْتَاجَ إلَى كُلْفَةِ الْبَيْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَنْقُصُ عِوَضُهَا عَنْ قِيمَتِهَا، فَقَدْ دَارَ بَيْنَ ضَرَرَيْنِ، وَفِي جَوَازِ إخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخِرِ نَفْعٌ مَحْضٌ، وَدَفْعٌ لِهَذَا الضَّرَرِ، وَتَحْصِيلٌ لِحِكْمَةِ الزَّكَاةِ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَلَا حَاجَةَ وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، وَإِنْ تُوُهِّمَتْ هَاهُنَا مَنْفَعَةٌ تَفُوتُ بِذَلِكَ، فَهِيَ يَسِيرَةٌ مَغْمُورَةٌ، فِيمَا يَحْصُلُ مِنْ النَّفْعِ الظَّاهِرِ، وَيَنْدَفِعُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُعْتَبَرُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُ الْفَقِيرَ ضَرَرٌ، مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا لَا يُنْفِقُ عِوَضًا عَمَّا يُنْفِقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَنْ الْآخَرِ مَعَ الضَّرَرِ، فَمَعَ غَيْرِهِ أَوْلَى. وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ مِنْ الْجِنْسِ، وَاخْتَارَ الْفَقِيرُ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي أَخْذِ الْجِنْسِ، لَمْ يَلْزَمْ الْمَالِكَ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ، لَمْ يُكَلَّفْ سِوَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ زَكَاةٌ حِلِّي الْمَرْأَة] (1885) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ فِي حُلِيِّ الْمَرْأَةِ زَكَاةٌ إذَا كَانَ مِمَّا تَلْبَسُهُ أَوْ تُعِيرُهُ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَمْرَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ.» مَفْهُومُهُ أَنَّ فِيهَا صَدَقَةً إذَا بَلَغَتْ خَمْسَ أَوَاقٍ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «أَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا فِي يَدَيْهَا مَسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: هَلْ تُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، أَشْبَهَ التِّبْرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُزَكَّى عَامًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَقَتَادَةُ: زَكَاتُهُ عَارِيَّتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ. وَيَقُولُونَ: زَكَاتُهُ عَارِيَّتُهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رَوَى عَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ» . وَلِأَنَّهُ مَرْصَدٌ لِاسْتِعْمَالِ مُبَاحٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالْعَوَامِلِ، وَثِيَابِ الْقُنْيَةِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، فَلَا تَتَنَاوَلُ مَحِلَّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ الرِّقَةَ هِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا نَعْلَمُ هَذَا الِاسْمَ فِي الْكَلَامِ الْمَعْقُولِ عِنْدَ الْعَرَبِ إلَّا عَلَى الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشَةِ، ذَاتِ السِّكَّةِ السَّائِرَةِ فِي النَّاسِ. وَكَذَلِكَ الْأَوَاقِي لَيْسَ مَعْنَاهَا إلَّا الدَّرَاهِمَ كُلُّ أُوقِيَّةٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَسْكَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا نَعْلَمُهُ إلَّا مِنْ وَجْهٍ قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالزَّكَاةِ إعَارَتَهُ، كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ وَالتِّبْرُ غَيْرُ مُعَدٍّ لِلِاسْتِعْمَالِ، بِخِلَافِ الْحُلِيِّ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " إذَا كَانَ مِمَّا تَلْبَسُهُ أَوْ تُعِيرُهُ ". يَعْنِي أَنَّهُ إنَّمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ أَوْ مُعَدًّا لَهُ فَأَمَّا الْمُعَدُّ لِلْكِرَى أَوْ النَّفَقَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْقُطُ عَمَّا أُعِدَّ لِلِاسْتِعْمَالِ، لِصَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ مَا اُتُّخِذَ حِلْيَةً فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ مَمْلُوكًا لِامْرَأَةِ تَلْبَسُهُ أَوْ تُعِيرُهُ، أَوْ لِرَجُلٍ يُحَلِّي بِهِ أَهْلَهُ، أَوْ يُعِيرُهُ أَوْ يُعِدُّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ إلَى اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ، أَشْبَهَ حَلْيَ الْمَرْأَةِ. [فَصْلُ قَلِيلُ الْحُلِيِّ وَكَثِيرُهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالزَّكَاةِ سَوَاءٌ] (1886) فَصْلٌ وَقَلِيلُ الْحُلِيِّ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالزَّكَاةِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ يُبَاحُ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَلْفَ مِثْقَالٍ، فَإِنْ بَلَغَهَا حَرُمَ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْأَثْرَمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ قَالَ: سُئِلَ جَابِرٌ عَنْ الْحُلِيِّ، هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ؟ قَالَ: لَا. فَقِيلَ لَهُ: أَلْفُ دِينَارٍ؟ فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ. وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَ التَّحَلِّي مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَقُّفِ، ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، فَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الْحُلِيِّ فِيهِ زَكَاةٌ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: إنَّ الْحُلِيَّ يَكُونُ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِيهِ، يُعَارُ وَيُلْبَسُ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ جَابِرٍ قَوْلُ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَلَا يَبْقَى قَوْلُهُ حُجَّةً، وَالتَّقْيِيدُ بِالرَّأْيِ الْمُطْلَقِ وَالتَّحَكُّمُ غَيْرُ جَائِزٍ. [فَصْلُ إذَا انْكَسَرَ الْحُلِيُّ كَسْرًا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ وَاللُّبْسَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ] (1887) فَصْلٌ: وَإِذَا انْكَسَرَ الْحُلِيُّ كَسْرًا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ وَاللُّبْسَ، فَهُوَ كَالصَّحِيحِ، لَا زَكَاةَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كَسْرَهُ وَسَبْكَهُ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ نَوَى صَرْفَهُ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ. وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ، فَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ وَالتِّبْرِ. [فَصْلُ وَإِذَا كَانَ الْحُلِيُّ لِلِّبْسِ فَنَوَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ التِّجَارَةَ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ نَوَتْ] (1888) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْحُلِيُّ لِلُّبْسِ، فَنَوَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ التِّجَارَةَ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ نَوَتْ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا انْصَرَفَ عَنْهُ لِعَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ، فَعَادَ إلَى الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى بِعَرْضِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ، انْصَرَفَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 [فَصْلُ يُعْتَبَرُ فِي النِّصَابِ فِي الْحُلِيِّ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ] (1889) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ فِي النِّصَابِ فِي الْحُلِيِّ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْوَزْنِ، فَلَوْ مَلَكَ حُلِيًّا قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَوَزْنُهُ دُونَ الْمِائَتَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ. وَإِنْ بَلَغَ مِائَتَيْنِ وَزْنًا، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَ فِي الْقِيمَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ.» . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ لِلتِّجَارَةِ فَيُقَوَّمُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نِصَابًا، فَفِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقِيمَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَبْلُغَ بِقِيمَتِهِ وَوَزْنِهِ نِصَابًا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِ رُبْعِ عُشْرِ حُلِيِّهِ مَشَاعًا، أَوْ دَفْعِ مَا يُسَاوِي رُبْعَ عُشْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا، وَإِنْ زَادَ فِي الْوَزْنِ عَلَى رُبْعِ الْعُشْرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا لَا يَجْرِي هَاهُنَا. وَلَوْ أَرَادَ كَسْرَهَا وَدَفَعَ رُبْعَ عُشْرِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ قِيمَتَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ الِاعْتِبَارُ بِالْوَزْنِ، وَإِذَا كَانَ وَزْنُ الْحُلِيِّ عِشْرِينَ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ، لَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَتَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِوَزْنِهِ، لَا بِصِفَتِهِ، كَالدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الصِّنَاعَةَ صَارَتْ صِفَةً لِلنِّصَابِ لَهَا قِيمَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا كَالْجَوْدَةِ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ. وَدَلِيلُهُمْ نَقُولُ بِهِ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِوَزْنِهِ وَصِفَتِهِ جَمِيعًا، كَالْجَيِّدِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْمَوَاشِي، وَالْحُبُوبِ، وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ رَدِيءٍ عَنْ جَيِّدٍ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الْفِضَّةِ عَنْ حُلِيِّ الذَّهَبِ، أَوْ الذَّهَبِ عَنْ الْفِضَّةِ، أَخْرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي إخْرَاجِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَدْرِ النِّصَابِ أَيْضًا بِالْقِيمَةِ، فَلَوْ مَلَكَ حُلِيًّا وَزْنُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ لِأَجْلِ الصِّنَاعَةِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، لِقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ بِالصِّنَاعَةِ، كَزِيَادَتِهَا بِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ، فَكَمَا لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيمَا كَانَ نَفِيسَ الْجَوْهَرِ، كَذَلِكَ الْآخَرُ. [فَصْلُ كَانَ فِي الْحُلِيِّ جَوْهَرٌ وَلَآلِئُ مُرَصَّعَةٌ] (1890) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي الْحُلِيِّ جَوْهَرٌ وَلَآلِئُ مُرَصَّعَةٌ، فَالزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ دُونَ الْجَوْهَرِ، لِأَنَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَإِنْ كَانَ الْحُلِيُّ لِلتِّجَارَةِ، قَوَّمَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْجَوَاهِرِ؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ لَوْ كَانَتْ مُفْرَدَةً وَهِيَ لِلتِّجَارَةِ، لَقُوِّمَتْ وَزُكِّيَتْ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي حُلِيِّ التِّجَارَةِ. [فَصْلُ إذَا اتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ حُلِيًّا لَيْسَ لَهَا اتِّخَاذُهُ] (1891) فَصْلٌ: وَإِذَا اتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ حُلِيًّا لَيْسَ لَهَا اتِّخَاذُهُ، كَمَا إذَا اتَّخَذَتْ حِلْيَةَ الرِّجَالِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعَلَيْهَا الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 [فَصْلُ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ] (1892) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ، مِثْلُ السِّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ، وَمَا يَلْبَسْنَهُ عَلَى وُجُوهِهِنَّ، وَفِي أَعْنَاقِهِنَّ، وَأَيْدِيهِنَّ، وَأَرْجُلِهِنَّ، وَآذَانِهِنَّ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا مَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ، كَالْمِنْطَقَةِ وَشِبْهِهَا مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ، كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ. [مَسْأَلَةُ لَيْسَ فِي حِلْيَةِ سَيْفِ الرَّجُلِ وَمِنْطَقَتِهِ وَخَاتَمِهِ زَكَاةٌ] (1893) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَيْسَ فِي حِلْيَةِ سَيْفِ الرَّجُلِ وَمِنْطَقَتِهِ وَخَاتَمِهِ زَكَاةٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ الْحُلِيِّ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ، سَوَاءٌ كَانَ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ إلَى اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ، فَأَشْبَهَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ وَعَوَامِلَ الْمَاشِيَةِ، وَيُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحِلْيَةُ السَّيْفِ، بِأَنْ تُجْعَلَ قَبِيعَتُهُ فِضَّةً أَوْ تَحْلِيَتُهَا بِفِضَّةٍ؛ فَإِنَّ أَنَسًا قَالَ: «كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِضَّةً.» وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَالْمِنْطَقَةُ تُبَاحُ تَحْلِيَتُهَا بِالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهَا حِلْيَةٌ مُعْتَادَةٌ لِلرَّجُلِ، فَهِيَ كَالْخَاتَمِ وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، فَهُوَ كَالطَّوْقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الطَّوْقَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ الْمِنْطَقَةِ. وَعَلَى قِيَاسِ الْمِنْطَقَةِ، الْجَوْشَنُ، وَالْخُوذَةُ، وَالْخُفُّ، وَالرَّانُ، وَالْحَمَائِلُ. وَتُبَاحُ الْفِضَّةُ فِي الْإِنَاءِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لِلْحَاجَةِ، وَنَعْنِي بِالْحَاجَةِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ، أَنَسٍ «أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ.» وَقَالَ الْقَاضِي: يُبَاحُ الْيَسِيرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ. وَإِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ. وَأَمَّا الذَّهَبُ، فَيُبَاحُ مِنْهُ مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، كَالْأَنْفِ فِي حَقِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 مِنْ قُطِعَ أَنْفُهُ؛ لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طُرْفَةَ، أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ. قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكِلَابِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: رَبْطُ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ إذَا خُشِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْقُطَ قَدْ فَعَلَهُ النَّاسُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَأَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَأَبِي رَافِعٍ، وَثَابِتٍ اسْتَرْقُوا وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ شَدُّوا أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ. وَعَنْ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِيهِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، الرُّخْصَةُ فِيهِ فِي السَّيْفِ. قَالَ الْأَثْرَمُ، قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَيْفِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَذَاكَ الْآنَ فِي السَّيْفِ. وَقَالَ: إنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ سَيْفٌ سَبَائِكُهُ مِنْ ذَهَبٍ. مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَزْيَدَةَ الْعَصَرِيِّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ» . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْقُطَ يَجْعَلُ فِيهِ مِسْمَارًا مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: إنَّمَا رُخِّصَ فِي الْأَسْنَانِ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا الْمِسْمَارُ، فَقَدْ رُوِيَ: «مَنْ تَحَلَّى بِخُرَيْصِيصَةٍ، كُوِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قُلْت: أَيُّ شَيْءٍ خُرَيْصِيصَةٌ؟ قَالَ: شَيْءٌ صَغِيرٌ مِثْلُ الشُّعَيْرَةِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ أَيْضًا، بِإِسْنَادِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، قَالَ: «مَنْ حُلِّيَ، أَوْ تَحَلَّى بِخُرَيْصِيصَةٍ، كُوِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَغْفُورًا لَهُ أَوْ مُعَذَّبًا» . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ أَبَاحَ يَسِيرَ الذَّهَبِ، وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَبِقِيَاسِ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَلَمْ يَحْرُمْ يَسِيرُهُ كَسَائِرِهَا، وَكُلُّ مَا أُبِيحَ مِنْ الْحُلِيِّ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ. [مَسْأَلَةُ الْمُتَّخِذ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَاصٍ وَفِيهَا الزَّكَاةُ] (1894) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُتَّخِذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَاصٍ، وَفِيهَا الزَّكَاةُ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ اتِّخَاذَ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ، فَيَبْقَى إبَاحَةُ الِاتِّخَاذِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ فِي الْإِبَاحَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وَلَنَا، أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَلَاهِي، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ يَعُمُّهَا، وَهُوَ الْإِفْضَاءُ إلَى السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أُحِلَّ لِلنِّسَاءِ التَّحَلِّي لِحَاجَتِهِنَّ إلَيْهِ لِلتَّزَيُّنِ لِلْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَوْجُودٍ فِي الْآنِيَةِ، فَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ نِصَابًا بِالْوَزْنِ، أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا بِضَمِّهَا إلَيْهِ. وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ لِصِنَاعَتِهِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَلَا قِيمَةَ لَهَا فِي الشَّرْعِ، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا قَدْرَ رُبْعِ عُشْرِهَا بِقِيمَتِهِ غَيْرَ مَصُوغٍ. وَإِنْ أَحَبَّ كَسْرَهَا، أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهَا مَكْسُورًا، وَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهَا مَصُوغًا، جَازَ؛ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَمْ تَنْقُصْهَا عَنْ قِيمَةِ الْمَكْسُورِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلُ كُلُّ مَا كَانَ اتِّخَاذُهُ مُحَرَّمًا مِنْ الْأَثْمَانِ لَمْ تَسْقُطْ زَكَاتُهُ بِاِتِّخَاذِهِ] (1895) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا كَانَ اتِّخَاذُهُ مُحَرَّمًا مِنْ الْأَثْمَانِ، لَمْ تَسْقُطْ زَكَاتُهُ بِاِتِّخَاذِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، لِكَوْنِهَا مَخْلُوقَةً لِلتِّجَارَةِ، وَالتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا. قَالَ أَحْمَدُ: مَا كَانَ عَلَى سَرْجٍ أَوْ لِجَامٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَنَصَّ عَلَى حِلْيَةِ الثُّفْرِ وَالرِّكَابِ وَاللِّجَامِ، أَنَّهُ مُحَرَّمٌ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَكْرَهُ رَأْسَ الْمُكْحُلَةِ فِضَّةً. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ تَأَوَّلْته. وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ، حِلْيَةُ الدَّوَاةِ، وَالْمِقْلَمَةِ، وَالسَّرْجِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا عَلَى الدَّابَّةِ. وَلَوْ مَوَّهَ سَقْفَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمُبَاحِ، فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِبَاحَةِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا إسْرَافٌ، وَيُفْضِي فِعْلُهُ إلَى الْخُيَلَاءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَحَرُمَ، كَاِتِّخَاذِ الْآنِيَةِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّخَتُّمِ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ، فَتَمْوِيهُ السَّقْفِ أَوْلَى. وَإِنْ صَارَ التَّمْوِيهُ الَّذِي فِي السَّقْفِ مُسْتَهْلَكًا لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ تَحْرُمْ اسْتِدَامَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إتْلَافِهِ وَإِزَالَتِهِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ ذَهَبَتْ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَالِيَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا، حَرُمَتْ اسْتَدَامَتْهُ. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِي، أَرَادَ جَمْعَ مَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ مِمَّا مُوِّهَ بِهِ مِنْ الذَّهَبِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَتَرَكَهُ. وَلَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ وَلَا الْمَحَارِيبِ، وَلَا اتِّخَاذَ قَنَادِيلَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآنِيَةِ. وَإِنْ وَقَفَهَا عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبِرٍّ وَلَا مَعْرُوفٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ، فَيُكْسَرُ وَيُصْرَفُ فِي مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ وَعِمَارَتِهِ. وَكَذَلِكَ إنَّ حَبَسَ الرَّجُلُ فَرَسًا لَهُ لِجَامٌ مُفَضَّضٌ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: فِي الرَّجُلِ يَقِفُ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَعَهُ لِجَامٌ مُفَضَّضٌ: فَهُوَ عَلَى مَا وَقَفَهُ، وَإِنْ بِيعَتْ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَجُعِلَتْ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَعَلَّهُ يَشْتَرِي بِذَلِكَ سَرْجًا وَلِجَامًا، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ. قِيلَ: فَتُبَاعُ الْفِضَّةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وَيُنْفِقُ عَلَى الْفَرَسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ حِلْيَةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ بِالْفِضَّةِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ: هُوَ عَلَى مَا وَقَفَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ حِلْيَةَ الْمِنْطَقَةِ. وَإِذَا قُلْنَا بِتَحْرِيمِهَا فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَحْرُمْ اسْتَدَامَتْهُ، كَقَوْلِنَا فِي تَمْوِيهِ السَّقْفِ، وَأَبَاحَ الْقَاضِي عِلَاقَةَ الْمُصْحَفِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ حِلْيَةَ الْمَرْأَةِ مَا لَبِسَتْهُ، وَتَحَلَّتْ بِهِ فِي بَدَنِهَا أَوْ ثِيَابِهَا، وَمَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَانِي، لَا يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْهُ إلَّا مَا أُبِيحَ لِلرِّجَالِ. وَلَوْ أُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ لَأُبِيحَ عِلَاقَةُ الْأَوَانِي وَالْأَدْرَاجِ وَنَحْوِهِمَا. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. (1896) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ نِصَابًا، أَوْ بَلَغَ بِضَمِّهِ إلَى مَا عِنْدَهُ نِصَابًا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةُ زَكَاة الرِّكَازِ] (1897) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ الرِّكَازِ، وَهُوَ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَفِيهِ الْخَمْسُ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَبَاقِيه لَهُ الدِّفْنُ، بِكَسْرِ الدَّالِ: الْمَدْفُونُ. وَالرِّكَازُ: الْمَدْفُونُ فِي الْأَرْضِ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ رَكَزَ يَرْكِزُ. مِثْلُ غَرَزَ يَغْرِزُ: إذَا خَفِيَ. يُقَالُ: رَكَزَ الرُّمْحَ، إذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الْأَرْضِ. وَمِنْهُ الرِّكْزُ، وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] . وَالْأَصْلُ فِي صَدَقَةِ الرِّكَازِ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَذَا الْحَدِيثَ، إلَّا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَأَرْضِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: فِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمْسُ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ الزَّكَاةُ. [مَسْأَلَةُ زَكَاة الرِّكَازِ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الرِّكَازُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْخُمْسِ] (1898) فَصْلٌ: وَأَوْجَبَ الْخُمْسَ فِي الْجَمِيعِ الزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: (1899) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْخُمْسِ مَا كَانَ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ. هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلَامَاتُهُمْ، كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ، وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ، وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ، أَوْ اسْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَالٍ لَهُمْ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنِ أَوَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهُوَ لُقَطَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ مُسْلِمٍ لَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إلَى مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا عَلَى جَمِيعِهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَوْضِعِ الرِّكَازِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ] (1900) الْفَصْلُ الثَّانِي، فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ، أَوْ مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ مَالِكٌ، مِثْلُ الْأَرْضِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا آثَارُ الْمُلْكِ، كَالْأَبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ، وَالتُّلُولِ، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقُبُورِهِمْ. فَهَذَا فِيهِ الْخُمْسُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِهَا، أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ، فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ، وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَجِدَهُ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ، فَهُوَ لَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ، وَلِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، هُوَ لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ إنْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَهُوَ لِلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ إلَى أَوَّلِ مَالِكٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الدَّارِ، فَكَانَتْ عَلَى مَا فِيهَا. وَإِنْ انْتَقَلَتْ الدَّارُ بِالْمِيرَاثِ، حُكِمَ بِأَنَّهُ مِيرَاثٌ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَرَثَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَوْرُوثِهِمْ، فَهُوَ لِأَوَّلِ مَالِكٍ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَوَّلُ مَالِكٍ، فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّائِعِ الَّذِي لَا يُعْرَفْ لَهُ مَالِكٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ يَجِدُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، فَيَأْخُذُهُ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، لَكِنْ إنْ ادَّعَى الْمَالِكُ الَّذِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ أَنَّهُ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهَا عَلَى مَحِلِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِمُوَرِّثِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ الْبَاقُونَ، فَحُكْمُ مَنْ أَنْكَرَ فِي نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمَالِكِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَرِفِينَ حُكْمُ الْمَالِكِ الْمُعْتَرِفِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَجِدَهُ فِي مِلْكِ آدَمِيٍّ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِصَاحِبِ الدَّارِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ فِي دَارِهِ، فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا عَادِيًّا: فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ، فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا: فَهُوَ لِلْأَجِيرِ. نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ. قَالَ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ لِوَاجِدِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وَأَبِي ثَوْرٍ. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَيَكُونُ لِمَنْ وَجَدَهُ، لَكِنْ إنْ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهَا عَلَى مَحِلِّهِ. وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لِمَالِكِ الدَّارِ إنْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، فَهُوَ لِأَوَّلِ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ. وَيُخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ طَلَبًا لِكَنْزٍ يَجِدُهُ، فَوَجَدَهُ، فَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ، وَيَكُونُ الْوَاجِدُ لَهُ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِذَلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْتَشَّ لَهُ أَوْ يَصْطَادَ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لَأَمْرٍ غَيْرِ طَلَبِ الرِّكَازِ، فَالْوَاجِدُ لَهُ هُوَ الْأَجِيرُ. وَهَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا اسْتَأْجَرْت أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لِي فِي دَارِي، فَوَجَدَ كَنْزًا، فَهُوَ لَهُ. وَإِنْ قُلْت: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْفِرَ لِي هَاهُنَا. رَجَاءَ أَنَّ أَجِدَ كَنْزًا، فَسَمَّيْت لَهُ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَلِي مَا يُوجَدُ. (1901) فَصْلٌ: وَإِنْ اكْتَرَى دَارًا، فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْآخَرُ هُوَ لِلْمَالِكِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي مِلْكٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا لِي. فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الدِّفْنَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ. وَالثَّانِي، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّ هَذَا مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ مِنْهَا، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مِنْ يَدُهُ عَلَيْهَا، كَالْقُمَاشِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ لَهُمْ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إنْ عُرِفَ مَالِكُ الْأَرْضِ، وَكَانَ حَرْبِيًّا، فَهُوَ غَنِيمَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي حِرْزِ مَالِكٍ مُعَيَّنٍ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ خِزَانَةٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ لِمَوْضِعِهِ مَالِكٌ مُحْتَرَمٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ. وَيُخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا إنَّ الرِّكَازَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ صِفَةِ الرِّكَازِ الَّذِي فِيهِ الْخُمْسُ] (1902) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي صِفَةِ الرِّكَازِ الَّذِي فِيهِ الْخُمْسُ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مَالًا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْآنِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْأَثْمَانِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمْسُ مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، كَالْغَنِيمَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبْ فِيمَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ الْأَرْضِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ النِّصَابُ، كَالْمَعْدِنِ وَالزَّرْعِ. وَلَنَا، عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ نِصَابٌ، كَالْغَنِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ الْغَنِيمَةَ، وَالْمَعْدِنُ وَالزَّرْعُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ وَنَوَائِبَ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ النِّصَابُ تَخْفِيفًا، بِخِلَافِ الرِّكَازِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا مُوَاسَاةٌ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الرِّكَازِ وَمَصْرِفِهِ] (1903) الْفَصْلُ الرَّابِعُ، فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الرِّكَازِ، وَمَصْرِفِهِ، أَمَّا قَدْرُهُ فَهُوَ الْخُمْسُ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَصْرِفُهُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: هُوَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: يُعْطِي الْخُمْسَ مِنْ الرِّكَازِ عَلَى مَكَانِهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَمَرَ صَاحِبَ الْكَنْزِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ حُمَمَةَ، قَالَ: سَقَطْت عَلَيَّ جَرَّةٍ مِنْ دَيْرٍ قَدِيمٍ بِالْكُوفَةِ، عِنْدَ جَبَّانَةِ بِشْرٍ، فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَذَهَبْت بِهَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: اقْسِمْهَا خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ. فَقَسَمْتهَا، فَأَخَذَ عَلِيٌّ مِنْهَا خُمْسًا، وَأَعْطَانِي أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، فَلَمَّا أَدْبَرْت دَعَانِي، فَقَالَ: فِي جِيرَانِك فُقَرَاءُ وَمَسَاكِينُ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَخُذْهَا فَاقْسِمْهَا بَيْنَهُمْ. وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَرْضِ، أَشْبَهَ الْمَعْدِنَ وَالزَّرْعَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ. نَقَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ، وَأَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيُّ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَتَى بِهِمَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهَا الْخَمْسَ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَدَفَعَ إلَى الرَّجُلِ بَقِيَّتَهَا، وَجَعَلَ عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إلَى أَنْ فَضَلَ مِنْهَا فَضْلَةٌ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ؟ فَقَامَ إلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ فَهِيَ لَكَ. وَلَوْ كَانَتْ زَكَاةً خَصَّ بِهَا أَهْلَهَا، وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى وَاجِدِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ زَالَتْ عَنْهُ يَدُ الْكَافِرِ، أَشْبَهَ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمْسُ فِي زَكَاة الرِّكَازِ] (1904) الْفَصْلُ الْخَامِسُ، فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمْسُ. وَهُوَ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ، مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وَمُكَاتَبٍ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، إلَّا أَنَّ الْوَاجِدَ لَهُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ مَالٍ، فَأَشْبَهَ الِاحْتِشَاشَ وَالِاصْطِيَادَ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا مَلَكَهُ، وَعَلَيْهِ خُمْسُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا، وَيُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ الْخُمْسَ. قَالَهُ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْخُمْسُ إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ زَكَاةٌ. وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الرِّكَازَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إذَا كَانَ الْوَاجِدُ لَهُ عَبْدًا، يُرْضَخُ لَهُ مِنْهُ، وَلَا يُعْطَاهُ كُلَّهُ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى وُجُوبِ الْخُمْسِ فِي كُلِّ رِكَازٍ يُوجَدُ، وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ بَاقِيَهُ لِوَاجِدِهِ مَنْ كَانَ، وَلِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيهِ الْخُمْسُ عَلَى مَنْ وَجَدَهُ وَبَاقِيه لِوَاجِدِهِ، كَالْغَنِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ، فَكَانَ لِمُكْتَسِبِهِ إنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ لِسَيِّدِهِ إنْ كَانَ عَبْدًا، كَالِاحْتِشَاشِ، وَالِاصْطِيَادِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنْ لَا يَجِبَ الْخُمْسُ إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ زَكَاةٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. (1905) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ تَفْرِقَةَ الْخُمْسِ بِنَفْسِهِ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ وَاجِدَ الْكَنْزِ بِتَفْرِقَتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ أَدَّى الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ الزَّكَاةَ، أَوْ أَدَّى الدَّيْنَ إلَى رَبِّهِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ فَيْءٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَفْرِقَتَهُ بِنَفْسِهِ، كَخُمْسِ الْغَنِيمَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. قَالَ: وَإِنْ فَعَلَ ضَمَّنَهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ رَدُّ خَمْسِ الرِّكَازِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ، فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، كَالزَّكَاةِ، وَخُمْسِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى وَاجِدِهِ، وَلِأَنَّهُ فَيْءٌ، فَجَازَ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ بَعْضِهِ عَلَى وَاجِدِهِ، كَخَرَاجِ الْأَرْضِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. [مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَعْدِنِ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ] [الْفَصْل الْأَوَّل فِي صِفَةِ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ] (1906) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَخْرَجَ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، أَوْ مِنْ الْوَرِقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ مِنْ الزِّئْبَقِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ وَقْتِهِ) اشْتِقَاقُ الْمَعْدِنِ مِنْ عَدَنَ فِي الْمَكَانِ، يَعْدِنُ: إذَا أَقَامَ بِهِ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَنَّةَ عَدْنٍ، لِأَنَّهَا دَارُ إقَامَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وَخُلُودٍ. قَالَ أَحْمَدُ: الْمَعَادِنُ: هِيَ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ، لَيْسَ هُوَ شَيْءٌ دُفِنَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: (1907) أَحَدُهَا، فِي صِفَةِ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ. وَهُوَ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ، مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، كَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْحَدِيدِ، وَالْيَاقُوتِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالْبِلَّوْرِ، وَالْعَقِيقِ، وَالسَّبَجِ، وَالْكُحْلِ، وَالزَّاجِّ. وَالزِّرْنِيخِ، وَالْمَغْرَةِ. وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ، كَالْقَارِ، وَالنِّفْطِ، وَالْكِبْرِيتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ إلَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ.» وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُقَوَّمُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَرْضِ، أَشْبَهَ الطِّينَ الْأَحْمَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِكُلِّ مَا يَنْطَبِعُ، كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، دُونَ غَيْرِهِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَلِأَنَّهُ مَعْدِنٌ، فَتَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمْسُهُ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ. وَأَمَّا الطِّينُ فَلَيْسَ بِمَعْدِنٍ؛ لِأَنَّهُ تُرَابٌ. وَالْمَعْدِنُ: مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ وَصِفَتِهِ] (1908) الْفَصْلُ الثَّانِي، فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَصِفَتِهِ، وَقَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ. وَصِفَتُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَاجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ، وَهُوَ فَيْءٌ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ زَكَاةٌ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَدْرِهِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجَّ مِنْ أَوْجَبَ الْخُمْسَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ، وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا كَانَ فِي الْخَرَابِ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» . وَرَوَى سَعِيدٌ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرِّكَازُ هُوَ الذَّهَبُ الَّذِي يَنْبُتُ مِنْ الْأَرْضِ» . وَفِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرِّكَازُ؟ قَالَ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ» . وَهَذَا نَصٌّ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي السُّيُوبِ الْخُمْسُ» . قَالَ: وَالسُّيُوبُ عُرُوقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، أَشْبَهَ الرِّكَازَ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ فِي نَاحِيَةِ الْفَرْعِ، قَالَ: فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ» . وَقَدْ أَسْنَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عَوْفٍ، إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ.» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْقَبَلِيَّةُ بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْحِجَازِ. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَحْرُمُ عَلَى أَغْنِيَاءِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَانَ زَكَاةً، كَالْوَاجِبِ فِي الْأَثْمَانِ الَّتِي كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ. وَحَدِيثُهُمْ الْأَوَّلُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِ عَنْ اللُّقَطَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِلُقَطَةٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُ اسْمَهَا، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَسَائِرُ أَحَادِيثِهِمْ لَا يُعْرَفُ صِحَّتُهَا، وَلَا هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْمَسَانِيدِ وَالدَّوَاوِينِ. ثُمَّ هِيَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالرِّكَازِ. وَالسُّيُوبُ: هُوَ الرِّكَازُ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّيْبِ، وَهُوَ الْعَطَاءُ الْجَزِيلُ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي نِصَابِ الْمَعَادِنِ] (1909) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي نِصَابِ الْمَعَادِنِ وَهُوَ مَا يَبْلُغُ مِنْ الذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَمِنْ الْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخُمْسَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ؛ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ نِصَابٌ كَالرِّكَازِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ.» وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ، حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا» . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرِكَازٍ، وَأَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلرِّكَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرِّكَازَ مَالُ كَافِرٍ أُخِذَ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ الْغَنِيمَةَ. وَهَذَا وَجَبَ مُوَاسَاةً وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى، فَاعْتُبِرَ لَهُ النِّصَابُ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ الْحَوْلُ؛ لِحُصُولِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةٍ، فَأَشْبَهَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إخْرَاجُ النِّصَابِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ دَفَعَاتٍ، لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بَيْنَهُنَّ تَرْكَ إهْمَالٍ، فَإِنْ خَرَجَ دُونَ النِّصَابِ، ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ مُهْمِلًا لَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ دُونَ النِّصَابِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِمَا وَإِنْ بَلَغَا بِمَجْمُوعِهِمَا نِصَابًا. وَإِنْ بَلَغَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا دُونَ الْآخَرِ، زَكَّى النِّصَابَ، وَلَا زَكَاةَ فِي الْآخَرِ. وَفِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ. فَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ لَيْلًا، أَوْ لِلِاسْتِرَاحَةِ، أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ لِإِصْلَاحِ الْأَدَاةِ، أَوْ إبَاقِ عَبِيدِهِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْعَمَلِ، وَيُضَمُّ مَا خَرَجَ فِي الْعَمَلَيْنِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِي إكْمَالِ النِّصَابِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعَمَلِ، فَخَرَجَ بَيْنَ الْمَعْدِنَيْنِ تُرَابٌ، لَا شَيْءَ فِيهِ. وَإِنْ اشْتَمَلَ الْمَعْدِنُ عَلَى أَجْنَاسٍ، كَمَعْدِنٍ فِيهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. فَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 النِّصَابُ فِي الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَاسٌ، فَلَا يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَغَيْرِ الْمَعْدِنِ. وَالصَّوَابُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْدِنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَفِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخِرِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي غَيْرِ الْمَعْدِنِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَجْنَاسٌ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي قِيمَتِهَا، وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ، فَأَشْبَهَتْ عُرُوضَ التِّجَارَةِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَحَدُ النَّقْدَيْنِ، وَجِنْسٌ آخَرُ، ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، كَمَا تُضَمُّ الْعُرُوض إلَى الْأَثْمَانِ. وَإِنْ اسْتَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ مَعْدِنَيْنِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَشْبَهَ الزَّرْعَ فِي مَكَانَيْنِ. [الْفَصْلُ الرَّابِعِ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ لِإِخْرَاجِ زَكَاة الْمَعَادِنِ] (1910) الْفَصْلُ الرَّابِعِ، فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ حِينَ يَتَنَاوَلُهُ وَيَكْمُلُ نِصَابُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا شَيْءَ فِي الْمَعْدِنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَرْضِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ حَوْلٌ، كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالرِّكَازِ، وَلِأَنَّ الْحَوْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ هَذَا لِتَكْمِيلِ النَّمَاءِ، وَهُوَ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ كَالزُّرُوعِ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، فَيُخَصُّ مَحَلُّ النِّزَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ إلَّا بَعْدَ سَبْكِهِ، وَتَصْفِيَتِهِ، كَعُشْرِ الْحَبِّ، فَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ تُرَابِهِ قَبْلَ تَصْفِيَتِهِ، وَجَبَ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا. وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، فَإِنْ صَفَّاهُ الْآخِذُ، فَكَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ، أَجْزَأَ، وَإِنْ زَادَ رَدَّ الزِّيَادَةَ، إلَّا أَنْ يَسْمَحَ لَهُ الْمُخْرِجُ. وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَى الْمُخْرِجِ. وَمَا أَنْفَقَهُ الْآخِذُ عَلَى تَصْفِيَتِهِ، فَهُوَ مِنْ مَالِهِ، لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ وَلَا يَحْتَسِبُ الْمَالِكُ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْمَعْدِنِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَعْدِنِ، وَلَا فِي تَصْفِيَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَلْزَمُهُ الْمُؤْنَةُ مِنْ حَقِّهِ. وَشَبَّهَهُ بِالْغَنِيمَةِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ هَذَا رِكَازٌ فِيهِ الْخُمْسُ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا زَكَاةٌ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِمُؤْنَةِ اسْتِخْرَاجِهِ فَتَصْفِيَتِهِ كَالْحَبِّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ احْتَسَبَ بِهِ، كَمَا يَحْتَسِبُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ. [فَصْلُ لَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِ] (1911) فَصْلٌ: وَلَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ، كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَعْدِنٍ، فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ مَعْدِنِ الْبَرِّ. وَيُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَنْبَرِ الْخُمْسَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ. وَزَادَ الزُّهْرِيُّ فِي اللُّؤْلُؤِ يُخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ. قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ شَيْءٌ، إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ. وَعَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ. رَوَاهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ. وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ، فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْهُ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَعْدِنِ الْبَرِّ؛ لِأَنَّ الْعَنْبَرَ إنَّمَا يُلْقِيه الْبَحْرُ، فَيُوجَدُ مُلْقًى فِي الْبَرِّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاحَاتِ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْبَرِّ، كَالْمَنِّ وَالزَّنْجَبِيلِ، وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا السَّمَكُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ بِحَالٍ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّةً، إلَّا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ. وَقَالَ: لَيْسَ النَّاسُ عَلَى هَذَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَعْمَلُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ كَصَيْدِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى الْوُجُوبِ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهَا فِيهِ. [فَصْل الْمَعَادِنُ الْجَامِدَةُ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا] (1912) فَصَلِّ: وَالْمَعَادِنُ الْجَامِدَةُ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، فَهِيَ كَالتُّرَابِ وَالْأَحْجَارِ الثَّابِتَةِ، بِخِلَافِ الرِّكَازِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، قَالَ: «أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَرْضَ كَذَا، مِنْ مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَبَلٍ أَوْ مَعْدِنٍ. قَالَ: فَبَاعَ بَنُو بِلَالٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْضًا، فَخَرَجَ فِيهَا مَعْدِنَانِ، فَقَالُوا: إنَّمَا بِعْنَاكَ أَرْضَ حَرْثٍ، وَلَمْ نَبِعْكَ الْمَعْدِنَ. وَجَاءُوا بِكِتَابِ الْقَطِيعَةِ الَّتِي قَطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِيهِمْ فِي جَرِيدَةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ عُمَرُ يَمْسَحُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ لِقَيِّمِهِ: اُنْظُرْ مَا اسْتَخْرَجْت مِنْهَا، وَمَا أَنْفَقْت عَلَيْهَا، فَقَاصِّهِمْ بِالنَّفَقَةِ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ الْفَضْلَ.» فَعَلَى هَذَا مَا يَجِدُهُ فِي مِلْكٍ أَوْ فِي مَوَاتٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ إلَى مَعْدِنٍ فِي مَوَاتٍ، فَالسَّابِقُ أَوْلَى بِهِ مَا دَامَ يَعْمَلُ، فَإِذَا تَرَكَهُ جَازَ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ فِيهِ. وَمَا يَجِدُهُ فِي مَمْلُوكٍ يَعْرِفُ مَالِكَهُ، فَهُوَ لِمَالِكِ الْمَكَانِ. فَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ، فَهِيَ مُبَاحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ دُخُولُ مِلْكِ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا: تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ نَمَائِهَا وَتَوَابِعِهَا، فَكَانَتْ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، كَفُرُوعِ الشَّجَرِ الْمَمْلُوكِ وَثَمَرَتِهِ. [فَصْلُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَالصَّاغَةِ] (1913) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَالصَّاغَةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِجِنْسِهِ إنْ كَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا. وَالزَّكَاةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَقَدْ رَوَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ اشْتَرَى تُرَابَ مَعْدِنٍ بِمِائَةِ شَاةٍ مُتْبِعٍ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ثَمَنَ أَلْفِ شَاةٍ. فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: رُدَّ عَلَيَّ الْبَيْعَ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ: لَآتِيَنَّ عَلِيًّا فَلَآتِيَنَّ عَلَيْكَ - يَعْنِي أَسْعَى بِكَ - فَأَتَى عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: إنَّ أَبَا الْحَارِثِ أَصَابَ مَعْدِنًا. فَأَتَاهُ عَلِيٌّ. فَقَالَ: أَيْنَ الرِّكَازُ الَّذِي أَصَبْت؟ فَقَالَ مَا أَصَبْت رِكَازًا، إنَّمَا أَصَابَهُ هَذَا، فَاشْتَرَيْته مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ مُتْبِعٍ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ مَا أَرَى الْخُمْسَ إلَّا عَلَيْكَ. قَالَ: فَخَمْسُ الْمِائَةِ شَاةٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَعْدِنِ، لَا زَكَاةُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الْمَعْدِنِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ حَوْلِهَا، أَوْ الزَّرْعَ أَوْ الثَّمَرَةَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. [فَصْلُ أَجَّرَ دَارِهِ فَقَبَضَ كَرَّاهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ] (1914) فَصْلٌ: وَمِنْ أَجَرَ دَارِهِ، فَقَبَضَ كِرَاهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُزَكِّيه إذَا اسْتَفَادَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَأَشْبَهَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَجَرَ دَارِهِ سَنَةً، وَقَبَضَ أُجْرَتَهَا فِي آخِرِهَا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا زَكَاتَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ، فَصَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، إذَا قَبَضَهَا بَعْدَ حَوْلٍ زَكَّاهَا حِينَ يَقْبِضُهَا، فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ عَلَى مُقَيَّدِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 [بَابُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ] ِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التِّجَارَةُ الزَّكَاةَ، إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَدَاوُد، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» . وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ.» وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ» . قَالَهُ بِالزَّايِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي عَيْنِهِ، وَثَبَتَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي قِيمَتِهِ. وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَمَاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ، فَقَالَ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ. فَقُلْت: مَا لِي مَالٌ إلَّا جِعَابٌ وَأَدْمٌ. فَقَالَ: قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا وَلَمْ تُنْكَرْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَخَبَرُهُمْ الْمُرَادُ بِهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ، لَا زَكَاةُ الْقِيمَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، عَلَى أَنَّ خَبَرَهُمْ عَامٌّ وَخَبَرَنَا خَاصٌّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. [مَسْأَلَةُ الْعُرُوض إذَا كَانَتْ لِتِجَارَةِ] (1915) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْعُرُوضُ إذَا كَانَتْ لِتِجَارَةٍ قَوَّمَهَا إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، وَزَكَّاهَا الْعُرُوض: جَمْعُ عَرْضٍ. وَهُوَ غَيْرُ الْأَثْمَانِ مِنْ الْمَالِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَسَائِرِ الْمَالِ. فَمِنْ مَلَكَ عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ، فَحَالَ عَلَيْهِ حَوْلٌ، وَهُوَ نِصَابٌ، قَوَّمَهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، فَمَا بَلَغَ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَهُوَ رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهِ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ فِي كُلِّ حَوْلٍ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُزَكِّيه إلَّا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ الْمَالُ عَيْنًا فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالْحَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ عَيْنًا. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَنْقُصْ عَنْ النِّصَابِ، وَلَمْ تَتَبَدَّلْ صِفَتُهُ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، كَمَا لَوْ نَقَصَ فِي أَوَّلِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلُهُ عَيْنًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَإِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ، بِعَرْضٍ لِلْقُنْيَةِ، جَرَى فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ اشْتَرَاهُ. [فَصْلُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ قِيمَةِ الْعُرُوضِ دُونَ عَيْنِهَا] (1916) فَصْلٌ: وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ قِيمَةِ الْعُرُوضِ دُونَ عَيْنِهَا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي آخَرَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ مِنْ قِيمَتِهَا، وَبَيْنَ الْإِخْرَاجِ مِنْ عَيْنِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَنَّهَا مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَجَازَ إخْرَاجُهَا مِنْ عَيْنِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلَنَا أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْقِيمَةِ؛ فَكَانَتْ الزَّكَاةُ مِنْهَا كَالْعَيْنِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ. [فَصْلُ لَا يَصِيرُ الْعَرْضُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ] فَصْلٌ: وَلَا يَصِيرُ الْعَرْضُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا أَنْ يَمْلِكَهُ بِفِعْلِهِ، كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْغَنِيمَةِ، وَاكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الزَّكَاةِ بِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَالصَّوْمِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ، أَشْبَهَ الْمَوْرُوثَ. وَالثَّانِي، أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ، وَقَصَدَ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْقُنْيَةُ، وَالتِّجَارَةُ عَارِضٌ، فَلَمْ يَصِرْ إلَيْهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى الْحَاضِرُ السَّفَرَ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِدُونِ الْفِعْلِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْعَرْضَ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ؛ «لِقَوْلِ سَمُرَةَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّ لِلْبَيْعِ.» ، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِفِعْلِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٌ، بَلْ مَتَى نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ صَارَ لِلتِّجَارَةِ. [مَسْأَلَةُ لَا يَعْتَبِرُ الْحَوْلُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَالُ نِصَابًا] (1918) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَتْ لَهُ سِلْعَةٌ لِلتِّجَارَةِ، وَلَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، وَقِيمَتُهَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، مِنْ يَوْمِ سَاوَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابًا، فَلَوْ مَلَكَ سِلْعَةً قِيمَتُهَا دُونَ النِّصَابِ، فَمَضَى نِصْفُ الْحَوْلِ وَهِيَ كَذَلِكَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَةُ النَّمَاءِ بِهَا أَوْ تَغَيَّرَتْ الْأَسْعَارِ فَبَلَغَتْ نِصَابًا، أَوْ بَاعَهَا بِنِصَابٍ، أَوْ مَلَكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ عَرْضًا آخَرَ، أَوْ أَثْمَانًا تَمَّ بِهَا النِّصَابُ، ابْتَدَأَ الْحَوْلَ مِنْ حِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَلَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ نِصَابًا، فَنَقَصَ عَنْ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، ثُمَّ زَادَ حَتَّى بَلَغَ نِصَابًا، اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ انْقَطَعَ بِنَقْصِهِ فِي أَثْنَائِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَا دُونَ النِّصَابِ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِهِ نِصَابًا زَكَّاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ دُونَ وَسَطِهِ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 لِأَنَّ التَّقْوِيمَ يَسْبِقُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَعُفِيَ عَنْهُ إلَّا فِي آخِرِهِ، فَصَارَ الِاعْتِبَارُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْرَفَ قِيمَتُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِيَعْلَمَ أَنَّ قِيمَتَهُ فِيهِ تَبْلُغُ نِصَابًا وَذَلِكَ يَشُقُّ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُعْتَبَرُ لَهَا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ: يَشُقُّ التَّقْوِيمُ لَا يَصِحُّ. فَإِنَّ غَيْرَ الْمُقَارِبِ لِلنِّصَابِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيمٍ، لِظُهُورِ مَعْرِفَتِهِ، وَالْمُقَارِبُ لِلنِّصَابِ إنْ سَهُلَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ، وَإِلَّا فَلَهُ الْأَدَاءُ. وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، كَالْمُسْتَفَادِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ إنَّ سَهُلَ عَلَيْهِ ضَبْطُ مَوَاقِيتِ التَّمَلُّكِ، وَإِلَّا فَلَهُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ مَعَ الْأَصْلِ. [فَصْلُ مَلَكَ نُصُبًا لِلتِّجَارَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ] (1919) فَصْلٌ: وَإِذَا مَلَكَ نُصُبًا لِلتِّجَارَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَمْ يَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ. وَإِنْ كَانَ الْعَرْضُ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِنِصَابٍ وَكَمَلَ بِالثَّانِي نِصَابًا، فَحَوْلُهُمَا مِنْ حِينِ مَلَكَ الثَّانِي، وَنَمَاؤُهُمَا تَابِعٌ لَهُمَا، وَلَا يُضَمُّ الثَّالِثُ إلَيْهِمَا، بَلْ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ نِصَابًا، وَلِهَذَا يُخْرِجُ عَنْهُ بِالْحِصَّةِ، وَنَمَاؤُهُ تَابِعٌ لَهُ [مَسْأَلَةُ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْعُرُوضِ وَقِيمَتُهَا بِالْفِضَّةِ نِصَابٌ وَلَا تَبْلُغُ نِصَابًا بِالذَّهَبِ] (1920) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَتُقَوَّمُ السِّلَعُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ بِالْأَحُظِّ لِلْمَسَاكِينِ، مِنْ عَيْنٍ أَوْ وَرِقٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا اُشْتُرِيت بِهِ يَعْنِي إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْعُرُوضِ وَقِيمَتُهَا بِالْفِضَّةِ نِصَابٌ، وَلَا تَبْلُغُ نِصَابًا بِالذَّهَبِ قَوَّمْنَاهَا بِالْفِضَّةِ؛ لِيَحْصُلَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهَا حَظٌّ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بِالْفِضَّةِ دُونَ النِّصَابِ وَبِالذَّهَبِ تَبْلُغُ نِصَابًا، قَوَّمْنَاهَا بِالذَّهَبِ؛ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاؤُهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عُرُوضٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقَوَّمُ بِمَا اشْتَرَاهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الْعَرُوضِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَتُعْتَبَرُ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا. وَلَنَا أَنَّ قِيمَتَهُ بَلَغَتْ نِصَابًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ وَفِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ مُسْتَعْمَلَانِ، تَبْلُغُ قِيمَةُ الْعُرُوضِ بِأَحَدِهِمَا نِصَابًا، وَلِأَنَّ تَقْوِيمَهُ لِحَظِّ الْمَسَاكِينِ، فَيُعْتَبَرُ مَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ كَالْأَصْلِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِ بِالنَّقْدِ شَيْئًا، فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي عَيْنِهِ، لَا فِي قِيمَتِهِ، بِخِلَافِ الْعَرْضِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْدُ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ بِالنَّقْدِ الْآخَرِ نِصَابًا، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بِعَيْنِهِ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ مَالُ تِجَارَةٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ كَالْعُرُوضِ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْعَرُوضِ نِصَابًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَنَيْنِ، قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ قِيمَتِهِ مِنْ أَيِّ النَّقْدَيْنِ شَاءَ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّقْدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ أَحْظُ لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَعْمَلَيْنِ أَخْرَجَ مِنْ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِذَلِكَ، فَإِنْ تَسَاوَيَا أَخْرَجَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَإِذَا بَاعَ الْعُرُوضَ بِنَقْدٍ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ، قَوَّمَ النَّقْدَ دُونَ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَوِّمُ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ دُونَ غَيْرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 [فَصْلُ اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بِنِصَابٍ مِنْ الْأَثْمَانِ أَوْ بِمَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ] (1921) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ، بِنِصَابٍ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ بِمَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، بَنَى حَوْلَ الثَّانِي عَلَى الْحَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِقِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ هِيَ: الْأَثْمَانُ نَفْسُهَا، وَكَمَا إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً فَخَفِيَتْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَأَقْرَضَهُ، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُهُ بِذَلِكَ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا بَاعَ الْعَرْضَ بِنِصَابٍ أَوْ بِعَرْضٍ قِيمَتُهُ نِصَابٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ كَانَتْ خَفِيَّةً، فَظَهَرَتْ، أَوْ بَقِيَتْ عَلَى خَفَائِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُ قَرْضٌ فَاسْتَوْفَاهُ، أَوْ أَقْرَضَهُ إنْسَانًا آخَرَ، وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي الْغَالِبِ فِي التِّجَارَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّقْلِيبِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْحَوْلَ لَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَجْلِهِ يَمْنَعُهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا فِي مَالٍ نَامٍ. وَإِنْ قَصَدَ بِالْأَثْمَانِ غَيْرَ التِّجَارَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْقَطِعُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ، فَانْقَطَعَ الْحَوْلُ بِالْبَيْعِ بِهِ، كَالسَّائِمَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِهَا، فَلَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ بِبَيْعِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ، وَفَارَقَ السَّائِمَةَ، فَإِنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْقِيمَةِ، فَأَمَّا إنْ أَبْدَلَ عَرْضَ التِّجَارَةِ بِمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ كَالسَّائِمَةِ، وَلَمْ يَنْوِ بِهِ التِّجَارَةَ، لَمْ يَبْنِ حَوْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ. وَإِنْ أَبْدَلَهُ بِعَرْضٍ لِلْقُنْيَةِ، بَطَلَ الْحَوْلُ. وَإِنْ اشْتَرَى عَرْضَ التِّجَارَةِ بِعَرْضِ الْقُنْيَةِ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ إنْ كَانَ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَمْ يُمْكِنْ بِنَاءُ الْحَوْلِ عَلَيْهِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِنِصَابٍ مِنْ السَّائِمَةِ، لَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ تَصِيرُ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ لِأَنَّ مُضِيَّ الْحَوْلِ عَلَى نِصَابٍ كَامِلٍ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ. [فَصْلُ اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ نِصَابًا مِنْ السَّائِمَةِ] فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ نِصَابًا مِنْ السَّائِمَةِ، فَحَالَ الْحَوْلُ، وَالسَّوْمُ وَنِيَّةُ التِّجَارَةِ مَوْجُودَانِ، زَكَّاهُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ السَّوْمِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا، وَاخْتِصَاصِهَا بِالْعَيْنِ، فَكَانَتْ أَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ بِالْحِسَابِ، وَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَنْ النِّصَابِ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، فَيَجِبُ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِالسَّوْمِ نِصَابًا، وَإِنْ سَبَقَ وَقْتُ وُجُوبِ زَكَاةِ السَّوْمِ وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، مِثْلُ أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ قِيمَتُهَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ صَارَتْ قِيمَتُهَا فِي نِصْفِ الْحَوْلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَتَأَخَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِلَّا يُفْضِي التَّأْخِيرُ إلَى سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا إذَا تَمَّ حَوْلُ التِّجَارَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ الْعَيْنِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ التِّجَارَةِ، وَجَبَتْ زَكَاةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 الزَّائِدِ عَنْ النِّصَابِ؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهَا، لِأَنَّ هَذَا مَالٌ لِلتِّجَارَةِ، حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ وَهُوَ نِصَابٌ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الزَّكَاتَيْنِ بِكَمَالِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إيجَابِ زَكَاتَيْنِ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ، بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُثْنِي فِي الصَّدَقَةِ» . وَفَارَقَ هَذَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةَ الْفِطْرِ، فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّهُمَا بِسَبَبَيْنِ، فَإِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ، تَجِبُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ طُهْرَةً لَهُ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ تَجِبُ عَنْ قِيمَتِهِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى وَمُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ. فَأَمَّا إنْ وُجِدَ نِصَابُ السَّوْمِ دُونَ نِصَابِ التِّجَارَةِ، مِثْلُ أَنْ يَمْلِكَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ تَجِبُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهَا مُعَارِضٌ، فَوَجَبَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. [فَصْلُ اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ أَرْضًا لِلتِّجَارَةِ فَزُرِعَتْ الْأَرْضُ وَأَثْمَرَتْ النَّخْلُ فَاتَّفَقَ حَوْلَاهُمَا] (1923) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ أَرْضًا لِلتِّجَارَةِ، فَزُرِعَتْ الْأَرْضُ وَأَثْمَرَتْ النَّخْلُ، فَاتَّفَقَ حَوْلَاهُمَا، بِأَنْ يَكُونَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثَّمَرَةِ وَاشْتِدَادُ الْحَبِّ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ بِمُفْرَدِهَا نِصَابًا لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ يُزَكِّي الثَّمَرَةَ وَالْحَبَّ زَكَاةَ الْعُشْرِ، وَيُزَكِّي الْجَمِيعَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: يُزَكِّي الْجَمِيعَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ تِجَارَةٍ، فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، كَالسَّائِمَةِ. وَلَنَا، أَنَّ زَكَاةَ الْعُشْرِ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْعُشْرَ أَحَظُّ مِنْ رُبْعِ الْعُشْرِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا فِيهِ الْحَظُّ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى رُبْعِ الْعُشْرِ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ، وَفَارَقَ السَّائِمَةَ الْمُعَدَّةَ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّ زَكَاةَ السَّوْمِ أَقَلُّ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ. [مَسْأَلَةُ إذَا نَوَى بِعَرْضِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ] (1924) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ، ثُمَّ نَوَاهَا لِلِاقْتِنَاءِ، ثُمَّ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبِيعَهَا، وَيَسْتَقْبِلَ بِثَمَنِهَا حَوْلًا. لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ إذَا نَوَى بِعَرْضِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ، أَنَّهُ يَصِيرُ لِلْقُنْيَةِ، وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لَا يَسْقُطُ حُكْمُ التِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالسَّائِمَةِ الْعَلْفَ. وَلَنَا، أَنَّ الْقُنْيَةَ الْأَصْلُ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ إلَى الْأَصْلِ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالْحُلِيِّ التِّجَارَةَ، أَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ، فَإِذَا نَوَى الْقُنْيَةَ زَالَتْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ، فَفَاتَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَفَارَقَ السَّائِمَةَ إذَا نَوَى عَلْفَهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْإِسَامَةُ دُونَ نِيَّتِهَا، فَلَا يَنْتَفِي الْوُجُوبُ إلَّا بِانْتِفَاءِ السَّوْمِ. وَإِذَا صَارَ الْعَرْضُ لِلْقُنْيَةِ بِنِيَّتِهَا، فَنَوَى بِهِ التِّجَارَةَ، لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. وَحَكَوْهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، لِقَوْلِهِ: فِي مِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ سِنِينَ لَا يُرِيدُ بِهَا التِّجَارَةَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ التِّجَارَةَ فَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يُزَكِّيَهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْقُنْيَةِ بِمُجَرَّدِهَا كَافِيَةٌ، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يُغَلَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ احْتِيَاطًا، وَلِأَنَّهُ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ، فَاعْتُبِرَ كَالتَّقْوِيمِ، وَلِأَنَّ سَمُرَةَ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ.» وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ نَوَى حَالَ الْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَثْبُتُ لَهُ الْحُكْمُ بِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ، لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالْمَعْلُوفَةِ السَّوْمَ، وَلِأَنَّ الْقُنْيَةَ الْأَصْلُ، وَالتِّجَارَةُ فَرْعٌ عَلَيْهَا، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَالْمُقِيمِ يَنْوِي السَّفَرَ، وَبِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَوَى الْقُنْيَةَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا إلَى الْأَصْلِ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ. فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى بِمَالِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ، انْقَطَعَ حَوْلُهُ، ثُمَّ إذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبِيعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ بِثَمَنِهِ حَوْلًا. [فَصْلُ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ نِصْفَ حَوْلٍ فَنَوَى بِهَا الْإِسَامَةَ وَقَطَعَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ] (1925) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ نِصْفَ حَوْلٍ، فَنَوَى بِهَا الْإِسَامَةَ، وَقَطَعَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ، انْقَطَعَ حَوْلُ التِّجَارَةِ، وَاسْتَأْنَفَ حَوْلًا. كَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ حَوْلَ التِّجَارَةِ انْقَطَعَ بِنِيَّةِ الِاقْتِنَاءِ، وَحَوْلُ السَّوْمِ لَا يَنْبَنِي عَلَى حَوْلِ التِّجَارَةِ. وَالْأَشْبَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ سَائِمَةً مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا عِنْدَ تَمَامِهِ. وَهَذَا يُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ إِسْحَاقَ، لِأَنَّ السَّوْمَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجِدَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ خَالِيًا عَنْ مُعَارِضٍ، فَوَجَبَتْ بِهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَتْ السَّائِمَةُ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ. [مَسْأَلَةُ كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ فَاتَّجَرَ فِيهِ فَنَمَا] (1926) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ، فَاتَّجَرَ فِيهِ، فَنَمَا، أَدَّى زَكَاةَ الْأَصْلِ مَعَ النَّمَاءِ، إذَا حَالَ الْحَوْلُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَوْلَ النَّمَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فِي الْمِلْكِ، فَتَبِعَهُ فِي الْحَوْلِ، كَالسِّخَالِ وَالنِّتَاجِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بَنَى حَوْلَ كُلِّ مُسْتَفَادٍ عَلَى حَوْلِ جِنْسِهِ نَمَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ نَضَّتْ الْفَائِدَةُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَبْنِ حَوْلَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 عَلَى حَوْلِ النِّصَابِ، وَاسْتَأْنَفَ لَهَا حَوْلًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.» وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ تَامَّةٌ لَمْ تَتَوَلَّدْ مِمَّا عِنْدَهُ، فَلَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِ الرِّبْحِ. وَإِنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِنِصَابٍ، فَزَادَتْ قِيمَتُهَا عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ، فَإِنَّهُ يَضُمُّ الْفَائِدَةَ، وَيُزَكِّي عَنْ الْجَمِيعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ السِّلْعَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، فَإِنَّهُ يُزَكِّي عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ عَنْ النِّصَابِ، وَيَسْتَأْنِفُ لِلزِّيَادَةِ حَوْلًا. وَلَنَا، أَنَّهُ نَمَاءٌ جَارٍ فِي الْحَوْلِ، تَابِعٌ لِأَصْلِهِ فِي الْمِلْكِ، فَكَانَ مَضْمُومًا إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ، كَالنِّتَاجِ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَنِضَّ، وَلِأَنَّهُ ثَمَنُ عَرْضٍ تَجِبُ زَكَاةُ بَعْضِهِ، وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَيُضَمُّ إلَيْهِ بَعْدَهُ كَبَعْضِ النِّصَابِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَرْضًا زَكَّى جَمِيعَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا نَضَّ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَحَقِّقًا، وَلِأَنَّ هَذَا الرِّبْحَ كَانَ تَابِعًا لِلْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنِضَّ، فَبِنَضِّهِ لَا يَتَغَيَّرُ حَوْلُهُ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَقَالٌ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالنِّتَاجِ، وَبِمَا لَمْ يَنِضَّ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ. [فَصْلُ اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ مَا لَيْسَ بِنِصَابٍ فَنَمَا حَتَّى صَارَ نِصَابًا] (1927) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ مَا لَيْسَ بِنِصَابٍ، فَنَمَا حَتَّى صَارَ نِصَابًا، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينَ صَارَ نِصَابًا. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، فَاتَّجَرَ فِيهَا، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقَدْ بَلَغَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، يُزَكِّيهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ نَقَصَ فِي آخِرِهِ. [فَصْلُ اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ شِقْصًا بِأَلْفِ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ] (1928) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ شِقْصًا بِأَلْفٍ، فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ جَاءَ الشَّفِيعُ أَخَذَهُ بِأَلْفٍ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ لَا بِالْقِيمَةِ، وَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ الشَّفِيعُ، لَكِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْبَائِعِ أَلْفًا. وَلَوْ انْعَكَسَتْ الْمَسْأَلَةُ، فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ، وَحَالَ الْحَوْلُ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَلْفٍ، وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ إنْ أَخَذَهُ، وَيَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا الثَّمَنُ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ. (1929) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا مُضَارَبَةً، عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ صَارَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ حَوْلُهُ حَوْلُ أَصْلِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 زَكَاةُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ، وَالرِّبْحُ نَمَاءُ مَالِهِ. وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ لَهُ، وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُضَارِبِ الْمُطَالَبَةَ بِهَا، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ دَفْعَ حِصَّتِهِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَالِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ زَكَاةُ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَقُولُ: حِصَّتُكَ أَيُّهَا الْعَامِلُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَسْلَمَ فَتَكُونَ لَك، أَوْ تَتْلَفَ فَلَا تَكُونُ لِي وَلَا لَكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيَّ زَكَاةُ مَا لَيْسَ لِي بِوَجْهِ مَا، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ. قُلْنَا: لَكِنَّهُ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، كَمَا لَوْ وَهَبَ نَتَاجَ سَائِمَتِهِ لِغَيْرِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، فَكَانَ مِنْهُ، كَمُؤْنَةِ حَمْلِهِ، وَيَحْسُبُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْعَامِلُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي حِصَّتِهِ حَتَّى يَقْتَسِمَا، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا مِنْ حِينَئِذٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَابْنِ مَنْصُورٍ. فَقَالَ: إذَا احْتَسَبَا يُزَكِّي الْمُضَارِبُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ احْتَسَبَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَالَهُ فِي الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ إذَا اتَّضَعَ بَعْدَ ذَاكَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. يَعْنِي إذَا اقْتَسَمَا. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْغَالِبِ تَكُونُ عِنْدَ الْمُحَاسَبَةِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: إنَّ اتَّضَعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَسَبُ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ ظُهُورِ الرِّبْحِ. يَعْنِي إذَا كَمَّلَ نِصَابًا. إلَّا عَلَى قَوْلِ مِنْ قَالَ: إنَّ الشَّرِكَةَ تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ، قَالَ: وَلَا يَجِبُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِظُهُورِهِ، فَإِذَا مَلَكَهُ جَرَى فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ فِي الْمَالِ الضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ وَالدَّيْنِ عَلَى مُمَاطِلٍ الزَّكَاةَ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ إلَى مِلْكِ يَدِهِ مَظْنُونًا، كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا، أَنَّ مِلْكَ الْمُضَارِبِ غَيْرُ تَامٍّ، لِأَنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ تَنْقُصَ قِيمَةَ الْأَصْلِ أَوْ يَخْسَرَ فِيهِ، وَهَذَا وِقَايَةٌ لَهُ، وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ، كَمَالِ الْمُكَاتَبِ، يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكًا تَامًّا لَاخْتَصَّ بِرِبْحِهِ، فَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَشَرَةً فَاتَّجَرَ فِيهِ فَرَبِحَ عِشْرِينَ، ثُمَّ اتَّجَرَ فَرَبِحَ ثَلَاثِينَ، لَكَانَتْ الْخَمْسُونَ الَّتِي رَبِحَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ تَمَّ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الرِّبْحِ، لَمَلَكَ مِنْ الْعِشْرِينَ الْأُولَى عَشَرَةً، وَاخْتَصَّ بِرِبْحِهَا، وَهِيَ عَشَرَةٌ مِنْ الثَّلَاثِينَ، وَكَانَتْ الْعِشْرُونَ الْبَاقِيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ ثَلَاثِينَ، وَلِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثُونَ، كَمَا لَوْ اقْتَسَمَا الْعِشْرِينَ ثُمَّ خَلَطَاهَا. وَفَارَقَ الْمَغْصُوبَ وَالضَّالَّ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ تَامٌّ إنَّمَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَمِنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ عَلَى الْمُضَارِبِ. فَإِنَّمَا يُوجِبُهَا عَلَيْهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ تَبْلُغُ حِصَّتُهُ نِصَابًا بِمُفْرَدِهَا أَوْ بِضَمِّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ الْأَثْمَانِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ إنَّ لِلشَّرِكَةِ تَأْثِيرًا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَالدِّينِ لَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ، لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ حُكْمِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْمَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 [فَصْلُ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي إخْرَاجِ زَكَاتِهِ] (1930) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي إخْرَاجِ زَكَاتِهِ، أَوْ أَذِنَ رَجُلَانِ غَيْرُ شَرِيكَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي إخْرَاجِ زَكَاتِهِ، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ صَاحِبِهِ مَعًا، فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْعَزَلَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ عَنْ الْوَكَالَةِ، لِإِخْرَاجِ مِنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِإِخْرَاجِ صَاحِبِهِ، إذَا قُلْنَا إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ؛ قَبْلَ الْحَكَمِ بِعَزْلِ الْمُوَكَّلِ أَوْ بِمَوْتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى الْإِخْرَاجِ، وَأَمَرَهُ بِهِ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَكَانَ خَطَرُ التَّغْرِيرِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ. وَهَذَا أَحْسَنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا، إنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَعَلَى الْعَالِمِ الضَّمَانُ دُونَ الْآخَرِ. فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَهَا أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي الضَّمَانُ دُونَ الْأَوَّلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 [بَابُ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَالصَّدَقَة] ِ الصَّدَقَةُ: هِيَ الصَّدَاقُ، وَجَمْعُهَا صَدُقَاتٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] . وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الدُّيُونِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُهَا وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِاشْتِهَارِهَا بِاسْمٍ خَاصٍّ. (1931) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهِيَ الْأَثْمَانُ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي جَدِيدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ مَلَكَ نِصَابًا حَوْلًا، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، كَمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْأَمْوَالِ ": حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ، حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِ دَيْنَهُ، وَلْيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ. . قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَصْحَابُ مَالِكٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ شُجَاعٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ» . وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ، فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ.» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَلَا تُدْفَعُ إلَّا إلَى الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ فَقِيرًا، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، لِلْخَبَرِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» . وَيُخَالِفُ مَنْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ يَمْلِكُ نِصَابًا، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى، وَالْمَدِينُ مُحْتَاجٌ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَحَاجَةِ الْفَقِيرِ أَوْ أَشَدِّ، وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَعْطِيلُ حَاجَةِ الْمَالِكِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ، وَلَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْغِنَى مَا يَقْتَضِي الشُّكْرَ بِالْإِخْرَاجِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ.» [فَصْلُ زَكَاة الدِّين فِي الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةِ] (1932) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ السَّائِمَةُ، وَالْحُبُوبُ، وَالثِّمَارُ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 أَيْضًا فِيهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: يَبْتَدِئُ بِالدَّيْنِ فَيَقْضِيه، ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ إخْرَاجِ النَّفَقَةِ، فَيُزَكِّي مَا بَقِيَ، وَلَا يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ، دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، صَدَقَةٌ فِي إبِلٍ، أَوْ بَقَرٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ زَرْعٍ، وَلَا زَكَاةٌ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَسُلَيْمَانَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ، لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ، أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ اخْتَلَفَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يُخْرِجُ مَا اسْتَدَانَ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى ثَمَرَتِهِ وَأَهْلِهِ، وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ. وَقَالَ الْآخَرُ: يُخْرِجُ مَا اسْتَدَانَ عَلَى ثَمَرَتِهِ، وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ. وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ مَا أَنْفَقَ عَلَى ثَمَرَتِهِ خَاصَّةً، وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ إذَا جَاءَ فَوَجَدَ إبِلًا، أَوْ بَقَرًا، أَوْ غَنَمًا، لَمْ يَسْأَلْ أَيَّ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ الْمَالُ هَكَذَا. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، إلَّا فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فِيمَا اسْتَدَانَهُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا خَاصَّةً. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَرَاجِ: يُخْرِجُهُ، ثُمَّ يُزَكِّي مَا بَقِيَ. جَعَلَهُ كَالدَّيْنِ عَلَى الزَّرْعِ. وَقَالَ فِي الْمَاشِيَةِ الْمَرْهُونَةِ: (يُؤَدِّي مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُؤَدِّي عَنْهَا) . فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِيهَا مَعَ الدَّيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّيْنُ الَّذِي تَتَوَجَّهُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ يَمْنَعُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، إلَّا الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ. بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا لَيْسَ بِصَدَقَةٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالظَّاهِرَةِ آكَدُ، لِظُهُورِهَا وَتَعَلُّقِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ بِهَا، وَلِهَذَا يُشْرَعُ إرْسَالُ مِنْ يَأْخُذُ صَدَقَتَهَا مِنْ أَرْبَابِهَا، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ السُّعَاةَ، فَيَأْخُذُونَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَرْبَابِهَا» وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَعَلَى مَنْعِهَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ أَنَّهُمْ اسْتَكْرَهُوا أَحَدًا عَلَى صَدَقَةِ الصَّامِتِ، وَلَا طَالَبُوهُ بِهَا، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا طَوْعًا، وَلِأَنَّ السُّعَاةَ يَأْخُذُونَ زَكَاةَ مَا يَجِدُونَ، وَلَا يَسْأَلُونَ عَمَّا عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الدَّيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَكَاتَهَا، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ أَطْمَاعِ الْفُقَرَاءِ بِهَا أَكْثَرُ، وَالْحَاجَةَ إلَى حِفْظِهَا أَوْفَرُ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ فِيهَا أَوْكَدُ. [فَصْلُ اسْتِغْرَاق الدَّيْنُ نِصَابَ الزَّكَاةَ] (1933) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ، إذَا كَانَ يَسْتَغْرِقُ النِّصَابِ أَوْ يَنْقُصُهُ، وَلَا يَجِدُ مَا يَقْضِيه بِهِ سِوَى النِّصَابِ، أَوْ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَعَلَيْهِ مِثْقَالٌ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ، مِمَّا يَنْقُصُ بِهِ النِّصَابُ إذَا قَضَاهُ بِهِ، وَلَا يَجِدُ قَضَاءً لَهُ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِثْقَالًا، وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْعِشْرِينَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ. وَلَوْ أَنَّ لَهُ مِائَةً مِنْ الْغَنَمِ، وَعَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ سِتِّينَ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَرْبَعِينَ. فَإِنْ كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 عَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ إحْدَى وَسِتِّينَ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ النِّصَابَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَقْضِي مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ سَلَمًا أَوْ دِيَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْضَى بِالْإِبِلِ، جَعَلْت الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَتِهَا، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الدَّرَاهِمِ. وَإِنْ كَانَ أَتْلَفْهَا أَوْ غَصَبَهَا، جَعَلْت قِيمَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهَا تُقْضَى مِنْهَا. وَإِنْ كَانَتْ قَرْضًا، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا يُقْضَى مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ، إذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَضَلَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ تَنْقُصُ النِّصَابَ الْآخَرَ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ، لَمْ يَفْضُلْ مِنْهَا شَيْءٌ، كَرَجُلِ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ سِتٌّ مِنْ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمِائَتَيْنِ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، نَقَصَ نِصَابَ السَّائِمَةِ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ فَضَلَ مِنْهَا بَعِيرٌ، يَنْقُصُ نِصَابَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَهُ مِنْ الْإِبِلِ خَمْسٌ أَوْ أَكْثَرُ تُسَاوِي الدَّيْنَ، أَوْ تَفْضُلُ عَلَيْهِ، جَعَلْنَا الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ هَاهُنَا، وَفِي مُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ سِوَى النِّصَابِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَتِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ لَمْ يَنْقُصْ نِصَابُهَا، لِكَوْنِ الْأَرْبَعِ الزَّائِدَةِ عَنْهُ تُسَاوِي الْمِائَةَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ مِنْهَا، فَجَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ النِّصَابَانِ زَكَوِيَّيْنِ، جَعَلْت الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ مَا الْحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ فِي جَعْلِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَالْآخَرُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَرَجُلٍ عَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَعُرُوضٌ لِلْقُنْيَةِ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجْعَلُ الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْعُرُوضِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمِائَتَيْنِ زَائِدَةٍ عَنْ مَبْلَغِ دَيْنِهِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ جِنْسًا وَاحِدًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ يَجْعَلُ الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَقْضِي مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ أَلْفٌ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَهُ عُرُوضٌ بِأَلْفٍ: إنْ كَانَتْ الْعُرُوض لِلتِّجَارَةِ زَكَّاهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيُحْكَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِنْ جِنْسِهِ عِنْدَ التَّشَاحِّ، فَجَعْلُ الدَّيْنِ فِي مُقَابَلَتِهِ أَوْلَى، كَمَا لَوْ كَانَ النِّصَابَانِ زَكَوِيَّيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ هَاهُنَا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْعَرْضُ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ أَهَمُّ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُ الْقَاضِي مَحْمُولًا عَلَى مَنْ كَانَ الْعَرْضُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَالِكٌ لِنِصَابٍ فَاضِلٍ عَنْ حَاجَتِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ. فَأَمَّا إنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابَانِ زَكَوِيَّانِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَلَا يُقْضَى مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّك تَجْعَلُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا الْحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ فِي جَعْلِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ. [فَصْلُ هَلْ يَمْنَعُ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الزَّكَاة] (1934) فَصْلٌ: فَأَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَمْنَعُ الزَّكَاةَ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يَجِبُ قَضَاؤُهُ، فَهُوَ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» . وَالْآخَرُ: لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ آكَدُ مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ، فَهُوَ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَيُفَارِقُ دَيْنَ الْآدَمِيِّ، لِتَأَكُّدِهِ، وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ. فَإِنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمُعَيَّنٍ، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا حَالَ الْحَوْلُ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُخْرِجُهَا فِي النَّذْرِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ آكَدُ لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ، وَالزَّكَاةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ زَكَاتُهَا، وَتُجْزِئُهُ الصَّدَقَةُ بِهَا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الزَّكَاةَ بِقَدْرِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ صَدَقَةً تُجْزِئُهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ؛ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ صَدَقَةً، وَسَائِرُهَا يَكُونُ صَدَقَةً لِنَذْرِهِ وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ. وَإِنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِبَعْضِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَوْ أَكْثَرَ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يُخْرِجُ الْمَنْذُورَ، وَيَنْوِي الزَّكَاةَ بِقَدْرِهَا مِنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ، يَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الزَّكَاةِ وَتَمَامِ شَرْطِهِ، فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، لِكَوْنِ الْمَحِلِّ مُتَّسِعًا لَهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَجَبَ قَدْرُ الزَّكَاةِ، وَدَخَلَ النَّذْرُ فِيهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ يَجِبُ إخْرَاجُهُمَا جَمِيعًا. [فَصْلُ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ] (1935) فَصْلٌ: إذَا قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ. فَحَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، لَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا بَعْدَ الْحَجْرِ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَائِهَا، كَمَا لَوْ تَلِفَ مَالُهُ. فَإِنْ أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ. أَوْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجُوهَا فَعَلَيْهِمْ إثْمُهَا. [فَصْلُ إذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُعَدُّ لِلتِّجَارَةِ جِنَايَةً] فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُعَدُّ لِلتِّجَارَةِ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ، مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ، إنْ كَانَ يَنْقُصُ النِّصَابَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ النِّصَابُ، مَنَعَ الزَّكَاةَ فِي قَدْرِ مَا يُقَابِلُ الْأَرْشَ. [مَسْأَلَةُ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ] (1937) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَيُؤَدِّي لِمَا مَضَى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، دَيْنٌ عَلَى مُعْتَرِفٍ بِهِ بَاذِلٍ لَهُ، فَعَلَى صَاحِبِهِ زَكَاتُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَيُؤَدِّي لِمَا مَضَى، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَجَابِرٌ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلَزِمَهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ، كَالْوَدِيعَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَامٍ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، كَعُرُوضِ الْقُنْيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَبِي الزِّنَادِ: يُزَكِّيه إذَا قَبَضَهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِخْرَاجُ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمُوَاسَاةِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حِفْظِهِ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ، وَإِنَّمَا يُزَكِّيه لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ جَاحِدٍ، أَوْ مُمَاطِلٍ بِهِ. فَهَذَا هَلْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَشْبَهَ مَالَ الْمُكَاتَبِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُزَكِّيه إذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الدَّيْنِ الْمَظْنُونِ، قَالَ: إنْ كَانَ صَادِقًا، فَلْيُزَكِّهِ إذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَاهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمَلِيءِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ يُزَكِّيه إذَا قَبَضَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَى فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَوْ سُقُوطِهَا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْغَرِيمِ يَجْحَدُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، أَوْ فِيهِمَا. (1938) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَصِحُّ مِنْ الْمُؤَجَّلِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، لَكِنْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِي الْحَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 [فَصْلُ الدَّار الْمُؤَجَّرَة إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ] (1939) فَصْلٌ: وَلَوْ أَجَرَ دَارِهِ سَنَتَيْنِ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا، مَلَكَ الْأُجْرَةَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ جَمِيعِهَا إذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكْرِي عَلَيْهِ تَامٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً كَانَ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَوْنُهَا بِعَرَضِ الرُّجُوعِ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا فَهِيَ كَالدِّينِ، مُعَجَّلًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُزَكِّيهَا حَتَّى يَقْبِضَهَا، وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. وَهَذَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، فِي مَنْ قَبَضَ مِنْ أَجْرِ عَقَارٍ نِصَابًا، يُزَكِّيه فِي الْحَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِهِ. [فَصْلُ اشْتَرَى شَيْئًا بِعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَسْلَمَ نِصَابًا فِي شَيْءٍ فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ] (1940) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعِشْرِينَ دِينَارًا، أَوْ أَسْلَمَ نِصَابًا فِي شَيْءٍ، فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، أَوْ يَقْبِضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَالْعَقْدُ بَاقٍ، فَعَلَى الْبَائِعِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ زَكَاةُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فِيهِ، فَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِتَلَفِ الْمَبِيعِ، أَوْ تَعَذَّرَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ، وَزَكَاتُهُ عَلَى الْبَائِعِ. [فَصْلُ الْغَنِيمَةُ يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ] (1941) فَصْلٌ: وَالْغَنِيمَةُ يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالْأَثْمَانِ وَالسَّائِمَةِ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهَا نِصَابٌ، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ إذَا انْقَضَى الْحَوْلُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الدِّينِ عَلَى الْمَلِيءِ. وَإِذَا كَانَ دُونَ النِّصَابِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا تَبْلُغُ النِّصَابَ، فَتَكُونَ خُلْطَةً، وَلَا تُضَمُّ إلَى الْخُمْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ أَجْنَاسًا، كَإِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً بِحُكْمِ، فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْمَالِ شَاءَ، فَمَا تَمَّ مِلْكُهُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ. [مَسْأَلَةُ زَكَّاهُ الْمَال الْمَغْصُوبِ] (1942) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا غُصِبَ مَالًا، زَكَّاهُ إذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ: لَيْسَ هُوَ كَالدَّيْنِ الَّذِي مَتَى قَبَضَهُ زَكَّاهُ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُزَكِّيَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 قَوْلُهُ: إذَا غُصِبَ مَالًا. أَيْ إذَا غُصِبَ الرَّجُلُ مَالًا، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ الْمَرْفُوعُ مُسْتَتِرٌ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَالُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ نَصِيبُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَإِذَا غُصِبَ مَالَهُ. وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَالْحُكْمُ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَالْمَجْحُودِ وَالضَّالِّ وَاحِدٌ، وَفِي جَمِيعِهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا زَكَاةَ فِيهِ. نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ، وَالْمَيْمُونِيُّ. وَمَتَى عَادَ صَارَ كَالْمُسْتَفَادِ، يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَصَارَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ، كَمَالِ الْمُكَاتَبِ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَيْهِ زَكَاتُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهِ تَامٌّ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ، كَمَا لَوْ نَسِيَ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَهُ، أَوْ كَمَا لَوْ أُسِرَ، أَوْ حُبِسَ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ الزَّكَاةُ عَنْ حَوْلٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، يَمْنَعُ، كَنَقْصِ النِّصَابِ. [فَصْلُ كَانَ الْمَغْصُوبُ سَائِمَةً مَعْلُوفَةً عِنْدَ صَاحِبِهَا وَغَاصِبِهَا] (1943) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ سَائِمَةً، مَعْلُوفَةً عِنْدَ صَاحِبِهَا وَغَاصِبِهَا، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِفِقْدَانِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَهُمَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِوُجُوبِهَا فِي الْمَغْصُوبِ. وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ صَاحِبِهَا، سَائِمَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَ بِإِسَامَتِهَا، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ رَعَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسِيمَهَا. وَالثَّانِي، عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ السَّوْمَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَالِكِ فَأَوْجَبَهَا مِنْ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَهُمَا، وَكَمَا لَوْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ وَجَبَ الْعُشْرُ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا مَعْلُوفَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِفِقْدَانِ الشَّرْطِ، وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا لِأَنَّ الْعَلَفَ مُحَرَّمٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ غَصَبَ أَثْمَانًا فَصَاغَهَا حُلِيًّا لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهَا بِصِيَاغَتِهِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْعَلَفَ إنَّمَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَهَا هُنَا لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ وَلَنَا: أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ، كَنَقْصِ النِّصَابِ وَالْمِلْكِ وَقَوْلُهُ: إنَّ الْعَلَفَ مُحَرَّمٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ الْغَصْبُ وَإِنَّمَا الْعَلَفُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مَالِهِ بِإِطْعَامِهَا إيَّاهُ، وَلَا تَحْرِيمَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ عَلَفَهَا عِنْدَ مَالِكِهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ خِفَّةِ الْمُؤْنَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْخِفَّةَ لَا تُعْتَبَرُ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ بِمُظِنِّهَا، وَهِيَ السَّوْمُ ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرَاهُ بِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 إذَا كَانَتْ مَعْلُوفَةٍ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي بِمَا إذَا عَلَفَهَا مَالِكُهَا عَلَفًا مُحَرَّمًا أَوْ أَتْلَفَ شَاةً مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ وَتَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ وَأَمَّا إذَا غَصَبَ ذَهَبًا فَصَاغَهُ حُلِيًّا، فَلَا يُشْبِهُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، فَإِنَّ الْعَلَفَ فَاتَ بِهِ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالصِّيَاغَةُ لَمْ يَفُتْ بِهَا شَيْءٌ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا مُسْقِطَةً بِشَرْطِ كَوْنِهَا مُبَاحَةً فَإِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْإِسْقَاطِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَوْ عَلَفَهَا عَلَفًا مُحَرَّمًا لَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ وَلَوْ صَاغَهَا صِيَاغَةً مُحَرَّمَةً لَمْ تَسْقُطْ فَافْتَرَقَا، وَلَوْ غَصَبَ حُلِيًّا مُبَاحًا فَكَسَرَهُ أَوْ ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلزَّكَاةِ زَالَ. فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مَعْلُوفَةً فَأَسَامَهَا وَلَوْ غَصَبَ عُرُوضًا فَاتَّجَرَ فِيهَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ لِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ شَرْطٌ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْ الْمَالِكِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ مَالِكِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ النِّيَّةِ شَرْطٌ وَلَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ بِهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ مَالِكِهَا، وَاسْتَدَامَ النِّيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِغَصْبِهَا وَإِنْ نَوَى بِهَا الْغَاصِبُ الْقُنْيَةَ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي يَدِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَتَلَفِهِ [فَصْلُ ضَلَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ النِّصَابِ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ غُصِبَتْ فَنَقَصَ النِّصَابُ] (1944) فَصْلٌ إذَا ضَلَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ النِّصَابِ أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ غُصِبَتْ فَنَقَصَ النِّصَابُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ ضَلَّ جَمِيعُهُ أَوْ غُصِبَ لَكِنْ إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَعَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ عَنْ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ. وَإِذَا رَجَعَ الضَّالُّ أَوْ الْمَغْصُوبُ أَخْرَجَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ رَجَعَ جَمِيعُهُ. [فَصْلُ إنْ أُسِرَ الْمَالِكُ لِلزَّكَاةِ] (1945) فَصْلٌ وَإِنْ أُسِرَ الْمَالِكُ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ أَوْ لَمْ يُحَلْ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ نَافِذٌ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَوْكِيلُهُ فِيهِ [فَصْلُ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ حَالَ عَلَى مَالِهِ الْحَوْلُ] (1946) فَصْلٌ: وَإِنْ ارْتَدَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ حَالَ عَلَى مَالِهِ الْحَوْلُ فَإِنَّ الْمَالَ لَهُ وَلَا يُزَكِّيه حَتَّى يَسْتَأْنِفَ بِهِ الْحَوْلَ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، فَأَمَّا إنَّ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَسْقُطُ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةَ فَسَقَطَتْ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلَاةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وَلَنَا: أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَسْقُطُ أَيْضًا، لَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَإِذَا عَادَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ وَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ وَكَذَا هَاهُنَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَخْذِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِأَخْذِهَا كَمَا تَسْقُطُ بِأَخْذِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، فَلَا تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَأَصْلُ هَذَا مَا لَوْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا. وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ نَائِبِ الْإِمَامِ وَإِنْ أَدَّاهَا فِي حَالِ رِدَّتِهِ لَمْ تُجْزِهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ [مَسْأَلَةُ اللُّقَطَةُ إذَا صَارَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ كَسَائِرِ مَالِ الْمُلْتَقِطِ] (1947) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَاللَّقْطَةُ إذَا صَارَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ كَسَائِرِ مَالِ الْمُلْتَقِطِ، اسْتَقْبَلَ بِهَا حَوْلًا ثُمَّ زَكَّاهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا زَكَّاهَا لِلْحَوْلِ الَّذِي كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَمْنُوعًا مِنْهَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ اللُّقَطَةَ تُمْلَكُ بِمُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا حَتَّى يَخْتَارَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى مَلَكَهَا اسْتَأْنَفَ حَوْلًا فَإِذَا مَضَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا وَحَكَى الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا مَلَكَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، أَوْ قِيمَتُهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلِيَّةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فَمَنَعَ الزَّكَاةَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ عَلَيْهَا، وَلِصَاحِبِهَا أَخْذُهَا مِنْهُ مَتَى وَجَدَهَا. وَالْمَذْهَبُ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يُفْضِي إلَى ثُبُوتِ مُعَاوَضَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَلَا اخْتِيَارِهِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: يَبْطُلُ بِمَا وَهَبَهُ الْأَبُ لِوَلَدِهِ، وَبِنِصْفِ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ لَهُمَا اسْتِرْجَاعَهُ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَأَمَّا رَبُّهَا إذَا جَاءَ فَأَخَذَهَا، فَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُزَكِّيهَا لِلْحَوْلِ الَّذِي كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَمْنُوعًا مِنْهَا، وَهُوَ حَوْلُ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الضَّالِّ رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ. وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا مِثْلُ مَنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى مُلْتَقِطِهَا، وَإِذَا جَاءَ رَبُّهَا زَكَّاهَا لِلزَّمَانِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا إذَا كَانَتْ مَاشِيَةً بِشَرْطِ كَوْنِهَا سَائِمَةً عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ، فَإِنْ عَلَفَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَغْصُوبِ [مَسْأَلَةُ الْمَرْأَةُ إذَا قَبَضَتْ صَدَاقَهَا زَكَّتْهُ] (1948) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَالْمَرْأَةُ إذَا قَبَضَتْ صَدَاقَهَا زَكَّتْهُ لِمَا مَضَى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الصَّدَاقَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنٌ لِلْمَرْأَةِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الدُّيُونِ، عَلَى مَا مَضَى إنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بِهِ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِيهِ، إذَا قَبَضَتْهُ أَدَّتْ لِمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ جَاحِدٍ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَاخْتَارَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الْخِرَقِيِّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ كَثَمَنِ مَبِيعِهَا، فَإِنْ سَقَطَ نِصْفُهُ بِطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَخَذَتْ النِّصْفَ، فَعَلَيْهَا زَكَاةُ مَا قَبَضَتْهُ، دُونَ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَمْ تَتَعَوَّضْ عَنْهُ، وَلَمْ تَقْبِضْهُ، فَأَشْبَهَ مَا تَعَذَّرَ قَبْضُهُ لِفَلَسٍ أَوْ جَحْدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ كُلُّ الصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ، لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهَا زَكَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ دَيْنٍ يَسْقُطُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِ صَاحِبِهِ، أَوْ يَئِسَ صَاحِبُهُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَالْمَالُ الضَّالُّ إذَا يَئِسَ مِنْهُ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ، فَلَا تَلْزَمُ الْمُوَاسَاةُ إلَّا مِمَّا حَصَلَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ نِصَابًا، فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ سَقَطَ نِصْفُهُ، وَقَبَضَتْ النِّصْفَ، فَعَلَيْهَا زَكَاةُ النِّصْفِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِيهِ، ثُمَّ سَقَطَتْ مِنْ نِصْفِهِ لِمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ، فَاخْتَصَّ السُّقُوطُ بِهِ. وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ قَبْلَ قَبْضِهِ، ثُمَّ قَبَضَتْهُ كُلَّهُ، زَكَّتْهُ لِذَلِكَ الْحَوْلِ. وَإِنْ مَضَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ قَبْلَ قَبْضِهِ، ثُمَّ قَبَضَتْهُ، زَكَّتْهُ لِمَا مَضَى كُلِّهِ، مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ النِّصَابِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَدَيْنِ الْكِتَابَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، وَيُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى أَدَائِهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَيُفَارِقُ دَيْنَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، وَلِلْمُكَاتَبِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَائِهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مَالٍ. [فَصْلُ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ فَزَكَّتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ] (1949) فَصْلُ فَإِنْ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ، فَزَكَّتْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ فِيهَا بِنِصْفِهِ، وَكَانَتْ الزَّكَاةُ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْكُلُّ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَ الْبَعْضُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ تَلِفَ كُلُّهُ فَإِنَّهُ مَا أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، وَالزَّكَاةُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، لَكِنْ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَقْسِمَانِهِ، ثُمَّ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ حِصَّتِهَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَلَكَ النِّصْفَ مُشَاعًا، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ نِصْفَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ مُشَاعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 [فَصْلُ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَأَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ] (1950) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا، فَأَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، عَلَيْهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَتْهُ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، زَكَاتُهُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا مُلِّكَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَمَا ذَكَرْنَا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْهُ، ثُمَّ لَوْ مَلَكَ فِي الْحَالِ لَمْ يَقْتَضِ هَذَا وُجُوبَ زَكَاةِ مَا مَضَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجِ، وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَقْبِضْ الدَّيْنَ، فَلَمْ تَلْزَمْهَا زَكَاتُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِغَيْرِ إسْقَاطِهَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا قَبَضَتْهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهَا بِحَالٍ. وَكُلُّ دَيْنٍ عَلَى إنْسَانٍ أَبْرَأَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّدَاقِ فِيمَا ذَكَرْنَا قَالَ أَحْمَدُ: إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا، وَقَدْ مَضَى لَهُ عَشْرُ سِنِينَ، فَإِنَّ زَكَاتَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كَانَ لَهَا. وَإِذَا وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ مَالًا، فَحَالَ الْحَوْلُ، ثُمَّ ارْتَجَعَهُ الْوَاهِبُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهُ، فَإِنْ ارْتَجَعَهُ فَالزَّكَاةُ عَلَى الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ. وَقَالَ فِي رَجُلٍ بَاعَ شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِهِ، فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي دَرَاهِمُ فَأَقِلْنِي، فَأَقَالَهُ، قَالَ: عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ حَوْلًا. [مَسْأَلَةُ زَكَاة الْمَاشِيَةُ إذَا بِيعَتْ بِالْخِيَارِ] (1951) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَالْمَاشِيَةُ إذَا بِيعَتْ بِالْخِيَارِ، فَلَمْ يَنْقَضِ الْخِيَارُ حَتَّى رُدَّتْ، اسْتَقْبَلَ بِهَا الْبَائِعُ حَوْلًا، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُشْتَرِي عَقِيبَهُ، وَلَا يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَقِلُ إنْ كَانَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ مُرَاعًى، فَإِنْ فَسَخَاهُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ، وَإِنْ أَمْضَيَاهُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ انْتَقَلَ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ فَنُقِلَ الْمِلْكُ عَقِيبَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ زَكَائِيًّا انْقَطَعَ الْحَوْلُ بِبَيْعِهِ، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ، فَإِنْ اسْتَرَدَّهُ أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ حَدَثَ بَعْدَ زَوَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ حَوْلًا كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ فَسَخَا الْبَيْعَ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ بِخِيَارِهِ؛ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ أَيْضًا، فَهُوَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ. وَلَوْ مَضَى الْحَوْلُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 ثُمَّ فَسَخَا الْبَيْعَ، كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ. وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ بِحَالِهِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْهُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْمُخْرَجِ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ وَكَانَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ، فَفِطْرَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، هِيَ عَلَى الْبَائِعِ، إنْ كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ مِلْكَهُ وَلِأَنَّهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 [بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] ِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ تُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرْضٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: هُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَدَاوُد، يَقُولُونَ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.» وَعَنْهُ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] : هُوَ زَكَاةُ الْفِطْرِ. وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الزَّكَاةُ إلَى الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَقِيلَ لَهَا فِطْرَةٌ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ الْخِلْقَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] أَيْ جِبِلَّتَهُ الَّتِي جَبَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ يُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ عَنْ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ كَمَا كَانَتْ الْأُولَى صَدَقَةً عَنْ الْمَالِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَهَلْ تُسَمَّى فَرْضًا مَعَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فَرْضٌ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ» . وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ إنْ كَانَ الْوَاجِبَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبَ الْمُتَأَكِّدَ فَهِيَ مُتَأَكِّدَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ] (1952) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَعَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَامَّةً، وَتَجِبُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَيُخْرِجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ مَالِهِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا، إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، قَالَ لَيْسَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ صَامَ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَعَلَى الرَّقِيقِ. وَعُمُومُ قَوْلِهِ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ» يَقْتَضِي وُجُوبَهَا عَلَى الْيَتِيمِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ (1953) فَصْلُ وَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي الْحُرِّ الْبَالِغِ وَقَالَ إمَامُنَا، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا، وَلَا عَلَى الصَّغِيرِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُخْرِجَ الْفِطْرَةَ عَنْ عَبْدِهِ الذِّمِّيِّ وَقَالَ. أَبُو حَنِيفَةَ: يُخْرِجُ عَنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ إذَا ارْتَدَّ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ، نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» . وَلِأَنَّ كُلَّ زَكَاةٍ وَجَبَتْ بِسَبَبِ عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ، وَجَبَتْ بِسَبَبِ عَبْدِهِ الْكَافِرِ، كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمِنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» . إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ وَجَامِعُو السُّنَنِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِهِمْ. وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ تَجِبُ عَنْ الْقِيمَةِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ طُهْرَةٌ لِلْبَدَنِ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِهَا الْآدَمِيُّونَ، بِخِلَافِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ [فَصْلُ لَا صَدَقَةَ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ] (1954) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لِكَافِرٍ عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى الْكَافِرِ إخْرَاجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْهُ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ زَكَاةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ، كَزَكَاةِ الْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ الْفِطْرَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ سَيِّدِهِ مُسْلِمًا، وَقَوْلُهُ: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَبْدٌ كَافِرٌ لَمْ يَجِبْ فِطْرَتُهُ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ كُلَّ عَبْدٍ وَصَغِيرٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، لَا الْمُؤَدِّي، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 [مَسْأَلَةُ مِقْدَار زَكَاةِ الْفِطْر] (1955) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ، لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْمُخْرَجِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ يُجْزِئُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْبُرِّ خَاصَّةً. وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، فَرُوِيَ صَاعٌ، وَرُوِيَ نِصْفُ صَاعٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، صَاعٌ، وَالْأُخْرَى نِصْفُ صَاعٍ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَاعٌ مِنْ قَمْحٍ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُنَادِيًا فِي فِجَاجِ مَكَّةَ: أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ سِوَاهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: «كَانَتْ الصَّدَقَةُ تُدْفَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ.» وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ذَكَرَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، فَحَضَّ عَلَيْهَا وَقَالَ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى» وَلَنَا: مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ، الْمَدِينَةَ، فَتَكَلَّمَ فَكَانَ مِمَّا كَلَّمَ النَّاسَ: أَنِّي لَأَرَى، مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَا أَزَالَ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ فَعَدَلَ النَّاسُ إلَى نِصْفِ صَاعٍ، مِنْ بُرٍّ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يُخْرَجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَكَانَ قَدْرُهُ صَاعًا كَسَائِرِ الْأَجْنَاسِ. وَأَحَادِيثُهُمْ لَا تَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحَدِيثُ ثَعْلَبَةَ تَفَرَّدَ بِهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ يَهِمُ كَثِيرًا، وَهُوَ صَدُوقٌ فِي الْأَصْلِ. وَقَالَ مُهَنَّا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ذَكَرْت لِأَحْمَدَ حَدِيثَ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ، يَرْوِيه مَعْمَرُ بْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. قُلْت مِنْ قِبَلِ مَنْ هَذَا؟ قَالَ مِنْ قِبَلِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، لَيْسَ هُوَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ. وَضَعَّفَ حَدِيثَ ابْنَ أَبِي صُعَيْرٍ وَسَأَلْته عَنْ ابْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، أَمَعْرُوفٌ هُوَ؟ قَالَ: مَنْ يَعْرِفُ ابْنَ أَبِي صُعَيْرٍ لَيْسَ هُوَ بِمَعْرُوفٍ وَذَكَرَ أَحْمَدُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، ابْنَ أَبِي صُعَيْرٍ فَضَعَّفَاهُ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ دُونَ الزُّهْرِيِّ مَنْ يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ النُّعْمَانِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ قَالَ بُرٍّ، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.» وَهَذَا حُجَّةٌ لَنَا، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: وَالنِّصْفُ صَاعٍ، ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِوَايَتُهُ لَيْسَ تَثْبُتُ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَمُعَاضَدَةً لِلْقِيَاسِ [فَصْلُ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ] (1956) فَصْلُ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فِيمَا مَضَى وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكَيْلُ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِالْوَزْنِ لِيُحْفَظَ وَيُنْقَلَ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الصَّاعُ وَزَنْتُهُ فَوَجَدْتُهُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا حِنْطَةً. وَقَالَ حَنْبَلٌ. قَالَ أَحْمَدُ: أَخَذْت الصَّاعَ مِنْ أَبِي النَّضْرِ. وَقَالَ أَبُو النَّضِرِ: أَخَذْته عَنْ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ وَقَالَ: هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ، فَعَيَّرْنَا بِهِ، وَهُوَ أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ يُكَالُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوْضِعِهِ، فَكِلْنَا بِهِ، ثُمَّ وَزَنَّاهُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. وَقَالَ هَذَا أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، وَمَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا مِنْ الْبَرّ وَالْعَدَسِ، وَهُمَا مِنْ أَثْقَلِ الْحُبُوبِ، فَمَا عَدَاهُمَا مِنْ أَجْنَاسِ الْفِطْرَةِ أَخَفُّ مِنْهُمَا، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا، فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ صَاعٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ أَخْرَجَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بُرًّا، لَمْ يُجْزِهِ. لِأَنَّ الْبُرَّ يَخْتَلِفُ، فَيَكُونُ فِيهِ الثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُخْرِجَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مِمَّا سَوَاءٌ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ، وَهُوَ الزَّبِيبُ وَالْمَاشُ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِمَّا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ، حَتَّى يَزِيدَ شَيْئًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ صَاعًا. وَالْأَوْلَى لِمَنْ أَخْرَجَ مِنْ الثَّقِيلِ بِالْوَزْنِ أَنْ يَحْتَاطَ، فَيَزِيدَ شَيْئًا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ لِمَنْ أَخْرَجَ صَاعًا بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ، الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ مُدٌّ وَسُبْعٌ، وَالسُّبْعُ أُوقِيَّةٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ، وَقَدْرُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيُجْزِئُ إخْرَاجُ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ الصَّاعِ، وَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 رَأَيْت مُدًّا ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مُدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُدِّرَ الْمُدُّ الدِّمَشْقِيُّ بِهِ، فَكَانَ الْمُدُّ الدِّمَشْقِيُّ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةِ أَمْدَادٍ [مَسْأَلَةُ زَكَاة الْفِطْر مِنْ غَالِبِ قُوت الْبَلَدِ] (1957) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ وَثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ يَعْنِي عِنْدَ عَدَمِ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، يُجْزِئُهُ كُلُّ مُقْتَاتٍ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْمُقْتَاتُ مِنْ غَيْرِهَا، كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُجْزِئُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا الْإِخْرَاجُ مِمَّا يَقْتَاتُهُ، كَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، وَلُحُومِ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ، وَلَا يَرُدُّونَ إلَى أَقْرَبِ قُوتِ الْأَمْصَارِ [مَسْأَلَةُ وُجُوبِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ صَاعًا] (1958) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَإِنْ أَعْطَى أَهْلُ الْبَادِيَةِ الْأَقِطَ صَاعًا، أَجْزَأَ إذَا كَانَ قُوتَهُمْ، أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُوجِبُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ: لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ. وَلَنَا، عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ كَغَيْرِهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إخْرَاجُ الْأَقِطِ إذَا كَانَ قُوتَهُمْ. وَكَذَلِكَ مِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا سِوَاهُ. فَأَمَّا مَنْ وَجَدَ سِوَاهُ فَهَلْ يُجْزِئُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ أَيْضًا؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ.» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَالثَّانِيَة، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ جِنْسٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، فَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا كَاللَّحْمِ. وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ هُوَ قُوتٌ لَهُ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ قُوتًا لَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُ إخْرَاجِهِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُفَرِّقْ. وَقَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ: كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَقْتَاتُهُ غَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُجْزِئُ إخْرَاجُ الْأَقِطِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا سِوَاهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَذَكَرِ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا عَدِمَ الْأَقِطَ، وَقُلْنَا لَهُ إخْرَاجُهُ، جَازَ إخْرَاجُ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ الْأَقِطِ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ الْأَقِطُ وَغَيْرُهُ. وَحَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ، عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُرٌّ وَلَا شَعِيرٌ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ لَبَنٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ اللَّبَنُ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ. وَقَدْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى حَالَةِ الْعَدَمِ. وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ الْأَقِطِ، لَجَازَ إخْرَاجُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّ الْأَقِطَ أَكْمَلُ مِنْ اللَّبَنِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ حَالَةَ الِادِّخَارِ وَهُوَ جَامِدٌ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ، لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُ اللَّبَنِ حُكْمَ اللَّحْمِ، يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ. وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ وَمَا أَشْبَهَهُ [مَسْأَلَةُ إخْرَاجُ التَّمْرِ فِي صَدَقَة الْفِطْر] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَاخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إخْرَاجُ التَّمْرِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ إخْرَاجَ الْعَجْوَةِ مِنْهُ. وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ إخْرَاجَ الْبُرِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبُرَّ كَانَ أَغْلَى فِي وَقْتِهِ وَمَكَانِهِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُخْرِجَ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسَهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ، فَقَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَحْمَدُ إخْرَاجَ التَّمْر اقْتِدَاءً بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعًا لَهُ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ، وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ» قَالَ: إنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنَّ أَسْلُكَهُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمْرَ فَأَحَبَّ ابْنُ عُمَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، وَسُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ، وَأَحَبَّ أَحْمَدُ، أَيْضًا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاتِّبَاعَهُمْ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ صَاعًا مِنْ بُرٍّ.» فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْرِجُ التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا. وَلِأَنَّ التَّمْرَ فِيهِ قُوَّةٌ وَحَلَاوَةٌ وَهُوَ أَقْرَبُ تَنَاوُلًا وَأَقَلُّ كُلْفَةً، فَكَانَ أَوْلَى (1960) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّمْرِ الْبُرُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْأَفْضَلُ بَعْدَهُ الزَّبِيبُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ تَنَاوُلًا وَأَقَلُّ كُلْفَةً فَأَشْبَهَ التَّمْرَ. وَلَنَا، أَنَّ الْبُرَّ أَنْفَعُ فِي الِاقْتِيَاتِ، وَأَبْلَغُ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ لِابْنِ عُمَرَ: الْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ. يَعْنِي أَنْفَعُ وَأَكْثَرُ قِيمَةً. وَلَمْ يُنْكِرْهُ ابْنُ عُمَرَ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِهِ، وَسُلُوكًا لِطَرِيقَتِهِمْ. وَلِهَذَا عَدَلَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ بِصَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ. فَأَخَذَ النَّاسُ بِهِ، وَتَفْضِيلُ التَّمْرِ إنَّمَا كَانَ لِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي تَفْضِيلِ الْبُرِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّمْرِ مَا كَانَ أَعْلَى قِيمَةً وَأَكْثَرَ نَفْعًا [مَسْأَلَةُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَجْنَاسًا مَعْدُودَةً لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا] (1961) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّمْرِ، أَوْ الزَّبِيبِ، أَوْ الْبُرِّ، أَوْ الشَّعِيرِ، أَوْ الْأَقِطِ فَأَخْرَجَ غَيْرَهُ لَمْ يُجْزِهِ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدُولُ إلَيْهِ قُوتَ بَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَتَوَجَّهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْخَمْسَةِ، عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَالطَّعَامُ قَدْ يَكُونُ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَمَا دَخَلَ فِي الْكَيْلِ. قَالَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمَلٌ، وَأَقْيَسُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُ الْخَمْسَةِ، إلَّا أَنْ يَعْدَمَهَا، فَيُعْطِيَ مَا قَامَ مَقَامَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرِجُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَيُّ قُوتٍ كَانَ الْأَغْلَبَ عَلَى الرَّجُلِ، أَدَّى الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ؛ فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ بُقُولِ مَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الِاعْتِبَارُ بِغَالِبِ قُوتِ الْمُخْرِجِ، ثُمَّ إنْ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَى أَعْلَى مِنْهُ، جَازَ، وَإِنْ عَدَلَ إلَى دُونِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اغْنُوهُمْ عَنْ الطَّلَبِ» وَالْغِنَى يَحْصُلُ بِالْقُوتِ وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَى أَدْنَى مِنْهُ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ إلَى أَدْنَى مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَجْنَاسًا مَعْدُودَةً، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجْنَاسِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْفَرْضَ تَفْسِيرٌ لِلْمَفْرُوضِ، فَمَا أُضِيفَ إلَى الْمُفَسَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ مَفْرُوضَةً فَيَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ غَيْرَهَا عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجْزِ، كَإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَكَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ زَكَاةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ؛ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْإِغْنَاءِ بِأَدَاءِ أَحَدِ الْأَجْنَاسِ الْمَفْرُوضَةِ. [فَصْلُ إخْرَاجِ السَّلْت فِي صَدَقَة الْفِطْر] (1962) فَصْلٌ: وَالسُّلْتُ نَوْعٌ مِنْ الشَّعِيرِ، فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ؛ لِدُخُولِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذِكْرِهِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ «كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ.» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ «لَمْ نُخْرِجْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ.» قَالَ: ثُمَّ شَكَّ فِيهِ سُفْيَانُ بَعْدُ، فَقَالَ «دَقِيقٍ أَوْ سُلْتٍ» . رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ. [فَصْلُ إخْرَاجُ الدَّقِيقِ فِي صَدَقَة الْفِطْر] (1963) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الدَّقِيقِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ، قَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ سَوِيقٍ أَوْ دَقِيقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهُمَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ وَلِأَنَّ مَنَافِعَهُ نَقَصَتْ فَهُوَ كَالْخُبْزِ. وَلَنَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: «أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ» وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ وَالسَّوِيقَ أَجْزَاءُ الْحَبِّ بَحْتًا يُمْكِنُ كَيْلُهُ وَادِّخَارُهُ، فَجَازَ إخْرَاجُهُ، كَمَا قَبْلَ الطَّحْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّحْنَ إنَّمَا فَرَّقَ أَجْزَاءَهُ، وَكَفَى الْفَقِيرَ مُؤْنَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَزَعَ نَوَى التَّمْرِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ. وَيُفَارِقُ الْخُبْزَ وَالْهَرِيسَةَ والكبولا؛ لِأَنَّ مَعَ أَجْزَاءِ الْحَبِّ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَالِ الِادِّخَارِ وَالْكَيْلِ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ صَاعٌ، وَهُوَ مَكِيلٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَقْتَضِ مَا ذَكَرُوهُ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. [فَصْلُ إخْرَاجُ الْخُبْزِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْر] (1964) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْكَيْلِ وَالِادِّخَارِ. وَلَا الْهَرِيسَةِ وَالْكُبُولَا وَأَشْبَاهِهِمَا؛ لِذَلِكَ، وَلَا الْخَلِّ وَلَا الدِّبْسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا قُوتًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ حَبًّا مَعِيبًا، كَالْمَسُوسِ وَالْمَبْلُولِ، وَلَا قَدِيمًا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، فَإِنْ كَانَ الْقَدِيمُ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْهُ، جَازَ إخْرَاجُهُ؛ لِعَدَمِ الْعَيْبِ فِيهِ، وَالْأَفْضَلُ إخْرَاجُ الْأَجْوَدِ. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُحِبُّ أَنْ يُنَقِّيَ الطَّعَامَ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ لِيَكُونَ عَلَى الْكَمَالِ، وَيَسْلَمَ مِمَّا يُخَالِطُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُخَالِطُ لَهُ يَأْخُذُ حَظًّا مِنْ الْمِكْيَالِ، وَكَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُعَدُّ عَيْبًا فِيهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ، جَازَ إخْرَاجُهُ إذَا زَادَ عَلَى الصَّاعِ قَدْرًا يَزِيدُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْمُخْرَجُ صَاعًا كَامِلًا [فَصْلُ إخْرَاجِ صَدَقَة الْفِطْر مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا] (1965) فَصْلٌ: وَمِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَخْرَجَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُوتًا لَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرِجُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا: أَنَّ خَبَرَ الصَّدَقَةِ وَرَدَ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، فَوَجَبَ التَّخْيِيرُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ عَدَلَ إلَى مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ عَدَلَ إلَى الْأَعْلَى، وَالْغِنَى يَحْصُلُ بِدَفْعِ قُوتٍ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ خَيَّرَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْأَقِطِ، قُوتًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ قُوتًا لِلْمُخْرِجِ. [مَسْأَلَةُ لَا تُجْزِئْ الْقِيمَة فِي صَدَقَة الْفِطْر] (1966) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ، لَمْ تُجْزِئْهُ) قَالَ أَبُو دَاوُد قِيلَ لِأَحْمَدَ وَأَنَا أَسْمَعُ: أُعْطِي دَرَاهِمَ - يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ - قَالَ: أَخَافُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ لِي أَحْمَدُ لَا يُعْطِي قِيمَتَهُ، قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَأْخُذُ بِالْقِيمَةِ، قَالَ يَدَعُونَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ قَالَ فُلَانٌ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] . وَقَالَ قَوْمٌ يَرُدُّونَ السُّنَنَ: قَالَ فُلَانٌ، قَالَ فُلَانٌ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ، فِيمَا عَدَا الْفِطْرَةَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ رَجُلٍ بَاعَ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ. قَالَ: عُشْرُهُ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ. قِيلَ لَهُ: فَيُخْرِجُ ثَمَرًا، أَوْ ثَمَنَهُ؟ قَالَ: إنْ شَاءَ أَخْرَجَ ثَمَرًا، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ مِنْ الثَّمَنِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْقِيَمِ. وَوَجْهُهُ قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِخَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، وَعَنْ طَاوُسٍ، قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ الْيَمَنَ، قَالَ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ، بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بَعْدَ اتِّحَادِ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ بِاخْتِلَافِ صُوَرِ الْأَمْوَالِ وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْمَفْرُوضَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» . وَهُوَ وَارِدٌ بَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَتَكُونُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الشَّاةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ الصَّدَقَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى، فَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَاتِ أَنَّهُ قَالَ: «هَذِهِ الصَّدَقَةُ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى. وَكَانَ فِيهِ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَيْنَهَا لِتَسْمِيَتِهِ إيَّاهَا. وَقَوْلُهُ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ.» وَلَوْ أَرَادَ الْمَالِيَّةَ أَوْ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَا تَخْلُو عَنْ مَالِيَّةِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَالِيَّةَ لَلَزِمَهُ مَالِيَّةُ بِنْتِ مَخَاضٍ، دُونَ مَالِيَّةِ ابْنِ لَبُونٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ «مُعَاذٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنْ الْغَنَمِ، وَالْبَعِيرَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرَ مِنْ الْبَقَرِ.» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَالْحَاجَاتُ مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَوَّعَ الْوَاجِبُ لِيَصِلَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، وَيَحْصُلُ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِالْمُوَاسَاةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَلِأَنَّ مُخْرِجَ الْقِيمَةِ قَدْ عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ، الَّذِي رَوَوْهُ فِي الْجِزْيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِتَفْرِيقِ الصَّدَقَةِ فِي فُقَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِحَمْلِهَا إلَى الْمَدِينَة. وَفِي حَدِيثِهِ هَذَا: فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. [مَسْأَلَةُ الْمُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ] (1967) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُخْرِجُهَا إذَا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى الْمُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ. فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» . فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ الصَّلَاةِ تَرَكَ الْأَفْضَلَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْإِغْنَاءُ عَنْ الطَّوَافِ وَالطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَمَتَى أَخَّرَهَا لَمْ يَحْصُلْ إغْنَاؤُهُمْ فِي جَمِيعِهِ، لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَمَالَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَمُوسَى بْنُ وَرْدَانَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أَخْرَجَهَا فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ مَكْرُوهًا؛ لِحُصُولِ الْغَنَاء بِهَا فِي الْيَوْمِ. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نُخْرِجَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: فَكَانَ يُؤْمَرُ أَنْ يُخْرِجَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِذَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ: أَغْنَوْهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى مَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ؛ فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 أَثِمَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، الرُّخْصَةُ فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ، وَلَمْ يُعْطِهَا. قَالَ: نَعَمْ، إذَا أَعَدَّهَا لِقَوْمٍ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى. [فَصْلُ وَقْتُ وُجُوبِ زَكَاة الْفِطْر] (1968) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَهُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَمَنْ تَزَوَّجَ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، لَمْ تَلْزَمْهُ. وَلَوْ كَانَ حِينَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا، ثُمَّ أَيْسَرَ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ أَوْ فِي يَوْمِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ مُوسِرًا، ثُمَّ أَعْسَرَ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْوُجُوبَ. وَمِنْ مَاتَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِمَا ذَكَرْنَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَمَالِكٌ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْعِيدِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْعِيدِ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُوبُهَا يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ كَالْأُضْحِيَّةِ. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» . وَلِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى الْفِطْرِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً بِهِ، كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ دَلِيلُ الِاخْتِصَاصِ، وَالسَّبَبُ أَخُصُّ بِحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأُضْحِيَّةُ لَا تَعَلَّقَ لَهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَلَا تُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَالْعَبْدُ الْمَبِيعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ وُهِبَ لَهُ عَبْدٌ فَقَبِلَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ، فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهِبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَالْفِطْرَةُ عَلَى الْمَالِكِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ وَمَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يَقْبَلْ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى غَابَتْ، فَالْفِطْرَةُ عَلَيْهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْآخَرُ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوصَى بِهِ هَلْ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ أَوْ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ؟ وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الرَّدِّ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَقَبِلَ وَرَثَتُهُ، وَقُلْنَا بِصِحَّةِ قَبُولِهِمْ، فَهَلْ تَكُونُ فِطْرَتُهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، أَوْ فِي تَرِكَةِ الْمُوصَى لَهُ؟ وَجْهَيْنِ؛ وَقَالَ الْقَاضِي: فِطْرَتُهُ فِي تَرِكَةِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الرَّدِّ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ هِلَالِ شَوَّالٍ، فَفِطْرَةُ الْعَبْدِ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إنَّمَا قَبِلُوهُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ هِلَالِ شَوَّالٍ، فَفِطْرَتُهُ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ، وَلِآخَرَ بِمَنْفَعَتِهِ، فَقَبِلَا، كَانَتْ الْفِطْرَةُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ بِالرَّقَبَةِ لَا بِالْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا نَفْعَ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ نَفَقَتِهِ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهَا عَلَى مَالِكِ نَفْعِهِ. وَالثَّانِي: عَلَى مَالِكِ رَقَبَتِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي كَسْبِهِ. [مَسْأَلَةُ تَقْدِيمُ الْفِطْرَةِ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ] (1969) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَإِنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَجْزَأَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفِطْرَةِ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ، لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانُوا يُعْطُونَهَا قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مِنْ بَعْدِ نِصْفِ الشَّهْرِ، كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ أَذَانِ الْفَجْرِ وَالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَأَشْبَهَتْ زَكَاةَ الْمَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الصَّدَقَةِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ عَنْهُ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ، جَازَ تَعْجِيلُهَا، كَزَكَاةِ الْمَالِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِهِ، فَيُقْسَمُ - قَالَ يَزِيدُ أَظُنُّ: هَذَا يَوْمَ الْفِطْرِ - وَيَقُولُ أَغْنَوْهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ". وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَمَتَى قَدَّمَهَا بِالزَّمَانِ الْكَثِيرِ لَمْ يَحْصُلْ إغْنَاؤُهُمْ بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْفِطْرُ؛ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ سَبَبُهَا مِلْكُ النِّصَابِ، وَالْمَقْصُودُ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ بِهَا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَجَازَ إخْرَاجُهَا فِي جَمِيعِهِ، وَهَذِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْإِغْنَاءُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ. فَأَمَّا تَقْدِيمُهَا بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَجَائِزٌ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ تَعْجِيلَهَا بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَبْقَى أَوْ بَعْضَهَا إلَى يَوْمِ الْعِيدِ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الطَّوَافِ وَالطَّلَبِ فِيهِ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ، فَجَازَ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا، كَزَكَاةِ الْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةُ فَرْضُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ وَعَبْدٍ] (1970) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ عِيَالِهِ، إذَا كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ. عِيَالُ الْإِنْسَانِ: مَنْ يَعُولُهُ. أَيْ يَمُونُهُ فَتَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُمْ، كَمَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ، إذَا وَجَدَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ وَعَبْدٍ، مِمَّنْ تَمُونُونَ.» وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ نَفَقَتُهُمْ وَفِطْرَتُهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الزَّوْجَاتُ، وَالْعَبِيدُ، وَالْأَقَارِبُ. فَأَمَّا الزَّوْجَاتُ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُنَّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ امْرَأَتِهِ. وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِطْرَةُ نَفْسِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى» . وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا، كَزَكَاةِ مَالِهَا. وَلَنَا، الْخَبَرُ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ، كَالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ، بِخِلَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 زَكَاةِ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تُتَحَمَّلُ بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ، فَإِنْ كَانَ لِامْرَأَتِهِ مَنْ يَخْدُمُهَا بِأُجْرَةٍ، فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَجْرُ دُونَ النَّفَقَةِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا نَظَرْت، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجِبُ لَهَا خَادِمٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا، وَلَا فِطْرَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَخْدُمَهَا، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا خَادِمًا، أَوْ يَسْتَأْجِرَ أَوْ يُنْفِقَ عَلَى خَادِمِهَا، فَإِنْ اشْتَرَى لَهَا خَادِمًا أَوْ اخْتَارَ الْإِنْفَاقَ عَلَى خَادِمِهَا فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ لَهَا خَادِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَا فِطْرَتُهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِ مُؤْنَتَهُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ إذَا كَانَتْ أُجْرَةً فَهِيَ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَإِنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ نَشَزَتْ الْمَرْأَةُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَفِطْرَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَلْزَمُهُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ عَلَيْهِ فِطْرَتَهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهَا فَلَزِمَتْهُ فِطْرَتُهَا كَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى نَفَقَةٍ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَلَا تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَفَارَقَ الْمَرِيضَةَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، لَا لِخَلَلٍ فِي الْمُقْتَضَى لَهَا، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِ تَبَعِهَا، بِخِلَافِ النَّاشِزِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا، كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا لَمْ تُسَلَّمْ إلَيْهِ، وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنْ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا وَلَا فِطْرَتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ يُمَوَّنُ. [فَصْلُ الْعَبِيدُ إنْ كَانُوا لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَعَلَى سَيِّدِهِمْ فِطْرَتُهُمْ] (1971) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، فَعَلَى سَيِّدِهِمْ فِطْرَتُهُمْ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ كَانُوا لِلتِّجَارَةِ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا فِطْرَتُهُمْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَلَا تَجِبُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ زَكَاتَانِ، وَقَدْ وَجَبَتْ فِيهِمْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ الْأُخْرَى، كَالسَّائِمَةِ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ. وَلَنَا، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ» وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ» . وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ، كَعَبِيدِ الْقُنْيَةِ. أَوْ نَقُولُ مُسْلِمٌ تَجِبُ مُؤْنَتُهُ، فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُ، كَالْأَصْلِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرَةِ تَجِبُ عَلَى الْبَدَنِ، وَلِهَذَا تَجِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 عَلَى الْأَحْرَارِ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ تَجِبُ عَنْ الْقِيمَةِ، وَهِيَ الْمَالُ بِخِلَافِ السَّوْمِ وَالتِّجَارَة، فَإِنَّهُمَا يَجِبَانِ بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ، مَتَى كَانَ عَبِيدُ التِّجَارَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ مُؤْنَتَهُمْ مِنْهَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْفِطْرَةَ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ، وَهِيَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَذَلِكَ الْفِطْرَةُ. [فَصْلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمْلُوكِهِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ الَّذِي تُعْلَمُ حَيَاتُهُ] (1972) فَصْلٌ: وَتَجِبُ فِطْرَةُ الْعَبْدِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ الَّذِي تُعْلَمُ حَيَاتُهُ، وَالْآبِقِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْمَرْهُونِ، وَالْمَغْصُوبِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمْلُوكِهِ الْحَاضِرِ غَيْرِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالْآبِقِ، وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ. فَأَمَّا الْغَائِبُ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ، سَوَاءٌ رَجَا رَجْعَتَهُ أَوْ أَيِسَ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مَحْبُوسًا كَالْأَسِيرِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ الرَّقِيقِ، غَائِبِهِمْ وَحَاضِرِهِمْ. لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُمْ، فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِينَ. وَمِمَّنْ أَوْجَبَ فِطْرَةَ الْآبِقِ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَوْجَبَهَا الزُّهْرِيُّ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَمَالِكٌ إنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً. وَلَمْ يُوجِبْهَا عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، فَلَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ كَالْمَرْأَةِ النَّاشِزِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ لَهُ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ، كَمَالِ التِّجَارَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى يَدِهِ كَزَكَاةِ الدَّيْنِ وَالْمَغْصُوبِ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ تَابِعَةً لِلنَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ مَعَ الْغَيْبَةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ رَدَّ الْآبِقَ رَجَعَ بِنَفَقَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ شُكَّ فِي حَيَاتِهِ مِنْهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ، لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ فِي كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، فَلَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ كَالْمَيِّتِ. فَإِنْ مَضَتْ عَلَيْهِ سُنُونَ، ثُمَّ عَلِمَ حَيَاتَهُ، لَزِمَهُ الْإِخْرَاجُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ بَانَ لَهُ وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ لِمَا مَضَى، كَمَا لَوْ سَمِعَ بِهَلَاكِ مَالِهِ الْغَائِبِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ سَالِمًا. وَالْحُكْمُ فِي الْقَرِيبِ الْغَائِبِ، كَالْحُكْمِ فِي الْبَعِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَجِبُ فِطْرَتُهُمْ مَعَ الْحُضُورِ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْغَيْبَةِ كَالْعَبِيدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ فِطْرَتُهُمْ مَعَ الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَعْثُ نَفَقَتهمْ إلَيْهِمْ، وَلَا يَرْجِعُونَ بِالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 (1973) فَصْلٌ: فَأَمَّا عَبِيدُ عَبِيدِهِ؛ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهُمْ بِالتَّمْلِيكِ، فَالْفِطْرَةُ عَلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهُمْ مِلْكُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَوْلُ أَبِي الزِّنَادِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَإِنْ قُلْنَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ قِيلَ: لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُمْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُهُمْ، وَمِلْكُ الْعَبْدِ نَاقِصٌ. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ فِطْرَتِهِمْ؛ لِأَنَّ فِطْرَتَهُمْ تَتْبَعُ النَّفَقَةَ، وَنَفَقَتُهُمْ وَاجِبَةٌ فَكَذَلِكَ فِطْرَتُهُمْ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا كَمَالُ الْمِلْكِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ، مَعَ نَقْصِ مِلْكِهِ. [فَصْلُ زَوْجَةُ الْعَبْدِ فِطْرَتَهَا عَلَى نَفْسِهَا] (1974) فَصْلٌ: وَأَمَّا زَوْجَةُ الْعَبْدِ فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ فِطْرَتَهَا عَلَى نَفْسِهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَعَلَى سَيِّدِهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي وُجُوبُ فِطْرَتِهَا عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ خَادِمِ امْرَأَتِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ» . وَهَذِهِ مِمَّنْ يَمُونُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِمُؤْنَةِ شَخْصٍ، لَزِمَتْهُ فِطْرَتُهُ، فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَهَكَذَا لَوْ زَوَّجَ الِابْنُ أَبَاهُ، وَكَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ امْرَأَتِهِ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلُ فِي وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ مَنْ تَبَرَّعَ بِمُؤْنَةِ إنْسَانٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ] (1975) فَصْلٌ: وَإِنْ تَبَرَّعَ بِمُؤْنَةِ إنْسَانٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَخْتَارُونَ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ. أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَنْ ضَمَّ إلَى نَفْسِهِ يَتِيمَةً يُؤَدِّي عَنْهَا؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ» . وَهَذَا مِمَّنْ يُمَوَّنُونَ، وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَلَزِمَتْهُ فِطْرَتُهُ كَعَبْدِهِ وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُنْهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَا عَلَى الْإِيجَابِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُؤْنَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ فِطْرَةُ الْآبِقِ وَلَمْ يَمُنْهُ، وَلَوْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَوْ تَزَوَّجَ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، لَزِمَتْهُ فِطْرَتُهُمْ؛ لِوُجُوبِ مُؤْنَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمُنْهُمْ، وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، أَوْ مَاتَا، أَوْ مَاتَ وَلَدُهُ، لَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُمْ، وَإِنْ مَانَهُمْ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: (مِمَّنْ تَمُونُونَ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ، فَيَقْتَضِي الْحَالَ أَوْ الِاسْتِقْبَالَ دُونَ الْمَاضِي، وَمِنْ مَانَهُ فِي رَمَضَانَ إنَّمَا وُجِدَتْ مُؤْنَتُهُ فِي الْمَاضِي، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، وَلَوْ دَخَلَ فِيهِ لَاقْتَضَى وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَى مَنْ مَانَهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يُقَيِّدُهُ بِالشَّهْرِ وَلَا بِغَيْرِهِ، فَالتَّقْيِيدُ بِمُؤْنَةِ الشَّهْرِ تَحَكُّمٌ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ فِطْرَةُ هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْمُعْتَبَرُ الْإِنْفَاقُ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ إذَا مَانَهُ آخِرَ لَيْلَةٍ، وَجَبَتْ فِطْرَتُهُ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَإِذَا مَانَهُ جَمَاعَةٌ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ، أَوْ مَانَهُ إنْسَانٌ بَعْضَ الشَّهْرِ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ هَذَا تَكُونُ فِطْرَتُهُ عَلَى مِنْ مَانَهُ آخِرَ لَيْلَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ فِطْرَتُهُ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ مَانَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ الْمُؤْنَةُ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ عَلَى الْجَمِيعِ فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي مِلْكِ عَبْدٍ. [مَسْأَلَةُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا نِصَابٌ] (1976) مَسْأَلَةٌ: قَالَ إذَا كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا نِصَابٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ عَنْ مَسْكَنِهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَالْفَقِيرُ لَا غِنَى لَهُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا. وَلَنَا مَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ قَالَ: بُرٍّ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: «صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ» . وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ، فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُوبُ النِّصَابِ فِيهِ. كَالْكَفَّارَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُعْطَى لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ، وَاَلَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ عَاجِزٌ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ [فَصْلُ لَمْ يَفْضُلْ إلَّا صَاعٌ لَيْلَة الْعِيدِ] (1977) فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ يَفْضُلْ إلَّا صَاعٌ أَخْرَجَهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَنْبَنِي عَلَى النَّفَقَةِ، فَكَمَا يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرَةِ. فَإِنْ فَضَلَ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ صِلَةٌ تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ. فَإِنْ فَضَلَ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ رَقِيقِهِ؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِمْ فِي الْإِعْسَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ الرَّقِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ فِطْرَتَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَفِطْرَتُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا. فَإِنْ فَضَلَ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَمُجْمَعٌ عَلَيْهَا. وَفِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ الْكَبِيرِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 أَحَدُهُمَا، يُقَدَّمُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ كَبَعْضِهِ. وَالثَّانِي الْوَالِدُ؛ لِأَنَّهُ كَبَعْضِ وَالِدِهِ. وَتُقَدَّمُ فِطْرَةُ الْأُمِّ عَلَى فِطْرَةِ الْأَبِ، لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ، بِدَلِيلِ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمَّكَ. قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ أُمَّك قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ أَبَاكَ» . وَلِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ عَنْ الْكَسْبِ. وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ الْأَبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . ثُمَّ بِالْجَدِّ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ فِي الْمِيرَاثِ. وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ الْوَلَدِ عَلَى فِطْرَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّدَقَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: عِنْدِي دِينَارٌ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ.» فَقَدَّمَ الْوَلَدَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ عَنْهُ. وَلِأَنَّ الْوَلَدَ كَبَعْضِهِ، فَيُقَدَّمُ كَتَقْدِيمِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا ضَيَّعَ وَلَدَهُ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَيَضِيعُ، وَالزَّوْجَةُ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لَهَا مَنْ يَمُونُهَا، مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي رَحِمٍ. وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، فَكَانَتْ أَضْعَفَ فِي اسْتِتْبَاعِ الْفِطْرَةِ مِنْ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِوَضِ الْمُقَدَّرِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَمَّنْ لَهُ الْعِوَضُ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبُ فِطْرَةُ الْأَخِيرِ الْمَشْرُوطِ لَهُ مُؤْنَتُهُ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّهَا كَمَا اقْتَضَتْ صِلَتَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، اقْتَضَتْ صِلَتَهُ بِتَطْهِيرِهِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ عَنْهُ. [فَصْلُ لَمْ يَفْضُلْ إلَّا بَعْضُ صَاعٍ لَيْلَةَ الْعِيدِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ] (1978) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ إلَّا بَعْضُ صَاعٍ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا لَا يَلْزَمُهُ. اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَهَا، كَالْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.» وَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ، فَوَجَبَ مِنْهَا مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، وَلِأَنَّ الْجُزْءَ مِنْ الصَّاعِ يُخْرَجُ عَنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَجَازَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْ غَيْرِهِ كَالصَّاعِ [فَصْلُ أَعْسَرَ بِفِطْرَةِ زَوْجَتِهِ] (1979) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْسَرَ بِفِطْرَةِ زَوْجَتِهِ، فَعَلَيْهَا فِطْرَةُ نَفْسِهَا، أَوْ عَلَى سَيِّدِهَا إنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً؛ لِأَنَّهَا تُتَحَمَّلُ إذَا كَانَ ثَمَّ مُتَحَمِّلٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَادَ إلَيْهَا، كَالنَّفَقَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ لِعُسْرَتِهِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ، كَفِطْرَةِ نَفْسِهِ. وَتُفَارِقُ النَّفَقَةَ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 آكَدُ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَتَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَالْعَاجِزِ، وَيُرْجَعُ عَلَيْهَا بِهَا عِنْدَ يَسَارِهِ، وَالْفِطْرَةُ بِخِلَافِهَا. [فَصْلُ مِنْ وَجَبَتْ فِطْرَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ إذَا أَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ] (1980) فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَبَتْ فِطْرَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، كَالْمَرْأَةِ وَالنَّسِيبِ الْفَقِيرِ، إذَا أَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِذْنِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، صَحَّ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ. وَإِنْ أَخْرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ فِطْرَتَهُ فَأَجْزَأْهُ كَاَلَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ. [فَصْلُ لَهُ دَارٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا هَلْ عَلَيْهِ زَكَاة الْفِطْر] (1981) فَصْلٌ: وَمَنْ لَهُ دَارٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِسُكْنَاهَا، أَوْ إلَى أَجْرِهَا لِنَفَقَتِهِ، أَوْ ثِيَابُ بِذْلَةٌ لَهُ، أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، أَوْ رَقِيقٌ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِمْ هُوَ أَوْ مَنْ يَمُونُهُ، أَوْ بَهَائِمُ يَحْتَاجُونَ إلَى رُكُوبِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَوَائِجِهِمْ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ سَائِمَةٌ يَحْتَاجُ إلَى نَمَائِهَا كَذَلِكَ، أَوْ بِضَاعَةٌ يَخْتَلُّ رِبْحُهَا الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ مِنْهَا، فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهُ، كَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ. وَمَنْ لَهُ كُتُبٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلنَّظَرِ فِيهَا وَالْحِفْظِ مِنْهَا، لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا. وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ لَهَا حُلِيٌّ لِلُبْسٍ أَوْ لِكِرَاءٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهَا بَيْعُهُ فِي الْفِطْرَةِ. وَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمْكَنَ بَيْعُهُ وَصَرْفُهُ فِي الْفِطْرَة وَجَبَتْ الْفِطْرَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَصْلِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَلَكَ مِنْ الطَّعَامِ مَا يُؤَدِّيه فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ. [مَسْأَلَةُ لَا تَجِبُ فِطْرَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ] (1982) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي مُكَاتَبِهِ زَكَاةٌ وَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نَفْسِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَمِمَّنْ قَالَ: لَا تَجِبُ فِطْرَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَأَوْجَبَهَا عَلَى السَّيِّدِ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ عَبِيدِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " مِمَّنْ تَمُونُونَ ". وَهَذَا لَا يَمُونُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ عَبِيدِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِطْرَةَ نَفْسِهِ، وَفِطْرَةَ مِنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ كَزَوْجَتِهِ، وَرَقِيقِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْمِلْكِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، كَالْقِنِّ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَزَكَاةِ الْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 عَبْدٌ وَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ، فَلَزِمَتْهُ فِطْرَتُهَا كَالْحُرِّ الْمُوسِرِ وَيُفَارِقُ زَكَاةَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا يُعْتَبَرُ لَهَا الْغِنَى وَالنِّصَابُ وَالْحَوْلُ، وَلَا يَحْمِلُهَا أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْفِطْرَةِ. (1983) فَصْلٌ: وَتَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ فِطْرَةُ مِنْ يَمُونُهُ كَالْحُرِّ؛ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ» [مَسْأَلَةُ فِطْرَةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَوَالِيهِ] (1984) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا مَلَكَ جَمَاعَةٌ عَبْدًا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاعًا، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، صَاعًا عَنْ الْجَمِيعِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَوَالِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ، أَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ. وَلَنَا، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ مَمْلُوكٌ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَزِمَتْهُ لِمَمْلُوكِ الْوَاحِدِ، وَفَارَقَ الْمُكَاتَبَ، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُ سَيِّدَهُ مُؤْنَتُهُ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُخْرِجُ عَنْ نَفْسِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ، بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَالْوِلَايَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، بِدَلِيلِ عَبْدِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ إنَّ وِلَايَتَهُ لِلْجَمِيعِ، فَتَكُونُ فِطْرَتُهُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَفِي إحْدَاهُمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ؛ لِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَوَجَبَ تَكْمِيلُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَى الْجَمِيعِ صَاعٌ وَاحِدٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهِ. وَهَذَا الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ فُورَانُ: رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: يُعْطِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفَ صَاعٍ. يَعْنِي رَجَعَ عَنْ إيجَابِ صَاعٍ كَامِلٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ. وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ مَنْ أَوْجَبَ فِطْرَتَهُ عَلَى سَادَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ صَاعًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ. وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُشْتَرَكِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُ تُقْسَمُ عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ فِطْرَتُهُ التَّابِعَةُ لَهَا، وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَنْهُ صِيعَانٌ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَوَجَبَتْ عَلَى سَادَتِهِ بِالْحِصَصِ، كَمَاءِ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى [فَصْلُ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ فَفِطْرَتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَيِّدِهِ] (1985) فَصْلٌ: وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ فَفِطْرَتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَيِّدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى الْحُرِّ بِحِصَّتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وَلَنَا، أَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ تَلْزَمُ فِطْرَتُهُ شَخْصَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفِطْرَةِ، فَكَانَتْ فِطْرَتُهُ عَلَيْهِمَا كَالْمُشْتَرَكِ، ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعٌ أَوْ بِالْحِصَصِ؟ يَنْبَنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْآخَرِ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ فِي الْعَبْدِ قَدْ تَهَايَئُوا عَلَيْهِ، لَمْ تَدْخُلْ الْفِطْرَةُ فِي الْمُهَايَأَةِ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ مُعَاوَضَةُ كَسْبٍ بِكَسْبٍ؛ وَالْفِطْرَةُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، كَالصَّلَاةِ. (1986) فَصْلٌ: وَلَوْ أَلْحَقَتْ الْقَافَةُ وَلَدًا بِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَالْحُكْمُ فِي فِطْرَتِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ. وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا حُرًّا لَهُ قَرِيبَانِ فَأَكْثَرُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بَيْنَهُمْ، كَانَتْ فِطْرَتُهُ عَلَيْهِمْ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ. [مَسْأَلَةُ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ صَدَقَةَ الْأَمْوَالِ] (1987) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَيُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ صَدَقَةَ الْأَمْوَالِ إنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ زَكَاةٌ، فَكَانَ مَصْرِفُهَا مَصْرِفَ سَائِرِ الزَّكَوَاتِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَة. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى ذِمِّيٍّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلِ، وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ مِنْهَا الرُّهْبَانَ. وَلَنَا، أَنَّهَا زَكَاةٌ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا يُجْزِئَ أَنْ يُعْطَى مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّة. (1988) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَقَارِبِهِ مِنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا غَنِيًّا، وَلَا ذَا قُرْبَى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ مُنِعَ أَخْذَ زَكَاةِ الْمَالِ. وَيَجُوزُ صَرْفُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ فَأَشْبَهَتْ صَدَقَةَ الْمَالِ. [فَصْلُ أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِمَّنْ لَهُ نِصَابٌ وَرَدُّهَا عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ] (1989) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَأَخْرَجَهَا آخِذُهَا إلَى دَافِعَهَا، أَوْ جُمِعَتْ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ، فَفَرَّقَهَا عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَعَادَتْ إلَى إنْسَانٍ صَدَقَتُهُ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي، جَوَازَ ذَلِكَ. قَالَ: لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي مَنْ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، أَنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَتُرَدُّ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ قَبْضَ الْإِمَامِ أَوْ الْمُسْتَحِقِّ أَزَالَ مِلْكَ الْمُخْرِجِ، وَعَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَجَازَ كَمَا لَوْ عَادَتْ بِمِيرَاثٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَذْهَبُ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهَا كَشِرَائِهَا؛ «وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَرَسَ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» ، فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِلْخَبَرِ. وَإِنْ وَرِثَهَا فَلَهُ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ. [مَسْأَلَةُ يَجُوزُ فِي الصَّدَقَة أَنْ يُعْطِيَ الْوَاحِدَ مَا يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ] (1990) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاحِدَ مَا يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ إعْطَاءُ الْجَمَاعَةِ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِأَنَّهُ صَرَفَ صَدَقَتَهُ إلَى مُسْتَحِقَّهَا، فَبَرِئَ مِنْهَا كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى وَاحِدٍ؛ وَأَمَّا إعْطَاءُ الْوَاحِدِ صَدَقَةَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ وَافَقَهُ، أَوْجَبُوا تَفْرِقَةَ الصَّدَقَةِ عَلَى سِتَّةِ أَصْنَافٍ، وَدَفْعَ حِصَّةِ كُلِّ صِنْفٍ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَجَازَ صَرْفُهَا إلَى وَاحِدٍ كَالتَّطَوُّعِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. [مَسْأَلَةُ حُكْم زَكَاة الْفِطْرِ عَنْ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمَّهُ] (1991) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ أَخْرَجَ عَنْ الْجَنِينِ، فَحَسَنٌ وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُخْرِجُ عَنْ الْجَنِينِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْفِطْرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْجَنِينِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ لَا يُوجِبُونَ عَلَى الرَّجُلِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمَّهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَبِهِ وَيَرِثُ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَيُقَاسُ عَلَى الْمَوْلُودِ. وَلَنَا أَنَّهُ جَنِينٌ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ الزَّكَاةُ بِهِ، كَأَجِنَّةِ الْبَهَائِمِ وَلِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا إلَّا فِي الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، بِشَرْطِ أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُخْرِجُهَا عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ عَمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَسَائِرِ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 [مَسْأَلَةُ كَانَ فِي يَدِهِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ] (1992) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ، فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ الدَّيْنُ الْفِطْرَةَ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ وُجُوبًا بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، وَشُمُولِهَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ قَدَرَ عَلَى إخْرَاجِهَا، وَوُجُوبِ تَحَمُّلِهَا عَمَّنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ فَجَرَتْ مَجْرَى النَّفَقَةِ وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَجِبُ بِالْمِلْكِ، وَالدَّيْنُ يُؤَثِّرُ فِي الْمِلْكِ، فَأَثَّرَ فِيهَا، وَهَذِهِ تَجِبُ عَلَى الْبَدَنِ، وَالدَّيْنُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَتَسْقُطُ الْفِطْرَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، لِوُجُوبِ أَدَائِهِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَتَأَكُّدِهِ بِكَوْنِهِ حَقَّ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ، وَكَوْنُهُ أَسْبَقَ سَبَبًا وَأَقْدَمَ وُجُوبًا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ غَيْرَ الْفِطْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا هُوَ فِي إلْزَامِ الْأَدَاءِ وَتَحْرِيمِ التَّأْخِيرِ. [فَصْلُ مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ قَبْلَ أَدَائِهَا] (1993) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ قَبْلَ أَدَائِهَا، أُخْرِجَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَفِي بِهِمَا، قُضِيَا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِمَا، قُسِّمَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالصَّدَقَةِ بِالْحِصَصِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي زَكَاةِ الْمَالِ، أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا هَاهُنَا. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالٍ وَصَدَقَةُ فِطْرٍ وَدَيْنٌ، فَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَالْمَالِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِاتِّحَادِ مَصْرِفِهِمَا، فَيُحَاصَّانِ الدَّيْنَ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ، إذَا تَعَلَّقَا بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ، فَكَانَا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ كَانَا فِي الْعَيْنِ، تَسَاوَيَا فِي الِاسْتِيفَاءِ [فَصْلُ إذَا مَاتَ الْمُفْلِسُ وَلَهُ عَبِيدٌ فَفِطْرَتُهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ] (1994) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ الْمُفْلِسُ، وَلَهُ عَبِيدٌ، فَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، فَفِطْرَتُهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَة، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِالدَّيْنِ، وَفِطْرَةُ الرَّهْنِ عَلَى مَالِكِهِ. [فَصْلُ مَاتَ عَبِيدُهُ أَوْ مَنْ يَمُونهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ] (1995) فَصْلٌ: وَلَوْ مَاتَ عَبِيدُهُ، أَوْ مَنْ يَمُونُهُ، بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، لَمْ تَسْقُطْ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ عَبْدِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَدَانَ الْعَبْدُ بِإِذْنِهِ دَيْنًا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِهِ، فَالْفِطْرَةُ أَوْلَى، فَإِنْ زَكَاةَ الْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ بِخِلَافِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 [فُصُولٌ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ] [فَصْلُ صَدَقَة التَّطَوُّعِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ] ِ: (1996) فَصْلُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] . وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةِ، وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ إلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» . وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَاتِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] . وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ. وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ وَتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 «وَسَأَلَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ تَضَعَ صَدَقَتَهَا فِي زَوْجِهَا وَبَنِي أَخٍ لَهَا يَتَامَى؟ قَالَ: نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ؛ أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ عَلَى مِنْ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] [فَصْلُ الْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَة مَنْ يَمُونهُ عَلَى الدَّوَامِ] (1997) فَصْلٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،. فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، وَلَا كَسْبَ لَهُ، أَثِمَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَمُونُ» . وَلِأَنَّ نَفَقَةَ مِنْ يَمُونُهُ وَاجِبَةٌ، وَالتَّطَوُّعَ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ كَانَ لِمَنْ يُمَوَّنُ كِفَايَتُهُمْ فَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَكَانَ ذَا مَكْسَبٍ، أَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، يُحْسِنُ التَّوَكُّلَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ إلَى فَقِيرٍ فِي السِّرِّ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْت الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُهُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قُلْت: أَبْقَيْت لَهُمْ مِثْلَهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْت: لَا أُسَابِقُكَ إلَى شَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا» . فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَكَمَالِ إيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ، فَإِنَّهُ قَالَ حِينَ وَلِيَ: قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ كَسْبِي لَمْ يَكُنْ لِيَعْجِزَ عَنْ مُؤْنَةِ عِيَالِي. أَوْ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَحَدُ هَذَيْنِ كُرِهَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ، فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الْأَيْسَرِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، وَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى.» فَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي كَرِهَ مِنْ أَجْلِهِ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَكِفَّ النَّاسَ، أَيْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ لِلصَّدَقَةِ، أَيْ يَأْخُذَهَا بِبَطْنِ كَفِّهِ يُقَالُ: تَكَفَّفَ وَاسْتَكَفَّ. إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَرَوَى النَّسَائِيّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى رَجُلًا ثَوْبَيْنِ مِنْ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَمْ تَرَوْا إلَى هَذَا، دَخَلَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَعْطَيْته ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ قُلْت: تَصَدَّقُوا. فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، خُذْ ثَوْبَكَ. وَانْتَهَرَهُ» . وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ، لَا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَيَنْدَمُ، فَيَذْهَبُ مَالُهُ وَيَبْطُلُ أَجْرُهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ أَنْ يَنْقُصَ نَفْسَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 [كِتَابُ الصِّيَامِ] الصِّيَامُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، يُقَالُ: صَامَ النَّهَارُ. إذَا وَقَفَ سَيْرُ الشَّمْسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] . أَيْ صَمْتًا؛ لِأَنَّهُ إمْسَاكٌ عَنْ الْكَلَامِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا يَعْنِي بِالصَّائِمَةِ: الْمُمْسِكَةَ عَنْ الصَّهِيلِ. وَالصَّوْمُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْإِمْسَاكِ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبٌ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» . ذَكَرَ مِنْهَا صَوْمَ رَمَضَانَ، وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَاَلَّذِي أَكْرَمَك لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ. (1998) فَصْلٌ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى» . فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الشَّهْرِ، لِئَلَّا يُخَالِفَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ. وَالْمُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: شَهْرُ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَ رَمَضَانُ، فَرَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّقُ الذُّنُوبَ» . فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ شُرِعَ صَوْمُهُ دُونَ غَيْرِهِ، لِيُوَافِقَ اسْمُهُ مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِغَيْرِ مَعْنًى، كَسَائِرِ الشُّهُورِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَصْلٌ وَالصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ، مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ قَالَ: الْآنَ حِينَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ الْفَجْرَ فَجْرَكُمْ، إنَّمَا كَانُوا يَعُدُّونَ الْفَجْرَ الَّذِي يَمْلَأُ الْبُيُوتَ وَالطُّرُقَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَعْمَشِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . يَعْنِي بَيَاضَ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. وَهَذَا يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ.» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ هُوَ الصَّبَاحُ، وَأَنَّ السَّحُورَ لَا يَكُونُ إلَّا قَبْلَ الْفَجْرِ. وَهَذَا إجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا الْأَعْمَشُ وَحْدَهُ، فَشَذَّ وَلَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ عَلَى قَوْلِهِ. وَالنَّهَارُ الَّذِي يَجِبُ صِيَامُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَ: هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. . [مَسْأَلَةُ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ تَرَائِي الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانُ] (2000) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، طَلَبُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الْهِلَالَ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً لَمْ يَصُومُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ تَرَائِي الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَتَطْلُبُهُ لِيَحْتَاطُوا بِذَلِكَ لِصِيَامِهِمْ، وَيَسْلَمُوا مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ» . فَإِذَا رَأَوْهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ إجْمَاعًا، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ وَكَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانُوا يَصُومُونَهُ، مِثْلُ مَنْ عَادَتُهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، أَوْ صَوْمُ يَوْمِ الْخَمِيسِ، أَوْ صَوْمُ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ إذَا وَافَقَ صَوْمَهُ، أَوْ مَنْ صَامَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَلَا بَأْسَ بِصَوْمِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصُمْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَمَّارٌ: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ، وَاسْتِقْبَالَ رَمَضَانَ بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ، هَلْ يُكْرَهُ؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ يُغْمَى الْهِلَالُ. وَاتِّبَاعُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. فَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الشَّهْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ، فَإِنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِتَخْصِيصِهِ النَّهْيَ بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ. وَقَدْ رَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَمْسِكُوا عَنْ الصِّيَامِ، حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ. قَالَ: وَسَأَلْنَا عَنْهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، فَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْنِي بِهِ، وَكَانَ يَتَوَقَّاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَالْعَلَاءُ ثِقَةٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيثِهِ إلَّا هَذَا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ. وَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى نَفْيِ اسْتِحْبَابِ الصِّيَامِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ نِصْفِ الشَّهْرِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صِلَةِ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ فِي حَقِّ مَنْ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ إذًا، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى التَّعَارُضِ، وَرَدِّ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي كَلَامِ الْخِرَقِيِّ اخْتِصَارٌ وَتَقْدِيرُهُ: طَلَبُوا الْهِلَالَ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ وَكَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً لَمْ يَصُومُوا. فَحَذَفَ بَعْضَ الْكَلَامِ لِلْعِلْمِ بِهِ اخْتِصَارًا. (2001) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. [فَصْلُ إذَا رَأَى الْهِلَال أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ جَمِيعَ الْبِلَادِ الصَّوْمُ] (2002) فَصْلٌ: وَإِذَا رَأَى الْهِلَالَ أَهْلُ بَلَدٍ، لَزِمَ جَمِيعَ الْبِلَادِ الصَّوْمُ. وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ، لَا تَخْتَلِفُ الْمَطَالِعُ لِأَجْلِهَا كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ، لَزِمَ أَهْلَهُمَا الصَّوْمُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ، كَالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَلِكُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رَوَى كُرَيْبٌ، قَالَ: «قَدِمْت الشَّامَ، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلَالُ رَمَضَانَ، وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْنَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ قُلْت: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْته لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ؟ قُلْت: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: لَكِنْ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْت: أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . «وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَقَوْلُهُ لِلْآخَرِ لَمَّا قَالَ لَهُ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّوْمِ؟ قَالَ: (شَهْرَ رَمَضَانَ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ، فَوَجَبَ صَوْمُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَوُجُوبِ النُّذُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَيَجِبُ صِيَامُهُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ شَهِدَتْ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَجِبُ الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ تَقَارَبَتْ الْبُلْدَانُ. فَأَمَّا حَدِيثُ كُرَيْبٌ فَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ بُقُولِ كُرَيْبٌ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْخِلَافِ وُجُوبُ قَضَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ النَّاسَ إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ، أَفْطَرُوا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّنَا إنَّمَا قُلْنَا يُفْطِرُونَ إذَا صَامُوا بِشَهَادَتِهِ، فَيَكُونُ فِطْرُهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى صَوْمِهِمْ بِشَهَادَتِهِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَصُومُوا بِقَوْلِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْفِطْرِ عَلَيْهِ. الثَّانِي، أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْوَجْهِ الْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 [مَسْأَلَةُ حَالَ دُونَ مَنْظَرِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتِّرْ] (2003) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ غَيْمٌ، أَوْ قَتَرٌ وَجَبَ صِيَامُهُ، وَقَدْ أَجْزَأَ إذَا كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ مَا نَقَلَ الْخِرَقِيِّ، اخْتَارَهَا أَكْثَرُ شُيُوخِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَمْرِو بْن الْعَاصِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهِ قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَمُطَرِّفٌ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ، فَإِنْ صَامَ صَامُوا، وَإِنْ أَفْطَرَ أَفْطَرُوا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» . قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمُعْظَمِ النَّاسِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: لَا يَجِبُ صَوْمُهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ صَامَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَوْمُ شَكٍّ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ، فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ بِالشَّكِّ. وَلَنَا مَا رَوَى نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ. وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» . قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ لَهُ الْهِلَالَ، فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَعْنَى اُقْدُرُوا لَهُ: أَيْ ضَيَّقُوا لَهُ الْعَدَدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . أَيْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] . وَالتَّضْيِيقُ لَهُ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 يُجْعَلَ شَعْبَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ بِفِعْلِهِ، وَهُوَ رَاوِيه، وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ، كَمَا رُجِعَ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ التَّفَرُّقِ فِي خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. وَفِي لَفْظٍ: أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْت فَصُمْ يَوْمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسُرَرُ الشَّهْرِ: آخِرُهُ لَيَالٍ يَسْتَتِرُ الْهِلَالُ فَلَا يَظْهَرُ. وَلِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الشَّهْرِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ الصَّوْمُ كَالطَّرَفِ الْآخَرِ. قَالَ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ: لَأَنْ أَصُمْ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنَّ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ. وَلِأَنَّ الصَّوْمَ يُحْتَاطُ لَهُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الصَّوْمُ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُفْطَرْ إلَّا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ. فَأَمَّا خَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْوِيه مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، وَقَدْ خَالَفَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ " وَرِوَايَتُهُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، لِإِمَامَتِهِ، وَاشْتِهَارِ عَدَالَتِهِ، وَثِقَتِهِ، وَمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَذْهَبِهِ، وَلِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ: " فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ " مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَلِمَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ وَرَأْيِهِ. وَالنَّهْيُ عَنْ صَوْمِ الشَّكِّ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الصَّحْوِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إلَّا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، أَوْ كَمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، أَوْ يَحُولُ دُونَ مَنْظَرِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. [مَسْأَلَةُ لَا يَصِحُّ صَوْمٌ إلَّا بِنِيَّةِ] (2004) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُجْزِئُهُ صِيَامُ فَرْضٍ حَتَّى يَنْوِيَهُ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ اللَّيْلِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمٌ إلَّا بِنِيَّةٍ. إجْمَاعًا، فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ، كَالصَّلَاةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ فَرْضًا كَصِيَامِ رَمَضَانَ فِي أَدَائِهِ أَوْ قَضَائِهِ، وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، اُشْتُرِطَ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ اللَّيْلِ عِنْدَ إمَامِنَا وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ صِيَامُ رَمَضَانَ وَكُلُّ صَوْمٍ مُتَعَيِّنٍ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ صَوْمًا وَاجِبًا مُتَعَيِّنًا، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ كَالتَّطَوُّعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» . وَفِي لَفْظِ ابْنِ حَزْمٍ: «مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ.» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ: رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ مِنْ الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ. وَلِأَنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ، فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، كَالْقَضَاءِ. فَأَمَّا صَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَلَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يُبَحْ فِطْرُهُ، فَإِنَّمَا سُمِّيَ الْإِمْسَاكُ صِيَامًا تَجَوُّزًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا: أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ «أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» . وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ بَعْدَ الْأَكْلِ لَيْسَ بِصِيَامٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صِيَامًا تَجُوزَا. ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ صِيَامٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ رَمَضَانَ، أَنَّ وُجُوبَ الصِّيَامِ تَجَدَّدَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَأَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ حِينَ تَجَدَّدَ الْوُجُوبُ، كَمَنْ كَانَ صَائِمًا تَطَوُّعًا، فَنَذَرَ إتْمَامَ صَوْمِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ نِيَّتُهُ عِنْدَ نَذْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّذْرُ مُتَقَدِّمًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ التَّطَوُّعَ يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُفْطِرَاتِ فِي أَوَّلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ عَاشُورَاءَ: «فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» فَإِذَا نَوَى صَوْمَ التَّطَوُّعِ مَنْ النَّهَارِ كَانَ صَائِمًا بَقِيَّةَ النَّهَارِ دُونَ أَوَّلِهِ، وَالْفَرْضُ يَكُونُ وَاجِبًا فِي جَمِيعِ النَّهَارِ، وَلَا يَكُونُ صَائِمًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ. وَالثَّانِي، أَنَّ التَّطَوُّعَ سُومِحَ فِي نِيَّتِهِ مِنْ اللَّيْلِ تَكْثِيرًا لَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لَهُ الصَّوْمُ فِي النَّهَارِ، فَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَسَامَحَ الشَّرْعُ فِيهَا، كَمُسَامَحَتِهِ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَتَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ فِي السَّفَرِ تَكْثِيرًا لَهُ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ نَوَى أَجْزَأَهُ، وَسَوَاءٌ فَعَلَ بَعْدَ النِّيَّةِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، أَمْ لَمْ يَفْعَلْ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا يَأْتِيَ بَعْدَ النِّيَّةِ بِمُنَافٍ لِلصَّوْمِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ وُجُودَ النِّيَّةِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، كَمَا اخْتَصَّ أَذَانُ الصُّبْحِ وَالدَّفْعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بِهِ. وَلَنَا مَفْهُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلِأَنَّهُ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ، فَصَحَّ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ النِّيَّةِ بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ يُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَنْتَبِهُ فِيهِ، وَلَا يَذْكُرُ الصَّوْمَ، وَالشَّارِعُ إنَّمَا رَخَّصَ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى ابْتِدَائِهِ، لِحَرَجِ اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُ، فَلَا يَخُصُّهَا بِمَحِلٍّ لَا تَنْدَفِعُ الْمَشَقَّةُ بِتَخْصِيصِهَا بِهِ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَهَا بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الصَّوْمِ بِالْأَذَانِ وَالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُوزَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَلَا يُفْضِي مَنْعُهُمَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ إلَى فَوَاتِهِمَا، بِخِلَافِ نِيَّةِ الصَّوْمِ، وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَهُمَا بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ بِمَعْنَى تَجْوِيزِهِمَا فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالتَّحَتُّمِ، وَفَوَاتِ الصَّوْمِ بِفَوَاتِهَا فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَمَضَرَّةٌ، بِخِلَافِ التَّجْوِيزِ، وَلِأَنَّ مَنْعَهُمَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا يُفْضِي إلَى اخْتِصَاصِهِمَا بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ، لِجَوَازِهِمَا بَعْدَ الْفَجْرِ، وَالنِّيَّةُ بِخِلَافِهِ، فَأَمَّا إنَّ فَسَخَ النِّيَّةَ، مِثْلُ إنَّ نَوَى الْفِطْرَ بَعْدَ نِيَّةِ الصِّيَامِ، لَمْ تُجْزِئْهُ تِلْكَ النِّيَّةُ الْمَفْسُوخَةُ، لِأَنَّهَا زَالَتْ حُكْمًا وَحَقِيقَةً. [فَصْلُ نَوَى مِنْ النَّهَارِ صَوْمَ الْغَدِ] (2005) فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى مِنْ النَّهَارِ صَوْمَ الْغَدِ، لَمْ تُجْزِئْهُ تِلْكَ النِّيَّةُ، إلَّا أَنْ يَسْتَصْحِبَهَا إلَى جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، مِنْ نَوَى الصَّوْمَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ، وَلَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَا بَأْسَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فَسَخَ النِّيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَظَاهِرُ هَذَا حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِنِيَّتِهِ مِنْ النَّهَارِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إلَى جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ ". وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَا قَرِيبًا مِنْهَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ صَوْمَ بَعْدَ غَدٍ. [فَصْلُ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ] (2006) فَصْلٌ: وَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ، إذَا نَوَى صَوْمَ جَمِيعِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى فِي زَمَنٍ يَصْلُحُ جِنْسُهُ لِنِيَّةِ الصَّوْمِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ نَوَى كُلَّ يَوْمٍ فِي لَيْلَتِهِ. وَلَنَا. أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ لَيْلَتِهِ، كَالْقَضَاءِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ عِبَادَاتٌ لَا يَفْسُدُ بَعْضُهَا بِفَسَادِ بَعْضٍ، وَيَتَخَلَّلُهَا مَا يُنَافِيهَا، فَأَشْبَهَتْ الْقَضَاءَ، وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ. وَعَلَى قِيَاسِ رَمَضَانَ إذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَيُخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي رَمَضَانَ. . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 [فَصْلُ مَتَى خَطَرَ بِقَلْبِهِ فِي اللَّيْلِ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ صَائِمٌ فِيهِ فَقَدْ نَوَى] فَصْلٌ: وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ، وَهُوَ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ فِعْلَ شَيْءٍ، وَعَزْمُهُ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، فَمَتَى خَطَرَ بِقَلْبِهِ فِي اللَّيْلِ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ صَائِمٌ فِيهِ، فَقَدْ نَوَى. وَإِنْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَبْنِي عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ وَلَا قَتَرٌ، فَعَزَمَ أَنْ يَصُومَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ تَصِحّ النِّيَّةُ، وَلَا يُجْزِئُهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدٌ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِهِ وَلَا هُوَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ اعْتِقَادِهِ لَا يَصِحُّ قَصْدُهُ. وَبِهَذَا قَالَ حَمَّادٌ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ إذَا نَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ، فَصَحَّ كَالْيَوْمِ الثَّانِي، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ النِّيَّةَ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ، فَوَافَقَ الصَّوَابَ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ كَثُرَتْ إصَابَتُهُمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» . فَأَمَّا لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَوَّالٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رَمَضَانَ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: «وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» . لَكِنْ إنْ قَالَ: إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، فَأَنَا صَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَأَنَا مُفْطِرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ، وَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ وَاقِعٌ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ رَمَضَانَ. . [فَصْلُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي كُلِّ صَوْمٍ وَاجِبٍ] (2008) فَصْلٌ: وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي كُلِّ صَوْمٍ وَاجِبٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَصُومُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ مِنْ قَضَائِهِ، أَوْ مِنْ كَفَّارَتِهِ، أَوْ نَذْرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَسِيرٌ صَامَ فِي أَرْضِ الرُّومِ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ رَمَضَانُ، يَنْوِي التَّطَوُّعَ؟ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِعَزِيمَةٍ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَلَا يُجْزِئُهُ فِي يَوْمِ الشَّكِّ إذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا بِعَزِيمَةٍ مِنْ اللَّيْلِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ. فَإِنَّ الْمَرُّوذِيَّ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ يَوْمُ الشَّكِّ يَوْمَ غَيْمٍ إذَا أَجْمَعِنَا عَلَى أَنَّنَا نُصْبِحُ صِيَامًا يُجْزِئُنَا مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 : «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . أَلَيْسَ يُرِيدُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ؟ قَالَ: لَا، إذَا نَوَى مِنْ اللَّيْلِ أَنَّهُ صَائِمٌ أَجْزَأْهُ. وَحَكَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ نَوَى نَفْلًا وَقَعَ عَنْهُ رَمَضَانُ وَصَحَّ صَوْمُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَلَوْ نَوَى أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَوَافَقَ رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَجَدْت هَذَا الْكَلَامَ اخْتِيَارًا لِأَبِي الْقَاسِمِ، ذَكَرَهُ فِي " شَرْحِهِ ". وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: لَا يُجْزِئُهُ، إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مِنْ اللَّيْلِ بِلَا شَكٍّ وَلَا تَلَوُّمٍ. فَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَوْ نَوَى فِي رَمَضَانَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا، أَوْ نَوَى نَفْلًا، وَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ، وَصَحَّ صَوْمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ مُقْمِيًا؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُسْتَحَقٌّ فِي زَمَنٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ، كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ، كَالْقَضَاءِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، كَمَسْأَلَتِنَا فِي افْتِقَارِهِ إلَى التَّعْيِينِ، فَلَوْ طَافَ يَنْوِي بِهِ الْوَدَاعَ، أَوْ طَافَ بِنِيَّةِ الطَّوَافِ مُطْلَقًا، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. ثُمَّ الْحَجُّ مُخَالِفٌ لِلصَّوْمِ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا، وَيَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْضِ. وَلَوْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ بِمِثْلِ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ، صَحَّ، وَيَنْعَقِدُ فَاسِدًا، بِخِلَافِ الصَّوْمِ. [فَصْلُ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ وَإِلَّا فَهُوَ نَفْلٌ] (2009) فَصْلٌ: وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ، إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ، فَرْضًا، وَإِلَّا فَهُوَ نَفْلٌ. لَمْ يُجْزِئْهُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الصَّوْمَ مِنْ رَمَضَانَ جَزْمًا، وَيُجْزِئُهُ عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَى الصَّوْمَ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ، فَنَوَى أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ سَنَةِ سِتٍّ، أَوْ نَوَى الصَّوْمَ عَنْ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَكَانَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ غَدًا الْأَحَدُ، فَنَوَاهُ، وَكَانَ الِاثْنَيْنِ، صَحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ لَمْ تَخْتَلَّ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي الْوَقْتِ. [فَصْلٌ إذَا عَيَّنَ النِّيَّةَ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ قَضَائِهِ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَهُ فَرْضًا] (2010) فَصْلٌ: وَإِذَا عَيَّنَ النِّيَّةَ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ قَضَائِهِ أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ نَذْرٍ، لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَهُ فَرْضًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَجِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةُ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ] (2011) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ نَوَى صِيَامَ التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ، وَلَمْ يَكُنْ طَعِمَ، أَجْزَأَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، عِنْدَ إمَامِنَا، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي طَلْحَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد: لَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 : «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ يَتَّفِقُ وَقْتُ النِّيَّةِ لِفَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ عَاشُورَاءَ. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ يُخَفَّفُ نَفْلُهَا عَنْ فَرْضِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقِيَامُ لِنَفْلِهَا، وَيَجُوزُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَكَذَا الصِّيَامُ. وَحَدِيثُهُمْ نَخُصُّهُ بِحَدِيثِنَا، عَلَى أَنَّ حَدِيثَنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْهُ، فَقَالَ: أُخْبِرُك مَا لَهُ عِنْدِي ذَلِكَ الْإِسْنَادُ، إلَّا أَنَّهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ، إسْنَادَانِ جَيِّدَانِ. وَالصَّلَاةُ يَتَّفِقُ وَقْتُ النِّيَّةِ لِنَفْلِهَا وَفَرْضِهَا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَا يُفْضِي إلَى تَقْلِيلهَا، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُعَيِّنُ لَهُ الصَّوْمَ مِنْ النَّهَارِ، فَعُفِيَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ جَوَّزْنَا التَّنَفُّلَ قَاعِدًا وَعَلَى الرَّاحِلَةِ، لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. (2012) فَصْلٌ: وَأَيَّ وَقْتٍ مِنْ النَّهَارِ نَوَى أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ قَالَ: أَحَدُكُمْ بِأَخِيرِ النَّظَرَيْنِ، مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يَشْرَبْ. وَقَالَ رَجُلٌ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنِّي لَمْ آكُلْ إلَى الظُّهْرِ، أَوْ إلَى الْعَصْرِ، أَفَأَصُومُ بَقِيَّةَ يَوْمِي؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي، فِي " الْمُحَرَّرِ " أَنَّهُ لَا تُجْزِئُهُ النِّيَّةُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ النَّهَارِ مَضَى مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، بِخِلَافِ النَّاوِي قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مُعْظَمَ الْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا تَأْثِيرٌ فِي الْأُصُولِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَبْلَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ؛ لِإِدْرَاكِهِ مُعْظَمَهَا، وَلَوْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ الرَّفْعِ، لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لَهَا، وَلَوْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً، كَانَ مُدْرِكًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ بِالتَّشَهُّدِ، وَلَوْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لَهَا. وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى فِي أَوَّلِهِ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ اللَّيْلِ وَقْتٌ لِنِيَّةِ الْفَرْضِ، فَكَذَا جَمِيعُ النَّهَارِ وَقْتٌ لِنِيَّةِ النَّفْلِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُثَابِ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ نَوَى فِي التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ، كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ يَوْمِهِ، وَإِذَا أَجْمَعَ مِنْ اللَّيْلِ كَانَ لَهُ يَوْمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي " الْهِدَايَةِ ": يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ فِي الْيَوْمِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَكَلَ فِي بَعْضِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ صِيَامُ بَاقِيه، فَإِذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِالصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 نِيَّةٍ حَقِيقَةً، كَمَا لَوْ نَسِيَ الصَّوْمَ بَعْدَ نِيَّتِهِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ بَعْضَ الرَّكْعَةِ أَوْ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ كَانَ مُدْرِكًا لِجَمِيعِهَا. وَلَنَا أَنَّ مَا قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يَنْوِ صِيَامَهُ، فَلَا يَكُونُ صَائِمًا فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَا تُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ. وَدَعْوَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ لِصَوْمِ الْبَعْضِ أَنْ لَا تُوجَدَ الْمُفْطِرَاتُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْيَوْمِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَاشُورَاءَ «فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» . وَأَمَّا إذَا نَسِيَ النِّيَّةَ بَعْدَ وُجُودِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِهَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تُوجَدْ حُكْمًا، وَلَا حَقِيقَةً، وَلِهَذَا لَوْ نَوَى الْفَرْضَ مِنْ اللَّيْلِ، وَنَسِيَهُ فِي النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ. وَأَمَّا إدْرَاكُ الرَّكْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ رَكْعَةٍ، وَيَنْوِي أَنَّهُ مَأْمُومٌ، وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَحِيلًا، أَمَّا أَنْ يَكُونَ مَا صَلَّى الْإِمَامُ قَبْلَهُ مِنْ الرَّكَعَاتِ مَحْسُوبًا لَهُ، بِحَيْثُ يُجْزِئُهُ عَنْ فِعْلِهِ فَكَلَّا، وَلِأَنَّ مُدْرِكَ الرُّكُوعِ مُدْرِكٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ، لِأَنَّ الْقِيَامَ وُجِدَ حِينَ كَبَّرَ وَفَعَلَ سَائِرَ الْأَرْكَانِ مَعَ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ أَوْ رُكْنٌ فِيهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ وَرُكْنِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ طَعِمَ قَبْلَ النِّيَّةِ، وَلَا فَعَلَ مَا يُفْطِرُهُ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. [مَسْأَلَةُ نَوَى الصِّيَام مِنْ اللَّيْلِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْر فَلَمْ يُفِقْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ] (2013) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَمْ يُفِقْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، فَلَمْ يُفِقْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ صَحَّتْ، وَزَوَالُ الِاسْتِشْعَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ، كَالنَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَلَا يُضَافُ الْإِمْسَاكُ إلَيْهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ. وَلِأَنَّ النِّيَّةَ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ، فَلَا تُجْزِئُ وَحْدَهَا، كَالْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ، أَمَّا النَّوْمُ فَإِنَّهُ عَادَةٌ، وَلَا يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَتَى نُبِّهَ انْتَبَهَ، وَالْإِغْمَاءُ عَارِضٌ يُزِيلُ الْعَقْلَ، فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَزَوَالُ الْعَقْلِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا، الْإِغْمَاءُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمَتَى فَسَدَ الصَّوْمُ بِهِ فَعَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 لِأَنَّ مُدَّتَهُ لَا تَتَطَاوَلُ غَالِبًا، وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَزُلْ بِهِ التَّكْلِيفُ وَقَضَاءُ الْعِبَادَاتِ، كَالنَّوْمِ، وَمَتَى أَفَاقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ، صَحَّ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: تُعْتَبَرُ الْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، لِيَحْصُلَ حُكْمُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِفَاقَةَ حَصَلَتْ فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ وُجِدَتْ فِي أَوَّلِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَسْتَغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا فِي النَّهَارِ، كَمَا لَوْ نَامَ أَوْ غَفَلَ عَنْ الصَّوْمِ، وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْإِفَاقَةِ فِي النَّهَارِ، لِمَا صَحَّ مِنْهُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِالْإِفَاقَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. الثَّانِي، النَّوْمُ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ، سَوَاءٌ وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ أَوْ بَعْضِهِ. الثَّالِثُ، الْجُنُونُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِغْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ، لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي جُزْءٍ مِنْ رَمَضَانَ، لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَلَزِمَهُ صِيَامُهُ، كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا وُجِدَ الْجُنُونُ فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ أَفْسَدَ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ، فَأَفْسَدَهُ وُجُودُهُ فِي بَعْضِهِ، كَالْحَيْضِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الْوُجُوبَ إذَا وُجِدَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ، فَمَنَعَهُ إذَا وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ، كَالصِّبَا وَالْكُفْرِ، وَأَمَّا إنَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ فَلَنَا مَنْعٌ فِي وُجُوبِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ بَعْضَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ، فَلَزِمَهُ، كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَكَمَا لَوْ أَدْرَكَ بَعْضَ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ زَوَالُ عَقْلٍ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الصَّوْمِ، كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ، وَيُفَارِقُ الْحَيْضَ؛ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، وَإِنَّمَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الصَّوْمِ، وَيُحَرِّمُ فِعْلَهُ، وَيُوجِبُ الْغُسْلَ، وَيُحَرِّمُ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ وَاللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوَطْءَ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْجُنُونِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ] (2014) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا سَافَرَ مَا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ، فَلَا يُفْطِرُ حَتَّى يَتْرُكَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَاهُ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ، الَّذِي يُبِيحُ الْقَصْرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَدْرَهُ فِي الصَّلَاةِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمُسَافِرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الثَّانِي، أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاء الشَّهْرِ لَيْلًا، فَلَهُ الْفِطْرُ فِي صَبِيحَةِ اللَّيْلَةِ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا، وَمَا بَعْدَهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ: لَا يُفْطِرُ مَنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَهَذَا قَدْ شَهِدَهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَأُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ، كَمَا لَوْ سَافَرَ قَبْلَ الشَّهْرِ، وَالْآيَةُ تَنَاوَلَتْ الْأَمْرَ بِالصَّوْمِ لِمَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَهَذَا لَمْ يَشْهَدْهُ كُلَّهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَحُكْمُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَنْ سَافَرَ لَيْلًا، وَفِي إبَاحَةِ فِطْرِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ أَنْ يُفْطِرَ. وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى عُبَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: رَكِبْت مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ، قُلْت: أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ «أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَأَكَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ لَيْلًا وَاسْتَمَرَّ فِي النَّهَارِ لَأَبَاحَ الْفِطْرَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ أَبَاحَهُ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ بِهِمَا، فَأَبَاحَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ كَالْآخَرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِيهَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ، كَالصَّلَاةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ يُفَارِقُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يَلْزَمُ إتْمَامُهَا بِنِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ حَتَّى يُخَلِّفَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُجَاوِزُهَا وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْن بُنْيَانِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُفْطِرُ فِي بَيْتِهِ، إنْ شَاءَ، يَوْمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ الْحَسَنِ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَلَيْسَ الْفِطْرُ لِأَحَدٍ فِي الْحَضَرِ فِي نَظَرٍ وَلَا أَثَرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ خِلَافُهُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: «أَتَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ، وَقَدْ رُحِّلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْت لَهُ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. ثُمَّ رَكِبَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَهَذَا شَاهِدٌ، وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْبَلَدِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْحَاضِرِينَ، وَلِذَلِكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. فَأَمَّا أَنَسٌ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَرَزَ مِنْ الْبَلَدِ خَارِجًا مِنْهُ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي مَنْزِلِهِ ذَلِكَ. [فَصْلُ نَوَى الْمُسَافِرُ الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ] (2015) فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، فَقَالَ مَرَّةً: لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: إنَّ صَحَّ حَدِيثُ الْكَدِيدِ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا أَنْ يُفْطِرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا. وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى جَابِرٌ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مَا فَعَلْت، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَعْرُجُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَغَيْرِهِمَا، إلَّا الْجِمَاعَ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ فَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ؛ كَالْحَاضِرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وَلَنَا أَنَّهُ صَوْمٌ لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِيهِ، كَالتَّطَوُّعِ، وَفَارَقَ الْحَاضِرَ الصَّحِيحَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّهُ يُفْطِرُ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، فَيَقَعُ الْجِمَاعُ بَعْدَ حُصُولِ الْفِطْرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ. وَمَتَى أَفْطَرَ الْمُسَافِرُ فَلَهُ فِعْلُ جَمِيعِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ، مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا بِالصَّوْمِ، فَتَزُولُ بِزَوَالِهِ، كَمَا لَوْ زَالَ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ. [فَصْلُ لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ فِي رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ] (2016) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ فِي رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ، كَالنَّذْرِ وَالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ أُبِيحَ رُخْصَةً وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَصْلِ. فَإِنْ نَوَى صَوْمًا غَيْرَ رَمَضَانَ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، لَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَنْ مَا نَوَاهُ. هَذَا الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ مَا نَوَاهُ إذَا كَانَ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ أُبِيحَ لَهُ فِطْرُهُ، فَكَانَ لَهُ صَوْمُهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، كَغَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَلَنَا أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرَ لِلْعُذْرِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَصُومَهُ عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ، كَالْمَرِيضِ، وَبِهَذَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرُوهُ، وَيُنْقَضُ أَيْضًا بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوهُ. قَالَ صَالِحٌ: قِيلَ لِأَبِي: مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَهُوَ يَنْوِي بِهِ تَطَوُّعًا، يُجْزِئُهُ؟ قَالَ: أَوَيَفْعَلُ هَذَا مُسْلِمٌ،. [مَسْأَلَةُ مُبْطِلَات الصِّيَام وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ] [فَصْلُ الْفِطْرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِمَا يُتَغَذَّى بِهِ] (2017) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ، أَوْ احْتَجَمَ، أَوْ اسْتَعَطَ، أَوْ أَدْخَلَ إلَى جَوْفِهِ شَيْئًا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، أَوْ قَبَّلَ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى، أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ عَامِدًا، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ، إذَا كَانَ صَوْمًا وَاجِبًا) (2018) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُفْطِرُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] مَدَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إلَى تَبَيُّنِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصِّيَامِ عَنْهُمَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْفِطْرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِمَا يُتَغَذَّى بِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَتَغَذَّى بِهِ، فَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 لَا يُفْطِرُ بِمَا لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْبَرْدَ فِي الصَّوْمِ، وَيَقُولُ: لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ. وَلَعَلَّ مِنْ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا حَرَّمَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، فَمَا عَدَاهُمَا يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَلَنَا دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا. [فَصْلُ الْحِجَامَةَ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ] (2019) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّ الْحِجَامَةَ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَكَانَ الْحَسَنُ، وَمَسْرُوقٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، لَا يَرَوْنَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَحْتَجِمُونَ لَيْلًا فِي الصَّوْمِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ، وَلَا يُفْطِرُ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» . وَلِأَنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْبَدَنِ، أَشْبَهَ الْفَصْدَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ.» رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ رَافِعٍ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ: حَدِيثُ شَدَّادٍ وَثَوْبَانِ صَحِيحَانِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ شَدَّادٍ وَثَوْبَانِ. وَحَدِيثُهُمْ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِنَا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَاحَّةِ بِقَرْنٍ وَنَابٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ، فَوَجَدَ لِذَلِكَ ضَعْفًا شَدِيدًا، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْتَجِمَ الصَّائِمُ» . رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْمُتَرْجَمِ، وَعَنْ الْحَكَمِ، قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَائِمٌ» فَضَعُفَ، ثُمَّ كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِهِمْ، يُعِدُّ الْحَجَّامَ وَالْمَحَاجِمَ، فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ احْتَجَمَ بِاللَّيْلِ. كَذَلِكَ رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ نَسْخَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فَأَفْطَرَ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «قَاءَ فَأَفْطَرَ» فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى الْحَاجِمَ وَالْمُحْتَجِمَ يَغْتَابَانِ» فَقَالَ ذَلِكَ، قُلْنَا: لَمْ تَثْبُتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 صِحَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنْ السَّبَبِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ الْحِجَامَةِ، وَهِيَ الْخَوْفُ مِنْ الضَّعْفِ، فَيَبْطُلُ التَّعْلِيلُ بِمَا سِوَاهُ، أَوْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ لَا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ إجْمَاعًا، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْحِجَامَةِ امْتَنَعَ، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ، مَنْ يَسْلَمُ مِنْ الْغِيبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ ضَعْفَ الصَّائِمِ بِهَا فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِطْرَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ قَرُبَا مِنْ الْفِطْرِ. قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاجِمِ، فَإِنَّهُ لَا ضَعْفَ فِيهِ. [فَصْلُ يُفْطِرُ بِكُلِّ مَا أَدْخَلَهُ إلَى جَوْفِهِ أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ] (2020) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يُفْطِرُ بِكُلِّ مَا أَدْخَلَهُ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ كَدِمَاغِهِ وَحَلْقِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفُذُ إلَى مَعِدَتِهِ، إذَا وَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، سَوَاءٌ وَصَلَ مِنْ الْفَمِ عَلَى الْعَادَةِ، أَوْ غَيْرِ الْعَادَةِ كَالْوَجُورِ وَاللَّدُودِ، أَوْ مِنْ الْأَنْفِ كَالسَّعُوطِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ مِنْ الْأُذُنِ إلَى الدِّمَاغِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْحَلْقِ كَالْكُحْلِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الدُّبُرِ بِالْحُقْنَةِ، أَوْ مَا يَصِلُ مِنْ مُدَاوَاةِ الْجَائِفَةِ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ مِنْ دَوَاءِ الْمَأْمُومَةِ إلَى دِمَاغِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ إلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ، أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ، سَوَاءٌ اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِهِ، أَوْ عَادَ فَخَرَجَ مِنْهُ، وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُفْطِرُ بِالسَّعُوطِ، إلَّا أَنْ يَنْزِلَ إلَى حَلْقِهِ، وَلَا يُفْطِرُ إذَا دَاوَى الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ. وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي الْحُقْنَةِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَلْقِ مِنْهُ شَيْءٌ، أَشْبَهَ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ وَلَا الْجَوْفِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَاصِلٌ إلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِاخْتِيَارِهِ، فَيُفْطِرهُ، كَالْوَاصِلِ إلَى الْحَلْقِ، وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ، وَالْوَاصِلُ إلَيْهِ يُغَذِّيه، فَيُفْطِرُهُ، كَجَوْفِ الْبَدَن. [فَصْلُ إذَا وَجَدَ الصَّائِم طَعِّمْ الْكُحْلُ فِي حَلْقِهِ أَوْ عِلْم وُصُولَهُ إلَيْهِ] (2021) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكُحْلُ، فَمَا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، أَوْ عَلِمَ وُصُولَهُ إلَيْهِ، فَطَّرَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُفَطِّرْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: مَا يَجِدُ طَعْمَهُ كَالزُّرُورِ وَالصَّبْرِ وَالْقَطُورِ، أَفْطَرَ. وَإِنْ اكْتَحَلَ بِالْيَسِيرِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الْإِثْمِدِ غَيْرِ الْمُطَيَّبِ، كَالْمِيلِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُفْطِرْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ الْكُحْلُ حَادًّا، فَطَّرَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَنَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، أَنَّ الْكُحْلَ يُفَطِّرُ الصَّائِمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُفَطِّرُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ» . وَلِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ مَنْفَذًا؛ فَلَمْ يُفْطِرْ بِالدَّاخِلِ مِنْهَا، كَمَا لَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ أَوْصَلَ إلَى حَلْقِهِ مَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِفِيهِ فَأَفْطَرَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَلَهُ مِنْ أَنْفِهِ، وَمَا رَوَوْهُ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَابِ الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ شَيْءٌ. ثُمَّ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ اكْتَحَلَ بِمَا لَا يَصِلُ. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَتْ الْعَيْنُ مَنْفَذًا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ يُوجَدُ طَعْمُهُ فِي الْحَلْقِ، وَيَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ فَيَتَنَخَّعَهُ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي إنْسَانٌ أَنَّهُ اكْتَحَلَ بِاللَّيْلِ فَتَنَخَّعَهُ بِالنَّهَارِ. ثُمَّ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَاصِلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَنْفَذٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ جَائِفَةً، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ. [فَصْلُ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ كَابْتِلَاعِ الرِّيق لَا يُفْطِرهُ] (2022) فَصْلٌ: وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، كَابْتِلَاعِ الرِّيقِ لَا يُفَطِّرُهُ، لِأَنَّ اتِّقَاءَ ذَلِكَ يَشُقُّ، فَأَشْبَهَ غُبَارَ الطَّرِيقِ، وَغَرْبَلَةَ الدَّقِيقِ. فَإِنْ جَمَعَهُ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ قَصْدًا لَمْ يُفَطِّرْهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ مَعِدَتِهِ، أَشْبَهَ مَا إذَا لَمْ يَجْمَعْهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُفَطِّرُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَصَدَ ابْتِلَاعَ غُبَارِ الطَّرِيقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الرِّيقَ لَا يُفَطِّرُ إذَا لَمْ يَجْمَعْهُ، وَإِنْ قَصَدَ ابْتِلَاعَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَهُ، بِخِلَافِ غُبَارِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ خَرَجَ رِيقُهُ إلَى ثَوْبِهِ، أَوْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَوْ بَيْنَ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ عَادَ فَابْتَلَعَهُ، أَوْ بَلَعَ رِيقَ غَيْرِهِ، أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَلَعَهُ مِنْ غَيْرِ فَمِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَلَعَ غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَيَمُصُّ لِسَانَهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قُلْنَا: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إسْنَادٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُقَبِّلُ فِي الصَّوْمِ، وَيَمُصُّ لِسَانَهَا فِي غَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَمُصَّهُ، ثُمَّ لَا يَبْتَلِعُهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ انْفِصَالُ مَا عَلَى لِسَانِهَا مِنْ الْبَلَلِ إلَى فَمِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ حَصَاةً مَبْلُولَةً فِي فِيهِ، أَوْ لَوْ تَمَضْمَضَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَّهُ. وَلَوْ تَرَكَ فِي فَمِهِ حَصَاةً أَوْ دِرْهَمًا، فَأَخْرَجَهُ وَعَلَيْهِ بَلَّةٌ مِنْ الرِّيقِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي فِيهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الرِّيقِ كَثِيرًا فَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُفْطِرْ بِابْتِلَاعِ رِيقِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُفْطِرُ لِابْتِلَاعِهِ ذَلِكَ الْبَلَلَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْجِسْمِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ انْفِصَالُ ذَلِكَ الْبَلَلِ، وَدُخُولُهُ إلَى حَلْقِهِ، فَلَا يُفَطِّرُهُ، كَالْمَضْمَضَةِ وَالتَّسَوُّكِ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ وَالْمَبْلُولِ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي مَصِّ لِسَانِهَا. وَلَوْ أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَعَلَيْهِ بَلَّةٌ، ثُمَّ عَادَ فَأَدْخَلَهُ وَابْتَلَعَ رِيقَهُ، لَمْ يُفْطِرْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 [فَصْلُ ابْتِلَاع الصَّائِم النُّخَامَةَ] (2023) فَصْلٌ: وَإِنْ ابْتَلَعَ النُّخَامَةَ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، يُفْطِرُ. قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إذَا تَنَخَّمَ، ثُمَّ ازْدَرَدَهُ، فَقَدْ أَفْطَرَ. لِأَنَّ النُّخَامَةَ مِنْ الرَّأْسِ تَنْزِلُ، وَالرِّيقَ مِنْ الْفَمِ. وَلَوْ تَنَخَّعَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ ازْدَرَدَهُ، أَفْطَرَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، أَشْبَهَ الدَّمَ، وَلِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، أَشْبَهَ الْقَيْءَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُفْطِرُ. قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَيْسَ عَلَيْك قَضَاءٌ إذَا ابْتَلَعْتَ النُّخَامَةَ وَأَنْتَ صَائِمٌ. لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْفَمِ، غَيْرُ وَاصِلٍ مِنْ خَارِجٍ، أَشْبَهَ الرِّيقَ. [فَصْلُ سَالَ فَمُ الصَّائِم دَمًا أَوْ خَرَجَ إلَيْهِ قَلْسٌ أَوْ قَيْء] (2024) فَصْلٌ: فَإِنْ سَالَ فَمُهُ دَمًا، أَوْ خَرَجَ إلَيْهِ قَلْسٌ أَوْ قَيْءٌ، فَازْدَرَدَهُ أَفْطَرَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؛ لِأَنَّ الْفَمَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَالْأَصْلُ حُصُولُ الْفِطْرِ بِكُلِّ وَاصِلٍ مِنْهُ، لَكِنَّ عُفِيَ عَنْ الرِّيقِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، فَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ أَلْقَاهُ مِنْ فِيهِ، وَبَقِيَ فَمُهُ نَجِسًا، أَوْ تَنَجَّسَ فَمُهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَارِجٍ، فَابْتَلَعَ رِيقَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُنَجَّسِ أَفْطَرَ بِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلُ لَا يُفْطِرُ بِالْمَضْمَضَةِ] (2025) فَصْلٌ: وَلَا يُفْطِرُ بِالْمَضْمَضَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْت مِنْ إنَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْت: لَا بَأْسَ. قَالَ: فَمَهْ» ؟ . وَلِأَنَّ الْفَمَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْوَاصِلِ إلَيْهِ، كَالْأَنْفِ وَالْعَيْنِ. وَإِنْ تَمَضْمَضَ، أَوْ اسْتَنْشَقَ فِي الطَّهَارَةِ، فَسَبَقَ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا إسْرَافٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْمَاءَ إلَى جَوْفِهِ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَأَفْطَرَ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ شُرْبَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ وَصَلَ إلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا قَصْدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ إلَى حَلْقِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمُتَعَمِّدَ. فَأَمَّا إنَّ أَسْرَفَ فَزَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، أَوْ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى حَلْقِهِ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى حَلْقِهِ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُعِيدَ الصَّوْمَ. وَهَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يُفْطِرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُبَالَغَةِ حِفْظًا لِلصَّوْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ وَصَلَ بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ التَّعَمُّدَ. وَالثَّانِي، لَا يُفْطِرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَأَشْبَهَ غُبَارَ الدَّقِيقِ إذَا نَخَلَهُ. فَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ لِحَاجَةٍ، كَغَسْلِ فَمِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَنَحْوِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَضْمَضَةِ لِلطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبَثًا، أَوْ تَمَضْمَضَ مِنْ أَجْلِ الْعَطَشِ، كُرِهَ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الصَّائِمِ يَعْطَشُ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَمُجُّهُ. قَالَ: يَرُشُّ عَلَى صَدْرِهِ أَحَبُّ إلَيَّ. فَإِنْ فَعَلَ، فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ، أَوْ تَرَكَ الْمَاءَ فِي فِيهِ عَابِثًا، أَوْ لِلتَّبَرُّدِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْعَطَشِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرْجِ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ الْعَطَشِ، أَوْ مِنْ الْحَرِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلُ لَا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الصَّائِمُ] (2026) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الصَّائِمُ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، «قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، ثُمَّ يَصُومُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ الْحَمَّامَ، وَهُوَ صَائِمٌ هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فَأَمَّا الْغَوْصُ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي الصَّائِمِ يَنْغَمِسُ فِي الْمَاءِ: إذَا لَمْ يَخَفْ أَنْ يَدْخُلَ فِي مَسَامِعِهِ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ أَنْ يَنْغَمِسَ فِي الْمَاءِ، خَوْفًا أَنْ يَدْخُلَ فِي مَسَامِعِهِ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مَسَامِعِهِ، فَوَصَلَ إلَى دِمَاغِهِ مِنْ الْغُسْلِ الْمَشْرُوعِ، مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا قَصْدٍ، فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ إلَى حَلْقِهِ مِنْ الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِنْ غَاصَ فِي الْمَاءِ، أَوْ أَسْرَفَ، أَوْ كَانَ عَابِثًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الدَّاخِلِ إلَى الْحَلْقِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 [فَصْلُ الصَّائِمِ يَمْضُغُ الْعِلْكَ] (2027) فَصْلٌ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: الصَّائِمُ يَمْضُغُ الْعِلْكَ. قَالَ: لَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْعِلْكُ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ، وَهُوَ الرَّدِيءُ الَّذِي إذَا مَضَغَهُ يَتَحَلَّلُ، فَلَا يَجُوزُ مَضْغُهُ، إلَّا أَنْ لَا يَبْلَعَ رِيقَهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَنَزَلَ إلَى حَلْقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، أَفْطَرَ بِهِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ. وَالثَّانِي، الْعِلْكُ الْقَوِيُّ الَّذِي كُلَّمَا مَضَغَهُ صَلُبَ وَقَوِيَ، فَهَذَا يُكْرَهُ مَضْغُهُ وَلَا يَحْرُمُ. وَمِمَّنْ كَرِهَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْلُبُ الْفَمَ، وَيَجْمَعُ الرِّيقَ، وَيُورِثُ الْعَطَشَ. وَرَخَّصَتْ عَائِشَةُ فِي مَضْغِهِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، فَهُوَ كَالْحَصَاةِ يَضَعُهَا فِي فِيهِ، وَمَتَى مَضَغَهُ وَلَمْ يَجِدْ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، لَمْ يُفْطِرْ. وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، لَمْ يُفْطِرْ. وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُفَطِّرُهُ، كَالْكُحْلِ إذَا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ. وَالثَّانِي، لَا يُفَطِّرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَمُجَرَّدُ الطَّعْمِ لَا يُفَطِّرُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: مِنْ لَطَّخَ بَاطِنَ قَدَمِهِ بِالْحَنْظَلِ، وَجَدَ طَعْمَهُ، وَلَا يُفْطِرُ، بِخِلَافِ الْكُحْلِ، فَإِنَّ أَجْزَاءَهُ تَصِلُ إلَى الْحَلْقِ، وَيُشَاهَدُ إذَا تَنَخَّعَ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ وَضَعَ فِي فِيهِ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا وَهُوَ صَائِمٌ، مَا لَمْ يَجِدْ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا يَجِدُ طَعْمَهُ فَلَا يُعْجِبُنِي. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الصَّائِمِ يَفْتِلُ الْخُيُوطَ، قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَبْزُقَ. [فَصْلُ ذَوْقَ الطَّعَامِ لِلصَّائِمِ] (2028) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْتَنِبَ ذَوْقَ الطَّعَامِ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَذُوقَ الطَّعَامَ وَالْخَلَّ وَالشَّيْءَ يُرِيدُ شِرَاءَهُ. وَالْحَسَنُ كَانَ يَمْضُغُ الْجَوْزَ لِابْنِ ابْنِهِ وَهُوَ صَائِمٌ. وَرَخَّصَ فِيهِ إبْرَاهِيمُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا بَأْسَ بِهِ مَعَ الْحَاجَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَوَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَفْطَرَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْطِرْ. [فَصْلُ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ] (2029) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ. قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا أُحْصِي، يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ: مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَدْوَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 لِسِوَاكٍ رَطْبٍ وَهُوَ صَائِمٌ، مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ عُودًا ذَاوِيًا. وَلَمْ يَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالسِّوَاكِ أَوَّلَ النَّهَارِ بَأْسًا، إذَا كَانَ الْعُودُ يَابِسًا. وَاسْتَحَبَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ تَرْكَ السِّوَاكِ بِالْعَشِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ» لِتِلْكَ الرَّائِحَةِ لَا يُعْجِبُنِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْعَشِيِّ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي التَّسَوُّكِ بِالْعُودِ الرَّطْبِ، فَرُوِيَتْ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَإِسْحَاقَ، وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُغَرِّرٌ بِصَوْمِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ أَجْزَاءٌ إلَى حَلْقِهِ، فَيُفَطِّرَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ لَا يُكْرَهُ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. [فَصْلُ أَصْبَحَ الصَّائِم بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ] (2030) فَصْلٌ: وَمَنْ أَصْبَحَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ؛ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا؛ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُمْكِنْهُ لَفْظُهُ، فَازْدَرَدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الرِّيقَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يُمْكِنُ لَفْظُهُ، فَإِنْ لَفَظَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ازْدَرَدَهُ عَامِدًا، فَسَدَ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِمَّا يَأْكُلُهُ، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ. وَلَنَا أَنَّهُ بَلَعَ طَعَامًا يُمْكِنُهُ لَفْظُهُ بِاخْتِيَارِهِ، ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَأَفْطَرَ بِهِ، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ الْأَكْلَ، وَيُخَالِفُ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنْهُ لَفْظُهُ. فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْصُقَ. قُلْنَا: لَا يَخْرُجُ جَمِيعُ الرِّيقِ بِبُصَاقِهِ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ ابْتِلَاعِ رِيقِهِ كُلِّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ. [فَصْلُ قَطَّرَ الصَّائِم فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا] (2031) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا، لَمْ يُفْطِرْ بِهِ، سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى الْمَثَانَةِ، أَوْ لَمْ يَصِلْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الدُّهْنَ إلَى جَوْفٍ فِي جَسَدِهِ، فَأَفْطَرَ، كَمَا لَوْ نَوَى الْجَائِفَةَ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فَيُفَطِّرُهُ، وَمَا أَفْطَرَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ جَازَ أَنْ يُفْطِرَ بِالدَّاخِلِ مِنْهُ، كَالْفَمِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ بَاطِنِ الذَّكَرِ وَالْجَوْفِ مَنْفَذٌ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْبَوْلُ رَشْحًا، فَاَلَّذِي يَتْرُكُهُ فِيهِ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، فَلَا يُفَطِّرُهُ، كَاَلَّذِي يَتْرُكُهُ فِي فِيهِ وَلَمْ يَبْتَلِعْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 [فَصْلُ الصَّائِم إذَا قَبَّلَ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى] (2032) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: إذَا قَبَّلَ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى، وَلَا يَخْلُو الْمُقَبِّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ لَا يُنْزِلَ، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَيُرْوَى بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ حَاجَةُ النَّفْسِ وَوَطَرُهَا، وَقِيلَ بِالتَّسْكِينِ: الْعُضْوُ. وَبِالْفَتْحِ: الْحَاجَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «هَشَشْتُ فَقَبَّلْت وَأَنَا صَائِمٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: صَنَعْت الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْت وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت مِنْ إنَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْت: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: فَمَهْ؟ .» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. شَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ، وَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نُزُولُ الْمَاءِ لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا نُزُولُهُ أَفْطَرَ. إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: هَذَا رِيحٌ، لَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يُمْنِيَ فَيُفْطِرَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إيمَاءِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يُمْذِيَ فَيُفْطِرَ عِنْدَ إمَامِنَا وَمَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُفْطِرُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، لِأَنَّهُ خَارِجٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ. وَلَنَا أَنَّهُ خَارِجٌ تَخَلَّلَهُ الشَّهْوَةُ، خَرَجَ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ، كَالْمَنِيِّ، وَفَارَقَ الْبَوْلَ بِهَذَا، وَاللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ كَالْقُبْلَةِ فِي هَذَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُقَبِّلَ إذَا كَانَ ذَا شَهْوَةٍ مُفْرِطَةٍ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا قَبَّلَ أَنْزَلَ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْقُبْلَةُ؛ لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِصَوْمِهِ، فَحَرُمَتْ، كَالْأَكْلِ. وَإِنْ كَانَ ذَا شَهْوَةٍ، لَكِنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنَّهُ ذَلِكَ، كُرِهَ لَهُ التَّقْبِيلُ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ صَوْمَهُ لِلْفِطْرِ، وَلَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فَقُلْت لَهُ: مَا لِي؟ فَقَالَ: " إنَّك تُقَبِّلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ ". وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا مَنَعَتْ الْوَطْءَ مَنَعَتْ الْقُبْلَةَ، كَالْإِحْرَامِ. وَلَا تَحْرُمُ الْقُبْلَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مِثْلَنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مَنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّ إفْضَاءَهُ إلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِالشَّكِّ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُحَرِّكُ الْقُبْلَةُ شَهْوَتَهُ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِإِرْبِهِ، وَغَيْرُ ذِي الشَّهْوَةِ فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَأَتَاهُ آخَرُ، فَسَأَلَهُ، فَنَهَاهُ، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَإِذَا الَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَأَشْبَهَتْ لَمْسَ الْيَدِ لِحَاجَةٍ. وَالثَّانِيَةُ، يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ حُدُوثَ الشَّهْوَةِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَمْنَعُ الْوَطْءَ، فَاسْتَوَى فِي الْقُبْلَةِ فِيهَا مَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، وَغَيْرُهُ، كَالْإِحْرَامِ. فَأَمَّا اللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَلَمْسِ يَدِهَا لِيَعْرِفَ مَرَضَهَا، فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا يُكْرَهُ فِي الصِّيَامِ، كَلَمْسِ ثَوْبِهَا. [فَصْلُ اسْتَمْنَى الصَّائِم بِيَدِهِ] (2033) فَصْلٌ: وَلَوْ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِهِ إلَّا أَنْ يُنْزِلَ، فَإِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقُبْلَةِ فِي إثَارَةِ الشَّهْوَةِ. فَأَمَّا إنَّ أَنْزَلَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَنِيُّ أَوْ الْمَذْيُ لِمَرَضٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَلَا تَسَبُّبٍ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ. وَلَوْ احْتَلَمَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، لِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ شَيْءٌ وَهُوَ نَائِمٌ. وَلَوْ جَامَعَ فِي اللَّيْلِ، فَأَنْزَلَ بَعْدَ مَا أَصْبَحَ، لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْهِ فِي النَّهَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ شَيْئًا فِي اللَّيْلِ، فَذَرَعَهُ الْقَيْءُ فِي النَّهَارِ. [فَصْلُ كَرَّرَ الصَّائِم النَّظَرَ فَأَنْزَلَ] (2034) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: إذَا كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ، وَلِتَكْرَارِ النَّظَرِ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ إنْزَالٌ، فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 الثَّانِي، أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ إنْزَالُ الْمَنِيِّ، فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ فِي قَوْلِ إمَامِنَا، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْحَسَنِ بْن صَالِحٍ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْفِكْرِ. وَلَنَا أَنَّهُ إنْزَالٌ بِفِعْلٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ، كَالْإِنْزَالِ بِاللَّمْسِ، وَالْفِكْرُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، بِخِلَافِ تَكْرَارِ النَّظَرِ. الثَّالِثُ: مَذْي بِتَكْرَارِ النَّظَرِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْفِطْرِ، وَلَا يُمْكِنْ قِيَاسُهُ عَلَى إنْزَالِ الْمَنِيِّ، لِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ فِي الْأَحْكَامِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. فَأَمَّا إنْ نَظَرَ فَصَرَفَ بَصَرَهُ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ بِالنَّظَرِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَرَّرَهُ. وَلَنَا أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، فَلَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ مَا أَفْضَتْ إلَيْهِ، كَالْفِكْرَةِ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ التَّكْرَارُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ تَكْرَارَ النَّظَرِ مَكْرُوهٌ لِمَنْ يُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَنْ لَا يُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، كَالْقُبْلَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكْرَهَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ إفْضَاءَهُ إلَى الْإِنْزَالِ الْمُفْطِرِ بَعِيدٌ جِدًّا، بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْمَذْيِ بِهَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ. [فَصْلُ إنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ] (2035) فَصْلٌ: فَإِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ، أَنَّهُ يَفْسُدُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَةَ تُسْتَحْضَرُ، فَتَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، بِدَلِيلِ تَأْثِيمِ صَاحِبِهَا فِي مُسَاكَنَتِهَا، فِي بِدْعَةٍ وَكُفْرٍ، وَمَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي آلَائِهِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ بِهَا، كَالِاحْتِلَامِ. فَأَمَّا إنْ خَطَرَ بِقَلْبِهِ صُورَةُ الْفِعْلِ، فَأَنْزَلَ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» . وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا تَكْرَارِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ دُونَهُمَا فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ، وَإِفْضَائِهِ إلَى الْإِنْزَالِ، وَيُخَالِفُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ إذَا تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ الْكَرَاهَةِ إنْ كَانَ فِي زَوْجَةٍ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 [فَصْلُ الْمُفْسِدَ لِلصَّوْمِ] (2036) الْفَصْلُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُفْسِدَ لِلصَّوْمِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ وَقَصْدٍ، فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَالْغُبَارِ الَّذِي يَدْخُلُ حَلْقَهُ مِنْ الطَّرِيق، وَنَخْلِ الدَّقِيقِ، وَالذُّبَابَةِ الَّتِي تَدْخُلُ حَلْقَهُ، أَوْ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيَدْخُلُ مَسَامِعَهُ، أَوْ أَنْفَهُ أَوْ حَلْقَهُ، أَوْ يُلْقَى فِي مَاءٍ فَيَصِلُ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ يَسْبِقُ إلَى حَلْقِهِ مِنْ مَاءِ الْمَضْمَضَةِ، أَوْ يُصَبُّ فِي حَلْقِهِ أَوْ أَنْفِهِ شَيْءٌ كَرْهًا، أَوْ تُدَاوَى مَأْمُومَتُهُ أَوْ جَائِفَتُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَوْ يُحَجَّمُ كَرْهًا، أَوْ تُقَبِّلُهُ امْرَأَةٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَيُنْزِلُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فَلَا يُفْطِرُ، كَالِاحْتِلَامِ. وَأَمَّا إنْ أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ، فَفَعَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُفْطِرُ بِهِ أَيْضًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.» قَالَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يُفْطِرَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمُفْطِرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ يُفْطِرُ لِدَفْعِ الْمَرَضِ، وَمِنْ يَشْرَبُ لِدَفْعِ الْعَطَشِ، وَيُفَارِقُ الْمَلْجَأَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حِيزَ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ لَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِيمَا لَوْ أُكْرِهْ عَلَى قَتْلِ آدَمِيٍّ، وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ. [فَصْلُ مَتَى أَفْطَرَ بِشَيْءِ مِنْ مُفْطِرَاتِ الصِّيَامِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ] (2037) الْفَصْلُ السَّابِعُ: أَنَّهُ مَتَى أَفْطَرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ كَانَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ، فَلَا تَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِأَدَائِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّهِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ وَلَا كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَحَمَّادٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ أَنْزَلَ بِلَمْسٍ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ تَكْرَارِ نَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْجِمَاعِ. وَعَنْهُ فِي الْمُحْتَجِمِ، إنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِي الْمُحْتَجِمِ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ مَا كَانَ هَتْكًا لِلصَّوْمِ، إلَّا الرِّدَّةَ؛ لِأَنَّهُ إفْطَارٌ فِي رَمَضَانَ أَشْبَهَ الْجِمَاعَ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، أَنَّ الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُوجِبُ مَا يُوجِبُهُ الْجِمَاعُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّهُ اعْتَبَرَ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ، فَلَوْ ابْتَلَعَ حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ فُسْتُقَةً بِقِشْرِهَا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِأَعْلَى مَا فِي الْبَابِ مِنْ جِنْسِهِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَالْمُجَامِعِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، فَلَمْ تُوجِبْ الْكَفَّارَةَ، كَبَلْعِ الْحَصَاةِ أَوْ التُّرَابِ، أَوْ كَالرِّدَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَمَسُّ، وَالْحُكْمَ فِي التَّعَدِّي بِهِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا، وَيَخْتَصُّ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ دُونَ سَائِرِ مَحْظُورَاتِهِ، وَوُجُوبِ الْبَدَنَةِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يُفْسِدُ صَوْمَ اثْنَيْنِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [فَصْلُ الْوَاجِبُ فِي قَضَاء رَمَضَانَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمٌ] (2038) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ فِي الْقَضَاءِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمٌ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: قَالَ إبْرَاهِيمُ، وَوَكِيعٌ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 يَصُومُ ثَلَاثَةَ آلَافِ يَوْمٍ. وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ قَوْلِهِمَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: مِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مُتَعَمِّدًا يَصُومُ شَهْرًا. وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ السَّنَةِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ: «صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعُذْرِ وَعَدَمِهِ، بِدَلِيلِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَقَوْلُ رَبِيعَةَ يَبْطُلُ بِالْمَعْذُورِ. وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَان مُتَعَمَّدًا، لَمْ يَقْضِهِ، وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ» ، فَقَالَ: لَيْسَ يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ. [مَسْأَلَةُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مُفْطِرَاتِ الصِّيَامِ نَاسِيًا] (2039) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَاسِيًا، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِفِعْلِهِ نَاسِيًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا شَيْءَ عَلَى مِنْ أَكَلَ نَاسِيًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: يُفْطِرُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ عَمْدًا، لَا يَجُوزُ مَعَ سَهْوِهِ، كَالْجِمَاعِ، وَتَرْكِ النِّيَّةِ، وَلَنَا: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ: (مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، فَلَا يُفْطِرْ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ) . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، فَكَانَ فِي مَحْظُورَاتِهَا مَا يَخْتَلِفُ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجَّ. وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَيْسَ تَرْكُهَا فِعْلًا، وَلِأَنَّهَا شَرْطٌ، وَالشُّرُوطُ لَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ، بِخِلَافِ الْمُبْطِلَاتِ، وَالْجِمَاعُ حُكْمُهُ أَغْلَظُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. [فَصْلُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مُفْطِرَاتِ الصِّيَامِ وَهُوَ نَائِمٌ] (2040) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نَائِمٌ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ، وَلَا عِلْمَ بِالصَّوْمِ، فَهُوَ أُعْذَرُ مِنْ النَّاسِي. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ. أَنَّ مِنْ فَعَلَ مِنْ هَذَا شَيْئًا جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، لَمْ يُفْطِرْ، وَلَمْ أَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . فِي حَقَّ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا يُحَجِّمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، مَعَ جَهْلِهِمَا بِتَحْرِيمِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْلَ لَا يُعْذَرُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ جَهْلٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْفِطْرَ، كَالْجَهْلِ بِالْوَقْتِ فِي حَقَّ مَنْ يَأْكُلُ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، وَقَدْ كَانَ طَلَعَ. [مَسْأَلَةُ مَنْ اسْتِقَاء فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ] (2041) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 مَعْنَى اسْتَقَاءَ: تَقَيَّأَ مُسْتَدْعِيًا لِلْقَيْءِ. وَذَرْعُهُ: خُرُوجٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ صَوْمَهُ يَفْسُدُ بِهِ. وَمِنْ ذَرَعَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ صَوْمِ مَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْقَيْءَ لَا يُفْطِرُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ» . وَلِأَنَّ الْفِطْرَ بِمَا يَدْخُلُ لَا بِمَا يَخْرُجُ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَلْيَقْضِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَحَدِيثُهُمْ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، يَرْوِيه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ لَهُمْ يَبْطُلُ بِالْحَيْضِ وَالْمَنِيِّ. (2042) فَصْلٌ: وَقَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ؛ لَا يُفْطِرُ إلَّا بِمِلْءِ الْفَمِ. لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَلَكِنْ دَسْعَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ» . وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَلَا يُفْطِرُ كَالْبَلْغَمِ. وَالثَّالِثَةُ، نِصْفُ الْفَمِ، لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَأَفْطَرَ بِهِ كَالْكَثِيرِ. وَالْأُولَى أَوْلَى لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْمُفْطِرَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَحَدِيثُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَا نَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَيْءِ طَعَامًا، أَوْ مُرَارًا، أَوْ بَلْغَمًا، أَوْ دَمًا، أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [مَسْأَلَةُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ صَائِم] (2043) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ أَفْطَرَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ مِنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ. سَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ رِدَّتُهُ بِاعْتِقَادِهِ مَا يَكْفُرُ بِهِ، أَوْ شَكِّهِ فِيمَا يَكْفُرُ بِالشَّكِّ فِيهِ، أَوْ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، مُسْتَهْزِئًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَهْزِئٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] . وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَأَبْطَلَتْهَا الرِّدَّةُ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجَّ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَنَافَاهَا الْكُفْرُ، كَالصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةُ مَنْ نَوَى الْإِفْطَارَ] (2044) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ نَوَى الْإِفْطَارَ فَقَدْ أَفْطَرَ) هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: إنْ عَادَ فَنَوَى قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِفَ النَّهَارُ أَجْزَأَهُ. بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَلْزَمُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا، فَلَمْ تَفْسُدْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا، كَالْحَجِّ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَفَسَدَتْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا شَقَّ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهَا اُعْتُبِرَ بَقَاءُ حُكْمِهَا، وَهُوَ أَنْ لَا يَنْوِيَ قَطْعَهَا فَإِذَا نَوَاهُ زَالَتْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَفَسَدَ الصَّوْمُ لِزَوَالِ شَرْطِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ لَا يَطَّرِدُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْحَجَّ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُبْهَمَةِ، وَبِالنِّيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَافْتَرَقَا. [فَصْلُ صَوْمُ النَّافِلَةِ] فَصْلٌ: فَأَمَّا صَوْمُ النَّافِلَةِ، فَإِنْ نَوَى الْفِطْرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ انْقَطَعَتْ، وَلَمْ تُوجَدْ نِيَّةٌ غَيْرُهَا فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا. وَإِنْ عَادَ فَنَوَى الصَّوْمَ، صَحَّ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفِطْرِ إنَّمَا أَبْطَلَتْ الْفَرْضَ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ حُكْمًا وَخُلُوِّ بَعْضِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ عَنْهَا، وَالنَّفَلُ مُخَالِفٌ لِلْفَرْضِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ تَمْنَعْ صِحَّتَهُ نِيَّةُ الْفِطْرِ فِي زَمَنٍ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْفِطْرِ لَا تَزِيدُ عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ إذَا نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى الْفِطْرَ، ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى بَدَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 لَا، بَلْ أُتِمُّ صَوْمِي مِنْ الْوَاجِبِ. لَمْ يُجْزِئْهُ حَتَّى يَكُونَ عَازِمًا عَلَى الصَّوْمِ يَوْمَهُ كُلَّهُ، وَلَوْ كَانَ تَطَوُّعًا كَانَ أَسْهَلَ. وَظَاهِرُ هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَسْأَلُ أَهْلَهُ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قَالَ: إنِّي إذًا صَائِمٌ» . [فَصْلُ نَوَى أَنَّهُ سَيُفْطِرُ سَاعَةً أُخْرَى] (2046) فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى أَنَّهُ سَيُفْطِرُ سَاعَةً أُخْرَى. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ هُوَ كَنِيَّةِ الْفِطْرِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِي الْفِطْرِ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ نَوَى أَنَّنِي إنْ وَجَدْت طَعَامًا أَفْطَرْت، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ أَتْمَمْت صَوْمِي. خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ جَازِمًا بِنِيَّةِ الصَّوْمِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النِّيَّةِ بِمِثْلِ هَذَا. وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفِطْرَ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ النِّيَّةَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ الصَّوْمُ بِمِثْلِ هَذِهِ النِّيَّةِ. [مَسْأَلَةُ جَامَعَ الصَّائِمُ فِي الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا] (2047) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ، فَأَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، إذَا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، فِي أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ إذَا كَانَ عَامِدًا، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا مَسَائِلُ أَرْبَعٍ؛ (2048) إحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمًا وَاجِبًا بِجِمَاعٍ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَنْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ الْأَعْرَابِيَّ بِالْقَضَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُجَامِعِ: «وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَهُ بِالْأَكْلِ، أَوْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ الْوَاجِبَ بِالْجِمَاعِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَغَيْرِ رَمَضَانَ. (2049) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِ قَضَائِهَا، فَلَا تَجِبُ فِي أَدَائِهَا، كَالصَّلَاةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وَلَنَا: مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ مَا لَك؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تَعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ، فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَتَعَلَّقُ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ يَتَعَيَّنُ بِهِ، وَالْقَضَاءُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ، وَالصَّلَاةُ لَا يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. (2050) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، أَنَّ الْجِمَاعَ دُونَ الْفَرْجِ، إذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْإِنْزَالُ، فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِجِمَاعٍ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِغَيْرِ جِمَاعٍ تَامٍّ، فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا نَصَّ فِي وُجُوبِهَا وَلَا إجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُوجِبُهَا مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، وَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا. وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْجِمَاعُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ، وَالْجِمَاعُ هَاهُنَا غَيْرُ مُوجِبٍ، فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُهُ بِهِ. (2051) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ، أَنَّهُ جَامَعَ نَاسِيًا، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَالْعَامِدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ الْجَوَابِ، وَقَالَ: أَجْبُنُ أَنْ أَقُولَ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنْ أَقُولَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ: سَمِعْته غَيْرَ مَرَّةٍ لَا يَنْفُذُ لَهُ فِيهِ قَوْلٌ. وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: كُلُّ أَمْرٍ غُلِبَ عَلَيْهِ الصَّائِمُ، لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَرَّمَهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ يُفْسِدْهُ؛ كَالْأَكْلِ. وَكَانَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، يُوجِبُونَ الْقَضَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَهُوَ مَحْطُوطٌ عَنْ النَّاسِي. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الَّذِي قَالَ: وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي. بِالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الْعَمْدِ، وَلَوْ افْتَرَقَ الْحَالُ لَسَأَلَ وَاسْتَفْصَلَ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ التَّعْلِيلُ بِمَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ السَّائِلِ وَهُوَ الْوُقُوعُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الصَّوْمِ، وَلِأَنَّ السُّؤَالَ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً» . فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَمْدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: هَلَكْت. وَرُوِيَ: احْتَرَقْت. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ هَلَكَتِهِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْجِمَاعِ مَعَ النِّسْيَانِ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ، وَخَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تُحَرِّمُ الْوَطْءَ، فَاسْتَوَى فِيهَا عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ إفْسَادَ الصَّوْمِ وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ حُكْمَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِالْجِمَاعِ، لَا تُسْقِطُهُمَا الشُّبْهَةُ، فَاسْتَوَى فِيهِمَا الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ. (2052) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْفَرْجِ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لَا كَفَّارَةَ فِي الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْلَالُ وَلَا الْإِحْصَانُ، فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ فِي الْفَرْجِ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ، كَالْوَطْءِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ دُونَ الْفَرْجِ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِمُجَرَّدِهِ؛ بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ. [فَصْلُ وَطْءُ الصَّائِم فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ] (2053) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ. فَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْآدَمِيَّةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِوَطْءِ الْآدَمِيَّةِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَةً أَوْ أَجْنَبِيَّةً، أَوْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ، فَبِوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَوْلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 [فَصْلُ فَسَادُ صَوْمُ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ] (2054) فَصْلٌ: وَيَفْسُدُ صَوْمُ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ فِي الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، كَالْأَكْلِ وَهَلْ يَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَلِأَنَّهَا هَتَكَتْ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ كَالرَّجُلِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو دَاوُد: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مَنْ أَتَى أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ، أَعْلَيْهَا كَفَّارَةٌ؟ قَالَ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ عَلَى امْرَأَةٍ كَفَّارَةً. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً. وَلَمْ يَأْمُرْ فِي الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ، فَكَانَ عَلَى الرَّجُلِ كَالْمَهْرِ. [فَصْلُ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ الصائمة عَلَى الْجِمَاعِ] (2055) فَصْلٌ: وَإِنْ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الْجِمَاعِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ امْرَأَةٍ غَصَبَهَا رَجُلٌ نَفْسَهَا، فَجَامَعَهَا، أَعْلَيْهَا الْقَضَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: وَعَلَيْهَا كَفَّارَةٌ؟ قَالَ: لَا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ، إذَا وَطِئَهَا نَائِمَةً. وَقَالَ مَالِكٌ فِي النَّائِمَةِ: عَلَيْهَا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ، وَالْمُكْرَهَةُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِوَعِيدٍ حَتَّى فَعَلَتْ، كَقَوْلِنَا وَإِنْ كَانَ إلْجَاءً لَمْ تُفْطِرْ. وَكَذَلِكَ إنْ وَطِئَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ. وَيُخَرَّجُ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ - كُلُّ أَمْرٍ غُلِبَ عَلَيْهِ الصَّائِمُ، لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ. أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ مُلْجَأَةً أَوْ نَائِمَةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِعْلٌ، فَلَمْ تُفْطِرْ، كَمَا لَوْ صَبَّ فِي حَلْقِهَا مَاءً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ جِمَاعٌ فِي الْفَرْجِ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَتْ بِالْوَعِيدِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ، فَفَسَدَتْ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ. وَيُفَارِقُ الْأَكْلَ، فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ، بِخِلَافِ الْجِمَاعِ. [فَصْلُ تَسَاحَقَتْ امْرَأَتَانِ أَثْنَاءَ الصَّوْم فَلَمْ يُنْزِلَا] فَصْلٌ: فَإِنْ تَسَاحَقَتْ امْرَأَتَانِ، فَلَمْ يُنْزِلَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَنْزَلَتَا، فَسَدَ صَوْمُهُمَا. وَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الْمُجَامِعِ دُونَ الْفَرْجِ إذَا أَنْزَلَ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُمَا كَفَّارَةٌ بِحَالٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 الْجِمَاعَ مِنْ الْمَرْأَةِ هَلْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، أَنَّهُمَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَإِنْ سَاحَقَ الْمَجْبُوبُ فَأَنْزَلَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ. [فَصْلُ جَامَعَتْ الْمَرْأَةُ نَاسِيَةً لِلصَّوْمِ] (2057) فَصْلٌ: وَإِنْ جَامَعَتْ الْمَرْأَةُ نَاسِيَةً لِلصَّوْمِ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُ النِّسْيَانِ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا فِيهِمَا، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ يَحْصُلُ بِهِ الْفِطْرُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ مَعَ النِّسْيَانِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهَا الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ. [فَصْلُ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْجِمَاعِ وَهُوَ صَائِم] (2058) فَصْلٌ: وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْجِمَاعِ، فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُفْسِدَ صَوْمُ الْمَرْأَةِ فَصَوْمُ الرَّجُلِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّهُ لَا يَطَأُ حَتَّى يَنْتَشِرَ، وَلَا يَنْتَشِرُ إلَّا عَنْ شَهْوَةٍ، فَكَانَ كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ. رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً، أَوْ مَاحِيَةً لِلذَّنْبِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ، لِعَدَمِ الْإِثْمِ فِيهِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ، لَاخْتِلَافِهِمَا فِي وُجُودِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ نَائِمًا، مِثْلُ أَنْ كَانَ عُضْوُهُ مُنْتَشِرًا فِي حَالِ نَوْمِهِ، فَاسْتَدْخَلَتْهُ امْرَأَتُهُ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ إلْجَاءً، مِثْلُ أَنْ غَلَبَتْهُ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَرَّمَهُ الصَّوْمُ حَصَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يُفْطِرْ بِهِ، كَمَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى حَلْقِهِ ذُبَابَةً. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا غَصَبَهَا رَجُلٌ نَفْسَهَا فَجَامَعَهَا: عَلَيْهَا الْقَضَاءُ. فَالرَّجُلُ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْجِمَاعُ، فَاسْتَوَى فِي ذَلِكَ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ وَالْإِكْرَاهِ، كَالْحَجِّ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْجِمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي عَدَمِ الْإِفْسَادِ لِتَأَكُّدِهِ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَإِفْسَادِهِ لِلْحَجِّ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ مَحْظُورَاتِهِ، وَإِيجَابِ الْحَدَّ بِهِ إذَا كَانَ زِنًا. [فَصْلُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْفِطْرِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ] (2059) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْفِطْرِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 تَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي أَدَائِهَا، فَوَجَبَتْ فِي قَضَائِهَا، كَالْحَجِّ. وَلَنَا أَنَّهُ جَامَعَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ جَامَعَ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ، وَيُفَارِقُ الْقَضَاءُ الْأَدَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِزَمَانٍ مُحْتَرَمٍ، فَالْجِمَاعُ فِيهِ هَتْكٌ لَهُ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ. [فَصْلٌ جَامَعَ الصَّائِم فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَحَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ] (2060) فَصْلٌ: وَإِذَا جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ، أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَحَاضَتْ أَوْ نُفِسَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، لَمْ تَسْقُطْ الْكَفَّارَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا، فَلَمْ يَجِبْ بِالْوَطْءِ فِيهِ كَفَّارَةٌ، كَصَوْمِ الْمُسَافِرِ، أَوْ كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ مِنْ شَوَّالٍ. وَلَنَا: أَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يُسْقِطْهَا، كَالسَّفَرِ، وَلِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمًا وَاجِبًا فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ، فَاسْتَقَرَّتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْرَأْ عُذْرٌ، وَالْوَطْءُ فِي صَوْمِ الْمُسَافِرِ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سَلِمَ فَالْوَطْءُ ثَمَّ لَمْ يُوجِبْ أَصْلًا، لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُبَاحٌ، فِي سَفَرٍ أُبِيحَ الْفِطْرُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَكَذَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ شَوَّالٍ، فَإِنَّ الْوَطْءَ غَيْرُ مُوجِبٍ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ رَمَضَانَ، وَالْمُوجِبُ إنَّمَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُفْسِدُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ. [فَصْلُ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فِي الصَّوْم] (2061) فَصْلٌ: إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ، فَاسْتَدَامَ الْجِمَاعَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ لَمْ يُصَادِفْ صَوْمًا صَحِيحًا، فَلَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ وَجَامَعَ. وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ لِحُرْمَةِ الصَّوْمِ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَعَكْسُهُ إذَا لَمْ يَنْوِ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُهُ لِتَرْكِ النِّيَّةِ لَا الْجِمَاعِ، وَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ أَيْضًا. وَأَمَّا إنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ مَعَ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ. وَالْقَاضِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّزْعَ جِمَاعٌ يَلْتَذُّ بِهِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِدَامَةِ، كَالْإِيلَاجِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْجِمَاعِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا وَهُوَ فِيهَا، فَخَرَجَ مِنْهَا، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَبْطُلُ صَوْمُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَهُ فِي تَرْكِ الْجِمَاعِ، فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقْرُبُ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، إذْ لَا يَكَادُ يَعْلَمُ أَوَّلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَقَّبُهُ النَّزْعُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْجِمَاعِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فَرْضِهَا، وَالْكَلَامِ فِيهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 [فَصْلُ جَامَعَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ] (2062) فَصْلٌ: وَمَنْ جَامَعَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَعَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَلَوْ عَلِمَ فِي أَثْنَاءِ الْوَطْءِ فَاسْتَدَامَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَأْثَمْ، فَلَا يَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ، كَوَطْءِ النَّاسِي، وَإِنْ عَلِمَ فَاسْتَدَامَ فَقَدْ حَصَلَ الْوَطْءُ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ فِي غَيْرِ صَوْمٍ. وَلَنَا حَدِيثُ الْمُجَامِعِ، إذْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّكْفِيرِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ وَلَا تَفْصِيلٍ. وَلِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ، وَوَطْءُ النَّاسِي مَمْنُوعٌ. ثُمَّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِطْرُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةُ كَفَّارَةُ الْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَانَ] (2063) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي التَّرْتِيبِ، يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ إنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ انْتَقَلَ إلَى الصِّيَامِ، فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى إطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَبِأَيِّهَا كَفَّرَ أَجْزَأَهُ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ لِمَا رَوَى مَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ إطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَ (أَوْ) حَرْفُ تَخْيِيرٍ. وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمُخَالَفَةِ، فَكَانَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي نَأْخُذُ بِهِ فِي الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، أَوْ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ التَّحْرِيرُ وَالصِّيَامُ مِنْ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ فِي شَيْءٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِلْوَاقِعِ عَلَى أَهْلِهِ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ:» لَا. وَذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ، وَهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 لَفْظُ التَّرْتِيبِ، وَالْأَخْذُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الزُّهْرِيِّ اتَّفَقُوا عَلَى رِوَايَتِهِ هَكَذَا، سِوَى مَالِكٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فِيمَا عَلِمْنَا، وَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالِهِ فِي سَائِرِ أَصْحَابِهِ. وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ زِيَادَةٌ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ مُتَعَيِّنٌ. وَلِأَنَّ حَدِيثَنَا لَفْظُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثَهُمْ لَفْظُ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَوَاهُ ب (أَوْ) لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ فِيهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَكَانَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ. [فَصْلُ دُخُول الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ] (2064) فَصْلٌ: فَإِذَا عَدِمَ الرَّقَبَةَ، انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي دُخُولِ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ، إلَّا شُذُوذًا لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ، لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ أَوْجَبَهُ أَنَّهُ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ، لِلْخَبَرِ أَيْضًا. فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الصِّيَامِ حَتَّى وَجَدَ الرَّقَبَةَ لَزِمَهُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ الْمُوَاقِعَ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حِينَ أَخْبَرَهُ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَمَّا كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ حَالَةَ الْمُوَاقَعَةِ، وَهِيَ حَالَةُ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالْبَدَلِ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ وَاجِدًا لَهُ حَالَ الْوُجُوبِ. وَإِنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْعِتْقَ فَيُجْزِئَهُ، وَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ الْأَوْلَى. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِهِ بِالْبَدَلِ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، كَالْمُتَيَمِّمِ يَرَى الْمَاءَ. وَلَنَا أَنَّهُ شَرَعَ فِي الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَأَجْزَأَتْهُ، كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الْعَجْزُ إلَى فَرَاغِهَا، وَفَارَقَ الْعِتْقُ التَّيَمُّمَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا يَسْتُرُهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ ظَهَرَ حُكْمُهُ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حُكْمَ الْجِمَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ. الثَّانِي، أَنَّ الصِّيَامَ تَطُولُ مُدَّتُهُ، فَيَشُقُّ إلْزَامُهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ. [مَسْأَلَةُ دُخُولِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَان] (2065) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مَدٌّ مِنْ بُرٍّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْخَبَرِ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ، وَهُوَ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ فِي كَفَّارَةٍ فِيهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَكَانَ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُطْعَمُ كُلُّ مِسْكِينٍ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّ بُرٍّ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 مِنْ الْبُرِّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَمِنْ غَيْرِهِ صَاعٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُطْعِمُ مَدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ شَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِمِكْتَلٍ مِنْ تَمْرٍ، قَدْرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: «خُذْ هَذَا، فَأُطْعِمْهُ عَنْك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا مَا رَوَى أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بِنِصْفِ وَسْقٍ شَعِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُظَاهِرِ: أَطْعِمْ هَذَا، فَإِنَّ مُدَّيْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ» . وَلِأَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا هَذَا. وَالْمُدُّ مِنْ الْبُرِّ يَقُومُ مَقَامَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِنَا، وَلِأَنَّ الْإِجْزَاءَ بِمُدٍّ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَحَدِيثُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاصِرًا عَنْ الْوَاجِبِ، فَاجْتُزِئَ بِهِ لِعَجْزِ الْمُكَفِّرِ عَمَّا سِوَاهُ. [فَصْلُ أَخْرَجَ مِنْ الدَّقِيقِ أَوْ السَّوِيقِ كَفَّارَة الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ] (2066) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ الدَّقِيقِ أَوْ السَّوِيقِ أَجْزَأَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ أَوْ عَشَّاهُمْ، لَمْ يُجْزِئْهُ، فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدَّرَ مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْعِ بِمُدٍّ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ، وَإِذَا أَطْعَمَهُمْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى الْوَاجِبَ لَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ قَدْرَ مَا يُطْعَمُهُ كُلُّ مِسْكِينٍ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ مُقَيِّدَةٌ لِمُطْلَقِ الْإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مِسْكِينٍ اسْتَوْفَى مَا يَجِبُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكُ الْمِسْكِينِ طَعَامَهُ، وَالْإِطْعَامُ إبَاحَةٌ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ إنْ أَفْرَدَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قَدْرَ الْوَاجِبِ لَهُ، فَأَطْعَمَهُ إيَّاهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ قَالَ: هَذَا لَك تَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شِئْتَ. أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَهُ مَا يَجِبُ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَلَّكَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلَّكْهُ إيَّاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُجْزِئُهُ أَنْ يَجْمَعَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَيُطْعِمَهُمْ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ امْرَأَةٍ أَفْطَرَتْ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَدْرَكَهَا رَمَضَانُ آخَرُ، ثُمَّ مَاتَتْ. قَالَ: كَمْ أَفْطَرَتْ؟ قَالَ: ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ: فَاجْمَعْ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، وَأُطْعِمْهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأُشْبِعْهُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُجَامِعِ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . وَهَذَا قَدْ أَطْعَمَهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وَقَالَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا قَدْ أَطْعَمَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَجَمَعَ الْمَسَاكِينَ، وَوَضَعَ جِفَانًا فَأَطْعَمَهُمْ. وَلِأَنَّهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَأَجْزَأْهُ، كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ أَطْعَمَهُمْ قَدْرَ الْوَاجِبِ لَهُمْ أَجْزَأْهُ، وَإِنْ أَطْعَمَهُمْ دُونَ ذَلِكَ فَأَشْبَعَهُمْ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْهُمْ مَا وَجَبَ لَهُمْ. [فَصْلُ يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَان مَا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ] (2067) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ مَا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ، مِنْ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَدَقِيقِهِمَا، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَفِي الْأَقِطِ وَجْهَانِ، وَفِي الْخُبْزِ رِوَايَتَانِ، وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي السَّوِيقِ فَإِنْ كَانَ قُوتُهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحُبُوبِ، كَالدُّخْنِ، وَالذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُجْزِئُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ. وَالثَّانِي، يُجْزِئُ. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَرِدْ تَقْيِيدُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَجْنَاسِ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ أَطْعَمَ الْمِسْكِينَ مِنْ طَعَامِهِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ طَعَامُهُ بُرًّا فَأَطْعَمَهُ مِنْهُ، وَهَذَا أَظْهَرُ. [فَصْلُ عَجَزَ عَنْ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ] (2068) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا دَفَعَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّمْرَ، وَأَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، قَالَ: (أَطْعِمْهُ أَهْلَك) . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 أُخْرَى. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ التَّكْفِيرِ، وَهَذَا خَاصٌّ لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ، لَا يَتَعَدَّاهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْسَارِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَرَقَ، وَلَمْ يُسْقِطْهَا عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْعَجْزِ عَنْهَا، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. وَهَذَا رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَدَعْوَى التَّخْصِيصِ لَا تُسْمَعُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَجْزِهِ فَلَمْ يُسْقِطْهَا. قُلْنَا: قَدْ أَسْقَطَهَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّهُ اطِّرَاحٌ لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ، وَالنَّصُّ أَوْلَى، وَالِاعْتِبَارُ بِالْعَجْزِ فِي حَالَةِ الْوُجُوبِ، وَهِيَ حَالَةُ الْوَطْءِ. [مَسْأَلَةُ جَامَعَ فِي رَمَضَان فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى جَامَعَ ثَانِيَةً] (2069) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ جَامَعَ، فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى جَامَعَ ثَانِيَةً، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جَامَعَ ثَانِيًا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي يَوْمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةُ تُجْزِئُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي؛ لِأَنَّهَا جَزَاءٌ عَنْ جِنَايَةٍ تَكَرَّرَ سَبَبُهَا قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا، فَيَجِبُ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالْحَدِّ. وَالثَّانِي: لَا تُجْزِئُ وَاحِدَةٌ، وَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، فَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ لَمْ تَتَدَاخَلْ، كَرَمَضَانَيْنِ، وَكَالْحَجَّتَيْنِ. [مَسْأَلَةُ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً] (2070) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً، فَكَفَّارَةُ ثَانِيَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي يَوْمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَوْمَيْنِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي كُلِّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، مِثْلُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ، أَوْ أَكَلَ عَامِدًا، ثُمَّ جَامَعَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْء عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ الصَّوْمَ، وَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا، كَالْجِمَاعِ فِي اللَّيْلِ. وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِيهَا، فَتَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْوَطْءِ إذَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 بَعْدَ التَّكْفِيرِ، كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَةِ رَمَضَانَ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْأَوَّلِ، وَفَارَقَ الْوَطْءَ فِي اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَطْءُ الْأَوَّلُ تَضَمَّنَ هَتْكَ الصَّوْمِ، وَهُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِيجَابِ، فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ. قُلْنَا: هُوَ مُلْغًى بِمَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الصَّوْمَ. [فَصْلُ أَصْبَحَ مُفْطِرًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ] (2071) فَصْلٌ: إذَا أَصْبَحَ مُفْطِرًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ، لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: يَأْكُلُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ غَيْرَ عَطَاءٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهَا غَيْرَهُ، وَأَظُنُّ هَذَا غَلَطًا؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ عَادَ فَوَطِئَ فِي يَوْمِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ لَمْ تَذْهَبْ، فَإِذَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى غَيْرِ الصَّائِمِ لِحُرْمَةِ الْيَوْمِ، فَكَيْفَ يُبِيحُ الْأَكْلَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ وَهُوَ مُفْطِرٌ وَأَشْبَاهِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ كَانَ لَهُ الْفِطْرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفِطْرُ فِي الْبَاطِنِ مُبَاحًا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَكَلَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَقَدْ كَانَ طَلَعَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنْ جَامَعَ فِيهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَاَلَّذِي أَصْبَحَ لَا يَنْوِي الصِّيَامَ، أَوْ أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ. وَإِنْ كَانَ جِمَاعُهُ قَبْلَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ جَامَعَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَقَدْ كَانَ طَلَعَ، عَلَى مَا مَضَى فِيهِ. [فَصْلُ كُلُّ مِنْ أَفْطَرَ وَالصَّوْمُ لَازِمٌ لَهُ] (2072) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ أَفْطَرَ وَالصَّوْمُ لَازِمٌ لَهُ، كَالْمُفْطِرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُفْطِرِ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَقَدْ كَانَ طَلَعَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ، أَوْ النَّاسِي لِنِيَّةِ الصَّوْمِ، وَنَحْوِهِمْ، يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ. لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا. إلَّا أَنَّهُ يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ فِي الْمَعْذُورِ فِي الْفِطْرِ، إبَاحَةُ فِطْرِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ. وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. [فَصْلُ مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا] (2073) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُسَافِرِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْكَافِرِ، وَالْمَرِيضِ، إذَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَصَحَّ الْمَرِيضُ الْمُفْطِرُ، فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الصِّيَامَ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ، كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالرُّؤْيَةِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ. وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ فِطْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ إلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ. فَإِذَا جَامَعَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ، بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّهِ إذَا جَامَعَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ. فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَالْآخَرُ لَا عُذْرَ لَهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمُ نَفْسِهِ، عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مَعْذُورَيْنِ فَحُكْمُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ عُذْرُهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَقْدَمَا مِنْ سَفَرٍ، أَوْ يَصِحَّا مِنْ مَرَضٍ، أَوْ اخْتَلَفَ، مِثْلُ أَنْ يَقْدَمَ الزَّوْجُ مِنْ سَفَرٍ، وَتَطْهُرَ الْمَرْأَةُ مِنْ الْحَيْضِ، فَيُصِيبَهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ، فَأَصَابَهَا. فَأَمَّا إنَّ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ صِغَرِهِ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إنْ وَطِئَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فِي الْمُسَافِرِ خَاصَّةً: وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ الْفِطْرُ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَكَانَتْ لَهُ اسْتِدَامَتُهُ، كَمَا لَوْ قَدِمَ مُفْطِرًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ زَالَ قَبْلَ التَّرَخُّصِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَدِمَتْ بِهِ السَّفِينَةُ قَبْلَ قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَكَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ، وَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ. وَهَذَا يَنْقُضُ مَا ذَكَرُوهُ. وَلَوْ عَلِمَ الصَّبِيُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ فِي أَثْنَاء النَّهَارِ بِالسِّنِّ، أَوْ عَلِمَ الْمُسَافِرُ أَنَّهُ يَقْدَمُ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا الصِّيَامُ قَبْلَ زَوَالِ عُذْرِهِمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ مَوْجُودٌ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ. [فَصْلُ يَلْزَمُ الْمُسَافِرَ وَالْحَائِضَ وَالْمَرِيضَ الْقَضَاءُ إذَا أَفْطَرُوا] (2074) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الْمُسَافِرَ وَالْحَائِضَ وَالْمَرِيضَ الْقَضَاءُ، إذَا أَفْطَرُوا، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَالتَّقْدِيرُ: فَأَفْطَرَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ. وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ، فِي أَثْنَاء النَّهَارِ، وَالصَّبِيُّ مُفْطِرٌ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا وَقْتًا يُمْكِنُهُمْ التَّلَبُّسُ بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ زَالَ عُذْرُهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وَالثَّانِيَةُ: يَلْزَمُهُمْ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بَعْضَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ، فَلَزِمَهُمْ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ أَدْرَكُوا بَعْضَ وَقْتِ الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةُ أَكَلَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَقَدْ كَانَ طَلَعَ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَكَلَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، وَقَدْ كَانَ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَلَمْ تَغِبْ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَحُكِيَ عَنْ عُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: كُنْت جَالِسًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ، فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأُتِينَا بِعِسَاسٍ فِيهَا شَرَابٌ مِنْ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَشَرِبْنَا، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ انْكَشَفَ السَّحَابُ، فَإِذَا الشَّمْسُ طَالِعَةٌ. قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَا نَقْضِيه، مَا تَجَانَفْنَا لَإِثْمٍ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْأَكْلَ فِي الصَّوْمِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، كَالنَّاسِي. وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ مُخْتَارًا، ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ، فَأَفْطَرَ، كَمَا لَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكَّ، وَلِأَنَّهُ جَهْلٌ بِوَقْتِ الصِّيَامِ، فَلَمْ يُعْذَرْ بِهِ، كَالْجَهْلِ بِأَوَّلِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ أَكْلَ الْعَامِدِ، وَفَارَقَ النَّاسِيَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ أَكَلَ فَلْيَقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي (الْمُوَطَّأِ) ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ. يَعْنِي خِفَّةَ الْقَضَاءِ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ. عَنْ فَاطِمَةَ امْرَأَتِهِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ. قِيلَ لِهِشَامٍ: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ؟» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلُ أَكَلَ الصَّائِم شَاكًّا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ] (2076) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْأَمْرَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَلَهُ الْأَكْلُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنِ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ مَالِكٌ؛ يَجِبُ الْقَضَاءُ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّوْمِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ أَكَلَ شَاكًّا فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . مَدَّ الْأَكْلَ إلَى غَايَةِ التَّبَيُّنِ، وَقَدْ يَكُونُ شَاكًّا قَبْلَ التَّبَيُّنِ، فَلَوْ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لَحَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْت أَصْبَحْت. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ زَمَانُ الشَّكِّ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ زَوَالِهِ، بِخِلَافِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، فَبَنَى عَلَيْهِ. [فَصْلُ أَكَلَ الصَّائِم شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ] (2077) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ. وَإِنْ كَانَ حِينَ الْأَكْلِ ظَانًّا أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، أَوْ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ يَقِينٌ أَزَالَ ذَلِكَ الظَّنَّ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ صَلَاتِهِ. [مَسْأَلَةُ الْجُنُبَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْغُسْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يَغْتَسِلَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمُبَاحٌ لِمَنْ جَامَعَ بِاللَّيْلِ أَنْ لَا يَغْتَسِلَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الْجُنُبَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْغُسْلَ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يَغْتَسِلَ، وَيُتِمَّ صَوْمَهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ، فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَدَاوُد، فِي أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَا صَوْمَ لَهُ. وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ فُتْيَاهُ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا: يُتِمُّ صَوْمَهُ وَيَقْضِي. وَعَنْ النَّخَعِيِّ فِي رِوَايَةٍ: يَقْضِي فِي الْفَرْضِ دُونَ التَّطَوُّعَ. وَعَنْ عُرْوَةَ، وَطَاوُسٍ: إنْ عَلِمَ بِجَنَابَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَهُوَ مُفْطِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَهُوَ صَائِمٌ. وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، الَّذِي رَجَعَ عَنْهُ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: «ذَهَبْت أَنَا وَأَبِي حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ جِمَاعٍ، مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 يَصُومُهُ» . ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: هُمَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، إنَّمَا حَدَّثَنِيهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الصَّائِمِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَلَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْجِمَاعَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، جَازَ لِلْجُنُبِ إذَا أَصْبَحَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَنْ يَصُومَ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا، وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا، وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك لَسْتَ مِثْلَنَا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» . رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي (مُوَطَّئِهِ) وَمُسْلِمٌ فِي (صَحِيحِهِ) . [مَسْأَلَةُ الْمَرْأَةُ إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَهِيَ صَائِمَةٌ إذَا نَوَتْ الصَّوْمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ] (2079) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا مِنْ اللَّيْلِ، فَهِيَ صَائِمَةٌ إذَا نَوَتْ الصَّوْمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتَغْتَسِلُ إذَا أَصْبَحَتْ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا مِنْ اللَّيْلِ، كَالْحُكْمِ فِي الْجُنُبِ سَوَاءٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَيْضُهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّ وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي النَّهَارِ أَفْسَدَ الصَّوْمَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَنْوِيَ الصَّوْمَ أَيْضًا مِنْ اللَّيْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، وَالْعَنْبَرِيُّ: تَقْضِي، فَرَّطَتْ فِي الِاغْتِسَالِ أَوْ لَمْ تُفَرِّطْ؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ يَمْنَعُ الصَّوْمَ، بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَدَثٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَتَأْخِيرُ الْغُسْلِ مِنْهُ إلَى أَنْ يُصْبِحَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ، كَالْجَنَابَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ مَنْ طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ لَيْسَتْ حَائِضًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا حَدَثٌ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، فَهِيَ كَالْجُنُبِ، فَإِنَّ الْجِمَاعَ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ لَوْ وُجِدَ فِي الصَّوْمِ أَفْسَدَهُ، كَالْحَيْضِ، وَبَقَاءُ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ كَبَقَاءِ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . فَلَمَّا أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ إلَى تَبَيُّنِ الْفَجْرِ، عُلِمَ أَنَّ الْغُسْلَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَهُ. [مَسْأَلَةُ الْحَامِلُ إذَا خَافَتْ عَلَى جَنِينِهَا وَالْمُرْضِعُ عَلَى وَلَدِهَا مِنْ الصَّوْم] (2080) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْحَامِلُ إذَا خَافَتْ عَلَى جَنِينِهَا، وَالْمُرْضِعُ عَلَى وَلَدِهَا، أَفْطَرَتَا، وَقَضَتَا، وَأَطْعَمَتَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ، إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، فَلَهُمَا الْفِطْرُ، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَحَسْبُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْمُرْضِعَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِهَا، بِخِلَافِ الْحَامِلِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مُتَّصِلٌ بِالْحَامِلِ، فَالْخَوْفُ عَلَيْهِ كَالْخَوْفِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ - أَوْ - الصِّيَامَ» وَاَللَّهِ لَقَدْ قَالَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ، وَلِأَنَّهُ فِطْرٌ أُبِيحَ لِعُذْرٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ كَفَّارَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرَضِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] . وَهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ، وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ، أَنْ يُفْطِرَا، وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا، أَفْطَرَتَا، وَأَطْعَمَتَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّهُ فِطْرٌ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ عَنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَخَبَرُهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَفَّارَةِ، فَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى الدَّلِيلِ، كَالْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَالْمَرِيضُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ هَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُفْطِرُ بِسَبَبِ نَفْسِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي إطْعَامِ الْمِسْكِينِ مُدُّ بُرٍّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ. وَالْخِلَافُ فِيهِ، كَالْخِلَافِ فِي إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَازِمٌ لَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْهُمَا، وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْإِطْعَامُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ» . وَلَنَا أَنَّهُمَا يُطِيقَانِ الْقَضَاءَ، فَلَزِمَهُمَا، كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ الْإِطْعَامَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْقَضَاءِ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الصَّوْمِ وَضْعُهُ فِي مُدَّةِ عُذْرِهِمَا، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ» . وَلَا يُشْبِهَانِ الشَّيْخَ الْهَرِمِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْقَضَاءِ، وَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. يَعْنِي وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ. [مَسْأَلَةُ عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ لَكَبَّرَ] (2081) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ لِكِبَرٍ أَفْطَرَ، وَأَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ، وَالْعَجُوزَ، إذَا كَانَ يُجْهِدُهُمَا الصَّوْمُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الصَّوْمَ لِعَجْزِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِدْيَةٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ لِمَرَضٍ اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا الْآيَةُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا: نَزَلَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ. وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْقَضَاءِ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا مَاتَ، فَلَا يَجِبُ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَهُ الصَّوْمُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِطْعَامِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ الْحَيَاةِ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْإِطْعَامِ أَيْضًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . [فَصْلُ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ يُفْطِر وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا] (2082) فَصْلٌ: وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، يُفْطِرُ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّيْخِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَنْ بِهِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ غَالِبَةٌ، لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، وَيَخَافُ أَنْ تَنْشَقَّ أُنْثَيَاهُ: أَطْعِمْ. أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ، وَمِنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لِعَطَشٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَوْجَبَ الْإِطْعَامَ بَدَلًا عَنْ الصِّيَامِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَرْجُو إمْكَانَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ رَجَا ذَلِكَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ انْتِظَارُ الْقَضَاءِ وَفِعْلُهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْفِدْيَةِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ الْقَضَاءِ، فَإِنْ أَطْعَمَ مَعَ يَأْسِهِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصِّيَامِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعُدْ إلَى الشُّغْلِ بِمَا بَرِئَتْ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْخِرَقِيِّ: فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ شَيْخًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَقَامَ مِنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ، وَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَإِنْ عُوفِيَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ بَدَلُ يَأْسٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَّا ذَهَابَ الْيَأْسِ، فَأَشْبَهَ مَنْ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ الْحَيْضِ، ثُمَّ حَاضَتْ. [مَسْأَلَةُ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ وَهِيَ صَائِمَةٌ] (2083) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ، أَوْ نَفِسَتْ، أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ؛ فَإِنْ صَامَتْ، لَمْ يُجْزِئْهَا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَا يَحِلُّ لَهُمَا الصَّوْمُ، وَأَنَّهُمَا يُفْطِرَانِ رَمَضَانَ، وَيَقْضِيَانِ، وَأَنَّهُمَا إذَا صَامَتَا لَمْ يُجْزِئْهُمَا الصَّوْمُ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَمْرُ إنَّمَا هُوَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَيْسَ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ. وَمَتَى وُجِدَ الْحَيْضُ فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ فَسَدَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، سَوَاءٌ وُجِدَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ، وَمَتَى نَوَتْ الْحَائِضُ الصَّوْمَ، وَأَمْسَكَتْ، مَعَ عِلْمِهَا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَتَمَّتْ، وَلَمْ يُجْزِئْهَا. [مَسْأَلَةُ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ] (2084) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ أَمْكَنَهَا الْقَضَاءُ فَلَمْ تَقْضِ حَتَّى مَاتَتْ، أُطْعِمَ عَنْهَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إمْكَانِ الصِّيَامِ، إمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ الصَّوْمِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ سَقَطَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ، فَوَجَبَ الْإِطْعَامُ عَنْ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إذَا تَرَكَ الصِّيَامَ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ. وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ، مَاتَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ إمْكَانِ فِعْلِهِ، فَسَقَطَ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ، كَالْحَجِّ. وَيُفَارِقُ الشَّيْخَ الْهَرِمَ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُصَامُ عَنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ، فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَلَا يُصَامُ عَنْهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ؟ يَصُومُ شَهْرًا، وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ. قَالَ: أَمَّا رَمَضَانُ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ، وَأَمَّا النَّذْرُ، فَيُصَامُ عَنْهُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي (السُّنَنِ) . وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْوَفَاةِ، كَالصَّلَاةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَهُوَ فِي النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَتْ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، فَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّك» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ كَقَوْلِنَا، وَهُمَا رَاوِيَا حَدِيثِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلُ صَوْمُ النَّذْرِ] (2085) فَصْلٌ: فَأَمَّا صَوْمُ النَّذْرِ فَيَفْعَلُهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ سَائِرُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ: يُطْعِمُ عَنْهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ. وَلَنَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا قَبْلَ هَذَا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ، وَفِيهَا غُنْيَةً عَنْ كُلِّ قَوْلٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ أَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ الْعِبَادَةَ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَى وَارِثِهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ، لِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ، وَفَكِّ رِهَانِهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَامَ عَنْهُ قَضَى ذَلِكَ عَنْهُ، وَأَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَأَشْبَهَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْهُ. [مَسْأَلَةُ لَمْ تَمُتْ الْمُفَرِّطَةُ فِي الْقَضَاء حَتَّى أَظَلَّهَا شَهْرُ رَمَضَانَ آخَرُ] (2086) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَمُتْ الْمُفَرِّطَةُ حَتَّى أَظَلَّهَا شَهْرُ رَمَضَانَ آخَرَ، صَامَتْهُ، ثُمَّ قَضَتْ مَا كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَطْعَمَتْ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، إذَا فَرَّطَا فِي الْقَضَاءِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ صَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَلَهُ تَأْخِيرُهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ آخَرُ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصِّيَامُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا أَقْضِيه حَتَّى يَجِيءَ شَعْبَانُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ تُؤَخِّرْهُ إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَمْكَنَهَا لَأَخَّرَتْهُ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْأُولَى عَنْ الثَّانِيَةِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ. فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ رَمَضَانَ آخَرَ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ إطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهِ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْأَدَاءَ وَالنَّذْرَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: أَطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُمْ. وَرُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْقَضَاءَ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ. [فَصْلُ أَخَّرَ الْقَضَاء لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانَانِ أَوْ أَكْثَرُ] (2087) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانَانِ أَوْ أَكْثَرُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ فِدْيَةٍ مَعَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ التَّأْخِيرِ لَا يَزْدَادُ بِهَا الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ الْوَاجِبَ سِنِينَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِهِ. [فَصْلُ مَاتَ الْمُفَرِّطُ بَعْدَ أَنَّ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ] (2088) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ الْمُفَرِّطُ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، أُطْعِمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ وَاحِدٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ امْرَأَةٍ أَفْطَرَتْ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَدْرَكَهَا رَمَضَانُ آخَرُ، ثُمَّ مَاتَتْ؟ قَالَ: يُطْعَمُ عَنْهَا. قَالَ لَهُ السَّائِلُ: كَمْ أُطْعِمُ؟ قَالَ: كَمْ أَفْطَرَتْ؟ قَالَ: ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ اجْمَعْ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، وَأُطْعِمْهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأُشْبِعْهُمْ. قَالَ: مَا أُطْعِمُهُمْ؟ قَالَ خُبْزًا وَلَحْمًا إنَّ قَدَرْت مِنْ أَوْسَطِ طَعَامِكُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِإِخْرَاجِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، أَزَالَ تَفْرِيطَهُ بِالتَّأْخِيرِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ فَقِيرَانِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ بَعْدَ التَّفْرِيطِ بِدُونِ التَّأْخِيرِ عَنْ رَمَضَانَ آخَرَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، وَالتَّأْخِيرُ بِدُونِ الْمَوْتِ يُوجِبُ كَفَّارَةً، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَجَبَتْ كَفَّارَتَانِ، كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي يَوْمَيْنِ. [فَصْلُ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ مِمَّنْ عَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ] (2089) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ، مِمَّنْ عَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ، فَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ، وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ الْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ يَعْنِي بَعْدَ الْفَرْضِ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا، وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ» . وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّطَوُّعُ بِهَا قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِهَا، كَالْحَجِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 لَهُ التَّطَوُّعُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِوَقْتِ مُوَسَّعٍ، فَجَازَ التَّطَوُّعُ فِي وَقْتِهَا قَبْلَ فِعْلِهَا، كَالصَّلَاةِ يَتَطَوَّعُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ الْحَجُّ. وَلِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْحَجِّ يَمْنَعُ فِعْلَ وَاجِبِهِ الْمُتَعَيِّنِ، فَأَشْبَهَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ فِي رَمَضَانَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَالْحَدِيثُ يَرْوِيه ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَفِي سِيَاقِهِ مَا هُوَ مَتْرُوكٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: (وَمَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ، وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ) . وَيُخَرَّجُ فِي التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّوْمِ. [فَصْلُ الْقَضَاءِ فِي عَشْرِ ذِي الْحَجَّةِ] (2090) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي كَرَاهَةِ الْقَضَاءِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ. وَلِأَنَّهُ أَيَّامُ عِبَادَةٍ، فَلَمْ يُكْرَهْ الْقَضَاءُ فِيهِ، كَعَشْرِ الْمُحَرَّمِ. وَالثَّانِيَةُ، يُكْرَهُ الْقَضَاءُ فِيهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» . فَاسْتُحِبَّ إخْلَاؤُهَا لِلتَّطَوُّعِ، لِيَنَالَ فَضِيلَتَهَا. وَيَجْعَلُ الْقَضَاءَ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ صَوْمِ الْفَرْضِ وَتَحْرِيمِهِ، فَمَنْ أَبَاحَهُ كَرِهَ الْقَضَاءَ فِيهَا، لِيُوَفِّرهَا عَلَى التَّطَوُّعِ، لِيَنَالَ فَضْلَهُ فِيهَا مَعَ فِعْلِ الْقَضَاءِ، وَمِنْ حَرَّمَهُ لَمْ يَكْرَهْهُ فِيهَا، بَلْ اسْتَحَبَّ فِعْلَهُ فِيهَا، لِئَلَّا يَخْلُوَ مِنْ الْعِبَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فَرْعٌ عَلَى إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الْفَرْضِ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ صَوْمُهَا تَطَوُّعًا قَبْلَ الْفَرْضِ مُحَرَّمًا، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ الْكَرَاهَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ الْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَان] (2091) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلِلْمَرِيضِ أَنْ يُفْطِرَ إذَا كَانَ الصَّوْمُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، فَإِنْ تَحَمَّلَ وَصَامَ، كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَجْزَأَهُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَزِيدُ بِالصَّوْمِ أَوْ يُخْشَى تَبَاطُؤُ بُرْئِهِ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَتَى يُفْطِرُ الْمَرِيضُ؟ قَالَ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ. قِيلَ: مِثْلُ الْحُمَّى؟ قَالَ: وَأَيُّ مَرَضٍ أَشَدُّ مِنْ الْحُمَّى، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ أَبَاحَ الْفِطْرَ بِكُلِّ مَرَضٍ، حَتَّى مِنْ وَجَعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 الْإِصْبَعِ وَالضِّرْسِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ. وَلَنَا أَنَّهُ شَاهِدٌ لِلشَّهْرِ، لَا يُؤْذِيهِ الصَّوْمُ، فَلَزِمَهُ، كَالصَّحِيحِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ جَمِيعًا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، أَنَّ السَّفَرَ اُعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمَظِنَّةُ، وَهُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ، حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ الْحِكْمَةِ بِنَفْسِهَا، فَإِنَّ قَلِيلَ الْمَشَقَّةِ لَا يُبِيحُ، وَكَثِيرَهَا لَا ضَابِطَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَاعْتُبِرَتْ بِمَظِنَّتِهَا، وَهُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ، فَدَارَ الْحُكْمُ مَعَ الْمَظِنَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَالْمَرَضُ لَا ضَابِطَ لَهُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ تَخْتَلِفُ، مِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ الصَّوْمُ وَمِنْهَا مَا لَا أَثَرَ لِلصَّوْمِ فِيهِ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَجُرْحٍ فِي الْإِصْبَعِ، وَالدُّمَّلِ، وَالْقَرْحَةِ الْيَسِيرَةِ، وَالْجَرَبِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَصْلُحْ الْمَرَضُ ضَابِطًا، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ تَحَمَّلَ الْمَرِيضُ وَصَامَ مَعَ هَذَا، فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا؛ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ، وَتَرْكِهِ تَخْفِيفَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَبُولَ رُخْصَتِهِ، وَيَصِحُّ صَوْمُهُ وَيُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزِيمَةٌ أُبِيحَ تَرْكُهَا رُخْصَةٌ، فَإِذَا تَحَمَّلَهُ أَجْزَأْهُ، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ إذَا حَضَرَهَا، وَاَلَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ إذَا قَامَ فِيهَا. (2092) فَصْلٌ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَخْشَى الْمَرَضَ بِالصِّيَامِ، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ زِيَادَتَهُ فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ خَوْفًا مِمَّا يَتَجَدَّدُ بِصِيَامِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ وَتَطَاوُلِهِ، فَالْخَوْفُ مِنْ تَجَدُّدِ الْمَرَضِ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ بِهِ شَهْوَةٌ غَالِبَةٌ لِلْجِمَاعِ، يَخَافُ أَنْ تَنْشَقَّ أُنْثَيَاهُ، فَلَهُ الْفِطْرُ. وَقَالَ فِي الْجَارِيَةِ: تَصُومُ إذَا حَاضَتْ، فَإِنْ جَهَدَهَا الصَّوْمُ فَلْتُفْطِرْ، وَلْتَقْضِ. يَعْنِي إذَا حَاضَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَتْ تَخَافُ الْمَرَضَ بِالصِّيَامِ، أُبِيحَ لَهَا الْفِطْرُ، وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِشِدَّةِ شَبَقِهِ] (2093) فَصْلٌ: وَمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِشِدَّةِ شَبَقِهِ، إنَّ أَمْكَنَهُ اسْتِدْفَاعُ الشَّهْوَةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، كَالِاسْتِمْنَاءِ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْجِمَاعُ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ لِلضَّرُورَةِ، فَلَمْ تُبَحْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ جَامَعَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَمْكَنَهُ دَفْعُهَا بِمَا لَا يُفْسِدُ صَوْمَ غَيْرِهِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ الصَّغِيرَةِ، أَوْ الْكِتَابِيَّةِ، أَوْ مُبَاشَرَةِ الْكَبِيرَةِ الْمُسْلِمَةِ دُونَ الْفَرْجِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أَوْ الِاسْتِمْنَاءِ بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِهِ، لَمْ يُبَحْ لَهُ. إفْسَادُ صَوْمِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إذَا انْدَفَعَتْ لَمْ يُبَحْ لَهُ مَا وَرَاءَهَا، كَالشِّبَعِ مِنْ الْمَيْتَةِ إذَا انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِسَدِّ الرَّمَقِ. وَإِنْ لَمْ تَنْدَفِعْ الضَّرُورَةُ إلَّا بِإِفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِهِ، أُبِيحَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، فَأُبِيحَ كَفِطْرِهِ، وَكَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ يُفْطِرَانِ خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا. فَإِنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ؛ حَائِضٌ، وَطَاهِرٌ صَائِمَةٌ، وَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَى وَطْءِ إحْدَاهُمَا، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، وَطْءُ الصَّائِمَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي كِتَابِهِ، وَلِأَنَّ وَطْأَهَا فِيهِ أَذًى لَا يَزُولُ بِالْحَاجَةِ إلَى الْوَطْءِ. وَالثَّانِي: يُتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الصَّائِمَةِ يُفْسِدُ صِيَامَهَا، فَتَتَعَارَضُ الْمَفْسَدَتَانِ، فَيَتَسَاوَيَانِ. [مَسْأَلَةُ الْمُسَافِرَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ] (2094) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُسَافِرَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ، فَإِنْ صَامَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَجْزَأْهُ. وَجَوَازُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إنْ صَامَ أَجْزَأَهُ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُ الْمُسَافِرِ قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ عُمَرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَأْمُرَانِهِ بِالْإِعَادَةِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ وَقَالَ بِهَذَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا صَامُوا، قَالَ: أُولَئِكَ هُمْ الْعُصَاةُ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» . وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلٌ يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، هَجَرَهُ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ، وَالسُّنَّةُ تَرُدُّهُ، وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيّ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، قَالَ: إنْ شِئْت فَصُمْ، وَإِنْ شِئْت فَأَفْطِرْ» وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ، «أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَجِدُ قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ قَالَ: هِيَ رُخْصَةُ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ وَأَحَادِيثُهُمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْفِطْرِ عَلَى الصِّيَامِ. [فَصْلُ الْأَفْضَل الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ] (2095) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَنَسٌ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حُمُولَةٌ يَأْوِي إلَى شِبَعٍ، فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلِ كَالتَّطَوُّعِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرِهِمَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] وَلَمَّا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرو، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ، أُعَالِجُهُ وَأُسَافِرُ عَلَيْهِ، وَأَكْرِيهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ - يَعْنِي رَمَضَان - وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ، وَأَنَا شَابٌّ، وَأَجِدُنِي أَنْ أَصُمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَخِّرَ، فَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيَّ، أَفَأَصُومُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْظَمُ لِأَجْرِي، أَمْ أُفْطِرُ؟ قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ شِئْت يَا حَمْزَةُ» وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُكُمْ الَّذِي يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ» وَلِأَنَّ فِي الْفِطْرِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، فَكَانَ أَفْضَلِ، كَالْقَصْرِ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمَرِيضِ وَبِصَوْمِ الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهِ صَوْمُهَا. [مَسْأَلَةُ قَضَاءُ شَهْرِ رَمَضَان مُتَفَرِّقًا وَالتَّتَابُعُ أَحْسَنُ] (2096) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَقَضَاءُ شَهْرِ رَمَضَان مُتَفَرِّقًا يُجْزِئُ، وَالْمُتَتَابِعُ أَحْسَنُ) هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَحُكِيَ وُجُوبُ التَّتَابُعِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْن عُمَرَ وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ وَقَالَ دَاوُد: يَجِبُ، وَلَا يُشْتَرَطُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَان، فَلْيَسْرُدْهُ، وَلَا يَقْطَعْهُ» وَلَنَا إطْلَاقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالتَّتَابُعِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَات " فَسَقَطَتْ " مُتَتَابِعَات " قُلْنَا: هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ، وَلَوْ صَحَّ فَقَدْ سَقَطَتْ اللَّفْظَةُ الْمُحْتَجُّ بِهَا. وَأَيْضًا قَوْلُ الصَّحَابَةِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ سَافَرَ؛ فَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فِي قَضَاءِ رَمَضَان: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ فِي فِطْرِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشُقّ عَلَيْكُمْ فِي قَضَائِهِ وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَان؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ، فَقَضَاهُ مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ، حَتَّى يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ قَاضِيًا دَيْنَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ مِنْكُمْ» وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِ بِعَيْنِهِ. فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ التَّتَابُعُ، كَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَخَبَرِهِمْ لَمْ يَثْبُتْ صِحَّتُهُ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَنِ لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَوْ صَحَّ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ الْمُتَتَابِعَ أَحْسَنُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْخَبَرِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَشَبَهِهِ بِالْأَدَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مَنْ دَخَلَ فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ فَخَرَجَ مِنْهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ] (2097) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (وَمَنْ دَخَلَ فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ، فَخَرَجَ مِنْهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَضَاهُ فَحَسَنٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إتْمَامُهُ، وَلَمْ يَجِبْ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا أَصْبَحَا صَائِمَيْنِ، ثُمَّ أَفْطَرَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا بَأْسَ بِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ نَذْرًا أَوْ قَضَاءَ رَمَضَان وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا صَامَ الرَّجُلُ تَطَوُّعًا، ثُمَّ شَاءَ أَنْ يَقْطَعَهُ قَطَعَهُ، وَإِذَا دَخَلَ فِي صَلَاةٍ تَطَوُّعًا، ثُمَّ شَاءَ أَنْ يَقْطَعَهَا قَطَعَهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَتَى أَصْبَحْت تُرِيدُ الصَّوْمَ، فَأَنْتَ عَلَى آخِرِ النَّظَرَيْنِ، إنَّ شِئْت صُمْت، وَإِنْ شِئْت أَفْطَرْت هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، إذَا أَجْمَعَ عَلَى الصِّيَامِ، فَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَفْطَرَ مِنْ غَيْر عُذْرٍ، أَعَادَ يَوْمًا مَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، أَوْ نَذَرَهُ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِعُذْرِ، فَإِنْ خَرَجَ قَضَى. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا قَضَاء عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «أَصْبَحْت أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ فَلَزِمَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، «قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا، فَقَالَ: هَلْ عِنْدكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْت: لَا. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. ثُمَّ مَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أُهْدِيَ إلَيَّ حَيْسٌ، فَخَبَّأْتُ لَهُ مِنْهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْحَيْسَ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ أُهْدِيَ لَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 حَيْسٌ، فَخَبَّأْت لَكَ مِنْهُ، قَالَ: أَدْنِيهِ، أَمَّا إنِّي قَدْ أَصْبَحْت وَأَنَا صَائِمٌ. فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: إنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ؛ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا» هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ، وَهُوَ أَتَمُّ مِنْ غَيْرِهِ وَرَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ، «قَالَتْ: دَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُتِيَ بِشَرَابٍ، فَنَاوَلَنِيهِ فَشَرِبْت مِنْهُ، ثُمَّ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَفْطَرْت وَكُنْت صَائِمَةً. فَقَالَ لَهَا: أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَلَا يَضُرُّك إنْ كَانَ تَطَوُّعًا» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَأَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: «قُلْت، إنِّي صَائِمَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرُ نَفْسِهِ، فَإِنْ شِئْت فَصُومِي، وَإِنْ شِئْت فَأَفْطِرِي» وَلِأَنَّ كُلَّ صَوْمٍ لَوْ أَتَمَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا إذَا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَان فَبَانَ مِنْ شَعْبَان أَوْ مِنْ شَوَّالٍ. فَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا يَثْبُتُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِيهِ مَقَالٌ. وَضَعَّفَهُ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ إتْمَامُهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ اُسْتُحِبَّ قَضَاؤُهُ؛ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَعَمَلًا بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ. (2098) فَصْلٌ: وَسَائِرُ النَّوَافِلِ مِنْ الْأَعْمَالِ حُكْمُهَا حُكْمُ الصِّيَامِ، فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا خَرَجَ مِنْهَا، إلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّهُمَا يُخَالِفَانِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا، لِتَأَكُّدِ إحْرَامِهِمَا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِإِفْسَادِهِمَا. وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ، وَلَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّ الْأَثْرَمَ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يُصْبِح صَائِمًا مُتَطَوِّعًا، أَيَكُونُ بِالْخِيَارِ؟ وَالرَّجُلُ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ أَلَهِ أَنْ يَقْطَعَهَا؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَشَدُّ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَقْطَعُهَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَطَعَهَا قَضَاهَا؟ قَالَ: إنْ قَضَاهَا فَلِيس فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَمَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيِّ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: الصَّلَاةُ ذَاتُ إحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ، فَلَزِمَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا، كَالْحَجِّ. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ تَرْكُ جَمِيعِهِ جَازَ تَرْكُ بَعْضِهِ، كَالصَّدَقَةِ، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ يُخَالِفَانِ غَيْرَهُمَا. (2099) فَصْلٌ: وَمِنْ دَخَلَ فِي وَاجِبٍ، كَقَضَاءِ رَمَضَان، أَوْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ، أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 لِأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ، وَغَيْرَ الْمُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ بِدُخُولِهِ فِيهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ. [مَسْأَلَةُ إذَا كَانَ لِلْغُلَامِ عَشْرُ سِنِينَ وَأَطَاقَ الصِّيَامَ أَخَذَ بِهِ] (2100) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِذَا كَانَ لِلْغُلَامِ عَشْرُ سِنِينَ، وَأَطَاقَ الصِّيَامَ أَخَذَ بِهِ) يَعْنِي أَنَّهُ يُلْزَمُ الصِّيَامَ، يُؤْمَرُ بِهِ وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ، لِيَتَمَرَّن عَلَيْهِ، وَيَتَعَوَّدَهُ، كَمَا يُلْزَمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْمَرُ بِهَا، وَمِمَّنْ ذَهَبِ إلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصِّيَامِ إذَا أَطَاقَهُ، عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا أَطَاقَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تُبَاعَا، لَا يَخُورُ فِيهِنَّ وَلَا يَضْعُفُ، حُمِّلَ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَان وَقَالَ إِسْحَاقُ: إذَا بَلَغَ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ أُحِبُّ أَنْ يُكَلَّفَ الصَّوْمَ لِلْعَادَةِ. وَاعْتِبَارُهُ بِالْعَشْرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالضَّرْبِ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَهَا، وَاعْتِبَارُ الصَّوْمِ بِالصَّلَاةِ أَحْسَن لِقُرْبِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى، وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ الصَّوْمَ أُشَقُّ فَاعْتُبِرَتْ لَهُ الطَّاقَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُطِيقُ الصَّلَاةَ مَنْ لَا يُطِيقُهُ. (2101) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ حَتَّى يَبْلُغَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي غُلَامٍ احْتَلَمَ: صَامَ وَلَمْ يَتْرُكْ، وَالْجَارِيَةُ إذَا حَاضَتْ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إيجَابِهِ عَلَى الْغُلَامِ الْمُطِيقِ لَهُ إذَا بَلَغَ عَشْرًا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَطَاقَ الْغُلَامُ صِيَامَ ثَلَاثَة أَيَّامٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَان» وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، أَشْبَهَ الصَّلَاةَ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُضْرَبَ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ بَلَغَ عَشْرًا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ عِنْدِي، رِوَايَةً وَاحِدَةً: أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَا تَجِبُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ فِي مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ يَقْضِيهَا. نَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ.» وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ، كَالْحَجِّ. وَحَدِيثُهُمْ مُرْسَلٌ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَسَمَّاهُ وَاجِبًا، تَأْكِيدًا لِاسْتِحْبَابِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» (2102) فَصْلٌ: إذَا نَوَى الصَّبِيُّ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ، فَبَلَغَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ السِّنِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُتِمُّ صَوْمَهُ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ نِيَّةَ صَوْمِ رَمَضَان حَصَلَتْ لَيْلًا فَيُجْزِئُهُ كَالْبَالِغِ. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 أَوَّلُ الصَّوْمِ نَفْلًا وَبَاقِيه فَرْضًا، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ تَطَوُّعًا، ثُمَّ نَذَرَ إتْمَامَهُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ بَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ أَرْكَانِهَا، فَلَزِمَتْهُ إعَادَتُهَا، كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ إذَا بَلَغَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِبُلُوغِهِ يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِهِ، وَالْمَاضِي قَبْلَ بُلُوغِهِ نَفْلٌ، فَلَمْ يَجْزِ عَنْ الْفَرْضِ، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ وَالنَّاذِرُ صَائِمٌ؛ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَأَمَّا مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ صَامَهُ أَوْ أَفْطَرَهُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْم. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَقْضِيه إنْ كَانَ أَفْطَرَهُ وَهُوَ مُطِيقٌ لِصِيَامِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ زَمَنٌ مَضَى فِي حَالِ صِبَاهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الصَّوْمِ فِيهِ، كَمَا لَوْ بَلَغَ بَعْدَ انْسِلَاخِ رَمَضَان. وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَهُوَ مُفْطِرٌ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَضَاؤُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَةُ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَان] (2103) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَان، صَامَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ بَقِيَّةِ شَهْرِهِ) أَمَّا صَوْمُ مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ بَقِيَّةِ شَهْرِهِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَأَمَّا قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ قَبْلَ إسْلَامِهِ، فَلَا يَجِبُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا مَضَى عِبَادَةٌ خَرَجَتْ فِي حَالِ كُفْرِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ، كَالرَّمَضَانِ الْمَاضِي. (2104) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إمْسَاكُهُ وَيَقْضِيه. هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ قَالَ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ فِي زَمَنِ الْعِبَادَة مَا يُمْكِنُهُ التَّلَبُّسُ بِهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْيَوْمِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ. وَلَنَا أَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَلَزِمَتْهُ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 (2105) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَعَلَيْهِ صَوْمُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَيَّامِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَفِي قَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفَاقَ فِيهِ وَإِمْسَاكِهِ رِوَايَتَانِ. وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيد. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي، وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ سُنُونَ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى يُزِيلُ الْعَقْلَ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الصَّوْمِ، كَالْإِغْمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي أَثْنَائِهِ قَضَى، مَا مَضَى؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ بِدَلِيلِ مَا لَوْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ لَمْ يَفْسُدْ، فَإِذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ، كَالْإِغْمَاءِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَعْنَى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ، فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فِي زَمَانِهِ، كَالصِّغَرِ وَالْكُفْرِ. وَيَخُصّ أَبَا حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مَعْنَى، لَوْ وُجِدَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي بَعْضِهِ أَسْقَطَهُ، كَالصِّغَرِ وَالْكُفْرِ، وَيُفَارِقُ الْإِغْمَاءَ فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَةُ رَأَى هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَان وَحْدَهُ] (2106) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا رَأَى هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَان وَحْدَهُ، صَامَ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَتَى رَأَى الْهِلَالَ وَاحِدٌ لَزِمَهُ الصِّيَامُ، عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَوْ رُدَّتْ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِسْحَاقُ: لَا يَصُومُ. وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَصُومُ إلَّا فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ شَعْبَان، فَأَشْبَهَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ. وَلَنَا أَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَان فَلَزِمَهُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ. وَكَوْنُهُ مَحْكُومًا بِهِ مِنْ شَعْبَان ظَاهِرٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَان، فَلَزِمَهُ صِيَامُهُ كَالْعَدْلِ. (2107) فَصْلٌ: فَإِنْ أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِجِمَاعِ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، فَلَا تَجِبُ بِفِعْلِ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَالْحَدِّ. وَلَنَا أَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَان بِجِمَاعِ، فَوَجَبَتْ بِهِ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عُقُوبَة، ثُمَّ قِيَاسهمْ يَنْتَقِضُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 [مَسْأَلَةُ يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَان قَوْلُ وَاحِدٍ عَدْلٍ] (2108) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، صَوَّمَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَان قَوْلُ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَيَلْزَمُ النَّاسَ الصِّيَامُ بِقَوْلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: اثْنَيْنِ أَعْجَبُ إلَيَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ رَآهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ، صَامَ النَّاسُ بِقَوْلِهِ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ رَآهُ دُونَهُمْ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا قَوْلُ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ مَا عَايَنَ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ اثْنَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ. فَقَالَ: إنِّي جَالَسْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلْتُهُمْ، وَإِنَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَانْسُكُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا ثَلَاثِينَ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ذَوَا عَدْلٍ، فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغَيْمِ كَقَوْلِنَا، وَفِي الصَّحْوِ: لَا يُقْبَلُ إلَّا الِاسْتِفَاضَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ الْجَمَاعَةُ إلَى مَطْلَعِ الْهِلَالِ وَأَبْصَارُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةٌ، فَيَرَاهُ وَاحِدٌ دُونَ الْبَاقِينَ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: رَأَيْت الْهِلَالَ. قَالَ، أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ، فَلْيَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي رَأَيْته. فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ، فَقُبِلَ مِنْ وَاحِدٍ، كَالْخَبَرِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، فَقُبِلَ مِنْ وَاحِدٍ عَدْلٍ، كَالرِّوَايَةِ، وَخَبَرُهُمْ إنَّمَا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ، وَخَبَرُنَا أَشْهَرُ مِنْهُ، وَهُوَ يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَيُفَارِقُ الْخَبَرَ عَنْ هِلَالِ شَوَّالٍ، فَإِنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ الْعِبَادَةِ، وَهَذَا دُخُولٌ فِيهَا، وَحَدِيثُهُمْ فِي هِلَالَ شَوَّالٍ يُخَالِفُ مَسْأَلَتَنَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ انْفِرَادُ الْوَاحِدِ بِهِ مَعَ لَطَافَةِ الْمَرْئِيِّ وَبُعْدِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ مَعْرِفَتهمْ بِالْمَطْلِعِ وَمَوَاضِعُ قَصْدِهِمْ وَحِدَّةُ نَظَرِهِمْ، وَلِهَذَا لَوْ حَكَمَ بِرُؤْيَتِهِ حَاكِمٌ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ؛ جَازَ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ؛ وَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَى مَا قَالُوهُ لَمْ يَصِحّ فِيهِ حُكْمُ حَاكِمٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، وَمَنْ مَنَعَ ثُبُوتَهُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، رَدَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ وَسَائِرِ الشُّهُورِ، وَلَوْ أَنَّ جَمَاعَةً فِي مَحْفِلٍ، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ؛ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا دُونَ مَنْ أَنْكَرَ، وَلَوْ أَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ شَهِدَا عَلَى الْخَطِيبِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْخُطْبَةِ شَيْئًا، لَمْ يَشْهَدْ بِهِ غَيْرُهُمَا؛ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا يُشَارِكُهُمَا فِي سَلَامَةِ السَّمْعِ وَصِحَّةِ الْبَصَرِ، كَذَا هَاهُنَا. (2109) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَثِقُ بِقَوْلِهِ؛ لَزِمَهُ الصَّوْمُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِم؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ بِوَقْتِ الْعِبَادَةِ، يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، أَشْبَهَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَبَرَ عَنْ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْخَبَرِ، وَإِنْ رَدَّهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْحَاكِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُخْبِرِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي عَدَمِ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ يَجْهَلُ الْحَاكِمُ عَدَالَةَ مَنْ يَعْلَمُ غَيْرُهُ عَدَالَتَهُ. (2110) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ امْرَأَةً فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ قَبُولُ قَوْلِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيّ. فَأَشْبَهَ الرِّوَايَةَ، وَالْخَبَرَ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَدُخُولَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ قَوْلُ امْرَأَةٍ، كَهِلَالِ شَوَّالٍ. [مَسْأَلَةُ لَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ شَوَّال إلَّا شَهَادَةُ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ] (2111) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَا يُفْطِرُ إلَّا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ إلَّا شَهَادَةُ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ. فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعِهِمْ، إلَّا أَبَا ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيْ شَهْرِ رَمَضَان، أَشْبَهَ الْأَوَّلَ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، أَشْبَهَ الرِّوَايَةَ وَأَخْبَارَ الدِّيَانَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وَلَنَا خَبَرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ عَلَى شَهَادَةِ الْإِفْطَارِ إلَّا شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ» . وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى هِلَالٍ لَا يُدْخَلُ بِهَا فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ اثْنَيْنِ كَسَائِرِ الشُّهُودِ، وَهَذَا يُفَارِقُ الْخَبَرَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُخْبِرِ مَعَ وُجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَفُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَهَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ ذَلِكَ، فَافْتَرَقَا. (2112) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشُّهُورِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَيْسَ بِمَالِ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَأَشْبَهَ الْقِصَاصَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَان، لَكِنْ تَرَكْنَاهُ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ. (2113) فَصْلٌ: وَإِذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَرَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ،؛ أَفْطَرُوا وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ؛ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُفْطِرُونَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» . وَلِأَنَّهُ فِطْرٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِلَالِ شَوَّالٍ. وَالثَّانِي: يُفْطِرُونَ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إذَا وَجَبَ الْفِطْرُ لِاسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ، لَا بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ يَثْبُتُ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَتَثْبُتُ بِهَا الْوِلَادَةُ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْوِلَادَةُ ثَبَتَ النَّسَبُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِلْوِلَادَةِ، كَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ صَامُوا لِأَجْلِ الْغَيْمِ؛ لَمْ يُفْطِرُوا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ، فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ لَا يُفْطِرُ إذَا رَأَى هِلَال شَوَّالٍ وَحْدَهُ] (2114) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُفْطِرُ إذَا رَآهُ وَحْدَهُ) وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُهُ مِنْ شَوَّالٍ، فَجَازَ لَهُ الْأَكْلُ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو رَجَاءٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا الْمَدِينَةَ وَقَدْ رَأَيَا الْهِلَالَ، وَقَدْ أَصْبَحَ النَّاسُ صِيَامًا. فَأَتَيَا عُمَرَ. فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: بَلْ مُفْطِرٌ. قَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَصُومَ وَقَدْ رَأَيْت الْهِلَالَ. وَقَالَ لِلْآخَرِ، قَالَ: أَنَا صَائِمٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَأُفْطِرُ وَالنَّاسُ صِيَامٌ. فَقَالَ لِلَّذِي أَفْطَرَ: لَوْلَا مَكَانُ هَذَا لَأَوْجَعْت رَأْسَكَ. ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ: أَنْ اُخْرُجُوا. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ، عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ. وَإِنَّمَا أَرَادَ ضَرْبَهُ لِإِفْطَارِهِ بِرُؤْيَتِهِ، وَدَفَعَ عَنْهُ الضَّرْبَ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ. وَلَوْ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَلَا تَوَعَّدَهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْفِطْرِ الْإِمَامُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمَا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَجُزْ الْفِطْرُ فِيهِ كَالْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفَارَقَ مَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ شَوَّالٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مِنْ شَوَّالٍ. قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ الْيَقِينُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّائِي خُيِّلَ إلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَنِ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الْهِلَالَ. فَقَالَ لَهُ: امْسَحْ عَيْنَك. فَمَسَحَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: تَرَاهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَعَلَّ شَعْرَةً مِنْ حَاجِبِك تَقَوَّسَتْ عَلَى عَيْنِك، فَظَنَنْتهَا هِلَالًا أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ فَصْلٌ: فَإِنْ رَآهُ اثْنَانِ، وَلَمْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ جَازَ لِمَنْ سَمِعَ شَهَادَتَهُمَا الْفِطْرُ، إذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفِطْرُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» وَإِنْ شَهِدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا؛ لِجَهْلِهِ بِحَالِهِمَا، فَلِمَنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُمَا الْفِطْرُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْحَاكِمِ هَاهُنَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَقُّفٌ لِعَدَمِ عِلْمِهِ. فَهُوَ كَالْوُقُوفِ عَنْ الْحُكْمِ انْتِظَارًا لِلْبَيِّنَةِ، وَلِهَذَا لَوْ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدُهُمَا عَدَالَةَ صَاحِبِهِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ، إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ الْحَاكِمُ، لِئَلَّا يُفْطِرَ بِرُؤْيَتِهِ وَحْدَهُ. [مَسْأَلَةُ اشْتِبَاه شَهْرُ الصَّوْم عَلَى الْأَسِيرِ] (2116) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِذَا اشْتَبَهَتْ الْأَشْهُرُ عَلَى الْأَسِيرِ، فَإِنْ صَامَ شَهْرًا يُرِيدُ بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَوَافَقَهُ، أَوْ مَا بَعْدَهُ؛ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ وَافَقَ مَا قَبْلَهُ، لَمْ يُجْزِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَطْمُورًا، أَوْ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي النَّائِيَةِ عَنْ الْأَمْصَارِ لَا يُمْكِنُهُ تَعَرُّفُ الْأَشْهُرِ بِالْخَبَرِ، فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيَجْتَهِدُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَنْ أَمَارَةٍ تَقُومُ فِي نَفْسِهِ دُخُولُ شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَهُ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ لَا يَنْكَشِفَ لَهُ الْحَالُ، فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ، وَيُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ بِاجْتِهَادِهِ. فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالِاجْتِهَادِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُ أَنَّهُ وَافَقَ الشَّهْرَ أَوْ مَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَامَهُ عَلَى الشَّكِّ فَلَمْ يُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ صَامَ يَوْمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 الشَّكِّ فَبَانَ مِنْ رَمَضَان. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا أَصَابَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ؛ أَجْزَأَهُ كَالْقِبْلَةِ إذَا اشْتَبَهَتْ، أَوْ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا اشْتَبَهَ وَقْتُهَا، وَفَارَقَ يَوْمَ الشَّكِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِالصَّوْمِ عِنْدَ أَمَارَةٍ عَيَّنَهَا، فَمَا لَمْ تُوجَدْ لَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: وَافَقَ قَبْلَ الشَّهْرِ، فَلَا يُجْزِئُهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُجْزِئُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَوَقَفُوا قَبْلَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ. وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَا نُسَلِّمُهُ إلَّا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، لِعَظَمِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ لِنَفَرٍ مِنْهُمْ لَمْ يُجْزِئْهُمْ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُوَافِقَ بَعْضُهُ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ؛ أَجْزَأَهُ وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ؛ لَمْ يُجْزِئْهُ. (2117) فَصْلٌ: وَإِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ بَعْدَ الشَّهْرِ، اُعْتُبِرَ أَنْ يَكُونَ مَا صَامَهُ بِعِدَّةِ أَيَّامِ شَهْرِهِ الَّذِي فَاتَهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ مَا بَيْنَ هِلَالَيْنِ أَوْ لَمْ يُوَافِقْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرَانِ تَامَّيْنِ أَوْ نَاقِصَيْنِ. وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ إذَا وَافَقَ شَهْرًا بَيْنَ هِلَالَيْنِ أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرَانِ تَامَّيْنِ أَوْ نَاقِصَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا تَامًّا وَالْآخَرُ نَاقِصًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَلِأَنَّهُ فَاتَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْخِرَقِيِّ تَعَرُّضٌ لِهَذَا التَّفْصِيلِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالصَّوَابَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ يُجْزِئُهُ مَا بَيْنَ هِلَالَيْنِ؟ قُلْنَا: الْإِطْلَاقُ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ، وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَهَاهُنَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ عِدَّةُ الْمَتْرُوكِ، كَمَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَجْزَأَهُ رَكْعَتَانِ، وَلَوْ تَرَكَ صَلَاةً وَجَبَ قَضَاؤُهَا بِعِدَّةِ رَكَعَاتِهَا، كَذَلِكَ هَاهُنَا الْوَاجِبُ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ مِنْ الْأَيَّامِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا صَامَهُ بَيْن هِلَالَيْنِ أَوْ مِنْ شَهْرَيْنِ، فَإِنْ دَخَلَ فِي صِيَامِهِ يَوْمُ عِيدٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَإِنْ وَافَقَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَهَلْ يُعْتَدُّ بِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهَا عَلَى الْفَرْضِ. (2118) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الْأَسِيرِ دُخُولُ رَمَضَان فَصَامَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ وَافَقَ الشَّهْرَ؛ لِأَنَّهُ صَامَهُ عَلَى الشَّكِّ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ، إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ؛ فَهُوَ فَرْضِي. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الصِّيَامُ، وَيَقْضِي إذَا عَرَفَ الشَّهْرَ، كَاَلَّذِي خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ وَيُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَيُعِيدُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ هَلْ يُعِيدُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَذَلِكَ يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِهِ هَاهُنَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَتَحَرَّى، فَمَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الشَّهْرِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ عَلَى دَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا فِي الْقِبْلَةِ. (2119) فَصْلٌ: وَإِذَا صَامَ تَطَوُّعًا، فَوَافَقَ شَهْرَ رَمَضَان، لَمْ يُجْزِئْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِئُهُ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. [مَسْأَلَةُ صَوْمَ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ] (2120) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُصَامُ يَوْمَا الْعِيدَيْنِ، وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، لَا عَنْ فَرْضٍ، وَلَا عَنْ تَطَوُّعٍ. فَإِنْ قَصَدَ لِصِيَامِهَا كَانَ عَاصِيًا، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْفَرْضِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، مُحَرَّمٌ فِي التَّطَوُّعِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، قَالَ: شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إنَّ هَذَيْنِ يَوْمَيْنِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِهِمَا يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْآخَرُ يَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ؛ يَوْمِ فِطْرٍ، وَيَوْمِ أَضْحَى» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَحْرِيمَهُ. وَأَمَّا صَوْمُهُمَا عَنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَفِيهِ خِلَافٌ. نَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَنْهِيٌّ عَنْ صِيَامِهَا] (2121) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَصُومُهَا عَنْ الْفَرْضِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَنْهِيٌّ عَنْ صِيَامِهَا أَيْضًا؛ لِمَا رَوَى نُبَيْشَةُ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَّامَ مِنًى أُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَبِعَالٍ» . إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِإِفْطَارِهَا، وَيَنْهَى عَنْ صِيَامِهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَا يَحِلُّ صِيَامُهَا تَطَوُّعًا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهَا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفْطِرُ إلَّا يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِهَا، وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَمْ يَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَرَّبَ إلَيْهِمَا طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ عَمْرٌو: كُلْ، فَهَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِإِفْطَارِهَا، وَيَنْهَى عَنْ صِيَامِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَفْطَرَ لَمَّا بَلَغَهُ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا صَوْمُهَا لِلْفَرْضِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ صَوْمِهَا، فَأَشْبَهَتْ يَوْمَيْ الْعِيدِ. وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ صَوْمُهَا لِلْفَرْضِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو، وَعَائِشَةَ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ أَيْ: الْمُتَمَتِّعُ إذَا عَدِمَ الْهَدْيَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَفْرُوضٍ. [فَصْلُ إفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ] (2122) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، مِثْلُ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَيُوَافِقُ صَوْمُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَنْ عَادَتُهُ صَوْمُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ، أَوْ آخِرِهِ، أَوْ يَوْمِ نِصْفِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: صِيَامُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ أَنْ يُفْرَدَ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِيَامٍ كَانَ يَصُومُهُ، وَأَمَّا أَنْ يُفْرَدَ فَلَا. قَالَ: قُلْت: رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، فَوَقَعَ فِطْرُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَصَوْمُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِطْرُهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَصَامَ الْجُمُعَةَ مُفْرَدًا؟ فَقَالَ: هَذَا الْآنَ لَمْ يَتَعَمَّدْ صَوْمَهُ خَاصَّةً، إنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْجُمُعَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يُكْرَهُ إفْرَادُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَيَّامِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 إلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ: سَأَلْت جَابِرًا، «أَنْهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: «أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَفْطِرِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ أَحَادِيثُ سِوَى هَذِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ إفْرَادُهُ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهَا لَمْ تَصُمْ أُمْسِ وَلَا غَدًا (2123) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ، فَلْيَمْضُغْهُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: اسْمُ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ هُجَيْمَةُ، أَوْ جُهَيْمَةُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا صِيَامُ يَوْمِ السَّبْتِ يُفْرَدُ بِهِ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثُ الصَّمَّاءِ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَتَّقِيه، أَيْ: أَنْ يُحَدِّثَنِي بِهِ، وَسَمِعْته مِنْ أَبِي عَاصِمٍ وَالْمَكْرُوهُ إفْرَادُهُ، فَإِنْ صَامَ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُوَيْرِيَةَ. وَإِنْ وَافَقَ صَوْمًا لَإِنْسَانٍ، لَمْ يُكْرَهْ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَيَوْمِ الْمِهْرَجَانِ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ يُعَظِّمُهُمَا الْكُفَّارُ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمَا بِالصِّيَامِ دُونَ غَيْرِهِمَا مُوَافَقَةً لَهُمْ فِي تَعْظِيمِهِمَا، فَكُرِهَ كَيَوْمِ السَّبْتِ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، كُلُّ عِيدٍ لِلْكُفَّارِ، أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ. [فَصْلُ إفْرَادُ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ] (2124) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ إفْرَادُ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَإِنْ صَامَهُ رَجُلٌ، أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، بِقَدْرِ مَا لَا يَصُومُهُ كُلَّهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، قَالَ: رَأَيْت عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ الْمُتَرَجِّبِينَ، حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الطَّعَامِ. وَيَقُولُ: كُلُوا، فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتْ تُعَظِّمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ. وَبِإِسْنَادِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى النَّاسَ، وَمَا يُعِدُّونَ لِرَجَبٍ، كَرِهَهُ، وَقَالَ: صُومُوا مِنْهُ، وَأَفْطِرُوا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ، وَعِنْدَهُمْ سِلَالٌ جُدُدٌ وَكِيزَانُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجَبٌ نَصُومُهُ. قَالَ: أَجَعَلْتُمْ رَجَبًا رَمَضَانَ، فَأَكْفَأِ السِّلَالَ، وَكَسَرَ الْكِيزَانَ قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ كَانَ يَصُومُ السَّنَةَ صَامَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَصُومُهُ مُتَوَالِيًا، يُفْطِرُ فِيهِ، وَلَا يُشَبِّهُهُ بِرَمَضَانَ. [فَصْلُ صِيَامُ الدَّهْرِ] (2125) فَصْلٌ: وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ صَامَ الدَّهْرَ؟ قَالَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ» . قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَسَّرَ مُسَدِّدٌ قَوْلَ أَبِي مُوسَى: (مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ) . فَلَا يَدْخُلُهَا. فَضَحِكَ وَقَالَ: مَنْ قَالَ هَذَا؟ فَأَيْنَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ؟ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنَّمَا يُكْرَه إذَا أَدْخَلَ فِيهِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا أَفْطَرَ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِذَلِكَ بَأْسٌ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْرُدُونَ الصَّوْمَ، مِنْهُمْ أَبُو طَلْحَةَ. قِيلَ: إنَّهُ صَامَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي، أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ هَذِهِ الْأَيَّامَ، فَإِنْ صَامَهَا قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا كُرِهَ صَوْمُ الدَّهْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَالضَّعْفِ، وَشِبْهِ التَّبَتُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: إنَّك لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. قَالَ: إنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ عَيْنُك، وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ قُلْت: فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُد، كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ. فَقُلْت: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [مَسْأَلَةُ الْهِلَالَ إذَا رُئِيَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ] (2126) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ نَهَارًا، قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْهِلَالَ إذَا رُئِيَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ رَمَضَان، لَمْ يُفْطِرُوا بِرُؤْيَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: إنْ رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. رَوَاهُ سَعِيدٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» . وَقَدْ رَأَوْهُ، فَيَجِبُ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إلَى الْمَاضِيَةِ. وَحُكِيَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ، وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ، أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تُمْسُوا، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ عَشِيَّةً. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَخَبَرُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا رُئِيَ عَشِيَّةً، بِدَلِيلِ مَا لَوْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ. ثُمَّ إنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَقْتَضِي الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مِنْ الْغَدِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ رَآهُ عَشِيَّةً. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ فِي أَوَّلِ رَمَضَان، فَالصَّحِيحُ أَيْضًا، أَنَّهُ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لِلْمَاضِيَةِ، فَيَلْزَمُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ فِي آخِرِهِ، فَهُوَ لَهَا فِي أَوَّلِهِ، كَمَا لَوْ رُئِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ. [مَسْأَلَةُ تَأْخِيرُ السَّحُورِ وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّل فِي تَعْجِيل السُّحُورِ] (2127) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالِاخْتِيَارُ تَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (2128) أَحَدُهُمَا، فِي السَّحُورِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاء؛ أَحَدُهَا، فِي اسْتِحْبَابِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّحُورُ بَرَكَةٌ، فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يُجَرَّعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» . الثَّانِي: فِي وَقْتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ يُعْجِبُنِي تَأْخِيرُ السَّحُورِ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ. قُلْت: كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: خَمْسِينَ آيَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، قَالَ: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى السَّحُورِ، فَقَالَ: هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. سَمَّاهُ غَدَاءً لِقُرْبِ وَقْتِهِ مِنْهُ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّحُورِ التَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ، وَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْفَجْرِ كَانَ أَعْوَنَ عَلَى الصَّوْمِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ يَأْكُلُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ طُلُوعَهُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: يَقُولُ اللَّه تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَتَسَحَّرُ: يَا غُلَامُ، اخْفِ الْبَابَ، لَا يَفْجَأُنَا الصُّبْحُ وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي أَتَسَحَّرُ؛ فَإِذَا شَكَكْت أَمْسَكْت. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شَكَكْت، حَتَّى لَا تَشُكَّ فَأَمَّا الْجِمَاعُ فَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ، وَفِيهِ خَطَرُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَحُصُولُ الْفِطْرِ بِهِ. الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَسَحَّرُ بِهِ. وَكُلُّ مَا حَصَلَ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ حَصَلَ بِهِ فَضِيلَةُ السَّحُورِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ» . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ] (2129) الْفَصْلُ الثَّانِي، فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَفِيهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا، فِي اسْتِحْبَابِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرِ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: «دَخَلْت أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ؟ قَالَتْ: مَنْ الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ. قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ. رَوَاهُ» مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أَسْرَعُهُمْ فِطْرًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: «مَا رَأَيْت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ» . رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. الثَّانِي: فِيمَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى الْمَاءِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. [فَصْلُ فِي الْوِصَالِ] الثَّالِثُ: فِي الْوِصَالِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُفْطِرَ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ. وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالُوا: إنَّك تُوَاصِلُ. قَالَ: إنِّي لَسْت مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ، وَمَنْعَ إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: (إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى) . يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ يُعَانُ عَلَى الصِّيَامِ، وَيُغْنِيه اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، بِمَنْزِلَةِ مِنْ طَعِمَ وَشَرِبَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: إنِّي أُطْعَمُ حَقِيقَةً، وَأُسْقَى حَقِيقَةً، حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لَوْ طَعِمَ وَشَرِبَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا، وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّك تُوَاصِلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: (إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي) . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي النَّهَارِ، وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي النَّهَارِ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْوِصَالَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، تَقْرِيرًا لِظَاهِرِ النَّهْيِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ الْمُبَاحَ، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ فِي حَالِ الْفِطْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَصَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ مُحَرَّمٌ، مَعَ كَوْنِهِ تَرْكًا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُبَاحِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 قُلْنَا: مَا حُرِّمَ تَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِنَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا حُرِّمَ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّمَا أَتَى بِهِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَرِفْقًا بِهِمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ. كَمَا نَهَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ صِيَامِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ، رَحْمَةً لَهُمْ» . وَهَذَا لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّحْرِيمَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ وَاصَلُوا بَعْدَهُ، وَلَوْ فَهِمُوا مِنْهُ التَّحْرِيمَ لَمَا اسْتَجَازُوا فِعْلَهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا وَيَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ. فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ» . كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ وَاصَلَ مِنْ سَحَرٍ إلَى سَحَرٍ جَازَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ أَفْضَلُ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ. [فَصْلُ يُسْتَحَبُّ تَفْطِيرُ الصَّائِمِ] (2130) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَفْطِيرُ الصَّائِمِ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (2131) فَصْلٌ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَفْطَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَك صُمْنَا، وَعَلَى رِزْقِك أَفْطَرْنَا، فَتَقَبَّلْ مِنَّا، إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَفْطَرَ، يَقُول: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، ذَكَرَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ. [مَسْأَلَةُ مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَان وَأَتْبَعَهُ بِسِتِّ مِنْ شَوَّالٍ] (2132) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَإِنْ فَرَّقَهَا، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَوْمَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ يَصُومُهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحَقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، شَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَذَلِكَ تَمَامُ سَنَةٍ» . يَعْنِي أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَالشَّهْرُ بِعَشَرَةٍ وَالسِّتَّةُ بِسِتِّينَ يَوْمًا. فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَهُوَ سَنَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَا يَجْرِي هَذَا مَجْرَى التَّقْدِيمِ لِرَمَضَانَ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ فَاصِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَا دَلِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَضِيلَتِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ صِيَامَهَا بِصِيَامِ الدَّهْرِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ. قُلْنَا: إنَّمَا كُرِهَ صَوْمُ الدَّهْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّعْفِ وَالتَّشْبِيهِ بِالتَّبَتُّلِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ فَضْلًا عَظِيمًا، لِاسْتِغْرَاقِهِ الزَّمَانَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ التَّشْبِيهُ بِهِ فِي حُصُولِ الْعِبَادَةِ بِهِ، عَلَى وَجْه عَرِيَ عَنْ الْمَشَقَّةِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ» . ذَكَرَ ذَلِكَ حَثًّا عَلَى صِيَامِهَا، وَبَيَانِ فَضْلِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهَا. وَنَهَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ. وَقَالَ: «مَنْ قَرَأَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . أَرَادَ التَّشْبِيهَ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي الْفَضْلِ، لَا فِي كَرَاهَة الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا مُتَتَابِعَةً أَوْ مُفَرَّقَةً، فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ فِي آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ بِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَلِأَنَّ فَضِيلَتَهَا لِكَوْنِهَا تَصِيرُ مَعَ الشَّهْرِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَهُوَ السَّنَةُ كُلُّهَا، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ صَارَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ مَعَ التَّفْرِيقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ صِيَامُ عَاشُورَاء كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَة كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ] (2133) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَصِيَامُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ صِيَامَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صِيَامُ عَرَفَةَ: إنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» وَقَالَ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ: «إنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: التَّاسِعُ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ التَّاسِعَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ، أَنَّهُ قَالَ: «صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ لِذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الشَّهْرِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَتَيَقَّنَ صَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ. (2134) فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ، هَلْ كَانَ وَاجِبًا؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا. وَقَالَ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ» بِالصَّوْمِ، وَالنِّيَّةُ فِي اللَّيْلِ شَرْطٌ فِي الْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: إنَّ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، لَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ كَانَ مَفْرُوضًا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا اُفْتُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتَرَكَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: لَيْسَ هُوَ مَكْتُوبًا عَلَيْكُمْ الْآنَ. وَأَمَّا تَصْحِيحُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِقَضَائِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ. كَمَا قُلْنَا فِي مَنْ أَسْلَمَ وَبَلَغَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَاقْضُوهُ» . (2135) فَصْلٌ: فَأَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ: فَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِيهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُرِيَ فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَأَصْبَحَ يَوْمَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 يَتَرَوَّى، هَلْ هَذَا مِنْ اللَّهِ أَوْ حُلْمٌ؟ فَسُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ رَآهُ أَيْضًا فَأَصْبَحَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ، فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَهُوَ يَوْمٌ شَرِيفٌ عَظِيمٌ، وَعِيدٌ كَرِيمٌ، وَفَضْلُهُ كَبِيرٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ.» (2136) فَصْلٌ: وَأَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ كُلُّهَا شَرِيفَةٌ مُفَضَّلَةٌ يُضَاعَفُ الْعَمَلُ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَةِ فِيهَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا، مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ» . [مَسْأَلَةُ يُسْتَحَبُّ الْفِطْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ لِمَنْ كَانَ بِعَرَفَةَ] (2137) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِعَرَفَةَ أَنْ يَصُومَ، لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الْفِطْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، يَصُومَانِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَضْعُفْ عَنْ الدُّعَاءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَصُومُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُ فِي الصَّيْفِ. لِأَنَّ كَرَاهَةَ صَوْمِهِ إنَّمَا هِيَ مُعَلَّلَةٌ بِالضَّعْفِ عَنْ الدُّعَاءِ، فَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ فِي الشِّتَاءِ، لَمْ يَضْعُفْ، فَتَزُولَ الْكَرَاهَةُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، «أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا بَيْنَ يَدَيْهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَاتٍ، فَشَرِبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «حَجَجْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَصُمْهُ - يَعْنِي يَوْمَ عَرَفَة - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ، وَلَا آمُرُ بِهِ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ.» أَخْرَجَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» . وَلِأَنَّ الصَّوْمَ يُضْعِفُهُ، وَيَمْنَعُهُ الدُّعَاءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَظَّمِ، الَّذِي يُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ، فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الشَّرِيفِ، الَّذِي يُقْصَدُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، رَجَاءَ فَضْلِ اللَّه فِيهِ، وَإِجَابَةِ دُعَائِهِ بِهِ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ. [فَصْلُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَان] (2138) فَصْلٌ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَان شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ (2139) فَصْلٌ: وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ أَنْ تَصُومَ يَوْمًا وَتُفْطِرَ يَوْمًا؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَهُ: صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُد، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ. فَقُلْت: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُسَامَة بْن زَيْدٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ أَعْمَالَ النَّاسِ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ» . . [مَسْأَلَةُ صِيَامَ ثَلَاثَة أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُسْتَحَبٌّ] (2141) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَيَّامُ الْبِيضَ الَّتِي حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِيَامِهَا، هِيَ الثَّالِثُ عَشَرَ وَالرَّابِعُ عَشَرَ وَالْخَامِسُ عَشَرَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُسْتَحَبٌّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «صُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَيَّامَ الْبِيضِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إذَا صُمْت مِنْ الشَّهْرِ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . أَخْرَجَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى النَّسَائِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: كُلْ. قَالَ: إنِّي صَائِمٌ. قَالَ: صَوْمُ مَاذَا؟ قَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَة أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ. قَالَ: إنْ كُنْت صَائِمًا فَعَلَيْك بِالْغُرِّ الْبِيضِ؛ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . وَعَنْ مِلْحَانَ الْقَيْسِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ؛ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. وَقَالَ: هُوَ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَسُمِّيَتْ أَيَّامَ الْبِيضِ لِابْيِضَاضِ لَيْلِهَا كُلِّهِ بِالْقَمَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيَّامِ اللَّيَالِي الْبِيضِ. وَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَى آدَمَ فِيهَا، وَبَيَّضَ صَحِيفَتَهُ. ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ. (2142) فَصْل: وَيَجِبُ عَلَى الصَّائِم أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَعَاهَدَ صَوْمَهُ مِنْ لِسَانِهِ، وَلَا يُمَارِي، وَيَصُونَ صَوْمَهُ، كَانُوا إذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَالُوا: نَحْفَظُ صَوْمَنَا. وَلَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلًا يَجْرَحُ بِهِ صَوْمَهُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. [فَصْلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] (2143) فَصْلٌ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: وَهِيَ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبَارَكَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُفَضَّلَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] . قِيلَ: مَعْنَاهُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ وَمُصِيبَةٍ، وَرِزْقٍ وَبَرَكَةٍ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] . وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً، فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3] . وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وَقَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْعِزَّةِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُجُومًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ تُرْفَعْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ قَالَ، «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ رُفِعَتْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ هِيَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْت: فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: فِي رَمَضَانَ. فَقُلْت: فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، أَوْ الثَّانِي، أَوْ الْآخِرِ؟ فَقَالَ: فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ» . وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا. يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا فِي السَّنَةِ كُلِّهَا. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي رَمَضَانَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ؛ لِئَلَّا يَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي كُلِّ وِتْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَكُمْ، فَتَتَّكِلُوا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ طَلَبُهَا فِي جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ آكَدُ، وَفِي لَيَالِي الْوَتْرِ مِنْهُ آكَدُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَفِي وَتْرٍ مِنْ اللَّيَالِي، لَا يُخْطِئُ إنْ شَاءَ اللَّه، كَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اُطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ، أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ تِسْعٍ بَقِينَ» . وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي الْوَتْرِ مِنْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَتْ: «وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 رَمَضَانَ» . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ، فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ. (2144) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أُرْجَى هَذِهِ اللَّيَالِي، فَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَمَا عَلِمْت أَبَا الْمُنْذِرِ، أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؟ قَالَ: بَلَى «أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَيْلَةٌ صَبِيحَتُهَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ. فَعَدَدْنَا، وَحَفِظْنَا» ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَكُمْ، فَتَتَّكِلُوا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُمْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِهِمْ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ بِهِمْ فِي لَيْلَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، حَتَّى كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَجَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، قَالَ: فَقَامَ بِهِمْ حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ» . يَعْنِي السُّحُورَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: سُورَةُ الْقَدْرِ ثَلَاثُونَ كَلِمَةً، السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهَا هِيَ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، «قَالَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . وَقِيلَ: آكَدُهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ، سَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَكُونُ بِبَادِيَةٍ يُقَالُ لَهَا الْوَطْأَةُ، وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ أُصَلِّي بِهِمْ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ أَنْزِلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَأُصَلِّيهَا فِيهِ، فَقَالَ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلِّهَا فِيهِ، وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَسْتَتِمَّ آخِرَ هَذَا الشَّهْرِ فَافْعَلْ، وَإِنْ أَحْبَبْت فَكُفَّ. فَكَانَ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَّا فِي حَاجَةٍ، حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ كَانَتْ دَابَّتُهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا. وَقِيلَ: آكَدُهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» . وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ نَكُنْ نَعُدُّ عَدَدَكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 هَذَا، وَإِنَّمَا كُنَّا نَعُدُّ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ. يَعْنِي أَنَّ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ. وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ بَقِيَتْ، فَقَامَ بِنَا نَحْوًا مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ لَيْلَةَ سِتٍّ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ خَمْسٍ قَامَ بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوًا مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ، قَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ. فَقُلْت: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ. وَأَيْقَظَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَبَنَاتِهِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقِيلَ: آكَدُهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي الْوِتْرِ، وَإِنِّي رَأَيْت أَنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ. قَالَ: فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ» . وَفِي حَدِيثٍ: (فِي صَبِيحَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَآخِرُ لَيْلَةٍ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: إنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ هَذَا عِنْدِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ. فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أَبُو سَعِيدٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ عَلَامَتَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تُرَى عَلَامَتُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيَالِي. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى الْأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهَا، وَيَجِدُّوا فِي الْعِبَادَةِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ طَمَعًا فِي إدْرَاكِهَا، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِيُكْثِرُوا مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْيَوْمِ كُلِّهِ، وَأَخْفَى اسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ، لِيَجْتَهِدُوا فِي جَمْعِهَا، وَأَخْفَى الْأَجَلَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ، لِيَجِدَّ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ، حَذَرًا مِنْهُمَا (2145) فَصْلٌ: فَأَمَّا عَلَامَتُهَا، فَالْمَشْهُورُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ (الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا) . وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: (بَيْضَاءَ مِثْلَ الطَّسْتِ) . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 قَالَ: بَلْجَةٌ سَمْحَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا لَا شُعَاعَ لَهَا.» (2146) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا فِي الدُّعَاءِ، وَيَدْعُوَ فِيهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ وَافَقْتَهَا بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: قُولِي: «اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 [كِتَابُ الِاعْتِكَافِ] ِ الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ: لُزُومُ الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، بِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] . وَقَالَ: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] . قَالَ الْخَلِيلُ: عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى صِفَةٍ نَذْكُرُهَا، وَهُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125] . وَقَالَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي (سُنَنِهِ) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُعْتَكِفِ: هُوَ يَعْكُفُ الذُّنُوبَ، وَيُجْرَى لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَات كُلِّهَا» . وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ. وَفِي إسْنَادِهِ فَرْقَد السَّبَخِيُّ قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَعْرِفُ فِي فَضْلِ الِاعْتِكَافِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، إلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ مَسْنُونٌ. [مَسْأَلَة الِاعْتِكَاف سُنَّة] (2147) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ) لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا، إلَّا أَنْ يُوجِبَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ الِاعْتِكَافَ نَذْرًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِ، تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبًا لِثَوَابِهِ، وَاعْتِكَافُ أَزْوَاجِهِ مَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يَعْتَكِفُوا، وَلَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ إلَّا مَنْ أَرَادَهُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» . وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا عَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ. وَأَمَّا إذَا نَذَرَهُ، فَيَلْزَمُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. [فَصْل نَوَى اعْتِكَاف مُدَّة] (2148) فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى اعْتِكَافَ مُدَّةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهَا فَلَهُ إتْمَامُهَا، وَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَلْزَمُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِنْ قَطَعَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَالْقَضَاءُ مُسْتَحَبٌّ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَوْجَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ، فَأَذِنَ لَهَا، فَأَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَعَلَتْ، فَأَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ انْصَرَفَ، فَبَصُرَ بِالْأَبْنِيَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ ، فَقَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْبِرَّ أَرَدْتُنَّ، مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ فَرَجَعَ. فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ، فَلَزِمَتْ بِالدُّخُولِ فِيهَا، كَالْحَجِّ. وَلَمْ يَصْنَعْ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ شَيْئًا، وَهَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ عَمَلٍ لَك أَنْ لَا تَدْخُلَ فِيهِ، فَإِذَا دَخَلْت فِيهِ فَخَرَجْت مِنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْك أَنْ تَقْضِيَ، إلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. وَلَمْ يَقَعْ الْإِجْمَاعُ عَلَى لُزُومِ نَافِلَةٍ بِالشُّرُوعِ فِيهَا سِوَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَمَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْلَى، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ، لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ، فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ. وَمَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ اعْتِكَافَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ، وَأَزْوَاجُهُ تَرَكْنَ الِاعْتِكَافَ بَعْدَ نِيَّتِهِ وَضَرْبِ أَبْنِيَتِهِنَّ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ عُذْرٌ يَمْنَعُ فِعْلَ الْوَاجِبِ، وَلَا أُمِرْنَ بِالْقَضَاءِ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ فِعْلُهُ لِقَضَائِهِ كَفِعْلِهِ لِأَدَائِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، كَمَا قَضَى السُّنَّةَ الَّتِي فَاتَتْهُ بَعْدَ الظُّهْرِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ، فَتَرْكُهُ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لِتَحْرِيمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُهُ لِلْقَضَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ السُّنَنِ مَشْرُوعٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ تَرْكُهُ، وَلَمْ يُؤْمَرْ تَارِكُهُ مِنْ النِّسَاءِ بِقَضَائِهِ، لِتَرْكِهِنَّ إيَّاهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ. قُلْنَا: فَقَدْ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ؛ لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ دَلِيلًا عَلَى الْوُجُوبِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى انْتِفَائِهِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهِمَا لَا يَحْصُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَإِنْفَاقِ مَالٍ كَثِيرٍ، فَفِي إبْطَالِهِمَا تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ، وَإِبْطَالٌ لِأَعْمَالِهِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَالٌ يَضِيعُ، وَلَا عَمَلٌ يَبْطُلُ، فَإِنَّ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ، لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ اعْتِكَافِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوص، وَالِاعْتِكَافُ بِخِلَافِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 [مَسْأَلَة الِاعْتِكَاف بِغَيْرِ صَوْم] (2149) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجُوزُ بِلَا صَوْمٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ فِي نَذْرِهِ بِصَوْمٍ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ. قَالَ: إذَا اعْتَكَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اعْتَكِفْ، وَصُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ. فَلَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، «أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ لَا صِيَامَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصِحُّ فِي اللَّيْلِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الصِّيَامُ كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصِحُّ فِي اللَّيْلِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعِبَادَات، وَلِأَنَّ إيجَابَ الصَّوْمِ حُكْمٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا إجْمَاعٌ. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ، قَالَ: كَانَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِي اعْتِكَافٌ، فَسَأَلْت عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ، إلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَعَنْ عُمَرَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَعَنْ عُثْمَانَ؟ قَالَ: لَا. فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيت عَطَاءً وَطَاوُسًا، فَسَأَلْتُهُمَا، فَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ فُلَانٌ لَا يَرَى عَلَيْهَا صِيَامًا، إلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَأَحَادِيثُهُمْ لَا تَصِحُّ. أَمَّا حَدِيثُهُمْ عَنْ عُمَرَ، فَتَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ بُدَيْلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، وَمَنْ رَفَعَهُ فَقَدْ وَهِمَ، وَلَوْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ، ثُمَّ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْبَةً بِمُجَرَّدِهِ، بَلْ بِالنِّيَّةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّشَاغُلَ بِالْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ، وَالصَّوْمُ مِنْ أَفْضَلِهَا، وَيَتَفَرَّغُ بِهِ مِمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ الْعِبَادَاتِ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 (2150) فَصْلٌ: إذَا قُلْنَا: إنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ. لَمْ يَصِحَّ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ؛ وَلَا لَيْلَةٍ وَبَعْضِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمُشْتَرَطَ لَا يَصِحُّ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ، إذَا صَامَ الْيَوْمَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَشْرُوطَ وُجِدَ فِي زَمَنِ الِاعْتِكَافِ، وَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ فِي زَمَنِ الشَّرْطِ كُلِّهِ. [مَسْأَلَة لَا يَجُوز الِاعْتِكَاف إلَّا فِي مَسْجِد يَجْمَع فِيهِ] (2151) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فِيهِ) يَعْنِي تُقَامُ الْجَمَاعَةُ فِيهِ. وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، وَاعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ. وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ إذَا كَانَ الْمُعْتَكِفُ رَجُلًا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . فَخَصَّهَا بِذَلِكَ، وَلَوْ صَحَّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهَا، لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ مُطْلَقًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُدْخِلَ عَلَيَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا.» وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي حَدِيثٍ: «وَأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ» . فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَعَائِشَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَاعْتَكَفَ أَبُو قِلَابَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ، لِئَلَّا يَلْتَزِمَ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ، لِمَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ. وَحُكِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: دَخَلَ حُذَيْفَةُ مَسْجِدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 الْكُوفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِأَبْنِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ، فَسَأَلَ عَنْهَا. فَقِيلَ: قَوْمٌ مُعْتَكِفُونَ. فَانْطَلَقَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَعَلَّهمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت، وَحَفِظُوا وَنَسِيت. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ عَلِمْت مَا الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ. وَلَنَا، قَوْلُ عَائِشَةَ: مِنْ السُّنَّةِ لِلْمُعْتَكِفِ، أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ. وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَمَا كَانَ. وَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنْ الضَّحَّاكِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ» . وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي إبَاحَةَ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، إلَّا أَنَّهُ يُقَيَّدُ بِمَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ بِالْأَخْبَارِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ مَوْضِعًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، لَا يَصِحُّ؛ لِلْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَتَكَرَّرُ، فَلَا يَضُرُّ وُجُوبُ الْخُرُوجِ إلَيْهَا، كَمَا لَوْ اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ مُدَّةً يَتَخَلَّلُهَا أَيَّامُ حَيْضِهَا. وَلَوْ كَانَ الْجَامِعُ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَحْدَهَا، وَلَا يُصَلَّى فِيهِ غَيْرُهَا، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِكَافُ فِيهِ. وَيَصِحُّ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، فَيَلْتَزِمُ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَيْهَا، فَيَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً. (2152) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُدَّةً غَيْرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ؛ كَلَيْلَةٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ، جَازَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ. وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ، كَالْمَرِيضِ، وَالْمَعْذُورِ، وَمَنْ هُوَ فِي قَرْيَةٍ لَا يُصَلِّي فِيهَا سِوَاهُ، جَازَ اعْتِكَافُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. وَإِنْ اعْتَكَفَ اثْنَانِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ جَمَاعَةٌ، فَأَقَامَا الْجَمَاعَةَ فِيهِ، صَحَّ اعْتِكَافُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَقَامَا الْجَمَاعَةَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَامَهَا فِيهِ غَيْرُهُمَا. (2153) فَصْلٌ: وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَيْسَ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 بَيْتِهَا، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي جَعَلَتْهُ لِلصَّلَاةِ مِنْهُ، وَاعْتِكَافُهَا فِيهِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا فِيهِ أَفْضَلُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ، لَمَّا رَأَى أَبْنِيَةَ أَزْوَاجِهِ فِيهِ، وَقَالَ: الْبِرَّ تُرِدْنَ» . وَلِأَنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا مَوْضِعُ فَضِيلَةِ صَلَاتِهَا، فَكَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهَا، كَالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ سُمِّيَ مَسْجِدًا كَانَ مَجَازًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَسَاجِدِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا» . وَلِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكَافِهِنَّ، لَمَا أَذِنَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ يُشْتَرَطُ لَهَا الْمَسْجِدُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، كَالطَّوَافِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ اعْتِكَافَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ، حَيْثُ كَثُرَتْ أَبْنِيَتُهُنَّ، لِمَا رَأَى مِنْ مُنَافَسَتِهِنَّ، فَكَرِهَهُ مِنْهُنَّ، خَشْيَةً عَلَيْهِنَّ مِنْ فَسَادِ نِيَّتِهِنَّ، وَسُوءِ الْمَقْصِدِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (الْبِرَّ تُرِدْنَ،) . مُنْكِرًا لِذَلِكَ، أَيْ لَمْ تَفْعَلْنَ ذَلِكَ تَبَرُّرًا، وَلِذَلِكَ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ، لِظَنِّهِ أَنَّهُنَّ يَتَنَافَسْنَ فِي الْكَوْنِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، لَأَمَرَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الِاعْتِكَافِ بِهَا، فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ. (2154) فَصْلٌ: وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ الرِّجَالِ، كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ الِاعْتِكَافَ، وَكَلَّفَهُ نَفْسَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَان تُصَلَّى فِيهِ الْجَمَاعَةُ. وَلِأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ، لَا يَصِحُّ بِدُونِ شُرُوطِهِ، كَالْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. (2155) فَصْلٌ: وَإِذَا اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْمَسْجِدِ، اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَدْنَ الِاعْتِكَافَ أَمَرْنَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَضُرِبْنَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، وَخَيْرٌ لَهُمْ وَلِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَرُونَهُنَّ وَلَا يَرَيْنَهُمْ. وَإِذَا ضَرَبَتْ بِنَاءً جَعَلَتْهُ فِي مَكَان لَا يُصَلِّي فِيهِ الرِّجَالُ، لِئَلَّا تَقْطَعَ صُفُوفَهُمْ، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِمْ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الرَّجُلُ أَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ، وَأَخْفَى لِعَمَلِهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 اعْتَكَفَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، عَلَى سُدَّتِهَا قِطْعَةُ حَصِيرٍ. قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ، فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ، فَكَلَّمَ النَّاسَ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْمُعْتَكِف لَيْسَ لَهُ الْخُرُوج مِنْ مُعْتَكِفه] (2156) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ، إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَتْ أَيْضًا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لَهُ الْخُرُوجَ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ. وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِخُرُوجِهِ إلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ لَأَحَدٍ الِاعْتِكَافُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِهِمَا، وَفِي مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ بَغَتْهُ الْقَيْء، فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِيَتَقَيَّأ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَكُلُّ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، وَلَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُطِلْ. وَكَذَلِكَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، مِثْلُ مَنْ يَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ لَا جُمُعَةَ فِيهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى خُرُوجِهِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَيْهَا، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْتَكِفُ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ، إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ. فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا، فَخَرَجَ مِنْهُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَعَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ فَرْضُهُ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ، فَبَطَلَ بِالْخُرُوجِ، كَالْمُكَفِّرِ إذَا ابْتَدَأَ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ فِي شَعْبَانَ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَرَجَ لِوَاجِبٍ، فَلَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ، كَالْمُعْتَدَّةِ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّة، وَكَالْخَارِجِ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ، أَوْ إطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَيَّامًا فِيهَا جُمُعَةٌ، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْجُمُعَةَ بِلَفْظِهِ. ثُمَّ تَبْطُلُ بِمَا إذَا نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ أَيَّامًا فِيهَا عَادَةُ حَيْضِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ إمْكَانِ فَرْضِهَا فِي غَيْرِهَا، وَالْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ لِوَاجِبٍ، فَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ، مَا لَمْ يُطِلْ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ. قَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ جَائِزٌ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ، كَالْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. فَإِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 فِي الْجَامِعِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ، وَالْمَكَانُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلِاعْتِكَافِ بِنَذْرِهِ وَتَعْيِينِهِ، فَمَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ فِي طَرِيقِهِ مَسْجِدًا، فَأَتَمَّ اعْتِكَافَهُ فِيهِ، جَازَ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَحَبَّ الرُّجُوعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ جُمُعَةٍ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِسْرَاعُ إلَى مُعْتَكَفِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ يَرْكَعُ - أَعْنِي الْمُعْتَكِفَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِقَدْرِ مَا كَانَ يَرْكَعُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِيرَةُ إلَيْهِ فِي تَعْجِيل الرُّكُوعِ وَتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَكَان يَصْلُحُ لِلِاعْتِكَافِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الِاعْتِكَافَ فِيهِ. فَأَمَّا إنَّ خَرَجَ ابْتِدَاءً إلَى مَسْجِدٍ آخَر، أَوْ إلَى الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ أَبْعَدَ مِنْ مَوْضِعِ حَاجَتِهِ فَمَضَى إلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدَانِ مُتَلَاصِقَيْنِ، يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَصِيرُ فِي الْآخَرِ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا كَمَسْجِدٍ وَاحِدٍ، يَنْتَقِلُ مِنْ إحْدَى زَاوِيَتَيْهِ إلَى الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِهِمَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ وَإِنْ قَرُبَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَاجِبَةٍ. (2157) فَصْلٌ: وَإِذَا خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ فِي مَشْيِهِ، بَلْ يَمْشِي عَلَى عَادَتِهِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فِي إلْزَامِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقَامَةُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ لِأَكْلٍ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ الْيَسِيرَ فِي بَيْتِهِ، كَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ، فَأَمَّا جَمِيعُ أَكْلِهِ فَلَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَوَجَّهُ أَنَّ لَهُ الْأَكْلَ فِي بَيْتِهِ، وَالْخُرُوجَ إلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ دَنَاءَةٌ وَتَرْكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَقَدْ يُخْفِي جِنْسَ قُوتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ فَيَسْتَحِي أَنْ يَأْكُلَ دُونَهُ، وَإِنْ أَطْعَمَهُ مَعَهُ لَمْ يَكْفِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، أَوْ لُبْثٌ فِي غَيْرِ مُعْتَكَفِهِ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَأَبْطَلَ الِاعْتِكَافَ، كَمُحَادَثَةِ أَهْلِهِ، وَمَا ذَكَرِهِ الْقَاضِي لَيْسَ بِعُذْرٍ يُبِيحُ الْإِقَامَةَ وَلَا الْخُرُوجَ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ الْخُرُوجُ لِلنَّوْمِ وَأَشْبَاهِهِ. (2158) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَبِقُرْبِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةٌ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلِهِ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِهَا، وَيُمْكِنُهُ التَّنَظُّفُ فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُضِيُّ إلَى مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بُدٌّ. وَإِنْ كَانَ يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِهَا، أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ مُخَالَفَةٌ لِعَادَتِهِ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ التَّنَظُّفُ فِيهَا، فَلَهُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى مَنْزِلِهِ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَرْكِ الْمُرُوءَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ مَنْزِلَانِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنْ الْآخَرِ، يُمْكِنُهُ الْوُضُوءُ فِي الْأَقْرَبِ بِلَا ضَرَرٍ، فَلَيْسَ لَهُ الْمُضِيُّ إلَى الْأَبْعَدِ. وَإِنْ بَذَلَ لَهُ صَدِيقُهُ أَوْ غَيْرُهُ الْوُضُوءَ فِي مَنْزِلِهِ الْقَرِيبِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ وَالِاحْتِشَامِ مِنْ صَاحِبِهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 أَعْجَبُ إلَيْك أَوْ مَسْجِدِ الْحَيِّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ. وَأَرْخَصَ لِي أَنْ أَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ. قُلْت: فَأَيْنَ تَرَى أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْجَانِبِ، أَوْ فِي ذَاكَ الْجَانِبِ؟ قَالَ: فِي ذَاكَ الْجَانِبِ هُوَ أَصْلَحُ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ. قُلْت: فَمَنْ اعْتَكَفَ فِي هَذَا الْجَانِبِ تَرَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى الشَّطِّ يَتَهَيَّأُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. قُلْت: يَتَوَضَّأُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ. (2159) فَصْلٌ: إذَا خَرَجَ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدَّ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ قَلَّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ «صَفِيَّةَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزُورُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ، فَلَمَّا قَامَتْ لِتَنْقَلِبَ خَرَجَ مَعَهَا لِيَقْلِبَهَا» . وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَأَنَّى فِي مَشْيِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَأَبْطَلَهُ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، وَأَمَّا خُرُوجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلًا، فَلَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِ اعْتِكَافِهِ تَطَوُّعًا، لَهُ تَرْكُ جَمِيعِهِ، فَكَانَ لَهُ تَرْكُ بَعْضِهِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَهُ لَمَّا أَرَادَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ. وَأَمَّا الْمَشْيُ فَتَخْتَلِف فِيهِ طِبَاعُ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ فِي تَغْيِيرِ مَشْيِهِ مَشَقَّةٌ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْخُرُوجِ. [مَسْأَلَة لَا يَعُود الْمُعْتَكِف مَرِيضًا وَلَا يَشْهَد جِنَازَة إلَّا أَنْ يَشْتَرِط ذَلِكَ] (2160) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ (2161) : أَحَدُهُمَا، فِي الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيض وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ، مَعَ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْهُ: لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدَ الْجِنَازَةَ، وَيَعُودَ إلَى مُعْتَكَفِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ؛ لِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُدْ الْمَرِيضَ، وَلْيَحْضُرْ الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْأَثْرَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عِنْدِي حُجَّةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَعُودُ الْمَرِيضَ، وَلَا يَجْلِسُ، وَيَقْضِي الْحَاجَةَ، وَيَعُودُ إلَى مُعْتَكَفِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ، فَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مِنْ أَجْلِهِ، كَالْمَشْيِ مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ لِيَقْضِيَهَا لَهُ. وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا. وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ دَفْنُ الْمَيِّتِ، أَوْ تَغْسِيلُهُ، جَازَ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الِاعْتِكَافِ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ تَطَوُّعًا، وَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَطَوُّعٌ، فَلَا يَتَحَتَّمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْمُقَامُ عَلَى اعْتِكَافِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُعَرِّجُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَسَأَلَ عَنْ الْمَرِيضِ فِي طَرِيقِهِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ. (2162) الْفَصْلُ الثَّانِي، إذَا اشْتَرَطَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي اعْتِكَافِهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ، وَاجِبًا كَانَ الِاعْتِكَافُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ قُرْبَةً، كَزِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ عَالِمٍ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُبَاحًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، كَالْعَشَاءِ فِي مَنْزِلِهِ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَشْتَرِطُ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَ: إذَا اشْتَرَطَ فَنَعَمْ. قِيلَ لَهُ: وَتُجِيزُ الشَّرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت لَهُ: فَيَبِيتُ فِي أَهْلِهِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ تَطَوُّعًا، جَازَ. وَمِمَّنْ أَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَشَاءَ فِي أَهْلِهِ الْحَسَنُ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو مِجْلَزٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ، فَكَانَ الشَّرْطُ إلَيْهِ فِيهِ كَالْوُقُوفِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ، فَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ فَكَأَنَّهُ نَذَرَ الْقَدْرَ الَّذِي أَقَامَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَتَى مَرِضْت أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ، خَرَجْت. جَازَ شَرْطُهُ. (2163) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْوَطْءَ فِي اعْتِكَافِهِ، أَوْ الْفُرْجَةَ، أَوْ النُّزْهَةَ، أَوْ الْبَيْعَ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ التَّكَسُّبَ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ اشْتِرَاطٌ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالصِّنَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ، فَفِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ يُشْبِهُ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَلَا يَعْتَكِفْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَعْمَلُ عَمَلُهُ مِنْ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ؟ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَعْمَلَ. قُلْت: إنْ كَانَ يَحْتَاجُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ يَحْتَاجُ لَا يَعْتَكِفْ. (2164) فَصْلٌ: إذَا خَرَجَ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ عَامِدًا، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ. وَإِنْ خَرَجَ نَاسِيًا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا، فَلَمْ تَفْسُدْ الْعِبَادَةُ، كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلِاعْتِكَافِ، وَهُوَ لُزُومُ لِلْمَسْجِدِ، وَتَرْكُ الشَّيْءِ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ سَوَاءٌ، كَتَرْكِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ. فَإِنْ أَخْرَجَ بَعْضَ جَسَدِهِ، لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ إلَى عَائِشَةَ فَتَغْسِلُهُ وَهِيَ حَائِضٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (2165) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيتَ فِيهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ لَيْسَتْ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ إلَيْهَا، لِقَوْلِهِ فِي الْحَائِضِ: يُضْرَبُ لَهَا خِبَاءٌ فِي الرَّحْبَةِ. وَالْحَائِضُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَرَوَى عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَخْرُج إلَى رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ، هِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ. قَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ عَلَيْهَا حَائِطٌ وَبَابٌ فَهِيَ كَالْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهَا مَعَهُ، وَتَابِعَةٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحُوطَةً، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ. فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَحَمَلَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ. فَإِنْ خَرَجَ إلَى مَنَارَةٍ خَارِجَ الْمَسْجِد لِلْأَذَانِ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ؛ لِأَنَّ مَنَارَةَ الْمَسْجِدِ كَالْمُتَّصِلَةِ بِهِ. [مَسْأَلَة الْوَطْء فِي الِاعْتِكَاف] (2166) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ فَقَدْ أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] . فَإِنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مُتَعَمِّدًا أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ. وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إذَا حُرِّمَ فِي الْعِبَادَةِ أَفْسَدَهَا، كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ. وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ إمَامِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، فَلَمْ تُفْسِدْ الِاعْتِكَافَ، كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا حُرِّمَ فِي الِاعْتِكَافِ اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إفْسَادِهِ، كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ. وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ لَا تُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ، إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهَا الْإِنْزَالُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا كَفَّارَةَ بِالْوَطْءِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ لِعَيْنِهِ، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ فِيهَا، كَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَلَمْ تَجِبْ بِإِفْسَادِهَا كَفَّارَةٌ، كَالنَّوَافِلِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُ الْمَالُ فِي جُبْرَانِهَا، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهَا، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالصَّلَاةِ وَصَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ. وَالْقِيَاسُ عَلَى الْحَجِّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلِهَذَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهِ، وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيَجِبُ بِالْوَطْءِ فِيهِ بَدَنَةٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَدَنَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ يَثْبُتُ عَلَى صِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، إذْ كَانَ الْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ تَوْسِعَةُ مَجْرَى الْحُكْمِ فَيَصِيرُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْأَصْلِ وَارِدًا فِي الْفَرْعِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الصَّوْمِ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ كُلَّهُ لَا يَجِبُ بِالْوَطْءِ فِيهِ كَفَّارَةٌ سِوَى رَمَضَانَ، وَالِاعْتِكَافُ أَشْبَهُ بِغَيْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ نَافِلَةٌ لَا يَجِبُ إلَّا بِالنَّذْرِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى رَمَضَانَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مِنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْ بِهِ صَوْمًا. وَاخْتَلَفَ مُوجِبُو الْكَفَّارَةِ فِيهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَصَابَ فِي اعْتِكَافِهِ، فَهُوَ كَهَيْئَةِ الْمَظَاهِرِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا كَانَ نَهَارًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، وَلَوْ كَانَ لِمُجَرَّدِ الِاعْتِكَافِ لَمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالنَّهَارِ، كَمَا لَمْ يَخْتَصَّ الْفَسَادُ بِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَلَمْ أَرَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ (الشَّافِي) ، وَلَعَلَّ أَبَا بَكْرٍ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً فِي مَوْضِعٍ تَضَمَّنَ الْإِفْسَادُ الْإِخْلَالَ بِالنَّذْرِ، فَوَجَبَتْ لِمُخَالَفَتِهِ نَذْرَهُ، وَهِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ، فَإِنَّ نَظِيرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ، وَلَا يَجِبُ بِإِفْسَادِهِ كَفَّارَةٌ إذَا كَانَ تَطَوُّعًا وَلَا مَنْذُورًا، مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الْإِخْلَالَ بِنَذْرِهِ؛ فَيَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَذَلِكَ هَذَا. (2167) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا بَأْسَ بِهَا، مِثْلُ أَنْ تَغْسِلَ رَأْسَهُ، أَوْ تُفَلِّيَهُ، أَوْ تُنَاوِلَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَتُرَجِّلُهُ. وَإِنْ كَانَتْ عَنْ شَهْوَةٍ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ: السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ إفْضَاءَهَا إلَى إفْسَادِ الِاعْتِكَافِ، وَمَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا. فَإِنْ فَعَلَ، فَأَنْزَلَ، فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، لَمْ يَفْسُدْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَفْسُدُ فِي الْحَالَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَأَفْسَدَتْ الِاعْتِكَافَ، كَمَا لَوْ أَنْزَلَ. وَلَنَا، أَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لَا تُفْسِدُ صَوْمًا وَلَا حَجًّا، فَلَمْ تُفْسِدْ الِاعْتِكَافَ، كَالْمُبَاشَرَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَفَارَقَ الَّتِي أَنْزَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إلَّا عَلَى رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. (2168) فَصْلٌ: وَإِنْ ارْتَدَّ، فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . وَلِأَنَّهُ خَرَجَ بِالرِّدَّةِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِكَافِ، وَإِنْ شَرِبَ مَا أَسْكَرَهُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، لِخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ. (2169) فَصْلٌ: وَكُلَّ مَوْضِعٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَإِنْ كَانَ نَذْرًا نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً، فَسَدَ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ، وَاسْتَأْنَفَ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ وَصْفٌ فِي الِاعْتِكَافِ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَزِمَهُ، وَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً، كَالْعَشَرَةِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَبْطُلُ مَا مَضَى، وَيَسْتَأْنِفُهُ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا، فَبَطَلَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَيَّدَهُ بِالتَّتَابُعِ بِلَفْظِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وَالثَّانِي، لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهُ قَدْ أَدَّى الْعِبَادَةَ فِيهِ أَدَاءً صَحِيحًا، فَلَمْ يَبْطُلْ بِتَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّتَابُعُ هَاهُنَا حَصَلَ ضَرُورَةَ التَّعْيِينِ، وَالتَّعْيِينُ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِخْلَالِ بِأَحَدِهِمَا فَفِيمَا حَصَلَ ضَرُورَةً أَوْلَى، وَلِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ، لَا مِنْ حَيْثُ النَّذْرُ، فَالْخُرُوجُ فِي بَعْضِهِ لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى مِنْهُ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَقْضِي مَا أَفْسَدَ فِيهِ حَسْبُ. وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِبَعْضِ مَا نَذَرَهُ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَنْ نَذَرَ صَوْمًا مُعَيَّنًا، فَأَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ، فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، كَالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. فَصْلٌ: إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ بِصَوْمٍ، فَأَفْطَرَ يَوْمًا، أَفْسَدَ تَتَابُعَهُ، وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ، لِإِخْلَالِهِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى صِفَتِهِ. [مَسْأَلَة إذَا وَقَعَتْ فِتْنَة خَافَ مِنْهَا تَرَكَ اعْتِكَافه] (2171) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ خَافَ مِنْهَا تَرَكَ اعْتِكَافَهُ، فَإِذَا أَمِنَ بَنِي عَلَى مَا مَضَى، إذَا كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، وَقَضَى مَا تَرَكَ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفِيرِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ خَافَ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهِ إنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ نَهْبًا أَوْ حَرِيقًا، فَلَهُ تَرْكُ الِاعْتِكَافِ وَالْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ تَرْكَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَأَوْلَى أَنْ يُبَاحَ لِأَجْلِهِ تَرْكُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَرَضٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ مَعَهُ فِيهِ، كَالْقِيَامِ الْمُتَدَارَكِ، أَوْ سَلَسِ الْبَوْلِ، أَوْ الْإِغْمَاءِ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى خِدْمَةٍ وَفِرَاشٍ، فَلَهُ الْخُرُوجُ. وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ خَفِيفًا، كَالصُّدَاعِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ. فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. وَلَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ، مِثْلُ الْخُرُوجِ فِي النَّفِيرِ إذَا عَمَّ، أَوْ حَضَرَ عَدُوٌّ يَخَافُونَ كَلْبَهُ، وَاحْتِيجَ إلَى خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ، فَلَزِمَ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، كَالْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَإِذَا خَرَجَ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ، فَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو النَّذْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَتَابِعَةٍ وَلَا مُعَيَّنَةٍ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ، بَلْ يُتِمُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَبْتَدِئُ الْيَوْمَ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ، لِيَكُونَ مُتَتَابِعًا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا نَذَرَ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ. الثَّانِي، نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً، كَشَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَ، وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، بِمَنْزِلَةِ تَرْكِهِ الْمَنْذُورَ فِي وَقْتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّالِثُ، نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالتَّكْفِيرِ، وَبَيْنَ الِابْتِدَاءِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ أَتَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَهُ الِاعْتِكَافُ الَّذِي قَطَعَهُ. وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ مِثْلَ هَذَا فِي الصِّيَامِ، فَقَالَ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، وَلَمْ يُسَمِّهِ؛ فَمَرِضَ فِي بَعْضِهِ، فَإِذَا عُوفِيَ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ، وَقَضَى مَا تَرَكَ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَإِنْ أَحَبَّ أَتَى بِشَهْرٍ مُتَتَابِعٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَنْ تَرَكَ الصِّيَامَ الْمَنْذُورَ لِعُذْرٍ: فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ كَالْمَشْرُوعِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِعُذْرٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ الْمَنْذُورُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ خَرَجَ لِوَاجِبِ، كَالْجِهَادِ تَعَيَّنَ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ وَاجِبَةٍ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ، كَالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ لِحَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا. وَحَمَلَ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، دُونَ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، فَحِنْثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ وَاجِبَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَيُفَارِقُ صَوْمَ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْإِخْلَالَ بِهِ وَالْفِطْرَ فِيهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَيُفَارِقُ الْحَيْضَ، فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ، وَيُظَنُّ وُجُودُهُ فِي زَمَنِ النَّذْرِ، فَيَصِيرُ كَالْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَكَالْمُسْتَثْنَى بِلَفْظِهِ. [مَسْأَلَة الْمُعْتَكِف لَا يَتَّجِر وَلَا يَتَكَسَّب بِالصَّنْعَةِ] (2172) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُعْتَكِفُ لَا يَتَّجِرُ، وَلَا يَتَكَسَّبُ بِالصَّنْعَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِيَ، إلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْمُعْتَكِفُ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي إلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، طَعَامٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا التِّجَارَةُ، وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ، فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيَخِيطَ، وَيَتَحَدَّثَ، مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا. وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَأَى عِمْرَانُ الْقَصِيرُ رَجُلًا يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا هَذَا، إنَّ هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ، فَإِنْ أَرَدْت الْبَيْعَ فَاخْرُجْ إلَى سُوقِ الدُّنْيَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وَإِذَا مُنِعَ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي غَيْرِ حَالِ الِاعْتِكَافِ، فَفِيهِ أَوْلَى. فَأَمَّا الصَّنْعَةُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَكْتَسِبُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَيَجُوزُ مَا يَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ، كَخِيَاطَةِ قَمِيصِهِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الْمُعْتَكِفِ، تَرَى لَهُ أَنْ يَخِيطَ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَجُوزُ الْخَيَّاطَةُ فِي الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعِيشَةٌ أَوْ تَشَغُّلٌ عَنْ الِاعْتِكَافِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِيهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، إذَا كَانَ يَسِيرًا، مِثْلَ أَنْ يَنْشَقَّ قَمِيصُهُ فَيَخِيطَهُ، أَوْ يَنْحَلَّ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى رَبْطٍ فَيَرْبِطَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَسِيرٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، فَجَرَى مَجْرَى لُبْسِ قَمِيصِهِ وَعِمَامَتِهِ وَخَلْعِهِمَا. (2173) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشَاغُلُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ الْمَحْضَةِ، وَيَجْتَنِبُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا يُكْثِرُ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ مِنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . وَيَجْتَنِبُ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ، وَالسِّبَابَ وَالْفُحْشَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ، فَفِيهِ أَوْلَى. وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِمُبَاحِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَحْظُورِهِ، وَعَكْسُهُ الْوَطْءُ. وَلَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ لِحَاجَتِهِ، وَمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْته، ثُمَّ قُمْت، فَانْقَلَبْت، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّه يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا. أَوْ قَالَ: شَيْئًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّمَا رَجُلٍ اعْتَكَفَ، فَلَا يُسَابَّ، وَلَا يَرْفُثْ فِي الْحَدِيثِ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالْحَاجَةِ - أَيْ وَهُوَ يَمْشِي - وَلَا يَجْلِسْ عِنْدَهُمْ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (2174) فَصْلٌ: فَأَمَّا إقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَتَدْرِيسُ الْعِلْمِ وَدَرْسُهُ، وَمُنَاظَرَةُ الْفُقَهَاءِ وَمُجَالَسَتُهُمْ، وَكِتَابَةُ الْحَدِيثِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، إذَا قَصَدَ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، لَا الْمُبَاهَاةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَنَفْعُهُ يَتَعَدَّى، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 كَالصَّلَاةِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْمَسْجِدُ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا ذَلِكَ، كَالطَّوَافِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِعْلُهُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِكَافِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ رَجُلًا يُقْرِئُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ فَقَالَ: إذَا فَعَلَ هَذَا كَانَ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، يُقْرِئُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَسُئِلَ: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك؛ الِاعْتِكَافُ، أَوْ الْخُرُوجُ إلَى عَبَّادَانِ؟ قَالَ: لَيْسَ يَعْدِلُ الْجِهَادَ عِنْدِي شَيْءٌ. يَعْنِي أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى عَبَّادَانِ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِكَافِ. (2175) فَصْلٌ: وَلَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الصَّمْتُ عَنْ الْكَلَامِ، وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُهُ. قَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ، يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا لَا تَتَكَلَّمُ؟ قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً. فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَتَكَلَّمَتْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ» . فَإِنْ نَذَرَ ذَلِكَ فِي اعْتِكَافِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، إذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ نَذْرُ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَنَذْرِ الْمُبَاشَرَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَإِنْ أَرَادَ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ نَذَرَهُ أَوْ لَمْ يَنْذُرْهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهُ فِعْلُهُ إذَا كَانَ أَسْلَمَ. وَلَنَا، النَّهْيُ عَنْهُ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ، وَالْأَمْرُ بِالْكَلَامِ، وَمُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَهَذَا صَرِيحٌ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، وَاتِّبَاعُ ذَلِكَ أَوْلَى. فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ، فَأَشْبَهَ اسْتِعْمَالَ الْمُصْحَفِ فِي التَّوَسُّدِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ جَاءَ: لَا تُنَاظِرُوا بِكِتَابِ اللَّهِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ الشَّيْءِ تَرَاهُ، كَأَنْ تَرَى رَجُلًا قَدْ جَاءَ فِي وَقْتِهِ، فَتَقُولُ: ثُمَّ جِئْت عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى. أَوْ نَحْوَهُ. ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى. [مَسْأَلَة لَا بَأْس أَنَّ يَتَزَوَّج الْمُعْتَكِف فِي الْمَسْجِد وَيَشْهَد النِّكَاح] (2177) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَشْهَدَ النِّكَاحَ) وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ لَا تُحَرِّمُ الطَّيِّبَ، فَلَمْ تُحَرِّمْ النِّكَاحَ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ طَاعَةٌ، وَحُضُورُهُ قُرْبَةٌ، وَمُدَّتُهُ لَا تَتَطَاوَلُ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِ عَنْ الِاعْتِكَافِ، فَلَمْ يُكْرَهْ فِيهِ، كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَنَظَّفَ] (2178) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِأَنْوَاعِ التَّنَظُّفِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَجِّلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ. وَلَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ، وَيَلْبَسَ الرَّفِيعَ مِنْ الثِّيَابِ» ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَبٍّ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ مَكَانًا، فَكَانَ تَرْكُ الطِّيبِ فِيهَا مَشْرُوعًا كَالْحَجِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ اللِّبَاسَ وَلَا النِّكَاحَ، فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ. [فَصْل لَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ] (2179) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَضَعَ سُفْرَةً، يَسْقُطُ عَلَيْهَا مَا يَقَعُ مِنْهُ، كَيْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ، وَيَغْسِلَ يَدَهُ فِي الطَّسْتِ، لِيُفَرَّغَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لِغَسْلِ يَدِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا. وَهَلْ يُكْرَهُ تَجْدِيدُ الطَّهَارَةِ فِي الْمَسْجِدِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَمَّا مَا حَفِظْت لَكُمْ مِنْهُ «، أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي الْمَسْجِدِ.» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي الْمَسْجِد الْحَرَامِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ» . وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وَعُمَرُ، وَالْخُلَفَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي الْمَسْجِدِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَالْأُخْرَى، يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ أَنْ يَبْصُقَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ يَتَمَخَّطَ، وَالْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَيَبُلُّ مِنْ الْمَسْجِدِ مَكَانًا يَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَإِنْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ لِلْوُضُوءِ، وَكَانَ تَجْدِيدًا، بَطَلَ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَإِنْ كَانَ وُضُوءًا مِنْ حَدَثٍ، لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْوُضُوءِ لِلْمُحْدِثِ، وَإِنَّمَا يَتَقَدَّمُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى وُضُوءٍ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ بِهِ. [فَصْل إذَا أَرَادَ الْمُعْتَكِفَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ فِي طَسْتٍ] (2180) فَصْلٌ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ فِي طَسْتٍ، لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَهُوَ مِمَّا يَقْبُحُ وَيَفْحُشُ وَيُسْتَخْفَى بِهِ، فَوَجَبَ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فِي أَرْضِهِ ثُمَّ يَغْسِلَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْفَصْدَ أَوْ الْحِجَامَةَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ إرَاقَةُ نَجَاسَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ فِيهِ. وَإِنْ دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ كَبِيرَةٌ، خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَفَعَلَهُ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، كَالْمَرَضِ الَّذِي يُمْكِنُ احْتِمَالُهُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الْفَصْدُ فِي الْمَسْجِدِ فِي طَسْتٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ يَجُوزُ لَهَا الِاعْتِكَافُ، وَيَكُونُ تَحْتَهَا شَيْءٌ يَقَعُ فِيهِ الدَّمُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، وَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا بِتَرْكِ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الْفَصْدِ. [مَسْأَلَة الْمُتَوَفَّيْ عَنْهَا زَوْجهَا وَهِيَ مُعْتَكِفَة] (2181) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ، وَتَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ الَّذِي خَرَجَ لِفِتْنَةٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَةَ إذَا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تَمْضِي فِي اعْتِكَافِهَا، حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَتَعْتَدُّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ، وَالِاعْتِدَادُ فِي الْبَيْتِ وَاجِبٌ، فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبَانِ فَيُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ الِاعْتِدَادَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ، فَلَزِمَهَا الْخُرُوجُ إلَيْهِ، كَالْجُمُعَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ. وَدَلِيلُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَات، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا كَاَلَّذِي خَرَجَ لِفِتْنَةٍ، وَأَنَّهَا تَبْنِي وَتَقْضِي وَتُكَفِّرُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا وَاجِبٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 (2182) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَعْتَكِفَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِمَا، وَالِاعْتِكَافُ يُفَوِّتُهَا، وَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَيْهِمَا بِالشَّرْعِ، فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مِنْهُ. وَأُمُّ الْوَلَد وَالْمُدَبَّرُ كَالْقِنِّ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِمَا، فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَهُمَا، ثُمَّ أَرَادَ إخْرَاجَهُمَا مِنْهُ بَعْدَ شُرُوعِهِمَا فِيهِ، فَلَهُمَا ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ كَقَوْلِنَا، وَفِي الزَّوْجَةِ: لَيْسَ لِزَوْجِهَا إخْرَاجُهَا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، فَالْإِذْنُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَأَذِنَ لَهَا فِي اسْتِيفَائِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا تَمْلِيكَ مَنَافِعَ كَانَا يَمْلِكَانِهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ أَحْرَمَا بِالْحَجِّ بِإِذْنِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّ لَهُمَا الْمَنْعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً، فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مِنْهُ دَوَامًا، كَالْعَارِيَّةِ، وَيُخَالِفُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مَا أُذِنَا فِيهِ مَنْذُورًا، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا تَحْلِيلُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيَجِبُ إتْمَامُهُ، فَيَصِيرُ كَالْحَجِّ إذَا أَحْرَمَا بِهِ. فَأَمَّا إنْ نَذَرَا الِاعْتِكَافَ، فَأَرَادَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ مَنْعَهُمَا الدُّخُولَ فِيهِ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ بِإِذْنِهِمَا، وَكَانَ مُعَيَّنًا، لَمْ يَمْلِكَا مَنْعَهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِإِذْنِهِمَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، فَلَهُمَا مَنْعُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُمَا تَضَمَّنَ تَفْوِيتَ حَقِّ غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ الْمَأْذُونُ فِيهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَهَلْ لَهُمَا مَنْعُهُمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُمَا مَنْعُهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ، فَكَانَ تَعْيِينُ زَمَنِ سُقُوطِهِ إلَيْهِمَا كَالدَّيْنِ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ الْتِزَامُهُ بِإِذْنِهِمَا، فَأَشْبَهَ الْمُعَيَّنَ. وَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي يَوْمِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِسَيِّدِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَحُكْمُهُ فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ حُكْمُ الْقِنَّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ، فَلِسَيِّدِهِ مَنْعَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا فِي مَنَافِعِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. (2183) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْ وَاجِبٍ وَلَا تَطَوُّعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ، وَلَيْسَ لَهُ إجْبَارُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 عَلَى الْكَسْبِ، وَإِنَّمَا لَهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمَدِينِ. [مَسْأَلَة حَاضَتْ الْمَرْأَة وَهِيَ مُعْتَكِفَة فِي الْمَسْجِد] (2184) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ، خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَضَرَبَتْ خِبَاءً فِي الرَّحْبَةِ) أَمَّا خُرُوجُهَا مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ حَدَثٌ يَمْنَعُ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ، فَهُوَ كَالْجَنَابَةِ، وَآكَدُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ، وَلَا جُنُبٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمَسْجِدَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحْبَةٌ، رَجَعَتْ إلَى بَيْتِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ فَأَتَمَّتْ اعْتِكَافَهَا، وَقَضَتْ مَا فَاتَهَا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مُعْتَادٌ وَاجِبٌ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِلْجُمُعَةِ، أَوْ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَحْبَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ، يُمْكِنُ أَنْ تَضْرِبَ فِيهَا خِبَاءَهَا، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: تَضْرِبُ خِبَاءَهَا فِيهَا مُدَّةَ حَيْضِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: تَضْرِبُ فُسْطَاطَهَا فِي دَارِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتْ تِلْكَ الْأَيَّامَ، وَإِنْ دَخَلَتْ بَيْتًا أَوْ سَقْفًا اسْتَأْنَفَتْ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْتَرْجِعْ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا الْإِقَامَةُ فِي رَحْبَتِهِ، كَالْخَارِجَةِ لِعِدَّةٍ، أَوْ خَوْفِ فِتْنَةٍ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ مَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كُنَّ الْمُعْتَكِفَاتُ إذَا حِضْنَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَأَنْ يَضْرِبْنَ الْأَخْبِيَةَ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ، حَتَّى يَطْهُرْنَ» . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ. وَفَارَقَ الْمُعْتَدَّةَ، فَإِنَّ خُرُوجَهَا لِتُقِيمَ فِي بَيْتِهَا وَتَعْتَدَّ فِيهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ الْكَوْنِ فِي الرَّحْبَةِ، وَكَذَلِكَ الْخَائِفَةُ مِنْ الْفِتْنَةِ خُرُوجُهَا لِتَسْلَم مِنْ الْفِتْنَةِ، فَلَا تُقِيمُ فِي مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ السَّلَامَةُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إقَامَتَهَا فِي الرَّحْبَةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَإِنْ لَمْ تُقِمْ فِي الرَّحْبَةِ، وَرَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِإِذْنِ الشَّرْعِ. وَمَتَى طَهُرَتْ رَجَعَتْ إلَى الْمَسْجِدِ، فَقَضَتْ وَبَنَتْ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِعُذْرٍ مُعْتَادٍ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. (2185) فَصْلٌ: فَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَلَا تَمْنَعُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَلَا الطَّوَافَ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: «اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، وَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَتَحَفَّظُ وَتَتَلَجَّمُ، لِئَلَّا تُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِيَانَتُهُ مِنْهَا خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ وَخُرُوجٌ لِحِفْظِ الْمَسْجِدِ مِنْ نَجَاسَتِهَا، فَأَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ. (2186) فَصْلٌ: الْخُرُوجُ الْمُبَاحُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا، مَا لَا يُوجِبُ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَشِبْهُهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالثَّانِي: مَا يُوجِبُ قَضَاءً بِلَا كَفَّارَةٍ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِلْحَيْضِ. وَالثَّالِثُ، مَا يُوجِبُ قَضَاءً وَكَفَّارَةً، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِفِتْنَةٍ، وَشِبْهُهُ مِمَّا يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ. وَالرَّابِعُ، مَا يُوجِبُ قَضَاءً وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لَوَاجِبٍ، كَالْخُرُوجِ فِي النَّفِيرِ، أَوْ الْعِدَّةِ. فَفِي قَوْلِ الْقَاضِي، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِلْحَيْضِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وُجُوبُهَا؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ غَيْرَ مُعْتَادٍ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْخُرُوجِ لِفِتْنَةٍ. [مَسْأَلَة نَذْر أَنْ يَعْتَكِف شَهْرًا بِعَيْنِهِ] (2187) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَزُفَرَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَلَا يَلْزَمُ الصَّوْمُ إلَّا مِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ، فَلَمْ يَجُزْ ابْتِدَاؤُهُ قَبْلَ شَرْطِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ نَذَرَ الشَّهْرَ، وَأَوَّلُهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا تَحِلُّ الدُّيُونُ الْمُعَلَّقَةُ بِهِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِيَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ مَحَلَّهُ النَّهَارُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ اللَّيْلِ فِي أَثْنَائِهِ وَلَا ابْتِدَائِهِ، إلَّا مَا حَصَلَ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ. عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّعِ، فَمَتَى شَاءَ دَخَلَ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا نَذَرَ شَهْرًا، فَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ كَامِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 يَدْخُلَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِهَا مِنْ آخِرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ فَجْرِهِ، وَيَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِهِ. (2188) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحَبَّ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِي صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْعَشْرَ بِغَيْرِ هَاءٍ عَدَدُ اللَّيَالِي، فَإِنَّهَا عَدَدُ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] . وَأَوَّلُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَدْخُلُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ حَنْبَلٌ، قَالَ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَكِنْ حَدِيثُ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْفَجْرَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ» . وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَوَجْهُهُ مَا رَوَتْ عَمْرَةُ، عَنْ عَائِشَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ، فَفِي وَقْتِ دُخُولِهِ الرِّوَايَتَانِ جَمِيعًا. (2189) فَصْلٌ: وَمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، ثُمَّ يَغْدُو كَمَا هُوَ إلَى الْعِيدِ، وَكَانَ - يَعْنِي فِي اعْتِكَافِهِ - لَا يُلْقَى لَهُ حَصِيرٌ وَلَا مُصَلًّى يَجْلِسُ عَلَيْهِ، كَانَ يَجْلِسُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْقَوْمِ. قَالَ: فَأَتَيْته فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، فَإِذَا فِي حِجْرِهِ جُوَيْرِيَةٌ مُزَيَّنَةٌ مَا ظَنَنْتهَا إلَّا بَعْضَ بَنَاتِهِ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ لَهُ، فَأَعْتَقَهَا، وَغَدَا كَمَا هُوَ إلَى الْعِيدِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُحِبُّونَ لِمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْمَسْجِدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 (2190) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ، لَزِمَهُ شَهْرٌ بِالْأَهِلَّةِ، أَوْ ثَلَاثُونَ يَوْمًا. وَهَلْ يَلْزَمُهُ. التَّتَابُعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ. أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَصِحُّ فِيهِ التَّفْرِيقُ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ، كَالصِّيَامِ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِذَا أَطْلَقَهُ اقْتَضَى التَّتَابُعَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا، وَكَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَالْعِدَّةِ. وَبِهَذَا فَارَقَ الصِّيَامَ، فَإِنْ أَتَى بِشَهْرٍ بَيْنَ هِلَالَيْنِ، أَجْزَأْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا. وَإِنْ اعْتَكَفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ شَهْرَيْنِ، جَازَ، وَتَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا، وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ أَيَّامَ هَذَا الشَّهْرِ، أَوْ لَيَالِيَ هَذَا الشَّهْرِ. لَزِمَهُ مَا نَذَرَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: شَهْرًا فِي النَّهَارِ، أَوْ فِي اللَّيْلِ. (2191) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي مَا تَنَاوَلَهُ، وَالْأَيَّامُ الْمُطْلَقَةُ تُوجَدُ بِدُونِ التَّتَابُعِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي الدَّاخِلَةُ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْذُورَةِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا. وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ التَّتَابُعَ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَدْخُلَ اللَّيَالِي فِيهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. فَإِنْ نَوَى التَّتَابُعَ، أَوْ شَرَطَهُ، لَزِمَهُ، وَدَخَلَ اللَّيْلُ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُ مَا بَيْنَ الْأَيَّامِ مِنْ اللَّيَالِي. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ مِنْ اللَّيَالِي بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ، يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُهُ مِنْ اللَّيَالِي، وَاللَّيَالِي تَدْخُلُ مَعَهَا الْأَيَّامُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . وَلَنَا، أَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ تَكْرَارٌ لِلْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلَ اللَّيَالِي تَبَعًا لِوُجُوبِ التَّتَابُعِ ضِمْنًا، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمَا بَيْنَ الْأَيَّامِ خَاصَّةً، فَاكْتُفِيَ بِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى اللَّيْلِ فِي مَوْضِعٍ وَالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ، فَصَارَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا. فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، لَزِمَهُ يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُطْلَقًا، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، هُوَ كَمَا لَوْ نَذَرَهُمَا مُتَتَابِعَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ لَيْلَتَيْنِ، لَزِمَهُ الْيَوْمُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، وَلَا مَا بَيْنَهُمَا، إلَّا بِلَفْظِهِ أَوْ نِيَّتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 (2192) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، كَقَوْلِنَا فِي الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ النَّهَارَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا. وَلَنَا، أَنَّ اللَّيْلَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْيَوْمِ، وَهِيَ مِنْ الشَّهْرِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَإِنَّمَا دَخَلَ اللَّيْلُ فِي الْمُتَتَابِعِ ضِمْنًا، وَلِهَذَا خَصَّصْنَاهُ بِمَا بَيْنَ الْأَيَّامِ. وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ، لَزِمَهُ دُخُولُ مُعْتَكَفِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُ الِاعْتِكَافِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ تَفْرِيقُهُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ، قِيَاسًا عَلَى تَفْرِيقِ الشَّهْرِ. وَلَنَا، أَنَّ إطْلَاقَ الْيَوْمِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّتَابُعُ، فَيَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: مُتَتَابِعًا. وَفَارَقَ الشَّهْرَ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَاسْمٌ لِثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَاسْمٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْيَوْمُ لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِي هَذَا. لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى مِثْلِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ؛ لِأَنَّهُ فِي خِلَالِ نَذْرِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ نَذَرَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بَعْضُ يَوْمَيْنِ لِتَعْيِينِهِ ذَلِكَ بِنَذْرِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدْ يَوْمًا صَحِيحًا. (2193) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا، لَزِمَهُ مَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا، وَلَوْ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إلَّا عَلَى قَوْلِنَا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ، فَيَلْزَمُهُ يَوْمٌ كَامِلٌ، فَأَمَّا اللَّحْظَةُ، وَمَا لَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا، فَلَا يُجْزِئُهُ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا. (2194) فَصْلٌ: وَلَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ الْمَسَاجِدِ بِنَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ فِيهِ، إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ، وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَعَيَّنَ غَيْرُهَا بِتَعْيِينِهِ، لَزِمَهُ الْمُضِيُّ إلَيْهِ، وَاحْتَاجَ إلَى شَدِّ الرِّحَال لِقَضَاءِ نَذْرِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ لِعِبَادَتِهِ مَكَانًا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِتَعْيِينِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، فَإِذَا عَيَّنَ مَا فِيهِ فَضِيلَةٌ، لَزِمَتْهُ، كَأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَتَعَيَّنُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ، فِيمَا عَدَا هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ. لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 الْأَقْصَى لَوْ فُضِّلَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا خُرُوجُهُ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِمَّا كَوْنُ فَضِيلَتِهِ بِأَلْفٍ مُخْتَصًّا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ الرِّحَال إلَيْهَا، فَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ فِي النَّذْرِ، كَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّهُ إذَا فُضِّلَ الْفَاضِلُ بِأَلْفٍ، فَقَدْ فُضِّلَ الْمَفْضُولُ بِهَا أَيْضًا. (2195) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاعْتِكَافُ فِيمَا سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُهَا، وَلِأَنَّ عُمَرَ «نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا دُفِنَ فِي خَيْرِ الْبِقَاعِ، وَقَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ. وَلَنَا، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ» . وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا إنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسٍ قَرِيبًا مِنْ الْمَقَامِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ مَكَّةَ، لَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنِّي وَجَدْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هَاهُنَا فِي قُرَيْشٍ، مُقْبِلًا مَعِي وَمُدْبِرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَاهُنَا فَصَلِّ. فَقَالَ الرَّجُلُ قَوْلَهُ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَاهُنَا فَصَلِّ. ثُمَّ قَالَ الرَّابِعَةَ مَقَالَتَهُ هَذِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ، فَصَلِّ فِيهِ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْت هَاهُنَا لَقَضَى عَنْك ذَلِكَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ» . وَمَتَى نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، فَانْهَدَمَ مُعْتَكَفُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْمُقَامُ فِيهِ، لَزِمَهُ إتْمَامُ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 (2196) فَصْلٌ: إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ. صَحَّ نَذْرُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، فَإِنْ قَدِمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، لَزِمَهُ اعْتِكَافُ الْبَاقِي مِنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا فَاتَ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ قَبْلَ شَرْطِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَنٍ مَاضٍ. لَكِنْ إذَا قُلْنَا: شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ. لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالِاعْتِكَافِ فِي الصَّوْمِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ، وَلَا قَضَاؤُهُ مُتَمَيِّزًا مِمَّا قَبْلَهُ، فَلَزِمَهُ يَوْمٌ كَامِلٌ ضَرُورَةً، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ اعْتِكَافُ مَا بَقِيَ مِنْهُ إذَا كَانَ صَائِمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ اعْتِكَافٌ مَعَ الصَّوْمِ. وَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ لَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ كَانَ لِلنَّاذِرِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ الِاعْتِكَافَ عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ مِنْ حَبْسٍ، أَوْ مَرَضٍ، قَضَى وَكَفَّرَ؛ لِفَوَاتِ النَّذْرِ فِي وَقْتِهِ، وَيَقْضِي بَقِيَّةَ الْيَوْمِ فَقَطْ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي الْأَدَاءِ، فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَفِي الْأُخْرَى، يَقْضِي يَوْمًا كَامِلًا، بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 [كِتَاب الْحَجّ] ِّ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ. وَعَنْ الْخَلِيلِ، قَالَ: الْحَجُّ كَثْرَةُ الْقَصْدِ إلَى مَنْ تُعَظِّمُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُؤُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَ. وَالسَّبُّ: الْعِمَامَةُ. وَفِي الْحَجِّ لُغَتَانِ: الْحَجُّ وَالْحِجُّ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا. وَالْحَجُّ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لَأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمِنْ كَفَرَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» . وَذَكَرَ فِيهَا الْحَجَّ، وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» . فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَيْنِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً. [مَسْأَلَة شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ] (2197) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ: (وَمَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، لَزِمَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ إنَّمَا يَجِبُ بِخَمْسِ شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا. فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَيْسَا بِمُكَلَّفَيْنِ، وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَطُولُ مُدَّتُهَا، وَتَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، وَتُشْتَرَطُ لَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 الِاسْتِطَاعَةُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَيُضَيِّعُ حُقُوقَ سَيِّدِهِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَغَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفُرُوعِ الدِّينِ خِطَابًا يُلْزِمُهُ أَدَاءً، وَلَا يُوجِبُ قَضَاءً. وَغَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ، فَيَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . (2198) فَصْلٌ: وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً؛ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَات. وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَالْإِجْزَاءِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلصِّحَّةِ، فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ صَحَّ حَجُّهُمَا، وَلَمْ يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، وَهُوَ الِاسْتِطَاعَةُ، فَلَوْ تَجَشَّمَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ الْمَشَقَّةَ، وَسَارَ بِغَيْرِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَحَجَّ، كَانَ حَجُّهُ صَحِيحًا مُجْزِئًا، كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ، أَجْزَأَهُ. (2199) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ، وَهُمَا؛ تَخْلِيَةُ الطَّرِيق، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَانِعٌ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ. وَإِمْكَانُ الْمَسِيرِ، وَهُوَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ. فَرُوِيَ أَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِدُونِهِمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلِأَنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ فِعْلُ الْحَجِّ، فَكَانَ شَرْطًا، كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطَانِ لِلُزُومِ السَّعْيِ، فَلَوْ كَمُلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، حُجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ أَعْسَرَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ . قَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ يَمْنَعُ نَفْسَ الْأَدَاءِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْوُجُوبَ كَالْعَضْبِ، وَلِأَنَّ إمْكَانَ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا فِيهِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ فَقْدِهِمَا الْأَدَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ، وَفَقْدُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجَمِيعُ، فَافْتَرَقَا. (2200) فَصْلٌ: وَإِمْكَانُ الْمَسِيرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَلَوْ أَمْكَنَهُ الْمَسِيرُ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسِيرَ سَيْرًا يُجَاوِزُ الْعَادَةَ، أَوْ يَعْجِزَ عَنْ تَحْصِيلِ آلَةِ السَّفَرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ السَّعْيُ. وَتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ هُوَ أَنْ تَكُونَ مَسْلُوكَةً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 لَا مَانِعَ فِيهَا، بَعِيدَةً كَانَتْ أَوْ قَرِيبَةً، بَرًّا كَانَ أَوْ بَحْرًا، إذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ، لَمْ يَلْزَمْهُ سُلُوكُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ عَدُوٌّ يَطْلُبُ خَفَارَةً، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُهُ السَّعْيُ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً؛ لِأَنَّهَا رِشْوَةٌ، فَلَا يَلْزَمُ بَذْلُهَا فِي الْعِبَادَةِ، كَالْكَبِيرَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَزِمَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ يَقِفُ إمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ الْوُجُوبَ مَعَ إمْكَانِ بَذْلِهَا، كَثَمَنِ الْمَاءِ وَعَلَفِ الْبَهَائِمِ. (2201) فَصْلٌ: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُشْتَرَطَةُ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ الصِّحَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إنْ كَانَ شَابًّا فَلْيُؤَاجِرْ نَفْسَهُ بِأَكْلِهِ وَعَقِبِهِ، حَتَّى يَقْضِيَ نُسُكَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ: إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ، وَعَادَتُهُ سُؤَالُ النَّاسِ، لَزِمَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فِي حَقِّهِ، فَهُوَ كَوَاجِدِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ.» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَاشْتُرِطَ لِوُجُوبِهَا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، كَالْجِهَادِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِاسْتِطَاعَةٍ، فَإِنَّهُ شَاقٌّ، وَإِنْ كَانَ عَادَةً، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ الْأَحْوَالِ دُونَ خُصُوصِهَا، كَمَا أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ تَعُمُّ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ. [فَصْل لَا يَلْزَمهُ الْحَجّ بِبَذْلِ غَيْره لَهُ] (2202) فَصْلٌ: وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْلِ غَيْرِهِ لَهُ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِلُ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَسَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ الرُّكُوبَ وَالزَّادَ، أَوْ بَذَلَ لَهُ مَالًا. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا بَذَلَ لَهُ وَلَدَهُ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْحَجِّ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ تَلْزَمُهُ، وَلَا ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، فَلَزِمَهُ الْحَجُّ، كَمَا لَوْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ الْحَجَّ (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) ، يَتَعَيَّنُ فِيهِ تَقْدِيرُ مِلْكِ ذَلِكَ، أَوْ مِلْكِ مَا يَحْصُلُ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ الْبَاذِلُ أَجْنَبِيًّا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا ثَمَنِهِمَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ وَالِدُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَّةٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فَيَبْطُلُ بِبَذْلِ الْوَالِدَةِ، وَبَذْلِ مَنْ لِلْمَبْذُولِ عَلَيْهِ أَيَادٍ كَثِيرَةٌ وَنِعَمٌ. [فَصْل تُكَلِّف الْحَجّ مِمَّنْ لَا يَلْزَمهُ] (2203) فَصْلٌ: وَمَنْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يَمْشِيَ وَيَكْتَسِبَ بِصِنَاعَةٍ كَالْخَرَزِ، أَوْ مُعَاوَنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكْتَرِي لِزَادِهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فَقَدَّمَ ذِكْرَ الرِّجَالِ. وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ، كُرِهَ لَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَيَحْصُلُ كَلًّا عَلَيْهِمْ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُهُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ؟ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ، هَذَا يَتَوَكَّلُ عَلَى أَزْوَادِ النَّاسِ. [فَصْل يَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الرَّاحِلَةِ بِالْبَعِيدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ] (2204) فَصْلٌ: وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الرَّاحِلَةِ بِالْبَعِيدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَأَمَّا الْقَرِيبُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ، فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ، يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ إلَيْهَا، فَلَزِمَهُ، كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ، اُعْتُبِرَ وُجُودُ الْحُمُولَةِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمَشْيِ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ. وَأَمَّا الزَّادُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ زَادًا، وَلَا قَدَرَ عَلَى كَسْبِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ. [فَصْل الزَّاد الَّذِي تَشْتَرِط الْقُدْرَة عَلَيْهِ فِي الْحَجّ] فَصْلٌ: وَالزَّادُ الَّذِي تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، هُوَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ؛ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكُسْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ، أَوْ وَجَدَهُ يُبَاعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَتْ تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ. وَإِذَا كَانَ يَجِدُ الزَّادَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَذَلِكَ، لَزِمَهُ حَمْلُهُ. وَأَمَّا الْمَاءُ وَعَلَفُ الْبَهَائِمِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي يَنْزِلُهَا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَا مِنْ أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَى مَكَّةَ، كَأَطْرَافِ الشَّامِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يَشُقُّ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حَمْلِ الْمَاءِ لِبَهَائِمِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ، وَالطَّعَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا قُدْرَتُهُ عَلَى الْآلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا، كَالْغَرَائِرِ وَنَحْوِهَا، وَأَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، فَهُوَ كَأَعْلَافِ الْبَهَائِمِ. [فَصْل الرَّاحِلَة الَّتِي تَشْتَرِط لِمَرِيدِ الْحَجّ] (2206) فَصْلٌ: وَأَمَّا الرَّاحِلَةُ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَجِدَ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ، إمَّا شِرَاءً أَوْ كِرَاءٍ، لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ، وَيَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَتِهَا الَّتِي تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْفِيهِ الرَّحْلُ وَالْقَتَبُ، وَلَا يَخْشَى السُّقُوطَ، أَجْزَأَ وُجُودُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ، وَيَخْشَى السُّقُوطَ عَنْهُمَا، اُعْتُبِرَ وُجُودُ مَحْمِلٍ وَمَا أَشْبَهِهِ، مِمَّا لَا مَشَقَّةَ فِي رُكُوبِهِ، وَلَا يَخْشَى السُّقُوطَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ، إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ هَاهُنَا مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْمَشَقَّةُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خِدْمَةِ نَفْسِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ اُعْتُبِرْت الْقُدْرَةُ عَلَى مَنْ يَخْدِمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِهِ. [فَصْل النَّفَقَة فِي الْحَجّ] (2207) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ مَئُونَتُهُمْ، فِي مُضِيِّهِ وَرُجُوعِهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهُمْ أَحْوَجُ، وَحَقُّهُمْ آكَدُ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ هُوَ وَأَهْلُهُ إلَيْهِ، مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَهُوَ آكَدُ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الزَّكَاةَ، مَعَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْفُقَرَاءِ بِهَا، وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا، فَالْحَجُّ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَزَكَاةٍ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ كَفَّارَاتٍ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ، قَدَّمَ التَّزْوِيجَ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَا غِنَى بِهِ عَنْهُ، فَهُوَ كَنَفَقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، قَدَّمَ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَطَوُّعٌ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجَّ الْوَاجِبِ. وَإِنْ حَجَّ مَنْ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الْحُقُوقُ وَضَيَّعَهَا، صَحَّ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ، فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهِ. [فَصْل لَهُ عَقَار يَحْتَاج إلَيْهِ لِسُكْنَاهُ أَوْ سُكْنَى عِيَالِهِ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجّ] (2208) فَصْلٌ: وَمَنْ لَهُ عَقَارٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسُكْنَاهُ، أَوْ سُكْنَى عِيَالِهِ، أَوْ يَحْتَاجُهُ إلَى أُجْرَتِهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، أَوْ بِضَاعَةٌ مَتَى نَقَصَهَا اخْتَلَّ رِبْحُهَا فَلَمْ يَكْفِهِمْ، أَوْ سَائِمَةٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، لَزِمَهُ بَيْعُهُ فِي الْحَجِّ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَاسِعٌ يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ، وَأَمْكَنَهُ بَيْعُهُ وَشِرَاءُ مَا يَكْفِيهِ، وَيَفْضُلُ قَدْرُ مَا يَحُجُّ بِهِ، لَزِمَهُ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُتُبٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهَا فِي الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، أَوْ كَانَ لَهُ بِكِتَابٍ نُسْخَتَانِ، يَسْتَغْنِي بِأَحَدِهِمَا، بَاعَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ لَهُ يَكْفِيهِ لِلْحَجِّ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ. [فَصْل وُجُوبُ الْعُمْرَة عَلَى مَنْ يَجِب عَلَيْهِ الْحَجّ] (2209) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْحَجُّ جِهَادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُوَقَّتٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَالطَّوَافِ الْمُجَرَّدِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَمُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، ثُمَّ عَطَفَهَا عَلَى الْحَجِّ، وَالْأَصْلُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهَا لَقَرِينَةُ الْحَجِّ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَعَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: «أَتَيْت عُمَرَ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي أَسْلَمْت، وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ فَأَهْلَلْت بِهِمَا، فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: «إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ. قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيك، وَاعْتَمِرْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَدِيثٌ يَرْوِيهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَوْصِنِي. قَالَ: تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ، وَتَعْتَمِرُ» . وَرَوَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكَانَ فِي الْكِتَابِ: إنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ نَعْلَمُهُ، إلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ، لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ، وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ شَيْءٌ ثَابِتٌ بِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ لَا تَصِحُّ، وَلَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا الْحُجَّةُ. ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَهِيَ الْعُمْرَةُ الَّتِي قَضَوْهَا حِينَ أُحْصِرُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ عَلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرُوهَا مَعَ حَجَّتِهِمْ، مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ اعْتَمَرَ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْعُمْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتُفَارِقُ الْعُمْرَةُ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا الْإِحْرَامَ، وَالطَّوَافُ بِخِلَافِهِ. [فَصْل لَيْسَ عَلَى أَهْل مَكَّةَ عَمْرَة] (2210) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عُمْرَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ، إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ طَوَافُكُمْ بِالْبَيْتِ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ. قَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا عَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ، لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِمَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِمَا سَبِيلًا، إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ حَجَّةً، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ، مِنْ أَجْلِ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ وَمُعْظَمُهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُمْ. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ مَعَ الْحَجَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ مِنْهُمْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ. وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. [فَصْل عَمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ وَعَمْرَةُ الْقَارِن] (2211) فَصْلٌ: وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعَ، وَعُمْرَةُ الْقَارِنِ، وَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ عَنْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي إجْزَاءِ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ خِلَافًا. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لَا تُجْزِئُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا تُجْزِئُ عَنْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ. وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لَا تُجْزِئُ أَنَّ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ أَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، فَلَوْ كَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي قِرَانِهَا أَجْزَأَتْهَا لَمَا أَعْمَرَهَا بَعْدَهَا. وَلَنَا، قَوْلُ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ: إنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَأَهْلَلْت بِهِمَا. فَقَالَ عُمَرُ: «هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا يَعْتَقِدُ أَدَاءَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، وَالْخُرُوجَ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 عُهْدَتِهِمَا، فَصَوَّبَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ قَرَنَتْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَلَّتْ مِنْهُمَا: «قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك» . وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ التَّنْعِيمِ قَصْدًا لِتَطْيِيبِ قَلْبِهَا، وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهَا، لَا لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا. ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ أَجْزَأَتْهَا عُمْرَةُ الْقِرَانِ، فَقَدْ أَجْزَأَتْهَا الْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَهُوَ أَحَدُ مَا قَصَدْنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ أَتَى بِهَا صَحِيحَةً، فَتُجْزِئُهُ، كَعُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ. وَلِأَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ أَحَدُ نُسُكَيْ الْقِرَانِ، فَأَجْزَأَتْ، كَالْحَجِّ، وَالْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ يُجْزِئُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ، فَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ الطَّوَافُ الْمُجَرَّدُ يُجْزِئُ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، فَلَأَنْ تُجْزِئَ الْعُمْرَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ أَوْلَى. [فَصْل لَا بَأْس أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا] (2212) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ الْعُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ. وَلَنَا، أَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمْرَةً مَعَ قِرَانِهَا، وَعُمْرَةً بَعْدَ حَجِّهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كُلٍّ شَهْرٍ مَرَّةً. وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ. رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ، فِي (مُسْنَدِهِ) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ شَعْرِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ. فَأَمَّا الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ السَّلَفِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: إنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ. وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ فِي اتِّبَاعِهِمْ. قَالَ طَاوُسٌ: الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنْ التَّنْعِيمِ، مَا أَدْرِي يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا أَوْ يُعَذَّبُونَ؟ قِيلَ لَهُ: فَلِمَ يُعَذَّبُونَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَيَخْرُجُ إلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وَيَجِيءُ، وَإِلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ، وَكَلَّمَا طَافَ بِالْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ. وَقَدْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرَ فِي أَرْبَعِ سُفُرَاتٍ، لَمْ يَزِدْ فِي كُلِّ سُفْرَةٍ عَلَى عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مَعَهُ، إلَّا عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّ عُمْرَةَ قِرَانِهَا بَطَلَتْ، وَلِهَذَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ. فَأَعْمَرَهَا لِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ. [فَصْل عَمْرَة فِي رَمَضَان تَعْدِل حُجَّة] (2213) فَصْلٌ: وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ أَدْرَكَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ أَدْرَكَ عُمْرَةَ رَمَضَانَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ؛ وَاحِدَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ إذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ» . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَجَّ قَبْلَ ذَلِكَ حَجَّةً أُخْرَى. وَمَا هُوَ يَثْبُتُ عِنْدِي. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ حِجَجٍ؛ حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ» . وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. (2214) فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي (الْمُوَطَّأِ) . [مَسْأَلَة وَجَدَتْ فِيهِ شَرَائِط وُجُوب الْحَجّ وَكَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِمَانِعِ مأيوس مِنْ زَوَالِهِ] (2215) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ شَيْخًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 أَقَامَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ، وَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ عُوفِيَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَكَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِمَانِعٍ مَأْيُوسٍ مِنْ زَوَالِهِ، كَزَمَانَةٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، أَوْ كَانَ نِضْوَ الْخَلْقِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ، وَالشَّيْخُ الْفَانِي، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ مَتَى وَجَدَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ، وَمَالًا يَسْتَنِيبُهُ بِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَجَّ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيعَ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَرَى لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَلَا تَدْخُلُهَا مَعَ الْعَجْزِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَحُجِّي عَنْهُ» . وَسُئِلَ عَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ شَيْخٍ لَا يَجِدُ الِاسْتِطَاعَةَ، قَالَ. يُجَهَّزُ عَنْهُ. وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُ فِعْلِهِ فِيهَا مَقَامَ فِعْلِهِ، كَالصَّوْمِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ افْتَدَى، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. [فَصْل لَمْ يَجِد مَالًا يَسْتَنِيب بِهِ غَيْره فِي الْحَجّ عَنْهُ] (2216) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا يَسْتَنِيبُ بِهِ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَحُجُّ بِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَالْمَرِيضُ أَوْلَى. وَإِنْ وَجَدَ مَالًا، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي إمْكَانِ الْمَسِيرِ، هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، أَوْ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْيِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْيِ. ثَبَتَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ، هَذَا يُحَجُّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. [فَصْل حَجّ عَنْهُ غَيْره وَهُوَ مَرِيض ثُمَّ عُوفِيَ] (2217) فَصْلٌ: وَمَتَى أَحَجَّ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ عُوفِيَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ إيَاسٍ، فَإِذَا بَرَأَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 الْأَصْلُ، كَالْآيِسَةِ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، ثُمَّ حَاضَتْ، لَا تُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ، أَوْ نَقُولُ: أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ، كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى إيجَابِ حَجَّتَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ. قُلْنَا: لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، لَمَا أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ. أَمَّا الْآيِسَةُ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُ حَيْضِهَا، فَإِنْ رَأَتْ دَمًا، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ، وَلَا يَبْطُلُ بِهِ اعْتِدَادُهَا، وَلَكِنْ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، إذَا اعْتَدَّتْ سَنَةً، ثُمَّ عَادَ حَيْضُهَا، لَمْ يَبْطُلْ اعْتِدَادُهَا. فَأَمَّا إنْ عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنْ الْحَجِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ، فَلَزِمَهُ، كَالصَّغِيرَةِ وَمَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا، إذَا حَاضَتَا قَبْلَ إتْمَامِ عِدَّتِهِمَا بِالشُّهُورِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا شَرَعَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْمُكَفِّرِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ. وَإِنْ بَرَأَ قَبْلَ إحْرَامِ النَّائِبِ، لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ. [فَصْل مِنْ يُرْجَى زَوَال مَرَضه وَالْمَحْبُوس وَنَحْوه هَلْ يُنِيب فِي الْحَجّ] فَصْلٌ: وَمَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ. فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ مُرَاعًى، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَلَا تُجْزِئُهُ إنْ فَعَلَ، كَالْفَقِيرِ، وَفَارَقَ الْمَأْيُوسَ مِنْ بُرْئِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، آيِسٌ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ. وَلِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لَا تَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ. [فَصْل لَا يَجُوز أَنْ يَسْتَنِيب مَنْ يَقْدِر عَلَى الْحَجّ بِنَفْسِهِ] (2219) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُجَّ، لَا يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ عَنْهُ، وَالْحَجُّ الْمَنْذُورُ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فِي إبَاحَةِ الِاسْتِنَابَةِ عِنْد الْعَجْزِ، وَالْمَنْعِ مِنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ، فَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُؤَدِّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي حَجَّةِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَبِنَائِبِهِ أَوْلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ مَا جَازَتْ الِاسْتِنَابَةُ فِي فَرْضِهِ، جَازَتْ فِي نَفْلِهِ، كَالصَّدَقَةِ. الثَّالِث، أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا، كَالْمَعْضُوبِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، كَالْفَرْضِ. [فَصْل الْعَجْز عَنْ الْحَجّ عَجَزَا مَرْجُوّ الزَّوَال] (2220) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ، كَالْمَرِيضِ مَرَضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْمَحْبُوسِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَجٌّ لَا يَلْزَمَهُ، عَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ، أَنَّ الْفَرْضَ عِبَادَةُ الْعُمْرِ، فَلَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ هَذَا الْعَامِ، وَالتَّطَوُّعُ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيَفُوتُ حَجُّ هَذَا الْعَامِ بِتَأْخِيرِهِ، وَلِأَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ إذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، فُعِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَجَّ التَّطَوُّعِ لَا يُفْعَلُ، فَيَفُوتُ. [فَصْل الِاسْتِئْجَار عَلَى الْحَجّ] (2221) فَصْلٌ: وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ، وَالْأَذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ، وَنَحْوِهِ، مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ، وَيَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَالْأُخْرَى، يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُعْلَ عَلَى الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَوَّبَهُمْ فِيهِ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ كَانَ يُعَلِّمُ رَجُلًا الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: «إنْ سَرَّك أَنْ تَتَقَلَّدَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ، فَتَقَلَّدْهَا» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: «وَاِتَّخِذْ مُؤَذِّنًا، لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، كَالصَّلَاةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَالصَّوْمِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي أَخْذِ الْجُعْلِ وَالْأُجْرَةِ، فَإِنَّمَا كَانَتْ فِي الرُّقْيَةِ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَتَخْتَصُّ بِهَا. وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ، فَلَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ قُرْبَةً وَغَيْرَ قُرْبَةٍ، فَإِذَا وَقَعَ بِأُجْرَةٍ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً، وَلَا عِبَادَةً، وَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عِبَادَةٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ، فَمَتَى فَعَلَهُ مِنْ أَجْلِ الْأُجْرَةِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عِبَادَةً، فَلَمْ يَصِحَّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ النَّفَقَةِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، بِدَلِيلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ، أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ إلَّا نَائِبًا مَحْضًا، وَمَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ نَفَقَةً لِطَرِيقِهِ، فَلَوْ مَاتَ، أَوْ أُحْصِرَ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِمَا أَنْفَقَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ إنْفَاقٌ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ، فَأَشْبَهُ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي سَدِّ بَثْقٍ فَانْبَثَقَ وَلَمْ يَنْسَدَّ. وَإِذَا نَابَ عَنْهُ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَحُجُّ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ النَّائِبُ الْأَوَّلُ مِنْ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُ حَصَلَ قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ بِمَالِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ دَفْعَةً أُخْرَى، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى. وَمَا فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ رَدَّهُ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَلَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الَّذِي يَأْخُذُ دَرَاهِمَ لِلْحَجِّ: لَا يَمْشِي، وَلَا يُقَتِّرُ فِي النَّفَقَةِ، وَلَا يُسْرِفُ. وَقَالَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ حَجَّةً عَنْ مَيِّتٍ، فَفَضَلَتْ مَعَهُ فَضْلَةٌ: يَرُدُّهَا، وَلَا يُنَاهِدُ أَحَدًا إلَّا بِقَدْرِ مَا لَا يَكُونُ سَرَفًا، وَلَا يَدْعُو إلَى طَعَامِهِ، وَلَا يَتَفَضَّلُ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إذَا أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا، فَقِيلَ لَهُ: حُجَّ بِهَذِهِ. فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ. وَإِذَا قَالَ الْمَيِّتُ: حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَدَفَعُوهَا إلَى رَجُلٍ، فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ. جَازَ أَنْ يَقَعَ الدَّفْعُ إلَى النَّائِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ، اعْتَبَرَ فِيهِ شُرُوطَ الْإِجَارَةِ؛ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأُجْرَةِ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَمَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةً لَهُ يَمْلِكُهُ، وَيُبَاحُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَالتَّوَسُّعُ بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أُحْصِرَ، أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ ضَاعَتْ النَّفَقَةُ مِنْهُ، فَهُوَ فِي ضَمَانِهِ، وَالْحَجُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ الْبَهِيمَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، وَيَكُونُ الْحَجُّ أَيْضًا مِنْ مَوْضِعٍ بَلَغَ إلَيْهِ النَّائِبُ، وَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّمَاءِ فَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 [فَصْل النَّائِب غَيْر الْمُسْتَأْجَر فِي الْحَجّ] فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّائِبُ غَيْرُ الْمُسْتَأْجَرِ، فَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّمَاءِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، فَعَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، فَكَانَ مُوجَبًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا، وَدَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، إنْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، عَلَى الْمُسْتَنِيبِ؛ لِأَنَّهُ أُذِنَ فِي سَبَبِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَجِنَايَتِهِ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَهُوَ كَنَفَقَةِ الرُّجُوعِ. وَإِنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ، فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ لَمْ تُجْزِئْ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ؛ لِتَفْرِيطِهِ وَجِنَايَتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِتَفْرِيطِهِ. وَإِنْ فَاتَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، احْتَسَبَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ، بِفِعْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، كَمَا لَوْ مَاتَ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَهُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي حَجٍّ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ، فَفَاتَهُ. [فَصْل سَلَكَ النَّائِب فِي الْحَجّ طَرِيقًا يُمَكِّنهُ سَلُّوك أَقْرَب مِنْهُ] (2223) فَصْلٌ: وَإِذَا سَلَكَ النَّائِبُ طَرِيقًا يُمْكِنُهُ سُلُوكُ أَقْرَبَ مِنْهُ، فَفَاضِلُ النَّفَقَةِ فِي مَالِهِ. وَإِنْ تَعَجَّلَ عَجَلَةً يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ. أَقَامَ بِمَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْقَصْرِ، بَعْدَ إمْكَانِ السَّفَرِ لِلرُّجُوعِ، أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَهُ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، وَلَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ، وَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ سِنِينَ مَا لَمْ يَتَّخِذْهَا دَارًا، فَإِنْ اتَّخَذَهَا دَارًا، وَلَوْ سَاعَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَقَةُ رُجُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مَكِّيًّا، فَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ، فَلَمْ تُعَدَّ. وَإِنْ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ، فَعَادَ، فَلَهُ نَفَقَةُ رُجُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، حَصَلَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ أَوْ أُحْصِرَ. وَإِنْ قَالَ: خِفْت أَنْ أَمْرَضَ فَرَجَعْت. فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَهِّمٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ مَرِضَ فِي الْكُوفَةِ، فَرَجَعَ، يَرُدُّ مَا أَخَذَ. وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْتَنِيبِ، فَجَازَ مَا أَذِنَ فِيهِ. وَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدِّمَاءَ الْوَاجِبَة عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ فِعْلِهِ، أَوْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ. [فَصْل حَجّ الرَّجُل عَنْ الْمَرْأَة وَالْمَرْأَة عَنْ الرَّجُل] (2224) فَصْلٌ: يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ الرَّجُلُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فِي الْحَجِّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ، فَإِنَّهُ كَرِهَ حَجَّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ ظَاهِرِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَعَلَيْهِ؛ يَعْتَمِدُ مَنْ أَجَازَ حَجَّ الْمَرْءِ عَنْ غَيْرِهِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، وَأَحَادِيثُ سِوَاهُ. [فَصْل الْحَجِّ وَالْعُمْرَة عَنْ الْحَيّ] (2225) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنْ حَيٍّ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 فَلَمْ تَجُزْ عَنْ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا بِإِذْنِهِ، كَالزَّكَاةِ، فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَتَجُوزُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ، وَمَا جَازَ فَرْضُهُ جَازَ نَفْلُهُ، كَالصَّدَقَةِ. فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ النَّائِبُ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ، مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يُؤْمَرَ بِحَجٍّ فَيَعْتَمِرَ، أَوْ بِعُمْرَةٍ فَيَحُجَّ، يَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَلَا يَقَعُ عَنْ الْحَيِّ؛ لِعَدَمِ إذْنِهِ فِيهِ، وَيَقَعُ عَمَّنْ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَنْوِيِّ عَنْهُ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَنَابَهُ رَجُلَانِ، فَأَحْرَمَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ رَدُّ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا. [فَصْل مُخَالِفَة النَّائِب فِي الْحَجّ لَأَمَرَ الْمُنِيب] فُصُولٌ فِي مُخَالَفَةِ النَّائِبِ: إذَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ فَتَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ حَجَّ؛ نَظَرْت؛ فَإِنْ خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ، جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِ مِيقَاتِهِ، وَيَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فِيمَا بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَقَعُ فِعْلُهُ عَنْ الْآمِرِ، وَيَرُدُّ جَمِيعَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ صَحِيحًا مِنْ مِيقَاتِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، فَمَا أَخَلَّ إلَّا بِمَا يَجْبُرُهُ الدَّمُ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ، كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَأَحْرَمَ دُونَهُ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِفْرَادِ فَقَرَنَ، لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَزِيَادَةً، فَصَحَّ وَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ تُسَاوِي إحْدَاهُمَا دِينَارًا. ثُمَّ إنْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَفَعَلَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، رَدَّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهَا. [فَصْل أَمَرَ النَّائِب فِي الْحَجّ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرْن] (2227) فَصْلٌ: وَإِنْ أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ، وَقَعَ عَنْ الْآمِرِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِمَا، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، فَأَحْرَمَ بِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وَتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ التَّمَتُّع، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، وَفَوَّتَهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَفْرَدَ وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ أَيْضًا، وَيَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا. [فَصْل أَمَرَ النَّائِب فِي الْحَجّ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ] (2228) فَصْلٌ: فَإِنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ، صَحَّ، وَوَقَعَ النُّسُكَانِ عَنْ الْآمِرِ، وَيَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 مِنْ إحْرَامِ النُّسُكِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ الْمِيقَاتِ. وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ، إذَا أَمَرَهُ بِالنُّسُكَيْنِ، فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، رَدَّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ، وَوَقَعَ الْمَفْعُولُ عَنْ الْآمِرِ، وَلِلنَّائِبِ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهِ. [فَصْل اسْتَنَابَهُ رَجُل فِي الْحَجّ وَآخَر فِي الْعُمْرَة وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَان فَفَعَلَ] (2229) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَنَابَهُ رَجُلٌ فِي الْحَجِّ، وَآخَرُ فِي الْعُمْرَةِ، وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَانِ، فَفَعَلَ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ مَشْرُوعٌ. وَإِنْ قَرَنَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمَا، صَحَّ وَوَقَعَ عَنْهُمَا، وَيَرُدُّ مِنْ نَفَقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّفَرَ عَنْهُمَا بِغَيْرِ إذْنِهِمَا. وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونِ الْآخَرِ، رَدَّ عَلَى غَيْرِ الْآمِرِ نِصْفَ نَفَقَتِهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ ضَمِنَ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِنُسُكٍ مُفْرَدٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ، فَكَانَ مُخَالِفًا، كَمَا لَوْ أُمِرَ بِحَجٍّ فَاعْتَمَرَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي صِفَتِهِ، لَا فِي أَصْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ أُمِرَ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ. وَلَوْ أُمِرَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، فَقَرَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّسُكِ الْآخَرِ لِنَفْسِهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَدَمُ الْقِرَانِ عَلَى النَّائِبِ إذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِي سَبَبِهِ، وَعَلَيْهِمَا، إنْ أَذِنَا؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي سَبَبِهِ. وَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَعَلَى الْآذِنِ نِصْفُ الدَّمِ، وَنِصْفُهُ عَلَى النَّائِبِ. [فَصْل أَمَرَ بِالْحَجِّ فَحَجّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ] (2230) فَصْلٌ: وَإِنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ، فَحَجَّ، ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَهُ بِعُمْرَةٍ، فَاعْتَمَرَ، ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ. صَحَّ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتٍ، فَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْإِجْزَاءِ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ، فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَأَحْرَمَ مَنْ بَلَدِهِ، جَازَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا تَضُرُّ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ، أَوْ بِالِاعْتِمَارِ فِي شَهْرٍ، فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ. [فَصْل اسْتَنَابَهُ اثْنَانِ فِي نُسُك فَأَحْرَمَ بِهِ عَنْهُمَا] (2231) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَنَابَهُ اثْنَانِ فِي نُسُكٍ، فَأَحْرَمَ بِهِ عَنْهُمَا، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ دُونَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا، فَمَعَ نِيَّتِهِ أَوْلَى. وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيِّنٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحْرَمَ عَنْهُمَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ، فَصَحَّ عَنْ الْمَجْهُولِ، وَإِلَّا صَرَفَهُ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَافَ شَوْطًا، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. [مَسْأَلَة امْرَأَةٌ مُوسِرَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ] (2232) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ كَحُكْمِ الرَّجُلِ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا مَحْرَمَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِالْمَحْرَمِ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فَمَنْ لَا مَحْرَمَ لَهَا لَا تَكُونُ كَالرَّجُلِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت: لِأَحْمَدَ: امْرَأَةٌ مُوسِرَةٌ، لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ أَيْضًا: الْمَحْرَمُ مِنْ السَّبِيلِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمَحْرَمَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْي دُونَ الْوُجُوبِ، فَمَتَى فَاتَهَا الْحَجُّ بَعْدَ كَمَالِ الشَّرَائِطِ الْخَمْسِ، بِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَخْرَجَ عَنْهَا حَجَّةً؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْحَجِّ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ قَدْ كَمُلَتْ، وَإِنَّمَا الْمَحْرَمُ لِحِفْظِهَا، فَهُوَ كَتَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانِ الْمَسِيرِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ: هَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِهِ، يُخْرِجُهَا إلَى الْحَجِّ؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ فَأَرْجُو؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ إلَيْهَا مَعَ النِّسَاءِ، وَمَعَ كُلِّ مَنْ أَمِنَتْهُ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. لَيْسَ الْمَحْرَمُ شَرْطًا فِي حَجِّهَا بِحَالٍ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: تَخْرُجُ مَعَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَخْرُجُ مَعَ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَخْرُجُ مَعَ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ثِقَةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَخْرُجُ مَعَ قَوْمٍ عُدُولٍ، تَتَّخِذُ سُلَّمًا تَصْعَدُ عَلَيْهِ وَتَنْزِلُ، وَلَا يَقْرَبُهَا رَجُلٌ، إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ رَأْسَ الْبَعِيرِ، وَتَضَعُ رِجْلَهَا عَلَى ذِرَاعِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: تَرَكُوا الْقَوْلَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَاشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَرْطًا لَا حُجَّةَ مَعَهُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَقَالَ لِعَدِيِّ بْن حَاتِمٍ: «يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ، لَا جِوَارَ مَعَهَا، لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ» . وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْمَحْرَمُ، كَالْمُسْلِمَةِ إذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْت فِي غَزْوَةِ كَذَا، وَانْطَلَقَتْ امْرَأَتِي حَاجَّةً. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَرَوَى ابْن عُمَرَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ: فَيَقُولُ: (يَوْمًا وَلَيْلَةً) . وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (لَا تُسَافِرُ سَفَرًا) أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ يَقُولُ: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) . قُلْت: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا تُسَافِرُ سَفَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ. وَلِأَنَّهَا أَنْشَأَتْ سَفَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، كَحَجِّ التَّطَوُّعِ. وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّجُلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا خُرُوجَ غَيْرِهَا مَعَهَا، فَجَعْلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ الْمَحْرَمَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَادِيثِنَا أَوْلَى مِمَّا اشْتَرَطُوهُ بِالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ يُوجِبُ الْحَجَّ، مَعَ كَمَالِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطُوا تَخْلِيَةَ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانَ الْمَسِيرِ، وَقَضَاءَ الدَّيْنِ، وَنَفَقَةَ الْعِيَالِ، وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ إمْكَانَ الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْحَدِيثِ. وَاشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ شَرْطًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، فَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالِاشْتِرَاطِ، وَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ، فَحَدِيثُنَا أَخُصُّ وَأَصَحُّ وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ السَّفَرِ، لَا عَلَى جَوَازِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ خُرُوجُ غَيْرِهَا مَعَهَا، وَقَدْ اشْتَرَطُوا هَاهُنَا خُرُوجَ غَيْرِهَا مَعَهَا. وَأَمَّا الْأَسِيرَةُ إذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّ سَفَرَهَا سَفَرُ ضَرُورَةٍ، لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ، وَلِذَلِكَ تَخْرُجُ فِيهِ وَحْدَهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَدْفَعُ ضَرَرًا مُتَيَقَّنًا بِتَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ، فَلَا يَلْزَمُ تَحَمُّلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَصْلًا. [فَصْل الْمُحْرِم لِلْمَرْأَةِ فِي الْحَجّ] (2233) فَصْلٌ: وَالْمَحْرَمُ زَوْجُهَا، أَوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ مُبَاحٍ، كَأَبِيهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ أَحْمَدُ: وَيَكُونُ زَوْجُ أُمِّ الْمَرْأَةِ مَحْرَمًا لَهَا يَحُجُّ بِهَا، وَيُسَافِرُ الرَّجُلُ مَعَ أُمِّ وَلَدِ جَدِّهِ، فَإِذَا كَانَ أَخُوهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ خَرَجَتْ مَعَهُ. وَقَالَ فِي أُمِّ امْرَأَتِهِ: وَيَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ، دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] . الْآيَةَ. فَأَمَّا مَنْ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالٍ، كَعَبْدِهَا، وَزَوْجِ أُخْتِهَا، فَلَيْسَا بِمَحْرَمٍ لَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَأْمُونَيْنِ عَلَيْهَا، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ، فَهُمَا كَالْأَجْنَبِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ» . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَبْدُهَا مَحْرَمٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا، فَكَانَ مَحْرَمًا لَهَا، كَذِي رَحِمِهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُفَارِقُ ذَا الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْقَوَاعِدِ مِنْ النِّسَاءِ، وَغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ. وَأَمَّا أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، أَوْ الْمَزْنِيُّ بِهَا، أَوْ ابْنَتُهُمَا، فَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهُمَا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُمَا بِسَبَبٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 غَيْرِ مُبَاحٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ الْمَحْرَمِيَّةِ كَالتَّحْرِيمِ الثَّابِتِ بِاللِّعَانِ، وَلَيْسَ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِمَا، وَلَا النَّظَرُ إلَيْهِمَا لِذَلِكَ. وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لِلْمُسْلِمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَتَهُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَتْ ابْنَته: لَا يُزَوِّجُهَا، وَلَا يُسَافِرُ مَعَهَا، لَيْسَ هُوَ لَهَا بِمَحْرَمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَنَا، أَنَّ إثْبَاتَ الْمَحْرَمِيَّةِ يَقْتَضِي الْخَلْوَةَ بِهَا، فَيَجِبُ أَنْ لَا تَثْبُتَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ، كَالْحَضَانَةِ لِلطِّفْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا أَنْ يَفْتِنَهَا عَنْ دِينِهَا كَالطِّفْلِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِأُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا، وَابْنَتِهَا، وَالْمُحَرَّمَةِ بِاللِّعَانِ، وَبِالْمَجُوسِيِّ مَعَ ابْنَتِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجُوسِيِّ خِلَافٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، وَيَعْتَقِدُ حِلَّهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَيَكُونُ الصَّبِيُّ مَحْرَمًا؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَحْتَلِمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَحْرَمِ حِفْظُ الْمَرْأَةِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ. [فَصْل نَفَقَة الْمُحْرِم فِي الْحَجّ عَلَى الْمَرْأَة] (2234) فَصْلٌ: وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ فِي الْحَجِّ عَلَيْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِهَا، فَكَانَ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ، كَالرَّاحِلَةِ. فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي اسْتِطَاعَتِهَا أَنْ تَمْلِكَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَهَا وَلِمَحْرَمِهَا؛ فَإِنْ امْتَنَعَ مَحْرَمُهَا مِنْ الْحَجِّ مَعَهَا، مَعَ بَذْلِهَا لَهُ نَفَقَتَهُ، فَهِيَ كَمَنْ لَا مَحْرَمَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ إجَابَتُهَا إلَى ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِمَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ مَعَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَكُلْفَةً عَظِيمَةً، فَلَا تَلْزَمُ أَحَدًا لِأَجْلِ غَيْرِهِ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا إذَا كَانَتْ مَرِيضَةً. [فَصْل مَاتَ مُحْرِم الْمَرْأَة فِي الطَّرِيق] (2235) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا تَبَاعَدَتْ مَضَتْ، فَقَضَتْ الْحَجَّ. قِيلَ لَهُ: قَدِمَتْ مِنْ خُرَاسَان، فَمَاتَ وَلِيُّهَا بِبَغْدَادَ؟ فَقَالَ: تَمْضِي إلَى الْحَجِّ، وَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ خَاصَّةً فَهُوَ آكَدُ. ثُمَّ قَالَ: لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَرْجِعَ. وَهَذَا لِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، فَمُضِيُّهَا إلَى قَضَاءِ حَجِّهَا أَوْلَى. لَكِنْ إنْ كَانَ حَجُّهَا تَطَوُّعًا، وَأَمْكَنَهَا الْإِقَامَةُ فِي بَلَدٍ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ سَفَرِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. [فَصْل لَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنَعَ امْرَأَته مِنْ حُجَّة الْإِسْلَام] (2236) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ، لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي. وَلَنَا، أَنَّهُ فَرْضٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ فِي ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَإِنْ، أَذِنَ، وَإِلَّا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ التَّطَوُّعِ. وَذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ، فَلَيْسَ لَهَا تَفْوِيتُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ. وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْحَجِّ الْمَنْذُورِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، أَشْبَهَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. [فَصْل لَا تَخْرُج إلَى الْحَجّ فِي عِدَّة الْوَفَاة] (2237) فَصْلٌ: وَلَا تَخْرُجُ إلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ: وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَنْزِلِ، وَالْمَبِيتَ فِيهِ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَقُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ، لِأَنَّهُ يَفُوتُ، وَالطَّلَاقُ الْمَبْتُوتُ لَا يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ، فَالْمَرْأَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي طَلَبِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ. وَإِذَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ، فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا، وَهِيَ قَرِيبَةٌ، رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا وَإِنْ تَبَاعَدَتْ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. [مَسْأَلَة هَلْ الْحَجّ وَاجِب عَلَى الْفَوْر أُمّ عَلَى التَّرَاخِي] (2238) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْحَجُّ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، وَتَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ، لَا مُحَارِبًا، وَلَا مَشْغُولًا بِشَيْءٍ، وَتَخَلَّفَ أَكْثَرُ النَّاسِ قَادِرِينَ عَلَى الْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ ثُمَّ فَعَلَهُ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا لَهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَقَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَالْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ: «فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» . قَالَ أَحْمَدُ: وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَوَكِيعٌ، عَنْ أَبِي إسْرَائِيلَ، عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ، عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبْلِغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 بْن سَابِطٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ، يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ، كَالصِّيَامِ. وَلِأَنَّ وُجُوبَهُ بِصِفَةِ التَّوَسُّعِ يُخْرِجُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ وَلَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ، لِكَوْنِهِ فَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْتِ أَمَارَةٌ يَقْدِرُ بَعْدَهَا عَلَى فِعْلِهِ. فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ سَنَةَ تِسْعٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ كَرِهَ رُؤْيَةَ الْمُشْرِكِينَ عُرَاةً حَوْلَ الْبَيْتِ، فَأَخَّرَ الْحَجَّ حَتَّى بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُنَادِي: أَنْ «لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ» . وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكُونَ حَجَّتُهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتَدَارَ فِيهَا الزَّمَانُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيُصَادِفَ وَقْفَةَ الْجُمُعَةِ، وَيُكْمِلَ اللَّهُ دِينَهُ. وَيُقَالُ: إنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْمَئِذٍ أَعْيَادُ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. فَأَمَّا تَسْمِيَةُ فِعْلِ الْحَجِّ قَضَاءً، فَإِنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ تَسْمِيَةُ الْقَضَاءِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَوْ أَخَّرَهَا لَا تُسَمَّى قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ إذَا أَخَّرَهُ لَا يُسَمَّى قَضَاءَ الْقَضَاءِ، وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ، فَلَوْ أَخَّرَهُ لَا يُسَمَّى قَضَاءً. إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: مَتَى تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ، وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَيُعْتَمَرُ، سَوَاءٌ فَاتَهُ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَسْقُطُ؛ بِالْمَوْتِ؛ فَإِنْ وَصَّى بِهَا فَهِيَ مِنْ الثُّلُثِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاس، «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهَا، مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ؟ قَالَ: حُجِّي عَنْ أَبِيك» وَعَنْهُ، «أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ، فَأَتَى أَخُوهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ، أَمَا كُنْت قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاقْضُوا دَيْنَ اللَّهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» . رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ. وَرَوَى هَذَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدَّيْنِ. وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِي الْقَضَاءِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا رَزِينٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ وَيَعْتَمِرَ، وَيَكُونُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيَعْتَمِرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ، فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 [فَصْل مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ الْمِيقَاتِ] (2239) فَصْلٌ: وَيُسْتَنَابُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ، إمَّا مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَيْسَرِ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَمَالِكٌ فِي النَّذْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِي النَّاذِرِ: إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى مَكَانًا، فَمِنْ مِيقَاتِهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ: يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَجِبُ مِنْ دُونِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْأَدَاءِ، كَقَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَجِّ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَطَنَانِ اُسْتُنِيبَ مِنْ أَقْرَبِهِمَا. فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِخُرَاسَانَ وَمَاتَ بِبَغْدَادَ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ فَمَاتَ بِخُرَاسَانَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ، لَا مِنْ حَيْثُ مَوْتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فِي أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ نَائِبُهُ. فَإِنْ أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ دُون ذَلِكَ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ وَيَكُونَ مُسِيئًا، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ. [فَصْل خَرَجَ لِلْحَجِّ فَمَاتَ فِي الطَّرِيق] (2240) فَصْلٌ: فَإِنْ خَرَجَ لِلْحَجِّ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، حُجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ ثَانِيًا. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ نَائِبُهُ، اُسْتُنِيبَ مِنْ حَيْثُ مَاتَ لِذَلِكَ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ مَاتَ، صَحَّتْ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النُّسُكِ، سَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ فِعْلِ بَعْضِهَا قَضَى عَنْهُ بَاقِيَهَا، كَالزَّكَاةِ. [فَصْل أَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عَنْهُ وَلَا تَبْلُغُ النَّفَقَة] (2241) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً تَفِي بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، حُجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ تَحَاصَّا، وَيُؤْخَذُ لِلْحَجِّ حِصَّتُهُ، فَيُحَجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ أَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عَنْهُ، وَلَا تَبْلُغُ النَّفَقَةُ؟ قَالَ: يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ النَّفَقَةُ لِلرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ مَدِينَتِهِ. وَهَذَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى أَدَاءِ بَعْضِ الْوَاجِبِ، فَلَزِمَهُ، كَالزَّكَاةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِحَجَّةٍ وَاجِبَةٍ، وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَتِمُّ بِهِ حَجُّهُ، هَلْ يُحَجُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 عَنْهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَتِمُّ الْحَجَّةُ؟ فَقَالَ: مَا يَكُونُ الْحَجُّ عِنْدِي إلَّا مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُقُوطِهِ عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا تَفِي تَرِكَتُهُ بِهِ وَبِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ إذَا أَسْقَطَهُ مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ، فَمَعَ الْمُعَارِضِ بِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمُؤَكَّدِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ الْمُعَيَّنِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِتَأَكُّدِهِ، وَحَقَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ. [فَصْل أَوْصَى بِحَجِّ تَطَوَّعْ فَلَمْ يَفِ ثُلُثه بِالْحَجِّ مِنْ بَلَده] (2242) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى بِحَجِّ تَطَوُّعٍ فَلَمْ يَفِ ثُلُثُهُ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، حُجَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ، أَوْ يُعَنْ بِهِ فِي الْحَجِّ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: التَّطَوُّعُ مَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ كَانَ، وَيُسْتَنَابُ عَنْ الْمَيِّتِ ثِقَةٌ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْوَرَثَةُ بِزِيَادَةٍ، أَوْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَى بِشَيْءٍ، فَيَجُوزُ مَا أَوْصَى بِهِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ. [فَصْل يُسْتَحَبّ أَنَّ يَحُجّ الْإِنْسَان عَنْ أَبَوَيْهِ إذَا كَانَا مَيِّتِينَ أَوْ عَاجِزِينَ] (2243) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحُجُّ الْإِنْسَانُ عَنْ أَبَوَيْهِ، إذَا كَانَا مَيِّتَيْنِ أَوْ عَاجِزَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَا رَزِينٍ، فَقَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيك، وَاعْتَمِرْ» . وَسَأَلَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهَا، مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ؟ فَقَالَ: «حُجِّي عَنْ أَبِيك» . وَيُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِالْحَجِّ عَنْ الْأُمِّ، إنْ كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّك. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ. وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى الْأَبِ دُونَهَا، بَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ. وَرَوَى زَيْدُ بْن أَرْقَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ يُقْبَلُ مِنْهُ وَمِنْهُمَا، وَاسْتَبْشَرَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي السَّمَاءِ، وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ، أَوْ قَضَى عَنْهُمَا مَغْرَمًا، بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَبْرَارِ» . وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ عَنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، فَقَدْ قَضَى عَنْهُ حَجَّتَهُ، وَكَانَ لَهُ فَضْلُ عَشْرِ حِجَجٍ» . رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ الدَّارَقُطْنِيّ. [مَسْأَلَة لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَحُجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَحُجّ عَنْ غَيْرِهِ] (2244) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، رَدَّ مَا أَخَذَ، وَكَانَتْ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَعَ إحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَقَعُ الْحَجُّ بَاطِلًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فَمَتَى نَوَاهُ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَقَعْ لِنَفْسِهِ، كَذَا الطَّوَافُ حَامِلًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يُسْقِطْ فَرْضَهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَالزَّكَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: قَرِيبٌ لِي. قَالَ: هَلْ حَجَجْت قَطُّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِك، ثُمَّ اُحْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهَذَا لَفْظُهُ. وَلِأَنَّهُ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْغَيْرِ، كَمَا لَوْ كَانَ صَبِيًّا. وَيُفَارِقُ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْغَيْرِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، وَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ الْغَيْرِ مَنْ شَرَعَ فِي الْحَجِّ قَبْلَ إتْمَامِهِ، وَلَا يَطُوفَ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَطُفْ عَنْ نَفْسِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْحَجُّ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَحُجُّ. [فَصْل أُحَرِّم بِتَطَوُّعِ أَوْ نَذْر مِنْ لَمْ يَحُجّ حُجَّة الْإِسْلَام] (2245) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَقَعُ مَا نَوَاهُ. وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ، فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ، وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ، وَقَعَتْ عَنْ الْمَنْذُورَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْآخَرَ، وَالنَّائِبُ كَالْمَنُوبِ عَنْهُ فِي هَذَا، فَمَتَى أَحْرَمَ النَّائِبُ بِتَطَوُّعٍ، أَوْ نَذْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنُوبِ عَنْهُ. وَإِنْ اسْتَنَابَ رَجُلَيْنِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْذُورٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِالْإِحْرَامِ، وَقَعَتْ حَجَّتُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَعُ الْأُخْرَى تَطَوُّعًا، أَوْ عَنْ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الْإِحْرَامُ عَنْ غَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ نَائِبِهِ. (2246) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَسْقَطَ فَرْضَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَنْهُ، دُونَ الْآخَرِ، جَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ غَيْرِهِ، فِيمَا أَدَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فَرْضَهُ دُونَ الْآخَر. وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ أَنْ يَنُوبَا فِي الْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْقِطَا فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَهُمَا كَالْحُرِّ الْبَالِغِ فِي ذَلِكَ، وَأَوْلَى مِنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمَا النِّيَابَةَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ دُون الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ الْحَجَّةُ الَّتِي نَابَا فِيهَا عَنْ فَرْضِهِمَا؛ لِكَوْنِهِمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهِ، فَبَقِيَتْ لِمَنْ فُعِلَتْ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُمَا رَدُّ مَا أَخَذَا لِذَلِكَ، كَالْبَالِغِ الْحُرِّ الَّذِي قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ. [فَصْل أُحَرِّم بِالْمَنْذُورَةِ وَعَلَيْهِ حُجَّة الْإِسْلَام] (2247) فَصْلٌ: إذَا أَحْرَمَ بِالْمَنْذُورَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَوَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَنْذُورَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَعَطَاءٍ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَا تُجْزِئُ عَنْ حَجَّتَيْنِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ حَجَّتَيْنِ، فَحَجَّ وَاحِدَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْحَجَّةِ نَاوِيًا بِهَا نَذَرَهُ، فَأَجْزَأَتْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ أَسْقَطَ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَفْرُوضَةٌ، فَأَحْرَمَ عَنْ النَّذْرِ، وَقَعَتْ عَنْ الْمَفْرُوضِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَنَوَاهُ عَنْ فَرْضِهِ وَنَذْرِهِ، عَلَى رِوَايَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا، فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ، قَالَ: يُجْزِئُ لَهُمَا جَمِيعًا. وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَقْضِي حَجَّةً عَنْ نَذْرِهِ، وَعَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، أَلَيْسَ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ الْعَصْرِ وَمِنْ النَّذْرِ؟ قَالَ: وَذَكَرْت قَوْلِي لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَصَبْت أَوْ أَحْسَنْت. [مَسْأَلَة الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ وَالْعَبْدَ إذَا حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ] (2248) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ حَجَّ وَهُوَ غَيْرُ بَالِغٍ، فَبَلَغَ، أَوْ عَبْدٌ فَعَتَقَ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، إلَّا مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ خِلَافًا عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَالْعَبْدَ إذَا حَجَّ فِي حَالَ رِقِّهِ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ، أَنَّ عَلَيْهِمَا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، إذَا وَجَدَا إلَيْهِمَا سَبِيلًا. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجَدِّدَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ عَهْدًا، أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ، فَمَاتَ، أَجْزَأَتْ عَنْهُ، فَإِنْ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي (سُنَنِهِ) ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَعَلَهَا قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتِهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى، ثُمَّ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 [فَصْل بَلَغَ الصَّبِيّ أَوْ عِتْق الْعَبْد بِعَرَفَةَ أَوْ قَبْلهَا غَيْرَ مُحْرِمِينَ فَأَحْرَمَا وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ وَأَتَمَّا الْمَنَاسِك] (2249) فَصْلٌ: فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ بِعَرَفَةَ، أَوْ قَبْلَهَا، غَيْرَ مُحْرِمَيْنِ، فَأَحْرَمَا وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ، وَأَتَمَّا الْمَنَاسِكَ، أَجْزَأْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُمَا شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَلَا فَعَلَا شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ وُجُوبِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ، أَجْزَأْهُمَا أَيْضًا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ فِي الْعَبْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُمَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ، فَإِنْ جَدَّدَ إحْرَامًا بَعْدَ أَنْ احْتَلَمَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ وَاجِبًا، فَلَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ، كَمَا لَوْ بَقِيَا عَلَى حَالِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ حُرًّا بَالِغًا فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ تِلْكَ السَّاعَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ طَاوُسٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاس: إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ بِعَرَفَةَ، أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّتُهُ؛ فَإِنْ أُعْتِقَ بِجَمْعٍ، لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا تُجْزِئْ. وَمَالِكٌ يَقُولُهُ أَيْضًا، وَكَيْفَ لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ لَوْ أَحْرَمَ تِلْكَ السَّاعَةَ كَانَ حَجُّهُ تَامًّا، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا هَؤُلَاءِ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ خُرُوجِهِمَا مِنْ عَرَفَةَ، فَعَادَا إلَيْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ أَدْرَكَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُجْزِئُ وَلَوْ كَانَ لَحْظَةً. وَإِنْ لَمْ يَعُودَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لَمْ يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيُتِمَّانِ حَجَّهُمَا تَطَوُّعًا؛ لِفَوَاتِ الْوُقُوفِ الْمَفْرُوضِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا حَجَّا تَطَوُّعًا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَأَشْبَهَا الْبَالِغَ الَّذِي يَحُجُّ تَطَوُّعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا قُلْتُمْ إنَّ الْوُقُوفَ الَّذِي فَعَلَاهُ يَصِيرُ فَرْضًا، كَمَا قُلْتُمْ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَرْضًا؟ قُلْنَا: إنَّمَا اعْتَدَدْنَا لَهُ بِإِحْرَامِهِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ بُلُوغه، وَمَا قَبْلَ بُلُوغِهِ تَطَوُّعٌ لَمْ يَنْقَلِبْ فَرْضًا، وَلَا اُعْتُدَّ لَهُ بِهِ، فَالْوُقُوفُ مِثْلُهُ، فَنَظِيرُهُ أَنْ يَبْلُغَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا أَدْرَكَ مِنْ الْوُقُوفِ، وَيَصِيرُ فَرْضًا دُونَ مَا مَضَى. [فَصْل بَلَغَ الصَّبِيّ أَوْ عِتْق الْعَبْد قَبْل الْوُقُوف أَوْ فِي وَقْته وَأَمْكَنَهُمَا الْإِتْيَان بِالْحَجِّ] (2250) فَصْلٌ: وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوُقُوفِ، أَوْ فِي وَقْتِهِ، وَأَمْكَنَهُمَا الْإِتْيَانُ بِالْحَجِّ، لَزِمَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مَعَ إمْكَانِهِ، كَالْبَالِغِ الْحُرِّ. وَإِنْ فَاتَهُمَا الْحَجُّ، لَزِمَتْهُمَا الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْكَنَ فِعْلُهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحَجَّ، وَمَتَى أَمْكَنَهُمَا ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلَا، اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ كَانَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعْسِرَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمَا بِإِمْكَانِهِ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ بَعْدَهُ. [فَصْل الْحَكَم فِي الْكَافِر يُسْلَم وَالْمَجْنُون يُفِيق فِي الْحَجّ] (2251) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ، حُكْمُ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي جَمِيعِ مَا فَصَّلْنَاهُ، إلَّا أَنَّ هَذَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إحْرَامٌ، وَلَوْ أَحْرَمَا لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِبَادَات، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ. [فَصْل إحْرَام الْعَبْدِ بِالْحَجِّ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ] (2252) فَصْلٌ: وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِ حَجِّ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا، فِي حُكْمِ إحْرَامِهِ. الثَّانِي، فِي حُكْمِ نَذْرِهِ لِلْحَجِّ. الثَّالِثُ، فِي حُكْمِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى إحْرَامِهِ. الرَّابِعُ، حُكْمُ إفْسَادِهِ وَفَوَاتِهِ. (2253) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي إحْرَامِهِ: وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْرِمَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ حُقُوقَ سَيِّدِهِ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ، بِالْتِزَامِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنْ فَعَلَ، انْعَقَدَ إحْرَامُهُ صَحِيحًا، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَصَحَّ مِنْ الْعَبْدِ الدُّخُولُ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَلِسَيِّدِهِ تَحْلِيلُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِ عَلَيْهِ تَفْوِيتًا لِحَقِّهِ مِنْ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ سَيِّدَهُ، كَالصَّوْمِ الْمُضِرِّ بِبَدَنِهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَإِذَا حَلَّلَهُ مِنْهُ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَحْصَرِ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَ عَبْدِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ التَّطَوُّعَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَنَظِيرُهُ أَنْ يُحْرِمَ عَبْدُهُ بِإِذْنِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُفَوِّتُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. فَأَمَّا إنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَالْمُعِيرِ يَرْجِعُ فِي الْعَارِيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، عَقَدَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهُ، كَالنِّكَاحِ، وَلَا يُشْبِهُ الْعَارِيَّةَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً. وَلَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَرْهَنَهُ، فَرَهَنَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَلَوْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ فَحُكْمُ مُشْتَرِيهِ فِي تَحْلِيلِهِ حُكْمُ بَائِعِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، فَأَشْبَهَ الْأَمَةَ الْمُزَوِّجَةَ وَالْمُسْتَأْجَرَةَ. فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِمُضِيِّ الْعَبْدِ فِي حَجِّهِ، لِفَوَاتِ مَنَافِعِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَنَقُولُ: لَهُ تَحْلِيلُهُ. فَلَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 فِي الْإِحْرَامِ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَعَلِمَ الْعَبْدُ بِرُجُوعِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَحْرَمَ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ، هَلْ يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ، عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْل نَذْر الْعَبْد لِلْحَجِّ] (2254) الْفَصْل الثَّانِي: إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ الْحَجَّ، صَحَّ نَذْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ كَالْحُرِّ وَلِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْ الْمُضِيِّ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ حَقِّ سَيِّدِهِ الْوَاجِبِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْذُرْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ حَامِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي مَنْعُهُ مِنْ الْوَفَاءِ بِهِ. وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ أُعْتِقَ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ أَوَّلًا انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، كَالْحُرِّ إذَا نَذَرَ حَجًّا. [فَصْل فِي جِنَايَات الْعَبْد فِي إحْرَامه] (2255) الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي جِنَايَاتِهِ: وَمَا جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ لَزِمَهُ حُكْمَهُ. وَحُكْمُهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ فَرْضُهُ الصِّيَامُ. وَإِنْ تَحَلَّلَ بِحَصْرِ عَدُوٍّ، أَوْ حَلَّلَهُ سَيِّدُهُ، فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ، لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ فِعْلِهِ كَالْحُرِّ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّوْمِ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، أَشْبَهَ صَوْمَ رَمَضَانَ. فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا، وَأَذِنَ لَهُ فِي إهْدَائِهِ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُهُ. فَهُوَ كَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ، لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُهُ. فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ، فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِهِمَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى سَيِّدِهِ تَحَمُّلَ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ، فَكَانَ عَلَى مَنْ أَذِنَ فِيهِ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ النَّائِبُ بِإِذْنِ الْمُسْتَنِيبِ. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لِلْعَبْدِ، وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ، كَالْمَرْأَةِ إذَا حَجَّتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا. وَيُفَارِقُ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ لِلْمُسْتَنِيبِ فَمُوجِبُهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَارَنَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَالصِّيَامُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَهُوَ كَالْمُعْسِرِ مِنْ الْأَحْرَارَ. [فَصْل إذَا وَطِئَ الْعَبْد فِي إحْرَامه قَبْل التَّحَلُّل الْأَوَّل] (2256) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: إذَا وَطِئَ الْعَبْدُ فِي إحْرَامِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَسَدَ، وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، كَالْحُرِّ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْإِحْرَامُ مَأْذُونًا فِيهِ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ إخْرَاجُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ صَحِيحِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ فَاسِدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَهُ تَحْلِيلُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَحْلِيلَهُ مِنْ صَحِيحِهِ، فَالْفَاسِدُ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْرَامُ مَأْذُونًا فِيهِ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ، وَيَصِحُّ الْقَضَاءُ فِي حَالِ رِقِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ، فَصَحَّ مِنْهُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِحْرَامُ الَّذِي أَفْسَدَهُ مَأْذُونًا فِيهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي الْحَجِّ الْأَوَّلِ إذْنٌ فِي مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، وَمِنْ مُوجِبِهِ الْقَضَاءُ لِمَا أَفْسَدَهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْلِكَ مَنْعَهُ مِنْ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 الْوَاجِبَاتِ. وَاحْتَمَلَ أَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْعَهُ مِنْ الْحَجِّ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. فَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ قَبْلَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ، انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَ الْقَضَاءُ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ عَتَقَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ، وَأَدْرَكَ مِنْ الْوُقُوفِ مَا يُجْزِئُهُ، أَجْزَأْهُ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَوْ كَانَ صَحِيحًا أَجْزَأَهُ، فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ. وَإِنْ أُعْتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يُجْزِئْهُ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَا يُجْزِئُهُ، فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ. وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَة الْكَلَامُ فِي حَجِّ الصَّبِيِّ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ] [الْفَصْل الْأَوَّلُ فِي إحْرَام الصَّبِيّ] (2257) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا حَجَّ بِالصَّغِيرِ، جُنِّبَ مَا يَتَجَنَّبُهُ الْكَبِيرُ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ عُمِلَ عَنْهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ حَجُّهُ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ؛ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُ الصَّبِيِّ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ سَبَبٌ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الصَّبِيِّ، كَالنَّذْرِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «رَفَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ السَّائِبِ بْن يَزِيدَ، قَالَ: «حَجَّ بِي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ.» وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ. وَمَنْ اجْتَنَبَ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ كَانَ إحْرَامُهُ صَحِيحًا. وَالنَّذْرُ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَالْكَلَامُ فِي حَجِّ الصَّبِيِّ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: فِي الْإِحْرَامِ عَنْهُ، أَوْ مِنْهُ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفِي حُكْمِ جِنَايَاتِهِ عَلَى إحْرَامِهِ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ (2258) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْإِحْرَامِ: إنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِدُونِ إذْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يُؤَدِّي إلَى لُزُومِ مَالٍ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ الصَّبِيِّ بِنَفْسِهِ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، فَأَحْرَمَ عَنْهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى مَالِهِ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَأَمِينِ الْحَاكِمِ، صَحَّ. وَمَعْنَى إحْرَامِهِ عَنْهُ أَنَّهُ يَعْقِدُ لَهُ الْإِحْرَامَ، فَيَصِحُّ لِلصَّبِيِّ دُونَ الْوَلِيِّ كَمَا يَعْقِدُ النِّكَاحَ لَهُ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا مِمَّنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ. فَإِنْ أَحْرَمَتْ أُمُّهُ عَنْهُ، صَحَّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَك أَجْرٌ) . وَلَا يُضَافُ الْأَجْرُ إلَيْهَا إلَّا لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهَا فِي الْإِحْرَامِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: يُحْرِمُ عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَلِيُّهُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَقَالَ: الْمَالُ الَّذِي يَلْزَمُ بِالْإِحْرَامِ لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الْإِحْرَامِ. فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُحْرِمُ عَنْهُ إلَّا وَلِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ عَلَى مَالِهِ، وَالْإِحْرَامُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إلْزَامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 مَالٍ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِي وِلَايَةٍ، كَشِرَاءِ شَيْءٍ لَهُ، فَأَمَّا غَيْرُ الْأُمُّ وَالْوَلِيِّ مِنْ الْأَقَارِبِ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ، فَيُخَرَّجُ فِيهِمْ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ فِي الْأُمُّ. أَمَّا الْأَجَانِبُ، فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُمْ عَنْهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. [الْفَصْل الثَّانِي كُلَّ مَا أَمْكَنَ الصَّبِيّ فِي الْحَجّ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ] (2259) الْفَصْلُ الثَّانِي: إنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ، لَزِمَهُ فِعْلُهُ، وَلَا يَنُوبُ غَيْرُهُ عَنْهُ فِيهِ، كَالْوُقُوفِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَنَحْوِهِمَا، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ عَمِلَهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ. قَالَ جَابِرٌ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّاجًا، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَأَحْرَمْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي (سُنَنِهِ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، فِي (سُنَنِهِ) فَقَالَ: فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: فَكُنَّا نُلَبِّي عَنْ النِّسَاءِ، وَنَرْمِي عَنْ الصِّبْيَانِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ حَفِظْت عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الرَّمْيَ عَنْ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الرَّمْيِ، كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَحُجُّ صِبْيَانُهُ وَهُمْ صِغَارٌ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ أَنْ يَرْمِيَ رَمَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرْمِيَ رَمَى عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَافَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِرْقَةٍ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يَرْمِي عَنْ الصَّبِيِّ أَبَوَاهُ أَوْ وَلِيُّهُ. قَالَ الْقَاضِي: إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُنَاوِلَ النَّائِبَ الْحَصَى نَاوَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوضَعَ الْحَصَى فِي يَدِهِ فَيَرْمِيَ عَنْهُ. وَإِنْ وَضَعَهَا فِي يَدَ الصَّغِيرِ، وَرَمَى بِهَا، فَجَعَلَ يَدَهُ كَالْآلَةِ، فَحَسَنٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ إلَّا مَنْ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْغَيْرِ وَعَلَيْهِ فَرْضُ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ، فَإِنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ مَشَى، وَإِلَّا طِيفَ بِهِ مَحْمُولًا أَوْ رَاكِبًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ طَافَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِرْقَةٍ. وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْكَبِيرِ مَحْمُولًا لِعُذْرٍ يَجُوزُ، فَالصَّغِيرُ أَوْلَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ حَلَالًا، أَوْ حَرَامًا مِمَّنْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ لَمْ يُسْقِطَهُ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لِلْمَحْمُولِ لَا لِلْحَامِلِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَطُوفَ رَاكِبًا عَلَى بَعِيرٍ، وَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي الطَّائِفِ بِهِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ عَنْ الصَّبِيِّ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُعْتَبَرْ النِّيَّةُ مِنْ الصَّبِيِّ اُعْتُبِرَتْ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي الْإِحْرَامِ. فَإِنْ نَوَى الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الصَّبِيِّ احْتَمَلَ وُقُوعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَالْحَجِّ إذَا نَوَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ عَنْ الصَّبِيِّ، كَمَا لَوْ طَافَ بِكَبِيرٍ وَنَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ، لِكَوْنِ الْمَحْمُولِ أَوْلَى، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَلْغُوَ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، لِكَوْنِ الطَّوَافِ لَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُجَرَّدُ كَمَا يُجَرَّدُ الْكَبِيرُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تُجَرِّدُ الصِّبْيَانَ إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَرَمِ. قَالَ عَطَاءٌ: يُفْعَلُ بِالصَّغِيرِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْكَبِيرِ، وَيُشْهَدُ بِهِ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَحْظُورَات إحْرَام الصَّبِيّ] (2260) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ: وَهِيَ قِسْمَانِ؛ مَا يَخْتَلِفُ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ، وَمَا لَا يَخْتَلِفُ، كَالصَّيْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ. فَالْأَوَّلُ، لَا فِدْيَةَ عَلَى الصَّبِيِّ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ. وَالثَّانِي، عَلَيْهِ فِيهِ الْفِدْيَةُ. وَإِنْ وَطِئَ أَفْسَدَ حَجَّهُ، وَيَمْضِي فِي فَاسِدِهِ. وَفِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا، لَا يَجِبُ؛ لِئَلَّا تَجِبَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ. وَالثَّانِي، يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةِ، فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ، كَوَطْءِ الْبَالِغِ، فَإِنْ قَضَى بَعْدَ الْبُلُوغِ بَدَأَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ قَبْلَهَا، انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَهَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ الْقَضَاءِ؟ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتْ الْفَاسِدَةُ قَدْ أَدْرَكَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْوُقُوفِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، أَجْزَأَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَبْدِ عَلَى مَا مَضَى. [الْفَصْلُ الرَّابِع فِي مَا يَلْزَم الصَّبِيّ مِنْ الْفِدْيَة فِي الْحَجّ] (2261) الْفَصْلُ الرَّابِعُ، فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْفِدْيَةِ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ جِنَايَاتِ الصِّبْيَانِ لَازِمَةٌ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي الْفِدْيَةِ الَّتِي تَجِبُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِجِنَايَتِهِ، أَشْبَهَتْ الْجِنَايَةَ عَلَى الْآدَمِيِّ. وَالثَّانِي عَلَى الْوَلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِعَقْدِهِ أَوْ إذْنِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، كَنَفَقَةِ حَجِّهِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ، فَقَالَ الْقَاضِي: مَا زَادَ عَلَى نَفَقَة الْحَضَرِ، فَفِي مَالِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخِلَافِ أَنَّ النَّفَقَةَ كُلَّهَا عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَهُ، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَهُ بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ لَهُ، وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَأَجْرِ الْمُعَلِّمِ وَالطَّبِيبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ، فَلَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بَذْلَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ لِلتَّمَرُّنِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل إذَا أُغْمِيَ عَلَى بَالِغِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُحْرِم عَنْهُ رَقِيقه] (2262) فَصْلٌ: إذَا أُغْمِيَ عَلَى بَالِغٍ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ رَقِيقُهُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ، وَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ رَفِيقِهِ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ، قَصْدِهِ، وَيَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فِي تَرْكِهِ، فَأَجْزَأَ عَنْهُ إحْرَامُ غَيْرِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَالِغٌ، فَلَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ غَيْرِهِ، كَالنَّائِمِ، وَلَوْ أَنَّهُ أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَأَجَازَهُ، لَمْ يَصِحَّ، فَمَعَ عَدَمِ هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ. [مَسْأَلَة مِنْ طَيْف بِهِ مَحْمُولًا كَانَ الطَّوَاف لَهُ دُون حَامِله] (2263) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ طِيفَ بِهِ مَحْمُولًا، كَانَ الطَّوَافُ لَهُ دُونَ حَامِلِهِ) أَمَّا إذَا طِيفَ بِهِ مَحْمُولًا لِعُذْرٍ، فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَقْصِدَا جَمِيعًا عَنْ الْمَحْمُولِ، فَيَصِحَّ عَنْهُ دُونَ الْحَامِلِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، أَوْ يَقْصِدَا جَمِيعًا عَنْ الْحَامِلِ فَيَقَعَ عَنْهُ أَيْضًا، وَلَا شَيْءَ لِلْمَحْمُولِ، أَوْ يَقْصِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ لِلْمَحْمُولِ دُونَ الْحَامِلِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 الْآخَرُ، يَقَعُ لِلْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفٌ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَأَجْزَأَ الطَّوَافُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ صَاحِبُهُ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ بِعَرَفَاتٍ، لَكَانَ الْوُقُوفُ عَنْهُمَا، كَذَا هَاهُنَا. وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ طَوَافٌ أَجْزَأْهُ عَنْ الْمَحْمُولِ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْحَامِلِ، كَمَا لَوْ نَوَيَا جَمِيعًا الْمَحْمُولَ، وَلِأَنَّهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَقَعُ عَنْ شَخْصَيْنِ، وَالرَّاكِبُ لَا يَقَعُ طَوَافُهُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ. وَأَمَّا إذَا حَمَلَهُ فِي عَرَفَةَ، فَمَا حَصَلَ الْوُقُوفُ بِالْحَمْلِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْكَوْنُ فِي عَرَفَاتٍ، وَهُمَا كَائِنَانِ بِهَا، وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا الْفِعْلُ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَلَا يَقَعُ عَنْ شَخْصَيْنِ، وَوُقُوعُهُ عَنْ الْمَحْمُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِطَوَافِهِ إلَّا لِنَفْسِهِ، وَالْحَامِلُ لَمْ يُخْلِصْ قَصْدَهُ بِالطَّوَافِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الطَّوَافَ بِالْمَحْمُولِ لَمَا حَمَلَهُ، فَإِنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الطَّوَافِ لَا يَقِفُ عَلَى حَمْلِهِ، فَصَارَ الْمَحْمُولُ مَقْصُودًا لَهُمَا، وَلَمْ يَخْلُصْ قَصْدُ الْحَامِلِ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْهُ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، فِي (شَرْحِهِ) : لَا يُجْزِئُ الطَّوَافُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِعْلًا وَاحِدًا لَا يَقَعُ عَنْ اثْنَيْنِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَحْمُولَ بِهِ أَوْلَى، لِخُلُوصِ نِيَّتِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَصْدِ الْحَامِلِ لَهُ، وَلَا يَقَعُ عَنْ الْحَامِلِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. فَإِنْ نَوَى أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ دُونَ الْآخَرَ، صَحَّ الطَّوَافُ لَهُ. وَإِنْ عَدِمَتْ النِّيَّةُ مِنْهُمَا، أَوْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، لَمْ يَصِحَّ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 [مَسْأَلَة الْمِيقَات الْمَكَانِيّ لِلْحَجِّ] بَابُ ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ (2264) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ، وَأَهْلِ الطَّائِفِ وَنَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ: ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَالْجُحْفَةُ، وَقَرْنٌ، وَيَلَمْلَمُ. وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ النَّقْلِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، قَالَ: فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ مُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذُكِرَ لِي وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَنَّهُ قَالَ: (وَأَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَأَمَّا ذَاتُ عِرْقٍ فَمِيقَاتُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ الْعِرَاقِيِّ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ إحْرَامٌ مِنْ الْمِيقَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ الْعَقِيقِ. وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يُحْرِمُ مِنْ الرَّبَذَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ خُصَيْفٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْعَقِيقُ أَوْلَى وَأَحْوَطُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَذَاتُ عِرْقٍ مِيقَاتُهُمْ بِإِجْمَاعٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَنْ وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، بِإِسْنَادِهِمْ، عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» . وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا سُئِلَ عَنْ الْمُهَلِّ؟ قَالَ: سَمِعْته - وَأَحْسَبُهُ رَفَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي (صَحِيحِهِ) . وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إنَّمَا وَقَّتَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ، قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَمَنْ سَأَلَهُ لَمْ يَعْلَمُوا تَوْقِيتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عِرْقٍ، فَقَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، وَوَافَقَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا ثَبَتَ تَوْقِيتُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ، فَالْإِحْرَامُ مِنْهُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْل إذَا كَانَ الْمِيقَات قَرْيَة فَانْتَقَلَتْ إلَى مَكَان آخَر فَمَوْضِع الْإِحْرَام مِنْ الْأُولَى] (2265) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ قَرْيَةً فَانْتَقَلَتْ إلَى مَكَان آخَرَ، فَمَوْضِعُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْأُولَى، وَإِنْ انْتَقَلَ الِاسْمُ إلَى الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمَوْضِع، فَلَا يَزُولُ بِخَرَابِهِ. وَقَدْ رَأَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى خَرَجَ بِهِ مِنْ الْبُيُوتِ، وَقَطَعَ الْوَادِيَ، فَأَتَى بِهِ الْمَقَابِرَ، فَقَالَ: هَذِهِ ذَاتُ عِرْقٍ الْأُولَى. [مَسْأَلَة الْمِيقَات الْمَكَانِيّ لِأَهْلِ مَكَّة إذَا أَرَادُوا الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَة] (2266) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَهْلُ مَكَّةَ إذَا أَرَادُوا الْعُمْرَةَ، فَمِنْ الْحِلِّ، وَإِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ، فَمِنْ مَكَّةَ) أَهْلُ مَكَّةَ، مَنْ كَانَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُقِيمًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مُقِيمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى عَلَى مِيقَاتٍ كَانَ مِيقَاتًا لَهُ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَهِيَ مِيقَاتُهُ لِلْحَجِّ؛ وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِنْ الْحِلِّ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَلِذَلِكَ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَانَتْ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» يَعْنِي لِلْحَجِّ. وَقَالَ أَيْضًا: (وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ فَمِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ، حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) . وَهَذَا فِي الْحَجِّ. فَأَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُهَا فِي حَقِّهِمْ الْحِلُّ، مِنْ أَيِّ جَوَانِبِ الْحَرَمِ شَاءَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِعْمَارِ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ، وَهُوَ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: بَلَغَنِي «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، مَنْ أَتَى مِنْكُمْ الْعُمْرَةَ، فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَطْنَ مُحَسِّرٍ. يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمُزْدَلِفَةِ. وَإِنَّمَا لَزِمَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ، لِيَجْمَع فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ، لَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ كُلَّهَا فِي الْحَرَمِ، بِخِلَافِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَةَ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ الْحِلُّ وَالْحَرَمُ، وَالْعُمْرَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَيِّ الْحِلِّ أَحْرَمَ جَازَ. وَإِنَّمَا أَعْمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْمَكِّيِّ، كُلَّمَا تَبَاعَدَ فِي الْعُمْرَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، هِيَ عَلَى قَدْرِ تَعَبِهَا. وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 الْمَكِّيُّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ، فَمِنْ مَكَّةَ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَسَخُوا الْحَجَّ، أَمَرَهُمْ فَأَحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ. قَالَ جَابِرٌ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَلْنَا، أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَاطِنِي مَكَّةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بِهَا، كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا حَلَّ، وَمَنْ فَسَخَ حَجَّهُ بِهَا. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَنَّهُ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا؛ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَا يَسْقُطُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَكِّيِّ، أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ مُتْعَةٍ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] . وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ دَخَلَ يَحُجُّ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ، أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ، أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِنَفْسِهِ، أَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ، فَيُحْرِمُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ لِنَفْسِهِ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ، أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ، وَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ. وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي، بِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ، غَيْرَ مُحْرِمٍ لِنَفْسِهِ، فَلَزِمَهُ دَمٌ إذَا أَحْرَمَ دُونَهُ، كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ عَنْ شَخْصٍ وَاعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ، أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ إنْسَانٍ ثُمَّ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ، فَكَذَلِكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَالْقَاطِنِ بِهَا، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَكَّةَ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَأَشْبَهَ الْمَكِّيَّ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي تَحَكُّمٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرٌ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَثَرٌ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَرِيدًا لِلنُّسُكِ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. الثَّانِي، أَنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِهَذَا الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ، لَلَزِمَ الْمُتَمَتِّعَ وَالْمُفْرِدَ؛ لِأَنَّهُمَا تَجَاوَزَا الْمِيقَاتَ، مُرِيدَيْنِ لِغَيْرِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَا بِهِ. الرَّابِعُ، أَنَّ الْمَعْنَى فِي الَّذِي يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِعْلُهُ، وَتَرَكَ الْإِحْرَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ. [فَصْل مِنْ أَيْ الْحَرَم أُحَرِّم بِالْحَجِّ جَازَ] (2267) فَصْلٌ: وَمِنْ أَيِّ الْحَرَمِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِحْرَامِ بِهِ الْجَمْعُ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، فَجَازَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْحِلِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْطَلِقُوا إلَى مِنًى، فَأَهِلُّوا مِنْ الْبَطْحَاءِ» . وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِيهِ الْحَرَمُ اسْتَوَتْ فِيهِ الْبَلْدَةُ وَغَيْرُهَا، كَالنَّحْرِ. [فَصْل أُحَرِّم الْحَاجّ مِنْ الْحِلّ] (2268) فَصْلٌ: فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ؛ نَظَرْت، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ الَّذِي يَلِي الْمَوْقِفَ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ. وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، ثُمَّ سَلَكَ الْحَرَمَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ لِلْحَجِّ مِنْ التَّنْعِيمِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ، فَكَانَ كَالْمُحْرِمِ قَبْلَ بَقِيَّةِ الْمَوَاقِيتِ. وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ، وَلَمْ يَسْلُكْ الْحَرَمَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. [فَصْل أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَم] (2269) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ، انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ. ثُمَّ إنْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ، ثُمَّ عَادَ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِأَرْكَانِهَا، وَإِنَّمَا أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهَا، وَقَدْ جَبَرَهُ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ بِالْحَجِّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، كَالْحَجِّ. فَعَلَى هَذَا وُجُودُ هَذَا الطَّوَافِ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ، ثُمَّ يَطُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْعَى. وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتُهُ. وَإِنْ وَطِئَ، أَفْسَدَ عُمْرَتَهُ، وَيَمْضِي فِي فَاسِدِهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِفْسَادِهَا، وَيَقْضِيهَا بِعُمْرَةٍ مِنْ الْحِلِّ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا عُمْرَةَ الْإِسْلَامِ، أَجْزَأَهُ قَضَاؤُهَا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَلَا. [مَسْأَلَة مِنْ كَانَ مَنْزِله دُون الْمِيقَات فَمِيقَاته مِنْ مَوْضِعه] (2270) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ الْمِيقَاتِ، كَانَ مِيقَاتُهُ مَسْكَنَهُ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: يُهِلُّ مِنْ مَكَّةَ. وَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، مُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ» . وَهَذَا صَرِيحٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى. (2271) فَصْلٌ: إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ قَرْيَةً، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ جَانِبَيْهَا. وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ أَقْرَبِ جَانِبَيْهَا جَازَ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَتْ قَرْيَةً، وَالْحِلَّةُ كَالْقَرْيَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُهُ مُنْفَرِدًا، فَمِيقَاتُهُ مَسْكَنُهُ، أَوْ حَذْوُهُ، وَكُلُّ مِيقَاتٍ فَحَذْوُهُ بِمَنْزِلَتِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْحِلِّ، فَإِحْرَامُهُ مِنْهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ، فَإِحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ، لِيَجْمَعَ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، كَالْمَكِّيِّ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ أَيِّ الْحَرَمِ شَاءَ، كَالْمَكِّيِّ. [مَسْأَلَة إذَا سَلَكَ الْحَاجّ طَرِيقًا بَيْنَ مِيقَاتَيْنِ] (2272) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ عَلَى مِيقَاتٍ، فَإِذَا حَاذَى أَقْرَبَ الْمَوَاقِيتِ إلَيْهِ أَحْرَمَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا بَيْنَ مِيقَاتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ حَتَّى يَكُونَ إحْرَامُهُ بِحَذْوِ الْمِيقَاتِ، الَّذِي هُوَ إلَى طَرِيقِهِ أَقْرَبُ؛ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَالُوا لِعُمَرَ: إنَّ قَرْنًا جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا. فَقَالَ: اُنْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَوَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّقْدِيرِ، فَإِذَا اشْتَبَهَ دَخَلَهُ الِاجْتِهَادُ، كَالْقِبْلَةِ. (2273) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَذْوَ الْمِيقَاتِ الْمُقَارِبِ لِطَرِيقِهِ، احْتَاطَ، فَأَحْرَمَ مِنْ بُعْدٍ، بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ جَائِزٌ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ، فَالِاحْتِيَاطُ فِعْلُ مَا لَا شَكَّ فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ حَاذَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِهِ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ. فَإِنْ أَحْرَمَ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ مَا يُحَاذِيهِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَإِنْ شَكَّ فِي أَقْرَبِ الْمِيقَاتَيْنِ إلَيْهِ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ، أَحْرَمَ مِنْ حَذْوِ أَبْعَدِهِمَا. [مَسْأَلَة كُلّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا فِيهَا مِيقَاتٌ فَهُوَ مِيقَاتُهُ] (2274) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا، وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا فِيهَا مِيقَاتٌ فَهُوَ مِيقَاتُهُ، فَإِذَا حَجَّ الشَّامِيُّ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَهِيَ مِيقَاتُهُ، وَإِنْ حَجَّ مِنْ الْيَمَنِ فَمِيقَاتُهُ يَلَمْلَمُ، وَإِنْ حَجَّ مِنْ الْعِرَاقِ فَمِيقَاتُهُ ذَاتُ عِرْقٍ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَى مِيقَاتٍ غَيْرِ مِيقَاتِ بَلَدِهِ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ. سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الشَّامِيِّ يَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ، مِنْ أَيْنَ يُهِلُّ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. قِيلَ: فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ يُهِلُّ مِنْ مِيقَاتِهِ مِنْ الْجُحْفَةِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلَيْسَ يَرْوِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ) . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي الشَّامِيِّ يَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ: لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْجُحْفَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ، إذَا أَرَادَتْ الْحَجَّ أَحْرَمَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَإِذَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ. وَلَعَلَّهمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» . وَلِأَنَّهُ مِيقَاتٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَجَاوُزُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِمَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ، كَسَائِرِ الْمَوَاقِيتِ. وَخَبَرُهُمْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مِيقَاتٍ آخَرَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَرَّ بِمِيقَاتٍ غَيْرِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَجَاوُزُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَّتَ لِمَنْ سَاحَلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي هَذَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً» . (2275) فَصْلٌ: فَإِنْ مَرَّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَمِيقَاتُهُ الْجُحْفَةُ، سَوَاءٌ كَانَ شَامِيًّا أَوْ مَدَنِيًّا؛ لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يُسْأَلُ عَنْ الْمُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْته - أَحْسَبُهُ رَفَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْجُحْفَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ مَرَّ عَلَى أَحَدِ الْمَوَاقِيتِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ، كَسَائِرِ الْمَوَاقِيتِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حِينَ أَحْرَمَ أَصْحَابُهُ دُونَهُ فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ لِلْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، إنَّمَا تَرَكَ الْإِحْرَامَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَمُرَّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَخَّرَ إحْرَامَهُ إلَى الْجُحْفَةِ. إذْ لَوْ مَرَّ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَجَاوُزُهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَأْخِيرِهَا إحْرَامَ الْعُمْرَةِ إلَى الْجُحْفَةِ عَلَى هَذَا، وَأَنَّهَا لَا تَمُرُّ فِي طَرِيقهَا عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ فِعْلُهَا مُخَالِفًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [مَسْأَلَة أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ] (2276) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يُحْرِمَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُحْرِمٌ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ يَصِيرُ مُحْرِمًا، تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَحْكَامُ الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ. وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَيُكْرَهُ قَبْلَهُ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ الْإِحْرَامُ مِنْ بَلَدِهِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَكَانَ عَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ أَيَّتَهُمَا قَالَ» . رَوَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: «مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، غُفِرَ لَهُ» . وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ إِيلْيَا. وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: أَهْلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَمَّا أَتَيْت الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ. فَأَتَيْت عُمَرَ، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: «هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَهَذَا إحْرَامٌ بِهِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ أَحْرَمُوا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْأَفْضَلَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ، قُلْنَا: قَدْ حَصَلَ بَيَانُ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاقِيتِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَلَمَا تَوَاطَئُوا عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَاخْتِيَارِ الْأَدْنَى، وَهُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَالْفَضْلِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ، وَلَهُمْ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالدَّرَجَاتِ مَا لَهُمْ. وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَسْتَمْتِعُ أَحَدُكُمْ بِحِلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي إحْرَامِهِ» . وَرَوَى الْحَسَنُ، أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَحْرَمَ مِنْ مِصْرِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَغَضِبَ، وَقَالَ: يَتَسَامَعُ النَّاسُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ مِنْ مِصْرِهِ. وَقَالَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ أَحْرَمَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ فِيمَا صَنَعَ، وَكَرِهَهُ لَهُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ. وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَكُرِهَ، كَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ. وَلِأَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِالْإِحْرَامِ، وَتَعَرُّضٌ لِفِعْلِ مَحْظُورَاتِهِ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، فَكُرِهَ، كَالْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ. قَالَ عَطَاءٌ: اُنْظُرُوا هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي وُقِّتَتْ لَكُمْ، فَخُذُوا بِرُخْصَةِ اللَّهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُكُمْ ذَنْبًا فِي إحْرَامِهِ، فَيَكُونَ أَعْظَمَ لِوِزْرِهِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ فِي الْإِحْرَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا حَدِيثُ الْإِحْرَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَفِيهِ ضَعْفٌ، يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ؛ وَفِيهِمَا مَقَالٌ. وَيَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ دُونَ غَيْرِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْرِمْ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا مِنْ الْمِيقَاتِ. وَقَوْلُ عُمَرَ لِلصَّبِّي: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك. يَعْنِي فِي الْقِرَانِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، بَيَّنَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ إنْكَارُهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إحْرَامَهُ مِنْ مِصْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُ الْعُمْرَةِ أَنْ تُنْشِئَهَا مِنْ بَلَدِك. وَمَعْنَاهُ أَنْ تُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا مِنْ بَلَدِك، تَقْصِدُ لَهُ، لَيْسَ أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ أَهْلِك. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ سُفْيَانُ يُفَسِّرُهُ بِهَذَا. وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ بِهِ أَحْمَدُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وَأَصْحَابَهُ مَا أَحْرَمُوا بِهَا مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ، فَلَوْ حُمِلَ قَوْلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ. ثُمَّ إنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا مَا كَانَا يُحْرِمَانِ إلَّا مِنْ الْمِيقَاتِ، أَفَتَرَاهُمَا يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِتْمَامٍ لَهَا وَيَفْعَلَانِهِ، هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَهَّمَهُ أَحَدٌ. وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى عِمْرَانَ إحْرَامَهُ مِنْ مِصْرِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَكَرِهَ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسُ، مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ. أَفَتَرَاهُ كَرِهَ إتْمَامَ الْعُمْرَةِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ بِالْأَفْضَلِ، هَذَا لَا يَجُوزُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِمَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ غَيْرَ مُحْرِمٍ] (2277) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ، فَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، رَجَعَ فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ رَجَعَ مُحْرِمًا إلَى الْمِيقَاتِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ، إنْ أَمْكَنَهُ، سَوَاءٌ تَجَاوَزَهُ عَالِمًا بِهِ أَوْ جَاهِلًا، عَلِمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ جَهِلَهُ. فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَبِهِ يَقُولُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ. وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، كَالْوُقُوفِ، وَطَوَافِ الْقُدُومِ، فَيَسْتَقِرُّ الدَّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُحْرِمًا فِي الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّس بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ، فَلَبَّى، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ، لَمْ يَسْقُطْ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ: لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَا حَجَّ لِمَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ» . رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا. وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ دُونَ مِيقَاتِهِ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ، أَوْ كَمَا لَوْ طَافَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يُلَبِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ مِيقَاتِهِ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الدَّمَ وَجَبَ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَا يَزُولُ هَذَا بِرُجُوعِهِ وَلَا بِتَلْبِيَتِهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا رَجَعَ قَبْلَ إحْرَامِهِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْإِحْرَامَ مِنْهُ، وَلَمْ يَهْتِكْهُ. [فَصْل لَوْ أَفْسَدَ الْمُحْرِم مِنْ دُون الْمِيقَات حَجّه لَمْ يَسْقُط عَنْهُ الدَّم] (2278) فَصْلٌ: وَلَوْ أَفْسَدَ الْمُحْرِمُ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ حَجَّهُ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وَلَنَا، أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِمُوجِبِ هَذَا الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، كَبَقِيَّةِ الْمَنَاسِكِ، وَكَجَزَاءِ الصَّيْدِ. [فَصْل الْمُجَاوِز لِلْمِيقَاتِ مِمَّنْ لَا يُرِيد النُّسُك] (2279) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُجَاوِزُ لِلْمِيقَاتِ، مِمَّنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ، فَعَلَى قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُرِيدُ دُخُولَ الْحَرَمِ، بَلْ يُرِيدُ حَاجَةً فِيمَا سِوَاهُ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بَدْرًا مَرَّتَيْنِ، وَكَانُوا يُسَافِرُونَ لِلْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، فَيَمُرُّونَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَا يُحْرِمُونَ، وَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا. ثُمَّ مَتَى بَدَا لِهَذَا الْإِحْرَامُ، وَتُجَدَّدَ لَهُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ، فَجَاوَزَ ذَا الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ، يَرْجِعُ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَيُحْرِمُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ، كَاَلَّذِي يُرِيدُ دُخُولَ الْحَرَمِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً» . وَلِأَنَّهُ حَصَلَ دُونَ الْمِيقَاتِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ. فَكَانَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ، كَأَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، إذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ) . الْقِسْمُ الثَّانِي، مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ الْحَرَمِ، إمَّا إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، فَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَنْ يَدْخُلُهَا لِقِتَالٍ مُبَاحٍ، أَوْ مِنْ خَوْفٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ، كَالْحَشَّاشِ، وَالْحَطَّابِ، وَنَاقِلِ الْمِيرَةِ وَالْفَيْحِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةٌ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ إلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ لَا إحْرَامَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ حَلَالًا وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَحْرَمَ يَوْمَئِذٍ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا الْإِحْرَامَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ، أَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ زَمَانِهِ مُحْرِمًا، فَسَقَطَ لِلْحَرَجِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لَأَحَدٍ دُخُولُ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، إلَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلْحَرَمِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إحْرَامٍ كَغَيْرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَمَتَى أَرَادَ هَذَا النُّسُكَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ لَا يُكَلَّفُ الْحَجَّ كَالْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَرَادُوا الْإِحْرَامَ، فَإِنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ، وَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ، وَقَالُوا فِي الْعَبْدِ: عَلَيْهِ دَمٌ وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي جَمِيعِهِمْ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَمٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ، كَقَوْلِهِ. وَيَتَخَرَّجُ فِي الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ كَذَلِكَ، قِيَاسًا عَلَى الْكَافِرِ يُسْلِمُ؛ لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمُوا دُونَهُ، فَلَزِمَهُمْ الدَّمُ، كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ مِنْهُ، فَأَشْبَهُوا الْمَكِّيَّ، وَمَنْ قَرْيَتُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ إذَا أَحْرَمَ مِنْهَا، وَفَارَقَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ إذَا تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْمُكَلَّفُ الَّذِي يَدْخُلُ لِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا حَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَرَمَيْنِ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهِ، كَحَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّارِعِ إيجَابُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ دُخُولَهَا، لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَجِبْ بِنَذْرِ الدُّخُولِ، كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَتَى أَرَادَ هَذَا الْإِحْرَامَ بَعْدَ تَجَاوُزِ الْمِيقَاتِ، رَجَعَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، كَالْمُرِيدِ لِلنُّسُكِ. [فَصْل مِنْ دَخَلَ الْحَرَم بِغَيْرِ إحْرَام مِمَّنْ يَجِب عَلَيْهِ الْإِحْرَام] (2280) فَصْلٌ: وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِنْ أَتَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي سَنَتِهِ، أَوْ مَنْذُورَةٍ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَجْزَأَهُ عَنْ عُمْرَةِ الدُّخُولِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مُرُورَهُ عَلَى الْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلْحَرَمِ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ وَجَبَ قَضَاؤُهُ، كَالْمَنْذُورِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِتَحِيَّةِ الْبُقْعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ سَقَطَ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. فَإِنْ قِيلَ: تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُرَتَّبَاتِ تُقْضَى، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَضَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا إنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ الْحَرَمَ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، سَوَاءٌ أَرَادَ النُّسُكَ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 [فَصْل مِنْ كَانَ مَنْزِله دُون الْمِيقَات خَارِجًا مِنْ الْحَرَم] فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ، فَحُكْمُهُ فِي مُجَاوَزَةِ قَرْيَتِهِ إلَى مَا يَلِي الْحَرَمَ، حُكْمُ الْمُجَاوِزِ لِلْمِيقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ مِيقَاتُهُ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَالْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ. [مَسْأَلَة خَشِيَ فَوَاتَ الْحَجِّ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ] (2282) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَخَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَاتَهُ الْحَجُّ، أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْحَجِّ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ، أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ، فِيمَا نَعْلَمُهُ. إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ، فَلَا حَجَّ لَهُ. وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْأَمَاكِنِ، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ. وَإِذَا أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ» . وَإِنَّمَا أَبَحْنَا لَهُ الْإِحْرَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ، مُرَاعَاةً لِإِدْرَاكِ الْحَجِّ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ وَاجِبٍ فِيهِ مَعَ فَوَاتِهِ. وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ؛ لِعَدَمِ الرُّفْقَةِ، أَوْ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ لِصٍّ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَهُوَ كَخَائِفِ الْفَوَاتِ، فِي أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 [بَابُ ذِكْرِ الْإِحْرَامِ] [مَسْأَلَة مِنْ سُنَن الْإِحْرَام الِاغْتِسَال] ِ (2283) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، وَقَدْ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، فَإِذَا بَلَغَ الْمِيقَاتَ، فَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ) قَوْلُهُ: (وَقَدْ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ) . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ مَكْرُوهٌ؛ لِكَوْنِهِ إحْرَامًا بِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَأَشْبَهَ الْإِحْرَامَ بِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهِ، وَلِأَنَّ فِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافًا، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَ أَشْهُرِهِ صَحَّ، وَإِذَا بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى وَقْتِ الْحَجِّ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ. وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجْعَلُهُ عُمْرَةً؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] . تَقْدِيرُهُ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ، أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ وَقْتُهُ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ إحْرَامِهِ عَلَيْهِ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْهُرِ مِيقَاتٌ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نُسُكَيْ الْقِرَانِ، فَجَازَ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، كَالْعُمْرَةِ، أَوْ أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، فَصَحَّ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ كَمِيقَاتِ الْمَكَانِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِهِ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ طَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ، وَاغْتَسَلَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وَهِيَ نُفَسَاءُ، أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ. وَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ، وَهِيَ حَائِضٌ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ، فَسُنَّ لَهَا الِاغْتِسَالُ، كَالْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ جَائِزٌ بِغَيْرِ اغْتِسَالٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا نَسِيَ الْغُسْلَ، يَغْتَسِلُ إذَا ذَكَرَ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مَنْ تَرَكَ الْغُسْلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَسْمَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وَهِيَ نُفَسَاءُ: (اغْتَسِلِي) فَكَيْفَ الطَّاهِرُ؟ فَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ أَحْيَانًا، وَيَتَوَضَّأُ أَحْيَانًا. وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَجِبُ الِاغْتِسَالُ، وَلَا نُقِلَ الْأَمْرُ بِهِ إلَّا لِحَائِضٍ أَوْ نُفَسَاءَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُمَا، وَلِأَنَّهُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَأَشْبَهَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ. (2284) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً، لَمْ يُسَنَّ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَشْرُوعٌ، فَنَابَ عَنْهُ التَّيَمُّمُ، كَالْوَاجِبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غُسْلٌ مَسْنُونٌ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِهِ، كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُنْتَقَضٌ بِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ، أَنَّ الْوَاجِبَ يُرَادُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْنُونُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يُحَصِّلُ هَذَا، بَلْ يَزِيدُ شُعْثًا وَتَغْيِيرًا، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، فَلَمْ يُشْرَعْ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ، وَلَا تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِهِ. [فَصْل يُسْتَحَبّ التَّنَظُّف لِلْإِحْرَامِ] (2285) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ التَّنَظُّفُ بِإِزَالَةِ الشُّعْثِ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُسَنُّ لَهُ الِاغْتِسَالُ وَالطِّيبُ، فَسُنَّ لَهُ هَذَا كَالْجُمُعَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّعْرِ وَقَلْمَ الْأَظْفَارِ، فَاسْتُحِبَّ فِعْلُهُ قَبْلَهُ؛ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَيْهِ فِي إحْرَامِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ. [مَسْأَلَة فِي مَلَابِس الْإِحْرَام] (2286) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ) يَعْنِي إزَارًا وَرِدَاءً، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا، فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ» . وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يُخَاطُ عَلَى قَدْرِ الْمَلْبُوسِ عَلَيْهِ، كَالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ. وَلَوْ لَبِسَ إزَارًا مُوَصَّلًا، أَوْ اتَّشَحَ بِثَوْبٍ مَخِيطٍ، جَازَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا نَظِيفَيْنِ؛ إمَّا جَدِيدَيْنِ، وَإِمَّا غَسِيلَيْنِ؛ لِأَنَّنَا أَحْبَبْنَا لَهُ التَّنَظُّفَ فِي بَدَنِهِ، فَكَذَلِكَ فِي ثِيَابِهِ، كَشَاهِدِ الْجُمُعَةِ، وَالْأَوْلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 أَنْ يَكُونَا أَبْيَضَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضُ، فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . [مَسْأَلَة يُسْتَحَبّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَام أَنَّ يَتَطَيَّب فِي بَدَنه خَاصَّة] (2287) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَطَيَّبُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ خَاصَّةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَبْقَى عَيْنُهُ كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ، أَوْ أَثَرُهُ كَالْعُودِ وَالْبَخُورِ وَمَاءِ الْوَرْدِ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، وَمُعَاوِيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُرْوَةَ، وَالْقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَكَانَ عَطَاءٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَعْنِي سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَانْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ابْتِدَائِهِ، فَمُنِعَ اسْتَدَامَتْهُ كَاللُّبْسِ. وَلَنَا، قَوْلُ عَائِشَةَ: «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. قَالَتْ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «طَيَّبْته بِأَطْيَبِ الطِّيبِ. وَقَالَتْ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ» . وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ طِيبِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَحَدِيثُهُمْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: عَلَيْهِ جُبَّةٌ بِهَا أَثَرُ خَلُوقٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي بَعْضِهَا: وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ. وَفِي بَعْضِهَا: عَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طِيبَ الرَّجُلِ كَانَ مِنْ الزَّعْفَرَانِ، وَهُوَ مَنْهِيُّ عَنْهُ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، فَفِيهِ أَوْلَى. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» . وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَحَدِيثُنَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ شَأْنُ صَاحِبِ الْجُبَّةِ قَبْلَ حَجَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 الْوَدَاعِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ وَالْآثَارِ، أَنَّ قِصَّةَ صَاحِبِ الْجُبَّةِ كَانَتْ عَامَ حُنَيْنٍ، بِالْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إنْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ، فَحَدِيثُنَا نَاسِخٌ لِحَدِيثِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَقَالَ: لَأَنْ أُطْلَى بِالْقَطِرَانِ أَحَبُّ إلَى مِنْ ذَلِكَ. قُلْنَا تَمَامُ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَطُوفُ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ يَنْضَحُ طِيبًا» . فَإِذَا صَارَ الْخَبَرُ حُجَّةً عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِهِ، فَإِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ عُمِرَ وَغَيْرِهِ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ. [فَصْل إنْ طَيَّبَ الْمُحْرِم ثَوْبه فَلَهُ اسْتِدَامَة لَبِسَهُ مَا لَمْ يَنْزِعهُ] (2288) فَصْلٌ: وَإِنْ طَيَّبَ ثَوْبَهُ، فَلَهُ اسْتِدَامَةُ لُبْسِهِ، مَا لَمْ يَنْزِعْهُ، فَإِنْ نَزَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الطِّيبِ، وَلُبْسُ الْمُطَيَّبِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ نَقَلَ الطِّيبَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، افْتَدَى؛ لِأَنَّهُ تَطَيَّبَ فِي إحْرَامِهِ، وَكَذَا إنْ تَعَمَّدَ مَسَّهُ بِيَدِهِ، أَوْ نَحَّاهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ، فَأَمَّا إنْ عَرِقَ الطِّيبُ، أَوْ ذَابَ بِالشَّمْسِ، فَسَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَجَرَى مَجْرَى النَّاسِي. قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْهَاهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَة الْمُسْتَحَبّ أَنْ يُحْرِم عَقِيب الصَّلَاة إذَا حَضَرَ وَقْتهَا] (2289) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ حَضَرَتْ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، أَحْرَمَ عَقِيبَهَا، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا وَأَحْرَمَ عَقِيبَهُمَا. اسْتَحَبَّ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْإِحْرَامَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَإِذَا بَدَأَ بِالسَّيْرِ، سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك: الْإِحْرَامُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ، أَوْ إذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ، فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا عَلَا الْبَيْدَاءَ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ، فَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ. كُلِّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «رَكِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحِلَتَهُ، حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ» ، وَقَالَ أَنَسٌ: «لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ، أَهَلَّ.» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَهَلَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً» . رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ، وَالْأَوْلَى الْإِحْرَامُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: ذَكَرْت لِابْنِ عَبَّاسٍ إهْلَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِحْرَامَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ قَائِمَةً، أَهَلَّ، فَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ الرَّاحِلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا إلَّا ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى عَلَا الْبَيْدَاءَ، فَأَهَلَّ، فَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: أَهَلَّ حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَهَذَا لَفْظُ الْأَثْرَمِ. وَهَذَا فِيهِ بَيَانٌ وَزِيَادَةُ عِلْمٍ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، فَكَيْفَمَا أَحْرَمَ جَازَ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَة الْإِحْرَامَ يَقَعُ بِالنُّسُكِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ تَمَتُّعٍ وَإِفْرَادٍ وَقِرَانٍ] (2290) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ بِالنُّسُكِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ تَمَتُّعٍ، وَإِفْرَادٍ، وَقِرَانٍ. فَالتَّمَتُّعُ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ. وَالْإِفْرَادُ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا. وَالْقِرَانُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِحْرَامِ بِهِمَا، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ. فَأَيُّ ذَلِكَ أَحْرَمَ بِهِ جَازَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِأَيِّ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِهَا، فَاخْتَارَ إمَامُنَا التَّمَتُّعَ، ثُمَّ الْإِفْرَادَ، ثُمَّ الْقِرَانَ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعِكْرِمَةُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ: إنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ حِينَ سَاقَ الْهَدْيَ وَمَنَعَ كُلَّ مِنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحِلِّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ إلَى اخْتِيَارِ الْقِرَانِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ، حِينَ لَبَّى بِهِمَا، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَان بْن الْحَكَمِ، قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَسَمِعَ عَلِيًّا يُلَبِّي بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَلَمْ نَكُنْ نُهِينَا عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمْ أَكُنْ أَدَعُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِك» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ الْقِرَانَ مُبَادَرَةٌ إلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ، وَإِحْرَامٌ بِالنُّسُكَيْنِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 هُوَ الدَّمُ، فَكَانَ أَوْلَى. وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، إلَى اخْتِيَارِ الْإِفْرَادِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، وَجَابِرٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْحَجَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَجِّ تَامًّا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى جَبْرٍ، فَكَانَ أَوْلَى. قَالَ عُثْمَانُ: أَلَا إنَّ الْحَجَّ التَّامَّ مِنْ أَهْلِيكُمْ، وَالْعُمْرَةَ التَّامَّةَ مِنْ أَهْلِيكُمْ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، كَانُوا يُجَرِّدُونَ الْحَجَّ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو مُوسَى، وَعَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ، أَنْ يَحِلُّوا، وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً» . فَنَقَلَهُمْ مِنْ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إلَى الْمُتْعَةِ، وَلَا يَنْقُلُهُمْ إلَّا إلَى الْأَفْضَلِ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا، إلَّا مَنْ سَاقَ هَدْيًا، وَثَبَتَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَقَالَ: «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت، مَا سُقْت الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً» . قَالَ جَابِرٌ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ، بِطَوَافٍ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً. فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْلَا أَنِّي سُقْت الْهَدْيَ، لَفَعَلْت مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ» . وَفِي لَفْظٍ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْت كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت، مَا أَهْدَيْت. فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا فَنَقَلَهُمْ إلَى التَّمَتُّعِ، وَتَأَسَّفَ إذْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى فَضْلِهِ. وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] دُونَ سَائِرِ الْأَنْسَاكِ. وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ كَمَالِهِمَا، وَكَمَالِ أَفْعَالِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أُولَى، فَأَمَّا الْقِرَانُ فَإِنَّمَا يُؤْتَى فِيهِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، وَتَدْخُلُ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِيهِ، وَالْمُفْرِدُ فَإِنَّمَا يَأْتِي بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَإِنْ اعْتَمَرَ بَعْدَهُ مِنْ التَّنْعِيمِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إجْزَائِهَا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي إجْزَاءِ عُمْرَةِ الْقِرَانِ، وَلَا خِلَافَ فِي إجْزَاءِ التَّمَتُّعِ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، فَكَانَ أَوْلَى. فَأَمَّا حُجَّتُهُمْ، فَإِنَّمَا احْتَجُّوا بِفِعْلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الْأَوَّلُ، أَنَّا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمًا بِغَيْرِ التَّمَتُّعِ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِأَحَادِيثِهِمْ لَأُمُورٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ رُوَاةَ أَحَادِيثِهِمْ قَدْ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا. الثَّانِي، أَنَّ رِوَايَتَهُمْ اخْتَلَفَتْ، فَرَوَوْا مَرَّةً أَنَّهُ أَفْرَدَ، وَمَرَّةً أَنَّهُ تَمَتَّعَ، وَمَرَّةً أَنَّهُ قَرَنَ، وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهَا كُلِّهَا، وَأَحَادِيثُ الْقِرَانِ أَصَحُّهَا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَنَسًا، ذَهِلَ أَنَسٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ أَنَسٌ يَتَوَلَّجُ عَلَى النِّسَاءِ. يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُد، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ كَثِيرُ الْوَهْمِ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. الثَّالِثُ، أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَمَتِّعًا. رَوَى ذَلِكَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ الْحِلِّ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ، فَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» يَعْنِي الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ اخْتَلَفَ هُوَ وَعُثْمَانُ فِي الْمُتْعَةِ بِعُسْفَانَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: «مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْهَى عَنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ: «أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعَ؟ قَالَ: بَلَى» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ» . وَعَنْهُ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ فَقَالَ: إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي، وَقَلَّدْت هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ سَعْدٌ: صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ رَاجِحَةٌ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهَا أَكْثَرُ وَأَعْلَمُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ بِالْمُتْعَةِ عَنْ نَفْسِهِ، فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ، فَلَا تُعَارَضُ بِظَنِّ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهِيَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تُحْرِمُ إلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهَا بِأَمْرٍ، ثُمَّ يُخَالِفُ إلَى غَيْرِهِ. وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، بِأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْهَا لِأَجْلِ هَدْيِهِ، حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَصَارَ قَارِنًا، وَسَمَّاهُ مَنْ سَمَّاهُ مُفْرِدًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ وَحْدَهَا، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّعَارُضِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْمُتْعَةِ عَنْ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ إلَّا بِالِانْتِقَالِ إلَى الْأَفْضَلِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْأَدْنَى، وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ، الْهَادِي إلَى الْفَضْلِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِتَأَسُّفِهِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَالِهِ وَحِلِّهِ، لِسَوْقِهِ الْهَدْيَ، وَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ. الثَّالِثُ، أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِفِعْلِهِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِفِعْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْوِصَالِ مَعَ فِعْلِهِ لَهُ، وَنِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، مَعَ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قُلْنَا: هَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ، يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَقَوْلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَمُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَهَذَا عَامٌّ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبَاحَةِ التَّمَتُّعِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فَضْلِهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأْنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الْمُتْعَةُ لَنَا خَاصَّةً، أَوْ هِيَ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ هِيَ لِلْأَبَدِ» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «أَلِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ هَذَا، وَمَعْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُجِيزُونَ التَّمَتُّعَ، وَيَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَجَوَّزَ الْمُتْعَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرَ الْفُجُورِ، وَيَقُولُونَ: إذَا انْفَسَخَ صَفَرْ، وَبَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الْأَثَرُ، حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ. فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَدْ خَالَفَ أَبَا ذَرٍّ عَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عِمْرَانُ: «تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ» ، فَقَالَ فِيهَا رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: «فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الْمُتْعَةَ» - وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 بِالْعَرْشِ. يَعْنِي الَّذِي نَهَى عَنْهَا، وَالْعَرْشُ: بُيُوتُ مَكَّةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، حِينَ ذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: أَفَيَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ، الْمُتْعَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى عُمَرَ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ» . قُلْنَا: هَذَا حَالُهُ فِي مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَحَالِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، بَلْ هُوَ أَدْنَى حَالًا، فَإِنَّ فِي إسْنَادِهِ مَقَالًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ. قُلْنَا: فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ نَهْيَهُمْ عَنْهَا، وَخَالَفُوهُمْ فِي فِعْلِهَا، وَالْحَقُّ مَعَ الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ دُونَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا إنْكَارَ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، وَاعْتِرَافَ عُثْمَانَ لَهُ، وَقَوْلَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مُنْكِرًا لِنَهْيِ مَنْ نَهَى، وَقَوْلَ سَعْدٍ عَائِبًا عَلَى مُعَاوِيَةَ نَهْيَهُ عَنْهَا، وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِحُجَجٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ عَنْهَا، بَلْ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ نَهَى عَنْهَا فِي كَلَامِهِ، مَا يَرُدُّ نَهْيَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ إنِّي لِأَنْهَاكُمْ عَنْهَا، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ، وَنَهَى عَمَّا فِيهِمَا، حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يُقْبَلَ نَهْيُهُ، وَلَا يُحْتَجَّ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ سُئِلَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَهَى عُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ مَا نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، وَلَكِنْ قَدْ نَهَى عُثْمَانُ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَأَمَرَ بِهَا، فَقِيلَ: إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك. قَالَ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ الَّذِي يَقُولُونَ. وَلَمَّا نَهَى مُعَاوِيَةُ عَنْ الْمُتْعَةِ، أَمَرَتْ عَائِشَةُ حَشَمَهَا وَمَوَالِيَهَا أَنْ يُهِلُّوا بِهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: حَشَمُ أَوْ مَوَالِي عَائِشَةَ. فَأَرْسَلَ إلَيْهَا: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: أَحْبَبْت أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي قُلْت لَيْسَ كَمَا قُلْت. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ فُلَانًا يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ. قَالَ: اُنْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهَا فِيهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَقَدْ صَدَقَ. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ، وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ، الَّذِينَ مَعَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، أَمْ الَّذِينَ خَالَفُوهُمَا؟ ثُمَّ قَدْ ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي قَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ؟ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: «تَمَتَّعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَقَالَ عُرْوَةُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَاهُمْ سَيَهْلَكُونَ، أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ نَهَى عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَأَمَرَ بِهَا، فَقَالَ: إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك، فَقَالَ: عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي يَقُولُونَ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ، قَالَ: أَفَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ؟ . رَوَى الْأَثْرَمُ هَذَا كُلَّهُ. [فَصْل الْإِحْرَام بِعُمْرَةِ] (2291) فَصْلٌ: فَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهَا لِي، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي، وَمَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي. فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ النُّطْقُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ، لِيَزُولَ الِالْتِبَاسُ، فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَفَاهُ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى تَنْضَافَ إلَيْهَا التَّلْبِيَةُ، أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ؛ لِمَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَك أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، فَكَانَ لَهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ وَالْأُضْحِيَّةَ لَا يَجِبَانِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَذَلِكَ النُّسُكُ. وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهَا، كَالصِّيَامِ، وَالْخَبَرُ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ، فَإِنَّ مَنْطُوقَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَوْلَى، وَلَوْ وَجَبَ النُّطْقُ، لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهُ شَرْطًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ وَاجِبَاتٍ الْحَجِّ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَأَمَّا الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيَّةُ، فَإِيجَابُ مَالٍ، فَأَشْبَهَ النَّذْرَ، بِخِلَافِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فَعَلَى هَذَا لَوْ نَطَقَ بِغَيْرِ مَا نَوَاهُ، نَحْوُ أَنْ يَنْوِيَ الْعُمْرَةَ، فَيَسْبِقَ لِسَانُهُ إلَى الْحَجِّ، أَوْ بِالْعَكْسِ، انْعَقَدَ مَا نَوَاهُ دُونَ مَا لَفَظَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى هَذَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ النِّيَّةُ، وَعَلَيْهَا الِاعْتِمَادُ، وَاللَّفْظُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ اخْتِلَافُ النِّيَّةِ فِيمَا يُعْتَبَرُ لَهُ اللَّفْظُ دُونَ النِّيَّةِ. [فَصْل لَبَّى أَوْ سَاقَ الْهَدْي مِنْ غَيْرِ نِيَّة] (2292) فَصْلٌ: فَإِنْ لَبَّى، أَوْ سَاقَ الْهَدْيَ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ؛ لِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَتْ لَهُ النِّيَّةُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِدُونِهَا، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة اشْتِرَاط الْمَحْصِر عِنْدَ الْإِحْرَامِ] (2293) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَشْتَرِطُ فَيَقُولُ: إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. فَإِنْ حُبِسَ حَلَّ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ، أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، فَيَقُولَ: إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي. وَيُفِيدُ هَذَا الشَّرْطُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ إذَا عَاقَهُ عَائِقٌ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَنَحْوه، أَنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مَتَى حَلَّ بِذَلِكَ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا صَوْمَ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى الِاشْتِرَاطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٌ. وَذَهَبَ إلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَشُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّافِعِيُّ إذْ هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 بِالْعِرَاقِ. وَأَنْكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاشْتِرَاطَ يُفِيدُ سُقُوطَ الدَّمِ، فَأَمَّا التَّحَلُّلُ فَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَهُ بِكُلِّ إحْصَارٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ، وَيَقُولُ: حَسْبُكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ. فَلَمْ يُفِدْ الِاشْتِرَاطُ فِيهَا، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ ضُبَاعَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَكَيْفَ أَقُولُ؟ فَقَالَ: قُولِي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي. فَإِنَّ لَك عَلَى رَبِّك مَا اسْتَثْنَيْت» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَا قَوْلَ لَأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بُقُولِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدِيثٌ لَكَانَ قَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ مَعَ مَنْ قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ، مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَالْعِبَارَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِتَأْدِيَةِ الْمَعْنَى. قَالَ إبْرَاهِيمُ: خَرَجْنَا مَعَ عَلْقَمَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ إنْ تَيَسَّرَتْ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ عَلَيَّ. وَكَانَ شُرَيْحٌ يَشْتَرِطُ: اللَّهُمَّ قَدْ عَرَفْت نِيَّتِي، وَمَا أُرِيدُ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا تُتِمُّهُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ عَلَيَّ. وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَسْوَدِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِعُرْوَةِ: قُلْ، اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَإِيَّاهُ نَوَيْت، فَإِنْ تَيَسَّرَ، وَإِلَّا فَعُمْرَةٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ زِيَادٍ. [فَصْل نَوَى الْمَحْصِر الِاشْتِرَاط وَلَمْ يَتَلَفَّظ بِهِ] (2294) فَصْلٌ: فَإِنْ نَوَى الِاشْتِرَاطَ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَالْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ تَابِعُهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَوْلُ، كَالِاشْتِرَاطِ فِي النَّذْر وَالْوَقْفِ وَالِاعْتِكَافِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (قُولِي مَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي) . [مَسْأَلَة إنْ أَرَادَ الْإِفْرَاد قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيد الْحَجّ وَيَشْتَرِطُ الْإِفْرَادُ] (2295) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ. وَيَشْتَرِطُ) الْإِفْرَادُ: هُوَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ، وَالْحُكْمُ فِي إحْرَامِهِ كَالْحُكْمِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، سَوَاءٌ، فِيمَا يَجِبُ وَيُسْتَحَبُّ وَحُكْمِ الِاشْتِرَاطِ. [مَسْأَلَة إنْ أَرَادَ الْقِرَان قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيد الْعُمْرَة وَالْحَجّ] (2296) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَرَادَ الْقِرَانَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ. وَيَشْتَرِطُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 مَعْنَى الْقِرَانِ: الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا، أَوْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْهَا الْحَجَّ. وَهُوَ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الْمَشْرُوعَةِ، الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ قَالُوا: أَمَّا هَذَا فَلَا. قَالَ: إنَّهَا مَعَهُنَّ - يَعْنِي مَعَ الْمَنْهِيَّاتِ - وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ. وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُوَافِقْ الصَّحَابَةُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِ، مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّتِهِ بِالْإِحْلَالِ، وَقَالَ: «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت، لَمَا سُقْت الْهَدْيَ. وَكَانَ قَارِنًا، فَحَمَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى النَّهْيِ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل يُسْتَحَبّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُعِين مَا أُحَرِّم بِهِ] (2297) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَيِّنَ مَا أَحْرَمَ بِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: الْإِطْلَاقُ أَوْلَى؛ لِمَا رَوَى طَاوُسٌ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ، لَا يُسَمِّي حَجًّا، يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْإِحْصَارَ، أَوْ تَعَذَّرَ فِعْلُ الْحَجِّ عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً، وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ بِنُسُكٍ مُعَيَّنٍ، فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ، فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلْيُهِلَّ» . وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا أَحْرَمُوا بِمُعَيَّنٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي حَجَّتِهِ، يَطَّلِعُونَ عَلَى أَحْوَالِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ، وَيَقِفُونَ عَلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ وَبَاطِنِهِ، أَعْلَمُ بِهِ مِنْ طَاوُسٍ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَحْتَجُّ بِالْمَرَاسِيلِ الْمُفْرَدَةِ، فَكَيْفَ يَصِيرُ إلَى هَذَا، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَاتِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَالِاحْتِيَاطُ مُمْكِنٌ، بِأَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَإِنْ شَاءَ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا، فَكَانَ قَارِنًا. [فَصْل أَطْلَقَ الْإِحْرَام فَنَوَى الْإِحْرَام بِنُسُكِ وَلَمْ يُعِين حَجًّا وَلَا عَمْرَة] (2298) فَصْلٌ: فَإِنْ أَطْلَقَ الْإِحْرَامَ، فَنَوَى الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، صَحَّ، وَصَارَ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ، فَصَحَّ مَعَ الْإِطْلَاقِ. فَإِذَا أَحْرَمَ مُطْلَقًا، فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى أَيِّ الْأَنْسَاكِ شَاءَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، فَكَانَ لَهُ صَرْفُ الْمُطْلَقِ إلَى ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى صَرْفُهُ إلَى الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مَكْرُوهٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالْعُمْرَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجْعَلُهُ عُمْرَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَا مُوسَى، حِينَ أَحْرَمَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْعَلَهُ عُمْرَةً. كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل إبْهَام الْإِحْرَام] (2299) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ إبْهَامُ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ لِي: «بِمَ أَهْلَلْت؟ . قُلْت: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: أَحْسَنْت. فَأَمَرَنِي فَطُفْت بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: حِلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى جَابِرٌ، وَأَنَسٌ، أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِمَ أَهْلَلْت؟ قَالَ: أَهْلَلْت بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» قَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ: (فَاهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا) . وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَوْلَا أَنَّ مَعِي هَدْيًا لَحَلَلْت) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو مَنْ أَبْهَمَ إحْرَامَهُ مِنْ أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَعْلَمَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ، فَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِمِثْلِهِ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَاذَا قُلْت حِينَ فَرَضْت الْحَجَّ؟) قَالَ: قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ، فَلَا تَحِلَّ الثَّانِي، أَنْ لَا يَعْلَمَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ، فَيَكُون حُكْمُهُ حُكْمَ النَّاسِي، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ. الثَّالِثُ، أَنْ لَا يَكُونَ فُلَانٌ أَحْرَمَ، فَيَكُونَ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا، حُكْمُهُ حُكْمُ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. الرَّابِعُ، أَنْ لَا يَعْلَمَ هَلْ أَحْرَمَ فُلَانٌ، أَوْ لَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِنْ لَمْ يُحْرِمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إحْرَامِهِ، فَيَكُونُ إحْرَامُهُ هَاهُنَا مُطْلَقًا، يَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ، فَإِنْ صَرَفَهُ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَحَسَنٌ، وَإِنْ طَافَ قَبْلَ صَرْفِهِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ؛ لِأَنَّهُ طَافَ لَا فِي حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ. [فَصْل أُحَرِّم بِنُسُكِ ثُمَّ نَسِيَهُ قَبْل الطَّوَاف] (2300) فَصْلٌ: إذَا أَحْرَمَ بِنُسُكٍ، ثُمَّ نَسِيَهُ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى أَيِّ الْأَنْسَاكِ شَاءَ، فَإِنَّهُ إنْ صَرَفَهُ إلَى عُمْرَةٍ، وَكَانَ الْمَنْسِيُّ عُمْرَةً، فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ كَانَ حَجًّا مُفْرَدًا أَوْ قِرَانًا فَلَهُ فَسْخُهُمَا إلَى الْعُمْرَةِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْقِرَانِ، وَكَانَ الْمَنْسِيُّ قِرَانًا، فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً، فَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَيَصِيرُ قَارِنًا، وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا، لَغَا إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ، وَصَحَّ بِالْحَجِّ، وَسَقَطَ فَرْضَهُ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْإِفْرَادِ، وَكَانَ مُفْرِدًا، فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَصَارَ قَارِنًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فِي الْحُكْمِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُفْرِدٌ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَكَذَلِكَ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجْعَلُهُ عُمْرَةً. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعِلْمِ، فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصْرِفُهُ إلَى الْقِرَانِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَتَحَرَّى، فَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِط الْعِبَادَةِ، فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ. وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ، فَعَلَى هَذَا إنْ صَرَفَهُ إلَى الْمُتْعَةِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. عَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى إفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْعُمْرَةِ، إذْ مِنْ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ حَجًّا مُفْرَدًا، وَلَيْسَ لَهُ إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَتَكُونُ صِحَّةُ الْعُمْرَةِ مَشْكُوكًا فِيهَا، فَلَا تَسْقُطُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِالشَّكِّ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْقِرَانِ يَقِينًا، وَلَا يَجِبُ الدَّمُ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ. فَأَمَّا إنْ شَكَّ بَعْدَ الطَّوَافِ، لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إلَّا إلَى الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَجٍّ أَوْ قِرَانٍ، فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِفِعْلِ الْحَجِّ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ عُمْرَةً، فَلَمْ يَصِحَّ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَوَافِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَجًّا، وَإِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَعَ الشَّكِّ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِلشَّكِّ فِيمَا يُوجِبُ الدَّمَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِلشَّكِّ فِيمَا يُوجِبُهُ. وَإِنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الْوُقُوفِ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى، جَعَلَهُ عُمْرَةً، فَقَصَّرَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَنْسِيُّ عُمْرَةً فَقَدْ أَصَابَ وَكَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ إفْرَادًا أَوْ قِرَانًا لَمْ يَنْفَسِخْ بِتَقْصِيرِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا عَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَقْصِيرِهِ، وَإِنْ شَكَّ، وَلَمْ يَكُنْ طَافَ وَسَعَى، جَعَلَهُ قِرَانًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَارِنًا فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَصَارَ قَارِنًا، وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا لَغَا إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ، وَصَحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ جَازَ أَيْضًا، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُفْرِدًا، وَإِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِلشَّكِّ فِي وُجُودِ سَبَبِهِ. [فَصْل أُحَرِّم بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ] (2301) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ، انْعَقَدَ بِإِحْدَاهُمَا، وَلَغَتْ الْأُخْرَى. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، يَنْعَقِدُ بِهِمَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا، وَلَمْ يُتِمَّهَا. وَلَنَا، أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا، كَالصَّلَاتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قَضَاؤُهَا؟ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا مَعًا؛ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إحْرَامِهِ بِهِمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 [مَسْأَلَة التَّلْبِيَة فِي الْإِحْرَام] (2302) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ لَبَّى) التَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ مَسْنُونَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا، وَأَمَرَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ ذَلِكَ الِاسْتِحْبَابُ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْعَجُّ، وَالثَّجُّ» . وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَمَعْنَى الْعَجِّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجِّ إسَالَةُ الدِّمَاءِ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي، إلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، يَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ. وَعَنْ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ، لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا، كَالتَّكْبِيرِ لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِهْلَالُ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ: هُوَ التَّلْبِيَةُ. وَلِأَنَّ النُّسُكَ عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ، فَكَانَ فِيهَا ذِكْرٌ وَاجِبٌ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا ذِكْرٌ، فَلَمْ تَجِبْ فِي الْحَجِّ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. وَفَارَقَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّ النُّطْقَ يَجِبُ فِي آخِرِهَا؛ فَوَجَبَ فِي أَوَّلِهَا، وَالْحَجُّ بِخِلَافِهِ. وَيُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِهَا إذَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، وَابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ، أَهَلَّ» . رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِحْرَامَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ قَائِمَةً، أَهَلَّ. يَعْنِي لَبَّى، وَمَعْنَى الْإِهْلَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ. إذَا صَاحَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ صَاحُوا. فَيُقَالُ: اسْتَهَلَّ الْهِلَالُ. ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ صَائِحٍ مُسْتَهِلٌّ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الصَّوْتَ بِالتَّلْبِيَةِ. [فَصْل رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ] (2303) فَصْلٌ: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: سَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا صُرَاخًا. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ، حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنْ التَّلْبِيَةِ. وَقَالَ سَالِمٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، فَلَا يَأْتِي الرَّوْحَاءَ حَتَّى يَصْحَلَ صَوْتُهُ. وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ زِيَادَةً عَلَى الطَّاقَةِ؛ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ وَتَلْبِيَتُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 [مَسْأَلَة تَلْبِيَة رَسُول اللَّهِ] (2304) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك) هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ «تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ. وَالتَّلْبِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ. إذَا لَزِمَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِك وَأَمْرِك، غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا شَارِدٌ عَلَيْك. هَذَا أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، وَثَنَّوْهَا وَكَرَّرُوهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ، كَمَا قَالُوا: حَنَانَيْكَ. أَيْ رَحْمَةً بَعْدَ رَحْمَةٍ، أَوْ رَحْمَةً مَعَ رَحْمَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إجَابَةُ نِدَاءِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حِينَ نَادَى بِالْحَجِّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، قِيلَ لَهُ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. فَقَالَ: رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي. قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ. فَنَادَى إبْرَاهِيمُ: أَيُّهَا النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ. قَالَ فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . أَفَلَا تَرَى النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يُلَبُّونَ. وَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ. بِكَسْرِ الْأَلِفِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالْفَتْحُ جَائِزٌ، إلَّا أَنَّ الْكَسْرَ أَجْوَدُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: مَنْ قَالَ أَنَّ بِفَتْحِهَا فَقَدْ خَصَّ، وَمَنْ قَالَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ فَقَدْ عَمَّ. يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَسَرَ جَعَلَ الْحَمْدَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَمِنْ فَتَحَ فَمَعْنَاهُ لَبَّيْكَ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَك، أَيْ لِهَذَا السَّبَبِ. [فَصْل لَا تُسْتَحَبّ الزِّيَادَة عَلَى تَلْبِيَة رَسُولِ اللَّهِ وَلَا تَكْرَه] فَصْلٌ: وَلَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا تُكْرَهُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ جَابِرٍ: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوْحِيدِ: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك، وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك) . وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلْبِيَتَهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّي بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ عُمَرُ: لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إلَيْك، لَبَّيْكَ. هَذَا مَعْنَاهُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَيُرْوَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَزِيدُ: لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ، وَلَا تُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَزِمَ تَلْبِيَتَهُ فَكَرَّرَهَا، وَلَمْ يَزِدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 عَلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ بَعْضَ بَنِي أَخِيهِ وَهُوَ يُلَبِّي: يَا ذَا الْمَعَارِجِ. فَقَالَ: إنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ، وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [فَصْل يُسْتَحَبّ ذَكَر مَا أُحَرِّم بِهِ فِي تَلْبِيَته] (2306) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ مَا أَحْرَمَ بِهِ فِي تَلْبِيَته. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ شِئْت لَبَّيْت بِالْحَجِّ، وَإِنْ شِئْت لَبَّيْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِنْ شِئْت بِعُمْرَةٍ، وَإِنْ لَبَّيْت بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ بَدَأْت بِالْعُمْرَةِ، فَقُلْت: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ: مَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَلْبِيَتِهِ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً. وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ. فَضَرَبَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: تُعْلِمُهُ مَا فِي نَفْسِك. وَلَنَا مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» . وَقَالَ جَابِرٌ: «قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ أَنَسٌ: «سَمِعْتهمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا صُرَاخًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصْرُخُ بِالْحَجِّ فَحَلَلْنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَانْطَلَقْنَا إلَى مِنًى.» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِهِمْ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ يُخَالِفُهُ قَوْلُ أَبِيهِ؛ فَإِنَّ النَّسَائِيَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ «الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ أَوَّلَ مَا حَجَّ لَبَّى بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ. فَقَالَ: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك» . وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَلَا بَأْسَ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. [فَصْل لَا بَأْسَ بِالْحَجِّ عَنْ الرَّجُلِ وَلَا يُسَمِّيه] (2307) فَصْلٌ: وَإِنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، كَفَاهُ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ عَنْهُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالْحَجِّ عَنْ الرَّجُلِ، وَلَا يُسَمِّيهِ. وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي التَّلْبِيَةِ، فَحَسَنٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا حَجَّ عَنْ رَجُلٍ يَقُولُ أَوَّلَ مَا يُلَبِّي: عَنْ فُلَانٍ. ثُمَّ لَا يُبَالِي أَنْ لَا يَقُولَ بَعْدُ. وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي سَمِعَهُ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ: «لَبِّ عَنْ نَفْسِك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 ثُمَّ لَبِّ عَنْ شُبْرُمَةَ» . وَمَتِّي أُتِيَ بِهِمَا جَمِيعًا. بَدَأَ بِذِكْرِ الْعُمْرَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ أَنَسٍ، إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ.» [اسْتِدَامَةُ التَّلْبِيَةِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ] (2308) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ لَا يَزَالُ يُلَبِّي إذَا عَلَا نَشَزًا، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَإِذَا الْتَقَتْ الرِّفَاقُ، وَإِذَا غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا، وَفِي دُبُرِ الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَةِ) يُسْتَحَبُّ اسْتِدَامَةُ التَّلْبِيَةِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُضَحِّي لِلَّهِ، يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، إلَّا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ، فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَهِيَ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَمَّى الْخِرَقِيِّ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي فِي حَجَّتِهِ إذَا لَقِيَ رَاكِبًا، أَوْ عَلَا أَكَمَةً، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا، وَإِذَا عَلَا نَشَزًا، وَإِذَا لَقِيَ رَاكِبًا، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدْ كَانَ قَبْلُ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ: لَا يُلَبِّي عِنْدَ اصْطِدَامِ الرِّفَاقِ. وَقَوْلُ النَّخَعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا. [فَصْل يُجْزِئ مِنْ التَّلْبِيَة فِي دُبُر الصَّلَاة مَرَّة وَاحِدَة] (2309) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ مِنْ التَّلْبِيَةِ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا شَيْءٌ يَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ، يُلَبُّونَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءُوا بِهِ؟ قُلْت: أَلَيْسَ يُجْزِئُهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ قَالَ: بَلَى. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ التَّلْبِيَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَكَذَا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَلَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ ذِكْرٍ وَخَيْرٍ، وَتَكْرَارُهُ ثَلَاثًا حَسَنٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرِ. [فَصْل لَا يُسْتَحَبّ رَفَعَ الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ فِي الْأَمْصَار] (2310) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي الْأَمْصَارِ، وَلَا فِي مَسَاجِدِهَا، إلَّا فِي مَكَّةَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَمَجْنُونٌ، إنَّمَا التَّلْبِيَةُ إذَا بَرَزْت. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُلَبِّي فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ إنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ، وَجَاءَتْ الْكَرَاهَةُ لِرَفْعِ الصَّوْتِ فِيهَا عَامًّا إلَّا الْإِمَامَ خَاصَّةً، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهَا عَلَى عُمُومِهَا. فَأَمَّا مَكَّةُ فَتُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ النُّسُكِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَسَائِرُ مَسَاجِدِ الْحَرَمِ، كَمَسْجِدِ مِنًى، وَفِي عَرَفَاتٍ أَيْضًا. [فَصْل لَا يُلَبِّي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّة] (2311) فَصْلٌ: وَلَا يُلَبِّي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، إلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَالْأَذَانِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ. [فَصْل لَا بَأْس بِالتَّلْبِيَةِ فِي طَوَاف الْقُدُوم] (2312) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالتَّلْبِيَةِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُد، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا يُقْتَدَى بِهِ يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ إلَّا عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَا يُلَبِّي. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِي؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرٍ يَخُصُّهُ، فَكَانَ أَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّهُ زَمَنُ التَّلْبِيَةِ، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّلْبِيَةِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ فِي الطَّوَافِ. وَيُكْرَهُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِئَلَّا يَشْغَلَ الطَّائِفِينَ عَنْ طَوَافِهِمْ وَأَذْكَارِهِمْ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ، سَأَلَ اللَّهَ مَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ، وَاسْتَعَاذَهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ» . وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ، أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ، فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] . لَا أُذْكَرُ إلَّا ذُكِرْت مَعِي. وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، شُرِعَ فِيهَا ذِكْرُ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ. [فَصْل لَا بَأْس أَنْ يُلَبِّيَ الْحَلَّال] (2313) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُلَبِّيَ الْحَلَالُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذِكْرٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ، فَلَمْ يُكْرَهْ لِغَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. [مَسْأَلَة الْمَرْأَة يُسْتَحَبّ لَهَا أَنَّ تَغْتَسِل عِنْد الْإِحْرَام] (2314) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛) (لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَهِيَ نُفَسَاءُ أَنْ تَغْتَسِلَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاغْتِسَالَ مَشْرُوعٌ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، كَمَا يُشْرَعُ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ آكَدُ؛ لِوُرُودِ الْخَبَرِ فِيهِمَا. قَالَ جَابِرٌ: حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ، إذَا أَتَيَا عَلَى الْوَقْتِ، يَغْتَسِلَانِ، وَيُحْرِمَانِ، وَيَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ لِإِهْلَالِ الْحَجِّ، وَهِيَ حَائِضٌ. وَإِنْ رَجَتْ الْحَائِضُ الطُّهْرَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِيقَاتِ، أَوْ النُّفَسَاءُ، اُسْتُحِبَّ لَهَا تَأْخِيرُ الِاغْتِسَالِ حَتَّى تَطْهُرَ؛ لِيَكُونَ أَكْمَلَ لَهَا، فَإِنْ خَشِيت الرَّحِيلَ قَبْلَهُ، اغْتَسَلَتْ، وَأَحْرَمَتْ. [مَسْأَلَة مَنْ أُحَرِّم وَعَلَيْهِ قَمِيص خَلَعَهُ وَلَمْ يَشُقّهُ] (2315) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ خَلَعَهُ، وَلَمْ يَشُقَّهُ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ، أَنَّهُ يَشُقُّ ثِيَابَهُ؛ لِئَلَّا يَتَغَطَّى رَأْسُهُ حِينَ يَنْزِعُ الْقَمِيصَ مِنْهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ، بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً، ثُمَّ سَكَتَ، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك فَاغْسِلْهُ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. قَالَ عَطَاءٌ: كُنَّا قَبْلَ أَنْ نَسْمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ نَقُولُ فِي مَنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ، فَلْيَخْرِقْهَا عَنْهُ. فَلَمَّا بَلَغَنَا هَذَا الْحَدِيثُ، أَخَذْنَا بِهِ، وَتَرَكْنَا مَا كُنَّا نُفْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ فِي شَقِّ الثَّوْبِ إضَاعَةَ مَالِيَّتِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. (2316) فَصْلٌ: وَإِذَا نَزَعَ فِي الْحَالِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُر الرَّجُلَ بِفِدْيَةٍ. وَإِنْ اسْتَدَامَ اللُّبْسَ بَعْدَ إمْكَانِ نَزْعِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ مُحَرَّمٌ كَابْتِدَائِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الرَّجُلَ بِنَزْعِ جُبَّتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِفِدْيَةٍ لِمَا مَضَى فِيمَا نَرَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَجَرَى مَجْرَى النَّاسِي. [مَسْأَلَة أَشْهُر الْحَجّ] (2317) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْهُرُ الْحَجِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] . وَلَا يُمْكِنُ فَرْضُهُ بَعْدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لَيْسَ مِنْ أَشْهُرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ رُكْنُ الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، مِنْهَا: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالنَّحْرُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَالرُّجُوعُ إلَى مِنًى، وَمَا بَعْدَهُ لَيْسَ مِنْ أَشْهُرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِإِحْرَامِهِ، وَلَا لِأَرْكَانِهِ، فَهُوَ كَالْمُحَرَّمِ، وَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنْ شَيْئَيْنِ، وَبَعْضِ الثَّالِثِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: عِشْرُونَ جَمْعُ عَشْرٍ، وَإِنَّمَا هِيَ عُشْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَالْقُرْءُ الطُّهْرُ عِنْدَهُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ احْتَسَبَتْ بِبَقِيَّتِهِ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: ثَلَاثٌ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ. وَقَوْلِهِ: {فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] . أَيْ فِي أَكْثَرِهِنَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 [بَاب مَا يَتَوَقَّى الْمُحْرِم وَمَا أُبِيحَ لَهُ] [مَسْأَلَةٌ يَتَوَقَّى فِي إحْرَامِهِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ] ُ (2318) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِم: (وَيَتَوَقَّى فِي إحْرَامِهِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ الرَّفَثِ وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقِ، وَهُوَ السِّبَابُ، وَالْجِدَالِ، وَهُوَ الْمِرَاءُ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ (مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ) قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . وَهَذَا صِيغَتُهُ صِيغَةُ النَّفْيِ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . وَالرَّفَثُ: هُوَ الْجِمَاعُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الرَّفَثُ: غَشَيَانُ النِّسَاءِ، وَالتَّقْبِيلُ، وَالْغَمْزُ، وَأَنْ يَعْرِضَ لَهَا بِالْفُحْشِ مِنْ الْكَلَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ لَغَا الْكَلَامِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْعَجَّاجِ: عَنْ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَقِيلَ: الرَّفَثُ؛ هُوَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ ذِكْرِ الْجِمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَنْشَدَ بَيْتًا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ الْجِمَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ. وَفِي لَفْظٍ: مَا قِيلَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ النِّسَاءِ. وَكُلُّ مَا فُسِّرَ بِهِ الرَّفَثُ يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَجْتَنِبَهُ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْجِمَاعِ أَظْهَرُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْأَئِمَّةِ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فَأَمَّا الْفُسُوقُ: فَهُوَ السِّبَابُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْفُسُوقُ الْمَعَاصِي. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْجِدَالُ الْمِرَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تُمَارِيَ صَاحِبَك حَتَّى تُغْضِبَهُ. وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . أَيْ: لَا مُجَادَلَةَ، وَلَا شَكَّ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبّ لِلْمُحْرِمِ قِلَّة الْكَلَام إلَّا فِيمَا يَنْفَع] (2319) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ قِلَّةُ الْكَلَامِ، إلَّا فِيمَا يَنْفَعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، صِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ اللَّغْوِ، وَالْوُقُوعِ فِي الْكَذِبِ، وَمَا لَا يَحِلُّ، فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ «حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ، تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِيَ فِي (الْمُسْنَدِ) ، عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أُصُولُ السُّنَنِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ، هَذَا أَحَدُهَا. وَهَذَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا؛ لِأَنَّهُ حَالُ عِبَادَةٍ وَاسْتِشْعَارٍ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُشْبِهُ الِاعْتِكَافَ، وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنَّ شُرَيْحًا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَانَ إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ. فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَعْلِيمٍ لِجَاهِلٍ، أَوْ يَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ، أَوْ يَسْكُتَ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ، أَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا لَا يَقْبُحُ، فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَا يُكْثِرُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: كَأَنَّ رَاكِبَهَا غُصْنٌ بِمِرْوَحَةٍ ... إذَا تَدَلَّتْ بِهِ أَوْ شَارِبٌ ثَمِلُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَالْفَضِيلَةُ الْأَوَّلُ. [مَسْأَلَة لَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِم وَلَا يَقْتُل الْقَمْل وَيْحك رَأْسَهُ وَجَسَده حَكَّا رَفِيقًا] (2320) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِمُ، وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَ، وَيَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي إبَاحَةِ قَتْلِ الْقَمْلِ؛ فَعَنْهُ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْثَرِ الْهَوَامِّ أَذًى، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ، كَالْبَرَاغِيثِ وَسَائِرِ مَا يُؤْذِي، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . يَدُلُّ بِمَعْنَاهُ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِ كُلِّ مَا يُؤْذِي بَنِي آدَمَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَعَنْهُ أَنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَفَّهُ بِإِزَالَتِهِ عَنْهُ، فَحُرِّمَ كَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: احْلِقْ رَأْسَك» . فَلَوْ كَانَ قَتْلُ الْقَمْلِ أَوْ إزَالَتُهُ مُبَاحًا، لَمْ يَكُنْ كَعْبٌ لِيَتْرُكهُ حَتَّى يَصِيرَ كَذَلِكَ، أَوْ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِإِزَالَتِهِ خَاصَّةً. وَالصِّئْبَانُ كَالْقَمْلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَتْلِ الْقَمْلِ، أَوْ إزَالَتِهِ بِإِلْقَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ قَتْلِهِ بِالزِّئْبَقِ، فَإِنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَحْرُمْ لِحُرْمَتِهِ، لَكِنْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرَفُّهِ، فَعَمَّ الْمَنْعُ إزَالَتَهُ كَيْفَمَا كَانَتْ. وَلَا يَتَفَلَّى، فَإِنَّ التَّفَلِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ الْقَمْلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَيَجُوزُ لَهُ حَكُّ رَأْسِهِ، وَيَرْفُقُ فِي الْحَكِّ، كَيْ لَا يَقْطَعَ شَعْرًا، أَوْ يَقْتُلَ قَمْلَةً، فَإِنْ حَكَّ فَرَأَى فِي يَده شَعْرًا، أَحْبَبْنَا أَنْ يَفْدِيَهُ احْتِيَاطًا، وَلَا يَجِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَلَعَهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْقَمْلِ الَّذِي فِي شَعْرِهِ، فَأَمَّا مَا أَلْقَاهُ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. (2321) فَصْلٌ: فَإِنْ خَالَفَ وَتَفَلَّى، أَوْ قَتَلَ قَمْلًا، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ، قَدْ أَذْهَبَ قَمْلًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ، وَلِأَنَّ الْقَمْلَ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْبَعُوضَ وَالْبَرَاغِيثَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَلَا هُوَ مَأْكُولٌ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هِيَ أَهْوَنُ مَقْتُولٍ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ مُحْرِمٍ أَلْقَى قَمْلَةً، ثُمَّ طَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا. فَقَالَ: تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا تُبْتَغَى. وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً، قَالَ: يُطْعِمُ شَيْئًا. فَعَلَى هَذَا أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَاهُ، سَوَاءٌ قَتَلَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَمْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ التَّقْدِيرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّقْرِيبِ لِأَقَلِّ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ بِرِفْقٍ] فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ بِرِفْقٍ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُهُ، وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ، وَجَابِرٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْطِسَ فِي الْمَاءِ، وَيُغَيِّبَ فِيهِ رَأْسَهُ. وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ سِتْرٌ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسِتْرٍ، وَلِهَذَا لَا يَقُومُ مَقَامَ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رُبَّمَا قَالَ لِي عُمَرُ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ بِالْجُحْفَةِ: تَعَالَ أُبَاقِيك أَيُّنَا أَطْوَلُ نَفَسًا فِي الْمَاءِ. وَقَالَ: رُبَّمَا قَامَسْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسِتْرٍ مُعْتَادٍ، أَشْبَهَ صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، أَوْ وَضْعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَأَتَيْته وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَرْسَلَنِي إلَيْك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُك: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: صُبَّ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّك رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ. [فَصْلٌ يَكْرَه لِلْمُحْرِمِ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمَيْ وَنَحْوهمَا] (2323) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ لَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَنَحْوِهِمَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الشُّعْثِ، وَالتَّعَرُّضِ لِقَلْعِ الشَّعْرِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. فَإِنْ فَعَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْخِطْمِيَّ تُسْتَلَذُّ رَائِحَتُهُ، وَتُزِيلُ الشُّعْثَ، وَتَقْتُلُ الْهَوَامَّ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالْوَرْسِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَّهُ بَعِيرُهُ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَرَ بِغَسْلِهِ بِالسِّدْرِ، مَعَ إثْبَاتِ حُكْمِ الْإِحْرَامِ فِي حَقِّهِ، وَالْخِطْمِيُّ كَالسِّدْرِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَلَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالتُّرَابِ. وَقَوْلُهُمْ: تُسْتَلَذُّ رَائِحَتُهُ. مَمْنُوعٌ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِالْفَاكِهَةِ وَبَعْضِ التُّرَابِ. وَإِزَالَةُ الشُّعْثِ تَحْصُلُ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَتْلُ الْهَوَامِّ لَا يُعْلَمُ حُصُولُهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَرْسِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَلِذَلِكَ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الْغَسْلِ، أَوْ فِي ثَوْبٍ لَمُنِعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْقُمَّص وَالْعَمَائِمِ وَالسَّرَاوِيلَات وَالْخِفَافِ وَالْبَرَانِسِ] (2324) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ الْقُمَّصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْقُمَّصِ، وَالْعَمَائِمِ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ، وَالْخِفَافِ، وَالْبَرَانِسِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَلْبَسُ الْقُمَّصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أَحَدًا لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. نَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَلْحَقَ بِهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مَا فِي مَعْنَاهَا، مِثْلَ الْجُبَّةِ، وَالدُّرَّاعَةِ، وَالثِّيَابِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ سَتْرُ بَدَنِهِ بِمَا عُمِلَ عَلَى قَدْرِهِ، وَلَا سَتْرُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِمَا عُمِلَ عَلَى قَدْرِهِ، كَالْقَمِيصِ لِلْبَدَنِ، وَالسَّرَاوِيلِ لِبَعْضِ الْبَدَنِ، وَالْقُفَّازَيْنِ لِلْيَدَيْنِ، وَالْخُفَّيْنِ لِلرِّجْلَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِبَاسُ شَيْءٍ مِنْ الْمَخِيطِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذُّكُورُ دُونَ النِّسَاءِ. [مَسْأَلَة لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِم إزَارًا] (2325) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا، لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ، لَبِسَ الْخُفَّيْنِ، وَلَا يَقْطَعْهُمَا، وَلَا فِدَاءَ عَلَيْهِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ، إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، وَالْخُفَّيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى جَابِرٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي لُبْسِهِمَا عِنْدَ ذَلِكَ، فِي قَوْلِ مَنْ سَمَّيْنَا، إلَّا مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالَا: عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ الْفِدْيَةُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَلِأَنَّ مَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ، وَجَبَتْ مَعَ عَدَمِهِ، كَالْقَمِيصِ. وَلَنَا، خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِبَاحَةِ، ظَاهِرٌ فِي إسْقَاطِ الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِلُبْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَةً، وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ لُبْسُهُ بِحَالَةِ عَدَمِ غَيْرِهِ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ، كَالْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ. فَأَمَّا الْقَمِيصُ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ، وَيَسْتَتِرَ، بِخِلَافِ السَّرَاوِيلِ. [فَصْلٌ إذَا لَبِسَ الْمُحْرِم الْخُفَّيْنِ] (2326) فَصْلٌ: وَإِذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ، لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعُهُمَا، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَقْطَعُهُمَا، حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، افْتَدَى. وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِزِيَادَةٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَجَبُ مِنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُخَالِفُ سُنَّةً تَبْلُغُهُ، وَقَلَّتْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغْهُ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ: (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) . مَعَ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَطْعُ الْخُفَّيْنِ فَسَادٌ، يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا. مَعَ مُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ مَلْبُوسٌ أُبِيحَ لِعَدَمِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ السَّرَاوِيلَ، وَقَطْعُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الْحَظْرِ، فَإِنَّ لُبْسَ الْمَقْطُوعِ مُحَرَّمٌ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ، كَلُبْسِ الصَّحِيحِ، وَفِيهِ إتْلَافُ مَالِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَتِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: (وَلْيَقْطَعْهُمَا) مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ. كَذَلِكَ رَوَيْنَاهُ فِي (أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْرَانَ) ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، أَنَّ نَافِعًا قَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ: وَلْيَقْطَعْ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ، وَلَا يَقْطَعَهُمَا» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِقَطْعِهِمَا، قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَلَمَّا أَخْبَرْته بِهَذَا رَجَعَ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، فِي (شَرْحِهِ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، «أَنَّهُ طَافَ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَالْخُفَّانِ مَعَ الْقَبَاءِ، فَقَالَ: قَدْ لَبِسْتُهُمَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك. يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِمَا مَنْسُوخًا؛ فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ: اُنْظُرُوا أَيَّهُمَا كَانَ قَبْلُ؛ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ. حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَبْلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، قَالَ: «نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» . فَيَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ إطْلَاقِ لُبْسِهِمَا لُبْسُهُمَا عَلَى حَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ. وَالْأَوْلَى قَطْعُهُمَا، عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، وَأَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ. [فَصْلٌ لَبِسَ الْمُحْرِم الْمَقْطُوع مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ] (2327) فَصْلٌ: فَإِنْ لَبِسَ الْمَقْطُوعَ، مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَيْسَ لَهُ لُبْسُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لُبْسُهُ مُحَرَّمًا، وَفِيهِ فِدْيَةٌ، لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَطْعِهِمَا، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ فِي إبَاحَةِ لُبْسِهِمَا عَدَمَ النَّعْلَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِمَا، وَلِأَنَّهُ مَخِيطٌ لِعُضْوٍ عَلَى قَدْرِهِ، فَوَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ، كَالْقُفَّازَيْنِ. [فَصْلٌ لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِم النَّعْلَ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ] (2328) فَصْلٌ: فَأَمَّا اللَّالَكَةُ، وَالْجُمْجُمُ، وَنَحْوُهُمَا، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ. وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ النَّعْلِ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ. وَقَدْ قَالَ فِي رَأْسِ الْخُفِّ الصَّغِيرِ: لَا يَلْبَسُهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْقَدَمَ، وَقَدْ عُمِلَ لَهَا عَلَى قَدْرِهَا، فَأَشْبَهَ الْخُفَّ فَإِنْ عَدِمَ النَّعْلَيْنِ، كَانَ لَهُ لُبْسُ ذَلِكَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ لُبْسَ الْخُفِّ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا دُونَ الْخُفِّ أَوْلَى. [فَصْلٌ النَّعْل يُبَاح لَبِسَهَا لِلْمُحْرِمِ كَيْفَمَا كَانَتْ] (2329) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّعْلُ، فَيُبَاحُ لُبْسُهَا كَيْفَمَا كَانَتْ، وَلَا يَجِبُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهَا وَرَدَتْ مُطْلَقًا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقَيْدِ فِي النَّعْلِ: يَفْتَدِي؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ النِّعَالَ هَكَذَا. وَقَالَ: إذَا أَحْرَمْت فَاقْطَعْ الْمَحْمَلَ الَّذِي عَلَى النِّعَالِ، وَالْعَقِبَ الَّذِي يُجْعَلُ لِلنَّعْلِ، فَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: فِيهِ دَمٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي (الْإِرْشَادِ) : فِي الْقَيْدِ وَالْعَقِبِ الْفِدْيَةُ، وَالْقَيْدُ: هُوَ السَّيْرُ الْمُعْتَرِضُ عَلَى الزِّمَامِ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَهُمَا إذَا كَانَا عَرِيضَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ قَطْعُ الْخُفَّيْنِ السَّاتِرَيْنِ لِلْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ فَقَطْعُ سَيْرِ النَّعْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي النَّعْلِ، فَلَمْ تَجِبْ إزَالَتُهُ، كَسَائِرِ سُيُورِهَا، وَلِأَنَّ قَطْعَ الْقَيْدِ وَالْعَقِبِ رُبَّمَا تَعَذَّرَ مَعَهُ الْمَشْيُ فِي النَّعْلَيْنِ؛ لِسُقُوطِهِمَا بِزَوَالِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِبْ، كَقَطْعِ الْقُبَالِ. [فَصْلٌ وَجَدَ الْمُحْرِم نَعْلًا لَمْ يُمَكِّنهُ لَبِسَهَا] (2330) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ نَعْلًا لَمْ يُمْكِنْهُ لُبْسُهَا، فَلَهُ لُبْسُ الْخُفِّ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْمَعْدُومِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّعْلُ لِغَيْرِهِ، أَوْ صَغِيرَةً، وَكَالْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ، وَالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ عِتْقُهَا، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ لُبْسِهَا قَامَ مَقَامَ الْعَدَمِ، فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْخُفِّ، فَكَذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الْفِدْيَةِ. وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةِ؛ لِقَوْلِهِ: (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ) . وَهَذَا وَاجِدٌ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِد عَلَيْهِ الرِّدَاء وَلَا غَيْره إلَّا الْإِزَار وَالْهِمْيَان] (2331) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الرِّدَاءَ، وَلَا غَيْرَهُ، إلَّا الْإِزَارَ وَالْهِمْيَانَ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 لِذَلِكَ زِرًّا وَعُرْوَةً، وَلَا يُخْلِلْهُ بِشَوْكَةٍ وَلَا إبْرَةٍ وَلَا خَيْطٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَخِيطِ. رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ وَأَنَا مَعَهُ، أُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْ ثَوْبِي مِنْ وَرَائِي، ثُمَّ أَعْقِدُهُ؟ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَعْقِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَعَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ، زِرَّ عَلَيَّ طَيْلَسَانِي. وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ لَهُ: كُنْت تَكْرَهُ هَذَا. قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَفْتَدِيَ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَّشِحَ بِالْقَمِيصِ، وَيَرْتَدِيَ بِهِ، وَيَرْتَدِيَ بِرِدَاءِ مُوَصَّلٍ، وَلَا يَعْقِدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْمَخِيطُ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ. [فَصْلٌ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِد إزَاره عَلَيْهِ] (2332) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَيُبَاحُ، كَاللِّبَاسِ لِلْمَرْأَةِ. وَإِنْ شَدَّ وَسَطَهُ بِالْمِنْدِيلِ، أَوْ بِحَبْلٍ، أَوْ سَرَاوِيلَ، جَازَ إذَا لَمْ يَعْقِدْهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مُحْرِمٍ حَزَمَ عِمَامَةً عَلَى وَسَطِهِ: لَا تَعْقِدْهَا. وَيُدْخِلُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ. قَالَ طَاوُسٌ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَدْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ، فَأَدْخَلَهَا هَكَذَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُقَّ أَسْفَلَ إزَارِهِ نِصْفَيْنِ، وَيَعْقِدَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سَاقٍ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ. وَلَا يَلْبَسُ الرَّانَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْمُولٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ الْمَلْبُوسِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْخُفَّ. [مَسْأَلَة لِبْسُ الْهِمْيَانِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ] (2333) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ، وَيُدْخِلُ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَلَا يَعْقِدُهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لُبْسَ الْهِمْيَانِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْقَاسِمِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ. وَمَتَى أَمْكَنَهُ أَنْ يُدْخِلَ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَيَثْبُتَ بِذَلِكَ، لَمْ يَعْقِدْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى عَقْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِعَقْدِهِ عَقَدَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُرَخِّصُونَ فِي عَقْدِ الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا يُرَخِّصُونَ فِي عَقْدِ غَيْرِهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي (الشَّرْحِ) ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُحْرِمِ فِي الْهِمْيَانِ أَنْ يَرْبِطَهُ، إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ.» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْثِقُوا عَلَيْكُمْ نَفَقَاتِكُمْ. وَرَخَّصَ فِي الْخَاتَمِ وَالْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ يَشُدُّ الْهِمْيَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 يَسْتَوْثِقُ مِنْ نَفَقَتِهِ. وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى شَدِّهِ، فَجَازَ، كَعِقْدِ الْإِزَارِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْهِمْيَانِ نَفَقَةٌ، لَمْ يَجُزْ عَقْدُهُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ لِلْمُحْرِمِ، وَكَرِهَهُ نَافِعٌ مَوْلَاهُ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ نَفَقَةٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِيمَا فِيهِ النَّفَقَةُ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَلْبَسُ الْمِنْطَقَةَ مِنْ وَجَعِ الظَّهْرِ، أَوْ حَاجَةٍ إلَيْهَا. قَالَ: يَفْتَدِي. فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا تَكُونُ مِثْلَ الْهِمْيَانِ؟ قَالَ: لَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمِنْطَقَةَ لِلْمُحْرِمِ، وَأَنَّهُ أَبَاحَ شَدَّ الْهِمْيَانِ، إذَا كَانَتْ فِيهِ النَّفَقَةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِمْيَانَ تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ، وَالْمِنْطَقَةُ لَا نَفَقَةَ فِيهَا، فَأُبِيحَ شَدُّ مَا فِيهِ النَّفَقَةُ، لِلْحَاجَةِ إلَى حِفْظِهَا، وَلَمْ يُبَحْ شَدُّ مَا سِوَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمَا نَفَقَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَفَقَةٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ: أُوثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك. فَرَخَّصَتْ فِيهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا النَّفَقَةُ. وَلَمْ يُبِحْ أَحْمَدُ شَدَّ الْمِنْطَقَةِ لِوَجَعِ الظَّهْرِ، إلَّا أَنْ يَفْتَدِيَ؛ لِأَنَّ الْمِنْطَقَةَ لَيْسَتْ مُعَدَّةً لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ فِي الْإِحْرَامِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، أَشْبَهَ مَنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِإِزَالَةِ أَذَى الْقَمْلِ، أَوْ تَطَيَّبَ لِأَجْلِ الْمَرَضِ. [مَسْأَلَة لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْتَجِم وَلَا يَقْطَع شَعْرًا] (2334) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ، وَلَا يَقْطَعَ شَعْرًا) أَمَّا الْحِجَامَةُ إذَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا فَمُبَاحَةٌ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ تَدَاوٍ بِإِخْرَاجِ دَمٍ، فَأَشْبَهَ الْفَصْدَ، وَبَطَّ الْجُرْحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْتَجِمُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَرَى فِي الْحِجَامَةِ دَمًا. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَةً، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَرَفَّهُ بِذَلِكَ، فَأَشْبَهَ شُرْبَ الْأَدْوِيَةِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَطْعِ الْعُضْوِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْخِتَانِ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ. فَإِنْ احْتَاجَ فِي الْحِجَامَةِ إلَى قَطْعِ شَعْرٍ، فَلَهُ قَطْعُهُ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُحَيْنَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَسَطَ رَأْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ قَطْعُ الشَّعْرِ. وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ حَلْقُ الشَّعْرِ لِإِزَالَةِ أَذَى الْقَمْلِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] . الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ حَلْقُ شَعْرٍ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ غَيْرِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ حَلَقَهُ لِإِزَالَةِ قَمْلِهِ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَ عُضْوًا عَلَيْهِ شَعْرٌ، أَوْ جِلْدَةً عَلَيْهَا شَعْرٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ زَالَ تَبَعًا لِمَا لَا فِدْيَةَ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ إذَا احْتَاجَ إلَى تَقَلُّدِ السَّيْفِ فَلَهُ ذَلِكَ] (2335) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا احْتَاجَ إلَى تَقَلُّدِ السَّيْفِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَأَبَاحَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ تَقَلُّدَهُ. وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: «لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا إلَّا بِجُلْبَانِ السِّلَاحِ» . - الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ - وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إبَاحَةِ حَمْلِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَأْمَنُونَ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ، وَيَخْفِرُوا الذِّمَّةَ، وَاشْتَرَطُوا حَمْلَ السِّلَاحِ فِي قِرَابِهِ. فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا، إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لَا يَحْمِلُ الْمُحْرِمُ السِّلَاحَ فِي الْحَرَمِ. وَالْقِيَاسُ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَلْبُوسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَمَلَ قِرْبَةً فِي عُنُقِهِ، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمُحْرِمِ يُلْقِي جِرَابَهُ فِي رَقَبَتِهِ، كَهَيْئَةِ الْقِرْبَةِ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. [مَسْأَلَة إبَاحَةُ لُبْسِ الْقَبَاءِ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ] (2336) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِنْ طَرَحَ عَلَى كَتِفَيْهِ الْقَبَاءَ وَالدُّوَاجَ، فَلَا يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ) ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ إبَاحَةُ لُبْسِ الْقَبَاءِ، مَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: إذَا أَدْخَلَ كَتِفَيْهِ فِي الْقَبَاءِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَخِيطٌ لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ عَلَى الْعَادَةِ فِي لُبْسِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ إذَا كَانَ عَامِدًا، كَالْقَمِيصِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْأَقْبِيَةِ» . وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فِي مَسْأَلَةِ إنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ. وَلِأَنَّ الْقَبَاءَ لَا يُحِيطُ بِالْبَدَنِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِوَضْعِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ، إذَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، كَالْقَمِيصِ يَتَّشِحُ بِهِ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالرِّدَاءِ الْمُوَصَّلِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى لُبْسِهِ مَعَ إدْخَالِ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ. [مَسْأَلَة كَرَاهَة الِاسْتِظْلَالَ فِي الْمَحْمِلِ لِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ] (2337) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُظَلِّلُ عَلَى رَأْسِهِ فِي الْمَحْمِلِ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) كَرِهَ أَحْمَدُ الِاسْتِظْلَالَ فِي الْمَحْمِلِ خَاصَّةً، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، كَالْهَوْدَجِ وَالْعَمَّارِيَّة وَالْكَبِيسَة وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعِيرِ. وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لَا يَسْتَظِلُّ أَلْبَتَّةَ. وَرَخَّصَ فِيهِ رَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَطَاءٍ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ الْحُصَيْنِ، قَالَتْ: «حَجَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 فَرَأَيْت أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّظَلُّلُ فِي الْبَيْتِ وَالْخِبَاءِ، فَجَازَ فِي حَالِ الرُّكُوبِ، كَالْحَلَالِ، وَلِأَنَّ مَا حَلَّ لِلْحَلَالِ حَلَّ لِلْمُحْرِمِ، إلَّا مَا قَامَ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بُقُولِ ابْنِ عُمَرَ، رَوَى عَطَاءٌ قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ عَلَى رَحْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عُودًا يَسْتُرُهُ مِنْ الشَّمْسِ، فَنَهَاهُ. وَعَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ، قَدْ رَفَعَ ثَوْبًا عَلَى عُودٍ يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ الشَّمْسِ، فَقَالَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ. أَيْ اُبْرُزْ لِلشَّمْسِ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ سَتَرَ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّرَفُّهَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَطَّاهُ. وَالْحَدِيثُ ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَمْ يَكْرَهْ أَنْ يَسْتَتِرَ بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ لِلِاسْتِدَامَةِ، وَالْهَوْدَجُ بِخِلَافِهِ، وَالْخَيْمَةُ وَالْبَيْتُ يُرَادَانِ لِجَمْعِ الرَّحْلِ وَحِفْظِهِ، لَا لِلتَّرَفُّهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ حَرَامًا، وَلَا مُوجِبًا لِفِدْيَةٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَسْتَظِلُّ عَلَى الْمَحْمِلِ؟ قَالَ: لَا. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ فَعَلَ يُهْرِيقُ دَمًا؟ قَالَ: أَمَّا الدَّمُ فَلَا. قِيلَ: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: عَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ: نَعَمْ، أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَغْلَطُونَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَتَرَ رَأْسَهُ بِمَا يُسْتَدَامُ وَيُلَازِمُهُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِشَيْءٍ يُلَاقِيهِ. وَيُرْوَى عَنْ الرِّيَاشِيِّ قَالَ: رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَذَّلِ فِي الْمَوْقِفِ، فِي يَوْمٍ حُرّ شَدِيد، وَقَدْ ضُحَى لِلشَّمْسِ، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَلَوْ أَخَذْت بِالتَّوَسُّعَةِ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ: ضَحَّيْت لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا فَوَا أَسَفَا إنْ كَانَ سَعْيُك بَاطِلًا ... وَيَا حَسْرَتَا إنْ كَانَ حَجُّك نَاقِصَا " [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالسَّقْفِ وَالْحَائِطِ وَالشَّجَرَةِ وَالْخِبَاءِ] (2338) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالسَّقْفِ وَالْحَائِطِ وَالشَّجَرَةِ وَالْخِبَاءِ، وَإِنْ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهَا ثَوْبًا يَسْتَظِلُّ بِهِ، عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ صَحَّ بِهِ النَّقْلُ، فَإِنَّ جَابِرًا قَالَ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ، فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَأَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا. وَلَا بَأْسَ أَيْضًا أَنْ يَنْصِبَ حِيَالَهُ ثَوْبًا يَقِيهِ الشَّمْسَ وَالْبَرْدَ، إمَّا أَنْ يُمْسِكَهُ إنْسَانٌ، أَوْ يَرْفَعَهُ عَلَى عُودٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ، «أَنَّ بِلَالًا أَوْ أُسَامَةَ كَانَ رَافِعًا ثَوْبًا يَسْتُرُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْحَرِّ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، كَالِاسْتِظْلَالِ بِحَائِطٍ. [مَسْأَلَة تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَاصْطِيَادِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ] (2339) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلَا يَصِيدُهُ، وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، حَلَالًا وَلَا حَرَامًا) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَاصْطِيَادِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إلَى الصَّيْدِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «لَمَّا صَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» . وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ: «فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْته» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَسُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ: (هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟) يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، فَحُرِّمَ، كَنَصْبِهِ الْأُحْبُولَةَ. [فَصْلٌ لَا يَحِلّ لِلْمُحْرِمِ الْإِعَانَة عَلَى الصَّيْد] (2340) فَصْلٌ: وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى الصَّيْدِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «ثُمَّ رَكِبْت، وَنَسِيت السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقُلْت لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، قَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاسْتَعَنْتهمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْإِعَانَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مُحَرَّمٍ، فَحُرِّمَ، كَالْإِعَانَةِ عَلَى قَتْلِ الْآدَمِيِّ. [فَصْلٌ دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى الصَّيْدِ فَأَتْلَفَهُ] (2341) فَصْلٌ: وَيَضْمَنُ الصَّيْدَ بِالدَّلَالَةِ، فَإِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى الصَّيْدِ فَأَتْلَفَهُ، فَالْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَبَكْرٍ الْمُزَنِيّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ، فَلَا يَضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ، كَالْآدَمِيِّ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إتْلَافِ الصَّيْدِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ نَصَبَ أُحْبُولَةً، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 [فَصْلٌ دَلَّ الْمُحْرِم مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْد فَقَتَلَهُ] (2342) فَصْلٌ: فَإِنْ دَلَّ مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْدِ، فَقَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ يَسْتَقِلُّ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا. فَكَذَلِكَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْمُتْلَفِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَا سَبَقَ، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَدْلُولِ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا لَا يَرَاهُ إلَّا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ، ثُمَّ دَلَّ الْآخَرُ آخَرَ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى عَشَرَةٍ، فَقَتَلَهُ الْعَاشِرُ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَهُ الْأَوَّلُ، لَمْ يَضْمَنْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِي ضَمَانِهِ أَحَدٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَدْلُولُ رَأَى الصَّيْدَ قَبْلَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ وَالْمُشِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي تَلَفِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ مِنْ الْمُحْرِمِ حَدَثٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الصَّيْدِ، مِنْ ضَحِكٍ، أَوْ اسْتِشْرَافٍ إلَى الصَّيْدِ، فَفَطِنَ لَهُ غَيْرُهُ فَصَادَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ بِدَلِيلِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَّةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ، وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، إذْ بَصُرْت بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْت، فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِي يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ، إذْ نَظَرْت، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَلَمَّا كُنَّا بِالصِّفَاحِ فَإِذَا هُمْ يَتَرَاءَوْنَ. فَقُلْت: أَيَّ شَيْءٍ تَنْظُرُونَ؟ فَلَمْ يُخْبِرُونِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْل أَعَارَ الْمُحْرِم قَاتَلَ الصَّيْد سِلَاحًا] (2343) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعَارَ قَاتِلَ الصَّيْدِ سِلَاحًا، فَقَتَلَهُ بِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّهُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَتِمُّ قَتْلُهُ إلَّا بِهِ، أَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، مِثْلَ أَنْ يُعِيرَهُ رُمْحًا وَمَعَهُ رُمْحٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ بِمُنَاوَلَتِهِ سَوْطَهُ أَوْ رُمْحَهُ، أَوْ أَمَرَهُ بِاصْطِيَادِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» . وَكَذَلِكَ إنْ أَعَارَهُ سِكِّينًا، فَذَبَحَهُ بِهَا. فَإِنْ أَعَارَهُ آلَةً لِيَسْتَعْمِلهَا فِي غَيْرِ الصَّيْدِ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِي الصَّيْدِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَحِكَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الصَّيْدِ، فَفَطِنَ لَهُ إنْسَانٌ، فَصَادَهُ. [فَصْلٌ دَلَّ الْحَلَّال مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْد فَقَتَلَهُ] (2344) فَصْلٌ: وَإِنْ دَلَّ الْحَلَالُ مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْدِ، فَقَتَلَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِالْإِتْلَافِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 فَبِالدَّلَالَةِ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ، فَيُشَارِكَهُ فِي الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. [فَصْلٌ صَادَ الْمُحْرِم صَيْدًا لَمْ يَمْلِكهُ] (2345) فَصْلٌ: وَإِنْ صَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ حَتَّى حَلَّ، لَزِمَهُ إرْسَالُهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَبَحَهُ، فَإِنْ فَعَلَ، أَوْ تَلِفَ الصَّيْدُ، ضَمِنَهُ، وَحَرُمَ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ ضَمِنَهُ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ حَالَ إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ مُنِعَ مِنْهَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، فَأَشْبَهَتْ مَا لَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ لَهُ أَكْلَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانَهُ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَبْحِ الصَّيْدِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَادَهُ بَعْدَ الْحِلِّ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَاَلَّذِي صَادَهُ بَعْدَ الْحِلِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ. [مَسْأَلَة تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا صَادَهُ أَوْ ذَبَحَهُ] (2346) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَأْكُلُهُ إذَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِهِ) لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا صَادَهُ أَوْ ذَبَحَهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . وَإِنْ صَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ، وَكَانَ مِنْ الْمُحْرِمِ إعَانَةٌ فِيهِ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ إشَارَةٌ إلَيْهِ، لَمْ يُبَحْ أَيْضًا. وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ، لَمْ يُبَحْ لَهُ أَيْضًا أَكْلُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ وَالْإِعَانَةِ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مُذَكًّى، لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ وَلَا فِي سَبَبِهِ صُنْعٌ مِنْهُ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُصَدْ لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حَالٍ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ «أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَ حِمَارٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَجُزَ حِمَارٍ.» وَفِي رِوَايَةٍ: شِقَّ حِمَارٍ. رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ خَلِيفَةَ عُثْمَانَ عَلَى الطَّائِفِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَصَنَعَ فِيهِ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وَلَحْمِ الْوَحْشِ، فَبَعَثَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ قَوْمًا حَلَالًا، فَأَنَا حُرُمٌ. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ، أَتَعْلَمُونَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى إلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَلِأَنَّهُ لَحْمُ صَيْدٍ فَحَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، كَمَا لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ،؛ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَبَيَانُ الْمُخْتَلِفِ مِنْهَا، فَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَكْلِ مِمَّا أُهْدِيَ إلَيْهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ ظَنِّهِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ، لِمَا قَدَّمْت مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَكْلِ الْحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ. وَعَنْ طَلْحَةَ، «أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ، وَهُوَ رَاقِدٌ، فَأَكَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَتَوَرَّعَ بَعْضٌ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي (الْمُوَطَّأِ) ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، إذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ، فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَأَحَادِيثُهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرٌ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِمْ، فَتَعَيَّنَ ضَمُّ هَذَا الْقَيْدِ إلَيْهَا لِحَدِيثِنَا، وَجَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَدَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ صِيدَ لِلْمُحْرِمِ، فَحُرِّمَ، كَمَا لَوْ أَمَرَ أَوْ أَعَانَ. [فَصْلٌ مَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ الصَّيْد لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَلَالِ] (2347) فَصْلٌ: وَمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِكَوْنِهِ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَلَالِ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، أَطْعِمُوهُ حَلَالًا. وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَهُ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِمْ، وَحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، حِينَ رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّيْدَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ أَكْلِهِ. وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَالٌ، فَأُبِيحَ لِلْحَلَالِ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ صِيدَ لَهُمْ. وَهَلْ يُبَاحُ أَكْلُهُ لِمُحْرِمٍ آخَرَ؟ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ إبَاحَتُهُ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» . وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ صَيْدٌ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ هُوَ، وَقَالَ: إنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ، فَحَلَّ لَهُ كَمَا لَوْ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 قَوْلِ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِقَوْلِهِ: أَطْعِمُوهُ حَلَالًا، فَأَنَا حُرُمٌ. وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوهُ» . فَمَفْهُومُهُ أَنَّ إشَارَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ثُمَّ أَكَلَهُ] (2348) فَصْلٌ: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ، ثُمَّ أَكَلَهُ، ضَمِنَهُ لِلْقَتْلِ دُونَ الْأَكْلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُهُ لِلْأَكْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، فَيَضْمَنُهُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ مِمَّا صِيدَ لِأَجْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، فَلَمْ يَضْمَن ثَانِيًا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَكَصَيْدِ الْحَرَمِ إذَا قَتَلَهُ الْحَلَالُ وَأَكَلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، ثُمَّ أَكَلَ هَذَا مِنْهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً، وَالْمَيْتَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ. وَكَذَلِكَ إنْ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ مَرَّةً، فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ ثَانٍ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَإِنْ أَكَلَ مِمَّا صِيدَ لِأَجْلِهِ، ضَمِنَهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ لِلصَّيْدِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْجَزَاءُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ. وَلَنَا، إنَّهُ إتْلَافٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَالْقَتْلِ. أَمَّا إذَا قَتَلَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، لَا يُحَرَّمُ لِلْإِتْلَافِ، إنَّمَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ تُضْمَنُ بِمِثْلِهَا، بِخِلَافِ حَيَوَانِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ. [فَصْل إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِم الصَّيْد صَارَ مَيِّتَة] (2349) فَصْلٌ: وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً، يَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ، أَنَّهُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتْ الصَّيْدَ، كَالْحَلَالِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَحِلَّ بِذَبْحِهِ كَالْمَجُوسِيِّ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، وَفَارَقَ غَيْرَ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَرَّمُ ذَبْحُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 [فَصْل اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ فَوَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً] (2350) فَصْلٌ: إذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ، فَوَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً، أَكَلَ الْمَيْتَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَأْكُلُ الصَّيْدَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ذُبِحَ الصَّيْدُ كَانَ مَيْتَةً، فَيُسَاوِي الْمَيْتَةَ فِي التَّحْرِيمِ، وَيَمْتَازُ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَوْلَى، إلَّا أَنْ لَا تَطِيبَ نَفْسُهُ بِأَكْلِهَا، فَيَأْكُلَ الصَّيْدَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ. [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ الطِّيبِ] (2351) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ الطِّيبِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ: «لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: (لَا تُحَنِّطُوهُ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنْ الطِّيبِ لِإِحْرَامِهِ، فَالْحَيُّ أَوْلَى. وَمَتَى تَطَيَّبَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، كَاللِّبَاسِ. وَمَعْنَى الطِّيبِ: مَا تَطِيبُ رَائِحَتُهُ، وَيُتَّخَذُ لِلشَّمِّ، كَالْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالْكَافُورِ، وَالْغَالِيَةِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِهِ. (2352) فَصْلٌ: وَالنَّبَاتُ الَّذِي تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، مَا لَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ، مِنْ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَالْخَزَامَى، وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا مِنْ الْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ، كَالْحِنَّاءِ وَالْعُصْفُرِ، فَمُبَاحٌ شَمُّهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشَمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، مِنْ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَغَيْرِهِمَا. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، أَشْبَهَ سَائِرَ نَبَاتِ الْأَرْضِ. قَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ» . الثَّانِي، مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، وَالْمَرْزَجُوشِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وَالنَّرْجِسِ، وَالْبَرَمِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ. قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ. وَالْآخَرُ، يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ، فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لَهَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّيْحَانِ: لَيْسَ مِنْ آلَةِ الْمُحْرِمِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَتَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، فَأَشْبَهَ الْعُصْفُرَ. الثَّالِثُ، مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ، فَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ وَشَمَّهُ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ زَهْرٌ شَمَّهُ عَلَى جِهَتِهِ، أَشْبَهَ زَهْرَ سَائِرِ الشَّجَرِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ رِوَايَتَيْنِ. وَالْأَوْلَى تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الزَّعْفَرَانَ وَالْعَنْبَرَ. قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ إنَّ الْعَنْبَرَ ثَمَرُ شَجَرٍ، وَكَذَلِكَ الْكَافُورُ. (2353) فَصْلٌ: وَإِنْ مَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ، كَالْغَالِيَةِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْمِسْكِ الْمَسْحُوقِ الَّذِي يَعْلَقُ بِأَصَابِعِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلطِّيبِ. وَإِنْ مَسَّ مَا لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ، كَالْمِسْكِ غَيْرِ الْمَسْحُوقِ، وَقِطَعِ الْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ، فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِلطِّيبِ. فَإِنْ شَمَّهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ هَكَذَا. وَإِنْ شَمَّ الْعُودَ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَطَيَّبُ بِهِ هَكَذَا. [مَسْأَلَة لَا يَلْبَس الْمُحْرِم ثَوْبًا مَسَّهُ وَرَسّ وَلَا زَعْفَرَانُ وَلَا طِيبٌ] (2354) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ وَلَا طِيبٌ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَكُلُّ مَا صُبِغَ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ، أَوْ غُمِسَ فِي مَاءِ وَرْدٍ، أَوْ بُخِّرَ بِعُودٍ، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ، وَلَا الْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَلَا النَّوْمُ عَلَيْهِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ لُبْسَهُ. وَمَتَى لَبِسَهُ، أَوْ اسْتَعْمَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ رَطْبًا يَلِي بَدَنَهُ، أَوْ يَابِسًا يُنْفَضُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَطَيِّبٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَنْهِيُّ عَنْهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِهِ، كَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ. وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ اسْتَعْمَلَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِهِ كَالرَّطْبِ. فَإِنْ غَسَلَهُ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 [فَصْل إنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَةُ ثَوْبِ الْمُحْرِمِ] (2355) فَصْلٌ: وَإِنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَةُ الثَّوْبِ، لِطُولِ الزَّمَنِ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ صُبِغَ بِغَيْرِهِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَفُوحُ لَهُ رَائِحَةٌ إذَا رُشَّ فِيهِ الْمَاءُ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ، لِزَوَالِ الطِّيبِ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ. وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، إلَّا أَنْ يُغْسَلَ وَيَذْهَبَ لَوْنُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ رَائِحَتِهِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ فِي الْحَالِ، لَكِنَّ كَانَ بِحَيْثُ إذَا رُشَّ فِيهِ مَاءٌ فَاحَ رِيحُهُ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ، بِطِيبٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَائِحَتَهُ تَظْهَرُ عِنْدَ رَشِّ الْمَاءِ فِيهِ، وَالْمَاءُ لَا رَائِحَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الصِّبْغِ الَّذِي فِيهِ. فَأَمَّا إنْ فَرَشَ فَوْقَ الثَّوْبِ ثَوْبًا صَفِيقًا يَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَهُمَا ثِيَابَ بَدَنِهِ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ، كَمَنْعِهِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَدَنِهِ. [مَسْأَلَة الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَشَمِّهِ وَلَا بِمَا صُبِغَ بِهِ لِلْمُحْرِمِ] (2356) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِمَا صُبِغَ بِالْعُصْفُرِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَشَمِّهِ، وَلَا بِمَا صُبِغَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ، وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُنَّ كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ يَنْتَفِضُ فِي بَدَنِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ فِدْيَةً. وَمَنَعَ مِنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَشَبَّهُوهُ بِالْمُوَرَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ؛ لِأَنَّهُ صِبْغٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ الثِّيَابِ» وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ، أَوْ خَزٍّ، أَوْ حُلِيٍّ، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصٍ، أَوْ خُفٍّ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي الْمَنَاسِكِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، قَالَتْ: «كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُحْرِمُ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَلَمْ يُكْرَهْ مَا صُبِغَ بِهِ، كَالسَّوَادِ، وَالْمَصْبُوغِ بِالْمَغْرَةِ، وَأَمَّا الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ فَإِنَّهُ طِيبٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُمَشَّقِ لِلْمُحْرِمِ] (2357) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُمَشَّقِ، وَهُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْمَغْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِطِينٍ لَا بِطِيبٍ، وَكَذَلِكَ الْمَصْبُوغُ بِسَائِرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 الْأَصْبَاغِ، سِوَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَصْبُوغُ بِالرَّيَاحِينِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّيَاحِينِ فِي نَفْسِهَا، فَمَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، مُنِعَ لُبْسَ الْمَصْبُوغِ بِهِ، إذَا ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا. [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ شَعْره إلَّا مِنْ عُذْرٍ] (2358) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَقْطَعُ شَعْرًا مِنْ رَأْسِهِ، وَلَا جَسَدِهِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . وَرَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّك يُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْلِقْ رَأْسَك، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا، وَشَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. (2359) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ وَقَعَ فِي رَأْسِهِ قَمْلٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِإِبْقَاءِ الشَّعْرِ، فَلَهُ إزَالَتُهُ، لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] . أَيْ بِرَأْسِهِ قُرُوحٌ، {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] . أَيْ قَمْلٌ. ثُمَّ يَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِ مِنْ نَفْسِ الشَّعْرِ، مِثْلَ أَنْ يَنْبُتَ فِي عَيْنِهِ، أَوْ طَالَ حَاجِبَاهُ فَغَطَّيَا عَيْنَيْهِ، فَلَهُ قَلْعُ مَا فِي الْعَيْنِ، وَقَطْعُ مَا اسْتَرْسَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ آذَاهُ، فَكَانَ لَهُ دَفْعُ أَذِيَّتِهِ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، كَالصَّيْدِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ، لَكِنَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى إلَّا بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، كَالْقَمْلِ وَالْقُرُوحِ بِرَأْسِهِ، أَوْ صُدَاعٍ بِرَأْسِهِ، أَوْ شِدَّةِ الْحَرِّ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ شَعْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّعْرَ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ أَكْلَ الصَّيْدِ لِلْمَخْمَصَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقَمْلُ مِنْ ضَرَرِ الشَّعْرِ، وَالْحَرُّ سَبَبُهُ كَثْرَةُ الشَّعْرِ. قُلْنَا: لَيْسَ الْقَمْلُ مِنْ الشَّعْرِ، وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الرَّأْسِ إلَّا بِهِ، فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ، لَا سَبَبٌ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْحَرُّ مِنْ الزَّمَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّعْرَ يُوجَدُ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ، فَلَا يَتَأَذَّى بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلَم أَظْفَارِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ] (2360) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَقْطَعُ ظُفْرًا إلَّا أَنْ يَنْكَسِرَ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلْمِ أَظْفَارِهِ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأَظْفَارِ إزَالَةُ جُزْءٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ، فَحُرِّمَ، كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ. فَإِنْ انْكَسَرَ، فَلَهُ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ تَلْزَمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُزِيلَ ظُفْرَهُ بِنَفْسِهِ إذَا انْكَسَرَ، وَلِأَنَّ مَا انْكَسَرَ يُؤْذِيهِ وَيُؤْلِمُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 فَأَشْبَهَ الشَّعْرَ النَّابِتَ فِي عَيْنِهِ، وَالصَّيْدَ الصَّائِلَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَصَّ أَكْثَرَ مِمَّا انْكَسَرَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ الزَّائِدِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ الشَّعْرِ أَكْثَرِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُدَوَّاةِ قُرْحَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا بِقَصِّ أَظْفَارِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، صَاحِبُ مَالِكٍ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ إزَالَتُهُ لِضَرَرِ فِي غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ حَلْقَ رَأْسِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ قَمْلِهِ. وَإِنْ وَقَعَ فِي أَظْفَاره مَرَضٌ، فَأَزَالَهَا لِذَلِكَ الْمَرَضِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَزَالَهَا لِإِزَالَةِ مَرَضِهَا، فَأَشْبَهَ قَصَّهَا لِكَسْرِهَا. [مَسْأَلَة لَا يَنْظُرُ الْمُحْرِم فِي الْمِرْآةِ لِإِصْلَاحِ شَيْءٍ] (2361) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ لِإِصْلَاحِ شَيْءٍ) يَعْنِي لَا يَنْظُرُ فِيهَا لِإِزَالَةِ شُعْثٍ، أَوْ تَسْوِيَةِ شَعْرٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الزِّينَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ، وَلَا يُصْلِحُ شُعْثًا، وَلَا يَنْفُضُ عَنْهُ غُبَارًا. وَقَالَ أَيْضًا: إذَا كَانَ يُرِيدُ بِهِ زِينَةً فَلَا. قِيلَ: فَكَيْفَ يُرِيدُ زِينَةً؟ قَالَ: يَرَى شَعْرَةً فَيُسَوِّيهَا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ: «إنَّ الْمُحْرِمَ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» . وَفِي آخَرَ: «إنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ، فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي، قَدْ أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ» . أَوْ كَمَا جَاءَ لَفْظُ الْحَدِيثِ. فَإِنْ نَظَرَ فِيهَا لِحَاجَةٍ، كَمُدَاوَاةِ جُرْحٍ، أَوْ إزَالَةِ شَعْرٍ يَنْبُتُ فِي عَيْنِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُ فِعْلَهُ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَدَبٌ لَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُمَا كَانَا يَنْظُرَانِ فِي الْمِرْآةِ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ. [مَسْأَلَة الزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الطِّيب إذَا جُعِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ لَمْ يُبَحْ لِلْمُحْرِمِ تَنَاوُلُهُ] (2362) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ مَا يَجِدُ رِيحَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الطِّيبِ، إذَا جُعِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ، لَمْ يُبَحْ لِلْمُحْرِمِ تَنَاوُلُهُ، نِيئًا كَانَ أَوْ قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَكَانَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَ بِمَا مَسَّتْ النَّارُ مِنْ الطَّعَامِ بَأْسًا، سَوَاءٌ ذَهَبَ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَطَعْمُهُ، أَوْ بَقِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ. اسْتَحَالَ عَنْ كَوْنِهِ طِيبًا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ بِأَكْلِ الخشكنانج الْأَصْفَرِ بَأْسًا، وَكَرِهَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَلَنَا، أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ، وَالتَّرَفُّهَ بِهِ، حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمُبَاشَرَةُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ نِيئًا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ أَبَاحَ الخشكنانج الْأَصْفَرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ رَائِحَةٌ، فَإِنَّ مَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَطَعْمُهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا اللَّوْنُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، سِوَى أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 الْقَاسِمَ وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، كَرِهَا الخشكنانج الْأَصْفَرَ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ؛ لِيَزُولَ الْخِلَافُ. فَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، لَكِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَطَعْمُهُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ مَالِكٌ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، الْمِلْحَ الْأَصْفَرَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَمَا لَمْ تَمَسَّهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّائِحَةُ، فَإِنَّ الطِّيبَ إنَّمَا كَانَ طِيبًا لِرَائِحَتِهِ، لَا لِلَوْنِهِ، فَوَجَبَ دَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَهَا دُونَهُ. (2363) فَصْلٌ: فَإِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ، وَبَقِيَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ إبَاحَتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا الْمَقْصُودُ، فَيَزُولُ الْمَنْعُ بِزَوَالِهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ، صَالِحٍ تَحْرِيمُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْقَاضِي: مُحَالٌ أَنْ تَنْفَكَّ الرَّائِحَةُ عَنْ الطَّعْمِ، فَمَتَى بَقِيَ الطَّعْمُ دَلَّ عَلَى بَقَائِهَا، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ. [مَسْأَلَة لَا يَدهنَّ الْمُحْرِم بِمَا فِيهِ طِيبٌ وَمَا لَا طِيبَ فِيهِ] (2364) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَدَّهِنُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، وَمَا لَا طِيبَ فِيهِ) أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْ الْأَدْهَانِ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَالْخَيْرِيِّ وَاللِّينُوفَرِ، فَلِيس فِي تَحْرِيمِ الِادِّهَانِ بِهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَكَرِهَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، الِادِّهَانَ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِطِيبٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ، وَتُقْصَدُ رَائِحَتُهُ، فَكَانَ طِيبًا، كَمَاءِ الْوَرْدِ. فَأَمَّا مَا لَا طِيبَ فِيهِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالشَّحْمِ وَدُهْنِ الْبَانِ السَّاذَجِ، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، يَدَّهِنُ بِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ. وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَدْهُنَ بَدَنَهُ بِالشَّحْمِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ. وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الزَّيْتُ الَّذِي يُؤْكَلُ لَا يَدْهُنُ الْمُحْرِمُ بِهِ رَأْسَهُ. فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ لَا يَدْهُنُ رَأْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَدْهَانِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشُّعْثَ، وَيُسَكِّنُ الشَّعْرَ. فَأَمَّا دَهْنُ سَائِرِ الْبَدَنِ، فَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ مَنْعًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي الْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشَّعْرِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي إبَاحَتِهِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ فَعَلَهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، سَوَاءٌ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَيِّبًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صُدِعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالُوا: أَلَا نَدْهُنُك بِالسَّمْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: أَلَيْسَ تَأْكُلُهُ؟ قَالَ: لَيْسَ أَكْلُهُ كَالِادِّهَانِ بِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: إنْ تَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ دَهْنِ الرَّأْسِ: فِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُزِيلٌ لِلشُّعْثِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مُطَيِّبًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وَلَنَا، أَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطِّيبِ، فَإِنَّ الطِّيبَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْ شُعْثًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّأْسُ وَغَيْرُهُ، وَالدُّهْنُ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَدَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الرَّأْسِ، كَالْمَاءِ. [مَسْأَلَة لَا يَتَعَمَّدُ الْمُحْرِم لِشَمِّ الطِّيبِ] (2365) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَعَمَّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ) أَيْ لَا يَقْصِدُ شَمَّهُ مِنْ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مِنْهُ، نَحْوِ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ لِذَلِكَ، أَوْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ حَالَ تَجْمِيرِهَا، لِيَشُمَّ طِيبَهَا، أَوْ يَحْمِلَ مَعَهُ عُقْدَةً فِيهَا مِسْكٌ لِيَجِدَ رِيحَهَا. قَالَ أَحْمَدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يَجُوزُ هَذَا؟ وَأَبَاحَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ، إلَّا الْعُقْدَةَ تَكُونُ مَعَهُ يَشُمُّهَا، فَإِنَّ أَصْحَابَهُ اخْتَلَفُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَشُمُّ الطِّيبَ مِنْ غَيْرِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَمَّ الطِّيبَ قَاصِدًا مُبْتَدِئًا بِهِ فِي الْإِحْرَامِ، فَحُرِّمَ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقَصْدَ شَمُّهُ لَا مُبَاشَرَتُهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَسَّ الْيَابِسَ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَوْ رَفَعَهُ بِخِرْقَةٍ وَشَمَّهُ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، فَأَمَّا شَمُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَالْجَالِسِ عِنْدَ الْعَطَّارِ لِحَاجَتِهِ، وَدَاخِلِ السُّوقِ، أَوْ دَاخِلِ الْكَعْبَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَمَنْ يَشْتَرِي طِيبًا لِنَفْسِهِ وَلِلتِّجَارَةِ وَلَا يَمَسُّهُ، فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْ هَذَا، فَعُفِيَ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ] (2366) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُغَطِّي شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ، وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ» . وَقَوْلُهُ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . عَلَّلَ مَنْعَ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ بِبَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ. . وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي (الشَّرْحِ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى أَنْ يَشُدَّ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالسَّيْرِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ) . فَائِدَتُهُ تَحْرِيمُ تَغْطِيَتِهِمَا. وَأَبَاحَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّهَارَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ بَعْضِ رَأْسِهِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» . وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْرُمُ فِعْلُ بَعْضِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] . حَرُمَ حَلْقُ بَعْضِهِ. وَسَوَاءٌ غَطَّاهُ بِالْمَلْبُوسِ الْمُعْتَادِ أَوْ بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ عَصَبَهُ بِعِصَابَةٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 أَوْ شَدَّهُ بِسَيْرٍ، أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا فِيهِ دَوَاءٌ أَوْ لَا دَوَاءَ فِيهِ، أَوْ خَضَّبَهُ بِحِنَّاءَ، أَوْ طَلَاهُ بِطِينٍ أَوْ نُورَةٍ، أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ دَوَاءً، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ سِتْرٌ لَهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْعُذْرَ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] . وَقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَكَانَ عَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِي الْعِصَابَةِ مِنْ الضَّرُورَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْفِدْيَةُ عَنْهُ بِالْعُذْرِ، كَمَا لَوْ لَبِسَ قَلَنْسُوَةً مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ. [فَصْل حَمَلَ الْمُحْرِم عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا أَوْ طَبَقًا أَوْ نَحْوَهُ] (2367) فَصْلٌ: فَإِنْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا أَوْ طَبَقًا أَوْ نَحْوَهُ؛ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ سَتَرَهُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ غَالِبًا، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ السِّتْرَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ؛ لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، فَكَذَلِكَ مَا لَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيل وُجُوبَ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ بِهِ السَّتْرَ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ لَا تُحِيلُ الْحُقُوقَ. وَإِنْ سَتَرَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ السَّتْرَ بِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّتْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَرْجِهِ، لَمْ تُجْزِئْهُ فِي السَّتْرِ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَأْمُورٌ بِمَسْحِ رَأْسِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِوَضْعِ يَدَيْهِ أَوْ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ طَلَى رَأْسَهُ بِعَسَلٍ أَوْ صَمْغٍ؛ لِيَجْتَمِعَ الشَّعْرُ وَيَتَلَبَّدَ، فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْغُبَارُ، وَلَا يُصِيبُهُ الشُّعْثُ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ الدَّبِيبُ، جَازَ. وَهُوَ التَّلْبِيدُ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ مُلَبِّدًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ حَفْصَةَ، «أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَأْنُ النَّاسِ، حَلُّوا وَلَمْ تَحْلُلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ قَالَ: إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي، وَقَلَّدْت هَدْيِي، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ طِيبٌ مِمَّا جَعَلَهُ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ عَلَى رَأْسِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ الرُّبِّ مِنْ الْغَالِيَةِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ.» [فَصْلٌ تَغْطِيَة الْمُحْرِم وَجْهه] (2368) فَصْلٌ: وَفِي تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ رِوَايَتَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 إحْدَاهُمَا، يُبَاحُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرٍ، وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُبَاحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،، «أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي» . وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَحُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ، كَالطِّيبِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورُ فِيهِ: (وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ) هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ) . فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِيهِ أَبُو بِشْرٍ. ثُمَّ سَأَلْته عَنْهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، فَجَاءَ بِالْحَدِيثِ كَمَا كَانَ يُحَدِّثُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَعَّفَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: (خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ) فَتَتَعَارَضُ الرِّوَايَتَانِ. . وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِلُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ. [مَسْأَلَة الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي إحْرَامِهَا] (2369) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ إحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا، فَإِنْ احْتَاجَتْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي إحْرَامِهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّيهِ بِالسَّدْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرَاهِيَةُ الْبُرْقُعِ ثَابِتَةٌ عَنْ سَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» . فَأَمَّا إذَا احْتَاجَتْ إلَى سَتْرِ وَجْهِهَا، لِمُرُورِ الرِّجَالِ قَرِيبًا مِنْهَا، فَإِنَّهَا تَسْدُلُ الثَّوْبَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا، وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَاذَوْنَا، سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ بِالْمَرْأَةِ حَاجَةً إلَى سَتْرِ وَجْهِهَا، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا سَتْرُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَالْعَوْرَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الثَّوْبَ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عَنْ وَجْهِهَا، بِحَيْثُ لَا يُصِيبُ الْبَشَرَةَ، فَإِنْ أَصَابَهَا، ثُمَّ زَالَ أَوْ أَزَالَتْهُ بِسُرْعَةٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ عَنْ عَوْرَةِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ عَادَ بِسُرْعَةٍ، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ. وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ افْتَدَتْ؛ لِأَنَّهَا اسْتَدَامَتْ السِّتْرَ. وَلَمْ أَرَ هَذَا الشَّرْطَ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 فِي الْخَبَرِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْمَسْدُولَ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ إصَابَةِ الْبَشَرَةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَبُيِّنَ، وَإِنَّمَا مُنِعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْبُرْقُعِ وَالنِّقَابِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يُعَدَّ لِسَتْرِ الْوَجْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا لَهَا أَنَّ تَسْدُلَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْق، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الثَّوْبَ مِنْ أَسْفَلَ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ النِّقَابَ مِنْ أَسْفَلَ عَلَى وَجْهِهَا. [فَصْلٌ يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمَةِ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَتَحْرِيمُ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ] (2370) فَصْلٌ: وَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمَةِ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَتَحْرِيمُ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ. وَلَا يُمْكِنُ تَغْطِيَةُ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا بِجُزْءٍ مِنْ الْوَجْهِ، وَلَا كَشْفُ جَمِيعِ الْوَجْهِ إلَّا بِكَشْفِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَتْرُ الرَّأْسِ كُلِّهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ آكَدُ، إذْ هُوَ عَوْرَةٌ، لَا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ حَالَةَ الْإِحْرَامِ، وَكَشْفُ الْوَجْهِ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ أَبَحْنَا سَتْرَ جُمْلَتِهِ لِلْحَاجَةِ الْعَارِضَةِ، فَسَتْرُ جُزْءٍ مِنْهُ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْلَى. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَة إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْرِمَةٍ] (2371) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً، إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْرِمَةٍ، وَطَافَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ. وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّ عَطَاءً كَانَ يَكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَطُوفَ مُنْتَقِبَةً، حَتَّى حَدَّثْته عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ طَافَتْ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ، فَأَخَذَ بِهِ. [مَسْأَلَة الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ فِي الْإِحْرَامِ مَكْرُوهِ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ] (2372) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تَكْتَحِلُ بِكُحْلٍ أَسْوَدَ) الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ فِي الْإِحْرَامِ مَكْرُوهٌ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الزِّينَةِ، وَهُوَ فِي حَقِّهَا أَكْثَرُ مِنْ الرَّجُلِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ زِينَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِكُلِّ كُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الْمُحْرِمُ مِنْ حَرٍّ يَجِدُهُ فِي عَيْنَيْهِ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ، مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الزِّينَةَ. قِيلَ لَهُ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حَلَّ، فَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَتْ، صَدَقَتْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَامْرَأَةٍ: اكْتَحِلِي بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْت، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 غَيْرِ الْإِثْمِدِ أَوْ الْأَسْوَدِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ مَكْرُوهٌ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَرَوَتْ شُمَيْسَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اشْتَكَيْت عَيْنِي وَأَنَا مُحْرِمَةٌ، فَسَأَلْت عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: اكْتَحِلِي بِأَيِّ كَحِلِّ شِئْت غَيْرِ الْإِثْمِدِ، أَمَّا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ، فَنَحْنُ نَكْرَهُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ فَعَلَا فَلَا أَعْلَمُ عَلَيْهِمَا فِيهِ فِدْيَةً بِشَيْءٍ. [فَصْل الْكُحْلُ بِغَيْرِ الْإِثْمِدِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ] (2373) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكُحْلُ بِغَيْرِ الْإِثْمِدِ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، حَتَّى إذَا كُنَّا بملل، اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَيْنَيْهِ، فَأَرْسَلَ إلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، لِيَسْأَلَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ: أَنْ اضْمِدْهَا بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ حَدَّثَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ إذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ضَمَّدَهَا بِالصَّبْرِ» . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ مَا فِي مَعْنَاهُ، مِمَّا لَيْسَ فِيهِ زِينَةٌ وَلَا طِيبٌ. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ لَا يَرَى بِالذَّرُورِ الْأَحْمَرِ بَأْسًا. [مَسْأَلَة الْمَرْأَةَ الْمُحْرِمَة مَمْنُوعَةٌ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ الرِّجَالُ إلَّا بَعْضَ اللِّبَاسِ] (2374) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَجْتَنِبُ كُلَّ مَا يَجْتَنِبُهُ الرَّجُلُ، إلَّا فِي اللِّبَاسِ، وَتَظْلِيلِ الْمَحْمِلِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ الرِّجَالُ، إلَّا بَعْضَ اللِّبَاسِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمَةِ لُبْسَ الْقُمُصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخُمُرِ وَالْخِفَافِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحْرِمَ بِأَمْرٍ، وَحُكْمَهُ عَلَيْهِ، يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مِنْهُ اللِّبَاسَ لِلْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ الْمَرْأَةِ، لِكَوْنِهَا عَوْرَةً، إلَّا وَجْهَهَا، فَتَجَرُّدُهَا يُفْضِي إلَى انْكِشَافِهَا، فَأُبِيحَ لَهَا اللِّبَاسُ لِلسَّتْرِ، كَمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ عَقْدُ الْإِزَارِ، كَيْلًا يَسْقُطَ، فَتَنْكَشِفَ الْعَوْرَةُ، وَلَمْ يُبَحْ عَقْدُ الرِّدَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ» . وَهَذَا صَرِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِاللِّبَاسِ هَاهُنَا الْمَخِيطُ مِنْ الْقَمِيصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخِفَافِ، وَمَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ، وَنَحْوَهُ. [فَصْل يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَة مَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ] فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ؛ مِنْ الْغُسْلِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّطَيُّبِ، وَالتَّنَظُّفِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 عَلَيْهَا» . وَالشَّابَّةُ وَالْكَبِيرَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ شَابَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ كُرِهَ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهَا فِي الْجُمُعَةِ تَقْرَبُ مِنْ الرِّجَالِ، فَيُخَافُ الِافْتِتَانُ بِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلِهَذَا يَلْزَمُ الْحَجُّ النِّسَاءَ، وَلَا تَلْزَمُهُنَّ الْجُمُعَةُ. وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهَا قِلَّةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ التَّلْبِيَةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. [مَسْأَلَة لَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَة الْقُفَّازَيْنِ وَلَا الْخَلْخَالَ] (2376) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ، وَلَا الْخَلْخَالَ، وَمَا أَشْبَهَهُ) الْقُفَّازَانِ: شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ، تُدَخِّلهُمَا فِيهِمَا مِنْ خَرْقٍ، تَسْتُرُهُمَا مِنْ الْحَرِّ، مِثْلُ مَا يُعْمَلُ لِلْبَرْدِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُهُ فِي يَدَيْهَا فِي حَالِ إحْرَامِهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُلْبِسُ بَنَاتِهِ الْقُفَّازَيْنِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ، وَعَائِشَةُ، وَعَطَاءٌ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . وَأَنَّهُ عُضْوٌ يَجُوزُ سَتْرُهُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، فَجَازَ سَتْرُهُ بِهِ كَالرِّجْلَيْنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالْخَلْخَالِ» . وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ، تَعَلَّقَ حُكْمُ إحْرَامِهِ بِغَيْرِهِ، فَمُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي سَائِرِ بَدَنِهِ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا لَزِمَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا، يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَهُوَ الْيَدَانِ. وَحَدِيثُهُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْكَشْفُ. فَأَمَّا السَّتْرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْمَخِيطِ. فَأَمَّا الْخَلْخَالُ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْحُلِيِّ، مِثْلِ السُّوَارِ وَالدُّمْلُوجِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: الْمُحْرِمَةُ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، يَتْرُكَانِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ، وَلَهُمَا مَا سِوَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا، أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ الْخَاتَمَ وَالْقُرْطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَكَرِهَ السِّوَارَيْنِ وَالدُّمْلُجَيْنِ وَالْخَلْخَالَيْنِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الرُّخْصَةُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ. وَقَالَ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ نِسَاءُ ابْنِ عُمَرَ وَبَنَاتُهُ يَلْبَسْنَ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي (الْمَنَاسِكِ) ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مَا تَلْبَسُ وَهِيَ حَلَالٌ، مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَحُلِيِّهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ، أَوْ حُلِيٍّ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَيُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيَّ فِي الْمَنْعِ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّينَةِ، وَشِبْهِهِ بِالْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، كَمَا لَا فِدْيَةَ فِي الْكُحْلِ. وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهَا لَبِسَتْ مَا نُهِيَتْ عَنْ لُبْسِهِ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ، كَالنِّقَابِ. [فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمَة شَدُّ يَدَيْهَا بِخِرْقَةِ] فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهَا شَدُّ يَدَيْهَا بِخِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ سَتْرٌ لِبَدَنِهَا بِمَا يَخْتَصُّ بِهَا، أَشْبَهَ الْقُفَّازَيْنِ، وَكَمَا لَوْ شَدَّ الرَّجُلُ عَلَى جَسَدِهِ شَيْئًا. وَإِنْ لَفَّتْ يَدَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَدٍّ، فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ اللُّبْسُ، لَا تَغْطِيَتُهُمَا، كَبَدَنِ الرَّجُلِ. [مَسْأَلَة السُّنَّةَ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ] (2378) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، إلَّا بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْإِهْلَالِ. وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، وَالْمَسْنُونُ لَهَا فِي التَّنْبِيهِ فِي الصَّلَاةِ التَّصْفِيقُ دُونَ التَّسْبِيحِ. [فَصْل يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ] (2379) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَدْلُكَ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا فِي حِنَّاءٍ. وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، فَاسْتُحِبَّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، كَالطِّيبِ. وَلَا بَأْسَ بِالْخِضَابِ فِي حَالِ إحْرَامِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْرَهُ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الزِّينَةِ، فَأَشْبَهَ الْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ. فَإِنْ فَعَلَتْهُ، وَلَمْ تَشُدَّ يَدَيْهَا بِالْخِرَقِ، فَلَا فِدْيَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَكَانَ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، يَكْرَهَانِ الْخِضَابَ لِلْمُحْرِمَةِ، وَأَلْزَمَاهَا الْفِدْيَةَ. وَلَنَا، مَا رَوَى عِكْرِمَةُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ، وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ حُرُمٌ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَلَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 [فَصْلٌ إذَا أَحْرَمَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ] (2380) فَصْلٌ: إذَا أَحْرَمَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ، لَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَيَقَّنُ الذُّكُورِيَّةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يُغَطِّي رَأْسَهُ وَيُكَفِّرُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا، فَلَا نُوجِبُهَا بِالشَّكِّ. وَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ وَحْدَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِدْيَةٌ لِذَلِكَ. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ بِنِقَابٍ أَوْ بُرْقُعٍ، وَبَيْنَ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ عَلَى بَدَنِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الطَّوَافُ لَيْلًا] (2381) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الطَّوَافُ لَيْلًا؛ لِأَنَّهُ أُسْتَرُ لَهَا، وَأَقَلُّ لِلزِّحَامِ، فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَدْنُوَ مِنْ الْبَيْتِ، وَتَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ، فِي (الْمَنَاسِكِ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَطُوفُ بَعْدَ الْعِشَاءَ أُسْبُوعًا أَوْ أُسْبُوعَيْنِ، وَتُرْسِلُ إلَى أَهْلِ الْمَجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ: ارْتَفِعُوا إلَى أَهْلَيْكُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ بَرَكَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إلَى أَصْحَابِ الْمَصَابِيحِ، أَنْ يُطْفِئُوهَا، فَأَطْفَئُوهَا، فَطُفْت مَعَهَا فِي سِتْرٍ أَوْ حِجَابٍ، فَكَانَتْ كُلَّمَا فَرَغَتْ مِنْ أُسْبُوعٍ اسْتَلَمَتْ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، وَتَعَوَّذَتْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، حَتَّى إذَا فَرَغَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ، ذَهَبَتْ إلَى دُبُرِ سِقَايَةِ زَمْزَمِ، مِمَّا يَلِي النَّاسَ، فَصَلَّتْ سِتَّ رَكَعَاتٍ، كُلَّمَا رَكَعَتْ رَكْعَتَيْنِ انْحَرَفَتْ إلَى النِّسَاءِ، فَكَلَّمَتْهُنَّ، تَفْصِلُ بِذَلِكَ صَلَاتَهَا، حَتَّى فَرَغَتْ. [مَسْأَلَة لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوِّجُ] (2382) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُزَوِّجُ، فَإِنْ فَعَلَ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) قَوْلُهُ: (لَا يَتَزَوَّج) أَيْ لَا يَقْبَلُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ، (وَلَا يُزَوِّجُ) أَيْ لَا يَكُونُ وَلِيَّا فِي النِّكَاحِ وَلَا وَكِيلًا فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمَةِ أَيْضًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَأَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ، فَلَا يُحَرِّمُهُ الْإِحْرَامُ، كَشِرَاءِ الْإِمَاءِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ الطِّيبَ، فَيُحَرِّمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 النِّكَاحَ، كَالْعِدَّةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، «عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ، فِي الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْت أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمَيْمُونَةُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهَا، وَأَبُو رَافِعٍ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَهُوَ السَّفِيرُ فِيهَا، فَهُمَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَبِيرًا، فَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: وَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَا تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا حَلَالًا. فَكَيْفَ يُعْمَلُ بِحَدِيثٍ هَذَا حَالُهُ؟ وَيُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: (وَهُوَ مُحْرِمٌ) . أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، كَمَا قِيلَ: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانِ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا وَقِيلَ: تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَأَظْهَر أَمْرُ تَزْوِيجِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثَانِ، كَانَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ فِعْلُهُ، وَالْقَوْلُ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَا فَعَلَهُ. وَعَقْدُ النِّكَاحِ يُخَالِفُ شِرَاءَ الْأَمَةِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَكَوْنِ الْمَنْكُوحَةِ أُخْتًا لَهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ أَوْ زَوَّجَ أَوْ زُوِّجَتْ مُحْرِمَةٌ] (2383) فَصْلٌ: وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ، أَوْ زَوَّجَ، أَوْ زُوِّجَتْ مُحْرِمَةٌ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْكُلُّ مُحْرِمِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ: إنْ زَوَّجَ الْمُحْرِمُ لَمْ أَفْسَخْ النِّكَاحَ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ بِمُفْرَدِهِ أَوْ الْوَكِيلُ مُحْرِمًا، لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْسَخُهُ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ. وَهَكَذَا كُلُّ نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجهَا مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُطَلِّقَ. وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ حِلَّهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 [فَصْلٌ تُكْرَهُ الْخِطْبَةُ لِلْمُحْرِمِ وَخِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُب لِلْمَحِلَّيْنِ] (2384) فَصْلٌ: وَتُكْرَهُ الْخِطْبَةُ لِلْمُحْرِمِ، وَخِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُبَ لِلْمُحِلَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عُثْمَانَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ إلَى الْحَرَامِ، فَأَشْبَهَ الْإِشَارَةَ إلَى الصَّيْدِ. وَالْإِحْرَامُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي مَنْعِ النِّكَاح، وَسَائِرِ الْمَحْظُورَات؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فِي وُجُوبِ مَا يَجِبُ فِي الْإِحْرَامِ، فَكَذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِهِ. [فَصْل لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمُحْرِمِينَ] (2385) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَنَةٌ عَلَى النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْخِطْبَةَ. وَإِنْ شَهِدَ أَوْ خَطَبَ، لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمُحْرِمِينَ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: (وَلَا يَشْهَدُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلشَّاهِدِ فِي الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الْخَطِيبَ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا حُكْمٌ. وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ، أَوْ زَوَّجَ، أَوْ زَوَّجَتْ مُحْرِمَةٌ، لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَسَدَ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ، كَشِرَاءِ الصَّيْدِ. [مَسْأَلَة الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ] (2386) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ وَطِئَ الْمُحْرِمُ فِي الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُمَا، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ) أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، فَقَالَ: إنِّي وَقَعْت بِامْرَأَتِي، وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ. فَقَالَ: أَفْسَدْت حَجَّك، انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُك مَعَ النَّاسِ، فَاقْضُوا مَا يَقْضُونَ، وَحِلَّ إذَا حَلُّوا، فَإِذَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَاحْجُجْ أَنْتَ وَامْرَأَتُك، وَاهْدِيَا هَدْيًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدَا، فَصُومَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْتُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. لَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا. رَوَى حَدِيثَهُمْ الْأَثْرَمُ فِي (سُنَنِهِ) ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيَتَفَرَّقَانِ) مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ، حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْلَى شَيْءٍ رُوِيَ فِي مَنْ وَطِئَ فِي حَجِّهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَمْ يَفْسُدْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَأْمَنُ بِهِ الْفَوَاتَ، فَأَمِنَ بِهِ الْفَسَادَ، كَالتَّحَلُّلِ. وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَيْنَا قَوْلَهُمْ، مُطْلَقٌ فِي مَنْ وَاقَعَ مُحْرِمًا، وَلِأَنَّهُ جِمَاعٌ صَادَفَ إحْرَامًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 تَامًّا، فَأَفْسَدَهُ، كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» يَعْنِي: مُعْظَمُهُ. أَوْ أَنَّهُ رُكْنٌ مُتَأَكِّدٌ فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْنِ الْفَوَاتِ أَمْنُ الْفَسَادِ، بِدَلِيلِ الْعُمْرَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُجَامِعِ بَدَنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَشَاةٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوُقُوف مَعْنًى يُوجِبُ الْقَضَاءَ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ بَدَنَةٌ، كَالْفَوَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ جِمَاعٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا، فَوَجَبَتْ بِهِ الْبَدَنَةُ، كَبَعْدِ الْوُقُوفِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ. وَأَمَّا الْفَوَاتُ فَهُوَ مُفَارِقٌ لِلْجِمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِذَلِكَ لَا يُوجِبُونَ فِيهِ الشَّاةَ، بِخِلَافِ الْجِمَاعِ. وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً عَلَى الْجِمَاعِ، فَلَا هَدْيَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ حَالَ الْإِكْرَاهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا فِي الصِّيَامِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّ إفْسَادَ الْحَجَّ وُجِدَ مِنْهُ فِي حَقِّهِمَا، فَكَانَ عَلَيْهِ لِإِفْسَادِهِ حَجَّهَا هَدْيٌ، قِيَاسًا عَلَى حَجِّهِ، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْحَجَّ ثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، فَكَانَ الْهَدْيُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا، يَتَحَمَّلُهُ الزَّوْجُ عَنْهَا، فَلَا يَكُونُ رِوَايَةً ثَالِثَةً. فَأَمَّا حَالَ الْمُطَاوَعَةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَمَالِكٍ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: اهْدِ نَاقَةً، وَلْتُهْدِ نَاقَةً. لِأَنَّهَا أَحَدُ الْمُتَجَامِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَلَزِمَتْهَا بَدَنَةٌ كَالرَّجُلِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبْ أَكْثَرَ مِنْ بَدَنَةٍ، كَحَالَةِ الْإِكْرَاهِ، وَالنَّائِمَةُ كَالْمُكْرَهَةِ فِي هَذَا. وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالْمُطَاوَعَةِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْل لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ مِنْ آدَمِي أَوْ بَهِيمَةٍ فِي الْحَجِّ] (2387) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَيَتَخَرَّجُ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ. وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللِّوَاطَ وَالْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 بِهِ الْإِحْصَانُ، فَلَمْ يُفْسِدْ الْحَجَّ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ، فَأَفْسَدَ الْحَجَّ، كَوَطْءِ الْآدَمِيَّةِ فِي الْقُبُلِ. وَيُفَارِقُ الْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَا يُوجِبُ مَهْرًا، وَلَا عِدَّةً، وَلَا حَدًّا، وَلَا غُسْلًا إلَّا أَنْ يُنْزِلَ، فَيَكُونَ كَمَسْأَلَتِنَا، فِي رِوَايَةٍ. [فَصْل تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ فِي الْحَجّ] (2388) فَصْلٌ: إذَا تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْهُ أَنَّ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ، فَأَوْجَبَهَا كَالْأَوَّلِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، فَإِذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ، لَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً ثَانِيَةً، كَمَا فِي الصِّيَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي شَاةٌ، سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ الْوَطْءُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ لِلْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصَ الْحُرْمَةِ، فَأَوْجَبَ شَاةً، كَالْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ بِالثَّانِي شَيْءٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، كَقَوْلِنَا، وَقَرِيبًا مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الْبَدَنَةِ إذَا كَفَّرَ، أَنَّهُ وَطِئَ فِي إحْرَامٍ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ، وَلَا أَمْكَنَ تَدَاخُلُ كَفَّارَتِهِ فِي غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ الْأَوَّلَ. وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأَوَّلِ، فَتَتَدَاخَلُ كَفَّارَاتُهُ، كَمَا يَتَدَاخَلُ حُكْمُ الْمَهْرِ وَالْحَدِّ، وَالتَّحْدِيدُ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ أَوْلَى مِنْ التَّحْدِيدِ بِالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَهْرِ وَالْحَدِّ وَالتَّكْفِيرِ فِي الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهِمَا. [مَسْأَلَة وَطِئَ الْمُحْرِم دُونَ الْفَرْجِ فَلَمْ يُنْزِلْ] (2389) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ، فَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ) أَمَّا إذَا لَمْ يُنْزِلْ، فَإِنَّ حَجَّهُ لَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِفَسَادِ حَجِّهِ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ عَرِيَتْ عَنْ الْإِنْزَالِ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِهَا الْحَجُّ، كَاللَّمْسِ، أَوْ مُبَاشَرَةٌ لَا تُوجِبُ الِاغْتِسَالَ، أَشْبَهَتْ اللَّمْسَ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَرْجِ جَارِيَتِهِ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إذَا نَالَ مِنْهَا مَا دُونَ الْجِمَاعَ، ذَبَحَ بَقَرَةً. وَلَنَا، أَنَّهَا مُلَامَسَةٌ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، فَأَشْبَهَتْ لَمْسَ غَيْرِ الْفَرْجِ. فَأَمَّا إنْ أَنْزَلَ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُنْزِلْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وَلَنَا، أَنَّهُ جِمَاعٌ أَوْجَبَ الْغُسْلَ، فَأَوْجَبَ بَدَنَةً، كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ. وَفِي فَسَادِ حَجِّهِ بِذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَفْسُدُ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ، فَأَفْسَدَهَا الْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، كَالصِّيَامِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يَجِبُ بِنَوْعِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يُفْسِدْ الْحَجَّ. كَمَا لَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ يَجِبُ بِنَوْعِهِ الْحَدُّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ اثْنَا عَشَرِ حُكْمًا، وَلَا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ، وَالصِّيَامُ يُخَالِفُ الْحَجَّ فِي الْمُفْسِدَاتِ، وَلِذَلِكَ يَفْسُدُ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ مَعَ الْإِنْزَالِ وَالْمَذْيِ وَسَائِرِ مَحْظُورَاتِهِ، وَالْحَجُّ لَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ غَيْرِ الْجِمَاعِ، فَافْتَرَقَا. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي هَذَا، إذَا كَانَتْ ذَاتَ شَهْوَةٍ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، كَالرَّجُلِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهْوَةٌ. [مَسْأَلَة إنْ الْمُحْرِم قَبَّلَ فَلَمْ يُنْزِلْ] (2390) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ قَبَّلَ فَلَمْ يُنْزِلْ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنْ أَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْقُبْلَةِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ، سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ الْخِرَقِيِّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ فِي الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ إلَّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا أَيْضًا رِوَايَتَيْنِ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ، لَكِنْ نُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ فَنَقُولُ: إنْزَالٌ بِغَيْرِ وَطْءٍ فَلَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْحَجُّ، كَالنَّظَرِ، وَلِأَنَّ اللَّذَّةَ بِالْوَطْءِ فَوْقَ اللَّذَّةِ بِالْقُبْلَةِ، فَكَانَتْ فَوْقَهَا فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ مَرَاتِبَ أَحْكَامِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى وَفْقِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ، فَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ أَبْلَغُ الِاسْتِمْتَاعِ، فَأَفْسَدَ الْحَجَّ مَعَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ، وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ دُونَهُ، فَأَوْجَبَ الْبَدَنَةَ وَأَفْسَدَ الْحَجَّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ، وَالدَّمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْقُبْلَةُ دُونَهُمَا، فَتَكُونُ دُونَهُمَا فِيمَا يَجِبُ بِهَا، فَيَجِبُ بِهَا بَدَنَةٌ عِنْدَ الْإِنْزَالِ مِنْ غَيْرِ إفْسَادٍ، وَتَكْرَارُ النَّظَرِ دُونَ الْجَمِيعِ، فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ عِنْدَ الْإِنْزَالِ، وَلَا يَجِبُ عِنْدَ عَدَمِهِ شَيْءٌ. وَمِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةِ، قَالَ: كِلَاهُمَا مُبَاشَرَةٌ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْوَاجِبِ بِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ: أَفْسَدْت حَجَّتَك. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَبَّلَ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ مُحْرِمًا، فَسَأَلَ، فَأُجْمِعَ لَهُ عَلَى أَنْ يُهْرِيقَ دَمًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْزَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ. وَسَوَاءٌ أَمْذَى أَوْ لَمْ يُمْذِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنْ قَبَّلَ فَمَذَى أَوْ لَمْ يُمْذِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَسَائِرُ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ كَالْقُبْلَةِ فِيمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يَلْتَذُّ بِهِ، فَهُوَ كَالْقُبْلَةِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ قَبَضَ عَلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ: فَإِنَّهُ يُهْرِيقُ دَمَ شَاةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ، أَوْ لَمَسَ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا. [مَسْأَلَة الْحَجَّ لَا يُفْسِد بِتَكْرَارِ النَّظَرِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ] (2391) مَسْأَلَة: قَالَ: (وَإِنْ نَظَرَ، فَصَرَفَ بَصَرَهُ، فَأَمْنَى، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْنَى، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، فِي مَنْ رَدَّدَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْنَى: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٍ؛ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْمُبَاشَرَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْفِكْرِ وَالِاحْتِلَامِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ. ثُمَّ إنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ، وَآكَدُ فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ نَظَرَ وَلَمْ يُكَرِّرْ، فَأَمْنَى، فَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَإِنْ كَرَّرَهُ، فَأَنْزَلَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَيْهِ شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ، أَشْبَهَ الْفِكْرَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنْزَالٌ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، فَأَوْجَبَ الْفِدْيَة، كَاللَّمْسِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: فَعَلَ اللَّهُ بِهَذِهِ وَفَعَلَ، إنَّهَا تَطَيَّبَتْ لِي، فَكَلَّمَتْنِي، وَحَدَّثَتْنِي، حَتَّى سَبَقَتْنِي الشَّهْوَةُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتْمِمْ حَجَّك، وَأَهْرِقْ دَمًا. وَرَوَى حَنْبَلٌ. فِي (الْمَنَاسِكِ) ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ مُحْرِمًا نَظَرَ إلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى أَمْذَى، فَجَعَلَ يَشْتُمُهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْرِقْ دَمًا، وَلَا تَشْتُمْهَا. [فَصْل كَرَّرَ الْمُحْرِم النَّظَر حَتَّى أَمَذَى] (2392) فَصْلٌ: فَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْذَى: فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَنِيِّ، وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْتِذَاذٌ، فَهُوَ كَاللَّمْسِ. وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالنَّظَرِ مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَمْ يُكَرِّرْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ جَرَّدَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ غَيْرُ التَّجْرِيدِ، أَنَّ عَلَيْهِ شَاةً، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْسٌ، فَإِنَّ التَّجْرِيدَ لَا يُعَرَّى عَنْ اللَّمْسِ ظَاهِرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَمْنَى أَوْ أَمْذَى، أَمَّا مُجَرَّدُ، النَّظَرِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَى نِسَائِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ. [فَصْل فَكَّرَ الْمُحْرِمُ فَأَنْزَلَ] (2393) فَصْلٌ: فَإِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْفِكْرَ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ، فَلَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، كَمَا فِي الصِّيَامِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْل الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِي الْوَطْءِ لِلْمُحْرِمِ سَوَاءٌ] (2394) فَصْلٌ: وَالْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِي الْوَطْءِ سَوَاءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ، فَقَدْ ذَهَبَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ، فَقَدْ ذَهَبَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ النِّسْيَانَ هَاهُنَا، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ فِي الصِّيَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ أَوْ دُونَ الْفَرْجِ مَعَ الْإِنْزَالِ يَسْتَوِي عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمَذْيِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، فَهَاهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكَادُ يَتَطَرَّقُ النِّسْيَانُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالْفَوَاتِ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ. وَالْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْمُكْرَهُ فِي حُكْمِ النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّ عَمْدَ الْوَطْءِ وَنِسْيَانَهُ سَوَاءٌ. أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَافْتَرَقَ فِيهَا وَطْءُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي، كَالصَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالْفَوَاتِ، وَالصَّوْمُ مَمْنُوعٌ. ثُمَّ إنَّ الصَّوْمَ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ بِالْإِفْسَادِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ إفْسَادَهُ بِكُلِّ مَا عَدَا الْجِمَاعَ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِخُصُوصِ الْجِمَاعِ فَافْتَرَقَا. [مَسْأَلَة لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَّجِرَ وَيَصْنَعَ الصَّنَائِعَ وَيَرْتَجِعَ زَوْجَتَهُ] (2395) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَّجِرَ، وَيَصْنَعَ الصَّنَائِعَ، وَيَرْتَجِعَ زَوْجَتَهُ) وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الِارْتِجَاعِ، أَنْ لَا يَفْعَلَ. أَمَّا التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ فَلَا نَعْلَمُ فِي إبَاحَتِهِمَا اخْتِلَافًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَر النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. فَأَمَّا الرَّجْعَةُ، فَالْمَشْهُورُ إبَاحَتُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهَا لَا تُبَاحُ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ بِعَقْدٍ، فَلَا تُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ، كَالنِّكَاحِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . فَأُبِيحَ ذَلِكَ كَالْإِمْسَاكِ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةٌ، فَإِنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُبَاحَةٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ، فَتَبْطُلُ بُشْرَى الْأَمَةِ لِلشِّرَاءِ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إبَاحَةُ الزَّوْجَةِ مُبَاحٌ فِي النِّكَاحِ، كَالتَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ. وَأَمَّا شِرَاءُ الْإِمَاءِ فَمُبَاحٌ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الشِّرَاء أَوْ لَمْ يَقْصِدْ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعِ الِاسْتِبَاحَةِ فِي الْبِضْعِ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ الْعَبِيدِ وَالْبَهَائِمِ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ فِي حَالَةٍ يُحْرِم فِيهَا الْوَطْءُ. [مَسْأَلَة لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُل الْحَدَأَة وَالْغُرَاب وَالْفَأْرَة وَالْعَقْرَب وَالْكَلْب الْعَقُور] (2396) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْحِدَأَةَ، وَالْغُرَابَ، وَالْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ، أَوْ آذَاهُ، وَلَا فِدَاءَ عَلَيْهِ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ قَتْلَ الْفَأْرَةِ. وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي حِلِّ قَتْلِهَا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ غُرَابُ الْبَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُبَاحُ مِنْ الْغِرْبَانِ إلَّا الْأَبْقَعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحِدَأَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ الْغِرْبَانِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ؛ قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ، لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جُنَاحٌ فِي قَتْلِهِنَّ» . وَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتْلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ» . وَهَذَا عَامٌّ فِي الْغُرَابِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَلِأَنَّ غُرَابَ الْبَيْنِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 يَعْدُو عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، فَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْعُمُومِ. وَفَارَقَ مَا أُبِيحَ أَكْلُهُ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِهِ تَخْصِيصُ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ أَوْ آذَاهُ) . يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَبْدَأُ الْمُحْرِمَ، فَيَعْدُو عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَى قَاتِلِهِ، سَوَاء كَانَ مِنْ جِنْسٍ طَبْعُهُ الْأَذَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ السَّبُعَ إذَا بَدَأَ الْمُحْرِمَ، فَقَتَلَهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا كَانَ طَبْعُهُ الْأَذَى وَالْعُدْوَانَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَذًى فِي الْحَالِ. قَالَ مَالِكٌ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ، مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ. فَعَلَى هَذَا يُبَاحُ قَتْلُ كُلِّ مَا فِيهِ أَذًى لِلنَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي أَمْوَالِهِمْ، مِثْلُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كُلِّهَا، الْمُحَرَّمِ أَكْلُهَا، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِي، وَالْعُقَابِ، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهَيْنِ، وَنَحْوِهَا، وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالزُّنْبُورِ، وَالْبَقِّ، وَالْبَعُوضِ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَالذُّبَابِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَقْتُلُ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، وَالذِّئْبَ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْخَبَرَ نَصَّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَلَى صُورَةٍ مِنْ أَدْنَاهُ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَدَلَالَةً عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، فَنَصُّهُ عَلَى الْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَازِي وَنَحْوِهِ، وَعَلَى الْفَأْرَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَشَرَاتِ، وَعَلَى الْعَقْرَبِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَيَّةِ، وَعَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ تَنْبِيهٌ عَلَى السِّبَاعِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ، وَلَا بِقِيمَتِهِ، لَا يُضْمَنُ، كَالْحَشَرَاتِ. [فَصْل مَا لَا يُؤْذِي بِطَبْعِهِ وَلَا يُؤْكَلُ كَالرَّخَمِ وَالدِّيدَانِ فَلَا أَثَر لِلْحَرَمِ وَلَا لِلْإِحْرَامِ فِيهِ] (2397) فَصْلٌ: وَمَا لَا يُؤْذِي بِطَبْعِهِ، وَلَا يُؤْكَلُ كَالرَّخَمِ، وَالدِّيدَانِ، فَلَا أَثَرَ لِلْحَرَمِ وَلَا لِلْإِحْرَامِ فِيهِ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ إنْ قَتَلَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْرُمُ قَتْلُهَا، وَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبُعٍ لَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ. وَإِذَا وَطِئَ الذُّبَابَ وَالنَّمْلَ أَوْ الذَّرَّ، أَوْ قَتَلَ الزُّنْبُورَ، تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الصَّيْدُ مَا جَمَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَيَكُونُ مُبَاحًا وَحْشِيًّا مُمْتَنِعًا. وَلِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَرَدَ بَعِيرَهُ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَزَعَ الْقُرَادَ عَنْهُ، وَرَمَاهُ. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعِكْرِمَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ: قُرِدَ الْبَعِيرُ. فَكَرِهَ ذَلِكَ. فَقَالَ: قُمْ فَانْحَرْهُ. فَنَحَرَهُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُمَّ لَك، كَمْ قَتَلْت فِيهَا مِنْ قُرَادٍ وَحَلَمَةٍ وَحَمْنَانَة؟ يَعْنِي كِبَارَ الْقُرَادِ. رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 [فَصْل لَا تَأْثِيرَ لِلْإِحْرَامِ وَلَا لِلْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ] (2398) فَصْلٌ: وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِحْرَامِ وَلَا لِلْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّيْدَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْبَحُ الْبُدْنَ فِي إحْرَامِهِ فِي الْحَرَمِ، يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» . يَعْنِي إسَالَةَ الدِّمَاءِ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ. [فَصْل صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ] (2399) فَصْلٌ: وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُ الْبَحْرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ: طَعَامُهُ مَا أَلْقَاهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مِلْحُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: طَعَامُهُ الْمِلْحُ، وَصَيْدُهُ مَا اصْطَدْنَا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وَأَكْلُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ. وَصَيْدُ الْبَحْرِ: الْحَيَوَانُ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَيَبِيضُ فِيهِ، وَيُفْرِخُ فِيهِ، كَالسَّمَكِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، مِثْلَ السُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ، فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَبِيضُ فِي الْمَاءِ، وَيُفْرِخُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ السَّمَكَ. فَأَمَّا طَيْرُ الْمَاءِ، كَالْبَطِّ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ الْجَزَاءُ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ، فَهُوَ صَيْدُهُ. وَقَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ، وَيُفْرِخُ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، كَسَائِرِ طَيْرِهِ، وَإِنَّمَا إقَامَتُهُ فِي الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَالْمَعِيشَةِ مِنْهُ، كَالصَّيَّادِ. فَإِنْ كَانَ جِنْسٌ مِنْ الْحَيَوَانِ، نَوْعٌ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ وَنَوْعٌ فِي الْبَرِّ، كَالسُّلَحْفَاةِ، فَلِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمُ نَفْسِهِ، كَالْبَقَرِ، مِنْهَا الْوَحْشِيُّ مُحَرَّمٌ، وَالْأَهْلِيُّ مُبَاحٌ. [مَسْأَلَة صَيْدُ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ] (2400) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَصَيْدُ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ) الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا النَّصُّ، فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لَأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وَبُيُوتِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا الْإِذْخِرَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ. [فَصْل جَزَاءُ مِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَم] (2401) فَصْلٌ: وَفِيهِ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ يَقْتُلُهُ، وَيُجْزَى بِمِثْلِ مَا يُجْزَى بِهِ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَيَبْقَى بِحَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَضَوْا فِي حَمَامِ الْحَرَمِ بِشَاةٍ شَاةً. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَشْبَهَ الصَّيْدَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ. [فَصْل مَا يُحَرَّمُ وَيَضْمَن فِي الْإِحْرَامِ يُحَرَّمُ وَيَضْمَن فِي الْحَرَمِ] (2402) فَصْلٌ: وَمَا يُحَرَّمُ وَيُضْمَنُ فِي الْإِحْرَامِ يُحَرَّمُ وَيُضْمَنُ فِي الْحَرَمِ، وَمَا لَا فَلَا، إلَّا شَيْئَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، الْقَمْلُ. مُخْتَلَفٌ فِي قَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ بِلَا اخْتِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حُرِّمَ فِي الْإِحْرَامِ لِلتَّرَفُّهِ بِقَتْلِهِ وَإِزَالَتِهِ، لَا لِحُرْمَتِهِ، وَلَا يُحَرَّمُ التَّرَفُّهُ فِي الْحِلِّ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ قَصَّ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الظُّفْرِ. الثَّانِي، صَيْدُ الْبَحْرِ. مُبَاحٌ فِي الْإِحْرَام بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ مِنْ آبَارِ الْحَرَمِ وَعُيُونِهِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا.» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ لِلصَّيْدِ، كَحُرْمَةِ الْمَكَانِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ صَيْدٍ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ غَيْرُ مُؤْذٍ، فَأَشْبَهَ الظِّبَاءَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُحَرِّمُهُ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ وَالْحَيَوَانَ الْأَهْلِيَّ. [فَصْل ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ] (2403) فَصْلٌ: وَيُضْمَنُ صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَعَلَّقَتْ بِمَحَلِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالْآدَمِيِّ. [فَصْل مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأُدَخِّلهُ الْحَرَم] (2404) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ، لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ وَإِرْسَالُهُ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَصَيْدِ الْحِلِّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ ذَبَحَهُ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَمِمَّنْ كَرِهَ إدْخَالَ الصَّيْدِ الْحَرَمَ، ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ فِيهِ جَابِرُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَتْ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ لَهُ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ هِشَامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الْأَقْفَاصِ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا. وَرَخَّصَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ خَارِجًا، وَحَلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَجَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ، كَصَيْدِ الْمَدِينَةِ إذَا أَدْخَلَهُ حَرَمَهَا. وَلَنَا، أَنَّ الْحَرَمَ سَبَبٌ مُحَرِّمٌ لِلصَّيْدِ، وَيُوجِبُ ضَمَانَهُ فَحَرَّمَ اسْتِدَامَةَ إمْسَاكِهِ كَالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ، كَمَا لَوْ صَادَهُ مِنْهُ، وَصَيْدُ الْمَدِينَةِ لَا جَزَاءَ فِيهِ، بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ. [فَصْل يَضْمَن صَيْدُ الْحَرَمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ] (2405) فَصْلٌ: وَيُضْمَنُ صَيْدُ الْحَرَمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ، كَصَيْدِ الْإِحْرَامِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّالِ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِ إذَا كَانَ فِي الْحِلِّ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْمَدْلُولِ وَحْدَهُ، كَالْحَلَالِ إذَا دَلَّ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدِهِ. وَلَنَا، أَنَّ قَتْل الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ حَرَامٌ عَلَى الدَّالِّ، فَيَضْمَنُهُ بِالدَّلَالَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» . وَفِي لَفْظٍ: «لَا يُصَادُ صَيْدُهَا» . وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مَعْصُومٌ بِمَحَلِّهِ، فَحُرِّمَ قَتْلُهُ عَلَيْهِمَا كَالْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ. وَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا فَيُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، كَمَا يُضْمَنُ بِدَلَالَةِ الْمُحْرِمِ عَلَيْهِ. [فَصْل رَمْي الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ] (2406) فَصْلٌ: وَإِذَا رَمَى الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَلَى فَرْعٍ فِي الْحَرَمِ أَصِلُهُ فِي الْحِلِّ، ضَمِنَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَهَذَا مِنْ صَيْدِهِ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مَعْصُومٌ بِمَحَلِّهِ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَلَا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ بِمَنْ فِي الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ أَمْسَكَ طَائِرًا فِي الْحِلِّ، فَهَلَكَ فِرَاخُهُ فِي الْحَرَمِ، ضَمِنَ الْفِرَاخَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَضْمَنُ الْأُمَّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ. وَإِنْ انْعَكَسَتْ الْحَالُ، فَرَمَى مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ، أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ أَمْسَكَ حَمَامَةً فِي الْحَرَمِ، فَهَلَكَ فِرَاخُهَا فِي الْحِلِّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْحِلِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ فِي الْحَرَمِ، فَصَادَ فِي الْحِلِّ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ: يَضْمَنُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ وَأَبُو ثَوْرِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، فِي مَنْ قَتَلَ طَائِرًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ، أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْغُصْنَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الصَّيْدِ، فَحَرَّمَ صَيْدُ الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» . وَبِالْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ صَيْدُ حِلٍّ صَادَهُ حَلَالٌ، فَلَمْ يُحَرَّمْ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، أَوْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. (2407) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ وَالصَّائِدُ فِي الْحِلِّ، فَرَمَى الصَّيْدَ بِسَهْمِهِ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ، فَدَخَلَ الْحَرَمَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ، فَلَا جَزَاءَ فِيهِ. وَبِهَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَزِيدُ سَهْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ عَدَا بِنَفْسِهِ، فَسَلَكَ الْحَرَمَ فِي طَرِيقِهِ، ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَسَهْمُهُ أَوْلَى. [فَصْل رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَقَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ] (2408) فَصْلٌ: وَإِنْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، فَقَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ، كَمَا لَوْ رَمَى حَجَرًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْخَطَأَ كَالْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَأَمَّا إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، فَدَخَلَ الْكَلْبُ الْحَرَمَ، فَقَتَلَ صَيْدًا آخَرَ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ الْكَلْبَ عَلَى ذَلِكَ الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إرْسَالٍ. وَإِنْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَدَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ، وَدَخَلَ الْكَلْبُ خَلْفَهُ، فَقَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ، فَكَذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا، بِإِرْسَالِ كَلْبِهِ عَلَيْهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَهْمِهِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ. وَحَكَى صَالِحٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الصَّيْدُ قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ بِإِرْسَالِهِ فِي مَوْضِعٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ. كَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا سِوَاهُ، وَفَارَقَ السَّهْمَ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ، وَلِهَذَا يَسْتَرْسِلُ بِنَفْسِهِ، وَيُرْسِلُهُ إلَى جِهَةٍ فَيَمْضِي إلَى غَيْرِهَا، وَالسَّهْمُ بِخِلَافِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ الصَّيْدَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، ضَمِنَهُ أَوْ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ حَرَمِيٌّ، قُتِلَ فِي الْحَرَمِ، فَحُرِّمَ، كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ، وَلِأَنَّنَا إذَا قَطَعْنَا فِعْلَ الْآدَمِيِّ، صَارَ كَأَنَّ الْكَلْبَ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ، فَقَتَلَهُ. وَلَكِنْ لَوْ رَمَى الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، فَجَرَحَهُ، وَتَحَامَلَ الصَّيْدُ فَدَخَلَ الْحَرَمَ، فَمَاتَ فِيهِ، حَلَّ أَكْلُهُ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ حَصَلَتْ فِي الْحِلِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ، فَمَاتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 الصَّيْدُ بَعْدَ إحْرَامِهِ. وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ؛ لِمَوْتِهِ فِي الْحَرَمِ. [فَصْل وَقَفَ صَيْدٌ بَعْضُ قَوَائِمه فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ قَاتِلٌ] (2409) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ صَيْدٌ، بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ قَاتِلٌ، ضَمِنَهُ تَغْلِيبًا لِلْحَرَمِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ نَفَّرَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فِي حَالِ نُفُورِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ بِشَرَكِهِ أَوْ شَبَكَتِهِ. وَإِنْ سَكَنَ مِنْ نُفُورِهِ، ثُمَّ أَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ نَفَّرَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ وَقَعَتْ عَلَى رِدَائِهِ حَمَامَةٌ، فَأَطَارَهَا، فَوَقَعَتْ عَلَى وَاقِفٍ فَانْتَهَزَتْهَا حَيَّةٌ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانَ وَنَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِث فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِشَاةٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا عَلَيْهِ الضَّمَانَ بَعْدَ سُكُوتِهِ. لَكِنْ لَوْ انْتَقَلَ عَنْ الْمَكَانِ الثَّانِي، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي طَرْد إلَيْهِ، وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ سُفْيَان قَالَ: إذَا طَرَدْت فِي الْحَرَمِ شَيْئًا، فَأَصَابَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ، أَوْ حِينَ وَقَعَ، ضَمِنْت، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ إلَى مَكَان آخَرَ، فَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ: جَيِّدٌ. [مَسْأَلَة قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ] (2410) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ شَجَرُهُ وَنَبَاتُهُ، إلَّا الْإِذْخِرَ، وَمَا زَرَعَهُ الْإِنْسَانُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَإِبَاحَةِ أَخْذِ الْإِذْخِر، وَمَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ الْبُقُولِ وَالزُّرُوعِ وَالرَّيَاحِينِ. حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةِ، فِي (سُنَنِهِ) ، وَفِيهِ: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا» . فَأَمَّا مَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ الشَّجَرِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ: لَهُ قَلْعُهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، كَالزَّرْعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا نَبَتَ فِي الْحِلِّ، ثُمَّ غُرِسَ فِي الْحَرَمِ، فَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَمَا نَبَتَ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ. فَفِيهِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ، أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ، أَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» . وَلِأَنَّهَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ فِي الْحَرَمِ، أَشْبَهَ مَا لَمْ يُنْبِتْهُ الْآدَمِيُّونَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا جَزَاءَ فِيمَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّونَ جِنْسَهُ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّ مِنْ غَيْرِهِ، كَالدَّوْحِ وَالسَّلَم وَالْعِضَاهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَمِ يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ مَا كَانَ وَحْشِيًّا مِنْ الصَّيْدِ، كَذَلِكَ الشَّجَرُ. وَقَوْلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 الْخِرَقِيِّ: (وَمَا زَرَعَهُ الْإِنْسَانُ) يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَهُ بِالزَّرْعِ دُونَ الشَّجَرِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ مَا يُزْرَعُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّجَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّونَ جِنْسَهُ. وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ الشَّجَرِ كُلِّهِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا.» إلَّا مَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ جِنْسِ شَجَرِهِمْ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَنْبَتُوهُ مِنْ الزَّرْعِ، وَالْأَهْلِيِّ مِنْ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّنَا إنَّمَا أَخْرَجْنَا مِنْ الصَّيْدِ مَا كَانَ أَصْلُهُ إنْسِيًّا، دُونَ مَا تَأَنَّسَ مِنْ الْوَحْشِيِّ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِم قَطْعُ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ] (2411) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ، وَالْعَوْسَجِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْرُمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ مِنْ الْحَيَوَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا» . وَهَذَا صَرِيحٌ. وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الشَّوْكُ، فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعَ شَجَرِهَا، وَالشَّوْكُ غَالِبُهُ، كَانَ ظَاهِرًا فِي تَحْرِيمِهِ. [فَصْل لَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِقَطْعِ الْيَابِسِ مِنْ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ] (2412) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْيَابِسِ مِنْ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ. وَلَا بِقَطْعِ مَا انْكَسَرَ وَلَمْ يَبِنْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الظُّفْرِ الْمُنْكَسِرِ. وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ مِنْ الْأَغْصَانِ، وَانْقَلَعَ مِنْ الشَّجَرِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ. وَلَا مَا سَقَطَ مِنْ الْوَرَقِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْقَطْعِ، وَهَذَا لَمْ يُقْطَعْ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَهُ آدَمِيٌّ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ، إذَا قُطِعَ يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ فِي الدَّوْحَةِ تُقْلَعُ: مَنْ شَبَّهَهُ بِالصَّيْدِ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَطَبِهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إتْلَافِهِ؛ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَإِذَا قَطَعَهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ، لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، كَالصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاحَ لِغَيْرِ الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ حَيَوَانٌ بَهِيمِيٌّ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ الَّذِي ذَبَحَهُ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُعْتَبَرُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ، وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ بَهِيمَةٍ، بِخِلَافِ هَذَا. [فَصْل لَا يَأْخُذ الْمُحْرِم وَرَقِ الشَّجَرِ] (2413) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِهِ. وَكَانَ عَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِي أَخْذِ وَرَقِ السَّنَى، يَسْتَمْشِي بِهِ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ أَصْلِهِ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ أَخْذُهُ حُرِّمَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، كَرِيشِ الطَّائِرِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَضُرُّ بِهِ. لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ يُضْعِفُهَا، وَرُبَّمَا آلَ إلَى تَلَفِهَا. [فَصْل قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ] (2414) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْ الْإِذْخِرِ، وَمَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ، وَالْيَابِسَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا» . وَفِي لَفْظٍ: «لَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا.» وَفِي اسْتِثْنَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِذْخِرَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ، وَفِي جَوَازِ رَعْيِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ إتْلَافُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِ مَا يُتْلِفُهُ، كَالصَّيْدِ. وَالثَّانِي، يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ تَدْخُلُ الْحَرَمَ، فَتَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا، وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إلَى ذَلِكَ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْإِذْخِرِ. [فَصْل أَخْذُ الْكَمْأَةِ مِنْ الْحَرَمِ] (2415) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ أَخْذُ الْكَمْأَةِ مِنْ الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الْفَقْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ الضَّغَابِيسُ، والعشرق، وَمَا سَقَطَ مِنْ الشَّجَرِ، وَمَا أَنْبَتَ النَّاسُ. [فَصْل الضَّمَان عَلَى مِنْ أَتْلَفَ الشَّجَر وَالْحَشِيش فِي الْحَرَم] (2416) فَصْلٌ: وَيَجِبُ فِي إتْلَافِ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ الضَّمَانُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحِلِّ، فَلَا يَضْمَنُ فِي الْحَرَمِ، كَالزَّرْعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَجِدُ دَلِيلًا أُوجِبُ بِهِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ، فَرْضًا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُشَيْمَةَ، قَالَ: رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَمَرَ بِشَجَرٍ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الطَّوَافِ، فَقُطِعَ، وَفَدَى. قَالَ: وَذَكَرَ الْبَقَرَةَ. رَوَاهُ حَنْبَلٌ فِي (الْمَنَاسِكِ) . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْجَزْلَةِ شَاةٌ. وَالدَّوْحَةُ: الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ. وَالْجَزْلَةُ: الصَّغِيرَةُ. وَعَنْ عَطَاءٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 نَحْوُهُ. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَكَانَ مَضْمُونًا كَالصَّيْدِ، وَيُخَالِفُ الْمُحْرِمَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِ شَجَرِ الْحِلِّ، وَلَا زَرْعِ الْحَرَمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَة بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَالْحَشِيشَ بِقِيمَتِهِ، وَالْغُصْنَ بِمَا نَقَصَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَضْمَنُ الْكُلَّ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَدَّرَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْحَشِيشَ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَحْرُمُ إتْلَافُهُ، فَكَانَ فِيهِ مَا يُضْمَنُ بِمُقَدَّرٍ كَالصَّيْدِ. فَإِنْ قَطَعَ غُصْنًا أَوْ حَشِيشًا، فَاسْتَخْلَفَ، احْتَمَلَ سُقُوطُ ضَمَانِهِ، كَمَا إذَا جَرَحَ صَيْدًا فَانْدَمَلَ، أَوْ قَطَعَ شَعْرَ آدَمِيٍّ فَنَبَتَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ. [فَصْل قَلَعَ شَجَرَةً مِنْ الْحَرَمِ فَغَرَسَهَا فِي مَكَان آخَر فَيَبِسَتْ] (2417) فَصْلٌ: مَنْ قَلَعَ شَجَرَةً مِنْ الْحَرَمِ، فَغَرَسَهَا فِي مَكَان آخَرَ، فَيَبِسَتْ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا. وَإِنْ غَرَسَهَا فِي مَكَان مِنْ الْحَرَمِ، فَنَبَتَتْ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهَا، وَلَمْ يُزِلْ حُرْمَتَهَا. وَإِنْ غَرَسَهَا فِي الْحِلِّ، فَنَبَتَتْ، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ حُرْمَتَهَا. فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، أَوْ رَدَّهَا فَيَبِسَتْ، ضَمِنَهَا. وَإِنْ قَلَعَهَا غَيْرُهُ مِنْ الْحِلِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْرِجِ، كَالصَّيْدِ إذَا نَفَّرَهُ مِنْ الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي الْحِلَّ، فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُنَفِّرِ؟ قُلْنَا: الشَّجَرُ لَا يَنْتَقِلُ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَزُولُ حُرْمَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى قَالِعِهِ رَدُّهُ، وَالصَّيْدُ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ تَارَةً وَفِي الْحِلِّ أُخْرَى، فَمَنْ نَفَّرَهُ فَقَدْ فَوَّتَ حُرْمَتَهُ، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ، وَهَذَا لَمْ يُفَوِّتْ حُرْمَتَهُ بِالْإِخْرَاجِ، فَكَانَ الْجَزَاءُ عَلَى مُتْلِفِهِ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَجَرًا حَرَمِيًّا مُحَرَّمًا إتْلَافُهُ. [فَصْل إذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ فِي الْحَرَمِ وَغُصْنُهَا فِي الْحِلِّ فَعَلَى قَاطِعِهِ الضَّمَانُ] (2418) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ فِي الْحَرَمِ، وَغُصْنُهَا فِي الْحِلِّ، فَعَلَى قَاطِعِهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَصْلِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِلِّ، وَغُصْنُهَا فِي الْحَرَمِ، فَقَطَعَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَصْلِهِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَالثَّانِي، يَضْمَنُهُ. اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ، ضَمِنَ الْغُصْنَ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ صَيْدٌ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ. [فَصْل حُكْمُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا وَحَشِيشِهَا] (2419) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَشَجَرُهَا وَحَشِيشُهَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا عَامًّا، وَلَوَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ، كَصَيْدِ الْحَرَمِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إلَى عِيرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى تَحْرِيمَ الْمَدِينَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَرَافِعٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ. مُتَّفَقٌ عَلَى أَحَادِيثِهِمْ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَعْدٍ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ الْبَيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الدَّرَجَةِ دُونَ أَخْبَارِ تَحْرِيمِ الْحَرَمِ، وَقَدْ قَبِلُوهُ وَأَثْبَتُوا أَحْكَامَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُبَيِّنَهُ بَيَانًا خَاصًّا، أَوْ يُبَيِّنَهُ بَيَانًا عَامًّا، فَيُنْقَلُ نَقْلًا خَاصًّا، كَصِفَةِ الْأَذَانِ وَالْوِتْرِ وَالْإِقَامَةِ. [فَصْل حَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا] (2420) فَصْلٌ: وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُول: لَوْ رَأَيْت الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّابَةُ: الْحَرَّةُ، وَهِيَ أَرْضٌ فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ. بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ، كَذَا فَسَّرَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ اثْنَا عَشَرِ مِيلًا حِمًى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إلَى عِيرٍ» . فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ: لَا نَعْرِفُ بِهَا ثَوْرًا وَلَا عِيرًا. وَإِنَّمَا هُمَا جَبَلَانِ بِمَكَّةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ قَدْرَ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ وَعِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ جَبَلَيْنِ بِالْمَدِينَةِ، وَسَمَّاهُمَا ثَوْرًا وَعِيرًا، تَجَوُّزًا. [فَصْل فَعَلَ الْمُحْرِم شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ] (2421) فَصْلٌ: فَمَنْ فَعَلَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا جَزَاءَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ جَزَاءٌ، كَصَيْدِ وَجِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وَالثَّانِيَةُ، يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ، مِثْلَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» . وَنَهَى أَنْ يُعْضَدَ شَجَرُهَا، وَيُؤْخَذَ طَيْرُهَا، فَوَجَبَ فِي هَذَا الْحَرَمِ الْجَزَاءُ، كَمَا وَجَبَ فِي ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَظْهَرْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَجَزَاؤُهُ إبَاحَةُ سَلَبَ الْقَاتِلِ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا، أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَ أَهْلُ الْعَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ، فَلْيَسْلُبْهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَعَلَى هَذَا يُبَاحُ لِمَنْ وَجَدَ آخِذَ الصَّيْدِ أَوْ قَاتِلَهُ، أَوْ قَاطِعَ الشَّجَرِ سَلَبُهُ، وَهُوَ أَخْذُ ثِيَابِهِ حَتَّى سَرَاوِيلِهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَهَا؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهَا قَاتِلُ الْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ أَحَدٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، سِوَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ. [فَصْل يُفَارِقُ حَرَمُ الْمَدِينَة حَرَمَ مَكَّةَ فِي شَيْئَيْنِ] (2422) فَصْل: وَيُفَارِقُ حَرَمُ الْمَدِينَةِ حَرَمَ مَكَّةَ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، لِلْمَسَانِدِ وَالْوَسَائِدِ وَالرَّحْلِ، وَمِنْ حَشِيشِهَا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِلْعَلْفِ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا أَصْحَابُ عَمَلٍ، وَأَصْحَابُ نَضْحٍ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَرْضًا غَيْرَ أَرْضِنَا، فَرَخِّصْ لَنَا، فَقَالَ: الْقَائِمَتَانِ، وَالْوِسَادَةُ، وَالْعَارِضَةُ، وَالْمِسْنَدُ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُعْضَدُ، وَلَا يُخْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ» . قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ خَارِجَةُ: الْمِسْنَدُ مِرْوَدُ الْبَكَرَةِ. فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مُبَاحًا، كَاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرَ بِمَكَّةَ وَعَنْ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ إلَى ثَوْرٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ، إلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ» وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُخْبَطُ وَلَا يُعْضَدُ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ يُهَشُّ هَشًّا رَفِيقًا» . رَوَاهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ يَقْرُبُ مِنْهَا شَجَرٌ وَزَرْعٌ، فَلَوْ مَنَعْنَا مِنْ احْتِشَاشِهَا، مَعَ الْحَاجَةِ، أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ، بِخِلَافِ مَكَّةَ، الثَّانِي، أَنَّ مَنْ صَادَ صَيْدًا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ إلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ إرْسَالُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُول: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» . وَهُوَ طَائِرٌ صَغِيرٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَبَاحَ إمْسَاكَهُ بِالْمَدِينَةِ، إذْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، وَحُرْمَةُ مَكَّةَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مُحْرِمٌ. [فَصْل صَيْدُ وَجٍّ وَشَجَرُهُ مُبَاحٌ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ] (2423) فَصْلٌ: صَيْدُ وَجٍّ وَشَجَرُهُ مُبَاحٌ؛ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَيْدُ وَجٍّ وَعِضَاهُهَا مُحَرَّمٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي (الْمُسْنَدِ) . وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، فِي كِتَابِ (الْعِلَلِ) . [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَمَنَعَهُ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ] (2424) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ حُصِرَ بِعَدُوٍّ، نَحَرَ مَا مَعَهُ مِنْ الْهَدْيِ، وَحَلَّ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ غَيْرِهِمْ، فَمَنَعُوهُ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ، وَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آمِنًا، فَلَهُ التَّحَلُّلُ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ حُصِرُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَنْحَرُوا، وَيَحْلِقُوا، وَيَحِلُّوا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، أَوْ بِهِمَا، فِي قَوْلِ إمَامِنَا، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَا يَتَحَلَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوَاتَ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَصْرِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ، فَحَلُّوا جَمِيعًا. وَعَلَى مَنْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ الْهَدْيُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، لَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ؛ لِأَنَّهُ تَحَلُّلٌ أُبِيحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، أَشْبَهَ مَنْ أَتَمَّ حَجَّهُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَصْرِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ إتْمَامِ نُسُكِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، كَاَلَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ أَتَمَّ حَجَّهُ. [فَصْل لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَصْرِ الْعَامِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ كُلّه وَبَيْنَ الْخَاصِّ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ] (2425) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَصْرِ الْعَامِّ فِي حَقِّ الْحَاجِّ كُلِّهِ، وَبَيْنَ الْخَاصِّ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ أَنْ يُحْبَسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ أَخَذَتْهُ اللُّصُوصُ وَحْدَهُ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ. فَأَمَّا مَنْ حُبِسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الْحَبْسِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ عَاجِزًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 عَنْ أَدَائِهِ، فَحَبَسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ، كَمَنْ ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، يَحِلُّ قَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ، فَمَنَعَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْحَجِّ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ الْمَرْأَةُ لِلتَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، فَلَهُمَا مَنْعُهَا، وَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ. (2426) فَصْل: إنْ أَمْكَنَ الْمُحْصَرَ الْوُصُولُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَلَزِمَهُ سُلُوكُهَا، بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ، خَشِيَ الْفَوَاتَ أَوْ لَمْ يَخْشَهُ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ لَمْ يَفُتْ، وَإِنْ كَانَ بِحَجٍّ فَفَاتَهُ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَحَلَّلْ الْمُحْصَرُ حَتَّى خُلِّيَ عَنْهُ، لَزِمَهُ السَّعْيُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ، لِيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُ، كَمَنَ فَاتَهُ بِخَطَأِ الطَّرِيقِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفَوَاتِ الْحَصْرُ، أَشْبَهَ مِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى، بِخِلَافِ الْمُخْطِئِ. [فَصْل أُحْصِرَ فَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى فَتَحَلَّلَ] (2427) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى، فَتَحَلَّلَ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا يَفْعَلُهُ بِالْوُجُوبِ السَّابِقِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَحَلَّلَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَضَى مِنْ قَابِلٍ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ جَازَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ، مَعَ صَلَاحِ الْوَقْتِ لَهُ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَكُنْ، فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَإِنَّ الَّذِينَ صُدُّوا كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَاَلَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا نَفَرًا يَسِيرًا، وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا بِالْقَضَاءِ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَا الْقَضِيَّةَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا، وَلَوْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ لَقَالُوا: عُمْرَةَ الْقَضَاءِ. وَيُفَارِقُ الْفَوَاتَ، فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْل وَإِذَا قَدَرَ الْمُحْصَرُ عَلَى الْهَدْيِ فَلَيْسَ لَهُ الْحِلُّ قَبْلَ ذَبْحِهِ] (2428) فَصْلٌ: وَإِذَا قَدَرَ الْمُحْصَرُ عَلَى الْهَدْيِ، فَلَيْسَ لَهُ الْحِلُّ قَبْلَ ذَبْحِهِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ قَدْ سَاقَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ إنْ أَمْكَنَهُ، وَيُجْزِئُهُ أَدْنَى الْهَدْيِ، وَهُوَ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَلَهُ نَحْرُهُ فِي مَوْضِعِ حَصْرِهِ، مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَطْرَافِ الْحَرَمِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَنْحَرٌ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، يَنْحَرُهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ هَدْيَهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 لِلْمُحْصَرِ نَحْرُ هَدْيِهِ إلَّا فِي الْحَرَمِ، فَيَبْعَثُهُ، وَيُوَاطِئُ رَجُلًا عَلَى نَحْرِهِ فِي وَقْتٍ يَتَحَلَّلُ فِيهِ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي مَنْ لُدِغَ فِي الطَّرِيقِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ. وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فِي مَنْ كَانَ حَصْرُهُ خَاصًّا، وَأَمَّا الْحَصْرُ الْعَامُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعَذُّرِ الْحِلِّ، لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْهَدْيِ إلَى مَحِلِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ نَحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ حَلَقُوا، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إلَى الْبَيْتِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَعُودُوا لَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ هَدْيَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيرَةِ وَالنَّقْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] . وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ حِلِّهِ، فَكَانَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ، كَالْحَرَمِ، وَسَائِرُ الْهَدَايَا يَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ نَحْرُهَا فِي مَوْضِعِ تَحَلُّلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . وَقَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] . وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. قُلْنَا: الْآيَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَرِ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْمُحْصَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ، وَتَحَلُّلَ غَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْحَرُ فِي مَوْضِعِ تَحَلُّلِهِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . أَيْ حَتَّى يُذْبَحَ، وَذَبْحُهُ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فِي مَوْضِعِ حِلِّهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْل مَتَى كَانَ الْمُحْصَرُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَلَهُ التَّحَلُّلُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ] (2429) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَ الْمُحْصَرُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَلُّوا وَنَحَرُوا هَدَايَاهُمْ بِهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، فَكَذَلِكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَجَازَ الْحِلُّ مِنْهُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ، كَالْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُ، وَجَمِيعُ الزَّمَانِ وَقْتٌ لَهَا، فَإِذَا جَازَ الْحِلُّ مِنْهَا وَنَحْرُ هَدْيِهَا مِنْ غَيْرِ خَشْيَةِ فَوَاتِهَا، فَالْحَجُّ الَّذِي يُخْشَى فَوَاتُهُ أَوْلَى. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَحِلُّ، وَلَا يَنْحَرُ هَدْيَهُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَحَنْبَلٍ؛ لِأَنَّ لِلْهَدْيِ مَحِلَّ زَمَانٍ وَمَحِلَّ مَكَان. فَإِنْ عَجَزَ مَحِلُّ الْمَكَانِ فَسَقَطَ، بَقِيَ مَحِلُّ الزَّمَانِ وَاجِبًا لِإِمْكَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَمْ يَجُزْ التَّحَلُّلُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الْإِقَامَةُ مَعَ إحْرَامِهِ، رَجَاءَ زَوَالِ الْحَصْرِ، فَمَتَى زَالَ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ، فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِإِتْمَامِ نُسُكِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ مَنْ يَئِسِ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ، إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَنَاسِكَهُ، وَإِنْ زَالَ الْحَصْرُ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ، تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَإِنْ فَاتَ الْحَجُّ قَبْلَ زَوَالِ الْحَصْرِ، تَحَلَّلَ بِهَدْيٍ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ هَاهُنَا هَدَيَانِ؛ هَدْيٌ لِلْفَوَاتِ، وَهَدْيٌ لِلْإِحْصَارِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، هَدْيًا ثَانِيًا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَحَلَّلُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ. [فَصْل أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَة] (2430) فَصْلٌ: فَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُهُ التَّحَلُّلُ مِنْ جَمِيعِهِ، فَأَفَادَ التَّحَلُّلَ مِنْ بَعْضِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا حُصِرَ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، كَالرَّمْيِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ أَوْ بِمِنًى فِي لَيَالِيهَا، فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ لَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِهِ ذَلِكَ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ. وَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنَّمَا هُوَ عَنْ النِّسَاءِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ التَّامِّ، الَّذِي يُحَرِّمُ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِهِ، فَلَا يَثْبُتُ بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ، وَمَتَى زَالَ الْحَصْرُ أَتَى بِالطَّوَافِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. [فَصْل الْمَحْصِر إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ عَنْ عَرَفَة] (2431) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْتِ وَيُصَدُّ عَنْ عَرَفَةَ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، فَمَعَ الْحَصْرِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ وَسَعَى لِلْقُدُومِ، ثُمَّ أُحْصِرَ، أَوْ مَرِضَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ طَوَافَ الْعُمْرَةِ، وَلَا سَعْيَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَاتَهُ بِغَيْرِ حَصْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَمِرُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُتَمِّمُ عَنْهُ أَفْعَالَ الْحَجِّ، جَازَ فِي التَّطَوُّعُ؛ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي جُمْلَتِهِ، فَجَازَ فِي بَعْضِهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، إلَّا إنْ يَئِسَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، كَمَا فِي الْحَجِّ كُلِّهِ. [فَصْل تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنْ الْحَجِّ فَزَالَ الْحَصْرُ وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ] (2432) فَصْلٌ: وَإِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنْ الْحَجِّ، فَزَالَ الْحَصْرُ، وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ لَزِمَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَتْ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً، وَلَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنْ لَمْ يُحْرِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 [فَصْل الْمَحْصِرَ فِي حَجٍّ فَاسِدٍ] (2433) فَصْلٌ: وَإِنْ أُحْصِرَ فِي حَجٍّ فَاسِدٍ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ فِي الْحَجِّ الصَّحِيحِ، فَالْفَاسِدُ أَوْلَى. فَإِنْ حَلَّ، ثُمَّ زَالَ الْحَصْرُ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ. وَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي الْعَامِ الَّذِي أُفْسِدَ الْحَجُّ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [مَسْأَلَة الْمَحْصَرَ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ] (2434) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْصَرَ، إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ، انْتَقَلَ إلَى صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَمٌ وَاجِبٌ لِلْإِحْرَامِ، فَكَانَ لَهُ بَدَلٌ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَتَرْكُ النَّصِّ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ الِانْتِقَالُ إلَى صِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، كَبَدَلِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا بَعْدَ الصِّيَامِ، كَمَا لَا يَتَحَلَّلُ وَاجِدُ الْهَدْيِ إلَّا بِنَحْرِهِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ مَعَ ذَبْحِ الْهَدْيِ أَوْ الصِّيَامِ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْهَدْيِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَشْرُطْ سِوَاهُ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِعْلُهُ فِي النُّسُكِ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَلَعَلَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْحَلَّاق نُسُكٌ أَوْ إطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْل لَا يَتَحَلَّلُ الْمَحْصِر إلَّا بِالنِّيَّةِ] (2435) فَصْلٌ: وَلَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا، فَيَحْصُلُ الْحِلُّ بِشَيْئَيْنِ؛ النَّحْرُ، أَوْ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ، إنْ قُلْنَا الْحِلَاقُ لَيْسَ بِنُسُكٍ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ. حَصَلَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْحِلَاقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ النِّيَّةَ هَاهُنَا، وَهِيَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِأَفْعَالِ النُّسُكِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، فَيَحِلُّ مِنْهَا بِإِكْمَالِهَا، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ، بِخِلَافِ الْمَحْصُورِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ الْعِبَادَةِ قَبْلَ إكْمَالِهَا، فَافْتَقَرَ إلَى قَصْدِهِ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ الْحِلِّ، فَلَمْ يَتَخَصَّصْ إلَّا بِقَصْدِهِ، بِخِلَافِ الرَّمْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلنُّسُكِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى قَصْدِهِ. [فَصْل نَوَى التَّحَلُّلَ قَبْلَ الْهَدْيِ أَوْ الصِّيَامِ لَمْ] (2436) فَصْلٌ: فَإِنْ نَوَى التَّحَلُّلَ قَبْلَ الْهَدْيِ أَوْ الصِّيَامِ، لَمْ يَتَحَلَّلْ، وَكَانَ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ أَوْ يَصُومَ؛ لِأَنَّهُمَا أُقِيمَا مُقَامَ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَهُمَا، كَمَا لَا يَتَحَلَّلُ الْقَادِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ قَبْلَهَا. وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي نِيَّةِ الْحِلِّ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتُهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ الْقَادِرُ ذَلِكَ قَبْلَ أَفْعَالِ الْحَجِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 [فَصْل كَانَ الْعَدُوُّ الَّذِي حَصَرَ الْحَاجَّ مُسْلِمِينَ فَأَمْكَنَ الِانْصِرَافُ كَانَ أَوْلَى مِنْ قِتَالِهِمْ] (2437) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ الَّذِي حَصَرَ الْحَاجَّ مُسْلِمِينَ، فَأَمْكَنَ الِانْصِرَافُ، كَانَ أَوْلَى مِنْ قِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي قِتَالِهِمْ مُخَاطَرَةً بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَقَتْلَ مُسْلِمٍ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى. وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَعُدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَنْعِهِمْ طَرِيقَهُمْ، فَأَشْبَهُوا سَائِرَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إذَا بَدَءُوا بِالْقِتَالِ، أَوْ وَقَعَ النَّفِيرُ فَاحْتِيجَ إلَى مَدَدٍ؛ وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. لَكِنْ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ بِهِمْ، اُسْتُحِبَّ قِتَالُهُمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْجِهَادِ، وَحُصُولِ النَّصْرِ، وَإِتْمَامِ النُّسُكِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ ظَفَرُ الْكُفَّارِ، فَالْأَوْلَى الِانْصِرَافُ؛ لِئَلَّا يُغَرِّرُوا بِالْمُسْلِمِينَ. وَمَتَى احْتَاجُوا فِي الْقِتَالِ إلَى لُبْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ كَالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، فَعَلُوا، وَعَلَيْهِمْ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ لُبْسَهُمْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَبِسُوا لِلِاسْتِدْفَاءِ مِنْ دَفْعِ بَرْدٍ. [فَصْل أَذِنَ الْعَدُوُّ لِلْمُحْصَرَيْنِ فِي الْعُبُور فَلَمْ يَثِقُوا بِهِمْ] (2438) فَصْلٌ: فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ الْعَدُوُّ فِي الْعُبُورِ، فَلَمْ يَثِقُوا بِهِمْ، فَلَهُمْ الِانْصِرَافُ؛ لِأَنَّهُمْ خَائِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمَنُوهُمْ، وَإِنْ وَثِقُوا بِأَمَانِهِمْ، وَكَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالْوَفَاءِ، لَزِمَهُمْ الْمُضِيُّ عَلَى إحْرَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ حَصْرُهُمْ، وَإِنْ طَلَبَ الْعَدُوُّ خَفَارَةً عَلَى تَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِأَمَانِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ بَذْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ بَاقٍ مَعَ الْبَذْلِ، وَإِنْ كَانَ مَوْثُوقًا بِأَمَانِهِ وَالْخَفَارَةُ كَثِيرَةٌ، لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ، بَلْ يُكْرَهُ إنْ كَانَ الْعَدُوُّ كَافِرًا؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا وَتَقْوِيَةً لِلْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ بَذْلِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجِبُ بَذْلُ خَفَارَةٍ بِحَالٍ، وَلَهُ التَّحَلُّلُ، كَمَا أَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آمِنًا مِنْ غَيْرِ خَفَارَةٍ. [مَسْأَلَة مُنِعَ الْحَاجّ مِنْ الْوُصُول إلَى الْبَيْت بِمَرَضِ أَوْ ذَهَاب نَفَقَة] (2439) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ بِمَرَضٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، بَعَثَ بِهَدْيٍ، إنْ كَانَ مَعَهُ، لِيَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْبَيْتِ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ بِغَيْرِ حَصْرِ الْعَدُوِّ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عَرَجٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَنَحْوِهِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِذَلِكَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَرْوَانَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَهُ التَّحَلُّلُ بِذَلِكَ. رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلِأَنَّهُ مُحْصَرٌ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . يُحَقِّقُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، يُقَال: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ إحْصَارًا، فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ، حَصْرًا، فَهُوَ مَحْصُورٌ. فَيَكُونُ اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَصْرُ الْعَدُوِّ مَقِيسٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنْ الْبَيْتِ، أَشْبَهَ مَنْ صَدَّهُ عَدُوٌّ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالْإِحْلَالِ الِانْتِقَالَ مِنْ حَالِهِ، وَلَا التَّخَلُّصَ مِنْ الْأَذَى الَّذِي بِهِ، بِخِلَافِ حَصْرِ الْعَدُوِّ. وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ. فَقَالَ: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي» . فَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ يُبِيحُ الْحِلَّ، مَا احْتَاجَتْ إلَى شَرْطٍ. وَحَدِيثُهُمْ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْكَسْرِ وَالْعَرَجِ لَا يَصِيرُ بِهِ حَلَالًا، فَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ يُبِيحُ التَّحَلُّلَ، حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا إذَا اشْتَرَطَ الْحِلَّ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ كَلَامًا، فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَذْهَبُهُ خِلَافُهُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَتَحَلَّلُ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَحَلَّلُ. فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَى إحْرَامِهِ، وَيَبْعَثُ مَا مَعَهُ مِنْ الْهَدْيِ لِيُذْبَح بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ لَهُ نَحْرُهُ فِي مَكَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ. فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، كَغَيْرِ الْمَرِيضِ. [فَصْل شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ أَنْ يَحِلّ مَتَى مَرِضَ أَوْ ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ نَفِدَتْ] (2440) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ أَنْ يَحِلَّ مَتَى مَرِضَ، أَوْ ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ، أَوْ نَفِدَتْ، أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ قَالَ إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي. فَلَهُ الْحِلُّ مَتَى وَجَدَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَا هَدْيَ، وَلَا قَضَاءَ، وَلَا غَيْرَهُ، فَإِنَّ لِلشَّرْطِ تَأْثِيرًا فِي الْعِبَادَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي صُمْت شَهْرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ مُتَفَرِّقًا. كَانَ عَلَى مَا شَرَطَهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ شَرْطًا كَانَ إحْرَامُهُ الَّذِي فَعَلَهُ إلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَكْمَلَ أَفْعَالَ الْحَجِّ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ، فَإِنْ قَالَ: إنْ مَرِضْت فَلِي أَنْ أَحِلَّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي. فَإِذَا حُبِسَ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْحِلِّ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ مَرِضْت فَأَنَا حَلَالٌ. فَمَتَى وُجِدَ الشَّرْطُ، حَلَّ بِوُجُودِهِ. لِأَنَّهُ شَرْطٌ صَحِيحٌ، فَكَانَ عَلَى مَا شَرَطَ. [مَسْأَلَة إنْ قَالَ أَنَا أَرْفُضُ إحْرَامِي وَأَحِلُّ فَلَبِسَ الثِّيَابَ وَذَبَحَ الصَّيْدَ وَعَمِلَ مَا يَعْمَلُهُ الْحَلَالُ] (2441) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَرْفُضُ إحْرَامِي وَأَحِلُّ. فَلَبِسَ الثِّيَابَ، وَذَبَحَ الصَّيْدَ، وَعَمِلَ مَا يَعْمَلُهُ الْحَلَالُ، كَانَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ، فَعَلَيْهِ لِلْوَطْءِ بَدَنَةٌ، مَعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ.) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْحَجِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ كَمَالِ أَفْعَالِهِ، أَوْ التَّحَلُّلِ عِنْد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 الْحَصْرِ، أَوْ بِالْعُذْرِ إذَا شَرَطَ، وَمَا عَدَا هَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِهِ. فَإِنْ نَوَى التَّحَلُّلَ لَمْ يَحِلَّ، وَلَا يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِرَفْضِهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِرَفْضِهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَيَكُونُ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا فِي حَقِّهِ، تَلْزَمُهُ أَحْكَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ جِنَايَةٍ جَنَاهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ وَطِئَ أَفْسَدَ حَجَّهُ، وَعَلَيْهِ لِذَلِكَ بَدَنَةٌ، مَعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ الْجِنَايَاتِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِرَفْضِهِ الْإِحْرَامَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ لَمْ تُؤَثِّرْ شَيْئًا. [مَسْأَلَة يَمْضِي فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ] (2442) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، فَإِذَا فَسَدَ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ، وَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ: يَجْعَلُ الْحَجَّةَ عُمْرَةً، وَلَا يُقِيمُ عَلَى حَجَّةٍ فَاسِدَةٍ. وَقَالَ دَاوُد: يَخْرُجُ بِالْإِفْسَادِ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْهُ، كَالْفَوَاتِ، وَالْخَبَرُ لَا يُلْزِمُنَا؛ لِأَنَّ الْمُضِيَّ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْإِحْرَامِ. وَنَخُصُّ مَالِكًا بِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى عُمْرَةٍ كَالصَّحِيحَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ الْفَاسِدِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَهُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ تَوَابِعُ الْوُقُوفِ، مِنْ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالرَّمْيِ، وَيَجْتَنِبُ بَعْدَ الْفَسَادِ كُلَّ مَا يَجْتَنِبُهُ قَبْلَهُ، مِنْ الْوَطْءِ ثَانِيًا، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَالطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، وَنَحْوِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، كَالْفِدْيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ. فَأَمَّا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَوْ بِالنَّذْرِ، أَوْ قَضَاءً، كَانَتْ الْحَجَّةُ مِنْ قَابِلٍ مُجَزِّئَةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ، أَجْزَأَهُ عَمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، لَوْ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَاسِدَةُ تَطَوُّعًا، وَجَبَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ صَارَ الْحَجُّ عَلَيْهِ وَاجِبًا، فَإِذَا أَفْسَدَهُ، وَجَبَ قَضَاؤُهُ، كَالْمَنْذُورِ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْأَصْلِيَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِذَلِكَ. [فَصْل يُحْرِم الْمَحْصِر الْقَضَاءِ مِنْ أَبْعَد الْمَوْضِعَيْنِ الْمِيقَات أَوْ مَوْضِع إحْرَامه الْأَوَّل] (2443) فَصْلٌ: وَيُحْرِمُ بِالْقَضَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْمَوْضِعَيْنِ: الْمِيقَاتِ، أَوْ مَوْضِعِ إحْرَامِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمِيقَاتُ أَبْعَدَ، فَلَا يَجُوزُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ أَبْعَدِ، فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْقَضَاءِ مِنْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّافِعِيَّ، وَإِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِفْسَادِ. وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَكَانَ قَضَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ أَدَائِهَا، كَالصَّلَاةِ. [فَصْل وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ] (2444) فَصْلٌ: وَإِذَا قَضَيَا، تَفَرَّقَا مِنْ مَوْضِعِ الْجِمَاعِ حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى سَعِيدُ، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ. فَقَالَ: أَتِمَّا حَجَّكُمَا، فَإِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ، فَحُجَّا وَاهْدِيَا، حَتَّى إذَا بَلَغْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا، فَتَفَرَّقَا حَتَّى تَحِلَّا. وَرَوَيَا عَنْ ابْنِ عَبَّاس مِثْلَ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ حَتَّى يَحِلَّا. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا خَوْفًا مِنْ مُعَاوَدَةِ الْمَحْظُورِ، وَهُوَ يُوجَدُ فِي جَمِيعِ إحْرَامِهِمَا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا قَبْلَ مَوْضِعِ الْإِفْسَادِ كَانَ إحْرَامُهُمَا فِيهِ صَحِيحًا، فَلَمْ يَجْبِ التَّفَرُّقُ فِيهِ، كَاَلَّذِي لَمْ يَفْسُدْ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ التَّفْرِيقُ بِمَوْضِعِ الْجِمَاعِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَذْكُرُهُ بِرُؤْيَةِ مَكَانِهِ، فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِهِ. وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ أَنْ لَا يَرْكَبَ مَعَهَا فِي مَحْمِلٍ، وَلَا يَنْزِلَ مَعَهَا فِي فُسْطَاطٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَتَفَرَّقَانِ فِي النُّزُولِ، وَفِي الْمَحْمِلِ وَالْفُسْطَاطِ، وَلَكِنْ يَكُونُ بِقُرْبِهَا. وَهَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ أَوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَجِبُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّفَرُّقُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا أَفْسَدَاهُ، كَذَلِكَ الْحَجُّ. وَالثَّانِي: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَمَّنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ الْأَمْرُ بِهِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يُذَكِّرُ الْجِمَاعَ، فَيَكُونُ مِنْ دَوَاعِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ التَّفْرِيقِ الصِّيَانَةُ عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْوِقَاعَ عِنْدَ تَذَكُّرِهِ بِرُؤْيَةِ مَكَانِهِ، وَهَذَا وَهْمٌ بَعِيدٌ لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. [فَصْل إنْ كَانَ الْمُعْتَمِرُ مَكِّيًّا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ] (2445) فَصْلٌ: وَالْعُمْرَةُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمِرُ مَكِّيًّا، أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ، أَحْرَمَ لِلْقَضَاءِ مِنْ الْحِلِّ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحَرَمِ، أَحْرَمَ لِلْقَضَاءِ مِنْ الْحِلِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَمَنْ حَصَلَ بِهَا مِنْ الْمُجَاوِرِينَ. وَإِنْ أَفْسَدَ الْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتَهُ، وَمَضَى فِي فَاسِدِهَا، فَأَتَمَّهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 فَيُحْرِمُ مِنْهُ لِلْحَجِّ، فَإِنْ خَشِيَ الْفَوَاتَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ الَّتِي أَفْسَدَهَا، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ يَذْبَحُهُ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ، لِمَا أَفْسَدَ مِنْ عُمْرَتِهِ. وَلَوْ أَفْسَدَ الْحَاجُّ حَجَّتَهُ، وَأَتَمَّهَا، فَلَهُ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، كَالْمَكِّيِّينَ. (2446) فَصْلٌ: وَإِذَا أَفْسَدَ الْقَضَاءَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا يَقْضِي عَنْ الْحَجِّ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَ قَضَاءَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ لِلْأَصْلِ، دُونَ الْقَضَاءِ، كَذَا هَاهُنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَزْدَادُ بِفَوَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مَا كَانَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَيُؤَدِّيهِ الْقَضَاءُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 [بَابُ ذِكْرِ الْحَجِّ وَدُخُولِ مَكَّةَ] َ يُسْتَحَبُّ الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِ مَكَّةَ؛ «لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ، «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ إذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ، أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» . وَلِأَنَّ مَكَّةَ مَجْمَعُ أَهْلِ النُّسُكِ، فَإِذَا قَصَدَهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ الِاغْتِسَالُ، كَالْخَارِجِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ وَقَدْ حَاضَتْ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . وَلِأَنَّ الْغُسْلَ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ، وَهَذَا يَحْصُلُ مَعَ الْحَيْضِ، فَاسْتُحِبَّ لَهَا ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفَعَلَهُ عُرْوَةُ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْد. [فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلَاهَا] (2447) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلَاهَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» . وَرَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا جَاءَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا وَنَهَارًا» . رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ. [مَسْأَلَة اسْتِحْبَابُ دُخُولَ الْمُحَرَّمَ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ] (2448) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَالِاسْتِحْبَابُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ) إنَّمَا اُسْتُحِبَّ دُخُولُ الْمَسْجِدِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ ارْتِفَاعَ الضُّحَى، وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ عِنْدَ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ» . وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى رَفْعَ الْيَدَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ، قَالَ: سُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ، أَيَرْفَعُ يَدَيْهِ؟ قَالَ: مَا كُنْت أَظُنُّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا إلَّا الْيَهُودَ، حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَعَلَى الْمَوْقِفَيْنِ وَالْجَمْرَتَيْنِ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 وَهَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَاكَ مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ، وَخَبَرُهُ عَنْ ظَنِّهِ وَفِعْلِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَقَدْ أُمِرَ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ. [فَصْل يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ] فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَعْظِيمًا، وَتَشْرِيفًا، وَتَكْرِيمًا، وَمَهَابَةً، وَبِرًّا، وَزِدْ مَنْ عَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ، مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَعْظِيمًا، وَتَشْرِيفًا، وَتَكْرِيمًا، وَمَهَابَةً، وَبِرًّا، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا، كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ، وَعِزِّ جَلَالِهِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَنِي بَيْتَهُ، وَرَآنِي لِذَلِكَ أَهْلًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ إنَّك دَعَوْت إلَى حَجِّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ، وَقَدْ جِئْتُك لِذَلِكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، وَاعْفُ عَنِّي، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي (مُسْنَدِهِ) : أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا، وَتَكْرِيمًا، وَتَعْظِيمًا، وَمَهَابَةً، وَبِرًّا، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ، مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا، وَتَكْرِيمًا، وَتَعْظِيمًا، وَبِرًّا» . وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ حِينَ يَنْظُرُ إلَى الْبَيْتِ، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، حِينًا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ) . قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. [فَصْل تَقْدِيم الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ عَلَى الطَّوَافِ] (2450) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَذَكَرَ فَرِيضَةً أَوْ فَائِتَةً، أَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، قَدَّمَهُمَا عَلَى الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَالطَّوَافُ تَحِيَّةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ، قَطَعَهُ لِأَجْلِهَا، فَلَأَنْ يَبْدَأَ بِهَا أَوْلَى. وَإِنْ خَافَ فَوْتَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، أَوْ الْوِتْرِ، أَوْ أُحْضِرَتْ جِنَازَةٌ، قَدَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ يُخَافُ فَوْتُهَا، وَالطَّوَافُ لَا يَفُوتُ. [مَسْأَلَة اسْتِلَام الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ] (2451) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، إنْ كَانَ، فَاسْتَلَمَهُ إنْ اسْتَطَاعَ، وَقَبَّلَهُ) مَعْنَى (اسْتَلَمَهُ) أَيْ مَسَحَهُ بِيَدِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ السَّلَامِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ. فَإِذَا مَسَحَ الْحَجَرَ قِيلَ اسْتَلَمَ، أَيْ: مَسَّ السَّلَامَ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ لَا يُعَرِّجَ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 بِالْبَيْتِ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ: «حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» . وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ذَلِكَ عُرْوَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْمُهَاجِرِينَ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ، ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَاسْتُحِبَّ الْبِدَايَةُ بِهِ، كَمَا اُسْتُحِبَّ لِدَاخِلِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. وَيَبْتَدِئُ الطَّوَافَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَيَسْتَلِمُهُ، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَهُ بِيَدِهِ، وَيُقَبِّلَهُ. قَالَ أَسْلَمُ: رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَك مَا قَبَّلْتُك. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ. عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَبْكِي، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» . وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (إنْ كَانَ) يَعْنِي إنْ كَانَ الْحَجَرُ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ، كَمَا ذَهَبَ بِهِ الْقَرَامِطَةُ مَرَّةً، حِينَ ظَهَرُوا عَلَى مَكَّةَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، فَإِنَّهُ يَقِفُ مُقَابِلًا لِمَكَانِهِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ. وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ مَوْجُودًا فِي مَوْضِعِهِ، اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِلَامُهُ وَتَقْبِيلُهُ، قَامَ حِيَالَهُ، أَيْ بِحِذَائِهِ، وَاسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهِهِ، فَكَبَّرَ، وَهَلَّلَ. وَهَكَذَا إنْ كَانَ رَاكِبًا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الْحَجَرَ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ، وَكَبَّرَ» . وَرُوِيَ عَنْ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّك لَرَجُلٌ شَدِيدٌ، تُؤْذِي الضَّعِيفَ إذَا طُفْت بِالْبَيْتِ، فَإِذْ رَأَيْت خَلْوَةً مِنْ الْحَجَرِ فَادْنُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَكَبِّرْ، ثُمَّ امْضِ» . فَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ، كَالْعَصَا وَنَحْوِهَا، فَعَلَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» . وَهَذَا كُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَيَقُولُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ: «بِاسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، إيمَانًا بِك، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك، وَوَفَاءً بِعَهْدِك، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْل يُحَاذِي الْحَجَرَ الْأَسْوَد بِجَمِيعِ بَدَنِهِ] (2452) فَصْلٌ: وَيُحَاذِي الْحَجَرَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، فَإِنْ حَاذَاهُ بِبَعْضِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ، فَأَجْزَأَ فِيهِ بَعْضُهُ، كَالْحَدِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ وَاسْتَلَمَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتَقْبَلَهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَهُ اسْتِقْبَالُهُ، لَزِمَهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، كَالْقِبْلَةِ، فَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ بَدَأَ بِالطَّوَافِ مِنْ دُونِ الرُّكْنِ، كَالْبَابِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِذَلِكَ الشَّوْطِ، وَيُحْتَسَبُ بِالشَّوْطِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، وَيَصِيرُ الثَّانِي أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَاذَى فِيهِ الْحَجَرَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَأَتَى عَلَى جَمِيعِهِ، فَإِذَا أَكْمَلَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ غَيْرَ الْأَوَّلِ، صَحَّ طَوَافُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ. (2453) فَصْلٌ: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، إلَّا أَنَّهَا إذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ نَهَارًا، فَأَمِنَتْ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ، اُسْتُحِبَّ لَهَا تَأْخِيرُ الطَّوَافِ إلَى اللَّيْلِ، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا. وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا مُزَاحَمَةُ الرِّجَالِ لِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ، لَكِنْ تُشِيرُ بِيَدِهَا إلَيْهِ، كَاَلَّذِي لَا يُمْكِنْهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ، كَمَا رَوَى عَطَاءٌ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَطُوفُ حُجْزَةً مِنْ الرِّجَالِ، لَا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: انْطَلِقِي عَنْك. وَأَبَتْ. وَإِنْ خَافَتْ حَيْضًا أَوْ نِفَاسًا، اُسْتُحِبَّ لَهَا تَعْجِيلُ الطَّوَافِ، كَيْ لَا يَفُوتَهَا. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ الِاضْطِبَاعُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ] (2454) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَضْطَبِعُ بِرِدَائِهِ) مَعْنَى الِاضْطِبَاعِ أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ كَتِفِهِ الْيُمْنَى، وَيَرُدَّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَيُبْقِيَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الضَّبُعِ، وَهُوَ عَضُدُ الْإِنْسَانِ، افْتِعَالٌ مِنْهُ، وَكَانَ أَصْلُهُ اضْتَبَعَ، فَقَلَبُوا التَّاءَ طَاءً؛ لِأَنَّ التَّاءَ مَتَى وُضِعَتْ بَعْدَ ضَادٍ أَوْ صَادٍ أَوْ طَاءٍ سَاكِنَةٍ قُلِبَتْ طَاءً. وَيُسْتَحَبُّ الِاضْطِبَاعُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ مُضْطَبِعًا.» وَرَوَيَا أَيْضًا، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنْ الْجِعْرَانَةِ، فَرْمَلُوا بِالْبَيْتِ، وَجَعَلُوا أَرْدَيْتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ الْيُسْرَى» . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الِاضْطِبَاعُ بِسُنَّةٍ. وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا يَذْكُرُ أَنَّ الِاضْطِبَاعَ سُنَّةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَعَلُوهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ، وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وَقَدْ رَوَى أَسْلَمُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ اضْطَبَعَ وَرَمَلَ، وَقَالَ: فَفِيمَ الرَّمَلُ، وَلَمْ نُبْدِي مَنَاكِبَنَا وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ؟ بَلَى، لَنْ نَدَعَ شَيْئًا فَعَلْنَاهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ سَوَّى رِدَاءَهُ؛ لِأَنَّ الِاضْطِبَاعَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: إذَا فَرَغَ مِنْ الْأَشْوَاطِ الَّتِي يَرْمُلُ فِيهَا، سَوَّى رِدَاءَهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: طَافَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضْطَبِعًا. يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِهِ. وَلَا يَضْطَبِعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 فِي غَيْرِ هَذَا الطَّوَافِ، وَلَا يَضْطَبِعُ فِي السَّعْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْطَبِعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الطَّوَافَيْنِ، فَأَشْبَهَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَضْطَبِعْ فِيهِ، وَالسُّنَّةُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا سَمِعْنَا فِيهِ شَيْئًا. وَالْقِيَاسُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا عُقِلَ مَعْنَاهُ، وَهَذَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ. [مَسْأَلَة يُرَمَّل ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيُمْشَى أَرْبَعَةً] (2455) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَرَمَلَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ) مَعْنَى الرَّمَلِ إسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مُقَارَبَةِ الْخَطْوِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ. وَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» . رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَحَادِيثُهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا رَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، إذْ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْحُكْمَ يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ عِلَّتِهِ؟ قُلْنَا: قَدْ رَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَاضْطَبَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «رَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمَرِهِ كُلِّهَا، وَفِي حَجِّهِ» وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي (الْمُسْنَدِ) . وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ عُمَرَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الرَّمَلَ سُنَّةٌ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ بِكَمَالِهَا، يَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ، لَا يَمْشِي فِي شَيْءٍ مِنْهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَمْشِي مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ الْحُمَّى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا قَالُوا، فَلَمَّا قَدِمُوا قَعَدَ الْمُشْرِكُونَ مِمَّا يَلِي الْحِجْرِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رَمَلُوا، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنَّا» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ» . وَفِي مُسْلِمٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ، حَتَّى انْتَهَى إلَيْهِ» . وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِوُجُوهٍ، مِنْهَا أَنَّ هَذَا إثْبَاتٌ، وَمِنْهَا أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ إخْبَارٌ عَنْ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَتَقْدِيمُهُ، الثَّالِثُ أَنَّ ابْن عَبَّاسٍ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ صَغِيرًا، لَا يَضْبِطُ مِثْلَ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُمَا كَانَا رَجُلَيْنِ، يَتَتَبَّعَانِ أَفْعَالَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْرِصَانِ عَلَى حِفْظِهَا، فَهُمَا أَعْلَمُ، وَلِأَنَّ جُلَّةَ الصَّحَابَةِ عَمِلُوا بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ عَلِمُوا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا عَدَلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ اخْتَصَّ بِاَلَّذِينَ كَانُوا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ؛ لِضَعْفِهِمْ، وَالْإِبْقَاءِ عَلَيْهِمْ، وَمَا رَوَيْنَاهُ سُنَّةٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ. [فَصْل الدُّنُوّ مِنْ الْبَيْت فِي الطَّوَاف] (2456) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ الدُّنُوُّ مِنْ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَإِنْ كَانَ قُرْبَ الْبَيْتِ زِحَامٌ فَظَنَّ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، وَتَمَكَّنَ مِنْ الرَّمَلِ، وَقَفَ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الرَّمَلِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْبَيْتِ. وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ، وَظَنَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ تَمَكَّنَ مِنْ الرَّمَلِ، فَعَلَ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ الدُّنُوِّ. وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّمَلِ أَيْضًا، أَوْ يَخْتَلِطُ بِالنِّسَاءِ، فَالدُّنُوُّ أَوْلَى، وَيَطُوفُ كَيْفَمَا أَمْكَنَهُ، وَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً رَمَلَ فِيهَا. وَإِنْ تَبَاعَدَ مِنْ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَائِلٌ، مِنْ قُبَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يَحُلْ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَضُرُّ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ مُؤْتَمًّا بِالْإِمَامِ مِنْ وَرَاءُ حَائِلٍ، وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. قَالَتْ: فَطُفْت وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الرَّمَلَ لَا يُسَنُّ فِي غَيْرِ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ أَيْ طَوَافِ] (2457) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَرْمُلُ فِي جَمِيعِ طَوَافِهِ إلَّا هَذَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّمَلَ لَا يُسَنُّ فِي غَيْرِ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ، أَوْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِيهَا لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ؛ لِأَنَّهَا هَيْئَةٌ فَاتَ مَوْضِعُهَا، فَسَقَطَتْ، كَالْجَهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَشْيَ هَيْئَةٌ فِي الْأَرْبَعَةِ، كَمَا أَنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ، فَإِذَا رَمَلَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَة، كَانَ تَارِكًا لِلْهَيْئَةِ فِي جَمِيعِ طَوَافِهِ، كَتَارِكِ الْجَهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ، إذَا جَهَرَ فِي الْآخِرَتَيْنِ. وَلَا يُسَنُّ الرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ فِي طَوَافٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا رَمَلُوا وَاضْطَبَعُوا فِي ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فِي طَوَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 الْقُدُومِ، أَتَى بِهِمَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا سُنَّةٌ أَمْكَنَ قَضَاؤُهَا، فَتُقْضَى كَسُنَنِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَنْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، لَا يَقْضِيهِ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، لَا يَقْضِيهِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَنْ تُقْضَى هَيْئَةُ عِبَادَةٍ فِي عِبَادَةٍ أُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ طَافَ فَرَمَلَ وَاضْطَبَعَ، وَلَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِذَا طَافَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلزِّيَارَةِ، رَمَلَ فِي طَوَافِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرْمُلُ فِي السَّعْيِ بَعْدَهُ، وَهُوَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، فَلَوْ قُلْنَا: لَا يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ، أَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ التَّبَعُ أَكْمَلَ مِنْ الْمَتْبُوعِ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهَذَا لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا الرَّأْيِ الضَّعِيفِ؛ فَإِنَّ الْمَتْبُوعَ لَا تَتَغَيَّرُ هَيْئَتُهُ تَبَعًا لِتَبَعِهِ، وَلَوْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، لَكَانَ تَرْكُ الرَّمَلِ فِي السَّعْيِ تَبَعًا لِعَدَمِهِ فِي الطَّوَافِ أَوْلَى مِنْ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ تَبَعًا لِلسَّعْيِ. [فَصْل تَرَكَ الرَّمَلَ فِي شَوْطٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ] (2458) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي شَوْطٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، أَتَى بِهِ فِي الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ. وَإِنْ تَرَكَهُ فِي اثْنَيْنِ أَتَى بِهِ فِي الثَّالِثِ. وَإِنْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثَةِ سَقَطَ. كَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ لِلْهَيْئَةِ فِي بَعْضِ مَحِلِّهَا لَا يُسْقِطُهَا فِي بَقِيَّةِ مَحِلِّهَا، كَتَارِكِ الْجَهْرِ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ، لَا يُسْقِطُهُ فِي الثَّانِيَةِ. [مَسْأَلَة لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلَ] (2459) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَرْمُلْ. وَهَذَا لِأَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ، وَالْحُكْمُ فِي مَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، أَشْبَهَ أَهْلَ الْبَلَدِ. وَالْمُتَمَتِّعُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ، وَقُلْنَا: يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ طَوَافُ الْقُدُومِ. لَمْ يَرْمُلْ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. [مَسْأَلَة إذَا نَسِيَ الْمُحْرِم الرَّمَلَ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ] (2460) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ نَسِيَ الرَّمَلَ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ، فَلَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ إعَادَةٌ، وَلَا شَيْءٌ، كَهَيْئَاتِ الصَّلَاةِ، وَكَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ. وَلَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ، أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ تَرَكَ نُسُكًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ» . وَلَنَا، أَنَّهُ هَيْئَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ، كَالِاضْطِبَاعِ، وَالْخَبَرُ إنَّمَا يَصِحُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ طَوَافَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 الْقُدُومِ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، فَتَرْكُ صِفَةٍ فِيهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِهِ. [مَسْأَلَة شُرُوطُ صِحَّة الطَّوَافِ] (2461) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ طَاهِرًا فِي ثِيَابٍ طَاهِرَةٍ) يَعْنِي فِي الطَّوَافِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ وَالسِّتَارَةَ شَرَائِطُ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا، فَمَتَى طَافَ لِلزِّيَارَةِ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ أَعَادَ مَا كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ خَرَجَ إلَى بَلَدِهِ، جَبَرَهُ بِدَمٍ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ النَّجَسِ وَالسِّتَارَةِ. وَعَنْهُ، فِي مَنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ، وَهُوَ نَاسٍ لِلطَّهَارَةِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْطًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ لِلْحَجِّ؛ فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الطَّهَارَةُ، كَالْوُقُوفِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْأَثْرَمُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ، يُؤَذِّنُ: (لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ) . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، فَكَانَتْ الطَّهَارَةُ وَالسِّتَارَةُ فِيهَا شَرْطًا، كَالصَّلَاةِ وَعَكْسُ ذَلِكَ الْوُقُوفُ. [فَصْل قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ] (2462) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ، وَالْحَسَنِ، وَمَالِكٍ. وَلَنَا، أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] » . وَكَانَ عُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُولَانِ ذَلِكَ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ قُرْآنٌ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ، وَلَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَفِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدَعَ الْحَدِيثَ، إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» . وَلَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ فِي الطَّوَافِ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مَنَعَ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 [فَصْل إذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَة وَهُوَ فِي الطَّوَافِ] (2463) فَصْلٌ: إذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، وَهُوَ فِي الطَّوَافِ، لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ فِيهَا. وَإِنْ شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ فَرَاغِهَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا. وَإِنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّوَافِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَمَتَى شَكَّ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلَاةِ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ عَدَدِ طَوَافِهِ، رَجَعَ إلَيْهِ إذَا كَانَ عَدْلًا. وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطَّوَافِ، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ رَجُلَانِ يَطُوفَانِ، فَاخْتَلَفَا فِي الطَّوَافِ، بَنَيَا عَلَى الْيَقِينِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا شَكَّا، فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَيَقَّنَ حَالَ نَفْسِهِ، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ. [فَصْل إذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فِي أَحَدِ الطَّوَافَيْنِ] (2464) فَصْلٌ: وَإِذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فِي أَحَدِ الطَّوَافَيْنِ، لَا بِعَيْنِهِ، بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَشَدِّ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْهَا، فَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِلْحَلْقِ، وَيَكُونُ قَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَيَصِيرُ قَارِنًا، وَيُجْزِئُهُ الطَّوَافُ لِلْحَجِّ عَنْ النُّسُكَيْنِ، وَلَوْ قَدَّرْنَاهُ مِنْ الْحَجِّ لَزِمَهُ إعَادَةُ الطَّوَافِ، وَيَلْزَمُهُ إعَادَةُ السَّعْيِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ طَوَافٍ غَيْرِ مُعْتَدٍّ بِهِ. وَإِنْ كَانَ وَطِئَ بَعْدَ حِلِّهِ مِنْ الْعُمْرَةِ، حَكَمْنَا بِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَجًّا عَلَى عُمْرَةٍ، فَأَفْسَدَهُ، فَلَا تَصِحُّ، وَيَلْغُو مَا فَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ الَّذِي قَصَدَهُ لِلْحَجِّ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْحَلْقِ، وَدَمٌ لِلْوَطْءِ فِي عُمْرَتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ. وَلَوْ قَدَّرْنَاهُ مِنْ الْحَجِّ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ إعَادَةِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ. [مَسْأَلَة لَا يَسْتَلِمُ وَلَا يُقَبِّلُ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْأَسْوَد وَالْيَمَانِيَ] (2465) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَسْتَلِمُ، وَلَا يُقَبِّلُ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَّ) الرُّكْنُ الْيَمَانِيَّ قِبْلَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَيَلِي الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ آخِرُ مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْكَانِ فِي طَوَافِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ قِبْلَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ فَيَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ عَلَى يَمِينِ نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الرُّكْنِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعِرَاقِيُّ، لَمْ يَسْتَلِمْهُ، فَإِذَا مَرَّ بِالثَّالِثِ، وَهُوَ الشَّامِيُّ، لَمْ يَسْتَلِمْهُ أَيْضًا، وَهَذَانِ الرُّكْنَانِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الرَّابِعِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ، اسْتَلَمَهُ. قَالَ الْخِرَقِيِّ: (وَيُقَبِّلُهُ) . وَالصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُقَبِّلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَسْتَلِمُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَالرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي فَرَّقُوا بِهِ بَيْنَهُمَا التَّقْبِيلُ، فَرَأَوْا تَقْبِيلَ الْأَسْوَدِ، وَلَمْ يَرَوْا تَقْبِيلَ الْيَمَانِيِّ، وَأَمَّا اسْتِلَامُهُمَا فَأَمْرٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 قَالَ: وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ قَبَّلَهُ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ» . قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّقْبِيلُ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَحْدَهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إلَّا الْحَجَرَ، وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ.» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا تَرَكْت اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ، مُنْذُ رَأَيْت رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُمَا، فِي شِدَّةٍ، وَلَا رَخَاءٍ. رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَسُنَّ اسْتِلَامُهُ، كَاَلَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ. وَأَمَّا تَقْبِيلُهُ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُسَنُّ. وَأَمَّا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ، فَلَا يُسَنُّ اسْتِلَامُهُمَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْر، وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَأَنَسٍ، وَعُرْوَةَ، اسْتِلَامُهُمَا. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إلَّا الْحَجَرَ، وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ.» وَقَالَ: مَا أَرَاهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَلِمْ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ، إلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَلَا طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ إلَّا لِذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ طَافَ، فَجَعَلَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُمَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْت. وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يَتِمَّا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يُسَنَّ اسْتِلَامُهُمَا، كَالْحَائِطِ الَّذِي يَلِي الْحِجْرَ. (2466) فَصْلٌ: وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَّ فِي كُلِّ طَوَافِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ، فِي كُلِّ طَوَافِهِ» . قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ، اسْتَلَمَهُ، وَقَبَّلَ يَدَهُ. وَمِمَّنْ رَأَى تَقْبِيلَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَأَيُّوبُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَمَهُ، وَقَبَّلَ يَدَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفَعَلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُعْتَدُّ بِمَنْ خَالَفَهُمْ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ بِهِ، اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطُوفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِلَامُهُ، أَشَارَ إلَيْهِ وَكَبَّرَ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعِيرٍ، كَلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ، وَكَبَّرَ.» [فَصْل يُكَبَّرُ كُلَّمَا أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَد أَوْ حَاذَاهُ] (2467) فَصْلٌ: وَيُكَبَّرُ كُلَّمَا أَتَى الْحَجَرَ، أَوْ حَاذَاهُ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ، وَيَقُولُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاسِكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِيمَا بَيْنَ رُكْنِ بَنِي جُمَحٍ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] .» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وُكِّلَ بِهِ - يَعْنِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ - سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] قَالُوا: آمِينَ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، قَالَ: اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتنِي، وَاخْلُفْ لِي عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ بِخَيْرٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمْ، وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ. . وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، يَقُولُ: رَبِّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي. وَعَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَ مَا أَمَتَّ. وَمَهْمَا أَتَى بِهِ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فَحَسَنٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. [مَسْأَلَة يَكُونُ الْحِجْرُ دَاخِلًا فِي طَوَافِهِ] (2468) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ الْحِجْرُ دَاخِلًا فِي طَوَافِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجْرَ مِنْ الْبَيْتِ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ جَمِيعِهِ، بِقَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وَالْحِجْرُ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ، لَمْ يُعْتَدّ بِطَوَافِهِ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، قَضَى مَا بَقِيَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ،، قَالَتْ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحِجْرِ، فَقَالَ: هُوَ مِنْ الْبَيْتِ» . وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ قَوْمَك اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ، أَعَدْت مَا تَرَكُوا مِنْهَا، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوا، فَهَلُمِّي لِأُرِيَك مَا تَرَكُوا مِنْهَا. فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ. قَالَ: صَلِّي فِي الْحِجْرِ، فَإِنَّ الْحِجْرَ مِنْ الْبَيْتِ. وَفِي لَفْظٍ، قَالَتْ: كُنْت أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ، فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي، فَأَدْخَلَنِي الْحِجْرَ، وَقَالَ: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إنْ أَرَدْت دُخُولَ الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَمَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِالْحِجْرِ لَمْ يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبِنَاءِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . (2469) فَصْلٌ: وَلَوْ طَافَ عَلَى جِدَارِ الْحِجْرِ، وَشَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مَا فَضَلَ مِنْ حَائِطِهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْتِ، فَإِذَا لَمْ يَطُفْ بِهِ، فَلَمْ يَطُفْ بِكُلِّ الْبَيْتِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. [فَصْل نَكَّسَ الطَّوَافَ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَمِينِهِ] (2470) فَصْلٌ: وَلَوْ نَكَّسَ الطَّوَافَ، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَمِينِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعِيدُ مَا كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ رَجَعَ جَبَرَهُ بِدَمٍ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ هَيْئَةً فَلَمْ تَمْنَعْ الْإِجْزَاءَ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْبَيْتَ فِي الطَّوَافِ عَلَى يَسَارِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا كَالصَّلَاةِ، وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَا، كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَتَرْتِيبِهَا. [مَسْأَلَة يُسَنُّ لِلطَّائِفِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ] (2471) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلطَّائِفِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ رَكْعَتَيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْكَعَهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِي الْأُولَى، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ جَابِرًا رَوَى فِي «صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] . وَحَيْثُ رَكَعَهُمَا وَمَهْمَا قَرَأَ فِيهِمَا، جَازَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَكَعَهُمَا بِذِي طُوًى. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِك وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ» . وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَيَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّائِفُونَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهُمَا وَالطَّوَافُ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ» . وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي وَالطَّوَافُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَمُرُّ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَنْتَظِرُهَا حَتَّى تَرْفَعَ رِجْلَهَا، ثُمَّ يَسْجُدُ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي مَكَّةَ، لَا يُعْتَبَرُ لَهَا سُتْرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. [فَصْل رَكْعَتَا الطَّوَافِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ] (2472) فَصْلٌ: وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا تَابِعَتَانِ لِلطَّوَافِ، فَكَانَتَا وَاجِبَتَيْنِ، كَالسَّعْيِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ، مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» . وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْهَا «. وَلَمَّا سَأَلَ الْأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْفَرَائِضِ، ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» . وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ تُشْرَعْ لَهَا جَمَاعَةٌ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَسَائِرِ النَّوَافِلِ، وَالسَّعْيُ مَا وَجَبَ لِكَوْنِهِ تَابِعًا، وَلَا هُوَ مَشْرُوعٌ مَعَ كُلِّ طَوَافٍ. وَلَوْ طَافَ الْحَاجُّ طَوَافًا كَثِيرًا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَتَى بِهِ مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ، لَمْ يَأْتِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُشْرَعَانِ عَقِيبَ كُلِّ طَوَافٍ. [فَصْل إذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ] (2473) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ، أَجْزَأَتْهُ عَنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدِ الْمَكْتُوبَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: هُوَ أَقْيَسُ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، فَلَمْ تُجْزِ عَنْهَا الْمَكْتُوبَةُ، كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ شُرِعَتَا لِلنُّسُكِ، فَأَجْزَأَتْ عَنْهُمَا الْمَكْتُوبَةُ، كَرَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ. [فَصْل الطَّوَافَ يَجْرِي مَجْرَى الصَّلَاةِ] (2474) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَسَابِيعِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا رَكَعَ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ، فَعَلَ ذَلِكَ عَائِشَةُ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ. وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الرَّكْعَتَيْنِ عَنْ طَوَافِهِمَا يُخِلُّ بِالْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ الطَّوَافَ يَجْرِي مَجْرَى الصَّلَاةِ، يَجُوزُ جَمْعُهَا وَيُؤَخِّرُ مَا بَيْنَهُمَا، فَيُصَلِّيهَا بَعْدَهَا، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَكَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ لَا يُوجِبُ كَرَاهَةً، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطُفْ أُسْبُوعَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُوَالَاةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالرَّكْعَتَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ صَلَّاهُمَا بِذِي طُوًى، وَأَخَّرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَكْعَتَيْ طَوَافِهَا حِينَ طَافَتْ رَاكِبَةً بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَخَّرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رُكُوعَ الطَّوَافِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ. وَإِنْ رَكَعَ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ عَقِيبَهُ كَانَ أَوْلَى، وَفِيهِ اقْتِدَاءٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُرُوجٌ مِنْ الْخِلَافِ (2475) فَصْلٌ: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الصَّفَا، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعُودَ فَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ جَابِرٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [مَسْأَلَة يَخْرُجُ إلَيَّ الصَّفَا مِنْ بَابِهِ فَيَقِفُ عَلَيْهِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ، فَيُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُهْلِلُهُ، وَيَحْمَدُهُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ، فَيَأْتِيَ الصَّفَا، فَيَرْقَى عَلَيْهِ حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَهَا فَيُكَبِّرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَيُهْلِلَهُ، وَيَدْعُوَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ جَابِرٌ «فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ. فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقَى عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَ، وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ» ، وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ أَحْمَدُ: وَيَدْعُو بِدُعَاءِ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ عَنْ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ الْبَابِ الْأَعْظَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ، فَيُكَبِّرُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثَلَاثًا ثَلَاثًا يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. ثُمَّ يَدْعُو، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِك وَطَوَاعِيَتَك وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِك، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي حُدُودَك، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّك، وَيُحِبُّ مَلَائِكَتَك، وَأَنْبِيَاءَك، وَرُسُلَك، وَعِبَادَك الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إلَيْك، وَإِلَى مَلَائِكَتِك، وَإِلَى رُسُلِك، وَإِلَى عِبَادِك الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى، وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَإِنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، اللَّهُمَّ إذْ هَدَيْتنِي لِلْإِسْلَامِ فَلَا تَنْزِعْنِي مِنْهُ، وَلَا تَنْزِعْهُ مِنِّي، حَتَّى تَوَفَّانِي عَلَى الْإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ لَا تُقَدِّمْنِي إلَى الْعَذَابِ، وَلَا تُؤَخِّرْنِي لِسُوءِ الْفِتَنِ. قَالَ: وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا، حَتَّى إنَّهُ لَيُمِلُّنَا وَإِنَّا لَشَبَابٌ، وَكَانَ إذَا أَتَى عَلَى الْمَسْعَى سَعَى وَكَبَّرَ. وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ. [فَصْل إنْ لَمْ يَرْقَ الْمُحْرِم عَلَى الصَّفَا] (2477) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَرْقَ عَلَى الصَّفَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَكِنَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَيُلْصِقَ عَقِيبَهُ بِأَسْفَلِ الصَّفَا، ثُمَّ يَسْعَى إلَى الْمَرْوَةِ، فَإِنْ لَمْ يَصْعَدْ عَلَيْهَا، أَلْصَقَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِأَسْفَلِ الْمَرْوَةِ، وَالصُّعُودُ عَلَيْهَا هُوَ الْأَوْلَى، اقْتِدَاءً بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ تَرَكَ مِمَّا بَيْنَهُمَا شَيْئًا، وَلَوْ ذِرَاعًا، لَمْ يُجْزِئْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ. وَالْمَرْأَةُ لَا يُسَنُّ لَهَا أَنْ تَرْقَى، لِئَلَّا تُزَاحِمَ الرِّجَالَ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَلَا تَرْمُلْ فِي طَوَافٍ وَلَا سَعْيٍ، وَالْحُكْمُ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِهَا مَا بَيْنَهُمَا بِالْمَشْيِ كَحُكْمِ الرَّجُلِ. [مَسْأَلَة يَنْحَدِرُ مِنْ الصَّفَا فَيَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ الْعَلَمَ] (2478) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْ الصَّفَا، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ الْعَلَمَ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَيَرْمُلَ مِنْ الْعَلَمِ إلَى الْعَلَمِ، ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ، فَيَقِفَ عَلَيْهَا، وَيَقُولَ كَمَا قَالَ عَلَى الصَّفَا، وَمَا دَعَا بِهِ أَجْزَأَهُ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَاشِيًا إلَى الْعَلَمِ، ثُمَّ يَرْمُلُ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَلَمَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، يَحْتَسِبُ بِالذَّهَابِ سَعْيَةً، وَبِالرُّجُوعِ سَعْيَةً، يَفْتَتِحُ بِالصَّفَا وَيَخْتَتِمُ بِالْمَرْوَةِ) هَذَا وَصْفُ السَّعْيِ، وَهُوَ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ الصَّفَا، فَيَمْشِيَ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَلَمَ. وَمَعْنَاهُ يُحَاذِي الْعَلَمَ، وَهُوَ الْمِيلُ الْأَخْضَرُ الْمُعَلَّقُ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ مِنْهُ نَحْوًا مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ، سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا، حَتَّى يُحَاذِيَ الْعَلَمَ الْآخَرَ، وَهُوَ الْمِيلَانِ الْأَخْضَرَانِ اللَّذَانِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِد، وَحِذَاءِ دَارِ الْعَبَّاس، ثُمَّ يَتْرُكُ السَّعْيَ، وَيَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ، فَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَدْعُوَ بِمِثْلِ دُعَائِهِ عَلَى الصَّفَا. وَمَا دَعَا بِهِ فَجَائِزٌ، وَلَيْسَ فِي الدُّعَاءِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ. ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي فِي مَوْضِعِ مَشْيِهِ، وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سَعْيِهِ، وَيُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ، وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. حَتَّى يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، يَحْتَسِبُ بِالذَّهَابِ سَعْيَةً، وَبِالرُّجُوعِ سَعْيَةً. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: ذَهَابُهُ وَرُجُوعُهُ سَعْيَةٌ. وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ «فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ، رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 صَعِدْنَا مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت، لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتهَا عُمْرَةً» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ آخِرُ طَوَافِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عِنْدَ الصَّفَا، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ طَائِفٌ بِهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَسِبَ بِذَلِكَ مَرَّةً، كَمَا أَنَّهُ إذَا طَافَ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ احْتَسَبَ بِهِ مَرَّةً. [مَسْأَلَة يَفْتَتِحُ بِالصَّفَا وَيَخْتَتِمُ بِالْمَرْوَةِ] (2479) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَفْتَتِحُ بِالصَّفَا، وَيَخْتَتِمُ بِالْمَرْوَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ فِي السَّعْي، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأ بِالصَّفَا، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ، فَإِذَا صَارَ عَلَى الصَّفَا اعْتَدَّ بِمَا يَأْتِي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالصَّفَا، وَقَالَ: (نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ) . وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] . فَبَدَأَ بِالصَّفَا، وَقَالَ: اتَّبِعُوا الْقُرْآنَ، فَمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَابْدَءُوا بِهِ. [مَسْأَلَة نَسِيَ الرَّمَلَ فِي بَعْضِ سَعْيِهِ] (2480) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ نَسِيَ الرَّمَلَ فِي بَعْضِ سَعْيِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعَى، وَسَعَى أَصْحَابُهُ، فَرَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ، عَنْ أُمِّ وَلَدِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا يُقْطَعُ الْأَبْطَحُ إلَّا شَدًّا» . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ؛ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: إنَّ أَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى، وَإِنْ أَمْشِي، فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى هَذَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ تَرْكَ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْلَى. [فَصْل فِي السَّعْيِ هَلْ هُوَ رُكْن أُمّ لَا] (2481) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السَّعْيِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ رُكْنٌ، لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ - يَعْنِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - فَكَانَتْ سُنَّةً» ، فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ «حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تُجْرَاةَ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، قَالَتْ: دَخَلْت مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ، نَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ فِي وَسَطِهِ مِنْ شِدَّةِ سَعْيِهِ، حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ: إنِّي لَأَرَى رُكْبَتَيْهِ. وَسَمِعْته يَقُولُ: اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَانَ رُكْنًا فِيهِمَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ سِيرِينَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وَنَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَإِنَّ هَذَا رُتْبَةُ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ سُنِّيَّتُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ شَعَائِر اللَّهِ. وَرُوِيَ أَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) . وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا فَلَا يَنْحَطُّ عَنْ رُتْبَةِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَرْوِيَانِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ ذُو عَدَدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، فَلَمْ يَكُنْ رُكْنًا كَالرَّمْيِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ وَاجِبٌ. وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، إذَا تَرَكَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ. وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ دَلِيلَ مَنْ أَوْجَبَهُ دَلَّ عَلَى مُطْلَقِ الْوُجُوبِ، لَا عَلَى كَوْنِهِ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَحَدِيثُ بِنْتِ أَبِي تُجْرَاةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمِّلِ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَهُوَ الْوَاجِبُ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا تَحَرَّجَ نَاسٌ مِنْ السَّعْيِ فِي الْإِسْلَامِ، لِمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَجْلِ صَنَمَيْنِ كَانَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. كَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ. [فَصْل السَّعْيُ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ] (2482) فَصْلٌ: وَالسَّعْيُ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ طَوَافٌ، فَإِنْ سَعَى قَبْلَهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُجْزِئُهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ: يُجْزِئُهُ إنْ كَانَ نَاسِيًا، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَمْ يُجْزِئْهُ سَعْيُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي حَالِ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ، قَالَ: (لَا حَرَجَ) . وَوَجْهُ الْأَوَّلِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا سَعَى بَعْدَ طَوَافِهِ، وَقَدْ قَالَ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . فَعَلَى هَذَا إنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِهِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ طَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِسَعْيِهِ ذَلِكَ. وَمَتَى سَعَى الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ سَعْيٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَيَا مَعَهُ، سَعَيَا مَعَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. وَلَا تَجِبُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَخِّرَ السَّعْيَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَوْ إلَى الْعَشِيِّ. وَكَانَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ لَا يَرَيَانِ بَأْسًا لِمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ إلَى الْعَشِيِّ. وَفَعَلَهُ الْقَاسِمُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ إذَا لَمْ تَجِبْ فِي نَفْسِ السَّعْيِ، فَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَوْلَى. [مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ] (2483) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا قَصَّرَ مِنْ شَعْرِهِ، ثُمَّ قَدْ حَلَّ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِهَا، وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، قَصَّرَ أَوْ حَلَقَ، وَقَدْ حَلَّ بِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ، إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «تَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّحَلُّلِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ، سُئِلَ عَمَّنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: هَذَا لَمْ يَحِلَّ بَعْدُ، يُقَصِّرُ، ثُمَّ يُهِلُّ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَبِئْسَ مَا صَنَعَ. [فَصْل مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ لَكِنْ يُقِيمُ عَلَى إحْرَامِهِ] (2484) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، لَكِنْ يُقِيمُ عَلَى إحْرَامِهِ، وَيُدْخِلُ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ التَّقْصِيرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ خَاصَّةً، وَلَا يَمَسُّ مِنْ أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ شَيْئًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: «قَصَّرْت مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ عِنْدَ الْمَرْوَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: لَهُ التَّحَلُّلُ، وَنَحْرُ هَدْيِهِ، وَيُسْتَحَبُّ نَحْرُهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَحْتَمِلُهُ لِإِطْلَاقِهِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَكُنْ سُقْت الْهَدْيَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» . وَعَنْ «حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ، حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ قَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْت هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَة. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، فِي مَنْ قَدِمَ مُتَمَتِّعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَسَاقَ الْهَدْيَ، قَالَ: إنْ دَخَلَهَا فِي الْعَشْرِ، لَمْ يَنْحَر الْهَدْيَ حَتَّى يَنْحَرَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ، نَحَرَ الْهَدْيَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ حَلَّ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَإِنْ قَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَحِلَّ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. رَوَاهُ حَنْبَلٌ، فِي (الْمَنَاسِكِ) . وَقَالَ فِي مَنْ لَبَّدَ أَوْ ضَفَّرَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ؛ لِحَدِيثِ حَفْصَةَ. وَالرِّوَايَةُ الْأَوْلَى أَوْلَى؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 [فَصْل الْمُعْتَمِرُ غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ يَحِلُّ مِنْ إحرامه] (2485) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ، سِوَى الْعُمْرَةِ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، بَعْضُهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقِيلَ: كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَكَانَ يَحِلُّ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَحَيْثُ نَحَرَهُ مِنْ الْحَرَمِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (كُلُّ فِجَاحِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. [فَصْل الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ عِنْد حِلِّهِ مِنْ عُمْرَتِهِ] فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (قَصَّرَ مِنْ شَعْرِهِ، ثُمَّ قَدْ حَلَّ) . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَ حِلِّهِ مِنْ عُمْرَتِهِ التَّقْصِيرُ؛ لِيَكُونَ الْحَلْقُ لِلْحَجِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَيُعْجِبُنِي إذَا دَخَلَ مُتَمَتِّعًا أَنْ يُقَصِّرَ؛ لِيَكُونَ الْحَلْقُ لِلْحَجِّ. . وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ إلَّا بِالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا» . وَفِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَصَّرُوا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلِيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَقَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَجَازَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ التَّقْصِيرِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ إطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ، فَيَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَسْبُ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ تَرَكَ التَّقْصِيرَ أَوْ الْحَلْقَ، وَقُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ. فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّقْصِيرِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعُمْرَتُهُ صَحِيحَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عُمْرَتَهُ تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ وَطِىءَ قَبْلَ حِلِّهِ مِنْ عُمْرَتِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مُعْتَمِرَةٍ، وَقَعَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ. قَالَ: مَنْ تَرَكَ مِنْ مَنَاسِكِهِ شَيْئًا، أَوْ نَسِيَهُ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا. قِيلَ: إنَّهَا مُوسِرَةٌ. قَالَ: فَلْتَنْحَرْ نَاقَةً. وَلِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، فَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِتَرْكِهِ، وَلَا بِالْوَطْءِ قَبْلَهُ، كَالرَّمْيِ فِي الْحَجِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَبْلَ تَقْصِيرِهَا مِنْ عُمْرَتِهَا: تَذْبَحُ شَاةً. قِيلَ: عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا؟ قَالَ: عَلَيْهَا هِيَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ. فَإِنْ أَكْرَهَهَا، فَالدَّمُ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ التَّقْصِيرِ، فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَيَصِيرُ قَارِنًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 [فَصْل يَلْزَم الْمُتَمَتِّع التَّقْصِير أَوْ الْحَلْق مِنْ جَمِيع شَعْره وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة] (2487) فَصْلٌ: يَلْزَمُ التَّقْصِيرُ أَوْ الْحَلْقُ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، يُجْزِئُهُ الْبَعْضُ. مَبْنِيًّا عَلَى الْمَسْحِ فِي الطَّهَارَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَامِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّقْصِيرِ؛ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] . وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، تَفْسِيرًا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِهِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ فَوَجَبَ اسْتِيعَابُهُ بِهِ، كَالْمَسْحِ. فَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ مَضْفُورًا، قَصَّرَ مِنْ رُءُوسِ ضَفَائِرِهِ. كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: تُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ مِنْ جَمِيعِ قُرُونِهَا. وَلَا يَجِبُ التَّقْصِيرُ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِحَلْقِهِ. [فَصْل السُّنَّةَ فِي الْحَجّ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ] (2488) فَصْلٌ: وَأَيُّ قَدْرٍ قَصَّرَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُقَصِّرُ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ قَصَّرَ الشَّعْرَ أَجْزَأَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَتَفَهُ، أَوْ أَزَالَهُ بِنَوْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إزَالَتُهُ، وَالْأَمْرُ بِهِ مُطْلَقٌ، فَيَتَنَاوَلُ، مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَيُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْحَلَّاقِ: خُذْ. وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ التَّيَامُنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَبْدَأُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ، حَتَّى يُجَاوِزَ الْعَظْمَتَيْنِ. وَإِنْ قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا نَزَلَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، أَوْ مِمَّا يُحَاذِيهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّقْصِيرُ، وَقَدْ حَصَلَ، بِخِلَافِ الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ مَا تَرَأَّسَ وَعَلَا. [مَسْأَلَة طَوَافُ النِّسَاءِ وَسَعْيُهُنَّ] (2489) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَطَوَافُ النِّسَاءِ وَسَعْيُهُنَّ مَشْيٌ كُلُّهُ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ اضْطِبَاعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا إظْهَارُ الْجَلَدِ، وَلَا يُقْصَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ يُقْصَدُ فِيهِنَّ السَّتْرُ، وَفِي الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ تَعَرُّضٌ لِلتَّكَشُّفِ. [مَسْأَلَة السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ] (2490) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ سَعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ، وَأَجْزَأَهُ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الطَّهَارَةُ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ، فَلْيُعِدْ الطَّوَافَ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَمَا حَلَّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ، حِينَ حَاضَتْ: «اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، فَأَشْبَهَتْ الْوُقُوفَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: إذَا طَافَتْ الْمَرْأَةُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَاضَتْ، سَعَتْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ نَفَرَتْ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهُمَا قَالَتَا: إذَا طَافَتْ الْمَرْأَةُ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ حَاضَتْ، فَلْتَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَالْمُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الطَّهَارَةِ أَنْ لَا يَسْعَى إلَّا مُتَطَهِّرًا، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فِي جَمِيعِ مَنَاسِكِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا الطَّهَارَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالسِّتَارَةُ لِلسَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تُشْتَرَطْ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ، وَهِيَ آكَدُ، فَغَيْرُهَا أَوْلَى. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي السَّعْيِ كَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ. وَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ وَهُوَ يَطُوفُ أَوْ يَسْعِي] (2491) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، أَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ وَهُوَ يَطُوفُ، أَوْ يَسْعِي، فَإِذَا صَلَّى بَنَى) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَلَبَّسَ بِالطَّوَافِ أَوْ بِالسَّعْيِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَسَالِمٌ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي السَّعْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْضِي فِي طَوَافِهِ، وَلَا يَقْطَعُهُ، إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ يَضُرَّ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ فَلَا يَقْطَعُهُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . وَالطَّوَافُ صَلَاةٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْخَبَرِ. إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، مَعَ تَأَكُّدِهِ، فَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْلَى، مَعَ أَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا، وَإِذَا صَلَّى بَنَى عَلَى طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، فِي قَوْلِ مِنْ سَمَّيْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَسْتَأْنِفُ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ مَشْرُوعٌ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ، كَالْيَسِيرِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْجِنَازَةِ إذَا حَضَرَتْ، يُصَلِّي عَلَيْهَا، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِالتَّشَاغُلِ عَنْهَا. قَالَ أَحْمَدُ: وَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ الْحَجَرِ. يَعْنِي أَنَّهُ يَبْتَدِئُ الشَّوْطَ الَّذِي قَطَعَهُ مِنْ الْحَجَرِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الْبِنَاءِ. [فَصْل تَرَكَ الْمُوَالَاة فِي السَّعْي] (2492) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ الْمُوَالَاةَ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، وَطَالَ الْفَصْلُ، ابْتَدَأَ الطَّوَافَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ، بَنَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِ الْمُوَالَاةِ عَمْدًا، أَوْ سَهْوًا، مِثْلُ مَنْ يَتْرُكُ شَوْطًا مِنْ الطَّوَافِ، يَحْسَبُ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، فِي مَنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ: عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ، فَيَطُوفَ مَا بَقِيَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَى بَيْنَ طَوَافِهِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَلِأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 صَلَاةٌ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالَاةُ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، أَوْ نَقُولُ عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، فَاشْتُرِطَتْ لَهَا الْمُوَالَاةُ، كَالصَّلَاةِ، وَيُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعُرْفِ، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَشْغَلُهُ، بَنَى، وَإِنْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ لِحَاجَتِهِ، اسْتَقْبَلَ الطَّوَافَ. وَقَالَ: إذَا أَعْيَا فِي الطَّوَافِ، لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَرِيحَ. وَقَالَ الْحَسَنُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَحُمِلَ إلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ أَتَمَّهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ شَاءَ أَتَمَّهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَطَعَهُ لِعُذْرٍ، فَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ لِصَلَاةٍ. [فَصْل الْمُوَالَاةَ غَيْر شَرْط فِي السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ] (2493) فَصْلٌ: فَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُوَالَاةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ كَانَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَقِيَهُ فَإِذَا هُوَ يَعْرِفُهُ، يَقِفُ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيُسَائِلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمْرُ الصَّفَا سَهْلٌ، إنَّمَا كَانَ يُكْرَهُ الْوُقُوفُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَأَمَّا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ الْقَاضِي: تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ فِيهِ، قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ. وَحَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ نُسُكٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لَهُ الْمُوَالَاة، كَالرَّمْيِ وَالْحِلَاقِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، امْرَأَةَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، سَعَتْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَضَتْ طَوَافَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ ضَخْمَةً. وَكَانَ عَطَاءٌ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَسْتَرِيحَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، وَهُوَ صَلَاةٌ تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَالسِّتَارَةُ، فَاشْتُرِطَتْ لَهُ الْمُوَالَاةُ، بِخِلَافِ السَّعْيِ. [مَسْأَلَة أَحْدَث فِي بَعْضِ طَوَافِهِ] (2494) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَحْدَثَ فِي بَعْضِ طَوَافِهِ، تَطَهَّرَ، وَابْتَدَأَ الطَّوَافَ، إذَا كَانَ فَرْضًا) أَمَّا إذَا أَحْدَثَ عَمْدًا فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لَهُ، فَإِذَا أَحْدَثَ عَمْدًا أَبْطَلَهُ، كَالصَّلَاةِ، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَبْتَدِئُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَتَوَضَّأُ، وَيَبْنِي. وَبِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ: يَتَوَضَّأُ، فَإِنْ شَاءَ بَنَى، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَبْنِي إذَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا إلَّا الْوُضُوءَ، فَإِنْ عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ ذَلِكَ، اسْتَقْبَلَ الطَّوَافَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ تَسْقُط عِنْدَ الْعُذْرِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهَذَا مَعْذُورٌ، فَجَازَ الْبِنَاءُ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ الْوُضُوءِ، فَقَدْ تَرَكَ الْمُوَالَاةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَزِمَهُ الِابْتِدَاءُ إذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا، فَأَمَّا الْمَسْنُونُ، فَلَا يَجِبُ إعَادَتُهُ، كَالصَّلَاةِ الْمَسْنُونَةِ إذَا بَطَلَتْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 [مَسْأَلَة صِحَّةِ طَوَافِ الرَّاكِبِ] (2495) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (وَمَنْ طَافَ وَسَعَى مَحْمُولًا لِعِلَّةٍ، أَجْزَأَهُ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي صِحَّةِ طَوَافِ الرَّاكِبِ إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ جَابِرٌ: «طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ، بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ عَلَيْهِمْ، لِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ» . وَالْمَحْمُولُ كَالرَّاكِبِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. (2496) فَصْلٌ: فَأَمَّا الطَّوَافُ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا رَاكِبًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَالصَّلَاةِ. وَالثَّانِيَةُ، يُجْزِئُهُ، وَيَجْبُرُهُ بِدَمٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يُعِيدُ مَا كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ رَجَعَ جَبَرَهُ بِدَمٍ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ صِفَةً وَاجِبَةً فِي رُكْنِ الْحَجِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَهَارًا، وَدَفَعَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَالثَّالِثَةُ، يُجْزِئُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ رَاكِبًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا قَوْلَ لَأَحَدٍ مَعَ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا، فَكَيْفَمَا أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطَّوَافَ رَاجِلًا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافُوا مَشْيًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ طَافَ مَشْيًا، وَفِي قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ: «شَكَوْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ إنَّمَا يَكُونُ مَشْيًا، وَإِنَّمَا طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِبًا لِعُذْرٍ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ هَذَا مُحَمَّدٌ. حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنْ الْبُيُوتِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرُوا عَلَيْهِ رَكِبَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشَوْهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ رَاكِبًا؛ لِشَكَاةٍ بِهِ» . وَبِهَذَا يَعْتَذِرُ مَنْ مَنَعَ الطَّوَافَ رَاكِبًا عَنْ طَوَافِ النَّبِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَثْرَةُ النَّاسِ، وَشِدَّةُ الزِّحَامِ عُذْرًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَدَ تَعْلِيمَ النَّاسِ مَنَاسِكَهُمْ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إلَّا بِالرُّكُوبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَم. (2497) فَصْلٌ: إذَا طَافَ رَاكِبًا، أَوْ مَحْمُولًا، فَلَا رَمَلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَخُبُّ بِهِ بَعِيرُهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلَا أَمَرَ بِهِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الرَّمَلِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ. (2498) فَصْلٌ: فَأَمَّا السَّعْيُ رَاكِبًا، فَيُجْزِئُهُ لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ الطَّوَافَ رَاكِبًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ. [مَسْأَلَة مَنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارَنَا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ النِّيَّة إذَا طَافَ وَسَعَى] (2499) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا، أَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا طَافَ وَسَعَى، وَيَجْعَلَهَا عُمْرَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَيَكُونَ عَلَى إحْرَامِهِ) أَمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلّ بِالْحَجِّ، وَلْيُهْدِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ لَا هَدْي مَعَهُ، مِمَّنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ إذَا طَافَ وَسَعَى أَنْ يَفْسَخَ نِيَّتَهُ بِالْحَجِّ، وَيَنْوِيَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً، فَيُقَصِّرَ، وَيَحِلَّ مَنْ إحْرَامِهِ؛ لِيَصِيرَ مُتَمَتِّعًا، إنْ لَمْ يَكُنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى، فَقَدْ حَلَّ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَدَاوُد، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ النِّسْكَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُهُ كَالْعُمْرَةِ، فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً، أَوْ لِمَنْ أَتَى؟ قَالَ: لَنَا خَاصَّةً» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْمُرَقِّعِ الْأَسَدِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «كَانَ مَا أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَخَلْنَا مَكَّةَ، أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَنَحِلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ لَنَا خَاصَّةً، رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ جَمِيعِ النَّاسِ» . وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِينَ أَفْرَدُوا الْحَجَّ وَقَرَنُوا، أَنْ يَحِلُّوا كُلَّهُمْ، وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مُتَّفَقٍ عَلَيْهِنَّ، بِحَيْثُ يَقْرُبُ مِنْ التَّوَاتُرِ وَالْقَطْعِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمْنَاهُ وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ، فِي (شَرْحِهِ) ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 بْنَ أَيُّوبَ يَقُول: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ يَقُولُ، وَسُئِلَ عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ، فَقَالَ: قَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْك حَسَنٌ جَمِيلٌ، إلَّا خَلَّةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ تَقُولُ بِفَسْخِ الْحَجِّ. فَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ كُنْت أَرَى أَنَّ لَك عَقْلًا، عِنْدِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا صِحَاحًا جِيَادًا، كُلُّهَا فِي فَسْخِ الْحَجِّ، أَتْرُكُهَا لِقَوْلِك وَقَدْ رَوَى فَسْخَ الْحَجِّ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، وَأَحَادِيثُهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ، وَأَحَادِيثُهُمْ كُلُّهَا صِحَاحٌ. قَالَ أَحْمَدُ: رُوِيَ الْفَسْخُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ، وَالْبَرَاءِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، وَفِي لَفْظِ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: «أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا، أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَحِلَّ، قَالَ: حِلُّوا، وَأُصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ. قَالَ: فَبَلَغَهُ عَنَّا أَنَّا نَقُولُ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا خَمْسُ لَيَالٍ، أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِيَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْت كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا، وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت، مَا أَهْدَيْت. قَالَ: فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا. قَالَ فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ: مُتْعَتُنَا هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَظَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: لِلْأَبَدِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ، فَمَنْ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ؟ يَعْنِي أَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَلَمْ يَرْوِهِ إلَّا الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهُ مُرَقِّعٌ الْأَسَدِيُّ، فَمَنْ مُرَقِّعٌ الْأَسَدِيُّ، شَاعِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَلْقَ أَبَا ذَرٍّ. فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَيْسَ قَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ؟ قَالَ: كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: أَفَيَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ؟ الْمُتْعَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: مُرَقِّعٌ الْأَسَدِيُّ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي ضَعْفِهَا وَجَهَالَةِ رُوَاتِهَا، لَا تُقْبَلُ إذَا انْفَرَدَتْ، فَكَيْفَ تُقْبَلُ فِي رَدِّ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِالتَّوَاتُرِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي ذَرٍّ مِنْ رَأْيِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَقَدْ شَذَّ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى هَذَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ لَفْظُهُ، فَفِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ عَنْهُ قَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ، فَلَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُقْبَلُ، عَلَى أَنَّ قِيَاسَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي هَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَلْبُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فِي حَقِّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ حُصِرَ عَنْ عَرَفَةَ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَصِيرُ حَجًّا بِحَالٍ. وَلِأَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يَصِيرُ بِهِ مُتَمَتِّعًا، فَتَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ، وَفَسْخُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ يُفَوِّتُ الْفَضِيلَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَضِيلَةُ مَشْرُوعِيَّةُ تَفْوِيتِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 [فَصْل إذَا فَسَخَ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ صَارَ مُتَمَتِّعًا] (2500) فَصْلٌ: وَإِذَا فَسَخَ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ، صَارَ مُتَمَتِّعًا، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِينَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ أَنْ يَنْوِيَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ. وَهَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، تُخَالِفُ عُمُومَ الْكِتَابِ وَصَرِيحَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحِلَّ، ثُمَّ لِيُهِلّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ فِي الْمُتْعَةِ لِلتَّرَفُّهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِالنِّيَّةِ وَعَدَمِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ وُجُوبُ الدَّمِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ، فَقَدْ وُجِدَتْ، فَإِنَّهُ مَا حَلَّ حَتَّى نَوَى أَنَّهُ يَحِلُّ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ. [مَسْأَلَة يَقْطَع الْمُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ] (2501) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إذَا وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: (إذَا وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ) . وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَالْحَسَنُ: يَقْطَعُهَا إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَقْطَعُهَا حِينَ يَرَى عَرْشَ مَكَّةَ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ إنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إذَا وَصَلَ إلَى الْحَرَمِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَرَى الْبَيْتَ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَرْفَعُ الْحَدِيثَ: «كَانَ يُمْسِكُ عَنْ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ، إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمْرٍ، وَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ» . وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ إجَابَةٌ إلَى الْعِبَادَةِ، وَإِشْعَارٌ لِلْإِقَامَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهَا إذَا شَرَعَ فِيمَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهَا، وَالتَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَإِذَا شَرَعَ فِي الطَّوَافِ فَقَدْ أَخَذَ فِي التَّحَلُّلِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ، كَالْحَجِّ إذَا شَرَعَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهَا. وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَشْرَعْ فِيمَا يُنَافِيهَا، فَلَا مَعْنَى لِقَطْعِهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 [بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ] ِّ نَذْكُرُ فِي هَذَا الْبَابِ صِفَةَ الْحَجِّ، بَعْدَ حِلِّ الْمُتَمَتِّعِ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَنَبْدَأُ بِذِكْرِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَقْتَصِرُ مِنْهُ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْبَابِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ مُفَرَّقًا فِي الْأَبْوَابِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَامِعٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، ذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: «فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَصَّرُوا، إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مِنًى، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرَحَلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا إنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّة تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُهُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ - كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ . قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّك قَدْ بَلَّغْت، وَأَدَّيْت، وَنَصَحْت. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُبُهَا إلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ كَلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَا اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ، أَبِيضَ، وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَصَرَفَ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْت مَعَكُمْ. فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا، فَشَرِبَ مِنْهُ» . قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ مَنْزِلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى بِالْخَيْفِ. [مَسْأَلَة يَوْمُ التَّرْوِيَةِ] (2502) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَمَضَى إلَى مِنًى) يَوْمُ التَّرْوِيَةِ: الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَرَوَّوْنَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ، يُعِدُّونَهُ لِيَوْمِ عَرَفَةَ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأَى لَيْلَتئِذٍ فِي الْمَنَامِ ذَبْحَ ابْنِهِ، فَأَصْبَحَ يَرْوِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 فِي نَفْسِهِ أَهُوَ حُلْمٌ أَمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَسُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ رَأَى ذَلِكَ أَيْضًا، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ حَلَالًا مِنْ الْمُتَمَتِّعِينَ الَّذِينَ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ، أَوْ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَنْ يُحْرِمُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حِينَ يَتَوَجَّهُونَ إلَى مِنًى. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: مَا لَكُمْ يَقْدَمُ النَّاسُ عَلَيْكُمْ شُعْثًا، إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَأَحَبُّ أَنْ يُهِلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ. وَلَنَا، قَوْلُ جَابِرٍ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَلْنَا، أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى، فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُك إذَا كُنْت بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ، حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مِيقَاتٌ لِلْإِحْرَامِ، فَاسْتَوَى فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ، كَمِيقَاتِ الْمَكَانِ. وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ ذَلِكَ، كَانَ جَائِزًا فَصْلٌ: وَمِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ جَازَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَوَاقِيتِ: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» . وَإِنْ أَحْرَمَ خَارِجًا مِنْهَا مِنْ الْحَرَمِ جَازَ؛ لِقَوْلِ جَابِرٍ: «فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ عِنْدَ إحْرَامِهِ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّنْظِيفِ، وَيَتَجَرَّدَ عَنْ الْمَخِيطِ، وَيَطُوفَ سَبْعًا، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُحْرِمَ عَقِيبَهُمَا» . وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا يُسَنُّ أَنْ يَطُوفَ بَعْدَ إحْرَامِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أَرَى لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَطُوفُوا بَعْدَ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ، وَلَا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يَرْجِعُوا. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. وَإِنْ طَافَ بَعْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ سَعَى، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ. وَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَجَازَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي الْحَجِّ مَرَّةً، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ سَعَى بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُهِلُّوا بِالْحَجِّ إذَا خَرَجُوا إلَى مِنًى. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ. وَلَوْ شُرِعَ لَهُمْ الطَّوَافُ قَبْلَ الْخُرُوجِ، لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَرْكِهِ. [مَسْأَلَة الْمَبِيت بِمِنًى] (2504) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَضَى إلَى مِنًى، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ إنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ مُحْرِمًا مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى، ثُمَّ يُقِيمَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَبِيتَ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَتَخَلَّفَتْ عَائِشَةُ لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ، وَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. (2505) فَصْلٌ: فَإِنْ صَادَفَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَمَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يُصَلِّيَهَا؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ، وَالْخُرُوجَ إلَى مِنًى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ فَرْضٍ. فَأَمَّا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنْ شَاءَ خَرَجَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ حَتَّى يُصَلِّيَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ وَافَقَ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَخَرَجَ إلَى مِنًى. وَقَالَ عَطَاءٌ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكْت يَصْنَعُونَهُ، أَدْرَكْتهمْ يُجَمِّعُ بِمَكَّةَ إمَامُهُمْ وَيَخْطُبُ، وَمَرَّةً لَا يُجَمِّعُ وَلَا يَخْطُبُ. فَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ، أَمَرَ بَعْضَ مَنْ تَخَلَّفَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ وَالِي مَكَّةَ بِمَكَّة يَوْم الْجُمُعَةِ، يُجَمِّعُ بِهِمْ. قِيلَ لَهُ: يَرْكَبُ مِنْ مِنًى، فَيَجِيءُ إلَى مَكَّةَ، فَيُجَمِّعُ بِهِمْ؟ قَالَ: لَا، إذَا كَانَ هُوَ بَعْدُ بِمَكَّةَ. [مَسْأَلَة الْوُقُوف بِعَرَفَةَ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، دَفَعَ إلَى عَرَفَةَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنْ أَذَّنَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى فِي رَحْلِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمَوْقِفِ مِنْ مِنًى إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَيُقِيمَ، بِنَمِرَةَ، وَإِنْ شَاءَ بِعَرَفَةَ، حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَخْطُبَ الْإِمَامُ خُطْبَةً، يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ، مِنْ مَوْضِعِ الْوُقُوفِ وَوَقْتِهِ، وَالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَبِيتِهِمْ بِمُزْدَلِفَةَ، وَأَخْذِ الْحَصَى لِرَمْيِ الْجِمَارِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْأَذَانِ، فَيَنْزِلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً.» وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ، قَامَ الْإِمَامُ فَخَطَبَ. وَقِيلَ: يُؤَذِّنُ فِي آخِرِ خُطْبَةِ الْإِمَامِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَذَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُطْبَتِهِ. وَكَيْفَمَا فَعَلَ فَحَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ أَذَّنَ فَلَا بَأْسَ) . كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى أَوْ لَا يُؤَذِّنَ. وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْأَذَانُ أَوْلَى. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤَذِّنُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَوْلَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَجْمُوعَاتِ وَالْفَوَائِتِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (فَإِنْ فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى فِي رَحْلِهِ) . يَعْنِي أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَجْمَعُ كَمَا يَجْمَعُ مَعَ الْإِمَامِ، فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَصَاحِبًا أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْمَعُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا مَحْدُودًا، وَإِنَّمَا تُرِك ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ مَعَ الْإِمَام، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إمَامٌ، رَجَعْنَا إلَى الْأَصْل. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا فَاتَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، مَعَ الْإِمَامِ بِعَرَفَةَ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا مُنْفَرِدًا. وَلِأَنَّ كُلَّ جَمْعٍ جَازَ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ مُنْفَرِدًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بِجَمْعٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا جَازَ الْجَمْعُ فِي الْجَمَاعَةِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا. [فَصْل السُّنَّةُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِمَنْ بِعَرَفَة حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ] (2507) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَأَنْ يُقَصِّرَ الْخُطْبَةَ، ثُمَّ يَرُوحَ إلَى الْمَوْقِفِ؛ لِمَا رَوَى سَالِمٌ، أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ يَوْمَ عَرَفَةَ: إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ، فَقَصِّرْ الْخُطْبَةَ، وَعَجِّلْ الصَّلَاةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ تَطْوِيلَ ذَلِكَ يَمْنَعُ الرَّوَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الزَّوَالِ، وَالسُّنَّةُ التَّعْجِيلُ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى سَالِمٌ، أَنَّ الْحَجَّاجَ أَرْسَلَ إلَى ابْنِ عُمَرَ: أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُوحُ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ ذَلِكَ رُحْنَا. فَلَمَّا أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَرُوحَ، قَالَ: أَزَاغَتْ الشَّمْسُ؟ قَالُوا: لَمْ تَزِغْ. فَلَمَّا قَالُوا: قَدْ زَاغَتْ. ارْتَحَلَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، صَبِيحَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَجِّرًا، فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ جَابِرٍ فِي هَذَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. [فَصْل يَجُوزُ الْجَمْعُ لِكُلِّ مَنْ بِعَرَفَةَ] فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِكُلِّ مَنْ بِعَرَفَةَ، مِنْ مَكِّيٍّ وَغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَصْرِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ، فَجَمَعَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمَكِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَرْكِ الْجَمْعِ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْقَصْرِ حِينَ قَالَ: (أَتِمُّوا، فَإِنَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 سَفْرٌ) . وَلَوْ حُرِّمَ الْجَمْعُ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ، إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا يُقِرُّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخَطَأِ. وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَ أَهْلًا، وَلَمْ يَتْرُكْ الْجَمْعَ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنُ الزُّبَيْرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُعَلِّمُنَا الْمَنَاسِكَ. فَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَفَاضَ، فَلَا صَلَاةَ إلَّا بِجَمْعٍ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالِيَ مَكَّةَ، فَخَرَجَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافٌ فِي الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، بَلْ وَافَقَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَرَى الْجَمْعَ فِي غَيْرِهِ، وَالْحَقُّ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى غَيْرِهِ. [فَصْل قَصْرُ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ] (2509) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَهُمْ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّ لَهُمْ الْجَمْعَ، فَكَانَ لَهُمْ الْقَصْرُ كَغَيْرِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ فِي غَيْرِ سَفَرٍ بَعِيدٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ الْقَصْرُ كَغَيْرِ مَنْ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَرَجُلٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: إنْ كَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ إذَا رَجَعَ صَلَّى ثَمَّ رَكْعَتَيْنِ. وَذَكَر فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مِنًى وَعَرَفَةَ ابْتِدَاءُ سَفَرٍ، فَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقِيمَ بِمَكَّةَ، أَتَمَّ بِمِنًى وَعَرَفَةَ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ] (2510) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَصِيرُ إلَى مَوْقِفِ عَرَفَةَ عِنْدَ الْجَبَلِ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَيَرْفَعُ عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْوُقُوفُ فِيهِ) يَعْنِي إذَا صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ، صَارَ إلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْوُقُوفِ، كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَفْعَلُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهَا مَجْمَعٌ لِلنَّاسِ، فَاسْتُحِبَّ الِاغْتِسَالُ لَهَا، كَالْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ. وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَدْ وَقَفْت هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ، قَالَ: أَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَنَحْنُ بِعَرَفَةَ فِي مَكَان يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو عَنْ الْإِمَامِ، فَقَالَ: إنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكُمْ، يَقُولُ: (كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ) . وَحَدُّ عَرَفَةَ مِنْ الْجَبَلِ الْمُشْرِفِ عَلَى عُرَنَةَ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لَهُ إلَى مَا يَلِي حَوَائِطَ بَنِي عَامِرٍ. وَلَيْسَ وَادِي عُرَنَةَ مِنْ الْمَوْقِفِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْوُقُوفُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِهِ لَا يُجْزِئُهُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ يُهْرِيقُ دَمًا، وَحَجُّهُ تَامٌّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَجَبَلِ الرَّحْمَةِ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ؛ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» . (2511) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ، أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا عَلَى بَعِيرِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ. قَالَ أَحْمَدُ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْوُقُوفِ رَاكِبًا، فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَقِيلَ: الرَّاجِلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَيَحْتَمِلُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا. (2512) فَصْلٌ: وَالْوُقُوفُ رُكْنٌ، لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، إجْمَاعًا. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ بُكَيْر بْنِ عَطَاءٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعْمٍ الدِّيلِيِّ، قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ، فَجَاءَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: مَا أَرْوِي لِلثَّوْرِيِّ حَدِيثًا أَشْرَفَ مِنْهُ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ] (2513) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَيُكَبِّرُ، وَيُهَلِّلُ، وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ فَإِنَّهُ يَوْمٌ تُرْجَى فِيهِ الْإِجَابَةُ، وَلِذَلِكَ أَحْبَبْنَا لَهُ الْفِطْرَ يَوْمَئِذٍ، لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ، مَعَ أَنَّ صَوْمَهُ بِغَيْرِ عَرَفَةَ يَعْدِلُ سَنَتَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي (سُنَنِهِ) ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بِالْمَأْثُورِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ، مِثْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثَرُ دُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَدُعَائِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ اهْدِنِي بِالْهُدَى، وَقِنِي بِالتَّقْوَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. وَيَرُدُّ يَدَيْهِ، وَيَسْكُتُ بِقَدْرِ مَا كَانَ إنْسَانٌ قَارِئًا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 أَفَاضَ. وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ: هَذَا ثَنَاءٌ، وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ. فَقَالَ: أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حِبَاؤُك إنَّ شِيمَتَك الْحِبَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَرُوِيَ أَنَّ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بِعَرَفَةَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَرَى مَكَانِي، وَتَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ، الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ، الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ، أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إلَيْك ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوك دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، مَنْ خَشَعَتْ لَك رَقَبَتُهُ، وَذَلَّ لَك جَسَدُهُ، وَفَاضَتْ لَك عَيْنُهُ، وَرَغِمَ لَك أَنْفُهُ» . وَرَوَيْنَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت أَعْرَابِيًّا، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ بِعَرَفَةَ، يَقُولُ: إلَهِي مَنْ أَوْلَى بِالزَّلَلِ وَالتَّقْصِيرِ مِنِّي وَقَدْ خَلَقْتنِي ضَعِيفًا، وَمَنْ أَوْلَى بِالْعَفْوِ عَنِّي مِنْك، وَعِلْمُك فِي سَابِقٌ، وَأَمْرُك بِي مُحِيطٌ، أَطَعْتُك بِإِذْنِك وَالْمِنَّةُ لَك، وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك وَالْحُجَّةُ لَك، فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي، وَبِفَقْرِي إلَيْك وَغِنَاك عَنِّي، أَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، إلَهِي لَمْ أُحْسِنْ حَتَّى أَعْطَيْتنِي، وَلَمْ أُسِئْ، حَتَّى قَضَيْت عَلَيَّ، اللَّهُمَّ أَطَعْتُك بِنِعْمَتِك فِي أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إلَيْك، شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَمْ أَعْصِك فِي أَبْغَضِ الْأَشْيَاءِ إلَيْك، الشِّرْكِ بِك، فَاغْفِرْ لِي مَا بَيْنَهُمَا، اللَّهُمَّ أَنْتَ أُنْسُ الْمُؤْنِسِينَ لِأَوْلِيَائِك، وَأَقْرَبُهُمْ بِالْكِفَايَةِ مِنْ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْك، تُشَاهِدُهُمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَسِرِّي اللَّهُمَّ لَك مَكْشُوفٌ، وَأَنَا إلَيْك مَلْهُوفٌ، إذَا أَوْحَشَتْنِي الْغُرْبَةُ آنَسَنِي ذِكْرُك، وَإِذَا أَصَمَّتْ عَلَيَّ الْهُمُومُ لَجَأْت إلَيْك، اسْتِجَارَةً بِك، عِلْمًا بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِك، وَمَصْدَرَهَا عَنْ قَضَائِك. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ آوَيْتنِي مِنْ ضَنَايَ، وَبَصَّرْتنِي مِنْ عَمَايَ، وَأَنْقَذْتنِي مِنْ جَهْلِي وَجَفَايَ، أَسْأَلُك مَا يَتِمُّ بِهِ فَوْزِي، وَمَا أُؤَمِّلُ فِي عَاجِلِ دُنْيَايَ وَدِينِيِّ، وَمَأْمُولِ أَجَلِي وَمَعَادِي، ثُمَّ مَا لَا أَبْلُغُ أَدَاءَ شُكْرِهِ، وَلَا أَنَالُ إحْصَاءَهُ وَذِكْرَهُ، إلَّا بِتَوْفِيقِك وَإِلْهَامِك، أَنْ هَيَّجْت قَلْبِي الْقَاسِيَ، عَلَى الشُّخُوصِ إلَى حَرَمِك، وَقَوَّيْت أَرْكَانِي الضَّعِيفَةَ لِزِيَارَةِ عَتِيقِ بَيْتِك، وَنَقَلْت بَدَنِي، لِإِشْهَادِي مَوَاقِفَ حَرَمِك، اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ خَلِيلِكَ، وَاحْتِذَاءً عَلَى مِثَالِ رَسُولِك، وَاتِّبَاعًا لِآثَارِ خِيرَتِك وَأَنْبِيَائِك وَأَصْفِيَائِك، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَدْعُوك فِي مَوَاقِفِ الْأَنْبِيَاءِ، - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَمَنَاسِكِ السُّعَدَاءِ، وَمَسَاجِدِ الشُّهَدَاءِ، دُعَاءَ مِنْ أَتَاك لِرَحْمَتِك رَاجِيًا، وَعَنْ وَطَنِهِ نَائِيًا، وَلِقَضَاءِ نُسُكِهِ مُؤَدِّيًا، وَلِفَرَائِضِك قَاضِيًا، وَلِكِتَابِك تَالِيًا، وَلِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَاعِيًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 مُلَبِّيًا، وَلِقَلْبِهِ شَاكِيًا، وَلِذَنْبِهِ خَاشِيًا، وَلِحَظِّهِ مُخْطِئًا، وَلِرَهْنِهِ مُغْلِقًا، وَلِنَفْسِهِ ظَالِمًا، وَبِجُرْمِهِ عَالِمًا، دُعَاءَ مَنْ جَمَّتْ عُيُوبُهُ، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَتَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ، وَاشْتَدَّتْ فَاقَتُهُ، وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُ، دُعَاءَ مَنْ لَيْسَ لِذَنْبِهِ سِوَاك غَافِرًا، وَلَا لِعَيْبِهِ غَيْرُك مُصْلِحًا، وَلَا لِضَعْفِهِ غَيْرُك مُقَوِّيًا، وَلَا لِكَسْرِهِ غَيْرُك جَابِرًا، وَلَا لِمَأْمُولِ خَيْرٍ غَيْرُك مُعْطِيًا، وَلَا لِمَا يَتَخَوَّفَ مِنْ حَرِّ نَارِهِ غَيْرُك مُعْتِقًا، اللَّهُمَّ وَقَدْ أَصْبَحْت فِي بَلَدٍ حَرَامٍ، فِي يَوْمٍ حَرَامٍ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فِي قِيَامٍ مِنْ خَيْرِ الْأَنَامِ، أَسْأَلْك أَنْ لَا تَجْعَلَنِي أَشْقَى خَلْقِك الْمُذْنِبِينَ عِنْدَك، وَلَا أَخْيَبَ الرَّاجِينَ لَدَيْك، وَلَا أَحْرَمَ الْآمِلِينَ لِرَحْمَتِك، الزَّائِرِينَ لِبَيْتِك، وَلَا أَخْسَرَ الْمُنْقَلِبِينَ مِنْ بِلَادِك، اللَّهُمَّ وَقَدْ كَانَ مِنْ تَقْصِيرِي مَا قَدْ عَرَفْت، وَمِنْ تَوْبِيقِي نَفْسِي مَا قَدْ عَلِمْت، وَمِنْ مَظَالِمِي مَا قَدْ أَحْصَيْت، فَكَمْ مِنْ كَرْبٍ مِنْهُ قَدْ نَجَّيْت، وَمِنْ غَمٍّ قَدْ جَلَّيْت، وَهَمٍّ قَدْ فَرَّجْت، وَدُعَاءٍ قَدْ اسْتَجَبْت، وَشِدَّةٍ قَدْ أَزَلْت، وَرَخَاءٍ قَدْ أَنَلْت، مِنْك النَّعْمَاءُ، وَحُسْنُ الْقَضَاءِ، وَمِنِّي الْجَفَاءُ، وَطُولُ الِاسْتِقْصَاءِ، وَالتَّقْصِيرُ عَنْ أَدَاءِ شُكْرِك، لَك النَّعْمَاءُ يَا مَحْمُودُ، فَلَا يَمْنَعْنَك يَا مَحْمُودُ مِنْ إعْطَائِي مَسْأَلَتِي مِنْ حَاجَتِي إلَى حَيْثُ انْتَهَى لَهَا سُؤْلِي، مَا تَعْرِفُ مِنْ تَقْصِيرِي، وَمَا تَعْلَمُ مِنْ ذُنُوبِي وَعُيُوبِي، اللَّهُمَّ فَأَدْعُوك رَاغِبًا، وَأَنْصِبُ لَك وَجْهِي طَالِبًا، وَأَضَعُ خَدِّي مُذْنِبًا رَاهِبًا، فَتَقَبَّلْ دُعَائِي، وَارْحَمْ ضَعْفِي، وَأَصْلِحْ الْفَسَادَ مِنْ أَمْرِي، وَاقْطَعْ مِنْ الدُّنْيَا هَمِّي وَحَاجَتِي، وَاجْعَلْ فِيمَا عِنْدَك رَغْبَتِي، اللَّهُمَّ وَاقْلِبْنِي مُنْقَلَبَ الْمُدْرِكِينَ لِرَجَائِهِمْ، الْمَقْبُولِ دُعَاؤُهُمْ، الْمَفْلُوجِ حُجَّتُهُمْ، الْمَبْرُورِ حَجَّتُهُمْ، الْمَغْفُورِ ذَنْبُهُمْ، الْمَحْطُوطِ خَطَايَاهُمْ، الْمَمْحُوِّ سَيِّئَاتُهُمْ، الْمَرْشُودِ أَمْرُهُمْ، مُنْقَلَبَ مَنْ لَا يَعْصِي لَك بَعْدَهُ أَمْرًا، وَلَا يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ مَأْثَمًا، وَلَا يَرْكَبُ بَعْدَهُ جَهْلًا، وَلَا يَحْمِلُ بَعْدَهُ وِزْرًا، مُنْقَلَبَ مَنْ عَمَّرْت قَلْبَهُ، بِذِكْرِك، وَلِسَانَهُ بِشُكْرِك، وَطَهَّرْت الْأَدْنَاسَ مِنْ بَدَنِهِ، وَاسْتَوْدَعْت الْهُدَى قَلْبَهُ، وَشَرَحْت بِالْإِسْلَامِ صَدْرَهُ، وَأَقْرَرْت بِعَفْوِك قَبْلَ الْمَمَاتِ عَيْنَهُ، وَأَغْضَضْت عَنْ الْمَآثِمِ بَصَرَهُ، وَاسْتُشْهِدَتْ فِي سَبِيلِك نَفْسُهُ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، كَمَا تُحِبُّ رَبَّنَا وَتَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) . مَعْنَاهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ» . فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ، فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا مَالِكًا، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حَجَّ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلِيَحْلِلْ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وَلَنَا، مَا رَوَى عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُزْدَلِفَةِ، حِينَ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي جِئْت مِنْ جَبَلِ طَيٍّ، أَكْلَلْت رَاحِلَتِي، وَأَتْعَبْت نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى يَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ وَقَفَ فِي زَمَنِ الْوُقُوفِ، فَأَجْزَأْهُ، كَاللَّيْلِ. فَأَمَّا خَبَرُهُ، فَإِنَّمَا خَصَّ اللَّيْلَ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَتَعَلَّقُ بِهِ إذَا كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ النَّهَارِ، فَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الْوُقُوفِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا» . وَعَلَى مَنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ دَمٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَيْهِ هَدْيٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَاجِبٌ، لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ، فَلَمْ يُوجِبْ الْبَدَنَةَ، كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ. (2514) فَصْلٌ: فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، ثُمَّ عَادَ نَهَارًا فَوَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ لَزِمَهُ الدَّمُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِرُجُوعِهِ، كَمَا لَوْ عَادَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوُقُوفِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ، كَمَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْوُقُوفَ حَالَ الْغُرُوبِ، وَقَدْ فَاتَهُ بِخُرُوجِهِ، فَأَشْبَهَ مِنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَأَحْرَمَ دُونَهُ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ. وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ، وَلَا جَاءَ عَرَفَةَ، حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، فَوَقَفَ لَيْلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحَجُّهُ تَامٌّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ.» وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ، فَأَشْبَهَ مَنْ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ إذَا أَحْرَمَ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 [فَصْل وَقْتُ الْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ] (2515) فَصْلٌ: وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ طُلُوعُ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ. قَالَ جَابِرٌ: «لَا يَفُوتُ الْحَجُّ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ» . قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَقُلْت لَهُ: أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَأَمَّا أَوَّلُهُ فَمِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: أَوَّلُ وَقْتِهِ زَوَالُ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ. وَحُمِلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: (لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَهَارًا وَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» ، وَلِأَنَّهُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَكَانَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ، كَبَعْدِ الزَّوَالِ، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ، كَبَعْدِ الْعِشَاءِ. وَإِنَّمَا وَقَفُوا فِي وَقْتِ الْفَضِيلَةِ، وَلَمْ يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ وَقْتِ الْوُقُوفِ. (2516) فَصْلٌ: وَكَيْفَمَا حَصَلَ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ عَاقِلٌ، أَجْزَأَهُ، قَائِمًا أَوْ جَالِسًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ نَائِمًا. وَإِنْ مَرَّ بِهَا مُجْتَازًا، فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا عَرَفَةُ، أَجْزَأَهُ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاقِفًا إلَّا بِإِرَادَةٍ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَقَدْ أَتَى عَرَفَاتٍ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» . وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِعَرَفَةَ فِي زَمَنِ الْوُقُوفِ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَأَجْزَأْهُ كَمَا لَوْ عَلِمَ، وَإِنْ وَقَفَ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ، وَلَمْ يُفِقْ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عَطَاءٌ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ: يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: الْحَسَنُ يَقُولُ بَطَلَ حَجُّهُ، وَعَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِيهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا طَهَارَةٌ. وَيَصِحُّ مِنْ النَّائِمِ، فَصَحَّ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ. وَمِنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ قَالَ: رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَسَائِرِ أَرْكَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالسَّكْرَانُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ بِغَيْرِ نَوْمٍ، فَأَشْبَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا النَّائِمُ فَيُجْزِئُهُ الْوُقُوفُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَيْقِظِ. [فَصْل لَا يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ طَهَارَةٌ وَلَا سِتَارَةٌ وَلَا اسْتِقْبَالٌ وَلَا نِيَّةٌ] (2517) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوفِ طَهَارَةٌ، وَلَا سِتَارَةٌ، وَلَا اسْتِقْبَالٌ، وَلَا نِيَّةٌ. وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ غَيْرَ طَاهِرٍ، مُدْرِكٌ لِلْحَجِّ. وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَفِي «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ.» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَائِزٌ، وَوَقَفَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، بِهَا حَائِضًا بِأَمْرِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا. قَالَ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا عَلَى وُضُوءٍ، كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: لَا يَقْضِي شَيْئًا مِنْ الْمَنَاسِكِ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ. . [مَسْأَلَة إذَا دَفَعَ الْإِمَامُ إلَى مُزْدَلِفَةَ دَفَعَ مَعَهُ] (2518) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا دَفَعَ الْإِمَامُ، دَفَعَ مَعَهُ إلَى مُزْدَلِفَةَ) الْإِمَامُ هَاهُنَا الْوَالِي الَّذِي إلَيْهِ أَمْرُ الْحَجِّ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَدْفَعُوا حَتَّى يَدْفَعَ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَدْفَعَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا وَجَدْت عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ سَهَّلَ فِيهِ، كُلُّهُمْ يُشَدِّدُ فِيهِ. فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ حَتَّى يَدْفَعَ الْإِمَامُ، ثُمَّ يَسِيرُ نَحْوَ الْمُزْدَلِفَةِ عَلَى سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ بِالزِّمَامِ، حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيب مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» . هَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِإِيضَاعِ الْإِبِلِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ عُرْوَةُ: «سُئِلَ أُسَامَةُ، وَأَنَا جَالِسٌ، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» . قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الْإِكْثَار مِنْ الذَّكَر بَعْدَ الْإِفَاضَة مِنْ عَرَفَاتٍ] (2519) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى) ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يُسْتَحَبُّ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَشَدُّ تَأْكِيدًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] . وَلِأَنَّهُ زَمَنُ الِاسْتِشْعَارِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّلَبُّسِ بِعِبَادَتِهِ، وَالسَّعْيِ إلَى شَعَائِرِهِ. وَتُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ. وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يُلَبِّي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وَلَنَا، مَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: شَهِدْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ يُلَبِّي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ كَلِمَةً. فَسَمِعْته زَادَ فِي تَلْبِيَتِهِ شَيْئًا لَمْ أَسْمَعْهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَهَا: لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكَهَا. وَإِنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى، جَازَ. [مَسْأَلَة السُّنَّةَ لِمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَصِلَ مُزْدَلِفَةَ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ، بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ. فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا بَأْسَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ، أَنْ لَا يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَصِلَ مُزْدَلِفَةَ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. لَا خِلَافَ فِي هَذَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ، أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّ يَجْمَعَ الْحَاجُّ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأُسَامَةُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَحَادِيثُهُمْ صِحَاحٌ. وَيُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً؛ لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَةَ، حَتَّى إذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ، فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَقُلْت لَهُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَك. فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُزْدَلِفَةَ نَزَلَ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ سَالِمٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةِ الْأَوْلَى فَلَا بَأْسَ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ أَذَّنَ لِلْأَوْلَى وَأَقَامَ، ثُمَّ أَقَامَ لِلثَّانِيَةِ، فَحَسَنٌ؛ فَإِنَّهُ يُرْوَى فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْفَوَائِتِ وَالْمَجْمُوعَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ إقَامَةٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ أُسَامَةُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ هُوَ وَجَابِرٌ فِي حَدِيثِهِمَا عَلَى إقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَاتَّفَقَ أُسَامَةُ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ قَالَ: بِإِقَامَةٍ. قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَذِّنْ لِلْأُولَى هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِعَرَفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 حَدِيثًا مَرْفُوعًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ بِالتَّأْذِينِ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَدْ تَفَرَّقُوا لِعَشَائِهِمْ، فَأَذَّنَ لِجَمْعِهِمْ، وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْعَشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. [مَسْأَلَة إنْ فَاتَهُ الْجَمْع مَعَ الْإِمَامِ بمزدلفة صَلَّى ى وَحْدَهُ] (2521) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ، صَلَّى وَحْدَهُ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ مُنْفَرِدًا، كَمَا يَجْمَعُ مَعَ الْإِمَامِ. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا تُصَلَّى فِي وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْعَصْرِ مَعَ الظُّهْرِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَبْطُلْ الْجَمْعُ كَذَلِكَ، وَلِمَا رَوَى أُسَامَةُ، قَالَ: ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ، فَصَلَّاهَا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ، فَأَتَيْنَا إلَى مُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلًا، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ، ثُمَّ أَمَرَ - أَرَى - فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ. وَلِأَنَّ الْجَمْعَ مَتَى كَانَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَضُرَّ التَّفْرِيقُ شَيْئًا. (2522) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ التَّعْجِيلُ بِالصَّلَاتَيْنِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ حَطِّ الرَّحَّال؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ لِلْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تَطَوُّعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَنَا، حَدِيثُ أُسَامَةَ وَابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا» . وَحَدِيثُهُمَا أَصَحُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْكِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. (2523) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَجْمَعْ، خَالَفَ السُّنَّةَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَكَانَ نُسُكًا، وَقَدْ قَالَ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) . وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ صَلَاتَيْنِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ، وَلِئَلَّا يَنْقَطِعَ سَيْرُهُ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ. [مَسْأَلَة إذَا صَلَّى الْفَجْرَ بِمُزْدَلِفَةَ وَقَفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَدَعَا] (2524) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ، وَقَفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَدَعَا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 يَعْنِي أَنَّهُ يَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَيُصَلِّي الصُّبْحَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُعَجِّلَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، لِيَتَّسِعَ وَقْتُ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَائِلٌ يَقُولُ: قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعْ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. نَحْوَ هَذَا. ثُمَّ إذَا صَلَّى الْفَجْرَ، وَقَفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ قُزَحُ، فَيَرْقَى عَلَيْهِ إنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلَّا وَقَفَ عِنْدَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَاهُ وَاجْتَهَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] . وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ. «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَرَقَى عَلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ وَهَلَّلَهُ وَكَبَّرَهُ وَوَحَّدَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا وَقَّفْتنَا فِيهِ، وَأَرَيْتنَا إيَّاهُ، فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِك، كَمَا هَدَيْتنَا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا، كَمَا وَعَدْتنَا بِقَوْلِك، وَقَوْلُك الْحَقُّ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] . وَيَقِفُ حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا» ؛ لِمَا فِي حَدِيث جَابِرٍ؛ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا» . (2525) فَصْلٌ: وَلِلْمُزْدَلِفَةِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: مُزْدَلِفَةُ، وَجَمْعٌ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. وَحَدُّهَا مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إلَى قَرْنِ مُحَسِّرٍ، وَمَا عَلَى يَمِينِ ذَلِكَ وَشِمَالِهِ مِنْ الشِّعَابِ، فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَفَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُزْدَلِفَةُ مَوْقِفٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَقَفْت هَاهُنَا بِجَمْعٍ، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» . وَلَيْسَ وَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مُزْدَلِفَةَ؛ لِقَوْلِهِ: «وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ.» [فَصْل الْمَبِيتُ بمزدلفة وَاجِب وَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ] (2526) فَصْل: وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ: مَنْ فَاتَهُ جَمْعٌ فَاتَهُ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . يَعْنِي مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ. وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، فَالْمَنْطُوقُ بِهِ فِيهِمَا لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْحَجِّ إجْمَاعًا، فَإِنَّهُ لَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 بَاتَ بِجَمْعٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ فِيهَا، صَحَّ حَجُّهُ، فَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَبِيتَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، وَكَذَلِكَ شُهُودُ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ فِي آخِرِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، أَوْ الْفَضِيلَةِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ. (2527) فَصْلٌ: وَمَنْ بَاتَ بِمُزْدَلِفَةَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الدَّفْعُ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَإِنْ دَفَعَ بَعْدَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ مَرَّ بِهَا وَلَمْ يَنْزِل، فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ نَزَلَ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ مَتَى مَا شَاءَ دَفَعَ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاتَ بِهَا، وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَإِنَّمَا أُبِيحَ الدَّفْعُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ بِمَا وَرَدَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِيهِ، فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْت فِي مَنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى. وَعَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا. فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلهَا، قُلْت لَهَا: أَيْ هَنْتَاهْ، مَا أَرَانَا إلَّا غَلَّسْنَا. قَالَتْ: كَلًّا يَا بُنَيَّ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِلظُّعُنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَمَنْ دَفَعَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَعُدْ فِي اللَّيْل، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ عَادَ فِيهِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، كَاَلَّذِي دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ نَهَارًا. وَمِنْ لَمْ يُوَافِقْ مُزْدَلِفَةَ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُهُ، كَمَنْ أَدْرَكَ اللَّيْلَ بِعَرَفَاتٍ دُونَ النَّهَارِ. وَالْمُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَبِيتِ إلَى أَنْ يُصْبِحَ، ثُمَّ يَقِفُ حَتَّى يُسْفِرَ. وَلَا بَأْسَ بِتَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ وَالنِّسَاءِ، وَمِمَّنْ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَائِشَةُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِهِمْ، وَدَفْعًا لِمَشَقَّةِ الزِّحَامِ عَنْهُمْ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة السُّنَّةَ الدَّفْع مِنْ مُزْدَلِفَة قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ] (2528) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ السُّنَّةَ الدَّفْعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 قَالَ عُمَرُ: «إنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، كَيْمَا نُغِيرُ. وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالَفَهُمْ، فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى الدَّفْعَ قَبْلَ الْإِسْفَارِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَخَّرَ فِي الْوَقْتِ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إنِّي أَرَاهُ يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَدَفَعَ وَدَفَعَ النَّاسُ مَعَهُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْفَعُ كَانْصِرَافِ الْقَوْمِ الْمُسْفِرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ. وَانْصَرَفَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ أَسْفَرَ وَأَبْصَرَتْ الْإِبِلُ مَوْضِعَ أَخْفَافِهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِيرَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَيْرِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، «وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ. فَمَا رَأَيْتهَا رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتَّى أَتَى مِنًى.» [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ] (2529) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا بَلَغَ مُحَسِّرًا أَسْرَعَ، وَلَمْ يَقِفْ حَتَّى يَأْتِيَ مِنًى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُلَبٍّ) يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ جَمْعٍ وَمِنًى، فَإِنْ كَانَ مَاشِيًا أَسْرَعَ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا حَرَّكَ دَابَّتَهُ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ لَمَّا أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ قَلِيلًا» . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا أَتَى مُحَسِّرَ أَسْرَعَ، وَقَالَ: إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا وَذَلِكَ قَدْرُ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ، وَيَكُونُ مُلَبِّيًا فِي طَرِيقِهِ، فَإِنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ، وَرَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ، «قَالَ: شَهِدْت الْإِفَاضَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَهُوَ كَافٌّ بَعِيرَهُ، وَلَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . وَعَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ: أَفَاضَ عُمَرُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَهُوَ يُلَبِّي بِثَلَاثِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك. وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ، فَلَا يَقْطَعُ إلَّا بِالشُّرُوعِ فِي الْإِحْلَالِ، وَأَوَّلُهُ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. [مَسْأَلَة يَأْخُذ حَصَى الْجِمَار مِنْ طَرِيقه أَوْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ] (2530) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَأْخُذُ حَصَى الْجِمَارِ مِنْ طَرِيقِهِ، أَوْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ) إنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عِنْدَ قُدُومِهِ بِشَيْءٍ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَإِنَّ الرَّمْيَ تَحِيَّةٌ لَهُ، كَمَا أَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَبْدَأُ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ جَمْعٍ، وَفَعَلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: كَانُوا يَتَزَوَّدُونَ الْحَصَى مِنْ جَمْعٍ. وَاسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: خُذْ الْحَصَى مِنْ حَيْثُ شِئْت. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: اُلْقُطْ لِي حَصًى. فَلَقَطْت لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَقْبِضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ: أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا» . «ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَك مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَكَانَ ذَلِكَ بِمِنًى، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَخْذُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ، وَالْتِقَاطُ الْحَصَى أَوْلَى مِنْ تَكْسِيرِهِ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِي التَّكْسِيرِ أَنْ يَطِيرَ إلَى وَجْهِهِ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْحَصَيَاتُ كَحَصَى الْخَذْفِ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِقَوْلِ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ: كُلُّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إذَا رَأَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْأَثْرَمُ: يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْمِي بِمِثْلِ بَعْرِ الْغَنَمِ. فَإِنْ رَمَى بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْحَصَى عَلَى مَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَنَهَى عَنْ تَجَاوُزِهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْكَبِيرِ رُبَّمَا آذَى مَنْ يُصِيبُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُجْزِئُهُ مَعَ تَرْكِهِ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَمَى بِالْحَجَرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الصَّغِيرِ. [فَصْل يُجْزِئُ الرَّامِي بِكُلِّ مَا يُسَمَّى حَصَى] (2531) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ الرَّامِيَ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى حَصًى، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ، سَوَاءٌ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ أَحْمَرَ، مِنْ الْمَرْمَرِ، أَوْ الْبِرَامِ، أَوْ الْمَرْوِ، وَهُوَ الصَّوَّانُ، أَوْ الرُّخَامِ، أَوْ الْكَذَّانِ، أَوْ حَجَرِ الْمِسَنِّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ الرُّخَامُ وَلَا الْبِرَامُ وَالْكَذَّانُ. وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ، أَنْ لَا يُجْزِئَ الْمَرْوُ وَلَا حَجَرُ الْمِسَنِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بِالطِّينِ وَالْمَدَرِ، وَمَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ. وَنَحْوَهُ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، أَنَّهَا رَمَتْ الْجَمْرَةَ وَرَجُلٌ يُنَاوِلُهَا الْحَصَى، تُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَسَقَطَتْ حَصَاةٌ فَرَمَتْ بِخَاتَمِهَا. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى بِالْحَصَى، وَأَمَرَ بِالرَّمْيِ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» ، فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْحَصَى، وَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَدْخُلُ الْقِيَاسُ فِيهِ. (2532) فَصْلٌ: وَإِنْ رَمَى بِحَجَرٍ أُخِذَ مِنْ الْمَرْمِيِّ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ حَصًى، فَيَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنْ غَيْرِ الْمَرْمِيِّ. وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الرَّمْيُ بِمَا رُمِيَ بِهِ، لَمَا احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى أَخْذِ الْحَصَى مِنْ غَيْرِ مَكَانِهِ، وَلَا تَكْسِيرِهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا يُقْبَلُ مِنْهَا يُرْفَعُ. وَإِنْ رَمَى بِخَاتَمِ فِضَّةٍ حَجَرًا، لَمْ يُجْزِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَالرَّمْيُ بِالْمَتْبُوعِ لَا بِالتَّابِعِ. [مَسْأَلَة الِاسْتِحْبَاب أَنْ يَغْسِل حَصَى الرَّمْي] (2533) مَسْأَلَة: قَالَ: (وَالِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَغْسِلَهُ) اخْتَلَفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَحَرَّى سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ. وَهَذَا الصَّحِيحُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِك، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لُقِطَتْ لَهُ الْحَصَيَاتُ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرِهِ، يَقْبِضُهُنَّ فِي يَدِهِ، لَمْ يَغْسِلْهُنَّ، وَلَا أَمَرَ بِغَسْلِهِنَّ، وَلَا فِيهِ مَعْنَى يَقْتَضِيهِ. فَإِنْ رَمَى بِحَجَرٍ نَجِسٍ أَجْزَأْهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَاةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي بِهِ الْعِبَادَةَ، فَاعْتُبِرَتْ طَهَارَتُهُ، كَحَجَرِ الِاسْتِجْمَار وَتُرَابِ التَّيَمُّمِ. وَإِنْ غَسَلَهُ، وَرَمَى بِهِ، أَجْزَأَهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَعَدَدُ الْحَصَى سَبْعُونَ حَصَاةً، يَرْمِي مِنْهَا بِسَبْعٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَسَائِرهَا فِي أَيَّامِ مِنًى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ] (2534) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا وَصَلَ إلَى مِنًى، رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ فِي إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) حَدُّ مِنًى مَا بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَوَادِي مُحَسِّرٍ، كَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَيْسَ مُحَسِّرٌ وَالْعَقَبَةُ مِنْ مِنًى. وَيُسْتَحَبُّ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكَهَا. كَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. فَإِذَا وَصَلَ مِنًى بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَهِيَ آخِرُ الْجَمَرَات مِمَّا يَلِي مِنًى، وَأَوَّلُهَا مِمَّا يَلِي مَكَّةَ، وَهِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ. وَهَذَا بِجُمْلَتِهِ قَوْلُ مَنْ عَلِمْنَا قَوْلَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ وَالزِّحَامُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَصَعِدَ فَرَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا. وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ مَشَى مَعَ «عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَطْنِ الْوَادِي أَعْرَضَهَا فَرَمَاهَا، فَقِيلَ، لَهُ: إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا. فَقَالَ: مِنْ هَاهُنَا، وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، رَأَيْت الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ رَمَاهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «لَمَّا أَتَى عَبْدُ اللَّهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، اسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ، مِنْ هَاهُنَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَا يُسَنُّ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، رَوَيَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، انْصَرَفَ وَلَمْ يَقِفْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ: فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. وَإِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَعَمَلًا مَشْكُورًا. فَحَسَنٌ؛ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عُمَرَ كَانَا يَقُولَانِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، فِي (الْمَنَاسِكِ) ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، وَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَعَمَلًا مَشْكُورًا. فَسَأَلْته عَمَّا صَنَعَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَيَقُولُ كُلَّمَا رَمَى حَصَاةً مِثْلَمَا قُلْت» . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يُحِبُّونَ ذَلِكَ. (2535) فَصْلٌ: وَيَرْمِيهَا رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا كَيْفَمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ. رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأُمُّ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ جَابِرٌ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى دَابَّتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَكَانَ لَا يَأْتِي سَائِرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا مَاشِيًا، ذَاهِبًا وَرَاجِعًا. وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْتِيهَا إلَّا مَاشِيًا، ذَاهِبًا وَرَاجِعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي (الْمُسْنَدِ) . وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْجَمْرَةِ وَغَيْرِهَا. وَلِأَنَّ رَمْيَ هَذِهِ الْجَمْرَةِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ قُدُومِهِ، وَلَا يُسَنُّ عِنْدَهَا وُقُوفٌ، وَلَوْ سُنَّ لَهُ الْمَشْيُ إلَيْهَا لَشَغَلَهُ النُّزُولُ عَنْ الْبِدَايَةِ بِهَا، وَالتَّعْجِيلِ إلَيْهَا، بِخِلَافِ سَائِرِهَا. [فَصْل لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَة وَقْتَانِ وَقْتُ فَضِيلَةٍ وَوَقْتُ إجْزَاءٍ] (2536) فَصْلٌ: وَلِرَمْيِ هَذِهِ الْجَمْرَةِ وَقْتَانِ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ، وَوَقْتُ إجْزَاءٍ، فَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَبَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا رَمَاهَا ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ جَابِرٌ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي الْجَمْرَةَ ضُحَى يَوْمِ النَّحْرِ وَحْدَهُ، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يُلَطِّخُ أَفْخَاذَنَا، وَيَقُولُ: أَبَنِيَّ، عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَكَانَ رَمْيُهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يُجْزِئُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ، فَأَوَّلُهُ نِصْفُ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُ بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ: لَا يَرْمِيهَا إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تُعَجِّلَ الْإِفَاضَةَ، وَتُوَافِيَ مَكَّةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ» . وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا رَمَتْ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَصَلَّتْ الصُّبْحَ، وَذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِلظُّعُنِ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ لِلدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، فَكَانَ وَقْتًا لِلرَّمْيِ، كَبَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إلَى آخِرِ النَّهَارِ، جَازَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْمَغِيبِ، فَقَدْ رَمَاهَا فِي وَقْتٍ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَبًّا لَهَا. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، قَالَ رَجُلٌ: رَمَيْت بَعْدَمَا أَمْسَيْت؟ فَقَالَ: لَا حَرَجَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى اللَّيْلِ، لَمْ يَرْمِهَا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ الْغَدِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَيَعْقُوبُ: يَرْمِي لَيْلًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» . وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: مَنْ فَاتَهُ الرَّمْيُ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَلَا يَرْمِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ الْغَدِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» . إنَّمَا كَانَ فِي النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا يَكُونُ الْيَوْمُ إلَّا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَرْمِي لَيْلًا وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَمَرَّةً قَالَ: لَا دَمَ عَلَيْهِ. [فَصْل لَا يُجْزِئهُ الرَّمْيُ إلَّا أَنْ يَقَع الْحَصَى فِي الْمَرْمِيّ] (2537) فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا أَنْ يَقَعَ الْحَصَى فِي الْمَرْمَى، فَإِنْ وَقَعَ دُونَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّمْيِ وَلَمْ يَرْمِ. وَإِنْ طَرَحَهَا طَرْحًا؛ أَجْزَأْهُ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى رَمْيًا. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ ابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 الْقَاسِمِ: لَا يُجْزِئُهُ. وَإِنْ رَمَى حَصَاةً، فَوَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَرْمَى، فَأَطَارَتْ حَصَاةً أُخْرَى، فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى، لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الَّتِي رَمَاهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْمَرْمَى. وَإِنْ رَمَى حَصَاةً، فَالْتَقَمَهَا طَائِرٌ قَبْلَ وُصُولِهَا، لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْمَرْمَى. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى مَوْضِعٍ صُلْبٍ فِي غَيْرِ الْمَرْمَى، ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ عَلَى الْمَرْمَى، أَوْ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ، ثُمَّ طَارَتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى، أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّ حُصُولَهُ بِفِعْلِهِ. وَإِنْ نَفَضَهَا ذَلِكَ الْإِنْسَانُ عَنْ ثَوْبِهِ، فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى، فَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِرَمْيِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِ الثَّانِي، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا بِيَدِهِ فَرَمَى بِهَا. وَإِنْ رَمَى حَصَاةً، فَشَكَّ: هَلْ وَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى أَوْ لَا؟ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرَّمْيِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ، أَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ دَلِيلٌ. وَإِنْ رَمَى الْحَصَيَاتِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُجْزِئُهُ، وَيُكَبِّرُ لِكُلِّ حَصَاةٍ. وَلَنَا، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى سَبْعَ رَمَيَاتٍ، وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي الرَّمْيِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطِهِ. [مَسْأَلَةٌ قطع التَّلْبِيَة عِنْد ابْتِدَاء الرَّمْي لِجَمْرَةِ الْعَقَبَة] (2538) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ) وَمِمَّنْ قَالَ: يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ. ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونَةُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةَ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهُمَا كَانَا يُلَبِّيَانِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ سَعْدٍ، وَعَائِشَةَ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: يُلَبِّي حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ. وَلَنَا، أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. وَكَانَ رَدِيفَهُ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ» ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَهُ. وَاسْتُحِبَّ قَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ؛ لِلْخَبَرِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَطَعَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ. رَوَاهُ حَنْبَلٌ، فِي (الْمَنَاسِكِ) وَهَذَا بَيَانٌ يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُلَبِّي، وَلِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالرَّمْيِ، فَإِذَا شَرَعَ فِيهِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ، كَالْمُعْتَمِرِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِالشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ يَوْمَ النَّحْرِ] (2539) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَنْحَرُ، إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، لَمْ يَقِفْ، وَانْصَرَفَ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ نَحْرُ الْهَدْيِ، إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَاجِبٌ، اشْتَرَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يُضَحِّيَ، اشْتَرَى مَا يُضَحِّي بِهِ، وَيَنْحَرُ الْإِبِلَ، وَيَذْبَحُ مَا سِوَاهَا. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِيَدِهِ، وَإِنْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ جَازَ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «نَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ سَبْعَ بَدَنَاتٍ قِيَامًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْل السُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى] (2540) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى، فَيَضْرِبُهَا بِالْحَرْبَةِ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ. وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَاسْتَحَبَّ عَطَاءٌ نَحْرَهَا بَارِكَةً. وَجَوَّزَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ كُلَّ ذَلِكَ. وَلَنَا، مَا رَوَى دِينَارُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: «رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ لِيَنْحَرَهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى، قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا» . وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً. وَيُرْوَى فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] . أَيْ قِيَامًا. وَتُجْزِئُهُ كَيْفَمَا نَحَرَ. قَالَ أَحْمَدُ: يَنْحَرُ الْبُدْنَ مَعْقُولَةً عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، وَإِنْ خَشِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَنْفِرَ أَنَاخَهَا. [فَصْل يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُ الذَّبِيحَةِ إلَى الْقِبْلَةِ] (2541) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُ الذَّبِيحَةِ إلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَإِنْ قَالَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَسَنٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ذَبَحَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَبَحَ يَوْمَ الْعِيدِ كَبْشَيْنِ، ثُمَّ قَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَوَجَّهَ الذَّبِيحَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، تَرَكَ الْأَفْضَلَ، وَأَجْزَأَهُ. هَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهَانِ الْأَكْلَ مِنْ الذَّبِيحَةِ تُوَجَّهُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى وُجُوبِهِ دَلِيلٌ. [فَصْل وَقْت نَحْر الْأُضْحِيَّة وَالْهَدْي] (2542) فَصْلٌ: وَوَقْتُ نَحْرِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: هُوَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيَّامُ النَّحْرِ يَوْمُ الضُّحَى، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يَوْمٌ وَاحِدٌ. وَعَنْ سَعِيدَ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: فِي الْأَمْصَارِ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَبِمِنًى ثَلَاثَةٌ. وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْأَكْلِ مِنْ النُّسُكِ فَوْقَ ثَلَاثٍ» ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الْأَكْلُ، ثُمَّ نُسِخَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ، وَبَقِيَ وَقْتُ الذَّبْحِ بِحَالِهِ. وَلِأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لَا يَجِبُ فِيهِ الرَّمْيُ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الذَّبْحُ، كَاَلَّذِي بَعْدَهُ، فَأَمَّا اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةُ لِأَيَّامِ النَّحْرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهَا ذَبْحُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] . فَذَكَرَ الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ لَيْلَتَيْ يَوْمَيْ التَّشْرِيقِ الْأُولَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ دَاخِلَتَانِ فِي مُدَّةِ الذَّبْحِ، فَجَازَ الذَّبْحُ فِيهِمَا كَالْأَيَّامِ. [فَصْل إذَا نَحَرَ الْهَدْيَ فَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ] (2543) فَصْلٌ: وَإِذَا نَحَرَ الْهَدْيَ، فَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهُوَ مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ. فَإِنْ أَطْلَقَهَا لَهُمْ جَازَ، كَمَا رَوَى أَنَسٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ قَسَمَهَا فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، وَلَا يُعْطِي الْجَازِرَ بِأُجْرَتِهِ شَيْئًا مِنْهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أُقَسِّمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا، جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ بِقَسْمِهَا يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إيصَالِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَيَكْفِي الْمَسَاكِينَ مُؤْنَةَ النَّهْبِ وَالزِّحَامِ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ الْجَازِرَ بِأُجْرَتِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ ذَبْحَهَا، فَعَوَّضَهُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَسَاكِينِ، وَلِأَنَّ دَفْعَ جُزْءٍ مِنْهَا عِوَضًا عَنْ الْجِزَارَةِ كَبَيْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الْجَازِرُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ سِوَى مَا يُعْطِيهِ أَجْرَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْأَخْذِ مِنْهَا لِفَقْرِهِ، لَا لِأَجْرِهِ، فَجَازَ كَغَيْرِهِ، وَيُقَسِّمُ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ سَاقَهَا لِلَّهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ، لِلَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ جِلَالِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَهْدَى الْحَيَوَانَ دُونَ مَا عَلَيْهِ (2544) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ النَّحْرُ بِمِنًى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بِهَا، وَحَيْثُ نَحَرَ مِنْ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَطَرِيقٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 (2545) فَصْلٌ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْهَدْيِ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَا أَنْ يَقِفَهُ بِعَرَفَةَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى الْهَدْيَ إلَّا مَا عَرَّفَ بِهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ لِلْقَارِنِ أَنْ يَسُوقَ هَدْيَهُ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ، فَإِنْ ابْتَاعَهُ مِنْ دُون ذَلِكَ، مِمَّا يَلِي مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ يَقِفَهُ بِعَرَفَةَ، جَازَ. وَقَالَ فِي هَدْيِ الْمُجَامِعِ: إنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ، فَلْيَشْتَرِهِ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ لِيُخْرِجَهُ إلَى الْحِلِّ، وَلْيَسُقْهُ إلَى مَكَّةَ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْهَدْيِ نَحْرُهُ، وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِلَحْمِهِ، بِهَذَا لَا يَقِفُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوهُ، وَلَمْ يَرِدْ بِمَا قَالُوهُ دَلِيلٌ يُوجِبُهُ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا نَحَرَ هَدْيَهُ حلق رَأْسَهُ أَوْ قَصَّرَ مِنْهُ] (2546) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَحَرَ هَدْيَهُ، فَإِنَّهُ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، أَوْ يُقَصِّرُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ. فَرَوَى أَنَسٌ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ بِمِنًى فَدَعَا فَذَبَحَ، ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ، فَأَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ فَحَلَقَهُ، فَجَعَلَ يُقَسِّمُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَاهُنَا أَبُو طَلْحَةَ؟ فَدَفَعَهُ إلَى أَبِي طَلْحَةَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَامُنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَجْزَأَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ. أَيَّهُمَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُ. يَعْنِي فِي حَقِّ مِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَعْنًى يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَلْقِ عَلَيْهِ. إلَّا أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ يُوجِبُ الْحَلْقَ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ حَجَّهَا. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ) . وَقَدْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَصَّرَ، فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْزِيًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَنْ لَبَّدَ، أَوْ عَقَصَ، أَوْ ضَفَّرَ. فَقَالَ أَحْمَدُ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيَحْلِقْ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَنْ لَبَّدَ، أَوْ ضَفَّرَ، أَوْ عَقَدَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 أَوْ فَتَلَ، أَوْ عَقَصَ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى. يَعْنِي إنْ نَوَى الْحَلْقَ فَلْيَحْلِقْ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ مُخَيَّرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي خِلَافِ ذَلِكَ دَلِيلٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَبَّدَ فَلْيَحْلِقْ» . وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ أَنَّهُمَا أَمَرَا مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ أَنْ يَحْلِقَهُ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّدَ رَأْسَهُ وَأَنَّهُ حَلَقَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُ عُمَرَ وَابْنِهِ قَدْ خَالَفَهُمَا فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، بَعْدَمَا بَيَّنَ لَهُمْ جَوَازَ الْأَمْرَيْنِ. [فَصْل الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ نُسُكٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَة] (2547) فَصْلٌ: وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ نُسُكٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، فَأُطْلِقَ فِيهِ عِنْدَ الْحِلِّ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَسَائِرِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ، وَيَحْصُلُ الْحِلُّ بِدُونِهِ. وَوَجْهُهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْحِلِّ مِنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَهُ، فَرَوَى «أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: بِمَ أَهْلَلْت؟ . قُلْت: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: أَحْسَنْت. فَأَمَرَنِي فَطُفْت بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَحِلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلِيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سُرَاقَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَدِمْتُمْ فَمَنْ تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ حَلَّ، إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ» . رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، فِي (الْمُتَرْجَمْ) . وَلِأَنَّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي الْإِحْرَامِ، إذَا أُبِيحَ، كَانَ إطْلَاقًا مِنْ مَحْظُورٍ، كَسَائِرِ مُحَرَّمَاتِهِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ» . وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا» . وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِهِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَنَاسِكِ لَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ، كَاللُّبْسِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَحَّمَ عَلَى الْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَعَلَى الْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَنَاسِكِ، لَمَا دَخَلَهُ التَّفْضِيلُ، كَالْمُبَاحَاتِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَعَلُوهُ فِي جَمِيعِ حَجِّهِمْ وَعُمَرِهِمْ، وَلَمْ يُخِلُّوا بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لَمَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ، بَلْ لَمْ يَفْعَلُوهُ إلَّا نَادِرًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 فَيَفْعَلُوهُ عَادَةً، وَلَا فِيهِ فَضْلٌ، فَيَفْعَلُوهُ لِفَضْلِهِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالْحِلِّ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْحِلُّ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْحِلُّ مِنْ الْعِبَادَةِ بِمَا كَانَ مُحَرَّمًا فِيهَا، كَالسَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ. [فَصْل تَأْخِيرُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ إلَى آخِرِ النَّحْرِ] (2548) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ إلَى آخِرِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ النَّحْرِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ، فَتَأْخِيرُهُ أَوْلَى، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلَ وَقْتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . وَلَمْ يَتَبَيَّنْ آخِرَهُ، فَمَتَى أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيِ. وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ أَخَّرَهُ إلَى وَقْتِ جَوَازِ فِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ السَّعْيَ. وَعَنْ أَحْمَدَ: عَلَيْهِ دَمٌ بِتَأْخِيرِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ أَخَّرَهُ، عَنْ مَحِلِّهِ، وَمَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَلَا فَرْقَ فِي التَّأْخِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْعَامِدِ وَالسَّاهِي. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ تَرَكَهُ حَتَّى حَلَّ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ فَيَأْتِي بِهِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، كَسَائِرِ مَنَاسِكِهِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ. [فَصْل الْأَصْلَع الَّذِي لَا شَعْر عَلَى لَهُ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ عِنْد التَّحَلُّل مِنْ إحْرَامه] (2549) فَصْلٌ: وَالْأَصْلَعُ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْأَصْلَعَ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَهَذَا لَوْ كَانَ ذَا شَعْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ، وَإِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا سَقَطَ أَحَدُهُمَا لِتَعَذُّرِهِ، وَجَبَ الْآخَرُ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَلْقَ مَحَلُّهُ الشَّعْرُ، فَسَقَطَ بِعَدَمِهِ، كَمَا يَسْقُطُ وُجُوبُ غَسْلِ الْعُضْوِ فِي الْوُضُوءِ بِفَقْدِهِ. وَلِأَنَّهُ إمْرَارٌ لَوْ فَعَلَهُ فِي الْإِحْرَامِ لَمْ يَجِبْ بِهِ دَمٌ، فَلَمْ يَجِبْ عِنْدَ التَّحَلُّلِ، كَإِمْرَارِهِ عَلَى الشَّعْرِ مِنْ غَيْرِ حَلْقٍ. [فَصْل يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ بَعْدَ التَّحَلُّل تَقْلِيمُ أَظَافِره وَالْأَخْذُ مِنْ شَارِبِهِ] (2550) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ تَقْلِيمُ أَظَافِرِهِ، وَالْأَخْذُ مِنْ شَارِبِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ، قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ وَأَظْفَارِهِ. وَكَانَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ، يُحِبُّونَ لَوْ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا. وَيُسْتَحَبُّ إذَا حَلَقَ، أَنْ يَبْلُغَ الْعَظْمَ الَّذِي عِنْدَ مُنْقَطَعِ الصُّدْغِ مِنْ الْوَجْهِ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِلْحَالِقِ: اُبْلُغْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 الْعَظْمَاتِ، افْصِلْ الرَّأْسَ مِنْ اللِّحْيَةِ. وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: مِنْ السُّنَّةِ، إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ، أَنْ يَبْلُغَ الْعَظْمَاتِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ حَلَقَ] (2551) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ، إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ حَلَقَ، حَلَّ لَهُ كُلُّ مَا كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ، إلَّا النِّسَاءُ. هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، فَيَبْقَى مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ، مِنْ الْوَطْءِ، وَالْقُبْلَةِ، وَاللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ، وَيَحِلُّ لَهُ مَا سِوَاهُ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَعَلْقَمَةَ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيُفْسِدُ النُّسُكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، إلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْوَطْءِ، فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ. وَعَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا يَتَطَيَّبُ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ وَلَنَا مَا، رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَمَيْتُمْ، وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ، وَالثِّيَابُ، وَكُلُّ شَيْءٍ، إلَّا النِّسَاءَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَفِي لَفْظٍ: «إذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، إلَّا النِّسَاءَ» . رَوَاهُ الْأَثْرَم، وَأَبُو دَاوُد، إلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ: هُوَ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ الْحَجَّاجُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَلْقَهُ. وَاَلَّذِي أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ رَوَاهُ الْحَجَّاجُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ، وَذَبَحْتُمْ، وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ، إلَّا الطِّيبَ، وَالنِّسَاءَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَا طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَوْمَ النَّحْرِ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ لَكُمْ فِيهِ إذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا. يَعْنِي مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ. إلَّا النِّسَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ: قَالَ «إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا، النِّسَاءَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَالطِّيبُ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَمِّخُ رَأْسَهُ بِالْمِسْكِ، أَفَطِيبٌ ذَلِكَ أَمْ لَا؟» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ، وَلَا الطِّيبُ، وَلَا قَتْلُ الصَّيْدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . وَهَذَا حَرَامٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَمْنَعُ أَنَّهُ مُحْرِمٌ، وَإِنَّمَا بَقِيَ بَعْضُ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 (2552) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، أَنَّ الْحِلَّ، إنَّمَا يَحْصُلُ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ مَعًا. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَمَيْتُمْ، وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ، إلَّا النِّسَاءَ» . وَتَرْتِيبُ الْحِلِّ عَلَيْهِمَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِهِ بِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ يَتَعَقَّبُهُمَا الْحِلُّ، فَكَانَ حَاصِلًا بِهِمَا، كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فِي الْعُمْرَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ، وَإِذَا وَطِئَ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَلْقَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ بِدُونِ الْحَلْقِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ، إلَّا النِّسَاءَ» . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَلْقِ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: نُسُكٌ. حَصَلَ الْحِلُّ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَة تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ] (2553) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ) الْأُنْمُلَةُ: رَأْسُ الْإِصْبَعِ مِنْ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى. وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ. لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلْقَ فِي حَقِّهِنَّ مِثْلُهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ: تُقَصِّرُ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تُقَصِّرُ مِنْ كُلِّ رَأْسِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَجْمَعُ شَعْرَهَا إلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهَا قَدْرَ أُنْمُلَةٍ. وَالرَّجُلُ الَّذِي يُقَصِّرُ فِي ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِيمَا مَضَى. [مَسْأَلَة طَوَافَ الزِّيَارَة] (2554) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَزُورُ الْبَيْتَ، فَيَطُوفُ بِهِ سَبْعًا، وَهُوَ الطَّوَافُ الْوَاجِبُ الَّذِي بِهِ تَمَامُ الْحَجِّ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، إنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَمَى وَنَحَرَ وَحَلَقَ، أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ، فَطَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مِنًى فَيَزُورُ الْبَيْتَ، وَلَا يُقِيمُ بِمَكَّةَ، بَلْ يَرْجِعُ إلَى مِنًى، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ عِنْدَ إفَاضَتِهِ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ رُكْنٌ لِلْحَجِّ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ، لَا خِلَافَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِيهِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا حَائِضٌ، قَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: اُخْرُجُوا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ حَابِسٌ لِمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ. وَلِأَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَكَانَ الطَّوَافُ رُكْنًا كَالْعُمْرَةِ. [فَصْل لِطَوَافِ الزِّيَارَة وَقْتَانِ وَقْت فَضِيلَة وَوَقْت إجْزَاء] (2555) فَصْلٌ: وَلِهَذَا الطَّوَافِ وَقْتَانِ، وَقْتُ فَضِيلَةٍ، وَوَقْتُ إجْزَاءٍ؛ فَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَيَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ؛ لِقَوْلِ جَابِرٍ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ: فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، الَّذِي ذَكَرَتْ فِيهِ حَيْضَ صَفِيَّةَ، قَالَتْ: فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَفَاضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى اللَّيْلِ، فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، رَوَيَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ إلَى اللَّيْلِ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ، فَأَوَّلُهُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَآخِرُهُ آخِرُ أَيَّامِ النَّحْرِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِ الرَّمْيِ؛ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهِ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ نُسُكٌ يُفْعَلُ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ آخِرُهُ مَحْدُودًا، كَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهِ غَيْرُ مَحْدُودٍ؛ فَإِنَّهُ مَتَى أَتَى بِهِ صَحَّ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، فَيَقُولُ: إنَّهُ طَافَ فِيمَا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ طَوَافًا صَحِيحًا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، كَمَا لَوْ طَافَ أَيَّامَ النَّحْرِ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ وَالرَّمْيُ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُوَقَّتَيْنِ، كَانَ لَهُمَا وَقْتٌ يَفُوتَانِ بِفَوَاتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوَافُ، فَإِنَّهُ مَتَى أَتَى بِهِ صَحَّ. [فَصْل صِفَة طَوَاف الزِّيَارَة] (2556) فَصْلٌ: وَصِفَةُ هَذَا الطَّوَافِ كَصِفَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ، سِوَى أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَيُعَيِّنُهُ بِالنِّيَّةِ. وَلَا رَمَلَ فِيهِ، وَلَا اضْطِبَاعَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ» . وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي هَذَا الطَّوَافِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ الَّذِي عَلَيْهِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهُ صَلَاةً، وَالصَّلَاةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّاتِ اتِّفَاقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 [مَسْأَلَة إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ] (2557) مَسْأَلَة: قَالَ: (ثُمَّ قَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يَعْنِي إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ، حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ سِوَى النِّسَاءِ، فَهَذَا الطَّوَافُ حَلَّلَ لَهُ النِّسَاءَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «لَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْر، فَأَفَاضَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي حُصُولِ الْحِلِّ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَعَى مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَسْعَى، إنْ قُلْنَا: إنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ سُنَّةٌ. فَهَلْ يَحِلُّ قَبْلَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا، يَحِلُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَحِلُّ، لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَيَأْتِي بِهِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، كَالسَّعْيِ فِي الْعُمْرَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْخِرَقِيِّ الْمُفْرِدَ وَالْقَارِنَ بِهَذَا، لِكَوْنِهِمَا سَعَيَا مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَالْمُتَمَتِّعُ لَمْ يَسْعَ. [مَسْأَلَةٌ طَوَافُ الْقُدُومِ] (2558) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، كَمَا فَعَلَ لِلْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ الزِّيَارَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] .) أَمَّا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ، الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، فَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالطَّوَافُ الَّذِي طَافَهُ فِي الْعُمْرَةِ كَانَ طَوَافَهَا، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ لِلْمُتَمَتِّعِ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا رَجَعَ إلَى مِنًى أَعْنِي الْمُتَمَتِّع كَمْ يَطُوفُ وَيَسْعَى؟ قَالَ: يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجِّهِ، وَيَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِلزِّيَارَةِ. عَاوَدْنَاهُ فِي هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَثَبَتَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ، إذَا لَمْ يَكُونَا أَتَيَا مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا طَافَا لِلْقُدُومِ، فَإِنَّهُمَا يَبْدَآنِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، فَطَافُوا طَوَافًا، آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. فَحَمَلَ أَحْمَدُ قَوْلَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُمْ لِحَجِّهِمْ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ مَشْرُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ تَعَيُّنُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مُسْقِطًا لَهُ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الطَّوَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، بَلْ الْمَشْرُوعُ طَوَافٌ وَاحِدٌ لِلزِّيَارَةِ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهَا عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهَا قَالَتْ: طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ. وَهَذَا هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ طَوَافًا آخَرَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَتْهُ طَوَافَ الْقُدُومِ، لَكَانَتْ قَدْ أَخَلَّتْ بِذِكْرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ، لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، وَذَكَرَتْ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا ذَكَرَتْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى طَوَافَيْنِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ، فَقَرَنَتْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ، بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ لِلْقُدُومِ لَمْ تَطُفْ لِلْقُدُومِ، وَلَا أَمَرَهَا بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ، أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، وَكَانَتْ قَارِنَةً، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَلِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِالطَّوَافِ الْوَاجِبِ، لَشُرِعَ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ طَوَافٌ لِلْقُدُومِ مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ قُدُومِهِ إلَى الْبَيْتِ، فَهُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي يَعُودُ إلَى الْبَيْتِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَطَوَافِهِ بِهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ إنَّ هَذَا الطَّوَافَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّع كَهُوَ فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ، فِي أَنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى بِهِ طَوَافَ الْوَدَاعِ أَوْ غَيْرَهُ، لَمْ يُجْزِهِ. [فَصْل الْأَطْوِفَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْحَجِّ] (2559) فَصْلٌ: وَالْأَطْوِفَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ: طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَطَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ، لَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ. وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَاجِبٌ، يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا تَرَكَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى تَارِكِ طَوَافِ الْقُدُومِ دَمٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَكَقَوْلِهِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فَهُوَ نَفْلٌ، وَلَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ مِنْ سَعْيٍ وَاحِدٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. قَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابُهُ، بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافَهُ الْأَوَّلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَا يَكُونُ السَّعْيُ إلَّا بَعْدَ طَوَافٍ، فَإِنْ سَعَى مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ، لَمْ يَسْعَ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ مَعَهُ، سَعَى مَعَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. [فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ فَيُكَبِّرَ فِي نَوَاحِيه وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] (2560) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ فَيُكَبِّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ، وَبِلَالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقُلْت لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَعَمْ قُلْت: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: بَيْن الْعَمُودَيْنِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ: وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَقَدَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ رِوَايَةَ بِلَالٍ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَة؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَأُسَامَةُ نَافٍ، وَلِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ حَدِيثَ السِّنِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا فِي الْكَعْبَةِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنْ لَمْ يَدْخُل الْبَيْتَ، فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ؟ قَالَ: لَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا وَهُوَ مَسْرُورٌ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ كَئِيبٌ فَقَالَ: إنِّي دَخَلْت الْكَعْبَةَ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا دَخَلْتهَا، إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْت عَلَى أُمَّتِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا] (2561) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ زَمْزَمَ، فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا لِمَا أَحَبَّ، وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ. قَالَ جَابِرٌ، فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ أَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُمْ يَسْقُونَ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا، فَشَرِبَ مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ» . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَالِسًا، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْت؟ قَالَ: مِنْ زَمْزَمَ قَالَ: فَشَرِبْت مِنْهَا كَمَا يَنْبَغِي؟ قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالَ: إذَا شَرِبْت مِنْهَا فَاسْتَقْبِلْ الْكَعْبَةَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَتَنَفَّسْ ثَلَاثًا مِنْ زَمْزَمَ، وَتَضَلَّعْ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغْت، فَاحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ، أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ.» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَيَقُولُ عِنْدَ الشُّرْبِ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَرِيًّا وَشِبَعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِي، وَامْلَأْهُ مِنْ حِكْمَتِك. [فَصْل يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ] (2562) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ خُطْبَةً، يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ مِنْ النَّحْرِ وَالْإِفَاضَةِ وَالرَّمْيِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ يَوْمَئِذٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا تُسَنُّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَلَمْ تُسَنَّ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ. يَعْنِي بِمِنًى» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ «رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى. حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى، عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: سَمِعْت خُطْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَالَ الْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، يَوْمَ الْأَضْحَى بِمِنًى» . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ بِمِنًى، فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا، حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ» . رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا أَبُو دَاوُد، إلَّا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ تَكْثُرُ فِيهِ أَفْعَالُ الْحَجِّ، وَيَحْتَاجُ إلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ أَحْكَامَ ذَلِكَ، فَاحْتِيجَ إلَى الْخُطْبَةِ مِنْ أَجْلِهِ، كَيَوْمِ عَرَفَةَ. [فَصْل يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ] (2563) فَصْلٌ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ؛ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ؛ مِنْ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ، وَالدَّفْعِ مِنْهُ إلَى مِنًى، وَالرَّمْيِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ، وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَالرُّجُوعِ إلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِثْلُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَوْمُ عِيدٍ، وَيَوْمٌ يَحِلُّ فِيهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ. [فَصْل فِي يُومِ النَّحْرِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاء الرَّمْيُ ثُمَّ النَّحْرُ ثُمَّ الْحَلْقُ ثُمَّ الطَّوَافُ] (2564) فَصْلٌ: وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الرَّمْيُ، ثُمَّ النَّحْرُ، ثُمَّ الْحَلْقُ، ثُمَّ الطَّوَافُ. وَالسُّنَّةُ تَرْتِيبهَا هَكَذَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَهَا، كَذَلِكَ وَصَفَهُ جَابِرٌ فِي حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى أَنَسٌ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى، ثُمَّ نَحَرَ، ثُمَّ حَلَقَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَإِنْ أَخَلَّ بِتَرْتِيبِهَا، نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ فِيهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ، أَوْ عَلَى النَّحْرِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ، كَمَا لَوْ حَلَقَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: «اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ. فَقَالَ آخَرُ: ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: فَمَا سَمِعْته يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ أَوْ يَجْهَلُ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ عَلَى بَعْضِهَا، وَأَشْبَاهِهَا، إلَّا قَالَ: (افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ بِمِنًى، فِي النَّحْرِ، وَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ، وَالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ: (لَا حَرَجَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِيهِ: فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ، وَلَا حَرَجَ. قَالَ: وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إنِّي أَفَضْت قَبْل أَنَّ أَرْمِيَ؟ قَالَ: أَرْمِ، وَلَا حَرَجَ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ يَوْمَ النَّحْرِ، عَنْ رَجُلٍ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كُلَّهُ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الدَّمِ بِفَقْدِ الشَّيْءِ فِي وَقْتِهِ، سُقُوطُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَقَ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ السَّعْيِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْحِلُّ مَا حَصَلَ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، إذَا قُلْنَا: إنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ، فَقَدْ حَلَقَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ عَمْدًا، عَالِمًا بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِإِطْلَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو، مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَيْهِ دَمٌ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَ، وَقَالَ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) . وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ قَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا التَّعَمُّدُ فَلَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّه: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لَا يَقُولُ: لَمْ أَشْعُرْ. فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّ مَالِكًا وَالنَّاسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: لَمْ أَشْعُرْ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى النَّحْرِ أَوْ النَّحْرَ عَلَى الرَّمْي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ، فَأَمَّا النَّحْرُ قَبْلَ الرَّمْيِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ. وَلَنَا، الْحَدِيثُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي الْحَلْقِ، وَالنَّحْرِ، وَالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ: (لَا حَرَجَ) . وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ لَا تُخْرِجُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَنْ الْإِجْزَاءِ، وَلَا يَمْنَعُ وُقُوعُهَا مَوْقِعَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل تَقْدِيم الْإِفَاضَةَ عَلَى الرَّمْيِ] (2565) فَصْلٌ: فَإِنْ قَدَّمَ الْإِفَاضَةَ عَلَى الرَّمْيِ، أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُجْزِئُهُ الْإِفَاضَةُ، فَلْيَرْمِ، ثُمَّ لِيَنْحَر، ثُمَّ لِيُفِضْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وَلَنَا، مَا رَوَى عَطَاءٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَفَضْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ، وَلَا حَرَجَ. وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا قَبْلِ شَيْءٍ، فَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. فِي (سُنَنِهِ) . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إنِّي أَفَضْت إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلِأَنَّهُ أَتَى بِالرَّمْيِ فِي وَقْتِهِ. فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ رَتَّبَ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالْإِفَاضَةِ قَبْلَ الرَّمْيِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، كَمَنْ رَمَى وَلَمْ يُفِضْ. فَعَلَى هَذَا لَوْ وَاقَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَرْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِ الرَّمْيِ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ، فَلْيُهْرِقْ لِذَلِكَ دَمًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ نَسِيَ مِنْ النُّسُكِ شَيْئًا، حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، فَلْيُهْرِقْ لِذَلِكَ دَمًا. [مَسْأَلَةٌ السُّنَّةُ لِمَنْ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِنًى] (2566) مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى، وَلَا يَبِيتُ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى) السُّنَّةُ لِمَنْ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِنًى؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى وَاجِبٌ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَة مِنْ مِنًى لَيْلًا. وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا رَمَيْت الْجَمْرَةَ فَبِتْ حَيْثُ شِئْت. وَلِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ مِنْ حَجِّهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، كَلَيْلَةِ الْحَصْبَةِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَتَخْصِيصُ الْعَبَّاسِ بِالرُّخْصَةِ لِعُذْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِغَيْرِهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَحَدٍ يَبِيتُ بِمَكَّةَ، إلَّا لِلْعَبَّاسِ، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ «ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنْ الْحَاجِّ إلَّا بِمِنًى. وَكَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يَدَعُونَ أَحَدًا يَبِيتُ وَرَاءَ الْعَقَبَةِ.» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ نُسُكًا، وَقَدْ قَالَ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 [فَصْل تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى] (2567) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى، فَعَنْ أَحْمَدَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسَاءَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِشَيْءِ. وَعَنْهُ يُطْعِمُ شَيْئًا. وَخَفَّفَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: دَمٌ بِمَرَّةٍ، ثُمَّ شَدَّدَ بِمَرَّةٍ. قُلْت: لَيْسَ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، يُطْعِمُ شَيْئًا تَمْرًا أَوْ نَحْوَهُ. فَعَلَى هَذَا أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ، أَجْزَأَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَأَكْثَرِ؛ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ. وَعَنْهُ: فِي اللَّيَالِي الثَّلَاثِ دَمٌ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا. وَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي كُلِّ حَصَاةٍ دِرْهَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ دِرْهَمًا، وَلَا نِصْفَ دِرْهَمٍ، فَإِيجَابُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ تَحَكُّمٌ لَا وَجْهَ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ] (2568) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ، وَزَالَتْ الشَّمْسُ، رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَرْمِي، وَيَدْعُو، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ أَيْضًا، وَيَدْعُو، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَرْمِي بِهِ الْحَاجُّ سَبْعُونَ حَصَاةً، سَبْعَةٌ مِنْهَا يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّحْرِ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَسَائِرُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، كُلَّ يَوْمٍ إحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً، لِثَلَاثِ جَمَرَاتٍ، يَبْتَدِئُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى، وَهِيَ أَبْعَدُ الْجَمَرَاتِ مِنْ مَكَّةَ، وَتَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، كَمَا وَصَفْنَا فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَنْهَا إلَى مَوْضِعٍ لَا يُصِيبُهُ الْحَصْي، فَيَقِفُ طَوِيلًا يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى، رَافِعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى الْوُسْطَى فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَفْعَلُ مِنْ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ كَمَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا خِلَافًا، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ، أَيَقُومُ الرَّجُلُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ إذَا رَمَى؟ قَالَ: إي لَعَمْرِي شَدِيدًا، وَيُطِيلُ الْقِيَامَ أَيْضًا. قِيلَ: فَإِلَى أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فِي قِيَامِهِ؟ قَالَ: إلَى الْقِبْلَةِ، وَيَرْمِيهَا فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَيُطِيلُ الْقِيَامَ، وَيَتَضَرَّعُ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ «ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، وَيَسْتَهِلُّ، وَيَقُومُ قِيَامًا طَوِيلًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ بِذَاتِ الشِّمَالِ، فَيَسْتَهِلُّ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو بِدُعَائِهِ الَّذِي دَعَا بِهِ بِعَرَفَةَ، وَيَزِيدُ: وَأَصْلِحْ أَوْ أَتِمَّ لَنَا مَنَاسِكَنَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِر: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولَانِ عِنْدَ الرَّمْيِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا إذَا رَمَيَا الْجَمْرَةَ، وَيُطِيلَانِ الْوُقُوفَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: «أَفَضْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إذَا فَرَغَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَنَعَ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُومُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ، مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. [فَصْل الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْر قَبْلَ الزَّوَال وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيق بَعْدَ الزَّوَالِ] (2569) فَصْلٌ: وَلَا يَرْمِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيق إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، إلَّا أَنَّ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، رَخَّصُوا فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا يَنْفِرُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ. وَرَخَّصَ عِكْرِمَةُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا. وَقَالَ طَاوُسٌ: يَرْمِي قَبْلَ الزَّوَالِ، وَيَنْفِرُ قَبْلَهُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ. وَقَوْلِ جَابِرٍ، فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي الْجَمْرَةَ ضُحَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. وَأَيَّ وَقْتٍ رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ أَجْزَأَهُ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُبَادَرَةُ إلَيْهَا حِينَ الزَّوَالِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ. «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْمِي الْجِمَارَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، قَدْرَ مَا إذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِهِ صَلَّى الظُّهْرَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْل التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ الْجَمَرَات] (2570) فَصْلٌ: وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ نَكَّسَ فَبَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الْأُولَى، أَوْ بَدَأَ بِالْوُسْطَى، وَرَمَى الثَّلَاثَ، لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْأُولَى، وَأَعَادَ الْوُسْطَى وَالْقُصْوَى. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَإِنْ رَمَى الْقُصْوَى، ثُمَّ الْأُولَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، أَعَادَ الْقُصْوَى وَحْدَهَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رَمَى مُنَكِّسًا يُعِيدُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا بَيْنَ يَدَيْ نُسُكٍ، فَلَا حَرَجَ» . وَلِأَنَّهَا مَنَاسِكُ مُتَكَرِّرَةٌ، فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ بَعْضُهَا تَابِعًا لِبَعْضٍ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ التَّرْتِيبُ فِيهَا، كَالرَّمْيِ وَالذَّبْحِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَهَا فِي الرَّمْيِ، وَقَالَ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ مُتَكَرِّرٌ، فَاشْتُرِطَ التَّرْتِيبُ فِيهِ، كَالسَّعْيِ. وَحَدِيثُهُمْ إنَّمَا جَاءَ فِي مَنْ يُقَدِّمُ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ، لَا فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ النُّسُكِ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءَ، تَرَكَ السُّنَّةَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا الثَّوْرِيَّ. قَالَ: يُطْعِمُ شَيْئًا، وَإِنْ أَرَاقَ دَمًا أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، فَيَكُونُ نُسُكًا. وَلَنَا، أَنَّهُ دُعَاءُ وُقُوفٍ مَشْرُوعٍ لَهُ، فَلَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، كَحَالَةِ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَكَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، وَلِأَنَّهَا إحْدَى الْجَمَرَاتِ، فَلَمْ يَجِبْ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءُ، كَالْأُولَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا نَدْبٌ. [فَصْل لَا يَنْقُصَ فِي الرَّمْيِ عَنْ سَبْعِ حَصَيَات] (2572) فَصْلٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي الرَّمْيِ عَنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. فَإِنْ نَقَصَ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَنْقُصُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْهُ: إنْ رَمَى بِسِتٍّ نَاسِيًا: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَهُ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، تَصَدَّقَ بِشَيْءِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي رَمَيْت بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي رَمَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِ شَرْطٌ. وَنَسَبَهُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى بِسَبْعٍ. وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ: لَا بَأْسَ بِمَا رَمَى بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَصَى. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: صَدَقَ أَبُو حَيَّةَ. وَكَانَ أَبُو حَيَّةَ بَدْرِيًّا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: سُئِلَ طَاوُسٌ عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ حَصَاةً؟ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِتَمْرَةٍ أَوْ لُقْمَةٍ. فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ، فَقَالَ: إنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ سَعْدٍ، قَالَ سَعْدٌ: رَجَعْنَا مِنْ الْحَجَّةِ مَعَ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْت بِسِتٍّ وَبَعْضُنَا يَقُولُ: بِسَبْعٍ فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُ وَمَتَى أَخَلَّ بِحَصَاةٍ وَاجِبَةٍ مِنْ الْأَوْلَى، لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 يَصِحَّ رَمْيُ الثَّانِيَةِ حَتَّى يُكْمِلَ الْأُولَى، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ مِنْ أَيِّ الْجِمَارِ تَرَكَهَا، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَإِنْ أَخَلَّ بِحَصَاةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، لَمْ يُؤَثِّرْ تَرْكُهَا. [مَسْأَلَةٌ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَالرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي وَقْتِهِ وَصِفَتِهِ وَهَيْئَتِهِ] (2573) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيَفْعَلُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، خَرَجَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. فَإِنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ بِهَا، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَرْمِيَ مِنْ غَدٍ بَعْدَ الزَّوَالِ، كَمَا رَمَى بِالْأَمْسِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَالرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فِي وَقْتِهِ وَصِفَتِهِ وَهَيْئَتِهِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَإِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّلَ فِي يَوْمَيْنِ، خَرَجَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مِنًى شَاخِصًا عَنْ الْحَرَمِ، غَيْرَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ، أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي لِمَنْ يَنْفِرُ النَّفْرَ الْأَوَّلَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ: مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَلَا. وَيَحْتَجُّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ، إلَّا آلَ خُزَيْمَةَ، فَلَا يَنْفِرُونَ إلَّا فِي النَّفْرِ الْآخِرِ. جَعَلَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ: إلَّا آلَ خُزَيْمَةَ. أَيْ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمٍ. مَكَّةَ وَالْمَذْهَبُ جَوَازُ النَّفِيرِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] . قَالَ عَطَاءٌ: هِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةً. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ. وَقَالَ وَكِيعٌ: هَذَا الْحَدِيثُ أُمُّ الْمَنَاسِكِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَا اخْتَصَرْته. وَلِأَنَّهُ دَفْعٌ مِنْ مَكَان، فَاسْتَوَى فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ، كَالدَّفْعِ، مِنْ عَرَفَةَ وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ، مُوَافَقَةً لِقَوْلِ عُمَرَ، لَا غَيْرُ. فَمَنْ أَحَبَّ التَّعْجِيلَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ خَرَجَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ غَرَبَتْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِنًى لَمْ يَنْفِرْ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتَحَلَ أَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي مَنْزِلِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ، هَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل وَقْتُ رَمْيِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، فَجَازَ لَهُ النَّفْرُ كَمَا قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . وَالْيَوْمُ اسْمٌ لِلنَّهَارِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فَمَا تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلْيُقِمْ إلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ. وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ لَا يُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَجَّلَ فِي الْيَوْمَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 [فَصْل إذَا أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ إلَى مَا بَعْدَهُ أَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ كُلَّهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ] (2574) فَصْلٌ: إذَا أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ إلَى مَا بَعْدَهُ، أَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ كُلَّهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَرَكَ السُّنَّةَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِالنِّيَّةِ رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثِ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَرَكَ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إلَى الْغَدِ رَمَاهَا، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعًا رَمَاهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَلَنَا، أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِ، فَجَازَ لِغَيْرِهِمْ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكُونُ رَمْيُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ قَضَاءً فَالْمُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ، كَقَوْلِهِ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) . وَقَوْلِهِمْ: قَضَيْت الدَّيْنَ. وَالْحُكْمُ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إذَا أَخَّرَهَا، كَالْحُكْمِ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فِي أَنَّهَا إذَا لَمْ تُرْمَ يَوْمَ النَّحْرِ رُمِيَتْ مِنْ الْغَدِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا، مَعَ فِعْلِهَا فِي أَيَّامِهَا، فَوَجَبَ تَرْتِيبُهَا مَجْمُوعَةً، كَالصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ وَالْفَوَائِتِ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبّ الصَّلَاة فِي مَسْجِد مِنًى مَعَ الْإِمَام] (2575) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَدَعَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ مِنًى مَعَ الْإِمَامِ) يَعْنِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بِمِنًى «قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ إمَارَتِهِ» . وَهَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مَرْضِيًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْضِيًّا صَلَّى الْمَرْءُ بِرُفْقَتِهِ فِي رَحْلِهِ. فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ، فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ، وَتَوْدِيعِهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحَبُّ، قِيَاسًا عَلَى الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ «رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، قَالَا: رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بَيْنَ أَوْسَاطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَنَحْنُ عِنْدَ رَاحِلَتِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ، قَالَتْ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الرُّءُوسِ، فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ . قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟» . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. يَعْنِي يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ. وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى أَنْ يُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ يَتَعَجَّلُونَ، وَكَيْفَ يُوَدِّعُونَ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 [مَسْأَلَةٌ مُدَّة التَّكْبِيرِ يَوْم النَّحْر وَصِفَته] (2577) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكَبِّرُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، يَوْمَ النَّحْرِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيق) إنَّمَا خَصَّ الْمُحْرِمَ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَشْغُولٌ بِالتَّلْبِيَةِ، فَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا عِنْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ، وَلَيْسَ بَعْدَهُمَا صَلَاةٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَيُكَبِّرُ حِينَئِذٍ بَعْدَهَا كَالْمُحِلِّ، وَيَسْتَوِي هُوَ وَالْحَلَالُ فِي آخِرِ مُدَّةِ التَّكْبِيرِ. وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ". [فَصْل يُسْتَحَبّ لِمَنْ نَفَر أَنْ يَأْتِي الْمُحَصَّب] (2578) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ نَفَرَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُحَصَّبَ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ، وَحَدُّهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إلَى الْمَقْبَرَةِ، فَيُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ يَضْطَجِعَ يَسِيرًا، ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً، قَالَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِالْمُحَصَّبِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَكَانَ كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ طَاوُسٌ يُحَصِّبُ فِي شِعْبِ الْجَوْزِ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَفْعَلُهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، لَا يَرَيَانِ ذَلِكَ سُنَّةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ التَّحْصِيبُ لَيْسَ بِشَيْءِ، إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ نُزُولَ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إذَا خَرَجَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ فَلِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَنْزِلُهُ، قَالَ نَافِعٌ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ. [مَسْأَلَةٌ طَوَافَ الْوَدَاعِ] (2579) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِذَا أَتَى مَكَّةَ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ يَطُوفُ بِهِ سَبْعًا، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتَى مَكَّةَ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِقَامَةَ بِهَا، أَوْ الْخُرُوجَ مِنْهَا، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا، فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَدَاعَ مِنْ الْمُفَارِقِ، لَا مِنْ الْمُلَازِمِ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ النَّفْرِ أَوْ بَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ لَهُ النَّفْرُ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الطَّوَافُ وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَارِقٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ وَدَاعٌ، كَمَنْ نَوَاهَا قَبْلَ حِلِّ النَّفْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ". وَهَذَا لَيْسَ بِنَافِرٍ. فَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِطَوَافِ سَبْعٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَمٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَطَوَافِ الْقُدُومِ، وَلِأَنَّهُ كَتَحِيَّةِ الْبَيْتِ، أَشْبَهَ طَوَافَ الْقُدُومِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ كُلَّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» . وَلَيْسَ فِي سُقُوطِهِ عَنْ الْمَعْذُورِ مَا يُجَوِّزُ سُقُوطَهُ لِغَيْرِهِ، كَالصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ، وَتَجِبُ عَلَى غَيْرِهَا، بَلْ تَخْصِيصُ الْحَائِضِ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهَا، إذْ لَوْ كَانَ سَاقِطًا عَنْ الْكُلِّ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِذَلِكَ مَعْنًى. وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْ الْحَائِضِ، وَلَمْ يَسْقُطْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّهُ لِتَوْدِيعِ الْبَيْتِ، وَطَوَافَ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ صُدُورِ النَّاسِ مِنْ مَكَّةَ. وَوَقْتُهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرْءِ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ؛ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي تَوْدِيعِ الْمُسَافِرِ إخْوَانَهُ وَأَهْلَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ". [فَصْل لَا وَدَاعَ عَلَى مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ كَالْمَكِّيِّ] (2580) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ كَالْمَكِّيِّ، لَا وَدَاعَ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ خَارِجَ الْحَرَمِ، قَرِيبًا مِنْهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، فِي أَهْلِ بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ: إنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهُمْ مَعْدُودُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِدَلِيلِ سُقُوطِ دَمِ الْمُتْعَةِ عَنْهُمْ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ". وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ، فَلَزِمَهُ التَّوْدِيعُ، كَالْبَعِيدِ. [فَصْل أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ فَطَافَهُ عِنْد الْخُرُوجِ] (2581) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، فَطَافَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَ عَنْهُ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ بِرَكْعَتَيْنِ تُجْزِئُ عَنْهُمَا الْمَكْتُوبَةُ. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعَ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ، فَلَمْ تُجْزِ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى، كَالصَّلَاتَيْنِ الْوَاجِبَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ طَافَ لِلْوَدَاعِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِتِجَارَةِ أَوْ إقَامَةٍ] (2582) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ وَدَّعَ وَاشْتَغَلَ فِي تِجَارَةٍ، عَادَ فَوَدَّعَ،) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِهِ، لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، فَإِنْ طَافَ لِلْوَدَاعِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِتِجَارَةٍ أَوْ إقَامَةٍ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ، أَوْ طَافَ تَطَوُّعًا بَعْدَمَا حَلَّ لَهُ النَّفْرُ، أَجْزَأْهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَإِنْ أَقَامَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ طَافَ بَعْدَمَا حَلَّ لَهُ النَّفْرُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهُ، كَمَا لَوْ نَفَرَ عَقِيبَهُ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» . وَلِأَنَّهُ إذَا قَامَ بَعْدَهُ، خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَدَاعًا فِي الْعَادَةِ، فَلَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ طَافَهُ قَبْلَ حِلِّ النَّفْرِ. فَأَمَّا إنْ قَضَى حَاجَةً فِي طَرِيقِهِ، أَوْ اشْتَرَى زَادًا أَوْ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي طَرِيقِهِ، لَمْ يُعِدْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِقَامَةٍ تُخْرِجُ طَوَافَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُمَا. [مَسْأَلَة خَرَجَ قَبْل طَوَاف الْوَدَاع] (2583) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ الْوَدَاعِ، رَجَعَ إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ، وَإِنْ بَعُدَ، بَعَثَ بِدَمٍ) هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالْقَرِيبُ هُوَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَالْبَعِيدُ مَنْ بَلَغَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَ عَطَاءٌ يَرَى الطَّائِفَ قَرِيبًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ حَدُّ ذَلِكَ الْحَرَمُ، فَمَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَعِيدٌ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ مَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، فِي أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ، وَلِذَلِكَ عَدَدْنَاهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَدَّ رَجُلًا مِنْ مُرٍّ إلَى مَكَّةَ، لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ لِعُذْرٍ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ. وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ الْقَرِيبُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دَمٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ، وَالْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ، كَسَائِرِ وَاجِبَاتِهِ. فَإِنْ رَجَعَ الْبَعِيدُ، فَطَافَ لِلْوَدَاعِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ بِبُلُوغِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِرُجُوعِهِ، كَمَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَأَحْرَمَ دُونَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ. وَإِنْ رَجَعَ الْقَرِيبُ، فَطَافَ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ يُسْقِطُ عَنْهُ الرُّجُوعَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، وَيَحْتَمِلُ سُقُوطَ الدَّمِ عَنْ الْبَعِيدِ بِرُجُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَتَى بِهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، كَالْقَرِيبِ. (2584) فَصْلٌ: إذَا رَجَعَ الْبَعِيدُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ، إنْ كَانَ جَاوَزَهُ، إلَّا مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 الْأَعْذَارِ، فَيَلْزَمُهُ طَوَافٌ لِإِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَالسَّعْيِ، وَطَوَافٌ لِوَدَاعِهِ، وَفِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ، أَحْرَمَ مِنْ، مَوْضِعِهِ. فَأَمَّا إنْ رَجَعَ الْقَرِيبُ، فَظَاهِرُ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ لِإِتْمَامِ نُسُكٍ مَأْمُورٍ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ رَجَعَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ. فَإِنْ وَدَّعَ وَخَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ لَحَاجَةٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ أَحَبُّ إلَيَّ أَلَّا يَدْخُلَ إلَّا مُحْرِمًا، وَأَحَبُّ إلَيَّ إذَا خَرَجَ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لِإِتْمَامِ النُّسُكِ، إنَّمَا دَخَلَ لَحَاجَةٍ غَيْرِ مُتَكَرِّرَةٍ، فَأَشْبَهَ مَنْ يَدْخُلُهَا لِلْإِقَامَةِ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ طَوَاف الْوَدَاعَ] (2585) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تُوَدِّعَ، خَرَجَتْ، وَلَا وَدَاعَ عَلَيْهَا، وَلَا فِدْيَةَ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ أَنَّهُمَا أَمَرَا الْحَائِضَ بِالْمُقَامِ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَرَوَى مُسْلِمٌ، أَنَّ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي هَذَا، قَالَ طَاوُسٌ: كُنْت مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ لَا تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إمَّا تَسْأَلُ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ، هَلْ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ؟ قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَاك إلَّا قَدْ صَدَقْت. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ التَّخْفِيفُ عَنْ الْحَائِضِ بِحَدِيثِ «صَفِيَّةَ، حِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا حَائِضٌ. فَقَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ: فَلْتَنْفِرْ إذًا. وَلَا أَمَرَهَا بِفِدْيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ. وَالْحُكْمُ فِي النُّفَسَاءِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّفَاسِ أَحْكَامُ الْحَيْضِ، فِيمَا يُوجِبُ وَيُسْقِطُ. [فَصْل إذَا نَفَرْت الْحَائِضُ بِغَيْرِ وَدَاعٍ فَطَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ] (2586) فَصْلٌ: وَإِذَا نَفَرْت الْحَائِضُ بِغَيْرِ وَدَاعٍ، فَطَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ، رَجَعَتْ فَاغْتَسَلَتْ وَوَدَّعَتْ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَسْتَبِيحُ الرُّخَصَ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْإِقَامَةُ، فَمَضَتْ، أَوْ مَضَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهَا دَمٌ. وَإِنْ فَارَقَتْ الْبُنْيَانَ، لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ، إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً، كَالْخَارِجِ مِنْ غَيْر عُذْرٍ. قُلْنَا: هُنَاكَ تَرَكَ وَاجِبًا، فَلَمْ يَسْقُطْ بِخُرُوجِهِ، حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إنْشَاءَ سَفَرٍ طَوِيلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَهَا هُنَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهُ ابْتِدَاءً إلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا. [فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْمُوَدِّعُ فِي الْمُلْتَزَمِ] (2587) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْمُوَدِّعُ فِي الْمُلْتَزَمِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَيَلْتَزِمَهُ، وَيُلْصِقَ بِهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ، وَيَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 طُفْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَ دُبُرَ الْكَعْبَةِ، قُلْت: أَلَا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ. ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا - وَبَسَطَهَا بَسْطًا - وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، انْطَلَقْت فَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ خَرَجَ مِنْ الْكَعْبَةِ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ اسْتَلَمُوا الرُّكْنَ مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ، وَوَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَطَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْت مُجَاهِدًا: إذَا أَرَدْت الْوَدَاعَ، كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: تَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ تَأْتِي زَمْزَمَ فَتَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تَأْتِي الْمُلْتَزَمَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ، فَتَسْتَلِمُهُ، ثُمَّ تَدْعُو، ثُمَّ تَسْأَلُ حَاجَتَك، ثُمَّ تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ، وَتَنْصَرِفُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُك، وَأَنَا عَبْدُك، وَابْنُ عَبْدِك، حَمَلْتنِي عَلَى مَا سَخَّرْت لِي مِنْ خَلْقِك، وَسَيَّرْتنِي فِي بِلَادِك حَتَّى بَلَّغْتنِي بِنِعْمَتِك إلَى بَيْتِك، وَأَعَنْتنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي، فَإِنْ كُنْت رَضِيت عَنِّي، فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِك دَارِي، فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْت لِي، غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِك وَلَا بِبَيْتِك، وَلَا رَاغِبٍ عَنْك وَلَا عَنْ بَيْتِك، اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَك أَبَدًا مَا أَبْقَيْتنِي، وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: رَأَيْت أَعْرَابِيًّا أَتَى الْمُلْتَزَمَ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: بِك أَعُوذُ، وَبِك أَلُوذُ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ لِي فِي اللَّهَفِ إلَى جُودِك، وَالرِّضَا بِضَمَانِك، مَنْدُوحًا عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ، وَغِنًى عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ، اللَّهُمَّ بِفَرَجِك الْقَرِيبِ، وَمَعْرُوفِك الْقَدِيمِ، وَعَادَتِك الْحَسَنَةِ. ثُمَّ أَضَلَّنِي فِي النَّاسِ، فَلَقِيته بِعَرَفَاتٍ قَائِمًا، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت لَمْ تَقْبَلْ حَجَّتِي وَتَعَبِي وَنَصَبِي، فَلَا تَحْرِمْنِي أَجْرَ الْمُصَابِ عَلَى مُصِيبَتِهِ، فَلَا أَعْلَمُ أَعْظَمَ مُصِيبَةً مِمَّنْ وَرَدَ حَوْضَك، وَانْصَرَفَ مَحْرُومًا مِنْ وَجْهِ رَغْبَتِك. وَقَالَ آخَرُ: يَا خَيْرَ مَوْفُودٍ إلَيْهِ، قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَذَهَبَتْ مِنَّتِي، وَأَتَيْت إلَيْك بِذُنُوبٍ لَا تَغْسِلُهَا الْبِحَارُ، أَسْتَجِيرُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك، وَبِعَفْوِك مِنْ عُقُوبَتِك، رَبِّ ارْحَمْ مَنْ شَمِلَتْهُ الْخَطَايَا، وَغَمَرَتْهُ الذُّنُوبُ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ الْعُيُوبُ، ارْحَمْ أَسِيرَ ضُرٍّ، وَطَرِيدَ فَقْرٍ، أَسْأَلُك أَنْ تَهَبَ لِي عَظِيمَ جُرْمِي، يَا مُسْتَزَادًا مِنْ نِعَمِهِ، وَمُسْتَعَاذًا مِنْ نِقَمِهِ، ارْحَمْ صَوْتَ حَزِينٍ دَعَاك بِزَفِيرٍ وَشَهِيقٍ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت بَسَطْت إلَيْك يَدَيَّ دَاعِيًا، فَطَالَمَا كَفَيْتنِي سَاهِيًا، فَبِنِعْمَتِك الَّتِي تَظَاهَرَتْ عَلَيَّ عِنْدَ الْغَفْلَةِ، لَا أَيْأَسُ مِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 عِنْدَ التَّوْبَةِ، فَلَا تَقْطَعْ رَجَائِي مِنْك لِمَا قَدَّمْت مِنْ اقْتِرَافٍ، وَهَبْ لِي الْإِصْلَاحَ فِي الْوَلَدِ، وَالْأَمْنَ فِي الْبَلَدِ، وَالْعَافِيَةَ فِي الْجَسَدِ، إنَّك سَمِيعٌ مُجِيبٌ، اللَّهُمَّ إنَّ لَك عَلَيَّ حُقُوقًا، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيَّ، وَلِلنَّاسِ قِبَلِي تَبِعَاتٌ فَتَحَمَّلْهَا عَنِّي، وَقَدْ أَوْجَبْت لِكُلِّ ضَيْفٍ قِرًى، وَأَنَا ضَيْفُك اللَّيْلَةَ، فَاجْعَلْ قِرَايَ الْجَنَّةَ، اللَّهُمَّ إنِّي سَائِلُك عِنْدَ بَابِك، مَنْ ذَهَبَتْ أَيَّامُهُ، وَبَقِيَتْ آثَامُهُ، وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ، وَبَقِيَتْ تَبِعَتُهُ، فَارْضَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ عَنْهُ فَاعْفُ عَنْهُ، فَقَدْ يَعْفُو السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ، وَهُوَ عَنْهُ غَيْرُ رَاضٍ. ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَدْخُلْ الْمَسْجِدَ، وَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ، فَدَعَتْ بِذَلِكَ. [فَصْل إذَا وَدَّعَ الْبَيْت يَقُومُ عِنْدَ الْبَيْتِ إذَا خَرَجَ وَيَدْعُو] (2588) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ، يَقُومُ عِنْدَ الْبَيْتِ إذَا خَرَجَ وَيَدْعُ وَإِذَا وَلَّى لَا يَقِفُ وَلَا يَلْتَفِتُ، فَإِنْ الْتَفَتَ رَجَعَ فَوَدَّعَ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، فِي " مَنَاسِكِهِ " عَنْ الْمُهَاجِرِ، قَالَ: قُلْت لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيُصَلِّي، فَإِذَا انْصَرَفَ خَرَجَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَامَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْت أَحْسَبُ يَصْنَعُ هَذَا إلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَكْرَهُ ذَلِكَ. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنْ الْتَفَتَ رَجَعَ فَوَدَّعَ. عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، إذْ لَا نَعْلَمُ لِإِيجَابِ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا كِدْت تَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَالْتَفِتْ، ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ. [مَسْأَلَة تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ] (2589) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، رَجَعَ مِنْ بَلَدِهِ حَرَامًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ رُكْنُ الْحَجِّ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ. وَلَا يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ حَتَّى يَفْعَلَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ قَبْلَهُ، لَمْ يَنْفَكّ إحْرَامُهُ، وَرَجَعَ مَتَى أَمْكَنَهُ مُحْرِمًا، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَحُجُّ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ قَوْلًا ثَانِيًا. وَقَالَ: يَأْتِي عَامًا قَابِلًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ، قَالَ: " أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ " قِيلَ: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ: " فَلْتَنْفِرْ إذًا ". يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ حَابِسٌ لِمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ. فَإِنْ نَوَى التَّحَلُّلَ، وَرَفَضَ إحْرَامَهُ، لَمْ يَحِلَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَخْرُج مِنْهُ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ، وَمَتَى رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، حَلَّ بِطَوَافِهِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَفُوتُ وَقْتُهُ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. (2590) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ الطَّوَافِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَكَ جَمِيعَهُ، فِيمَا ذَكَرْنَا. وَسَوَاءٌ تَرَكَ شَوْطًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَة، أَوْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ، إنَّ سَعْيَهُ يُجْزِئُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِمَا تَرَكَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَا يُجْزِئُهُ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ، فَلَا يُجْزِئُهُ إذَا خَرَجَ مِنْهَا، كَمَا لَوْ طَافَ دُونَ الْأَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ. (2591) فَصْلٌ: وَإِذَا تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مُحْرِمًا إلَّا عَنْ النِّسَاءِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مُحْرِمًا إلَّا عَنْ النِّسَاءِ خَاصَّةً. وَإِنْ وَطِئَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، لَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ، وَيُجَدِّدُ إحْرَامَهُ لِيَطُوفَ فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ، أَوْ اخْتَرَقَ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ، وَرَجَعَ إلَى بَغْدَادَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى بَقِيَّةِ إحْرَامِهِ، فَإِنْ وَطِئَ النِّسَاءَ، أَحْرَمَ مِنْ التَّنْعِيمِ، عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا. (2592) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْوَدَاعِ، لَمْ يُجْزِئْهُ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ) وَإِنَّمَا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِيهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَمَنْ طَافَ لِلْوَدَاعِ، فَلَمْ يُعَيِّنْ النِّيَّةَ لَهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ. [مَسْأَلَة عَمَلُ الْقَارِنِ] (2593) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ، إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ، لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يَلْزَمُ الْمُفْرِدَ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ اخْتَارَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَتَمَامُهُمَا، أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَالِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ» . وَلِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ، فَكَانَ لَهُمَا طَوَافَانِ، كَمَا لَوْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّمَا طَافُوا لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي مُسْلِمٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ، لَمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 قَرَنَتْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا» . وَعَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» . رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى لَيْثٌ، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِعُمْرَتِهِمْ وَحَجِّهِمْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: حَلَفَ طَاوُسٌ مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا. وَلِأَنَّهُ نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ، وَرَمْيٌ وَاحِدٌ، فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، كَالْمُفْرِدِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَالُ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى، كَالطَّهَارَتَيْنِ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ إذَا وَقَعَتْ لَهُمَا فَقَدْ تَمَّا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَلَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، فِي بَعْضِهَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَفِي بَعْضِهَا عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ، وَفِي بَعْضِهَا حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُد، وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ، وَكَفَى بِهِ ضَعْفًا مُعَارَضَتُهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَإِنْ صَحَّ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: عَلَيْهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ. فَسَمَّاهُمَا طَوَافَيْنِ، فَإِنَّ السَّعْيَ يُسَمَّى طَوَافًا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: عَلَيْهِ طَوَافَانِ؛ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. [فَصْل قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا] (2594) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: فِي ذَلِكَ جَزَاءَانِ. فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ثَلَاثَةٌ. لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فِي الْحِلِّ اثْنَانِ. فَفِي الْحَرَمِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةً. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ جَزَاءَانِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا قُلْنَا عَلَيْهِ طَوَافَانِ، لَزِمَهُ جَزَاءَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَمَنْ أَوْجَبَ جَزَاءَيْنِ، فَقَدْ أَوْجَبَ مِثْلَيْنِ. وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ جَزَاءَانِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا. وَلِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مُحْرِمَيْنِ قَتَلَا صَيْدًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا إلَّا فِدَاءٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ قَتَلَا صَيْدًا حَرَمِيًّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 [فَصْل أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ بِالْوَطْءِ] (2595) فَصْلٌ: وَإِنْ أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ بِالْوَطْءِ، فَعَلَيْهِ فِدَاءٌ وَاحِدٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَا يَسْقُطُ دَمُ الْقِرَانِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: عَلَيْهِ هَدَيَانِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنْ يَلْزَمَهُ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ إذَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، فَسَدَ نُسُكُهُ، وَعَلَيْهِ شَاتَانِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الَّذِينَ سُئِلُوا عَمَّنْ أَفْسَدَ نُسُكَهُ، لَمْ يَأْمُرُوهُ إلَّا بِفِدَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَجِبْ فِي إفْسَادِهِ أَكْثَرُ مِنْ فِدْيَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْآخَرَيْنِ، وَسَائِرُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، مِنْ اللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا، لَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ فِدَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ كَانَ مُفْرِدًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ] (2596) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، مَعْنَاهُ لَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنَّ وُجُوبَ الدَّمِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَنْفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: " وَلَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ ". وَلَا نَعْلَمُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ خِلَافًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَنَّ ابْنَ دَاوُد لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سُئِلَ عَنْ الْقَارِنِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؟ فَقَالَ: لَا. فَجُرَّ بِرِجْلِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَالْقَارِنُ مُتَمَتِّعٌ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سَمِعَ عُثْمَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّمَا الْقِرَانُ لِأَهْلِ الْآفَاقِ. وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا» . وَلِأَنَّهُ تَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، فَلَزِمَهُ دَمٌ كَالْمُتَمَتِّعِ. وَإِذَا عَدِمَ الدَّمَ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ، كَالْمُتَمَتِّعِ سَوَاءٌ. (2597) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ وُجُوب الدَّم عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَسْقَطَ الدَّمَ عَنْ الْمُتَمَتِّعِ، وَلَيْسَ هَذَا مُتَمَتِّعًا. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فَهُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ إنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى النَّصِّ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الْفَرْعُ أَصْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 [مَسْأَلَة اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ وَسَعَى ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ] [الْفَصْل الْأَوَّل وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي الْجُمْلَةِ] (2598) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَطَافَ وَسَعَى، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ، وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، عَلَيْهِ دَمٌ) (2599) فَصْلٌ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا، وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ فَفَرَغَ مِنْهَا، وَأَقَامَ بِهَا، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إنْ وَجَدَ، وَإِلَّا فَالصِّيَامُ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «تَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَيُهْدِي، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ جَابِرٌ: «كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، نَشْتَرِكُ فِيهَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ. فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلْته عَنْ الْهَدْيِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، أَوْ شِرْكٌ مِنْ دَمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالدَّمُ الْوَاجِبُ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ، فَإِنْ نَحَرَ بَدَنَةً، أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ إلَّا بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَمَتَّعَ، سَاقَ بَدَنَةً. وَهَذَا تَرْكٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَاطِّرَاحٌ لِلْآثَارِ الثَّابِتَةِ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ إهْدَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْبَدَنَةِ لَا يَمْنَعُ إجْزَاءَ مَا دُونَهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَدَنَةُ الَّتِي يَذْبَحُهَا عَلَى صِفَةِ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُفْرِدًا فِي حَجَّتِهِ. وَكَذَلِكَ ذَهَبُوا إلَى تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَوْقُهُ لِلْبُدْنِ دَلِيلًا لَهُمْ فِي التَّمَتُّعِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الدَّمُ عَلَى الْمُتَمَتِّع] (2600) الْفَصْلُ الثَّانِي، فِي الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ؛ الْأَوَّلُ، أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سُئِلَ عَمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ قَدِمَ فِي شَوَّالٍ، أَيَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي شَوَّالٍ، أَوْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَذَكَرَ إسْنَادَهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدَ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ امْرَأَةٍ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا عُمْرَةً فِي شَهْرٍ مُسَمًّى، ثُمَّ تَحِلُّ إلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ تَحِيضُ؟ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 لِتَخْرُجْ، ثُمَّ لِتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ لِتَنْتَظِرْ حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ لِتَطُفْ بِالْبَيْتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَجَعَلَ عُمْرَتَهَا فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَهَلَّتْ فِيهِ، لَا فِي الشَّهْرِ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عُمْرَةً، وَحَلَّ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، إلَّا قَوْلَيْنِ شَاذِّينَ، أَحَدُهُمَا عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا اعْتَمَرْت فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَمْت حَتَّى الْحَجِّ، فَأَنْتَ مُتَمَتِّعٌ. وَالثَّانِي عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ اعْتَمَرَ بَعْدَ النَّحْرِ، فَهِيَ مُتْعَةٌ. قَالَ: ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. فَأَمَّا إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَلَّ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَذَهَبَ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَنُقِلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي عِيَاضٍ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ طَاوُسٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ. وَإِنْ طَافَ الْأَرْبَعَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ صَحَّتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَفْسَدَهَا، أَشْبَهَ إذَا أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا عَنْ جَابِرٍ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِنُسُكٍ لَا تَتِمُّ الْعُمْرَةُ إلَّا بِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، كَمَا لَوْ طَافَ. وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. الثَّانِي، أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ، فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ، بَلْ حَجَّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا قَوْلًا شَاذًّا عَنْ الْحَسَنِ، فِي مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، حَجَّ أَوْ لَمْ يَحُجَّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّبَاعُدِ بَيْنَهُمَا أَكْثَرَ. الثَّالِثُ، أَنْ لَا يُسَافِرَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْمُغِيرَةِ الْمَدِينِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ، بَطَلَتْ مُتْعَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ، أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَبْعَدَ مِنْ مِصْرِهِ، بَطَلَتْ مُتْعَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 فَإِنْ خَرَجَ وَرَجَعَ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ، أَوْ مَا دُونَهُ، لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَقَدْ أَنْشَأَ سَفَرًا بَعِيدًا لِحَجِّهِ، فَلَمْ يَتَرَفَّهْ بِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، كَمَوْضِعِ الْوِفَاقِ. وَالْآيَةُ تَنَاوَلَتْ الْمُتَمَتِّعَ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ. الرَّابِعُ، أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ حِلِّهِ مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِينَ كَانَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَهَذَا يَصِيرُ قَارِنًا، وَلَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْمُتْعَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، فَقَدِمْت مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اُنْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ. قَالَتْ: فَفَعَلْت، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْت مَعَهُ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك. قَالَ عُرْوَةُ: فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَوْمٌ وَلَا صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَارِنًا، وَتَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ. وَقَوْلُ عُرْوَةَ: لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَدْيٌ لِلْمُتْعَةِ، إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ. الْخَامِسُ، أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إذْ قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّ حَاضِرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّرَفُّهُ بِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُفْرِدَ. [فَصْل حَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ] (2601) فَصْلٌ: (وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَهْلُ الْحَرَمِ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلُ الْحَرَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ. وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَنْ دُونَ الْمَوَاقِيتِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ شُرِعَ فِيهِ النُّسُكُ، فَأَشْبَهَ الْحَرَمَ. وَلَنَا، أَنَّ حَاضِرَ الشَّيْءِ مَنْ دَنَا مِنْهُ، وَمَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَرِيبٌ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قَصَدَهُ لَا يَتَرَخَّصُ رُخَصَ السَّفَرِ، فَيَكُونُ مِنْ حَاضِرِيهِ. وَتَحْدِيدُهُ بِالْمِيقَاتِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ الْبَعِيدِ إذَا قَصَدَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى جَعْلِ الْبَعِيدِ مِنْ حَاضِرِيهِ، وَالْقَرِيبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 مِنْ غَيْرِ حَاضِرِيهِ، فِي الْمَوَاقِيتِ قَرِيبًا وَبَعِيدًا. وَاعْتِبَارُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ حَدَّ الْحَاضِرَ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، بِنَفْيِ أَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ عَنْهُ، فَالِاعْتِبَارُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالنُّسُكِ؛ لِوُجُودِ لَفْظِ الْحُضُورِ فِي الْآيَةِ. [فَصْل إذَا كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ قَرْيَتَانِ قَرِيبَةٌ وَبَعِيدَةٌ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] (2602) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ قَرْيَتَانِ؛ قَرِيبَةٌ، وَبَعِيدَةٌ، فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ قَرِيبًا فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الشَّرْطُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْقَرِيبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ بِالتَّمَتُّعِ مُتَرَفِّهًا بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ حُكْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي يُقِيمُ بِهَا أَكْثَرِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ الَّتِي مَالُهُ بِهَا أَكْثَرُ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ الَّتِي يَنْوِي الْإِقَامَةَ بِهَا أَكْثَرَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا حُكِمَ لِلْقَرْيَةِ الَّتِي أَحْرَمَ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ لِمَا قُلْنَاهُ. [فَصْل دَخَلَ الْآفَاقِيُّ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ بِهَا بَعْد تَمَتُّعِهِ] (2603) فَصْلٌ: فَإِذَا دَخَلَ الْآفَاقِيُّ مَكَّةَ، مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ بِهَا بَعْدَ تَمَتُّعِهِ، فَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَنْشَؤُهُ وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ عَنْهَا مُتَنَقِّلًا مُقِيمًا بِغَيْرِهَا، ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ بِهَا، أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَفِعْلِهَا، وَهَذَا إنَّمَا نَوَى الْإِقَامَةَ إذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ، فَهُوَ نَاوٍ لِلْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الدَّمُ. فَأَمَّا إنْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ مُسَافِرًا غَيْرَ مُتَنَقِّلٍ، ثُمَّ عَادَ فَاعْتَمَرَ مِنْ الْمِيقَاتِ، أَوْ قَصَّرَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا السَّفَرِ عَنْ كَوْنِ أَهْلِهِ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. (2604) فَصْلٌ: وَهَذَا الشَّرْطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا؛ فَإِنَّ مُتْعَةَ الْمَكِّيِّ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ، فَصَحَّ مِنْ الْمَكِّيِّ، كَالنُّسُكَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّمَتُّعِ هُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجَّ، ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَكِّيِّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ مُتْعَةٌ. وَمَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ دَمُ مُتْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ لَهُ لَا عَلَيْهِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل تَرَكَ الْآفَاقِيُّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ] (2605) فَصْلٌ: إذَا تَرَكَ الْآفَاقِيُّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ، أَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ حَلَّ مِنْهَا، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنْ عَامِهِ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، عَلَيْهِ دَمَانِ؛ دَمُ الْمُتْعَةِ، وَدَمٌ لِإِحْرَامِهِ مِنْ دُونِ مِيقَاتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 عَبْدِ الْبَرَّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ، وَحَلَّ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَلَالًا، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِلْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَامِ. وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ؛ فَإِنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْإِقَامَةُ، وَلَا نِيَّتُهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّمِ السُّكْنَى بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَاكِنٍ؛ وَإِنْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِعُمْرَةٍ، فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ، فَاعْتَمَرَ مِنْ التَّنْعِيمِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، عَلَيْهِ دَمٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَفِي تَنْصِيصِهِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيجَابِ الدَّمِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الدَّمِ، أَنْ يَنْوِيَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ. وَظَاهِرُ النَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُشْتَرَطٍ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ، كَمَنْ لَمْ يَنْوِ. [الْفَصْل الثَّالِث فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْهَدْيِ لِلْمُتَمَتِّعِ وَوَقْتِ ذَبْحِهِ] (2606) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْهَدْيِ، وَوَقْتِ ذَبْحِهِ. أَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَهَذَا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً، فَوُجُودُ أَوَّلِهِ كَافٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَلِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ أَوْ تَحَلَّلَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ وُجُودِ الْحَجِّ مِنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوُقُوفِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . وَلِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِضُ الْفَوَاتُ، فَلَا يَحْصُلُ التَّمَتُّعُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أُحْصِرَ، أَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ، وَلَا كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَلَوْ وَجَبَ الدَّمُ لَمَا سَقَطَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجِبُ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ، قَالَ: يَجِبُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ ذَبْحِهِ، فَكَانَ وَقْتَ وُجُوبِهِ. فَأَمَّا وَقْتُ إخْرَاجِهِ فَيَوْمُ النَّحْرِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ ذَبْحُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، كَقَبْلِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَمِعْت أَحْمَدْ، قَالَ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ وَمَعَهُ هَدْيٌ. قَالَ: يَنْحَرُ بِمَكَّةَ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ نَحَرَهُ، لَا يَضِيعُ أَوْ يَمُوتُ أَوْ يُسْرَقُ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ. وَإِنْ قَدِمَ فِي الْعَشْرِ، لَمْ يَنْحَرْهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ بِمِنًى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ قَدِمُوا فِي الْعَشْرِ، فَلَمْ يَنْحَرُوا حَتَّى نَحَرُوا بِمِنًى. وَمَنْ جَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ نَحَرَهُ عَنْ عُمْرَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَكَانَ قَارِنًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ نَحْرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 بِالْحَجِّ. قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ، بَعْدَ حِلِّهِ مِنْ الْعُمْرَةِ، احْتِمَالَانِ؛ وَوَجْهُ جَوَازِهِ أَنَّهُ دَمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْرَامِ، وَيَنُوبُ عَنْهُ الصِّيَامُ، فَجَازَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ قَبْلَهُ، كَسَائِرِ الْفِدْيَاتِ. [مَسْأَلَة الْمُتَمَتِّعَ إذَا لَمْ يَجِد الْهَدْيَ يَنْتَقِلُ إلَى الصِّيَام] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَكُونُ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ، يَنْتَقِلُ إلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ. وَتُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ فِي مَوْضِعِهِ، فَمَتَى عَدِمَهُ فِي مَوْضِعِهِ جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ مُوَقَّتٌ، وَمَا كَانَ وُجُوبُهُ مُوَقَّتًا اُعْتُبِرَتْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، كَالْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، إذَا عَدِمَهُ فِي مَكَانِهِ انْتَقَلَ إلَى التُّرَابِ. [فَصْل لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ وَقْتَانِ وَقْتُ جَوَازٍ وَوَقْتُ اسْتِحْبَابٍ] (2608) فَصْلٌ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ وَقْتَانِ؛ وَقْتُ جَوَازٍ، وَوَقْتُ اسْتِحْبَابٍ. فَأَمَّا وَقْتُ الثَّلَاثَةِ، فَوَقْتُ الِاخْتِيَارِ لَهَا أَنْ يَصُومَهَا مَا بَيْنَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَكُونُ آخِرُ الثَّلَاثَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ طَاوُسٌ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، أَنْ يَصُومُهُنَّ مَا بَيْنَ إهْلَالِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " الْمُحَرَّرِ ". وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ الَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يَكُونُ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا أَحْبَبْنَا لَهُ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ هَاهُنَا، لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ؛ لِيَصُومَهَا فِي الْحَجِّ، وَإِنْ صَامَ مِنْهَا شَيْئًا قَبْلَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا وَقْتُ جَوَازِ صَوْمِهَا فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّهُ صِيَامٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ، كَسَائِرِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ. وَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْمُبْدَلُ، فَلَمْ يَجُزْ الْبَدَلُ، كَقَبْلِ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصُومُهُنَّ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ. وَلَنَا، أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ أَحَدُ إحْرَامَيْ التَّمَتُّعِ، فَجَازَ الصَّوْمُ بَعْدَهُ، كَإِحْرَامِ الْحَجِّ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . فَقِيلَ: مَعْنَاهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ، إذْ كَانَ الْحَجُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 أَفْعَالًا لَا يُصَامُ فِيهَا، إنَّمَا يُصَامُ فِي وَقْتِهَا، أَوْ فِي أَشْهُرِهَا. فَهُوَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] . وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَيَجُوزُ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ، كَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، وَزُهُوقِ النَّفْسِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بَدَلًا، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْمُبْدَلِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةً فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْهَدْيِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ. وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِجَوَازِهِ، إلَّا رِوَايَةً حَكَاهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ عَلَى سَبَبِهِ وَوُجُوبِهِ، وَيُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَحْمَدُ يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا. وَأَمَّا السَّبْعَةُ، فَلَهَا أَيْضًا وَقْتَانِ؛ وَقْتُ اخْتِيَارٍ، وَوَقْتُ جَوَازٍ. أَمَّا وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ، فَمُنْذُ تَمْضِي أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ، هَلْ يَصُومُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: كَيْفَ شَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ: يَصُومُهَا فِي الطَّرِيقِ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَصُومُهَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ؛ لِلْخَبَرِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ عَنْهُ كَقَوْلِنَا، وَكَقَوْلِ إِسْحَاقَ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ لَزِمَهُ، وَجَازَ فِي وَطَنِهِ، جَازَ قَبْلَ ذَلِكَ، كَسَائِرِ الْفُرُوضِ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوَّزَ لَهُ تَأْخِيرَ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْإِجْزَاءَ قَبْلَهُ، كَتَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَأَجْزَأَهُ، كَصَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ. (2609) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي جَمْعًا وَلَا تَفْرِيقًا. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمَا. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. [مَسْأَلَة إنْ لَمْ يَصُمْ الْمُتَمَتِّع قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ] (2610) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَيَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهِ دَمٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ، إذَا لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَصُومُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ: إذَا فَاتَهُ الصَّوْمُ فِي الْعَشْرِ وَبَعْدَهُ، وَاسْتَقَرَّ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مُوَقَّتٌ، فَيَسْقُطُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِ، كَالْجُمُعَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، لَا عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 سُقُوطِهِ، وَالْقِيَاسُ مُنْتَقَضٌ بِصَوْمِ الظِّهَارِ إذَا قُدِّمَ الْمَسِيسُ عَلَيْهِ، وَالْجُمُعَةُ لَيْسَتْ بَدَلًا، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ لِأَنَّ الْوَقْتَ جُعِلَ شَرْطًا لَهَا كَالْجَمَاعَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، قَالَا: «لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى تَرْخِيصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصِيَامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ إلَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ، فَيَتَعَيَّنُ الصَّوْمُ فِيهَا. فَإِذَا صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ صَامَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ، ذَكَرَ مِنْهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» . وَلِأَنَّهَا لَا يَجُوزُ فِيهَا صَوْمُ النَّفْلِ، فَلَا يَصُومُهَا عَنْ الْهَدْيِ، كَيَوْمِ النَّحْرِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا قُلْنَا: يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى فَلَمْ يَصُمْهَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ، فَعَنْهُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ عَنْ وَقْتِهِ، فَلَزِمَهُ دَمٌ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُؤَخِّرِ لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي هُوَ الْمُبْدَلَ، لَوْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ، لَا دَمَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ، فَالْبَدَلُ أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ لَا يَلْزَمُهُ مَعَ الصَّوْمِ دَمٌ بِحَالٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، يَجِبُ الْقَضَاءُ بِفَوَاتِهِ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ. فَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِب، إذَا أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ، مِثْلُ أَنْ ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاؤُهُ، كَسَائِرِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ. وَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاؤُهُ، كَسَائِرِ الْهَدَايَا. وَالْأُخْرَى، عَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ مُؤَقَّتٌ، فَلَزِمَ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَنْ تَمَتَّعَ، فَلَمْ يُهْدِ إلَى قَابِلٍ، يُهْدِي هُدَيَيْنِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. [فَصْل إذَا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الثَّلَاثَة وَالسَّبْعَةِ] (2611) فَصْلٌ: وَإِذَا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ. وَقَالَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، وَمَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، لَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ، كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فِي زَمَنٍ يَصِحُّ الصَّوْمُ فِيهِ، فَلَمْ يَجِبْ تَفْرِيقُهُ، كَسَائِرِ الصَّوْمِ. وَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ فِي الْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا صَامَ أَيَّامَ مِنًى، وَأَتْبَعَهَا السَّبْعَةَ، فَمَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ التَّفْرِيقِ فِي الْأَدَاءِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ سَقَطَ، كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 [فَصْل وَقْتَ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُتَمَتِّع] (2612) فَصْلٌ: وَوَقْتُ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَقْتُ وُجُوبِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ، فَكَانَ وَقْتُ وُجُوبِهِ وَقْتَ وُجُوبِ الْمُبْدَلِ، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّوْمِ قَبْلَ زَمَانِ وُجُوبِ الْمُبْدَلِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ عَنْ الْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمُجَوَّزُ لِلِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ زَمَنَ الْوُجُوبِ، وَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ الصَّوْمَ قَبْلَ وُجُوبِهِ؟ قُلْنَا: إنَّا جَوَّزْنَا لَهُ الِانْتِقَالَ إلَى الْبَدَلِ، بِنَاءً عَلَى الْعَجْزِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُعَسِّر اسْتِمْرَارُ إعْسَارِهِ وَعَجْزِهِ، كَمَا جَوَّزْنَا التَّكْفِيرَ بِالْبَدَلِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمُبْدَلِ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ الصَّوْمِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَة دَخَلَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ] (2613) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ دَخَلَ فِي الصِّيَامِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْهَدْيِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ) وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ: إنْ أَيْسَرَ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ الثَّلَاثَةُ، فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِنْ أَكْمَلَ الثَّلَاثَةَ صَامَ السَّبْعَةَ. وَقِيلَ: مَتَى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، انْتَقَلَ إلَيْهِ، صَامَ أَوْ لَمْ يَصُمْ. وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ الصِّيَامُ، قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ فِي زَمَنِ وُجُوبِهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ الْبَدَلُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَصُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَوْمٌ دَخَلَ فِيهِ لِعَدَمِ الْهَدْيِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، كَصَوْمِ السَّبْعَةِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ مَا شُرِعَ فِي الصِّيَامِ. [فَصْل وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يَشْرَعْ حَتَّى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ] (2614) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، فَلَمْ يَشْرَعْ حَتَّى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: إذَا لَمْ يَصُمْ فِي الْحَجِّ فَلْيَصُمْ إذَا رَجَعَ. وَلَا يَرْجِعُ إلَى الدَّمِ، وَقَدْ انْتَقَلَ فَرْضُهُ إلَى الصِّيَامِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّيَامَ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ، لِوُجُوبِهِ حَالَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُتَّصِلِ بِشَرْطِهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْهَدْيِ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ. قَالَ يَعْقُوبُ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ؟ قَالَ: عَلَيْهِ هَدْيَانِ، يَبْعَثُ بِهِمَا إلَى مَكَّةَ. أُوجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيَ الْأَصْلِيَّ، وَهَدْيًا لِتَأْخِيرِهِ الصَّوْمَ عَنْ وَقْتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْبَدَلِ، فَلَزِمَهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ. [فَصْل لَزِمَهُ صَوْمُ الْمُتْعَةِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِعُذْرِ مَنَعَهُ عَنْ الصَّوْمَ] (2615) فَصْلٌ: وَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ الْمُتْعَةِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِعُذْرٍ مَنَعَهُ عَنْ الصَّوْمَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَطْعَمَ عَنْهُ، كَمَا يُطْعِمُ عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ رَمَضَانَ. وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَجَبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَشْبَهَ صَوْمَ رَمَضَانَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 [مَسْأَلَة الْمَرْأَةُ إذَا دَخَلَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجَّ] (2616) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ إذَا دَخَلَتْ مُتَمَتِّعَةً، فَحَاضَتْ، فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجَّ، أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، وَكَانَتْ قَارِنَةً، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ طَوَافِ الْقُدُومِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَةَ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهَا مَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَإِنْ خَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهَا، وَتَصِيرُ قَارِنَةً. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَرْفُضُ الْعُمْرَةَ، وَتُهِلُّ بِالْحَجِّ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ فَصَارَ حَجًّا، وَمَا قَالَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «أَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، فَقَدِمْت مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اُنْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ. قَالَتْ: فَفَعَلْت. فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْت مَعَهُ. فَقَالَ: هَذِهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رَفَضَتْ عُمْرَتهَا، وَأَحْرَمَتْ بِحَجٍّ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، قَوْلُهُ: " دَعِي عُمْرَتَك ". وَالثَّانِي، قَوْلُهُ: " وَامْتَشِطِي ". وَالثَّالِثُ، قَوْله: " هَذِهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِك ". وَلَنَا، مَا رَوَى «جَابِرٌ، قَالَ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إذَا كَانَتْ بِسَرِفٍ عَرَكَتْ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَةَ، فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُك؟ قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْت، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ، وَلَمْ أَحِلَّ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ. فَقَالَ: إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إذَا طَهُرَتْ، طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه، إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْت. قَالَ: فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ» . وَرَوَى طَاوُسٌ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّهَا قَالَتْ: أَهْلَلْت بِعُمْرَةِ، فَقَدِمْت وَلَمْ أَطُفْ حَتَّى حِضْت، وَنَسَكْت الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، وَقَدْ أَهْلَلْت بِالْحَجِّ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّفْرِ: يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك. فَأَبَتْ، فَبَعَثَ مَعَهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا جَمِيعَهُ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خَشْيَةِ الْفَوَاتِ، فَمَعَ خَشْيَةِ الْفَوَاتِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ لِمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 الْحَجَّ، مَا لَمْ يَفْتَتِحْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، وَمَعَ إمْكَانِ الْحَجِّ مَعَ بَقَاءِ الْعُمْرَةِ لَا يَجُوزُ رَفْضُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّهَا مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ إتْمَامِ عُمْرَتِهَا بِلَا ضَرَرٍ، فَلَمْ يَجُزْ رَفْضُهَا، كَغَيْرِ الْحَائِضِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " اُنْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي، وَدَعِي الْعُمْرَةَ ". انْفَرَدَ بِهِ عُرْوَةُ، وَخَالَفَ بِهِ سَائِرَ مَنْ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ، وَالْقَاسِمِ، وَالْأَسْوَدِ، وَعَمْرَةَ وَعَائِشَةَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ، وَطَاوُسٍ مُخَالِفَانِ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، حَدِيثَ حَيْضِهَا، فَقَالَ فِيهِ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: " دَعِي الْعُمْرَة، وَانْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُخَالَفَتِهِ بَقِيَّةَ الرُّوَاةِ، يَدُلُّ عَلَى الْوَهْمِ، مَعَ مُخَالَفَتِهَا الْكِتَابَ وَالْأُصُولَ، إذْ لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ آخَرُ يَجُوزُ فِيهِ رَفْضُ الْعُمْرَةِ مَعَ إمْكَانِ إتْمَامِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: " دَعِي الْعُمْرَةَ ". أَيْ دَعِيهَا بِحَالِهَا، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ مَعَهَا، أَوْ دَعِي أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ. وَأَمَّا إعْمَارُهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْت. قَالَ: " فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ ". وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قُلْت: اعْتَمَرْت بَعْدَ الْحَجِّ؟ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ عُمْرَةً، مَا كَانَتْ إلَّا زِيَارَةً زُرْت الْبَيْتَ، إنَّمَا هِيَ مِثْلُ نَفَقَتِهَا. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا أَعْمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ حِينَ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَرْجِعُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَرْجِعُ بِنُسُكٍ، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَعْمِرْهَا ". فَنَظَرَ إلَى أَدْنَى الْحَرَمِ، فَأَعْمَرَهَا مِنْهُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ طَوَافِ الْقُدُومِ ". وَذَلِكَ لِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ بِقَضَائِهِ، وَلَا فَعَلَتْهُ هِيَ. [فَصْل كُلُّ مُتَمَتِّعٍ خَشِيَ فَوَاتَ الْحَجِّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَصِيرُ قَارِنًا] (2617) فَصْلٌ: وَكُلُّ مُتَمَتِّعٍ خَشِيَ فَوَاتَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَيَصِيرُ قَارِنًا، وَكَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي مَعَهُ هَدْيٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ، بَلْ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مَعَهَا، فَيَصِيرُ قَارِنًا. وَلَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْفَوَاتِ، جَازَ، وَكَانَ قَارِنًا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَصِيرُ قَارِنًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِيرُ قَارِنًا. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَصَحَّ، كَمَا قَبْلَ الطَّوَافِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَارِعٌ فِي التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 [فَصْل إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ] (2618) فَصْلٌ: فَأَمَّا إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَغَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَصِرْ قَارِنًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ، وَيَصِيرُ قَارِنًا؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَجَازَ إدْخَالُهُ عَلَى الْآخَرِ، قِيَاسًا عَلَى إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْت أُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَلِيٌّ قَدْ خَرَجَ حَاجًّا، فَأَهْلَلْت بِالْحَجِّ، ثُمَّ خَرَجْت، فَأَدْرَكْت عَلِيًّا فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، فَقُلْت: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إنَّمَا خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ لِأَقْتَدِيَ بِك، وَقَدْ سَبَقْتنِي، فَأَهْلَلْت بِالْحَجِّ، أَفَأَسْتَطِيعُ أَنْ أَدْخُلَ مَعَك فِيمَا أَنْتَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا ذَلِكَ لَوْ كُنْت أَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ. وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لَا يُفِيدُهُ إلَّا مَا أَفَادَهُ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا فِي الْمُدَّةِ، وَعَكْسُهُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ. [مَسْأَلَة الْوَطْء قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ] (2619) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُمَا، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، وَلَا دَمَ عَلَيْهَا) (2620) وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ وَطِئَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . وَلِأَنَّهُ أَمِنَ الْفَوَاتَ، فَأَمِنَ الْفَسَادَ، كَمَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَلَنَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: وَقَعْت بِأَهْلِي وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ. فَقَالَا لَهُ: أَفْسَدْت حَجَّك. وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا السَّائِلَ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَأَفْسَدَهُ، كَقَبْلِ الْوُقُوفِ، وَيُخَالِفُ مَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ تَامٍّ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْخَبَرِ الْأَمْنُ مِنْ الْفَوَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْنِ الْفَوَاتِ أَمْنُ الْفَسَادِ، وَبِدَلِيلِ الْعُمْرَةِ يَأْمَنُ فَوَاتَهَا وَلَا يَأْمَنُ فَسَادَهَا. قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: إنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَقُولُ: الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ وَقَفَ بِهَا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. وَإِنَّمَا هَذَا مِثْلُ قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . أَيْ أَدْرَكَ فَضْلَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ تَفُتْهُ، كَذَلِكَ الْحَجُّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ وُجِدَ مِنْهُمَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّاسِي وَالْعَامِدُ، وَالْمُسْتَكْرَهَةُ وَالْمُطَاوِعَةُ، وَالْمُسْتَيْقِظَةُ، عَالِمًا كَانَ الرَّجُلُ أَوْ جَاهِلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَفْسُدُ حَجُّ النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْنًى يُوجِبُ الْقَضَاءَ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا كَالْفَوَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَفَسَدَ حَجُّهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ. (2621) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَهُ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْوُقُوفِ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يُوجِبْ بَدَنَةً، كَالْفَوَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا، فَأَوْجَبَ الْبَدَنَةَ، كَمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَلِأَنَّ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ الْجِنَايَةُ بِهِ أَعْظَمُ، فَكَفَّارَتُهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَغْلَظَ. وَأَمَّا الْفَوَاتُ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ بِهِ بَدَنَةً، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟ الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهَا دَمٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ حَجُّهَا، فَوَجَبَتْ الْبَدَنَةُ، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْ. وَلَنَا، أَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْجِمَاعِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي الصَّوْمِ. [فَصْل الْوَطْء قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ] (2623) فَصْلٌ: وَمَنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ مَعَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَبَدَنَةٌ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى طَوَافٍ وَسَعْيٍ، فَأَشْبَهَتْ الْحَجَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ كَقَوْلِنَا، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ. وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا وُقُوفَ فِيهَا، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا بَدَنَةٌ، كَمَا لَوْ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا دُونَ حُكْمِهِ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْحَجُّ. وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، فَاسْتَوَى فِيهِ مَا قَبْلَ الطَّوَافِ وَبَعْدَهُ، كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَأَفْسَدَهُ، كَمَا قَبْلَ الطَّوَافِ. [فَصْل أَفْسَدَ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ نُسُكَهُمَا] (2624) فَصْلٌ: إذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ نُسُكَهُمَا، لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ عَنْهُمَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا وَجَبَ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ، كَالْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِفْسَادِ، كَالدَّمِ الْوَاجِبِ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 [فَصْل أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ ثُمَّ قَضَى مُفْرِدًا] (2625) فَصْلٌ: وَإِذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ، ثُمَّ قَضَى مُفْرِدًا، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْقَضَاءِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْقَضَاءِ مَا يَجِبُ فِي الْأَدَاءِ، وَهَذَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْأَدَاءِ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ مَعَ الدَّمِ، فَإِذَا أَتَى بِهِمَا فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ أَوْلَى، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، كَمَنْ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ بِتَيَمُّمِ، فَقَضَى بِالْوُضُوءِ. [مَسْأَلَة الْوَطْء بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ] (2626) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَيَمْضِي إلَى التَّنْعِيمِ فَيُحْرِمُ؛ لِيَطُوفَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ (2627) : أَحَدُهَا، أَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ الْجَمْرَةِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ: عَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ إحْرَامًا مِنْ الْحَجِّ، فَأَفْسَدَهُ، كَالْوَطْءِ قَبْلَ الرَّمْيِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَكَانَ قَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ يَوْمَ النَّحْرِ: يَنْحَرَانِ جَزُورًا بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَهَا تَحَلُّلَانِ، فَوُجُودُ الْمُفْسِدِ بَعْدَ تَحَلُّلِهَا الْأَوَّلِ لَا يُفْسِدُهَا، كَبَعْدِ التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى فِي الصَّلَاةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ شَاةٌ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَيْهِ بَدَنَةً. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي الْحَجِّ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، كَمَا قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ لَمْ يُفْسِدْ، فَلَمْ يُوجِبْ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ. وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْرَامِ خَفَّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ دُونَ مُوجِبِ الْإِحْرَامِ التَّامِّ. (2629) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحِلَّ. وَبِذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: حَجُّهُ صَحِيحٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّهُ إحْرَامٌ لَا يَفْسُدُ جَمِيعُهُ، فَلَمْ يَفْسُدْ بَعْضُهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الثَّانِي. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا، فَأَفْسَدَهُ، كَالْإِحْرَامِ التَّامِّ، وَإِذَا فَسَدَ إحْرَامُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ لِيَأْتِيَ بِالطَّوَافِ فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ، كَالْوُقُوفِ، وَيَلْزَمُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلَّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَلَوْ أَبَحْنَا لِهَذَا الْإِحْرَامَ مِنْ الْحَرَمِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا تَقَعُ فِي الْحَرَمِ، فَأَشْبَهَ الْمُعْتَمِرَ. وَإِذَا أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ، طَافَ لِلزِّيَارَةِ، وَسَعَى إنْ كَانَ لَمْ يَسْعَ فِي حَجِّهِ. وَإِنْ كَانَ سَعَى، طَافَ لِلزِّيَارَةِ، وَتَحَلَّلَ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِيَأْتِيَ بِهَا فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَنَّهُ يَعْتَمِرُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا أَيْضًا، وَسَمَّوْهُ عُمْرَةً؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ؛ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا عُمْرَةً حَقِيقِيَّة، فَيَلْزَمُهُ سَعْيٌ وَتَقْصِيرٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " يُحْرِمُ مِنْ التَّنْعِيمِ ". لَمْ يَذْكُرْهُ لِتَعْيِينِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، بَلْ لِأَنَّهُ حَلَّ، فَمَنْ أَحَلَّ وَأَحْرَمَ جَازَ كَالْمُعْتَمِرِ. (2630) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَلَقَ وَمَنْ لَمْ يَحْلِقْ، فِي أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الرَّمْيِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِحْرَامٌ مِنْ الْحِلِّ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، لِتَرْتِيبِهِمْ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْوَطْءِ بَعْدَ مُجَرَّدِ الرَّمْيِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ. [فَصْلٌ طَافَ لِلزِّيَارَةِ وَلَمْ يَرْمِ ثُمَّ وَطِئَ] (2631) فَصْلٌ: فَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ، وَلَمْ يَرْمِ، ثُمَّ وَطِئَ، لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ تَمَّ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ مِنْ الْحِلِّ، فَإِنَّ الرَّمْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ وُجُودِ مَا يَتِمُّ بِهِ التَّحَلُّلُ، فَأَشْبَهَ مَنْ وَطِئَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ. [فَصْلٌ فَصْلٌ الْقَارِنُ إذَا وَطِئَ بَعْدَ الرَّمْيِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَلَا عُمْرَتُهُ] (2632) فَصْلٌ: وَالْقَارِنُ كَالْمُفْرِدِ؛ فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ بَعْدَ الرَّمْيِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ، وَلَا عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْحَجِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَارِنًا، وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ لِلْحَجِّ دُونَهَا، وَالْحَجُّ لَا يَفْسُدُ قَبْلَ الطَّوَافِ، كَذَلِكَ الْعُمْرَةُ. وَقَالَ أَحْمَدُ مَنْ وَطِئَ بَعْدَ الطَّوَافِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ: مَا عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَبِّلُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ؟ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَدْ قَضَى الْمَنَاسِكَ. فَعَلَى هَذَا، لَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ شَيْءٌ. [مَسْأَلَة نَسِيَ الرَّمْيَ إلَى اللَّيْلِ] (2633) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمُبَاحٌ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرُّعَاةِ، أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ) تُرْوَى هَذِهِ اللَّفْظَةُ: " الرُّعَاةُ " بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْهَاءِ، مِثْلُ الدُّعَاةِ وَالْقُضَاةِ. وَالرِّعَاءُ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ مِنْ غَيْرِ هَاءٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] . وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «أَرْخَصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا» . وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِهَؤُلَاءِ الرَّمْيُ بِاللَّيْلِ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 لِأَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِالنَّهَارِ بِرَعْيِ الْمَوَاشِي وَحِفْظِهَا، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ هُمْ الَّذِينَ يَسْقُونَ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ، فَيَشْتَغِلُونَ بِسِقَايَتِهِمْ نَهَارًا، فَأُبِيحَ لَهُمْ الرَّمْيُ فِي وَقْتِ فَرَاغِهِمْ، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ، فَيَجُوزُ لَهُمْ رَمْيُ كُلِّ يَوْمٍ فِي اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيَرْمُونَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي لَيْلَةِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرَمْيُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي لَيْلَةِ الثَّانِي، وَرَمْيُ الثَّانِي فِي لَيْلَةِ الثَّالِثِ، وَالثَّالِثِ إذَا أَخَّرُوهُ إلَى الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُمْ، كَسُقُوطِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ عَطَاءٌ: لَا يَرْمِي اللَّيْلَ إلَّا رِعَاءُ الْإِبِلِ، فَأَمَّا التُّجَّارُ فَلَا. وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، يَقُولُونَ: مَنْ نَسِيَ الرَّمْيَ إلَى اللَّيْلِ، رَمَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، مِنْ الرُّعَاةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ. [مَسْأَلَة لِلرُّعَاةِ أَنْ يُؤَخِّرُوا الرَّمْيَ] (2634) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمُبَاحٌ لِلرُّعَاةِ أَنْ يُؤَخِّرُوا الرَّمْيَ، فَيَقْضُوهُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرُّعَاةِ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِي مِنًى، وَيُؤَخِّرُونَ رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَيَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ عَنْ الرَّمِيَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَبِيتِ وَالْإِقَامَةِ لِلرَّمْيِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، يَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا.» قَالَ مَالِكٌ: ظَنَنْت أَنَّهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: رُخِّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ الْعَبَّاسَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّعَاءِ، وَأَهْلِ السِّقَايَةِ، أَنَّ الرِّعَاءَ إذَا قَامُوا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَزِمَهُمْ الْبَيْتُوتَةُ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّعَاةَ إنَّمَا رَعْيُهُمْ بِالنَّهَارِ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ انْقَضَى وَقْتُ الرَّعْيِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ يَشْتَغِلُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَافْتَرَقَا، وَصَارَ الرِّعَاءُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ لِمَرَضِهِ، فَإِذَا حَضَرَهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَالرِّعَاءُ أُبِيحَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ لِأَجْلِ الرَّعْيِ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُهُ وَجَبَ الْمَبِيتُ. [فَصْلٌ الْمَبِيت بِمِنِّي لِأَهْلِ الْأَعْذَار] (2635) فَصْلٌ: وَأَهْلُ الْأَعْذَارِ مِنْ غَيْرِ الرِّعَاءِ، كَالْمَرْضَى، وَمَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ، وَنَحْوِهِمْ، كَالرِّعَاءِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِهَؤُلَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِمْ، أَوْ نَقُولُ: نَصَّ عَلَيْهِ لِمَعْنًى وُجِدَ فِي غَيْرِهِمْ، فَوَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِمْ. [فَصْلٌ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ] (2636) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مَرِيضًا، أَوْ مَحْبُوسًا، أَوْ لَهُ عُذْرٌ، جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا رُمِيَ عَنْهُ الْجِمَارُ، يَشْهَدُ هُوَ ذَاكَ أَوْ يَكُونُ فِي رَحْلِهِ؟ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَشْهَدَ ذَاكَ إنْ قَدَرَ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 قُلْت: فَإِنْ ضَعُفَ عَنْ ذَلِكَ، أَيَكُونُ فِي رَحْلِهِ وَيَرْمِي عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْحَصَى فِي يَدِ النَّائِبِ، لِيَكُونَ لَهُ عَمَلٌ فِي الرَّمْيِ. وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ، لَمْ تَنْقَطِعْ النِّيَابَةُ، وَلِلنَّائِبِ الرَّمْيُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ اسْتَنَابَهُ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ رَمْيِهِمْ، فَيُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ. [فَصْلٌ تَرَكَ الرَّمْيَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ] (2637) فَصْلٌ: وَمِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ أَحْمَدُ: أَعْجَبُ إلَيَّ إذَا تَرَكَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ. وَفِي تَرْكِ جَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ دَمٌ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ فِي جَمْرَةٍ أَوْ الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا بَدَنَةً. قَالَ الْحَسَنُ: مَنْ نَسِيَ جَمْرَةً وَاحِدَةً يَتَصَدَّقُ عَلَى مِسْكِينٍ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَنَاسِكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَلِأَنَّهُ تَرَكَ مِنْ مَنَاسِكِهِ مَا لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَاةً كَالْمَبِيتِ. وَإِنْ تَرَكَ أَقَلِّ مِنْ جَمْرَةٍ، فَالظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فِي حَصَاةٍ، وَلَا فِي حَصَاتَيْنِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَجِبُ الرَّمْيُ بِسَبْعٍ. فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، أَيِّ شَيْءٍ كَانَ. وَعَنْهُ، أَنَّ فِي كُلِّ حَصَاةٍ دَمًا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَنَاسِكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْهُ: فِي الثَّلَاثَةِ دَمٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فِي كُلِّ حَصَاةٍ مُدٌّ. وَعَنْهُ: دِرْهَمٌ. وَعَنْهُ، نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَرَكَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَوْ الْجِمَارَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ، إلَى أَنْ يَبْلُغَ دَمًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَمَتَى خَرَجَتْ قَبْلَ رَمْيِهِ فَاتَ وَقْتُهُ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ الْوَاجِبُ فِي تَرْكِ الرَّمْيِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، فِي مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى إبِلِهِ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ، ثُمَّ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ أَهْرَقَ دَمًا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الرَّمْيِ النَّهَارُ، فَيَخْرُجُ وَقْتُ الرَّمْي بِخُرُوجِ النَّهَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 [بَابُ الْفِدْيَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ] [مَسْأَلَة الْمُحْرِمُ حَلَقَ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا عَامِدًا أَوْ مُخْطِئًا] [فَصْلُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِدْيَةً إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ] ِ (2638) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ حَلَقَ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، عَامِدًا أَوْ مُخْطِئًا، فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ ذَبْحُ شَاةٍ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سِتَّةِ فُصُولٍ: (2639) الْفَصْلُ الْأَوَّل، أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ فِدْيَةً إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ حَلَقَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِغَيْرِ عِلَّةٍ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: لَعَلَّك آذَاك هَوَامُّك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْلِقْ رَأْسَك، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: " أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ ". وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ إزَالَةِ الشَّعْرِ بِالْحَلْقِ، أَوْ النُّورَةِ، أَوْ قَصِّهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. (2640) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّ وَنَحْوُهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا فِدْيَةَ عَلَى النَّاسِي. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلَنَا، أَنَّهُ إتْلَافٌ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِهِ وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ، وَدَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْمَعْذُورِ بِنَوْعٍ آخَرَ، مِثْلُ الْمُحْتَجِمِ الَّذِي يَحْلِقُ مَوْضِعَ مَحَاجِمِهِ، أَوْ شَعْرًا عَنْ شَجَّتِهِ، وَفِي مَعْنَى النَّاسِي النَّائِمُ الَّذِي يَقْلَعُ شَعْرَهُ، أَوْ يُصَوِّبُ شَعْرَهُ إلَى تَنُّورٍ فَيَحْرِقُ لَهَبُ النَّارِ شَعْرَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (2641) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّ الْفِدْيَةَ هِيَ إحْدَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَيَّهَا شَاءَ فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهَا بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَالْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بِشَرْطِ الْعُذْرِ، فَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ وَجَبَ زَوَالُ التَّخْيِيرِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ تَبَعًا لَهُ، وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ أَصْلَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَفَّارَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 ثَبَتَ التَّخْيِيرُ فِيهَا إذَا كَانَ سَبَبُهَا مُبَاحًا ثَبَتَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ مَحْظُورًا، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْن قَتْلِهِ لِلضَّرُورَةِ إلَى أَكْلِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ لِجَوَازِ الْحَلْقِ لَا لِلتَّخْيِيرِ. [فَصْل الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الدَّمُ فِي حَلَقَ شَعْر الْحَاجّ] (2642) الْفَصْلُ الرَّابِعُ، الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الدَّمُ أَرْبَعُ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، يَجِبُ فِي الثَّلَاثِ مَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ الْمَذْهَبُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ شَعْرُ آدَمِيٍّ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّق بِهِ الدَّمُ كَالرُّبْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الدَّمُ بِدُونِ رُبْعِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ وَلِهَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا يَقُولُ: رَأَيْت فُلَانًا. وَإِنَّمَا رَأَى إحْدَى جِهَاتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا أَمَاطَ بِهِ الْأَذَى وَجَبَ الدَّمُ. وَوَجْهُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْأَرْبَعَ كَثِيرُ، فَوَجَبَ بِهِ الدَّمُ كَالرُّبْعِ فَصَاعِدًا أَمَّا الثَّلَاثَةُ فَهِيَ آخِرُ الْقِلَّةِ وَآخِرُ الشَّيْءِ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الرُّبْعَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكُلِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالرُّبْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ. [فَصْل شَعْرَ الرَّأْسِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ فِدْيَةِ الْحَجّ] (2643) الْفَصْلُ الْخَامِسُ أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّ شَعْرَ غَيْرِ الرَّأْسِ يَحْصُلُ بِحَلْقِهِ التَّرَفُّهُ وَالتَّنَظُّفُ، فَأَشْبَهَ الرَّأْسَ. فَإِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ، فَفِي الْجَمِيعِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَثُرَ. وَإِنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَتَيْنِ، وَمِنْ بَدَنِهِ شَعْرَتَيْنِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ إذَا قَلَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا فَفِيهِمَا دَمَانِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ يُخَالِفُ الْبَدَنَ؛ بِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهِ دُونَ الْبَدَنِ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّعْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْبَدَنِ، فَلَمْ تَتَعَدَّد الْفِدْيَةُ فِيهِ، بِاخْتِلَافِ، مَوَاضِعِهِ، كَسَائِرِ الْبَدَنِ وَكَاللِّبَاسِ، وَدَعْوَى الِاخْتِلَافِ تَبْطُلُ بِاللِّبَاسِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ كَشْفُ الرَّأْسِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَالْجَزَاءُ فِي اللُّبْسِ فِيهِمَا وَاحِدٌ. [فَصْل مِقْدَار الْفِدْيَة الْوَاجِبَة بِحَلْقِ الشَّعْر فِي الْحَجّ] (2644) الْفَصْلُ السَّادِسُ، أَنَّ الْفِدْيَةَ الْوَاجِبَةَ بِحَلْقِ الشَّعْرِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، بِقَوْلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْلِقْ رَأْسَك، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ، نِصْفُ صَاعٍ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً» . وَفِي لَفْظٍ: «أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ شِئْت فَتَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ. بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» . رَوَاهُ كُلَّهُ أَبُو دَاوُد. وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَنَافِعٌ: الصِّيَامُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 قَالُوا: يُجْزِئُ مِنْ الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَمِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعٌ صَاعٌ. وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى. [فَصْل يُجْزِئُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالزَّبِيب فِي فِدْيَةِ الْحَجّ] (2645) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ فِي الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أَجْزَأَ فِيهِ التَّمْرُ أَجْزَأَ فِيهِ ذَلِكَ، كَالْفِطْرَةِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: «فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: احْلِقْ رَأْسَك، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ. أَوْ اُنْسُكْ شَاةً.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يُجْزِئُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ آصُعٍ، إلَّا الْبُرَّ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، مَكَانَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُجْزِئُ إلَّا نِصْفُ صَاعٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أَوْ الْقِيَاسِ، وَالْفَرْعُ يُمَاثِلُ أَصْلَهُ وَلَا يُخَالِفُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. [فَصْل حَلَقَ الْمُحْرِم مَرَّة ثُمَّ كَرَّرَ الْحَلْقَ] (2646) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَقَ ثُمَّ حَلَقَ، فَالْوَاجِبُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَلَقَ ثَانِيًا، فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ ثُمَّ تَطَيَّبَ، أَوْ كَرَّرَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ اللَّاتِي لَا يَزِيدُ الْوَاجِبُ فِيهَا بِزِيَادَتِهَا، وَلَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَأَمَّا مَا يَتَقَدَّرُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ، وَهُوَ إتْلَافُ الصَّيْدِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَزَاؤُهُ، وَسَوَاءٌ فَعَلَهُ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، وَلَا تَدَاخُلَ فِيهِ، فَفِعْلُ الْمَحْظُورَاتِ مُتَفَرِّقًا كَفِعْلِهَا مُجْتَمِعَةً فِي الْفِدْيَةِ، مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ كَرَّرَهُ لَأَسْبَابٍ، مِثْلُ أَنْ لَبِسَ لِلْبَرْدِ، ثُمَّ لَبِسَ لِلْحَرِّ، ثُمَّ لَبِسَ لِلْمَرَضِ، فَكَفَّارَاتٌ، وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، فِي مَنْ لَبِسَ قَمِيصًا وَجُبَّةً وَعِمَامَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، قُلْت لَهُ: فَإِنْ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً، ثُمَّ بَرِئَ، ثُمَّ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً؟ فَقَالَ: هَذَا الْآنَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. وَعَنْ الشَّافِعِيّ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ: لَا يَتَدَاخَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَتَدَاخَلُ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَرَّرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَفَّارَاتٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ حُكْمُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا يَتَدَاخَلُ إذَا كَانَ بَعْضُهُ عَقِيبَ بَعْضٍ يَجِبُ أَنْ يَتَدَاخَلَ، وَإِنْ تَفَرَّقَ كَالْحُدُودِ وَكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِدْيَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي دَفْعَةٍ أَوْ فِي دَفَعَاتٍ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 [فَصْل جَزَاء صَيْد الْحَرَم] (2647) فَصْلٌ: فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَلَا يَتَدَاخَلُ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ صَيْدٍ جَزَاؤُهُ، سَوَاءٌ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا أَوْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَتَدَاخَلُ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَمِثْلُ الصَّيْدَيْنِ لَا يَكُونُ مِثْلَ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ صَيْدَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَجَبَ جَزَاؤُهُمَا، فَإِذَا تَفَرَّقَا أَوْلَى أَنْ يَجِبَ؛ لِأَنَّ حَالَةَ التَّفْرِيقِ لَا تَنْقُصُ عَنْ حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. [فَصْل حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ] (2648) فَصْلٌ: إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي مُحْرِمٍ قَصَّ شَارِبَ حَلَالٍ: يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَعْرَ آدَمِي، فَأَشْبَهَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَعْرٌ مُبَاحُ الْإِتْلَافِ، فَلَمْ يَجِبْ بِإِتْلَافِهِ شَيْءٌ، كَشَعْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. [فَصْل حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِإِذْنِهِ] (2649) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِإِذْنِهِ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ حَلَقَهُ حَلَالٌ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] . وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ هُوَ الَّذِي يَحْلِقُهُ، فَأَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ، وَجَعَلَ الْفِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ الْفِدْيَةُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَمْ يُحْلَقْ بِإِذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ الشَّعْرُ بِنَفْسِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ عَلَى الْحَالِقِ، حَرَامًا كَانَ أَوْ حَلَالًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَى الْحَلَالِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ مِنْ إزَالَتِهِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَتُهُ، كَالْمُحْرِمِ يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ. [فَصْل قَلَعَ الْمُحْرِم جِلْدَةً عَلَيْهَا شَعْرٌ] (2650) فَصْلٌ: إذَا قَلَعَ جِلْدَةً عَلَيْهَا شَعْرٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَالتَّابِعُ لَا يُضْمَنُ، كَمَا لَوْ قَلَعَ أَشْفَارَ عَيْنَيْ إنْسَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ أَهْدَابَهُمَا. [فَصْل خَلَّلَ الْمُحْرِم شَعْرَهُ فَسَقَطَتْ شَعْرَةٌ] (2651) فَصْلٌ: وَإِذَا خَلَّلَ شَعْرَهُ فَسَقَطَتْ شَعْرَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَا فِدْيَةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَعْرِهِ النَّابِتِ فَفِيهَا الْفِدْيَةُ، وَإِنْ شَكَّ فِيهَا فَلَا فِدْيَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ نَفْيُ الضَّمَانِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ يَقِينٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 [مَسْأَلَة إذَا حَلَقَ الْمُحْرِم دُونَ الْأَرْبَعِ] (2652) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ) يَعْنِي إذَا حَلَقَ دُونَ الْأَرْبَعِ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، فِي الشَّعْرَةِ دِرْهَمٌ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ. وَعَنْهُ، فِي كُلّ شَعْرَةٍ قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ مَالِكٌ عَلَيْهِ فِيمَا قَلَّ مِنْ الشَّعْرِ إطْعَامُ طَعَامٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْي: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ، فَيَجِبُ فِيهِ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ. وَعَنْ مَالِكٍ، فِي مَنْ أَزَالَ شَعْرًا يَسِيرًا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ كُلِّهِ، فَأَلْحَقْنَا بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّأْسِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا ضُمِنَتْ جُمْلَتُهُ ضُمِنَتْ أَبْعَاضُهُ، كَالصَّيْدِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَجِبَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ الْحَيَوَانِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَهَا هُنَا أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ مَعَ الْحَيَوَانِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ، وَيَجِبُ مُدٌّ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ فِدْيَةً، فَكَانَ وَاجِبًا فِي أَقَلِّ الشَّعْرِ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يُجْزِئُ فِيهِ إخْرَاجُهُ، وَهُوَ مَا يُجْزِئُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ ابْتِدَاءً مِنْ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ فِي الْأَرْبَعِ. [فَصْل مِنْ أُبِيحَ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ لِأَذًى بِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدْيَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ وَبَعْدَهُ] (2653) فَصْلٌ: وَمَنْ أُبِيحَ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ لِأَذًى بِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدْيَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ وَبَعْدَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ اشْتَكَى رَأْسَهُ، فَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْحُسَيْنُ يُشِيرُ إلَى رَأْسِهِ. فَدَعَا بِجَزُورٍ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ حَلَقَهُ وَهُوَ بالسَّعْيَاءِ. رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ. وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ، فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَى وُجُوبِهَا، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ. [مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ] (2654) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْهُ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِفِدْيَةٍ وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ إزَالَتُهُ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، كَحَلْقِ الشَّعْرِ. وَعَدَمُ النَّصِّ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ عَلَيْهِ، كَشَعْرِ الْبَدَنِ مَعَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْأَظْفَارِ كَالْحُكْمِ فِي فِدْيَةِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ، فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا دَمٌ وَعَنْهُ فِي ثَلَاثَةٍ دَمٌ. وَفِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي الظُّفْرَيْنِ مُدَّانِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بِتَقْلِيمِ أَظْفَارِ يَدٍ كَامِلَةٍ، حَتَّى لَوْ قَلَّمَ مِنْ كُلِّ يَدٍ أَرْبَعَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ مَنْفَعَةَ الْيَد، أَشْبَهَ الظُّفْرَ وَالظُّفْرَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 وَلَنَا أَنَّهُ قَلَّمَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَّمَ خَمْسًا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا حَلَقَ رُبْعَ رَأْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مَنْفَعَةَ الْعُضْوِ، وَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ، وَقَوْلُهُمْ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَجِبَ بِهِ الدَّمُ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ مَنْ قَلَّمَ مَا يَجِبُ بِهِ الدَّمُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَشْيَاءَ، كَمَا قُلْنَا فِي الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْأَظْفَارِ بِالْإِلْحَاقِ بِالشَّعْرِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ أَصْلِهِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ أَوْ الثَّلَاثَةِ بِقِسْطِهِ مِنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا وَجَبَ فِيهَا الْحَيَوَانُ لَمْ يَجِبُ فِيهَا جُزْءٌ مِنْهُ، كَالزَّكَاةِ (2655) فَصْلٌ: وَفِي قَصِّ بَعْضِ الظُّفْرِ مَا فِي جَمِيعِهِ، وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ بَعْضِ الشَّعْرَةِ مِثْلُ مَا فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِي الشَّعْرَةِ وَالظُّفْرِ، سَوَاءٌ، طَالَ أَوْ قَصُرَ، وَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بِمِسَاحَةٍ، فَيَتَقَدَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَالْمُوضِحَةِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرَةِ مِنْهَا مِثْلُ مَا يَجِبُ فِي الْكَبِيرَةِ. وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا، أَنَّهُ يَجِبُ بِحِسَابِ الْمُتْلَفِ كَالْإِصْبَعِ يَجِبُ فِي أُنْمُلَتِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَم. [مَسْأَلَة تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ عَامِدًا] (2656) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ عَامِدًا، غَسَلَ الطِّيبَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَكَذَلِكَ إنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَوْ الْخُفَّ عَامِدًا وَهُوَ يَجِدُ النَّعْلَ، خَلَعَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ) لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ، إذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ عَامِدًا؛ لِأَنَّهُ تَرَفَّهَ بِمَحْظُورٍ فِي إحْرَامِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ تَرَفَّهَ بِحَلْقِ شَعْرِهِ، أَوْ قَلْمِ ظُفْرِهِ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِدَمٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَلِيلُ الطِّيبِ وَكَثِيرُهُ، وَقَلِيلُ اللُّبْسِ وَكَثِيرُهُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بِتَطْيِيبِ عُضْوٍ كَامِلٍ، وَفِي اللِّبَاسِ بِلَبَّاسِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ لِبْسًا مُعْتَادًا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اتَّزَرَ بِالْقَمِيصِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَحْظُورَاتِ، فَاعْتُبِرَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ كَالْوَطْءِ، مَحْظُورًا، فَلَا تَتَقَدَّرُ فِدْيَتُهُ بِالزَّمَنِ، كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي اللُّبْسِ فِي الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ تَقْدِيرٌ، وَالتَّقْدِيرَاتُ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، وَتَقْدِيرُهُمْ بِعُضْوٍ وَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا إذَا ائْتَزَرَ بِقَمِيصٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِلُبْسِ مَخِيطٍ، وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ مُحَرَّمٌ. [فَصْل يَلْزَم الْمُحْرِم غَسْلُ الطِّيبِ وَخَلْعُ اللِّبَاسِ] (2657) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُهُ غَسْلُ الطِّيبِ، وَخَلْعُ اللِّبَاسِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَحْظُورًا، فَيَلْزَمُهُ إزَالَتُهُ وَقَطْعُ اسْتَدَامَتْهُ، كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي غَسْلِ الطِّيبِ بِحَلَالٍ؛ لِئَلَّا يُبَاشِرَ الْمُحْرِمُ الطِّيبَ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي رَأَى عَلَيْهِ طِيبًا أَوْ خَلُوقًا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 «اغْسِلْ عَنْك الطِّيبَ» . وَلِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَغْسِلُهُ بِهِ، مَسَحَهُ بِخِرْقَةِ، أَوْ حَكَّهُ بِتُرَابِ أَوْ وَرَقٍ أَوْ حَشِيش؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ إزَالَتُهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا نِهَايَةُ قُدْرَتِهِ. [فَصْل احْتَاجَ الْمُحْرِم إلَى الْوُضُوءِ وَغَسْلِ الطِّيبِ وَمَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا] (2658) فَصْلٌ: إذَا احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ وَغَسْلِ الطِّيبِ، وَمَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا قَدَّمَ غَسْلَ الطِّيبِ، وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي إبْقَاءِ الطِّيبِ، وَفِي تَرْكِ الْوُضُوءِ إلَى التَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَطْعُ رَائِحَةِ الطِّيبِ بِغَيْرِ الْمَاءِ، فَعَلَ وَتَوَضَّأَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إزَالَةِ الطِّيبِ قَطْع رَائِحَتِهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ، وَالْوُضُوءُ بِخِلَافِهِ. [فَصْل إذَا لَبِسَ الْمُحْرِم قَمِيصًا وَعِمَامَةً وَسَرَاوِيل وَخُفَّيْنِ] (2659) فَصْلٌ: إذَا لَبِسَ قَمِيصًا وَعِمَامَةً وَسَرَاوِيلَ وَخُفَّيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ فِدْيَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ. [فَصْل فَعَلَ الْمُحْرِم مَحْظُورًا مِنْ أَجْنَاسٍ فَحَلَقَ وَلَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَوَطِئَ] (2660) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مِنْ أَجْنَاسٍ، فَحَلَقَ، وَلَبِسَ، وَتَطَيَّبَ، وَوَطِئَ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِدْيَةٌ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ فِي الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَالْحَلْقِ فِدْيَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إذَا حَلَقَ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى الطِّيبِ، أَوْ إلَى قَلَنْسُوَةٍ أَوْ إلَيْهِمَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ وَتَعَمَّمَ وَتَطَيَّبَ، فَعَلَ ذَلِكَ جَمِيعًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَحْظُورَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَجْنَاسِ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ أَجْزَاؤُهَا، كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَعَكْسُهُ مَا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. [مَسْأَلَة لَبِسَ الْمُحْرِم أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا] (2661) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَيَخْلَعُ اللِّبَاسَ، وَيَغْسِلُ الطِّيبَ، وَيَفْرَغُ إلَى التَّلْبِيَةِ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُتَطَيِّبَ أَوْ اللَّابِسَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ. قَالَ سُفْيَانُ: ثَلَاثَةٌ فِي الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ سَوَاءٌ؛ إذَا أَتَى أَهْلَهُ، وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ. لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدَّهُ، وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ فَقَدْ ذَهَبَ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ النِّسْيَانِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، مِثْلُ إذَا غَطَّى الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ ثُمَّ ذَكَرَ، أَلْقَاهُ عَنْ رَأْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَوْ لَبِسَ خُفًّا، نَزَعَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 أُخْرَى، أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ خَلُوقٍ، أَوْ قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَالَ: اخْلَعْ عَنْك هَذِهِ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ هَذَا الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ: أَثَرَ الصُّفْرَةِ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «أَحْرَمْت بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيَّ هَذِهِ الْجُبَّةُ» . فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ مَعَ مَسْأَلَتِهِ عَمَّا يَصْنَعُ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَذَرَهُ لِجَهْلِهِ، وَالْجَاهِلُ وَالنَّاسِي وَاحِدٌ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَكَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ أَنَّهُ مَا يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، كَالصَّوْمِ، فَأَمَّا الْحَلْقُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ، فَهُوَ إتْلَافٌ لَا يُمْكِنُ رَدُّ تَلَافِيهِ، بِإِزَالَتِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ النَّاسِيَ مَتَى ذَكَرَ، فَعَلَيْهِ غَسْلُ الطِّيبِ وَخَلْعُ اللِّبَاسِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ هَاهُنَا، كَاَلَّذِي يَتَطَيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ اسْتَدَامَتْهُ، وَهَا هُنَا هُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَ حُكْمُهُ بِالنِّسْيَانِ أَوْ الْجَهْلِ، فَإِذَا زَالَ ظَهَرَ حُكْمُهُ. وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ، لِإِكْرَاهٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُزِيلُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَجَرَى مَجْرَى الْمُكْرَهِ عَلَى الطِّيبِ ابْتِدَاءً. وَحُكْمُ الْجَاهِلِ إذَا عَلِمَ، حُكْمُ النَّاسِي إذَا ذَكَرَ، وَحُكْمُ الْمُكْرَهِ حُكْمُ النَّاسِي، فَإِنَّ مَا عُفِيَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ، عُفِيَ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُمَا قَرِينَانِ فِي الْحَدِيثِ الدَّالِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمَا. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: «يَفْرَغُ إلَى التَّلْبِيَةِ» . أَيْ يُلَبِّي حِينَ ذَكَرَ اسْتِذْكَارًا لِلْحَجِّ أَنَّهُ نَسِيَهُ، وَاسْتِشْعَارًا بِإِقَامَتِهِ عَلَيْهِ وَرُجُوعِهِ إلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلٌ يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. [مَسْأَلَة وَقَفَ بِعَرَفَة نَهَارًا أَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ] (2662) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَهَارًا، أَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ نَهَارًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْوُقُوفِ. فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ إنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرَّسٍ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ الْوُقُوفِ مَا أَجْزَأَهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكَ اللَّيْلَ مُنْفَرِدًا. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَقَدْ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 مَنَاسِكَكُمْ» . فَإِذَا تَرَكَهُ لَزِمَهُ؛ دَمٌ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، فَلَزِمَهُ دَمٌ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، وَحَدِيثُهُمْ دَلَّ عَلَى الْإِجْزَاءِ، وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ. فَأَمَّا إذَا وَقَفَ فِي اللَّيْلِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ اللَّيْلَ وَحْدَهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ نَهَارًا، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ دَمٌ، بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَ نَهَارًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ» . فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِذَلِكَ دَمًا، وَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: سَمِعْته يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ قَبْل الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَمَا غَابَتْ الشَّمْسُ؟ فَقَالَ: مَا وَجَدْت أَحَدًا سَهَّلَ فِيهِ، كُلُّهُمْ يُشَدِّدُ فِيهِ. قَالَ: وَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَدْفَعَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَعَنْ عَطَاءٍ، عَلَيْهِ شَاةٌ إذَا دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ. قِيلَ: فَيَدْفَعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: الْمُزْدَلِفَةُ عِنْدِي غَيْرُ عَرَفَةَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ دَفَعَ قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يُوجِبْ بِذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا عَدَّ الدَّفْعَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ وَأَفْعَالَ النُّسُكِ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فِي سَائِرِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ دَفْعُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُكْمِ الْعَادَةِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، كَالدَّفْعِ مَعَهُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ مِنَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِعْلًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ.» [مَسْأَلَة الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةِ وَاجِبٌ يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ] (2663) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، مِنْ غَيْرِ الرُّعَاةِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ نُسُكًا، وَلِلنِّسْيَانِ أَثَرُهُ فِي تَرَكَ الْمَوْجُودِ كَالْمَعْدُومِ، لَا فِي جَعْلِ الْمَعْدُومِ كَالْمَوْجُودِ، إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَرُعَاةِ الْإِبِلِ، فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ، وَأَرْخَصَ لِلْعَبَّاسِ فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِ سِقَايَتِهِ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً فِي الْمَبِيتِ، لِحَاجَتِهِمْ إلَى حِفْظِ مَوَاشِيهِمْ وَسَقْيِ الْحَاجِّ، فَكَانَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ فِيهَا، كَلَيَالِي مِنًى، وَلِأَنَّهَا لَيْلَةٌ يُرْمَى فِي غَدِّهَا، فَكَانَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ فِيهَا، كَلَيَالِي مِنًى. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ. [مَسْأَلَة وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ] (2664) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، عَامِدًا أَوْ مُخْطِئًا، فَدَاهُ بِنَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ، إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ دَابَّةً) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ سِتَّةٌ (2665) ؛ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَنَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا، إلَّا الْحَسَنَ وَمُجَاهِدًا، قَالَا: إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالذَّاكِرُ لِإِحْرَامِهِ مُتَعَمِّدٌ، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] . وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِمَا. وَقَتْلُ الصَّيْدِ نَوْعَانِ، مُبَاحٌ وَمُحَرَّمٌ، فَالْمُحَرَّمُ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَهُ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ. وَالْمُبَاحُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُضْطَرَّ إلَى أَكْلِهِ، فَيُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وَتَرْكُ الْأَكْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَمَتَى قَتَلَهُ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، أَشْبَهَ صَيْدَ الْبَحْرِ. وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ الصَّيْدِ يَقْتَضِي قَتْلَهُ، فَضَمِنَهُ كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ لَا لِمَعْنَى فِيهِ، أَشْبَهَ حَلْقَ الشَّعْرِ لِأَذَى بِرَأْسِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي، إذَا صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إلَّا بِقَتْلِهِ، فَلَهُ قَتْلُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، أَشْبَهَ قَتْلَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى أَكْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ قَتَلَهُ لِدَفْعِ شَرِّهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْآدَمِيِّ الصَّائِلِ، وَلِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْمُؤْذِيَاتِ طَبْعًا، فَصَارَ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْشَى مِنْهُ التَّلَفَ أَوْ يَخْشَى مِنْهُ مَضَرَّةً، كَجَرْحِهِ، أَوْ إتْلَافِ مَالِهِ، أَوْ بَعْضِ حَيَوَانَاتِهِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ، إذَا خَلَّصَ صَيْدًا مِنْ سَبُعٍ أَوْ شَبَكَةِ صَيَّادٍ، أَوْ أَخَذَهُ لِيُخَلِّصَ مِنْ رِجْلِهِ خَيْطًا، وَنَحْوَهُ فَتَلِفَ بِذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ عَدِمَ الْقَصْدَ إلَى قَتْلِهِ، فَأَشْبَهَ قَتْلَ الْخَطَأِ. وَلَنَا، أَنَّهُ فِعْلٌ أُبِيحَ لِحَاجَةِ الْحَيَوَانِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ دَاوَى وَلِيُّ الصَّبِيِّ الصَّبِيَّ فَمَاتَ بِذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَمِّدٍ، فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ. [الْفَصْل الثَّانِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَم فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ] (2666) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَلَى الْمُتَعَمِّدِ بِالْكِتَابِ، وَعَلَى الْمُخْطِئِ بِالسُّنَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا كَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُد؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] . فَدَلِيلُ خِطَابِهِ، أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَلَا يَشْغَلُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لِلْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ، فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ خَطَئِهِ وَعَمْدِهِ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ. وَوَجْهُ الْأُولَى قَوْلُ جَابِرٍ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ يَصِيدُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا.» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ: ثَمَنُهُ» . وَلَمْ يُفَرِّقْ. رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ كَمَالِ الْآدَمِيِّ. [الْفَصْل الثَّالِث الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُحْرِمِ] (2667) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمَا. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكَيْنِ، وَهُوَ الْقَارِنُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. [الْفَصْل الرَّابِع الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا بِقَتْلِ الصَّيْدِ] (2668) الْفَصْلُ الرَّابِعُ، أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا بِقَتْلِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95] . وَالصَّيْدُ مَا جَمَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَكْلُهُ، لَا مَالِكَ لَهُ، مُمْتَنِعًا. فَيَخْرُجُ بِالْوَصْفِ الْأَوَّلِ كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ لَا جَزَاءِ فِيهِ، كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَالْمُسْتَخْبَثِ مِنْ الْحَشَرَاتِ، وَالطَّيْرِ، وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا جُعِلَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الصَّيْدِ الْمُحَلَّلِ أَكْلُهُ. وَقَالَ: كُلُّ مَا يُؤْذِي إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْجَزَاءَ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ، كَالسَّبْعِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ، تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِ، قَتْلِهِ، كَمَا عَلَّقُوا التَّحْرِيمَ فِي أَكْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِي أُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ. وَأُمُّ حُبَيْنٍ: دَابَّةٌ مُنْتَفِخَةُ الْبَطْنِ. وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ أُمَّ حُبَيْنٍ لَا تُؤْكَلُ، لِكَوْنِهَا مُسْتَخْبَثَةً عِنْدَ الْعَرَبِ. حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ سُئِلَ مَا تَأْكُلُونَ؟ قَالَ: مَا دَبَّ وَدَرَجَ، إلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ. فَقَالَ السَّائِلُ: لِيُهِنْ أُمَّ حُبَيْنٍ الْعَافِيَةُ. وَإِنَّمَا تَبِعُوا فِيهَا قَضِيَّةَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَضَى فِيهَا بِحُلَّانَ، وَهُوَ الْجَدْيُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَفِي الْقَمْلِ رِوَايَتَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى وَالصَّحِيحُ، أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَهُوَ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ، وَلَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كُنْت عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَخَذْت قَمْلَةً فَأَلْقَيْتهَا، ثُمَّ طَلَبْتهَا فَلَمْ أَجِدْهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا تُبْتَغَيْ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا أَزَالَهُ مِنْ شَعْرِهِ، فَأَمَّا مَا أَلْقَاهُ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، رِوَايَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وَاحِدَةً. وَمِنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْجَزَاءَ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الثَّعْلَبِ، فَعَنْهُ: فِيهِ الْجَزَاءُ. وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ: هُوَ صَيْدٌ يُؤْكَلُ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا شَيْءَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ؛ لِأَنَّهُ سَبُعٌ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» . وَإِذَا أَوْجَبْنَا فِيهِ الْجَزَاءَ، فَفِيهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السِّنَّوْرِ، أَهْلِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ سَبُعٌ، وَلَيْسَ بِمَأْكُولٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ: فِي الْوَحْشِيِّ حُكُومَةٌ، وَلَا شَيْءَ فِي الْأَهْلِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَا كَانَ وَحْشِيًّا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ؛ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي إبَاحَتِهِمَا، وَكُلُّ مَا اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهِ يُخْتَلَفُ فِي جَزَائِهِ، فَأَمَّا مَا يَحْرُمُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَلَا نَصَّ فِيهِ. الْوَصْفُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ وَحْشِيًّا، وَمَا لَيْسَ بِوَحْشِيٍّ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ذَبْحُهُ وَلَا أَكْلُهُ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا، وَالْخَيْلِ، وَالدَّجَاجِ، وَنَحْوِهَا. لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا، وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِالْأَصْلِ. لَا بِالْحَالِ، فَلَوْ اسْتَأْنَسَ الْوَحْشِيَّ وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْحَمَامِ أَهْلِيِّهِ وَوَحْشِيِّهِ، اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ. وَلَوْ تَوَحَّشَ الْأَهْلِيُّ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي بَقَرَةٍ صَارَتْ وَحْشِيَّةً: لَا شَيْءَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْإِنْسِيُّ. وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ وَلَدٌ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ، تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ، كَقَوْلِنَا فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمُحَرَّمِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الدَّجَاجِ السِّنْدِيِّ، هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَرَوَى مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْبَطِّ، يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْوَحْشِيُّ، فَهُوَ كَالْحَمَامِ. [الْفَصْل الْخَامِس الْجَزَاءَ يَجِبُ فِي صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ] (2669) الْفَصْلُ الْخَامِسُ، أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ فِي صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَا لَفَظَهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَبَيْنَ مَا فِي الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ، فَإِنَّ اسْمَ الْبَحْرِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَهُ بِصَيْدِ الْبَرِّ، بِقَوْلِهِ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ مَا كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَيُفْرِخُ وَيَبِيضُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ كَالسَّمَكِ وَنَحْوِهِ، فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، كَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ، فَهُوَ كَالسَّمَكِ، لَا جَزَاءَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيهِ الْجَزَاءُ، وَفِي الضُّفْدَعِ وَكُلِّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 وَلَنَا، أَنَّهُ يُفْرِخُ فِي الْمَاءِ وَيَبِيضُ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ حَيَوَانِهِ، كَالسَّمَكِ، فَأَمَّا طَيْرُ الْمَاءِ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، غَيْرَ مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَيْثُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ مِنْ صَيْدِهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفْرِخُ فِي الْبَرِّ وَيَبِيضُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْمَاءَ لِيَعِيشَ فِيهِ وَيَكْتَسِبَ مِنْهُ، فَهُوَ كَالصَّيَّادِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْجَرَادِ، فَعَنْهُ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، لَا جَزَاءَ فِيهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَعْبٌ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ. وَقَالَ عُرْوَةُ: هُوَ نَثْرَةُ حُوتٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَصَابَنَا ضَرْبٌ مِنْ جَرَادٍ، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَّا يَضْرِبُ بِسَوْطِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقِيلَ: إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَذَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» . وَعَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِكَعْبٍ فِي جَرَادَتَيْنِ: مَا جَعَلْت فِي نَفْسِك؟ قَالَ: دِرْهَمَانِ. قَالَ: بَخٍ، دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ ". وَلِأَنَّهُ طَيْرٌ يُشَاهَدُ طَيَرَانُهُ فِي الْبَرِّ، وَيُهْلِكُهُ الْمَاءُ إذَا وَقَعَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْعَصَافِيرَ. فَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى فَوَهُمْ. قَالَهُ أَبُو دَاوُد. فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، يَتَصَدَّقُ بِتَمْرَةٍ عَنْ الْجَرَادَةِ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْقِيمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ التَّقْدِيرَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ فِيهِ أَقَلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ افْتَرَشَ الْجَرَادُ فِي طَرِيقِهِ، فَقَتَلَهُ بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ، عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، وُجُوبُ جَزَائِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، فَضَمِنَهُ، كَالْمُضْطَرِّ يَقْتُلُ صَيْدًا يَأْكُلُهُ. وَالثَّانِي، لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ اضْطَرَّهُ إلَى إتْلَافِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ. [الْفَصْل السَّادِس جَزَاءَ مَا كَانَ دَابَّةً مِنْ الصَّيْدِ نَظِيرُهُ مِنْ النَّعَمِ] (2670) الْفَصْلُ السَّادِسُ، أَنَّ جَزَاءَ مَا كَانَ دَابَّةً مِنْ الصَّيْدِ نَظِيرُهُ مِنْ النَّعَمِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَاجِبُ الْقِيمَةُ وَيَجُوزُ فِيهَا الْمِثْلُ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ كَبْشًا. وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى إيجَابِ الْمِثْلِ، فَقَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ. وَحَكَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بِبَدَنَةٍ. وَحَكَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 عُمَرُ فِيهِ بِبَقَرَةِ. وَحَكَمَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي الظَّبْيِ بِشَاةٍ. وَإِذَا حَكَمُوا بِذَلِكَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْبَلَدَانِ الْمُتَفَرِّقَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ لَاعْتَبَرُوا صِفَةَ الْمُتْلَفِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْقِيمَةُ، إمَّا بِرُؤْيَةٍ أَوْ إخْبَارٍ، وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْهُمْ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ حَالَ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الْحَمَامِ بِشَاةٍ، وَلَا يَبْلُغُ قِيمَةَ شَاةٍ فِي الْغَالِبِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْمُمَاثَلَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّعَمِ وَالصَّيْدِ، لَكِنْ أُرِيدَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ. وَالْمُتْلَفُ مِنْ الصَّيْدِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا، قَضَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا قَضَتْ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ» . وَلِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، وَأَبْصَرُ بِالْعِلْمِ، فَكَانَ حُكْمُهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، كَالْعَالِمِ مَعَ الْعَامِّيِّ، وَاَلَّذِي بَلَغَنَا قَضَاؤُهُمْ فِي؛ الضَّبُعِ كَبْشٌ. قَضَى بِهِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَعَلَ فِي الضَّبُعِ يَصِيدُهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، قَالَ: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ، إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ» . قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: الْجَفْرَةُ، الَّتِي قَدْ فُطِمَتْ وَرَعَتْ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ أَحْمَدُ:: «حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُع بِكَبْشٍ.» وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ بِالشَّامِ يَعُدُّونَهَا مِنْ السِّبَاعِ وَيَكْرَهُونَ أَكْلَهَا. وَهُوَ الْقِيَاسُ، إلَّا أَنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ أَوْلَى. وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: فِيهِ بَدَنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ. وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُرْوَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالْأَيْلُ فِيهِ بَقَرَةٌ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فِي الْوَعْلِ وَالثَّيْتَلِ بَقَرَةٌ، كَالْأَيِّلِ. وَالْأَرْوَى فِيهَا بَقَرَةٌ. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهَا عَضْبٌ، وَهِيَ مِنْ أَوْلَادِ الْبَقَرِ مَا بَلَغَ أَنْ يُقْبَضَ عَلَى قَرْنِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَكُونَ جِذْعًا. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ. وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ. ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَفِي الْوَبَرِ شَاةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ جَفْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْبَرَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ. وَالْجَفْرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا أَتَى عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا، وَالذَّكَرُ جَفْرٌ. وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ. قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: فِيهِ ثَمَنُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: قِيمَتُهُ طَعَامًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ الضَّبَّ وَالْيَرْبُوعَ يُودِيَانِ. وَاتِّبَاعُ الْآثَارِ أَوْلَى. وَفِي الضَّبِّ جَدْيٌ. قَضَى بِهِ عُمَرُ، وَأَرْبَدُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، فِيهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءً قَالَا فِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: صَاعٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: قِيمَتُهُ مِنْ الطَّعَامِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ قَضَاءَ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ غَيْرِهِ، وَالْجَدْيُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الشَّاةِ. وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ. قَضَى بِهِ عُمَرُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِيهِ حَمَلٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيهِ شَاةٌ. وَقَضَاءُ عُمَرَ أَوْلَى. وَالْعَنَاقُ: الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ، وَالذَّكَرُ جَدْيٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَمْ تَقْضِ فِيهِ الصَّحَابَةُ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] . فَيَحْكُمَانِ فِيهِ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ النَّعَمِ، مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ، لَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَضَاءَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ بِالْمِثْلِ فِي الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَكَمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الضَّبِّ، وَلَمْ يَسْأَلْ أَفَقِيهٌ هُوَ أَمْ لَا؟ لَكِنْ تُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ، وَتُعْتَبَرُ الْخِبْرَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمِثْلِ إلَّا مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ، وَلِأَنَّ الْخِبْرَةَ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْحُكَّامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] . وَالْقَاتِلُ مَعَ غَيْرِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ "، وَالشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ "، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا، فَأُوطَأْ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ ضَبًّا، فَفَزَرَ ظَهْرَهُ، فَقَدِمْنَا عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ أَرْبَدُ، فَقَالَ لَهُ: اُحْكُمْ يَا أَرْبَدُ فِيهِ. قَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: إنَّمَا أَمَرْتُك أَنْ تَحْكُمَ، وَلَمْ آمُرْك أَنْ تُزَكِّيَنِي. فَقَالَ أَرْبَدُ: أَرَى فِيهِ جَدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ. قَالَ عُمَرُ: فَذَلِكَ فِيهِ. فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ وَهُوَ الْقَاتِلُ، وَأَمَرَ أَيْضًا كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَرَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَادَهُمَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَخْرُجُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَمِينًا فِيهِ، كَالزَّكَاةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 (2671) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: فِي كَبِيرِ الصَّيْدِ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ، وَفِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وَفِي الذَّكَرِ ذَكَرٌ، وَفِي الْأُنْثَى أُنْثَى، وَفِي الصَّحِيحِ صَحِيحٌ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الصَّغِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي الْمَعِيبِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وَلَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ صَغِيرٌ وَلَا مَعِيبٌ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِصَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، كَقَتْلِ الْآدَمِيِّ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَمِثْلُ الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ اخْتَلَفَ ضَمَانُهُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، كَالْبَهِيمَةِ، وَالْهَدْيُ فِي الْآيَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْمِثْلِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى الضَّمَانِ بِمَا لَا يَصِحُّ هَدْيًا، كَالْجَفْرَةِ وَالْعَنَاقِ وَالْجَدْيِ. وَكَفَّارَةُ الْآدَمِيِّ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْهُ، وَلَا تَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ فِي أَبْعَاضِهِ، فَإِنْ فَدَى الْمَعِيبَ بِصَحِيحٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ فَدَاهُ بِمَعِيبٍ مِثْلِهِ جَازَ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَيْبُ، مِثْلُ أَنْ فَدَى الْأَعْرَجَ بِأَعْوَرَ، أَوْ الْأَعْوَرَ بِأَعْرَجَ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ. وَإِنْ فَدَى أَعْوَرَ مِنْ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ بِأَعْوَرَ مِنْ أُخْرَى، أَوْ أَعْرَجَ مِنْ قَائِمَةٍ بِأَعْرَجَ مِنْ أُخْرَى جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ، وَنَوْعُ الْعَيْبِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَحَلُّهُ. وَإِنْ فَدَى الذَّكَرَ بِأُنْثَى، جَازَ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ وَأَرْطَبُ. وَإِنْ فَدَاهَا بِذَكَرٍ، جَازَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ أَوْفَرُ فَتَسَاوَيَا. وَالْآخَرُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ زِيَادَتَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ هِيَ مِنْ جِنْسِ زِيَادَتِهَا، فَأَشْبَهَ فِدَاءَ الْمَعِيبِ مِنْ نَوْعٍ بِمَعِيبٍ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ. [فَصْل قَتَلَ مَاخِضًا فِي الْحَرَم] (2672) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَ مَاخِضًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَضْمَنُهَا بِقِيمَةِ مِثْلِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ لَحْمِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَضْمَنُهَا بِمَاخِضٍ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَإِيجَابُ الْقِيمَةِ عُدُولٌ عَنْ الْمِثْلِ مَعَ إمْكَانِهِ، فَإِنْ فَدَاهَا بِغَيْرِ مَاخِضٍ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لَا تَزِيدُ فِي لَحْمِهَا، بَلْ رُبَّمَا نَقَصَتْهَا، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا فِي الْمِثْلِ، كَاللَّوْنِ وَالْعَيْبِ. وَإِنْ جَنَى عَلَى مَاخِضٍ، فَأَتْلَفَ جَنِينَهَا، وَخَرَجَ مَيِّتًا، فَفِيهِ مَا نَقَصَتْ أُمُّهُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهَا، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ثُمَّ مَاتَ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لِوَقْتٍ لَا يَعِيشُ لِمِثْلِهِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ، كَجَنِينِ الْآدَمِيَّةِ. [فَصْل أَتْلَفَ الْمُحْرِم جُزْءًا مِنْ الصَّيْدِ] (2673) فَصْلٌ: وَإِنْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الصَّيْدِ، وَجَبَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ جُمْلَتَهُ مَضْمُونَةٌ، فَكَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا كَالْآدَمِيِّ، وَالْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» . فَالْجَرْحُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ. وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ الصَّيْدِ وَجَبَ ضَمَانُهُ كَنَفْسِهِ، وَيُضْمَن بِمِثْلِهِ مِنْ مِثْلِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُ جُمْلَتِهِ بِالْمِثْلِ، وَجَبَ فِي بَعْضِهِ مِثْلُهُ، كَالْمَكِيلَاتِ. وَالْآخَرُ يَجِبُ قِيمَةُ مِقْدَارِهِ مِنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 الْجَزَاءَ يَشُقُّ إخْرَاجُهُ، فَيُمْنَعُ إيجَابُهُ، وَلِهَذَا عَدَلَ الشَّارِعُ عَنْ إيجَابِ جُزْءٍ مِنْ بَعِيرٍ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ إلَى إيجَابِ شَاةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْإِبِلِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ هَاهُنَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ؛ لِوُجُودِ الْخِيَرَةِ لَهُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْمِثْلِ إلَى عَدْلِهِ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الصِّيَامِ، فَيَنْتَفِي الْمَانِعُ فَيَثْبُتُ مُقْتَضَى الْأَصْلِ. وَهَذَا إذَا انْدَمَلَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا، فَإِنْ انْدَمَلَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، ضَمِنَهُ جَمِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَهُ، فَصَارَ كَالتَّالِفِ، وَلِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى تَلَفِهِ، فَصَارَ كَالْجَارِحِ لَهُ جُرْحًا يَتَيَقَّنُ بِهِ مَوْتُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِمَا نَقَصَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَتْلَفْ، وَلَمْ يَتْلَفْ جَمِيعُهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ. وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ جَزَاءً وَاحِدًا، وَضَمَانُهُ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ يُفْضِي إلَى إيجَابِ جَزَاءَيْنِ. وَإِنْ غَابَ غَيْرَ مُنْدَمِلٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ، وَالْجِرَاحَةُ مُوجِبَةٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ، وَلَا يَضْمَنُ جَمِيعَهُ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ حُصُولَ التَّلَفِ بِفِعْلِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ أَوْقَع بِهِ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهُ مَيِّتًا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَمَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ إتْلَافِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ، فَوَجَبَ إحَالَتُهُ عَلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ، فَوَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا، فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى صَيْدًا، فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ غَيْرُ سَهْمِهِ، حَلَّ أَكْلُهُ. وَإِنْ صَيَّرَتْهُ الْجِنَايَةُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ أَصَارَ مُمْتَنِعًا أَمْ لَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِامْتِنَاعِ. [فَصْل جَرَحَ الْمُحْرِم صَيْدًا فَتَحَامَلَ فَوَقَعَ فِي شَيْءٍ تَلِفَ بِهِ] (2674) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَ صَيْدًا، فَتَحَامَلَ، فَوَقَعَ فِي شَيْءٍ تَلِفَ بِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ نَفَّرَهُ، فَتَلِفَ فِي حَالِ نُفُورِهِ، ضَمِنَهُ. فَإِنْ سَكَنَ فِي مَكَان، وَأَمِنَ مِنْ نُفُورِهِ، ثُمَّ تَلِفَ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهًا آخَرَ، أَنْ يَضْمَنَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ "، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ النَّدْوَةِ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى وَاقِفٍ فِي الْبَيْتِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَيْرٌ مِنْ هَذَا الْحَمَامِ، فَأَطَارَهُ، فَوَقَعَ عَلَى وَاقِفٍ، فَانْتَهَزَتْهُ حَيَّةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ: إنِّي وَجَدْت فِي نَفْسِي أَنِّي أَطَرْته مِنْ مَنْزِلٍ كَانَ فِيهِ آمِنًا إلَى مَوْقِعَةٍ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ. فَقَالَ نَافِعٌ لِعُثْمَانَ: كَيْفَ تَرَى، فِي عَنْزٍ ثَنِيَّةٍ عَفْرَاءَ، يُحْكَمُ بِهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَرَى ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [فَصْل كُلُّ مَا يَضْمَنُ بِهِ الْآدَمِيَّ يَضْمَنُ بِهِ الصَّيْدَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ بِسَبَبِ] (2675) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا يَضْمَنُ بِهِ الْآدَمِيَّ، يَضْمَنُ بِهِ الصَّيْدَ، مِنْ مُبَاشَرَةٍ، أَوْ بِسَبَبٍ، وَمَا جَنَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ بِيَدِهَا أَوْ فَمِهَا مِنْ الصَّيْدِ، فَالضَّمَانُ عَلَى رَاكِبِهَا، أَوْ قَائِدِهَا، أَوْ سَائِقِهَا، وَمَا جَنَتْ بِرِجْلِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِفْظُ رِجْلِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَضْمَنُ السَّائِقُ جَمِيعَ جِنَايَتِهَا؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَيُشَاهِدُ رِجْلَهَا. وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 ابْنُ عَقِيلٍ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرِّجْلُ جُبَارٌ» . وَإِنْ انْقَلَبَتْ فَأَتْلَفَتْ صَيْدًا، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلّ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» . وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَتْ آدَمِيًّا، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَلَوْ نَصَبَ الْمُحْرِمُ شَبَكَةً، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ، كَمَا يَضْمَنُ الْآدَمِيَّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَفَرَ الْبِئْرَ بِحَقٍّ، كَحَفْرِهِ فِي دَارِهِ، أَوْ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَا يَضْمَنُ الْآدَمِيَّ. وَإِنْ نَصَبَ شَبَكَةً قَبْلَ إحْرَامِهِ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ إحْرَامِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ إحْرَامِهِ تَسَبُّبٌ إلَى إتْلَافِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَادَهُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، وَتَرَكَهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَتَلِفَ بَعْدَ إحْرَامِهِ، أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ حَلَالٌ، فَذَبَحَهُ الْمُشْتَرِي. [مَسْأَلَة وُجُوبِ ضَمَانِ صَيْدِ الحرم مِنْ الطَّيْرِ] (2676) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ طَائِرًا فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ) قَوْلُهُ: " بِقِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ " يَعْنِي يَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَتْلَفَهُ فِيهِ. لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الصَّيْدِ مِنْ الطَّيْرِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا كَانَ أَصْغَرَ مِنْ الْحَمَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَهَذَا لَا مِثْلَ لَهُ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: 94] : يَعْنِي الْفَرْخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ صِغَارِ الصَّيْدِ، (وَرِمَاحُكُمْ) : يَعْنِي الْكِبَارَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْجَرَادِ بِجَزَاءٍ. وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءٍ غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي هَذَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَضَمَانُ غَيْرِ الْحَمَامِ مِنْ الطَّيْرِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الضَّمَانِ أَنْ يُضْمَنَ بِقِيمَتِهِ، أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ، لَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ بِدَلِيلٍ، فَفِيمَا عَدَاهُ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِقَضِيَّةِ الدَّلِيلِ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي مَوْضِعِ إتْلَافِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ آدَمِيٍّ فِي مَوْضِعِ قَوْمٍ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل يَضْمَنُ بَيْضَ صَيْدِ الحرم بِقِيمَتِهِ] (2677) فَصْلٌ: وَيُضْمَنُ بَيْضُ الصَّيْدِ بِقِيمَتِهِ، أَيَّ صَيْدٍ كَانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ» ، مَعَ أَنَّ النَّعَامِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْبَيْضَ لَا مِثْلَ لَهُ، فَيَجِبُ قِيمَتُهُ، كَصِغَارِ الطَّيْرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ، لِكَوْنِهِ مَذَرًا، أَوْ لِأَنَّ فَرْخَهُ مَيِّتٌ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إلَّا بَيْضَ النَّعَامِ، فَإِنَّ لِقِشْرِهِ قِيمَةً. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَوَانٌ، وَلَا مَآلُهُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْهُ حَيَوَانٌ صَارَ كَالْأَحْجَارِ وَالْخَشَبِ، وَسَائِرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ غَيْرِ الصَّيْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَقَبَ بَيْضَةً، فَأَخْرَجَ مَا فِيهَا، لَزِمَهُ جَزَاءُ جَمِيعِهَا، ثُمَّ لَوْ كَسَرَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ لِذَلِكَ شَيْءٌ. وَمِنْ كَسَرَ بَيْضَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ حَيٌّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 فَعَاشَ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ فَفِيهِ مَا فِي صِغَارِ أَوْلَادِ الْمُتْلَفِ بَيْضُهُ، فَفِي فَرْخِ الْحَمَامِ صَغِيرُ أَوْلَادِ الْغَنَمِ، وَفِي فَرْخِ النَّعَامَةِ حِوَارٌ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا قِيمَتُهُ. وَلَا يَحِلُّ لِمُحْرِمٍ أَكْلُ بَيْضِ الصَّيْدِ إذَا كَسَرَهُ هُوَ أَوْ مُحْرِمٌ سِوَاهُ، وَإِنْ كَسَرَهُ حَلَالٌ فَهُوَ كَلَحْمِ الصَّيْدِ، إنْ كَانَ أَخَذَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ لَمْ يُبَحْ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِلَّا أُبِيحَ. وَإِنْ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى كَسْرِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ أَهْلِيَّةٌ، بَلْ لَوْ كَسَرَهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ وَثَنِيٌّ، أَوْ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ، لَمْ يَحْرُمْ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ اللَّحْمِ وَطَبْخَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَى الْحَلَالِ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ كَسْرَهُ جَرَى مَجْرَى الذَّبْحِ، بِدَلِيلِ حِلِّهِ لِلْمُحْرِمِ بِكَسْرِ الْحَلَالِ لَهُ. وَإِنْ نَقَلَ بَيْضَ صَيْدٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ آخَرَ، أَوْ تَرَكَ مَعَ بَيْضِ الصَّيْدِ بَيْضًا آخَرَ، أَوْ شَيْئًا نَفَّرَهُ عَنْ بَيْضِهِ حَتَّى فَسَدَ، فَعَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِهِ، وَإِنْ صَحَّ وَفَرَّخَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ بَاضَ الصَّيْدُ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَقَلَهُ بِرِفْقٍ فَفَسَدَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ إذَا انْفَرَشَ فِي طَرِيقِهِ، وَحُكْمُ بِيضِ الْجَرَادِ. وَإِنْ احْتَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ، فَفِيهِ قِيمَةٌ، كَمَا لَوْ حَلَبَ لَبَنَ حَيَوَانٍ مَغْصُوبٍ. [فَصْل إذَا نَتَفَ مُحْرِمٌ رِيشَ طَائِرٍ] (2678) فَصْلٌ: إذَا نَتَفَ مُحْرِمٌ رِيشَ طَائِرٍ، فَفِيهِ مَا نَقَصَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَوْجَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ الْجَزَاءَ جَمِيعَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ نَقَصَهُ نَقْصًا يُمْكِنُ زَوَالُهُ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ بِكَمَالِهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ. فَإِنْ حَفِظَهُ، فَأَطْعَمَهُ، وَسَقَاهُ، حَتَّى عَادَ رِيشُهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ زَالَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْدَمَلَ الْجُرْحُ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الرِّيشِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ صَارَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ، وَانْدَمَلَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ، كَالْجَرْحِ. فَإِنْ غَابَ غَيْرَ مُنْدَمِلٍ، فَفِيهِ مَا نَقَصَ، كَالْجَرْحِ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ثَمَّ احْتِمَالًا. فَهَاهُنَا مِثْلُهُ. [مَسْأَلَة إنْ كَانَ صَّيْد الحرم طَائِرًا] (2679) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ تَكُونَ نَعَامَةً، فَيَكُونَ فِيهَا بَدَنَةٌ، أَوْ حَمَامَةً، وَمَا أَشْبَهَهَا، فَيَكُونَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَاةٌ) هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: " وَإِنْ كَانَ طَائِرًا فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ ". وَاسْتَثْنَى النَّعَامَةَ مِنْ الطَّائِرِ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ جَنَاحَيْنِ وَتَبِيضُ، فَهِيَ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ. أَوْجَبَ فِيهَا بَدَنَةً؛ لِأَنَّ عُمَرَ، وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَزِيدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، حَكَمُوا فِيهَا بِبَدَنَةِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّ فِيهَا قِيمَتَهَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. وَاتِّبَاعُ النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالْآثَارِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّعَامَةَ تُشْبِهُ الْبَعِيرَ فِي خِلْقَتِهِ، فَكَانَ مِثْلًا لَهَا، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ. وَفِي الْحَمَامِ شَاةٌ. حَكَمَ بِهِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، فِي حَمَامِ الْحَرَمِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَقَتَادَةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: فِيهِ قِيمَتُهُ. إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَافَقَ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ لِحُكْمِ الصَّحَابَةِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. قُلْنَا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَمَامِ حَالَ الْإِحْرَامِ كَمَذْهَبِنَا، وَلِأَنَّهَا حَمَامَةٌ مَضْمُونَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَضُمِنَتْ بِشَاةٍ، كَحَمَامَةِ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ الشَّاةُ مِثْلًا لَهَا فِي الْحَرَمِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحِلِّ، فَيَجِبُ ضَمَانُهَا بِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَقِيَاسُ الْحَمَامِ عَلَى الْحَمَامِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَمَا أَشْبَهَهَا ". يَعْنِي مَا يُشْبِهُ الْحَمَامَةَ، فِي أَنَّهُ يَعُبُّ الْمَاءَ، أَيْ يَضَعُ مِنْقَارَهُ فِيهِ، فَيَكْرَعُ كَمَا تَكْرَعُ الشَّاةُ، وَلَا يَأْخُذُ قَطْرَةً قَطْرَةً، كَالدَّجَاجِ، وَالْعَصَافِيرِ. وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا فِيهِ شَاةً لِشَبَهِهِ بِهَا فِي كَرْعِ الْمَاءِ مِثْلَهَا، وَلَا يَشْرَبُ مِثْلَ شُرْبِ بَقِيَّةِ الطُّيُورِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ وشندي: كُلُّ طَيْرٍ يَعُبُّ الْمَاءَ، يَشْرَبُ مِثْلَ الْحَمَامِ، فَفِيهِ شَاةٌ. فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْفَوَاخِتُ، وَالْوَرَاشِينُ، والسقايين وَالْقَمَرِيّ، وَالدُّبْسِيّ، وَالْقَطَّا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ حَمَامًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُطَوَّقٍ حَمَامٌ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، الْحَجَلُ حَمَامٌ؛ لِأَنَّهُ مُطَوَّقٌ. (2680) فَصْلٌ: وَمَا كَانَ أَكْبَرَ مِنْ الْحَمَامِ، كَالْحُبَارَى، وَالْكُرْكِيِّ، وَالْكَرَوَانُ، وَالْحَجَلِ وَالْإِوَزِّ الْكَبِيرِ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، فِيهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَعَطَاءٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: فِي الْحَجَلَةِ وَالْقَطَاةِ وَالْحُبَارَى شَاةٌ شَاةٌ. وَزَادَ عَطَاءٌ: فِي الْكُرْكِيِّ والكروان وَابْنِ الْمَاءِ وَدَجَاجِ الْحَبَشِ وَالْحَرْب، شَاةٌ شَاةٌ. وَالْحَرْبُ: هُوَ فَرْخُ الْحُبَارَى. لِأَنَّ إيجَابَ الشَّاةِ فِي الْحَمَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيجَابِهَا فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، فِيهِ قِيمَتُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا فِي جَمِيعِ الطَّيْرِ، تَرَكْنَاهُ فِي الْحَمَامِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَفِي غَيْرِهِ يُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ. [مَسْأَلَة قَاتِلَ صَيْدِ الحرم مُخَيَّرٌ فِي الْجَزَاءِ] (2681) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ فَدَاهُ بِالنَّظِيرِ، أَوْ قَوَّمَ النَّظِيرَ بِدَرَاهِمَ، وَنَظَرَ كَمْ يَجِيءُ بِهِ طَعَامًا، فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ (2682) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، إنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ فِي الْجَزَاءِ بِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بِأَيِّهَا شَاءَ كَفَّرَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَجِبُ الْمِثْلُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَهَذَا أَوْكَدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ لَا إطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ لِيَعْدِلَ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِطْعَامِ قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي عِيَاضٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . " وَأَوْ " فِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَوْ أَوْ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ. وَأَمَّا مَا كَانَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَهُوَ الْأَوَّلُ الْأَوَّلُ. وَلِأَنَّ عَطْفَ هَذِهِ الْخِصَالِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِأَوْ، فَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَتِهَا كَفِدْيَةِ الْأَدَاءِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الطَّعَامَ كَفَّارَةً، وَلَا يَكُونُ كَفَّارَةً مَا لَمْ يَجِبْ إخْرَاجُهُ، وَجَعْلُهُ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ، وَأَلَّا يَجُوزَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ لَا يَكُونُ طَعَامًا لَهُمْ، وَعَطَفَ الطَّعَامَ عَلَى الْهَدْيِ، ثُمَّ عَطَفَ الصِّيَامَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهِ. وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ ذُكِرَ فِيهَا الطَّعَامُ، فَكَانَ مِنْ خِصَالِهَا، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ. يَبْطُلُ بِفِدْيَةِ الْأَذَى. عَلَى أَنَّ لَفْظَ النَّصِّ صَرِيحٌ فِي التَّخْيِيرِ، فَلَيْسَ تَرْكُ مَدْلُولِهِ قِيَاسًا عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فِي التَّخْيِيرِ عَلَى هَذَا، لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَرْكِ النَّصِّ، كَذَا هَاهُنَا. (2683) الْفَصْلُ الثَّانِي إذَا اخْتَارَ الْمِثْلَ، ذَبَحَهُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ حَيًّا عَلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ هَدْيًا، وَالْهَدْيُ يَجِبُ ذَبْحُهُ، وَلَهُ ذَبْحُهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَيَّامِ النَّحْرِ (2684) . الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ مَتَى اخْتَارَ الْإِطْعَامَ، فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ بِدَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ بِطَعَامٍ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقَوِّمُ الصَّيْدَ لَا الْمِثْلَ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إذَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْإِتْلَافِ، قُوِّمَ الْمُتْلَفُ، كَاَلَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ مَا تَلِفَ وَجَبَ فِيهِ الْمِثْلُ إذَا قُوِّمَ لَزِمَتْ قِيمَةُ مِثْلِهِ، كَالْمِثْلِيِّ مِنْ مَالِ الْآدَمِيِّ، وَيَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْمِثْلِ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ إحْرَامَهُ، وَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ الْقِيمَةُ مِنْهَا، وَالطَّعَامُ الْمُخْرَجُ هُوَ الَّذِي يُخْرَجُ فِي الْفِطْرَةِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ كُلُّ مَا يُسَمَّى طَعَامًا؛ لِدُخُولِهِ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَيُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ الْبُرِّ، كَمَا يَدْفَعُ إلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَصْنَافِ فَنِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ فِي إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي الْفِدْيَةِ، وَجَزَاءِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: إنْ أَطْعَمَ بُرًّا، فَمُدُّ طَعَامٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَإِنْ أَطْعَمَ تَمْرًا فَنِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَأَطْلَقَ الْخِرَقِيِّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِي مَوْضِعٍ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي طُعْمَةِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ، فَيُرَدُّ إلَى نَظَائِرِهِ. وَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجٌ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ قِيمَة الْهَدْيِ الْوَاجِبِ لَهُمْ فَيَكُونُ أَيْضًا لَهُمْ، كَقِيمَةِ الْمِثْلِيِّ مِنْ مَالِ الْآدَمِيِّ (2685) الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الصِّيَامِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةِ دَخَلَهَا الصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ، فَكَانَ الْيَوْمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيل، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةٌ، وَاحِدَةٌ، وَالْيَوْمُ عَنْ مُدِّ بُرٍّ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ مُقَابَلٌ بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ مُدُّ بُرٍّ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْيَوْمَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي مُقَابَلَةِ إطْعَامِ الْمِسْكِينِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ مِنْ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْأَذَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ جَزَاءٌ عَنْ مُتْلَفٍ فَاخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِهِ، كَبَدَلِ مَالِ الْآدَمِيِّ، وَإِذَا بَقِيَ مَا لَا يَعْدِلُ كَدُونِ الْمُدِّ، صَامَ يَوْمًا كَامِلًا. كَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَيَجِبُ تَكْمِيلُهُ. وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي الصِّيَامِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالتَّتَابُعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ عَنْ بَعْضِ الْجَزَاءِ، وَيُطْعِمَ عَنْ بَعْضٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الْإِطْعَامِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَا يُؤَدِّي بَعْضَهَا بِالْإِطْعَامِ وَبَعْضَهَا بِالصِّيَامِ، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. [فَصْل مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ صَيْدِ الحرم يُخَيَّرُ قَاتِلُهُ] (2686) فَصْلٌ: وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الصَّيْدِ، يُخَيَّرُ قَاتِلُهُ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا، فَيُطْعِمَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ. وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، وَلَمْ يُصِبْ لَهُ عَدْلًا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ؛ قَوَّمَ طَعَامًا إنْ قَدَرَ عَلَى طَعَامٍ، وَإِلَّا صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. هَكَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِأَنَّهُ جَزَاءُ صَيْدٍ، فَلَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِيهِ، كَاَلَّذِي لَهُ مِثْلٌ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَيْسَ بِهَا الْقِيمَةُ، وَإِذَا عَدِمَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، فَأَمَّا إيجَابُ شَيْءٍ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ فَلَا. الثَّانِي، يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِكَعْبٍ: مَا جَعَلْت عَلَى نَفْسِك؟ قَالَ: دِرْهَمَيْنِ. قَالَ: اجْعَلْ مَا جَعَلْت عَلَى نَفْسِك. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي الْعُصْفُورِ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَظَاهِرُهُ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ الْوَاجِبَةِ. [مَسْأَلَة كُلَّمَا قَتَلَ الْمُحْرِم صَيْدًا حُكِمَ عَلَيْهِ] (2687) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكُلَّمَا قَتَلَ صَيْدًا حُكِمَ عَلَيْهِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاء بِقَتْلِ الصَّيْدِ الثَّانِي، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ ابْتِدَاءً. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ صَيْدٍ جَزَاءٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَبِهِ قَالَ، الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] . وَلَمْ يُوجِبْ جَزَاءً. وَالثَّالِثَةُ، إنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ فِي الْإِحْرَامِ، فَيَدْخُلُ جَزَاؤُهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ. وَلَنَا، أَنَّهَا كَفَّارَةٌ عَنْ قَتْلٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ، كَقَتْلِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ يَجِبُ بِهِ الْمِثْلُ أَوْ الْقِيمَةُ، فَأَشْبَهَ بَدَلَ مَالِ الْآدَمِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الْخَطَأِ، وَفِي مَنْ قَتَلَ، وَلَمْ يَسْأَلُوهُ: هَلْ كَانَ قَتَلَ قَبْلَ هَذَا أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا هَذَا يَعْنِي لِتَخْصِيصِ الْإِحْرَامِ وَمَكَانِهِ، وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ بِعُمُومِهَا. وَذِكْرُ الْعُقُوبَةِ فِي الثَّانِي لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَائِدَ لَوْ انْتَهَى كَانَ لَهُ مَا سَلَفَ، وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ جَزَاءَهُ مُقَدَّرٌ بِهِ، وَيَخْتَلِفُ بِصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، وَلَوْ أَتْلَفَ صَيْدَيْنِ مَعًا وَجَبَ جَزَاؤُهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا تَفَرَّقَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ. [فَصْل إخْرَاجُ جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ جَرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ] (2688) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ إخْرَاجُ جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ جَرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ، فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْمَوْتِ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ، فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ. [مَسْأَلَة اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمِينَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ] (2689) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ) يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، أَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةُ قَتْلٍ يَدْخُلُهَا الصَّوْمُ، أَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ قَتْلِ الْآدَمِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 وَالثَّالِثَةُ، إنْ كَانَ صَوْمًا صَامَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوْمًا تَامًّا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَدْيٌ وَالْآخَرُ صَوْمٌ، فَعَلَى الْمُهْدِي بِحِصَّتِهِ، وَعَلَى الْآخَرِ صَوْمٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالصَّوْمُ كَفَّارَةٌ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالْجَمَاعَةُ قَدْ قَتَلُوا صَيْدًا، فَيَلْزَمُهُمْ مِثْلُهُ، وَالزَّائِدُ خَارِجٌ عَنْ الْمِثْلِ، فَلَا يَجِبُ، وَمَتَى ثَبَتَ اتِّخَاذُ الْجَزَاءِ فِي الْهَدْيِ، وَجَبَ اتِّخَاذُهُ فِي الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . وَالِاتِّفَاقُ حَاصِلٌ أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِالْقِيمَةِ، إمَّا قِيمَةُ الْمُتْلَفِ، وَإِمَّا قِيمَةُ مِثْلِهِ، فَإِيجَابُ الزَّائِدِ عَلَى عَدْلِ الْقِيمَةِ خِلَافُ النَّصِّ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَمَّنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا كَمَذْهَبِنَا، وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَنْ مَقْتُولٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ، فَكَانَ وَاحِدًا، كَالدِّيَةِ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا، أَوْ بَدَلَ الْمَحِلِّ، فَاتَّحَدَتْ بِاتِّحَادِهِ الدِّيَةُ، وَكَفَّارَةُ الْآدَمِيِّ لَنَا فِيهَا مَنْعٌ، وَلَا يَتَبَعَّضُ فِي أَبْعَاضِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ، فَلَا يَتَبَعَّضُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. (2690) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ شَرِيكُ الْمُحْرِمِ حَلَالًا أَوْ سَبْعًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْحَرَامِ. ثُمَّ إنْ كَانَ جَرْحُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَالسَّابِقُ الْحَلَالُ أَوْ السَّبْعُ، فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ مَجْرُوحًا، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ الْمُحْرِمُ، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ جَرْحِهِ، عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ جَرْحُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، عَلَى الْمُحْرِمِ بِقِسْطِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكُهُ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَ الْبَعْضَ. وَالثَّانِي، عَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى شَرِيكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَالًّا وَالْآخَرُ مَدْلُولًا، أَوْ أَحَدُهُمَا مُمْسِكًا وَالْآخَرُ قَاتِلًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَيَّهُمَا كَانَ، لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى الْآخَرِ. (2691) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَكَ حَرَامٌ وَحَلَالٌ فِي صَيْدٍ حَرَمِيٍّ، فَالْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يُنْسَبُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَلَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِاجْتِمَاعِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، وَهَذَا الِاشْتِرَاكُ الَّذِي هَذَا حُكْمُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْفِعْلُ مِنْهُمَا مَعًا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَا مَضَى. [فَصْل أَحْرَمَ الرَّجُلُ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ] (2692) فَصْلٌ: إذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ، وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَا يَدُهُ الْحُكْمِيَّةُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 فِي بَلَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ نَائِبٍ لَهُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ. وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَمَنْ غَصَبَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَيَلْزَمُهُ إزَالَةُ يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ عَنْهُ. وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ فِي قَبْضَتِهِ، أَوْ رَحْلِهِ، أَوْ خَيْمَتِهِ، أَوْ قَفَصٍ مَعَهُ، أَوْ مَرْبُوطًا بِحَبْلٍ مَعَهُ، لَزِمَهُ إرْسَالُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ ضَامِنٌ لِمَا فِي بَيْتِهِ أَيْضًا. وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُ مَا فِي يَدِهِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ الْحُكْمِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ ابْتِدَاءِ الصَّيْدِ الْمَنْعُ مِنْ اسْتَدَامَتْهُ؛ بِدَلِيلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إزَالَةُ يَدِهِ الْحُكْمِيَّةِ، أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي الصَّيْدِ فِعْلًا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَعَكْسُ هَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّهُ فَعَلَ الْإِمْسَاكَ فِي الصَّيْدِ، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِمْسَاكِ إمْسَاكٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُمْسِكُ شَيْئًا فَاسْتَدَامَ إمْسَاكَهُ، حَنِثَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى أَرْسَلَهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهُ رَدَّهُ إذَا حَلَّ، وَمَنْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ عَلَيْهِ، وَإِزَالَةُ الْأَثَرِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، بِدَلِيلِ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ إرْسَالِهِ بَعْدَ إمْكَانِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَّةِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَمَالِ الْآدَمِيِّ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ إمْكَانِ الْإِرْسَالِ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُفْرِطٍ وَلَا مُتَعَدٍّ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ، وَلِأَنَّ الْيَدَ قَدْ زَالَ حُكْمُهَا وَحُرْمَتُهَا، فَإِنْ أَمْسَكَهُ حَتَّى حَلَّ، فَمِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ بِالْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا زَالَ حُكْمُ الْمُشَاهَدَةِ، فَصَارَ كَالْعَصِيرِ يَتَخَمَّرُ ثُمَّ يَتَخَلَّلُ قَبْلَ إرَاقَتِهِ. [فَصْلٌ لَا يَمْلِكُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ] فَصْلٌ: وَلَا يَمْلِكُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ابْتِدَاءً بِالْبَيْعِ، وَلَا بِالْهِبَةِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ «أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . فَإِنْ أَخَذَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ تَلِفَ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَإِنْ كَانَ مَبِيعًا، فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ أَوْ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ. فَإِنْ أَرْسَلَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ أَيْضًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ إرْسَالُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إثْبَاتُ يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى الصَّيْدِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا يَسْتَرِدُّ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ الَّذِي بَاعَهُ وَهُوَ حَلَالٌ مُخْتَارٌ وَلَا عَيْبَ فِي ثَمَنِهِ، وَلَا غَيْرَهُمَا؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ مِلْكٍ عَلَى الصَّيْدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِعَيْبِ أَوْ خِيَارٍ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرَّدِّ مُتَحَقِّقٌ، ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُحْرِمِ، وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. [فَصْلٌ وَرِثَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا] (2694) فَصْلٌ: وَإِنْ وَرِثَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَلَكَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ لَيْسَ بِفِعْلِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 حُكْمًا، اخْتَارَ ذَلِكَ أَوْ كَرِهَهُ؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ، فَجَرَى مَجْرَى الِاسْتِدَامَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَاتِ التَّمَلُّكِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَّ مَلَكَهُ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ] (2695) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَذَبَحَ، إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَحَجَّ مِنْ قَابِلٍ، وَأَتَى بِدَمٍ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ (2696) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْوُقُوفِ آخِرُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، فَمَنْ [لَمْ] يُدْرِكْ الْوُقُوفَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمئِذٍ فَاتَهُ الْحَجُّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ جَابِرٌ: لَا يَفُوتُ الْحَجُّ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ. قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، فَقُلْت لَهُ: أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» يَدُلُّ عَلَى فَوَاتِهِ بِخُرُوجِ لَيْلَةِ جَمْعٍ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَضَعَّفَهُ. (2697) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلَّاقٍ. هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ، يَمْضِي فِي حَجٍّ فَاسِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: يَلْزَمُهُ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ مَا فَاتَ وَقْتُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ مَا لَمْ يَفُتْ. وَلَنَا، قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ "، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ: اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْت، فَإِنْ أَدْرَكْت الْحَجَّ قَابِلًا فَحُجَّ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حَجَّ مِنْ الشَّامِ، فَقَدِمَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: حَسِبْت أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ، قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى الْبَيْتِ، فَطُفْ بِهِ سَبْعًا، وَإِنْ كَانَ مَعَك هَدِيَّةٌ فَانْحَرْهَا، ثُمَّ إذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَاحْجُجْ، فَإِنْ وَجَدْت سَعَةً فَأَهْدِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْت إنْ شَاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، وَلْيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ ". وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتٍ، فَمَعَ الْفَوَاتِ أَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ إحْرَامَهُ بِعُمْرَةٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يَصِيرُ إحْرَامُهُ بِعُمْرَةِ، بَلْ يَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، فَلَمْ يَنْقَلِبْ إلَى الْآخَرِ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ: يَجْعَلُ إحْرَامَهُ عُمْرَةً. أَرَادَ بِهِ يَفْعَلُ مَا فَعَلَ الْمُعْتَمِرُ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ خِلَافٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ إحْرَامُ الْحَجِّ إحْرَامًا بِعُمْرَةِ، بِحَيْثُ يُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ إنْ لَمْ يَكُنْ اعْتَمَرَ، وَلَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا لَصَارَ قَارِنًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَجُّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، فَيَصِيرَ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، وَلِأَنَّ قَلْبَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي فَسْخِ الْحَجِّ، فَمَعَ الْحَاجَةِ أَوْلَى، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا قَلْبُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَفُوتُ وَقْتُهَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى انْقِلَابِ إحْرَامِهَا، بِخِلَافِ الْحَجِّ. (2698) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْفَائِتُ وَاجِبًا، أَوْ تَطَوُّعًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، بَلْ إنْ كَانَتْ فَرْضًا فَعَلَهَا بِالْوُجُوبِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْلًا سَقَطَتْ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، قَالَ: " بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً ". وَلَوْ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ، كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَلِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِ إتْمَامِ حَجِّهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ كَالْمُحْصَرِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةُ تَطَوُّعٍ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا، كَسَائِرِ التَّطَوُّعَات. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَيَصِيرُ كَالْمَنْذُورِ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّطَوُّعَات. وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَإِنَّهُ أَرَادَ الْوَاجِبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ حَجَّةً وَاحِدَةً وَهَذِهِ إنَّمَا تَجِبُ بِإِيجَابِهِ لَهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا، فَهِيَ كَالْمَنْذُورَةِ، وَأَمَّا الْمُحْصَرُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى التَّفْرِيطِ، بِخِلَافِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَإِذَا قَضَى أَجْزَأَهُ الْقَضَاءُ عَنْ الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ الْمَقْضِيَّةَ لَوْ تَمَّتْ لَأَجْزَأَتْ عَنْ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 (2699) الْفَصْلُ الرَّابِعُ، أَنَّ الْهَدْيَ يَلْزَمُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْفُقَهَاءِ، إلَّا أَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَا هَدْيَ عَلَيْهِ. وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَوَاتُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْهَدْيِ، لَلَزِمَ الْمُحْرِمَ هَدْيَانِ؛ لِلْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ. وَلَنَا، حَدِيثُ عَطَاءٍ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ، فَلَزِمَهُ هَدْيٌ، كَالْمُحْرِمِ، لَمْ يَفُتْ حَجُّهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَبْلَ فَوَاتِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الْهَدْيَ فِي سَنَةِ الْقَضَاءِ، إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَإِلَّا أَخْرَجَهُ فِي عَامِهِ. وَإِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ قَدْ سَاقَهُ نَحَرَهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ، إنَّ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، بَلْ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ هَدْيٌ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْهَدْيُ مَا اسْتَيْسَرَ، مِثْلُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ. أَيْضًا. وَالْمُتَمَتِّعُ، وَالْمُفْرِدُ، وَالْقَارِنُ، وَالْمَكِّيُّ وَغَيْرُهُ، سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ. [فَصْلٌ اخْتَارَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ الْبَقَاءَ عَلَى إحْرَامِهِ لِيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ] (2700) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَارَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ الْبَقَاءَ عَلَى إحْرَامِهِ لِيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ، فَلَهُ ذَلِكَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ تَطَاوُلَ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَفِعْلِ النُّسُكِ لَا يَمْنَعُ إتْمَامَهُ، كَالْعُمْرَةِ، وَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ يَصِيرُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ فَصَارَ كَالْمُحْرِمِ بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا. [فَصْلٌ إذَا فَاتَ الْقَارِنَ الْحَجُّ] (2701) فَصْلٌ: وَإِذَا فَاتَ الْقَارِنَ الْحَجُّ، حَلَّ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا أَهَلَّ بِهِ مِنْ قَابِلٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ مَا فَعَلَ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالثَّوْرِيُّ: يَطُوفُ وَيَسْعَى لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى لِحَجِّهِ. إلَّا أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ: وَيُهْرِقُ دَمًا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنْ يَجِبَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، فِي صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُ؛ هَدْيَانِ؛ هَدْيٌ لِلْقِرَانِ، وَهَدْيُ فَوَاتِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ هَدْيٌ ثَالِثٌ لِلْقَضَاءِ. وَلَيْسَ بِشَيْءِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ لَهُ هَدْيٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْهَدْيُ الَّذِي فِي سَنَةِ الْقَضَاءِ لِلْفَوَاتِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ الصَّحَابَةُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَدْيٍ وَاحِدٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ الْعَدَدَ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ] (2702) فَصْلٌ إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ الْعَدَدَ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ، أَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ. بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي يُعَرِّفُ فِيهِ النَّاسُ. فَإِنْ اخْتَلَفُوا، فَأَصَابَ بَعْضٌ، وَأَخْطَأَ بَعْضٌ وَقْتَ الْوُقُوفِ، لَمْ يُجْزِئْهُمْ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ فِي هَذَا» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ. [مَسْأَلَةٌ الْعَبْدُ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيٌ] (2703) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ يَوْمًا، ثُمَّ يُقَصِّرُ وَيَحِلُّ) يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْهَدْيِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالْمُعْسِرِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُهْدِيَ، وَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا الصِّيَامُ وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ فِي الصَّيْدِ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا كُلُّ دَمٍ لَزِمَهُ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُجْزِئُهُ عَنْهُ إلَّا الصِّيَامُ. وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ: إنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا، وَأَذِنَ لَهُ فِي ذَبْحِهِ خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. إنْ قُلْنَا: إنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. لَزِمَهُ أَنْ يُهْدِيَ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْهَدْيِ، مَالِكٌ لَهُ، فَلَزِمَهُ كَالْحُرِّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ. لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْمِلْكِ، فَصَارَ كَالْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ الصِّيَامِ. وَإِذَا صَامَ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ يَوْمًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّيْدِ، وَمَتَى بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَيَجِبُ تَكْمِيلُهُ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ الصَّوْمِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، كَصَوْمِ الْمُتْعَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ: فَإِنْ وَجَدْت سَعَةً فَأَهْدِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ سَعَةً، فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْت، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ، وَاحْتَجَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَجَبَ لِحِلِّهِ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ، فَكَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَصَوْمِ الْمُحْرِمِ. وَالْمُعْسِرُ فِي الصَّوْمِ كَالْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ: إنْ وَجَدْت سَعَةً فَأَهْدِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَصُمْ. وَيُعْتَبَرُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ فِي زَمَنِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ فِي سَنَةِ الْقَضَاءِ إنَّ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ، أَوْ فِي سَنَةِ الْفَوَاتِ إنَّ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " ثُمَّ يُقَصِّرُ وَيَحِلُّ ". يُرِيدُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحْلِقُ هَاهُنَا، وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ إزَالَةُ الشَّعْرِ الَّذِي يَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ وَمَالِيَّتِهِ، وَهُوَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ إزَالَتُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إزَالَتُهُ. كَغَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْحَلْقِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّهِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ الْوَاجِبِ أَوْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ] (2704) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ لِوَاجِبِ، لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَوْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتُهُ، أَوْ الْمَنْذُورُ مِنْهُمَا، فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْ الْمُضِيِّ فِيهَا، وَلَا تَحْلِيلُهَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَالنَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَهُ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَهُ مَنْعُهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي هَذَا الْعَامِ. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْحَجَّ الْوَاجِبَ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَيَصِيرُ كَالصَّلَاةِ إذَا أَحْرَمْت بِهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَقَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا شَرَعْت فِيهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الدَّوَامِ، فَلَوْ مَلَكَ مَنْعَهَا فِي هَذَا الْعَامِ لَمَلَكَهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيُفْضِي إلَى إسْقَاطِ أَحَدِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَمِرُّ. فَأَمَّا إنْ أَحْرَمْت بِتَطَوُّعِ، فَلَهُ تَحْلِيلُهَا وَمَنْعُهَا مِنْهُ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ تَحْلِيلَهَا، كَالْحَجِّ الْمَنْذُورِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي امْرَأَةٍ تَحْلِفُ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالْحَجِّ، وَلَهَا زَوْجٌ: لَهَا أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، مَا تَصْنَعُ، قَدْ اُبْتُلِيَتْ وَابْتُلِيَ زَوْجُهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَطَوُّعٌ يُفَوِّتُ حَقَّ غَيْرِهَا مِنْهَا، أَحْرَمَتْ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَمَلَكَ تَحْلِيلَهَا مِنْهُ، كَالْأَمَةِ تُحْرِمُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، وَالْمَدِينَةِ تُحْرِمُ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهَا عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُهُ إيفَاءَ دَيْنِهِ الْحَالِّ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ الْمُضِيَّ فِي الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَحَقُّ الْآدَمِيِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَضْيَقُ، لِشُحِّهِ وَحَاجَتِهِ، وَكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَغِنَاهُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ لَا يَتَنَاوَلُ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ فِي الصَّوْمِ، وَتَأْثِيرُ الصَّوْمِ فِي مَنْعِ حَقِّ الزَّوْجِ يَسِيرٌ، فَإِنَّهُ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. وَلَوْ حَلَفَتْ بِالْحَجِّ فَلَهُ مَنْعُهَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَالتَّكْفِيرِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ قَبْلَ إحْرَامِهَا بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الصَّوْمَ إذَا وَجَبَ صَارَ كَالْمَنْذُورِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالشُّرُوعُ هَاهُنَا عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَمْ تَكْمُلْ شُرُوطُهَا لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهَا وَالتَّلَبُّسِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا. وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهَا؛ لِأَنَّ مَا أَحْرَمَتْ بِهِ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، كَالْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ تَحْلِيلَهَا؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ وُجُوبِهَا، فَأَشْبَهَتْ حَجَّةَ الْأَمَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَقَدَتْ الْحُرِّيَّةَ أَوْ الْبُلُوغَ، مَلَكَ مَنْعَهَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ التَّطَوُّعِ. (2705) فَصْلٌ: وَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ الْمُضِيِّ إلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، إذَا كَمَّلَتْ شُرُوطَهُ، وَكَانَتْ مُسْتَطِيعَةً، وَلَهَا مَحْرَمٌ يَخْرُجُ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ شُرُوطُهُ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْمُضِيِّ إلَيْهِ وَالشُّرُوعِ فِيهِ، وَلِأَنَّهَا تُفَوِّتُ حَقَّهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَيْهَا، فَمَلَكَ مَنْعَهَا، كَمَنْعِهَا مِنْ صِيَامِ التَّطَوُّعِ. وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى حَجِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 التَّطَوُّع وَالْإِحْرَامِ بِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ. وَلِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ يُفَوِّتُ حَقَّ زَوْجِهَا، فَكَانَ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْهُ، كَالِاعْتِكَافِ. فَإِنْ أُذْنَ لَهَا فِيهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ تَتَلَبَّسْ بِإِحْرَامِهِ، فَإِنْ تَلَبَّسَتْ بِالْإِحْرَامِ، أَوْ أَذِنَ لَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَلَا تَحْلِيلُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَصَارَ كَالْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ. فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ إحْرَامِهَا، ثُمَّ أَحْرَمَتْ بِهِ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَأْذَنْ. وَإِذَا قُلْنَا: بِتَحْلِيلِهَا. فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ، يَلْزَمُهَا الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَامَتْ، ثُمَّ حَلَّتْ. [فَصْلٌ أَحْرَمَتْ بِوَاجِبِ فَحَلَفَ زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ] (2706) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِوَاجِبِ، فَحَلَفَ زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُبَاحٌ، فَلَيْسَ لَهَا تَرْكُ فَرَائِضِ اللَّهِ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ. وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: الطَّلَاقُ هَلَاكٌ، هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، أَنَّهُ أَفْتَى السَّائِلَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَطَاءٍ، فَرَوَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ذَهَبَ إلَى هَذَا لِأَنَّ ضَرَرَ الطَّلَاقِ عَظِيمٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا، وَمُفَارَقَةِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ ذَهَابِ مَالِهَا، وَهَلَاكِ سَائِرِ أَهْلِهَا، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ عَطَاءٌ هَلَاكًا. وَلَوْ مَنَعَهَا عَدُوٌّ مِنْ الْحَجِّ إلَّا أَنْ تَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهَا، كَانَ ذَلِكَ حَصْرًا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْوَالِدِ مَنْعُ وَلَدِهِ مِنْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ] (2707) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْوَالِدِ مَنْعُ وَلَدِهِ مِنْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَلَا تَحْلِيلُهُ مِنْ إحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ الْغَزْوِ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى. فَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالدُّخُولِ فِيهِ، فَصَارَ كَالْوَاجِبِ ابْتِدَاءً، أَوْ كَالْمَنْذُورِ. [مَسْأَلَةٌ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا، فَعَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ، صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهُ) الْوَاجِبُ مِنْ الْهَدْيِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا، وَجَبَ بِالنَّذْرِ فِي ذِمَّتِهِ. وَالثَّانِي، وَجَبَ بِغَيْرِهِ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ. وَجَمِيعُ ذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَسُوقَهُ يَنْوِي بِهِ الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِالْقَوْلِ، فَهَذَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَّا بِذَبْحِهِ، وَدَفْعِهِ إلَى أَهْلِهِ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ، وَهِبَةٍ، وَأَكْلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ غَيْرِهِ بِهِ، وَلَهُ نَمَاؤُهُ، وَإِنْ عَطِبَ تَلِفَ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ تَعَيَّبَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَبْحُهُ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا، فَإِنَّ وُجُوبَهُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَمَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، يَقْصِدُ دَفْعَهُ إلَيْهِ فَتَلِفَ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يُعَيِّنَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ، فَيَقُولَ: هَذَا الْوَاجِبُ عَلَيَّ. فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ الذِّمَّةُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ لَتَعَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَعَيَّنَهُ فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَطِبَ، أَوْ سُرِقَ، أَوْ ضَلَّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يُجْزِهِ، وَعَادَ الْوُجُوبُ إلَى ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَرَى بِهِ مِنْهُ مَكِيلًا، فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَعَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَبْرَأْ مِنْ الْوَاجِبِ بِتَعْيِينِهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِمَحَلٍّ آخَرَ، فَصَارَ كَالدِّينِ يَضْمَنُهُ ضَامِنٌ، أَوْ يَرْهَنُ بِهِ رَهْنًا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْحَقُّ بِالضَّامِنِ وَالرَّهْنِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، فَمَتَى تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الضَّامِنِ، أَوْ تَلِفَ الرَّهْنُ، بَقِيَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ بِحَالِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَإِنْ ذَبَحَهُ، فَسُرِقَ، أَوْ عَطِبَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا نَحَرَ فَلَمْ يُطْعِمْهُ حَتَّى سُرِقَ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا نَحَرَ فَقَدْ فَرَغَ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصِلْ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَذْبَحْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ فَرَّقَهُ. وَدَلِيلُ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ، أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّفْرِقَةُ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ، وَلِذَلِكَ «لَمَّا نَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَاتِ، قَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . وَإِذَا عَطِبَ هَذَا الْمُعَيَّنُ، أَوْ تَعَيَّبَ عَيْبًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، لَمْ يُجْزِهِ ذَبْحُهُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ هَدْيًا سَلِيمًا وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهُ، وَيَرْجِعُ هَذَا الْهَدْيُ إلَى مِلْكِهِ، فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ، مِنْ أَكْلٍ، أَوْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَغَيْرِهِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَنَحْوِهِ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْكُلُ، وَيُطْعِمُ مَنْ أَحَبَّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلَا يَبِيعُ مِنْهُ شَيْئًا. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ: إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا تَطَوُّعًا، فَعَطِبَ، فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَتَهُ، فَإِنْ أَكَلْت أَوْ أَمَرْت بِهِ عَرَّفْت، وَإِذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ كُلْهُ إنْ شِئْت، وَأَهْدِهِ إنْ شِئْت، وَبِعْهُ إنْ شِئْت، وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ. وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَذْبَحُ الْمَعِيبَ وَمَا فِي ذِمَّتِهِ جَمِيعًا، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعَيَّنَ إلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بِتَعْيِينِهِ، فَلَزِمَ ذَبْحُهُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ بِنَذْرِهِ ابْتِدَاءً. [فَصْلٌ ضَلَّ الْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ فَذَبَحَ غَيْرَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ] فَصْلٌ: وَإِنْ ضَلَّ الْمُعَيَّنُ، فَذَبَحَ غَيْرَهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، أَوْ عَيَّنَ غَيْرَ الضَّالِّ بَدَلًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّ، ذَبَحَهُمَا مَعًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسِ، وَفَعَلَتْهُ عَائِشَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِنَا فِيمَا إذَا تَعَيَّبَ الْهَدْيُ، فَأَبْدَلَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ. أَوْ يَرْجِعَ إلَى مِلْكِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ عَطِبَ الْمُعَيَّنُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَهْدَتْ هَدْيَيْنِ، فَأَضَلَّتْهُمَا، فَبَعَثَ إلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ هَدْيَيْنِ، فَنَحَرَتْهُمَا، ثُمَّ عَادَ الضَّالَّانِ، فَنَحَرَتْهُمَا، وَقَالَتْ: هَذِهِ سُنَّةُ الْهَدْيِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ بِهِمَا بِإِيجَابِهِمَا، أَوْ ذَبْحِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ الْآخَرِ. (2710) فَصْلٌ: وَإِنْ عَيَّنَ مَعِيبًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، لَمْ يُجْزِهِ، وَلَزِمَهُ ذَبْحُهُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، إذَا عَيَّنَهَا مَعِيبَةً لَزِمَهُ ذَبْحُهَا، وَلَمْ يُجْزِهِ. وَإِنْ عَيَّنَ صَحِيحًا فَهَلَكَ، أَوْ تَعَيَّبَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَمْ يَجِبْ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا لِأَصْلِ الْهَدْيِ، إذَا لَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ التَّعْيِينِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ، لَزِمَهُ مِثْلُ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا فَوَّتَهُ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَالْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ ابْتِدَاءً. [فَصْلٌ يَحْصُلُ الْإِيجَابُ بِقَوْلِهِ هَذَا هَدْيٌ أَوْ بِتَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ نَاوِيًا بِهِ الْهَدْيَ] (2711) فَصْلٌ: وَيَحْصُلُ الْإِيجَابُ بِقَوْلِهِ: هَذَا هَدْيٌ. أَوْ بِتَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ نَاوِيًا بِهِ الْهَدْيَ وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَلَا يَجِبُ بِالشِّرَاءِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَا بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ بِالشِّرَاءِ مَعَ النِّيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَلَمْ يَجِبْ بِالنِّيَّةِ، كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ. [فَصْلٌ غَصَبَ الْمُحْرِمُ شَاةً فَذَبَحَهَا عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ] (2712) فَصْلٌ: إذَا غَصَبَ شَاةً، فَذَبَحَهَا عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، لَمْ يُجْزِهِ، سَوَاءٌ رَضِيَ مَالِكُهَا أَوْ لَمْ يَرْضَ، أَوْ عَوَّضَهُ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُعَوِّضْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ إنَّ رَضِيَ مَالِكُهَا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يَصِرْ قُرْبَةً فِي أَثْنَائِهِ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ لِلْأَكْلِ ثُمَّ نَوَى بِهِ التَّقْرِيبَ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ نَوَاهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ تَطَوَّعَ بِهَدْيِ غَيْرِ وَاجِبٍ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ] (2713) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ سَاقَهُ تَطَوُّعًا، نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ، وَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَطَوَّعَ بِهَدْيِ غَيْرِ وَاجِبٍ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَنْوِيَهُ هَدْيًا، وَلَا يُوجِبُ بِلِسَانِهِ وَلَا بِإِشْعَارِهِ وَتَقْلِيدِهِ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إمْضَاؤُهُ، وَلَهُ أَوْلَادُهُ وَنَمَاؤُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ، مَا لَمْ يَذْبَحْهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الصَّدَقَةَ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 الثَّانِي، أَنْ يُوجِبَهُ بِلِسَانِهِ، فَيَقُولَ: هَذَا هَدْيٌ. أَوْ يُقَلِّدَهُ أَوْ يُشْعِرَهُ، يَنْوِي بِذَلِكَ إهْدَاءَهُ، فَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا، يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ، وَيَصِيرُ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ، يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إلَى مَحِلِّهِ، فَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ سَوْقٍ، أَوْ ضَلَّ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي الذِّمَّةِ، إنَّمَا تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِالْعَيْنِ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا، كَالْوَدِيعَةِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا، ثَمَّ ضَلَّتْ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ، فَإِنْ كَانَ نَذْرًا، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ» . وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: «مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا، ثَمَّ عَطِبَ فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَلْيُبْدِلْ» . فَأَمَّا إنْ أَتْلَفَهُ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ، كَالْوَدِيعَةِ. وَإِنْ خَافَ عَطَبَهُ، أَوْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ وَصُحْبَةِ الرِّفَاقِ، نَحَرَهُ مَوْضِعَهُ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يُبَحْ لَهُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا لَأَحَدٍ مِنْ صَحَابَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءً، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَضَعَ نَعْلَ الْهَدْيِ الْمُقَلَّدَ فِي عُنُقِهِ فِي دَمِهِ، ثُمَّ يَضْرِبَ بِهِ صَفْحَتَهُ، لِيُعَرِّفَهُ الْفُقَرَاءَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَدْيٌ، وَلَيْسَ بِمَيِّتَةٍ، فَيَأْخُذُوهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِهِ الَّذِي عَطِبَ، وَلَمْ يَقْضِ مَكَانَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُبَاحُ لِرُفْقَتِهِ، وَلِسَائِرِ النَّاسِ، غَيْرِ صَاحِبِهِ أَوْ سَائِقِهِ، وَلَا يَأْمُرُ أَحَدًا يَأْكُلُ مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَ، أَوْ أَمَرَ مِنْ أَكَلَ، أَوْ حَزَّ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهِ، ضَمِنَهُ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِذَلِكَ، بِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَاجِيَةَ بِنْتِ كَعْبٍ، صَاحِبِ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْهَدْيِ؟ قَالَ: انْحَرْهُ، ثُمَّ اغْمِسْ قَلَائِدَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ عُنُقِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» . قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: " وَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ". رُفْقَتِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ الْبُدْنَ، ثُمَّ يَقُولُ: إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَخَشِيتَ عَلَيْهَا، فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: «وَيُخَلِّيهَا وَالنَّاسَ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ» . وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ بَعَثَ بِثَمَانِي عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ، وَقَالَ: إنْ ازْدَحَفَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا فِي صَفْحَتِهَا، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ» . وَهَذَا صَحِيحٌ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَمَعْنًى خَاصٍّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ مَا خَالَفَهُ. وَلَا تَصِحُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ رُفْقَتِهِ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُشْفِقُ عَلَى رُفْقَتِهِ، وَيُحِبُّ التَّوْسِعَةُ عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مُؤْنَتِهِ. وَإِنَّمَا مُنِعَ السَّائِقُ وَرُفْقَتُهُ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهَا؛ لِئَلَّا يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا، فَيُعْطِبَهَا لِيَأْكُلَ هُوَ وَرُفْقَتُهُ مِنْهَا، فَتَلْحَقَهُ التُّهْمَةُ فِي عَطَبِهَا لِنَفْسِهِ وَرُفْقَتِهِ، فَحُرِمُوهَا لِذَلِكَ. فَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا، أَوْ بَاعَ أَوْ أَطْعَمَ غَنِيًّا، أَوْ رُفْقَتَهُ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ لَحْمًا. وَإِنْ أَتْلَفَهَا، أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، أَوْ خَافَ عَطَبَهَا، فَلَمْ يَنْحَرْهَا حَتَّى هَلَكَتْ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا بِمَا يُوصِلُهُ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إيصَالُ الضَّمَانِ إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْعَاطِبِ. وَإِنْ أَطْعَمَ مِنْهَا فَقِيرًا، أَوْ أَمَرَهُ بِالْأَكْلِ مِنْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَطْعَمَ فَقِيرًا بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، وَإِنْ تَعَيَّبَ ذَبْحُهُ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجْزِئُهُ، إلَّا أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بِهِ بَعْدَ إضْجَاعِهِ لِلذَّبْحِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَوْ عَطِبَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَالْعَيْبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَطَبَ يَذْهَبُ بِجَمِيعِهِ، وَالْعَيْبُ يَنْقُصُهُ. وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَدَثَ بَعْدَ إضْجَاعِهِ. وَإِنْ تَعَيَّبَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاعُ جَمِيعُهُ، وَيُشْتَرَى هَدْيٌ. وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُجْزِئٌ. [فَصْلٌ إبْدَالُ الْهَدْيِ بِخَيْرٍ مِنْهُ] فَصْلٌ: وَإِذْ أَوْجَبَ هَدْيًا فَلَهُ إبْدَالُهُ بِخَيْرِ مِنْهُ، وَبَيْعُهُ لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ خَيْرًا مِنْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا إبْدَالُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ، وَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، فَمُنِعَ الْبَيْعُ، كَالِاسْتِيلَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بِخَيْرِ مِنْهُ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ النُّذُورَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أُصُولِهَا فِي الْفَرْضِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ، يَجُوزُ فِيهَا الْإِبْدَالُ، كَذَلِكَ هَذَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالْهَلَاكِ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذَا زَالَتْ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمُدَبَّرَةِ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ مُدَبَّرًا. أَمَّا إبْدَالُهَا بِمِثْلِهَا أَوْ دُونِهَا، فَلَمْ يَجُزْ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ إذَا وَلَدَتْ الْهَدِيَّةُ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا] (2715) فَصْلٌ: إذَا وَلَدَتْ الْهَدِيَّةُ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا إنْ أَمْكَنَ سَوْقُهُ وَإِلَّا حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَسَقَاهُ مِنْ لَبَنِهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَوْقُهُ وَلَا حَمْلُهُ، صَنَعَ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِالْهَدْيِ إذَا عَطِبَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عَيَّنَهُ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا عَيَّنَهُ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الْمُعَيَّنِ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتْبَعَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ، فَلَا يَلْزَمُهُ اثْنَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ هَدْيٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ وَاجِبًا، كَالْمُعَيَّنِ ابْتِدَاءً. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَذْفٍ: أَتَى رَجُلٌ عَلِيًّا بِبَقَرَةٍ قَدْ أَوْلَدَهَا، فَقَالَ لَهُ: لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى ضَحَّيْت بِهَا وَوَلَدِهَا عَنْ سَبْعَةٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. وَإِنْ تَعَيَّنَتْ الْمُعَيَّنَةُ عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، وَقُلْنَا: يَذْبَحُهَا. ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ تَعْيِينُهَا، وَتَعُودُ إلَى مَالِكِهَا. احْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ التَّعْيِينُ فِي وَلَدِهَا تَبَعًا، كَنَمَائِهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَبْطُلَ، وَيَكُونَ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَبِعَهَا فِي الْوُجُوبِ حَالَ اتِّصَالِهِ بِهَا، وَلَمْ يَتْبَعْهَا فِي زَوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، كَوَلَدِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ إذَا وَلَدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَدَّهُ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ فِي وَلَدِهِ، وَالْمُدَبَّرَةُ إذَا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا، فَبَطَلَ تَدْبِيرُهَا، لَا يَبْطُلُ فِي وَلَدِهَا. [فَصْلٌ شُرْبُ لَبَنِ الْهَدْيِ] (2716) فَصْلٌ: وَلِلْمُهْدِي شُرْبُ لَبَنِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي الضَّرْعِ يَضُرُّ بِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَا وَلَدٍ، لَمْ يَشْرَبْ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنْ شَرِبَ مَا يَضُرُّ بِالْأُمِّ، أَوْ مَا لَا يَفْضُلُ عَنْ الْوَلَدِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِأَخْذِهِ. وَإِنْ كَانَ صُوفُهَا يَضُرُّ بِهَا بَقَاؤُهُ، جَزَّهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّبَنِ، أَنَّ الصُّوفَ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ إيجَابِهَا، فَكَانَ وَاجِبًا مَعَهَا، وَاللَّبَنَ مُتَجَدِّدٌ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَهُوَ كَنَفْعِهَا وَرُكُوبِهَا. (2717) فَصْلٌ وَلَهُ رُكُوبُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِهِ. قَالَ: أَحْمَدُ: لَا يَرْكَبُهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْت إلَيْهَا، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمَسَاكِينِ، فَلَمْ يَجُزْ رُكُوبُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، كَمِلْكِهِمْ. فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا بَدَنَةٌ. فَقَالَ: ارْكَبْهَا، وَيْلَك. فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لَا يَبْرَأُ مِنْ الْهَدْيِ إلَّا بِذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ] (2718) فَصْلٌ: وَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْهَدْيِ إلَّا بِذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ هَدْيَهُ. فَإِنْ نَحَرَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ وَكَّلَ مَنْ نَحَرَهُ، أَوْ نَحَرَهُ إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي وَقْتِهِ، أَجْزَأَ عَنْهُ. وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْفُقَرَاءِ سَلِيمًا فَنَحَرُوهُ، أَجْزَأَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِفِعْلِهِمْ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَرُوهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُمْ وَيَنْحَرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ بِتَفْرِيطِهِ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِمْ سَلِيمًا. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي أَنْ يَتَوَلَّى نَحْرَ الْهَدْيِ بِنَفْسِهِ] (2719) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي أَنْ يَتَوَلَّى نَحْرَ الْهَدْيِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ، وَرُوِيَ عَنْ غُرْفَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأُتِيَ بِالْبُدْنِ، فَقَالَ: اُدْعُ لِي أَبَا الْحَسَنِ. فَدُعِيَ لَهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: خُذْ بِأَسْفَلِ الْحَرْبَةِ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْلَاهَا، ثُمَّ طَعَنَا بِهَا الْبُدْنَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي بُدْنِهِ. وَقَالَ جَابِرٌ: «نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَّرَ» . وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ بِيَدِهِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْهَدَ ذَبْحَهَا؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ: اُحْضُرِي أُضْحِيَّتَكِ يُغْفَرْ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى تَفْرِيقَ اللَّحْمِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَقَلُّ لِلضَّرَرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَإِنْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ جَازَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ.» [فَصْلٌ يُبَاحُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَخْذُ مِنْ الْهَدْيِ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِمْ] (2720) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَخْذُ مِنْ الْهَدْيِ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِمْ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، الْإِذْنُ فِيهِ لَفْظًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . وَالثَّانِي، دَلَالَةٌ عَلَى الْإِذْنِ، كَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يُبَاحُ إلَّا بِاللَّفْظِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَائِقِ الْبُدْنِ: «اُصْبُغْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، وَاضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَشِبْهَهُ كَافٍ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُفِيدًا. [مَسْأَلَةٌ لَا يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ وَاجِبٍ إلَّا مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ] (2721) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ وَاجِبٍ إلَّا مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ) الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ تَرَكَ ذِكْرَ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتْعَةٌ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ سَبَبَهُمَا غَيْرُ مَحْظُورٍ، فَأَشْبَهَا هَدْيَ التَّطَوُّعِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ الْمَنْذُورِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ بَدَلٌ، وَالنَّذْرُ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَأْكُلُ أَيْضًا مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّهِ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ التَّطَوُّعَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَأْكُلُ مِنْ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ هَدْيٌ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الْأَكْلُ مِنْهُ، كَدَمِ الْكَفَّارَةِ. وَلَنَا، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعْنَ مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَدْخَلَتْ عَائِشَةُ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَصَارَتْ قَارِنَةً، ثُمَّ ذَبَحَ عَنْهُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَقَرَةَ، فَأَكَلْنَ مِنْ لُحُومِهَا. قَالَ أَحْمَدُ قَدْ أَكَلَ مِنْ الْبَقَرَةِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ خَاصَّةً. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، أَنْ يَحِلَّ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَزْوَاجِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَبَحَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً.» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَأَكَلَ هُوَ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُمَا دَمَا نُسُكٍ، فَأَشْبَهَا التَّطَوُّعَ، وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ، فَأَشْبَهَ جَزَاءَ الصَّيْدِ. (2722) فَصْلٌ: فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ بِالتَّعْيِينِ ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا نَحَرَهُ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِنْهَا) . وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ. وَلِأَنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ مِنْ بُدْنِهِ. وَقَالَ جَابِرٌ «كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا. فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا بَأْسَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَحَرَ الْبَدَنَاتِ الْخَمْسَ. قَالَ: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا. وَالْمُسْتَحَبُّ، أَنْ يَأْكُلَ الْيَسِيرَ مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ الْأَكْلُ كَثِيرًا وَالتَّزَوُّدُ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. وَتُجْزِئُهُ الصَّدَقَةُ بِالْيَسِيرِ مِنْهَا، كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ، فَإِنْ أَكَلَهَا ضَمِنَ الْمَشْرُوعَ لِلصَّدَقَةِ مِنْهَا، كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ. (2723) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ لَحْمًا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ حَيَوَانًا، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَى الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ. وَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا مِنْهَا، عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ، جَازَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا مَلَكَ أَكْلَهُ مَلَكَ هَدِيَّتَهُ. وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْهَا، أَوْ أَتْلَفَهُ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ عَطِيَّتَهُ لِلْجَازِرِ. وَإِنْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ شَيْئًا، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لَحْمًا لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 [فَصْلٌ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ بِغَيْرِ النَّذْرِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ] (2724) فَصْلٌ: وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ بِغَيْرِ النَّذْرِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَقِيسٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ. فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَأَرْبَعَةٌ، اثْنَانِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَالْوَاجِبُ فِيهِمَا مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَأَقَلُّهُ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ، أَحَدُهُمَا دَمُ الْمُتْعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] . وَالثَّانِي، دَمُ الْإِحْصَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وَهُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَيْضًا، إنْ لَمْ يَجِدْهُ انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَإِنَّمَا وَجَبَ تَرْتِيبُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ مُعَيَّنًا مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، فَاقْتَضَى تَعْيِينُهُ الْوُجُوبَ، وَأَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى دَمِ الْمُتْعَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصُومَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا بَدَلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ عَلَى نَظِيرِهِ. وَاثْنَانِ مُخَيَّرَانِ؛ أَحَدُهُمَا، فِدْيَةُ الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . الثَّانِي، جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فَيُقَاسُ عَلَى أَشْبَهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِهِ، فَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَجَبَ لِلتَّرَفُّهِ بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وَقَضَائِهِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ أَيْضًا دَمُ الْفَوَاتِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ دَمِ الْمُتْعَةِ. وَبَدَلُهُ مِثْلُ بَدَلِهِ، وَهُوَ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةً قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ الْفَوَاتَ إنَّمَا يَكُونُ بِفَوَاتِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، لِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ مَا اقْتَضَاهُ إحْرَامُهُ، فَصَارَ كَالتَّارِكِ لِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَلْحَقْتُمُوهُ بِهَدْيِ الْإِحْصَارِ، فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ، إذْ هُوَ حَلَالٌ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْهَدْيُ فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا الْبَدَلُ فَإِنَّ الْإِحْصَارَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْبَدَلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قِيَاسًا، فَقِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى فَرْعِهِ، عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ هَاهُنَا مِثْلُ الصِّيَامِ عَنْ دَمِ الْإِحْصَارِ، وَهُوَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ صِيَامَ الْإِحْصَارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حِلِّهِ، وَهَذَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَبْلَ حِلِّهِ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ أَيْضًا مُقَارِنٌ لِصَوْمِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ فِي الْمُتْعَةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ عَرَفَةَ. وَالْخِرَقِيُّ إنَّمَا جَعَلَ الصَّوْمَ عَنْ هَدْيِ الْفَوَاتِ مِثْلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 الصَّوْمِ عَنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا. وَيُقَاسُ عَلَيْهِ أَيْضًا كُلُّ دَمٍ وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ، كَدَمِ الْقِرَانِ، وَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالرَّمْيِ، وَالْمَبِيتِ لَيَالِي مِنًى بِهَا، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ. وَأَمَّا مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ بَدَنَةٌ؛ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ الْمُنْتَشِرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ، كَصِيَامِ الْمُتْعَةِ. كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. رَوَاهُ عَنْهُمْ الْأَثْرَمُ. وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الصَّحَابَةِ خِلَافُهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، فَيَكُونُ بَدَلُهُ مَقِيسًا عَلَى بَدَلِ دَمِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَتَكُونُ مُلْحَقَةً بِالْبَدَنَةِ الْوَاجِبَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَيُقَاسُ عَلَى فِدْيَةِ الْأَذَى مَا وَجَبَ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ، كَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَاللُّبْسِ، وَالطِّيبِ. وَكُلُّ اسْتِمْتَاعٍ مِنْ النِّسَاءِ يُوجِبُ شَاةً كَالْوَطْءِ فِي الْعُمْرَةِ أَوْ فِي الْحَجِّ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى فِدْيَةِ الْأَذَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيُلْحَقُ بِهِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِامْرَأَةٍ وَقَعَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ: عَلَيْك فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِدْيَةُ الْأَذَى تَجُوزُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ] (2725) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكُلُّ هَدْيٍ أَوْ إطْعَامٍ فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، إنْ قَدَرَ عَلَى إيصَالِهِ إلَيْهِمْ، إلَّا مَنْ أَصَابَهُ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ) أَمَّا فِدْيَةُ الْأَذَى، فَتَجُوزُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرَمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] . وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِالْفِدْيَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِبَعْثِهِ إلَى الْحَرَمِ» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُوزَجَانِيُّ، فِي " كِتَابَيْهِمَا " عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: كُنْت مَعَ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، حُجَّاجًا، فَاشْتَكَى حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ بِالسُّقْيَا، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى رَأْسِهِ، فَحَلَقَهُ عَلِيٌّ، وَنَحَرَ عَنْهُ جَزُورًا بِالسُّقْيَا. هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ. وَالْآيَةُ وَرَدَتْ فِي الْهَدْيِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِفِدْيَةِ الشَّعْرِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الدِّمَاءِ فَبِمَكَّةَ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ: هِيَ كَدَمِ الْحَلْقِ. وَفِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَفْدِي حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 وَالثَّانِيَةُ، مَحِلُّ الْجَمِيعِ الْحَرَمُ. وَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ بِمَكَّةَ، أَوْ كَانَ مِنْ الصَّيْدِ، فَكُلٌّ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وَمَا كَانَ مِنْ فِدْيَةِ الرَّأْسِ فَحَيْثُ حَلَقَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَفْدِي حَيْثُ قَتَلَهُ. وَهَذَا يُخَالِفُ نَصَّ الْكِتَابِ، وَنَصَّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَلْقِ الرَّأْسِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَمَا وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ أَوْ فَوَاتٍ، فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ هَدْيٌ وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ، فَأَشْبَهَ هَدْيَ الْقُرْآنِ. وَإِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُهُ، فَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْحَرَمِ، كَسَائِرِ الْهَدْيِ. [فَصْلٌ مَا وَجَبَ نَحْرُهُ بِالْحَرَمِ وَجَبَ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِهِ] (2726) فَصْلٌ: وَمَا وَجَبَ نَحْرُهُ بِالْحَرَمِ، وَجَبَ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا ذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ، جَازَ تَفْرِقَةُ لَحْمِهَا فِي الْحِلِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيْ النُّسُكِ، فَلَمْ يَجُزْ فِي الْحِلِّ، كَالذَّبْحِ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ ذَبْحِهِ بِالْحَرَمِ التَّوْسِعَةُ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِإِعْطَاءِ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، فَكَانَ جَمِيعُهُ مُخْتَصًّا بِهِ، كَالطَّوَافِ، وَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ. (2727) فَصْلٌ: وَالطَّعَامُ كَالْهَدْيِ، يَخْتَصُّ بِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ فِيمَا يَخْتَصُّ الْهَدْيُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ: مَا كَانَ مِنْ هَدْيٍ فَبِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ وَصِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَهَذَا يَقْتَضِيه مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْهَدْيُ وَالطَّعَامُ بِمَكَّةَ، وَالصَّوْمُ حَيْثُ شَاءَ. وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ فَاخْتَصَّ بِالْحَرَمِ، كَالْهَدْيِ. [فَصْلٌ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحَرَمِ] (2728) فَصْلٌ: وَمَسَاكِينُ أَهْلِ الْحَرَمِ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ وَارِدٍ إلَيْهِ مِنْ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ، فَبَانَ غَنِيًّا، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ كَالزَّكَاةِ. وَلِلشَّافِعِي فِيهِ قَوْلَانِ. وَمَا جَازَ تَفْرِيقُهُ بِغَيْرِ الْحَرَمِ، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ، فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَالْحَرْبِيِّ. [فَصْلٌ إذَا نَذَرَ هَدْيًا وَأَطْلَقَ] (2729) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ هَدْيًا وَأَطْلَقَ، فَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ فِي النَّذْرِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا، وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ النَّعَمِ، وَأَقَلُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُتْعَةِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . حُمِلَ عَلَى مَا قُلْنَا. فَإِنْ اخْتَارَ إخْرَاجَ بَدَنَةٍ كَامِلَةٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَهَلْ تَكُونُ كُلُّهَا وَاجِبَةً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا تَكُونُ وَاجِبَةً. اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْأَعْلَى لِأَدَاءِ فَرْضِهِ، فَكَانَ كُلُّهُ وَاجِبًا، كَمَا لَوْ اخْتَارَ الْأَعْلَى مِنْ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ. وَالثَّانِي، يَكُونُ سُبْعُهَا وَاجِبًا، وَالْبَاقِي تَطَوُّعًا، لَهُ أَكْلُهُ وَهَدِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى السُّبْعِ يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا بَدَلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاتَيْنِ. فَإِنْ عَيَّنَ الْهَدْيَ بِشَيْءٍ، لَزِمَهُ مَا عَيَّنَهُ، وَأَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ، مِمَّا يُنْقَلُ أَوْ مِمَّا لَا يُنْقَلُ؛ فَإِنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَاحَ يَعْنِي إلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً» . فَذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ فِي الْهَدْيِ. وَعَلَيْهِ إيصَالُهُ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ هَدْيًا، وَأَطْلَقَ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَحِلِّ الْهَدْيِ الْمَشْرُوعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] . فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، كَالْعَقَارِ، بَاعَهُ، وَبَعَثَ ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهِ. (2730) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا، وَأَطْلَقَ مَكَانَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ إيصَالُهُ إلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَبْحَهُ حَيْثُ شَاءَ، كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِشَاةٍ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] . وَلِأَنَّ النَّذْرَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا، وَالْمَعْهُودُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، كَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَشْبَاهِهِمَا، أَنَّ ذَبْحَهَا يَكُونُ فِي الْحَرَمِ، كَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ عَيَّنَ نَذْرَهُ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ الْحَرَمِ، لَزِمَهُ ذَبْحُهُ بِهِ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَإِطْلَاقُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ بِبُوَانَةَ. قَالَ: أَبِهَا صَنَمٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ نَذَرَ الذَّبْحَ بِمَوْضِعٍ بِهِ صَنَمٌ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْكُفْرِ أَوْ الْمَعَاصِي، كَبُيُوتِ النَّارِ، أَوْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ، بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فَلَا يُوفَى بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 تَعَالَى، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . وَقَوْلِهِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . (2731) فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " إنْ قَدَرَ عَلَى إيصَالِهِ إلَيْهِمْ ". يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ إيصَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ إيصَالُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. فَإِنْ مُنِعَ النَّاذِرُ الْوُصُولَ بِنَفْسِهِ، وَأَمْكَنَهُ تَنْفِيذُهُ، لَزِمَهُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إذَا حُصِرَ عَنْ الْخُرُوجِ خُرِّجَ فِي ذَبْحِ هَذَا الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ فِي مَوْضِعِ حَصْرِهِ رِوَايَتَانِ، كَدِمَاءِ الْحَجِّ وَاخْتَارَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ ذَبْحِهِ فِي مَوْضِعِ حَصْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ هَدْيَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَالثَّانِيَةُ، إنَّ أَمْكَنَ إرْسَالُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ إيصَالُ الْمَنْذُورِ إلَى مَحِلِّهِ، فَلَزِمَهُ، كَغَيْرِ الْمَحْصُورِ. [مَسْأَلَةٌ مَكَانُ صِيَامِ التَّمَتُّعِ] (2732) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُجْزِئُهُ بِكُلِّ مَكَان) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى أَحَدٍ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِمَكَانٍ، بِخِلَافِ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ، فَإِنَّ نَفْعَهُ يَتَعَدَّى إلَى مَنْ يُعْطَاهُ. [فَصْلٌ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ] (2733) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ فِي أَعْنَاقِهَا النِّعَالَ، وَآذَانَ الْقِرَبِ، وَعُرَاهَا، أَوْ عَلَاقَةَ إدَاوَةٍ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ إبِلًا، أَوْ بَقَرًا، أَوْ غَنَمًا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسَنُّ تَقْلِيدُ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُنَّةً لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ فِي الْإِبِلِ. وَلَنَا، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُقَلِّدَ الْغَنَمَ، وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا.» وَفِي لَفْظٍ: «كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ الْغَنَمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ هَدْيٌ، فَيُسَنُّ تَقْلِيدُهُ كَالْإِبِلِ، وَلِأَنَّهُ إذَا سُنَّ تَقْلِيدُ الْإِبِلِ مَعَ إمْكَانِ تَعْرِيفِهَا بِالْأَشْعَارِ، فَالْغَنَمُ، أَوْلَى، وَلَيْسَ التَّسَاوِي فِي النَّقْلِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُهْدِي الْإِبِلَ أَكْثَرِ، فَكَثُرَ نَقْلُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 [فَصْلٌ يُسَنُّ فِي الْهَدْيِ إشْعَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ] (2734) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ إشْعَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَهُوَ أَنْ يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ حَتَّى يُدْمِيَهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا مُثْلَةٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهُ إيلَامٌ، فَهُوَ كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ الْبَقَرَةُ ذَاتَ سَنَامٍ، فَلَا بَأْسَ بِإِشْعَارِهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ، وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَلِأَنَّهُ إيلَامٌ لِغَرَضِ صَحِيحٍ فَجَازَ، كَالْكَيِّ، وَالْوَسْمِ، وَالْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ. وَالْغَرَضُ أَنْ لَا تَخْتَلِطَ بِغَيْرِهَا، وَأَنْ يَتَوَقَّاهَا اللِّصُّ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْحَلَ وَيَذْهَبَ. وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالْكَيِّ وَالْوَسْمِ. وَتُشْعَرُ الْبَقَرَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْبُدْنِ، فَتُشْعَرُ كَذَاتِ السَّنَامِ. وَأَمَّا الْغَنَمُ فَلَا يُسَنُّ إشْعَارُهَا؛ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَصُوفُهَا وَشَعْرُهَا يَسْتُرُ مَوْضِعَ إشْعَارِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالسُّنَّةُ الْإِشْعَارُ فِي صَفْحَتِهَا الْيُمْنَى. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ: بَلْ تُشْعَرُ فِي صَفْحَتِهَا الْيُسْرَى. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَعَلَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةِ وَأَشْعَرَهَا مِنْ صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا بِيَدِهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَفِعْلِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» . وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ قِبَلِ الْمِيقَاتِ، اُسْتُحِبَّ إشْعَارُهُ وَتَقْلِيدُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِنْ تَرَكَ الْإِشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ. [فَصْلٌ لَا يُسَنُّ الْهَدْيُ إلَّا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ] (2735) فَصْلٌ: وَلَا يُسَنُّ الْهَدْيُ إلَّا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] . وَأَفْضَلُهُ الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْغَنَمُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِامْرَأَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 أَصَابَهَا زَوْجُهَا فِي الْعُمْرَةِ: عَلَيْك فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ. قَالَتْ: أَيُّ النُّسُكِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إنْ شِئْت فَنَاقَةٌ، وَإِنْ شِئْت فَبَقَرَةٌ. قَالَتْ: أَيُّ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: انْحَرِي نَاقَةً. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ مَا كَانَ أَكْثَرَ لَحْمًا كَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ، وَلِذَلِكَ أَجْزَأَتْ الْبَدَنَةُ مَكَانَ سَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ، وَالشَّاةُ أَفْضَلُ مِنْ سُبْعِ بَدَنَةٍ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ، وَالضَّأْنُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَعْزِ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي الْهَدْيِ سَوَاءٌ] (2736) فَصْلٌ: وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي الْهَدْيِ سَوَاءٌ. وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَكَرَانِ الْإِبِلِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا فَاعِلًا ذَلِكَ، وَأَنْ أَنْحَرَ أُنْثَى أَحَبُّ إلَيَّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] . وَلَمْ يَذْكُرْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ، فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ". فَكَذَلِكَ مِنْ الْإِبِلِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ اللَّحْمُ، وَلَحْمُ الذَّكَرِ أَوْفَرُ، وَلَحْمُ الْأُنْثَى أَرْطَبُ، فَيَتَسَاوَيَانِ. قَالَ أَحْمَدُ: الْخَصِيُّ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ النَّعْجَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ لَحْمَهُ أَوْفَرُ وَأَطْيَبُ. [مَسْأَلَةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ فَذَبَحَ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ] (2737) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، فَذَبَحَ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ، أَجْزَأَهُ) وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ يُجْزِئُ عَنْ الْبَدَنَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا. سَوَاءٌ كَانَتْ الْبَدَنَةُ وَاجِبَةً بِنَذْرٍ، أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ، أَوْ كَفَّارَةِ وَطْءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ ذَلِكَ بَدَلٌ عَنْهَا، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِهَا، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ. فَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَيَجُوزُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ عَلَيَّ بَدَنَةً، وَأَنَا مُوسِرٌ لَهَا، وَلَا أَجِدُهَا فَأَشْتَرِيَهَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْتَاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فَيَذْبَحَهُنَّ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّاةَ مَعْدُولَةٌ بِسُبْعِ بَدَنَةٍ، وَهِيَ أَطْيَبُ لَحْمًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى جَازَ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ بَدَنَةً مَكَانَ شَاةٍ. (2738) فَصْلٌ: وَمِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، لَمْ يُجْزِئْهُ بَدَنَةٌ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ أَطْيَبُ لَحْمًا، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ مَحْظُورٍ، أَجْزَأَهُ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 الْوَاجِبَ فِيهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَهُوَ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَتَّعُونَ، فَيَذْبَحُونَ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، قَالَ جَابِرٌ: «كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، نَشْتَرِكُ فِيهَا» . وَفِي لَفْظٍ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (2739) فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَقَرَةٌ، أَجْزَأَتْهُ بَدَنَةٌ: لِأَنَّهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَأَوْفَرُ. وَيُجْزِئُهُ سَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ الْبَدَنَةِ، فَعَنْ الْبَقَرَةِ أَوْلَى. وَمِنْ لَزِمَهُ بَدَنَةٌ، فِي غَيْرِ النَّذْرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، أَجْزَأَتْهُ بَقَرَةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَنْحَرُ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. فَقِيلَ لَهُ: وَالْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ: وَهَلْ هِيَ إلَّا مِنْ الْبُدْنِ، فَأَمَّا فِي النَّذْرِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ: فَإِنْ أَطَلَقَ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تُجْزِئُهُ الْبَقَرَةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ. وَالْأُخْرَى، لَا تُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَعْدَمَ الْبَدَنَةَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ، فَاشْتُرِطَ عَدَمُ الْمُبْدَلِ. وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ مَا أَجْزَأَ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدَايَا وَدَمِ الْمُتْعَةِ، أَجْزَأَ فِي النَّذْرِ بِلَفْظِ الْبَدَنَةِ، كَالْجَزُورِ. [فَصْلٌ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ] (2740) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا، وَسَوَاءٌ أَرَادَ جَمِيعُهُمْ الْقُرْبَةَ، أَوْ بَعْضُهُمْ، وَأَرَادَ الْبَاقُونَ اللَّحْمَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إذَا كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ كُلُّهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُرِدْ بَعْضُهُمْ الْقُرْبَةَ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَرُدُّ قَوْلَ مَالِكٍ. وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْجُزْءَ الْمُجْزِيَ لَا يَنْقُصُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكِ غَيْرَ الْقُرْبَةِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُ الْقُرْبِ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْمُتْعَةَ وَالْآخَرُ الْقِرَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمُوا اللَّحْمَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا. [مَسْأَلَةٌ مَا لَزِمَ مِنْ الدِّمَاءِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ] (2741) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا لَزِمَ مِنْ الدِّمَاءِ، فَلَا يُجْزِئُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ) هَذَا فِي غَيْرِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ، فَمِنْهُ جَفْرَةٌ وَعَنَاقٌ وَجَدْيٌ وَصَحِيحٌ وَمَعِيبٌ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ، مِثْلِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يُجْزِئُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَثَنِيُّ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَةٌ، وَثَنِيُّ الْبَقَرِ مَا لَهُ سَنَتَانِ، وَثَنِيُّ الْإِبِلِ مَا لَهُ خَمْسُ سِنِينَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ: لَا يُجْزِئُ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الْكُلِّ، إلَّا الْمَعْزَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 وَلَنَا عَلَى الزُّهْرِيِّ، مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ بِلَالِ بِنْتِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أُضْحِيَّةً» . وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَعَزَّتْ الْغَنَمُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مَا تُوفِي مِنْهُ الثَّنِيَّةُ» . وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعًا مِنْ الضَّأْنِ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى عَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، حِينَ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عِنْدِي عَنَاقًا جَذَعًا، هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَقَالَ: تُجْزِئُكَ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي لَفْظٍ: إنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: إنَّمَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فِي الْأَضَاحِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْزُو فَيُلَقِّحُ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْزِ لَمْ يُلَقِّحْ حَتَّى يَصِيرَ ثَنِيًّا. [فَصْلٌ يَمْنَعُ مِنْ الْعُيُوبِ فِي الْهَدْيِ مَا يَمْنَعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ] فَصْلٌ: وَيَمْنَعُ مِنْ الْعُيُوبِ فِي الْهَدْيِ مَا يَمْنَعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تَنْقَى. قَالَ: قُلْت: إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ. قَالَ: مَا كَرِهْت فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، قَالَ: أَمَّا الَّذِي سَمِعْنَاهُ فَالْأَرْبَعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُنَّ جَائِزٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ". أَيْ انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا وَذَهَبَتْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْقِصُهَا؛ لِأَنَّ شَحْمَةَ الْعَيْنِ عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، فَلَوْ كَانَ عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ وَلَمْ تَذْهَبْ الْعَيْنُ، جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقِصُهَا فِي اللَّحْمِ. وَالْعَرْجَاءُ الْبَيْنُ عَرَجُهَا: الَّتِي عَرَجُهَا مُتَفَاحِشٌ يَمْنَعُهَا السَّيْرَ مَعَ الْغَنَمِ، وَمُشَارَكَتَهُنَّ فِي الْعَلَفِ، وَيُهْزِلُهَا. وَاَلَّتِي لَا تَنْقَى: الَّتِي لَا مُخَّ فِيهَا لِهُزَالِهَا. وَالْمَرِيضَةُ: قِيلَ هِيَ الْجَرْبَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ يُفْسِدُ اللَّحْمَ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَرِيضَةٍ مَرَضًا يُؤَثِّرُ فِي هُزَالِهَا، أَوْ فِي فَسَادِ لَحْمِهَا، يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا، وَهَذَا أَوْلَى، لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ وَالْمَعْنَى. فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي مَنْعِهَا. وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا نَقْصٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ، فَلَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ؛ لِأَنَّ الْعَمَى أَكْثَرُ مِنْ الْعَوَرِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَمَى انْخِسَافُ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَشْيِ مَعَ الْغَنَمِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْعَلَفِ أَكْثَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 مِنْ إخْلَالِ الْعَرَجِ. وَلَا يَجُوزُ مَا قُطِعَ مِنْهَا عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، كَالْأَلْيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذَهَابِ شَحْمَةِ الْعَيْنِ. فَأَمَّا الْعَضْبَاءُ، وَهِيَ مَا ذَهَبَ نِصْفُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا، فَلَا تُجْزِئُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي عَضْبَاءِ الْأُذُنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثُلُثُ أُذُنِهَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، تُجْزِئُ الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ، فَأَجْزَأَتْ، كَالْجَمَّاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ يَدْمَى، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ قَتَادَةُ: فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، فَقَالَ: نَعَمْ، الْعَضَبُ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ وَافَقَهُ، عَلَى أَنَّ كَسْرَ مَا دُونَ النِّصْفِ لَا يَمْنَعُ. [فَصْلٌ يُجْزِئُ الْخَصِيُّ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (2743) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ الْخَصِيُّ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا قُطِعَتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ مَسْلُولًا، وَهُوَ الَّذِي سُلَّتْ بَيْضَتَاهُ، أَوْ مَوْجُوءًا، وَهُوَ الَّذِي رُضَّتْ بَيْضَتَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ. وَالْمَرْضُوضُ كَالْمَقْطُوعِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعُضْوَ غَيْرُ مُسْتَطَابٍ، وَذَهَابُهُ يُؤَثِّرُ فِي سِمَنِهِ، وَكَثْرَةِ اللَّحْمِ وَطِيبِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَتُجْزِئُ الْجَمَّاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا قَرْنٌ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَابِ نِصْفِهِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ؛ لِأَنَّ الْقَرْنَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَلَا وَرَدَ النَّهْيُ عَمَّ عُدِمَ فِيهِ. وَتُجْزِئُ الصَّمْعَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا أُذُنٌ، أَوْ خُلِقَتْ لَهَا أُذُنٌ صَغِيرَةٌ كَذَلِكَ. وَتُجْزِئُ الْبَتْرَاءُ، وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ يُكْرَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَشْقُوقَةِ الْأُذُنِ] (2744) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَشْقُوقَةِ الْأُذُنِ، أَوْ مَا قُطِعَ مِنْهَا شَيْءٌ، أَوْ مَا فِيهَا عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ. وَلَا يُضَحِّي بِمُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا شَرْقَاءَ قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْت لِأَبِي إِسْحَاقَ: مَا الْمُقَابَلَةُ؟ قَالَ: يُقْطَعُ طَرَفُ الْأُذُنِ. قُلْت: فَمَا الْمُدَابَرَةُ؟ قَالَ: يُقْطَعُ مُؤْخَرُ الْأُذُنِ. قُلْت: فَمَا الْخَرْقَاءُ؟ قَالَ: يُشَقُّ الْأُذُنُ. قُلْت: فَمَا الشَّرْقَاءُ؟ قَالَ: يُشَقُّ أُذُنُهَا لِلسِّمَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الْقَاضِي: الْخَرْقَاءُ الَّتِي انْثَقَبَتْ أُذُنُهَا. وَالشَّرْقَاءُ الَّتِي تُشَقُّ أُذُنُهَا وَتَبْقَى كَالشَّاخَّتَيْنِ. وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ. وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهَا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى مَكَّةَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ] (2745) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى مَكَّةَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ. يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الطَّوَافُ لَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ. قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: يَزُورُ الْبَيْتَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْإِقَامَةَ بِمِنًى؛ لِأَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى. وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفِيضُ كُلَّ لَيْلَةٍ.» [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَجَّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَيُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ] (2746) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَجَّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ، وَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ بِنَعْلَيْهِ، وَلَا خُفَّيْهِ، وَلَا الْحِجْرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحِجْرَ مِنْ الْبَيْتِ. وَلَا يَدْخُلُ الْكَعْبَةَ بِسِلَاحٍ. قَالَ: وَثِيَابُ الْكَعْبَةِ إذَا نُزِعَتْ يُتَصَدَّقُ بِهَا. وَقَالَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِشَيْءِ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ، فَلْيَأْتِ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلْيَلْزِقْهُ عَلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُ، وَلَا يَأْخُذْ مِنْ طِيبِ الْبَيْتِ شَيْئًا، وَلَا يُخْرِجْ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ، وَلَا يُدْخِلْ فِيهِ مِنْ الْحِلِّ. كَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلَا يُخْرِجْ مِنْ حِجَارَةِ مَكَّةَ وَتُرَابِهَا إلَى الْحِلِّ، وَالْخُرُوجُ أَشَدُّ إلَّا أَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ أَخْرَجَهُ كَعْبٌ. [فَصْلٌ الْجِوَارُ بِمَكَّةَ لِمَنْ هَاجَرَ مِنْهَا] (2747) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ كَيْفَ لَنَا بِالْجِوَارِ بِمَكَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكِ لَأَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت» . وَإِنَّمَا كُرِهَ الْجِوَارُ بِمَكَّةَ لِمَنْ هَاجَرَ مِنْهَا، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ جَاوَرَ بِمَكَّةَ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِلَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْرُجُ وَيُهَاجِرُ. أَيْ لَا بَأْسَ بِهِ. وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ. قَالَ: وَالْمُقَامُ بِالْمَدِينَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْمُسْلِمِينَ. . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» [فَصْلٌ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2748) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ، فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» . رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ سَعِيدٌ. حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي، إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِيِّ، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» : وَإِذَا حَجَّ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّامِ - لَا يَأْخُذُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْدُثَ بِهِ حَدَثٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ مَكَّةَ مِنْ أَقْصَرِ الطُّرُقِ، وَلَا يَتَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ. وَيُرْوَى عَنْ الْعُتْبِيِّ، قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي، مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرِ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ، فَحَمَلَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْت، فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ، فَقَالَ: يَا عُتْبِيُّ، الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ، فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَاغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك. وَإِذَا خَرَجَ، قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ: وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» لِمَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهَا أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ، إذَا دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ. ثُمَّ تَأْتِي الْقَبْرَ فَتُوَلِّي ظَهْرَكَ الْقِبْلَةَ، وَتَسْتَقْبِلُ وَسَطَهُ، وَتَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنَّك قَدْ بَلَّغْت رِسَالَاتِ رَبِّك، وَنَصَحْت لِأُمَّتِك، وَدَعَوْت إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَعَبَدْت اللَّهَ حَتَّى أَتَاك الْيَقِينُ، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْك كَثِيرًا، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، اللَّهُمَّ اجْزِ عَنَّا نَبِيَّنَا أَفْضَلَ مَا جَزَيْت أَحَدًا مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . وَقَدْ أَتَيْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي، فَأَسْأَلُك يَا رَبِّ أَنْ تُوجِبَ لِي الْمَغْفِرَةَ، كَمَا أَوْجَبْتهَا لِمَنْ أَتَاهُ فِي حَيَاتِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَوَّلَ الشَّافِعِينَ، وَأَنْجَحَ السَّائِلِينَ، وَأَكْرَمَ الْآخَرِينَ وَالْأَوَّلِينَ، بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. ثُمَّ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا، وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا عُمَرَ الْفَارُوقَ، السَّلَامُ عَلَيْكُمَا يَا صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَجِيعَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمَا عَنْ نَبِيِّهِمَا وَعَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) . اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ قَبْرِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ حَرَمِ مَسْجِدِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. [فَصْلٌ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ وَتَقْبِيلُهُ] (2749) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَقْبِيلُهُ، قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ هَذَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْت أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُونَ مِنْ نَاحِيَةٍ فَيُسَلِّمُونَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ. قَالَ: أَمَّا الْمِنْبَرُ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ. يَعْنِي مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئُ، أَنَّهُ نَظَرَ إلَى ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمِنْبَرِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى وَجْهِهِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَجَعَ مِنْ الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ] (2750) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَجَعَ مِنْ الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 [كِتَابُ الْبُيُوعِ] الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، تَمْلِيكًا، وَتَمَلُّكًا. وَاشْتِقَاقُهُ: مِنْ الْبَاعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمُدُّ بَاعَهُ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ يُبَايِعُ صَاحِبَهُ، أَيْ يُصَافِحُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَيْعُ صَفْقَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، إذَا تَضَمَّنَ عَيْنَيْنِ لِلتَّمْلِيكِ. وَهُوَ حَدٌّ قَاصِرٌ؛ لِخُرُوجِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ مِنْهُ، وَدُخُولِ عُقُودٍ سِوَى الْبَيْعِ فِيهِ. وَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ، وَمَجَنَّةُ، وَذُو الْمَجَازِ، أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَأُنْزِلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَعَنْ الزُّبَيْرِ نَحْوُهُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى رِفَاعَةُ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ. فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ، فَقَالَ: إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذِهِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَبْذُلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَفِي شَرْعِ الْبَيْعِ وَتَجْوِيزِهِ شَرْعُ طَرِيقٍ إلَى وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى غَرَضِهِ، وَدَفْعِ حَاجَتِهِ. [فَصْلٌ الْبَيْعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ] (2751) فَصْلٌ: وَالْبَيْعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. فَالْإِيجَابُ، أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك أَوْ مَلَّكْتُك، أَوْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا. وَالْقَبُولُ، أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت، أَوْ قَبِلْت، وَنَحْوَهُمَا. فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَقَالَ: ابْتَعْت مِنْك. فَقَالَ: بِعْتُك. صَحَّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وُجِدَ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ مِنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 الدَّلَالَةُ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ. وَإِنْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ، فَقَالَ: بِعْنِي ثَوْبَك. فَقَالَ: بِعْتُك. فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، يَصِحُّ كَذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ الْإِيجَابِ، لَمْ يَصِحَّ بِهِ الْبَيْعُ، فَلَمْ يَصِحَّ إذَا تَقَدَّمَ، كَلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَرِيَ عَنْ الْقَبُولِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، رِوَايَتَيْنِ أَيْضًا، فَأَمَّا إنْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَتَبِيعُنِي ثَوْبَك بِكَذَا؟ فَيَقُولُ: بِعْتُك. لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَبُولٍ وَلَا اسْتِدْعَاءٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي، الْمُعَاطَاةُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّينَارِ خُبْزًا. فَيُعْطِيهِ مَا يُرْضِيهِ، أَوْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ. فَيَأْخُذُهُ، فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ قَالَ لِخَبَّازٍ: كَيْفَ تَبِيعُ الْخُبْزَ؟ قَالَ: كَذَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ: زِنْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ. فَإِذَا وَزَنَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ نَحْوٌ مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْبَيْعُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ النَّاسُ بَيْعًا. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَصِحُّ فِي خَسَائِسِ الْأَشْيَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي مِثْلُ هَذَا، قَالَ: يَصِحُّ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَسِيرَةِ دُونَ الْكَبِيرَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى مِثْلِ قَوْلِنَا. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا رُجِعَ إلَيْهِ فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْجُودًا بَيْنَهُمْ، مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا، وَأَبْقَاهُ عَلَى مَا كَانَ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمْ، اسْتِعْمَالُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَوْ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ لَنُقِلَ نَقْلًا شَائِعًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا، لَوَجَبَ نَقْلُهُ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُمْ إهْمَالُهُ وَالْغَفْلَةُ عَنْ نَقْلِهِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَلَوْ اُشْتُرِطَ لَهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا عَامًّا، وَلَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَثِيرًا، وَأَكَلِهِمْ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُعَاطَاةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهُ مِنْ قِبَلِ مُخَالِفِينَا، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فِي الْهِبَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ . فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ. قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ. ضَرَبَ بِيَدِهِ، وَأَكَلَ مَعَهُمْ.» وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ، حِينَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ مِنْ الصَّدَقَةِ، رَأَيْتُك أَنْتَ وَأَصْحَابَك أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ. «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ» ثُمَّ أَتَاهُ ثَانِيَةً بِتَمْرٍ، فَقَالَ: رَأَيْتُك لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذَا شَيْءٌ أَهْدَيْتُهُ لَك. «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِسْمِ اللَّهِ. وَأَكَلَ.» وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولٌ وَلَا أَمْرٌ بِإِيجَابٍ. وَإِنَّمَا سَأَلَ لِيَعْلَمَ، هَلْ هُوَ صَدَقَةٌ، أَوْ هَدِيَّةٌ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ لَمْ يُنْقَلْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ، وَلَيْسَ إلَّا الْمُعَاطَاةُ، وَالتَّفَرُّقُ عَنْ تَرَاضٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ شَرْطًا فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَشَقَّ ذَلِكَ، وَلَكَانَتْ أَكْثَرُ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ فَاسِدَةً، وَأَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ مُحَرَّمَةً. وَلِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إنَّمَا يُرَادَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاضِي، فَإِذَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، مِنْ الْمُسَاوَمَةِ وَالتَّعَاطِي، قَامَ مَقَامَهُمَا، وَأَجْزَأَ عَنْهُمَا؛ لِعَدَمِ التَّعَبُّدِ فِيهِ. [بَابُ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ] [مَسْأَلَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا] [فَصْلٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ] (خِيَارُ الْمُتَبَايِعَيْنِ) أَيْ بَابُ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا. (2752) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (2753) فَصْلٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ جَائِزًا، وَلِكُلٍّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، مَا دَامَا مُجْتَمِعَيْنِ، لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا خِيَارَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ، كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ. وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ. وَاتُّفِقَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَكِيمٍ، وَرَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، مَالِكٌ، وَأَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ. وَعَابَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَالِكٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 مُخَالَفَتَهُ لِلْحَدِيثِ، مَعَ رِوَايَتِهِ لَهُ، وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَدْرِي هَلْ اتَّهَمَ مَالِكٌ نَفْسَهُ أَوْ نَافِعًا؟ وَأُعْظِمُ أَنْ أَقُولَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: يُسْتَتَابُ مَالِكٌ فِي تَرْكِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ هَاهُنَا التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . أَيْ بِالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا، أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ مَا قَالُوهُ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَفَرُّقٌ بِلَفْظٍ وَلَا اعْتِقَادٍ، إنَّمَا بَيْنَهُمَا اتِّفَاقٌ عَلَى الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. الثَّانِي، أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْحَدِيثِ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي إنْشَائِهِ وَإِتْمَامِهِ، أَوْ تَرْكِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ» . فَجَعَلَ لَهُمَا الْخِيَارَ بَعْدَ تَبَايُعِهِمَا، وَقَالَ: «وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . الرَّابِعُ، أَنَّهُ يَرُدُّهُ تَفْسِيرُ ابْنِ عُمَرَ لِلْحَدِيثِ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا مَشَى خُطُوَاتٍ؛ لِيَلْزَمَ الْبَيْعُ، وَتَفْسِيرُ أَبِي بَرْزَةَ لَهُ، بِقَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِنَا، وَهُمَا رَاوِيَا الْحَدِيثِ، وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ. مَعْنَاهُ، أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقَسِمُ إلَى بَيْعٍ شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ، وَبَيْعٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ، سَمَّاهُ صَفْقَةً لِقِصَرِ مُدَّةِ الْخِيَارِ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَ عُمَرُ إذَا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، فَكَيْف يُعَارَضُ قَوْلُهُ بِقَوْلِهِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إذَا خَالَفَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُهُ، وَأَبُو بَرْزَةَ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَقَعُ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ رَوِيَّةٍ وَنَظَرٍ وَتَمَكُّثٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْخِيَارِ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِ مَضَرَّةً، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ الْمَرْأَةِ بَعْدَ ابْتِذَالِهَا بِالْعَقْدِ، وَذَهَابِ حُرْمَتِهَا بِالرَّدِّ، وَإِلْحَاقِهَا بِالسِّلَعِ الْمَبِيعَةِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارٌ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، وَلَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرٌ؛ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ، وَوَهَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل خِيَارُ الْمَجْلِسِ] (2754) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهِمَا؛ لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ فِي لُزُومِهِ بَعْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 التَّفَرُّقِ، وَالْمَرْجِعُ فِي التَّفَرُّقِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ، فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، كَالْقَبْضِ، وَالْإِحْرَازِ، فَإِنْ كَانَا فِي فَضَاءٍ وَاسِعٍ، كَالْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ، وَالصَّحْرَاءِ، فَبِأَنْ يَمْشِيَ أَحَدُهُمَا مُسْتَدْبِرًا لِصَاحِبِهِ خُطُوَاتٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْعَادَةِ. قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْرِقَةِ الْأَبْدَانِ؟ فَقَالَ: إذَا أَخَذَ هَذَا كَذَا، وَهَذَا كَذَا، فَقَدْ تَفَرَّقَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَايَعَ، فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ، مَشَى هُنَيْهَةً، ثُمَّ رَجَعَ. وَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ، ذَاتِ مَجَالِسٍ وَبُيُوتٍ، فَالْمُفَارَقَةُ أَنْ يُفَارِقَهُ مِنْ بَيْتٍ إلَى بَيْتٍ، أَوْ إلَى مَجْلِسٍ، أَوْ صِفَةٍ، أَوْ مِنْ مَجْلِسٍ إلَى بَيْتٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ، فَإِذَا صَعِدَ أَحَدُهُمَا السَّطْحَ، أَوْ خَرَجَ مِنْهَا، فَقَدْ فَارَقَهُ. وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا وَمَشَى، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً صَعِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَعْلَاهَا، وَنَزَلَ الْآخَرُ فِي أَسْفَلِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْبَائِعَ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، أَوْ اشْتَرَى لِوَلَدِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارٌ، كَالشَّفِيعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ، وَيُعْتَبَرَ مُفَارَقَةُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ لَا يُمْكِنُ هَاهُنَا، لِكَوْنِ الْبَائِعِ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَمَتَى حَصَلَ التَّفَرُّقُ لَزِمَ الْعَقْدُ، قَصَدَا ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْصِدَاهُ، عَلِمَاهُ أَوْ جَهِلَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ الْخِيَارَ عَلَى التَّفَرُّقِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ هَرَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، لَزِمَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا يَقِفُ لُزُومُ الْعَقْدِ عَلَى رِضَاهُمَا، وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفَارِقُ صَاحِبَهُ لِيَلْزَمَ الْبَيْعُ. وَلَوْ أَقَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَسَدَلَا بَيْنَهُمَا سِتْرًا، أَوْ بَنَيَا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا، أَوْ نَامَا، أَوْ قَامَا فَمَضَيَا جَمِيعًا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ، قَالَ: غَزَوْنَا غَزْوَةً لَنَا، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلَامٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنْ الْغَدِ، وَحَضَرَ الرَّحِيلُ، قَامَ إلَى فَرَسِهِ يُسْرِجُهُ، فَنَدِمَ، فَأَتَى الرَّجُلُ، وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ، فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَقَالَا لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ. فَقَالَ: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.» مَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا. فَإِنْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مُكْرَهًا، احْتَمَلَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ؛ لِوُجُودِ غَايَتِهِ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي مُفَارَقَةِ صَاحِبِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي مُفَارَقَتِهِ لِصَاحِبِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ عَلَى التَّفَرُّقِ، فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ الْإِكْرَاهِ، كَمَا لَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى انْقِطَاعَ الْخِيَارِ، إنْ أُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى فُرْقَةِ صَاحِبِهِ، انْقَطَعَ خِيَارُ صَاحِبِهِ، كَمَا لَوْ هَرَبَ مِنْهُ، وَفَارَقَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُكْرَهِ مِنْهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَزُولُ عَنْهُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ، حَتَّى يُفَارِقَهُ. وَإِنْ أُكْرِهَا جَمِيعًا انْقَطَعَ خِيَارُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِفُرْقَةِ الْآخَرِ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُكْرِهَ صَاحِبُهُ دُونَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ صُوَرِ الْإِكْرَاهِ، مَا لَوْ رَأَيَا سَبْعًا أَوْ ظَالِمًا خَشِيَاهُ، فَهَرَبَا فَزَعًا مِنْهُ، أَوْ حَمَلَهُمَا سَيْلٌ أَوْ فَرَّقَتْ رِيحٌ بَيْنَهُمَا. (2755) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، قَامَتْ إشَارَتُهُ مَقَامَ لَفْظِهِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ، أَوْ جُنَّ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ الْأَبِ، أَوْ وَصِيُّهُ، أَوْ الْحَاكِمُ، مَقَامَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ مِنْهُ الْخِيَارُ، وَالْخِيَارُ لَا يُوَرَّثُ. وَأَمَّا الْبَاقِي مِنْهُمَا فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ، وَالتَّفَرُّقُ بِالْمَوْتِ أَعْظَمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ لَمْ يَحْصُلْ. فَإِنْ حُمِلَ الْمَيِّتُ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِالْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا. (2756) فَصْلٌ: وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: " إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ ". يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَيْعَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ الْخِيَارُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهِمَا، وَلَا يَكُونُ تَفَرُّقُهُمَا غَايَةً لِلْخِيَارِ فِيهِ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَيْعَ الَّذِي شَرَطَا فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فِيهِ خِيَارٌ، فَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ مُفَارَقَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ خَشْيَةً مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقَالَ: هَذَا الْآنَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا، وَلَوْ عَلِمَهُ لَمَا خَالَفَهُ. (2757) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْخِيَارَ يَمْتَدُّ إلَى التَّفَرُّقِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّخَايُرِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَلَا تَخْصِيصٍ، هَكَذَا رَوَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَأَبُو بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْخِيَارَ يَبْطُلُ بِالتَّخَايُرِ. اخْتَارَهَا الشَّرِيفُ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . يَعْنِي لَزِمَ. وَفِي لَفْظٍ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى. وَالتَّخَايُرُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَاحِدٌ، فَالتَّخَايُرُ فِي ابْتِدَائِهِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك وَلَا خِيَارَ بَيْنَنَا. وَيَقْبَلُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ لَهُمَا خِيَارٌ. وَالتَّخَايُرُ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ: اخْتَرْت إمْضَاءَ الْعَقْدِ، أَوْ إلْزَامَهُ، أَوْ اخْتَرْت الْعَقْدَ، أَوْ أَسْقَطْت خِيَارِي. فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا، فَأَسْقَطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَهُ دُونَ الْآخَرِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِي التَّخَايُرِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا لَا يُقْطَعُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ سَبَبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَخِيَارِ الشُّفْعَةِ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . وَقَوْلُهُ: «إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ وَجَبَ الْبَيْعُ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. وَلِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ فِي الْبَيْعِ، فَجَازَ إخْلَاؤُهُ عَنْهُ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْخِيَارِ قَبْلَ سَبَبِهِ. لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ سَبَبَ الْخِيَارِ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، فَأَمَّا الْبَيْعُ مَعَ التَّخَايُرِ فَلَيْسَ بِسَبَبِ لَهُ. ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَبَبُ الْخِيَارِ، لَكِنَّ الْمَانِعَ مُقَارِنٌ لَهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، وَأَمَّا الشَّفِيعُ، فَإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ إسْقَاطِ خِيَارِهِ فِي الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ. وَلَمْ يَقُلْ الْآخَرُ شَيْئًا، فَالسَّاكِتُ مِنْهُمَا عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ. وَأَمَّا الْقَائِلُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُهُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنْ الْخِيَارِ، فَسَقَطَ خِيَارُهُ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ، فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا لَوْ جَعَلَ لِزَوْجَتِهِ الْخِيَارَ، فَلَمْ تَخْتَرْ، شَيْئًا، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ خَيَّرَهُ فَاخْتَارَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا مَا لَا تَمْلِكُ، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ، سَقَطَ، وَهَا هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ الْخِيَارَ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَمْلِيكًا، إنَّمَا كَانَ إسْقَاطًا، فَسَقَطَ. [مَسْأَلَةٌ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ مَاتَ] (2758) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ، أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، أَوْ مَاتَ، بَطَلَ الْخِيَارُ) أَمَّا إذَا تَلِفَتْ السِّلْعَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَلَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَانَ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَكَانَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا أَنْ يُتْلِفَهُ الْمُشْتَرِي، فَيَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَيَبْطُلَ خِيَارُهُ. وَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ قَبْضِهِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ كَتَلَفِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا إنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ. وَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَبْطُلُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ، فَبَطَلَ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ، كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا تَلِفَ الْمَعِيبُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَبْطُلُ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ وَيُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . وَلِأَنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، وَوَجَدَ الْآخَرُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ، كَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ، وَفِي بُطْلَانِ خِيَارِ الْبَائِعِ رِوَايَتَانِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ. وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ فِي هَذَا كُلِّهِ سَوَاءٌ. [فَصْل تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ] (2759) فَصْلٌ: وَمَتَى تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ تَصَرُّفًا يَخْتَصُّ الْمِلْكَ، بَطَلَ خِيَارُهُ، كَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ، وَكِتَابَتِهِ، وَبَيْعِهِ، وَهِبَتِهِ، وَوَطْءِ الْجَارِيَةِ، أَوْ مُبَاشَرَتِهَا، أَوْ لَمْسِهَا لِشَهْوَةِ، وَوَقْفِ الْمَبِيعِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِحَاجَتِهِ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ حَمْلِهِ عَلَيْهَا، أَوْ سُكْنَى الدَّارِ، وَرَمِّهَا، وَحَصَادِ الزَّرْعِ، وَقَصْلٍ مِنْهُ، فَمَا وُجِدَ مِنْ هَذَا فَهُوَ رِضَاءٌ بِالْمَبِيعِ، وَيَبْطُلُ بِهِ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَبْطُلُ بِالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَاءِ، وَبِدَلَالَتِهِ، وَلِذَلِكَ يَبْطُلُ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ بِتَمْكِينِهَا الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا، «وَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ وَطِئَك فَلَا خِيَارَ لَك» . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَنْظُرَ سَيْرَهَا، وَالطَّحْنُ عَلَى الرَّحَى لِيَعْلَمَ قَدْرَ طَحْنِهَا، وَحَلْبُ الشَّاةِ لِيَعْلَمَ قَدْرَ لَبَنِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِرِضَا بِالْبَيْعِ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ، وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ، وَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إجَازَةَ الْبَيْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ، فَبَطَلَ بِهِ الْخِيَارُ كَصَرِيحِ الْقَوْلِ. وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ إنَّمَا أَبْطَلَ الْخِيَارَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا بِهِ، فَمَا دَلَّ عَلَى الرِّضَا بِهِ يَقُومُ مَقَامَهُ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، تَقُومُ مَقَامَ صَرِيحِهِ. وَإِنْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الرَّهْنِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَات، أَوْ وَهَبَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ الْمَوْهُوبُ لَهُ، بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ، فَبَاعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِرِبْحٍ، فَالرِّبْحُ لِلْمُبْتَاعِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَ عَرَضَهُ. وَإِنْ اسْتَخْدَمَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَقَالَ أَبُو الصَّقْرِ: قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً، وَلَهُ الْخِيَارُ فِيهَا يَوْمَيْنِ، فَانْطَلَقَ بِهَا، فَغَسَلَتْ رَأْسَهُ، أَوْ غَمَزَتْ رِجْلَهُ، أَوْ طَحَنَتْ لَهُ، أَوْ خَبَزَتْ، هَلْ يَسْتَوْجِبُهَا بِذَلِكَ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 قَالَ: لَا، حَتَّى يَبْلُغَ مِنْهَا مَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ. قُلْت: فَإِنْ مَشَطَهَا، أَوْ خَضَّبَهَا، أَوْ حَفَّهَا، هَلْ يَسْتَوْجِبُهَا بِذَلِكَ؟ قَالَ: قَدْ بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَا يَخْتَصُّ الْمِلْكَ، وَيُرَادُ لِتَجْرِبَةِ الْمَبِيعِ، فَأَشْبَهَ رُكُوبَ الدَّابَّةِ لِيَعْلَم سَيْرَهَا. وَنَقَلَ حَرْبٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمَبِيعِ، أَشْبَهَ لَمْسَهَا لِشَهْوَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا قُصِدَ بِهِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ، تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ، لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِيَعْلَمَ سَيْرَهَا، وَمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْخِيَارَ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يَخْتَصُّ الْمِلْكَ، فَأَبْطَلَ خِيَارَهُ، كَقُبْلَتِهِ لَهَا. وَلَنَا: أَنَّهَا قُبْلَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، كَمَا لَوْ قَبَّلَتْ الْبَائِعَ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ، لَا لَهَا، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ بِفِعْلِهَا لَأَلْزَمْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا قَبَّلَهَا؛ فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَا. وَمَتَى بَطَلَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ، فَخِيَارُ الْبَائِعِ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَبْطُلُ بِرِضَا غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُمَا مَعًا؛ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِإِبْطَالِهِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الْمَبِيعِ بِمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ، كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُشْتَرِي. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ اخْتِيَارٌ لَهُ، كَالْمُشْتَرِي. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ اسْتِرْجَاعًا لَهُ، كَمَنْ وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ، فَتَصَرَّفَ فِيهِ. [فَصْلٌ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ] (2760) فَصْلٌ: وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لَهُمَا، أَوْ لَأَحَدِهِمَا، أَيَّهُمَا كَانَ، وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَلِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ عَقْدٌ قَاصِرٌ، فَلَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ، كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِي: أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَإِنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ الْبَائِعِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَوْلُهُ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَجَعَلَهُ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَهُوَ عَامٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ. وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَنَقَلَ الْمِلْكَ عَقِيبَهُ، كَاَلَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ. وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَلَّكْتُكَ. فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، كَسَائِرِ الْبَيْعِ. يُحَقِّقُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 أَنَّ التَّمْلِيكَ يَدُلُّ عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَيَقْتَضِيهِ لَفْظُهُ، وَالشَّرْعُ قَدْ اعْتَبَرَهُ وَقَضَى بِصِحَّتِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُنَافِيهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَرْضًا بِعَرْضِ، فَوَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَاصِرٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ، وَجَوَازُ فَسْخِهِ لَا يُوجِبُ قُصُورَهُ، وَلَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ كَبَيْعِ الْمَعِيبِ، وَامْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حَقِّ الْغَيْرِ، فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، كَالْمَرْهُونِ، وَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُجُودِ مِلْكٍ لَا مَالِكَ لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَيُفْضِي أَيْضًا إلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ عِوَضِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ إلَى نَقْلِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِهِ فِي عِوَضِهِ، وَكَوْنُ الْعَقْدِ مُعَاوَضَةً يَأْبَى ذَلِكَ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ، إنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ انْتَقَلَ، وَإِلَّا فَلَا. غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا؛ فَإِنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى سَبَبِهِ النَّاقِلِ لَهُ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِإِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ، فَإِنَّ إمْضَاءَهُ لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَضِي وَلَا شَرْطًا فِيهِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ لَيْسَ بِمَانِعٍ؛ فَإِنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَقَدَّمُ الْمَانِعَ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ وَلَا شَرْطَهُ. وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْخِيَارِ سَبَبٌ يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَقِيبَهُ فِيمَا إذَا لَمْ يُفْسَخْ، فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتُهُ وَإِنْ فُسِخَ، كَبَيْعِ الْمَعِيبِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّات الْمَبِيعِ وَنَمَائِهِ الْمُنْفَصِلِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ] (2761) فَصْل: وَمَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّاتِ الْمَبِيعِ؛ وَنَمَائِهِ الْمُنْفَصِلِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، أَمْضَيَا الْعَقْدَ، أَوْ فَسَخَاهُ، قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَوُهِبَ لَهُ مَالٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، ثُمَّ اخْتَارَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ: فَالْمَالُ لِلْمُشْتَرِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ أَمْضَيَا الْعَقْدَ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ مَوْقُوفٌ. فَالنَّمَاءُ الْمُنْفَصِلُ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ. فَالنَّمَاءُ لَهُ. وَإِنْ فَسَخَا الْعَقْدَ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، أَوْ مَوْقُوفٌ. فَالنَّمَاءُ لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَرَاجُهُ لَهُ. وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِالْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَمَاؤُهُ لَهُ، كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ الْمُنْفَصِلُ لِلْبَائِعِ إذَا فَسَخَا الْعَقْدَ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا: إنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ. فَأَمَّا النَّمَاءُ الْمُتَّصِلُ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ، أَمْضَيَا الْعَقْدَ، أَوْ فَسَخَاهُ، كَمَا يَتْبَعُهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمُقَايَلَةِ. [فَصْلٌ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهُ] (2762) فَصْلٌ: وَضَمَانُ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَكِيلًا، وَلَا مَوْزُونًا. فَإِنْ تَلِفَ، أَوْ نَقَصَ، أَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَغَلَّتُهُ لَهُ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 وَمُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، فَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ، فَفِطْرَتُهُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. فَإِنْ اشْتَرَى حَامِلًا، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ، لَزِمَهُ رَدُّ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ حَدَثَتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ مُتَّصِلَةٌ، فَلَزِمَهُ رَدُّهُ بِزِيَادَتِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، فَسَمِنَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَرُدُّ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْأُمِّ، فَلَمْ يَأْخُذْ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ، كَأَطْرَافِهَا. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ مَا يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا، يُقَسَّطُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا، كَاللَّبَنِ. وَمَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِالْجُزْءِ الْمُشَاعِ، كَالثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ يُفَارِقُ الْحَمْلُ الْأَطْرَافَ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الِانْفِصَالِ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ مُنْفَصِلًا، وَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، وَلَهُ، وَيَرِثُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، وَيُفْرَدُ بِالدِّيَةِ، وَيَرِثُهَا وَرَثَتُهُ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْحَمْلِ. لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [فَصْلٌ تَصَرَّفَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْمَبِيعِ] (2763) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفًا يَنْقُلُ الْمَبِيعَ، كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، أَوْ يَشْغَلُهُ، كَالْإِجَارَةِ، وَالتَّزْوِيجِ، وَالرَّهْنِ، وَالْكِتَابَةِ، وَنَحْوِهَا، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، إلَّا الْعِتْقُ، سَوَاءٌ وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ، أَوْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَالْمُشْتَرِي يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنْ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، كَالتَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ، كَالْمَعِيبِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ، فَبَاعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِرِبْحٍ، فَالرِّبْحُ لِلْمُبْتَاعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَ عَرَضَهُ. يَعْنِي بَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَزِمَهُ. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: إنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَكَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْبَائِعُ، نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَلَهُ إبْطَالُ خِيَارِ غَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِي صِحَّتِهِ إسْقَاطَ حَقِّ الْبَائِعِ مِنْ الْخِيَارِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ مَوْقُوفٌ؛ فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْفَسْخِ صَحَّ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَائِعُ الْفَسْخَ بَطَلَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطٍ، فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ الشَّرْطِ، يَرُدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ إنْ طَلَبَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، فَلِلْبَائِعِ قِيمَةُ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ ثَوْبَهُ، أَوْ يُصَالِحُهُ. فَقَوْلُهُ: يَرُدُّهُ إنْ طَلَبَهُ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ رَدِّهِ مَشْرُوطٌ بِطَلَبِهِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ «ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: لَا يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِعْنِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَائِزٌ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِالْوَقْفِ وَجْهًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ، فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ، كَالرَّهْنِ. وَيُفَارِقُ الْوَقْفُ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ: هُوَ لَك. يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، وَالْهِبَةُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِهِ فَيُمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ يَمْلِكُ فَسْخَهُ، فَجَعَلَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ فَسْخًا. وَأَمَّا تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَصِحُّ إذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ. فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ. وَلَنَا، عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ، أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا نِيَابَةٍ عُرْفِيَّةٍ، فَلَمْ يَصِحُّ، كَمَا بَعْدَ الْخِيَارِ. وَقَوْلُهُمْ: يَمْلِكُ الْفَسْخَ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّصَرُّفِ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَصَرُّفِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَتَصَرُّفِ الشَّفِيعِ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ قَبْلَ أَخْذِهِ. [فَصْلٌ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ الْبَائِعُ بِوِكَالَةِ الْمُشْتَرِي] (2764) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، أَوْ الْبَائِعِ بِوِكَالَةِ الْمُشْتَرِي، صَحَّ التَّصَرُّفُ، وَانْقَطَعَ خِيَارُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ، فَيُقْطَعُ بِهِ خِيَارُهُمَا، كَمَا لَوْ تَخَايَرَا، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْخِيَارِ حَصَلَ بِالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ، فَيَقَعُ الْبَيْعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، احْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ، أَوْ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، فَيَقَعُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمُشْتَرِي فِي اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، فَيَصِيرُ كَتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، كَذَا هَاهُنَا. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: إنَّ تَصَرُّفَ الْبَائِعِ لَا يَنْفُذُ، وَلَكِنْ يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ. فَإِنَّهُ مَتَى أَعَادَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ، أَوْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا سِوَاهُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ بِفَسْخِ الْبَيْعِ عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ، ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ تَصَرُّفَهُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (2765) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ أَحَدُهُمَا بِالْعِتْقِ، نَفَذَ عِتْقُ مَنْ حَكَمْنَا بِالْمِلْكِ لَهُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لَأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مَالِكِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَنَفَذَ، كَمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ فِي الْمِلْكِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 وَمِلْكُ الْبَائِعِ لِلْفَسْخِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنَّ مُشْتَرِيَ الْعَبْدِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ، مَعَ أَنَّ لِلْبَائِعِ الْفَسْخَ. وَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ ابْنَهُ عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُ، نَفَذَ عِتْقُهُ، مَعَ مِلْكِ الْأَبِ لِاسْتِرْجَاعِهِ. وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْبَائِعِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ يَنْفُذُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ انْتَقَلَ فَإِنَّهُ يَسْتَرْجِعُهُ بِالْعِتْقِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ، فَلَمْ يَنْفُذْ، كَعِتْقِ الْأَبِ عَبْدَ ابْنِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُشْتَرِي، نَفَذَ عِتْقُ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ أَعْتَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا، فَإِنْ تَقَدَّمَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ تَقَدَّمَ عِتْقُ الْبَائِعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لِكَوْنِهِ أَعْتَقَ غَيْرَ مَمْلُوكِهِ، وَلَكِنْ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَاسْتِرْجَاعُ الْعَبْدِ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي. وَمَتَى أَعَادَ الْبَائِعُ الْإِعْتَاقَ مَرَّةً ثَانِيَةً، نَفَذَ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْعَبْدُ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَرْجَعَهُ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، جَرَى مَجْرَى إعْتَاقِهِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ. وَإِنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ، بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَأَعْتَقَهُمَا، نَفَذَ عِتْقُ الْأَمَةِ دُونَ الْعَبْدِ. وَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرَ، نَظَرْت، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ أَوَّلًا، نَفَذَ عِتْقُهَا، وَبَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْعَبْدِ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوَّلًا، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَرَجَعَ إلَيْهِ الْعَبْدُ، وَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ، وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِالْفَسْخِ عَنْ مِلْكِهِ، وَعَادَتْ إلَى سَيِّدِهَا الْبَائِعِ لَهَا. [فَصْلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ] (2766) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ. ثُمَّ بَاعَهُ، صَارَ حُرًّا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَسَوَاءٌ شَرَطَا الْخِيَارَ أَوْ لَمْ يَشْرِطَاهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَّ بَيْعُهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. فَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّ زَمَنَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ زَمَنُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ، وَشَرْطٌ لِلْحُرِّيَّةِ. فَيَجِبُ تَغْلِيبُ الْحُرِّيَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ حُرِّيَّتَهُ عَلَى فِعْلِهِ لِلْبَيْعِ. وَالصَّادِرُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْإِيجَابُ، فَمَتَى قَالَ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُك. فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحُرِّيَّةِ، فَيَعْتِقُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي، وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي بِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ، فَلَا يَنْقَطِعُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَخَايَرَا ثُمَّ بَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مَذْهَبنَا. فَإِنَّنَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَعْتَقَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ. [فَصْلٌ وَطْءُ الْجَارِيَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ] (2767) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ الْجَارِيَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْبَائِعِ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ وَطْؤُهَا كَالْمَرْهُونَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا اخْتِلَافًا، فَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَبِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى، وَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ يَلْحَقُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِيهَا، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةً لِوُجُودِ سَبَبِ نَقْلِ الْمِلْكِ إلَيْهِ، وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ نَمَائِهَا، وَإِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ. وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ فَسْخِ الْبَيْعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِوَطْئِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ انْتَقَلَ رَجَعَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتَقَلَ انْقَطَعَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنْهَا، فَيَكُونُ وَاطِئًا لِمَمْلُوكَتِهِ الَّتِي لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا. وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ عَنْهُ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَطْءِ يَقَعُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا. وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ قَبْلَ وَطْئِهِ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ حَدٌّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِالْوَطْءِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكًا وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ. وَلَنَا، أَنَّ مِلْكَهُ يَحْصُلُ بِابْتِدَاءِ وَطْئِهِ، فَيَحْصُلُ تَمَامُ الْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِ الْمِلْكِ لَهُ، وَحِلَّ الْوَطْءُ لَهُ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْصُلَ الْفَسْخُ بِالْمُلَامَسَةِ قَبْلَ الْوَطْءِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ قَدْ رَجَعَ إلَيْهِ قَبْلَ وَطْئِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُشْتَرِي: إنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا. فِيمَا إذَا مَشَطَهَا، أَوْ خَضَّبَهَا، أَوْ حَفَّهَا، فَبِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهَا لِلْجِمَاعِ وَلَمْسِ فَرْجِهَا بِفَرْجِهِ أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا، وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَتَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَحِقَهُ النَّسَبُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدِهِ، لِأَنَّهُ وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. [فَصْلٌ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ] (2768) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ. قَالَ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ إذَا أَقْبَضَهُ الثَّمَنَ ثُمَّ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ، صَارَ كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، فَجَازَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، كَالْإِجَارَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نُجِزْ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 (2769) فَصْلٌ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " أَوْ مَاتَ " الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْعَبْدَ، وَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَوْ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ ". وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَدَّ الضَّمِيرَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَأَرَادَ إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْعَبْدِ قَدْ تَنَاوَلَهُ بِقَوْلِهِ: " أَوْ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ ". وَالْحُكْمُ فِي مَوْتِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَاحِدٌ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ بِحَالِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَيَتَخَرَّجُ أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَبْطُلُ، وَيَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ، كَالْأَجَلِ وَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْفَسْخِ بِالتَّحَالُفِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَلَنَا، أَنَّهُ حَقُّ فَسْخٍ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ؛ فَلَمْ يُورَثْ كَخِيَارِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ. [مَسْأَلَة إذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رَدُّهُ إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ] (2770) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رَدُّهُ إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، مَا لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» ، وَقَوْلُهُ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا» . جَعَلَ التَّفَرُّقَ غَايَةً لِلْخِيَارِ. وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا، إلَّا أَنْ يَجِدَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا فَيَرُدَّهَا بِهِ، أَوْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَيَمْلِكُ الرَّدَّ أَيْضًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَفِي مَعْنَى الْعَيْبِ أَنَّ يُدَلِّسَ الْمَبِيعَ بِمَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ، أَوْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَبِيعِ صِفَةً يَخْتَلِفُ بِهَا الثَّمَنُ، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ فِي الْمُرَابَحَةِ فِي الثَّمَنِ أَنَّهُ حَالٌّ، فَبَانَ مُؤَجَّلًا، وَنَحْوَ هَذَا، وَنَذْكُرُ هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ. (2771) فَصْلٌ: وَلَوْ أَلْحَقَا فِي الْعَقْدِ خِيَارًا بَعْدَ لُزُومِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَلْحَقُهُ؛ لِأَنَّ لَهُمَا فَسْخَ الْعَقْدِ، فَكَانَ لَهُمَا إلْحَاقُ الْخِيَارِ بِهِ كَحَالَةِ الْمَجْلِسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْلِهِمَا، كَالنِّكَاحِ. وَفَارَقَ حَالَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ. [فَصْلٌ بُيُوعُ الْأَعْيَانِ الْمَرْئِيَّةِ] (2772) فَصْلٌ: وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ الْمَرْئِيَّةِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِبَيْعِ الْغَائِبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ مَا يُسَمَّى خِيَارًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرُهُ. وَفِي بَيْعِ الْغَائِبِ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا، أَنَّ الْغَائِبَ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ رُؤْيَتُهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَفِي رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَصِحُّ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي. وَهَلْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ أَشْهَرُهُمَا ثُبُوتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ، أَنَّهُمَا تَبَايَعَا دَارَيْهِمَا بِالْكُوفَةِ، وَالْأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ: إنَّك قَدْ غَبِنْت، فَقَالَ: مَا أُبَالِي؛ لِأَنِّي بِعْت مَا لَمْ أَرَهُ. وَقِيلَ لِطَلْحَةَ، فَقَالَ: لَيّ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّنِي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ. فَتَحَاكَمَا إلَى جُبَيْرٍ، فَجَعَلَ الْخِيَارَ لِطَلْحَةَ. وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّتُهُ إلَى رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَالنِّكَاحِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفُ لَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِ النَّوَى فِي التَّمْرِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ بَيْعٍ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَةِ الْمَبِيعِ، كَالسَّلَمِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَبَايَعَا بِالصِّفَةِ، عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ، وَلَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنِّكَاحُ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمُعَاوَضَةُ، وَلَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعِوَضِ، وَلَا يُتْرَكُ ذِكْرُهُ، وَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْخِيَارَات. وَفِي اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمُخَدَّرَات وَإِضْرَارٌ بِهِنَّ. عَلَى أَنَّ الصِّفَات الَّتِي تُعْلَمُ بِالرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالنِّكَاحِ، فَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» . وَالْخِيَارُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ. قُلْنَا: هَذَا يَرْوِيهِ عُمَرُ بْنُ إبْرَاهِيم الْكُرْدِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَتَرْكِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْبَيْعِ، كَدَاخِلِ الثَّوْبِ، وَشَعْرِ الْجَارِيَةِ، وَنَحْوِهِمَا. فَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا مَطْوِيًّا، أَوْ عَيْنًا حَاضِرَةً، لَا يُشَاهَدُ مِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ لِأَجْلِهِ، كَانَ كَبَيْعِ الْغَائِبِ. وَإِنْ حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، وَيَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ لَزِمَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا. وَقِيلَ: يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي وُجِدَتْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَتَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ انْفَسَخَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ، كَحَالَةِ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إلْزَامِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَيُفْضِي إلَى الضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَايَعَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِذَلِكَ. وَهَلْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ] (2773) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الرُّؤْيَةُ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 فَبَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ، وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا لَهُ الْخِيَارَ لَثَبَتَ لِتَوَهُّمِ الزِّيَادَةِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ لَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ، فَبَانَ غَيْرَ مَعِيبٍ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ. وَلَنَا، أَنَّهُ جَاهِلٌ بِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْمُشْتَرِيَ، فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَإِنَّهُ قَوْلُ جُبَيْرٍ وَطَلْحَةَ، وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ، وَقَوْلُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَى مِنْهُمَا، فَتُعْتَبَرُ الرُّؤْيَةُ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الرِّضَى مِنْهُمَا. [فَصْلٌ إذَا وَصَفَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي فَذَكَرَ لَهُ مِنْ صِفَاته مَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ السَّلَم] (2774) فَصْلٌ: وَإِذَا وَصَفَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي، فَذَكَرَ لَهُ مِنْ صِفَاتِهِ مَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ السَّلَمِ، صَحَّ بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَرَاهُ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ بِهَا كَاَلَّذِي لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعٌ بِالصِّفَةِ، فَصَحَّ كَالسَّلَمِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِالصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الثَّمَنُ ظَاهِرًا، وَهَذَا يَكْفِي؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي السَّلَمِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الرُّؤْيَةِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْخَفِيَّةِ، وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ السَّلَمْ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى وَجَدَهُ عَلَى الصِّفَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ. وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَأَيُّوبُ، وَمَالِكٌ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَهُ الْخِيَارُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَوْصُوفٌ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ فِيهِ الْخِيَارُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، كَالسَّلَمِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُسَمَّى بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، فَإِنْ ثَبَتَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسَمِّيَهُ مَنْ يَرَى ثُبُوتَ الْخِيَارِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا إنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَيُسَمَّى خِيَارَ الْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَوْصُوفَ بِخِلَافِ الصِّفَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالسَّلَمِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْبَائِعُ: لَمْ تَخْتَلِفْ الصِّفَةُ. وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ اخْتَلَفَتْ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ، أَوْ يَثْبُتُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. [فَصْلٌ الْبَيْعُ بِالصِّفَةِ نَوْعَانِ] (2775) فَصْلٌ: وَالْبَيْعُ بِالصِّفَةِ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك عَبْدِي التُّرْكِيَّ. وَيَذْكُرُ سَائِرَ صِفَاتِهِ، فَهَذَا يَنْفَسِخُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِرَدِّهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَتَلَفِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا، فَيَزُولُ الْعَقْدُ بِزَوَالِ مَحِلِّهِ، وَيَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، وَقَبْضِهِ، كَبَيْعِ الْحَاضِرِ. الثَّانِي، بَيْعُ مَوْصُوفٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك عَبْدًا تُرْكِيًّا، ثُمَّ يَسْتَقْصِي صِفَاتِ السَّلَمِ، فَهَذَا فِي مَعْنَى السَّلَمِ، فَمَتَى سَلَّمَ إلَيْهِ عَبْدًا، عَلَى غَيْرِ مَا وَصَفَ، فَرَدَّهُ، أَوْ عَلَى مَا وَصَفَ، فَأَبْدَلَهُ، لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى غَيْرِ هَذَا، فَلَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ فِي السَّلَمِ غَيْرَ مَا وَصَفَ لَهُ، فَرَدَّهُ. وَلَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، أَوْ قَبْضِ ثَمَنِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، كَالسَّلَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ حَالٌّ، فَجَازَ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَبَيْعِ الْعَيْنِ. [فَصْلٌ إذَا رَأَيَا الْمَبِيعَ ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنِ لَا تَتَغَيَّرُ الْعَيْنُ فِيهِ] (2776) فَصْلٌ: إذَا رَأَيَا الْمَبِيعَ، ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ لَا تَتَغَيَّرُ الْعَيْنُ فِيهِ، جَازَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَجُوزُ حَتَّى يَرَيَاهَا حَالَةَ الْعَقْدِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَاهِدَاهُ حَالَ الْعَقْدِ، وَالشَّرْطُ إنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا الرُّؤْيَةُ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ، وَلِهَذَا اُكْتُفِيَ بِالصِّفَةِ الْمُحَصِّلَةِ لِلْعِلْمِ، وَالشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ تُرَادُ لِحِلِّ الْعَقْدِ وَالِاسْتِيثَاقِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ حَالَ الْعَقْدِ. وَيُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا لَوْ رَأَيَا دَارًا، وَوَقَفَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا، أَوْ أَرْضًا، وَوَقَفَا فِي طَرِيقِهَا، وَتَبَايَعَاهَا، صَحَّ بِلَا خِلَافٍ مَعَ عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْكُلِّ فِي الْحَالِ. وَلَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ الْمَشْرُوطَةُ لِلْبَيْعِ مَشْرُوطَةً حَالَ الْعَقْدِ لَاشْتُرِطَ رُؤْيَةُ جَمِيعِهِ، وَمَتَى وَجَدَ الْمَبِيعَ بِحَالِهِ، لَمْ يَتَغَيَّرْ، لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ. فَأَمَّا إنْ عُقِدَ الْبَيْعُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ بِمُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا فَسَادُ الْمَبِيعِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِيهَا، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الظَّاهِرُ تَغَيُّرَهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ يَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ وَعَدَمَهُ، وَلَيْسَ الظَّاهِرُ تَغَيُّرَهُ، صَحَّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرٌ، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ يَسِيرَةً، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِلْغَبْنِ] (2777) فَصْلٌ: وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِلْغَبْنِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا، تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، إذَا تَلَقَّاهُمْ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ وَبَاعَهُمْ وَغَبَنَهُمْ. الثَّانِي: بَيْعُ النَّجْشِ. وَيُذْكَرَانِ فِي مَوَاضِعِهِمَا. الثَّالِثُ: الْمُسْتَرْسِلُ إذَا غُبِنَ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ قِيلَ: قَدْ لَزِمَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 الْبَيْعُ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلَامَتِهَا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَرْسِلِ، وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَبْنٌ حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ، فَأَثْبَتِ الْخِيَارَ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْسِلِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالْغَبْنِ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعْجَلَ، فَجَهِلَ مَا لَوْ تَثَبَّتَ لَعَلِمَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ. وَالْمُسْتَرْسِلُ هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلَا يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: الْمُسْتَرْسِلُ، الَّذِي لَا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ. وَفِي لَفْظٍ، الَّذِي لَا يُمَاكِسُ. فَكَأَنَّهُ اسْتَرْسَلَ إلَى الْبَائِعِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ. فَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ، وَاَلَّذِي لَوْ تَوَقَّفَ لَعَرَفَ، إذَا اسْتَعْجَلَ فِي الْحَالِ فَغُبِنَ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا. وَلَا تَحْدِيدَ لِلْغَبْنِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّنْبِيهِ "، وَابْنُ أَبِي مُوسَى فِي " الْإِرْشَادِ " بِالثُّلُثِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقِيلَ: بِالسُّدُسِ، وَقِيلَ: مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ. [فَصْلٌ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ] (2778) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، وَرِطْلِ زَيْتٍ مِنْ دَنٍّ، فَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، إذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رَدُّهُ، إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا يَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ، سَوَاءٌ تَقَابَضَا أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا. وَقَالَ الْقَاضِي: الْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، مَنْ اشْتَرَى قَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَتَيْنِ، فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي التَّالِفِ دُونَ الْبَاقِي، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمْ تَتْلَفْ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ، أَنَّهُ مَبِيعٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ، وَلَا التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَكَانَ الْبَيْعُ فِيهِ جَائِزًا كَمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ يَنْتَقِضُ بِبَيْعِ مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ، وَبَيْعِ الْمَوْصُوفِ، وَالسَّلَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَبِيعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الْخِيَارُ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ يَعْنِي ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا] (2779) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخِيَارُ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ) يَعْنِي ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ يَغْلِبُ فِيهِ التَّأْنِيثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وَفِي حَدِيثِ حِبَّانَ: «وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا» . وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ، قَلَّتْ مُدَّتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، مِثْلُ قَرْيَةٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا فِي أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِحَاجَتِهِ، فَيُقَدَّرُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ أَوْسَعَ مِمَّا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحِبَّانَ، جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ سَخِطَ تَرَكَ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَاللُّزُومَ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَجَازَ الْقَلِيلُ مِنْهُ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ ثَلَاثٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] . وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ، فَرُجِعَ فِي تَقْدِيرِهِ إلَى مُشْتَرِطِهِ، كَالْأَجَلِ، أَوْ نَقُولُ: مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ، فَكَانَتْ إلَى تَقْدِيرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْأَجَلِ. وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ خِلَافُهُ. وَتَقْدِيرُ مَالِكٍ بِالْحَاجَةِ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ لَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا، لِخَفَائِهَا وَاخْتِلَافِهَا، وَإِنَّمَا يُرْبَطُ بِمَظِنَّتِهَا، وَهُوَ الْإِقْدَامُ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا، وَرَبْطُ الْحُكْمِ بِهِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَفِي السَّلَمِ وَالْأَجَلِ. وَقَوْلُ الْآخَرِينَ: إنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ نَقْلُ الْمِلْكِ، وَالْخِيَارُ لَا يُنَافِيهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ مَتَى خُولِفَ الْأَصْلُ لِمَعْنًى فِي مَحِلٍّ وَجَبَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ؛ لِتَعَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى. [فَصْلٌ يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ] (2780) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَا لِأَحَدِهِمَا مُدَّةً وَلِلْآخَرِ دُونَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُمَا، وَإِنَّمَا جُوِّزَ رِفْقًا بِهِمَا، فَكَيْفَمَا تَرَاضَيَا بِهِ جَازَ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دُونَ الْآخَرِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَبِيعٍ فِيهِ الْخِيَارُ، وَمَبِيعٍ لَا خِيَارَ فِيهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، بِالْقِيَاسِ عَلَى شِرَاءِ مَا فِيهِ شُفْعَةٌ، وَمَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَيَحْصُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ. فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ مِمَّا فِيهِ الْخِيَارُ، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ أَحَدَهُمَا مَعِيبًا فَرَدَّهُ، وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى وَاحِدًا مِنْ عَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ. وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، وَرُبَّمَا طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ضِدَّ مَا يَطْلُبُهُ الْآخَرُ، وَيَدَّعِي أَنَّنِي الْمُسْتَحِقُّ لِلْخِيَارِ، أَوْ يَطْلُبُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ رَدَّ أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: لَيْسَ هَذَا الَّذِي شَرَطْت لَك الْخِيَارَ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ بِعَيْنِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَذَا الْفَصْلُ كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 [فَصْلٌ شَرَطَ الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ] (2781) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ، صَحَّ، وَكَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ، وَتَوْكِيلًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَلِلشَّافِعِي فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي: إذَا أَطْلَقَ الْخِيَارَ لِفُلَانِ، أَوْ قَالَ لِفُلَانٍ دُونِي. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ شَرْطُ لِتَحْصِيلِ الْحَظِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِنَظَرِهِ، فَلَا يَكُونُ لِمَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ جَعَلَ الْأَجْنَبِيَّ وَكِيلًا، صَحَّ. وَلَنَا، أَنَّ الْخِيَارَ يَعْتَمِدُ شَرْطَهُمَا، وَيُفَوِّضُ إلَيْهِمَا، وَقَدْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ شَرْطِهِمَا، وَتَنْفِيذُ تَصَرُّفِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِطِ وَوَكِيلِهِ الَّذِي شَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ الْفَسْخُ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا، فَشَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ، صَحَّ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ لَهُ الْبَائِعُ، أَوْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ وَكِيلًا، فَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، صَحَّ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي تَحْصِيلِ الْحَظِّ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ. وَإِنْ شَرَطَهُ لِلْمَالِكِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ، وَالْحَظُّ لَهُ. وَإِنْ شَرَطَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلَانًا] (2782) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلَانًا. وَحَدَّدَ ذَلِكَ بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَهُوَ خِيَارٌ، صَحِيحٌ، وَلَهُ الْفَسْخُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَلَى الْخِيَارِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ لَمْ يَضْبِطْهُ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَهُوَ خِيَارٌ مَجْهُولٌ، حُكْمُهُ حُكْمُهُ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْخِيَارَ يَوْمًا أَوْ سَاعَاتٍ مَعْلُومَةً] (2783) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ يَوْمًا أَوْ سَاعَاتٍ مَعْلُومَةً، اُعْتُبِرَ ابْتِدَاءُ مُدَّةِ الْخِيَارِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْآخَرُ، مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ فِي الْمَجْلِسِ حُكْمًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالشَّرْطِ. وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ لَهُمَا فِيهِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَكَانَ كَحَالَةِ الْعَقْدِ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْهُ، كَالْأَجَلِ. وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ حُكْمُهُ، كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ. وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا ابْتِدَاءَهُ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ، أَدَّى إلَى جَهَالَتِهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ مَتَى يَتَفَرَّقَانِ، فَلَا نَعْلَمُ مَتَى ابْتِدَاؤُهُ، وَلَا مَتَى انْتِهَاؤُهُ. وَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِسَبَبَيْنِ، كَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ بِالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالظِّهَارِ، وَعَلَى هَذَا، لَوْ شَرَطَا ابْتِدَاءَهُ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ، لَمْ يَصِحَّ لِذَلِكَ، إلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِصِحَّةِ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ. وَإِنْ قُلْنَا: ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ. فَشَرَطَا ثُبُوتَهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ يُغْنِي عَنْ خِيَارٍ آخَرَ، فَيَمْنَعُ ثُبُوتَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ شَرَطَا الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أَوْ الْغَدِ] (2784) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَا الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أَوْ الْغَدِ، لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ وَالْغَدُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَدْخُلَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ " إلَى " تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى " مَعَ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ بِيَقِينِ، فَلَا نُزِيلُهُ بِالشَّكِّ. وَلَنَا، أَنَّ مَوْضُوعَ " إلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَلَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَكَالْأَجَلِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ. أَوْ: لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ. لَمْ يَدْخُلْ الدِّرْهَمُ الْعَاشِرُ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَكٌّ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَوْضُوعِهِ، فَكَأَنَّ الْوَاضِعَ قَالَ: مَتَى سَمِعْتُمْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، فَافْهَمُوا مِنْهَا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ. وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي اسْتَشْهَدُوا بِهَا، حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَى " مَعَ " بِدَلِيلِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا، كَمَا تُصْرَفُ سَائِرُ حُرُوفِ الصِّلَاتِ عَنْ مَوْضُوعِهَا لِدَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ حَمْلُهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ لُزُومُ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِيمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْطُ، فَيَثْبُتُ مَا يُتَيَقَّنُ مِنْهُ، وَمَا شَكَكْنَا فِيهِ رَدَدْنَاهُ إلَى الْأَصْلِ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ إلَى غُرُوبِهَا] (2785) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ إلَى غُرُوبِهَا، صَحَّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ بِطُلُوعِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّمُ، فَلَا يُعْلَمُ وَقْتُ طُلُوعِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْخِيَارِ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ، فَصَحَّ، كَتَعْلِيقِهِ بِغُرُوبِهَا. وَطُلُوعُ الشَّمْسِ، بُرُوزُهَا مِنْ الْأُفُقِ، كَمَا أَنَّ غُرُوبَهَا سُقُوطُ الْقُرْصِ. وَلِذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، أَوْ عِتْقَ عَبْدِهِ، بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَعَ بِبُرُوزِهَا مِنْ الْأُفُقِ. وَإِنْ عَرَضَ غَيْمٌ يَمْنَعُ الْمَعْرِفَةَ بِطُلُوعِهَا، فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ حَتَّى يُتَيَقَّنَ طُلُوعُهَا، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِغُرُوبِهَا، فَمَنَعَ الْغَيْمُ الْمَعْرِفَةَ بِوَقْتِهِ. وَلَوْ جَعَلَ الْخِيَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ تَحْتِ السَّحَابِ، أَوْ إلَى غَيْبَتِهَا تَحْتَهُ، كَانَ خِيَارًا مَجْهُولًا، لَا يَصِحُّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. [فَصْل شَرَطَا الْخِيَارَ أَبَدًا أَوْ مَتَى شِئْنَا] (2786) فَصْلٌ: وَإِذَا شَرَطَا الْخِيَارَ أَبَدًا، أَوْ مَتَى شِئْنَا، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: وَلِي الْخِيَارُ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُدَّتَهُ، أَوْ شَرَطَاهُ إلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ، كَقُدُومِ زَيْدٍ، أَوْ هُبُوبِ رِيحٍ، أَوْ نُزُولِ مَطَرٍ، أَوْ مُشَاوَرَةِ إنْسَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 يَصِحَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا، أَوْ يَقْطَعَاهُ، أَوْ تَنْتَهِي مُدَّتُهُ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا إلَى مُدَّةٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ، وَتُضْرَبُ لَهُمَا مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ الْمَبِيعُ فِي مِثْلِهَا فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَا، حُمِلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَسْقَطَا الشَّرْطَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ، أَوْ حَذَفَا الزَّائِدَ عَلَيْهَا وَبَيَّنَا مُدَّتَهُ، صَحَّ لِأَنَّهُمَا حَذَفَا الْمُفْسِدَ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْرُطَاهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ، فَلَا تَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ، كَالْأَجَلِ. وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ أَبَدًا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى الْأَبَدِ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك بِشَرْطِ أَنْ لَا تَتَصَرَّفَ. وَقَوْلُ مَالِكٍ: إنَّهُ يُرَدُّ إلَى الْعَادَةِ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ لَا عَادَةَ فِي الْخِيَارِ يُرْجَعُ إلَيْهَا. وَاشْتِرَاطُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ نَادِرٌ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الشَّرْطُ، وَهُوَ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مَعَ الشَّرْطِ، لَمْ يَفْسُدْ بِوُجُودِ مَا شَرَطَاهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا، كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ حَذَفَ أَحَدَهُمَا. وَعَلَى قَوْلِنَا: الشَّرْطُ فَاسِدٌ. هَلْ يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يَفْسُدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ قَارَنَهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَأَفْسَدَهُ، كَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَالْمُحَلِّلِ. وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ، مَعَ الْخِيَارِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِ هَذَا الثَّمَنِ فِيهِ، مَعَ الْخِيَارِ فِي فَسْخِهِ، فَلَوْ صَحَّحْنَاهُ لَأَزَلْنَا مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَأَلْزَمْنَاهُ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ. وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا حَذَفْنَاهُ وَجَبَ رَدُّ مَا سَقَطَ مِنْ الثَّمَنِ مِنْ أَجْلِهِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ، وَالشَّرْطُ زَائِدٌ، فَإِذَا فَسَدَ وَزَالَ، سَقَطَ الْفَاسِدُ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ بِرُكْنَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْخِيَار إلَى الْحَصَادِ أَوْ الْجِذَاذِ] (2787) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَهُ إلَى الْحَصَادِ، أَوْ الْجِذَاذِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَتَعْلِيقِهِ عَلَى قُدُومِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، وَيَتَقَدَّمُ، وَيَتَأَخَّرُ، فَكَانَ مَجْهُولًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَقَارَبُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَكْثُرُ تَفَاوُتُهُ. وَإِنْ شَرَطَهُ إلَى الْعَطَاءِ، وَأَرَادَ وَقْتَ الْعَطَاءِ، وَكَانَ مَعْلُومًا، صَحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ إلَى يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَإِنْ أَرَادَ نَفْسَ الْعَطَاءِ، فَهُوَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ. [فَصْل شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرًا] (2788) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرًا، يَوْمٌ يَثْبُتُ، وَيَوْمٌ لَا يَثْبُتُ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِإِمْكَانِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 وَيَبْطُلُ فِيمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إلَى الْجَوَازِ. وَيَحْتَمِلُ بُطْلَانَ الشَّرْطِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ، تَنَاوَلَ الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ، فَسَدَ جَمِيعُهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ إلَى الْحَصَادِ. [فَصْلٌ يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ وَلَا رِضَاهُ] (2789) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ وَلَا رِضَاهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدُهُمَا فَسْخَهُ بِغَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ، كَالْوَدِيعَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ رَفْعُ عَقْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إلَى رِضَا صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حُضُورِهِ، كَالطَّلَاقِ. وَمَا قَالُوهُ يَنْتَقِضُ بِالطَّلَاقِ، الْوَدِيعَةُ لَا حَقَّ لِلْمُودِعِ فِيهَا، وَيَصِحُّ فَسْخُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ. [فَصْلٌ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ وَلَمْ يَفْسَخْ أَحَدُهُمَا] (2790) فَصْلٌ: وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَفْسَخْ أَحَدُهُمَا، بَطَلَ الْخِيَارُ، وَلَزِمَ الْعَقْدُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ ضُرِبَتْ لِحَقٍّ لَهُ، لَا لِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ بِنَفْسِ مُرُورِ الزَّمَانِ، كَمُضِيِّ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْمُولِي. وَلَنَا، أَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ، فَبَطَلَتْ بِانْقِضَائِهَا كَالْأَجَلِ. وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِبَقَائِهَا يُفْضِي إلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَاهُ فِيهَا. وَالشَّرْطُ سَبَبُ الْخِيَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مُؤَقَّتٌ، فَفَاتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ، كَسَائِرِ الْمُؤَقَّتَات، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَ مُوجِبُهُ بِالشَّرْطِ، فَفِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الشَّرْطُ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ مُوجِبُهُ؛ لِزَوَالِ الْمُعَارِضِ، كَمَا لَوْ أَمْضُوهُ. وَأَمَّا الْمُولِي، فَإِنَّ الْمُدَّةَ إنَّمَا ضُرِبَتْ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ، وَهِيَ تُسْتَحَقُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرٌ. [فَصْل قَالَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدِينَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا خِلَابَةَ] (2791) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ: لَا خِلَابَةَ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَرَى ذَلِكَ جَائِزًا، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ كَانَ خَلَبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلَبَهُ فَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ. وَذَلِكَ «لِأَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ: إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» . «فَكَانَ إذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِلَابَةَ» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ. وَيَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ خَاصًّا لِحِبَّانَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عَاشَ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ، ثُمَّ يُخَاصِمُهُمْ، فَيَمُرُّ بِهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، فَيَقُولُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: وَيْحَكَ، إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّاسِ عَامَّةً لَقَالَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 جَعَلَ الْخِيَارَ لِمَنْ قَالَ: لَا خِلَابَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَا عَالِمَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ خِيَارِ الثَّلَاثِ، ثَبَتَ، وَإِنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ لَا يُزَالُ يُغْبَنَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «إذَا أَنْتَ بَايَعْت فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيت أَمْسَكْت، وَإِنْ سَخِطْت فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا» . وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ دَلِيلٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي الْخِيَارَ مُطْلَقًا، وَلَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِثَلَاثٍ، وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ، وَالْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ إنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُرْسَلًا، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْمُرْسَلَ حُجَّةً، ثُمَّ لَمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، إنَّمَا قَالُوا بِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ ثَلَاثًا، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ، فَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ مَا لَيْسَ بِمُقْتَضَاهُ، وَعَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ خَاصًّا لِحِبَّانَ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ لَهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مُقْتَضَاهُ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْخِيَارَ حِيلَةً عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْقَرْضِ] (2792) فَصْلٌ: إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ حِيلَةً عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْقَرْضِ، لِيَأْخُذَ غَلَّةَ الْمَبِيعِ وَنَفْعَهُ فِي مُدَّةِ انْتِفَاعِ الْمُقْتَرِضِ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يَرُدُّ الْمَبِيعَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ رَدِّ الثَّمَنِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِيَلِ. وَلَا يَحِلُّ لِآخِذِ الثَّمَنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنْ الرَّجُلِ الشَّيْءَ، وَيَقُولُ: لَك الْخِيَارُ إلَى كَذَا وَكَذَا مِثْلُ الْعَقَارِ؟ قَالَ: هُوَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً؛ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَهُ، فَيَأْخُذَ مِنْهُ الْعَقَارَ، فَيَسْتَغِلُّهُ، وَيَجْعَلُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ، لِيَرْبَحَ فِيمَا أَقْرَضَهُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ هَذَا، فَلَا بَأْسَ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ أَرَادَ إرْفَاقَهُ، أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَهُ مَالًا يَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ، وَلَمْ يُرِدْ الْحِيلَةَ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا جَائِزٌ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَاتَ انْقَطَعَ الْخِيَارُ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ بِالْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَبِيعِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِإِتْلَافِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى أَنَّ الْقَرْضَ جَرَّ مَنْفَعَةً. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك عَلَى أَنَّ تَنْقُدنِي الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَإِلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْننَا] (2793) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: بِعْتُك عَلَى أَنْ تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثٍ، أَوْ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَإِلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا. فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، إذَا كَانَ الشَّرْطُ إلَى ثَلَاثٍ. وَحُكِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ لَيْلَةً فُسِخَ الْبَيْعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزُفَرُ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ فَسْخَ الْبَيْعِ عَلَى غَرَرٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِقُدُومِ زَيْدٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ رَفْعَ الْعَقْدِ بِأَمْرِ يَحْدُثُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ بَيْعٍ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَسِخَ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ، كَالصَّرْفِ، وَلِأَنَّ هَذَا بِمَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرَوِّي فِي الْبَيْعِ، هَلْ يُوَافِقُهُ أَوْ لَا؟ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَوِّي فِي الثَّمَنِ، هَلْ يَصِيرُ مَنْقُودًا أَوْ لَا؟ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْمَعْنَى، مُتَغَايِرَانِ فِي الصُّورَةِ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْخِيَارِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ، وَهَا هُنَا يَنْفَسِخُ إذَا لَمْ يَنْقُدْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ. [فَصْل أَنْوَاع الْعُقُود الَّتِي يَدْخُل فِيهَا الْخِيَار] (2794) فَصْلٌ: وَالْعُقُودُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، عَقْدٌ لَازِمٌ، يُقْصَدُ مِنْهُ الْعِوَضُ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالصُّلْحُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَالْهِبَةُ بِعِوَضٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ، فَهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، لِأَنَّ الْخِيَارَ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، دَخَلَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ يُفْضِي إلَى فَوْتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، أَوْ إلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي مَرَّةً مِثْلَ هَذَا، وَمَرَّةً قَالَ: يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارَانِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الشُّفْعَةُ، فَلَا خِيَارَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَبِيعُ قَهْرًا، وَالشَّفِيعُ يَسْتَقِلُّ بِانْتِزَاعِ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَأَشْبَهَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَنَحْوِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّفِيعِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُشْتَرِيَ. النَّوْعُ الثَّانِي، مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ، وَبَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ، فَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَلَى أَنْ لَا يَبْقَى بَيْنَهَا عَلَقَةٌ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ يُبْقِي بَيْنَهُمَا عَلَقَةً، وَيُثْبِتُ فِيهَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْحَظِّ فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا. وَعَنْهُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ إلْحَاقًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، لَازِمٌ، لَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِوَضُ، كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ. فَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْرِفَةِ الْحَظِّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ جَائِزًا، لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ. وَالْعِوَضُ هَاهُنَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ، وَلِأَنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ضَرَرًا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ، لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، كَالرَّهْنِ، لَازِمٌ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَغْنِي بِالْجَوَازِ فِي حَقِّهِ عَنْ ثُبُوتِ خِيَارٍ آخَرَ، وَالرَّاهِنُ يَسْتَغْنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إلَى أَنْ يَقْبِضَ، وَكَذَلِكَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ، لَا خِيَارَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا مُتَطَوِّعَيْنِ رَاضِيَيْنِ بِالْغَبْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ، عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، كَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْجَعَالَةِ، وَالْوَكَالَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، فَهَذِهِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارٌ، اسْتِغْنَاءً بِجَوَازِهَا، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فَسْخِهَا بِأَصْلِ وَضْعِهَا. الضَّرْبُ الْخَامِسُ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَاللُّزُومِ، كَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ، فَلَا يَدْخُلُهُمَا خِيَارٌ. وَقَدْ قِيلَ: هُمَا لَازِمَانِ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِمَا وَجْهَانِ، وَالسَّبْقِ وَالرَّمْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَعَالَةٌ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ. وَقِيلَ: هُمَا إجَارَةٌ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهَا. الضَّرْبُ السَّادِسُ، لَازِمٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْحَوَالَةِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا خِيَارَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لَا خِيَارَ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْآخَرِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُحِيلِ وَالشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُقْصَدُ فِيهَا الْعِوَضُ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْبَيْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 [بَابُ الرِّبَا وَالصَّرْفِ] ِ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الزِّيَادَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] . وَقَالَ: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] . أَيْ أَكْثَرُ عَدَدًا، يُقَالُ: أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، إذَا زَادَ عَلَيْهِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ. وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْآيَاتِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرَةٍ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ. [فَصْلٌ الرِّبَا عَلَى ضَرْبَيْنِ] (2795) فَصْلٌ: وَالرِّبَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا. وَقَدْ كَانَ فِي رِبَا الْفَضْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؛ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، رَوَى ذَلِكَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: صَحِبْت ابْنَ عَبَّاسٍ حَتَّى مَاتَ، فَوَاَللَّهِ مَا رَجَعَ عَنْ الصَّرْفِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعِشْرِينَ لَيْلَةً عَنْ الصَّرْفِ؟ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَكَانَ يَأْمُرُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، قَالَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَيْضًا، قَالَ: «جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ هَذَا يَا بِلَالُ؟ . قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْت صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، لِيُطْعِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إنْ أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ مَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ] (2796) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَكُلُّ مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ إذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا) قَوْلُهُ: " مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ ". يَعْنِي مِنْ جَمِيعِهَا. وَضَعَ سَائِرَ مَوْضِعَ جَمِيعٍ تَجَوُّزًا، وَمَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ لِبَاقِي الشَّيْءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرِّبَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَتَمَّهَا مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا يَثْبُتُ الرِّبَا فِيهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَصَرَا الرِّبَا عَلَيْهَا، وَقَالَا: لَا يَجْرِي فِي غَيْرِهَا. وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَنُفَاة الْقِيَاسِ، وَقَالُوا: مَا عَدَاهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ عِلَّتُهَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَيَجِبُ اسْتِخْرَاجُ عِلَّةِ هَذَا الْحُكْمِ، وَإِثْبَاتُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ زِيَادَةٍ، إذْ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ، إلَّا مَا أَجْمَعْنَا عَلَى تَخْصِيصِهِ. وَهَذَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرُوهُ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، إلَّا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وَالذُّرَةِ بِالدُّخْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا، فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ» . فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَبْطُلُ بِالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا مَعَ تَقَارُبِهِمَا. وَاتَّفَقَ الْمُعَلِّلُونَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الْأَعْيَانِ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، أَشْهَرُهُنَّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُ مَوْزُونَ جِنْسٍ، وَعِلَّةُ الْأَعْيَانِ الْأَرْبَعَةِ مَكِيلُ جِنْسٍ. نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ الْجَمَاعَةُ، وَذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَالْحُبُوبِ، وَالْأُشْنَانِ، وَالنُّورَةِ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، وَالْكَتَّانِ، وَالْوَرْسِ، وَالْحِنَّاءِ، وَالْعُصْفُرِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَجْرِي فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ. وَهُوَ الرِّبَا، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ، وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وُزِنَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيلَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَرَوَاهُ عَنْ ابْنِ صَاعِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشِ، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ، وَأَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ هَكَذَا غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَرَوَاهُ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَعَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: «الْعَبْدُ خَيْرٌ مِنْ الْعَبْدَيْنِ، وَالثَّوْبُ خَيْرٌ مِنْ الثَّوْبَيْنِ. فَمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسَاءِ، إلَّا مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ.» وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْبَيْعِ الْمُسَاوَاةُ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِهَا الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَالْجِنْسُ، فَإِنَّ الْوَزْنَ أَوْ الْكَيْلَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا مَعْنًى، فَكَانَا عِلَّةً، وَوَجَدْنَا الزِّيَادَةَ فِي الْكَيْلِ مُحَرَّمَةً دُونَ الزِّيَادَةِ فِي الطَّعْمِ؛ بِدَلِيلِ بَيْعِ الثَّقِيلَةِ بِالْخَفِيفَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ إذَا تُسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ، وَنَحْوَ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْعِلَّةُ الطَّعْمُ، وَالْجِنْسُ شَرْطٌ. وَالْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَوْهَرِيَّةُ الثَّمَنِيَّةِ غَالِبًا، فَيَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ، إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةُ وَصْفُ شَرَفٍ، إذْ بِهَا قِوَامُ الْأَمْوَالِ، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي الْأَثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إسْلَامُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ؛ الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَلَا يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ، وَالْخَوْخِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالْأُتْرُجِّ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْإِجَّاصِ، وَالْخِيَارِ، وَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، وَلَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ، كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْأُشْنَانِ، وَالْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَنَحْوِهِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إلَّا فِيمَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ، مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَقَدْ وَهِمَ. وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. وَلِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لَا مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ، وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ؛ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ. وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا، وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، دُونَ غَيْرِهِمَا. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَتَقْيِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْآخَرِ، فَنَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْ التَّفَاضُلِ فِيهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْعِلَّةُ الْقُوتُ، أَوْ: مَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّخَرَاتِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْجِنْسُ الْوَاحِدُ عِلَّةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْعِ الْفَرَسِ بِالْأَفْرَاسِ، وَالنَّجِيبَةِ بِالْإِبِلِ: «لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُ مَالِكٍ يَنْتَقِضُ بِالْحَطَبِ وَالْإِدَامِ يُسْتَصْلَحُ بِهِ الْقُوتُ وَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَهُ، وَتَعْلِيلُ رَبِيعَةَ يَنْعَكِسُ بِالْمِلْحِ، وَالْعَكْسُ لَازِمٌ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ، مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ الرِّبَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 كَالْأُرْزِ، وَالدُّخْنِ، وَالذُّرَةِ، وَالْقُطْنِيَّاتِ، وَالدُّهْنِ، وَالْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، وَاللَّحْمِ، وَنَحْوِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، سِوَى قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ شَذَّ عَنْ جَمَاعَةِ النَّاسِ، فَقَصَرَ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ. وَمَا انْعَدَمَ فِيهِ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَالطَّعْمُ، وَاخْتَلَفَ جِنْسُهُ، فَلَا رِبَا فِيهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالتِّينِ، وَالنَّوَى، وَالْقَتِّ، وَالْمَاءِ، وَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً، فَيَكُونُ مَوْزُونًا مَأْكُولًا، فَهُوَ إذًا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَمَا عَدَاهُ إنَّمَا يُؤْكَلُ سَفَهًا، فَجَرَى مَجْرَى الرَّمْلِ وَالْحَصَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: «لَا تَأْكُلِي الطِّينَ، فَإِنَّهُ يُصَفِّرُ اللَّوْنَ» . وَمَا وُجِدَ فِيهِ الطَّعْمُ وَحْدَهُ، أَوْ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ، مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، وَالْأَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حِلُّهُ؛ إذْ لَيْسَ فِي تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ، وَلَا مَعْنًى يُقَوِّي التَّمَسُّكَ بِهِ، وَهِيَ مَعَ ضَعْفِهَا يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَوَجَبَ اطِّرَاحُهَا، أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَالرُّجُوعُ إلَى أَصْلِ الْحِلِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالِاعْتِبَارُ. وَلَا فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا، كَالْأُرْزِ، وَالذُّرَةِ، وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ، وَاللَّبَنِ، وَاللَّحْمِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالْإِهْلِيلَجِ، وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُلَّ فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ. [فَصْلٌ مَا جَرَى الرِّبَا فِي كَثِيرِهِ جَرَى فِي قَلِيلِهِ] (2797) فَصْلٌ، وَقَوْلُهُ: مَا كِيلَ، أَوْ وُزِنَ. أَيْ: مَا كَانَ جِنْسُهُ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ فِيهِ كَيْلٌ، وَلَا وَزْنٌ، إمَّا لِقِلَّتِهِ كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ، وَالْحَفْنَةِ وَالْحَفْنَتَيْنِ، وَمَا دُونَ الْأُرْزَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ لِكَثْرَتِهِ كَالزُّبْرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ، وَالْحَبَّةِ بِالْحَبَّتَيْنِ، وَسَائِرِ الْمَكِيلِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى كَيْلُهُ، وَوَافَقَ فِي الْمَوْزُونِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْكَيْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْيَسِيرِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» . وَلِأَنَّ مَا جَرَى الرِّبَا فِي كَثِيرِهِ جَرَى فِي قَلِيلِهِ، كَالْمَوْزُونِ. (2798) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ، وَلَا حَفْنَةٍ بِحَفْنَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَلَا أَعْلَمُهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ لَا تَجْرِي الْمُمَاثَلَةُ فِي غَيْرِهِ (2799) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا لَا وَزْنَ لِلصِّنَاعَةِ فِيهِ، كَمَعْمُولِ الْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وَالصُّوفِ، وَالْإِبْرَيْسَمِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الثِّيَابِ وَالْأَكْسِيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالثَّوْبِ بِالثَّوْبَيْنِ، وَالْكِسَاءِ بِالْكِسَاءَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: لَا يُبَاعُ الْفَلْسُ بِالْفَلْسَيْنِ، وَلَا السِّكِّينُ بِالسِّكِّينَيْنِ، وَلَا إبْرَةٌ بِإِبْرَتَيْنِ، أَصْلُهُ الْوَزْنُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي حُكْمَ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، فَجَعَلَ فِيهِمَا جَمِيعًا رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجْرِي فِي الْجَمِيعِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْزُونِ وَلَا مَكِيلٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. إذْ لَا مَعْنَى لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَعَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ، يَجْرِي الرِّبَا فِي الْجَمِيعِ. اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْوَزْنُ، فَلَا يَخْرُجُ بِالصِّنَاعَةِ عَنْهُ كَالْخُبْزِ، وَذَكَرَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْقَاضِي؛ أَنَّ مَا كَانَ يُقْصَدُ وَزْنُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ كَالْأَسْطَالِ فَفِيهِ الرِّبَا، وَمَالًا فَلَا. (2800) فَصْلٌ: وَيَجْرِي الرِّبَا فِي لَحْمِ الطَّيْرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَجْرِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ بِغَيْرِ وَزْنٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَحْمٌ فَجَرَى فِيهِ الرِّبَا، كَسَائِرِ اللُّحْمَانِ. وَقَوْلُهُ: لَا يُوزَنُ. قُلْنَا: هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُوزَنُ، وَيُقْصَدُ ثِقَلُهُ، وَتَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِثِقَلِهِ وَخِفَّتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا يُبَاعُ مِنْ الْخُبْزِ بِالْعَدَدِ. [فَصْلٌ جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُلِ وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُلِ] (2801) فَصْلٌ: وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ، وَالتِّبْرُ وَالْمَضْرُوبُ، وَالصَّحِيحُ وَالْمَكْسُورُ، سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُلِ، وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ، وَنَفَوْهُ عَنْهُ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ. وَلِأَنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً؛ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْإِتْلَافِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إلَى الذَّهَبِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . وَعَنْ عُبَادَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَمَرَ بِبَيْعِ آنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَبَلَغَ عُبَادَةَ فَقَالَ: «إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» . ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى مُعَاوِيَةَ، لَا تَبِعْ ذَلِكَ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَزْنًا بِوَزْنٍ. وَلِأَنَّهُمَا تُسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ، فَلَا يُؤَثِّرُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِيمَةِ، كَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ لِصَائِغٍ: صُغْ لِي خَاتَمًا وَزْنُهُ دِرْهَمٌ، وَأُعْطِيكَ مِثْلَ وَزْنِهِ، وَأُجْرَتَك دِرْهَمًا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ، وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ. [كُلُّ مَا حَرَّمَ فِيهِ التَّفَاضُل حَرَّمَ فِيهِ النَّسَاءِ] (2802) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ حَرُمَ فِيهِ النَّسَاءُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَيْنًا بِعَيْنٍ» . وَقَوْلِهِ: «يَدًا بِيَدٍ» . وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النَّسَاءِ آكَدُ، وَلِذَلِكَ جَرَى فِي الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَإِذَا حَرُمَ التَّفَاضُلُ، فَالنَّسَاءُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. [مَسْأَلَةٌ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسَيْنِ] قَالَ (2803) مَسْأَلَةٌ: (وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً) لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسَيْنِ نَعْلَمُهُ، إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا يَتَقَارَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا. وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «إذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، فَجَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ تَبَاعَدَتْ مَنَافِعُهُمَا. وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، مَعَ تَقَارُبِ مَنَافِعِهِمَا. فَأَمَّا النَّسَاءُ؛ فَكُلُّ جِنْسَيْنِ يَجْرِي فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ، وَالْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ، عِنْدَ مَنْ يُعَلِّلُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْأُخَرِ نَسَاءً، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا، وَالْآخَرُ مُثْمَنًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ النَّسَاءُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَرْخَصَ فِي السَّلَمِ، وَالْأَصْلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَلَوْ حَرُمَ النَّسَاءُ هَاهُنَا لَانْسَدَّ بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فِي الْغَالِبِ. فَأَمَّا إنَّ اخْتَلَفَتْ عِلَّتُهُمَا كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ، مِثْلُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْبُرِّ، فَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِيهِمَا، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَحَرُمَ النَّسَاءُ فِيهِمَا، كَالْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، فَجَازَ النَّسَاءُ فِيهِمَا، كَالثِّيَابِ بِالْحَيَوَانِ. [فَصْلٌ بَيْعُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ] (2804) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، لَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ فَعَلَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِيهِمَا كَغَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَكَبَيْعِ ذَلِكَ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي، فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ. وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَلِكَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ عُمَرُ بِهِ، وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا عِلَّتُهُمَا وَاحِدَةٌ، فَحَرُمَ التَّفَرُّقُ فِيهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ. فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَتْ عِلَّتُهُمَا، كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ عِنْدَ مَنْ يُعَلِّلُ بِهِمَا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَجَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالثَّمَنِ بِالْمُثْمَنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي بَيْعِ الْأَثْمَانِ بِغَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ وُجُوبَ التَّقَابُضِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِقَوْلِهِ: «يَدًا بِيَدٍ» . [مَسْأَلَة تَحْرِيمِ النَّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ] (2805) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، عَلَى أَرْبَعِ رِوَايَاتِ؛ إحْدَاهُنَّ، لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا، إلَّا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ. فَيَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي الْمَطْعُومِ، وَلَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 جَيْشًا، فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي قِلَاصِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ عَلِيًّا بَاعَ بَعِيرًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: عُصَيْفِيرٌ، بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إلَى أَجَلٍ. وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ لَا يَجْرِي فِيهِمَا رِبَا الْفَضْلِ، فَجَازَ النَّسَاءُ فِيهِمَا كَالْعَرْضِ بِالدِّينَارِ، وَلِأَنَّ النَّسَاءَ أَحَدُ نَوْعَيْ الرِّبَا، فَلَمْ يَجُزْ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي كُلِّ مَالٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ، وَالثِّيَابِ بِالثِّيَابِ، وَلَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِمَّنْ كَرِهَ بَيْعَ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نِسَاءً ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَابْنِ عُمَرَ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، فَحَرُمَ النَّسَاءُ، كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَالثَّالِثَةُ، لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ إلَّا فِيمَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، فَأَمَّا مَعَ التَّمَاثُلِ فَلَا؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ نَسَاءً، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . مِنْ الْمُسْنَدِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ النَّسَاءِ مَعَ التَّمَاثُلِ بِمَفْهُومِهِ. وَالرَّابِعَةُ، يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي كُلِّ مَالٍ بِيعَ بِمَالٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّوَايَةَ الثَّالِثَةَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَرْضٍ بِعَرْضِ، فَحَرُمَ النَّسَاءُ بَيْنَهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، قَالَ الْقَاضِي: فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ عَرْضًا بِعَرْضٍ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، الْعُرُوض نَقْدًا وَالدَّرَاهِمُ نَسِيئَةً، جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ نَقْدًا وَالْعُرُوضُ نَسِيئَةً، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى النَّسِيئَةِ فِي الْعُرُوضِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ يُخَالِفُ الْأَصْلَ بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ فِي الْمَحِلِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ أَوْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْصَافًا لَهَا أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ الْفَضْلِ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ أَصْلًا، فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ فِي حِلِّ الْبَيْعِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ هِيَ الْأُولَى؛ لِمُوَافَقَتِهَا الْأَصْلَ. وَالْأَحَادِيثُ الْمُخَالِفَةُ لَهَا، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَيُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَقَّاهُ. وَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا، فَقَالَ: هُمَا مُرْسَلَانِ. وَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَرْوِيهِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ الْأَثْرَمُ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَصِحُّ سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا حَجَّاجٌ زَادَ فِيهِ: " نَسَاءً "، وَلَيْثُ بْنُ سَعْدٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ: " نِسَاءً "، وَحَجَّاجٌ هَذَا هُوَ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: هُوَ وَاهِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ صَدُوقٌ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَبِيعَيْنِ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ، وَالْآخَرُ فِيهِ رِبَا كَالْمَكِيلِ بِالْمَعْدُودِ، فَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِيهِمَا. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَحْرُمُ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَعْدُودًا بِمَعْدُودٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ الرَّطْبِ بِيَابِسِ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا الْعَرَايَا] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ الرَّطْبِ بِيَابِسِ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا الْعَرَايَا) أَرَادَ الرَّطْبَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، كَالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَاللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ أَوْ الرَّطْبَةِ بِالْيَابِسَةِ، أَوْ الْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ، فَيَجُوزُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَيَجُوزُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» . وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ» . وَفِي لَفْظٍ، «نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ قَالُوا: نَعَمْ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، قَالَ: «فَلَا إذَنْ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 نَهَى وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَنْقُصُ إذَا يَبِسَ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ» . وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا؛ وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ الْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَدِيثُ بِالْعَتِيقِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَسِيرٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ. وَقَالَ: زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ رَاوِيهِ ضَعِيفٌ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ، وَأَبُو عَيَّاشٍ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، وَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ مَتْرُوكِ الْحَدِيثِ. [فَصْلٌ بَيْع الرُّطَب بِالرُّطَبِ وَالْعِنَب بِالْعِنَبِ] (2807) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِ مِنْ الرُّطَبِ بِمِثْلِهِ، فَيَجُوزُ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا يَيْبَسُ. أَمَّا مَا لَا يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَنَحْوِهِ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا حَالَةَ الِادِّخَارِ، فَأَشْبَهَ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ. وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى هَذَا، وَحَمَلَ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ فِي اللَّحْمِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا، وَيَجُوزُ إذَا تَنَاهَى جَفَافُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا: إبَاحَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إبَاحَةُ بَيْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَجَازَ، كَبَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] عَامٌ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ كَثِيرٌ، وَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْحَدِيثِ بِالْعَتِيقِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ. [مَسْأَلَة الْمُمَاثَلَةِ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهَا] (2808) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا، وَلَا مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلًا) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهَا، وَأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَرْعِيَّةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، وَمَتَى تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْمُسَاوَاةُ، لَمْ يَضُرَّ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا سِوَاهَا. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ إلَّا مَالِكًا قَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْزُونَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جُزَافًا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي حَدِيثِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 عُبَادَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: «الْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدْيٌ بِمُدْيٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» . فَأَمَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْوَزْنِ، كَمَا أَمَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَكِيلَاتِ فِي الْكَيْلِ، وَمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ مَقِيسٌ عَلَيْهِمَا وَمُشَبَّهٌ بِهِمَا؛ وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ جُزَافًا كَالْمَكِيلِ، وَلِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَأَشْبَهَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَضْلِ مُبْطِلَةٌ لِلْبَيْعِ، وَلَا نَعْلَمُ عَدَمَ ذَلِكَ إلَّا بِالْوَزْنِ، فَوَجَبَ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْمَكِيلِ وَالْأَثْمَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَزْنًا، وَلَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ كَيْلًا؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الْكَيْلِ مُشْتَرَطٌ فِي الْمَكِيلِ، وَفِي الْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ، فَمَتَى بَاعَ رِطْلًا مِنْ الْمَكِيلِ بِرِطْلٍ حَصَلَ فِي الرِّطْلِ مِنْ الْخَفِيفِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الثَّقِيلِ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي الْكَيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْفَضْلَ، لَكِنْ يَجْهَلُ التَّسَاوِي، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ بِالْكَيْلِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمَاثُلُ فِي الْوَزْنِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَكِيلِ. [فَصْلٌ بَيْعُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ جُزَافًا] (2809) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا أَوْ كَانَ جُزَافًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ، لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ» . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» إلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ شَرْطٌ، وَالْجَهْلُ بِهِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ، كَحَقِيقَةِ التَّفَاضُلِ (2810) فَصْلٌ: وَمَا لَا يُشْتَرَطُ التَّمَاثُلُ فِيهِ كَالْجِنْسَيْنِ، وَمَا لَا رِبَا فِيهِ، يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِتَخْصِيصِهِ مَا يُكَالُ بِمَنْعِ بَيْعِهِ بِشَيْءِ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا، وَمَا يُوزَنُ بِمَنْعِ بَيْعِهِ مِنْ جِنْسِهِ كَيْلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ، لَا يُدْرَى كَمْ كَيْلُ هَذِهِ، وَلَا كَيْلُ هَذِهِ، مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا بَأْسَ بِهِ مِنْ صِنْفَيْنِ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» . وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى مَنْعِ بَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ جُزَافًا، وَبَيْعِ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ جُزَافًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: أَكْرَهُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا خَيْرَ فِيمَا يُكَالُ بِمَا يُكَالُ جُزَافًا، وَلَا فِيمَا يُوزَنُ بِمَا يُوزَنُ جُزَافًا، اتَّفَقَتْ الْأَجْنَاسُ أَوْ اخْتَلَفَتْ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ جُزَافًا، وَقَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُجَازَفَةً» . وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ، أَشْبَهَ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . عَامٌ خَصَّصْنَاهُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ، فَجَازَ جُزَافًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْفَضْلِ لَا يَمْنَعُ، فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «نَهَى أَنْ تُبَاعَ الصُّبْرَةُ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا مِنْ التَّمْرِ، بِالصُّبْرَةِ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا مِنْ التَّمْرِ» . ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ، فَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ مُجَازَفَةً؛ لِفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَفِي الْجِنْسَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ التَّمَاثُلُ، وَلَا يُمْنَعُ حَقِيقَةُ التَّفَاضُلِ، فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا. (2811) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ. وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَهُمَا وَتُسَاوِيهِمَا، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِوُجُودِ التَّمَاثُلِ الْمُشْتَرَطِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَكِيلَتَا فَكَانَتَا سَوَاءٌ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ بَاعَ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، صَحَّ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ جُزَافًا. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَكِيلَتَا فَكَانَتَا سَوَاءً، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ زَادَتْ إحْدَاهُمَا فَرَضِيَ صَاحِبُ النَّاقِصَةِ بِهَا مَعَ نَقْصِهَا، أَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الزَّائِدَةِ بِرَدِّ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبِهِ، جَازَ، وَإِنْ امْتَنَعَا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا. ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (2812) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ قَسْمُ الْمَكِيلِ وَزْنًا، وَقَسْمُ الْمَوْزُونِ كَيْلًا، وَقَسْمُ الثِّمَارِ خَرْصًا، وَقَسْمُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ بَطَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ، فَيَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ، وَيُمْنَعُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ، فَقَدْ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِمَّا تَعَيَّنَ لَهُ بِنَصِيبِهِ فِيمَا تَعَيَّنَ لِشَرِيكِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ؛ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ تَعْدِيلِ السِّهَامِ، وَدُخُولِ الْقُرْعَةِ فِيهَا، وَلُزُومِهَا بِهَا، وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ بَيْعٍ وَلَا تَمْلِيكٍ، وَلَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ، وَلَا تَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 الْحَقَّيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا شُفْعَةٌ، وَتَخْتَصُّ بِاسْمٍ. وَتَغَايُرُ الْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَسَمَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْغَنَائِمَ بالحجف. وَذَلِكَ كَيْلُ الْأَثْمَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ، وَانْتَشَرَ فِي بَقِيَّتِهِمْ فَلَمْ يُنْكَرْ، فَصَارَ إجْمَاعًا عَلَى مَا قُلْنَاهُ. [فَصْل الْمَرْجِعُ إلَى الْعُرْفِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ] (2813) فَصْلٌ: فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي كُلِّ بَلَدٍ بِعَادَتِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ الْمَدِينَةِ، وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ مَكَّةَ» . وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَكِيلًا بِالْحِجَازِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ التَّحْرِيمُ فِي تَفَاضُلِ الْكَيْلِ إلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا الْمَوْزُونُ، وَمَا لَا عُرْفَ لَهُ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ بِالْحِجَازِ، كَمَا أَنَّ الْحَوَادِثَ تُرَدُّ إلَى أَشْبَهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَالثَّانِي، يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الشَّرْعِ حَدٌّ كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالْقَبْضِ، وَالْإِحْرَازِ، وَالتَّفَرُّقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى هَذَا إنْ اخْتَلَفَتْ الْبِلَادُ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبٌ بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ مَكِيلَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ» . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُبُوبِ، وَالْأَبَازِيرِ، وَالْأُشْنَانِ، وَالْجِصِّ، وَالنُّورَةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا. وَالتَّمْرُ مَكِيلٌ، وَهُوَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَمْرِ النَّخْلِ مِنْ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَسَائِرُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الثِّمَارِ، مِثْلِ الزَّبِيبِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ، وَالْعُنَّابِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالْبُطْمِ، وَالزَّيْتُونِ، وَاللَّوْزِ. وَالْمِلْحُ مَكِيلٌ، وَهُوَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ» . وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مَوْزُونَانِ. ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالصُّفْرِ، وَالرَّصَاصِ، وَالزُّجَاجِ، وَالزِّئْبَقِ. وَمِنْهُ الْإِبْرَيْسَمُ، وَالْقُطْنُ، وَالْكَتَّانُ، وَالصُّوفُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وَغَزْلُ ذَلِكَ، وَمَا أَشْبَهَهُ. وَمِنْهُ الْخُبْزُ، وَاللَّحْمُ، وَالشَّحْمُ، وَالْجُبْنُ، وَالزُّبْدُ، وَالشَّمْعُ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَكَذَلِكَ الزَّعْفَرَانُ، وَالْعُصْفُرُ، وَالْوَرْسُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (2814) فَصْلٌ: وَالدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ مَكِيلَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا مَكِيلٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُلُهُمَا عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمَا يُشْبِهَانِ مَا يُكَالُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الدَّقِيقِ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ بِالْوَزْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَكِيلًا وَهُوَ مَوْزُونٌ، كَالْخُبْزِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِالصَّاعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُخْرَجُ فِي الْفِطْرَةِ صَاعٌ مِنْ دَقِيقٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَالصَّاعُ إنَّمَا يُقَدَّرُ بِهِ الْمَكِيلَاتُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَقِطُ مَكِيلًا؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ: «صَاعٌ مِنْ أَقِطٍ» . (2815) فَصْلٌ: فَأَمَّا اللَّبَنُ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ، كَالْأَدْهَانِ مِنْ الزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَلِّ، وَالدِّبْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَكِيلَةٌ. قَالَ الْقَاضِي فِي الْأَدْهَانِ: هِيَ مَكِيلَةٌ. وَفِي اللَّبَنِ: يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُبَاعُ اللَّبَنُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إلَّا كَيْلًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ السَّلَفِ فِي اللَّبَنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ كَيْلًا، أَوْ وَزْنًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ مُقَدَّرٌ بِالصَّاعِ، وَلِذَلِكَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَيَغْتَسِلُ هُوَ وَبَعْضُ نِسَائِهِ مِنْ الْفَرَقِ» . وَهَذِهِ مَكَايِيلُ قُدِّرَ بِهَا الْمَاءُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِ الْأَنْعَامِ إلَّا بِالْكَيْلِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فِي كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، وَلَا يُشْبِهُ مَا جَرَى فِيهِ الْعُرْفُ بِذَلِكَ، كَالثِّيَابِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالْمَعْدُودَاتِ مِنْ الْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، وَالرُّمَّانِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَسَائِرِ الْخَضْرَاوَاتِ، وَالْبُقُولِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالْخَوْخِ، وَنَحْوِهَا، فَهَذِهِ الْمَعْدُودَاتُ إذَا اعْتَبَرْنَا التَّمَاثُلَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّمَاثُلُ فِي الْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخْصَرُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْآخَرُ، قَالُوا: يُعْتَبَرُ مَا أَمْكَنَ كَيْلُهُ بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَعْيَانُ الْأَرْبَعَةُ، وَهِيَ مَكِيلَةٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْفَرْعِ أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْلِهِ. بِحُكْمِهِ، وَالْأَصْلُ حُكْمُهُ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ بِالْكَيْلِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُ فُرُوعِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وَلَنَا، أَنَّ الْوَزْنَ أَخْصَرُ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، كَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْكَيْلُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. [مَسْأَلَةٌ كُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْجِنْسِ ثَبَتَ فِيهِمَا حُكْمُ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ] (2816) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا) الْجِنْسُ: هُوَ الشَّامِلُ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْوَاعِهَا. وَالنَّوْعُ: الشَّامِلُ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَشْخَاصِهَا. وَقَدْ يَكُونُ النَّوْعُ جِنْسًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ، نَوْعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا؛ الْجِنْسُ الْأَخَصُّ، وَالنَّوْعُ الْأَخَصُّ. فَكُلُّ نَوْعَيْنِ اجْتَمَعَا فِي اسْمٍ خَاصٍّ، فَهُمَا جِنْسٌ، كَأَنْوَاعِ التَّمْرِ، وَأَنْوَاعِ الْحِنْطَةِ. فَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا، وَهُوَ التَّمْرُ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَنْوَاعُهُ، كَالْبَرْنِيِّ، وَالْمَعْقِلِيِّ، وَالْإِبْرَاهِيمِيّ، والخاستوي، وَغَيْرِهَا. وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْجِنْسِ ثَبَتَ فِيهِمَا حُكْمُ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَنْوَاعُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ. فَاعْتَبَرَ الْمُسَاوَاةَ فِي جِنْسِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، ثُمَّ قَالَ: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» . وَفِي لَفْظٍ: «إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمْنَاهُ فِي وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ، مَعَ اتِّفَاقِ الْأَنْوَاعِ، وَاخْتِلَافِهَا. [فَصْل إذَا كَانَ الْمُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُمَا جِنْسَانِ فِي الرَّبَّا] (2817) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهُمَا جِنْسَانِ؛ كَالْأَدِقَّةِ، وَالْأَخْبَازِ، وَالْخُلُولِ، وَالْأَدْهَانِ، وَعَصِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، كُلُّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ خَلَّ التَّمْرِ، وَخَلَّ الْعِنَبِ، جِنْسٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهُمَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَكَانَا جِنْسَيْنِ، كَدَقِيقِ الْحِنْطَةِ، وَدَقِيقِ الشَّعِيرِ. وَمَا ذُكِرَ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مُنْتَقِضٌ بِسَائِرِ فُرُوعِ الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَكُلُّ نَوْعٍ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِذَا كَانَ شَيْئَانِ مِنْ أَصْلَيْنِ فَهُمَا جِنْسَانِ، فَزَيْتُ الزَّيْتُونِ، وَزَيْتُ الْبُطْمِ، وَزَيْتُ الْفُجْلِ، أَجْنَاسٌ. وَدُهْنُ السَّمَكِ وَالشَّيْرَجِ، وَدُهْنُ الْجَوْزِ، وَدُهْنُ اللَّوْزِ وَالْبِزْرِ أَجْنَاسٌ. وَعَسَلُ النَّحْلِ، وَعَسَلُ الْقَصَبِ، جِنْسَانِ. وَتَمْرُ النَّخْلِ، وَتَمْرُ الْهِنْدِ جِنْسَانِ. وَكُلُّ شَيْئَيْنِ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَقَاصِدُهُمَا؛ فَدُهْنُ الْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ، وَالزِّئْبَقِ، وَدُهْنُ الْيَاسَمِينِ، إذَا كَانَتْ مِنْ دُهْنٍ وَاحِدٍ، فَهِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: لَا يَجْرِي الرِّبَا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَدُ لِلْأَكْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ أَجْنَاسٌ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَهَا مُخْتَلِفَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهَا كُلَّهَا شَيْرَجٌ، وَإِنَّمَا طُيِّبَتْ بِهَذِهِ الرَّيَاحِينِ، فَنُسِبَتْ إلَيْهَا، فَلَمْ تَصِرْ أَجْنَاسًا، كَمَا لَوْ طُيِّبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 سَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا تُقْصَدُ الرَّيَاحِينُ لِلْأَكْلِ. قُلْنَا: هِيَ صَالِحَةٌ لِلْأَكْلِ، وَإِنَّمَا تُعَدُّ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَأْكُولَةً بِصَلَاحِهَا لِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أَجْنَاسٌ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَيَشْمَلُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ، فَكَانَتْ جِنْسًا، كَأَنْوَاعِ التَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ. (2818) فَصْلٌ: وَقَدْ يَكُونُ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ مُشْتَمِلًا عَلَى جِنْسَيْنِ، كَالتَّمْرِ، يَشْتَمِلُ عَلَى النَّوَى وَغَيْرِهِ، وَهُمَا جِنْسَانِ، وَاللَّبَنُ، يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَخِيضِ وَالزُّبْدِ، وَهُمَا جِنْسَانِ، فَمَا دَامَا مُتَّصِلَيْنِ اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا مُيِّزَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ، صَارَا جِنْسَيْنِ، حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْجِنْسَيْنِ الْأَصْلِيَّيْنِ. [فَصْلٌ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ] (2819) فَصْلٌ: فِي بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَفُرُوعِهِ، يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَسَوَاءٌ تُسَاوَيَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، وَفِي كَوْنِهِمَا يَنْكَبِسَانِ فِي الْمِكْيَالِ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، قِيلَ لِأَحْمَدَ: صَاعُ تَمْرٍ بِصَاعِ تَمْرٍ، وَأَحَدُ التَّمْرَيْنِ يَدْخُلُ فِي الْمِكْيَالِ مِنْهُ أَكْثَرُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ صَاعٌ بِصَاعٍ. وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ زَادَ، أَوْ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى» . فَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ، جَازَ بَيْعُهُ مُتَسَاوِيًا بِغَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلِمَ أَنَّ التَّمْرَ يَكُونُ فِيهِ النَّوَى. وَإِنْ نُزِعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ، جَازَ أَيْضًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي حَالِ الْكَمَالِ. وَلِأَنَّهُ يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ» . وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ النَّوَى بِالنَّوَى كَيْلًا لِذَلِكَ. وَإِذَا بَاعَ تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى بِتَمْرٍ نَوَاهُ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِاشْتِمَالِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ الْآخَرِ. وَإِنْ نَزَعَ النَّوَى، ثُمَّ بَاعَ النَّوَى وَالتَّمْرَ بِنَوًى وَتَمْرٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِنَزْعِهِ، فَصَارَ كَبَيْعِ تَمْرٍ وَحِنْطَةٍ بِتَمْرٍ وَحِنْطَةٍ. وَإِنْ بَاعَ النَّوَى بِتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى، جَازَ مُتَفَاضِلًا، وَمُتَسَاوِيًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَإِنْ بَاعَ النَّوَى بِتَمْرٍ نَوَاهُ فِيهِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ مَنَعَ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، وَأَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ نَوًى، فَيَصِيرُ كَمُدِّ عَجْوَةٍ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ تَمْرًا فِيهِ نَوَاهُ، بِتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى. وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ، وَصَارَ هَذَا كَبَيْعِ دَارٍ مُمَوَّهٍ سَقْفُهَا بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا؛ لِأَنَّ النَّوَى الَّذِي فِي التَّمْرِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَصَارَ كَبَيْعِ النَّوَى بِمَنْزُوعِ النَّوَى. (2820) فَصْلٌ: وَيُصْنَعُ مِنْ التَّمْرِ الدِّبْسُ، وَالْخَلُّ، وَالنَّاطِفُ، وَالْقَطَّارَةُ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِشَيْءِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَعَ بَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبَعْضُهَا مَائِعٌ، وَالتَّمْرُ جَامِدٌ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّاطِفِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَصْنُوعِ مِنْ التَّمْرِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا شَيْئًا مَقْصُودًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْقَطَّارَةِ، وَالدِّبْسِ، وَالْخَلِّ، كُلِّ نَوْعٍ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي خَلِّ الدَّقَلِ: يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهُوَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْبَيْعِ، كَالْخُبْزِ بِالْخُبْزِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ. وَلَا يُبَاعُ نَوْعٌ بِنَوْعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، فَيُفْضِي إلَى التَّفَاضُلِ. [فَصْلٌ بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ] (2821) فَصْل: وَالْعِنَبُ كَالتَّمْرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ خَلُّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ؛ لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ التَّمْرِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. [مَسْأَلَةٌ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ] (2822) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ) هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأُسُودِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَابْنِ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا. فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةً بَعْضَ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا، أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. قِيلَ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ. قَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُغَشُّ بِالْآخَرِ، فَكَانَا كَنَوْعَيْ الْجِنْسِ وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا، يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا» ، وَفِي لَفْظٍ: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» . وَهَذَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِغَيْرِ مُعَارِضٍ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ، فَلَمْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا، كَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَلِأَنَّهُمَا مُسَمَّيَانِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، فَكَانَا جِنْسَيْنِ، كَسَائِرِهَا. وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارِ الْجِنْسِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ أَجْنَاسِ الطَّعَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الطَّعَامَ الْمَعْهُودَ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الشَّعِيرُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ: وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِيرَ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عَامًّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ الصَّرِيحِ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ مَعْمَرٍ وَقَوْلُهُ لَا يُعَارَضُ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. [فَصْلٌ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءِ مِنْ فُرُوعِهَا] (2823) فَصْلٌ: فِي الْحِنْطَةِ وَفُرُوعِهَا، وَفُرُوعُهَا نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا، مَا لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، كَالدَّقِيقِ، وَالسَّوِيقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 وَالثَّانِي، مَا فِيهِ غَيْرُهُ، كَالْخُبْزِ، وَالْهَرِيسَةِ، وَالْفَالُوذَجِ، وَالنَّشَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءِ مِنْ فُرُوعِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامِ: أَحَدُهَا السَّوِيقُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ جَوَازُ ذَلِكَ، مُتَمَاثِلًا، وَمُتَفَاضِلًا. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِبَعْضٍ أَجْزَائِهَا مُتَفَاضِلًا، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ مَكُّوكِ حِنْطَةٍ بِمَكُّوكَيْ دَقِيقٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّمَاثُلِ؛ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَأَشْبَهَتْ الْمَقْلِيَّةَ. الْقَسَمُ الثَّانِي، مَا مَعَهُ غَيْرُهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ أَيْضًا. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَسَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْقَسَمُ الثَّالِثُ، الدَّقِيقُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ فِي الصَّحِيحِ. وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَكْحُولٍ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ جَائِزٌ. وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ، وَإِنَّمَا تَكَسَّرَتْ أَجْزَاؤُهَا، فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، كَالْحِنْطَةِ الْمُكَسَّرَةِ بِالصِّحَاحِ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا تُبَاعُ الْحِنْطَةُ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا بِالطَّحْنِ وَانْتَشَرَتْ، فَتَأْخُذُ مِنْ الْمِكْيَالِ مَكَانًا كَبِيرًا، وَالْحِنْطَةُ تَأْخُذُ مَكَانًا صَغِيرًا، وَالْوَزْنُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَلَنَا، أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ بَيْعٌ لِلْحِنْطَةِ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا، فَحَرُمَ، كَبَيْعِ مَكِيلَةٍ بِمَكِيلَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّحْنَ قَدْ فَرَّقَ أَجْزَاءَهَا، فَيَحْصُلُ فِي مِكْيَالِهَا دُونَ مَا يَحْصُلُ فِي مِكْيَالِ الْحِنْطَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّفَاضُلُ، فَقَدْ جُهِلَ التَّمَاثُلُ، وَالْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ التَّمَاثُلُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جُزَافًا، وَتَسَاوِيهِمَا فِي الْوَزْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، وَالْحِنْطَةُ وَالدَّقِيقُ مَكِيلَانِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْكَيْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُلُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ يُشْبِهُ الْمَكِيلَاتِ، فَكَانَ مَكِيلًا، كَالْحِنْطَةِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مَوْزُونًا، لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ لَا يُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ، كَمَا لَا يُقَدَّرُ الْمَوْزُونُ بِالْكَيْلِ. [فَصْلٌ بَيْعُ كُلٍّ مِنْ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا] (2824) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِ فُرُوعِهَا بِبَعْضٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ تَسَاوِيهِمَا حَالَةَ الْكَمَالِ، وَهُوَ حَالُ كَوْنِهَا حِنْطَةً، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الدَّقِيقَيْنِ قَدْ يَكُونُ مِنْ حِنْطَةٍ رَزِينَةٍ، وَالْآخَرَ مِنْ حِنْطَةٍ خَفِيفَةٍ، فَيَسْتَوِيَانِ دَقِيقًا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ حِنْطَةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا حَالَ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَجَازَ، كَبَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَيْلًا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَكِيلَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مَا يَنْقُلُهُمَا عَنْ ذَلِكَ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي النُّعُومَةِ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَفَاوَتَا فِي النُّعُومَةِ تَفَاوَتَا فِي ثَانِي الْحَالِ، فَيَصِيرُ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الدَّقِيقَ يُبَاعُ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا. وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَقَدْ سَلَّمَ فِي السَّوِيقِ أَنَّهُ يُبَاعُ بِالْكَيْلِ، وَالدَّقِيقُ مِثْلُهُ. فَأَمَّا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْزَاءُ حِنْطَةٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَأَشْبَهَ الدَّقِيقَ بِالدَّقِيقِ، وَالسَّوِيقَ بِالسَّوِيقِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَالْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا أَجْزَاءُ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، كَالدَّقِيقِ مَعَ الدَّقِيقِ، وَالسَّوِيقِ بِالسَّوِيقِ. [فَصْلٌ بَيْعُ مَا فِيهِ غَيْرُهُ كَالْخُبْزِ وَالنَّشَاءِ] (2825) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا فِيهِ غَيْرُهُ، كَالْخُبْزِ، وَغَيْرِهِ، فَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، إنَّمَا جُعِلَ فِيهِ لِمَصْلَحَتِهِ، كَالْخُبْزِ وَالنَّشَاءِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوْعِهِ، إذَا تَسَاوَيَا فِي النُّشَافَةِ وَالرُّطُوبَةِ. وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا تَحَرَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوزَنْ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِهِ قُرْصًا بِقُرْصَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ بِحَالٍ، إلَّا أَنْ يَيْبَسَ، وَيُدَقُّ دَقًّا نَاعِمًا، وَيُبَاعَ بِالْكَيْلِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ يَجِبُ التَّسَاوِي فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَتَعَذَّرَتْ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ، وَلِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، كَالْمَغْشُوشِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ التَّسَاوِي، أَنَّهُ مَطْعُومٌ مَوْزُونٌ، فَحَرُمَ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا، كَاللَّحْمِ، وَاللَّبَنِ، وَمَتَى وَجَبَ التَّسَاوِي، وَجَبَتْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ. وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّ مُعْظَمَ نَفْعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ بِهِ، كَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا، أَصْلُهُ غَيْرُ مَوْزُونٍ، كَاللَّحْمِ، وَالْأَدْهَانِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ؛ لِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالنَّقْصِ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ. وَلَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ أَخْذِ النَّارِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ حَالَ رُطُوبَتِهِمَا إذَا لَمْ يَكْثُرْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، أَشْبَهَ بَيْعَ الْحَدِيثَةِ بِالْعَتِيقَةِ. وَلَا يَلْزَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِيهِ، وَيُرَادُ لِمَصْلَحَتِهِ، فَهُوَ كَالْمِلْحِ فِي الشَّيْرَجِ. وَإِنْ يَبِسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الْخُبْزُ، فَدُقَّ، وَجُعِلَ فَتِيتًا، بِيعَ بِمِثْلِهِ كَيْلًا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ كَيْلُهُ، فَرُدَّ إلَى أَصْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُبَاعُ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَيْهِ. النَّوْعُ الثَّانِي، مَا فِيهِ غَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ، كَالْهَرِيسَةِ، وَالْخَزِيرَةِ، وَالْفَالُوذَجِ، وَخُبْزِ الْأَبَازِيرِ، وَالْخُشْكِنَانْجِ، والسنبوسك، وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلَا بَيْعُ نَوْعٍ بِنَوْعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَقْصُودٌ، كَاللَّحْمِ فِي الْهَرِيسَةِ، وَالْعَسَلِ فِي الْفَالُوذَجِ وَالْمَاءِ، وَالدُّهْنِ فِي الْخَزِيرَةِ. وَيَكْثُرُ التَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمَاثُلُ فِيهِ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّمَاثُلُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ، فَفِي النَّوْعَيْنِ أَوْلَى. [فَصْلٌ الْحُكْمُ فِي الشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ كَالْحُكْمِ فِي الْحِنْطَةِ] فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ كَالْحُكْمِ فِي الْحِنْطَةِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ وَالْمَصْنُوعِ مِنْهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْحُبُوبِ وَالْمَصْنُوعِ مِنْهَا؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اللَّحْمُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ] (2827) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَسَائِرُ اللُّحْمَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ) أَرَادَ جَمِيعَ اللَّحْمِ، وَجَمَعَهُ - وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ - لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ. ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ، رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كَوْنَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: الْأَنْعَامُ، وَالْوُحُوشُ، وَالطَّيْرُ، وَدَوَابُّ الْمَاءِ، أَجْنَاسٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا فِي اللَّحْمِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَنْعَامَ، وَالْوَحْشَ جِنْسًا وَاحِدًا، فَيَكُونُ عِنْدَهُ ثَلَاثَهُ أَصْنَافٍ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا فُرُوعُ أُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ، فَكَانَتْ أَجْنَاسًا، كَالْأَدِقَّةِ، وَالْأَخْبَازِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ. وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ. وَحَمَلَ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَيْهَا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ لَحْمَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَخْتَلِفُ الْمَنْفَعَةُ بِهَا، وَالْقَصْدُ إلَى أَكْلِهَا، فَكَانَتْ أَجْنَاسًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا أَجْنَاسًا لَا يُوجِبُ حَصْرَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ احْتِمَالِ لَفْظِهِ لَهُ، وَتَصْرِيحِهِ فِي الْأَيْمَانِ بِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْأَنْعَامِ، أَوْ الطَّائِرِ، أَوْ السَّمَكِ، حَنِثَ. فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى عُمُومِهِ فِي أَنَّ جَمِيعَ اللَّحْمِ جِنْسٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَكَ فِي الِاسْمِ الْوَاحِدِ حَالَ حُدُوثِ الرِّبَا فِيهِ، فَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا، كَالطَّلْعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ يُنْتَقَضُ بِالتَّمْرِ الْهِنْدِيِّ وَالتَّمْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 الْبَرْنِيِّ، وَعَسَلِ الْقَصَبِ وَعَسَلِ النَّحْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا، لَحْمُ الْإِبِلِ كُلُّهُ صِنْفٌ، بَخَاتِيهَا وَعِرَابِهَا، وَالْبَقَرُ عِرَابُهَا وَجَوَامِيسُهَا صِنْفٌ، وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَعْزُهَا صِنْفٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا فِي الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ فَقَالَ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فَرَّقَ بَيْن الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَقَالَ {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] . وَالْوَحْشُ أَصْنَافٌ؛ بَقَرُهَا صِنْفٌ، وَغَنَمُهَا صِنْفٌ، وَظِبَاؤُهَا صِنْفٌ، وَكُلُّ مَالَهُ اسْمٌ يَخُصُّهُ فَهُوَ صِنْفٌ. وَالطُّيُورُ أَصْنَافٌ، كُلُّ مَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ وَصِفَةٍ فَهُوَ صِنْفٌ، فَيُبَاعُ لَحْمُ صِنْفٍ بِلَحْمِ صِنْفٍ آخَرَ، مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا، وَيُبَاعُ بِصِفَةٍ مُتَمَاثِلًا، وَمَنْ جَعَلَهَا صِنْفًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ بَيْعُ لَحْمٍ بِلَحْمٍ، إلَّا مُتَمَاثِلًا. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ] (2828) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا. وَيَجُوزُ إذَا تَنَاهَى جَفَافُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ) اخْتَارَ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، إلَّا فِي حَالِ جَفَافِهِ وَذَهَابِ رُطُوبَتِهِ كُلِّهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ فِي " شَرْحِهِ " إلَى هَذَا. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَذْهَبُ: جَوَازُ بَيْعِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ، فِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ بِجَوَازِ الْبَيْعِ يُنَبِّهُ عَلَى إبَاحَةِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ اللَّحْمُ، حَالَ كَمَالِهِ وَمُعْظَمَ نَفْعِهِ، فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ دُونَ حَالِ يُبْسِهِ، فَجَرَى مَجْرَى اللَّبَنِ بِخِلَافِ الرُّطَبِ؛ فَإِنَّ حَالَ كَمَالِهِ وَمُعْظَمَ نَفْعِهِ فِي حَالِ يُبْسِهِ، فَإِذَا جَازَ فِيهِ الْبَيْعُ، فَفِي اللَّحْمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ التَّمَاثُلَ فِيهِمَا فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنَّقْصِ، فَجَازَ كَبَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ. فَأَمَّا بَيْعُ رَطْبِهِ بِيَابِسِهِ، أَوْ نِيئِهِ بِمَطْبُوخِهِ أَوْ مَشْوِيِّهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ؛ لِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالنَّقْصِ فِي الثَّانِي، فَلَمْ يَجُزْ، كَالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ. (2829) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إلَّا مَنْزُوعَ الْعِظَامِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إلَّا بَعْدَ التَّصْفِيَةِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ مِنْ غَيْرِ نَزْعِ عِظَامِهِ وَلَا جَفَافِهِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا صَارَ إلَى الْوَزْنِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، رِطْلًا بِرِطْلٍ. فَأَطْلَقَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَظْمَ تَابِعٌ لِلَّحْمِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ نَزْعَهُ، كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ. وَفَارَقَ الْعَسَلَ، مِنْ حَيْثُ إنَّ اخْتِلَاطَ الشَّمْعِ بِالْعَسَلِ مِنْ فِعْلِ النَّحْلِ، لَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ. [فَصْلٌ بَيْعُ كُلِّ صِنْفٍ بِصِنْفٍ آخَرَ مُتَفَاضِلًا] (2830) فَصْلٌ: وَاللَّحْمُ وَالشَّحْمُ جِنْسَانِ. وَالْكَبِدُ صِنْفٌ. وَالطِّحَالُ صِنْفٌ. وَالْقَلْبُ صِنْفٌ، وَالْمُخُّ صِنْفٌ. وَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ صِنْفٍ بِصِنْفٍ آخَرَ مُتَفَاضِلًا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالشَّحْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَتَمَاثَلَا. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، إبَاحَةُ الْبَيْعِ فِيهِمَا مُتَمَاثِلًا وَمُتَفَاضِلًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، فَجَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ لِكَوْنِ اللَّحْمِ لَا يَخْلُو مِنْ شَحْمٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الشَّحْمَ لَا يَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَلَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ، وَلَوْ مَنَعَ لِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَحْمٍ بِلَحْمٍ؛ لِاشْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ. ثُمَّ لَا يَصِحُّ هَذَا عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ السَّمِينَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ اللَّحْمِ لَحْمٌ عِنْدَهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اشْتِمَالُ اللَّحْمِ عَلَى الشَّحْمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ اللَّحْمَ الْأَبْيَضَ الَّذِي عَلَى ظَاهِرِ اللَّحْمِ الْأَحْمَرِ، هُوَ وَالْأَحْمَرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْأَلْيَةَ وَالشَّحْمَ جِنْسَانِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ خِلَافُ هَذَا؛ لِقَوْلِهِ: إنَّ اللَّحْمَ لَا يَخْلُو مِنْ شَحْمٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا شَحْمًا لَمْ يَخْتَلِطْ لَحْمٌ بِشَحْمِ، فَعَلَى قَوْلِهِ، كُلُّ أَبْيَضَ فِي الْحَيَوَانِ يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَصِيرُ دُهْنًا، فَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] . فَاسْتَثْنَى مَا حَمَلَتْ الظُّهُورُ مِنْ الشَّحْمِ، وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الشَّحْمَ فِي ذَوْبِهِ وَلَوْنِهِ وَمَقْصِدِهِ، فَكَانَ شَحْمًا، كَاَلَّذِي فِي الْبَطْنِ. [فَصْلٌ بَيْعُ اللَّبَنِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا] (2831) فَصْلٌ: وَفِي اللَّبَنِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي اللَّحْمِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ كَاللَّحْمِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَبَنُ الْبَقَرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ يَشْمَلُهُمَا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُمَا جِنْسَانِ، فَكَانَ لَبَنُهُمَا جِنْسَيْنِ، كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، مُتَفَاضِلًا، وَكَيْفَ شَاءَ، يَدًا بِيَدٍ، وَبِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَكِيلٌ لَا يُبَاعُ إلَّا بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ فِيهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا حَلِيبَيْنِ أَوْ حَامِضَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَلِيبٌ، وَالْآخَرُ حَامِضٌ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، كَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ. وَإِنْ شَيْب أَحَدُهُمَا بِمَاءِ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِخَالِصٍ وَلَا بِمَشُوبٍ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِ. [فَصْلٌ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالزُّبْدِ] فَصْلٌ: وَيَتَفَرَّعُ مِنْ اللَّبَنِ قِسْمَانِ؛ مَا لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ كَالزُّبْدِ، وَالسَّمْنِ، وَالْمَخِيضِ، وَاللِّبَأِ. وَمَا فِيهِ غَيْرُهُ. وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ اللَّبَنِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ، كَالْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ، وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالزُّبْدِ، إذَا كَانَ الزُّبْدُ الْمُنْفَرِدُ أَكْثَرَ مِنْ الزُّبْدِ الَّذِي فِي اللَّبَنِ. وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِهِ بِهِ مُتَفَاضِلًا، وَمَنْعَ جَوَازِهِ مُتَمَاثِلًا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَخْرُجُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْئَيْنِ إذَا دَخَلَهُمَا الرِّبَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِرِوَايَاتٍ أُخَرَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا رِوَايَةً، كَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِغَيْرِهَا، لَكِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَالْحُكْمُ فِي السَّمْنِ كَالْحُكْمِ فِي الزُّبْدِ. وَأَمَّا اللَّبَنُ بِالْمَخِيضِ الَّذِي فِيهِ زُبْدُهُ، فَلَا يَجُوزُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: اللَّبَنُ بِالْمَخِيضِ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَأَمَّا اللَّبَنُ بِاللِّبَأِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، جَازَ مُتَمَاثِلًا؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ بِلَبَنٍ. وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ لَمْ يَجُزْ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا، أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّارَ عَقَدَتْ أَجْزَاءَ أَحَدِهِمَا، وَذَهَبَتْ بِبَعْضٍ رُطُوبَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِمَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، كَالْخُبْزِ بِالْعَجِينِ، وَالْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا بَيْعُ النَّوْعِ مِنْ فُرُوعِ اللَّبَنِ بِنَوْعِهِ، فَمَا فِيهِ خَلْطٌ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ، كَالْكُشْكِ وَالْكَامَخِ، وَنَحْوِهِمَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنَوْعِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ فِيهِ غَيْرُهُ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ لِمَصْلَحَتِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إذَا تَسَاوَيَا فِي النَّشَافَةِ وَالرُّطُوبَةِ، فَيَبِيعُ الْمَخِيضَ بِالْمَخِيضِ، وَاللِّبَأَ بِاللِّبَأِ، وَالْجُبْنَ بِالْجُبْنِ، وَالْمَصْلَ بِالْمَصْلِ، وَالْأَقِطَ بِالْأَقِطِ، وَالزُّبْدَ بِالزُّبْدِ، وَالسَّمْنَ بِالسَّمْنِ، مُتَسَاوِيًا. وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْأَقِطِ بِالْأَقِطِ بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ قُدِّرَ بِالصَّاعِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْمَكِيلَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمَصْلُ وَالْمَخِيضُ. وَيُبَاعُ الْخُبْزُ بِالْخُبْزِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَأَشْبَهَ الْخُبْزَ. وَكَذَلِكَ الزُّبْدُ وَالسَّمْنُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُبَاعَ السَّمْنُ بِالْكَيْلِ. وَلَا يُبَاعُ نَاشِفٌ مِنْ ذَلِكَ بِرَطْبٍ، كَمَا لَا يُبَاعُ الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ لَا يُبَاعَ رَطْبٌ مِنْ ذَلِكَ بِرَطْبِ كَاللَّحْمِ. وَأَمَّا بَيْعُ مَا نُزِعَ مِنْ اللَّبَنِ بِنَوْعٍ آخَرَ، كَالزُّبْدِ، وَالسَّمْنِ، وَالْمَخِيضِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ بِالْمَخِيضِ، مُتَمَاثِلًا وَمُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَشْبَهَا اللَّحْمَ بِالشَّحْمِ. وَمِمَّنْ أَجَازَ بَيْعَ الزُّبْدِ بِالْمَخِيضِ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَلِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي فِي الزُّبْدِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهُوَ يَسِيرٌ، فَأَشْبَهَ الْمِلْحَ فِي الشَّيْرَجِ. وَبَيْعُ السَّمْنِ بِالْمَخِيضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ لِخُلُوِّ السَّمْنِ مِنْ الْمَخِيضِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ؛ لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا يَسِيرًا، وَلَا شَيْءَ فِي السَّمْنِ، فَيَخْتَلُّ التَّمَاثُلُ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ الزُّبْدِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، كَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ فِي الزُّبْدِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ بِالْمَخِيضِ وَبِزُبْدٍ مِثْلِهِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ وَاجِبٌ بَيْنَهُمَا، وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِوُجُودِ اللَّبَنِ فِيهِ، يُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، كَتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى بِتَمْرٍ فِيهِ نَوَاهُ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِرُطُوبَةٍ لَا تُوجَدُ فِي الْآخَرِ، فَأَشْبَهَ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ، وَالْعِنَبَ بِالزَّبِيبِ، وَكُلَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ وَالْمَخِيضِ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّبَنِ، كَالْجُبْنِ وَاللِّبَأِ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ لَمْ يُنْتَزَعْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ اللَّبَنِ الَّذِي فِيهِ زُبْدُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَبَيْعِ اللَّبَنِ بِهَا. وَأَمَّا بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْأَقِطِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ رُطُوبَتِهِمَا، أَوْ رُطُوبَةِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ. وَإِنْ كَانَا يَابِسَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجُبْنَ مَوْزُونٌ وَالْأَقِطَ مَكِيلٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَالْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، إذَا تَمَاثَلَا، كَبَيْعِ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ] (2833) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانِ مُعَدِّ لِلَّحْمِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ، أَشْبَهَ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ» . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ فَقَالَ: أَعْطُونِي جُزْءًا بِهَذَا الْعَنَاقِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصْلُحُ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكْت يَنْهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَلِأَنَّ اللَّحْمَ نَوْعٌ فِيهِ الرِّبَا بِيعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ. وَبِهَذَا فَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الشَّاةِ بِاللَّحْمِ، فَقَالَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ» . وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَبِأَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَمِنْ أَجَازَهُ قَالَ: مَالُ الرِّبَا بِيعَ بِغَيْرِ أَصْلِهِ وَلَا جِنْسِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِالْأَثْمَانِ. وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، جَازَ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. [فَصْلٌ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ] (2834) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ، كَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ، وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ، وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ بِأُصُولِهَا، وَالْعَصِيرِ بِأَصْلِهِ، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ، وَالرُّمَّانِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَقَصَبِ السُّكَّرِ، لَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَصْلِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُخْتَلِفٌ، وَالْمَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 مُخْتَلِفٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ إذَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ مِنْ الدُّهْنِ وَالْعَصِيرِ أَقَلُّ مِنْ الْمُنْفَرِدِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، لَمْ يَجُزْ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالُ رِبًا بِيعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ. (2835) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُعْتَصَرَاتِ بِجِنْسِهِ، فَيَجُوزُ مُتَمَاثِلًا. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَكَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِهِ وَيُبَاعُ بِهِ عَادَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَسَوَاءٌ كَانَا مَطْبُوخَيْنِ أَوْ نِيئَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَطْبُوخِ بِجِنْسِهِ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَعْقِدُ أَجْزَاءَهُمَا، فَيَخْتَلِفُ وَيُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحَالِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنَّقْصِ. فَأَشْبَهَ النِّيءَ بِالنِّيءِ. فَأَمَّا بَيْعُ النِّيءِ بِالْمَطْبُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِالنَّقْصِ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، كَالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ. وَإِنْ بَاعَ عَصِيرَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِثُفْلِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالْكُسْبِ، وَلَا الزَّيْتِ بِثُفْلِهِ الَّذِي فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ الزَّيْتِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عَصِيرِهِ، جَازَ بَيْعُهُ بِهِ مُتَفَاضِلًا، وَمُتَمَاثِلًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ. [فَصْلٌ بَيْع شَيْء فِيهِ الرِّبَا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ] (2836) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا فِيهِ الرِّبَا، بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَمَعَهُمَا، أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ، أَوْ بِمَدَّيْنِ، أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ. أَوْ بَاعَ شَيْئًا مُحَلًّى بِجِنْسِ حِلْيَتِهِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَذَكَرَهُ قُدَمَاءُ الْأَصْحَابِ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى وَالْمِنْطَقَةِ وَالْمَرَاكِبِ الْمُحَلَّاةِ بِجِنْسِ مَا عَلَيْهَا: لَا يَجُوزُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ، يَجُوزُ، إذَا كَانَ الزُّبْدُ الْمُنْفَرِدُ أَكْثَرَ مِنْ الزُّبْدِ الَّذِي فِي اللَّبَنِ. وَرَوَى حَرْبٌ، قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: دَفَعْت دِينَارًا كُوفِيًّا وَدِرْهَمًا، وَأَخَذْت دِينَارًا شَامِيًّا، وَزْنُهُمَا سَوَاءٌ، لَكِنَّ الْكُوفِيَّ أَوْضَعُ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنْ يَنْقُصَ الدِّينَارَ، فَيُعْطِيهِ بِحِسَابِهِ فِضَّةً. وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ الْجَرْجَرَائِيُّ. وَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ سَأَلَهُ: لَا يَشْتَرِي السَّيْفَ وَالْمِنْطَقَةَ حَتَّى يَفْصِلَهَا؟ فَقَالَ: لَا يَشْتَرِيهَا حَتَّى يَفْصِلَهَا. إلَّا أَنَّ هَذَا أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ يَفْصِلُهُ وَفِيهِ غَيْرُ النَّوْعِ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 يَشْتَرِي بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ فَضْلِ الثَّمَنِ، إلَّا أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ الْقِلَادَةِ لَا يَشْتَرِيهِ حَتَّى يَفْصِلَهُ. قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الدَّرَاهِمِ المسيبية، بَعْضُهَا صُفْرٌ وَبَعْضُهَا فِضَّةٌ، بِالدَّرَاهِمِ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا. كُلُّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَفْصِلَ، إلَّا الْمَيْمُونِيَّ. وَنَقَلَ مُهَنَّا كَلَامًا آخَرَ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ بِالدَّرَاهِمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ، لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى لَحْمًا مِنْ قَصَّابٍ، جَازَ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ مَيْتَةً. وَلَكِنْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مُذَكًّى، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا، جَازَ، مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ مِلْكِهِ، وَلَا إذْنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ أَيْضًا. وَقَدْ أَمْكَنَ التَّصْحِيحُ هَاهُنَا، بِجَعْلِ الْجِنْسِ فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِ الْجِنْسِ، أَوْ جَعْلِ غَيْرِ الْجِنْسِ فِي مُقَابَلَةِ الزَّائِدِ عَلَى الْمِثْلِ. وَلَنَا، مَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا» . قَالَ: فَرَدَّهُ حَتَّى مَيَّزَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» . وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا جَمَعَ عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ، وَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْآخَرِ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ اخْتَلَفَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعِوَضِ. بَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ، قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِثْلُ نِصْفِ قِيمَةِ الْآخَرِ بِعَشَرَةٍ، كَانَ ثَمَنُ أَحَدِهِمَا ثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ، وَالْآخَرِ ثُلُثَهَا، فَلَوْ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِعَيْبٍ، رَدَّهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلِذَلِكَ إذَا اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا بِثَمَنٍ أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا فَعَلْنَا هَذَا فِي مَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَمُدًّا قِيمَتُهُ دِرْهَمَانِ، بِمُدَّيْنِ قِيمَتُهُمَا ثَلَاثَةٌ، حَصَلَ الدِّرْهَمُ فِي مُقَابِلَةِ ثُلُثَيْ مُدٍّ. وَالْمُدُّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ فِي مُقَابَلَةِ مُدٍّ وَثُلُثٍ، فَهَذَا إذَا تَفَاوَتَتْ الْقِيَمُ، وَمَعَ التَّسَاوِي يُجْهَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ، وَالْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فِي بَابِ الرِّبَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ صُبْرَةٍ بِصُبْرَةٍ، بِالظَّنِّ وَالْخَرْصِ. وَقَوْلُهُمْ: يَجِبُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ. لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ. وَلِذَلِكَ لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ وَأَطْلَقَ، وَفِي الْبِلَادِ نُقُودٌ بَطَلَ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى نَقْدِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 أَمَّا إذَا اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ. وَإِذَا بَاعَ لَحْمًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُذَكًّى؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ، فِي الظَّاهِرِ، لَا يَبِيعُ الْمَيْتَةَ. [فَصْلٌ بَيْع نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفِي الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسٍ وَبِنَوْعِ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ] (2837) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ بَاعَ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةٍ مِنْ جِنْسٍ، وَبِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، كَدِينَارٍ مَغْرِبِيٍّ وَدِينَارٍ سَابُورِيٍّ، بِدِينَارَيْنِ مَغْرِبِيَّيْنِ، أَوْ دِينَارٍ صَحِيحٍ وَدِينَارٍ قُرَاضَةٍ، بِدِينَارَيْنِ صَحِيحَيْنِ، أَوْ قُرَاضَتَيْنِ، أَوْ حِنْطَةٍ حَمْرَاءَ وَسَمْرَاءَ بِبَيْضَاءَ، أَوْ تَمْرًا بَرْنِيًّا وَمَعْقِلِيًّا بِإِبْرَاهِيمِيٍّ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي انْقِسَامَ الثَّمَنِ عَلَى عِوَضِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِ فِي قِيمَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَنْعُ ذَلِكَ فِي النَّقْدِ، وَتَجْوِيزُهُ فِي الثَّمَنِ. نَقَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُهَا، وَيَشُقُّ تَمْيِيزُهَا، فَعُفِيَ عَنْهَا بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . الْحَدِيثَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْبَيْعِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا وَفِي الْمَكِيلِ كَيْلًا، وَلِأَنَّ الْجَوْدَةَ سَاقِطَةٌ فِي بَابِ الرِّبَوِيَّاتِ، فِيمَا قُوبِلَ بِجِنْسِهِ، فِيمَا لَوْ اتَّحَدَ النَّوْعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا، وَاخْتِلَافُ الْقِيمَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبِ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ النَّوْعُ؛ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الْعِوَضُ عَلَى الْمُعَوَّضِ فِيمَا يَشْتَمِلُ عَلَى جِنْسَيْنِ، أَوْ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ بَاعَ نَوْعًا بِنَوْعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ. [فَصْلٌ بَاعَ مَا فِيهِ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَمَعَهُ مِنْ جِنْسِ مَا بِيعَ بِهِ] (2838) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ مَا فِيهِ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَمَعَهُ مِنْ جِنْسِ مَا بِيعَ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، كَدَارٍ مُمَوَّهٍ سَقْفُهَا بِالذَّهَبِ، جَازَ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ دَارًا بِدَارٍ مُمَوَّهٍ سَقْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْبَيْعِ. فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لَهُ مَالٌ، فَاشْتَرَطَ مَالَهُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ، جَازَ إذَا كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِعَبْدٍ، وَاشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَ الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ، جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْبَيْعِ، فَأَشْبَهَ التَّمْوِيهَ فِي السَّقْفِ، وَلِذَلِكَ لَا تُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَلَا لُزُومِهِ، وَإِنْ بَاعَ شَاةً ذَاتَ لَبَنٍ بِلَبَنٍ، أَوْ عَلَيْهَا صُوفٌ بِصُوفِ، أَوْ بَاعَ لَبُونًا بِلَبُونٍ، وَذَاتَ صُوفٍ بِمِثْلِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ، اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّاةُ حَيَّةً أَوْ مُذَكَّاةً؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ، كَالدَّارِ الْمُمَوَّهِ سَقْفُهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 الثَّانِي، الْمَنْعُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ، أَشْبَهَ الْحَيَوَانَ بِاللَّحْمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ اللَّحْمَ فِي الْحَيَوَانِ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ اللَّبَنِ، وَلَوْ كَانَتْ الشَّاةُ مَحْلُوبَةَ اللَّبَنِ، جَازَ بَيْعُهَا بِمِثْلِهَا وَبِاللَّبَنِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَأَشْبَهَ الْمِلْحَ فِي الشَّيْرَجِ وَالْخُبْزِ وَالْجُبْنِ، وَحَبَّاتِ الشَّعِيرِ فِي الْحِنْطَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اللَّبَنُ الْمُنْفَرِدُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ لَبَنِ الشَّاةِ، جَازَ بِكُلِّ حَالٍ. وَلَوْ بَاعَ نَخْلَةً عَلَيْهَا تَمْرٌ بِتَمْرٍ، أَوْ بِنَخْلَةٍ عَلَيْهَا تَمْرٌ، فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْبَيْعِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ. وَوَجْهُ الْوَجْهَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الشَّاةِ ذَاتِ اللَّبَنِ، بِكَوْنِ الثَّمَرَةِ يَصِحُّ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ فِي الشَّاةِ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَإِنَّ مَا يَمْنَعُ إذَا جَازَ إفْرَادُهُ يَمْنَعُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ، كَالسَّيْفِ الْمُحَلَّى يُبَاعُ بِجِنْسِ حِلْيَتِهِ، وَمَا لَا يَمْنَعُ لَا يَمْنَعُ، وَإِنْ جَازَ إفْرَادُهُ، كَمَالِ الْعَبْدِ. [فَصْلٌ بَيْع جِنْس فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ] (2839) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ جِنْسًا فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَذَلِكَ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَقْصُودِ يَسِيرًا، لَا يُؤَثِّرُ فِي كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، كَالْمِلْحِ فِيمَا يُعْمَلُ فِيهِ، وَحَبَّاتِ الشَّعِيرِ فِي الْحِنْطَةِ، فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لَمْ يَمْنَعْ لِذَلِكَ، وَلَوْ بَاعَ ذَلِكَ بِجِنْسِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ الَّذِي مَعَهُ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ الْخُبْزَ بِالْمِلْحِ، جَازَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَقْصُودِ كَثِيرًا، إلَّا أَنَّهُ لِمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودِ، كَالْمَاءِ فِي خَلِّ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَدِبْسِ التَّمْرِ، فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ مِنْهُ بِمِثْلِهِ، وَيَنْزِلُ خَلْطُهُ مَنْزِلَةَ رُطُوبَتِهِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا يُمَاثِلُهُ، كَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ خَلْطٌ، كَبَيْعِ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّفَاضُلِ، فَجَرَى مَجْرَى بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَّا بَيْعَ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ؛ لِكَوْنِ الْمَاءِ لَا يَظْهَرُ فِي الشَّيْرَجِ. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَقْصُودِ كَثِيرًا، وَلَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، كَاللَّبَنِ الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ، وَالْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِغَيْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ خَلْطَهُ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَهُوَ يُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ الْمَقْصُودِ فِيهِ، وَإِنْ بَاعِهِ بِجِنْسِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، كَبَيْعِ الدِّينَارِ الْمَغْشُوشِ بِالْفِضَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ بِجِنْسٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ اللَّبَنِ بِشَاةٍ فِيهَا لَبَنٌ، وَيَحْتَمِلُ الْمَنْعَ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي الْأَصْلِ. وَإِنْ بَاعَ دِينَارًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 مَغْشُوشًا بِمِثْلِهِ وَالْغِشُّ فِيهِمَا مُتَفَاوِتٌ، أَوْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ الْمَقْصُودِ. وَإِنْ عُلِمَ التَّسَاوِي فِي الذَّهَبِ وَالْغِشِّ الَّذِي فِيهِمَا، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَوْلَاهُمَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُمَا تَمَاثَلَا فِي الْمَقْصُودِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلَا يُفْضِي إلَى التَّفَاضُلِ بِالتَّوْزِيعِ بِالْقِيمَةِ؛ لِكَوْنِ الْغِشِّ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَكَأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ. (2840) فَصْلٌ: وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دِرْهَمًا، فَقَالَ: أَعْطِنِي بِنِصْفِ هَذَا الدِّرْهَمِ نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَبِنِصْفِهِ فُلُوسًا، أَوْ حَاجَةً أُخْرَى. جَازَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفًا بِنِصْفِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: بِعْنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ فُلُوسًا، وَأَعْطِنِي بِالْآخَرِ نِصْفَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ نِصْفًا وَفُلُوسًا. جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْضِي إلَى التَّفَاضُلِ بِالتَّوْزِيعِ بِالْقِيمَةِ؛ فَإِنَّ قِيمَةَ النِّصْفِ الَّذِي فِي الدِّرْهَمِ، كَقِيمَةِ النِّصْفِ الَّذِي مَعَ الْفُلُوسِ يَقِينًا، وَقِيمَةُ الْفُلُوسِ، كَقِيمَةِ النِّصْفِ الْآخَرِ، سَوَاءً. [فَصْلٌ بَيْعُ مَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى جِنْسَيْنِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ] (2841) فَصْلٌ وَمَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى جِنْسَيْنِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، كَالتَّمْرِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى النَّوَى وَمَا عَلَيْهِ، وَالْحَيَوَانِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى لَحْمٍ وَشَحْمٍ وَغَيْرِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَهَذَا إذَا قُوبِلَ بِمِثْلِهِ، جَازَ بَيْعُهُ بِهِ، وَلَا نَظَرَ إلَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ» . وَقَدْ عَلِمَ اشْتِمَالَهُمَا عَلَى مَا فِيهِمَا، وَلَوْ بَاعَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِيهِ، كَبَيْعِ التَّمْرِ الَّذِي فِيهِ النَّوَى بِالنَّوَى، فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى، فَأَمَّا الْعَسَلُ قَبْلَ تَصْفِيَتِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى عَسَلٍ وَشَمْعٍ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ النَّحْلِ فَأَشْبَهَ السَّيْفَ الْمُحَلَّى. [فَصْلٌ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ] (2842) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعَنْهُ فِي مُسْلِمَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا رِبَا بَيْنَهُمَا. لِمَا رَوَى مَكْحُولٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» . وَلِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ، وَإِنَّمَا حَظَرَهَا الْأَمَانُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] . وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ. وَقَوْلُهُ: «مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» . عَامٌّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ. وَلِأَنَّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَالرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَبَرُهُمْ مُرْسَلٌ لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا وَرَدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 بِتَحْرِيمِهِ الْقُرْآنُ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، بِخَبَرِ مَجْهُولٍ، لَمْ يَرِدْ فِي صَحِيحٍ، وَلَا مُسْنَدٍ، وَلَا كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُرْسَلٌ مُحْتَمِلٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (لَا رِبَا. النَّهْيُ عَنْ الرِّبَا، كَقَوْلِهِ: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ مُنْتَقِضٌ بِالْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ مَالَهُ مُبَاحٌ، إلَّا فِيمَا حَظَرَهُ الْأَمَانُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَيْئَةِ التَّفَاضُلِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا هَاهُنَا. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى ذَهَبَا بِوَرِقٍ عَيْنًا بعين فوجد أَحَدهمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى ذَهَبًا بِوَرِقٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ، عَيْبًا، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَقْبَلَ، إذَا كَانَ بِصَرْفِ يَوْمِهِ، وَكَانَ الْعَيْبُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ) مَعْنَى قَوْلِهِ: " عَيْنًا بِعَيْنٍ " هُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ. وَيُشِيرُ إلَيْهِمَا، وَهُمَا حَاضِرَانِ، وَبِغَيْرِ عَيْنِهِ، أَنْ يُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَى مَوْصُوفٍ غَيْرِ مُشَارٍ إلَيْهِ، فَيَقُولَ: بِعْتُك دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَاصِرِيَّةٍ. وَإِنْ وَقَعَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ مُعَيَّنًا دُونَ الْآخَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَعْيَانِهَا، فَعَلَى هَذَا إذَا تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مَعَ التَّعْيِينِ فِيهِمَا، ثُمَّ تَقَابَضَا، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا، لَمْ يَخْلُ مِنْ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ غِشًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ، مِثْلَ أَنْ يَجِدَ الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ الدِّينَارَ مَسْحًا، فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا ثَلَاثَ رِوَايَاتِ؛ إحْدَاهُنَّ، الْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِيَةُ، الْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى عَيْنِهِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ، أَوْ الرَّدِّ، وَأَخْذِ الْبَدَلِ. وَالثَّالِثَةُ، يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، وَلَا بَدَلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الْبَغْلَةَ. فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ الْقَزَّ فَوَجَدَهُ كَتَّانًا. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَبِيعُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنْ اشْتَرَى مَعِيبًا لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَرْشٍ، كَسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ. ثُمَّ إنَّ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ فِيمَنْ دَلَّسَ الْعَيْبَ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعَ وُجُودِ ذَاتِ الْمُسَمَّى فِي الْبَيْعِ. فَهَاهُنَا مَعَ اخْتِلَافِ الذَّاتِ أَوْلَى. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ، مِثْلُ كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً تَتَفَطَّرُ عِنْدَ الضَّرْبِ، أَوْ سَكَّتَهَا مُخَالِفَةً لِسِكَّةِ السُّلْطَانِ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرَّدِّ؛ وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ، أَخَذَ مَا لَمْ يَشْتَرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ النَّقْدَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ. فَلَهُ أَخْذُ الْبَدَلِ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبَضَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْقُودَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ إذَا قَبَضَهُ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا. وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهِ. فَلَهُ رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ. وَهَلْ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ، وَإِمْسَاكُ الصَّحِيحِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَالْحُكْمِ فِي الْجِنْسَيْنِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. لَكِنَّ يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مِنْ مَنَعَ بَيْعَ النَّوْعَيْنِ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَنَّهُ إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْعِوَضِ مَعِيبًا، أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُقَابِلُ الْمَعِيبَ أَقَلُّ مِنْ الَّذِي يُقَابِلُ الصَّحِيحَ، فَيَصِيرُ كَمَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ، سَوَاءٌ. (2844) [فَصْلٌ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ وَالْعِوَضَانِ فِي الصَّرْفِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ] فَصْلٌ: وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ، وَالْعِوَضَانِ فِي الصَّرْفِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِحُصُولِ الزِّيَادَةِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَرْشِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ طَرَأَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ. فَإِنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ مِنْ الْعِوَضِ، يُجْبَرُ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَيَأْخُذُ بِهِ الشَّفِيعُ، وَيَرُدُّ بِهِ، إذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِفَسْخٍ، أَوْ إقَالَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعِوَضِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِهِبَةٍ، عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ الْعِوَضِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَرْشًا، فَالْأَرْشُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الصَّرْفُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَتَخَلُّفُ قَبْضِ بَعْضِ الْعِوَضِ عَنْ بَعْضٍ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ فَجَازَ، كَمَا فِي سَائِرِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى حُصُولِ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَا الْأَرْشَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ، كَأَنَّهُ أَخَذَ أَرْشَ عَيْبِ الْفِضَّةِ قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَيَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فِيمَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، مِمَّا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ، فَإِذَا كَانَ الْأَرْشُ مِمَّا لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، كَمَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا عَيْبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ دِرْهَمًا جَازَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ قَبْضِ مَا شُرِطَ فِيهِ الْقَبْضُ. (2845) فَصْلٌ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " إذَا كَانَ بِصَرْفِ يَوْمِهِ ". يَعْنِي الرَّدُّ جَائِزٌ، مَا لَمْ يَنْقُصْ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ مِنْ النَّقْدِ عَنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ اصْطَرَفَا، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ، كَأَنْ أَخَذَ عَشَرَةً بِدِينَارٍ، فَصَارَتْ أَحَدَ عَشَرَ بِدِينَارٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ؛ لِنَقْصِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ زَادَتْ، مِثْلُ أَنْ صَارَتْ تِسْعَةً بِدِينَارِ، لَمْ يَمْنَعْ الرَّدَّ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ السِّعْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ فِي الْغَصْبِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْقَرْضِ. وَلَوْ كَانَ عَيْبًا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ، فَلَهُ رَدُّهُ، وَرَدُّ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَأَخْذُ الثَّمَنِ. [فَصْلٌ تَلِفَ الْعِوَضُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ] (2846) فَصْلٌ: وَإِنْ تَلِفَ الْعِوَضُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ، فَسَخَ الْعَقْدَ، وَرَدَّ الْمَوْجُودَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وَتَبْقَى قِيمَةُ الْعَيْبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَيَرُدُّ مِثْلَهَا، أَوْ عِوَضَهَا إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّرْفُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ أَخْذِ الْأَرْشِ، وَالْأُوَلُ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَا فِي الْمَجْلِسِ، وَالْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ. [فَصْلٌ إذَا عَلِمَ الْمُصْطَرِفَانِ قَدْرَ الْعِوَضَيْنِ] (2847) فَصْلٌ: إذَا عَلِمَ الْمُصْطَرِفَانِ قَدْرَ الْعِوَضَيْنِ، جَازَ أَنْ يَتَبَايَعَا بِغَيْرِ وَزْنٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِوَزْنِ مَا مَعَهُ، فَصَدَّقَهُ، فَإِذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ كَذَلِكَ، وَافْتَرَقَا، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا مَا قَبَضَهُ نَاقِصًا، بَطَلَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا ذَهَبًا بِذَهَبٍ مُتَفَاضِلًا، فَإِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا قَبَضَهُ زِيَادَةً عَلَى الدِّينَارِ نَظَرْت فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الدِّينَارَ بِهَذَا. فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ مُتَفَاضِلًا، وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك دِينَارًا بِدِينَارٍ. ثُمَّ تَقَابَضَا، كَانَ الزَّائِدُ فِي يَدِ الْقَابِضِ مُشَاعًا مَضْمُونًا لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ، وَلَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَاعَ دِينَارًا بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْقَبْضُ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ عِوَضِ الزَّائِدِ، جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ آخِذَ الزَّائِدِ وَجَدَ الْمَبِيعَ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ مَعِيبًا بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ، وَدَافِعُهُ لَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ عِوَضِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجْلِسِ، فَيُرَدَّ الزَّائِدَ، وَيَدْفَعَ بَدَلَهُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَوَفَّاهُ عَشَرَةً عَدَدًا، فَوَجَدَهَا أَحَدَ عَشَرَ، كَانَ هَذَا الدِّينَارُ الزَّائِدُ فِي يَدِ الْقَابِضِ مُشَاعًا مَضْمُونًا لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مَالِهِ، فَكَانَ مَضْمُونًا بِهَذَا الْقَبْضِ، وَلِمَالِكِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ. [فَصْلٌ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي النَّقْدِ] (2848) فَصْلٌ: وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي النَّقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ فِيمَا عَيَّنَاهُ، وَيَتَعَيَّنُ عِوَضًا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا بَطَلَ الْعَقْدُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، فَيَجُوزُ إبْدَالُهَا، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخُرُوجِهَا مَغْصُوبَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُهَا فِي الْعَقْدِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ، كَالْمِكْيَالِ وَالصَّنْجَةِ وَلَنَا، أَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْآخَرِ، وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِتَقْدِيرِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ، وَتَعْرِيفِ قَدْرِهِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ بِحَالٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةٌ إذَا تُبَايِعَا الْمُصْطَرِفَانِ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنه فَوَجَدَ أَحَدهمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا] (2849) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا تَبَايَعَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا، فَلَهُ الْبَدَلُ، إذَا كَانَ الْعَيْبُ لَيْسَ بِدَخِيلٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَالْوُضُوحِ فِي الذَّهَبِ وَالسَّوَادِ فِي الْفِضَّةِ) يَعْنِي اصْطَرَفَا فِي الذِّمَّةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. فَيَقُولُ الْآخَرُ: قَبِلْت. فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَهُمَا، أَوْ لَمْ يَكُونَا، إذَا تَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، بِأَنْ يَسْتَقْرِضَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 الْعَيْنَانِ حَاضِرَتَيْنِ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ حَتَّى تَظْهَرَ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَتُعَيَّنَ. وَعَنْ زُفَرَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ» . وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيَّنْ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ، كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدِينٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ. وَالْحَدِيثُ يُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يُبَاعَ عَاجِلٌ بِآجِلٍ، أَوْ مَقْبُوضٌ بِغَيْرِ مَقْبُوضٍ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ غَائِبًا، وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ حَالَةَ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: «عَيْنًا بِعَيْنٍ» . «يَدًا بِيَدٍ» . وَالْقَبْضُ يَجْرِي فِي الْمَجْلِسِ، كَذَا التَّعَيُّنُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمَا بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَمَتَى تَقَابَضَا، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ، لَا عَيْبَ فِيهِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ. وَإِنْ رَضِيَهُ بِعَيْبِهِ، وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ، كَمَا لَوْ رَضِيَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ مَعِيبًا، وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْأَرْشِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمَاثُلُ، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ. فَأَمَّا إنْ تَقَابَضَا وَافْتَرَقَا، ثُمَّ وَجَدَ الْعَيْبَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَهُ إبْدَالُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ، وَالْخِرَقِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ إبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، جَازَ بَعْدَهُ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، وَمَنْ صَارَ إلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَالَ: قَبْضُ الْأَوَّلِ صَحَّ بِهِ الْعَقْدُ، وَقَبْضُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، فَإِنْ تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ وَجَدَ الْبَعْضَ رَدِيئًا فَرَدَّهُ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَهُ الْبَدَلُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ يَبْطُلُ فِي الْمَرْدُودِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِيمَا لَمْ يَرُدَّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ وَجَدَ دِرْهَمًا زَيْفًا فَرَضِيَ بِهِ، جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ، انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي دِينَارٍ، وَإِنْ رَدَّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي دِينَارَيْنِ، وَكُلَّمَا زَادَ عَلَى دِينَارٍ، انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي دِينَارٍ آخَرَ. وَلَنَا أَنَّ مَا لَا عَيْبَ فِيهِ لَمْ يُرَدَّ، فَلَمْ يَنْتَقِضْ الصَّرْفُ فِيمَا يُقَابِلُهُ، كَسَائِرِ الْعِوَضِ. وَإِنْ اخْتَارَ وَاجِدُ الْعَيْبِ الْفَسْخَ، فَعَلَى قَوْلِنَا لَهُ الْبَدَلُ، لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إذَا أَبْدَلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَخْذُ حَقِّهِ غَيْرَ مَعِيبٍ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَهُ الْفَسْخُ، أَوْ الْإِمْسَاكُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَا عَقَدَ عَلَيْهِ مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 إبْقَاءِ الْعَقْدِ. فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ يَقْبِضُهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ عَنْ الصَّرْفِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ الْمُصَارَفَةِ فِي الذِّمَّةِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مَعْلُومَيْنِ] (2850) فَصْلٌ: وَمَنْ شَرْطِ الْمُصَارَفَةِ فِي الذِّمَّةِ، أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مَعْلُومَيْنِ، إمَّا بِصِفَةٍ يَتَمَيَّزَانِ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ مَعْلُومٌ أَوْ غَالِبٌ، فَيَنْصَرِفُ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ نَقْدِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ لَمْ يَصِحَّ، إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْبَلَدِ نَقْدُ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ، إلَّا نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَتَنْصَرِفُ تِلْكَ الصِّفَةُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتِهِمَا] (2851) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتِهِمَا، لَمْ يَصِحَّ، وَبِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ جَوَازَهُ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا هُوَ إجْمَاعٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ، ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» . وَفَسَّرَهُ بِالدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. إلَّا أَنَّ الْأَثْرَمَ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ: أَيَصِحُّ فِي هَذَا حَدِيثٌ؟ قَالَ: لَا. وَإِنَّمَا صَحَّ الصَّرْفُ بِغَيْرِ تَعْيِينٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، فَجَرَى الْقَبْضُ وَالتَّعْيِينُ فِي الْمَجْلِسِ مَجْرَى وُجُودِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ، فَقَضَاهُ دَرَاهِمَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ يُعْطِيهِ كُلَّ دِرْهَمٍ بِحِسَابِهِ مِنْ الدِّينَارِ، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَحَاسَبَا بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَفَهُ بِهَا وَقْتَ الْمُحَاسَبَةِ، لَمْ يَجُزْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ دَيْنٌ، وَالدَّرَاهِمَ صَارَتْ دَيْنًا، فَيَصِيرُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مَالَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَارَفَهُ بِعَيْنٍ وَذِمَّةٍ، صَحَّ. وَإِذَا أَعْطَاهُ الدَّرَاهِمَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلَمْ يَقْضِهِ ذَلِكَ وَقْتَ دَفْعِهَا إلَيْهِ، ثُمَّ أَحْضَرَهَا، وَقَوَّمَاهَا، فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ الْقَضَاءِ، لَا يَوْمَ دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَصِرْ فِي مِلْكِهِ، إنَّمَا هِيَ وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ، أَوْ نَقَصَتْ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ مَالِكِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْقَابِضِ لَهَا إذَا قَبَضَهَا بِنِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَلَى أَنَّهَا عِوَضٌ وَوَفَاءٌ، وَالْمَقْبُوضُ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ كَالْمَقْبُوضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ صَيْرَفِيٍّ دَنَانِيرُ، فَأَخَذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ إدْرَارًا؛ لِتَكُونَ هَذِهِ بِهَذِهِ، لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ مَنْ قَبَضَهُ، فَإِذَا أَرَادَ التَّصَارُفَ أَحْضَرَا أَحَدَهُمَا، وَاصْطَرَفَا بِعَيْنٍ وَذِمَّةٍ. (2852) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنْ الْأُخَرِ، وَيَكُونُ صَرْفًا بِعَيْنٍ وَذِمَّةٍ، فِي قَوْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنَعَ مِنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ وَقَدْ تَخَلَّفَ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، فِي " سُنَنِهِمَا "، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كُنْت أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رُوَيْدَك، أَسْأَلُك، إنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ» . قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا يَقْضِيهِ إيَّاهَا بِالسِّعْرِ. لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ يَقْضِيهِ إيَّاهَا بِالسِّعْرِ، إلَّا مَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، إنَّهُ يَقْضِيهِ مَكَانَهَا ذَهَبًا عَلَى التَّرَاضِي؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَالِ، فَجَازَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعِوَضُ عَرْضًا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، وَمَسْرُوقًا الْعِجْلِيّ، سَأَلَاهُ عَنْ كُرَيٍّ لَهُمَا، لَهُ عَلَيْهِمَا دَرَاهِمُ، وَلَيْسَ مَعَهُمَا إلَّا دَنَانِيرُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ بِسِعْرِ السُّوقِ. وَلِأَنَّ هَذَا جَرَى مَجْرَى الْقَضَاءِ، فَيُقَيَّدْ بِالْمِثْلِ، كَمَا لَوْ قَضَاهُ مِنْ الْجِنْسِ، وَالتَّمَاثُلُ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ؛ لِتَعَذُّرِ التَّمَاثُلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنَّ أَهْلَ السُّوقِ يَتَغَابَنُونَ بَيْنَهُمْ بِالدَّانَقِ فِي الدِّينَارِ وَمَا أَشْبَهَهُ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ فَسَهْلٌ فِيهِ، مَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً، وَيُزَادُ شَيْئًا كَثِيرًا. (2853) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمَشْهُورُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، فَكَانَ الْقَبْضُ نَاجِزًا فِي أَحَدِهِمَا، وَالنَّاجِزُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ وَالْآخِرُ الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِتَعْجِيلِ الْمُؤَجَّلِ. وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، إذَا قَضَاهُ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَقْضِيِّ فَضْلًا لِأَجْلِ تَأْجِيلِ مَا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُصْهُ عَنْ سِعْرِهَا شَيْئًا، فَقَدْ رَضِيَ بِتَعْجِيلِ مَا فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَضَاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنَ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ عُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ، وَلَوْ افْتَرَقَ الْحَالُ لَسَأَلَ وَاسْتَفْصَلَ. (2854) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَدَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا، فَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 اسْتَوْفِ حَقَّك مِنْهُ. فَاسْتَوْفَاهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، جَازَ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ، فَوَكَّلَ غَرِيمَهُ فِي بَيْعِ دَارِهِ، وَاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي مُصَارَفَةِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً بِدَنَانِيرَ، فَأَخَذَ بِهَا دَرَاهِمَ، فَرَدَّتْ الْجَارِيَةُ بِعَيْبٍ أَوْ إقَالَةٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي إلَّا الدَّنَانِيرُ؛ لِأَنَّهُ الثَّمَنُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا أَخَذَ الدَّرَاهِمَ بِعَقْدِ صَرْفٍ مُسْتَأْنَفٍ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ. [فَصْلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَقَالَ لِغَرِيمِهِ ضَعْ عَنِّي بَعْضَهُ وَأُعَجِّلُ لَك بَقِيته] (2855) فَصْلٌ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَقَالَ لِغَرِيمِهِ: ضَعْ عَنِّي بَعْضَهُ، وَأُعَجِّلُ لَك بَقِيَّتَهُ. لَمْ يَجُزْ. كَرِهَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَالِمٌ، وَالْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَالْحَكَمُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُشَيْمٌ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْمِقْدَادُ لِرَجُلَيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ: كِلَاكُمَا قَدْ آذَنَ بِحَرْبِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ آخِذٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ، تَارِكٌ لِبَعْضِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعَجِّلَ الْمُكَاتَبُ لِسَيِّدِهِ، وَيَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ كِتَابَتِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعُ الْحُلُولِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ زَادَهُ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، فَقَالَ لَهُ: أُعْطِيك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَتُعَجِّلُ لِي الْمِائَةَ الَّتِي عَلَيْك. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُ مَعَ سَيِّدِهِ، وَهُوَ يَبِيعُ بَعْضَ مَالِهِ بِبَعْضٍ، فَدَخَلَتْ الْمُسَامَحَةُ فِيهِ. وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ، فَسُومِحَ فِيهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ إنْ كَانَ الْعَيْبُ دَخِيلًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَانَ الصَّرْفُ فِيهِ فَاسِدًا] (2856) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ دَخِيلًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَانَ الصَّرْفُ فِيهِ فَاسِدًا) يَعْنِي إذَا وَجَدَ أَحَدُهُمَا مَا قَبَضَهُ مَغْشُوشًا بِغِشٍّ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَيَنْظُرُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ الصَّرْفُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، فَرَدَّهُ، وَأَخَذَ بَدَلَهُ، فَالصَّرْفُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ رَدِّهِ، فَالصَّرْفُ فِيهِ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ: إنَّهُ إذَا أَخَذَ الْبَدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، لَمْ يَبْطُلْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ. وَهَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَرِي الْمَعِيبِ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، فَأَمَّا إنَّ عَلِمَ بِعَيْبِهِ، فَاشْتَرَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ، جَازَ، وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَا بَدَلَ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَكَانَ الصَّرْفُ ذَهَبًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةً بِمِثْلِهَا، فَالصَّرْفُ فِيهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ، إلَّا أَنْ يَبِيعَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً مَغْشُوشًا بِمِثْلِ غِشِّهِ، كَبَيْعِهِ دِينَارًا صُورِيًّا بِمِثْلِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِتَسَاوِي غِشِّهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ جَوَازُهُ. وَإِنْ بَاعَ مَغْشُوشًا بِغَيْرِ مَغْشُوشٍ، لَمْ يَجُزْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْغِشِّ قِيمَةٌ، فَيُخَرَّجُ عَلَى مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَإِنْ كَانَ الصَّرْفُ فِي جِنْسَيْنِ، كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، انْبَنَى عَلَى إنْفَاقِ الْمَغْشُوشَةِ. [فَصْلٌ إنْفَاقُ الْمَغْشُوشِ مِنْ النُّقُودِ] (2857) فَصْلٌ: وَفِي إنْفَاقِ الْمَغْشُوشِ مِنْ النُّقُودِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 أَظْهَرُهُمَا، الْجَوَازُ، نَقَلَ صَالِحٌ عَنْهُ فِي دَرَاهِمَ يُقَالُ لَهَا الْمُسَيَّبِيَّةُ، عَامَّتُهَا نُحَاسٌ إلَّا شَيْئًا فِيهَا فِضَّةٌ، فَقَالَ: إذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِثْلَ الْفُلُوسِ، اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، فَأَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهَا بَأْسٌ. وَالثَّانِيَةُ التَّحْرِيمُ، نَقَلَ حَنْبَلٌ فِي دَرَاهِمَ يُخْلَطُ فِيهَا مِشّ وَنُحَاسٌ يُشْتَرَى بِهَا وَيُبَاعُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا أَحَدٌ. كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغِشِّ فَالشِّرَاءُ بِهِ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، جَازَ الشِّرَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، فَفِي جَوَازِ إنْفَاقِهَا وَجْهَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ إنْفَاقَ الْمَغْشُوشَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَبِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ نُفَايَةِ بَيْتِ الْمَالِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ مَجْهُولٌ، أَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ، وَاصْطَلَحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، إذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لَا غَرَرَ فِيهِمَا، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِمَا، كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ. وَلِأَنَّ هَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي الْأَعْصَارِ، جَارٍ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَفِي تَحْرِيمِهِ مَشَقَّةٌ وَضَرَرٌ، وَلَيْسَ شِرَاؤُهُ بِهَا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَغْرِيرًا لَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ مَعْلُومٌ، بِخِلَافِ تُرَابِ الصَّاغَةِ. وَرِوَايَةُ الْمَنْعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَخْفَى غِشُّهُ، وَيَقَعُ اللَّبْسُ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَشَارَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا فِي رَجُلٍ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ زُيُوفٌ، مَا يَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: يَسْبِكُهَا. قِيلَ لَهُ: فَيَبِيعُهَا بِدَنَانِيرَ؟ قَالَ: لَا. قِيلَ: يَبِيعُهَا بِفُلُوسٍ؟ قَالَ: لَا. قِيلَ فَبِسِلْعَةٍ؟ قَالَ: لَا، إنِّي أَخَافُ أَنْ يَغُرَّ بِهَا مُسْلِمًا. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَيَتَصَدَّقُ بِهَا؟ قَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يَغُرَّ بِهَا مُسْلِمًا. وَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَغُرُّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَقُولُ إنَّهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَذَلِكَ إنَّمَا كَرِهْتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَغُرُّ بِهَا مُسْلِمًا. فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَنْعُ عُمَرَ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مُشْتَرِيَهَا رُبَّمَا خَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ، وَاشْتَرَى بِهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهَا، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا اصْطَلَحَ عَلَى إنْفَاقِهِ، لَمْ يَكُنْ نُفَايَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَافَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُهُ فَلْيَخْرُجْ بِهَا إلَى الْبَقِيعِ، فَلْيَشْتَرِ بِهَا سَحْقَ الثِّيَابِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إنْفَاقِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي لَمْ يَصْطَلِحْ عَلَيْهَا. قُلْنَا: قَدْ قَالَ أَحْمَدُ: مَعْنَى زَافَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُهُ. أَيْ نُفِيَتْ، لَيْسَ أَنَّهَا زُيُوفٌ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا ظَهَرَ غِشُّهُ، وَبَانَ زَيْفُهُ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهَا تَغْرِيرٌ. وَإِنْ تَعَذَّرَ تَأْوِيلُهَا، تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ، وَيُرْجَعُ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ غِشُّهُ ذَا بَقَاءٍ وَثَبَاتٍ، كَالرَّصَاصِ، وَالنُّحَاسِ، وَمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ، كَالزَّرْنِيخِيَّةِ، والأندرانية، وَهُوَ زِرْنِيخٌ وَنُورَةٌ يُطْلَى عَلَيْهِ فِضَّةٌ، فَإِذَا دَخَلَ النَّارَ اُسْتُهْلِكَ الْغِشُّ، وَذَهَبَ. [مَسْأَلَةٌ مَتَى انْصَرَفَ الْمُتَصَارِفَانِ قَبْلَ التَّقَابُضِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا] (2858) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَتَى انْصَرَفَ الْمُتَصَارِفَانِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 الصَّرْفُ: بَيْعُ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا، أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ.» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . «وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا، وَنَهَى أَنْ يُبَاعَ غَائِبٌ مِنْهَا بِنَاجِزٍ» كُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. وَيُجْزِئُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ طَالَ، وَلَوْ تَمَاشَيَا مُصْطَحِبَيْنِ إلَى مَنْزِلِ أَحَدِهِمَا، أَوْ إلَى الصَّرَّافِ، فَتَقَابَضَا عِنْدَهُ، جَازَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا فَارَقَا مَجْلِسَهُمَا. وَلَنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ تَسِيرُ بِهِمَا، أَوْ رَاكِبَيْنِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ تَمْشِي بِهِمَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فِي قَوْلِهِ لِلَّذَيْنِ مَشَيَا إلَيْهِ مِنْ جَانِبِ الْعَسْكَرِ: وَمَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا. وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ الصَّرْفُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ. وَإِنْ قَبَضَ الْبَعْضَ، ثُمَّ افْتَرَقَا، بَطَلَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ، وَفِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعِوَضِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا فِي الْقَبْضِ، فَقَبَضَ الْوَكِيلُ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا، جَازَ، وَقَامَ قَبْضُ وَكِيلِهِ مَقَامَ قَبْضِهِ، سَوَاءٌ فَارَقَ الْوَكِيلُ الْمَجْلِسَ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ لَمْ يُفَارِقْهُ. وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْوَكِيلِ، بَطَلَ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ، وَقَدْ فَاتَ. وَإِنْ تَخَايَرَا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ إذَا قُلْنَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خِيَارٌ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ افْتَرَقَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الشَّرْطَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَاشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ قَبْلَ اللُّزُومِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا إذَا تَخَايَرَا قَبْلَ الصَّرْفِ، ثُمَّ اصْطَرَفَا، فَإِنَّ الصَّرْفَ يَقَعُ لَازِمًا صَحِيحًا قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ. [فَصْلٌ صَارَفَ رَجُلًا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ] (2859) فَصْلٌ: وَلَوْ صَارَفَ رَجُلًا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ الْعَشَرَةِ كُلِّهَا، فَإِنْ قَبَضَ الْخَمْسَةَ وَافْتَرَقَا، بَطَلَ الصَّرْفُ فِي نِصْفِ الدِّينَارِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِيمَا يُقَابِلُ الْخَمْسَةَ الْمَقْبُوضَةَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ، فَسَخَا الصَّرْفَ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ عِوَضُهُ، أَوْ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ كُلَّهُ، ثُمَّ يُشْتَرَى مِنْهُ نِصْفُ الدِّينَارِ بِخَمْسَةٍ، وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الدِّينَارَ كُلَّهُ، فَيَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ لَهُ، وَمَا بَقِيَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَفْتَرِقَانِ، ثُمَّ إذَا صَارَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْبَاقِي لَهُ مِنْ الدِّينَارِ، أَوْ اشْتَرَى بِهِ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ جَعَلَهُ سَلَمًا فِي شَيْءٍ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ، جَازَ، وَكَذَلِكَ إنَّ وَكَّلَهُ فِيهِ. وَلَوْ اشْتَرَى فِضَّةً بِدِينَارٍ وَنِصْفٍ، وَدَفَعَ إلَى الْبَائِعِ دِينَارَيْنِ، وَقَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي نِصْفِ الدِّينَارِ الزَّائِدِ، صَحَّ. وَلَوْ صَارَفَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، فَأَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ لِيَزِنَ لَهُ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، جَازَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وَإِنْ طَالَ، وَيَكُونُ الزَّائِدُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَلَفِهِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِهِمَا إلَّا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِهَا نِصْفَ دِينَارٍ، وَقَبَضَ دِينَارًا كَامِلًا، وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، فَاشْتَرَى بِهَا النِّصْفَ الْبَاقِيَ، أَوْ اشْتَرَى الدِّينَارَ مِنْهُ بِعَشَرَةٍ ابْتِدَاءً، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْخَمْسَةَ، ثُمَّ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ النِّصْفِ الْآخَرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحِيلَةِ، فَلَا بَأْسَ. [فَصْلٌ بَاعَ مُدْيَ تَمْرٍ رَدِيءٍ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَى بِالدِّرْهَمِ تَمْرًا جَنِيبًا] (2860) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ مُدَّيْ تَمْرٍ رَدِيءٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالدِّرْهَمِ تَمْرًا جَنِيبًا، أَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دِينَارًا صَحِيحًا بِدَرَاهِمَ، وَتَقَابَضَاهَا، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ قُرَاضَةً مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ، وَلَا حِيلَةٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنْ يَمْضِيَ إلَى غَيْرِهِ لِيَبْتَاعَ مِنْهُ، فَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْبَائِعِ، فَيَبْتَاعَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: يَبِيعُهَا مِنْ غَيْرِهِ أَحَبُّ إلَيَّ. قُلْت لَهُ: قَالَ لَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَبِيعُهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَطْيَبُ لِنَفْسِهِ وَأَحْرَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الذَّهَبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إذَا رَدَّهَا إلَيْهِ لَعَلَّهُ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ الذَّهَبَ، وَلَا يُحْكِمَ الْوَزْنَ، وَلَا يَسْتَقْصِيَ، يَقُولُ: هِيَ تَرْجِعُ إلَيْهِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَذَهَبَ لِيَشْتَرِيَ الدَّرَاهِمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجِدْهَا، فَرَجَعَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ لَا يُبَالِي اشْتَرَى مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَنَعَمْ. فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، لَا الْإِيجَابِ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ اجْتِنَابَ الْمُوَاطَأَةِ عَلَى هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ: إذَا كَانَ لَا يُبَالِي اشْتَرَى مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَنَعَمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً، جَازَ، وَإِنْ فَعَلَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُضَارِعُ الرِّبَا. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ . قَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْت صَاعَيْنِ بِصَاعٍ؛ لِيُطْعِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ، فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ.» وَرَوَى أَيْضًا أَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرٍ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ . قَالَ: لَا وَاَللَّهِ. إنَّا لَنَأْخُذَ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَفْعَلْ، بِعْ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَبَيَّنَهُ لَهُ، وَعَرَّفَهُ إيَّاهُ. وَلِأَنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَلَا مُوَاطَأَةٍ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ مَرَّةً، جَازَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ. فَأَمَّا إنْ تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ حِيلَةً مُحَرَّمَةً، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ، مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 وَلَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ كَانَ حِيلَةً، وَالْحِيَلُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْلٌ الْحِيَلُ كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ] (2861) فَصْلٌ: وَالْحِيَلُ كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ، غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ عَقْدًا مُبَاحًا يُرِيدُ بِهِ مُحَرَّمًا، مُخَادَعَةً وَتَوَسُّلًا إلَى فِعْلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورَاتِهِ، أَوْ إسْقَاطِ وَاجِبٍ، أَوْ دَفْعِ حَقٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: إنَّهُمْ لَيُخَادِعُونَ اللَّهَ، كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ صَبِيًّا، لَوْ كَانُوا يَأْتُونَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيَّ. فَمِنْ ذَلِكَ؛ مَا لَوْ كَانَ مَعَ رَجُلٍ عَشَرَةٌ صِحَاحٌ، وَمَعَ الْآخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ مُكَسَّرَةٌ، فَاقْتَرَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا مَعَ صَاحِبِهِ، ثُمَّ تَبَارَيَا، تَوَصُّلًا إلَى بَيْعِ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ مُتَفَاضِلًا، أَوْ بَاعَهُ الصِّحَاحَ بِمِثْلِهَا مِنْ الْمُكَسَّرَةِ، ثُمَّ وَهَبَهُ الْخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ، أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ بِهَا أُوقِيَّةَ صَابُونٍ، أَوْ نَحْوَهَا مَا يَأْخُذُهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ بِعَشَرَةٍ إلَّا حَبَّةً مِنْ الصَّحِيحِ مِثْلَهَا مِنْ الْمُكَسَّرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ بِالْحَبَّةِ الْبَاقِيَةِ ثَوْبًا قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ. وَهَكَذَا لَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا، أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا تَوَصُّلًا إلَى أَخْذِ عِوَضٍ عَنْ الْقَرْضِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ فَهُوَ خَبِيثٌ مُحَرَّمٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: ذَلِكَ كُلُّهُ وَأَشْبَاهُهُ جَائِزٌ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَا فِي الْبَيْعِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ فِي الْعَقْدِ يُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَذَّبَ أُمَّةً بِحِيلَةٍ احْتَالُوهَا، فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً، وَسَمَّاهُمْ مُعْتَدِينَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ نَكَالًا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ؛ لِيَتَّعِظُوا بِهِمْ، وَيَمْتَنِعُوا مِنْ مِثْلِ أَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] . أَيْ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْصِبُونَ شِبَاكَهُمْ لِلْحِيتَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتْرُكُونَهَا إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْفِرُ حَفَائِرَ، وَيَجْعَلُ إلَيْهَا مَجَارِي، فَيَفْتَحُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَ السَّمَكُ يَوْمَ السَّبْتِ، جَرَى مَعَ الْمَاءِ فِي الْمَجَارِي، فَيَقَعُ فِي الْحَفَائِرِ، فَيَدَعُهَا إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا، وَيَقُولُ: مَا اصْطَدْت يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَا اعْتَدَيْت فِيهِ. فَهَذِهِ حِيلَةٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ، فَهُوَ قِمَارٌ، وَمِنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. فَجَعَلَهُ قِمَارًا مَعَ إدْخَالِهِ الْفَرَسَ الثَّالِثَ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَمْنَعُ مَعْنَى الْقِمَارِ، وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ كَوْنِهِ آخِذًا، أَوْ مَأْخُوذًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا دَخَلَ صُورَةً، تُحِيلَا عَلَى إبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ، وَسَائِرُ الْحِيَلِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَفْسَدَتِهَا، وَالضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْهَا. وَلَا تَزُولُ مَفْسَدَتُهَا مَعَ إبْقَاءِ مَعْنَاهَا، بِإِظْهَارِهِمَا صُورَةً غَيْرَ صُورَتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ سَمَّى الْخَمْرَ بِغَيْرِ اسْمِهَا، لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ شُرْبَهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيَسْتَحِلَّنَّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» . وَمِنْ الْحِيَلِ فِي غَيْرِ الرِّبَا، أَنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ إلَى بَيْعِ الشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَنْ يَسْتَأْجِرَ بَيَاضَ أَرْضِ الْبُسْتَانِ بِأَمْثَالِ أُجْرَتِهِ، ثُمَّ يُسَاقِيهِ عَلَى ثَمَرِ شَجَرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ لِلْمَالِكِ، وَتِسْعُمِائَةِ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلْعَامِلِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَالِكُ شَيْئًا، وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِمَا سَمَّاهُ أُجْرَةً، وَالْعَامِلُ لَا يَقْصِدُ أَيْضًا سِوَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَرْضِ الَّتِي سَمَّى الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَتِهَا، وَمَتَى لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَرُ، أَوْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ يَطْلُبُ الْجَائِحَةَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ مَالَهُ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَرَةِ لَا غَيْرُ، وَرَبُّ الْأَرْضِ يَعْلَمُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ اشْتَرَى شَيْئًا بِمُكَسَّرَةِ] (2862) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمُكَسَّرَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ صَحِيحًا أَقَلَّ مِنْهَا. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا هُوَ الرِّبَا الْمَحْضُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عِوَضَ الْفِضَّةِ أَقَلَّ مِنْهَا، فَيَحْصُلُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِصَحِيحٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ مُكَسَّرَةً أَكْثَرَ مِنْهَا كَذَلِكَ. فَإِنْ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ، ثُمَّ عَقَدَا بِالصِّحَاحِ، أَوْ بِالْمُكَسَّرَةِ جَازَ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ، لَزِمَهُ نِصْفُ دِينَارٍ شِقٍّ، فَإِنْ عَادَ فَاشْتَرَى شَيْئًا آخَرَ بِنِصْفٍ آخَرَ لَزِمَهُ نِصْفُ شِقٍّ أَيْضًا، فَإِنْ وَفَّاهُ دِينَارًا صَحِيحًا، بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ ثَمَنِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، بَطَلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مَا يُفْسِدُهُ قَبْلَ انْبِرَامِهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا فَلُزُومِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ الَّذِي عَقَدَ الْبَيْعَ بِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دِينَارٌ وَدِيعَةً فَصَارَفَهُ بِهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ بَقَاؤُهُ أَوْ مَظْنُونٌ] (2863) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دِينَارٌ وَدِيعَةً، فَصَارَفَهُ بِهِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بَقَاؤُهُ، أَوْ مَظْنُونٌ، صَحَّ الصَّرْفُ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ. وَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْبَقَاءِ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَصَحَّ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّكِّ، فَإِنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ؛ وَلِذَلِكَ صَحَّ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الْغَائِبِ الْمَشْكُوكِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَالِفًا حِينَ الْعَقْدِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بَاطِلًا. [فَصْلٌ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَالْمَعْدِنِ بِشَيْءِ مِنْ جِنْسِهِ] (2864) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَالْمَعْدِنِ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ رِبًا بِيعَ بِجِنْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تُعْلَمُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ. وَإِنْ بِيعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَحَكَى ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، كَرَاهَةَ بَيْعِ تُرَابِ الْمَعَادِنِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي (الْإِرْشَادِ) : يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ، قَالُوا: فَإِنْ اخْتَلَطَ، أَوْ أَشْكَلَ فَلْيَبِعْهُ بِعَرْضٍ، وَلَا يَبِعْهُ بِعَيْنٍ وَلَا وَرِقٍ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِمَا لَا رِبَا فِيهِ فَجَازَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعِ الْعَرَايَا] (2865) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَالْعَرَايَا الَّتِي أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ هُوَ أَنْ يُوهَبَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ النَّخْلِ مَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، فَيَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا رُطَبًا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: (2866) فَصْلٌ أَوَّلُهَا، فِي إبَاحَةِ بَيْعِ الْعَرَايَا فِي الْجُمْلَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ، بَيْعُ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ يَبِيعُ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَمْ يَحُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَخَرَّجَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ فِي كُتُبِهِمْ. وَحَدِيثُهُمْ فِي سِيَاقِهِ: (إلَّا الْعَرَايَا كَذَلِكَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا. وَلَوْ قُدِّرَ تَعَارُضُ الْحَدِيثَيْنِ، وَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنَا لِخُصُوصِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَعَمَلًا بِكِلَا النَّصَّيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الَّذِي نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ هُوَ الَّذِي أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا، وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَالْقِيَاسُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ النَّصِّ مَعَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا. وَالرُّخْصَةُ اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ، مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ، فَلَوْ مَنَعَ وُجُودُ السَّبَبِ مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ، لَمْ يَبْقَ لَنَا رُخْصَةٌ بِحَالٍ. (2867) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي زِيَادَةٍ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَتَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهَا. فَأَمَّا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ إمَامِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: يَجُوزُ. وَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ وَسَهْلٍ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ، مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَشَكَّ فِي الْخَمْسَةِ فَاسْتَثْنَى الْيَقِينَ، وَبَقِيَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِبَاحَةِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ.» وَالْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، ثُمَّ أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَشَكَّ فِي الْخَمْسَةِ، فَيَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ رُخْصَةٌ بُنِيَتْ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ يَقِينًا فِيمَا دُونَ الْخَمْسَةِ، وَالْخَمْسَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا، فَلَا تَثْبُتُ إبَاحَتُهَا مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 الشَّكِّ وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ فِي الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ.» وَالتَّخْصِيصُ بِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ عَلَيْهِ، كَمَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ؛ لِتَخْصِيصِهِ إيَّاهَا بِالذِّكْرِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَهْلٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ؛ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ.» وَلِأَنَّ خَمْسَةَ الْأَوْسُقِ فِي حُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا دُونَ مَا نَقَصَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهَا قَدْرٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ عَرِيَّةً، كَالزَّائِدِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ مُطْلَقًا، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُطْلَقَةَ سَابِقَةٌ عَلَى الرُّخْصَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَلَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، بَلْ الرُّخْصَةُ وَاحِدَةٌ، رَوَاهَا بَعْضُهُمْ مُطْلَقَةً وَبَعْضُهُمْ مُقَيَّدَةً، فَيَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَصِيرُ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ يُقَيَّدُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ، اتِّفَاقًا. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَكْثَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِيمَا زَادَ عَلَى صَفْقَةٍ] (2868) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فِيمَا زَادَ عَلَى صَفْقَةٍ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهَا مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ بَيْعُ جَمِيعِ ثَمَرِ حَائِطِهِ عَرَايَا، مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ رِجَالٍ، فِي عُقُودٍ مُتَكَرِّرَةٍ؛ لِعُمُومِ حَدِيثِ زَيْدٍ وَسَهْلٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ مَرَّةً، جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ. وَلَنَا، عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الْمُزَابَنَةِ، اسْتَثْنَى مِنْهُ الْعَرِيَّةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مَرَّةً إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، لَا يَجُوزُ فِي عَقْدَيْنِ، كَاَلَّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالنَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ إنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ. فَأَمَّا إنْ بَاعَ رَجُلٌ عَرِيَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ جَازَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُشْتَرِي. وَلَنَا أَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي التَّجْوِيزِ حَاجَةُ الْمُشْتَرِي؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ قَالَ: «قُلْت لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ فَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ، شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ، وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ التَّمْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهُ رُطَبًا.» وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ حَاجَةَ الْمُشْتَرِي، لَمْ تُعْتَبَرْ حَاجَةُ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ فِي حَقِّهِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَلِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْحَاجَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَحَاجَةَ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ، أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَحْصُلَ الْإِرْفَاقُ، إذْ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ وُجُودُ الْحَاجَتَيْنِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 فَتَسْقُطُ الرُّخْصَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي. فَإِنْ اشْتَرَى عَرِيَّتَيْنِ أَوْ بَاعَهُمَا، وَفِيهِمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، جَازَ، وَجْهًا وَاحِدًا. (2869) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ شَرْطٌ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا. فَقَالَ: الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الْجَارَ أَوْ الْقَرَابَةَ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَسْكَنَةِ، فَلِلْمُعْرِي أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ شَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ: بَيْعُ الْعَرَايَا الْجَائِزُ هُوَ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَخَلَاتٍ مِنْ حَائِطِهِ، ثُمَّ يَكْرَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ دُخُولَ الرَّجُلِ الْمُعْرِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ فِي الْحَائِطِ، فَيُؤْذِيهِ دُخُولُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَرِيَّةَ فِي اللُّغَةِ هِبَةُ ثَمَرَةِ النَّخِيلِ عَامًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِعْرَاءُ، أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ عَامَهَا ذَلِكَ. قَالَ الشَّاعِرُ الْأَنْصَارِيُّ يَصِفُ النَّخْلَ: لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ يَقُولُ: إنَّا نُعْرِيهَا النَّاسَ. فَتَعَيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَى مَوْضُوعِهِ لُغَةً وَمُقْتَضَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَنَا، حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، فِي تَصْرِيحِهِ بِجَوَازِ بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ الْوَاهِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَاجَةِ الْوَاهِبِ لَمَا اُخْتُصَّ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ، لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْحَاجَةِ بِهَا. وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا بِالتَّمْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ صَاحِبِ الْحَائِطِ الَّذِي لَهُ النَّخِيلُ الْكَثِيرُ يُعْرِيهِ النَّاسَ، أَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ ثَمَنِ الْعَرِيَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ اشْتَرَطَ كَوْنَهَا مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرُّخْصَةِ حَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ سِوَى التَّمْرِ، فَمَتَى وَجَدَ ذَلِكَ، جَازَ الْبَيْعُ. وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا مَوْهُوبَةً مَعَ اشْتِرَاطِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِهَا رُطَبًا، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ، يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الرُّخْصَةِ، إذْ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا، جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْهُوبًا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَمَا جَازَ بَيْعُهُ لِوَاهِبِهِ، جَازَ لِغَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرِيَّةً لِتَعَرِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْبَيْعِ. (2870) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ، لَا أَقَلَّ مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ وَيَجِبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ مَعْلُومًا بِالْكَيْلِ، وَلَا يَجُوزُ جُزَافًا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ أَبَاحَ بَيْعَ الْعَرَايَا اخْتِلَافًا؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِمُسْلِمِ، أَنْ تُؤْخَذَ بِمِثْلِ خَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، سَقَطَ فِي أَحَدِهِمَا لِلتَّعَذُّرِ، فَيَجِبُ فِي الْآخَرِ بِقَضِيَّةِ الْأَصْلِ. وَلِأَنَّ تَرْكَ الْكَيْلِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يُكْثِرُ الْغَرَرَ، وَفِي تَرْكِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُقَلِّلُ الْغَرَرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ مَعَ قِلَّةِ الْغَرَرِ، صِحَّتُهُ مَعَ كَثْرَتِهِ. وَمَعْنَى خَرْصِهَا بِمِثْلِهَا مِنْ التَّمْرِ، أَنْ يُطِيفَ الْخَارِصُ بِالْعَرِيَّةِ، فَيَنْظُرَ كَمْ يَجِيءُ مِنْهَا تَمْرًا، فَيَشْتَرِيَهَا الْمُشْتَرِي بِمِثْلِهَا تَمْرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: يَخْرُصُهَا رُطَبًا، وَيُعْطِي تَمْرًا رُخْصَةً. وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْأَوَّلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَشْتَرِيهَا بِتَمْرٍ مِثْلِ الرُّطَبِ الَّذِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ اُشْتُرِطَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ، فَاعْتُبِرَتْ حَالَ الْبَيْعِ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحَالِ، وَأَنْ لَا يُبَاعَ الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ. خُولِفَ الْأَصْلُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الدَّلِيلِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى خَرْصِ الثِّمَارِ فِي الْعُشْرِ وَالصَّحِيحِ، ثُمَّ خَرْصِهِ تَمْرًا. وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُعْتَبَرَةٌ حَالَةَ الِادِّخَارِ، وَبَيْعُ الرُّطَبِ بِمِثْلِهِ تَمْرًا يُفْضِي إلَى فَوَاتِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهَا بِخَرْصِهَا رُطَبًا، لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي يَجُوزُ. وَالثَّالِث، لَا يَجُوزُ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ، وَيَجُوزُ مَعَ اخْتِلَافِهِ. وَوَجْهُ جَوَازِهِ، مَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَرْخَصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ، أَوْ التَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.» وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالنَّقْصِ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى. وَلَنَا، مَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُؤْخَذَ بِمِثْلِ خَرْصِهَا تَمْرًا.» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا، تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ. إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ، النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ، يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا.» وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ يَجِبُ فِيهِ مِثْلُهُ تَمْرًا، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِمِثْلِهِ رُطَبًا، كَالتَّمْرِ الْجَافِّ. وَلِأَنَّ مَنْ لَهُ رُطَبٌ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ شِرَاءِ الرُّطَبِ بِأَكْلِ مَا عِنْدَهُ، وَبَيْعُ الْعَرَايَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حَاجَةُ الْمُشْتَرِي، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ شَكٌّ فِي الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ الشَّكِّ، سِيَّمَا وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُهُ، وَتُزِيلُ الشَّكَّ. [فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ] (2871) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ تَمْرٍ بِتَمْرٍ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ شُرُوطُهُ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وَالْقَبْضُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَسْبِهِ، فَفِي التَّمْرِ اكْتِيَالُهُ أَوْ نَقْلُهُ، وَفِي الثَّمَرَةِ التَّخْلِيَةُ. وَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِهِ حُضُورُ التَّمْرِ عِنْدَ النَّخِيلِ، بَلْ لَوْ تَبَايَعَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ التَّمْرِ وَالثَّمَرَةِ، ثُمَّ مَضَيَا جَمِيعًا إلَى النَّخْلَةِ، فَسَلَّمَهَا إلَى مُشْتَرِيهَا، ثُمَّ مَشَيَا إلَى التَّمْرِ فَتَسَلَّمَهُ مِنْ مُشْتَرِيهَا، أَوْ تَسَلَّمَ التَّمْرَ ثُمَّ مَضَيَا إلَى النَّخْلَةِ جَمِيعًا فَسَلَّمَهَا إلَى مُشْتَرِيهَا، أَوْ سَلَّمَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ مَضَيَا إلَى التَّمْرِ فَتَسَلَّمَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْقَبْضِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ بَيْعَ الْعَرِيَّةِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك ثَمَرَةَ هَذِهِ النَّخْلَةِ بِكَذَا وَكَذَا مِنْ التَّمْرِ. وَيَصِفُهُ. وَالثَّانِي، أَنْ يَكِيلَ مِنْ التَّمْرِ بِقَدْرِ خَرْصِهَا، ثُمَّ يَقُولَ: بِعْتُك هَذَا بِهَذَا، أَوْ يَقُولَ: بِعْتُك ثَمَرَةَ هَذِهِ النَّخْلَةِ بِهَذَا التَّمْرِ، وَنَحْوَ هَذَا. وَإِنْ بَاعَهُ بِمُعَيَّنٍ فَقَبْضُهُ بِنَقْلِهِ وَأَخْذِهِ، وَإِنْ بَاعَ بِمَوْصُوفِ فَقَبْضُهُ بِاكْتِيَالِهِ. (2872) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا لِمُحْتَاجٍ إلَى أَكْلِهَا رُطَبًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِغَنِيٍّ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَأَبَاحَهَا فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَيْعٍ جَازَ لِلْمُحْتَاجِ، جَازَ لِلْغَنِيِّ، كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَهْلٍ مُطْلَقَانِ. وَلَنَا حَدِيثُ «زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، حِينَ سَأَلَهُ، مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ فَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ، شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ، وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ التَّمْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ يَأْكُلُونَهُ رُطَبًا.» وَمَتَى خُولِفَ الْأَصْلُ بِشَرْطٍ، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ. وَلِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، لَمْ يُبَحْ مَعَ عَدَمِهَا، كَالزَّكَاةِ لِلْمَسَاكِينِ، وَالتَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ. فَعَلَى هَذَا، مَتَى كَانَ صَاحِبُهَا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا، وَمَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَا يَشْتَرِي بِهِ الْعَرِيَّةَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ شِرَاؤُهَا بِالتَّمْرِ، وَسَوَاءٌ بَاعَهَا لِوَاهِبِهَا تَحَرُّزًا مِنْ دُخُولِ صَاحِبِ الْعَرِيَّةِ حَائِطَهُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُبَاحُ. وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ وُجِدَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَجَازَ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُحْتَاجًا إلَى أَكْلِهَا. وَلَنَا، حَدِيثُ زَيْدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالرُّخْصَةُ لِمَعْنًى خَاصٍّ لَا تَثْبُتُ مَعَ عَدَمِهِ، وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ وَسَهْلٍ: «يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا» . وَلَوْ جَازَ لِتَخْلِيصِ الْمُعْرِي لَمَا شُرِطَ ذَلِكَ. فَيُشْتَرَطُ إذًا فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ شُرُوطٌ خَمْسَةٌ، أَنْ يَكُونَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَبَيْعُهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ، وَقَبْضُ ثَمَنِهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَحَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ سِوَى التَّمْرِ. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ شَرْطًا سَادِسًا، وَهُوَ حَاجَةُ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ. وَاشْتَرَطَ الْخِرَقِيِّ، كَوْنَهَا مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا. وَاشْتَرَطَ أَصْحَابُنَا لِبَقَاءِ الْعَقْدِ، بِأَنْ يَأْكُلَهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَصِيرَ تَمْرًا بَطَلَ الْعَقْدُ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 [مَسْأَلَةٌ تَرَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيع حَتَّى يُتَمَرَّ] (2873) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ تَرَكَهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُتْمِرَ بَطَلَ الْعَقْدُ يَعْنِي إنْ لَمْ يَأْخُذْهَا الْمُشْتَرِي رُطَبًا بَطَلَ الْعَقْدُ، خِلَافًا لِلشَّافِعِي فِي قَوْلِهِ: لَا يَبْطُلُ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ جَازَ بَيْعُهَا رُطَبًا، لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ إذَا صَارَتْ تَمْرًا، كَغَيْرِ الْعَرِيَّةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا» . وَلِأَنَّ شِرَاءَهَا إنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، فَإِذَا أَتْمَرَتْ تَبَيَّنَّا عَدَمَ الْحَاجَةِ، فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ. ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِهِ لِغِنَاهُ عَنْهَا، أَوْ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا، أَوْ تَرْكِهَا لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِلْخَبَرِ. وَلَوْ أَخَذَهَا رُطَبًا فَتَرَكَهَا عِنْدَهُ فَأَتْمَرَتْ، أَوْ شَمَّسَهَا، حَتَّى صَارَتْ تَمْرًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهَا. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي مَنْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بَدْو صَلَاحِهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ. فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. فَإِنْ أَخَذَ بَعْضَهَا رُطَبًا، وَتَرَكَ بَاقِيَهَا حَتَّى أَتْمَرَ، فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ بَيْعُ الْعَرِيَّةِ فِي غَيْرِ النَّخِيلِ] (2874) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَرِيَّةِ فِي غَيْرِ النَّخِيلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَقَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ثَمَرَتُهُ لَا يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ رَطْبِهَا بِيَابِسِهَا؛ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِنَبَ كَالرُّطَبِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَجَوَازِ خَرْصِهِمَا، وَتَوْسِيقِهِمَا، وَكَثْرَةِ تَيْبِيسِهِمَا، وَاقْتِيَاتِهِمَا فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَالْحَاجَةِ إلَى أَكْلِ رَطْبِهِمَا، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الشَّيْءِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي مِثْلِهِ. وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ خَرْصُهَا؛ لِتَفَرُّقِهَا فِي الْأَغْصَانِ، وَاسْتِتَارِهَا بِالْأَوْرَاقِ، وَلَا يُقْتَاتُ يَابِسَهَا، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الشِّرَاءِ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ قِيَاسًا عَلَى ثَمَرَةِ النَّخِيلِ. وَلَنَا، مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ، الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، إلَّا أَصْحَابَ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ، وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَكُلِّ ثَمَرَةٍ بِخَرْصِهَا.» وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَرِيَّةِ بِالتَّمْرِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُزَابَنَةِ» ، وَالْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ ثَمَرِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا، وَعَنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ بِخَرْصِهِ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ بَيْعِ الْعَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ فِي ثَمَرَةِ النَّخِيلِ رُخْصَةً، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا لِوَجْهَيْنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 أَحَدِهِمَا، أَنَّ غَيْرَهَا لَا يُسَاوِيهَا فِي كَثْرَةِ الِاقْتِيَاتِ بِهَا، وَسُهُولَةِ خَرْصِهَا، وَكَوْنِ الرُّخْصَةِ فِي الْأَصْلِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إلَى الرُّطَبِ دُونَ غَيْرِهِ. الثَّانِي، أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعْمَلُ بِهِ إذَا خَالَفَ نَصًّا، وَقِيَاسُهُمْ يُخَالِفُ نُصُوصًا غَيْرَ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَحِلِّ الْمَخْصُوصِ، «وَنَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ» لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّمَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ] [مَسْأَلَةٌ وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْبَيْعَ مَتَى وَقَعَ عَلَى نَخْلٍ مُثْمِرٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الثَّمَرَةَ وَكَانَتْ مُؤَبَّرَةً] بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ (2875) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا، وَهُوَ مَا قَدْ تَشَقَّقَ طَلْعُهُ، فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ مَتْرُوكَةً فِي النَّخْلِ إلَى الْجِزَازِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ) . أَصْلُ الْإِبَارِ عِنْد أَهْل الْعِلْمِ: التَّلْقِيحُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَتَّى يَتَشَقَّقَ الطَّلْعُ، وَتَظْهَرَ الثَّمَرَةُ، فَعُبِّرَ بِهِ عَنْ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ؛ لِلُزُومِهِ مِنْهُ. وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالظُّهُورِ، دُونَ نَفْسِ التَّلْقِيحِ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، يُقَالُ: أَبَّرْت النَّخْلَةَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، فَهِيَ مُؤَبَّرَةٌ وَمَأْبُورَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ.» وَالسِّكَّةُ: النَّخْلُ الْمَصْفُوفُ. وَأَبَّرْت النَّخْلَةَ آبُرُهَا أَبْرًا، وَإِبَارًا، وَأَبَرَّتْهَا تَأْبِيرًا، وَتَأَبَّرَتْ النَّخْلَةُ، وَائْتَبَرَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَأَبَّرِي يَا خِيرَةَ الْفَسِيلِ وَفَسَّرَ الْخِرَقِيِّ الْمُؤَبَّرَ بِمَا قَدْ تَشَقَّقَ طَلْعُهُ؛ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ، دُونَ نَفْسِ التَّأْبِيرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يَتَشَقَّقُ الطَّلْعُ بِنَفْسِهِ فَيَظْهَرُ، وَقَدْ يَشُقُّهُ الصِّعَادُ فَيَظْهَرُ. وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ التَّأْبِيرُ الْمُرَادُ هَاهُنَا. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: (2876) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى وَقَعَ عَلَى نَخْلٍ مُثْمِرٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الثَّمَرَةَ، وَكَانَتْ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً، فَهِيَ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هِيَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ، كَالْأَغْصَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ لِلْبَائِعِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَمَاءٌ لَهُ حَدٌّ، فَلَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ فِي الْبَيْعِ، كَالزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي رَدِّ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَحُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 بِمَفْهُومِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّأْبِيرَ حَدًّا لِمِلْكِ الْبَائِعِ لِلثَّمَرَةِ، فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ حَدًّا، وَلَا كَانَ ذِكْرُ التَّأْبِيرِ مُفِيدًا. وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ كَامِنٌ لِظُهُورِهِ غَايَةٌ، فَكَانَ تَابِعًا لِأَصْلِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَغَيْرَ تَابِعٍ لَهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ، كَالْحَمْلِ فِي الْحَيَوَانِ. فَأَمَّا الْأَغْصَانُ، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ النَّخْلِ، وَلَيْسَ لِانْفِصَالِهَا غَايَةٌ، وَالزَّرْعُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا. [الْفَصْلُ الثَّانِي مَتَى اشْتَرَطَ الثَّمَرَة أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَهِيَ لَهُ مُؤَبَّرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ] (2877) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى اشْتَرَطَهَا أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَهِيَ لَهُ مُؤَبَّرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، الْبَائِعُ فِيهِ وَالْمُشْتَرِي سَوَاءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ اشْتَرَطَهَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّأْبِيرِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهَا مَعَ أَصْلِهَا، وَإِنْ اشْتَرَطَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ لَهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ تَرْكِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَ حَائِطًا، وَاسْتَثْنَى نَخْلَةً بِعَيْنِهَا، «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الثُّنْيَا، إلَّا أَنْ تُعْلَمَ» . وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَصَحَّ اشْتِرَاطُهُ لِلثَّمَرَةِ، كَالْمُشْتَرِي، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» . وَلَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ مَعْلُومًا، كَانَ ذَلِكَ كَاشْتِرَاطِ جَمِيعِهَا فِي الْجَوَازِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَوْلِ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ بِاشْتِرَاطِ جَمِيعِهَا. وَلَنَا، أَنَّ مَا جَازَ اشْتِرَاطُ جَمِيعِهِ، جَازَ اشْتِرَاطُ بَعْضِهِ، كَمُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَالِ الْعَبْدِ إذَا اشْتَرَطَ بَعْضَهُ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ الثَّمَرَةُ إذَا بَقِيَتْ لِلْبَائِعِ فَلَهُ تَرْكُهَا فِي الشَّجَرِ إلَى أَوَانِ الْجِزَازِ] (2878) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: إنَّ الثَّمَرَةَ إذَا بَقِيَتْ لِلْبَائِعٍ، فَلَهُ تَرْكُهَا فِي الشَّجَرِ إلَى أَوَانِ الْجِزَازِ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّهَا بِشَرْطِهِ أَوْ بِظُهُورِهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ قَطْعُهَا، وَتَفْرِيغُ النَّخْلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَشْغُولٌ بِمُلْكِ الْبَائِعِ، فَلَزِمَ نَقْلُهُ وَتَفْرِيغُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ، أَوْ قُمَاشٌ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّقْلَ وَالتَّفْرِيغَ لِلْمَبِيعِ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ، لَمْ يَجِبْ نَقْلُهُ إلَّا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَنْقُلَهُ نَهَارًا، شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ النَّقْلُ لَيْلًا، وَلَا جَمْعُ دَوَابِّ الْبَلَدِ لِنَقْلِهِ. كَذَلِكَ هَاهُنَا، يُفَرِّغُ النَّخْلَ مِنْ الثَّمَرَةِ فِي أَوَانِ تَفْرِيغِهَا، وَهُوَ أَوَانُ جِزَازِهَا، وَقِيَاسُهُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْمَرْجِعُ فِي جَزِّهِ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا، فَحِينَ تَتَنَاهَى حَلَاوَةُ ثَمَرِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا بُسْرُهُ خَيْرٌ مِنْ رُطَبِهِ، أَوْ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَخْذِهِ بُسْرًا، فَإِنَّهُ يَجُزُّهُ حِينَ تَسْتَحْكِمُ حَلَاوَةُ بُسْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 فَإِذَا اسْتَحْكَمَتْ حَلَاوَتُهُ، فَعَلَيْهِ نَقْلُهُ. وَإِنْ قِيلَ: بَقَاؤُهُ فِي شَجَرِهِ خَيْرٌ لَهُ وَأَبْقَى؛ فَعَلَيْهِ النَّقْلُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي النَّقْلِ قَدْ حَصَلَتْ، وَلَيْسَ لَهُ إبْقَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عِنَبًا، أَوْ فَاكِهَةً سِوَاهُ، فَأَخَذَهُ حِينَ يَتَنَاهَى إدْرَاكُهُ، وَتَسْتَحْكِمُ حَلَاوَتُهُ، وَيُجَزُّ مِثْلُهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. (2879) فَصْلٌ: فَإِنْ أَبَّرَ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ مَا أُبِّرَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لِلْخَبَرِ الَّذِي عَلَيْهِ مَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ صَرِيحَهُ، أَنَّ مَا أُبِّرَ لِلْبَائِعِ، وَمَفْهُومَهُ، أَنَّ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: الْكُلُّ لِلْبَائِعِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَجْعَلْ الْكُلَّ لِلْبَائِعِ، أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِاشْتِرَاكِ الْأَيْدِي فِي الْبُسْتَانِ، فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا أُبِّرَ، كَثَمَرِ النَّخْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْبِيرَ بَعْضِ النَّخْلَةِ يَجْعَلُ جَمِيعَهَا لِلْبَائِعٍ، وَقَدْ يَتْبَعُ الْبَاطِنُ الظَّاهِرَ مِنْهُ، كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ تَتْبَعُ الظَّاهِرَ مِنْهُ. وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ إذَا بَدَا صَلَاحُ ثَمَرَةٍ مِنْهُ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، كَذَا هَاهُنَا، وَهَذَا مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّوْعَ الْوَاحِدَ يَتَقَارَبُ يَتَلَاحَقُ، فَأَمَّا إنْ أُبِّرَ، لَمْ يَتْبَعْهُ النَّوْعُ الْآخَرُ. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَبُو الْخَطَّابِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ كُلِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، كَمَا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّوْعَيْنِ يَتَبَاعَدَانِ، وَيَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يُخْشَى اخْتِلَاطُهُمَا وَاشْتِبَاهُهُمَا. فَأَشْبَهَا الْجِنْسَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْجِنْسَيْنِ. وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى النَّوْعِ الْوَاحِدِ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ بَاعَ حَائِطَيْنِ قَدْ أُبِّرَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَتْبَعْهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي؛ لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. وَلَوْ أُبِّرَ بَعْضَ الْحَائِطِ، فَأُفْرِدَ بِالْبَيْعِ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ، فَلِلْمَبِيعِ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَلَا يَتْبَعُ غَيْرَهُ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي أَنَّهُ يَتْبَعُ غَيْرَ الْمَبِيعِ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِلْحَائِطِ كُلِّهِ حُكْمُ التَّأْبِيرِ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يَصِحُّ؛ هَذَا لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُؤَبَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي، بِمَفْهُومِ الْخَبَرِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي بُسْتَانٍ وَحْدَهُ. وَلِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَلَا اخْتِلَافِ الْأَيْدِي، وَلَا إلَى ضَرَرٍ، فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. فَإِنْ بِيعَتْ النَّخْلَةُ وَقَدْ أُبِّرَتْ كُلُّهَا، أَوْ بَعْضُهَا، فَأَطْلَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالطَّلْعُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، فَكَانَ لَهُ، كَمَا لَوْ حَدَثَ بَعْدَ جِزَازِ الثَّمَرَةِ. وَلِأَنَّ مَا أَطْلَعَ بَعْدَ تَأْبِيرِ غَيْرِهِ لَا يَكَادُ يَشْتَبِهُ بِهِ؛ لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا. (2880) فَصْلٌ: وَطَلْعُ الْفِحَالِ كَطَلْعِ الْإِنَاثِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَلْعُ الْفِحَالِ لِلْبَائِعٍ قَبْلَ ظُهُورِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ لِلْأَكْلِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، فَهُوَ كَثَمَرَةٍ لَا تُخْلَقُ إلَّا ظَاهِرَةً، كَالتِّينِ، وَيَكُونُ ظُهُورُ طَلْعِهِ كَظُهُورِ ثَمَرَةِ غَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وَلَنَا، أَنَّهَا ثَمَرَةُ نَخْلٍ إذَا تُرِكَتْ ظَهَرَتْ، فَهِيَ كَالْإِنَاثِ، أَوْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ. وَمَا ذُكِرَ لِلْوَجْهِ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ أَكْلَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِلتَّلْقِيحِ بِهِ، وَهُوَ يَكُونُ بَعْدَ ظُهُورِهِ، فَأَشْبَهَ طَلْعَ الْإِنَاثِ. فَإِنْ بَاعَ نَخْلًا فِيهِ فِحَالٍ وَإِنَاثٌ لَمْ يَتَشَقَّقْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْكُلُّ لِلْمُشْتَرِي، إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، فَإِنَّ طَلْعَ الْفِحَالِ يَكُونُ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَقَّقَ طَلْعُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَمَا تَشَقَّقَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يَتَشَقَّقْ لِلْمُشْتَرِي، إلَّا عِنْدَ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا. وَإِنْ تَشَقَّقَ طَلْعُ بَعْضِ الْإِنَاثِ أَوْ بَعْضِ الْفِحَالِ، فَاَلَّذِي قَدْ ظَهَرَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. (2881) فَصْلٌ: وَكُلُّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ، فِي أَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ تَكُونُ لِمَنْ انْتَقَلَ عَنْهُ الْأَصْلُ، وَغَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ نَخْلًا، أَوْ يَخْلَعَهَا بِهِ، أَوْ يَجْعَلَهُ عِوَضًا فِي إجَارَةٍ، أَوْ عَقْدِ صُلْحٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَجَرَى مَجْرَى الْبَيْعِ. وَإِنْ انْتَقَلَ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ كَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، أَوْ فُسِخَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ، أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، أَوْ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ، أَوْ تَقَايَلَا الْمَبِيعَ، أَوْ كَانَ صَدَاقًا فَرَجَعَ إلَى الزَّوْجِ لِفَسْخِ الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ، أَوْ نِصْفُهُ لِطَلَاقِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ فِي الْفَسْخِ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، سَوَاءٌ أُبِّرَ، أَوْ لَمْ يُؤَبَّرْ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مُتَّصِلٌ، فَأَشْبَهَ السِّمَنَ، وَفِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْبَيْعِ، فِي أَنَّهُ يَتْبَعُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، وَلَا يَتْبَعُ فِيمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَالَ عَنْ الْأَصْلِ بِغَيْرِ فَسْخٍ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، كَالْبَيْعِ. وَأَمَّا رُجُوعُ الْبَائِعِ لِفَلَسِ الْمُشْتَرِي، أَوْ الزَّوْجِ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ، فَيُذْكَرَانِ فِي بَابَيْهِمَا. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الشَّجَرِ إذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ بَادٍ] (2882) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَكَذَلِكَ بَيْعُ الشَّجَرِ إذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ بَادٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الشَّجَرَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، مَا يَكُونُ ثَمَرُهُ فِي أَكْمَامِهِ، ثُمَّ تَتَفَتَّحُ الْأَكْمَامُ، فَيَظْهَرُ، كَالنَّخْلِ الَّذِي وَرَدَّتْ السُّنَّةُ فِيهِ، وَبَيَّنَّا حُكْمَهُ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَا عَدَاهُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَمُلْحَقٌ بِهِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ؛ الْقُطْنُ، وَمَا يُقْصَدُ نُورُهُ؛ كَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالنَّرْجِسِ، وَالْبَنَفْسَجِ، فَإِنَّهُ تَظْهَرُ أَكْمَامُهُ ثُمَّ تَتَفَتَّحُ، فَيَظْهَرُ، فَهُوَ كَالطَّلْعِ إنْ تَفَتَّحَ صجنبذه، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. الثَّانِي، مَا تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ بَارِزَةً لَا قِشْرَ عَلَيْهَا وَلَا نُورَ، كَالتِّينِ، وَالتُّوتِ، وَالْجُمَّيْزِ، فَهُنَّ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَهَا مِنْ شَجَرِهَا بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ الطَّلْعِ مِنْ قِشْرِهِ. الثَّالِث، مَا يَظْهَرُ فِي قِشْرِهِ، ثُمَّ يَبْقَى فِيهِ إلَى حِينِ الْأَكْلِ، كَالرُّمَّانِ، وَالْمَوْزِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ؛ لِأَنَّ قِشْرَهُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَيَبْقَى فِيهِ إلَى حِينَ الْأَكْلِ، فَهُوَ كَالتِّينِ. وَلِأَنَّ قِشْرَهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَجْزَائِهِ؛ لِلُزُومِهِ إيَّاهُ، وَكَوْنِهِ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 الضَّرْبُ الرَّابِعُ، مَا يَظْهَرُ فِي قِشْرَيْنِ، كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ؛ لِأَنَّ قِشْرَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ غَالِبًا، إلَّا بَعْدَ جِزَازِهِ، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَلِأَنَّ قِشْرَ اللَّوْزِ يُؤْكَلُ مَعَهُ، فَأَشْبَهَ التِّينَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّ تَشَقَّقَ الْقِشْرُ الْأَعْلَى فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَشَقَّقْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، كَالطَّلْعِ. وَلَوْ اُعْتُبِرَ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إلَّا نَادِرًا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطَّلْعِ؛ لِأَنَّ الطَّلْعَ لَا بُدَّ مِنْ تَشَقُّقِهِ، وَتَشَقُّقُهُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَشَقَّقُ عَلَى شَجَرِهِ، وَتَشَقُّقُهُ قَبْلَ كَمَالِهِ يُفْسِدُهُ. الْخَامِسُ، مَا يَظْهَرُ نُورُهُ، ثُمَّ يَتَنَاثَرُ، فَتَظْهَرُ الثَّمَرَةُ، كَالتُّفَّاحِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالْإِجَّاصِ، وَالْخَوْخِ. فَإِذَا تَفَتَّحَ نُورُهُ، وَظَهَرْت الثَّمَرَةُ فِيهِ، فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي. وَقِيلَ: مَا تَنَاثَرَ نُورُهُ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَظْهَرُ حَتَّى يَتَنَاثَرَ النُّورُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَائِعِ بِظُهُورِ نُورِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلْعَ إذَا تَشَقَّقَ كَانَ كَنُورِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الْعُقَدَ الَّتِي فِي جَوْفِ الطَّلْعِ لَيْسَتْ عَيْنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَوْعِيَةٌ لَهَا، تَكْبُرُ الثَّمَرَةُ فِي جَوْفِهَا، وَتَظْهَرُ، فَتَصِيرُ الْعُقْدَةُ فِي طَرَفِهَا، وَهِيَ قَمْعُ الرُّطَبَةِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ الْبَائِعِ لَهَا بِكَوْنِ الثَّمَرِ بَادِيًا لَا يَبْدُو نُورُهُ. وَلَا يَبْدُو الثَّمَرُ حَتَّى يَتَفَتَّحَ نُورُهُ. وَقَدْ يَبْدُو إذَا كَبُرَ قَبْلَ أَنْ يَنْثُرَ النُّورُ، فَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِظُهُورِهِ. وَالْعِنَبُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَهُ نُورٌ؛ لِأَنَّهُ يَبْدُو فِي قُطُوفِهِ شَيْءٌ صِغَارٌ كَحَبِّ الدُّخْنِ، ثُمَّ يَتَفَتَّحُ، وَيَتَنَاثَرُ كَتَنَاثُرِ النُّورِ، فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا يُفَارِقُ الطَّلْعَ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الطَّلْعِ عَيْنُ الثَّمَرَةِ يَنْمُو وَيَتَغَيَّرُ، وَالنُّورُ فِي هَذِهِ الثِّمَارِ يَتَسَاقَطُ، وَيَذْهَبُ، وَتَظْهَرُ الثَّمَرَةُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ كَمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَبَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ عَلَى حَسْبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. [فَصْلٌ الْأَغْصَانُ وَالْوَرِقُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الشَّجَرِ لِلْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ] (2883) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَغْصَانُ، وَالْوَرَقُ، وَسَائِرِ أَجْزَاءِ الشَّجَرِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ لِمَصْلَحَتِهَا، فَهُوَ كَأَجْزَاءِ سَائِرِ الْمَبِيعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَرَقُ التُّوتِ الَّذِي يُقْصَدُ أَخْذُهُ لِتَرْبِيَةِ دُودِ الْقَزِّ إنْ تَفَتَّحَ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الجنبذ الَّذِي يَتَفَتَّحُ، فَيَظْهَرُ نُورُهُ مِنْ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَادَتُهُمْ أَخْذُ الْوَرَقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، كَسَائِرِ وَرَقِ الشَّجَرِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَانَتْ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ مُبَقَّاةً فِي شَجَرِ الْمُشْتَرِي فَاحْتَاجَتْ إلَى سَقْيٍ] (2884) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعٍ مُبَقَّاةً فِي شَجَرِ الْمُشْتَرِي، فَاحْتَاجَتْ إلَى سَقْيٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِهِ، فَلَزِمَهُ تَمْكِينُهُ مِنْهُ، كَتَرْكِهِ عَلَى الْأُصُولِ، وَإِنْ أَرَادَ سَقْيَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِسَقْيِهِ يَتَضَمَّنُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَتْهُ الْحَاجَةُ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْحَاجَةُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ، فَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى السَّقْيِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الشَّجَرِ، أَوْ احْتَاجَ الشَّجَرُ إلَى سَقْيٍ يَضُرُّ بِالثَّمَرَةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: أَيُّهُمَا طَلَبَ السَّقْيَ لِحَاجَتِهِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ اقْتَضَى عَقْدُهُ تَبْقِيَةَ الثَّمَرَةِ، وَالسَّقْيُ مِنْ تَبْقِيَتِهَا، وَالْعَقْدُ اقْتَضَى تَمْكِينَ الْمُشْتَرِي مِنْ حِفْظِ الْأُصُولِ، وَتَسْلِيمِهَا، فَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لِلْآخَرِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ. وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَاجَةِ، رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. وَأَيُّهُمَا الْتَمَسَ السَّقْيَ فَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِحَاجَتِهِ. [فَصْلٌ خِيفَ عَلَى الْأُصُولِ الضَّرَرُ بِتَبْقِيَةِ الثَّمَرَةِ عَلَيْهَا لِعَطَشِ أَوْ غَيْرِهِ] (2885) فَصْلٌ: فَإِنْ خِيفَ عَلَى الْأُصُولِ الضَّرَرُ بِتَبْقِيَةِ الثَّمَرَةِ عَلَيْهَا لِعَطَشٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالضَّرَرُ يَسِيرٌ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَطْعِهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلْبَقَاءِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إزَالَتِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ عَنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَخِيفَ عَلَى الْأُصُولِ الْجَفَافُ أَوْ نَقْصُ حَمْلِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُجْبَرُ أَيْضًا لِذَلِكَ. الثَّانِي، يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُهَا وَإِنْ لَمْ تُقْطَعْ، وَالْأُصُولُ تَسْلَمُ بِالْقَطْعِ، فَكَانَ الْقَطْعُ أَوْلَى. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ بَاعَ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ لِلْبَائِعِ فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى] (2886) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ لِلْبَائِعٍ، فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، أَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً فِي شَجَرِهَا، فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ تَمَيَّزَتَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَرَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى، فَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِمَا، كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ ثَمَرَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، اصْطَلَحَا عَلَيْهَا، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَتَعَذَّرْ تَسْلِيمُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى طَعَامًا فِي مَكَان، فَانْثَالَ عَلَيْهِ طَعَامٌ لِلْبَائِعٍ، أَوْ انْثَالَ هُوَ عَلَى طَعَامٍ لِلْبَائِعٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَدْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا لَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، أَوْ اشْتَرَى عَرِيَّةً، فَتَرَكَهَا حَتَّى أَثْمَرَتْ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِكَوْنِ اخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ حَصَلَ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَكَوْنِهِ يُتَّخَذُ حِيلَةً عَلَى شِرَاءِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، أَوْ شِرَاءِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أَكْلِهِ رُطَبًا، وَهَا هُنَا مَا ارْتَكَبَ نَهْيًا، وَلَا يُجْعَلُ هَذَا طَرِيقًا إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ. وَجَمَعَ أَبُو الْخَطَّابِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَالْأُخْرَى، لَا يَبْطُلُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ: اسْمَحْ بِنَصِيبِك لِصَاحِبِك. فَإِنْ فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا، أَقْرَرْنَا الْعَقْدَ وَأَجْبَرْنَا الْآخَرَ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِهِ النِّزَاعُ. وَإِنْ امْتَنَعَا، فَسَخْنَا الْعَقْدَ؛ لِتَعَذُّرِ وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى قَدْرِ حَقِّهِ. وَإِنْ اشْتَرَى ثَمَرَةً، فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، لَمْ نَقُلْ لِلْمُشْتَرِي: اسْمَحْ بِنَصِيبِك؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ كُلُّ الْمَبِيعِ، فَلَا يُؤْمَرُ بِتَخْلِيَتِهِ كُلِّهِ، وَنَقُولُ لِلْبَائِعِ ذَلِكَ، فَإِنْ سَمَحَ بِنَصِيبِهِ لِلْمُشْتَرِي أَجْبَرْنَاهُ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِلَّا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَعَلَّ هَذَا قَوْلٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّنِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 لَمْ أَجِدْهُ مَعْزِيًّا إلَى أَحْمَدَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِأَحْمَدَ. وَلَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً، فَانْثَالَتْ عَلَيْهَا أُخْرَى، لَمْ يَنْفَسِخْ الْبَيْعُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الثَّمَرَةِ تَحْدُثُ مَعَهَا أُخْرَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَاعَ الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لَا يُحْصَدُ إلَّا مَرَّةً فَاشْتَرَطَهُ لِلْمُشْتَرِي] (2887) فَصْلٌ: إذَا بَاعَ الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لَا يُحْصَدُ إلَّا مَرَّةً، كَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْقَطَانِيِّ، وَمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُسْتَتِرٌ، كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَالْبَصَلِ، وَالثُّومِ، وَأَشْبَاهِهَا، فَاشْتَرَطَهُ لِلْمُشْتَرِي، فَهُوَ لَهُ، قَصِيلًا كَانَ أَوْ ذَا حَبٍّ، مُسْتَتِرًا أَوْ ظَاهِرًا، مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا؛ لِكَوْنِهِ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَلَمْ يَضُرَّ جَهْلُهُ وَعَدَمُ كَمَالِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَجَرَةً، فَاشْتَرَطَ ثَمَرَتَهَا بَعْدَ تَأْبِيرِهَا. وَإِنْ أُطْلِقَ الْبَيْعُ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ كَالْكَنْزِ، وَالْقُمَاشِ. وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلنَّقْلِ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ مُبْقًى فِي الْأَرْضِ إلَى حِينِ الْحَصَادِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ مُسْتَثْنَاةً لَهُ، وَعَلَيْهِ حَصَادُهُ فِي أَوَّلِ وَقْتِ حَصَادِهِ. وَإِنْ كَانَ بَقَاؤُهُ أَنْفَعَ لَهُ، كَقَوْلِنَا فِي الثَّمَرَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ نَقْلُهُ عَقِيبَ الْبَيْعِ. كَقَوْلِهِ فِي الثَّمَرَةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا. وَهَكَذَا قَالَ الْحُكْمُ فِي الْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ لَهُ وَقْتًا يُقْطَعُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ الْعُرُوقَ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تُتْرَكُ فِي الْأَرْضِ لِلْبَقَاءِ فِيهَا. وَالْقَصَبُ نَفْسُهُ كَالثَّمَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَهُوَ كَالزَّرْعِ. فَإِنْ حَصَدَهُ قَبْلَ أَوَانِ الْحَصَادِ لِيَنْتَفِعَ بِالْأَرْضِ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الِانْتِفَاعَ بِهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا إنَّمَا حَصَلَتْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، ضَرُورَةَ بَقَاءِ الزَّرْعِ، فَتُقَدَّرُ بِبَقَائِهِ، كَالثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا لَا يُنْقَلُ مِثْلُهُ عَادَةً إلَّا فِي شَهْرٍ، لَمْ يُكَلَّفْ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنْ تَكَلَّفَ نَقْلَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، لِيَنْتَفِعَ بِالدَّارِ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَمَتَى حُصِدَ الزَّرْعُ، وَبَقِيَتْ لَهُ عُرُوقٌ تَسْتَضِرُّ بِهَا الْأَرْضُ، كَعُرُوقِ الْقُطْنِ وَالذُّرَةِ، فَعَلَى الْبَائِعِ إزَالَتُهَا. وَإِنْ تَحَفَّرَتْ الْأَرْضُ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ حُفَرِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِصْلَاحٌ لِمِلْكِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا خَابِيَةٌ كَبِيرَةٌ، لَا تَخْرُجُ إلَّا بِهَدْمِ بَابِ الدَّارِ، فَهَدَمَهَا، كَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ نَقْصٍ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ شَخْصٍ لِاسْتِصْلَاحِ مِلْكِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْأَوَّلِ، وَلَا فِعْلٍ صَدَرَ عَنْهُ النَّقْصُ، وَاسْتَنَدَ إلَيْهِ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى مُدْخِلِ النَّقْصِ. [فَصْلٌ بَاعَ أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى] (2888) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَالْأُصُولُ لِلْمُشْتَرِي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وَالْجَزَّةُ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَبْقَى سَنَةً، كَالْهِنْدَبَا، وَالْبُقُولِ، أَوْ أَكْثَرَ، كَالرَّطْبَةِ، وَعَلَى الْبَائِعِ قَطْعُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَطُولُ، وَيَخْرُجُ غَيْرُ مَا كَانَ ظَاهِرًا، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا تُكَرَّرُ ثَمَرَتُهُ، كَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَشِبْهِهِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَرَةُ الظَّاهِرَةُ عِنْد الْبَيْع لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَتَكَرَّرُ الثَّمَرَةُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ. وَلَوْ كَانَ مِمَّا تُؤْخَذُ زَهْرَتُهُ، وَتَبْقَى عُرُوقُهُ فِي الْأَرْضِ، كَالْبَنَفْسَجِ، وَالنَّرْجِسِ، فَالْأُصُولُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ فِي الْأَرْضِ لِلْبَقَاءِ فِيهَا، فَهُوَ كَالرَّطْبَةِ، وَكَذَلِكَ أَوْرَاقُهُ وَغُصُونُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ أَخْذُهُ، فَهُوَ كَوَرَقِ الشَّجَرِ وَأَغْصَانِهِ، وَأَمَّا زَهْرَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَفَتَّحَتْ، فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْبَائِعَ إنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا. دَخَلَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: بِحُقُوقِهَا. فَهَلْ يَدْخُلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَالشَّجَرِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا بَذْرٌ فَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي أَصْلَهُ] (2889) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا بَذْرٌ، فَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي أَصْلَهُ، كَالرَّطْبَةِ، وَالنَّعْنَاعِ، وَالْبُقُولِ الَّتِي تُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تُرِكَ فِي الْأَرْضِ لِلتَّبْقِيَةِ، فَهُوَ كَأُصُولِ الشَّجَرِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا كَانَ لَهُ، فَالْمُسْتَتِرُ أَوْلَى، سَوَاءٌ عَلِقَتْ عُرُوقُهُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ بَذْرًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ، فَهُوَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ، فَيَكُونَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ مَجْهُولٌ، وَهُوَ مَقْصُودٌ. وَلَنَا، أَنَّ الْبَذْرَ يَدْخُلُ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ جَهْلُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَاشْتَرَطَ مَالَهُ. وَيَجُوزُ فِي التَّابِعِ مِنْ الْغَرَرِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَتْبُوعِ، كَبَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ، وَالْحَمْلِ مَعَ الْأُمِّ، وَالسُّقُوفِ فِي الدَّارِ، وَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ، تَدْخُلُ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، وَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهَا، وَلَا تَجُوزُ مُفْرَدَةً. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ عَامًا. فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِتَرْكِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ قَالَ: أَنَا أُحَوِّلُهُ. وَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ لَا يَضُرُّ بِمَنَافِعِ الْأَرْضِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْعَيْبَ بِالنَّقْلِ، أَوْ زَادَهُ خَيْرًا بِالتَّرْكِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى نَخِيلًا فِيهِ طَلْعٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مُؤَبَّرٌ، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْمُشْتَرِي ثَمَرَةَ عَامِهِ، وَيَضُرُّ بَقَاؤُهَا بِنَخْلِهِ. فَإِنْ تَرَكَهَا لَهُ الْبَائِعُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَقْطَعُهَا الْآنَ. لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثَمَرَةَ الْعَامِ تَفُوتُ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا، أَوْ تَرَكَهَا. وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعٍ، أَوْ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ لِلْبَائِعٍ، وَالْمُشْتَرِي جَاهِلٌ بِذَلِكَ، يَظُنُّ أَنَّ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَ لَهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ جَهِلَ وُجُودَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِ مَالِهِ عِوَضًا عَنْ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِمَا فِيهِمَا، فَإِذَا بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَالْمُشْتَرِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 لِلْمَعِيبِ يَظُنُّهُ صَحِيحًا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جَهْلِهِ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ عَامِّيًّا، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَجْهَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَجْهَلُهُ. [فَصْلٌ بَاعَهُ أَرْضًا بِحُقُوقِهَا] (2890) فَصْلٌ: إذَا بَاعَهُ أَرْضًا بِحُقُوقِهَا، دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ غِرَاسٍ وَبِنَاءٍ فِي الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: رَهَنْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا. دَخَلَ فِي الرَّهْنِ غِرَاسُهَا وَبِنَاؤُهَا. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: بِحُقُوقِهَا. فَهَلْ يَدْخُلُ الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ فِيهِمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الرَّهْنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِمَا جَمِيعًا قَوْلَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِ الْبَيْعِ أَقْوَى، فَيَسْتَتْبِعُ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَا تَبِعَ فِي الْبَيْعِ تَبِعَ فِي الرَّهْنِ، كَالطُّرُقِ وَالْمَنَافِعِ، وَفِيهِمَا جَمِيعًا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلَانِ إذَا قَالَ: بِحُقُوقِهَا. وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِهَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْإِطْلَاقِ، كَطُرُقِهَا وَمَنَافِعِهَا. وَالثَّانِي، لَا يَدْخُلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ، فَلَا يَدْخُلَانِ فِي بَيْعِهَا وَرَهْنِهَا، كَالثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ. وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ بِكَوْنِ الثَّمَرَةِ تُرَادُ لِلنَّقْلِ، وَلَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِهَا، بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ. فَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْبُسْتَانَ. دَخَلَ فِيهِ الشَّجَرُ؛ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ اسْمٌ لِلْأَرْضِ، وَالشَّجَرِ، وَالْحَائِطِ؛ وَلِذَلِكَ لَا تُسَمَّى الْأَرْضُ الْمَكْشُوفَةُ بُسْتَانًا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ مَا دَخَلَ فِيهِ الشَّجَرُ دَخَلَ فِيهِ الْبِنَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَدْخُلَ. [فَصْلٌ بَاعَهُ شَجَرًا لَمْ تَدْخُلْ الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ] (2891) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَهُ شَجَرًا، لَمْ تَدْخُلْ الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ. ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهَا، وَلَا هِيَ تَبَعٌ لِلْمَبِيعِ. [فَصْلٌ إنْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْقَرْيَة فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ قَرِينَةٍ] (2892) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الْقَرْيَةَ. فَإِنْ كَانَتْ فِي اللَّفْظِ قَرِينَةٌ، مِثْلُ الْمُسَاوَمَةِ عَلَى أَرْضِهَا، أَوْ ذِكْرِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ فِيهَا، وَذِكْرِ حُدُودِهَا، أَوْ بَذْلِ ثَمَنٍ لَا يَصْلُحُ إلَّا فِيهَا وَفِي أَرْضِهَا، دَخَلَ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا مَعَ أَرْضِهَا، وَالْقَرِينَةُ صَارِفَةٌ إلَيْهِ وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إلَى ذَلِكَ، فَالْبَيْعُ يَتَنَاوَلُ الْبُيُوتَ، وَالْحِصْنَ الدَّائِرَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْقَرْيَةَ اسْمٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ، وَسَوَاءٌ قَالَ: بِحُقُوقِهَا. أَوْ لَمْ يَقُلْ. وَأَمَّا الْغِرَاسُ بَيْنَ بُنْيَانِهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغِرَاسِ فِي الْأَرْضِ، إنْ قَالَ: بِحُقُوقِهَا. دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ بَاعَهُ دَارًا بِحُقُوقِهَا] (2893) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَهُ دَارًا بِحُقُوقِهَا، تَنَاوَلَ الْبَيْعُ أَرْضَهَا، وَبِنَاءَهَا، وَمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا، مِمَّا هُوَ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، كَالْأَبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ، وَالْخَوَابِي الْمَدْفُونَةِ، وَالرُّفُوفِ الْمُسَمَّرَةِ، وَالْأَوْتَادِ الْمَغْرُوزَةِ، وَالْحَجَرِ الْمَنْصُوبِ مِنْ الرَّحَا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَا لَيْسَ مِنْ مَصَالِحِهَا، كَالْكَنْزِ، وَالْأَحْجَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 الْمَدْفُونَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُودَعٌ فِيهَا لِلنَّقْلِ عَنْهَا، فَأَشْبَهَ الْفَرْشَ، وَالسُّتُورَ، وَلَا مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا يَخْتَصُّ بِمَصْلَحَتِهَا، كَالْفَرْشِ، وَالسُّتُورِ، وَالطَّعَامِ، وَالرُّفُوفِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَوْتَادِ بِغَيْرِ تَسْمِيرٍ، وَلَا غَرْزٍ فِي الْحَائِطِ، وَالْحَبْلِ، وَالدَّلْوِ، وَالْبَكَرَةِ، وَالْقُفْلِ، وَحَجَرِ الرَّحَى، إذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَنْصُوبًا، وَالْخَوَابِي الْمَوْضُوعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَيِّنَ عَلَيْهَا، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، لَا يَخْتَصُّ بِمَصْلَحَتِهَا، فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ مَصَالِحِهَا، لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، كَالْمِفْتَاحِ، وَالْحَجَرِ الْفَوْقَانِيِّ مِنْ الرَّحَا إذَا كَانَ السفلاني مَنْصُوبًا، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِهَا، فَأَشْبَهَ الْمَنْصُوبَ فِيهَا. وَالثَّانِي، لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، فَأَشْبَهَ السفلاني إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوبًا، وَالْقُفْلَ، وَالدَّلْوَ، وَنَحْوَهُمَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كَمَذْهَبِنَا سَوَاءٌ. (2894) فَصْلٌ: وَمَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْحِجَارَةِ الْمَخْلُوقَةِ فِيهَا، أَوْ مَبْنِيٍّ فِيهَا، كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ الْمُتَهَدِّمَةِ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا، فَهِيَ كَحِيطَانِهَا، وَتُرَابِهَا، وَالْمَعَادِنِ الْجَامِدَةِ فِيهَا، وَالْآجِرُ كَالْحِجَارَةِ فِي هَذَا. وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْأَرْضِ، وَيَنْقُصُهَا، كَالصَّخْرِ الْمُضِرِّ بِعُرُوقِ الشَّجَرِ، فَهُوَ عَيْبٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، أَوْ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَبِيعِ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْحِجَارَةُ أَوْ الْآجِرُ مُودَعًا فِيهَا لِلنَّقْلِ عَنْهَا، فَهِيَ لِلْبَائِعِ، كَالْكَنْزِ، وَعَلَيْهِ نَقْلُهَا، وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ إذَا نَقَلَهَا، وَإِصْلَاحُ الْحُفَرِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ لَحِقَ لِاسْتِصْلَاحِ مِلْكِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ. وَإِنْ كَانَ قَلْعُهَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ، أَوْ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي عَالِمًا، فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهَا ضَرَرٌ، وَيُمْكِنُ نَقْلُهَا فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، كَالثَّلَاثَةِ فَمَا دُونُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِنَقْلِهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي تَبْقِيَتِهَا، بِخِلَافِ الزَّرْعِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَا أُجْرَةَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي نُقِلَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِذَلِكَ وَرَضِيَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَاخْتَارَ إمْسَاكَ الْمَبِيعِ، فَهَلْ لَهُ أُجْرَةٌ لِزَمَانِ النَّقْلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُتْلِفِ، فَكَانَ عَلَيْهِ بَدَلُهَا، كَالْأَجْزَاءِ. وَالثَّانِي، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِإِمْسَاكِ الْمَبِيعِ رَضِيَ بِتَلَفِ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَانِ النَّقْلِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الْإِمْسَاكَ، فَقَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَدَعُ ذَلِكَ لَك. وَكَانَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي بَقَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ زَالَ عَنْهُ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مَعَادِنُ جَامِدَةٌ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ] (2895) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَعَادِنُ جَامِدَةٌ، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَنَحْوِهَا، دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ، وَمُلِكَتْ بِمِلْكِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَائِهَا، فَهِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 كَتُرَابِهَا وَأَحْجَارِهَا، وَلَكِنْ لَا يُبَاعُ مَعْدِنُ الذَّهَبِ بِذَهَبٍ، وَلَا مَعْدِنُ الْفِضَّةِ بِفِضَّةٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا. وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْأَرْضِ مَعْدِنٌ لَمْ يَعْلَمْ الْبَائِعُ بِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةٌ، فَبَانَ أَحَدَ عَشَرَ. هَذَا إذَا كَانَ قَدْ مَلَكَ الْأَرْضَ بِإِحْيَاءٍ أَوْ إقْطَاعٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَلَدَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ بَاعُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْضًا، فَظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ، فَقَالُوا: إنَّمَا بِعْنَا الْأَرْضَ، وَلَمْ نَبْعِ الْمَعْدِنَ. وَأَتَوْا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ قَطِيعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِيهِمْ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَقَبَّلَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ الْمَعْدِنَ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِالْبَيْعِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا ثُمَّ بَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهُ مِثْلَمَا اشْتَرَاهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْمَعْدِنُ فِي مِلْكِهِ مَلَكَهُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ لِلْبَائِعِ، وَلَا جَعَلَ لَهُ خِيَارًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَهَرَ فِيهَا حِجَارَةٌ لَهَا قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ فِي الْأَرْض بِئْر أَوْ عَيْن مُسْتَنْبَطَة فَنَفْس الْبِئْر وَأَرْض الْعَيْن مَمْلُوكَة لِمَالِكِ الْأَرْضِ] فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ بِئْرٌ أَوْ عَيْنٌ مُسْتَنْبَطَةٌ، فَنَفْسُ الْبِئْرِ وَأَرْضُ الْعَيْنِ مَمْلُوكَةٌ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، وَالْمَاءُ الَّذِي فِيهَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إلَى مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَاءَ الْجَارِيَ فِي النَّهْرِ إلَى مِلْكِهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، يَدْخُلُ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ الْمِلْكِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُمْلَكُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ وَلِآخَرَ مَاءٌ، فَيَشْتَرِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْمَاءِ فِي الزَّرْعِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ، وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ، الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ، كَالْقَارِ، وَالنِّفْطِ، وَالْمُومْيَاءِ، وَالْمِلْحِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي النَّابِتِ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْكَلَأِ وَالشَّوْكِ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُ الْمَاءِ أَلْبَتَّةَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ بَيْنَهُمْ نَهْرٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أَرْضُوهُمْ، لِهَذَا يَوْمٌ، وَلِهَذَا يَوْمَانِ، يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ بِالْحِصَصِ، فَجَاءَ يَوْمِي وَلَا أَحْتَاجُ إلَيْهِ، أَكْرِيهِ بِدَرَاهِمَ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ.» قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ يَبِيعُهُ، إنَّمَا يُكْرِيهِ. قَالَ: إنَّمَا احْتَالُوا بِهَذَا لِيُحَسِّنُوهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إلَّا الْبَيْعَ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، وَإِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُبَاعَ الْمَاءُ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ "، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يُمْلَكُ. فَصَاحِبُ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ دَخَلَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَأَخَذَهُ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَشَّشَ فِي أَرْضِهِ طَائِرٌ، أَوْ دَخَلَ فِيهَا ظَبْيٌ، أَوْ نَضَبَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 عَنْ سَمَكٍ، فَدَخَلَ إلَيْهِ دَاخِلٌ فَأَخَذَهُ، وَأَمَّا مَا يَحُوزُهُ مِنْ الْمَاءِ فِي إنَائِهِ، أَوْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْكَلَأِ فِي حَبْلِهِ، أَوْ يَحُوزُهُ فِي رَحْلِهِ، أَوْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَعَادِنِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ، وَلَهُ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا، فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ، فَيَبِيعَ، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أُعْطِيَ أَوْ مُنِعَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْأَمْوَالِ "، عَنْ الْمَشْيَخَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إلَّا مَا حُمِلَ مِنْهُ.» وَعَلَى ذَلِكَ مَضَتْ الْعَادَةُ فِي الْأَمْصَارِ بِبَيْعِ الْمَاءِ فِي الرَّوَايَا، وَالْحَطَبِ، وَالْكَلَأِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ، وَلَا يَتَوَضَّأَ، وَلَا يَأْخُذَ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ عَلَى بِئْرِهِ، أَوْ بِئْرٍ مُبَاحٍ فَاسْتَقَى بِدَلْوِهِ، أَوْ بِدُولَابٍ أَوْ نَحْوه، فَمَا يُرَقِّيهِ مِنْ الْمَاءِ، فَهُوَ مِلْكُهُ، وَلَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَخْذِهِ فِي إنَائِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ فِي قَرَارِهِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبِئْرِ نَفْسِهَا، وَالْعَيْنِ، وَمُشْتَرِيهَا أَحَقُّ بِمَائِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يُوَسِّعُ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ الْجَنَّةُ» ، أَوْ كَمَا قَالَ. فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ يَهُودِيٍّ، بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبَّلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَبِيعُ مَاءَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَرَى مِنْهُ نِصْفَهَا بِاثْنَيْ عَشْرَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ الْيَهُودِيُّ: اخْتَرْ، إمَّا أَنْ تَأْخُذَهَا يَوْمًا وَآخُذَهَا أَنَا يَوْمًا، وَإِمَّا أَنَّ نَنْصِبَ لَك عَلَيْهَا دَلْوًا، وَأَنْصِبَ عَلَيْهَا دَلْوًا. فَاخْتَارَ يَوْمًا وَيَوْمًا، فَكَانَ النَّاسُ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فِي يَوْمِ عُثْمَانَ لِلْيَوْمَيْنِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَفْسَدْت عَلَيَّ بِئْرِي، فَاشْتَرِ بَاقِيَهَا. فَاشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِهَا، وَتَسْبِيلهَا، وَصِحَّةِ بَيْعِ مَا يَسْتَقِيهِ مِنْهَا، وَجَوَازِ قِسْمَةِ مَائِهَا بِالْمُهَايَأَةِ، وَكَوْنِ مَالِكِهَا أَحَقَّ بِمَائِهَا، وَجَوَازِ قِسْمَةِ مَا فِيهِ حَقٌّ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكِ. فَأَمَّا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ، فَمَا كَانَ نَابِعًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ، كَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَغَيْرِهَا، لَمْ تُمْلَكْ بِحَالٍ، وَلَوْ دَخَلَ إلَى أَرْضِ رَجُلٍ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، كَالطَّيْرِ يَدْخُلُ إلَى أَرْضِهِ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَخْذُهُ. وَلَا يَمْلِكُهُ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي أَرْضِهِ مُسْتَقَرًّا، كَالْبِرْكَةِ، وَالْقَرَارِ، أَوْ يَحْتَفِرَ سَاقِيَةً، يَأْخُذُ فِيهَا مِنْ مَاءِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، كَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْبِرْكَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مِيَاهِ الْأَمْطَارِ. وَمَا كَانَ نَابِعًا أَوْ مُسْتَنْبَطًا كَالْقِنَى، فَهُوَ كَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهِ، فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْمُتَّخَذَةُ لِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ تُجْمَعُ فِيهَا، وَنَحْوُهَا مِنْ الْبِرَكِ وَغَيْرِهَا، فَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مَاءَهَا، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ إذَا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ حَصَّلَهُ بِشَيْءٍ مُعَدٍّ لَهُ، فَمَلَكَهُ، كَالصَّيْدِ يَحْصُلُ فِي شَبَكَتِهِ، وَالسَّمَكِ فِي بِرْكَةٍ مُعَدَّةٍ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَخْلُو بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِنْ ثَلَاثَة أَقْسَامٍ] (2897) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا عَلَى التَّرْكِ إلَى الْجِزَازِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ اشْتَرَاهَا عَلَى الْقَطْعِ، جَازَ. لَا يَخْلُو بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إجْمَاعًا؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. النَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَيَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ. قَالَ: أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَبِيعَهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ قَطْعًا وَلَا تَبْقِيَةً، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَهُ، قَالَ: وَمَعْنَى النَّهْيِ، أَنْ يَبِيعَهَا مُدْرِكَةً قَبْلَ إدْرَاكِهَا، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: " أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ ". فَلَفْظَةُ الْمَنْعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مَعْنَى، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْحَالِ حَتَّى يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.» فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى هَدْمِ قَاعِدَتِهِمْ الَّتِي قَرَّرُوهَا، فِي أَنَّ إطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ، وَيُقَرِّرُ مَا قُلْنَا، مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّبْقِيَةَ، فَيَصِيرُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ كَاَلَّذِي شُرِطَتْ فِيهِ التَّبْقِيَةُ، يَتَنَاوَلُهُمَا النَّهْيُ جَمِيعًا، وَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُمَا بِالْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَنْعِ الثَّمَرَةِ وَهَلَاكِهَا. [فَصْلٌ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ] (2898) فَصْلٌ: وَبَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً لِغَيْرِ مَالِكِ الْأَصْلِ، فَهَذَا الضَّرْبُ الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ، وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهُ. الثَّانِي، أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ الْأَصْلِ، فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . وَلِأَنَّهُ إذَا بَاعَهَا مَعَ الْأَصْلِ حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَالُ الْغَرَرِ فِيهَا، كَمَا احْتَمَلَتْ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ بَيْعِ الشَّاةِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ، وَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ فِي بَيْعِ الدَّارِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 الثَّالِثُ، أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً لِمَالِكِ الْأَصْلِ، نَحْوُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَائِعِ وَلَا يَشْتَرِطُهَا الْمُبْتَاعُ، فَيَبِيعَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِثَمَرَةِ نَخْلَتِهِ، فَيَبِيعَهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ الْأَصْلُ وَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي، فَيَصِحُّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا مَعًا. وَلِأَنَّهُ إذَا بَاعَهَا لِمَالِكِ الْأَصْلِ حَصَلَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْكَمَالِ؛ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِأُصُولِهَا وَقَرَارِهَا، فَصَحَّ، كَبَيْعِهَا مَعَ أَصْلِهَا. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الثَّمَرَةَ خَاصَّةً، وَالْغَرَرَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ أَصْلًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُصُولُ لِأَجْنَبِيٍّ، وَلِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُمَا مَعًا، فَإِنَّهُ مُسْتَثْنَى بِالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْغَرَرَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ أَصْلًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَفِيمَا إذَا بَاعَهُمَا مَعًا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ تَبَعًا، وَيَجُوزُ فِي التَّابِعِ مِنْ الْغَرَرِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَتْبُوعِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْحَمْلِ مَعَ الشَّاةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَ، بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، صَحَّ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ. [فَصْلٌ بَيْعُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ فِي الْأَرْضِ] (2899) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ فِي الْأَرْضِ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّمَرَةِ عَلَى الْأُصُولِ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُزْهِيَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ.» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ الْأَرْضِ، جَازَ، كَبَيْعِ الثَّمَرَةِ مَعَ الْأَصْلِ، وَإِنْ بَاعَهُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الثَّمَرَةِ تُبَاعُ مِنْ مَالِكِ الْأَصْلِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ. وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، جَازَ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ، فَهُوَ كَبَيْعِ الثَّمَرَةِ مِنْ مَالِكِ الْأَصْلِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَإِذَا اشْتَدَّ حَبُّ الزَّرْعِ، جَازَ بَيْعُهُ مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ: حَتَّى يَبْيَضَّ. فَجَعَلَ ذَلِكَ غَايَةَ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ، «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» . وَلِأَنَّهُ إذَا اشْتَدَّ حَبُّهُ بَدَا صَلَاحُهُ، فَصَارَ كَالثَّمَرَةِ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا. وَإِذَا اشْتَدَّ شَيْءٌ مِنْ حَبِّهِ، جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ نَوْعِهِ، كَالشَّجَرَةِ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. [فَصْلٌ اعْتَرَفَ لِرَجُلِ بِزَرْعِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ بِعِوَضِ] (2900) فَصْلٌ: ذَكَره الْقَاضِي فِي الصُّلْحِ قَالَ: وَإِذَا اعْتَرَفَ لِرَجُلٍ بِزَرْعٍ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ بِعِوَضٍ، صَحَّ فِيمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ، وَبَطَلَ فِيمَا يَبْطُلُ فِيهِ. وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ زَرْعًا فِي يَدِ آخَرَ، فَأَقَرَّ لَهُمَا بِهِ، فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَإِنْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا عَنْ حَقِّهِ مِنْهُ قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ، لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْقَطْعَ، أَوْ أَطْلَقَ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 لِأَنَّهُ إنَّ أَطْلَقَ بَطَلَ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ، وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يُمْكِنْهُ قَطْعُ نَصِيبِهِ إلَّا بِقَطْعِ الزَّرْعِ كُلِّهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِلْمُقِرِّ، احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى زَرْعًا أَخْضَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِرَجُلٍ، وَالزَّرْعُ لِآخَرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: صَالِحْنِي مِنْ نِصْفِ أَرْضِي عَلَى نِصْفِ زَرْعِك، فَيَكُونُ الزَّرْعُ وَالْأَرْضُ بَيْننَا نِصْفَيْنِ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهَلْ يَجُوزُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الزَّرْعِ مِنْ مَالِكِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبِيعُ نِصْفَ الزَّرْعِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، وَيَشْتَرِي مِنْهُ نِصْفَ الْأَرْضِ الَّتِي لَهُ فِيهَا الزَّرْعُ، وَإِنْ شَرَطَا فِي الْبَيْعِ أَنْ يَقْطَعَا الزَّرْعَ جَمِيعَهُ، وَيُسَلِّمَ الْأَرْضَ فَارِغَةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ؛ لِاشْتِرَاطِهِمَا قَطْعَ كُلِّ الزَّرْعِ وَتَفْرِيغَ الْأَرْضِ مِنْهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ بَاعَهُ نِصْفَ الْأَرْضِ بِشَرْطِ قَطْعِ زَرْعِ غَيْرِهِ؛ لِيُسَلِّمَ إلَيْهِ أَرْضَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ. لَمْ يَلْزَمْ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ زَرْعُهُ فِي أَرْضِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعُهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى رَجُل نِصْف الثَّمَرَة قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحهَا أَوْ نِصْف الزَّرْع قَبْلَ اشْتِدَاد حُبّه مُشَاعًا] (2901) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، أَوْ نِصْفَ الزَّرْعِ قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ مُشَاعًا، لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ الْقَطْعَ، أَوْ لَمْ يَشْرُطْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ إلَّا بِقَطْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ. [فَصْلٌ الْقُطْنُ ضَرْبَانِ] (2902) فَصْلٌ: وَالْقُطْنُ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا لَهُ أَصْلٌ يَبْقَى فِي الْأَرْضِ أَعْوَامًا، كَالشَّجَرِ تَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُهُ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الشَّجَرِ، فِي أَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، وَإِذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ بِحُقُوقِهَا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ، وَثَمَرُهُ كَالطَّلْعِ إنَّ تَفَتَّحَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي، مَا يَتَكَرَّرُ زَرْعُهُ كُلَّ عَامٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الزَّرْعِ، وَمَتَى كَانَ جَوْزُهُ ضَعِيفًا رَطْبًا، لَمْ يَقْوَ مَا فِيهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، كَالزَّرْعِ الْأَخْضَرِ، وَإِنْ قَوِيَ جَوْزُهُ وَاشْتَدَّ، جَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، كَالزَّرْعِ الَّذِي اشْتَدَّ حَبُّهُ، وَإِذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. وَالْبَاذِنْجَانُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا لَهُ شَجَرٌ تَبْقَى أُصُولُهُ وَتَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ كَالشَّجَرِ. وَالثَّانِي، مَا يَتَكَرَّرُ زَرْعُهُ كُلَّ عَامٍ، فَهُوَ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى ثَمَرَة قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحهَا] (2903) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، بَطَلَ الْبَيْعُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي مَنْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، فَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ، وَأَبُو طَالِبٍ: أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ. قَالَ الْقَاضِي: هِيَ أَصَحُّ. فَعَلَى هَذَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ إلَى الْبَائِعِ، وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ. وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً، فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، وَلَمْ تَتَمَيَّزْ، أَوْ حِنْطَةً فَانْثَالَتْ عَلَيْهَا أُخْرَى، أَوْ ثَوْبًا، فَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد، فِي مَنْ اشْتَرَى قَصِيلًا، فَمَرِضَ، أَوْ تَوَانَى حَتَّى صَارَ شَعِيرًا. قَالَ: إنْ أَرَادَ بِهِ حِيلَةً فَسَدَ الْبَيْعُ، وَإِلَّا لَمْ يَفْسُدْ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ تَرْجِعُ إلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ سَعِيدٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ مَا نَقَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى مَنْ لَمْ يُرِدْ حِيلَةً، فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ، وَقَصَدَ بِشَرْطِهِ الْقَطْعَ الْحِيلَةَ عَلَى إبْقَائِهِ، لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ، إذْ قَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْحِيَلَ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.» فَاسْتَثْنَى مِنْهُ مَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَقَطَعَهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ التَّبْقِيَةَ مَعْنًى حَرَّمَ الشَّرْعُ اشْتِرَاطَهُ لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَأَبْطَلَ الْعَقْدُ وُجُودَهُ. كَالنَّسِيئَةِ فِيمَا يَحْرُمُ فِيهِ النَّسَاءُ، وَتَرْكِ التَّقَابُضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ، أَوْ الْفَضْلِ فِيمَا يَجِبُ التَّسَاوِي فِيهِ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى شِرَاءِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَتَرْكِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَوَسَائِلُ الْحَرَامِ حَرَامٌ، كَبَيْعِ الْعَيِّنَةِ. وَمَتَى حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْبَيْعِ، فَالثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْبَائِعِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُمَا يَتَصَدَّقَانِ بِالزِّيَادَةِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مُسْتَحَبٌّ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي مُسْتَحِقِّ الثَّمَرَةِ، فَاسْتُحِبَّتْ الصَّدَقَةُ بِهَا، وَإِلَّا فَالْحَقُّ أَنَّهَا لِلْبَائِعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، كَسَائِرِ نَمَاءِ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلِ إذَا رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ بِفَسْخٍ أَوْ بُطْلَانٍ. وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي " الْإِرْشَادِ "، أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ. وَأَمَّا إنْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِحُصُولِهَا فِي مِلْكِهِمَا، فَإِنْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ، وَمَلَكَ الْبَائِعُ الْأَصْلَ، وَهُوَ سَبَبُ الزِّيَادَةِ. قَالَ الْقَاضِي: الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي كَالْعَبْدِ إذَا سَمِنَ. وَحَمَلَ قَوْلَ أَحْمَدَ: " يَشْتَرِكَانِ " عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ مِنْ أَصْلِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ تَرْكِهَا، فَكَانَ فِيهَا حَقٌّ لَهُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا سَمِنَ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُشْبِهُهُ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْبَائِعٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ بِحَقِّ لَهُ، بَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُمَا يَتَصَدَّقَانِ بِالزِّيَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَبِيعِ زَادَ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا اشْتَرَى قَصِيلًا يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي. وَلِأَنَّ الْأَمْرَ اشْتَبَهَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَفِي مُسْتَحِقِّهَا، فَكَانَ الْأَوْلَى الصَّدَقَةَ بِهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِحْبَابًا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ بِالشُّبُهَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ. وَإِنْ أَبَيَا الصَّدَقَةَ بِهَا، اشْتَرَكَا فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ هِيَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حِينَ الشِّرَاءِ، وَقِيمَتِهَا يَوْمَ أَخْذِهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَقِيمَتِهَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي بِتَمَامِهَا، لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي رَأْسَ مَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الرَّطْبَةِ إذَا طَالَتْ، وَالزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إذَا أَدْجَنَ. وَهَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يُقْصَدْ وَقْتَ الشِّرَاءِ تَأْخِيرُهُ، وَلَمْ يُجْعَلْ شِرَاؤُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ حِيلَةً، عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ شِرَاءِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لِيَتْرُكَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَأَمَّا إنْ قَصَدَ ذَلِكَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ حِيلَةٌ مُحَرَّمَةٌ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، لَا حُكْمَ لِقَصْدِهِ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَأَصْلُ هَذَا، الْخِلَافُ فِي تَحْرِيمِ الْحِيَلِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَ أَنَّ بَدَا صَلَاحهَا عَلَى التُّرْك إلَى الْجِزَاز] (2904) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ اشْتَرَاهَا بَعْدَ أَنْ بَدَا صَلَاحُهَا عَلَى التَّرْكِ إلَى الْجِزَازِ، جَازَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي الثَّمَرَةِ، جَازَ بَيْعُهَا مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إلَى حَالِ الْجِزَازِ، وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجُوزُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ. إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا تَنَاهَى عَظْمُهَا، جَازَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ تَبْقِيَةَ الطَّعَامِ فِي كندوجه. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.» فَمَفْهُومُهُ إبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ عِنْدَهُمْ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بُدُوُّ الصَّلَاحِ غَايَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ. «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَتَأْمَنَ الْعَاهَةَ.» وَتَعْلِيلُهُ بِأَمْنِ الْعَاهَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّبْقِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا يُقْطَعُ فِي الْحَالِ لَا يُخَافُ الْعَاهَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا بَدَا الصَّلَاحُ فَقَدْ أُمِنَتْ الْعَاهَةُ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ مُبْقًى لِزَوَالِ عِلَّةِ الْمَنْعِ، وَلِأَنَّ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ يَجِبُ فِي الْمَبِيعِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، فَإِذَا شَرَطَهُ جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَقْلَ الطَّعَامِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ. وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ. [فَصْلٌ بُدُوُّ الصَّلَاح فِي بَعْض ثَمَرَة النَّخْلَة أَوْ الشَّجَرَة صَلَاح لِجَمِيعِهَا] (2905) فَصْلٌ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِ ثَمَرَةِ النَّخْلَةِ، أَوْ الشَّجَرَةِ صَلَاحٌ لِجَمِيعِهَا، أَعْنِي أَنَّهُ يُبَاحُ بَيْعُ جَمِيعِهَا بِذَلِكَ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا جَوَازُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَيْعُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، كَالْجِنْسِ الْآخَرِ، وَكَاَلَّذِي فِي الْبُسْتَانِ الْآخَرِ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعِهِ مِنْ الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَجَازَ بَيْعُ جَمِيعِهِ، كَالشَّجَرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي الْجَمِيعِ يَشُقُّ، وَيُؤَدِّي إلَى الِاشْتِرَاكِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنْ نَوْعِهِ لِمَا بَدَا، عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 مَا ذَكَرْنَا فِيمَا أُبِّرَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ. فَأَمَّا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَتْبَعُهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَا كَانَ مُتَقَارِبَ الْإِدْرَاكِ، فَبُدُوُّ صَلَاحِ بَعْضِهِ يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ تَأْخِيرًا كَثِيرًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِيمَا أَدْرَكَ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَاقِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِي إكْمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، فَيَتْبَعُهُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّوْعَيْنِ قَدْ يَتَبَاعَدُ إدْرَاكُهُمَا، فَلَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ، كَالْجِنْسَيْنِ. وَيُخَالِفُ الزَّكَاةَ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ هُوَ الْغِنَى مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمَالِ، لِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهِ، وَقِيَامِ كُلِّ نَوْعٍ مَقَامَ النَّوْعِ الْآخَرِ فِي الْمَقْصُودِ. وَالْمَعْنَى هَاهُنَا؛ هُوَ تَقَارُبُ إدْرَاكِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي النَّوْعَيْنِ، فَصَارَ فِي هَذَا كَالْجِنْسَيْنِ. [فَصْلٌ النَّوْعُ الْوَاحِدُ مِنْ بُسْتَانَيْنِ لَا يَتْبَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ حَتَّى يَبْدُوَ الصَّلَاحُ] (2906) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّوْعُ الْوَاحِدُ مِنْ بُسْتَانَيْنِ، فَلَا يَتْبَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ حَتَّى يَبْدُوَ الصَّلَاحُ فِي أَحَدِهِمَا، مُتَجَاوِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُتَبَاعِدَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي شَجَرَةٍ مِنْ الْقَرَاحِ صَلَاحٌ لَهُ، وَلِمَا قَارَبَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الصَّلَاحِ، فَأَشْبَهَا الْقَرَاحَ الْوَاحِدَ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا بَدَا، وَتَابِعًا لَهُ، دَفْعًا لِضَرَرِ الِاشْتِرَاكِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ كُلِّ شَيْءٍ بِنَفْسِهِ. وَمَا فِي قَرَاحٍ آخَرَ لَا يُوجَدُ فِيهِ هَذَا الضَّرَرُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتْبَعَ الْآخَرَ، كَمَا لَوْ تَبَاعَدَا. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِمَا لَمْ يُجَاوِرْهُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ. وَلَوْ بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ، فَأَفْرَدَ بِالْبَيْعِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّوْعِ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ النَّهْيِ. وَيُقَدَّرُ قِيَاسُهُ عَلَى الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ الْعُمُومِ، وَهِيَ مَا إذَا بَاعَهُ مَعَ مَا بَدَا صَلَاحُهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ تَبَعًا، دَفْعًا لِمَضَرَّةِ الِاشْتِرَاكِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي. وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هَاهُنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ، كَالثَّمَرَةِ تُبَاعُ مَعَ الْأَصْلِ، وَالزَّرْعِ مَعَ الْأَرْضِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ مَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا، كَاَلَّذِي بَدَا صَلَاحُهُ. [فَصْلٌ إذَا احْتَاجَتْ الثَّمَرَةُ إلَى سَقْيٍ لَزِمَ الْبَائِعَ ذَلِكَ] (2907) فَصْلٌ: وَإِذَا احْتَاجَتْ الثَّمَرَةُ إلَى سَقْيٍ لَزِمَ الْبَائِعَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الثَّمَرَةِ كَامِلَةً، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالسَّقْيِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ إذَا بَاعَ الْأَصْلَ، وَعَلَيْهِ ثَمَرَةٌ لِلْبَائِعٍ، لَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ سَقْيُهَا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِلْكُهُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنْ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ السَّقْيِ، لِضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ بَيْعُ الثَّمَرَةِ فِي شَجَرِهَا] (2908) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِمُشْتَرِي الثَّمَرَةِ بَيْعُهَا فِي شَجَرِهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَرِهَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو سَلَمَةَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَقْبِضهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ جَزَّهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَقْبِضْهُ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ قَبْضَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهَذَا قَبْضُهُ التَّخْلِيَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ. [مَسْأَلَةٌ ثَمَرَة النَّخْل بُدُوّ صَلَاحِهَا أَنْ تَظْهَرَ فِيهَا الْحُمْرَةُ أَوْ الصُّفْرَةُ] (2909) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةَ نَخْلٍ، فَبُدُوُّ صَلَاحِهَا أَنْ تَظْهَرَ فِيهَا الْحُمْرَةُ أَوْ الصُّفْرَةُ. وَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةَ كَرْمٍ فَصَلَاحُهَا أَنْ تُتِمُّوهُ، وَصَلَاحُ مَا سِوَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ أَنْ يَبْدُوَ فِيهَا النُّضْجُ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الثَّمَرَةِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عِنْدَ صَلَاحِهِ، كَثَمَرَةِ النَّخْلِ، وَالْعِنَبِ الْأَسْوَدِ، وَالْإِجَّاصِ، فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَبْيَضَ، فَصَلَاحُهُ بِتَمَوُّهِهِ؛ وَهُوَ أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ الْمَاءُ الْحُلْوُ، وَيَلِينَ، وَيَصْفَرَّ لَوْنُهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَلَوَّنُ، كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَحْلُوَ، أَوْ يَطِيبَ. وَإِنْ كَانَ بِطِّيخًا، أَوْ نَحْوَهُ، فَبِأَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيُؤْكَلُ طَيِّبًا، صِغَارًا وَكِبَارًا، كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، فَصَلَاحُهُ بُلُوغُهُ أَنْ يُؤْكَلَ عَادَةً. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بُلُوغُهُ أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهُ. وَمَا قُلْنَاهُ أَشْبَهُ بِصَلَاحِهِ مِمَّا قَالُوهُ؛ فَإِنَّ بُدُوَّ صَلَاحِ الشَّيْءِ ابْتِدَاؤُهُ، وَتَنَاهِيَ عِظَمِهِ آخِرُ صَلَاحِهِ. وَلِأَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الثَّمَرِ يَسْبِقُ حَالَ الْجِزَازِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِيمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بِسَبْقِهِ قَطْعَهُ عَادَةً؛ إلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِتَنَاهِي عِظَمِهِ انْتِهَاءَهُ إلَى الْحَالِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَخْذِهِ فِيهَا، فَيَكُونُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمَا قُلْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ مُقَارِبٌ لَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يُبَاعُ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْ التَّمْرِ قَلِيلٌ، أَوْ كَثِيرٌ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِعَلَّهمْ أَرَادُوا صَلَاحَهُ لِلْأَكْلِ، فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إلَى مَا قُلْنَا؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ، أَوْ يُؤْكَلَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَرَادُوا حَقِيقَةَ الْأَكْلِ كَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا رَوَوْهُ يَحْتَمِلُ صَلَاحَهُ لِلْأَكْلِ، فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، مُوَافَقَةً لِأَكْثَرِ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَطِيبَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَنَهَى أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تَزْهُوَ. قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ قَالَ: (تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. «وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ.» رَوَاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَمَا أَشْبَهَهُ] (2910) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، إلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ؛ أَنَّهُ إذَا بَاعَ ثَمَرَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبُقُولِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بَيْعُ الْمَوْجُودِ مِنْهَا، دُونَ الْمَعْدُومِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ، فَجُعِلَ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَبَعًا لِمَا ظَهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعٌ لِمَا بَدَا. وَلَنَا، أَنَّهَا ثَمَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِبَيْعِ أُصُولِهِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يُخْلَقْ. وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ، وَإِنْ كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنْ بَاعَهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا جَازَ مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَالتَّبْقِيَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي ثَمَرَةِ الْأَشْجَارِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بِمَاذَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ. [فَصْلٌ بَيْعُ أُصُولِ الْبُقُولِ الَّتِي تَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ] (2911) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَيَصِحُّ بَيْعُ أُصُولِ هَذِهِ الْبُقُولِ الَّتِي تَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأُصُولِ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، مُثْمِرَةً أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَكَرَّرَ فِيهِ الثَّمَرَةُ، فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ. فَإِنْ بَاعَ الْمُثْمِرَ مِنْهُ، فَثَمَرَتُهُ الظَّاهِرَةُ لِلْبَائِعِ، مَتْرُوكَةٌ إلَى حِينِ بُلُوغِهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ. فَإِنْ حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي. فَإِنْ اخْتَلَطَتْ بِثَمَرَةِ الْبَائِعِ، وَلَمْ تَتَمَيَّزْ، كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ إذَا اخْتَلَطَتْ بِثَمَرَةٍ أُخْرَى، عَلَى مَا مَرَّ حُكْمُهُ. [فَصْلٌ بَيْعُ مَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَسْتُورٌ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَغَيْرِهِ] (2912) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَسْتُورٌ فِي الْأَرْضِ، كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَالْبَصَلِ، وَالثُّومِ حَتَّى يُقْلَعَ، وَيُشَاهَدَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَأَبَاحَهُ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا. وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مَجْهُولٌ، لَمْ يَرَهُ، وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْحَمْلِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا غَرَرٌ. وَأَمَّا بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَتَلَاحَقُ فِي الصَّلَاحِ، وَيَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تُقْصَدُ فُرُوعُهُ وَأُصُولُهُ، كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ، وَالْكُرَّاثِ، وَالْفُجْلِ، أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ، فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ، فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ، وَالْحِيطَانَ الَّتِي لَهَا أَسَاسَاتٌ مَدْفُونَةٌ. وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا، فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ، كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولَهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ. فَإِنْ تُسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ ظَاهِرًا تَبَعًا، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 [فَصْلٌ بَيْعُ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبَاقِلَا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ مَقْطُوعًا] (2913) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبَاقِلَّا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ مَقْطُوعًا، وَفِي شَجَرِهِ، وَبَيْعُ الْحَبِّ الْمُشْتَدِّ فِي سُنْبُلِهِ، وَبَيْعُ الطَّلْعِ قَبْلَ تَشَقُّقِهِ، مَقْطُوعًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَفِي شَجَرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، حَتَّى يُنْزَعَ عَنْهُ قِشْرُهُ الْأَعْلَى، إلَّا فِي الطَّلْعِ وَالسُّنْبُلِ. فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِمَا لَا يُدَّخَرُ عَلَيْهِ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَتُرَابِ الصَّاغَةِ وَالْمَعَادِنِ، وَبَيْعِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ فِي سَلْخِهِ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ.» فَمَفْهُومُهُ إبَاحَةُ بَيْعِهِ إذَا بَدَا صَلَاحُهُ وَابْيَضَّ سُنْبُلُهُ، وَلِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِحَائِلٍ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَالرُّمَّانِ، وَالْبَيْضِ، وَالْقِشْرِ الْأَسْفَلِ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. فَإِنَّهُ لَا قِوَامَ لَهُ فِي شَجَرِهِ إلَّا بِهِ، وَالْبَاقِلَّا يُؤْكَلُ رَطْبًا، وَقِشْرُهُ يَحْفَظُ رُطُوبَتَهُ. وَلِأَنَّ الْبَاقِلَّا يُبَاعُ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَكَذَلِكَ الْجَوْزُ، وَاللَّوْزُ فِي شَجَرِهِمَا. وَالْحَيَوَانُ الْمَذْبُوحُ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي سَلْخِهِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ ذَبْحِهِ، وَهُوَ يُرَادُ لِلذَّبْحِ، فَكَذَلِكَ إذَا ذُبِحَ. كَمَا أَنَّ الرُّمَّانَةَ إذَا جَازَ بَيْعُهَا قَبْلَ كَسْرِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا كُسِرَتْ. وَأَمَّا تُرَابُ الصَّاغَةِ وَالْمَعْدِنِ، فَلَنَا فِيهِمَا مَنْعٌ، وَإِنْ سُلِّمَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَصِلْ الْخِلْقَةِ فِي تُرَابِ الصَّاغَةِ، وَلَا بَقَاؤُهُ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الرَّطْبَة وَمَا أَشْبَهَهَا] (2914) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَكَذَلِكَ الرَّطْبَةُ كُلَّ جَزَّةٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّطْبَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا تَثْبُتُ أُصُولُهُ فِي الْأَرْضِ، وَيُؤْخَذُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ بِالْقَطْعِ، دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ، كَالنَّعْنَاعِ، وَالْهِنْدَبَا، وَشِبْهِهِمَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا أَنْ يَبِيعَ الظَّاهِرَ مِنْهُ، بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي أَنْ يَشْتَرِيَ جَزَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْهُ مَسْتُورٌ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ مَعْدُومٌ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الثَّمَرَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى اشْتَرَاهَا قَبْلُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ إبْقَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا أَعْيَانٌ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْبَيْعُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ إذَا ظَهَرَ، فَيُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ، وَالثَّمَرَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَإِنْ أَخَّرَهَا حَتَّى طَالَتْ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالثَّمَرَةِ إذَا اشْتَرَاهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى قَصِيلًا مِنْ شَعِيرٍ وَنَحْوِهِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ عَادَ فَنَبَتَ] (2915) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى قَصِيلًا مِنْ شَعِيرٍ، وَنَحْوِهِ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ عَادَ فَنَبَتَ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَرَكَ الْأَصْلَ عَلَى سَبِيلِ الرَّفْضِ لَهَا، فَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا، كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ صَاحِبِ الزَّرْعِ مِنْ السَّنَابِلِ الَّتِي يُخَلِّفُهَا، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لِكُلِّ أَحَدٍ الْتِقَاطُهَا. وَلَوْ سَقَطَ مِنْ الزَّرْعِ حَبٌّ، ثُمَّ نَبَتَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَا؛ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَرَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 التَّصَرُّفَ فِي أَرْضِهِ، بَعْدَ فَصْلِ الزَّرْعِ، بِمَا يُفْسِدُ الْأُصُولَ وَيَقْلَعُهَا، كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي مَنْعَهُ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مُسْتَحَقًّا لَهُ، لَمَلَكَ مَنْعَهُ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ الْحَصَادُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ] (2916) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْحَصَادُ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (2917) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ مَنْ اشْتَرَى زَرْعًا، أَوْ جَزَّةٍ مِنْ الرَّطْبَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ ثَمَرَةً فِي أُصُولِهَا، فَإِنَّ حَصَادَ الزَّرْعِ، وَجَذَّ الرَّطْبَةِ، وَجِزَازَ الثَّمَرَةِ، وَقَطْعَهَا، عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْمَبِيعِ، وَتَفْرِيغَ مِلْكِ الْبَائِعِ مِنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، كَنَقْلِ الطَّعَامِ الْمَبِيعِ مِنْ دَارِ الْبَائِعِ. وَيُفَارِقُ الْكَيْلَ، وَالْوَزْنَ، فَإِنَّهُمَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ مُؤْنَةِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى الْبَائِعِ، وَهَا هُنَا حَصَلَ التَّسْلِيمُ بِالتَّخْلِيَةِ بِدُونِ الْقَطْعِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. (2918) الْفَصْلُ الثَّانِي، إذَا شَرَطَهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا؛ فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يَبْطُلُ الْبَيْعُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ. فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ جَوَازُ الشَّرْطِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ. وَلَمْ أَجِدْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ رِوَايَةً فِي الْمَذْهَبِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا شَرَطَ الْحَصَادَ عَلَى الْبَائِعِ فَسَدَ الْبَيْعُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَمِنْ أَفْسَدَ قَالَ: لَا يَصِحُّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ شَرَطَ الْعَمَلَ فِي الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ شَرَطَ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ. وَالثَّالِثُ، أَنَّهُ شَرَطَ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ تَسْلِيمُهُ مَقْطُوعًا. وَمَنْ أَجَازَهُ قَالَ: هَذَا بَيْعٌ، وَإِجَارَةٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ الزَّرْعَ، وَآجَرَهُ نَفْسَهُ عَلَى حَصَادِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا جَمَعَهُمَا جَازَ، كَالْعَيْنَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ: شَرَطَ الْعَمَلَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ. يَبْطُلُ بِشَرْطِ رَهْنِ الْمَبِيعِ عَلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. وَالثَّانِي، يَبْطُلُ بِشَرْطِ الرَّهْنِ، وَالْكَفِيلِ، وَالْخِيَارِ. وَالثَّالِثُ، لَيْسَ بِتَأْخِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ قَائِمًا، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ مِنْ الْمُتَسَلِّمِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ. فَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْبَيْعُ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِلُ فِي الْبَيْعِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ الشِّقْصِ، وَالسَّيْفِ، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي الشِّقْصِ دُونَ السَّيْفِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: إنَّ الْعَقْدَ هَاهُنَا يَبْطُلُ. يَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشِبْهِهَا، مِمَّا يُفْضِي الشَّرْطُ فِيهِ إلَى التَّنَازُعِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ رُبَّمَا أَرَادَ قَطْعَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، لِيَبْقَى لَهُ مِنْهَا بَقِيَّةٌ، وَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ الِاسْتِقْصَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 عَلَيْهَا، لِيَزِيدَ لَهُ مَا يَأْخُذُهُ، فَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ مِنْ أَجْلِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا أَشْبَهَهُ، مِنْ اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْمَذْهَبَ، أَنَّهُ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا، وَيَشْتَرِطَ عَلَى بَائِعِهِ خِيَاطَتَهُ قَمِيصًا، أَوْ قَلْعَة، وَيَشْتَرِطَ حَذْوَهَا نَعْلًا، أَوْ جُرْزَةَ حَطَبٍ، وَيَشْتَرِطَ حَمْلَهَا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، وَغَيْرِهِ. حَتَّى قَالَ الْقَاضِي: لَمْ أَجِدْ بِمَا قَالَ الْخِرَقِيِّ رِوَايَةً فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ اشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ جُرْزَةَ حَطَبٍ، وَشَارَطَهُ عَلَى حَمْلِهَا. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ قَلْعَةً، وَيَشْتَرِطَ عَلَى الْبَائِعِ تَشْرِيكَهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا أَبْطَلَا الْعَقْدَ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَرُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ، وَشَرْطٍ» . وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ، وَشَرْطٍ. إنَّمَا الصَّحِيحُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ.» كَذَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذَا دَالٌّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى جَوَازِ الشَّرْطِ الْوَاحِدِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا النَّهْيُ عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، أَمَّا الشَّرْطُ الْوَاحِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. [فَصْلٌ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةً للمتبايعين لِيَصِحَّ اشْتِرَاطُهَا] (2919) فَصْلٌ: وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةً لَهُمَا، لِيَصِحَّ اشْتِرَاطُهَا، لِأَنَّنَا نَزَّلْنَا ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِجَارَةِ. فَلَوْ اشْتَرَطَ حَمْلَ الْحَطَبِ إلَى مَنْزِلِهِ، وَالْبَائِعُ لَا يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ اشْتَرَطَ حَذْوَهَا نَعْلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَتِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي النَّعْلَ، عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا: جَائِزٌ إذَا أَرَادَ الشِّرَاكَ. وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ قَبْلَهُ، أَوْ بِمَوْتِ الْبَائِعِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِعِوَضِ ذَلِكَ. وَإِنْ تَعَذَّرَ بِمَرَضٍ أُقِيمَ مُقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ، وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِنَا فِي الْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ نَفْعَ الْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً] فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ نَفْعَ الْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ دَارًا، وَيَسْتَثْنِيَ سُكْنَاهَا شَهْرًا، أَوْ جَمَلًا، وَيَشْتَرِطَ ظَهْرَهُ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ، أَوْ عَبْدًا، وَيَسْتَثْنِيَ خِدْمَتَهُ سَنَةً. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ؛ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» ، وَلِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْبَائِعُ مَنْفَعَتَهُ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ مِلْكُ الْمَبِيعِ وَمَنَافِعِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُنَافِيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ، نَقَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ، فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنْ الرَّجُلِ جَارِيَةً، وَيَشْتَرِطُ أَنْ تَخْدِمَهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ خِدْمَةِ الْجَارِيَةِ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي خِدْمَتَهَا أَبَدًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ. الثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِطَ خِدْمَتَهَا بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا، فَيُفْضِي إلَى الْخَلْوَةِ بِهَا، وَالْخَطَرِ بِرُؤْيَتِهَا، وَصُحْبَتِهَا، وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ مُنِعَ إعَارَةَ الْجَارِيَةِ الشَّابَّةِ لِغَيْرِ مَحْرَمِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا اشْتَرَطَ رُكُوبًا إلَى مَكَان قَرِيبٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ إلَى مَكَان بَعِيدٍ كُرِهَ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ: «أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَلًا، وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْت حُمْلَانَهُ إلَى أَهْلِي.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ «قَالَ: فَبِعْته مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ، قَالَ: قُلْت: عَلَى أَنَّ لِي ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَلَك ظَهْرُهُ إلَى الْمَدِينَةِ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ. «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ.» وَهَذِهِ مَعْلُومَةٌ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ قَدْ تَقَعُ مُسْتَثْنَاةً بِالشَّرْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا إذَا اشْتَرَى نَخْلَةً مُؤَبَّرَةً، أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً، أَوْ دَارًا مُؤَجَّرَةً، أَوْ أَمَةً مُزَوَّجَةً، فَجَازَ أَنْ يَسْتَثْنِيَهَا، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، وَلَمْ يَصِحَّ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ» ، فَمَفْهُومُهُ إبَاحَةُ الشَّرْطِ الْوَاحِدِ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ. [فَصْلٌ بَاعَهُ أَمَةً وَاسْتَثْنَى وَطْأَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً] (2921) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَهُ أَمَةً، وَاسْتَثْنَى وَطْأَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، وَفَارَقَ اشْتِرَاطَ وَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ حَيْثُ نُبِيحُهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مَمْلُوكَةٌ، فَيُسْتَبَاحُ وَطْؤُهَا بِالشَّرْطِ فِي الْمَحَلِّ الْمَمْلُوكِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ، أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. [فَصْلٌ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمُسْتَثْنَاةَ مَنْفَعَتُهَا] (2922) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمُسْتَثْنَاةَ مَنْفَعَتُهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، وَتَكُونُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مُسْتَثْنَاةً أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً، أَوْ دَارًا مُؤَجَّرَةً. وَإِنْ أَتْلَفَ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِغَيْرِهِ، وَثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ بِتَفْرِيطِهِ، فَهُوَ كَتَلَفِهَا بِفِعْلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ: يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُبْتَاعِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ عِنْدِي، الْقَدْرُ الَّذِي نَقَصَهُ الْبَائِعُ لِأَجْلِ الشَّرْطَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ خِلَافُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ مَا فَاتَ بِتَفْرِيطِهِ، فَضَمِنَهُ بِعِوَضِهِ، وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، فَأَمَّا إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَلَا بِتَفْرِيطِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حَمْلَانِ؟ قَالَ: لَا. إنَّمَا شَرَطَ هَذَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا الْبَائِعُ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهَا، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ النَّخْلَةُ الْمُؤَبَّرَةُ، بِثَمَرَتِهَا أَوْ غَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ إذْ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ثَمَرَتَهَا، وَكَمَا لَوْ بَاعَ حَائِطًا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا فَتَلِفَتْ. وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ، رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُبْتَاعِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ التَّفْرِيطِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (2923) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ، وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَبِيعِ فِي الْمَنْفَعَةِ، أَوْ يُعَوِّضُهُ عَنْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا، فَبَذَلَ لَهُ الْآخَرُ مِثْلَهَا، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ عِوَضِهَا. فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ إعَارَةَ الْعَيْنِ، أَوْ إجَارَتَهَا لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا مَنَافِعُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ، فَمَلَكَ ذَلِكَ فِيهَا، كَمَنَافِعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْمُوصَى بِمَنَافِعِهَا، وَلَا يَجُوزُ إجَارَتُهَا إلَّا لِمِثْلِهِ فِي الِانْتِفَاعِ، فَإِنْ أَرَادَ إجَارَتَهَا أَوْ إعَارَتَهَا لِمَنْ يَضُرُّ بِالْعَيْنِ بِانْتِفَاعِهِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِمَنْ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ. [فَصْلٌ اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي مَنْفَعَةَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ فَأَقَامَ الْبَائِعُ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ] (2924) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي مَنْفَعَةَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ، فَأَقَامَ الْبَائِعُ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ، وَبِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَإِنْ أَرَادَ بَذْلَ الْعِوَضِ عَنْ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْهُ، لَمْ يَلْزَمْ الْبَائِعَ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَقْدُ تَرَاضٍ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي، جَازَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْجِرَ الْمَنَافِعَ الْمُوصَى بِهَا مِنْ وَرَثَةِ الْمُوصِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرَطٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَالْقَرْضِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ فِي الْخُبْزِ وَالْخَمِيرِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ خُبْزِهِ وَكَسْرِهِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ الْجَائِزَةِ، لَمْ يَجُزْ. وَلِأَنَّهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَنْ مِرْفَقٍ مُعْتَادٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ دُونَ أَخْذِ الْعِوَضِ، فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَثْنَاةَ شَرْعًا، وَهُوَ مَا لَوْ بَاعَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعٍ، وَاسْتَحَقَّ تَبْقِيَتَهُ إلَى حِينِ الْحَصَادِ، فَلَوْ أَخَذَهُ قَصِيلًا لِيَنْتَفِعَ بِالْأَرْضِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ وَأَجَرْتُكهَا شَهْرًا] (2925) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ وَأَجَرْتُكَهَا شَهْرًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ فَقَدْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَنَافِعَ، فَإِذَا أَجَرَهُ إيَّاهَا، فَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَصِحَّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ.» وَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَحَّانًا، لِيَطْحَنَ لَهُ كِرَاءً بِقَفِيزٍ مِنْهُ، فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ شَرَطَ عَمَلَهُ فِي الْقَفِيزِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فِي بَاقِي الْكِرَاءِ الْمَطْحُونِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ. [فَصْلٌ لَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ] (2926) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي الْمَبِيعِ إنَّ هُوَ بَاعَهُ فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ. فَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» . يَعْنِي أَنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ، وَأَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُمَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ نُهِيَ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِغَيْرِهِ إذَا أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهُ إلَّا مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَنْ لَا يَبِيعَهُ أَصْلًا، وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: ابْتَعْت مِنْ امْرَأَتِي زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ جَارِيَةً، وَشَرَطْت لَهَا إنْ بِعْتهَا، فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: لَا تَقْرَبْهَا وَلِأَحَدٍ فِيهَا شَرْطٌ. قَالَ إسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْت لِأَحْمَدَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَ " لَا تَقْرَبْهَا "؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا شَرْطٌ وَاحِدٌ لِلْمَرْأَةِ. وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ: فَاسِدٌ. فَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَخَذَ بِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى صِحَّتِهِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي فَسَادَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ عَلَى فَسَادِ الشَّرْطِ؛ وَفِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَالشَّرْطُ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهَا. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: " لَا تَقْرَبْهَا ". قَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ فِي مَنْ اشْتَرَطَ فِي الْأَمَةِ أَنْ لَا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ وَلَاءَهَا، وَلَا يَقْرَبُهَا. وَالْبَيْعُ جَائِزٌ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ: " لَا تَقْرَبْهَا وَلِأَحَدٍ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ ". قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: عِنْدِي أَنَّهُ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ؛ لِمَكَانِ الْخِلَافِ فِي الْعَقْدِ؛ لِكَوْنِهِ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بَاعَ حَائِطًا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ صَاعًا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ بَاعَ ثَمَرَةَ بُسْتَانٍ وَاسْتَثْنَى صَاعًا] (2927) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا بَاعَ حَائِطًا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ صَاعًا، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ اسْتَثْنَى مِنْهُ نَخْلَةً أَوْ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا، جَازَ. الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ؛ (2928) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّهُ إذَا بَاعَ ثَمَرَةَ بُسْتَانٍ، وَاسْتَثْنَى صَاعًا، أَوْ آصُعًا، أَوْ مُدًّا، أَوْ أَمْدَادًا، أَوْ بَاعَ صُبْرَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وَاسْتَثْنَى مِنْهَا مِثْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَالِكٍ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَذِهِ ثَنَيَا مَعْلُومَةٌ، وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَعْلُومًا أَشْبَهَ مَا إذَا اسْتَثْنَى مِنْهَا جُزْءًا. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ الثُّنْيَا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ لَا بِالْقَدْرِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ يَبْقَى فِي حُكْمِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمْ يَجُزْ، وَيُخَالِفُ الْجُزْءَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمُشَاهَدَةِ، وَلَا يَمْنَعُ الْمَعْرِفَةَ بِهَا. [فَصْلٌ بَاعَ شَجَرَةً أَوْ نَخْلَةً وَاسْتَثْنَى أَرْطَالًا مَعْلُومَةً] (2929) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ شَجَرَةً، أَوْ نَخْلَةً، وَاسْتَثْنَى أَرْطَالًا مَعْلُومَةً، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ بَاعَ حَائِطًا وَاسْتَثْنَى آصُعًا. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " شَرْحِهِ ": يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجَازُوا اسْتِثْنَاءَ سَوَاقِطِ الشَّاةِ. وَالصَّحِيحُ، مَا ذَكَرْنَاهُ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَسْأَلَةِ الصَّاعِ مِنْ الْحَائِطِ وَإِلَيْهَا أَقْرَبُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا، فَلَا يَصِحُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْفَصْلُ الثَّانِي اسْتَثْنَى مِنْ الْمَبِيعِ نَخْلَةً أَوْ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا] (2930) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا اسْتَثْنَى نَخْلَةً، أَوْ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا، جَازَ. وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ، وَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَإِنْ اسْتَثْنَى شَجَرَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَصَارَ الْمَبِيعُ وَالْمُسْتَثْنَى مَجْهُولَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ بَاعَ ثَمَرَتَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَاسْتَثْنَى طَعَامَ الْقِيَانِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَيَّنًا بِقَدْرِ طَعَامِ الْقِيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مُخَالِفًا «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ.» وَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَتَى كَانَ مَجْهُولًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَهُ مَجْهُولًا، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ طَعَامَ الْقِيَانِ. [فَصْلٌ اسْتَثْنَى جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ الصُّبْرَةِ أَوْ الْحَائِطِ مُشَاعًا] (2931) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَثْنَى جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ الصُّبْرَةِ أَوْ الْحَائِطِ مُشَاعًا، كَثُلُثٍ، أَوْ رُبْعٍ، أَوْ أَجْزَاءٍ، كَسَبْعِينَ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَثْمَانٍ، صَحَّ الْبَيْعُ وَالِاسْتِثْنَاءُ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَجَرَةً بِعَيْنِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ إلَّا ثُلُثَهَا. أَيْ بِعْتُك ثُلُثَيْهَا. وَقَوْلُهُ: إلَّا رُبْعَهَا مَعْنَاهُ: بِعْتُك ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا. وَلَوْ بَاعَ حَيَوَانًا، وَاسْتَثْنَى ثُلُثَهُ، جَازَ، وَكَانَ مَعْنَاهُ بِعْتُك ثُلُثَيْهِ. وَمَنَعَ مِنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قِيَاسًا عَلَى اسْتِثْنَاءِ الشَّحْمِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّحْمَ مَجْهُولٌ لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ؛ وَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَالشَّجَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقِيَاسُ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَجْهُولِ فِي الْفَسَادِ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ، لِلْمُشْتَرِي ثُلُثَاهُ وَلِلْبَائِعِ ثُلُثُهُ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ إلَّا مَكُّوكًا] (2932) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: بِعْتُك قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ إلَّا مَكُّوكًا. جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَفِيزَ مَعْلُومٌ، وَالْمَكُّوك مَعْلُومٌ، فَلَا يُفْضِي إلَى الْجَهَالَةِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الثَّمَرَةَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، إلَّا بِقَدْرِ دِرْهَمٍ. صَحَّ؛ لِأَنَّ قَدْرَهُ مَعْلُومٌ مِنْ الْمَبِيعِ وَهُوَ الرُّبْعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُك ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ هَذِهِ الثَّمَرَةِ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. وَلَوْ قَالَ: إلَّا مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَا يُسَاوِي الدِّرْهَمَ قَدْ يَكُونُ الرُّبْعَ، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، فَيَكُونُ مَجْهُولًا، فَيَبْطُلُ. [فَصْلٌ بَاعَ قَطِيعًا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ شَاةً بِعَيْنِهَا] (2933) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ قَطِيعًا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ شَاةً بِعَيْنِهَا، صَحَّ. وَإِنْ اسْتَثْنَى شَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ مِائَةَ شَاةٍ إلَّا شَاةً يَخْتَارُهَا، أَوْ يَبِيعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ، وَيَسْتَثْنِيَ ثَمَرَةَ نَخَلَاتِ يَعُدُّهَا. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ. وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.» وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَجْهُولٌ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: إلَّا شَاةً مُطْلَقَةً. وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك شَاةً تَخْتَارُهَا مِنْ الْقَطِيعِ. وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مُفْرَدًا أَوْ بَيْعُ مَا عَدَاهُ مُنْفَرِدًا عَنْ الْمُسْتَثْنَى، وَنَحْوُ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا سَوَاقِطَ الشَّاةِ، وَجِلْدَهَا؛ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ. وَالْحَمْلُ عَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ؛ لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَا عَدَا هَذَا فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [فَصْلٌ بَاعَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا وَاسْتَثْنَى رَأْسَهُ وَجِلْدَهُ وَأَطْرَافَهُ وَسَوَاقِطَهُ] (2934) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا، وَاسْتَثْنَى رَأْسَهُ وَجِلْدَهُ وَأَطْرَافَهُ وَسَوَاقِطَهُ، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ وَالسَّوَاقِطِ. فَجَوَّزَ لَهُ شِرَاءَ اللَّحْمِ دُونَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِثْنَاؤُهُ كَالْحَمْلِ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ.» وَهَذِهِ مَعْلُومَةٌ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَرُّوا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرٌ فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً، وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا.» وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، فِي " الشَّافِي " بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَضَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَقَرَةٍ بَاعَهَا رَجُلٌ وَاشْتَرَطَ رَأْسَهَا، فَقَضَى بِالشَّرْوَى. يَعْنِي أَنْ يُعْطِيَ رَأْسًا مِثْلَ رَأْسٍ. وَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَعْلُومَانِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَ حَائِطًا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ نَخْلَةً مُعَيَّنَةً. وَكَوْنُهُ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ يَبْطُلُ بِالثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهَا، وَالْحَمْلُ مَجْهُولٌ. وَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ ذَبْحِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ ذَلِكَ عَلَى التَّقْرِيبِ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ اشْتَرَى نَاقَةً وَشَرَطَ ثَنَيَاهَا. فَقَالَ: اذْهَبُوا إلَى السُّوقِ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَقْصَى ثَمَنِهَا، فَأَعْطُوهُ حِسَابَ ثَنَيَاهَا مِنْ ثَمَنِهَا. [فَصْلٌ اسْتَثْنَى مِنْ الْبَيْع شَحْم الْحَيَوَان] (2935) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَثْنَى شَحْمَ الْحَيَوَانِ، لَمْ يَصِحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُونَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ.» وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَفَخِذِهَا، وَإِنْ اسْتَثْنَى الْحَمْلَ، لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ لِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ بَاعَ جَارِيَةً، وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا. وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْعِتْقِ، فَصَحَّ فِي الْبَيْعِ قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ. وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا. لِأَنَّ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظَ حَدَّثُوا الْحَدِيثَ، فَقَالُوا: أَعْتَقَ جَارِيَةً. وَالْإِسْنَادُ وَاحِدٌ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الصِّحَّةِ فِي الْعِتْقِ الصِّحَّةُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا تَمْنَعُهُ الْجَهَالَةُ وَلَا الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ فِي مَنْ بَاعَ جَارِيَةً حَامِلًا بِحُرٍّ] (2936) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ جَارِيَةً حَامِلًا بِحُرٍّ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى. وَالْأُولَى صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ، وَجَهَالَةُ الْحَمْلِ لَا تَضُرُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَبِيعٍ وَلَا مُسْتَثْنًى بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ مَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِاللَّفْظِ، كَمَا لَوْ بَاعَ أَمَةً مُزَوَّجَةً صَحَّ، وَوَقَعَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ مُسْتَثْنَاةً بِالشَّرْعِ. وَلَوْ اسْتَثْنَاهَا بِاللَّفْظِ لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ بَاعَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعٍ، أَوْ نَخْلَةً مُؤَبَّرَةً، لَوَقَعَتْ مَنْفَعَتُهَا مُسْتَثْنَاةً بِالشَّرْعِ مُدَّةَ بَقَاءِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ، وَلَوْ اسْتَثْنَاهَا بِقَوْلِهِ، لَمْ يَجُزْ. [فَصْلٌ بَاعَ دَارًا إلَّا ذِرَاعًا وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَرِعَانِ الدَّارِ] (2937) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ دَارًا إلَّا ذِرَاعًا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذُرْعَانُ الدَّارِ، جَازَ، وَكَانَ مُسْتَثْنِيًا جُزْءًا مُشَاعًا مِنْهَا، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مَعْلُومٌ يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَثُلُثِهَا وَرُبْعِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ مِنْ مَبِيعٍ مَعْلُومٍ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَمْ يَجُزْ كَاسْتِثْنَاءِ الصَّاعِ مِنْ ثَمَرَةِ الْحَائِطِ، وَالْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا بَاعَهُ ضَيْعَةً إلَّا جَرِيبًا، فَمَتَى عَلِمَ جُرْبَانَ الضَّيْعَةِ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 [فَصْلٌ بَاعَ سِمْسِمًا وَاسْتَثْنَى الْكَسْب] (2938) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ سِمْسِمًا وَاسْتَثْنَى الْكَسْبَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَهُ الشَّيْرَجَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ، «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ.» وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ قُطْنًا وَاسْتَثْنَى الْحَبَّ، لَمْ يَجُزْ؛ لِجَهَالَةِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَوْ بَاعَهُ السِّمْسِمَ وَاسْتَثْنَى الشَّيْرَجَ، لَمْ يَجُزْ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ بَاعَهُ بِدِينَارِ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ إلَّا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ] (2939) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَهُ بِدِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا، أَوْ إلَّا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ رَفْعَ قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَقَدْرُ ذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةِ مِنْ السَّمَاءِ] (2940) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ، فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ، رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: (2941) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ مَا تُهْلِكُهُ الْجَائِحَةُ مِنْ الثِّمَارِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي؛ لِمَا رُوِيَ، «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ ابْنِي اشْتَرَى ثَمَرَةً مِنْ فُلَانٍ، فَأَذْهَبَتْهَا الْجَائِحَةُ، فَسَأَلْته أَنْ يَضَعَ عَنْهُ، فَتَأَلَّى أَنْ لَا يَفْعَلَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَأَلَّى فُلَانٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَجْبَرَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ، فَتَعَلَّقَ بِهَا الضَّمَانُ، كَالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إذَا أَتْلَفَهُ آدَمِي، كَذَلِكَ لَا يَضْمَنُهُ بِإِتْلَافِ غَيْرِهِ. وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ، فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ.» وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، لِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: «مَنْ بَاعَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا، عَلَى مَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ أَعْدُهُ، وَلَوْ كُنْت قَائِلًا بِوَضْعِهَا لَوَضَعْتهَا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قُلْنَا: الْحَدِيثُ ثَابِتٌ. رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ، مِنْهُمْ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ "، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي حَدِيثِهِمْ، فَإِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبِ خَيْرٌ، فَإِذَا تَأَلَّى أَنْ لَا يَفْعَلَ الْوَاجِبَ، فَقَدْ تَأَلَّى أَلَّا يَفْعَلَ خَيْرًا. فَأَمَّا الْإِجْبَارُ، فَلَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمُدَّعِي مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 غَيْرِ إقْرَارٍ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَا حُضُورٍ. وَلِأَنَّ التَّخْلِيَةَ لَيْسَتْ بِقَبْضٍ تَامٍّ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَلِفَتْ بِعَطَشٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّصَرُّفِ تَمَامُ الْقَبْضِ، بِدَلِيلِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ يُبَاحُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَلَوْ تَلِفَتْ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجَّرِ، كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، فَإِنَّهَا فِي شَجَرِهَا، كَالْمَنَافِعِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا، تُوجَدُ حَالًا فَحَالًا، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي الْإِجَارَةِ. (2942) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَائِحَةَ كُلُّ آفَةٍ لَا صُنْعَ لِلْآدَمِيِّ فِيهَا، كَالرِّيحِ، وَالْبَرْدِ، وَالْجَرَادِ، وَالْعَطَشِ؛ لِمَا رَوَى السَّاجِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْجَائِحَةِ.» وَالْجَائِحَةُ تَكُونُ فِي الْبَرْدِ، وَالْجَرَادِ، وَفِي الْحَبَقِ، وَالسَّيْلِ، وَفِي الرِّيحِ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ الرَّاوِي لِكَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ. وَأَمَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَمُطَالَبَةِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَةِ الْجَانِي بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ، بِخِلَافِ التَّالِفِ بِالْجَائِحَةِ. (2943) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْجَائِحَةِ وَكَثِيرِهَا، إلَّا أَنَّ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَلَفِ مِثْلِهِ، كَالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنِّي لَا أَقُولُ فِي عَشْرِ ثَمَرَاتٍ، وَلَا عِشْرِينَ ثَمَرَةً، وَلَا أَدْرِي مَا الثُّلُثُ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ جَائِحَةٌ تُعْرَفُ؛ الثُّلُثُ، أَوْ الرُّبْعُ، أَوْ الْخُمْسُ، تُوضَعُ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ مَا كَانَ يَعُدْ دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْكُلَ الطَّيْرُ مِنْهَا، وَتَنْثُرَ الرِّيحُ، وَيَسْقُطَ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَابِطٍ وَاحِدٍ فَاصِلٍ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْجَائِحَةِ، وَالثُّلُثُ قَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا؛ الْوَصِيَّةُ، وَعَطَايَا الْمَرِيضِ، وَتَسَاوِي جِرَاحِ الْمَرْأَةِ جِرَاحَ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَحْمَدُ: إنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الثُّلُثَ فِي سَبْعَ عَشَرَةَ مَسْأَلَةً. وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوَصِيَّةِ: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) . فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ آخِرُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَلِهَذَا قُدِّرَ بِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. وَمَا دُونَ الثُّلُثِ دَاخِلٌ فِيهِ، فَيَجِبُ وَضْعُهُ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الثَّمَرَةَ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُهَا، فَكَانَ مَا تَلِفَ مِنْهَا مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، كَاَلَّتِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَمَا أَكَلَهُ الطَّيْرُ أَوْ سَقَطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُسَمَّى جَائِحَةً، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَهُوَ مَعْلُومُ الْوُجُودِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، فَكَأَنَّهُ مَشْرُوطٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَلِفَ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَضَعَ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ. فَإِنْ تَلِفَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 الْجَمِيعُ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ ثُلُثَ الْمَبْلَغِ، وَقِيلَ: ثُلُثَ الْقِيمَةِ. فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ، رَجَعَ بِقِيمَةِ التَّالِفِ كُلِّهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْجَائِحَةِ، أَوْ قَدْرِ مَا أُتْلِفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ. وَلِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْأُصُولِ قَوْلُ الْغَارِمِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَلَمْ يَقْطَعْهَا حَتَّى تَلِفَتْ] (2944) فَصْلٌ: فَإِنْ بَلَغَتْ الثَّمَرَةُ أَوَانَ الْجِزَازِ، فَلَمْ يَجُزَّهَا حَتَّى اُجْتِيحَتْ، فَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي لَا يُوضَعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ النَّقْلِ فِي وَقْتِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَأَمْكَنَهُ قَطْعُهَا، فَلَمْ يَقْطَعْهَا حَتَّى تَلِفَتْ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ تَلَفَهَا بِتَفْرِيطِهِ. وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ إمْكَانِ قَطْعِهَا، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ بَائِعِهَا، كَالْمَسْأَلَةِ فِيهَا. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرْعهَا فَتُلْفِ الزَّرْع] (2945) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، فَزَرَعَهَا، فَتَلِفَ الزَّرْعُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْأَرْضِ، وَلَمْ تَتْلَفْ، وَإِنَّمَا تَلِفَ مَالُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا، فَصَارَ كَدَارٍ اسْتَأْجَرَهَا لِيَقْصُرَ فِيهَا ثِيَابًا، فَتَلِفَتْ الثِّيَابُ فِيهَا. [مَسْأَلَةٌ وَقَعَ الْبَيْع عَلَى مَكِيل أَوْ عَلَى مَوْزُون أَوْ مَعْدُود فَتُلْفِ قَبْلَ قَبَضَهُ] (2946) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى مَكِيلٍ، أَوْ عَلَى مَوْزُونٍ، أَوْ مَعْدُودٍ، فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ) . ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمَكِيلَ، وَالْمَوْزُونَ، وَالْمَعْدُودَ، لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِقَبْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَيِّنًا، كَالصُّبْرَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، كَقَفِيزِ مِنْهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَنَّ كُلَّ مَا بِيعَ عَلَى الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: الْمُرَادُ بِالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَالْمَعْدُودِ، مَا لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ مِنْهُ، كَالْقَفِيزِ مِنْ صُبْرَةٍ، وَالرِّطْلِ مِنْ زُبْرَةٍ، وَمَكِيلَةِ زَيْتٍ مِنْ دَنٍّ، فَأَمَّا الْمُتَعَيِّنُ، فَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، كَالصُّبْرَةِ يَبِيعُهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ كَيْلٍ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فِي رَجُلٍ اشْتَرَى طَعَامًا، فَطَلَبَ مَنْ يَحْمِلُهُ، فَرَجَعَ وَقَدْ احْتَرَقَ الطَّعَامُ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتْ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي. وَذَكَرَ الْجُوزَجَانِيُّ عَنْهُ فِي مَنْ اشْتَرَى مَا فِي السَّفِينَةِ صُبْرَةً، وَلَمْ يُسَمِّ كَيْلًا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا، وَيَبِيعَ مَا شَاءَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا كَيْلٌ، فَلَا يُوَلِّي حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 يُكَالَ عَلَيْهِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا بِيعَ مِنْ الطَّعَامِ مُكَايَلَةً، أَوْ مُوَازَنَةً، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَمَا بِيعَ مُجَازَفَةً، أَوْ بِيعَ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ مُكَايَلَةً، أَوْ مُوَازَنَةً، جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، مَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعْلِيقًا. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَضَتْ السُّنَّةُ. يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَكَانَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، كَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمَطْعُومَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الطَّعَامَ خَاصَّةً لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُشْرَبُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ: نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ: هَذَا فِي الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَصَحُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ هُوَ الطَّعَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ. فَمَفْهُومُهُ إبَاحَةُ بَيْعِ مَا سِوَاهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «رَأَيْت الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إلَى رِحَالِهِمْ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي بَيْعِ الْمُعَيَّنِ. وَعُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ» . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَلَوْ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، جَازَ لَهُ بَيْعُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ الْمَنْعِ فِي كُلِّ طَعَامٍ، مَعَ تَنْصِيصِهِ عَلَى الْمَبِيعِ مُجَازَفَةً بِالْمَنْعِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الطَّعَامَ يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الطَّعَامَ الْمَنْهِيَّ عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، أَوْ مَعْدُودًا، فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ كَتَعَلُّقِ رِبَا الْفَضْلِ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَكِيلَ، وَالْمَوْزُونَ، وَالْمَعْدُودَ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِمَنْعِ بَيْعِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ دَلِيلًا وَأَحْسَنُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنَّ تَلِفَ الْمَبِيعُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ. وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، اسْتَقَرَّ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْجَائِحَةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَهُوَ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ، وَمُطَالَبَةِ الْمُتْلِفِ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ يَضْمَنُهُ بِهِ الْبَائِعُ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ كَالتَّلَفِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُمَا بِكَوْنِهِ إذَا تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضٍ لِلضَّمَانِ سِوَى حُكْمِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ، فَإِنَّ إتْلَافَهُ يَقْتَضِي الضَّمَانَ بِالْمِثْلِ، وَحُكْمُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الضَّمَانَ بِالثَّمَنِ، فَكَانَتْ الْخِيرَةُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي التَّضْمِينِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. [فَصْلٌ تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْبَائِع أَوْ تُلْفِ بَعْضه بِأَمْرِ سَمَاوِيّ] (2947) فَصْلٌ: وَلَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَبُولِهِ نَاقِصًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ رَضِيَهُ مَعِيبًا، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى مَعِيبًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ الْعَيْبِ. وَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا تَعَيَّبَ، أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ، كَانَ أَوْلَى. وَإِنْ تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ، وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عِيبَ. وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ، وَمُطَالَبَةِ الْمُتْلِفِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ. [فَصْلٌ بَاعَ شَاةً بِشَعِيرِ فَأَكَلَتْهُ قَبْلَ قَبَضَهُ] (2948) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ شَاةً بِشَعِيرٍ، فَأَكَلَتْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِهِ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ، فَهُوَ كَإِتْلَافِهِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِأَمْرٍ لَا يُنْسَبُ إلَى آدَمِيٍّ، فَهُوَ كَتَلَفِهِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. (2949) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً أَوْ عَبْدًا أَوْ شِقْصًا بِطَعَامٍ، فَقَبَضَ الشَّاةَ أَوْ الْعَبْدَ، أَوْ بَاعَهُمَا، أَوْ أَخَذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ تَلِفَ الطَّعَامُ قَبْلَ قَبْضِهِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، وَلَا يَبْطُلُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَّلَ قَبْلَ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَيَرْجِعُ مُشْتَرِي الطَّعَامِ عَلَى مُشْتَرِي الشَّاةِ وَالْعَبْدِ وَالشِّقْصِ بِقِيمَةِ ذَلِكَ؛ لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ، وَعَلَى الشَّفِيعِ مِثْلُ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الشِّقْصِ. [مَسْأَلَةٌ مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْمَعْدُودَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهِ] (2950) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا عَدَاهُ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبْضٍ، وَإِنْ تَلِفَ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي مَا عَدَا الْمَكِيلَ، وَالْمَوْزُونَ، وَالْمَعْدُودَ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَبِيعٍ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، إلَّا الْعَقَارَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَبِيعٍ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَى كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ بِتَلَفِهِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَالْمَعْدُودِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . وَهَذَا الْمَبِيعُ نَمَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي، فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ قَبْلَهُ، كَالْمِيرَاثِ. وَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّعَامَ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ دَلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ. [فَصْلٌ الْمَبِيع بِصِفَةِ أَوْ رُؤْيَة مُتَقَدِّمَة مِنْ ضَمَانِ الْبَائِع حَتَّى يَقْبِضهُ الْمُبْتَاع] (2951) فَصْلٌ: وَالْمَبِيعُ بِصِفَةٍ، أَوْ رُؤْيَةٍ، مُتَقَدِّمَةٍ، مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُبْتَاعُ؛ لِأَنَّهُ؛ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَجَرَى مَجْرَى الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِعَيْنِهِ، فَمَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، إلَّا أَنْ يَطْلُبَهُ، فَيَمْنَعَهُ الْبَائِعُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ حِينَ عَطِبَ. وَلَوْ حَبَسَهُ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ، فَهُوَ غَاصِبٌ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الرَّهْنِ. [فَصْلٌ قَبَضَ كُلَّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا] (2952) فَصْلٌ: وَقَبْضُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، بِيعَ كَيْلًا، أَوْ وَزْنًا، فَقَبْضُهُ بِكَيْلِهِ وَوَزْنِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّخْلِيَةُ فِي ذَلِكَ قَبْضٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ الْقَبْضَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّخْلِيَةِ مَعَ التَّمْيِيز؛ لِأَنَّهُ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، فَكَانَ قَبْضًا لَهُ، كَالْعَقَارِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا بِعْت فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْت فَاكْتَلْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ؛ صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَهَذَا فِيمَا بِيعَ كَيْلًا. وَإِنْ بِيعَ جُزَافًا، فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانُوا «يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جُزَافًا، أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يُحَوِّلُوهُ» . وَفِي لَفْظٍ: «كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا، فَبُعِثَ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ إلَى مَكَان سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ» . وَفِي لَفْظٍ: «كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ» . رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَيْلَ إنَّمَا وَجَبَ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيْلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَمَّيْت الْكَيْلَ فَكِلْ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَقَبْضُهَا بِالْيَدِ. وَإِنْ كَانَ ثِيَابًا، فَقَبْضُهَا نَقْلُهَا. وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا، فَقَبْضُهُ تَمْشِيَتُهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، فَقَبْضُهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشْتَرِيهِ لَا حَائِلَ دُونَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي بَابِ الرَّهْنِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، فَقَبْضُهُ أَخْذُهُ إيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، فَقَبْضُهُ تَخْلِيَةُ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُرْتَهِنِهِ لَا حَائِلَ دُونَهُ. وَلِأَنَّ الْقَبْضَ مُطْلَقٌ فِي الشَّرْعِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالْإِحْرَازِ، وَالتَّفَرُّقِ. وَالْعَادَةُ فِي قَبْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 [فَصْلٌ أُجْرَة الْكَيَّال وَالْوَزَّان فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُون عَلَى الْبَائِع] (2953) فَصْلٌ وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَقْبِيضَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالْقَبْضُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ، فَكَانَ عَلَى الْبَائِعِ، كَمَا أَنَّ عَلَى بَائِعِ الثَّمَرَةِ سَقْيَهَا، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الَّذِي يَعُدُّ الْمَعْدُودَاتِ. وَأَمَّا نَقْلُ الْمَنْقُولَاتِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَهُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. [فَصْلٌ الْقَبْضُ قَبْلَ نَقُدْ الثَّمَن وَبَعْده بِاخْتِيَارِ الْبَائِعِ وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ] فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْقَبْضُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ بِاخْتِيَارِ الْبَائِعِ، وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، فَمَتَى وُجِدَ بَعْدَهُ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، كَقَبْضِ الثَّمَنِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى مَا يَحْتَاج إلَى قَبَضَهُ] (2955) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ) قَدْ ذَكَرْنَا الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، وَالْخِلَافَ فِيهِ. وَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ إذَا اشْتَرَاهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ بَائِعِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالسَّلَمِ، وَلَمْ أَعْلَمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْبَتِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِالسُّنَّةِ وَالْحُجَّةِ الْمُجْمِعَةِ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَظُنُّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ قَبْلَ قَبْضِهِ. اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَاحْتَجُّوا بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ.» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ.» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إلَى مَكَّةَ، قَالَ: انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوهُ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوهُ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَغَيْرِ الْمُتَعَيِّنِ، أَوْ كَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «كُنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ بِالدَّرَاهِمِ، فَنَأْخُذُ بَدَلَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ، وَنَبِيعُهَا بِالدَّنَانِيرِ، فَنَأْخُذُ بَدَلَهَا الدَّرَاهِمَ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ» . وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ - يُعْنَى لِعُمَرَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. فَقَالَ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت» . وَهَذَا ظَاهِرُهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ بِالْهِبَةِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَاشْتَرَى مِنْ جَابِرٍ جَمَلَهُ، وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَجَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. كَالْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنَافِعِ. وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَالْمَالِ فِي يَدِ مُودِعِهِ، أَوْ مُضَارِبِهِ. فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا إلَّا حَدِيثُ الطَّعَامِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا بِمَفْهُومِهِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ الطَّعَامَ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ فِيمَا سِوَاهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ، مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلْمِلْكِ مُتَحَقِّقٌ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَخَلُّفُ الْقَبْضِ، وَالْيَدُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَالِ الْمُودَعِ، وَالْمَوْرُوثِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي الصَّدَاقِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (2956) فَصْلٌ: وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِبَائِعِهِ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ ابْتَاعَ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، فَلَقِيَهُ بِبَلَدٍ آخَرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ، وَلَا أَخْذُ بَدَلِهِ، وَإِنْ تَرَاضَيَا؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يُقْبَضْ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، جَازَ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ فِي سَلَمٍ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. [فَصْلٌ كَّلَ عِوَض مُلْك بِعَقْدِ يَنْفَسِخ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّف فِيهِ قَبْلَ قَبَضَهُ] (2957) فَصْلٌ: وَكُلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا. وَالْأُجْرَةُ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ، إذَا كَانَا مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، أَوْ الْمَعْدُودِ، وَمَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلتَّصَرُّفِ الْمِلْكُ، وَقَدْ وُجِدَ. لَكِنَّ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ عَقْدٍ آخَرَ عَلَيْهِ؛ تَحَرُّزًا مِنْ الْغَرَرِ. وَمَا لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ الْغَرَرُ، انْتَفَى الْمَانِعُ، فَجَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَهْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَوَافَقَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي غَيْرِ الْمُتَعَيِّنِ: لِأَنَّهُ يُخْشَى رُجُوعُهُ بِانْتِقَاضِ سَبَبِهِ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ انْفِسَاخُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ، أَوْ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ، أَوْ انْفِسَاخُهُ بِسَبَبِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ بَاطِلٌ بِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ قَبْضَهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَمَّا مَا مُلِكَ بِإِرْثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، وَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَهُوَ كَالْمَبِيعِ الْمَقْبُوضِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَإِنْ كَانَ لَإِنْسَانٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ، أَوْ مُضَارَبَةٌ، أَوْ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِيهِ، جَازَ لَهُ بَيْعُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَمِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا، لَا يُخْشَى انْفِسَاخُ الْمِلْكِ فِيهَا، فَجَازَ بَيْعُهَا، كَاَلَّتِي فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ غَصْبًا، جَازَ بَيْعُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ مَعَهُ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْعَارِيَّةِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ؛ وَأَمَّا بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ اسْتِنْقَاذِهِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ عَاجِزٌ، لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْآبِقِ وَالشَّارِدِ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِإِمْكَانِ قَبْضِهِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِنْقَاذِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ لِكَوْنِهِ مَظْنُونَ الْقُدْرَةِ عَلَى قَبْضِهِ. وَيَثْبُتُ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِلْعَجْزِ عَنْ الْقَبْضِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ فَرَسًا، فَشَرَدَتْ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا، أَوْ غَائِبًا بِالصِّفَةِ، فَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ. (2958) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لِزَيْدٍ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ، وَعَلَيْهِ لِعَمْرٍو مِثْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ سَلَمًا، فَقَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: اذْهَبْ فَاقْبِضْ الطَّعَامَ الَّذِي لِي مِنْ غَرِيمِي لِنَفْسِك. فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ. وَهَلْ يَصِحُّ لِزَيْدٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَأَشْبَهَ قَبْضَ وَكِيلِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَصِيرُ مِلْكًا لِزَيْدِ، وَعَلَى الثَّانِي، يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: اُحْضُرْ اكْتِيَالِي مِنْهُ لِأَقْبِضَهُ لَك. فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَلْ يَكُونُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أُولَاهُمَا، أَنَّهُ يَكُونُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَدْ وُجِدَ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، فَصَحَّ الْقَبْضُ لَهُ، كَمَا لَوْ نَوَى الْقَبْضَ لِنَفْسِهِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا قَبَضَهُ لِعَمْرٍو، صَحَّ. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ بِهَذَا الْكَيْلِ الَّذِي قَدْ شَاهَدْته فَأَخَذَهُ بِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ كَيْلَهُ، وَعَلِمَهُ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَيْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَعَنْهُ لَا يُجْزِئُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ. وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ. وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ كَيْلٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ جُزَافًا. وَلَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: اُحْضُرْنَا حَتَّى أَكْتَالَهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ تَكْتَالُهُ أَنْتَ. وَفَعَلَا، صَحَّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ. وَإِنْ اكْتَالَهُ زَيْدٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَمْرٌو بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ تَرَكَهُ زَيْدٌ فِي الْمِكْيَالِ، وَدَفَعَهُ إلَى عَمْرٍو لِيُفْرِغَهُ لِنَفْسِهِ، صَحَّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْضًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْكَيْلِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، وَلَا مَعْنَى لِابْتِدَاءِ الْكَيْلِ هَاهُنَا، إذْ لَا يَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ. وَهَذَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ فِي الْمِكْيَالِ جَرْيٌ لِصَاعَيْهِ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ زَيْدٌ إلَى عَمْرٍو دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ لَك بِهَا مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي لَك عَلَيَّ. فَفَعَلَ، لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 يَصِحَّ؛ لِأَنَّ دَرَاهِمَ زَيْدٍ لَا يَكُونُ عِوَضُهَا لِعَمْرٍو. فَإِنْ اشْتَرَى الطَّعَامَ بِعَيْنِهَا، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ عَلَى مَا تَبَيَّنَ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا، ثُمَّ أَقْبِضْهُ لِنَفْسِك، فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لِنَفْسِهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِنْ قَالَ: اقْبِضْهُ لِنَفْسِك فَفَعَلَ، جَازَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى نَظِيرِ ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، إذَا حَصَلَ الطَّعَامُ فِي يَدِ عَمْرٍو لِزَيْدٍ، فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَيَقْبِضَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ شَيْئًا، جَازَ أَنْ يَقْبَلَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَقْبِضَ مِنْهَا، فَكَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا فَقَبَضَاهُ ثُمَّ بَاعَ أَحَدهمَا لِلْآخَرِ نَصِيبه قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ] (2959) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا، فَقَبَضَاهُ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا لِلْآخِرِ نَصِيبَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، كَرِهَا أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مِنْ شَرِيكِهِ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَهُمَا، يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَجْنَبِيٍّ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِشَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَإِنْ تَقَاسَمَاهُ، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي كَالَهُ، لَمْ يَجُزْ. كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا، فَاكْتَالَهُ، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ. وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَقَدَّمَتَا. [مَسْأَلَةٌ مَا يَحْتَاج إلَى الْقَبْض لَا تَجُوز الشَّرِكَةُ فِيهِ وَلَا تَوَلَّيْته وَلَا الْحَوَالَة بِهِ قَبْلَ قَبَضَهُ] (2960) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالشَّرِكَةُ فِيهِ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْحَوَالَةُ بِهِ كَالْبَيْعِ) . وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهِ، وَلَا تَوْلِيَتُهُ، وَلَا الْحَوَالَةُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ هَذَا كُلُّهُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، الْأَوَّلِ، فَجَازَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالْإِقَالَةِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ أَنْوَاعُ بَيْعٍ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ بَيْعُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَالتَّوْلِيَةَ بَيْعُ جَمِيعِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ. وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَفَارَقَ الْإِقَالَةَ، فَإِنَّهَا فَسْخٌ لِلْبَيْعِ، فَأَشْبَهَتْ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ. وَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا رَهْنُهُ وَلَا دَفْعُهُ أُجْرَةً، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، فَلَا سَبِيلَ إلَى إقْبَاضِهِ. (2961) فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ وَالشَّرِكَةُ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَجَائِزَانِ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّا بِأَسْمَاءٍ، كَمَا اخْتَصَّ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالْمُوَاضَعَةِ بِأَسْمَاءٍ. فَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَشْرِكْنِي فِي نِصْفِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. فَقَالَ: أَشْرَكْتُك. صَحَّ، وَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قَالَ: وَلِّنِي مَا اشْتَرَيْته بِالثَّمَنِ فَقَالَ: وَلَّيْتُك. صَحَّ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا لَهُمَا. فَإِنْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِالرَّقْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 وَلَوْ قَالَ: أَشْرِكْنِي فِيهِ. أَوْ قَالَ: الشَّرِكَةُ فِيهِ. فَقَالَ: أَشْرَكْتُك. أَوْ قَالَ: وَلِّنِي مَا اشْتَرَيْت. وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّمَنَ، صَحَّ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي ابْتِيَاعَ جُزْءٍ مِنْهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالتَّوْلِيَةُ ابْتِيَاعُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، فَإِذَا أُطْلِقْ اسْمُهُ انْصَرَفَ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَقِلْنِي. فَقَالَ: أَقَلْتُك. وَفِي حَدِيثٍ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، «أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ إلَى السُّوقِ، فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَك بِالْبَرَكَةِ. فَيُشْرِكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إلَى الْمَنْزِلِ.» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَشْرِكْنِي فَأَشْرَكَهُ انْصَرَفَ إلَى نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهَا بِإِطْلَاقِهَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. فَإِنْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا فَاشْتَرَكَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا رَجُلٌ: أَشْرِكَانِي فِيهِ. فَقَالَا: أَشْرَكْنَاك. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكِهِمَا لَوْ كَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا كَانَ لَهُ النِّصْفُ، فَكَذَلِكَ حَالَ الِاجْتِمَاعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُفِيدُ التَّسَاوِي، وَلَا يَحْصُلُ التَّسَاوِي إلَّا بِجَعْلِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ إشْرَاكَ الْوَاحِدِ إنَّمَا اقْتَضَى النِّصْفَ؛ لِحُصُولِ التَّسْوِيَةِ بِهِ. وَإِنْ شَرَكَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، كَانَ لَهُ النِّصْفُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبْعُ. وَإِنْ قَالَ: أَشْرِكَانِي فِيهِ. فَشَرَكَهُ أَحَدُهُمَا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ لَهُ نِصْفُ حِصَّةِ الَّذِي شَرَكَهُ وَهُوَ الرُّبْعُ، وَعَلَى الْآخَرِ لَهُ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشَّرِكَةِ مِنْهُمَا يَقْتَضِي طَلَبَ ثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِيَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُمَا. فَإِذَا أَجَابَهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَشْرَكْنَاك. انْبَنَى عَلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ. فَإِنْ قُلْنَا: يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنْ صَاحِبِهِ. فَأَجَازَهُ، فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي نِصْفِهِ أَوْ فِي ثُلُثِهِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَشْرِكْنِي فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَأَشْرَكَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَجَازَهُ. فَلَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَلَهُمَا نِصْفُهُ، وَإِلَّا فَلَهُ نِصْفُ حِصَّةِ الَّذِي شَرَكَهُ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَشْرِكْنِي فِي هَذَا الْعَبْدِ. فَقَالَ: قَدْ أَشْرَكَتْك. فَلَهُ نِصْفُهُ. فَإِنْ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ: أَشْرِكْنِي فِي هَذَا الْعَبْدِ. وَكَانَ عَالِمًا بِشَرِكَةِ الْأَوَّلِ، فَلَهُ رُبْعُ الْعَبْدِ، وَهُوَ نِصْفُ حِصَّةِ الَّذِي شَرَكَهُ؛ لِأَنَّ طَلَبَهُ لِلْإِشْرَاكِ رَجَعَ إلَى مَا مَلَكَهُ الْمُشَارِكُ. وَهُوَ النِّصْفُ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرِكَةِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ طَالِبٌ لِنِصْفِ الْعَبْدِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ لِهَذَا الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ الْمُشَارَكَةَ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَشْرَكْتُكَ فِيهِ. احْتَمَلَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 أَحَدَهَا، أَنْ يَصِيرَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ كُلِّهِ، وَلَا يَبْقَى لِلَّذِي شَرَكَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ نِصْفَ الْعَبْدِ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ. فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: بِعْنِي نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ، فَقَالَ: بِعْتُك. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. الثَّانِي، أَنْ يَنْصَرِفَ قَوْلُهُ: أَشْرَكْتُكَ فِيهِ. إلَى نِصْفِ نَصِيبِهِ، وَنِصْفِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَيَنْفُذَ فِي نِصْفِ نَصِيبِهِ، وَيَقِفَ فِي الزَّائِدِ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي بَيْعَ بَعْضِ نَصِيبِهِ، وَمُسَاوَاةَ الْمُشْتَرِي لَهُ. فَلَوْ بَاعَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ، لَمْ يَكُنْ شَرِكَةً، وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ مَا طَلَبَ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ لِلثَّانِي إلَّا الرُّبْعُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ: أَشْرَكْتُكَ. لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِيجَابُ النَّاقِلُ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا نِصْفُ الْعَبْدِ، فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى نِصْفِ مِلْكِهِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِطَالِبِ الشَّرِكَةِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَبَ النِّصْفَ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ جَمِيعُهُ، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِوُقُوفِهِ عَلَى الْإِجَازَةِ. فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيُجِيزُهُ الْآخَرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ الشَّرِكَةُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ شِرَاءَ النِّصْفِ، فَأُجِيبَ فِي الرُّبْعِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ، قَالَ: بِعْتُك رُبْعَهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ الطَّعَام فَقَبَضَ نِصْفه فَقَالَ لَهُ رَجُل بِعَنِّي نِصْف هَذَا الْقَفِيز فَبَاعَهُ] (2962) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ الطَّعَامِ، فَقَبَضَ نِصْفَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِعْنِي نِصْفَ هَذَا الْقَفِيزِ. فَبَاعَهُ، انْصَرَفَ إلَى النِّصْفِ الْمَقْبُوضِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَهُوَ النِّصْفُ الْمَقْبُوضُ. وَإِنْ قَالَ: أَشْرِكْنِي فِي هَذَا الْقَفِيزِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَفَعَلَ، لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، إلَّا فِيمَا قَبَضَ مِنْهُ، فَيَكُونُ النِّصْفُ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ تَنْصَرِفُ الشَّرِكَةُ إلَى النِّصْفِ كُلِّهِ، فَيَكُونُ تَابِعًا لِمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَصِحُّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَلَا يَصِحُّ فِي الرُّبْعِ الَّذِي لَيْسَ بِمَقْبُوضِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. (2963) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَوَالَةُ، فَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُشْتَرِي الطَّعَامِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ مِثْلُ الَّذِي اشْتَرَاهُ، فَيَقُولَ لِغَرِيمِهِ: اذْهَبْ فَاقْبِضْ الطَّعَامَ الَّذِي اشْتَرَيْته لِنَفْسِك. فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْرِيعَ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ لِرَجُلِ فِي ذِمَّة آخَر طَعَام مِنْ قَرْض لَمْ يَجُزْ بَيْعَهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ] (2964) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ طَعَامٌ مِنْ قَرْضٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَبِيعُ الْأَبْعِرَةَ بِالْبَقِيعِ بِالدَّرَاهِمِ، فَنَأْخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، كَمَا لَا يَصِحُّ فِي السَّلَمِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، جَازَ، وَلَا يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. فَإِنْ أَعْطَاهُ مُعَيَّنًا مِمَّا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ، مِثْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 أَنْ أَعْطَاهُ بَدَلَ الْحِنْطَةِ شَعِيرًا، جَازَ. وَلَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ أَعْطَاهُ مُعَيَّنًا، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ، جَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الشَّعِيرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِك. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالسَّلَمِ. [فَصْلٌ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ هَلْ تُبْطِلُهُ] (2965) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِغَرِيمِهِ: بِعْنِي هَذَا عَلَى أَنْ أَقْضِيَك دَيْنَك مِنْهُ. فَفَعَلَ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؟ يَنْبَنِي عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، هَلْ تُبْطِلُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: اقْضِنِي حَقِّي عَلَى أَنْ أَبِيعَك كَذَا وَكَذَا. فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْقَضَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَّضَهُ حَقَّهُ. وَإِنْ قَالَ: اقْضِنِي أَجْوَدَ مِنْ مَالِي، عَلَى أَنْ أَبِيعَك كَذَا وَكَذَا. فَالْقَضَاءُ وَالشَّرْطُ بَاطِلَانِ، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِمَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْإِقَالَة بَيْع] (2966) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، الْإِقَالَةُ بَيْعٌ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْإِقَالَةِ. فَعَنْهُ أَنَّهَا فَسْخٌ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا بَيْعٌ. وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَادَ إلَى الْبَائِعِ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ بَيْعًا كَذَلِكَ الثَّانِي، وَلِأَنَّهُ نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضِ، عَلَى وَجْهِ التَّرَاضِي، فَكَانَ بَيْعًا، كَالْأَوَّلِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. فَلَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِمَا، بَلْ تَجُوزُ فِي السَّلَمِ، وَفِي الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، حَتَّى يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الشِّقْصِ الَّذِي تَقَايَلَا فِيهِ بِالشُّفْعَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِقَالَةَ هِيَ الدَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ. يُقَالُ: أَقَالَك اللَّهُ عَثْرَتَك. أَيْ أَزَالَهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ، أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي إجْمَاعِهِمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ» ، مَعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُقِيلَ الْمُسْلِمَ جَمِيعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِقَالَةَ لَيْسَتْ بَيْعًا، وَلِأَنَّهَا تَجُوزُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا كَالْإِسْقَاطِ، وَلِأَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمْ تَتَقَدَّرُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ بِلَفْظٍ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ، فَكَانَ فَسْخًا، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، كَالرَّدِّ بِالْبَيْعِ وَالْفَسْخِ بِالْخِيَارِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ لَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ. (2967) فَصْلٌ: فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ فَسْخٌ جَازَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ كَيْلٍ ثَانٍ، وَيَقُومُ الْفَسْخُ مَقَامَ الْبَيْعِ فِي إيجَابِ كَيْلٍ ثَانٍ، كَقِيَامِ فَسْخِ النِّكَاحِ مَقَامَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ، فَجَازَ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالتَّدْلِيسِ، وَالْفَسْخِ بِالْخِيَارِ، أَوْ اخْتِلَافِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَفَارَقَ الْعِدَّةَ، فَإِنَّهَا اُعْتُبِرَتْ لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ فِي كُلِّ فُرْقَةٍ بَعْدَ الدُّخُولِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ بَيْعٌ. لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ إنْ كَانَتْ فَسْخًا؛ لِأَنَّهَا رَفْعٌ لِلْعَقْدِ، وَإِزَالَةٌ لَهُ، وَلَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْفُسُوخِ. وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَأَقَالَ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا، اُسْتُحِقَّتْ بِهَا الشُّفْعَةُ، وَحَنِثَ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ الْبَيْعِ بِفِعْلِهَا، كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ. وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمِثْلِ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هِيَ فَسْخٌ أَوْ بَيْعٌ؛ لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، كَالتَّوْلِيَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَأَقَلَّ مِنْهُ إذَا قُلْنَا: إنَّهَا بَيْعٌ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَجُوزُ إلَّا بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَأَقَالَ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ تَصِحَّ الْإِقَالَةُ، وَكَانَ الْمِلْكُ بَاقِيًا لِلْمُشْتَرِي. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا تَصِحُّ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِقَالَةِ اقْتَضَى مِثْلَ الثَّمَنِ، وَالشَّرْطُ يُنَافِيهِ، فَبَطَلَ، وَبَقِيَ الْفَسْخُ عَلَى مُقْتَضَاهُ، كَسَائِرِ الْفُسُوخِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرَطَ التَّفَاضُلَ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَاثُلُ، فَبَطَلَ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ. وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْإِقَالَةِ رَدُّ كُلِّ حَقٍّ إلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا شَرَطَ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا، أَخْرَجَ الْعَقْدَ عَنْ مَقْصُودِهِ، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ إلَيْهِ. وَيُفَارِقُ سَائِرَ الْفُسُوخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا مِنْهُمَا، بَلْ يَسْتَقِلُّ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا شُرِطَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَسْخِ بِدُونِهِ. وَإِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ الْفَسْخِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ إلَّا بِرِضَاهُمَا، وَإِنَّمَا رَضِيَ بِهَا أَحَدُهُمَا مَعَ الزِّيَادَةِ أَوْ النَّقْصِ، فَإِذَا أَبْطَلْنَا شَرْطَهُ فَاتَ رِضَاهُ، فَتَبْطُلُ الْإِقَالَةُ؛ لِعَدَمِ رِضَاهُ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ بَيْع الصُّبْرَة جُزَافًا مَعَ جَهْل الْبَائِع وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا] (2968) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمِنْ اشْتَرَى صُبْرَةَ طَعَامٍ، لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا؛ إبَاحَةُ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا مَعَ جَهْلِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالرُّؤْيَةِ، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ. وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ مُشَاهَدَةِ بَاطِنِ الصُّبْرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ؛ لِكَوْنِ الْحَبِّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يُمْكِنُ بَسْطُهَا حَبَّةً حَبَّةً، وَلِأَنَّ الْحَبَّ تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ فِي الظَّاهِرِ، فَاكْتُفِيَ بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِهِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ، فَإِنَّ نَشْرَهُ لَا يَشُقُّ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ أَجْزَاؤُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهَا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا اشْتَرَى بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ، وَهُوَ الرُّؤْيَةُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْتُك نِصْفَ هَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 الصُّبْرَةِ، أَوْ ثُلُثَهَا، أَوْ جُزْءًا مِنْهَا مَعْلُومًا. جَازَ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُ جُمْلَتِهِ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ، كَالْحَيَوَانِ. وَلِأَنَّ جُمْلَتَهَا مَعْلُومَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَكَذَلِكَ جُزْؤُهَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الصُّبْرَةُ مُتَسَاوِيَةَ الْأَجْزَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً، مِثْلَ صُبْرَةِ بَقَّالِ الْقَرْيَةِ، لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْهَا جُزْءًا مُشَاعًا، فَيَسْتَحِقُّ مِنْ جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا بِقِسْطِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا جُزَافًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ فِي الْأَثْمَانِ لِأَنَّ لَهَا خَطَرًا وَلَا يَشُقُّ وَزْنُهَا وَلَا عَدَدُهَا، فَأَشْبَهَ الرَّقِيقَ وَالثِّيَابَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَأَشْبَهَ الْمُثَمَّنَاتِ وَالنُّقْرَةَ وَالْحَلْيَ. وَيَبْطُلُ بِذَلِكَ مَا قَالَهُ. أَمَّا الرَّقِيقُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ إذَا شَاهَدَهُمْ وَلَمْ يَعُدَّهُمْ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا نَشَرَهَا وَرَأَى جَمِيعَ أَجْزَائِهَا. الْحَكَمُ الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى الصُّبْرَةَ جُزَافًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ نَقْلِهَا. اخْتَارَهَا الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيِّنٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَقِّ تَوْفِيَةٍ، فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ الْحَاضِرَ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «إنْ كُنَّا لَنَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ.» وَعُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، قَالَ: «قَدِمَ زَيْتٌ مِنْ الشَّامِ، فَاشْتَرَيْت مِنْهُ أَبْعِرَةً، وَفَرَغْت مِنْ شِرَائِهَا، فَقَامَ إلَيَّ رَجُلٌ فَأَرْبَحَنِي فِيهَا رِبْحًا، فَبَسَطْت يَدِي لِأُبَايِعَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَأْخُذُنِي مِنْ خَلْفِي، فَنَظَرْت فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَتَّى تَنْقُلَهُ إلَى رَحْلِك، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِذَلِكَ» . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ قَبْضَهَا نَقْلُهَا. كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَوْ لَمْ يُعَيَّنْ فِي الشَّرْعِ لَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْرَازِ، وَالْعَادَةُ فِي قَبْضِ الصُّبْرَةِ النَّقْلُ (2969) فَصْلٌ: وَلَا يَحِلُّ لِبَائِعِ الصُّبْرَةِ أَنْ يَغُشَّهَا؛ بِأَنْ يَجْعَلَهَا عَلَى دِكَّةٍ، أَوْ رَبْوَةٍ، أَوْ حَجَرٍ يُنْقِصُهَا، أَوْ يَجْعَلَ الرَّدِيءَ فِي بَاطِنِهَا أَوْ الْمَبْلُولَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا. فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ ثُمَّ قَالَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الْمُشْتَرِي عَلِمَ بِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَأَخْذِ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ. وَإِنْ بَانَ تَحْتَهَا حُفْرَةٌ أَوْ بَانَ بَاطِنُهَا خَيْرًا مِنْ ظَاهِرِهَا، فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَهُ. وَإِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ ذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ، فَلَهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَوَزَنَهَا بِصَنْجَةٍ ثُمَّ وَجَدَ الصَّنْجَةَ زَائِدَةً، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بِمِكْيَالٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ زَائِدًا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بَاعَ مَا يَعْلَمُ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْفَسْخُ بِالِاحْتِمَالِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ عَرَفَ مَبْلَغ شَيْء لَمْ يَبِعْهُ صَبِرَة] (2970) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ عَرَفَ مَبْلَغَ شَيْءٍ، لَمْ يَبِعْهُ صُبْرَةً) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي مَوَاضِعَ. وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ. قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّ بَكْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعَامَ جُزَافًا، وَقَدْ عَرَفَ كَيْلَهُ، وَقُلْت لَهُ: إنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إذَا بَاعَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَرُدَّ رَدَّهُ. قَالَ: هَذَا تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ، وَلَكِنْ لَا يُعْجِبُنِي إذَا عَرَفَ كَيْلَهُ، إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ، فَإِنْ بَاعَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسَاءَ. وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، بِذَلِكَ بَأْسًا؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْبَيْعُ مَعَ جَهْلِهِمَا بِمِقْدَارِهِ، فَمَعَ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْلَى. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ عَرَفَ مَبْلَغَ شَيْءٍ فَلَا يَبِعْهُ جُزَافًا حَتَّى يُبَيِّنَهُ» . قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ مُجَازَفَةً، وَهُوَ يَعْلَمُ كَيْلَهُ.» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَأَيْضًا الْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ مَالِكٌ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَعْدِلُ إلَى الْبَيْعِ جُزَافًا مَعَ عِلْمِهِ بِقَدْرِ الْكَيْلِ، إلَّا لِلتَّغْرِيرِ بِالْمُشْتَرِي وَالْغِشِّ لَهُ، وَلِذَلِكَ أَثَرٌ فِي عَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . فَصَارَ كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْعَيْبَ. فَإِنْ بَاعَ مَا عَلِمَ كَيْلَهُ صُبْرَةً، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لَازِمٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ لَهُمَا، وَلَا تَغْرِيرَ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَا كَيْلَهُ أَوْ جَهِلَاهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ أَحْمَدُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ؛ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَلِأَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ أَبْعَدُ مِنْ التَّغْرِيرِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً يَعْلَمُ تَصْرِيَتَهَا. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَالْإِمْضَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ غِشٌّ، وَغَدْرٌ مِنْ الْبَائِعِ، فَصَحَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 الْعَقْدُ مَعَهُ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. [فَصْلٌ أَخْبَرَهُ الْبَائِع بِكَيْلِهِ ثُمَّ بَاعَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ] (2971) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِكَيْلِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ. فَإِنْ قَبَضَهُ بِاكْتِيَالِهِ، تَمَّ الْبَيْعُ وَالْقَبْضُ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ كَيْلٍ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِهِ جُزَافًا. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، كَالَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَدْ اسْتَوْفَاهُ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا رَدَّ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا أَخَذَ النَّقْصَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ فِي قَدْرِهِ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ، وَبَقَاءُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِي الْجَمِيعِ قَبْلَ كَيْلِهِ؛ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ عَلَقَةً، فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ، بِغَيْرِ كَيْلٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ كَيْلِهِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ قَفِيزًا، فَتَصَرَّفَ فِي ذَلِكَ، أَوْ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، بِالْكَيْلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كِيلَ لَهُ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْجَمِيعِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْبَعْضِ، كَمَا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَإِنْ قَبَضَهُ بِالْوَزْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ جُزَافًا. فَأَمَّا إنْ أَعْلَمَهُ بِكَيْلِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهُ مُجَازَفَةً، عَلَى أَنَّهُ لَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ كَانَ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الْحَكَمِ، قَالَ: «قَدِمَ طَعَامٌ لِعُثْمَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا إلَى عُثْمَانَ، نُعِينُهُ عَلَى طَعَامِهِ. فَقَامَ إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ عُثْمَانُ: فِي هَذِهِ الْغِرَارَةِ كَذَا وَكَذَا، وَابْتَعْتهَا بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَمَّيْت الْكَيْلَ فَكِلْ» . قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ أَنَّ فِي كُلِّ قَارُورَةٍ مَنًّا، فَأَخَذَ بِذَلِكَ، وَلَا يَكْتَالُهُ، فَلَا يُعْجِبْنِي؛ لِقَوْلِهِ لِعُثْمَانَ: " إذَا سَمَّيْت الْكَيْلَ فَكِلْ " قِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إذَا فُتِحَ فَسَدَ. قَالَ: فَلِمَ لَا تَفْتَحُونَ وَاحِدًا وَتَزِنُونَ الْبَاقِيَ؟ (2972) فَصْلٌ: وَلَوْ كَالَ طَعَامًا، وَآخَرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَهَلْ لِمَنْ شَاهَدَ الْكَيْلَ شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ كَيْلٍ ثَانٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِمَا. إحْدَاهُمَا، لَا يَحْتَاجُ إلَى كَيْلٍ؛ لِأَنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كِيلَ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ، يَحْتَاجُ إلَى كَيْلٍ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ، فَاحْتَاجَ إلَى كَيْلٍ؛ لِلْأَخْبَارِ، وَالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 فَاكْتَالَاهُ، ثُمَّ ابْتَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّةَ شَرِيكِهِ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إذَا اشْتَرَيَا غَلَّةً أَوْ نَحْوَهَا، وَحَضَرَاهَا جَمِيعًا، وَعَرَفَا كَيْلَهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ: بِعْنِي نَصِيبَك، وَأُرْبِحُك، فَهُوَ جَائِزٌ. وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ هَذَا الْمُشْتَرِي الْكَيْلَ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِكَيْلٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا بُدَّ مِنْ كَيْلِهِ. وَوَجْهُهَا مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى الْكَيْلِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَدْرِهِ إلَى قَوْلِ الْقَابِضِ، إذَا كَانَ النَّقْصُ يَسِيرًا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْكَيْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْكَيْلِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّا نَتَحَقَّقُ كَذِبَهُ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكِلْ بِحَضْرَتِهِ. وَالظَّاهِرُ. أَنَّهُ أَرَادَ بِالْكَيْلِ حَقِيقَتَهُ دُونَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَفَائِدَةُ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ، مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ، إلَّا مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَإِنْ بَاعَهُ لِلثَّانِي فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى أَنَّهُ صُبْرَةٌ، جَازَ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى كَيْلٍ ثَانٍ، وَالْقَبْضُ فِيهِ بِنَقْلِهِ، كَسَائِرِ الصُّبَرِ. (2973) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ يَشْتَرِي الْجَوْزَ، فَيَعُدُّ فِي مِكْتَلٍ أَلْفَ جَوْزَةٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْجَوْزَ كُلَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِعْيَارِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ أَعْكَامًا كَيْلًا، وَقَالَ لِلْبَائِعِ: كِلْ لِي عِكْمًا مِنْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا مَا بَقِيَ عَلَى هَذَا الْكَيْلِ. أَكْرَهُ هَذَا، حَتَّى يَكِيلَهَا كُلَّهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَكْرَهُونَ هَذَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الْعُكُومِ يَخْتَلِفُ، فَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ فَلَا يُعْلَمُ مَا فِي بَعْضِهَا بِكَيْلِ الْبَعْضِ، وَالْجَوْزُ يَخْتَلِفُ عَدَدُهُ، فَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْمِكْتَلَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ بِالْكَيْلِ، كَمَا لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْمَكِيلِ بِالْوَزْنِ، وَلَا الْمَوْزُونِ بِالْكَيْلِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى صَبِرَة عَلَى أَنَّ كُلّ مَكِيلَة مِنْهَا بِشَيْءِ مَعْلُومٍ] (2974) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَاذَا اشْتَرَى صُبْرَةً عَلَى أَنَّ كُلَّ مَكِيلَةٍ مِنْهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ جَازَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ. صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مِقْدَارَ ذَلِكَ حَالَ الْعَقْدِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، وَيَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ لِأَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَجْهُولَةٌ، فَلَمْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الْمُبْتَاعِ بِرَقْمِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ؛ لِإِشَارَتِهِ إلَى مَا يُعْرَفُ مَبْلَغُهُ بِجِهَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَهُوَ أَنْ تُكَالَ الصُّبْرَةُ، وَيُقَسَّطَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قُفْزَانِهَا، فَيَعْلَمُ مَبْلَغُهُ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَا رَأْسُ مَالِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مُرَابَحَةً، لِكُلِّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ، كَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ قَدْرَ مَا يُقَابِلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ، فَصَحَّ كَالْأَصْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 الْمَذْكُورِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ آجَرَ نَفْسَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَجَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّمْرِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَة قَفِيزًا أَوْ قَالَ عَشْرَة أَقْفِزَة وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمَا أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ] (2975) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ قَفِيزًا. أَوْ قَالَ: عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ. وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، صَحَّ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ، وَلَا مَوْصُوفٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَبِيعَ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مِنْ جُمْلَةٍ يَصِحُّ بَيْعُهَا أَشْبَهَ إذَا بَاعَ نِصْفَهَا، وَمَا ذَكَرَهُ قِيَاسٌ، وَهُوَ لَا يَحْتَجُّ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ إذَا شَاهَدَ الْجُمْلَةَ، فَقَدْ شَاهَدَ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهَا. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَة كُلّ قَفِيز بِدِرْهَمٍ] (2976) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، و " كُلَّ " لِلْعَدَدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَدَدُ مِنْهَا مَجْهُولًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، كَمَا يَصِحُّ فِي الْإِجَارَةِ، كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةِ، وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ الْأُخْرَى بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. عَلَى أَنْ أَزِيدَك قَفِيزًا، أَوْ أَنْقُصَكَ قَفِيزًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَزِيدُهُ أَمْ يَنْقُصُهُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أَزِيدَك قَفِيزًا. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَفِيزَ مَجْهُولٌ. وَلَوْ قَالَ: أَزِيدُك قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الْأُخْرَى. أَوْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ يُعْلَمُ بِهَا، صَحَّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ، بِعْتُك هَذِهِ، وَقَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ أَنْقُصَكَ قَفِيزًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ، بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ، إلَّا قَفِيزًا، كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، وَشَيْءٍ مَجْهُولٍ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَك قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ لِأُخْرَى. لَمْ يَصِحَّ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَفِيزًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لَا يَعْرِفَانِهِ؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمَا بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنْ الْقُفْزَانِ. وَلَوْ قَصَدَ أَنِّي أَحُطُّ ثَمَنَ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ لَا أَحْتَسِبُ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَإِنْ كَانَتْ الصُّبْرَةُ مَعْلُومًا قَدْرُ قُفْزَانِهَا لَهُمَا، أَوْ قَالَ: هَذِهِ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ بِعْتُكهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَك قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ. أَوْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ يُعْلَمُ بِهَا صَحَّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِعْتُك كُلَّ قَفِيرٍ وَعُشْرِ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ الْقَفِيزُ، أَوْ جَعَلَهُ هِبَةً، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ أَرَادَ أَنِّي لَا أَحْسُبُ عَلَيْك بِثَمَنِ قَفِيزٍ مِنْهَا، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا عَلِمَا جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ عَلِمَا مَا يَنْقُصُ مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أَنْقُصَك قَفِيزًا. صَحَّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ، بِعْتُك تِسْعَةَ أَقْفِزَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَكُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَتُسْعٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ يُجِيزُ الشَّرْطَ الْوَاحِدَ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى الْجَهَالَةِ. [فَصْلٌ بَيْع مَا لَا تَتَسَاوَيْ أَجْزَاؤُهُ] (2977) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ مَا لَا تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ، كَالْأَرْضِ وَالثَّوْبِ وَالْقَطِيعِ مِنْ الْغَنَمِ، فَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ مَسَائِلِ الصُّبَرِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ، أَوْ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ هَذَا الْقَطِيعَ، بِأَلْفٍ. صَحَّ إذَا كَانَ مُشَاهَدًا. أَوْ قَالَ: بِعْتُك نِصْفَهُ، أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ رُبْعَهُ، بِكَذَا. صَحَّ أَيْضًا. فَإِنْ قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 بِعْتُكَهُ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ. صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا قَدْرَ ذَلِكَ حَالَ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصُّبْرَةِ، وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك مِنْ الثَّوْبِ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ مِنْ الْقَطِيعِ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَإِنْ بَاعَهُ شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ شِيَاهَ الْقَطِيعِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةِ الْقِيَمِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَيَّ التَّنَازُعِ، بِخِلَافِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا مُتَسَاوِيَةٌ. وَإِنْ بَاعَهُ ذِرَاعًا مِنْ الدَّارِ، أَوْ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْهَا، يُرِيدَانِ بِذَلِكَ قَدْرًا غَيْرَ مُشَاعٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَا مُشَاعًا مِنْهَا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ عَدَدَ ذُرْعَانِهَا صَحَّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا، وَمَوْضِعُهُ مَجْهُولٌ. وَلَنَا أَنَّ عَشَرَةً مِنْ مِائَةٍ عُشْرُهَا، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك عُشْرَهَا. صَحَّ. فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْتُك عَشْرَةً مِنْ مِائَةٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسْلَمٍ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ، كَمَا أَنَّ الْمِكْيَالَ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ، فَإِذَا أَضَافَهُ إلَى جُمْلَةٍ كَانَ ذَلِكَ جُزْءًا مِنْهَا. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا أَرَادَا قَدْرًا مِنْهَا غَيْرَ مُشَاعٍ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ ذُرْعَانَ الدَّارِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَأَجْزَاءَ الْأَرْضِ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً وَلَا مُشَاعَةً. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك مِنْ الدَّارِ مِنْ هَاهُنَا إلَى هَاهُنَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. وَإِنْ قَالَ: عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، ابْتِدَاؤُهَا مِنْ هَاهُنَا إلَى هَاهُنَا إلَى حَيْثُ يَنْتَهِي الذِّرَاعُ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الذَّرْعَ يَخْتَلِفُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ لَا يُعْلَمُ حَالَ الْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك نَصِيبِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ. وَلَا يُعْلَمُ قَدْرُ نَصِيبِهِ مِنْهَا، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا مِنْهَا أَوْ سَهْمًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَإِنْ عَلِمَا ذَلِكَ صَحَّ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك نِصْفَ دَارِي مِمَّا يَلِي دَارَكَ. لَمْ يَصِحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي إلَى أَيْنَ يَنْتَهِي، فَيَكُونُ مَجْهُولًا. [فَصْلٌ بَاعَهُ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ] (2978) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَاعَهُ عَبْدًا مِنْ عِيدَيْنِ أَوْ مِنْ ثَلَاثَةٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ. صَحَّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ الْغَرَرُ. وَلَنَا أَنَّ مَا تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ وَقِيمَتُهُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ بَعْضِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مُشَاعًا، كَالْأَرْبَعَةِ، وَمَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ، لَا يَصِحُّ بِشَرْطِهِ، كَالْأَرْبَعَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا، فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ يُمْكِنُ قَبْلَ الْعَقْدِ، ثُمَّ مَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِالْأَرْبَعَةِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك مِنْ هَذَا الثَّوْب مِنْ هَذَا الْمَوْضِع إلَى هَذَا الْمَوْضِع] (2979) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الثَّوْبِ حُكْمُ الْأَرْضِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ: بِعْتُك مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ. صَحَّ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقُصُهُ الْقَطْعُ، قَطَعَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقُصُهُ الْقَطْعُ، وَشَرْطَ الْبَائِعُ أَنْ يَقْطَعَهُ لَهُ، أَوْ رَضِيَ بِقَطْعِهِ هُوَ وَالْمُشْتَرِي، جَازَ. وَإِنْ تَشَاحَّا فِي ذَلِكَ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ، كَمَا يَشْتَرِكَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ. لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِضَرَرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْ الْحَيَوَانِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّسْلِيمَ مُمْكِنٌ، وَلُحُوقُ الضَّرَرِ لَا يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إذَا رَضِيَهُ الْبَائِعُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ نِصْفًا مِنْ الْحَيَوَانِ مُشَاعًا، وَفَارَقَ نِصْفَ الْحَيَوَانِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ مُفْرَدًا، إلَّا بِإِتْلَافِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ الْمَالِيَّةِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْأَرْض أَوْ هَذَا الثَّوْب عَلَى أَنَّهُ عَشْرَة أَذْرُع فَبَانَ أُحُد عَشْر] (2980) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ. فَبَانَ أَحَدَ عَشَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا بَاعَ عَشَرَةً، وَلَا الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَى الْكُلَّ، وَعَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الشَّرِكَةِ أَيْضًا. وَالثَّانِيَةُ، الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، كَالْعَيْبِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا، وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ زَائِدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْأَخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقِسْطِ الزَّائِدِ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْأَخْذِ أَخَذَ الْعَشَرَةَ، وَالْبَائِعُ شَرِيكٌ لَهُ بِالذِّرَاعِ. وَهَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْمُشَارَكَةِ. وَالثَّانِي، لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ بِهَذَا الثَّمَنِ. فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ مَعَ بَقَاءِ جُزْءٍ لَهُ فِيهِ كَانَ زِيَادَةً، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَسْخَ، وَلِأَنَّ هَذَا الضَّرَرَ حَصَلَ بِتَغْرِيرِهِ وَإِخْبَارِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَلَّطَ بِهِ عَلَى فَسْخِ عَقْدِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ بَذَلَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّرَاضِي مِنْهُمَا، فَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ، فَإِنْ بَانَ تِسْعَةً، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِيَةُ، الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْسَاكِ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ إمْسَاكُهُ إلَّا بِكُلِّ الثَّمَنِ، أَوْ الْفَسْخِ. بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَعِيبَ لَيْسَ لِمُشْتَرِيهِ إلَّا الْفَسْخُ أَوْ إمْسَاكُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا فِي الْقَدْرِ، فَكَانَ لَهُ إمْسَاكُهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، كَالصُّبْرَةِ إذَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ فَبَانَتْ خَمْسِينَ، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعِيبَ لَهُ إمْسَاكُهُ، وَأَخْذُ أَرْشِهِ، فَإِنْ أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنْ الثَّمَنِ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ الرِّضَا بِذَلِكَ وَبَيْنَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِبَيْعِهَا بِهَذَا الثَّمَنِ كُلِّهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 إلَيْهِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ. فَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ الَّذِي رَضِيَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا فَرَضِيَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. (2981) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، فَبَانَتْ أَحَدَ عَشَرِ، رَدَّ الزَّائِدَ، وَلَا خِيَارَ لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ بَانَتْ تِسْعَةً أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَتَى سَمَّى الْكَيْلَ فِي الصُّبْرَةِ لَا يَكُونُ قَبْضُهَا إلَّا بِالْكَيْلِ، فَإِذَا كَالَهَا فَوَجَدَهَا قَدْرَ حَقِّهِ، أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً رَدَّ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ إذَا وَجَدَهَا نَاقِصَةً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ الْخِيَارُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا، فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ، كَغَيْرِ الصُّبْرَةِ، وَكَنُقْصَانِ الصِّفَةِ. الثَّانِي، لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَاقِي مِنْ الْكَيْلِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ بَاعَ الْأَدْهَان فِي ظَرْفهَا جُمْلَة وَقَدْ شَاهِدهَا] (2982) فَصْلٌ: إذَا بَاعَ الْأَدْهَانَ فِي ظَرْفِهَا جُمْلَةً، وَقَدْ شَاهَدَهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا لَا تَخْتَلِفُ، فَهُوَ كَالصُّبْرَةِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعَسَلِ، وَالدِّبْسِ، وَالْخَلِّ، وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ. وَإِنْ بَاعَهُ كُلَّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ بَاعَهُ رِطْلًا مِنْهَا، أَوْ أَرْطَالًا مَعْلُومَةً يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ بَاعَةُ جُزْءًا مُشَاعًا، أَوْ أَجْزَاءً، أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ مَعَ الظَّرْفِ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، جَازَ. وَإِنْ بَاعَهُ السَّمْنَ وَالظَّرْفَ، كُلَّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ، جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ الظَّرْفَ، كُلَّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ، وَمَا فِيهِ كَذَلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى ظَرْفَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا سَمْنٌ فِي الْآخَرِ زَيْتٌ، كُلَّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الظَّرْفِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، فَيَدْخُلُ عَلَى غَرَرٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَفَرِّدًا يَصِحُّ لِذَلِكَ. فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَهُمَا، كَالْأَرْضِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْزَاءِ، وَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا إنْ بَاعَهُ كُلَّ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ يَزِنَ الظَّرْفَ، فَيَحْتَسِبَ عَلَيْهِ بِوَزْنِهِ، وَلَا يَكُونُ مَبِيعًا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ زِنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الدُّهْنَ عَشَرَةً وَالظَّرْفَ رِطْلًا، كَانَ مَعْنَاهُ: بِعْتُك عَشْرَةَ أَرْطَالٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ زِنَةَ الظَّرْفِ وَالدُّهْنِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ. وَسَوَاءٌ جَهِلَا زِنَتَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ زِنَةَ أَحَدِهِمَا؛ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي مِنْ وَجَدَ فِي ظَرْف السَّمْن رَبًّا] (2983) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ فِي ظَرْفِ السَّمْنِ رَبًّا، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إنْ كَانَ سَمَّانًا، وَعِنْدَهُ سَمْنٌ أَعْطَاهُ بِوَزْنِهِ سَمْنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ سَمْنٌ، أَعْطَاهُ بِقَدْرِ الرَّبِّ مِنْ الثَّمَنِ. وَأَلْزَمَهُ شُرَيْحٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 بِقَدْرِ الرَّبِّ سَمْنًا بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي وَجَدَهُ، لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُعْطِيَهُ بِقَدْرِ الرَّبِّ سَمْنًا. وَلَنَا، أَنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ الْمَكِيلَ نَاقِصًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى صُبْرَةً، فَوَجَدَ تَحْتَهَا رَبْوَةً، أَوْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، فَبَانَتْ تِسْعَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ الْمَوْجُودَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، كَذَا هَاهُنَا. فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّمْنِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ أَنْ يُعْطِيَهُ سَمْنًا، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى إعْطَائِهِ سَمْنًا، جَازَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ] بَابُ الْمُصَرَّاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. التَّصْرِيَةُ: جَمْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. يُقَالُ: صَرَّى الشَّاةَ، وَصَرَى اللَّبَنَ فِي ضَرْعِ الشَّاةِ، بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ. وَيُقَالُ: صَرَى الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَصَرَى الطَّعَامَ فِي فِيهِ، وَصَرَى الْمَاءَ فِي ظَهْرِهِ. إذَا تَرَكَ الْجِمَاعَ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَأَتْ غُلَامًا قَدْ صَرَى فِي فِقْرَتِهْ ... مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ شِرَّتِهْ وَمَاءُ صَرًى، وَصَرٍّ، إذَا طَالَ اسْتِنْقَاعُهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ، يُقَالُ: صَرَّيْتُ الْمَاءَ. وَيُقَالُ لِلْمُصَرَّاةِ: الْمُحَفَّلَةُ. وَهُوَ مِنْ الْجَمْعِ أَيْضًا، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مَجَامِعُ النَّاسِ مَحَافِلُ وَالتَّصْرِيَةُ حَرَامٌ إذَا أَرَادَ بِذَلِكَ التَّدْلِيسَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصِرُّوا» . وَقَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي سُنَنِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «بَيْعُ الْمُحَفَّلَاتِ خَلَابَةٌ، وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ.» رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ،: «وَلَا يَحِلُّ خَلَابَةٌ لِمُسْلِمٍ.» (2984) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَهَا أَوْ يَرُدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ) . الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ (2985) ، الْأَوَّلُ، أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، لَمْ يَعْلَمْ تَصْرِيَتَهَا، ثُمَّ عَلِمَ. فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إلَى أَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً، فَوَجَدَهَا أَقَلَّ لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا، وَالتَّدْلِيسُ بِمَا لَيْسَ بِعَيْبِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، كَمَا لَوْ عَلَفَهَا فَانْتَفَخَ بَطْنُهَا، فَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حَامِلٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا تَدْلِيسٌ بِمَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلَافِهِ، فَوَجَبَ بِهِ الرَّدُّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ شَمْطَاءَ، فَسَوَّدَ شَعْرَهَا. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِتَسْوِيدِ الشَّعْرِ، فَإِنَّ بَيَاضَهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ كَالْكِبَرِ، وَإِذَا دَلَّسَهُ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، وَأَمَّا انْتِفَاخُ الْبَطْنِ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى الْحَمْلِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ يُخَالِفُ النَّصَّ، وَاتِّبَاعُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فِي وَجْهٍ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ انْقِطَاعَ اللَّبَنِ لَمْ يُوجَدْ، وَقَدْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، فَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ رِضًى، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عِنِّينًا، ثُمَّ طَلَبَتْ الْفَسْخَ. وَلَنَا، أَنَّهُ اشْتَرَاهَا عَالِمًا بِالتَّدْلِيسِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَنْ سَوَّدَ شَعْرَهَا عَالِمًا بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّدُّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وَبَقَاءُ اللَّبَنِ عَلَى حَالِهِ نَادِرٌ بَعِيدٌ، لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ. وَلَوْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَصَارَ لَبَنُهَا عَادَةً، وَاسْتَمَرَّ عَلَى كَثْرَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَهُ الرَّدُّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ التَّدْلِيسَ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، فَأَثْبَتِ الرَّدَّ، كَمَا لَوْ نَقَصَ اللَّبَنُ. وَلَنَا، أَنَّ الرَّدَّ جُعِلَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِنَقْصِ اللَّبَنِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَامْتَنَعَ الرَّدُّ، وَلِأَنَّ الْعَيْبَ لَمْ يُوجَدْ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ صِفَةُ الْمَبِيعِ عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَثْبُتْ التَّدْلِيسُ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ ضَرَرٌ. (2986) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا رَدَّ، لَزِمَهُ رَدُّ، بَدَلِ اللَّبَنِ. وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مِنْ جَوَّزَ رَدَّهَا، وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 الشَّرْعِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ، وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَذَهَبَ مَالِكٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ صَاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: " وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ". وَفِي بَعْضِهَا: " وَرَدَّ مَعَهَا مِثْلَيْ أَوْ مِيلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا " فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَجَعَلَ تَنْصِيصَهُ عَلَى التَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ فِي الْمَدِينَةِ، وَنَصَّ عَلَى الْقَمْحِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدٍ آخَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ قِيمَةَ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مُتْلَفٍ، فَكَانَ مُقَدَّرًا بِقِيمَتِهِ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَحُكِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَرُدُّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَلَنَا، الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ فَقَالَ: «إنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ، رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَرَدَّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «طَعَامًا لَا سَمْرَاءَ» يَعْنِي لَا يَرُدُّ قَمْحًا. وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ هَاهُنَا التَّمْرُ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ، مُقَيَّدٌ فِي الْآخَرِ، فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُطْلَقُ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَطْرَحُ الظَّاهِرِ بِالِاتِّفَاقِ؛ إذْ لَا قَائِلَ بِإِيجَابِ مِثْلِ لَبَنِهَا أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا، ثُمَّ قَدْ شَكَّ فِيهِ الرَّاوِي، وَخَالَفَتْهُ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَدِّرَ الشَّرْعُ، بَدَلَ هَذَا الْمُتْلَفِ، قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، وَدَفْعًا لِلتَّنَازُعِ، كَمَا قَدَّرَ بَدَلَ الْآدَمِيِّ وَدِيَةَ أَطْرَافِهِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ كَانَ قِيمَةَ اللَّبَنِ، فَلِذَلِكَ أَوْجَبَهُ، لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْأَثْمَانُ لَا التَّمْرُ. الثَّانِي، أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْمُصَرَّاةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ جَمِيعًا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، مَعَ اخْتِلَافِ لَبَنِهَا. الثَّالِثُ، أَنَّ لَفْظَهُ لِلْعُمُومِ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مُصَرَّاةٍ، وَلَا يَتَّفِقُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ لَبَنِ كُلِّ مُصَرَّاةٍ صَاعًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَيَتَعَيَّنُ إيجَابُ الصَّاعِ؛ لِأَنَّهُ الْقِيمَةُ الَّتِي عَيَّنَ الشَّارِعُ إيجَابَهَا؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الصَّاعُ مِنْ التَّمْرِ جَيِّدًا، غَيْرَ مَعِيبٍ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِإِطْلَاقِ الشَّارِعِ، فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، كَالصَّاعِ الْوَاجِبِ فِي الْفِطْرَةِ. وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَجْوَدِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُنْ مِنْ أَدْنَيْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَيِّدِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ التَّمْرِ مِثْلَ قِيمَةِ الشَّاةِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَيْسَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ بَدَلُ اللَّبَنِ، قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِهِ، كَمَا قَدَّرَ فِي يَدَيْ الْعَبْدِ قِيمَتَهُ، وَفِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ قِيمَتَهُ مَرَّتَيْنِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وَإِنْ عَدِمَ التَّمْرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ عَيْنٍ أَتْلَفَهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا. (2987) فَصْلٌ: وَإِنْ عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ قَبْلَ حَلْبِهَا، مِثْلُ أَنْ أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ، أَوْ شَهِدَ بِهِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَلَهُ رَدُّهَا، وَلَا شَيْءَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ التَّمْرَ إنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا لِلَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا، فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» . وَلَمْ يَأْخُذْ لَهَا لَبَنًا هَاهُنَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ شَيْءٍ مَعَهَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا لَوْ احْتَلَبَهَا وَتَرَك اللَّبَنَ بِحَالِهِ ثُمَّ رَدَّهَا، رَدَّ لَبَنهَا، وَلَا يُلْزِمُهُ أَيْضًا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فَرَدَّهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ. فَإِنْ أَبَى الْبَائِعُ قَبُولَهُ، وَطَلَبَ التَّمْرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إذَا كَانَ بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ بِالْحَلْبِ، وَكَوْنُهُ فِي الضَّرْعِ أَحْفَظَ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رَدِّ الْمُبْدَلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْبَدَلُ، كَسَائِرِ الْمُبْدَلَاتِ مَعَ أَبْدَالِهَا. وَالْحَدِيثُ الْمُرَادُ بِهِ رَدُّ التَّمْرِ حَالَةَ عَدَمِ اللَّبَنِ؛ لِقَوْلِهِ: «فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» . وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُمْ إنَّ الضَّرْعَ أَحْفَظُ لَهُ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ إبْقَاؤُهُ فِي الضَّرْعِ عَلَى الدَّوَامِ، وَبَقَاؤُهُ يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ. وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ قَدْ تَغَيَّرَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ بِالْحُمُوضَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِإِسْلَامِ الْمَبِيعِ، وَبِتَغْرِيرِ الْبَائِعِ، وَتَسْلِيطِهِ عَلَى حَلْبِهِ، فَلَمْ يَمْنَعُ الرَّدَّ، كَلَبَنِ غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ. [فَصْلٌ إذَا رَضِيَ بِالتَّصْرِيَةِ فَأَمْسَكَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا آخَرَ] (2988) فَصْلٌ: وَإِذَا رَضِيَ بِالتَّصْرِيَةِ فَأَمْسَكَهَا، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا آخَرَ، رَدَّهَا بِهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِعَيْبٍ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِعَيْبٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَعْرَجَ، فَرَضِيَ بِعَيْبِهِ، ثُمَّ أَصَابَ بِهِ بَرَصًا. وَإِذَا رَدَّ لَزِمَهُ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ عِوَضَ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جُعِلَ عِوَضًا لَهُ فِيمَا إذَا رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ، فَيَكُونُ عِوَضًا لَهُ مُطْلَقًا. (2989) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً غَيْرَ مُصَرَّاةٍ فَاحْتَلَبَهَا، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا، فَلَهُ الرَّدُّ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنْ اللَّبَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ فِيهِ لَبَنٌ حَالَ الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَخْلُو الضَّرْعُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْعَادَةِ، فَهُوَ تَابِعٌ لِمَا حَدَثَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَكَانَ قَائِمًا بِحَالِهِ، فَهَلْ لَهُ رَدُّهُ؟ يُبْنَى عَلَى رَدِّ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ، وَقَدْ سَبَقَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، كَانَ بَقَاؤُهُ كَتَلَفِهِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ؟ يَخْرُجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَتَلِفَ مِنْهُ جُزْءٌ أَوْ تَعَيَّبَ. وَالْأَشْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَالْأَصْلُ ضَمَانُ مَا كَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ بِمِثْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ خُولِفَ فِي لَبَنِ التَّصْرِيَةِ بِالنَّصِّ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فِي هَذَا الْفَصْلِ، نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ مَتِّي عِلْم التَّصْرِيَة ثَبَتَ لَهُ الْخِيَار فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة إلَى تَمَامهَا] (2990) الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْخِيَارِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُدَّتِهِ. فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ قَبْلِ مُضِيِّهَا، وَلَا إمْسَاكُهَا بَعْدَهَا، فَإِنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالُوا: فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ قَدَّرَهَا الشَّارِعُ لِمَعْرِفَةِ التَّصْرِيَةِ فَإِنَّهَا لَا تُعْرَفُ قَبْلَ مُضِيِّهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَبَنُهَا لَبَنُ التَّصْرِيَةِ، وَفِي الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا نَقَصَ؛ لِتَغَيُّرِ الْمَكَانِ وَاخْتِلَافِ الْعَلَفِ، وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ، فَإِذَا مَضَتْ الثَّلَاثَةُ اسْتَبَانَتْ التَّصْرِيَةُ، وَثَبَتَ الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَثْبُتُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي مَتَى ثَبَتَتْ التَّصْرِيَةُ، جَازَ لَهُ الرَّدُّ، قَبْلَ الثَّلَاثَةِ وَبَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَمَلَكَ الرَّدَّ بِهِ إذَا تَبَيَّنَهُ، كَسَائِرِ التَّدْلِيسِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَدَنِيِّينَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فَائِدَةُ التَّقْدِيرِ فِي الْخَبَرِ بِالثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ إلَّا بِهَا، فَاعْتَبَرَهَا لِحُصُولِ الْعِلْمِ ظَاهِرًا، فَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا فَالِاعْتِبَارُ بِهِ دُونَهَا، كَمَا فِي سَائِرِ التَّدْلِيسِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ التَّصْرِيَةَ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إلَى تَمَامِهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَصًّا؛ لِظَاهِرِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَقِيبَهَا. وَقَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فِي الْعُيُوبِ، وَسَائِرِ التَّدْلِيسِ. [مَسْأَلَةٌ لَا فَرَّقَ فِي التَّصْرِيَة بَيْنَ الشَّاة وَالنَّاقَة وَالْبَقَرَة] (2991) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرَى نَاقَةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً) جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّصْرِيَةِ بَيْنَ الشَّاةِ وَالنَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ، وَشَذَّ دَاوُد، فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 الْخِيَارُ بِتَصْرِيَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ: «لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا بِخِلَافِهِمَا، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِيهِمَا بِالنَّصِّ، وَالْقِيَاسُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ: «مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً» . وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّهُ تَصْرِيَةٌ بِلَبَنٍ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، أَشْبَهَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، وَالْخَبَرُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَصْرِيَةِ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا أَغْزَرُ وَأَكْثَرُ نَفْعًا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ. مَمْنُوعٌ. ثُمَّ هُوَ هَاهُنَا ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى مصراتين أَوْ أَكْثَر فِي عَقَدَ وَاحِد فَرَدَّهُنَّ] (2992) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى مُصَرَّاتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَرَدَّهُنَّ، رَدَّ مَعَ كُلِّ مُصَرَّاةٍ صَاعًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْجَمِيعِ صَاعٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» . وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ: «مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً ومَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً» . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ. وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الشَّيْءِ فِي صَفْقَتَيْنِ، وَجَبَ إذَا كَانَ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَرْشِ الْعَيْبِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى الْوَاحِدَةِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى مُصَرَّاة مِنْ غَيْر بَهِيمَة الْأَنْعَام] (2993) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً مِنْ غَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَالْأَمَةِ وَالْأَتَانِ وَالْفَرَسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً ومَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً» . وَلِأَنَّهُ تَصْرِيَةٌ بِمَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهِ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَتَصْرِيَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ يُرَادُ لِلرَّضَاعِ، وَيُرَغِّبُ فِيهَا ظِئْرًا وَيُحَسِّنُ ثَدْيَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ كَثْرَةَ لَبَنِهَا، فَبَانَ بِخِلَافِهِ، مَلَكَ الْفَسْخَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَمَا ثَبَتَ بِاشْتِرَاطِهِ، وَلَا مَلَكَ الْفَسْخَ بِعَدَمِهِ. وَلِأَنَّ الْأَتَانَ وَالْفَرَسَ يُرَادَانِ لِوَلَدِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُقْصَدُ قَصْدَ لَبَنِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ لَبَنِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَكْثَرُ، وَاللَّفْظُ الْعَامُ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَمَرَ فِي رَدِّهَا بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَلَا يَجِبُ فِي لَبَنِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَامًّا وَخَاصًّا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُحْمَلُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَامِّ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْخَاصُّ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، إذَا رَدَّهَا لَمْ يَلْزَمْ بَدَلُ لَبَنِهَا، وَلَا يَرُدُّ مَعَهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَا يُبَاعُ عَادَةً، وَلَا يُعَاوَضُ عَنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 [فَصْلٌ التَّدْلِيس فِي الْبَيْع] (2994) فَصْلٌ: وَكُلُّ تَدْلِيسٍ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ لِأَجْلِهِ، مِثْلُ أَنْ يُسَوِّدَ شَعْرَ الْجَارِيَةِ، أَوْ يُجَعِّدَهُ، أَوْ يُحَمِّرَ وَجْهَهَا، أَوْ يُضْمِرَ الْمَاءَ عَلَى الرَّحَا، وَيُرْسِلَهُ عِنْدَ عَرْضِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، يُثْبِتُ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ بِمَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلَافِهِ فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالتَّصْرِيَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَسْوِيدِ الشَّعْرِ. وَقَالَ فِي تَجْعِيدِهِ: لَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ بِمَا لَيْسَ بِعَيْبٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَوَّدَ أَنَامِلَ الْعَبْدِ، لِيَظُنَّهُ كَاتِبًا أَوْ حَدَّادًا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَدْلِيسٌ بِمَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ، أَشْبَهَ تَسْوِيدَ الشَّعْرِ، وَأَمَّا تَسْوِيدُ الْأَنَامِلِ، فَلَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِكَوْنِهِ كَاتِبًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَلَغَ بِالدَّوَاةِ، أَوْ كَانَ غُلَامًا لِكَاتِبٍ يُصْلِحُ لَهُ الدَّوَاةَ، فَظَنُّهُ كَاتِبًا، طَمَعٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخًا، فَإِنْ حَصَلَ هَذَا مِنْ غَيْرِ تَدْلِيسٍ، مِثْلُ أَنْ يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ احْمَرَّ وَجْهُ الْجَارِيَةِ لِخَجَلٍ أَوْ تَعَبٍ، أَوْ تَسَوَّدَ شَعْرُهَا بِشَيْءِ وَقَعَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ الرَّدُّ أَيْضًا؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِالْمُشْتَرِي، وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ، سَوَاءٌ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، فَأَشْبَهَ الْعَيْبَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِحُمْرَةِ وَجْهِهَا بِخَجَلٍ أَوْ تَعَبٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَيَتَعَيَّنُ ظَنُّهُ مِنْ خِلْقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ طَمَعًا، فَأَشْبَهَ سَوَادَ أَنَامِلِ الْعَبْدِ. [فَصْلٌ عَلَف الشَّاة فَمَلَأ خَوَاصِرهَا وَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حَامِل] فَصْلٌ: فَإِنْ عَلَفَ الشَّاةَ فَمَلَأَ خَوَاصِرَهَا، وَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حَامِلٌ، أَوْ سَوَّدَ أَنَامِلَ الْعَبْدِ أَوْ ثَوْبَهُ، يُوهِمُ أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ حَدَّادٌ، أَوْ كَانَتْ الشَّاةُ عَظِيمَةَ الضَّرْعِ خِلْقَةً، فَظَنَّ أَنَّهَا كَثِيرَةَ اللَّبَنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَعَيَّنُ لِلْجِهَةِ الَّتِي ظَنَّهَا؛ فَإِنَّ امْتِلَاءَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لَأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَسَوَادَ أَنَامِلِ الْعَبْدِ قَدْ يَكُونُ لِوَلَغٍ بِالدَّوَاةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ شَارِعًا فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ غُلَامًا لِكَاتِبٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ مِنْ بَابِ الطَّمَعِ، فَلَا يُثْبِتُ خِيَارًا. [فَصْلٌ إذَا أَرَادَ إمْسَاك الْمُدَلِّس وَأَخَذَ الْأَرْش] (2996) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ إمْسَاكَ الْمُدَلِّسِ، وَأَخْذَ الْأَرْشِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِي الْمُصَرَّاةِ أَرْشًا، وَإِنَّمَا خَيَّرَهُ فِي شَيْئَيْنِ، قَالَ: «إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . وَلِأَنَّ الْمُدَلِّسَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ أَجْلِهِ عِوَضًا. وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الرَّدُّ بِتَلَفٍ، فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الرَّدُّ فِيمَا لَا أَرْشَ لَهُ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُدَلِّسِ. وَإِنْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالتَّدْلِيسِ، فَلَهُ رَدُّهُ وَرَدُّ أَرْشِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، وَأَخْذُ الثَّمَنِ. وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ عَلِمَ التَّدْلِيسَ، فَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ، بَطَلَ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ. وَإِنْ أَخَّرَ الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ تَأَخُّرِ رَدِّ الْمَعِيبِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى أَمَة ثَيِّبًا فَأَصَابَهَا أَوْ اسْتَغَلَّهَا ثُمَّ ظُهْر عَلَى عَيْب] (2997) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً ثَيِّبًا، فَأَصَابَهَا، أَوْ اسْتَغَلَّهَا، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ، كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كَامِلًا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، وَالْوَطْءَ كَالْخِدْمَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْعَيْبِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: (2998) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ مَنْ عَلِمَ بِسِلْعَتِهِ عَيْبًا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، حَتَّى يُبَيِّنَهُ لِلْمُشْتَرِي. فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا، وَإِنْ كَذِبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا إلَّا بَيَّنَهُ لَهُ» . وَقَالَ: «مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ، لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ، وَلَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْد أَهْل الْعِلْمِ، كَرِهُوا الْغِشَّ، وَقَالُوا: هُوَ حَرَامٌ. فَإِنْ بَاعَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ التَّصْرِيَةِ، وَصَحَّحَ الْبَيْعَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْمُصَرَّاةِ؟ فَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا. [فَصْلٌ عِلْم بِالْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ] (2999) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفَسْخِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ عَلِمَ الْعَيْبَ وَكَتَمَهُ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِثْبَاتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ بِالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْعَيْبِ. وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ مِنْ الْعَيْبِ؛ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ اشْتَرَى مَمْلُوكًا فَكَتَبَ: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً، لَا دَاءَ بِهِ، وَلَا غَائِلَةَ، بَيْعُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ» . فَثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِ اقْتَضَى السَّلَامَةَ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، وَالْعَيْبُ حَادِثٌ أَوْ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، فَمَتَى فَاتَتْ فَاتَ بَعْضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهُ بِالْعِوَضِ، وَكَانَ لَهُ الرَّدُّ، وَأَخْذُ الثَّمَنِ كَامِلًا. [فَصْلٌ خِيَار الرَّدّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي] (3000) فَصْلٌ: خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى عَلِمَ الْعَيْبَ، فَأَخَّرَ الرَّدَّ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ عَلَى التَّرَاخِي. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ عَلَى الْفَوْرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَمَتَى عَلِمَ الْعَيْبَ، فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إمْكَانِهِ، بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ، فَأُسْقِطَ خِيَارُهُ، كَالتَّصَرُّفِ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْقِصَاصِ، وَلَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْإِمْسَاكِ عَلَى الرِّضَا بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 (3001) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْمَبِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَالِهِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ، أَوْ يَكُونَ قَدْ زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ جُعِلَتْ لَهُ فَائِدَةٌ، فَذَلِكَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ، وَالْكِبَرِ، وَالتَّعَلُّمِ، وَالْحَمْلِ قَبْلَ الْوَضْعِ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا بِنَمَائِهَا؛ لِأَنَّهُ يُتْبَعُ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، وَهِيَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، كَالْكُسْبِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَوْ اسْتَغَلَّهَا ". يَعْنِي أَخَذَ غَلَّتَهَا، وَهِيَ مَنَافِعُهَا الْحَاصِلَةُ مِنْ جِهَتِهَا، كَالْخِدْمَةِ، وَالْأُجْرَةِ، وَالْكُسْبِ، وَكَذَلِكَ مَا يُوهَبُ أَوْ يُوصَى لَهُ بِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فِي مُقَابَلَةِ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا، فَاسْتَغَلَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ اسْتَغَلَّ غُلَامِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالشَّافِعِيُّ، وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُسْلِمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِيهِ: «الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ» . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ، كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ، وَاللَّبَنِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَرُدُّ الْأَصْلَ دُونَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ النَّمَاءُ ثَمَرَةً لَمْ يَرُدَّهَا، وَإِنْ كَانَ وَلَدًا رَدَّهُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ حُكْمٌ، فَسَرَى إلَى وَلَدِهَا كَالْكِتَابَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّمَاءُ الْحَادِثُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ الْأَصْلِ بِدُونِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبِهِ، فَلَا يُرْفَعُ الْعَقْدُ مَعَ بَقَاءِ مُوجِبِهِ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَادِثٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَمْنَعْ الرَّدَّ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَكَالْكُسْبِ. وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ، فَجَازَ رَدُّ الْأَصْلِ بِدُونِهِ، كَالْكُسْبِ وَالثَّمَرَةِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّمَاءَ مُوجَبُ الْعَقْدِ. غَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا مُوجَبُهُ الْمِلْكُ، وَلَوْ كَانَ مُوجَبًا لِلْعَقْدِ لَعَادَ إلَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ، فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِحُكْمِ رَدِّ الْأُمِّ. وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ بِوُجُودِهِ فِي الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَقَصَ، فَهَذَا نَذْكُرُ حُكْمَهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيع جَارِيَة ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ عِلْمه بِالْعَيْبِ] الْفَصْلُ الرَّابِعُ، إنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَهُ رَدُّهَا، وَلَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْجِنَايَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ عُقُوبَةٍ، أَوْ مَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الرَّدَّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِكْرًا. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَرُدُّهَا، وَمَعَهَا أَرْشٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَقَالَ شُرَيْحٌ وَالنَّخَعِيُّ: نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حُكُومَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: مَهْرُ مِثْلِهَا. وَحُكِيَ نَحْوُ قَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَخَ صَارَ وَاطِئًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، لِكَوْنِ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْنَى لَا يُنْقِصُ عَيْنَهَا، وَلَا قِيمَتَهَا، وَلَا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ، فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، كَالِاسْتِخْدَامِ، وَكَوَطْءِ الزَّوْجِ. وَمَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِوَطْءِ الزَّوْجِ، وَوَطْءُ الْبِكْرِ يُنْقِصُ ثَمَنَهَا. وَقَوْلُهُمْ: يَكُونُ وَاطِئًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ حِينِهِ، لَا مِنْ أَصْلِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ، وَلَا يُوجِبُ رَدَّ الْكُسْبِ، فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي مِلْكِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى مُزَوِّجَة فَوَطِئَهَا الزَّوْج] (3003) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى مُزَوَّجَةً، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الرَّدَّ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. فَإِنْ زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاقِيًا فَهُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ وَطْءِ السَّيِّدِ. وَقَدْ اسْتَحْسَنَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ وَطْءِ السَّيِّدِ. وَإِنْ زَنَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَكُنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْهَا، فَهُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَيْبًا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهَا حُكْمُ الزِّنَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. [فَصْلٌ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْسَاك الْمَعِيب وَأَخَذَ الْأَرْش] (3004) الْفَصْلُ الْخَامِسُ؛ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْسَاكَ الْمَعِيبِ، وَأَخْذَ الْأَرْشِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِمْسَاكُ، أَوْ الرَّدُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِمُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، أَوْ الرَّدِّ. وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّدَّ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَخْذَ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، كَاَلَّذِي لَهُ الْخِيَارُ. وَلَنَا، أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَكَانَ لَهُ الْأَرْشُ، كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ. وَلِأَنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، فَبَانَتْ تِسْعَةً، أَوْ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ فَأَمَّا الْمُصَرَّاةُ فَلَيْسَ فِيهَا عَيْبٌ، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْخِيَارَ بِالتَّدْلِيسِ، لَا لِفَوَاتِ جُزْءٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ أَرْشًا إذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ عَلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَعْنَى أَرْشِ الْعَيْبِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ صَحِيحًا، ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَيُؤْخَذُ قِسْطُ مَا بَيْنَهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 مِنْ الثَّمَنِ، فَنِسْبَتُهُ إلَى الثَّمَنِ نِسْبَةُ النُّقْصَانِ بِالْعَيْبِ مِنْ الْقِيمَةِ، مِثَالُهُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَعِيبُ صَحِيحًا بِعَشَرَةٍ، وَمَعِيبًا بِتِسْعَةِ، وَالثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَدْ نَقَصَهُ الْعَيْبُ عُشْرَ قِيمَتِهِ، فَيُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ، فَفَوَاتُ جُزْءٍ مِنْهُ يُسْقِطُ عَنْهُ ضَمَانَ مَا قَابَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ أَيْضًا. وَلِأَنَّنَا لَوْ ضَمَّنَّاهُ نَقْصَ الْقِيمَةِ، أَفْضَى إلَى اجْتِمَاعِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ لِلْمُشْتَرِي، فِيمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ عَشَرَةً، فَأَخَذَهَا، حَصَلَ لَهُ الْمَبِيعُ، وَرَجَعَ بِثَمَنِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: " أَوْ يَأْخُذَ مَا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْعَيْبِ ". وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَقَالَ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْت. [مَسْأَلَةٌ الْأَمَة الْبِكْر إذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ ظُهْر عَلَى عَيْب فَرَدَّهَا] (3005) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَأَرَادَ رَدَّهَا، كَانَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا) يَعْنِي الْأَمَةَ الْبِكْرَ إذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ فَرَدَّهَا، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا أَرْشَ النَّقْصِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ رَدِّهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَرُدُّهَا، وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْعَيْبِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَرُدُّهَا، وَيَرُدُّ مَعَهَا شَيْئًا. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْوَاجِبُ رَدُّ مَا نَقَصَ قِيمَتَهَا بِالْوَطْءِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا بِكْرًا عَشَرَةً، وَثَيِّبًا ثَمَانِيَةً، رَدَّ دِينَارَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، بِخِلَافِ أَرْشِ الْعَيْبِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُشْتَرِي. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ: يَرُدُّ عُشْرَ ثَمَنِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَرُدُّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ. وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ رَدَّهَا بِأَنَّ الْوَطْءَ نَقَصَ عَيْنَهَا وَقِيمَتَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا، كَمَا [إذَا] اشْتَرَى عَبْدًا فَخَصَاهُ، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ عِنْدَ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا لِاسْتِعْلَامٍ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. [فَصْلٌ كُلّ مَبِيع كَانَ مَعِيبًا ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ عِنْد الْمُشْتَرِي عَيْب آخَر قَبْلَ عِلْمه بِالْأَوَّلِ] (3006) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَبِيعٍ كَانَ مَعِيبًا، ثُمَّ حَدَثَ بِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ آخَرُ، قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْأَوَّلِ، فَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، وَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ ثَبَتَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ إضْرَارٌ بِهِ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وَالثَّانِيَةُ، لَهُ الرَّدُّ، يَرُدُّ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ. وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ، وَلَهُ الْأَرْشُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يَرُدُّهُ وَنُقْصَانَ الْعَيْبِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: يَرُدُّهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا. وَلَنَا، حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَدِّهَا بَعْدَ حَلْبِهَا، وَرَدِّ عِوَضِ لَبَنِهَا. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الثَّوْبِ، إذَا كَانَ بِهِ عَوَارٌ، بِرَدِّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ. وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَرْشِهِ، وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، كَمَا لَوْ كَانَ حُدُوثُهُ لِاسْتِعْلَامِ الْمَبِيعِ. وَلِأَنَّ الْعَيْبَيْنِ قَدْ اسْتَوَيَا، وَالْبَائِعُ قَدْ دَلَّسَ بِهِ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يُدَلِّسْ، فَكَانَ رِعَايَةُ جَانِبِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ جَائِزًا قَبْلَ حُدُوثِ الْعَيْبِ الثَّانِي، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ وَلَا نَصٌّ، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَصْلٍ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرُوهُ أَصْلٌ، فَيَبْقَى الْجَوَازُ بِحَالِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَرُدُّ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بِجُمْلَتِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ أَجْزَاؤُهُ. وَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، رَدَّهُ وَلَا أَرْشَ مَعَهُ، عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ، مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلرَّدِّ، فَثَبَتَ حُكْمُهُ. وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً، فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَصَابَ بِهَا عَيْبًا، فَالْحَمْلُ عَيْبٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْوَطْءَ وَيُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ. فَإِنْ وَلَدَتْ، فَالْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ، فَذَلِكَ عَيْبٌ أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الْوِلَادَةُ وَمَاتَ الْوَلَدُ، جَازَ رَدُّهَا؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْعَيْبُ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُهَا بَاقِيًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا دُونَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي " مَسَائِلِهِمَا ": لَهُ الْفَسْخُ فِيهَا، دُونَ وَلَدِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَلَدَتْ حُرًّا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّه بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ دَفْعُ الضَّرَرِ بِأَخْذِ الْأَرْشِ، أَوْ بِرَدِّ وَلَدِهَا مَعَهَا، فَلَمْ يَجُزْ ارْتِكَابُ مَنْهِيِّ الشَّرْعِ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ أَرَادَ الْإِقَالَةَ فِيهَا دُونَ وَلَدِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ. قُلْنَا: قَدْ انْدَفَعَتْ الْحَاجَةُ بِأَخْذِ الْأَرْشِ، أَمَّا إذَا وَلَدَتْ حُرًّا، فَلَا سَبِيلَ إلَى بَيْعِهِ مَعَهَا بِحَالٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ حَيَوَانًا غَيْرَ الْآدَمِيِّ، فَحَدَثَ بِهِ حَمْلٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَمْنَعْ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ. وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَلَمْ تَنْقُصْهُ الْوِلَادَةُ، فَلَهُ إمْسَاكُ الْوَلَدِ وَرَدُّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا جَائِزٌ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَمْلِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ بَعْدَهُ. وَلَوْ اشْتَرَاهَا حَامِلًا، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى الْعَيْبِ فَرَدَّهَا، رَدَّ الْوَلَدَ مَعَهَا؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ، وَالزِّيَادَةُ فِيهِ نَمَاءٌ مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَمِنَتْ الشَّاةُ. فَإِنْ تَلِفَ الْوَلَدُ، فَهُوَ كَتَعَيُّبِ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الرَّدُّ. فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، إنْ اخْتَارَ رَدَّ الْأُمِّ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِلْوَلَدِ. وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ دَلَّسَ الْعَيْبَ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْأُمُّ بِالْوِلَادَةِ، فَهُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِي. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ حِينَئِذٍ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَلَا قِيمَتُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيع كَاتِبًا أَوْ صَانِعًا فَنَسِيَ ذَلِكَ عِنْد الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا] (3007) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ كَاتِبًا أَوْ صَانِعًا، فَنَسِيَ ذَلِكَ عِنْد الْمُشْتَرِي، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَذَلِكَ عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، يَرُدُّهُ، وَلَا يَرُدُّ، مَعَهُ شَيْئًا. وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي الْعَيْنِ، وَيُمْكِنُ عَوْدُهُ بِالتَّذَكُّرِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ سَمِينًا فَهَزِلَ. وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ الصِّيَاغَةَ وَالْكِتَابَةَ مُتَقَوِّمَةٌ تَضْمَنُ فِي الْغَصْبِ، وَتَلْزَمُ بِشَرْطِهَا فِي الْبَيْعِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ، مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ، وَإِمْكَانُ الْعَوْدِ مُنْتَقِضٌ بِالسِّنِّ، وَالْبَصَرِ، وَالْحَمْلِ. وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَرَادَ بِهِ، إذَا دَلَّسَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ. [فَصْلٌ تَعَيَّبَ الْمَبِيع فِي يَدِ الْبَائِع بَعْدَ الْعَقْد] (3008) فَصْلٌ: وَإِذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ ضَمَانِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا الْحَادِثُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ خِيَارٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامِ، فَمَا أَصَابَهُ فِيهَا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، إلَّا فِي الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، فَإِنْ ظَهَرَ إلَى سَنَةٍ ثَبَتَ الْخِيَارُ؛ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ، عَنْ عُقْبَةَ «؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ عُهْدَةَ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَأَنَّهُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَكُونُ فِيهِ الْعَيْبُ، ثُمَّ يَظْهَرُ. وَلَنَا، أَنَّهُ ظَهَرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخِيَارُ، كَسَائِرِ الْمَبِيعِ، أَوْ مَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّنَةِ، وَحَدِيثُهُمْ لَا يَثْبُتُ؛ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ فِي الْعُهْدَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَلْقَ عُقْبَةَ. وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَالدَّاءُ الْكَامِنُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا النَّقْصُ بِمَا ظَهَرَ لَا بِمَا كَمَنَ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبْقَ مِنْ يَده وَأَقَامَ الْبَيِّنَة أَنَّ إبَاقه كَانَ مَوْجُودًا فِي يَدِ الْبَائِع] (3009) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ دَلَّسَ الْعَيْبَ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ، كَامِلًا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَبِيعِ) مَعْنَى دَلَّسَ الْعَيْبَ: أَيْ كَتَمَهُ عَنْ الْمُشْتَرِي، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. أَوْ: غَطَّاهُ عَنْهُ، بِمَا يُوهِمُ الْمُشْتَرِيَ عَدَمَهُ. مُشْتَقٌّ مِنْ الدُّلْسَةِ، وَهِيَ الظُّلْمَةُ. فَكَأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتُرُ الْعَيْبَ. وَكِتْمَانُهُ جَعْلُهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَخَفِيَ عَنْ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 يَرَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا عَلِمَ بِهِ فَكَتَمَهُ، وَمَا سَتَرَ، فَكُلَاهُمَا تَدْلِيسٌ حَرَامٌ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَائِعُ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، فَلَهُ رَدُّ الْمَبِيعِ، وَأَخْذُ ثَمَنِهِ كَامِلًا، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَادِثُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، كَوَطْءِ الْبِكْرِ، وَقَطْعِ الثَّوْبِ، أَوْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَيْهِ جَانٍ، أَوْ بِفِعْلِ الْعَبْدِ كَالسَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ، أَوْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، سَوَاءٌ كَانَ نَاقِصًا لِلْمَبِيعِ، أَوْ مَذْهَبًا لَجَمِيعِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ إبَاقَهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي يَدِ الْبَائِعِ: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ، بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّ الْمُشْتَرِيَ، وَيَتْبَعُ الْبَائِعُ عَبْدَهُ حَيْثُ كَانَ. وَهَذَا يُحْكَى عَنْ الْحَكَمِ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ دَلَّسَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ، أَوْ لَمْ يُدَلِّسْهُ، فَإِنَّ التَّصْرِيَةَ تَدْلِيسٌ، وَلَمْ يُسْقِطْ عَنْ الْمُشْتَرِي ضَمَانَ اللَّبَنِ، بَلْ ضَمِنَهُ بِصَاعٍ مِنْ التَّمْرِ، مَعَ كَوْنِهِ قَدْ نَهَى عَنْ التَّصْرِيَةِ، وَقَالَ: «بَيْعُ الْمُحَفَّلَاتِ خَلَابَةٌ، وَلَا تَحِلُّ الْخَلَابَةُ لِمُسْلِمٍ» . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ الْخَرَاجُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الضَّمَانَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْخَرَاجِ لَهُ. فَلَوْ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى الْبَائِعِ لَكَانَ الْخَرَاجُ لَهُ؛ لِوُجُودِ عِلَّتِهِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَصْلٍ، وَلَا نَعْلَمُ لِهَذَا أَصْلًا. وَلَا يُشْبِهُ هَذَا التَّغْرِيرَ بِحُرِّيَّةِ الْأَمَةِ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَيِّدَ الْأَمَةِ، وَهَاهُنَا لَوْ كَانَ التَّدْلِيسُ مِنْ وَكِيلِ الْبَائِعِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. [فَصْلٌ النَّقَائِص الْمُوجِبَة لَنَقَصَ الْمَالِيَّة فِي عَادَاتِ التُّجَّار] (3010) فَصْلٌ: فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ؛ وَهِيَ النَّقَائِصُ الْمُوجِبَةُ لِنَقْصِ الْمَالِيَّةِ فِي عَادَاتِ التُّجَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا صَارَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، فَمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا يَكُونُ عَيْبًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَهُمْ التُّجَّارُ. فَالْعُيُوبُ فِي الْخِلْقَةِ؛ كَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالْعَمَى، وَالْعَوَرِ، وَالْعَرَجِ، وَالْعَفَلِ، وَالْقَرْنِ، وَالْعِتْقِ، وَالرَّتَقِ، وَالْقَرَعِ، وَالصَّمَمِ، وَالطَّرَشِ، وَالْخَرَسِ، وَسَائِرِ الْمَرَضِ، وَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ، وَالْحَوَلِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وَالْخُوصِ، وَالسُّبُلِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْفَانِ، وَالتَّخْنِيثِ، وَكَوْنِهِ خُنْثَى، وَالْخِصَاءِ، وَالتَّزَوُّجِ فِي الْأَمَةِ، وَالْبَخَرِ فِيهَا. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْجَارِيَةِ تُشْتَرَى وَلَهَا زَوْجٌ أَنَّهُ عَيْبٌ. وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَوَدِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ صَارَتْ كَالْمُسْتَحِقَّةِ لِوُجُوبِ الدَّفْعِ فِي الْجِنَايَةِ وَالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ، وَمُسْتَحِقَّةً لِلْإِتْلَافِ بِالْقِصَاصِ، وَالزِّنَى وَالْبَخَرُ عَيْبٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبِ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِلْفِرَاشِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ. وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ يُنْقِصُ قِيمَتَهُ وَمَالِيَّتَهُ، فَإِنَّهُ بِالزِّنَى يَتَعَرَّضُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَالتَّعْزِيرِ، وَلَا يَأْمَنُهُ سَيِّدُهُ عَلَى عَائِلَتِهِ وَحَرِيمِهِ، وَالْبَخَرُ يُؤْذِي سَيِّدَهُ، وَمَنْ جَالَسَهُ وَخَاطَبَهُ أَوْ سَارَّهُ. وَأَمَّا السَّرِقَةُ، وَالْإِبَاقُ، وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ، فَهِيَ عُيُوبٌ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي جَاوَزَ الْعَشْرَ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: فِي الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ: لَيْسَ بِعَيْبٍ فِيهِ حَتَّى يَحْتَلِمَ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِهِ، مِنْ التَّكْلِيفِ، وَوُجُوبِ الْحُدُودِ، بِبُلُوغِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَلَنَا، أَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ يَتَحَرَّزُ مِنْ هَذَا عَادَةً، كَتَحَرُّزِ الْكَبِيرِ، فَوُجُودُهُ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ لِدَاءٍ فِي بَاطِنِهِ، وَالسَّرِقَةَ وَالْإِبَاقَ لِخُبْثٍ فِي طَبْعِهِ، وَحُدَّ ذَلِكَ بِالْعَشْرِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَأْدِيبِ الصَّبِيِّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَهَا، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ لِبُلُوغِهَا. فَأَمَّا مَنْ دُونَ ذَلِكَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْهُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ، وَعَدَمِ تَثَبُّتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ يَسْكَرُ مِنْ النَّبِيذِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَهُوَ كَالزِّنَى. وَكَذَلِكَ الْحُمْقُ الشَّدِيدُ، وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّأْدِيبِ، وَرُبَّمَا تَكَرَّرَ فَأَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، وَلَا يَكُونُ عَيْبًا إلَّا فِي الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى فِعْلِهِ. وَعَدَمُ الْخِتَانِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ وَقْتُهُ، وَلَا فِي الْأَمَةِ الْكَبِيرَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ عَيْبٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ أَلَمٍ، فَأَشْبَهَتْ الْعَبْدَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فِي حَقِّهَا، وَالْأَلَمُ فِيهِ يَسِيرٌ لَا يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْكَبِير. فَأَمَّا الْعَبْدُ الْكَبِيرُ، فَإِنْ كَانَ مَجْلُوبًا مِنْ الْكُفَّارِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَتِنُونَ، فَصَارَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ كَدِينِهِمْ. وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا مَوْلِدًا؛ فَهُوَ عَيْبٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْعَادَةِ. (3011) فَصْلٌ: وَالثُّيُوبَةُ لَيْسَتْ عَيْبًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْجَوَارِي الثُّيُوبَةُ، فَالْإِطْلَاقُ لَا يَقْتَضِي خِلَافَهَا، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، لَيْسَ بِعَيْبٍ، إذْ لَيْسَ فِي الْمَحَلِّ مَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْمَالِيَّةِ، وَلَا نَقْصًا، وَإِنَّمَا التَّحْرِيمُ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ وَالصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُمَا يَزُولَانِ قَرِيبًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا. وَكَذَلِكَ عِدَّةُ الْبَائِنِ. وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَهِيَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ، وَلَا يُؤْمَنُ ارْتِجَاعُهُ لَهَا. وَمَعْرِفَةُ الْغِنَاءِ وَالْحِجَامَةِ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، فِي الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ، أَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ مُحَرَّمٌ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي عَيْنِهَا، وَلَا قِيمَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا كَالصِّنَاعَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْغِنَاءَ مُحَرَّمٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَالْمُحَرَّمُ اسْتِعْمَالُهُ، لَا مَعْرِفَتُهُ، وَالْعُسْرُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَرُدُّ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْصِ، وَعَمَلُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ عَمَلِهِ بِالْأُخْرَى، وَالْكُفْرُ لَيْسَ بِعَيْبٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] . وَلَنَا، أَنَّ الْعَبِيدَ يَكُونُ فِيهِمْ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالْأَصْلُ فِيهِمْ الْكُفْرُ، فَالْإِطْلَاقُ لَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِ خَيْرًا مِنْ الْكَافِرِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُفْرِ عَيْبًا، كَمَا أَنَّ الْمُتَّقِيَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وَلَيْسَ عَدَمُ ذَلِكَ عَيْبًا. وَكَوْنُهُ وَلَدَ زِنًا لَيْسَ بِعَيْبٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلِافْتِرَاشِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَلَنَا أَنَّ النَّسَبَ فِي الرَّقِيقِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يُشْتَرَوْنَ مَجْلُوبِينَ، غَيْرَ مَعْرُوفِي النَّسَبِ. وَكَوْنُ الْجَارِيَةِ لَا تُحْسِنُ الطَّبْخَ أَوْ الْخَبْزَ أَوْ نَحْوَ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حِرْفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فَوَاتُهَا عَيْبًا، كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ، وَكَوْنُهَا لَا تَحِيضُ، لَيْسَ بِعَيْبٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ عَيْبٌ إذَا كَانَ لِكِبَرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا تَحِيضُ لَا تَحْمِلُ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَقْتَضِي الْحَيْضَ، وَلَا عَدَمَهُ، فَلَمْ يَكُنْ فَوَاتُهُ عَيْبًا، كَمَا لَوْ كَانَ لِغَيْرِ الْكِبَرِ. [فَصْلٌ اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْع صِفَة مَقْصُودَة مِمَّا لَا يَعُدْ فَقَدَهُ عَيْبًا] (3012) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ صِفَةً مَقْصُودَةً مِمَّا لَا يُعَدُّ فَقْدُهُ عَيْبًا، صَحَّ اشْتِرَاطُهُ، وَصَارَتْ مُسْتَحَقَّةً، يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ عَدَمِهَا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ مُسْلِمًا، فَيَبِينُ كَافِرًا، أَوْ يَشْتَرِطَ الْأَمَةَ بِكْرًا أَوْ جَعْدَةً أَوْ طَبَّاخَةً، أَوْ ذَاتَ صَنْعَةٍ، أَوْ لَبَنٍ، أَوْ أَنَّهَا تَحِيضُ، أَوْ يَشْتَرِطَ فِي الدَّابَّةِ أَنَّهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 هِمْلَاجَةٌ، أَوْ فِي الْفَهْدِ أَنَّهُ صَيُودٌ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. فَمَتَى بَانَ خِلَافَ مَا اشْتَرَطَهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ، أَوْ الرِّضَا بِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ. لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ، فَصَارَ بِالشَّرْطِ مُسْتَحِقًّا. فَأَمَّا إنْ شَرَطَ صِفَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، فَبَانَتْ بِخِلَافِهَا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَهَا سَبْطَةً فَبَانَتْ جَعْدَةً، أَوْ جَاهِلَةً، فَبَانَتْ عَالِمَةً، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا. وَإِنْ شَرَطَهَا كَافِرَةً فَبَانَتْ مُسْلِمَةً، أَوْ ثَيِّبًا، فَبَانَتْ بِكْرًا، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَصْدًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّ طَالِبَ الْكَافِرَةِ أَكْثَرُ؛ لِصَلَاحِيَتِهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهَا، أَوْ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَكْلِيفهَا الْعِبَادَاتِ. وَقَدْ يَشْتَرِطُ الثَّيِّبَ؛ لِعَجْزِهِ عَنْ الْبِكْرِ، أَوْ لِيَبِيعَهَا لِعَاجِزٍ عَنْ الْبِكْرِ. فَقَدْ فَاتَ قَصْدُهُ. وَقِيلَ: لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ زِيَادَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبِكْرِ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي. وَاسْتَبْعَدَ كَوْنَهُ يَقْصِدُ الثُّيُوبَةَ، لِعَجْزِهِ عَنْ الْبِكْرِ، وَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ، وَالِاشْتِرَاطُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِالدَّلِيلِ قَرِيبًا. وَإِنْ شَرَطَ الشَّاةَ لَبُونًا، صَحَّ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، فَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْرٌ مَقْصُودٌ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَيَوَانِ، وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ، فَصَحَّ اشْتِرَاطُهُ، كَالصِّنَاعَةِ فِي الْأَمَةِ، وَالْهَمْلَجَةِ فِي الدَّابَّةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَحُزْ بَيْعُهُ مُفْرَدًا؛ لِلْجَهَالَةِ، وَالْجَهَالَةُ تَسْقُطُ فِيمَا كَانَ بَيْعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، صَحَّ بَيْعُهَا مَعَهُ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ بَيْعُ أَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا مُفْرَدَيْنِ. وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهَا تَحْلُبُ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَخْتَلِفُ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. وَإِنْ شَرَطَهَا غَزِيرَةَ اللَّبَنِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَإِنْ شَرَطَهَا حَامِلًا صَحَّ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ عَلَى الْحَمْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ رِيحٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ صِفَةٌ مَقْصُودَةٌ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهَا، فَصَحَّ شَرْطُهُ، كَالصِّنَاعَةِ، وَكَوْنِهَا لَبُونًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا، وَلِذَلِكَ حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدِّيَةِ بِأَرْبَعِينَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَمَنَعَ أَخْذَ الْحَوَامِلِ فِي الزَّكَاةِ، وَمَنَعَ وَطْءَ الْحَبَالَى الْمَسْبِيَّاتِ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعَ حَمْلِهَا، وَأَرْخَصَ لَهَا الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا، وَمَنَعَ مِنْ الِاقْتِصَاصِ مِنْهَا، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي اللِّعَانِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَاعَنَهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا، فَانْتَفَى عَنْهُ وَلَدُهَا، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهَا تَضَعُ الْوَلَدَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 شَرَطَ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ فِي الْمُرْتَفِعَاتِ. وَيَصِحُّ فِي غَيْرِهِنَّ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحَمْلِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْمُرْتَفِعَاتِ. وَإِنْ شَرَطَهَا حَائِلًا، فَبَانَتْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمَةِ، فَهُوَ عَيْبٌ يَثْبُتُ الْفَسْخُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا، فَهُوَ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُهَا لِسَفَرٍ، أَوْ لِحَمْلِ شَيْءٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَعَ الْحَمْلِ. وَإِنْ شَرَطَ الْبَيْضَ فِي الدَّجَاجَةِ، فَقَدْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ عَلَيْهِ، يُعْرَفُ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ الشَّاةِ لَبُونًا. وَإِنْ اشْتَرَطَ الْهَزَارَ أَوْ الْقُمْرِيَّ مُصَوِّتًا، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَصِحُّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّ صِيَاحَ الطَّيْرِ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ. وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَقْصِدًا صَحِيحًا، وَهُوَ عَادَةٌ لَهُ وَخِلْقَةٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْهَمْلَجَةَ فِي الدَّابَّةِ، وَالصَّيْدَ فِي الْفَهْدِ. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْحَمَامِ أَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ مَسَافَةٍ ذَكَرَهَا. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لِلْحَيَوَانِ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، وَفِيهِ قَصْدٌ صَحِيحٌ لِتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَحَمْلِ الْكُتُبِ، فَجَرَى مَجْرَى الصَّيْدِ فِي الْفَهْدِ، وَالْهَمْلَجَةِ فِي الدَّابَّةِ، وَإِنْ شَرَطَ فِي الْجَارِيَةِ أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ، كَالزِّنَى. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَبْشِ كَوْنَهُ نَطَّاحًا، وَفِي الدِّيكِ كَوْنَهُ مُقَاتِلًا، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، فَجَرَى مَجْرَى الْغِنَاءِ فِي الْجَارِيَةِ. وَإِنْ شَرَطَ فِي الدِّيكِ أَنَّهُ يُوقِظُهُ لِلصَّلَاةِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ شَرَطَ كَوْنَهُ يَصِيحُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ، جَرَى مَجْرَى اشْتِرَاطِ التَّصْوِيتِ فِي الْقُمْرِيِّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ لَا يُفْتَقَر الرَّدّ بِالْعَيْبِ إلَى رِضَى الْبَائِع وَلَا حُضُوره وَلَا حُكْم حَاكِمْ قَبْلَ الْقَبْض وَلَا بَعْده] (3013) فَصْلٌ: وَلَا يَفْتَقِرُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ إلَى رِضَى الْبَائِعِ، وَلَا حُضُورِهِ، وَلَا حُكْمِ حَاكِمٍ، قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، افْتَقَرَ إلَى حُضُورِ صَاحِبِهِ دُونَ رِضَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، افْتَقَرَ إلَى رِضَا صَاحِبِهِ، أَوْ حُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ تَمَّ عَلَى الثَّمَنِ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ رَفْعُ عَقْدٍ مُسْتَحِقٍّ لَهُ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى رِضَا صَاحِبِهِ، وَلَا حُضُورِهِ كَالطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى رِضَا صَاحِبِهِ، كَقَبْلِ الْقَبْضِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى مَعِيبًا فَبَاعَهُ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ اشْتَرَى مَعِيبًا فَبَاعَهُ] (3014) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ، كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ مِلْكَهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِهِ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ يَأْخُذَ أَرْشَ الْعَيْبِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهَا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: (3015) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مَعِيبًا فَبَاعَهُ، سَقَطَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ، فَأَرَادَ رَدَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 بِالْعَيْبِ الْأَوَّلِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ رِضًا بِالْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ، فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي فَسَخَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الرَّدِّ بِبَيْعِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَ بِعَيْبِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِدْرَاكُ ظَلَامَتِهِ بِرَدِّهِ، فَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ فَسْخَ الثَّانِيَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ سُقُوطَ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ زَالَ الْمَانِعُ، فَظَهَرَ جَوَازُ الرَّدِّ، كَمَا لَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ لِغَيْبَةِ الْبَائِعِ، أَوْ لِمَعْنًى سِوَاهُ. وَسَوَاءٌ رَجَعَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالْعَيْبِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِإِقَالَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ ثَانٍ، أَوْ مِيرَاثٍ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْقَاضِي. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ رَجَعَ بِغَيْرِ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ الْأَوَّلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتَهُ بِبَيْعِهِ، وَلَمْ يَزُلْ بِفَسْخِهِ. وَلَنَا، أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِتَعَذُّرِهِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ. فَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي لِبَائِعِهَا الْأَوَّلِ، فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَلَهُ الرَّدُّ عَلَى الْبَائِعِ الثَّانِي، ثُمَّ لِلثَّانِي رَدُّهُ. وَفَائِدَةُ الرَّدِّ هَاهُنَا، اخْتِلَافُ الثَّمَنَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ الثَّانِي أَكْثَرُ. [الْفَصْل الثَّانِي بَاعَ الْمَعِيبَ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِهِ] (3016) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا بَاعَ الْمَعِيبَ، ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِهِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ سَوَاءٌ بَاعَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كَانَ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتَهُ بِبَيْعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ، كَمَا لَوْ زَالَ الْعَيْبُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ بَاعَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَا أَرْشَ لَهُ؛ لِرِضَاهُ بِهِ مَعِيبًا، وَإِنْ بَاعَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، فَلَهُ الْأَرْشُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَفِّهِ مَا أَوْجَبَهُ لَهُ الْعَقْدُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِهِ نَاقِصًا، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ، أَنَّ لَهُ الْأَرْشَ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ بَاعَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ أَوْ جَاهِلًا بِهِ؛ لِأَنَّنَا خَيَّرْنَاهُ ابْتِدَاءً بَيْنَ رَدِّهِ، وَإِمْسَاكِهِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ، فَبَيْعُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إمْسَاكِهِ، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ عِوَضُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَيْعِهِ، وَلَا رِضَاهُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ تِسْعَةً، فَبَاعَهَا الْمُشْتَرِي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتَهُ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ ظَلَامَتَهُ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا ظُلِمَ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِذَلِكَ مِنْ الظَّالِمِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رُجُوعِ بَائِعِ الْمَعِيبِ بِالْأَرْشِ، رِوَايَتَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ عِلْمِ الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ وَجَهْلِهِ بِهِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَرْشَ، فَإِذَا عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَرَدَّهُ بِهِ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَهُ مِنْهُ، فَلِلْأَوَّلِ أَخْذُ أَرْشِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا امْتَنَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي رَدُّهُ بِعَيْبٍ حَدَثَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظَلَامَتَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ بَاعَ الْمُشْتَرِي بَعْض الْمَبِيع ثُمَّ ظُهْر عَلَى عَيْب فَلَهُ الْأَرْشُ] (3017) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ، فَلَهُ الْأَرْشُ، لِمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَبِيعِ، وَفِي الْأَرْشِ لِمَا بَاعَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا بَاعَ الْجَمِيعَ، وَإِنْ أَرَادَ رَدَّ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنًا وَاحِدَةً، أَوْ عَيْنَيْنِ يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ، وَزَوْجَيْ خُفٍّ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ بِنَقْصِ الْقِيمَةِ، أَوْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَامْتِنَاعِ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ، كَإِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِخْدَامِ. وَبِهَا قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ؛ وَفِيمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا فَتَعَيَّبَ عِنْدَهُ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ، إلَّا أَنْ يَرُدَّ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَعِيبًا بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ، أَوْ نَقْصِ الْقِيمَةِ، بِغَيْرِ شَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ مَا إذَا دَلَّسَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يُسْقِطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ضَمَانَ مَا حَدَثَ عِنْدَهُ مِنْ الْعَيْبِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ لَا يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، فَبَاعَ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ بِالْأُخْرَى عَيْبًا، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُمَا كَانَتَا مَعِيبَتَيْنِ، فَهَلْ لَهُ رَدُّ الْبَاقِيَةِ فِي مِلْكِهِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنًا وَاحِدَةً أَوْ عَيْنَيْنِ. وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوْلَى. (3018) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى عَيْنَيْنِ، فَوَجَدَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا، وَكَانَا مِمَّا لَا يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، أَوْ مِمَّا لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَالْوَلَدِ مَعَ أُمِّهِ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا رَدُّهُمَا جَمِيعًا، أَوْ إمْسَاكُهُمَا وَأَخْذُ الْأَرْشِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ، فَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ إلَّا رَدُّهُمَا، أَوْ أَخْذُ الْأَرْشِ مَعَ إمْسَاكِهِمَا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ يُبَعِّضُ الصَّفْقَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَا مِمَّا يَنْقُصُهُ التَّفْرِيقُ. وَالثَّانِيَةُ، لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ، وَإِمْسَاكُ الصَّحِيحِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ الْمَعِيبِ عَلَى وَجْهٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْبَائِعِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ رَدَّ الْجَمِيعَ. وَفَارَقَ مَا يَنْقُصُ بِالتَّفْرِيقِ، فَإِنَّ فِيهِ ضَرَرًا. وَإِنْ تَلِفَ أَحَدُ الْمَبِيعَيْنِ، أَوْ تَعَيَّبَ، أَوْ وَجَدَ بِالْآخَرِ أَوْ بِهِمَا عَيْبًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ التَّالِفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ مِنْ زِيَادَةِ قِيمَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِمِ، لِأَنَّ قِيمَةَ التَّالِفِ إذَا زَادَتْ، زَادَ قَدْرُ مَا يَغْرَمُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْغَاصِبِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَبِيعَانِ بَاقِيَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 مَعِيبَيْنِ، لَمْ يُوجَدْ فِي أَحَدِهِمَا مَا يَمْنَعُ رَدَّهُ، فَأَرَادَ رَدَّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سِوَى الْمَنْعِ مِنْ رَدِّ أَحَدِهِمَا. وَالْقِيَاسُ، أَنَّهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، إذْ لَوْ كَانَ إمْسَاكُ أَحَدِهِمَا مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ فِيمَا إذَا كَانَا مَعِيبَيْنِ، لَمَنَعَ مِنْهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا. [فَصْلٌ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا فَوَجَدَاهُ مَعِيبًا أَوْ اشْتَرَطَا الْخِيَار فَرَضِيَ أَحَدهمَا] (3019) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا فَوَجَدَاهُ مَعِيبًا، أَوْ اشْتَرَطَا الْخِيَارَ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا. فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، حَكَاهُمَا أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى. إحْدَاهُمَا، لِمَنْ لَمْ يَرْضَ الْفَسْخُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَالْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُتَشَقِّصٍ، فَإِذَا رَدَّهُ مُشْتَرِكًا، رَدَّهُ نَاقِصًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ. وَوَجْهُ الْأُولَى، أَنَّهُ رَدَّ جَمِيعَ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِشِرَائِهِ، وَالشَّرِكَةُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا، فَخَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ مُشَقَّصَةً، بِخِلَافِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ. [فَصْلٌ وِرْث اثْنَانِ عَنْ أَبِيهِمَا خِيَار عَيْب فَرَضِيَ أَحَدهمَا] (3020) فَصْلٌ: وَإِذَا وَرِثَ اثْنَانِ عَنْ أَبِيهِمَا خِيَارَ عَيْبٍ، فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا، سَقَطَ حَقُّ الْآخَرِ مِنْ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ وَحْدَهُ، تَشَقَّصَتْ السِّلْعَةُ عَلَى الْبَائِعِ، فَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ إلَى وَاحِدٍ غَيْرَ مُشَقَّصَةٍ، فَلَا يَجُوزُ رَدُّ بَعْضِهَا إلَيْهِ مُشَقَّصًا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا مُنْفَرِدًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ مَا بَاعَهُ إيَّاهُ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا] (3021) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا، رَدَّ عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ بِقِسْطِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَيَبْقَى نَصِيبُ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَقْدُمَ. وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَيْنَ كُلَّهَا بِوَكَالَةِ الْآخَرِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَاضِرُ الْوَكِيلَ أَوْ الْمُوَكَّلَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا. فَإِنْ أَرَادَ رَدَّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَإِمْسَاكَ نَصِيبِ الْآخَرِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ جَمِيعَ مَا بَاعَهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِرَدِّهِ تَشْقِيصٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مُشَقَّصًا قَبْلَ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى حِلِّي فِضَّةٍ بِوَزْنِهِ دَرَاهِمَ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا] (3022) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَى حُلِيَّ فِضَّةٍ بِوَزْنِهِ دَرَاهِمَ، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ. فَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَرُدُّهُ؛ وَيَرُدُّ، أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، يَأْخُذُ ثَمَنَهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّفَاضُلِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَرَفْعٌ لَهُ، فَلَا تَبْقَى الْمُعَاوَضَةُ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْأَرْشَ عِوَضًا عَنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْر بَيْعٍ، وَكَمَا لَوْ فَسَخَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَفْسَخُ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ، وَيَرُدُّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيُطَالِبُ بِقِيمَةِ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ إهْمَالُ الْعَيْبِ، وَلَا أَخْذُ الْأَرْشِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ تَلِفَ الْحَلْيُ، فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَيَرُدُّ قِيمَتَهُ، وَيَسْتَرْجِعُ الثَّمَنَ؛ فَإِنَّ تَلَفَ الْمَبِيعِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْفَسْخِ. وَعِنْدِي، أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا فَسَخَ، وَجَبَ رَدُّ الْحَلْيِ وَأَرْشِ نَقْصِهِ، كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى قِيمَتِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهِ بِتَلَفٍ أَوْ عَجْزٍ، وَلَيْسَ فِي رَدِّهِ وَرَدِّ أَرْشِهِ تَفَاضُلٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ زَالَتْ بِالْفَسْخِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُقَابِلٌ، وَإِنَّمَا هَذَا الْأَرْشُ بِمَنْزِلَةِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ قِيمَتَهُ إذَا زَادَتْ عَلَى وَزْنِهِ أَوْ نَقَصَتْ عَنْهُ، أَفْضَى إلَى التَّفَاضُلِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ عِوَضٌ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِمِثْلِهِ، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا أَخَذَهُ عَيْبًا يَنْقُصُ قِيمَتَهُ دَوَّنَ كَيْلِهِ، لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَ أَرْشِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى التَّفَاضُلِ. وَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَلْيِ بِالدَّرَاهِمِ. [مَسْأَلَةٌ ظُهْر عَلَى عَيْب بَعْدَ إعْتَاقه لَهَا أَوْ مَوْتهَا فِي مِلْكه] (3023) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ بَعْدَ إعْتَاقِهِ لَهَا أَوْ مَوْتِهَا فِي مِلْكِهِ، فَلَهُ الْأَرْشُ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمَبِيعِ بِعِتْقٍ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ، لَاسْتِيلَادِ وَنَحْوِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَهُ الْأَرْشُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ فِي الْمَقْتُولِ خَاصَّةً: لَا أَرْشَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَيْبٌ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ظَلَامَتَهُ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ الْأَرْشُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَالْبَيْعُ لَنَا فِيهِ مَنْعٌ، وَمَعَ تَسْلِيمِهِ فَإِنَّهُ اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتَهُ فِيهِ. وَأَمَّا الْهِبَةُ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ إمْكَانِ الرَّدِّ؛ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ الْمَوْهُوبِ إلَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ لَهُ الْأَرْشُ وَهِيَ أَوْلَى. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي غَيْرهَا؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَهُ، وَإِمْكَانُ الرَّدِّ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ أَخْذِ الْأَرْشِ عِنْدَنَا؛ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْهِبَةِ. وَإِنْ أَكَلَ الطَّعَامَ أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ، فَأَتْلَفَهُ، رَجَعَ بِأَرْشِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَهْلَكَ الْعَيْنَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ. وَلَنَا أَنَّهُ مَا اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتَهُ، وَلَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الْأَرْشِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. (3024) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ بَاعَ الْمَعِيبَ عَالِمًا بِعَيْبِهِ: لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ مَعِيبًا بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ، أَنَّ لَهُ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّ لَهُ إمْسَاكَ الْمَبِيعِ، وَالْمُطَالَبَةَ بِأَرْشِهِ، وَهَذَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إمْسَاكِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَيْبِهِ. وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوفِهِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ. وَلِأَنَّ الْأَرْشَ عِوَضُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَصَرُّفِهِ فِيمَا سِوَاهُ؛ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، فَأَقْبَضَهُ تِسْعَةً، فَتَصَرَّفَ فِيهَا. [فَصْلٌ تَصْرِف فِي الْمَبِيع تَصْرِفَا دَالًا عَلَى الرِّضَا بِهِ قَبْلَ عِلْمه بِالْعَيْبِ] (3025) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَغَلَّ الْمَبِيعَ، أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا دَالًّا عَلَى الرِّضَا بِهِ، قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ مَعِيبًا. وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ، بَطَلَ خِيَارُهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ الْحَسَنُ، وَشُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، يَقُولُونَ: إذَا اشْتَرَى سِلْعَةً، فَعَرَضَهَا عَلَى الْبَيْعِ، لَزِمَتْهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَأَمَّا الْأَرْشُ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَسْتَحِقُّهُ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ اسْتِحْقَاقُ الْأَرْشِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَقُولُ: إذَا اسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ، وَأَرَادَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ، فَلَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إنْ احْتَلَبَ اللَّبَنَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ، لَمْ يَسْقُطْ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَهُ، فَمَلَكَ اسْتِيفَاءَهُ مِنْ الْمَبِيعِ الَّذِي يُرِيدُ رَدَّهُ. وَكَذَلِكَ إنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَنْظُرَ سَيْرَهَا، أَوْ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا. وَإِنْ اسْتَخْدَمَ الْأَمَةَ لِيَخْتَبِرَهَا، أَوْ لَبِسَ الْقَمِيصَ لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ، لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرِضًا بِالْمَبِيعِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَإِنْ اسْتَخْدَمَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ اسْتِخْدَامًا كَثِيرًا، بَطَلَ رَدُّهُ، فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لَا تَخْتَصُّ الْمِلْكَ، لَمْ يَبْطُلْ الْخِيَارُ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: إنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَاسْتَخْدَمَهُ بِأَنْ يَقُولَ: نَاوِلْنِي هَذَا الثَّوْبَ. يَعْنِي بَطَلَ خِيَارُهُ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ هَذَا؟ أَوْ مِنْ أَيْنَ أَخَذُوا هَذَا؟ لَيْسَ هَذَا بِرِضًى حَتَّى يَكُونَ شَيْءٌ يَبِينُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي بُطْلَانِ الْخِيَارِ بِالِاسْتِخْدَامِ رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ هَاهُنَا. [فَصْلٌ أَبَقَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ] (3026) فَصْلٌ: وَإِنْ أَبَقَ الْعَبْدُ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ، فَلَهُ أَخْذُ أَرْشِهِ. فَإِنْ أَخَذَهُ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفَ الْإِبَاقِ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَقَدْ تَعَيَّبَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَهَلْ يَمْلِكُ رَدَّهُ وَرَدَّ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ وَالْأَرْشُ الَّذِي أَخَذَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ آبِقًا، فَلَهُ رَدُّهُ وَرَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْأَرْشِ وَأَخْذُ ثَمَنِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَخْذُ أَرْشِهِ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى رَدِّهِ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ، إلَّا أَنْ يَهْلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَدِّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعِيبٌ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ظَلَامَتَهُ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ أَرْشُهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَفِي الْبَيْعِ اسْتَدْرَكَ ظَلَامَتِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ] (3027) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ، فَهُوَ لَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي الرِّقَابِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرَّقَبَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ، فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وَلَنَا، أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا صَادَفَ الرَّقَبَةَ الْمَعِيبَةَ، وَالْجُزْءُ الَّذِي أَخَذَ بَدَلَهُ مَا تَنَاوَلَهُ عِتْقٌ، وَلَا كَانَ مَوْجُودًا، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ، إنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، جُعِلَ مُقَابِلًا لِلْجُزْءِ الْفَائِتِ، فَلَمَّا لَمْ يُحَصِّلْ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنْ الْمَبِيعِ، رَجَعَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَلِهَذَا رَجَعَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ، لَا مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يُحْمَلُ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، لَا عَلَى وُجُوبِهِ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَلِهَا، كَالْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَرْشُ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ، فَكَانَ لَهُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِعِتْقِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَيْب] (3028) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي، وَكَانَ لَهُ الرَّدُّ أَوْ الْأَرْشُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَيْبِ، هَلْ كَانَ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ حَدَثَ عِنْد الْمُشْتَرِي؟ لَمْ يَخْلُ مِنْ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنْ لَا يَحْتَمِلَ إلَّا قَوْلَ أَحَدِهِمَا، كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ، وَالشَّجَّةِ الْمُنْدَمِلَةِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهَا، وَالْجُرْحِ الطَّرِيِّ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ قَدِيمًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ يَدَّعِي ذَلِكَ، بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ صِدْقَهُ، وَكَذِبَ خَصْمِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِحْلَافِهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يَحْتَمِلَ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ وَالرَّفْوِ، وَنَحْوِهِمَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ، أَوْ أَنَّهُ مَا حَدَثَ عِنْدَهُ وَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ، وَاسْتِحْقَاقُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلُزُومُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ. وَالثَّانِيَةُ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، فَيَحْلِفُ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِ، إنْ أَجَابَ إنَّنِي بِعْتُهُ بَرِيئًا مِنْ الْعَيْبِ، حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ، عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الرَّدِّ، حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ لَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا عَلَى الْبَتِّ، لَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. [فَصْلٌ بَاعَ الْوَكِيلُ ثُمَّ ظُهْر الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ كَانَ بِهِ] (3029) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ كَانَ بِهِ، فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ، عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ، فَأَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ، وَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّدَّ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 عَلَى مُوَكِّلِهِ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِذَلِكَ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ، لَمْ يَمْلِكْ الْوَكِيلُ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. فَإِنْ أَنْكَرَهُ الْوَكِيلُ فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَنَكِلَ عَنْهَا، فَرُدَّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، فَهَلْ لَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى إقْرَارِهِ. وَالثَّانِي، لَهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. [فَصْلٌ اشْتَرَى جَارِيَة عَلَى أَنَّهَا بَكْر ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هِيَ ثَيِّب] (3030) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي: إنَّمَا هِيَ ثَيِّبٌ. أَرَيْت النَّسَاءَ الثِّقَاتِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ. فَإِنْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، وَقَالَ: مَا أَصَبْتهَا بِكْرًا. خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَيْبِ الْحَادِثِ. [فَصْلٌ رَدَّ الْمُشْتَرِي السِّلْعَة بِعَيْبِ فِيهَا فَأَنْكَرَ الْبَائِع كَوَّنَهَا سِلْعَته] (3031) فَصْلٌ: وَإِنْ رَدَّ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ بِعَيْبٍ فِيهَا، فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ كَوْنَهَا سِلْعَتَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَنَحْوَهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ صَرَفَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ رَجَعَ بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَيْسَ هَذَا دِرْهَمِي يَحْلِفُ الصَّيْرَفِيُّ: بِاَللَّهِ لَقَدْ وَفَّيْتُكَهُ، وَيَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُنْكِرٌ كَوْنَ هَذِهِ سِلْعَتَهُ، وَمُنْكِرٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. فَأَمَّا إنْ جَاءَ لِيَرُدَّ السِّلْعَةَ بِخِيَارٍ، فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنَّهَا سِلْعَتُهُ، فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِهِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى شَيْئًا مَأْكُوله فِي جَوْفه فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا] (3032) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا، مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ، فَكَسَرَهُ، فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَكْسُورِهِ قِيمَةٌ، كَبَيْضِ الدَّجَاجِ، رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ لِمَكْسُورِهِ قِيمَةٌ، كَجَوْزِ الْهِنْدِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الرَّدِّ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْكَسْرِ، أَوْ يَأْخُذُ مَا بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعِيبِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مَا لَا يُطَّلَعُ عَلَى عَيْبِهِ إلَّا بِكَسْرِهِ، كَالْبِطِّيخِ، وَالرُّمَّانِ، وَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، فَكَسَرَهُ فَبَانَ عَيْبُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ، وَلَا تَفْرِيطٌ؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِعَيْبِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إلَّا بِكَسْرِهِ، فَجَرَى مَجْرَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ. وَالثَّانِيَةُ، يَرْجِعُ عَلَيْهِ. وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ اقْتَضَى السَّلَامَةَ مِنْ عَيْبٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا بَانَ مَعِيبًا، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَ الْمَعِيبِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 دُونَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ صَحِيحًا، فَلَا مَعْنًى لِإِيجَابِ الثَّمَنِ كُلِّهِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُفَرِّطْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ لَهُ ثَمَنُ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ؛ بِدَلِيلِ الْعَيْبِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْعَبْدِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ مَكْسُورًا، كَبِيضِ الدَّجَاجِ الْفَاسِدِ، وَالرُّمَّانِ الْأَسْوَدِ، وَالْجَوْزِ الْخَرِبِ، وَالْبِطِّيخِ التَّالِفِ، رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَبَيَّنَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِكَوْنِهِ وَقَعَ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، كَالْحَشَرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مِمَّا لِمَعِيبِهِ قِيمَةٌ، كَجَوْزِ الْهِنْدِ، وَبَيْضِ النَّعَامِ، وَالْبِطِّيخِ الَّذِي فِيهِ نَفْعٌ، وَنَحْوِهِ، فَإِذَا كَسَرَهُ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ كَسْرًا لَا يُمْكِنُ اسْتِعْلَامُ الْمَبِيعِ بِدُونِهِ، فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهِ وَرَدِّ أَرْشِ الْكَسْرِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ عَيْبِهِ، وَهُوَ قِسْطُ مَا بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعِيبِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي لَا أَرْشَ عَلَيْهِ لِكَسْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِطَرِيقِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تُعْلَمُ لَهُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. أَنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يَمْنَعْ الرَّدَّ، فَلَزِمَ رَدُّ أَرْشِهِ، كَلَبَنِ الْمُصَرَّاةِ إذَا حَلَبَهَا، وَالْبِكْرِ إذَا وَطِئَهَا، وَبِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ مِنْ الْبَائِعَ، وَالتَّصْرِيَةُ حَصَلَتْ بِتَدْلِيسِهِ، وَإِنْ كَانَ كَسْرًا يُمْكِنُ اسْتِعْلَامُ الْمَبِيعِ بِدُونِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتْلِفُ الْمَبِيعَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَيْضًا. وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهِ وَأَرْشِ الْكَسْرِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، بَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، وَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَسَرَهُ كَسْرًا لَا يُبْقِي لَهُ قِيمَةً، فَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ، لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ، وَقَدْرُ أَرْشِ الْعَيْبِ قِسْطُ مَا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ مِنْ الثَّمَنِ، فَيُقَوَّمُ الْمَبِيعُ صَحِيحًا، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعِيبًا غَيْرَ مَكْسُورٍ، فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ. عَلَى مَا مَضَى شَرْحُهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى ثَوْبًا فَنَشَرَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا] (3033) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَنَشَرَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقُصُهُ النَّشْرُ، رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ يَنْقُصُهُ النَّشْرُ، كالهسنجاني، الَّذِي يُطْوَى طَاقَيْنِ مُلْتَصِقَيْنِ، جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى جَوْزِ الْهِنْدِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، فِيمَا إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ اسْتِعْلَامُ الْمَبِيعِ، أَوْ زَادَ، كَنَشْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُ. وَإِنْ أَحَبَّ أَخْذَ أَرْشِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ. [فَصْلٌ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْب] (3034) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ، فَلَهُ أَرْشُهُ لَا غَيْرُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ رَدَّهُ. وَأَخْذَ زِيَادَتِهِ بِالصَّبْغِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ، فَلَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، كَالسَّمْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وَالْكُسْبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِهَا، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَفَارَقَ السَّمْنَ وَالْكُسْبَ، فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ عَنْ السَّمْنِ عِوَضًا، وَالْكُسْبُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَرُدُّهُ، وَلَا يُعَاوَضُ عَنْهُ. وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا آخُذُهُ، وَأُعْطِي قِيمَةَ الصَّبْغِ. لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إلَّا رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ رَدُّهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَخْذَ الْأَرْشِ، كَمَا لَوْ سَمِنَ عَبْدُهُ، أَوْ كَسَبَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ، إلَّا بِرَدِّ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الْأَرْشِ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ رَدِّهِ، كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ، فَطَلَبَ الْبَائِعُ أَخْذَهُ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ. وَالْأَصْلُ لَا نُسَلِّمُهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الْأَرْشِ إذَا أَرَادَهُ بِكُلِّ حَالٍ. [فَصْلٌ بَيْعُ الْعَبْد الْجَانَّيْ] (3035) فَصْلٌ: يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ، عَمْدًا أَوْ خَطَأً، عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَمَنَعَ صِحَّةَ بَيْعِهِ، كَالرَّهْنِ، بَلْ حَقُّ الْجِنَايَةِ آكَدُ؛ لِأَنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي الْجَانِي، يَمْلِكُ أَدَاءَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْبَيْعَ، كَالزَّكَاةِ، أَوْ حَقٌّ يَثْبُتُ بِغَيْرِ رِضَا سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ بَيْعَهُ، كَالدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ تَصَرُّفٌ فِي الْجَانِي، فَجَازَ، كَالْعِتْقِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ قِصَاصًا، فَهُوَ تُرْجَى سَلَامَتُهُ وَيُخْشَى تَلَفُهُ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ. أَمَّا الرَّهْنُ، فَإِنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِيهِ، لَا يَمْلِكُ سَيِّدُهُ إبْدَالَهُ، ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ بِرِضَاهُ، وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ، فَلَوْ أَبْطَلَهُ بِالْبَيْعِ، سَقَطَ حَقُّ الْوَثِيقَةِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِرِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَتَى بَاعَهُ، وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، أَوْ الْقَوَدِ، فَعُفِيَ عَنْهُ إلَى مَالٍ، فَعَلَى السَّيِّدِ فِدَاؤُهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَيَزُولُ الْحَقُّ عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ الْخِيرَةَ، بَيْنَ تَسْلِيمِهِ وَفِدَائِهِ. فَإِنْ بَاعَهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِدَاؤُهُ؛ لِإِخْرَاجِ الْعَبْدِ مِنْ مِلْكِهِ. وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، إذْ الرُّجُوعُ عَلَى غَيْرِهِ، هَذَا إذَا كَانَ السَّيِّدُ مُوسِرًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ فِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ فِدَاءَهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا أَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ الرَّهْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْجَانِي، فَلَزِمَهُ فِدَاؤُهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ رَقَبَةِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَمْلِكُ نَقْلَ حَقِّهِ عَنْ رَقَبَتِهِ بِفِدَائِهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْمُعْسِرِ، فَيَبْقَى الْحَقُّ فِي رَقَبَتِهِ بِحَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي. وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ، إنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِبَقَاءِ الْحَقِّ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ، وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مُسْتَوْعِبَةً لِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَأَخَذَ بِهَا، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ أَيْضًا، لِأَنَّ أَرْشَ مِثْلِ هَذَا جَمِيعُ ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَوْعِبَةٍ لِرَقَبَتِهِ، رَجَعَ بِقَدْرِ أَرْشِهِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، رَاضِيًا بِتَعَلُّقِ الْحَقِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 بِهِ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَعِيبًا عَالِمًا بِعَيْبِهِ. فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي فِدَاءَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَالْبَيْعُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي الْخِيرَةِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ وَفِدَائِهِ، وَحُكْمُهُ فِي الرُّجُوعِ بِمَا فَدَاهُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ حُكْمُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، بَيْنَ الرَّدِّ وَأَخْذِ الْأَرْشِ، فَإِنْ اُقْتُصَّ مِنْهُ تَعَيَّنَ الْأَرْشُ، وَهُوَ قِسْطُ قِيمَتِهِ مَا بَيْنَهُ جَانِيًا وَغَيْرَ جَانٍ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ مِنْ أَصْلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ تَلَفَهُ كَانَ بِمَعْنًى اُسْتُحِقَّ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَجَرَى مَجْرَى إتْلَافِهِ إيَّاهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَلِفَ عِنْد الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَلَمْ يُوجِبْ الرُّجُوعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَرِيضًا، فَمَاتَ بِدَائِهِ، أَوْ مُرْتَدًّا، فَقُتِلَ بِرِدَّتِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَى إتْلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهُ، فَمَا اشْتَرَكَا فِي الْمُقْتَضِي. وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِقَطْعِ يَدِهِ، فَقُطِعَتْ عِنْد الْمُشْتَرِي، فَقَدْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَطْعِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَهَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ رَدَّهُ بِعَيْبِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمَتَى اشْتَرَاهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ؛ وَلَا أَرْشٌ، كَسَائِرِ الْمَعِيبَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (3036) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُرْتَدِّ حُكْمُ الْقَاتِلِ، فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، فَإِنَّ قَتْلَهُ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ؛ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ. وَكَذَلِكَ الْقَاتِلُ فِي الْمُحَارَبَةِ إذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ حَتَّى قُدِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ كَالْقَاتِلِ فِي غَيْرِ مُحَارَبَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ قِنٌّ، يَصِحُّ إعْتَاقُهُ، وَيَمْلِكُ اسْتِخْدَامَهُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَغَيْرِ الْقَاتِلِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَى حَالِ قَتْلِهِ، وَيَعْتِقُهُ فَيَنْجَرُّ بِهِ وَلَاءُ أَوْلَادِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالْمَرِيضِ الْمَأْيُوسِ مِنْ بُرْئِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَإِتْلَافُهُ وَإِذْهَابُ مَالِيَّتِهِ، وَحَرُمَ إبْقَاؤُهُ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ مِنْ الْحَشَرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ، وَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ الْيَسِيرَةُ مُفْضِيَةٌ بِهِ إلَى قَتْلِهِ لَا يَتَمَهَّدُ بِهَا مَحِلًّا لِلْبَيْعِ، كَالْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْمَيْتَةِ؛ لِسَدِّ بَثْقٍ، أَوْ إطْعَامِ كَلْبٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ كَانَ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ ذَلِكَ فِيهِ، وَانْحِتَامُ إتْلَافِهِ لَا يَجْعَلُهُ تَالِفًا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ أَحْكَامَ الْحَيَاةِ، مِنْ التَّكْلِيفِ وَغَيْرِهِ، لَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْمَوْتَى لَهُ، مِنْ إرْثِ مَالِهِ، وَنُفُوذِ وَصِيَّتِهِ وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا نَصَّ فِي هَذَا وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحَشَرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، فِيمَا مَضَى، وَلَا فِي الْحَالِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا التَّحَتُّمَ يُمْكِنُ زَوَالُهُ؛ لِزَوَالِ مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِهِ، أَوْ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ زَوَالُهُ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَحَقُّقُ تَلَفِهِ، وَذَلِكَ يَجْعَلُهُ كَالْمَرِيضِ الْمَأْيُوسِ مِنْ بُرْئِهِ، وَبَيْعُهُ جَائِزٌ. [مَسْأَلَةٌ بَاعَ عَبْده أَوْ جَارِيَته وَلَهُ مَال مِلْكه إيَّاهُ مَوْلَاهُ أَوْ خَصَّهُ بِهِ] (3037) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ، إذَا كَانَ قَصْدُهُ لِلْعَبْدِ لَا لِلْمَالِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ السَّيِّدَ إذَا بَاعَ عَبْدَهُ، أَوْ جَارِيَتَهُ، وَلَهُ مَالٌ مَلَّكَهُ إيَّاهُ مَوْلَاهُ، أَوْ خَصَّهُ بِهِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِلْبَائِعِ، فَإِذَا بَاعَ الْعَبْدَ اخْتَصَّ الْبَيْعُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا. وَإِنْ اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ كَانَ لَهُ؛ لِلْخَبَرِ، وَرَوَى ذَلِكَ نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا كَانَ قَصْدُهُ لِلْعَبْدِ لَا لِلْمَالِ. هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَمَعْنَاهُ، أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِالْبَيْعِ شِرَاءَ مَالِ الْعَبْدِ، إنَّمَا يَقْصِدُ بَقَاءَ الْمَالِ لِعَبْدِهِ، وَإِقْرَارَهُ فِي يَدِهِ، فَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، صَحَّ اشْتِرَاطُهُ، وَدَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. قَالَ الْبَتِّيُّ: إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ إذَا كَانَتْ رَغْبَةُ الْمُبْتَاعِ فِي الْعَبْدِ لَا فِي الدَّرَاهِمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَأَشْبَهَ أَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ، وَالتَّمْوِيهَ بِالذَّهَبِ فِي السُّقُوفِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَالُ مَقْصُودًا بِالشِّرَاءِ، جَازَ اشْتِرَاطُهُ إذَا وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْبَيْعِ، مِنْ الْعِلْمِ بِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَنِ رَبًّا، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْعَيْنَيْنِ الْمَبِيعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَقْصُودٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَمَّ إلَى الْعَبْدِ عَيْنًا أُخْرَى وَبَاعَهُمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ أَوْ لَا يَمْلِكُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ. فَاشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي مَالَهُ صَارَ مَبِيعًا مَعَهُ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ. اُحْتُمِلَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِي الْبَيْعِ لَا أَصْلٌ، فَأَشْبَهَ طَيَّ الْآبَارِ. وَهَذَا خِلَافُ نَصِّ أَحْمَدَ وَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الشَّرْطَ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِهِ قَصْدَ الْمُشْتَرِي دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاحْتِمَالُ الْجَهَالَةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، كَاللَّبَنِ فِي ضَرْعِ الشَّاةِ الْمَبِيعَةِ، وَالْحَمْلِ فِي بَطْنِهَا، وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَبِيعٌ، وَيَحْتَمِلُ فِيهِ الْجَهَالَةَ وَغَيْرَهَا، لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا اسْتِبْقَاءُ الْمُشْتَرِي عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ لَا يَزُولُ عَنْهُ إلَى الْبَائِعِ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَاشْتَرَطَ مَاله ثُمَّ رَدَّ الْعَبْد بِعَيْبِ أَوْ خِيَار أَوْ إقَالَة] (3038) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا، وَاشْتَرَطَ مَالُهُ، ثُمَّ رَدَّ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ، رَدَّ مَالَهُ مَعَهُ. وَقَالَ دَاوُد: يَرُدُّ الْعَبْدَ دُونَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، فَأَشْبَهَ النَّمَاءَ الْحَادِثَ عِنْدَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي، لَا تَحْصُلُ بِدُونِ الْبَيْعِ، فَيَرُدُّهَا بِالْفَسْخِ، كَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ ذَا مَالٍ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ، فَأَخْذُ مَالِهِ يَنْقُصُ قِيمَتَهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ رَدَّهُ حَتَّى يَدْفَعَ مَا يُزِيلُ نَقْصَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 فَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْد الْمُشْتَرِي، هَلْ يَمْنَعُ الرَّدَّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَرُدُّهُ. فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي رَجُلٍ اشْتَرَى أَمَةً مَعَهَا قِنَاعٌ، فَاشْتَرَطَهُ، وَظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ، وَقَدْ تَلِفَ الْقِنَاعُ: غَرِمَ قِيمَتَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. (3039) فَصْلٌ: وَمَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ الْجَارِيَةِ مِنْ الْحُلِيِّ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الثِّيَابُ فَقَالَ أَحْمَدُ: مَا كَانَ يَلْبَسهُ عِنْد الْبَائِع، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ ثِيَابًا يَلْبَسُهَا فَوْقَ ثِيَابِهِ، أَوْ شَيْئًا يُزَيِّنُهُ بِهِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. يَعْنِي أَنَّ الثِّيَابَ الَّتِي يَلْبَسُهَا عَادَةً لِلْخِدْمَةِ وَالْبِذْلَةِ، تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، دَوَّنَ الثِّيَابِ الَّتِي يَتَجَمَّلُ بِهَا؛ لِأَنَّ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا مَعَهُ، وَلِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَصْلَحَتُهُ وَحَاجَتُهُ، إذْ لَا غَنَاءَ لَهُ عَنْهَا، فَجَرَتْ مَجْرَى مَفَاتِيحِ الدَّارِ، بِخِلَافِ ثِيَابِ الْجَمَالِ، فَإِنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا حَاجَةُ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يُلْبِسُهَا إيَّاهُ لِيُنْفِقَهُ بِهَا، وَهَذِهِ حَاجَةُ السَّيِّدِ، لَا حَاجَةُ الْعَبْدِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهَا، فَجَرَتْ مَجْرَى السُّتُورِ فِي الدَّارِ وَالدَّابَّةِ الَّتِي يَرْكَبُهُ عَلَيْهَا، مَعَ دُخُولِهَا فِي الْخَبَرِ، وَبَقَائِهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَر: مَنْ بَاعَ وَلِيدَةً، زَيَّنَهَا بِثِيَابٍ، فَلِلَّذِي اشْتَرَاهَا مَا عَلَيْهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الَّذِي بَاعَهَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ وَلَنَا، الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. وَلِأَنَّ الثِّيَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا لَفْظُ الْبَيْعِ، وَلَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا مَعَهُ، أَشْبَهَ سَائِرَ مَالِ الْبَائِعِ. وَلِأَنَّهُ زِينَةٌ لِلْمَبِيعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ زَيَّنَ الدَّارَ بِبِسَاطٍ أَوْ سِتْرٍ. [فَصْلٌ لَا يَمْلِك الْعَبْد شَيْئًا إذَا لَمْ يَمْلِكهُ سَيِّده] (3040) فَصْلٌ: وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ شَيْئًا، إذَا لَمْ يُمَلِّكْهُ سَيِّدُهُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يَمْلِكُ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» . فَأَضَافَ الْمَالَ إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] . وَلِأَنَّ سَيِّدَهُ يَمْلِكُ عَيْنَهُ وَمَنَافِعَهُ، فَمَا حَصَلَ بِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ، كَبَهِيمَتِهِ. فَأَمَّا إنَّ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ شَيْئًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَمْلِكُهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالسَّيِّدُ يُزَكِّي عَمَّا فِي يَدِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ. وَقَالَ: وَالْعَبْدُ لَا يَرِثُ، وَلَا مَالَ لَهُ فَيُورَثُ عَنْهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ، كَالْبَهِيمَةِ. وَالثَّانِي، يَمْلِكُ. وَهِيَ أَصَحُّ عِنْدِي. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَمَلَكَ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ فِي النِّكَاحِ، فَمَلَكَ فِي الْمَالِ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَعْلِيلٌ بِالْمَانِعِ، وَلَا يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْمُقْتَضِي فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 فِي الْبَهِيمَةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهَا، وَإِنَّمَا انْتَفَى مِلْكُهَا لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لَهُ، لَا لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً، وَكَوْنُهَا مَمْلُوكَةً عَدِيمُ الْأَثَرِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً مِنْ الصَّيُودِ وَالْوُحُوشِ، لَا تُمَلَّكُ، وَكَذَلِكَ الْجَمَادَاتُ، وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُ مَا ذَكَرُوهُ مَانِعًا، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمُقْتَضِي، لَزِمَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بَاعَ سِلْعَة بِثَمَنِ مُؤَجَّل ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا] مَسْأَلَةٌ قَالَ وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِنَسِيئَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا بِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ ثَمَنٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا فَجَازَ مِنْ بَائِعِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ الْعَالِيَةِ بِنْتِ أَيْفَعَ بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلْت أَنَا وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَتُهُ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: إنِّي بِعْت غُلَامًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، ثُمَّ اشْتَرَيْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ لَهَا: بِئْسَ مَا شَرَيْت، وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَقُولُ مِثْلَ هَذَا التَّغْلِيظِ وَتُقْدِمُ عَلَيْهِ، إلَّا بِتَوْقِيفٍ سَمِعَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَرَى مَجْرَى رِوَايَتِهَا ذَلِكَ عَنْهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ السِّلْعَةَ، لِيَسْتَبِيحَ بَيْعَ أَلْفٍ بِخَمْسِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى مِائَةً بِخَمْسِينَ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ. يَعْنِي خِرْقَةَ حَرِيرٍ جَعَلَاهَا فِي بَيْعِهِمَا. وَالذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَأَمَّا بَيْعُهَا بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَرِيعَةً. وَهَذَا إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ لَمْ تَنْقُصْ عَنْ حَالَةِ الْبَيْعِ، فَإِنْ نَقَصَتْ، مِثْلُ إنْ هَزَلَ الْعَبْدُ، أَوْ نَسِيَ صِنَاعَةً، أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ، أَوْ بَلِيَ جَازَ لَهُ شِرَاؤُهَا بِمَا شَاءَ لِأَنَّ نَقْصَ الثَّمَنِ لِنَقْصِ الْمَبِيعِ لَا لِلتَّوَسُّلِ إلَى الرِّبَا. وَإِنْ نَقَصَ سِعْرُهَا، أَوْ زَادَ لِذَلِكَ أَوْ لِمَعْنًى حَدَثَ فِيهَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. (3042) فَصْلٌ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِعَرْضٍ، أَوْ كَانَ بَيْعُهَا الْأَوَّلُ بِعَرْضٍ، فَاشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ جَازَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا كَانَ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْعُرُوضِ. فَأَمَّا إنْ بَاعَهَا بِنَقْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ آخَرَ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهَا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا. فَجَازَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِعَرْضٍ، أَوْ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُتَّخَذُ وَسِيلَةً إلَى الرِّبَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهَا بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا أَصَحُّ. إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (3043) فَصْلٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ أَنِدَّانِ أَمْ نَعْتَانِ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا ... فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مُيِّزَتْ مَضَارِبُهُ فَقَوْلُهُ: نَعْتَانِ. أَيْ نَشْتَرِي عِينَةً مِثْلَمَا وَصَفْنَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ» . وَهَذَا وَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ الْعِينَةُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّجُلِ الْمَتَاعُ، فَلَا يَبِيعُهُ إلَّا بِنَسِيئَةٍ، فَإِنْ بَاعَهُ بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ: أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ تِجَارَةٌ غَيْرُ الْعِينَةِ لَا يَبِيعُ بِنَقْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إنَّمَا كَرِهَ النَّسِيئَةَ لِمُضَارَعَتِهَا الرِّبَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْبَائِعَ بِنَسِيئَةٍ يَقْصِدُ الزِّيَادَةَ بِالْأَجَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِينَةُ اسْمًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلِلْبَيْعِ بِنَسِيئَةٍ جَمِيعًا، لَكِنَّ الْبَيْعَ بِنَسِيئَةٍ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ اتِّفَاقًا، وَلَا يُكْرَهُ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ تِجَارَةٌ غَيْرُهُ. . [فَصْلٌ بَاعَ سِلْعَة بِنَقْدِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَكْثَر مِنْهُ نَسِيئَة] (3044) فَصْلٌ وَإِنْ بَاعَ سِلْعَةً بِنَقْدٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ نَسِيئَةً، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُغَيِّرَ السِّلْعَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَّخِذُهُ وَسِيلَةً إلَى الرِّبَا، فَأَشْبَهَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ آخَرَ، أَوْ بِسِلْعَةٍ أُخْرَى، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا نَسِيئَةً، جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ شِرَاؤُهَا بِجِنْسِ الثَّمَنِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ، أَوْ حِيلَةٍ، فَلَا يَجُوزُ. وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ بِالْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ التَّوَسُّلَ بِذَلِكَ أَكْثَرُ، فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ مَا دُونَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (3045) فَصْلٌ: وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ. لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِوَكِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ أَبَاهُ، أَوْ ابْنَهُ، أَوْ غَيْرَهُمَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْبَائِعِ وَيَشْتَرِي لِنَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ [فَصْلٌ بَاعَ طَعَامًا إلَى أَجَل فَلَمَّا حَلَّ أَخَذَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي فِي ذِمَّته طَعَامًا قَبْلَ قَبَضَهُ] (3046) فَصْلٌ وَمَنْ بَاعَ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ أَخَذَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ طَعَامًا قَبْلَ قَبْضِهِ، لَمْ يَجُزْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَجَازَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَك فِي ذَلِكَ رَأْيٌ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ: بِعْت تَمْرًا مِنْ التَّمَّارِينَ، كُلَّ سَبْعَةِ آصُعٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدْت عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَمْرًا يَبِيعُهُ أَرْبَعَةَ آصُعٍ بِدِرْهَمٍ، فَاشْتَرَيْت مِنْهُ، فَسَأَلْت عِكْرِمَةَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ، أَخَذْت أُنْقَصَ مِمَّا بِعْت. ثُمَّ سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرْته بُقُولِ عِكْرِمَةَ فَقَالَ: كَذَبَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مَا بِعْت مِنْ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ بِمِكْيَالٍ، فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ بِمِكْيَالٍ، إلَّا وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، فَإِذَا أَخَذْت وَرِقَك، فَابْتَعْ مِمَّنْ شِئْت مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَرَجَعْت، فَإِذَا عِكْرِمَةُ قَدْ طَلَبَنِي، فَقَالَ: الَّذِي قُلْت لَك هُوَ حَلَالٌ هُوَ حَرَامٌ. فَقُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ فَضَلَ لِي عِنْدَهُ فَضْلٌ؟ قَالَ: فَأَعْطِهِ أَنْتَ الْكَسْرَ، وَخُذْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ نَسِيئَةً، فَحَرُمَ كَمَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، فَعَلَى هَذَا، كُلُّ شَيْئَيْنِ حَرُمَ النَّسَاءُ فِيهِمَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، إذَا كَانَ الْبَيْعُ نِسَاءً. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُ. وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي جَوَازُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ حِيلَةً وَلَا قَصَدَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ قَدِمْت عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقُلْت لَهُ: إنِّي أَجُذُّ نَخْلِي، وَأَبِيعُ مِمَّنْ حَضَرَنِي التَّمْرَ إلَى أَجَلٍ، فَيَقْدَمُونَ بِالْحِنْطَةِ، وَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ الْأَجَلُ، فَيُوقِفُونَهَا بِالسُّوقِ، فَأَبْتَاعُ مِنْهُمْ وَأُقَاصُّهُمْ. قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْك عَلَى رَأْيٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الطَّعَامَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ أَوَّلَ لُزُومِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ الْأُوَلُ حَيَوَانًا أَوْ ثِيَابًا، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالثَّمَنِ طَعَامًا، وَلَكِنْ اشْتَرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 مِنْ الْمُشْتَرِي طَعَامًا بِدَرَاهِمَ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ وَفَاءً، أَوْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ، لَكِنْ قَاصَّهُ بِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ بَاعَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْره بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلّ عَيْب] (3047) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ بَاعَ حَيَوَانًا، أَوْ غَيْرَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، لَمْ يَبْرَأْ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، فَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: لَا يَبْرَأُ إلَّا مِمَّا سَمَّى. وَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا يَبْرَأُ إلَّا مِمَّا أَرَاهُ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ. لِأَنَّهُ مُرْفَقٌ فِي الْبَيْعِ، لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْطِ، فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الْجَهْلِ، كَالْخِيَارِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ عَلِمَهُ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَنَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ عَبْدًا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ، بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَصَابَ بِهِ زَيْدٌ عَيْبًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَتَرَافَعَا إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ أَنَّك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ؟ فَقَالَ: لَا. فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَبَاعَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ اُشْتُهِرَتْ، فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَجَازَ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْمَجْهُولِ فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا صِحَّةُ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَهِمَا، وَتَوَخَّيَا، وَلْيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْمَجْهُولِ جَائِزَةٌ، وَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ لَا تَسْلِيمَ فِيهِ، فَصَحَّ مِنْ الْمَجْهُولِ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، فَمَا ثَبَتَ فِي أَحَدِهِمَا ثَبَتَ فِي الْآخَرِ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ قَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ الْمُخَالِفُ لَا يَبْقَى حُجَّةً. (3048) فَصْلٌ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ. فَشَرْطُهُ لَمْ يُفْسِدْ الْبَيْعَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَاعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ. فَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَيَدْخُلُ فِيهَا هَذَا الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِهَذَا الثَّمَنِ عِوَضًا عَنْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِذَا فَسَدَ الشَّرْطُ فَاتَ الرِّضَى بِهِ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ لِعَدَمِ التَّرَاضِي بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 [مَسْأَلَةٌ بَيْع الْمُرَابَحَة] (3049) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا مُرَابَحَةً، فَعَلِمَ أَنَّهُ زَادَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ وَحَطَّهَا مِنْ الرِّبْحِ مَعْنَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، هُوَ الْبَيْعُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَرِبْحٍ مَعْلُومٍ، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ فَيَقُولُ: رَأْسُ مَالِي فِيهِ أَوْ هُوَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ بِعْتُك بِهَا، وَرِبْحُ عَشَرَةٍ، فَهَذَا جَائِزٌ لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ كَرَاهَةً. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك بِرَأْسِ مَالِي فِيهِ وَهُوَ مِائَةٌ، وَأَرْبَحُ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا، أَوْ قَالَ: ده يازده. أَوْ ده داوزده. فَقَدْ كَرِهَهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ فِي الْحِسَابِ. وَرَخَّصَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَشُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَعْلُومٌ وَالرِّبْحَ مَعْلُومٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: وَرِبْحُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَرِهَاهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْجَهَالَةِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْهَا أَوْلَى. وَهَذِهِ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْجَهَالَةُ يُمْكِنُ إزَالَتُهَا بِالْحِسَابِ، فَلَمْ تَضُرَّ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَةً كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ بِهِ فِي الْحِسَابِ، فَمَجْهُولٌ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: مَتَى بَاعَ شَيْئًا بِرَأْسِ مَالِهِ، وَرِبْحِ عَشَرَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ بِتَنْبِيهٍ أَوْ إقْرَارٍ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ تِسْعُونَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ، كَالْعَيْبِ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا زَادَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَحَطَّهَا مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ، فَيَبْقَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَخْذِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، أَوْ يَتْرُكُ قِيَاسًا عَلَى الْمَعِيبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ وَمَا قَدَّرَهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِذَا بَانَ رَأْسُ مَالِهِ قَدْرًا مَبِيعًا بِهِ وَبِالزِّيَادَةِ الَّتِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا، وَالْمَعِيبُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا، فَإِنَّ لَهُ أَخْذَ الْأَرْشِ، ثُمَّ الْمَعِيبُ لَمْ يَرْضَ بِهِ، إلَّا بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ، وَهَاهُنَا رَضِيَ فِيهِ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ الْمُقَرَّرِ. وَهَلْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ؟ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِ. نَقَلَهُ حَنْبَلٌ، وَحُكِيَ ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَأْمَنُ الْجِنَايَةَ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي الشِّرَاءِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ بِعَيْنِهِ؛ لِكَوْنِهِ حَالِفًا، أَوْ وَكِيلًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَهُ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ، فَبَانَ صَحِيحًا، أَوْ أُمِّيٌّ، فَبَانَ صَانِعًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ وُكِّلَ فِي شِرَاءٍ مُعَيَّنٍ بِمِائَةٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 فَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ. وَأَمَّا الْبَائِعُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ. (3050) فَصْلٌ وَإِذَا أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِثَمَنِ السِّلْعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا، لَمْ تَتَغَيَّرْ، أَخْبَرَ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي، أَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، لَمْ يُجَزِّئْهُ، وَيُخْبِرُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لَا غَيْرُ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ هِبَةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، لَا يَكُونُ عِوَضًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ، وَيُخْبِرُ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَحِقَ بِالْعَقْدِ، وَأَخْبَرَ بِهِ فِي الثَّمَنِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. فَإِنْ تَغَيَّرَ سِعْرُهَا دُونَهَا، فَإِنْ غَلَتْ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِيهَا وَإِنْ رَخُصَتْ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ بِدُونِ الْإِخْبَارِ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِخْبَارُ بِالْحَالِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ، لَمْ يَرْضَهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَكِتْمَانُهُ تَغْرِيرٌ بِهِ. فَإِنْ أَخْبَرَ بِدُونِ ثَمَنِهَا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالتَّغْرِيرِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ تَغَيَّرَتْ السِّلْعَةُ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدِهِمَا، أَنْ تَتَغَيَّرَ بِزِيَادَةٍ، وَهِيَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ تَزِيدَ لِنَمَائِهَا، كَالسَّمْنِ، وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، أَوْ يَحْصُلُ مِنْهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، وَالْكَسْبِ، فَهَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، أَخْبَرَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ. وَإِنْ أَخَذَ النَّمَاءَ الْمُنْفَصِلَ، أَوْ اسْتَخْدَمَ الْأَمَةَ، أَوْ وَطِئَ الثَّيِّبَ، أَخْبَرَ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَبْيِينُ الْحَالِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي الْغَلَّةِ يَأْخُذُهَا: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً، وَفِي الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ لَا يَبِيعُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَلِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ. وَلَنَا أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ بِالْمُشْتَرِي، فَجَازَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَزِدْ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بِدُونِ ذِكْرِهِ، كَالْغَلَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجَبَاتِ الْعَقْدِ. النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَمَلًا، مِثْلُ أَنْ يَقْصُرَهَا، أَوْ يَرْفُوَهَا، أَوْ يُجَمِّلَهَا أَوْ يَخِيطَهَا، فَهَذِهِ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً أَخْبَرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، سَوَاءٌ عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ عَمِلَهُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يُبَيِّنُ مَا اشْتَرَاهُ وَمَا لَزِمَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: تَحَصَّلَتْ عَلَيَّ بِكَذَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ فِيمَا اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ الْأُجْرَةَ إلَى الثَّمَنِ، وَيَقُولَ: تَحَصَّلَتْ عَلَيَّ بِكَذَا. لِأَنَّهُ صَادِقٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالشَّافِعِيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وَلَنَا أَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِالْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ مَا تَحَصَّلَتْ بِهِ لِأَجْلِ الصِّنَاعَةِ، لَا يَرْغَبُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا يَنْقُصُ الْحَيَوَانَ فِي مُؤْنَتِهِ، وَكِسْوَتِهِ، وَعَلَى الْمُبْتَاعِ فِي خَزْنِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَتَغَيَّرَ بِنَقْصٍ، كَنَقْصِهِ بِمَرَضٍ، أَوْ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِهِ، أَوْ بِوِلَادَةٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ، كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ أَخَذَ أَرْشَ الْعَيْبِ، أَوْ الْجِنَايَةِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَحُطُّ أَرْشَ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيُخْبِرُ بِالْبَاقِي، لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ عِوَضُ مَا فَاتَ بِهِ، فَكَانَ ثَمَنُ الْمَوْجُودِ هُوَ مَا بَقِيَ. وَفِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحُطُّهُ مِنْ الثَّمَنِ، كَأَرْشِ الْعَيْبِ. وَالثَّانِي، لَا يَحُطُّهُ كَالنَّمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحُطُّهُمَا مِنْ الثَّمَنِ، وَيَقُولُ: تَقَوَّمَ عَلَيَّ بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْبَرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ أَبْلَغُ فِي الصِّدْقِ، وَأَقْرَبُ إلَى الْبَيَانِ وَنَفْيِ التَّغْرِيرِ بِالْمُشْتَرِي وَالتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، وَقَسَّطَ الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا. وَقِيَاسُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ عَلَى النَّمَاءِ وَالْكَسْبِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ عِوَضُ نَقْصِهِ الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ جُزْءٍ مِنْهُ بَاعَهُ، وَكَقِيمَةِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ إذَا تَلِفَ أَحَدُهُمَا، وَالنَّمَاءُ وَالْكَسْبُ زِيَادَةٌ لَمْ يَنْقُصْ بِهَا الْمَبِيعُ وَلَا هِيَ عِوَضٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَأَمَّا إنْ جَنَى الْمَبِيعُ، فَفَدَاهُ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَلْحَقْ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ هَذَا الْأَرْشَ لَمْ يَزِدْ بِهِ الْمَبِيعُ قِيمَةً وَلَا ذَاتًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُزِيلٌ لِنَقْصِهِ بِالْجِنَايَةِ وَالْعَيْبِ الْحَاصِلِ بِتَعَلُّقِهَا بِرَقَبَتِهِ، فَأَشْبَهَ الدَّوَاءَ الْمُزِيلَ لِمَرَضِهِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. فَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ، وَالْمُؤْنَةُ، وَالْكِسْوَةُ، وَعَمَلُهُ فِي السِّلْعَةِ بِنَفْسِهِ، أَوْ عَمَلُ غَيْرِهِ لَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ فِي الثَّمَنِ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَخْبَرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، فَحَسَنٌ. [فَصْلٌ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ صَفْقَة وَاحِدَة ثُمَّ أَرَادَ بَيْع أَحَدهمَا مُرَابَحَة] فَصْلٌ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَرَادَ بَيْعَ أَحَدِهِمَا مُرَابَحَةً، أَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا، فَتَقَاسَمَاهُ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا بَيْعَ نَصِيبِهِ مُرَابَحَةً، بِالثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ فِيهِ، فَذَلِكَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ الَّتِي لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهَا بِالْأَجْزَاءِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ مُرَابَحَةً، حَتَّى يُخْبِرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَقَالَ: كُلُّ بَيْعٍ اشْتَرَاهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ، لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمْ مُرَابَحَةً، إلَّا أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْنَاهُ جَمَاعَةً، ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَبِيعِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا وَسَيْفًا، أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا مَعِيبًا رَدَّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِيمَا اشْتَرَاهُ اثْنَانِ فَتَقَاسَمَاهُ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً بِمَا اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَمَنُهُ، فَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّ قِسْمَةَ الثَّمَنِ عَلَى الْمَبِيعِ طَرِيقُهُ الظَّنُّ وَالتَّخْمِينُ، وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهِ كَثِيرٌ وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ أَمَانَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ هَذَا فِيهِ، فَصَارَ هَذَا كَالْخَرْصِ الْحَاصِلِ بِالظَّنِّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِهِ مَا يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِالْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَكَوْنِهِ لَا طَرِيقَ لَهُ سِوَى التَّقْوِيمِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ بِالشُّفْعَةِ لَاتَّخَذَهُ النَّاسُ طَرِيقًا لِإِسْقَاطِهَا، فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَاهُنَا لَهُ طَرِيقٌ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ بَيْعُهُ مُسَاوِمَةً. الْقَسَمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِنْ الْمُتَمَاثِلَاتِ الَّتِي يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهَا بِالْأَجْزَاءِ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ الْمُتَسَاوِي، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ مُرَابَحَةً بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْجُزْءِ مَعْلُومٌ يَقِينًا، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَخَذَهُمَا عَلَى الصِّفَةِ، وَأَرَادَ بَيْعَ أَحَدِهِمَا مُرَابَحَةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَالَهُ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ، كَانَ لَهُ نِصْفُ الثَّمَنِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمَا، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا. وَلِأَنَّ الثَّمَنَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا مُتَسَاوِيًا لِتَسَاوِي صِفَتِهِمَا فِي الذِّمَّةِ، فَهُمَا كَقَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَةٍ. وَإِنْ حَصَلَ فِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى الصِّفَةِ، جَرَتْ مَجْرَى الْحَادِثِ بَعْدَ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنِ مُؤَجَّل لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً] (3053) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً، حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ، أَوْ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً، حَتَّى يُبَيِّنَ أَمْرَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا اشْتَرَاهُ عَقْدًا صَحِيحًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُمْ؛ لِكَوْنِهِ يُحَابِيهِمْ وَيَسْمَحُ لَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ مُكَاتَبِهِ، وَفَارَقَ الْأَجْنَبِيَّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي حَقِّهِ. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالشِّرَاءِ مِنْ مُكَاتَبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ مُرَابَحَةً، حَتَّى يُبَيِّنَ أَمْرَهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْ غُلَامِ دُكَّانِهِ الْحُرِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: إذَا بَاعَهُ سِلْعَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ أَمْرَهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً لَمْ يَجُزْ. وَظَاهِرُهُ الْجَوَازُ إذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ، لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ هَذَا بِغُلَامِ دُكَّانِهِ، بَلْ مَتَى فَعَلَ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ حَرَامًا وَتَدْلِيسًا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ ثُمَّ بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ] (3054) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُخْبِرَ بِالْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ، جَازَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تُهْمَةٌ، وَلَا تَغْرِيرٌ بِالْمُشْتَرِي فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَرْبَحْ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ يَطْرَحُ الرِّبْحَ مِنْ الثَّمَنِ وَيُخْبِرُ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ. وَأَعْجَبَ أَحْمَدَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: فَإِنْ بَاعَهُ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ، يُبَيِّنُ أَمْرَهُ. يَعْنِي يُخْبِرُ أَنَّهُ رَبِحَ فِيهِ مَرَّةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَهُ، أَوْ يُخْبِرَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ تُضَمُّ فِيهَا الْعُقُودُ فَيُخْبِرُ بِمَا تَقُومُ عَلَيْهِ، كَمَا تُضَمُّ أُجْرَةُ الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ. وَقَدْ اسْتَفَادَ بِهَذَا الْعَقْدِ الثَّانِي تَقْرِيرَ الرِّبْحِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَمِنَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ أَحَدُ نَوْعَيْ النَّمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا طَرَحَ الرِّبْحَ مِنْ الثَّمَنِ الثَّانِي يَقُولُ: تَقُومُ عَلَى بِخَمْسَةٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْته بِخَمْسَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَالْكَذِبُ حَرَامٌ وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ ضَمَّ أُجْرَةَ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ إلَى الثَّمَنِ وَأَخْبَرَ بِهِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ ضَمِّ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ فَشَيْءٌ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ لَا نُسَلِّمُهُ، ثُمَّ لَا يُشْبِهُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ وَالنَّمَاءَ لَزِمَاهُ فِي هَذَا الْبَيْعِ الَّذِي يَلِي الْمُرَابَحَةَ وَهَذَا الرِّبْحُ فِي عَقْدٍ آخَرَ قَبْلَ هَذَا الشِّرَاءِ فَأَشْبَهَ الْخَسَارَةَ فِيهِ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الرِّبْحِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدْ لَزِمَ، وَلَمْ يَظْهَرْ الْعَيْبُ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُهُ ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ إذَا ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ طَرْحُ النَّمَاءِ وَالْغَلَّةِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِعِشْرِينَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّهَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ أَخْبَرَ أَنَّهَا تَقَوَّمَتْ عَلَيْهِ بِدِرْهَمَيْنِ. وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، أَخْبَرَ أَنَّهَا تَقَوَّمَتْ عَلَيْهِ بِاثْنَيْ عَشَرَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا. وَعَلَى هَذَا يَطْرَحُ الرِّبْحَ مِنْ الثَّمَنِ الثَّانِي كَيْفَمَا كَانَ، فَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ، وَلَكِنْ اشْتَرَاهَا ثَانِيَةً بِخَمْسَةٍ أَخْبَرَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا ثَمَنُ الْعَقْدِ الَّذِي يَلِي الْمُرَابَحَةَ. وَلَوْ خَسِرَ فِيهَا، مِثْلُ إنْ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ بَاعَهَا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ، أَخْبَرَ بِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَضُمَّ الْخَسَارَةَ إلَى الثَّمَنِ الثَّانِي فَيُخْبِرَ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 (3055) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا قُلْنَا: إنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَيُبَيِّنَهُ. فَلَمْ يَفْعَلْ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَفْسُدُ بِهِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَخْذِ بِهِ وَبَيْنَ الرَّدِّ، إلَّا فِي الْخَبَرِ بِزِيَادَةِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهُ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَالًا وَبَيْنَ الْفَسْخِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَكُونُ ذِمَّتُهُ دُونَ ذِمَّةِ الْبَائِعِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الرِّضَى بِذَلِكَ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، كَانَ لَهُ ذَلِكَ إلَى الْأَجَلِ يَعْنِي وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ كَانَ قَدْ اُسْتُهْلِكَ، حَبَسَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ بِقَدْرِ الْأَجَلِ. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ وَقَعَ عَلَى الْبَائِعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ بِذَلِكَ عَلَى صِفَتِهِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَيْعِ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَرْضَ بِبَيْعِهِ إلَّا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى رِضَاهُ، بَلْ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ. كَذَا هَاهُنَا (3056) فَصْلٌ: فَإِنْ ابْتَاعَهُ بِدَنَانِيرَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ، أَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ، أَوْ بِثَمَنٍ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ الرِّضَى بِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي تَبَايَعَا بِهِ، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا ذَلِكَ. (3057) فَصْلٌ وَإِنْ ابْتَاعَ اثْنَانِ ثَوْبًا بِعِشْرِينَ، وَبُذِلَ لَهُمَا فِيهِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ فِيهِ بِذَلِكَ السِّعْرِ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ فِي الْمُرَابَحَةِ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ يَبِيعُهُ عَلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ الَّذِي كَانَ أُعْطِيَهُ قَدْ كَانَ أَحْرَزَهُ. ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ الْأَوَّلَ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى نِصْفَهُ الثَّانِي بِأَحَدَ عَشَرَ، فَصَارَ مَجْمُوعُهُمَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ. [فَصْلٌ فِي مِنْ يَبِيع بِالرَّقْمِ] (3058) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ. بِالرَّقْمِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمَا حَالَ الْعَقْدِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ. وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَكَرَ مِقْدَارَهُ، أَوْ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا بِمَا اشْتَرَيْته بِهِ وَقَدْ عَلِمَا قَدْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ. قَالَ أَحْمَدُ وَالْمُسَاوَمَةُ عِنْدِي أَسْهَلُ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ تَعْتَرِيهِ أَمَانَةٌ وَاسْتِرْسَالٌ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَبْيِينِ الْحَالِ عَلَى وَجْهِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا يُؤْمَنُ هَوَى النَّفْسِ فِي نَوْعِ تَأْوِيلٍ أَوْ غَلَطٍ فَيَكُونُ عَلَى خَطَرٍ وَغَرَرٍ وَتَجَنُّبُ ذَلِكَ أَسْلَمُ وَأَوْلَى. [فَصْلٌ بَيْع التَّوْلِيَة] فَصْلٌ (3059) وَبَيْعُ التَّوْلِيَةِ هُوَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ مِنْ غَيْر نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَحُكْمُهُ فِي الْإِخْبَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 بِثَمَنِهِ وَتَبْيِينُ مَا يَلْزَمُهُ تَبْيِينُهُ حُكْمُ الْمُرَابَحَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَلَفْظِ التَّوْلِيَةِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ فِي الْمُرَابَحَة رَأْس مَالِيّ فِيهِ مِائَة وَأَرْبَح عَشَرَة ثُمَّ عَادَ فَقَالَ غَلِطَتْ رَأْس مَالِيّ فِيهِ مِائَة وَعَشَرَة] (3060) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِنْ أَخْبَرَ بِنُقْصَانٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّهُ، أَوْ إعْطَاؤُهُ مَا غَلِطَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَنَّ وَقْتَ مَا بَاعَهَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ شِرَاءَهَا بِأَكْثَرَ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْمُرَابَحَةِ: رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةٌ، وَأَرْبَحُ عَشَرَةً. ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: غَلِطْت، رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْغَلَطِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ ثَانِيًا. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَدُوقًا، جَازَ الْبَيْعُ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْمُرَابَحَةِ فَقَدْ ائْتَمَنَهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ يَمِينِهِ، كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ لَمْ يَتْرُكْ ذِكْرَ مَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ فِي إثْبَاتِ دَعْوَاهُ؛ لِكَوْنِهِ يَقْبَلُ مُجَرَّدَ دَعْوَاهُ، بَلْ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهَا، فَعَلِمَ أَنَّهُ زَادَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِبَيِّنَةِ أَوْ إقْرَارٍ، كَذَلِكَ عِلْمُ غَلَطِهِ هَاهُنَا يَحْصُلُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَكَوْنُ الْبَائِعِ مُؤْتَمَنًا لَا يُوجِبُ قَبُولَ دَعْوَاهُ فِي الْغَلَطِ، كَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ إذَا أَقَرَّا بِرِبْحٍ ثُمَّ قَالَا: غَلِطْنَا أَوْ نَسِينَا. وَالْيَمِينُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، إنَّمَا هِيَ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ بِغَلَطِ نَفْسِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ، لَا عَلَى إثْبَاتِ غَلَطِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالثَّمَنِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ. فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ؛ لِإِقْرَارِهِ بِكَذِبِهَا وَلَنَا أَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، شَهِدَتْ بِمَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، فَتُقْبَلُ، كَسَائِرِ الْبَيِّنَاتِ. وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِخِلَافِهَا؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَكُونُ لِغَيْرِ الْمُقِرِّ وَحَالَةَ إخْبَارِهِ بِثَمَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارٌ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَقُلْنَا: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، فَادَّعَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْلَمُ غَلَطَهُ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ طَلَبَ يَمِينَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ لَهُ فَيَسْتَغْنِي بِالْإِقْرَارِ عَنْ الْيَمِينِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ بِهِ رَدُّ السِّلْعَةِ أَوْ زِيَادَةٌ فِي ثَمَنِهَا فَلَزِمَتْهُ الْيَمِينُ، كَمَوْضِعِ الْوِفَاقِ. وَلَيْسَ هُوَ هَاهُنَا مُدَّعِيًا، إنَّمَا هُوَ مُدَّعَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ الْخِرَقِيِّ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَنَّ وَقْتَ مَا بَاعَهَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ شِرَاءَهَا أَكْثَرُ. وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بِهَذَا الثَّمَنِ عَالِمًا بِأَنَّ ثَمَنَهَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ، لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَاطَى شَيْئًا عَالِمًا بِالْحَالِ، فَلَزِمَهُ، كَمُشْتَرِي الْمَعِيبِ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ يَلْزَمُهُ بِالْعِلْمِ فَادَّعَى عَلَيْهِ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ. فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفَ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ قَبُولِهِ بِالثَّمَنِ وَالزِّيَادَةِ الَّتِي غَلِطَ بِهَا وَحَطِّهَا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 الرِّبْحِ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَرِبْحِ عَشَرَةٍ، ثُمَّ إنَّهُ غَلِطَ بِعَشَرَةٍ، لَا يَلْزَمُهُ حَطُّ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّ الْبَائِعَ رَضِيَ بِرِبْحِ عَشَرَةٍ فِي هَذَا الْمَبِيعِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ إنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زَادَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، لَا يَنْقُصُ الرِّبْحَ مِنْ عَشَرَةٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِرِبْحِ عَشَرَةٍ، فَأَمَّا إنْ قَالَ: وَأَرْبَحُ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا. أَوْ قَالَ: ده يازده. لَزِمَهُ حَطُّ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْغَلَطِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا لَهُ الْخِيَارَ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ، فَإِذَا بَانَ أَكْثَرَ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْتِزَامِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَالْمَعِيبِ. وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَهَا بِمِائَةٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ خَيْرًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ كَبَائِعِ الْمَعِيبِ إذَا رَضِيَهُ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ اخْتَارَ الْبَائِعُ إسْقَاطَ الزِّيَادَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي، فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَذَلَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَتَرَاضَيَا بِهِ. [فَصْلٌ بَيْع الْمُوَاضَعَة] (3061) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُوَاضَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَ بِرَأْسِ مَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ: بِعْتُك هَذَا بِهِ وَأَضَعُ عَنْك كَذَا فَإِنْ قَالَ: بِوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ كُرِهَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُرَابَحَةِ وَصَحَّ وَيَطْرَحُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا. فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِائَةً لَزِمَهُ تِسْعُونَ، وَيَكُونُ الْحَطُّ عَشَرَةً. وَقَالَ قَوْمٌ: يَكُونُ الْحَطُّ مِنْ كُلِّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَتَبْقَى تِسْعُونَ وَعَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ حَطًّا مِنْ كُلِّ أَحَدَ عَشَرَ، وَهُوَ غَيْرُ مَا قَالَهُ. فَأَمَّا إنْ قَالَ بِوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ لِكُلِّ عَشَرَةٍ، كَانَ الْوَضِيعَةُ مِنْ كُلِّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَيَكُونُ الْبَاقِي تِسْعِينَ وَعَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَطُّ هَاهُنَا عَشَرَةٌ مِثْلُ الْأُولَى. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: لِكُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا يَكُونُ الدِّرْهَمُ مِنْ غَيْرِهَا. فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَإِذَا قَالَ: مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا. كَانَ الدِّرْهَمُ مِنْ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: آخُذُ مِنْ الْعَشَرَةِ تِسْعَةً، وَأَحُطُّ مِنْهَا دِرْهَمًا. [فَصْلٌ اشْتَرَى رَجُل نِصْف سِلْعَة بِعَشَرَةِ وَاشْتَرَى آخَر نِصْفهَا بِعَشَرَيْنِ ثُمَّ بَاعَاهَا مُسَاوِمَة بِثَمَنِ وَاحِد] (3062) فَصْلٌ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ سِلْعَةٍ بِعَشَرَةٍ، وَاشْتَرَى آخَرُ نِصْفَهَا بِعِشْرِينَ، ثُمَّ بَاعَاهَا مُسَاوَمَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضٌ عَنْهَا، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ مِلْكَيْهِمَا فِيهَا. وَإِنْ بَاعَاهَا مُرَابَحَةً أَوْ مُوَاضَعَةً أَوْ تَوْلِيَةً، فَكَذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ. قَالَ الْأَثْرَمُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا بَاعَهَا، فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ قُلْت: أَعْطَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى الْآخَرُ؟ فَقَالَ: وَإِنْ أُلْبِسَ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا السَّاعَةَ سَوَاءً فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ مِثْلَ الَّذِي يَمْلِكُ صَاحِبُهُ. وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَحْمَدَ. رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ رَأْسِ الْمَالِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا. وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً بِمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ. وَقِيلَ: هَذَا وَجْهٌ خَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضُ الْمَبِيعِ وَمِلْكُهُمَا مُتَسَاوٍ فِيهِ فَكَانَ مِلْكُهُمَا كَعِوَضِهِ مُتَسَاوِيًا. كَمَا لَوْ بَاعَاهُ مُسَاوَاةً. (3063) فَصْلٌ: وَمَتَى بَاعَاهُ السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا، وَلَا يَعْلَمَانِهِ أَوْ جَهِلَا رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُرَابَحَةِ، أَوْ الْمُوَاضَعَةِ أَوْ التَّوْلِيَةِ أَوْ جَهِلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا أَوْ جَهِلَ قَدْرَ الرِّبْحِ أَوْ قَدْرَ الْوَضِيعَةِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَلَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. وَلَوْ بَاعَهُ بِمِائَةٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ وَيَكُونُ نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، كَالْإِقْرَارِ. وَلَنَا أَنَّ قَدْرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِمِائَةٍ بَعْضُهَا ذَهَبٌ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، صَحَّ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. [مَسْأَلَةٌ بَاعَ شَيْئًا وَاخْتَلَفَا فِي ثَمَنه] (3064) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا وَاخْتَلَفَا فِي ثَمَنِهِ، تَحَالَفَا، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ وَإِلَّا انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْمُبْتَدِئُ بِالْيَمِينِ الْبَائِعُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ. (3065) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك بِعِشْرِينَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ بِعَشَرَةٍ وَلِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالُفًا. وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ. وَعَنْهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَزُفَرُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَشَرَةً زَائِدَةً، يُنْكِرُهَا الْمُشْتَرِي، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدًا، وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ فَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ أَخَذَ بِهِ وَإِنْ أَبَى حَلَفَ أَيْضًا وَفُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا، تَحَالَفَا وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَقْدًا بِعِشْرِينَ، يُنْكِرُهُ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَقْدًا بِعَشَرَةٍ يُنْكِرُهُ الْبَائِعُ، وَالْعَقْدُ بِعَشَرَةٍ غَيْرُ الْعَقْدِ بِعِشْرِينَ فَشُرِعَتْ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِمَا، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ. (3066) الْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُبْتَدِئَ بِالْيَمِينِ الْبَائِعُ، فَيَحْلِفُ مَا بِعْتُهُ بِعَشَرَةٍ، وَإِنَّمَا بِعْته بِعِشْرِينَ. فَإِنْ شَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ، وَإِلَّا يَحْلِفُ مَا اشْتَرَيْته بِعِشْرِينَ وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته بِعَشَرَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَبْتَدِئُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ فِي جَنْبَتِهِ أَقْوَى وَلِأَنَّهُ يُقْضَى بِنُكُولِهِ وَيَنْفَصِلُ الْحُكْمُ، وَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ كَانَ أَوْلَى وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ» وَفِي لَفْظٍ «فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَعْنَاهُ: إنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ حَلَفَ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ أَقْوَى جَنْبَةً لِأَنَّهُمَا إذَا تَحَالَفَا عَادَ الْمَبِيعُ إلَيْهِ، فَكَانَ أَقْوَى، كَصَاحِبِ الْيَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ، فَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْبَائِعُ إذَا نَكَلَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي، يَحْلِفُ الْآخَرُ، وَيُقْضَى لَهُ، فَهُمَا سَوَاءٌ. (3067) الْفَصْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْبَائِعُ فَنَكَلَ الْمُشْتَرِي عَنْ الْيَمِينِ، قُضِيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَكَلَ الْبَائِعُ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي، وَقُضِيَ لَهُ. وَإِنْ حَلَفَا جَمِيعًا، لَمْ يَنْفَسِخْ الْبَيْعُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ، فَتَنَازُعُهُمَا، وَتَعَارُضُهُمَا لَا يَفْسَخُهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، لَكِنْ إنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَالَ صَاحِبُهُ أُقِرَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْضَيَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ الْفَسْخُ عَلَى الْحَاكِمِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَأَحَدُهُمَا ظَالِمٌ، وَإِنَّمَا يَفْسَخُهُ الْحَاكِمُ لِتَعَذُّرِ إمْضَائِهِ فِي الْحُكْمِ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيَّانِ، وَجَهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ» وَظَاهِرُهُ اسْتِقْلَالُهُمَا بِذَلِكَ، وَفِي الْقِصَّةِ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَاعَ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ رَقِيقًا مِنْ رَقِيقِ الْإِمَارَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بِعْتُك بِعِشْرِينَ أَلْفًا. قَالَ الْأَشْعَثُ اشْتَرَيْت مِنْك بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيْعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ» قَالَ: فَإِنِّي أَرُدُّ الْبَيْعَ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى أَيْضًا حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ اسْتَحْلَفَ الْبَائِعُ ثُمَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يُفْسَخُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ لِاسْتِدْرَاكِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 الظُّلَامَةِ، فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُشْبِهُ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الِاسْتِقْلَالَ بِالطَّلَاقِ وَإِذَا فُسِخَ الْعَقْدُ، فَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْفَسْخَ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِاسْتِدْرَاكِ الظُّلَامَةِ، فَهُوَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ فَسْخُ عَقْدٍ بِالتَّحَالُفِ فَوَقَعَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَالْفَسْخِ بِاللِّعَانِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إنْ كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا لَمْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ إمْضَاءُ الْعَقْدِ، وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يُبَاحُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ظَالِمًا، انْفَسَخَ الْبَيْعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ فِي الْبَاطِنِ بِحَالٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي الْبَاطِنِ بِحَالٍ، لَمَا أَمْكَنَ فَسْخُهُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفُ فِيمَا رَجَعَ إلَيْهِ بِالْفَسْخِ وَمَتَى عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ مُنِعَ مِنْهُ. وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُمَا الْفَسْخَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَانْفَسَخَ بِفَسْخِهِ فِي الْبَاطِنِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ إنْ فَسَخَهُ الصَّادِقُ مِنْهُمَا، انْفَسَخَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ فَسَخَهُ الْكَاذِبُ عَالِمًا بِكَذِبِهِ، لَمْ يَنْفَسِخْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفَسْخُ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَيَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِهِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا رَجَعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ بِدَعْوَى الْعَيْبِ، وَلَا عَيْبَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَا فِي صِفَة السِّلْعَة] (3068) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ تَالِفَةً تَحَالَفَا وَرَجَعَا إلَى قِيمَةِ مِثْلِهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْطِيَ الثَّمَنَ عَلَى مَا قَالَ الْبَائِعُ. فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، مَعَ يَمِينِهِ فِي الصِّفَةِ وَجُمْلَتُهُ؛ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ بَعْدَ تَلَفِهَا فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَتَحَالَفَانِ، مِثْلُ مَا لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالْأُخْرَى، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ «وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ» فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ التَّحَالُفُ عِنْدَ تَلَفِهَا وَلِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى نَقْلِ السِّلْعَةِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَاسْتِحْقَاقِ عَشَرَةٍ فِي ثَمَنِهَا، وَاخْتَلَفَا فِي عَشَرَةٍ زَائِدَةٍ الْبَائِعُ يَدَّعِيهَا وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَتَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْقِيَاسِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عُمُومُ قَوْلِهِ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ» وَقَالَ أَحْمَدُ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ إلَّا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ أَخْطَأَ رُوَاةُ الْحَلِفِ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ لَمْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَلَكِنَّهَا فِي حَدِيثِ مَعْنٍ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُنْكِرٌ فَيُشْرَعُ الْيَمِينُ، كَحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِقِيَامِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا وَقَوْلُهُمْ: تَرَكْنَاهُ لِلْحَدِيثِ قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَحَالَفَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَعَلَى أَنَّهُ إذَا خُولِفَ الْأَصْلُ لِمَعْنًى، وَجَبَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِتَعَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ بَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ التَّحَالُفَ إذَا ثَبَتَ مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثَمَنِهَا لِلْمَعْرِفَةِ بِقِيمَتِهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ، فَمَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ أَوْلَى. فَإِذَا تَحَالَفَا، فَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَالَ الْآخَرُ، لَمْ يُفْسَخْ الْعَقْدُ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى فَسْخِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَيَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ، كَمَا لَهُ ذَلِكَ فِي حَالِ بَقَاءِ السِّلْعَةِ، وَيَرُدُّ الثَّمَنُ الَّذِي قَبَضَهُ الْبَائِعُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَيَدْفَعُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَتُسَاوَيَا بَعْدَ التَّقَابُضِ، تَقَاصَّا. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرَعَ التَّحَالُفُ وَلَا الْفَسْخُ، فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السِّلْعَةِ مُسَاوِيَةً لِلثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي يَمِينِ الْبَائِعِ وَلَا فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِذَلِكَ الرُّجُوعُ إلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ، فَلَا فَائِدَةَ لِلْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُشْرَعَ لَهُ الْيَمِينُ وَلَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشْرَعَ لِتَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ لِلْمُشْتَرِي. وَمَتَى اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ السِّلْعَةِ، رَجَعَا إلَى قِيمَةِ مِثْلِهَا، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِهَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَارِمِ. [فَصْلٌ تَقَايُلًا الْمَبِيع أَوْ رَدَّ بِعَيْبِ بَعْدَ قَبَضَ الْبَائِع الثَّمَن ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْره] (3069) فَصْلٌ: وَإِنْ تَقَايَلَا الْمَبِيعَ، أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْد بِأَلْفِ فَقَالَ بَلْ هُوَ وَالْعَبْد الْآخِر بِأَلْفِ] (3070) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ. فَقَالَ: بَلْ هُوَ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ بِأَلْفٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ عِوَضَيْ الْعَقْدِ، فَيَتَحَالَفَانِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْبَائِعَ يُنْكِرُ بَيْعَ الْعَبْدِ الزَّائِدِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِيَمِينِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى شِرَاءَهُ مُنْفَرِدًا. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي عَيْن الْمَبِيع] (3071) فَصْلٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ، فَقَالَ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ. قَالَ: بَلْ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُنْكِرُهُ، مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا عَلَى عَيْنٍ يُنْكِرُهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. فَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ: مَا بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ. أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ، إنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُدَّعِيهَا قَدْ قَبَضَهَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، أُقِرَّ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي طَلَبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ طَلَبُهُ إذَا بَذَلَ لَهُ ثَمَنَهُ، لِاعْتِرَافِهِ بِبَيْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ ثَمَنَهُ، فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْجَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 إلَى ثَمَنِهِ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، ثَبَتَ الْعَقْدَانِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ دُونَ الْآخَرِ ثَبَتَ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ دُونَ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا الْمُتَبَايِعَانِ فِي صِفَة الثَّمَن] (3072) فَصْلٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الثَّمَنِ رُجِعَ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا لَا يَعْقِدَانِ إلَّا بِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ، رُجِعَ إلَى أَوْسَطِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ، وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُ الْمُعَامَلَةِ بِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَدَّهُمَا إلَيْهِ مَعَ التَّسَوِّي؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوَسُّطًا بَيْنَهُمَا، وَتَسْوِيَةً بَيْنَ حَقَّيْهِمَا، وَفِي الْعُدُولِ إلَى غَيْرِهِ مَيْلٌ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَكَانَ التَّوَسُّطُ أَوْلَى، وَعَلَى مُدَّعِي ذَلِكَ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ خَصْمُهُ مُحْتَمِلٌ، فَتَجِبُ الْيَمِينُ لِنَفْيِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، كَوُجُوبِهَا عَلَى الْمُنْكِرِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا نَقْدَانِ مُتَسَاوِيَانِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَالَفَا؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ أَحَدِهِمَا، فَيَتَحَالَفَانِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا الْمُتَبَايِعَانِ فِي أَجَلٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ فِي قَدْرِهِمَا أَوْ فِي شَرْط خِيَار أَوْ ضُمِّينِ أَوْ غَيْر ذَلِكَ] (3073) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَجَلٍ أَوْ رَهْنٍ، أَوْ فِي قَدْرِهِمَا، أَوْ فِي شَرْطِ خِيَارٍ، أَوْ ضَمِينٍ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَتَحَالَفَانِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا، قِيَاسًا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ. وَالثَّانِيَةُ، الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهِ، كَأَصْلِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا الْمُتَبَايِعَانِ فِيمَا يُفْسِد الْعَقْد أَوْ شَرْط فَاسِد] (3074) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيمَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، أَوْ شَرْطٍ فَاسِدٍ، فَقَالَ: بِعْتُك بِخَمْرٍ، أَوْ خِيَارٍ مَجْهُولٍ. فَقَالَ: بَلْ بِعْتنِي بِنَقْدٍ مَعْلُومٍ، أَوْ خِيَارِ ثَلَاثٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ تَعَاطِي الْمُسْلِمِ الصَّحِيحَ أَكْثَرُ مِنْ تَعَاطِيه لِلْفَاسِدِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك مُكْرَهًا. فَأَنْكَرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ، وَصِحَّةُ الْبَيْعِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدِ، وَاخْتَلَفَا فِيمَا يُفْسِدُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّغَرَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَيُفَارِقُ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ أَوْ إكْرَاهٍ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَهَا هُنَا الْأَصْلُ بَقَاؤُهُ. وَالثَّانِي أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ لَا يَتَعَاطَى إلَّا الصَّحِيحَ. وَهَا هُنَا مَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك وَأَنَا مَجْنُونٌ. فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ حَالُ جُنُونٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مَجْنُونًا، فَهُوَ كَالصَّبِيِّ. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: بِعْتُك، وَأَنَا غَيْرُ مَأْذُونٍ لِي فِي التِّجَارَةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ إلَّا عَقْدًا صَحِيحًا. [فَصْلٌ مَاتَ الْمُتَبَايِعَانِ] (3075) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَوَرَثَتُهُمَا بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُمَا، فِي أَخْذِ مَالِهِمَا، وَإِرْثِ حُقُوقِهِمَا، فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُمَا، أَوْ يَصِيرُ لَهُمَا. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا الْمُتَبَايِعَانِ فِي التَّسْلِيم] (3076) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّسْلِيمِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ حَتَّى أَقْبِضَ الثَّمَنَ. وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَا أُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى أَقْبِضَ الْمَبِيعَ. وَالثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ، أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ. فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، أَوْ عَرْضًا بِعَرْضٍ، جُعِلَ بَيْنَهُمَا عَدْلٌ، فَيَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ إلَيْهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَبْسَ الْمَبِيعِ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَمَنْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، كَالْمُرْتَهِنِ. وَلَنَا، أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالذِّمَّةِ، وَتَقْدِيمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَوْلَى؛ لِتَأَكُّدِهِ، وَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ الدَّيْنُ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ فِي ثَمَنِهِ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، وَيُخَالِفُ الرَّهْنَ؛ فَإِنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَالتَّسْلِيمُ هَاهُنَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ عَقْدِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، فَقَدْ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِعَيْنِهِ أَيْضًا، كَالْمَبِيعِ، فَاسْتَوَيَا، وَقَدْ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَقٌّ، قَدْ اُسْتُحِقَّ قَبْضُهُ، فَأُجْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إيفَاءِ صَاحِبِهِ حَقَّهُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ أَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ هُوَ الْمَبِيعُ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ. وَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَوْجَبْنَا التَّسْلِيمَ عَلَى الْبَائِعِ، فَسَلَّمَهُ، فَلَا يَخْلُو الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، أَوْ مُعَسِّرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَالثَّمَنُ مَعَهُ، أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا قَرِيبًا فِي بَيْتِهِ أَوْ بَلَدِهِ، حُجِرَ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ مَالِهِ، حَتَّى يُسَلِّمَ الثَّمَنَ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، فَهُوَ كَالْمُفْلِسِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ، وَالرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 يُحْضِرَ الثَّمَنَ، وَيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ، فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ قَبْلَ حُصُولِ عِوَضِهِ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْجِيحِ فِي تَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ مَعَ حُضُورِ الْعِوَضِ الْآخَرِ؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ الْخَطَرِ الْمُحْوِجِ إلَى الْحَجْرِ، أَوْ الْمَحْجُوزِ لِلْفَسْخِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ. وَلِأَنَّ شَرْعَ الْحَجْرِ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ. وَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَلِأَنَّ مَا أَثْبَتَ الْحَجْرَ وَالْفَسْخَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ التَّسْلِيمَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ، وَالْمَنْعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَسْهَلُ مِنْ الْمَنْعِ بَعْدَهُ، وَلِذَلِكَ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ مَنْعَ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا، قَبْلَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، وَلَمْ تَمْلِكْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. وَلِأَنَّ لِلْبَائِعِ مَنْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، أَوْ كَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ؛ لِإِمْكَانِ تَقْبِيضِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَهُ الْفَسْخُ. فَلَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ لِلْإِعْسَارِ بِثَمَنِهِ، فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ، كَالْفَسْخِ فِي عَيْنِ مَالِهِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يُحْجَرُ عَلَيْهِ. فَذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَجْرِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ هَرَبَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَزْن الثَّمَن وَهُوَ مُعَسِّر] (3077) فَصْلٌ: فَإِنْ هَرَبَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَزْنِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْفَسْخَ مَعَ حُضُورِهِ، فَمَعَ هَرَبِهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَثْبَتَ الْبَائِعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، ثُمَّ إنْ وَجَدَ الْحَاكِمُ لَهُ مَالًا قَضَاهُ، وَإِلَّا بَاعَ الْمَبِيعَ، وَقَضَى ثَمَنَهُ مِنْهُ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَعُوز فَفِي ذِمَّتِهِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ لِلْبَائِعِ الْفَسْخَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ الْفَسْخَ مَعَ حُضُورِهِ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ بَعِيدًا عَنْ الْبَلَدِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ، فَهَاهُنَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِكُلِّ حَالٍ أَوْلَى. وَلَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ مَنْ يَقْبَلُ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ، فَإِحَالَتُهُ عَلَى هَذَا تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ. وَهَذِهِ الْفُرُوعُ تُقَوِّي مَا ذَكَرْتُهُ، مِنْ أَنَّ لِلْبَائِعِ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ إحْضَارِ ثَمَنِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ. [فَصْلٌ الِامْتِنَاع مِنْ تَسْلِيم الْمَبِيع بَعْدَ قَبَضَ الثَّمَن لِأَجْلِ الِاسْتِبْرَاء] (3078) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَبِيحَةِ. وَقَالَ فِي الْجَمِيلَةِ: يَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُهُ فِيهَا، فَمُنِعَ مِنْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَا خِيَارَ فِيهَا، قَدْ قَبَضَ ثَمَنَهَا، فَوَجَبَ تَسْلِيمُهَا، كَسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التُّهْمَةِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّسَلُّطِ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ قَبْضِ مَمْلُوكَتِهِ، كَالْقَبِيحَةِ. وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهَا، فَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْحَمْلِ فِيهَا بَعِيدٌ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا، فَهُوَ تَرَكَ التَّحَفُّظَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ طَالَبَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِكَفِيلٍ، لِئَلَّا تَظْهَرَ حَامِلًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّحَفُّظَ لِنَفْسِهِ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفِيلٌ، كَمَا لَوْ طَلَبَ كَفِيلًا بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 [مَسْأَلَةٌ بَيْع الْعَبْد الْآبِق] (3079) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ. وَجُمْلَتُهُ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْآبِقِ لَا يَصِحُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَكَانَهُ، أَوْ جَهِلَهُ. وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْفَرَسِ الْعَائِرِ، وَشِبْهِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ بَعِيرًا شَارِدًا. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآبِقِ، إذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا. وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا بَيْعُ غَرَرٍ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إنْسَانٍ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْع الطَّيْر فِي الْهَوَاء وَالسَّمَك فِي الْمَاء] (3080) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا الطَّائِرِ قَبْلَ أَنْ يُصَادَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ؛ أَنَّهُ إذَا بَاعَ طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ، لَمْ يَصِحَّ، مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ؛ أَمَّا الْمَمْلُوكُ؛ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ، لَا يَجُوزُ لِعِلَّتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّائِرِ يَأْلَفُ الرُّجُوعَ، أَوْ لَا يَأْلَفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ الْآنَ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا عَادَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْغَائِبُ فِي مَكَان بَعِيدٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ، قُلْنَا: الْغَائِبُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِحْضَارِهِ، وَالطَّيْرُ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى رَدِّهِ، إلَّا أَنْ يَرْجِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ مَالِكُهُ بِرَدِّهِ، فَيَكُونُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْ الْوَاسِطَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَسْلِيمُهُ، بِخِلَافِ الْغَائِبِ. وَإِنْ بَاعَهُ الطَّيْرَ فِي الْبُرْجِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْبُرْجُ مَفْتُوحًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ إذَا قَدَرَ عَلَى الطَّيَرَانِ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ، فَإِنْ كَانَ مُغْلَقًا وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ، جَازَ بَيْعُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ إلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مُلْغَى بِالْبَعِيدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ إلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ الْبَعِيدَ تُعْلَمُ الْكُلْفَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي إحْضَارِهِ بِالْعَادَةِ، وَتَأْخِيرُ التَّسْلِيمِ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةٌ، وَلَا كَذَلِكَ فِي إمْسَاكِ الطَّائِرِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنْ تَفَاوُتَ الْمُدَّةِ فِي إحْضَارِ الْبَعِيدِ، وَاخْتِلَافَ الْمَشَقَّةِ أَكْثَرُ مِنْ التَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ فِي إمْسَاكِ طَائِرٍ مِنْ الْبُرْجِ، وَالْعَادَةُ تَكُونُ فِي هَذَا، كَالْعَادَةِ فِي ذَاكَ، فَإِذَا صَحَّ فِي الْبَعِيدِ مَعَ كَثْرَةِ التَّفَاوُتِ، وَشِدَّةِ اخْتِلَافِ الْمَشَقَّةِ، فَهَذَا أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ بَيْع السَّمَك فِي الْآجَام] (3081) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا السَّمَكِ فِي الْآجَامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ، قَالَ: إنَّهُ غَرَرٌ. وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ رَقِيقًا، لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ وَمَعْرِفَتَهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يُمْكِنَ اصْطِيَادُهُ وَإِمْسَاكُهُ. فَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالْمَوْضُوعِ فِي الطَّسْتِ. وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ اخْتَلَّتْ الثَّلَاثَةُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِثَلَاثِ عِلَلٍ. وَإِنْ اخْتَلَّ اثْنَانِ مِنْهَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِعِلَّتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي مَنْ لَهُ أَجَمَةٌ يَحْبِسُ السَّمَكَ فِيهَا، يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ظَاهِرًا، أَشْبَهَ مَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ وَنَقْلِهِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، وَهَذَا مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بَعْدَ اصْطِيَادِهِ، أَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْعَبْدَ الْآبِقَ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَةِ الْقَبْضِ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ لِيُمْكِنَ قَبْضُهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَهُ بِرْكَةٌ فِيهَا سَمَكٌ لَهُ يُمْكِنُ اصْطِيَادُهُ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ، وَالْمَاءُ رَقِيقٌ لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ، صَحَّ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَكُلْفَةٍ يَسِيرَةٍ، بِمَنْزِلَةِ كُلْفَةِ اصْطِيَادِهِ الطَّائِرِ مِنْ الْبُرْجِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي بَيْعِ الطَّائِرِ فِي الْبُرْجِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَتَتَطَاوَلُ الْمُدَّةُ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالْجَهْلِ لِوَقْتِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ. [فَصْلٌ إذَا أَعُدْ بَرَكَة أَوْ مُصَفَّاة لِيَصْطَادَ فِيهَا السَّمَك فَحُصِلَ فِيهَا سُمّك] (3082) فَصْلٌ: إذَا أَعَدَّ بِرْكَةً، أَوْ مِصْفَاةً؛ لِيَصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ، فَحَصَلَ فِيهَا سَمَكٌ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ مُعَدَّةٌ لِلِاصْطِيَادِ، فَأَشْبَهَ الشَّبَكَةَ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْبِرْكَةَ، أَوْ الشَّبَكَةَ، أَوْ اسْتَعَارَهُمَا لِلِاصْطِيَادِ، جَازَ، وَمَا حَصَلَ فِيهِمَا مَلَكَهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْبِرْكَةُ غَيْرَ مُعَدَّةٍ لِلِاصْطِيَادِ، لَمْ يَمْلِكْ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ السَّمَكِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَدَّةٍ لَهُ، فَأَشْبَهَتْ أَرْضَهُ إذَا دَخَلَ فِيهَا صَيْدٌ، أَوْ حَصَلَ فِيهَا سَمَكٌ. وَمَتَى نَصَبَ شَبَكَةً، أَوْ شَرَكًا، أَوْ فَخًّا، أَوْ أُحْبُولَةً، مَلَكَ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ، وَسَمَّى فَقَتَلَتْ صَيْدًا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ، وَكَانَ كَذَبْحِهِ. وَلَوْ وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ أَوْ شِبْهِهَا شَيْءٌ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ، أَنَّهُ كَيَدِهِ. وَلَوْ أَعَدَّ لِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ مَصَانِعَ، أَوْ بِرَكًا، أَوْ أَوَانِيَ؛ لِيَحْصُلَ فِيهَا الْمَاءُ، مَلَكَهُ بِحُصُولِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فِي بَابِ الْإِعْدَادِ، كَالشِّبَاكِ لِلِاصْطِيَادِ. وَلَوْ أَعَدَّ سَفِينَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 لِلِاصْطِيَادِ، كَاَلَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا الضَّوْءُ وَيُضْرَبُ صَوَانِي الصُّفْرِ؛ لِيَثِبَ السَّمَكُ فِيهَا، كَانَ حُصُولُهُ فِيهَا كَحُصُولِهِ فِي شَبَكَتِهِ؛ لِكَوْنِهَا صَارَتْ مِنْ الْآلَاتِ الْمُعَدَّةِ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يُعِدَّهَا لِذَلِكَ، لَمْ يَمْلِكْ مَا وَقَعَ فِيهَا. وَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَلَكَهُ، كَالْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِلِاصْطِيَادِ، مِثْلُ أَرْضِ الزَّرْعِ إذَا دَخَلَهَا مَاءٌ فِيهِ سَمَكٌ، ثُمَّ نَضَبَ عَنْهُ، أَوْ دَخَلَ فِيهَا ظَبْيٌ، أَوْ عَشَّشَ فِيهَا طَائِرٌ، أَوْ سَقَطَ فِيهَا جَرَادٌ، أَوْ حَصَلَ فِيهَا مِلْحٌ، لَمْ يَمْلِكْهُ صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ، وَلَا مِمَّا هِيَ مُعَدَّةٌ لَهُ، لَكِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، إذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّخَطِّي فِي أَرْضِهِ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَإِنْ تَخَطَّى وَأَخَذَهُ، أَخْطَأَ وَمَلَكَهُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي وَرَشَانَ عَلَى نَخْلَةِ قَوْمٍ، صَادَهُ إنْسَانٌ: هُوَ لِلصَّائِدِ. وَقَالَ فِي طَيْرَةٍ لِقَوْمٍ أَفْرَخَتْ فِي دَارِ جِيرَانِهِمْ: إنَّ الْفَرْخَ يَتْبَعُ الْأُمَّ، يُرَدُّ فِرَاخُهَا عَلَى أَصْحَابِ الطَّيْرَةِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ أَمْلَاكِ النَّاسِ، مِنْ صَيْدٍ وَكَلَأٍ وَشِبْهِهِ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِأَخْذِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَمْ يَفِدْ الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، إذْ السَّبَبُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِهِ بَيْعًا، أَوْ غَيْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ.» وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّبَبَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْأَخْذُ، وَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ الدُّخُولِ، وَهُوَ غَيْرُ السَّبَبِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ هَاهُنَا لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَلَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ، كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَالْمَعِيبِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَالنَّجْشِ، وَبَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ. وَلَوْ أَعَدَّ أَرْضَهُ لِلْمِلْحِ، فَجَعَلَهَا مَلَّاحَةً؛ لِيَحْصُلَ فِيهَا الْمَاءُ، فَيَصِيرَ مِلْحًا، كَالْأَرْضِ الَّتِي عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، يَجْعَلُ إلَيْهَا طَرِيقًا لِلْمَاءِ، فَإِذَا امْتَلَأَتْ قَطَعَهُ عَنْهَا، أَوْ تَكُونُ أَرْضُهُ سَبْخَةً، يَفْتَحُ إلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنٍ، أَوْ يَجْمَعُ فِيهَا مَاءَ الْمَطَرِ، فَيَصِيرُ مِلْحًا، مَلَكَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهُ، فَأَشْبَهَتْ الْبِرْكَةَ الْمُعَدَّةَ لِلصَّيْدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ، لَمْ يَمْلِكْ مَا حَصَلَ فِيهَا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي مِثْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي إنْسَانٍ رَمَى طَيْرًا بِبُنْدُقٍ، فَوَقَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ، فَهُوَ لَهُمْ دُونَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِحُصُولِهِ فِي دَارِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ مُمْتَنِعًا، فَصَادَهُ أَهْلُ الدَّارِ، فَمَلَكُوهُ بِاصْطِيَادِهِمْ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَمْلِكُوا مَا حَصَلَ فِي دَارِهِمْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا حَصَلَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْلَى. وَلِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الدَّارِ بَعْدَ الضَّرْبَةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ، الَّتِي يُمْلَكُ بِهَا الصَّيْدُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ ثَوْبَ إنْسَانِ، فَأَلْقَتْهُ فِي دَارِهِمْ. وَلَوْ كَانَتْ آلَةُ الصَّيْدِ، كَالشَّبَكَةِ وَالشَّرَكِ، وَالْمَنَاجِلِ، غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ لِلصَّيْدِ، وَلَا قُصِدَ بِهَا الِاصْطِيَادُ، فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ لَمْ يَمْلِكْهُ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَرْضَ الَّتِي لَيْسَتْ مُعَدَّةً لَهُ. [فَصْلٌ مَا حُصِلَ مِنْ الصَّيْد فِي كَلْب إنْسَان أَوْ صَقْره أَوْ فَهْده وَكَانَ اسْتَرْسِلْ بِإِرْسَالِ صَاحِبه] (3083) فَصْلٌ: وَمَا حَصَلَ مِنْ الصَّيْدِ فِي كَلْبِ إنْسَانٍ أَوْ صَقْرِهِ أَوْ فَهْدِهِ، وَكَانَ اسْتَرْسَلَ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ الشَّبَكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَحْصُلُ بِفِعْلِهِ، وَقَصْدِهِ، وَإِرْسَالِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ كَسَهْمِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وَإِنْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّيْدِ الْحَاصِلِ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ، فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ، كَالْكَلَأِ. وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي بَهِيمَةِ إنْسَانٍ مِنْ الْحَشِيشِ فِي الْمَرْعَى. [مَسْأَلَةٌ الْوَكِيلُ إذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ] (3084) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَالْوَكِيلُ إذَا خَالَفَ فَهُوَ ضَامِنٌ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآمِرُ، فَيَلْزَمُهُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ، فَاشْتَرَى غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِشِرَائِهِ، أَوْ بَاعَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ، أَوْ اشْتَرَى غَيْرَ مَا عُيِّنَ لَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا فَوَّتَ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ تَلِفَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَالِ الْأَمَانَةِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآمِرُ، فَيَلْزَمُهُ. يَعْنِي إذَا اشْتَرَى غَيْرَ مَا أُمِرَ بِشِرَائِهِ، بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، لَزِمَ الْوَكِيلَ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَقَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَيَبْطُلُ الشِّرَاءُ. وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَيْضًا، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ حَمْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا صَحَّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ، لَا فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَاَلَّذِي نَقَدَهُ عِوَضُهُ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ إذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ لَهُ الْبَدَلُ. وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الشِّرَاءَ لَهُ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ، لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ. (3085) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْآمِرِ أَوْ بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِ مُوَكِّلَهُ شَيْئًا بِعَيْنِ مَالِهِ، أَوْ بَاعَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ رَدُّهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالثَّانِيَةُ، الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ صَحِيحَانِ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 لَمْ يُجِزْهُ، بَطَلَ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبَيْعِ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ، فَعِنْدَهُ يَقَعُ لِلْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مَا رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ، كَالْوَصِيَّةِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. يَعْنِي مَا لَا تَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ جَوَابًا لَهُ حِينَ سَأَلَهُ، أَنَّهُ يَبِيعُ الشَّيْءَ، ثُمَّ يَمْضِي فَيَشْتَرِيهِ وَيُسَلِّمُهُ. وَلِاتِّفَاقِنَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ مَالِهِ الْغَائِبِ، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَأَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْوَصِيَّةُ يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ فِيهَا مِنْ الْغَرَرِ، مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ وَكَالَتَهُ كَانَتْ مُطْلَقَةً؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ سَلَّمَ وَتَسَلَّمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِنَا. [فَصْلٌ يَبِيعُ عَيْنًا لَا يَمْلِكُهَا لِيَمْضِيَ وَيَشْتَرِيَهَا وَيُسَلِّمُهَا] (3086) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا لَا يَمْلِكُهَا، لِيَمْضِيَ وَيَشْتَرِيهَا، وَيُسَلِّمُهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ «لِأَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الرَّجُلَ يَأْتِينِي، فَيَلْتَمِسُ مِنْ الْبَيْعِ مَا عِنْدِي، فَأَمْضِي إلَى السُّوقِ فَأَشْتَرِيهِ، ثُمَّ أَبِيعُهُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» . [فَصْلٌ بَاعَ سِلْعَةً وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ سَاكِتٌ] (3087) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً، وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ سَاكِتٌ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سُكُوتُهُ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَى، فَأَشْبَهَ سُكُوتَ الْبِكْرِ فِي الْإِذْنِ فِي نِكَاحِهَا. وَلَنَا أَنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمِلٌ، فَلَمْ يَكُنْ إذْنًا، كَسُكُوتِ الثَّيِّبِ، وَفَارَقَ سُكُوتَ الْبِكْرِ؛ لِوُجُودِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنْ الْكَلَامِ فِي حَقِّهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ هَاهُنَا. [فَصْلٌ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ فِي بَيْعِ سِلْعَتِهِ فَبَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّلْعَةَ مِنْ رَجُلٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى] (3088) فَصْلٌ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ فِي بَيْعِ سِلْعَتِهِ، فَبَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّلْعَةَ مِنْ رَجُلٍ، بِثَمَنٍ مُسَمًّى، فَالْبَيْعُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، رُوِيَ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا: هِيَ لِلَّذِي بَدَأَ بِالْقَبْضِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ: «إذَا بَاعَ الْمُجِيزَانِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 الْوَكِيلَ الثَّانِيَ زَالَتْ وَكَالَتُهُ بِانْتِقَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ عَنْ السِّلْعَةِ، فَصَارَ بَائِعًا مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَبَضَ الْأَوَّلُ، أَوْ كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ بَعْدَ الْأَوَّلِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ] (3089) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَبَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي فَسَادِ هَذَيْنِ الْبَيْعَيْنِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمُلَامَسَةُ، أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا، وَلَا يُشَاهِدُهُ، عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ وَقَعَ الْبَيْعُ. وَالْمُنَابَذَةُ، أَنْ يَقُولَ: أَيُّ ثَوْبٍ نَبَذْتَهُ إلَيَّ فَقَدْ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوُهُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفِيمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ» وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ، وَنَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ، لَمْسِ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِهَا قَالَ: هُوَ لَمْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ. وَالْمُنَابَذَةُ، أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ ثَوْبَهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ. وَعَلَى مَا فَسَّرْنَاهُ بِهِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِيهِمَا؛ لِعِلَّتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، الْجَهَالَةُ. وَالثَّانِيَةُ، كَوْنُهُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ نَبْذُ الثَّوْبِ إلَيْهِ، أَوْ لَمْسُهُ لَهُ. وَإِنْ عَقَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ نَبْذِهِ، فَقَالَ: بِعْتُكَ مَا تَلْمِسُهُ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ. أَوْ مَا أَنْبِذُهُ إلَيْك. فَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ وَاحِدًا مِنْهَا. [فَصْلٌ بَيْعُ الْحَصَاةِ] (3090) فَصْلٌ: وَمِنْ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، بَيْعُ الْحَصَاةِ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَك بِدِرْهَمٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مِقْدَارَ مَا تَبْلُغُ هَذِهِ الْحَصَاةُ، إذَا رَمَيْتَهَا، بِكَذَا. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، عَلَى أَنِّي مَتَى رَمَيْتُ هَذِهِ الْحَصَاةَ، وَجَبَ الْبَيْعُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْبُيُوعِ فَاسِدَةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَرَرِ وَالْجَهْلِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصَلِّ بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُخَاضَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ] (3091) فَصْلٌ: وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْمُخَاضَرَةُ، بَيْعُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ. وَالْمُحَاقَلَةُ، بَيْعُ الزَّرْعِ بِحَبٍّ مِنْ جِنْسِهِ. قَالَ جَابِرٌ الْمُحَاقَلَةُ، أَنْ يَبِيعَ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرْقٍ حِنْطَةً. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْحَقْلُ، الْقَرَاحُ الْمَزْرُوعُ، وَالْحَوَاقِلُ الْمَزَارِعُ. وَفَسَّرَ أَبُو سَعِيدٍ الْمُحَاقَلَةَ، بِاسْتِكْرَاءِ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ دُونَ الْأُمِّ] (3092) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ غَيْرَ أُمِّهِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. مَعْنَاهُ، بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، دُونَ الْأُمِّ. وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ؛ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، جَهَالَتُهُ، فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ صِفَتُهُ وَلَا حَيَّاتُهُ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، بِخِلَافِ الْغَائِبِ، فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي تَسْلِيمِهِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ.» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَلَاقِيحُ، مَا فِي الْبُطُونِ، وَهِيَ الْأَجِنَّةُ. وَالْمَضَامِينُ، مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ. فَكَانُوا يَبِيعُونَ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ، وَمَا يَضْرِبُهُ الْفَحْلُ فِي عَامِهِ، أَوْ فِي أَعْوَامٍ. وَأَنْشَدَ: إنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُّلْبِ ... مَاءُ الْفُحُولِ فِي الظُّهُورِ الْحُدْبِ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَجْرِ» . قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَجْرُ مَا فِي بَطْنِ النَّاقَةِ. وَالْمَجْرُ الرِّبَا. وَالْمَجْرُ الْقِمَارُ. وَالْمَجْرُ الْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ. [فَصَلِّ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ] (3093) فَصْلٌ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. مَعْنَاهُ نِتَاجُ النِّتَاجِ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ إلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ. وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نُتِجَتْ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكِلَا الْبَيْعَيْنِ فَاسِدٌ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحَمْلِ، فَبَيْعُ حَمْلِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الثَّانِي، فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ. [فَصْلٌ بَيْع اللَّبَنِ فِي الضَّرْع] (3094) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَنَهَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، إذَا عَرَفَا حِلَابَهَا، لِسَقْيِ الصَّبِيِّ، كَلَبَنِ الظِّئْرِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَأَشْبَهَ الْحَمْلَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَمْ تُخْلَقْ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ مَا تَحْمِلُ النَّاقَةُ، وَالْعَادَةُ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ. وَأَمَّا لَبَنُ الظِّئْرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. [فَصْلٌ بَيْع الصُّوف عَلَى الظُّهْر] (3095) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 مِنْ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ، فَلَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، كَأَعْضَائِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ جَزِّهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالرَّطْبَةِ. وَفَارَقَ الْأَعْضَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا مَعَ سَلَامَةِ الْحَيَوَانِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَتَرَكَهُ حَتَّى طَالَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرَّطْبَةِ إذَا اشْتَرَاهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى طَالَتْ. [فَصْلٌ بَيْع مَا تَجْهَل صِفَته] (3096) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا تَجْهَلُ صِفَتَهُ كَالْمِسْكِ فِي الْفَأْرِ، وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ إذَا التَّاجِرُ الْهِنْدِيُّ جَاءَ بِفَأْرَةٍ ... مِنْ الْمِسْكِ رَاحَتْ فِي مَفَارِقِهِمْ تَجْرِي فَإِنْ فَتَحَ وَشَاهَدَ مَا فِيهِ، جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِلْجَهَالَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي فَأْرِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحْفَظُ رُطُوبَتَهُ وَذَكَاءَ رَائِحَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَبْقَى خَارِجَ وِعَائِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَتَبْقَى رَائِحَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مَسْتُورًا، كَالدُّرِّ فِي الصَّدَفِ وَأَمَّا مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ، فَإِخْرَاجُهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي بَيْعِهِ مَعَ وِعَائِهِ، كَالتَّفْصِيلِ فِي بَيْعِ السَّمْنِ فِي ظَرْفِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْضُ فِي الدَّجَاجِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا؛ لِلْجَهْلِ بِهِمَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا نَذْكُرُهُ. [فَصْلٌ بَيْع الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ] (3097) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ، بِالذَّوْقِ إنْ كَانَ مَطْعُومًا، أَوْ بِالشَّمِّ إنْ كَانَ مَشْمُومًا، صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، جَازَ بَيْعُهُ، كَالْبَصِيرِ، وَلَهُ خِيَارُ الْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَثْبَتَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ الْخِيَارَ، إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْمَبِيعِ، إمَّا بِحِسِّهِ أَوْ ذَوْقِهِ أَوْ وَصْفِهِ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ شِرَاؤُهُ جَائِزٌ، وَإِذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، لَزِمَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ بَيْعُ الْمَجْهُولِ، أَوْ يَكُونُ قَدْ رَآهُ بَصِيرًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَتَغَيَّرُ الْمَبِيعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الْبَيْضِ فِي الدَّجَاجِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَمَعْرِفَتُهُ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْبَصِيرِ، وَلِأَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ، فَكَذَلِكَ شَمُّ الْأَعْمَى وَذَوْقُهُ، وَأَمَّا الْبَيْضُ وَالنَّوَى، فَلَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَلَا وَصْفُهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةٌ بَيْع عَسْب الْفَحْل] (3098) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَبَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ غَيْرُ جَائِزٍ) . عَسْبُ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ. وَبَيْعُهُ أَخْذُ عِوَضُهُ وَتُسَمَّى الْأُجْرَةُ عَسْبُ الْفَحْلِ مَجَازًا. وَإِجَارَةُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ حَرَامٌ، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْفَحْلِ وَنَزْوِهِ، وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَالْمَاءُ تَابِعُ، وَالْغَالِبُ حُصُولُهُ عَقِيبَ نَزْوِهِ، فَيَكُونُ كَالْعَقْدِ عَلَى الظِّئْرِ؛ لِيَحْصُلَ اللَّبَنُ فِي بَطْنِ الصَّبِيِّ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْآبِقِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ الْفَحْلِ وَشَهْوَتِهِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَإِجَارَةُ الظِّئْرِ خُولِفَ فِيهِ الْأَصْلُ لِمَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ، فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِثْلَهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا أَعْطَى أُجْرَةً لِعَسْبِ الْفَحْلِ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْطِي لِأَنَّهُ بَذَلَ مَالَهُ لِتَحْصِيلِ مُبَاحٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَا تَمْتَنِعُ هَذَا كَمَا فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَإِنَّهُ خَبِيثٌ، وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي حَجَمَهُ. وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْكَسْحِ وَالصَّحَابَةُ أَبَاحُوا شِرَاءَ الْمَصَاحِفِ، وَكَرِهُوا بَيْعَهَا. وَإِنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَحْلِ هَدِيَّةً، أَوْ أَكْرَمَهُ مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ، جَازَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا كَانَ إكْرَامًا فَلَا بَأْسَ» وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ مُبَاحٌ، فَجَازَ أَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهِ، كَالْحِجَامَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَأْخُذُ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْحَجَّامِ يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى فِي مِثْلِ هَذَا شَيْئًا كَمَا بَلَغَنَا فِي الْحَجَّامِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا مَنَعَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ مَنَعَ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ، كَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. قَالَ الْقَاضِي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 هَذَا مُقْتَضَى النَّظَرِ، لَكِنْ تُرِكَ مُقْتَضَاهُ فِي الْحَجَّامِ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ، وَأَوْفَقُ لِلْقِيَاسِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى الْوَرَعِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ. [مَسْأَلَةٌ النَّهْي عَنْ النَّجْش] (3099) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَالنَّجْشُ مَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مُشْتَرِيًا لَهَا) النَّجْشُ: أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا، لِيَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْتَامُ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهَا هَذَا الْقَدْرَ إلَّا وَهِيَ تُسَاوِيهِ، فَيَغْتَرَّ بِذَلِكَ، فَهَذَا حَرَامٌ وَخِدَاعٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ، وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لَا يَحِلُّ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّجْشِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا بِالْمُشْتَرِي، وَخَدِيعَةً لَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ» فَإِنْ اشْتَرَى مَعَ النَّجْشِ، فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّهْيَ عَادَ إلَى النَّاجِشِ، لَا إلَى الْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْبَيْعِ. وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَلَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ، كَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَبَيْعِ الْمَعِيبِ، وَالْمُدَلِّسِ، وَفَارَقَ مَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالْخِيَارِ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ، لَكِنْ إنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ الْبَائِعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ وَعِلْمِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةِ مِنْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ، حَيْثُ اشْتَرَى مَا لَا يَعْرِفُ قِيمَتَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا كَانَ مَغْبُونًا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ بِتَلَقِّي الرُّكْبَانِ. [فَصْلٌ قَالَ الْبَائِع أَعْطَيْت بِهَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا وَكَذَا فَصَدَقَهُ الْمُشْتَرِي وَاشْتَرَاهَا بِذَلِكَ ثُمَّ بَانَ كَاذِبًا] (3100) فَصْلٌ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ أُعْطِيتُ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا وَكَذَا. فَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي وَاشْتَرَاهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ بَانَ كَاذِبًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّجْشِ. [فَصْلٌ بَيْع الرَّجُلَ عَلَى بَيْع أَخِيهِ] (3101) فَصْلٌ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ.» مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَبَايَعَا، فَجَاءَ آخَرُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَقَالَ: أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ، أَوْ أَبِيعُك خَيْرًا مِنْهَا بِثَمَنِهَا، أَوْ دُونَهُ أَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ سِلْعَةً رَغِبَ فِيهَا الْمُشْتَرِي، فَفَسَخَ الْبَيْعَ، وَاشْتَرَى هَذِهِ، فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَجِيءَ إلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، فَيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اُشْتُرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ. وَهُوَ فِي مَعْنَى الْخَاطِبِ. فَإِنْ خَالَفَ وَعَقَدَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ عَرْضُ سِلْعَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ قَوْلُهُ الَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ أَجْلِهِ، وَذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصِّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ لَا يَسُمْ الرَّجُلُ عَلَى سَوَّمَ أَخِيهِ] (3102) فَصْلٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَسُمْ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدِهَا، أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْبَائِعِ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا بِالْبَيْعِ، فَهَذَا يُحَرِّمُ السَّوْمَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ. الثَّانِي، أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلَا يَحْرُمُ السَّوْمُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ فِي مَنْ يَزِيدُ فَرَوَى أَنَسٌ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّدَّةَ وَالْجَهْدَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا بَقِيَ لَك شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَلَى، قَدَحٌ وَحِلْسٌ، قَالَ: فَأْتِنِي بِهِمَا فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَقَالَ مَنْ يَبْتَاعُهُمَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَخَذْتُهُمَا بِدِرْهَمٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ، فَبَاعَهُمَا مِنْهُ.» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، يَبِيعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ. الثَّالِثُ، أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَلَا عَلَى عَدَمِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّوْمُ أَيْضًا، وَلَا الزِّيَادَةُ؛ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، حِينَ ذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ وَقَدْ نَهَى عَنْ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، كَمَا نَهَى عَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ،» فَمَا أُبِيحَ فِي أَحَدِهِمَا أُبِيحَ فِي الْآخَرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الرَّابِعُ، أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَحْرُمُ الْمُسَاوَمَةُ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخِطْبَةِ، اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ السَّوْمِ وَالْخِطْبَةِ، فَحَرُمَ مَنْعُ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالرِّضَا، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ هَاهُنَا، لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا، فَإِنَّ النَّهْيَ عَامٌ خَرَجَتْ مِنْهُ الصُّوَرُ الْمَخْصُوصَةُ بِأَدِلَّتِهَا، فَتَبْقَى هَذِهِ الصُّورَةُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَشِيرَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا، فَكَيْفَ تَرْضَى وَقَدْ نَهَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَا تُفَوِّتِينَا بِنَفْسِك.» فَلَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ شَيْئًا قَبْلَ مُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحُكْمُ فِي الْفَسَادِ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمْنَا بِالتَّحْرِيمِ فِيهِ. . [فَصْلٌ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ] (3103) فَصْلٌ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ بَاطِلٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، خَالِيًا عَنْ مُقَارَنَةِ مُفْسِدٍ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مَا قَصَدَا الْبَيْعَ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا كَالْهَازِلَيْنِ، وَمَعْنَى بَيْعِ التَّلْجِئَةِ، أَنْ يَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِلْكَهُ فَيُوَاطِئَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، لِيَحْتَمِيَ بِذَلِكَ، وَلَا يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا. [مَسْأَلَةٌ لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ] (3104) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ) وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ الْحَضَرِيُّ إلَى الْبَادِي، وَقَدْ جَلَبَ السِّلْعَةَ، فَيُعَرِّفَهُ السِّعْرَ، وَيَقُولَ: أَنَا أَبِيعُ لَك. فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقْ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَالْبَادِي هَاهُنَا، مَنْ يَدْخُلُ الْبَلْدَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بَدَوِيًّا، أَوْ مِنْ قَرْيَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَاضِرَ أَنْ يَبِيعَ لَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، قَالَ فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقْ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، أَنَّهُ مَتَى تُرِكَ الْبَدَوِيُّ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ، اشْتَرَاهَا النَّاسُ بِرُخْصٍ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ السِّعْرَ، فَإِذَا تَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا، إلَّا بِسِعْرِ الْبَلَدِ. ضَاقَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْلِيلِهِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَمِمَّنْ كَرِهَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَنَقَلَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا فِي جُمْلَةِ سَمَاعَاتِهِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْمِصْرِيَّ سَأَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 أَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: فَالْخَبَرُ الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ. قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الْبَيْعِ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتَصَّ بِأَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الضِّيقِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِهِ دَلِيلٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ؛ أَحَدِهَا، أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ قَصَدَ الْبَادِيَ؛ لِيَتَوَلَّى الْبَيْعَ لَهُ. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْبَادِي جَاهِلًا بِالسِّعْرِ؛ لِقَوْلِهِ: " فَيُعَرِّفَهُ السِّعْرَ "، وَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ، إلَّا لِجَاهِلٍ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا كَانَ الْبَادِي عَارِفًا بِالسِّعْرِ، لَمْ يَحْرُمْ. وَالثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ قَدْ جَلَبَ السِّلَعَ لِلْبَيْعِ؛ لِقَوْلِهِ: " وَقَدْ جَلَبَ السِّلَعَ ". وَالْجَالِبُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالسِّلَعِ لِيَبِيعَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ؛ أَحَدَهُمَا، أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِبَيْعِهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَتَاعِهِ، وَضِيقٌ فِي تَأْخِيرِ بَيْعِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَحْرُمُ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ؛ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا إلَّا حَاجَةَ النَّاسِ إلَى مَتَاعِهِ، فَمَتَى اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ، لَمْ يَحْرُمْ الْبَيْعُ، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، فَالْبَيْعُ حَرَامٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْخِرَقِيِّ بِبُطْلَانِهِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ الْحَضَرِيِّ يَبِيعُ لِلْبَدَوِيِّ؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِكَوْنِ النَّهْيِ لِمَعْنَى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَلَنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. [فَصْلٌ شِرَاء الْحَاضِر لِلُّبَادَى] (3105) فَصْلٌ: فَأَمَّا الشِّرَاءُ لَهُمْ، فَيَصِحُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ الشِّرَاءَ لَهُمْ، كَمَا كَرِهَتْ الْبَيْعَ. يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ قَالَ، كَانَ يُقَالُ: هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، يَقُولُ: لَا تَبِيعَنَّ لَهُ شَيْئًا، وَلَا تَبْتَاعَنَّ لَهُ شَيْئًا. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ النَّهْي غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلشِّرَاءِ بِلَفْظِهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ لِلرِّفْقِ بِأَهْلِ الْحَضَرِ، لِيَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ السِّعْرُ، وَيَزُولَ عَنْهُمْ الضَّرَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَهُمْ، إذْ لَا يَتَضَرَّرُونَ، لِعَدَمِ الْغَبْنِ لِلْبَادِينَ، بَلْ هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَالْخَلْقُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عَلَى السَّوَاءِ، فَكَمَا شَرَعَ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أَهْلَ الْبَدْوِ الضَّرَرُ. وَأَمَّا إنْ أَشَارَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ لَهُ، فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 [فَصْلٌ فِي التَّسْعِيرُ] (3106) فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، بَلْ يَبِيعُ النَّاسُ، أَمْوَالَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ أَقَلَّ مِمَّا يَبِيعُ النَّاسُ بِهِ: بِعْ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ، وَإِلَّا فَاخْرُجْ عَنَّا وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ فِي سُوقِ الْمُصَلَّى، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا، فَسَعَّرَ لَهُ مَدَّيْنِ بِكُلِّ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قَدْ حُدِّثْت بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنْ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا، وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكِ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَك فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْت وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِالنَّاسِ إذَا زَادَ تَبِعَهُ أَصْحَابُ الْمَتَاعِ، وَإِذَا نَقَصَ أَضَرَّ بِأَصْحَابِ الْمَتَاعِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٌ قَالَ: «غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ. فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّهُ لَمْ يُسَعِّرْ، وَقَدْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ لَأَجَابَهُمْ إلَيْهِ. الثَّانِي، أَنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِ مَظْلَمَةٌ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ مَالُهُ، فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ، كَمَا اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّسْعِيرُ سَبَبُ الْغَلَاءِ، لِأَنَّ الْجَالِبِينَ إذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، لَمْ يَقْدَمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَيَكْتُمُهَا، وَيَطْلُبُهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَلَا يَجِدُونَهَا إلَّا قَلِيلًا، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إلَيْهَا، فَتَغْلُوا الْأَسْعَارُ، وَيَحْصُلُ الْإِضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ الْمُلَّاكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلَاكِهِمْ، وَجَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَى فِيهِ سَعِيدٌ وَالشَّافِعِيُّ، أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَجَعَ حَاسَبَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي قُلْت لَك لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلَا قَضَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْت فَبِعْ كَيْفَ شِئْت. وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى مَا قُلْنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا بَاعَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ النَّهْي عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ] (3107) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَنُهِيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ) فَإِنْ تُلُقُّوا، وَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ إذَا دَخَلُوا السُّوقَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ غُبِنُوا إنْ أَحَبُّوا أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 يَفْسَخُوا الْبَيْعَ فَسَخُوا. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَجْلَابَ، فَيَشْتَرُونَ مِنْهُمْ الْأَمْتِعَةَ قَبْلَ أَنْ تَهْبِطَ الْأَسْوَاقَ، فَرُبَّمَا غَبَنُوهُمْ غَبْنًا بَيِّنًا، فَيَضُرُّونَهُمْ، وَرُبَّمَا أَضَرُّوا بِأَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الرُّكْبَانَ إذَا وَصَلُوا بَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهُمْ لَا يَبِيعُونَهَا سَرِيعًا، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهَا السِّعْرَ، فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَكَرِهَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. فَإِنْ خَالَفَ، وَتَلَقَّى الرَّكْبَانِ، وَاشْتَرَى مِنْهُمْ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِظَاهِرِ النَّهْيِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ، وَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْخِيَارُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَا لِمَعْنَى فِي الْبَيْعِ، بَلْ يَعُودُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْخَدِيعَةِ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهَا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ، وَفَارَقَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْخِيَارِ، إذْ لَيْسَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ، إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ غِبْنَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا خِيَارَ لَهُ. وَقَدْ رَوَيْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا، وَلَا قَوْلَ لَأَحَدٍ مَعَ قَوْلِهِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ إلَّا مَعَ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِأَجْلِ الْخَدِيعَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَا ضَرَرَ مَعَ عَدَمِ الْغَبْنِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُحْمَلُ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا؛ لِعِلْمِنَا بِمَعْنَاهُ وَمُرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ الْخِيَارُ بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا أَتَى السُّوقَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْغَبْنِ فِي السُّوقِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ. وَلَمْ يُقَدِّرْ الْخِرَقِيِّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْخِيَارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِمَا يَفُوتُ بِهِ مِنْ الرِّفْقُ لِأَهْلِ السُّوقِ، لِئَلَّا يُقْطَعَ عَنْهُمْ مَا لَهُ جَلَسُوا مِنْ ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنْ تَلَقَّاهَا مُتَلَقٍّ، فَاشْتَرَاهَا، عُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ، فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُبَاعُ فِي السُّوقِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا دَخَلَ السُّوقَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ خِيَارًا، وَجَعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِحَقِّهِ، لَا لِحَقِّ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّ الْجَالِسَ فِي السُّوقِ كَالْمُتَلَقِّي، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَغٍ لِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ فَسْخُ عَقْدِ أَحَدِهِمَا، وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 عَنْ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ رِعَايَةُ حَقِّ الْجَالِسِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْمُتَلَقِّي وَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُ أَهْلِ السُّوقِ كُلِّهِمْ فِي سِلْعَتِهِ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَلْقَى الرَّكْبَانِ فَبَاعَهُمْ شَيْئًا] (3108) فَصْلٌ: فَإِنْ تَلَقَّى الرُّكْبَانَ، فَبَاعَهُمْ شَيْئًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ الْخِيَارُ إذَا غَبَنَهُمْ غَبْنَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالُوا فِي الْآخَرِ: النَّهْيُ عَنْ الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ، فَلَا يَدْخُلُ الْبَيْعُ فِيهِ. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُمْ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لَهُمْ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ.» وَالْبَائِعُ دَاخِلٌ فِي هَذَا. وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَدِيعَتِهِمْ وَغَبَنِهِمْ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ كَهُوَ فِي الشِّرَاءِ، وَالْحَدِيثُ قَدْ جَاءَ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالشِّرَاءِ لَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. [فَصْلٌ خَرَجَ لِغَيْرِ قَصْد التَّلَقِّي فَلَقِيَ رَكِّبَا فَبَاعَ لَهُ] (3109) فَصْلٌ: فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ قَصْدِ التَّلَقِّي، فَلَقِيَ رَكْبًا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ الِابْتِيَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا الشِّرَاءُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّلَقِّي، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ التَّلَقِّي دَفْعًا لِلْخَدِيعَةِ وَالْغَبْنِ عَنْهُمْ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ، سَوَاءٌ قَصَدَ التَّلَقِّي، أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ، فَوَجَبَ الْمَنْعُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَصَدَ. [فَصْلٌ تَلْقَى الْجَلْب فِي أَعْلَى الْأَسْوَاق] (3110) فَصْلٌ: وَإِنْ تَلَقَّى الْجَلَبَ فِي أَعْلَى الْأَسْوَاقِ، فَلَا بَأْسَ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا الْأَسْوَاقُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ إذَا صَارَ فِي السُّوقِ، فَقَدْ صَارَ فِي مَحَلِّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ، كَاَلَّذِي وَصَلَ إلَى وَسَطِهَا. [فَصْلٌ فِي الِاحْتِكَار] (3111) فَصْلٌ: وَالِاحْتِكَارُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْأَثْرَمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ» وَرُوِيَ أَيْضًا، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» . وَرُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَرَأَى طَعَامًا كَثِيرًا قَدْ أُلْقِيَ عَلَى بَابِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: جُلِبَ إلَيْنَا. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ، وَفِي مَنْ جَلَبَهُ. فَقِيلَ لَهُ: فَأَنَّهُ قَدْ اُحْتُكِرَ. قَالَ: وَمَنْ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فُلَانٌ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلَانٌ مَوْلَاك. فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا. فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَا: نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ. قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَضْرِبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ أَوْ الْإِفْلَاسِ» قَالَ الرَّاوِي: فَأَمَّا مَوْلَى عُثْمَانَ فَبَاعَهُ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَحْتَكِرُهُ أَبَدًا وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَلَمْ يَبِعْهُ، فَرَأَيْته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 مَجْذُومًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ.» [فَصْلٌ الِاحْتِكَار الْمُحْرِم] فَصْلٌ: وَالِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَشْتَرِيَ، فَلَوْ جَلَبَ شَيْئًا، أَوْ أَدْخَلَ مِنْ غَلَّتِهِ شَيْئًا، فَادَّخَرَهُ، لَمْ يَكُنْ مُحْتَكِرًا. رُوِيَ [عَنْ] الْحَسَنِ وَمَالِكٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ الْجَالِبُ لَيْسَ بِمُحْتَكَرِ؛ لِقَوْلِهِ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» وَلِأَنَّ الْجَالِبَ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَضُرُّ بِهِ، بَلْ يَنْفَعُ، فَإِنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا عِنْدَهُ طَعَامًا مُعَدًّا لِلْبَيْعِ، كَانَ ذَلِكَ أَطْيَبُ لَقُلُوبِهِمْ مِنْ عَدَمِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى قُوتًا. فَأَمَّا الْإِدَامُ، وَالْحَلْوَاءُ، وَالْعَسَلُ، وَالزَّيْتُ، وَأَعْلَافُ الْبَهَائِمِ، فَلَيْسَ فِيهَا احْتِكَارٌ مُحَرَّمٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ، عَنْ أَيِّ شَيْءٍ الِاحْتِكَارُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ مِنْ قُوتِ النَّاسِ فَهُوَ الَّذِي يُكْرَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ الِاحْتِكَارِ - يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ يَحْتَكِرُ النَّوَى، وَالْخَيْطَ، وَالْبِزْرَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ الثِّيَابَ، وَالْحَيَوَانَاتِ. الثَّالِثُ، أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ بِشِرَائِهِ. وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِأَمْرَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، يَكُونُ فِي بَلَدٍ يُضَيِّقُ بِأَهْلِهِ الِاحْتِكَارُ، كَالْحَرَمَيْنِ، وَالثُّغُورِ. قَالَ أَحْمَدُ: الِاحْتِكَارُ فِي مِثْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالثُّغُورِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْبِلَادَ الْوَاسِعَةَ الْكَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ وَالْجَلَبِ كَبَغْدَادَ، وَالْبَصْرَةِ وَمِصْرَ، لَا يَحْرُمُ فِيهَا الِاحْتِكَارُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا غَالِبًا. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الضَّيِّقِ، بِأَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ قَافِلَةٌ فَيَتَبَادَرُ ذَوُو الْأَمْوَالِ فَيَشْتَرُونَهَا، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ فِي حَالِ الِاتِّسَاعِ وَالرُّخْصِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. [مَسْأَلَةٌ بَيْع الْعَصِير لِمَنْ يَعْتَقِد أَنَّهُ يَتَّخِذهُ خَمْرًا] (3113) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا بَاطِلٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مُحَرَّمٌ. وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَعْصِرُهَا خَمْرًا، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّمَا يُكْرَهُ إذَا شَكَّ فِيهِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ التَّمْرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ مُسْكِرًا. قَالَ الثَّوْرِيُّ بِعْ الْحَلَالَ مِمَّنْ شِئْت. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً. فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَشَارِبَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَسَاقِيَهَا» . وَأَشَارَ إلَى كُلِّ مُعَاوِنٍ عَلَيْهَا، وَمُسَاعِدٍ فِيهَا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ زَبِيبًا، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إلَّا لِمَنْ يَعْصِرُهُ، فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ، وَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إنْ بِعْت الْخَمْرَ وَلِأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ أَمَتِهِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا. وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ بِدَلِيلِنَا. وَقَوْلُهُمْ: تَمَّ الْبَيْعُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ. قُلْنَا: لَكِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ، إذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، إمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ، أَوْ مَنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، وَلَمْ يَلْفِظْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْخَمْرِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ. وَإِذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ بِالْعَقْدِ دُونَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْعَيْبَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقَدَ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ بِهَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَإِجَارَةِ الْأَمَةِ لِلزِّنَى وَالْغِنَاءِ. وَأَمَّا التَّدْلِيسُ، فَهُوَ الْمُحَرَّمُ، دُونَ الْعَقْدِ. وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيُفَارِقُ التَّدْلِيسَ، فَإِنَّهُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ. [فَصْلٌ بَيْع مَا يَقْصِد بِهِ الْحَرَام] (3114) فَصْلٌ: وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ، وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِلْغِنَاءِ، أَوْ إجَارَتِهَا كَذَلِكَ، أَوْ إجَارَةِ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ. فَهَذَا حَرَامٌ، وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِمَا قَدَّمْنَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَسَائِلَ، نَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي الْقَصَّابِ وَالْخَبَّازِ: إذَا عَلِمَ أَنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، يَدْعُو عَلَيْهِ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ، لَا يَبِيعُهُ، وَمَنْ يَخْتَرِطُ الْأَقْدَاحَ لَا يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَشْرَبُ فِيهَا. وَنَهَى عَنْ بَيْعَ الدِّيبَاجِ لِلرِّجَالِ، وَلَا بَأْسَ بَيْعِهِ لِلنِّسَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ؛ لَا يَبِيعُ الْجَوْزَ مِنْ الصِّبْيَانِ لِلْقِمَارِ. وَعَلَى قِيَاسِهِ الْبَيْضُ، فَيَكُونُ بَيْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطِلًا. [رَجُل مَاتَ وَخَلَف جَارِيَة مُغَنِّيَة وَوَلَدًا يَتِيمًا وَقَدْ احْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا] (3115) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ مَاتَ، وَخَلَّفَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً، وَوَلَدًا يَتِيمًا، وَقَدْ احْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا قَالَ: يَبِيعُهَا عَلَى أَنَّهَا سَاذِجَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّهَا تُسَاوِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا بِيعَتْ سَاذَجَةٌ تُسَاوِي عِشْرِينَ دِينَارًا. قَالَ: لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذِجَةٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلَا أَثْمَانُهُنَّ، وَلَا كَسْبُهُنَّ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 هَذَا لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى بَيْعِهِنَّ لِأَجْلِ الْغِنَاءِ، فَأَمَّا مَالِيَّتُهُنَّ الْحَاصِلَةُ بِغَيْرِ الْغِنَاءِ فَلَا تَبْطُلُ، كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ، لِصَلَاحِيَّتِهِ لِلْخَمْرِ. [فَصْلٌ بَيْع الْخَمْر أَوْ التَّوْكِيل فِي بَيْعه أَوَشِرَاؤُهُ] (3116) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ، وَلَا التَّوْكِيلُ فِي بَيْعِهِ، وَلَا شِرَاؤُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ ذِمِّيًّا فِي بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حُرِّمَتْ. التِّجَارَةُ فِي الْخَمْرِ» . وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا، فَجَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ، وَأَكَلَ ثَمَنَهُ، فَقَدْ أَشْبَهَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ مُحَرَّمَةٌ، يَحْرُمُ بَيْعُهَا، وَالتَّوْكِيلُ فِي بَيْعِهَا، كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، فَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّوْكِيلُ فِي بَيْعِهِ، كَالْخِنْزِيرِ. [مَسْأَلَةٌ النَّهْي عَنْ الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطَانِ، وَلَا يُبْطِلُهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ) ثَبَتَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ قَالَ: الشَّرْطُ الْوَاحِدُ لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ، ذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» أَخْرُجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ هَؤُلَاءِ يَكْرَهُونَ الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ. فَنَفَضَ يَدَهُ، وَقَالَ: الشَّرْطُ الْوَاحِدُ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْبَيْعِ، إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الشَّرْطِ حِينَ بَاعَهُ جَمَلَهُ، وَشَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الشَّرْطَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُمَا شَرْطَانِ صَحِيحَانِ، لَيْسَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ. فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، وَعَنْ إِسْحَاقَ فِي مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا، وَاشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَتَهُ وَقِصَارَتَهُ، أَوْ طَعَامًا، وَاشْتَرَطَ طَحْنَهُ وَحَمْلَهُ: إنْ اشْتَرَطَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ شَرْطَيْنِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ فَسَّرَ الْقَاضِي فِي " شَرْحِهِ " الشَّرْطَيْنِ الْمُبْطِلَيْنِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ تَفْسِيرَ الشَّرْطَيْنِ؛ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا مِنْ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا. فَفَسَّرَهُ بِشَرْطَيْنِ فَاسِدَيْنِ. وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ فِي الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ، أَنْ يَقُولَ: إذَا بِعْتُكهَا فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ، وَأَنْ تَخْدِمَنِي سَنَةً. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ. فَأَمَّا إنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ، مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ مَصْلَحَتِهِ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَالتَّأْجِيلِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمِينِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ أَوْ الثَّمَنَ. فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَثُرَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ ": ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَتَى شَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَرْطَيْنِ، بَطَلَ، سَوَاءٌ كَانَا صَحِيحَيْنِ، أَوْ فَاسِدَيْنِ، لِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، أَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِ. أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَعَمَلًا بِعُمُومِهِ. وَلَمْ يُفَرِّقْ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، وَرَوَوْا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» . وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَثُرَ، وَالْفَاسِدُ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَإِنْ اتَّحَدَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ. وَلِأَنَّ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ إذَا اُحْتُمِلَ فِي الْعَقْدِ، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ احْتِمَالُ الْكَثِيرِ. وَحَدِيثُهُمْ لَمْ يَصِحَّ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْوِيًّا فِي مُسْنَدٍ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الْقَاضِي: إنَّ النَّهْيَ يُبْقِي عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ شَرْطَيْنِ. بَعِيدٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ شَرْطَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَشَرْطَ مَا هُوَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، كَالْأَجَلِ، وَالْخِيَارِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمِينِ، وَشَرْطَ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ، كَالْكِتَابَةِ، وَالصِّنَاعَةِ، فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ أَيْضًا فِي بُطْلَانِهِ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ. [فَصْلٌ الشُّرُوط فِي الْبَيْع تَنْقَسِم إلَى أَرْبَعَة أَقْسَام] (3118) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدِهَا، مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالتَّقَابُضِ فِي الْحَالِ. فَهَذَا وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، لَا يُفِيدُ حُكْمًا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ. الثَّانِي، تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَاقِدَيْنِ، كَالْأَجَلِ، وَالْخِيَارِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمِينِ، وَالشَّهَادَةِ، أَوْ اشْتِرَاطِ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ فِي الْمَبِيعِ، كَالصِّنَاعَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَنَحْوِهَا. فَهَذَا شَرْطٌ جَائِزٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ خِلَافًا. الثَّالِثُ، مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهُ، وَلَا مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَلَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ، فَهَذَا قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ. الثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ، نَحْوَ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا آخَرَ، أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ، أَوْ يُؤْجِرَهُ، أَوْ يُزَوِّجَهُ، أَوْ يُسَلِّفَهُ، أَوْ يَصْرِفَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ غَيْرَهُ، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعُ، اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، اشْتِرَاطُ مَا بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقَ الْعَبْدِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 إحْدَاهُمَا، يَصِحُّ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ «لِأَنَّ عَائِشَةَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَشَرَطَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عِتْقَهَا وَوَلَاءَهَا، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرْطَ الْوَلَاءِ، دُونَ الْعِتْقِ» وَالثَّانِيَةُ، الشَّرْطُ فَاسِدٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَشْبَهَ إذَا شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا شَرَطَتْ لَهُمْ الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَتْهُمْ بِإِرَادَتِهَا لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَاشْتَرَطُوا الْوَلَاءَ، فَإِذَا حَكَمْنَا بِفَسَادِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا. وَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ، فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ وَفَّى بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ إذَا صَحَّ، تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَهُ. وَالثَّانِي، لَا يُحْبَرُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُوجِبُ فِعْلَ الْمَشْرُوطِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ شَرَطَ الرَّهْنَ، وَالضَّمِينَ، فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا شَرَطَهُ لَهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَهْنًا. وَإِنْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ، أَوْ كَانَ أَمَةً، فَأَحْبَلَهَا، أَعْتَقَهُ، وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ بَاقٍ فِيهِ. وَإِنْ اسْتَغَلَّهُ، أَوْ أَخَذَ مِنْ كَسْبِهِ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ. وَإِنْ مَاتَ الْمَبِيعُ، رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا نَقَصَهُ شَرْطُ الْعِتْقِ، فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَتُهُ لَوْ بِيعَ مُطْلَقًا؟ وَكَمْ يُسَاوِي إذَا بِيعَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ؟ فَيَرْجِعُ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الْآخَرِ يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِطَ غَيْرَ الْعِتْقِ؛ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَبِيعَ، وَلَا يَهَبَ، وَلَا يَعْتِقَ، وَلَا يَطَأَ. أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، أَوْ يَقِفَهُ، أَوْ مَتَى نَفَقَ الْمَبِيعُ وَإِلَّا رَدَّهُ، أَوْ إنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ فَالْوَلَاءُ لَهُ. فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ. وَهَلْ يَفْسُدُ بِهَا الْبَيْعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ قَالَ الْقَاضِي: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالثَّانِيَةُ، الْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِيهِ عَقْدًا آخَرَ. وَلِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا فَسَدَ، وَجَبَ الرُّجُوعُ بِمَا نَقَصَهُ الشَّرْطُ مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا. وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَبِيعِ بِشَرْطِهِ، وَالْمُشْتَرِي كَذَلِكَ إذَا كَانَ الشَّرْطُ لَهُ، فَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ بِدُونِهِ، لَزَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَالْبَيْعُ مِنْ شَرْطِهِ التَّرَاضِي. وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقُلْت: إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً، وَيَكُونَ لِي وَلَاؤُك فَعَلْت. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إنِّي عَرَضْت عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ. فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: خُذِيهَا، وَاشْتَرِطِي الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، وَلَمْ يُبْطِلْ الْعَقْدَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: خَبَرُ بَرِيرَةَ ثَابِتٌ. وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا يُعَارِضُهُ، فَالْقَوْلُ بِهِ يَجِبُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ ". أَيْ عَلَيْهِمْ. بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِهِ، وَلَا يَأْمُرُهَا بِفَاسِدٍ. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْوَلَاءَ لَهَا بِإِعْتَاقِهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ. الثَّانِي، أَنَّهُمْ أَبَوْا الْبَيْعَ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَلَاءَ لَهُمْ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهَا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهَا؟ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاشْتِرَاطِ وَتَرْكِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَقَوْلِهِ {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وَالتَّقْدِيرُ: وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، أَوْ لَا تَشْتَرِطِي. وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: «فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَحَدِيثُهُمْ لَا أَصِلَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ. (3119) فَصْلٌ: فَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِمَا نَقَصَهُ الشَّرْطُ مِنْ الثَّمَنِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِطَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا سَمَحَ بِبَيْعِهَا بِهَذَا الثَّمَنِ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْغَرَضِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا سَمَحَ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ مِنْ أَجَلِ شَرْطِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمَا سَمَحَ بِهِ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا. (3120) فَصْلٌ: فَإِنْ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ، لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مِلْكٌ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ. وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعِ، وَلَا هِبَةٍ، وَلَا عِتْقٍ، وَلَا غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَيَأْخُذُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، إلَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِ، فَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ؛ فَإِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 عَائِشَةَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْوَلَاءِ، فَأَعْتَقَتْهَا، فَأَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِتْقَ، وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلَى صِفَةٍ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ ابْتِدَاءً بِعَقْدٍ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِلْبَدَلِ عَنْ عَقْدٍ فِيهِ تَسْلِيطٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا. وَلَنَا، أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَيْتَةً، أَوْ دَمًا فَأَمَّا حَدِيثُ بَرِيرَةَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، لَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْهَا بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ أَهْلَ بَرِيرَةَ حِينَ بَلَغَهُمْ إنْكَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الشَّرْطَ تَرَكُوهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ سَابِقًا لِلْعَقْدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ. (3121) فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ، مَعَ نَمَائِهِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ، وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ؛ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مَضْمُونَةٌ، فَأَجْزَاؤُهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا. فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ التَّلَفِ. قَالَهُ الْقَاضِي. وَلِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ، وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي الْغَصْبِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَالِ زِيَادَتِهَا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ تَلَفِهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا بِالْجِنَايَةِ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيع أَمَة فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي] (3122) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَلِأَنَّ فِي الْمِلْكِ اخْتِلَافًا. وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ، وَجَبَ الْمَهْرُ. وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يُوجِبُ الْمَهْرَ. وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، إنْ كَانَتْ بِكْرًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً تَرْوِيجًا فَاسِدًا، فَوَطِئَهَا، فَأَزَالَ بَكَارَتَهَا، لَا يَضْمَنُ الْبَكَارَةَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ النِّكَاحَ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ فِي الْوَطْءِ الْمُذْهِبِ لِلْبَكَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى الْوَطْءِ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَى الْوَطْءِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَوْجَبْتُمْ مَهْرَ بِكْرٍ، فَكَيْفَ تُوجِبُونَ ضَمَانَ الْبَكَارَةِ، وَقَدْ دَخَلَ ضَمَانُهَا فِي الْمَهْرِ؟ وَإِذَا أَوْجَبْتُمْ ضَمَانَ الْبَكَارَةِ، فَكَيْفَ تُوجِبُونَ مَهْرَ بِكْرٍ، وَقَدْ أَدَّى عِوَضَ الْبَكَارَةِ بِضَمَانِهِ لَهَا، فَجَرَى مَجْرَى مَنْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا بِأُصْبُعِهِ، ثُمَّ وَطِئَهَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَهْرَ الْبِكْرِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ ضَمَانُ جُزْءٍ، فَلِذَلِكَ اجْتَمَعَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَهَا بِكْرًا، فَقَدْ اسْتَوْفَى نَفْعَ هَذَا الْجُزْءِ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْ نَفْعِهِ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ وَجَبَ ضَمَانُ عَيْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضْمَنَ الْعَيْنُ، وَيَسْقُطَ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَيْنًا ذَاتَ مَنْفَعَةٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 فَاسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا، ثُمَّ أَتْلَفَهَا، أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا، فَلَبِسَهُ حَتَّى أَبْلَاهُ وَأَتْلَفَهُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَالْمَنْفَعَةَ كَذَا هَاهُنَا. (3123) فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَدَتْ كَانَ وَلَدُهَا حُرًّا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ. وَيَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لِذَلِكَ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَعَلَى الْوَاطِئِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ سَقَطَ مَيْتًا، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُهُ حِينَ وَضَعَهُ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، وَجَبَ ضَمَانُهُ. قُلْنَا: الضَّارِبُ يَجِبُ عَلَيْهِ غُرَّةٌ، وَهَاهُنَا يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْجَانِيَ أَتْلَفَهُ، وَقَطَعَ نَمَاءَهُ، وَهَاهُنَا يَضْمَنُهُ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، وَوَقْتُ الْحَيْلُولَةِ وَقْتُ السُّقُوطِ، وَكَانَ مَيِّتًا، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِ الْوِلَادَةِ. وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيُّ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَعَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ، عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجَنِينِ، أَوْ قِيمَتِهِ يَوْمَ سَقَطَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الضَّارِبِ لَهُ قَامَ مَقَامَ خُرُوجِهِ حَيًّا، وَلِذَلِكَ ضَمِنَهُ الْبَائِعُ. وَإِنَّمَا كَانَ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ، فَالْبَاقِي مِنْهَا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالْحُرِّيَّةِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ مِنْهَا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الضَّارِبِ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَمِنَ. وَإِنْ ضَرَبَ الْوَاطِئُ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتْ الْجَنِينَ مَيِّتًا، فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ أَيْضًا، وَلَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ سَلَّمَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ إلَى الْبَائِعِ حَامِلًا، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ضَمِنَ نَقْصَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ تَلَفَهَا بِسَبَبِ مِنْهُ. وَإِنْ مَلَكَهَا الْوَاطِئُ، لَمْ تَصِرْ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ الزَّوْجَةَ. وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ حَبِلَتْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِهَذَا. [فَصْلٌ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيع الْفَاسِد] (3124) فَصْلٌ: إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الْفَاسِدَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ، وَلِبَائِعِهِ أَخْذُهُ حَيْثُ وُجِدَ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ، وَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى بَائِعِهِ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الثَّانِي، فَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَامِنٌ، وَالثَّانِيَ قَبَضَهُ مِنْ يَدِ ضَامِنِهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، فَكَانَ ضَامِنًا. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَضَمِنَ الثَّانِي، لَمْ يَرْجِعْ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. فَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ، رَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى الثَّانِي. [فَصْلٌ زَادَ الْمَبِيع فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِسَمْنِ أَوْ نَحْوه ثُمَّ نَقَصَ حَتَّى عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ] (3125) فَصْلٌ: وَإِنْ زَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، بِسِمَنٍ، أَوْ نَحْوِهِ، ثُمَّ نَقَصَ حَتَّى عَادَ إلَى مَا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 عَلَيْهِ، أَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، أَشْبَهَتْ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْصُوبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَضْمَنَهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ عِوَضٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، أَوْ عُدْوَانِهِ، ضَمِنَهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ تَلْفِتْ الْعَيْنُ بَعْدَ زِيَادَتِهَا أَسْقَطَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَضَمِنَهَا بِمَا بَقِيَ مِنْ الْقِيمَةِ، حِينَ التَّلَفِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. [فَصْلٌ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَتُقَابِضَا ثُمَّ أَتْلَفَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ ثُمَّ أَفْلَسَ] (3126) فَصْلٌ: إذَا بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا ثُمَّ أَتْلَفَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ ثُمَّ أَفْلَسَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ وَلِلْمُشْتَرِي أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ كَالْمُرْتَهِنِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَثِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِحَقِّهِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْ عَبْدك مِنْ فُلَان عَلَى أَنَّ عَلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ] (3127) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا شَرَطَ كَوْنَ بَعْضِهِ عَلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَنْعَ، وَالثَّمَنُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ، أَوْ طَلِّقْ امْرَأَتَكَ وَعَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ لِكَوْنِ هَذَا عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الزَّوْجِيَّةِ وَرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي النِّكَاحِ أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فِي مُقَابَلَةِ نَقْلِ الْمِلْكِ، فَلَا يَثْبُتُ لِمَنْ الْعِوَضُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الضَّمَانُ. [فَصْلٌ فِي بَيْع الْعُرْبُونِ] (3128) فَصْلٌ وَالْعُرْبُونُ فِي الْبَيْعِ هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ فَيَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَذَلِكَ لِلْبَائِعِ يُقَالُ عُرْبُونٌ وَأُرْبُونٌ وَعُرْبَانٌ وَأُرْبَانٌ، قَالَ أَحْمَدْ لَا بَأْسَ بِهِ وَفَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَهُ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ إذَا كَرِهَ السِّلْعَةَ أَنْ يَرُدَّهَا يَرُدُّ مَعَهَا شَيْئًا وَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبُونِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ لِلْبَائِعِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ لِأَجْنَبِيٍّ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ رَدَّ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُدَّةٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ وَلِي الْخِيَارُ مَتَى شِئْتُ رَدَدْت السِّلْعَةَ وَمَعَهَا دِرْهَمًا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَإِنَّمَا صَارَ أَحْمَدُ فِيهِ إلَى مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِعُمَرَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وَإِلَّا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الْأَثْرَمُ قُلْت لِأَحْمَدَ تَذْهَبُ إلَيْهِ؟ قَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَقُلْ؟ هَذَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، فَأَمَّا إنْ دَفَعَ إلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ دِرْهَمًا وَقَالَ لَا تَبِعْ هَذِهِ السِّلَعَ لِغَيْرِي وَإِنْ لَمْ أَشْتَرِهَا مِنْك فَهَذَا الدِّرْهَمُ لَك. ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مُبْتَدِئٍ وَحَسَبَ الدِّرْهَمَ مِنْ الثَّمَنِ صَحَّ لِأَنَّ الْبَيْعَ خَلَا عِنْدَ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشِّرَاءَ الَّذِي اُشْتُرِيَ لِعُمَرَ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيُحْتَمَلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ وَالْأَئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِفَسَادِ الْعُرْبُونِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ السِّلْعَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الدِّرْهَمَ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلِصَاحِبِهِ الرُّجُوعُ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا عَنْ انْتِظَارِهِ وَتَأْخُذُ بَيْعَهُ مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ لَمَا جَازَ جَعْلُهُ مِنْ الثَّمَنِ فِي حَالِ الشِّرَاءِ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ بِالْبَيْعِ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ وَلَوْ جَازَتْ تُوجِبُ أَنْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. [مَسْأَلَةٌ النَّهْي عَنْ بِيعَتَانِ فِي بَيْعَة] (3129) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا قَالَ بِعْتُك بِكَذَا عَلَى أَنْ آخُذَ مِنْك الدِّينَارَ بِكَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ بِذَهَبٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ بِصَرْفٍ ذَكَرَاهُ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ يُصَارِفَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ، وَالْمُصَارَفَةُ عَقْدُ بَيْعٍ فَيَكُونُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ قَالَ أَحْمَدُ هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك دَارِي هَذِهِ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ دَارِي الْأُخْرَى بِكَذَا أَوْ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَك أَوْ عَلَى أَنْ أُؤَجِّرَكَ أَوْ عَلَى أَنْ تُؤْجِرَنِي كَذَا أَوْ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي وَنَحْوَ هَذَا فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الصَّفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَقَالَ لَا أَلْتَفِتُ إلَى اللَّفْظِ الْفَاسِدِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا حَلَالًا فَكَأَنَّهُ بَاعَ السِّلْعَةَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِالدَّنَانِيرِ. وَلَنَا الْخَبَرُ وَأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجِبُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِهِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَيَسْقُطُ فَيُفْسِدُ الْعَقْدَ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِهِ إلَّا بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَإِذَا فَاتَ فَاتَ الرِّضَا بِهِ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ. لَمْ يَصِحَّ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَقَوْلُهُ لَا أَلْتَفِتُ إلَى اللَّفْظِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 اللَّفْظُ فَإِذَا كَانَ فَاسِدًا فَكَيْفَ يَكُنْ صَحِيحًا؟ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَيَفْسُدَ الشَّرْطُ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (3130) فَصْلٌ وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ بِخَمْسَةَ عَشَرَ نَسِيئَةً أَوْ بِعَشَرَةٍ مُكَسَّرَةٍ، أَوْ تِسْعَةً صِحَاحًا. هَكَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ لَهُ بِبَيْعٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا أَوْ هَذَا، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ الْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُك أَحَدَ عَبِيدِي وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ أَبِعْك بِالنَّقْدِ بِكَذَا وَبِالنَّسِيئَةِ بِكَذَا فَيَذْهَبُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا يَجْرِي فِي الْعَقْدِ فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَالَ أَنَا آخُذُهُ بِالنَّسِيئَةِ بِكَذَا فَقَالَ: خُذْهُ أَوْ قَدْ رَضِيتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَقْدًا كَافِيًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِيجَابِ أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ قَالَ وَإِنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يَصِحُّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هَذَا الْبَيْعُ فَيَخْرُجُ وَجْهًا فِي الصِّحَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ ثَمَّ يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ جَعَالَةً يَحْتَمِلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَلِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأُجْرَةَ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ إلَّا عَلَى إحْدَى الصَّفْقَتَيْنِ، فَتَتَعَيَّنُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عِوَضًا لَهُ فَلَا يُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ النَّهْي عَنْ بَيْع وَسَلَفِ] (3131) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ بِقَرْضِهِ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إنْ تَرَكَ مُشْتَرِطُ السَّلَفِ السَّلَفَ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي لَفْظٍ «لَا يَحِلُّ بَيْعٌ وَسَلَفٌ» وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَلِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ. عِوَضًا عَنْ الْقَرْضِ وَرِيحًا لَهُ وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا. [فَصْلٌ النَّهْي عَنْ الْجَمْع بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفِي الْقِيمَة بِعِوَضِ] (3132) فَصْلٌ وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ كَالصَّرْفِ وَبَيْعِ مَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ أَوْ الْإِجَارَةِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الدِّينَارَ وَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 الثَّوْبَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ وَأَجَّرْتُك الْأُخْرَى بِأَلْفِ. أَوْ بَاعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى بِالذَّهَبِ بِفِضَّةٍ أَوْ زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَبِعْتُك عَبْدَهَا بِأَلْفٍ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا عَيْنَانِ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةٍ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُمَا مُجْتَمِعَتَيْنِ كَالْعَبْدَيْنِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي ذَلِكَ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ الْمَبِيعَ يُضْمَنُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَأَمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ فَقَالَ كَاتَبْتُكَ وَبِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةٌ. لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَبْلَ تَمَامِ الْكِتَابَةِ عَبْدُ قِنٍّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ سَيِّدِهِ شَيْئًا وَلَا يَثْبُتُ لِسَيِّدِهِ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنٌ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَهَلْ يَصِحَّ فِي الْكِتَابَةِ بِقِسْطِهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ نَذْكُرُهُمَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَسَوَّى أَبُو الْخَطَّابِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَبَيْنَ الصُّوَرِ الَّتِي قَبْلَهَا فَقَالَ: فِي الْكُلِّ وَجْهَانِ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيْع مَا يَجُوزُ بَيْعه وَمَا لَا يَجُوزُ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنِ وَاحِد] (3133) فَصْلٌ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَبِيعَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ، صَفْقَةً وَاحِدَةً، بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدِهَا أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا كَقَوْلِ بِعْتُك هَذِهِ الْفَرَسَ، وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الْأُخْرَى بِأَلْفٍ. فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا أَعْلَمُ فِي بُطْلَانِهِ خِلَافًا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لِجَهَالَتِهِ وَالْمَعْلُومُ مَجْهُولُ الثَّمَنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا وَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ فَيَتَعَذَّرُ التَّقْسِيطُ. الثَّانِي، أَنْ يَكُنْ الْمَبِيعَانِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْأَجْزَاءِ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَاعَهُ كُلَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ وَكَقَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَهُمَا مَنْ لَا يَمْلِكُ إلَّا بَعْضَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ فِي مِلْكِهِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَيَفْسُدُ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ فِيهِمَا، وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِيمَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَفْسُدُ فِيهِمَا وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ فِي الْحُرَّةِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُلِّ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمٌ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 كَمَا لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا، وَلِأَنَّ مَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ قَدْ صَدَرَ فِيهِ الْبَيْعُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ بِشَرْطِهِ فَصَحَّ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي مَحِلَّيْنِ وَامْتَنَعَ حُكْمُهُ فِي أَحَدِ الْمَحِلَّيْنِ لِنُبُوَّتِهِ عَنْ قَبُولٍ فَيَصِحُّ فِي الْآخَرِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِآدَمِيٍّ وَبَهِيمَةٍ، وَأَمَّا الدِّرْهَمَانِ وَالْأُخْتَانِ، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالْفَسَادِ مِنْ الْآخَرِ فَلِذَلِكَ فَسَدَ فِيهِمَا، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ. الْقَسَمِ الثَّالِثِ، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعَانِ مَعْلُومَيْنِ، مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا الثَّمَنُ بِالْأَجْزَاءِ كَعَبْدٍ وَحُرٍّ، وَخَلٍّ وَخَمْرٍ، [وَعَبْدِهِ] وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَعَبْدٍ حَاضِرٍ وَآبِقٍ، فَهَذَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَفِي الْآخَرِ رِوَايَتَانِ، نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ فِي مَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا رَجَعَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَنَقَلَ عَنْهُ مُهَنَّا فِي مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا، فَلَهَا قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَأَبْطَلَ الصَّدَاقَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ وَأَبْطَلَ مَالِكٌ الْعَقْدَ فِيهِمَا إلَّا أَنْ يَبِيعَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ فِي مِلْكِهِ وَيَقِفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَالْحُرِّ وَالْخَمْرِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ كَمِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ صَحَّ فِيمَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْإِجَازَةِ، بِحُكْمِ حَاكِمٍ، بِصِحَّةِ بَيْعِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِالتَّقْسِيطِ لِلثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فِي الْحَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا، أَوْ بِحِصَّةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَقَالَ بِعْتُك هَذَا بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَصِحَّ. فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ. وَقَالَ مَنْ نَصَرَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى إنَّهُ مَتَى سَمَّى ثَمَنًا فِي مَبِيعٍ يَسْقُطُ بَعْضُهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ جَهَالَةً تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَعِيبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ، وَالْقَوْلُ بِالْفَسَادِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَظْهَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْحُكْمُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ إذَا جَمَعَتْ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عُقُودَ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا تُوجَدُ جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِيهَا. (3134) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، فَتَلِفَ بَعْضُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي. رِوَايَةً وَاحِدَةً. يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا فَذَهَابُ بَعْضِهِ لَا يَفْسَخُهُ، كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَمَا لَوْ وَجَدَ أَحَدَ الْمَبِيعَيْنِ مَعِيبًا فَرَدَّهُ أَوْ أَقَالَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْآخَرَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَبَاعَهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ فِيهِمَا، وَيَتَقَسَّطُ الْعِوَضُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ فَصَحَّ كَمَا لَوْ كَانَا لَرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا لَوْ بَاعَا عَبْدًا وَاحِدًا لَهُمَا، أَوْ قَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ جُمْلَةَ الْبَيْعِ مُقَابَلَةٌ بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ تَقْسِيطٍ وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ وَالْقَفِيزَانِ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْأَجْزَاءِ، فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ. (3136) فَصْلٌ: وَمَتَى حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَكَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَالِ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِثْلُ إنْ اشْتَرَى عَبْدًا يَظُنُّهُ كُلَّهُ لِلْبَائِعِ فَبَانَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهُ أَوْ عَبْدَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا أَحَدَهُمَا، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْئَيْنِ يُفْتَقَرُ إلَى الْقَبْضِ فِيهِمَا، فَتَلِفَ أَحَدُهَا قَبْلَ قَبْضِهِ فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ إمْسَاكِ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي كَوْنِ الْمَبِيعِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ حُكْمُ مَا قَبْلَ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّبَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمَلَكَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيم أَنْ يُضَارِب بِمَالِهِ وَأَنْ يَدْفَعهُ إلَى مِنْ يُضَارِب لَهُ بِهِ] (3137) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَيَتَّجِرُ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ فَإِنْ أَعْطَاهُ لِمَنْ يُضَارِبُ لَهُ بِهِ فَلِلْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ مَا وَافَقَهُ الْوَصِيُّ عَلَيْهِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُضَارِبَ بِمَالِهِ وَأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مَنْ يُضَارِبُ لَهُ بِهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ، أَيًّا كَانَ، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ حَاكِمًا، أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يُرْوَى إبَاحَةُ التِّجَارَةِ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالضَّحَّاكِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ اجْتِنَابَ الْمُخَاطَرَةِ بِهِ، وَلِأَنَّ خَزْنَهُ أَحْفَظُ لَهُ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحَظُّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِتَكُونَ نَفَقَتُهُ مِنْ فَاضِلِهِ وَرِبْحِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْبَالِغُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّجِرُ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْآمِنَةِ، وَلَا يَدْفَعُهُ إلَّا لِأُمَّيْنِ وَلَا يُغَرِّرُ بِمَالِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَبْضَعَتْ مَالَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبَحْرِ فَيَحْتَمِلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ قَرِيبٍ مِنْ السَّاحِلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا جَعَلَتْهُ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَيْهَا إنْ هَلَكَ غَرِمَتْهُ فَمَتَى اتَّجَرَ فِي الْمَالِ بِنَفْسِهِ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ وَأَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَإِسْحَاقُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْوَصِيُّ مُضَارَبَةً لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ بِذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَأْخُذ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ إلَّا بِعَقْدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْوَلِيُّ الْمُضَارَبَةَ مَعَ نَفْسِهِ، فَأَمَّا إنْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَلِلْمُضَارِبِ مَا جَعَلَهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ، أَيْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّ نَائِبٌ عَنْ الْيَتِيمِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، وَهَذَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ فَصَارَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مَالِهِ. [فَصْلٌ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيم أَبْضَاع مَاله] (3138) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ إبْضَاعُ مَالِهِ وَمَعْنَاهُ؛ دَفْعُهُ إلَى مَنْ يَتَّجِرُ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَبْضَعَتْ مَالَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ دَفْعُهُ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ فَدَفْعُهُ إلَى مَنْ يُوَفِّرُ الرِّبْحَ أَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ الْعَقَارَ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يُحَصِّلُ مِنْهُ الْفَضْلَ وَيَبْقَى الْأَصْلُ وَالْغَرَرُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ التِّجَارَةِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَحْفُوظٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْنِي لَهُ عَقَارًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشِّرَاءِ إلَّا أَنْ يَكُنْ الشِّرَاءُ أَحَظَّ وَهُوَ مُمْكِنٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَإِذَا أَرَادَ الْبِنَاءَ بَنَاهُ بِمَا يَرَى الْحَظَّ فِي الْبِنَاءِ بِهِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا يَبْنِيهِ بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ وَلَا يَبْنِي بِاللَّبِنِ لِأَنَّهُ إذَا هُدِمَ لَا مَرْجُوعَ لَهُ وَلَا بِجِصٍّ لِأَنَّهُ يَلْتَصِقُ بِالْآجِرِ فَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ، فَإِذَا هُدِمَ فَسَدَ الْآجِرُ لِأَنَّ تَخْلِيصَهُ مِنْهُ يُفْضِي إلَى كَسْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْحَظُّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ بِغَيْرِهِ فَتَرَكَهُ ضَيَّعَ حَظَّهُ وَمَالَهُ وَلَا يَجُوزُ تَضْيِيعُ الْحَظِّ الْعَاجِلِ وَتَحَمُّلُ الضَّرَرِ النَّاجِزِ الْمُتَيَقَّنِ لِتَوَهُّمِ مَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْآجِرِ عِنْدَ هَدْمِ الْبِنَاءِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي حَيَّاتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْبُلْدَانِ لَا يُوجَدُ فِيهَا الْآجِرُ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَمْ تَجْرِ عَادَتْهُمْ بِالْبِنَاءِ بِهِ، فَلَوْ كُلِّفُوا الْبِنَاءَ بِهِ لَاحْتَاجُوا إلَى غَرَامَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا طَائِلٌ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا يَخْتَصُّ مَنْ عَادَتْهُمْ الْبِنَاءُ بِالْآجِرِ كَالْعِرَاقِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيم بَيْع عَقَاره لِغَيْرِ حَاجَة] (3139) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ عَقَارِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّنَا نَأْمُرُهُ بِالشِّرَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظِّ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ تَفْوِيتًا لِلْحَظِّ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ جَازَ، نَقَلَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ الدُّورِ عَلَى الصِّغَارِ، إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُمْ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقُ قَالُوا يَبِيعُ إذَا رَأَى الصَّلَاحَ قَالَ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى كِسْوَةٍ، أَوْ نَفَقَةٍ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 الثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْعِهِ غِبْطَةٌ؛ وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ بِغَرَقٍ أَوْ خَرَابٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْبَيْعِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ نَظَرًا لَهُمْ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا ذَكَرُوهُ. وَقَدْ يَرَى الْوَلِيُّ الْحَظَّ فِي غَيْرِ هَذَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ نَفْعُهُ قَلِيلٌ، فَيَبِيعُهُ وَيَشْتَرِي لَهُ فِي مَكَان يَكْثُرُ نَفْعُهُ، أَوْ يَرَى شَيْئًا فِي شِرَائِهِ غِبْطَةٌ وَلَا يُمْكِنُهُ شِرَاؤُهُ إلَّا بِبَيْعِ عَقَارِهِ. وَقَدْ تَكُونُ دَارُهُ فِي مَكَان يَتَضَرَّرُ الْغُلَامُ بِالْمُقَامِ فِيهَا، لِسُوءِ الْجِوَارِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَبِيعُهَا وَيَشْتَرِي لَهُ بِثَمَنِهَا دَارًا يَصْلُحُ لَهُ الْمُقَامُ بِهَا، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ. وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي بَيْعِ عَقَارِهِ وَإِنْ دَفَعَ فِيهِ مِثْلَا ثَمَنِهِ إمَّا لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ فَيَضِيعُ الثَّمَنُ وَلَا يُبَارَكُ فِيهِ. فَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ دَارًا أَوْ عَقَارًا، وَلَمْ يَصْرِفْ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا فَلَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْجَوَازِ، وَلَا فِي الْمَنْعِ، بَلْ مَتَى كَانَ بَيْعُهُ أَحْظَ لَهُ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيم كِتَابَة رَقِيق الْيَتِيم وَإِعْتَاقه عَلَى مَال] (3140) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ كِتَابَةُ رَقِيقِ الْيَتِيمِ وَإِعْتَاقُهُ عَلَى مَالٍ، إذَا كَانَ الْحَظُّ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا، فَيُكَاتِبَهُ بِأَلْفَيْنِ أَوْ يُعْتِقَهُ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَظُّ، لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ لَهُ عَلَى شَرْطٍ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ، كَالتَّعْلِيقِ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ كِتَابَتُهُ، وَلَا إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا الْعِتْقُ، دُونَ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَمْ تَجُزْ، كَالْإِعْتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلَنَا، إنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لِلْيَتِيمِ فِيهَا حَظُّ، فَمَلَكَهَا وَلِيُّهُ، كَبَيْعِهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِنَفْعِ الْعَقْدِ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ تَعْلِيقًا، فَإِنَّهُ إذَا حَصَلَ الْحَظُّ لِلْيَتِيمِ، لَا يَضُرُّهُ نَفْعُ غَيْرِهِ، وَلَا كَوْنُ الْعِتْقِ حَصَلَ بِالتَّعْلِيقِ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، لِعَدَمِ الْحَظِّ وَانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي، لَا لِمَا ذَكَرُوهُ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونُ فِي الْعِتْقِ بِغَيْرِ مَالٍ نَفْعٌ، كَانَ نَادِرًا. وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَصِحَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَتَوَجَّهُ الْعِتْقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِلْحَظِّ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ جَارِيَةٌ وَابْنَتُهَا، يُسَاوَيَانِ مِائَةً مُجْتَمَعَتَيْنِ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ إحْدَاهُمَا سَاوَتْ مِائَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ، فَيُعْتِقُ الْأُخْرَى، لِتَكْثُرَ قِيمَةُ الْبَاقِيَةِ، فَتَصِيرُ ضِعْفَ قِيمَتِهَا. [فَصْلٌ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ أُضْحِيَّة] (3141) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْيَتِيمِ أُضْحِيَّةً، إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ. يَعْنِي مَالًا كَثِيرًا لَا يَتَضَرَّرُ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ، وَعَلَى وَجْهِ التَّوْسِعَةِ فِي النَّفَقَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 هُوَ عِيدٌ، وَيَوْمُ فَرَحٍ، وَفِيهِ جَبْرُ قَلْبِهِ وَتَطْيِيبُهُ، وَإِلْحَاقُهُ بِمَنْ لَهُ أَبٌ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَشِرَاءِ اللَّحْمِ، سِيَّمَا مَعَ اسْتِحْبَابِ التَّوْسِعَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَجَرْيِ الْعَادَةِ بِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ مُسْلِمُ وَمَتَى كَانَ خَلْطُ مَالِ الْيَتِيمِ أَرْفَقَ بِهِ، وَأَلْيَنَ فِي الْخُبْزِ، وَأَمْكَنَ فِي حُصُولِ الْأُدْمِ، فَهُوَ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ إفْرَادُهُ أَرْفَقَ بِهِ أَفْرَدَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] . أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَشَدَّدَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَعْنَتَ فُلَانٌ فُلَانًا إذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَشَدَّدَ. وَعَنَتَتْ الرَّجُلَ، إذَا ظَلَعَتْ، وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَرْكُ الصَّبِيِّ فِي الْمَكْتَبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ. وَحُكِيَ لِأَحْمَدَ قَوْلُ سُفْيَانَ: لَا يُسَلِّمُ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ إلَّا بِإِذْنِ. الْحَاكِمِ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَكْتَبَ مِنْ مَصَالِحِهِ، فَجَرَى مَجْرَى نَفَقَتِهِ، وَلِمَأْكُولِهِ، وَمَشْرُوبِهِ، وَمَلْبُوسِهِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ إسْلَامُهُ فِي صِنَاعَةٍ، إذَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُوسِرًا فَلَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيم شَيْئًا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبًا] (3142) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُوسِرًا، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، فَلَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ أُجْرَتِهِ، أَوْ قَدْرِ كِفَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ وَالْحَاجَةِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا مَا وُجِدَا فِيهِ. فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، ثُمَّ أَيْسَرَ؛ فَإِنْ كَانَ أَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْأَبِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ عِوَضُ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِوَضٍ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا أَمَرَ بِأَكْلِهِ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ عَمَلِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ، كَالْأَجِيرِ وَالْمُضَارِبِ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ عِوَضُهُ. وَهُوَ قَوْلُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَهُ بِالْحَاجَةِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَالْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرِ، لَكَانَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْيَسَارِ، فَإِنَّ الْيَسَارَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِالسَّبَبِ، الَّذِي هُوَ الْأَكْلُ، لَمْ يَجِبْ بَعْدَهُ. وَفَارَقَ الْمُضْطَرَّ؛ فَإِنَّ الْعِوَضَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ قَرْضُ مَالِ الْيَتِيمِ] (3143) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَرْضُ مَالِ الْيَتِيمِ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ لَهُ، لَمْ يَجُزْ قَرْضُهُ، فَمَتَى أَمْكَنَ الْوَلِيُّ التِّجَارَةَ بِهِ، أَوْ تَحْصِيلَ عَقَارٍ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، لَمْ يُقْرِضْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْحَظَّ عَلَى الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 ذَلِكَ، وَكَانَ قَرْضُهُ حَظًّا لِلْيَتِيمِ، جَازَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقْرِضُ مَالَ الْيَتِيمِ لَأَحَدٍ يُرِيدُ مُكَافَأَتَهُ، وَمَوَدَّتَهُ، وَيُقْرِضُ عَلَى النَّظَرِ، وَالشَّفَقَةِ، كَمَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إنَّ عُمَرَ اسْتَقْرَضَ مَالَ الْيَتِيمِ. قَالَ: إنَّمَا اسْتَقْرَضَ نَظَرًا لِلْيَتِيمِ، وَاحْتِيَاطًا، إنْ أَصَابَهُ بِشَيْءٍ غَرِمَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى الْحَظِّ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فِي بَلَدِهِ، فَيُرِيدُ نَقْلَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَيُقْرِضُهُ مِنْ رَجُلٍ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، لِيَقْضِيَهُ بَدَلَهُ فِي بَلَدِهِ، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِفْظَهُ مِنْ الْغَرَرِ فِي نَقْلِهِ، أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ مِنْ نَهْبٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ يَكُونُ مِمَّا يَتْلَفُ بِتَطَاوُلِ مُدَّتِهِ، أَوْ حَدِيثُهُ خَيْرٌ مِنْ قَدِيمِهِ، كَالْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا، فَيُقْرِضُهُ خَوْفًا أَنْ يُسَوِّسَ، أَوْ تَنْقُصَ قِيمَتُهُ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَيَجُوزُ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لِلْيَتِيمِ فِيهِ حَظٌّ فَجَازَ، كَالتِّجَارَةِ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إرْفَاقَ الْمُقْتَرِضِ، وَقَضَاءَ حَاجَتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالِ الْيَتِيمِ، فَلَمْ يَحُزْ كَهِبَتِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ السَّفَرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِمَالِهِ، وَقَرْضُهُ لِثِقَةٍ أَمِينٍ أَوْلَى مِنْ إيدَاعِهِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تُضْمَنُ إذَا تَلِفَتْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَقْرِضُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ إيدَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ مَعَ إمْكَانِ قَرْضِهِ، جَازَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَأَى الْإِيدَاعَ أَحْظَ لَهُ مِنْ الْقَرْضِ، فَلَا يَكُونُ مُفَرِّطًا. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَهُ قَرْضُهُ. فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِمَلِيءٍ أَمِينٍ، لِيَأْمَنَ جُحُودَهُ، وَتَعَذُّرَ الْإِيفَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا إنْ أَمْكَنَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَخْذُ الرَّهْنِ، جَازَ تَرْكُهُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ يَسْتَقْرِضُهُ مِنْ أَجَلِ حَظِّ الْيَتِيمِ، أَنَّهُ لَا يَبْذُلُ رَهْنًا، فَاشْتِرَاطُ الرَّهْنِ يُفَوِّتُ هَذَا الْحَظَّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُقْرِضُهُ إذَا أَخَذَ بِالْقَرْضِ رَهْنًا. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُقْرِضُهُ إلَّا بِرَهْنٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلْمَالِ، وَحِفْظًا لَهُ عَنْ الْجَحْدِ، وَالْمَطْلِ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُ الرَّهْنِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَخْذُهُ، احْتِيَاطًا عَلَى الْمَالِ، وَحِفْظًا لَهُ، فَإِنْ تَرَكَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ إنْ ضَاعَ الْمَالُ؛ لِتَقْرِيطِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَضْمَنَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَتُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ الرَّهْنَ. [فَصْلٌ هَلْ يَجُوز لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْله بِنَفْسِهِ] (3144) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ، وَفِي الْوَكِيلِ رِوَايَتَانِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَكِيلَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْذَانُ، وَالْوَصِيُّ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى الْوَلِيّ الْإِنْفَاق عَلَى الصَّبِيّ أَوْ عَلَى مَاله أَوْ عَقَاره بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَاله] (3145) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الصَّبِيِّ، أَوْ عَلَى مَالِهِ، أَوْ عَقَارِهِ، بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَقَارَهُ لِحَظِّهِ، أَوْ بِنَاءً لِمَصْلَحَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ تَلِفَ، قُبِلَ قَوْلُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُمْضِي الْحَاكِمُ بَيْعَ الْأَمِينِ وَالْوَصِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْحَظُّ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي ذَلِكَ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْأَبِ وَالْجَدِّ. وَلَنَا أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ، وَشِرَاؤُهُ لِلْيَتِيمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْحَظِّ، كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وَلِأَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ التَّفْرِيطِ فِيمَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْعَقَارِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعَقَارِ، كَالْأَبِ. وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، فَادَّعَى أَنَّهُ لَاحَظَ لَهُ فِي الْبَيْعِ، لَمْ يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ قَالَ الْوَلِيُّ: أَنْفَقْت عَلَيْك مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَالَ الْغُلَامُ: مَا مَاتَ أَبِي إلَّا مُنْذُ سَنَتَيْنِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُلَامِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ وَالِدِهِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي أَمْرٍ لَيْسَ الْوَصِيُّ أَمِينًا فِيهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْأَصْلَ. [فَصْلٌ لِلْوَصِيِّ الْبَيْع عَلَى الْغَائِب الْبَالِغ إذَا كَانَ مِنْ طَرِيق النَّظَر] (3146) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الْبَيْعُ عَلَى الْغَائِبِ الْبَالِغِ، إذَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الْبَيْعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، إذَا كَانَتْ حُقُوقُهُمْ مُشْتَرَكَةً فِي عَقَارٍ فِي قَسْمِهِ إضْرَارٌ، وَبِالصِّغَارِ حَاجَةٌ إلَى الْبَيْعِ، إمَّا لِقَضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ مُؤْنَةٍ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجُوزُ الْبَيْعُ، عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا هَذِهِ الصُّورَةَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَاحْتِيَاطًا لِلْمَيِّتِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ عَلَى الْكِبَارِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ وِكَالَةٍ، وَلَا وِلَايَةٍ، فَلَمْ يَصِحُّ، كَبَيْعِ مَالِهِ الْمُفْرَدِ، أَوْ مَا لَا تَضُرُّ قِسْمَتُهُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصِلَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْكِبَارِ، بِبَيْعِ مَا لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ غَيْرِ الْعَقَارِ، فَلَمْ يَحُزْ لَهُ بَيْعُ غَيْرِ الْعَقَارِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. [فَصْلٌ تَصْرِف الصَّبِيّ الْمُمَيَّز بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاء فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيّ فِيهِ] (3147) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِيهِ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ. وَلِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ مِنْهُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ التَّصَرُّفُ؛ لِخَفَائِهِ، وَتَزَايُدِهِ تَزَايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ، فَجَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ ضَابِطًا، وَهُوَ الْبُلُوغُ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَظِنَّةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَمَعْنَاهُ؛ اخْتَبِرُوهُمْ لِتَعْلَمُوا رُشْدَهُمْ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اخْتِيَارُهُمْ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِمْ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِيُعْلَمَ هَلْ يُغْبَنَّ أَوْ لَا. وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ، مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، كَالْعَبْدِ. وَفَارَقَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ، فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ بِتَصَرُّفِهِ؛ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ حَالُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَقْلَ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ. قُلْنَا: يُعْلَمُ ذَلِكَ بِآثَارِ وَجَرَيَانِ تَصَرُّفَاتِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ، كَمَا يُعْلَمُ فِي حَقِّ الْبَالِغِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ رُشْدِهِ، شَرْطُ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ، كَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا إنْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَيَقِفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا تَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ، فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِيهِ، إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَبِيٍّ عُصْفُورًا، فَأَرْسَلَهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى. [مَسْأَلَةٌ مَا اسْتَدَانَهُ الْعَبْدُ فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّل فِي اسْتِدَانَةِ الْعَبْدِ يَعْنِي أَخْذَهُ بِالدَّيْنِ] (3148) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا اسْتَدَانَ الْعَبْدُ، فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ يَفْدِيهِ سَيِّدُهُ، أَوْ يُسَلِّمُهُ، فَإِنْ جَاوَزَ مَا اسْتَدَانَ قِيمَتَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَيَلْزَمُ مَوْلَاهُ جَمِيعُ مَا اسْتَدَانَ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: (3149) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، فِي اسْتِدَانَةِ الْعَبْدِ، يَعْنِي أَخْذَهُ بِالدَّيْنِ، يُقَالُ: أَدَانَ وَاسْتَدَانَ وَتَدَيَّنَ. قَالَ الشَّاعِرُ: يُؤَنِّبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا ... تَدَيَّنْتُ فِيمَا سَوْفَ يُكْسِبُهُمْ حَمْدَا وَالْعَبِيدُ قِسْمَانِ، مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ رِضَا سَيِّدِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقْتَرِضَ، أَوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ، يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يَتْبَعُهُ الْغَرِيمُ بِهِ إذَا أَعْتَقَ وَأَيْسَرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. فَتَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ، كَعِوَضِ الْخُلْعِ مِنْ الْأَمَةِ، وَكَالْحُرِّ. الْقِسْمُ الثَّانِي، الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، أَوْ فِي الِاسْتِدَانَةِ، فَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّيْنِ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ، أَوْ بِرَقَبَتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ، قُضِيَتْ دُيُونُهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ، يُتْبَعُ بِهِ إذَا عَتَقَ وَأَيْسَرَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ بِرِضَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْمَأْذُونِ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاعُ إذَا طَالَبَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَهُ. وَهَذَا مَعْنَاهُ، أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ بِرِضَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَيُبَاعُ فِيهِ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَقَدْ أَغْرَى النَّاسَ بِمُعَامَلَتِهِ، وَأَذِنَ فِيهَا، فَصَارَ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ: دَايِنُوهُ، أَوْ أَذِنَ فِي اسْتِدَانَةٍ، تَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّيْنِ الَّذِي لَزِمَهُ فِي التِّجَارَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا، أَوْ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، مِثْلُ إنْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي الْبُرِّ، فَاتَّجَرَ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّغْرِيرِ، إذْ يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا. [الْفَصْل الثَّانِي فِيمَا لَزِمَ الْعَبْد مِنْ الدَّيْنِ مِنْ أُرُوشِ جِنَايَاته أَوْ قِيَمِ مُتْلَفَاته] (3150) الْفَصْلُ الثَّانِي، فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ مِنْ أُرُوشِ جِنَايَاتِهِ، أَوْ قِيَمِ مُتْلَفَاتِهِ، فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، مَأْذُونًا، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 بِرَقَبَتِهِ فَإِنَّ السَّيِّدَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ لِلْبَيْعِ وَبَيْنَ فِدَائِهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ فَبِيعَ، وَكَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْجَانِي، فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ، فَالْفَضْلُ لِسَيِّدِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَرْجِعُ بِالْفَضْلِ. وَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. فَإِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ حُرٌّ، وَالْجَانِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ جِنَايَتِهِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ الْفَضْلُ مِنْ ثَمَنِهِ لِسَيِّدِهِ، كَالرَّهْنِ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ دَفَعَهُ عِوَضًا. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا. لَمَلَكَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَعْ فِي الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ لِيُبَاعَ، فَيُؤْخَذَ مِنْهُ عِوَضُ الْجِنَايَةِ، وَيُرَدَّ إلَيْهِ الْبَاقِي، وَلِذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ دِرْهَمًا، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ سَيِّدِهِ مِنْهُ بِذَلِكَ؛ لِعَجْزِهِ عَنْ أَدَاءِ الدِّرْهَمِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِهِ. وَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ فِدَاءَهُ لَزِمَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ إنْ كَانَ أَكْثَرَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْعَبْدِ الْجَانِي؛ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، فَلَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ إلَّا هُوَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ، فَيَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِذَا مَنَعَ بَيْعَهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ الْأَرْشِ؛ لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. [الْفَصْلُ الثَّالِث فِي تَصَرُّفَاتِ الْعَبْد غَيْرُ الْمَأْذُونِ لَهُ] (3151) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي تَصَرُّفَاتِهِ؛ أَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلَا شِرَاؤُهُ بِعَيْنِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَحْجُورِ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْمُفْلِسَ. وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهُوَ كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ وَيَقِفَ عَلَى إجَازَةِ السَّيِّدِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا شِرَاؤُهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَاقْتِرَاضُهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ السَّفِيهَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِحَقِّ غَيْرِهِ، أَشْبَهَ الْمُفْلِسَ وَالْمَرِيضَ. وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَنَّ التَّصَرُّفَ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَلِلْبَائِعِ وَالْمُقْرِضِ أَخْذُ مَالِهِ، إنْ كَانَ بَاقِيًا، سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ أَوْ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَلَهُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ، إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ تَلِفَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ شَاءَ كَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْعَبْدِ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، أَوْ ذِمَّتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: التَّصَرُّفُ صَحِيحٌ. وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْعَبْدِ، فَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَلِلْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِيمَا أَقْرَضَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ إعْسَارُ الْمُشْتَرِي وَالْمُقْتَرِضِ، فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ. وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ، مَلَكَهُ بِذَلِكَ، وَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ عَبْدِهِ مَالًا فِي يَدِهِ، بِحَقٍّ، فَهُوَ كَالصَّيْدِ. فَإِذَا مَلَكَهُ السَّيِّدُ، كَانَ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْعَبْدِ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ وَالْمُقْرِضُ انْتِزَاعَهُ مِنْ السَّيِّدِ، بِحَالٍ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ، اسْتَقَرَّ ثَمَنُهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ فِي يَدِ الْعَبْدِ أَوْ السَّيِّدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا زَادَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ، انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، وَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا زَالَ بَعْضُهُ، زَالَ كُلُّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَاخْتَصَّ تَصَرُّفُهُ بِمَحَلِّ الْإِذْنِ، كَالْوَكِيلِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحَجْرَ لَا يَتَجَزَّأُ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي بَيْعِ عَيْنٍ، وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ أُخْرَى، صَحَّ. وَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ، كَالْوَكِيلِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي ضَمَانٍ، أَوْ كَفَالَةٍ، فَفَعَلَ، صَحَّ. وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ، أَوْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ، فَلَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَأْذُونًا لَهُ. [الْفَصْلُ الرَّابِع فِي تَصَرُّفَاتِ الْعَبْد إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ] (3152) الْفَصْلُ الرَّابِعُ، فِي تَصَرُّفَاتِهِ، إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، قُبِلَ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا زَادَ. وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالْمَالِ. فَإِنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ سَيِّدَهُ بَاعَهُ، وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِجِنَايَتِهِ، اسْتَوَى فِي ذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ وَغَيْرُهُ. وَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً؛ أَحَدُهَا، جِنَايَةٌ مُوجِبُهَا الْمَالُ، كَإِتْلَافِهِ، أَوْ جِنَايَةُ خَطَأٍ، أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، أَوْ جِنَايَةُ عَمْدٍ فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، كَالْجَائِفَةِ، وَنَحْوِهَا، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ. الْقِسْمُ الثَّانِي، جِنَايَةٌ مُوجِبُهَا حَدٌّ سِوَى السَّرِقَةِ، أَوْ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ لَهُ زُفَرُ، وَدَاوُد، وَالْمُزَنِيُّ، وَجَرِيرٌ: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ السَّيِّدِ، فَلَا يُقْبَلُ، كَالْإِقْرَارِ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ بِإِقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ، وَجَلَدَ عَبْدًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا نِصْفَ الْحَدِّ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ السَّيِّدِ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ، يُقْبَلُ فِيهِ إقْرَارُ الْعَبْدِ، كَالطَّلَاقِ. وَلِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ بِهِ أَخَصُّ، وَهُوَ بِأَلَمِهِ أَمَسُّ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِهِ الزَّوْجَةُ. وَخُرِّجَ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ جِنَايَةُ الْخَطَإِ؛ فَإِنَّ إقْرَارَ السَّيِّدِ بِهَا مَقْبُولٌ، وَلَا يَتَضَرَّرُ الْعَبْدُ بِهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، إقْرَارُهُ بِالسَّرِقَةِ، يُقْبَلُ فِي الْحَدِّ، فَيُقْطَعُ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَيْنُ تَالِفَةً، أَوْ بَاقِيَةً فِي يَدِ السَّيِّدِ، أَوْ فِي يَدِ الْعَبْدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ فِي يَدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَحْكُومٌ بِهَا لِسَيِّدِهِ، فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ لِسَيِّدِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَسْرُوقِ شَرْطٌ فِي الْقَطْعِ، وَهَذِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرُ السَّيِّدِ الْمُطَالَبَةَ بِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَلَنَا، خَبَرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ تَبْلُغُ نِصَابًا، فَوَجَبَ قَطْعُهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ حُرٌّ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُرَدَّ الْعَيْنُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِحَقِّ السَّيِّدِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَقَدْ يَثْبُتُ لِلْمُقِرِّ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ عَتَقَ وَعَادَتْ الْعَيْنُ إلَى يَدِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمُقِرِّ لَهُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، الْإِقْرَارُ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ. فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ. وَعُمُومُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، إنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، أَوْ قِصَاصًا، أَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. يَقْتَضِي قَبُولَ إقْرَارِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ قِصَاصًا، فَقُبِلَ، كَإِقْرَارِهِ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِهِ، كَالْآخَرِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ بِهِ. فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِهِ، كَالْحَدِّ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا، بِأَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَهُمَا، لِيَعْفُوَ عَلَى مَالٍ، فَيَسْتَحِقَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَحْمِلْ الْعَاقِلَةُ اعْتِرَافًا، فَتَرَكْنَا مُوجِبَ الْقِيَاسِ؛ لِخَبَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ. وَيُفَارِقُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلَوْ بِفَوَاتِ نَفْسِهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِقَبُولِ إقْرَارِهِ بِالْقِصَاصِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْعَفْوُ، وَالِاسْتِيفَاءُ، وَالْعَفْوُ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ عَفَا، تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْعَفْوَ عَلَى مَالٍ؛ لِئَلَّا يَتَّخِذَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى الْإِقْرَارِ بِمَالِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْكَلْبِ] (3153) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبَيْعُ الْكَلْبِ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّمًا) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ بَاطِلٌ، أَيَّ كَلْبٍ كَانَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ، وَحَمَّادٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُد. وَكَرِهَ أَبُو هُرَيْرَةَ ثَمَنَ الْكَلْبِ. وَرَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ خَاصَّةً جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ الْكِلَابِ كُلِّهَا، وَأَخْذَ ثَمَنِهَا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَلْبُ الْمَأْذُونُ فِي إمْسَاكِهِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيُكْرَهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ» . وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَصِحُّ نَقْلُ الْيَدِ فِيهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَالْحِمَارِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 : «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، فَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُهُ فَامْلَئُوا كَفَّهُ تُرَابًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نُهِيَ عَنْ اقْتِنَائِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، أَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ، أَوْ حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ، أَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا مِنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ، وَلَا كَلْبَ صَيْدٍ، وَقَدْ جَاءَتْ اللُّغَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إلَّا الْفَرْقَدَانِ أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ. ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مِنْ أَبَاحَ بَيْعَ غَيْرِ كَلْبِ الصَّيْدِ. [فَصْلٌ إجَارَة الْكَلْب] (3154) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، فَجَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا، كَنَفْعِ الْحَمِيرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ؛ لِخُبْثِهِ، فَحَرُمَتْ إجَارَتُهُ، كَالْخِنْزِيرِ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِضِرَابِ الْفَحْلِ، فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إجَارَتُهَا، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ لَمْ تُبِحْ بَيْعَهُ، فَكَذَلِكَ إجَارَتُهُ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ مُدَّةً، لَمْ يَلْزَمْهُ لِذَلِكَ عِوَضٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الْإِجَارَةِ، كَنَفْعِ الْخِنْزِيرِ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ] (3155) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهَا نَقْلٌ لِلْيَدِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَتَصِحُّ هِبَتُهُ؛ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ، أَشْبَهَتْ الْبَيْعَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ عِوَضُهُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ] (3156) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مُعَلَّمٌ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ) أَمَّا قَتْلُ الْمُعَلَّمِ فَحَرَامٌ، وَفَاعِلُهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلْبٍ مُبَاحٍ إمْسَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، فَحُرِّمَ إتْلَافُهُ، كَالشَّاةِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَلَا غُرْمَ عَلَى قَاتِلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَعَطَاءٌ: عَلَيْهِ الْغُرْمُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِ إتْلَافِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 وَلَنَا، أَنَّهُ مَحَلٌّ يَحْرُمُ أَخْذُ عِوَضِهِ لِخُبْثِهِ، فَلَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ بِإِتْلَافِهِ، كَالْخِنْزِيرِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إتْلَافُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الضَّرَرِ وَالْإِضْرَارِ. [فَصْلٌ قَتْلُ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ] فَصْلٌ: فَأَمَّا قَتْلُ مَا لَا يُبَاحُ إمْسَاكُهُ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ: سَأَلْت أَبَا ذَرٍّ فَقُلْت: «مَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَحْمَرِ مِنْ الْأَبْيَضِ؟ فَقَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَأَلْتنِي، فَقَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْت بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» . وَيُبَاحُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ؛ الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّمًا؛ لِلْخَبَرَيْنِ. وَعَلَى قِيَاسِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، كُلُّ مَا آذَى النَّاسَ، وَضَرَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَأَمْوَالِهِمْ، يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِلَا نَفْعٍ، أَشْبَهَ الذِّئْبَ، وَمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدُمُ مِنْ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَتَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ اقْتِنَاء الْكَلْب] (3158) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ، إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ حَرْثٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» . قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ اقْتَنَاهُ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِلْخَبَرِ. وَيَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الثَّلَاثَةِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهَا، يُبِيحُ مَا يَتَنَاوَلُ الْخَبَرُ تَحْرِيمَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَدْ يَحْتَالُ اللِّصُّ لِإِخْرَاجِهِ بِشَيْءِ يُطْعِمُهُ إيَّاهُ، ثُمَّ يَسْرِقُ الْمَتَاعَ. وَأَمَّا الذِّئْبُ، فَلَا يَحْتَمِلُ هَذَا فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّ اقْتِنَاءَهُ فِي الْبُيُوتِ يُؤْذِي الْمَارَّةَ، بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ. [فَصْلٌ تَرْبِيَةُ الْجَرْوِ الصَّغِيرِ] (3159) فَصْلٌ: فَأَمَّا تَرْبِيَةُ الْجَرْوِ الصَّغِيرِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَيَجُوزُ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 لِأَنَّهُ قَصَدَهُ لِذَلِكَ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ. كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ، وَالْجَحْشِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ فِي الْحَالِ؛ لِمَالِهِ إلَى الِانْتِفَاعِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذْ الصَّغِيرَ، مَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ، إذَا لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إلَّا بِالتَّعْلِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ إلَّا بِتَرْبِيَتِهِ، وَاقْتِنَائِهِ مُدَّةً يُعَلِّمُهُ فِيهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] . وَلَا يُوجَدُ كَلْبٌ مُعَلَّمٌ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ. [فَصْلٌ اقْتَنَى كَلْبًا لِلصَّيْدِ ثُمَّ تَرَكَ الصَّيْد مُدَّة وَهُوَ يُرِيد الْعُود إلَيْهِ] (3160) فَصْلٌ: وَمَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لِلصَّيْدِ، ثُمَّ تَرَكَ الصَّيْدَ مُدَّةً، وَهُوَ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَيْهِ، لَمْ يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ فِي مُدَّةِ تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَصَدَ صَاحِبُ الزَّرْعِ زَرْعَهُ، أُبِيحَ لَهُ إمْسَاكُ الْكَلْبِ، إلَى أَنْ يَزْرَعَ زَرْعًا آخَرَ. وَلَوْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ، فَأَرَادَ شِرَاءَ غَيْرِهَا، فَلَهُ إمْسَاكُ كَلْبِهَا؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الَّتِي يَشْتَرِيهَا. فَأَمَّا إنْ اقْتَنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مَنْ لَا يَصِيدُ بِهِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا. وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّهُ اقْتَنَاهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ الْكِلَابِ. وَمَعْنَى كَلْبِ الصَّيْدِ، أَيُّ كَلْبٍ يَصِيدُ بِهِ. وَهَكَذَا الِاحْتِمَالُ؛ لِأَنَّ فِي مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا؛ لِيَحْفَظَ لَهُ حَرْثًا، أَوْ مَاشِيَةً، إنْ حَصَلَتْ، أَوْ يَصِيدَ بِهِ إنْ احْتَاجَ إلَى الصَّيْدِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْحَالِ حَرْثٌ، وَلَا مَاشِيَةٌ، يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِقَصْدِهِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ حَصَدَ الزَّرْعَ، وَأَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ غَيْرَهُ. [فَصْلٌ حُكْم بَيْعُ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ] (3161) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ، وَلَا الْمَيْتَةِ، وَلَا الدَّمِ. . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ، وَعَلَى أَنَّ بَيْعَ الْخِنْزِيرِ، وَشِرَاءَهُ، حَرَامٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، كَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُصَادُ بِهِ مِنْ الطَّيْرِ، كَالرَّخَمِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَبَيْضِهَا، فَكُلُّ هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ، فَأَخْذُ ثَمَنِهِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. [فَصْلٌ بَيْعُ السَّرْجَيْنِ النَّجِسِ] (3162) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْجِينِ النَّجِسِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ يَتَبَايَعُونَهُ لِزُرُوعِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلَنَا، أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ؛ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْمَيْتَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَنَّهُ رَجِيعٌ نَجِسٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَرَجِيعِ الْآدَمِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 [فَصْلٌ حُكْم بَيْعُ الْحُرِّ وَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ] (3163) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحُرِّ، وَلَا مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ، كَالْمُبَاحَاتِ قَبْلَ حِيَازَتِهَا وَمِلْكِهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [مَسْأَلَةٌ بَيْع الْفَهْد وَالصَّقْر الْمُعَلِّم وَالْهِرّ وَكَّلَ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَة] (3164) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبَيْعُ الْفَهْدِ، وَالصَّقْرِ الْمُعَلَّمِ، جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْهِرِّ، وَكُلِّ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَة) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ، مِنْ الْكَلْبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْوَقْفِ. وَفِي الْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَالزَّيْتِ النَّجِسِ اخْتِلَافٌ، نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ لِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، وَالْمَنْفَعَةُ الْمُبَاحَةُ يُبَاحُ لَهُ اسْتِيفَاؤُهَا، فَجَازَ لَهُ أَخْذُ عِوَضِهَا، وَأُبِيحَ لِغَيْرِهِ بَذْلُ مَالِهِ فِيهَا، تَوَصُّلًا إلَيْهَا، وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِ بِهَا، كَسَائِرِ مَا أُبِيحَ بَيْعُهُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا كَانَ طَاهِرًا، كَالثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْخَيْلِ، وَالصَّيُودِ، أَوْ مُخْتَلَفًا فِي نَجَاسَتِهِ، كَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ، الَّتِي تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، الَّتِي كَالْفَهْدِ، وَالصَّقْرِ، وَالْبَازِي، وَالشَّاهَيْنِ، وَالْعُقَابِ، وَالطَّيْرِ الْمَقْصُودِ صَوْتُهُ، كَالْهَزَّازِ، وَالْبُلْبُلِ، وَالْبَبْغَاءِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَكُلُّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفَهْدِ، وَالصَّقْرِ، وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَالْكَلْبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ اقْتِنَاؤُهُ، وَفِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ، مِنْ غَيْرِ وَعِيدٍ فِي حَبْسِهِ، فَأُبِيحَ بَيْعُهُ كَالْبَغْلِ، وَمَا ذَكَرَاهُ يَبْطُلُ بِالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ بَيْعِهِمَا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالنَّجَاسَةِ وَإِبَاحَةِ الِاقْتِنَاءِ، وَالِانْتِفَاعِ. وَأَمَّا الْكَلْبُ فَإِنَّ الشَّرْعَ تَوَعَّدَ عَلَى اقْتِنَائِهِ وَحَرَّمَهُ، إلَّا فِي حَالِ الْحَاجَةِ، فَصَارَتْ إبَاحَتُهُ ثَابِتَةً، بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى خَرَجَ مِنْهُ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ؛ لِمَعَانٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ فِي هَذَا، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا الْهِرُّ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ ثَمَنَهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ، فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ» . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنْ السِّبَاعِ، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ الْمَمْلُوكِ مِنْهَا، أَوْ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ مِنْهَا؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ شُرِعَ طَرِيقًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَصِلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ. (3165) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْفَهْدُ وَالصَّقْرُ وَنَحْوُهُمَا، مِمَّا لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَلَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى الِانْتِفَاعِ، فَأَشْبَهَ الْجَحْشَ الصَّغِيرَ. (3166) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يُصَادُ عَلَيْهِ، كَالْبُومَةِ الَّتِي يَجْعَلُهَا شِبَاكًا، لِتَجْمَعَ الطَّيْرَ إلَيْهَا، فَيَصِيدُهُ الصَّيَّادُ، فَيُحْتَمَلُ جَوَازُ بَيْعِهَا، لِلنَّفْعِ الْحَاصِلِ مِنْهَا، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ. وَكَذَلِكَ اللَّقْلَقُ وَنَحْوُهُ. [فَصْلٌ بَيْع بَيْض مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ] (3167) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْضُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا نَفْعَ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، طَاهِرًا كَانَ أَوْ نَجِسًا. وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ، بِأَنْ يَصِيرَ فَرْخًا، وَكَانَ طَاهِرًا، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ؛ أَشْبَهَ أَصْلَهُ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا، كَبِيضِ الْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَنَحْوِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ فَرْخِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ، لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَالِ. وَهَذَا مُلْغَى بِفَرْخِهِ، وَبِالْجَحْشِ الصَّغِيرِ. [فَصْلٌ بَيْعَ الْقِرْدِ] (3168) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ بَيْعَ الْقِرْدِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِهِ لِلْإِطَافَةِ بِهِ، وَاللَّعِبِ، فَأَمَّا بَيْعُهُ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، كَحِفْظِ الْمَتَاعِ وَالدُّكَّانِ وَنَحْوِهِ، فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِ مُطْلَقًا. [فَصْلٌ بَيْع الْعَلَقِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا] (3169) فَصْلٌ: وَفِي بَيْعِ الْعَلَقِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، مِثْلُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى وَجْهِ صَاحِبِ الْكَلَفِ، فَتَمُصُّ الدَّمَ، وَالدِّيدَانَ الَّتِي تُتْرَكُ فِي الشِّصِّ، فَيُصَادُ بِهَا السَّمَكُ، وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا جَوَازُ بَيْعِهَا؛ لِحُصُولِ نَفْعِهَا، فَهِيَ كَالسَّمَكِ وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، إلَّا نَادِرًا، فَأَشْبَهَتْ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ. [فَصْلٌ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ وَبِزِرِّهِ] (3170) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ، وَبِزْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إنْ كَانَ مَعَ دُودِ الْقَزِّ قَزٌّ، جَازَ بَيْعُهُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ كَالْحَشَرَاتِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بِزْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ الدُّودَ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ؛ لِتَمَلُّكِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الْبَهَائِمَ، وَلِأَنَّ الدُّودَ وَبِزْرُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 طَاهِرٌ، مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالثَّوْبِ. وَقَوْلُهُ: لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ، يَبْطُلُ بِالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا يَحْصُل مِنْهَا نَفْعٌ، سِوَى النِّتَاجِ، وَيُفَارِقُ الْحَشَرَاتِ، الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا أَصْلًا، فَإِنَّ نَفْعَ هَذِهِ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ مَلَابِسِ الدُّنْيَا، إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْهَا. [فَصْلٌ بَيْعُ النَّحْلِ] (3171) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ إذَا شَاهَدَهَا مَحْبُوسَةً، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَمْتَنِعَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُنْفَرِدَةً؛ لِمَا ذَكَرَ فِي دُودِ الْقَزِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ فِيهِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِهَا فِي كِوَارَاتِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَةُ جَمِيعِهَا، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ عَسَلٍ يَكُونُ مَبِيعًا مَعَهَا، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي كِوَارَاتِهَا، وَمُنْفَرِدَةً عَنْهَا، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهَا فِي كِوَارَاتِهَا إذَا فُتِحَ رَأْسُهَا، وَيُعْرَفُ كَثْرَتُهُ مِنْ قِلَّتِهِ، وَخَفَاءُ بَعْضِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ، بَيْعِهِ، كَالصُّبْرَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ فِي وِعَاءٍ، فَإِنَّ بَعْضَهُ يَكُونُ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يُشَاهَدُ إلَّا ظَاهِرُهُ، وَالْعَسَلُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا، فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ، كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مُشَاهَدَةُ النَّحْلِ؛ لِكَوْنِهِ مَسْتُورًا بِأَقْرَاصِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِجَهَالَتِهِ. [فَصْلٌ بَيْع التِّرْيَاق] (3172) فَصْلٌ: ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ التِّرْيَاقَ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ لُحُومُ الْحَيَّاتِ، فَعَلَى هَذَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَخَلَا مِنْ نَفْعٍ مُبَاحٍ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْمَيْتَةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ، وَلَا بِسُمِّ الْأَفَاعِي. فَأَمَّا السُّمُّ مِنْ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ كَانَ يَقْتُلُ قَلِيلُهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِعَدَمِ نَفْعِهِ، وَإِنْ اُنْتُفِعَ بِهِ، وَأَمْكَنَ التَّدَاوِي بِيَسِيرِهِ، كَالسَّقَمُونْيَا، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ بَقِيَّةَ الْمَأْكُولَاتِ. [فَصْلٌ بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ] (3173) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ، قَبْلَ الدَّبْغِ، قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَفِي بَيْعِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ عَنْهُ خِلَافٌ. وَقَدْ رَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» . وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ، نَحْوُ رِيشِ الطَّيْرِ الَّتِي لَهَا مِخْلَبٌ، أَوْ بَعْضِ جُلُودِ السِّبَاعِ الَّتِي لَهَا أَنْيَابٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 فَإِنَّ بَيْعَهَا أَسْهَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِهَا. وَالصَّحِيحُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي بَابِهِ. . [فَصْلٌ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّات] فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُهُ؛ لِقَوْلِهِ: " وَكُلُّ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ ". وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ آدَمِيَّةٍ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْعَرَقِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَلَبَنِ الشَّاهِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي إجَارَةِ الظِّئْرِ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، وَيُفَارِقُ الْعَرَقَ، فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُبَاعُ عَرَقُ الشَّاةِ، وَيُبَاعُ لَبَنُهَا. وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ، وَالْأَمَةِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ بَيْعُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَحَرُمَ بَيْعُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ. [فَصْلٌ فِي بَيْعِ رُبَاع مَكَّة وَإِجَارَة دُورِهَا] (3175) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَيْعِ رُبَاعِ مَكَّةَ وَإِجَارَةِ دُورِهَا، فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَكَرِهَ إِسْحَاقُ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي مَكَّةَ: لَا تُبَاعُ رُبَاعُهَا، وَلَا تُكْرَى بُيُوتُهَا» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «: مَكَّةُ حَرَامٌ بَيْعُ رُبَاعِهَا، حَرَامٌ إجَارَتُهَا.» وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ مُسَدَّدٌ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَلِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلَمْ تُقَسَّمْ، فَكَانَتْ مَوْقُوفَةً، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَسَائِرِ الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَلَمْ يُقَسِّمُوهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لَأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ قَالَتْ: «أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي، فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَخِي قَتْلَهُمَا، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي، فَزَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلُهُمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت، أَوْ أَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت يَا أُمَّ هَانِئٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ «أَمَرَ النَّبِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِقَتْلِ أَرْبَعَةٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ، وَمَقِيسُ بْنُ صَبَابَةَ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ رُبَاعِهَا، وَإِجَارَةُ بُيُوتِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا؟ قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبَاعٍ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. يَعْنِي أَنَّ عَقِيلًا بَاعَ رُبَاعَ أَبِي طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَهُ دُونَ إخْوَتِهِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ عَلَى دِينِهِ دُونَهُمَا، فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ، لَمَا أَثَّرَ بَيْعُ عَقِيلٍ، شَيْئًا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُمْ دُورٌ بِمَكَّةَ لِأَبِي بَكْرٍ وَالزُّبَيْرِ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، وَسَائِرِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ بَاعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ دَارِهِ، فَهِيَ فِي يَدِ أَعْقَابِهِمْ. وَقَدْ بَاعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ دَارَ النَّدْوَةِ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْت مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ. فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، ذَهَبَتْ الْمَكَارِمُ إلَّا التَّقْوَى. أَوْ كَمَا قَالَ. وَاشْتَرَى مُعَاوِيَةُ دَارَيْنِ. وَاشْتَرَى عُمَرُ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَصَرَّفُونَ فِي دُورِهِمْ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَقَدْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنِسْبَةِ دُورِهِمْ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . وَأَقَرَّهُمْ فِي دُورِهِمْ وَرُبَاعَهُمْ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدًا عَنْ دَارِهِ، وَلَا وَجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ أَمْلَاكِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ شِدَّتِهِ فِي الْحَقِّ، لَمَّا احْتَاجَ إلَى دَارِ السِّجْنِ، لَمْ يَأْخُذْهَا إلَّا بِالْبَيْعِ. وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ حَيَّةٌ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ؛ فَجَازَ بَيْعُهَا كَسَائِرِ الْأَرْضِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي خِلَافِ هَذَا، فَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا كَوْنُهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، فَهُوَ الصَّحِيحُ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّ أَهْلَهَا فِيهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَرُبَاعِهِمْ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا لَهُمْ، كَمَا تَرَكَ لِهَوَازِنَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، مَنْ كَانَ سَاكِنَ دَارٍ أَوْ مَنْزِلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، يَسْكُنُهُ وَيُسْكِنُهُ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ، وَلَا أَخْذُ أُجْرَتِهِ، وَمَنْ احْتَاجَ إلَى مَسْكَنٍ، فَلَهُ بَذْلُ الْأُجْرَةِ فِيهِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الشِّرَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إذَا سَكَنَ أَعْطَاهُمْ أُجْرَتَهَا. فَإِنْ سَكَنَ بِأُجْرَةٍ فَأَمْكَنَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِمْ الْأُجْرَةَ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُفْيَانَ سَكَنَ فِي بَعْضِ رُبَاعِ مَكَّةَ، وَهَرَبَ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ أُجْرَةً، فَأَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ. وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ فِعْلُ سُفْيَانَ، فَتَبَسَّمَ، فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ أَعْجَبَهُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ، أَمَّا بِقَاعُ الْمَنَاسِكِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ وَالرَّمْيِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. [فَصْلٌ مَنْ بَنِي بِنَاء بِمَكَّة بِآلَةِ مَجْلُوبَة مِنْ غَيْر أَرْض مَكَّة جَازَ بَيْعهَا] (3176) فَصْلٌ: وَمَنْ بَنَى بِنَاءً بِمَكَّةَ، بِآلَةٍ مَجْلُوبَةٍ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ مَكَّةَ، جَازَ بَيْعُهَا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 أَبْنِيَةِ الْوُقُوفِ وَأَنْقَاضِهَا. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحِجَارَتِهِ، انْبَنَى جَوَازُ بَيْعِهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَيْعِ رُبَاعِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَكَّةَ، وَهَكَذَا تُرَابُ كُلِّ وَقْفٍ وَأَنْقَاضُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَأَمَّا الْبِنَاءُ بِمَكَّةَ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ. قَالَ إِسْحَاقُ: الْبِنَاءُ بِمَكَّةَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْلَاصِ لِنَفْسِهِ، لَا يَحِلُّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قِيلَ لَهُ: أَلَا تَبْنِي لَك بِمِنًى بَيْتًا؟ قَالَ: مِنًى مَنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ» . [فَصْلٌ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ] (3177) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ رُخْصَةً. وَرَخَّصَ فِي شِرَائِهَا. وَقَالَ: الشِّرَاءُ أَهْوَنُ. وَكَرِهَ بَيْعَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْت أَنَّ الْأَيْدِي تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ، مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَهَلْ يُكْرَهُ شِرَاؤُهُ وَإِبْدَالُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَرَخَّصَ فِي بَيْعِهَا الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْجِلْدِ، وَالْوَرَقِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ. وَلَنَا، قَوْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْبَيْعِ وَالِابْتِذَالِ، وَأَمَّا الشِّرَاءُ فَهُوَ أَسْهَلُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ لِلْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِمَالِهِ فِيهِ، فَجَازَ، كَمَا أَجَازَ شِرَاءَ رُبَاعِ مَكَّةَ، وَاسْتِئْجَارَ دُورِهَا، مَنْ لَا يَرَى بَيْعَهَا، وَلَا أَخْذَ أُجْرَتِهَا. وَكَذَلِكَ أَرْضُ السَّوَادِ وَنَحْوُهَا. وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْأُجْرَةِ إلَى الْحَجَّامِ، لَا يُكْرَهُ، مَعَ كَرَاهَةِ كَسْبِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُصْحَفًا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَجَازَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالُوا: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشِّرَاءِ، وَالْمُصْحَفُ مَحَلٌّ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، فَمُنِعَ مِنْ ابْتِدَائِهِ، كَسَائِرِ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ. فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ التَّوَصُّلِ إلَى نَيْلِ أَيْدِيهِمْ إيَّاهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 [فَصْلٌ شِرَاءُ الْكَافِرِ مُسْلِمًا] فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ مُسْلِمًا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ وَيُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُسْلِمَ بِالْإِرْثِ، وَيَبْقَى مِلْكُهُ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَ فِي يَدِهِ، فَصَحَّ شِرَاؤُهُ لَهُ، كَالْمُسْلِمِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِدَامَةَ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَمُنِعَ ابْتِدَاءَهُ، كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُثْبِتُ الْمِلْكَ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالنِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ بِالْإِرْثِ. الِاسْتِدَامَةُ أَقْوَى مِنْ ابْتِدَاءِ الْمِلْكِ بِالْفِعْلِ وَالِاخْتِيَارِ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بِهِمَا لِلْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ، مَعَ مَنْعِهِ مِنْ ابْتِدَائِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَقْوَى ثُبُوتُ مَا دُونَهُ، مَعَ أَنَّنَا نَقْطَعُ الِاسْتِدَامَةَ عَلَيْهِ بِمَنْعِهِ مِنْهَا، وَإِجْبَارِهِ عَلَى إزَالَتِهَا. [فَصْلٌ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا فِي شِرَاءِ مُسْلِمٍ] (3179) فَصْلٌ: وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا فِي شِرَاءِ مُسْلِمٍ، لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلِأَنَّ الْمُوَكَّلَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِشِرَائِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ. وَإِنْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا يَشْتَرِي لَهُ مُسْلِمًا، فَاشْتَرَاهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ هَاهُنَا، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ شِرَائِهِ مُنِعَ التَّوْكِيلُ فِيهِ، كَالْمُحْرِمِ فِي شِرَاءِ الصَّيْدِ، وَالْكَافِرِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِذِمِّيِّ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ. [فَصْلٌ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُسْلِمًا] (3180) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُسْلِمًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، كَأَبِيهِ وَأَخِيهِ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَحَكَى فِيهِ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمَ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَاَلَّذِي لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ شِرَائِهِ، لَمْ يُبَحْ لَهُ شِرَاؤُهُ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَقِيبَ الشِّرَاءِ، كَشِرَاءِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ. وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا ثَبَتَ لِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَةِ الْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْكَافِرِ لَهُ، وَالْمِلْكُ هَاهُنَا يَزُولُ عَقِيبَ الشِّرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَحْصُلُ مِنْ نَفْعِ الْحُرِّيَّةِ أَضْعَافُ مَا حَصَلَ مِنْ الْإِهَانَةِ بِالْمِلْكِ فِي لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ. وَيُفَارِقُ مَنْ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ، لَثَبَتَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَزُلْ. وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ لَمُسْلِمٍ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، وَعَلَيَّ ثَمَنَهُ. فَفَعَلَ، صَحَّ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إبْطَالٌ لِلرِّقِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمِلْكُ فِيهِ حُكْمًا، فَجَازَ، كَمَا يَمْلِكُهُ بِالْإِرْثِ حُكْمًا. وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ النَّفْعِ يَنْغَمِرُ فِيهِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمِلْكِ، فَيَصِيرُ كَالْمَعْدُومِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ؛ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ بِنَاءً عَلَى شِرَاءِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 [فَصْلٌ أَجَّرَ مُسْلِمٌ نَفْسَهُ لِذِمِّيِّ لَعَمَلٍ فِي ذِمَّتِهِ] (3181) فَصْلٌ: وَلَوْ أَجَّرَ مُسْلِمٌ نَفْسَهُ لِذِمِّيِّ، لَعَمَلٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ؛ «لِأَنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَأَتَى بِذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَهُ.» وَفَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَلِأَنَّهُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ فِي مُدَّةٍ، كَيَوْمٍ، أَوْ شَهْرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيلَاءً عَلَيْهِ، وَصَغَارًا، أَشْبَهَ الشِّرَاءَ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ. وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، أَشْبَهَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يُشْبِهُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقْتَضِي سُلْطَانًا، وَاسْتِدَامَةً، وَتَصَرُّفًا بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ فِي رَقَبَتِهِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ الْبَيْعُ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ] (3182) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ إلَّا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ: «لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» . فَخَصَّهَا بِذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا سِوَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْرُمُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلَا يَحْرُمُ بَيْنَ مَنْ عَدَاهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمْ لَا تَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَلَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لَبَعْضٍ، فَلَمْ تَمْنَعْ التَّفْرِيقَ فِي الْبَيْعِ، كَابْنَيْ الْعَمِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَبِيعَ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا، فَفَرَّقْت بَيْنَهُمَا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا، وَلَا تَبِعْهُمَا إلَّا جَمِيعًا» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، وَالْأَخِ وَأَخِيهِ» . وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا مَحْرَمًا، فَلَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَالْوَلَدِ مَعَ أُمِّهِ. وَيُفَارِقُ ابْنَيْ الْعَمِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مَحْرَمٌ. (3183) فَصْلٌ: فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ، لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، وَهُوَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالتَّفْرِيقِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْبَيْعِ، كَالْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ. وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِرَدِّهِمَا، وَلَوْ لَزِمَ الْبَيْعُ لَمَا أَمْكَنَ رَدُّهُمَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ "، «أَنَّ عَلِيًّا فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ الْمَبِيعَ» . وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مُحَرَّمٌ، لِمَعْنًى فِيهِ، فَفَسَدَ، كَبَيْعِ الْخَمْرِ. وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ؛ فَإِنَّ ضَرَرَ التَّفْرِيقِ حَاصِلٌ بِالْبَيْعِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 فَكَانَ لِمَعْنًى فِيهِ. فَأَمَّا تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ؛ فَإِنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ جَازَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ. وَهِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَتَى أَبَا بَكْرٍ بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَهَا لَهُ. وَأُهْدِيَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَارِيَةُ، وَأُخْتُهَا سِيرِينَ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ مَارِيَةَ لَهُ» . وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَالْعَادَةُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ ابْنَتَهَا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَوَلَدِهَا إذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى مِمَّنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ وَحَلَالٌ] (3184) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى مِمَّنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ وَحَلَالٌ، كَالسُّلْطَانِ الظَّالِمِ، وَالْمُرَابِي؛ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ حَلَالِ مَالِهِ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ مِلْكُهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ، كَرِهْنَاهُ لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيمِ فِيهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ؛ لِإِمْكَانِ الْحَلَالِ، قَلَّ الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ. وَهَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ، وَبِقَدْرِ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ، تَكُونُ كَثْرَةُ الشُّبْهَةِ وَقِلَّتُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «فَمَنْ تَرَكَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْمَأْثَمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ.» وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك.» وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَصْلٌ: وَالْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ الْأَوَّلُ، مَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ، كَالذَّبِيحَةِ فِي بَلَدٍ فِيهَا مَجُوسٌ وَعَبَدَةُ أَوْثَانٍ يَذْبَحُونَ، فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَابِحُهَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ أَوْ ظَاهِرٍ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيهَا أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَجُوس، لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهَا لِذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك، فَخَالَطَ أَكْلُبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهَا، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ، فَالظَّاهِرُ إبَاحَتُهَا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُقِرُّونَ فِي بَلَدِهِمْ بَيْعَ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ ظَاهِرًا. وَالثَّانِي، مَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ، كَالْمَاءِ يَجِدُهُ مُتَغَيِّرًا، لَا يَعْلَمُ أَبِنَجَاسَةٍ تَغَيَّرَ أَمْ بِغَيْرِهَا؟ فَهُوَ طَاهِرٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا نَزُولُ عَنْهَا إلَّا بِيَقِينٍ أَوْ ظَاهِرٍ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ، قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ، مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ، كَرَجُلٍ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ، فَهَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ، الَّتِي الْأَوْلَى تَرْكُهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَعَمَلًا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ وَجَدَ تَمْرَةً سَاقِطَةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنَّهَا مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا» . وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ. [فَصْلٌ حُكْم قَبُول جَوَائِز السُّلْطَانِ] (3186) فَصْلٌ: وَكَانَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لَا يَقْبَلُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، وَيُنْكِرُ عَلَى وَلَدِهِ وَعَمِّهِ قَبُولَهَا، وَيُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ كَانَ لَا يَقْبَلُهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ، وَبِشْرُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَالتَّوَقِّي، لَا عَلَى أَنَّهَا حَرَامٌ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ نَصِيبٌ فَكَيْفَ أَقُولُ: إنَّهَا سُحْتٌ؟ وَمِمَّنْ كَانَ يَقْبَلُ جَوَائِزَهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَهُ» . «وَأَجَابَ يَهُودِيًّا دَعَاهُ، وَأَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ.» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِجَوَائِزِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ مَا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَرَامِ. وَقَالَ: لَا تَسْأَلْ السُّلْطَانَ شَيْئًا، وَإِنْ أَعْطَى فَخُذْ، فَإِنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْحَرَامِ. فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي مَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ حَرَامٌ: يَتَصَدَّقُ بِالثَّلَاثَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فِيهَا عَشْرَةٌ حَرَامٌ، يَتَصَدَّقُ بِالْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا كَثِيرٌ، وَذَاكَ قَلِيلٌ. فَقِيلَ لَهُ: قَالَ سُفْيَانُ: مَا كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ يَخْرُجُ. قَالَ: نَعَمْ، لَا يُجْحَفُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَ الْحَلَالُ بَعُدَ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ، وَشَقَّ التَّوَرُّعُ عَنْ الْجَمِيعِ، بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ يَسْهُلُ إخْرَاجُ الْكُلِّ. وَالْوَاجِبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إخْرَاجُ قَدْرِ الْحَرَامِ، وَالْبَاقِي مُبَاحٌ لَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ عَيْنِهِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَ عِوَضَهُ زَالَ التَّحْرِيمُ عَنْهُ، كَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 لَوْ كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا فَرَضِيَ بِعِوَضِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَالْوَرَعُ إخْرَاجُ مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ إخْرَاجُ عَيْنِ الْحَرَامِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْجَمِيعِ، لَكِنْ لَمَّا شَقَّ ذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ، تُرِكَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى الْوَاجِبِ. ثُمَّ يَخْتَلِفُ هَذَا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا الدَّرَاهِمُ الْيَسِيرَةِ، فَيَشُقُّ إخْرَاجُهَا؛ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَيَسْتَغْنِي عَنْهَا، فَيَسْهُلُ إخْرَاجُهَا. [فَصْلٌ بَيْعُ كُلِّ مَاءٍ عَدَّ كَمِيَاهِ الْعُيُون] (3187) فَصْلٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمَذْهَبِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَاءٍ عَدَّ كَمِيَاهِ الْعُيُونِ، وَنَقْعِ الْبِئْرِ فِي أَمَاكِنِهِ قَبْلَ إحْرَازِهِ فِي إنَائِهِ، وَلَا الْكَلَأِ فِي مَوَاضِعِهِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ. فَعَلَى هَذَا؛ مَتَى بَاعَ الْأَرْضَ وَفِيهَا كَلَأٌ أَوْ مَاءٌ، فَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةً أُخْرَى؛ أَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ بَاعَ الْأَرْضَ، فَذَكَرَ الْمَاءَ وَالْكَلَأَ فِي الْبَيْعِ، دَخَلَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، كَانَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ وَالْكَلَأُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ. وَالْمَاءُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَالطَّعَامِ فِي الدَّارِ، فَمَا يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إذَا بَاعَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ آصُعًا مَعْلُومَةً، جَازَ؛ لِأَنَّهُ كَالصُّبْرَةِ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ مَاءِ الْبِئْرِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ بَاعَ مِنْ النَّهْرِ الْجَارِي آصُعًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَذْهَبُ، وَيَأْتِي غَيْرُهُ. (3188) فَصْلٌ: وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ؛ مَتَى كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ فِي مِلْكِهِ، أَوْ الْكَلَأُ أَوْ الْمَعَادِنُ، وَفْقَ كِفَايَتِهِ، لِشُرْبِهِ، وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا تَسَاوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَاجَةِ، كَانَ أَحَقَّ بِهِ، كَالطَّعَامِ، وَإِنَّمَا تَوَعَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَلَا فَضْلَ فِي هَذَا. وَلِأَنَّ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ ضَرَرًا، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفْعُ غَيْرِهِ بِمَضَرَّةِ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ شُرْبِهِ، وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ، وَاحْتَاجَتْ إلَيْهِ مَاشِيَةُ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ بَذْلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْمَاءِ وَيَشْرَبَ، وَيَسْقِيَ مَاشِيَتَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى إيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ، لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلَأِ، مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا وَنَهَى أَنْ يُمْنَعَ الْمَاءُ مَخَافَةَ أَنْ يُرْعَى الْكَلَأُ» . يَعْنِي إذَا كَانَ فِي مَكَان كَلَأٌ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْإِقَامَةُ لِرَعْيِهِ إلَّا بِالسَّقْيِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَيَمْنَعُهُمْ السَّقْيَ، لِيَتَوَفَّرَ الْكَلَأُ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: ابْنُ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ مِنْ الْبَانِي عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ابْنُ السَّبِيلِ أَوَّلُ شَارِبٍ. وَعَنْ بُهَيْسَةَ، قَالَتْ: «قَالَ أَبِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ» . وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَذْلُ آلَةِ الْبِئْرِ مِنْ الْحَبْلِ، وَالدَّلْوِ، وَالْبَكَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُقُ وَلَا يَسْتَخْلِفُ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ الْمَاءِ. وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْبُنْيَانِ وَالصَّحَارِي. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا هَذَا فِي الصَّحَارِي وَالْبَرِّيَّةِ، دُونَ الْبُنْيَانِ. يَعْنِي أَنَّ الْبُنْيَانَ إذَا كَانَ فِيهِ الْمَاءُ فَلَيْسَ لَأَحَدٍ الدُّخُولُ إلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ. [فَصْلٌ بَذْلُ فَضْلِ مَائِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ] (3189) فَصْلٌ: وَهَلْ يَلْزَمُهُ بَذْلُ فَضْلِ مَائِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ سَقْيُهُ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ. وَالثَّانِيَةُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، «أَنَّ قَيِّمَ أَرْضِهِ بِالْوَهْطِ كَتَبَ إلَيْهِ، يُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ سَقَى أَرْضَهُ، وَفَضَلَ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فَضْلٌ يُطْلَبُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَكَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو؛ أَقِمْ قِلْدَكَ، ثُمَّ اسْقِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْقِلْدُ يَوْمُ الشُّرْبِ. وَفِي " الْمُسْنَدِ "، حَدَّثَنَا حَسَنٌ، قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ» . وَرَوَى إيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُمْنَعَ فَضْلُ الْمَاءِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي لَفْظٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ.» وَلِأَنَّ فِي مَنْعِهِ فَضْلَ الْمَاءِ إهْلَاكَهُ، فَحَرُمَ مَنْعُهُ كَالْمَاشِيَةِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا حُرْمَةَ لَهُ. قُلْنَا: فَلِصَاحِبِهِ حُرْمَةٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّسَبُّبُ إلَى إهْلَاكِ مَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ نَفْيُ الْحُرْمَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَإِتْلَافَهُ مُحَرَّمٌ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَتِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ فَقَضَاهَا عَنْهُ غَيْرُهُ] (3190) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةٍ فَقَضَاهَا عَنْهُ غَيْرُهُ، صَحَّ، سَوَاءٌ قَضَاهُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ. فَإِنْ بَانَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا، لَزِمَ رَدُّ الْمِائَةِ إلَى دَافِعِهَا؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْضٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَكَأَنَّ الْمِائَةَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِ دَافِعِهَا. وَإِنْ بَانَ الْعَبْدُ مَعِيبًا، فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، أَوْ بِإِقَالَةِ، أَوْ أَصْدَقَ امْرَأَةَ إنْسَانٍ شَيْئًا، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، أَوْ ارْتَدَّتْ، فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْمِائَةِ إلَى دَافِعِهَا أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ مِنْهُ، فَالرَّدُّ عَلَيْهِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَالثَّانِي، عَلَى الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ لَهُمَا، بِدَلِيلِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا مِنْهُ، وَالْهِبَةُ الْمَقْبُوضَةُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، إذَا كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ عَلَى الزَّوْجِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وَالْمُشْتَرِي، إذَا كَانَ عَقْدُهُمَا صَحِيحًا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ إذْنَهُمَا فِي تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، جَرَى مَجْرَى قَبُولِهِ وَقَبْضِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ وَإِنْ أَذِنَا فِي دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمَا قَرْضًا، فَإِنَّ الرَّدَّ يَكُونُ عَلَيْهِمَا، وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِعِوَضِهِ. [فَصْلٌ قَالَ الْعَبْدُ لَرَجُلٍ ابْتَعْنِي مِنْ سَيِّدِي فَفَعَلَ فَبَانَ الْعَبْدُ مُعْتَقًا] (3191) فَصْلٌ إذَا قَالَ الْعَبْدُ لَرَجُلٍ: ابْتَعْنِي مِنْ سَيِّدِي. فَفَعَلَ، فَبَانَ الْعَبْدُ مُعْتَقًا، فَالضَّمَانُ عَلَى السَّيِّدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ السَّيِّدُ حَاضِرًا حِينَ غَرَّهُ الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْغَرُورَ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّ السَّيِّدَ قَبَضَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَضَمِنَ الْعُهْدَةَ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا. وَإِنْ بَانَ الْعَبْدُ مَغْصُوبًا، أَوْ بِهِ عَيْبٌ، فَرَدَّهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا فَغَابَ أَحَدُهُمَا وَجَاءَ الْآخَرُ يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْهُ] (3192) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا، فَغَابَ أَحَدُهُمَا، وَجَاءَ الْآخَرُ يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْهُ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ، وَلَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَبَ حِصَّتَهُ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِنْ قَالَ الْحَاضِرُ: أَنَا أَدْفَعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَيَدْفَعُ إلَى جَمِيعَ الْعَبْدِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ شَرِيكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْحَاضِرِ فِي قَبْضِ نَصِيبِهِ، وَلَا لِلْبَائِعِ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ. فَإِنْ سُلِّمَ إلَيْهِ، فَتَلِفَ الْعَبْدُ، فَلِلْغَائِبِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ فَرَّطَ بِدَفْعِ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالشَّرِيكَ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ ضَمِنَ الشَّرِيكُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ لِذَلِكَ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُ نَصِيبِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ] (3193) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ. وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَبْعَدُ مِنْ التَّجَاحُدِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا لَهُ خَطَرٌ، فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ، كَحَوَائِجِ الْبَقَّالِ، وَالْعَطَّارِ، وَشَبَهِهِمَا، فَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ فِيهَا تَكْثُرُ، فَيَشُقُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا، وَتَقْبُحُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّرَافُعُ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَجْلِهَا، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. وَلَيْسَ الْإِشْهَادُ بِوَاجِبٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا شَرْطًا لَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فَرْضٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِمَّنْ رَأَى الْإِشْهَادَ عَلَى الْبَيْعِ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ؛ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْأَمَانَةِ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» «وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيلَ» ، «وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا، فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانُوا يُشْهَدُونَ فِي كُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ لَمَا أُخِلَّ بِنَقْلِهِ. «وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِشْهَادِ، وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الْإِشْهَادِ.» وَلِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَايَعُونَهُ، أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَالْآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْإِرْشَادُ إلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكَاتِبِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. [فَصْلٌ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ] (3194) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا. وَرَأَى عِمْرَانُ الْقَصِيرُ رَجُلًا يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: هَذِهِ سُوقُ الْآخِرَةِ، فَإِنْ أَرَدْت التِّجَارَةَ فَاخْرُجْ إلَى سُوقِ الدُّنْيَا. فَإِنْ بَاعَ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ وُجُودُ مُفْسِدٍ لَهُ، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ لَا تُوجِبُ الْفَسَادَ، كَالْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ. وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ". مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ بِفَسَادِ الْبَيْعِ، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 [بَابُ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] بَابُ السَّلَمِ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ عِوَضًا حَاضِرًا، فِي عِوَضٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ، وَيُسَمَّى سَلَمًا، وَسَلَفًا. يُقَالُ: أَسْلَمَ، وَأَسْلَفَ، وَسَلَّفَ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، يَنْعَقِدُ بِمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ، وَبِلَفْظِ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِلسَّلَمِ. وَيَشْمَلُهُ بِعُمُومِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: مَنْ أَسَلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي أَبُو بُرْدَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ السَّلَفِ، فَقَالَا: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسَلِّفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ. فَقُلْت: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ، وَلِأَنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ أَحَدُ عِوَضَيْ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ، كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا؛ لِتَكْمُلَ، وَقَدْ تُعْوِزُهُمْ النَّفَقَةُ، فَجَوَّزَ لَهُمْ السَّلَمَ؛ لِيَرْتَفِقُوا، وَيَرْتَفِقُ الْمُسْلِمُ بِالِاسْتِرْخَاصِ. [مَسْأَلَةٌ كُلُّ مَا ضُبِطَ بِصِفَةِ فَالسَّلَم فِيهِ جَائِزٌ] (3195) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَكُلُّ مَا ضُبِطَ بِصِفَةٍ، فَالسَّلَمُ فِيهِ جَائِزٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ السَّلَمَ، لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلَافِهَا ظَاهِرًا، فَيَصِحُّ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَالدَّقِيقِ، وَالثِّيَابِ، وَالْإِبْرَيْسَمِ، وَالْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَالصُّوفِ، وَالشَّعْرِ، وَالْكَاغَدِ، وَالْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْأَدْوِيَةِ، وَالطِّيبِ، وَالْخُلُولِ، وَالْأَدْهَانِ، وَالشُّحُومِ، وَالْأَلْبَانِ، وَالزِّئْبَقِ، وَالشَّبِّ، وَالْكِبْرِيتِ، وَالْكُحْلِ، وَكُلِّ مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، أَوْ مَزْرُوعٍ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 الثِّمَارِ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالزَّيْتِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي الطَّعَامِ جَائِزٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الثِّيَابِ. وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا لَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوْهَرِ مِنْ اللُّؤْلُؤ، وَالْيَاقُوتِ، وَالْفَيْرُوزَجِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالْعَقِيقِ، وَالْبَلُّورِ؛ لِأَنَّ أَثْمَانَهَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِالصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ، وَحُسْنِ التَّدْوِيرِ، وَزِيَادَةِ ضَوْئِهَا، وَصَفَائِهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِبَيْضِ الْعُصْفُورِ، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ؛ وَلَا بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتْلَفُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهَا، إذَا اشْتَرَطَ مِنْهَا شَيْئًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ وَزْنًا، فَبِوَزْنٍ مَعْرُوفٍ. وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يَصِحُّ فِيمَا يَجْمَعُ أَخْلَاطًا مَقْصُودَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ، كَالْغَالِيَةِ، وَالنِّدِّ، وَالْمَعَاجِينِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا؛ لِلْجَهْلِ بِهَا، وَلَا فِي الْحَوَامِلِ مِنْ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، وَلَا فِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الرُّءُوسِ وَالْأَوْسَاطِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ إذَا ضُبِطَ بِارْتِفَاعِ حَائِطِهِ، وَدُورِ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْقِسِيِّ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْخَشَبِ، وَالْقَرْنِ، وَالْعَضَبِ، والتوز، إذْ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ مَقَادِيرِ ذَلِكَ، وَتَمْيِيزُ مَا فِيهِ مِنْهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يَجْمَعُ أَخْلَاطًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مُخْتَلِطٌ مَقْصُودٌ مُتَمَيِّزٌ، كَالثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ، أَوْ قُطْنٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا، لِأَنَّ ضَبْطَهَا مُمْكِنٌ الثَّانِي، مَا خَلْطُهُ لِمَصْلَحَتِهِ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، كَالْإِنْفَحَةِ فِي الْجُبْنِ، وَالْمِلْحِ فِي الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ، وَالْمَاءِ فِي خَلِّ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لِمَصْلَحَتِهِ. الثَّالِثُ، أَخْلَاطٌ مَقْصُودَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، كَالْغَالِيَةِ وَالنِّدِّ وَالْمَعَاجِينِ، فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَأْتِي عَلَيْهَا. الرَّابِعُ، مَا خَلْطُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ كَاللَّبَنِ الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ، فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. [فَصْلٌ السَّلَم فِي الْخُبْزِ وَاللِّبَأ وَمَا أَمْكَنَ ضَبْطُهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ] (3196) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ، وَاللِّبَأِ، وَمَا أَمْكَنَ ضَبْطُهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي كُلِّ مَعْمُولٍ بِالنَّارِ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَخْتَلِفُ، وَيَخْتَلِفُ، عَمَلُهَا، وَيَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 وَلَنَا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ.» فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ السَّلَمِ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ، وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّارِ فِيهِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، مُمْكِنٌ ضَبْطُهُ بِالنَّشَّافَةِ، وَالرُّطُوبَةِ، فَصَحَّ السَّلَمُ فِيهِ، كَالْمُجَفَّفِ بِالشَّمْسِ. فَأَمَّا اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ، وَالشِّوَاءُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ كَثِيرًا، وَعَادَاتُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخُبْزِ وَاللِّبَأِ. [فَصْلٌ السَّلَم فِي النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ] (3197) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَخْلَاطًا مِنْ خَشَبٍ، وَعَقِبٍ وَرِيشٍ، وَنَصْلٍ، فَجَرَى مَجْرَى أَخْلَاطِ الصَّيَادِلَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ رِيشًا نَجِسًا؛ لِأَنَّ رِيشَهُ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَيُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَتَفَاوَتُ الثَّمَنُ مَعَهَا غَالِبًا، فَصَحَّ السَّلَمُ فِيهِ، كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ، وَمَا فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ مُتَمَيِّزٌ، يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ، وَلَا يَتَفَاوَتُ كَثِيرًا، فَلَا يُمْنَعُ، كَالثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّيشُ طَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَكِنْ يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَلَمْ يُمْنَعْ السَّلَمُ فِيهِ، كَنَجَاسَةِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. [فَصْلٌ السَّلَم فِي الْحَيَوَانِ] (3198) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ فَرُوِيَ، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْجُوزَجَانِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى، وَإِنَّ مِنْهَا السَّلَمَ فِي السِّنِّ. وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. وَإِنْ اسْتَقْصَى صِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الثَّمَنُ، مِثْلُ: أَزَجُّ الْحَاجِبَيْنِ، أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، أَشَمُّ الْعِرْنِينِ، أَهْدَبُ الْأَشْفَارِ، أَلْمَى الشَّفَةِ، بَدِيعُ الصِّفَةِ. تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ؛ لِنُدْرَةِ وُجُودِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحَكَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ. لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 قَالَ: «اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَبْتَعَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ وَبِالْأَبْعِرَةِ إلَى مَجِيءِ الصَّدَقَةِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الرِّبَا. وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا، فَثَبَتَ فِي السَّلَمِ كَالثِّيَابِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ مِنْ ضِرَابِ فَحْلِ بَنِي فُلَانٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: إنَّمَا كَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ السَّلَفَ فِي الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا نِتَاجَ فَحْلٍ مَعْلُومٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ؛ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يُدْعَى عُصَيْفِيرَ، بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، إلَى أَجَلٍ. وَلَوْ ثَبَتَ قَوْلُ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِمَّنْ وَافَقَنَا. [فَصْلٌ السَّلَم فِي غَيْر الْحَيَوَان مِمَّا لَا يُكَال وَلَا يُوزَن وَلَا يُزْرَع] (3199) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَلَا يُزْرَعُ، فَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَرَى السَّلَمَ إلَّا فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُوقَفُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَعْنَاهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِحَدٍّ مَعْلُومٍ لَا يَخْتَلِفُ، كَالزَّرْعِ، فَأَمَّا الرُّمَّانُ وَالْبَيْضُ، فَلَا أَرَى السَّلَمَ فِيهِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، وَمِنْهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي كُلِّ مَعْدُودٍ مُخْتَلِفٍ، كَاَلَّذِي سَمَّيْنَاهُ، وَكَالْبُقُولِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْبَقْلِ بِالْحَزْمِ؛ لِأَنَّ الْحَزْمَ يُمْكِنُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَلَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ، كَالْجَوَاهِرِ. وَنَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ، جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْفَوَاكِهِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالرُّمَّانِ، وَالْمَوْزِ، وَالْخَضْرَاوَاتِ، وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَارَبُ وَيَنْضَبِطُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَمَا لَا يَتَقَارَبُ يَنْضَبِطُ بِالْوَزْنِ، كَالْبُقُولِ وَنَحْوهَا، فَصَحَّ السَّلَمُ فِيهِ، كَالْمَزْرُوعِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعَ مِنْ السَّلَمِ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ. وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ، فَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. [فَصْلٌ السَّلَم فِي الرُّءُوسِ وَالْأَطْرَافِ] (3200) فَصْلٌ: فَأَمَّا السَّلَمُ فِي الرُّءُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَيَخْرُجُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ فِيهَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ أَيْضًا، كَالرِّوَايَتَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ فِيهِ عَظْمٌ يَجُوزُ شِرَاؤُهُ، فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ، كَبَقِيَّةِ اللَّحْمِ. وَالْآخَرُ، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ الْعِظَامُ وَالْمَشَافِرُ، وَاللَّحْمُ فِيهِ قَلِيلٌ، وَلَيْسَ بِمَوْزُونٍ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ. فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا، أَوْ مَشْوِيًّا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 قِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاثَرُ وَيَخْتَلِفُ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِ الْقَاضِي مِنْ أَصْحَابِنَا، حُكْمُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ غَيْرِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْعَقْدُ يَقْتَضِيه سَلِيمًا مِنْ التَّأَثُّرِ، وَالْعَادَةُ فِي طَبْخِهِ تَتَفَاوَتُ، فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ. [فَصْلٌ السَّلَم فِي الْجُلُودِ] (3201) فَصْلٌ: وَفِي الْجُلُودِ مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا فِي الرُّءُوسِ وَالْأَطْرَافِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ، فَالْوَرِكُ ثَخِينٌ قَوِيٌّ، وَالصَّدْرُ ثَخِينٌ رِخْوٌ، وَالْبَطْنُ رَقِيقٌ ضَعِيفٌ، وَالظَّهْرُ أَقْوَى، فَيَحْتَاجُ إلَى وَصْفِ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَرْعُهُ؛ لِاخْتِلَافِ أَطْرَافِهِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ، كَالْحَيَوَانِ؛ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجِلْدِ وَالْأَطْرَافِ وَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَمَا فِي الْبَطْنِ، وَكَذَلِكَ الرَّأْسُ يَشْتَمِلُ عَلَى لَحْمِ الْخَدَّيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ السَّلَم فِي اللَّحْمِ] (3202) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ» . وَظَاهِرُهُ إبَاحَةُ السَّلَمِ فِي كُلِّ مَوْزُونٍ. وَلِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، فَاللَّحْمُ أَوْلَى. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يَضْبِطَهُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا ظَاهِرًا فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْمَبِيعِ، وَطَرِيقُهُ إمَّا الرُّؤْيَةُ وَإِمَّا الْوَصْفُ. وَالرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةٌ هَاهُنَا، فَتَعَيَّنَ الْوَصْفُ. وَالْأَوْصَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهَا، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ؛ الْجِنْسُ، وَالنَّوْعُ، وَالْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ. فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي اشْتِرَاطِهَا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. الضَّرْبُ الثَّانِي، مَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلَافِهِ مِمَّا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَوْصَافِ، وَهَذِهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَنَذْكُرُهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَذِكْرُهَا شَرْطٌ فِي السَّلَمِ عِنْدَ إمَامِنَا وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِي ذِكْرُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ الصِّفَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَبْقَى مِنْ الْأَوْصَافِ، مِنْ اللَّوْنِ وَالْبَلَدِ وَنَحْوِهِمَا، مَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ وَالْغَرَضُ لِأَجْلِهِ، فَوَجَبَ، ذِكْرُهُ، كَالنَّوْعِ. وَلَا يَجِبُ اسْتِقْصَاءُ كُلِّ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْحَالُ فِيهَا إلَى أَمْرٍ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، إذْ يَبْعُدُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا، فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا ظَاهِرًا. وَلَوْ اسْتَقْصَى الصِّفَاتِ حَتَّى انْتَهَى إلَى حَالَ يَنْدُرُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، بَطَلَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمَحِلِّ، وَاسْتِقْصَاءُ الصِّفَاتِ يَمْنَعُ مِنْهُ. وَلَوْ شَرَطَ الْأَجْوَدَ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَجْوَدِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ نَادِرًا. وَإِنْ شَرَطَ الْأَرْدَأَ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ لِذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُسْلِمُ شَيْئًا إلَّا كَانَ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَهُ، فَلَا يَعْجِزُ إذًا عَنْ تَسْلِيمِ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ وَابْنَتِهَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْبِطَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصِفَاتٍ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِي جَارِيَةٍ وَابْنَتِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ وَأُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ عَمِّهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ عَلَى صِفَةِ خِرْقَةٍ أَحْضَرَهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَهْلِكَ الْخِرْقَةُ، وَهَذَا غَرَرٌ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، فَمَنَعَ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ مِكْيَالًا بِعَيْنِهِ، أَوْ صَنْجَةً بِعَيْنِهَا. [فَصْلٌ الْجِنْسُ وَالْجَوْدَةُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا شَرْطَانِ فِي كُلِّ مُسْلَمٍ فِيهِ] (3203) فَصْلٌ: وَالْجِنْسُ، وَالْجَوْدَةُ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، شَرْطَانِ فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَكْرِيرِ ذِكْرِهِمَا فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ، وَيَذْكُرُ مَا سِوَاهُمَا، فَيَصِفُ التَّمْرَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ؛ النَّوْعُ، بَرْنِيُّ أَوْ مَعْقِلِيٌّ، وَالْبَلَدُ، إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ، فَيَقُولُ بَغْدَادِيٌّ، أَوْ بَصْرِيٌّ؛ فَإِنَّ الْبَغْدَادِيَّ أَحْلَى وَأَقَلُّ بَقَاءً لِعُذُوبَةِ الْمَاءِ، وَالْبَصْرِيُّ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالْقَدْرُ، كِبَارٌ أَوْ صِغَارٌ، وَحَدِيثٌ أَوْ عَتِيقٌ. فَإِنْ أَطْلَقَ الْعَتِيقَ، فَأَيَّ عَتِيقٍ أَعْطَى جَازَ، مَا لَمْ يَكُنْ مَسُوسًا وَلَا حَشَفًا وَلَا مُتَغَيِّرًا. وَإِنْ قَالَ: عَتِيقُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ. فَأَمَّا اللَّوْنُ، فَإِنْ كَانَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ مُخْتَلِفًا، كالطبرز يَكُونُ أَحْمَرَ، وَيَكُونُ أَسْوَدَ. ذَكَرَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالرُّطَبُ كَالتَّمْرِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ، إلَّا الْحَدِيثَ وَالْعَتِيقَ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الرُّطَبِ إلَّا مَا أُرْطِبَ كُلُّهُ. وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ مُشَدَّخًا، وَلَا قَدِيمًا قَارَبَ أَنْ يُتْمِرَ. وَهَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَاهُ، مِنْ الْعِنَبِ وَالْفَوَاكِهِ. [فَصْلٌ يُوصَفُ الْبَرّ فِي السَّلَم بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ] (3204) فَصْلٌ: وَيَصِفُ الْبُرَّ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ؛ النَّوْعُ، فَيَقُولُ: سَبِيلَةٌ أَوْ سَلْمُونِيٌّ. وَالْبَلَدُ، فَيَقُولُ: حُورَانِيٌّ أَوْ بَلْقَاوِيٌّ أَوْ سِمَالِيٌّ. وَصِغَارُ الْحَبِّ أَوْ كِبَارُهُ، وَحَدِيثٌ أَوْ عَتِيقٌ. وَإِنْ كَانَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ لَوْنُهُ. ذَكَرَهُ، وَلَا يَسْلَمُ فِيهِ إلَّا مُصَفًّى، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الشَّعِيرِ وَالْقُطْنِيَّاتِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ. [فَصْلٌ يُوصَفُ الْعَسَل فِي السَّلَم بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ] (3205) فَصْلٌ: وَيَصِفُ الْعَسَلَ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ الْبَلَدِيُّ، فِيجِيٌّ أَوْ نَحْوُهُ. وَيُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْ النَّوْعِ. وَالزَّمَانِ؛ رَبِيعِيٌّ أَوْ خَرِيفِيٌّ، أَوْ صَيْفِيٌّ. وَاللَّوْنُ؛ أَبْيَضُ أَوْ أَحْمَرُ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا مُصَفًّى مِنْ الشَّمْعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 [فَصْلٌ ذِكْرِ النَّوْعِ وَالسِّنِّ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ فِي السَّلَم فِي الْحَيَوَان] (3206) فَصْلٌ: وَلَا بُدَّ فِي الْحَيَوَانِ كُلِّهِ مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ، وَالسِّنِّ، وَالذُّكُورِيَّةِ، وَالْأُنُوثِيَّةِ، وَيُذْكَرُ اللَّوْنُ إذَا كَانَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ، وَيَرْجِعُ فِي سِنِّ الْغُلَامِ إلَيْهِ إنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رَجَعَ فِي قَوْلِهِ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظُنُونِهِمْ تَقْرِيبًا. وَإِذَا ذَكَرَ النَّوْعَ فِي الرَّقِيقِ وَكَانَ مُخْتَلِفًا، مِثْلَ التُّرْكِيِّ؛ مِنْهُمْ الْجِكِلِيُّ وَالْخَزَرِيُّ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ، أَوْ يَكْفِي ذِكْرُ النَّوْعِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْجَارِيَةِ إلَى ذِكْرِ الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ وَلَا الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُرَاعَى، كَمَا فِي صِفَاتِ الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ، فَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَزِمَهُ. وَيَذْكُرُ الثُّيُوبَةَ وَالْبَكَارَةَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ. وَيَذْكُرُ الْقَدَّ؛ خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ، يَعْنِي خَمْسَةَ أَشْبَارٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْبَارٍ. قَالَ أَحْمَدُ، يَقُولُ: خُمَاسِيٌّ سُدَاسِيٌّ، أَسْوَدُ أَبْيَضُ، أَعْجَمِيٌّ أَوْ فَصِيحٌ. فَأَمَّا الْإِبِلُ فَيَضْبِطُهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ، فَيَقُولُ: مِنْ نِتَاجِ بَنِي فُلَانٍ. وَالسِّنُّ، بِنْتُ مَخَاضٍ أَوْ بِنْتُ لَبُونٍ. وَاللَّوْنُ، بَيْضَاءُ أَوْ حَمْرَاءُ أَوْ وَرْقَاءُ، وَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ نِتَاجٌ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَهْرِيَّةٌ وَأَرْحَبِيَّةٌ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى ضَبْطِ ذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ وَمَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْضَهُ كَانَ تَأْكِيدًا وَلَزِمَهُ. وَأَوْصَافُ الْخَيْلِ، كَأَوْصَافِ الْإِبِلِ. وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، فَلَا نِتَاجَ لَهَا، فَيَجْعَلُ مَكَانَ ذَلِكَ نِسْبَتَهَا إلَى بَلَدِهَا. وَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَإِنْ عُرِفَ لَهَا نِتَاجٌ، فَهِيَ كَالْإِبِلِ، وَإِلَّا فَهِيَ كَالْحُمُرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ، فَيَقُولُ فِي الْإِبِلِ: بُخْتِيَّةٌ أَوْ عَرَبِيَّةٌ، وَفِي الْخَيْلِ، عَرَبِيَّةٌ أَوْ هَجِينٌ أَوْ بِرْذَوْنٌ. وَفِي الْغَنَمِ، ضَأْنٌ أَوْ مَعْزٌ، إلَّا الْحُمُرَ وَالْبِغَالَ، فَلَا نَوْعَ فِيهِمَا. (3207) فَصْلٌ: وَيَذْكُرُ فِي اللَّحْمِ السِّنَّ، وَالذُّكُورِيَّةَ، وَالْأُنُوثِيَّةَ، وَالسِّمَنَ، وَالْهُزَالَ، وَرَاعِيًا أَوْ مَعْلُوفًا، وَنَوْعَ الْحَيَوَانِ، وَمَوْضِعَ اللَّحْمِ مِنْهُ. وَيَزِيدُ فِي الذَّكَرِ، فَحْلًا أَوْ خَصِيًّا. وَإِنْ كَانَ مِنْ صَيْدٍ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الْعَلَفِ وَالْخِصَاءِ. وَيَذْكُرُ الْآلَةَ الَّتِي يُصَادُ بِهَا، مِنْ جَارِحَةٍ أَوْ أُحْبُولَةٍ. وَفِي الْجَارِحَةِ يَذْكُرُ صَيْدَ فَهْدٍ، أَوْ كَلْبٍ، أَوْ صَقْرٍ، فَإِنَّ الْأُحْبُولَةَ يُؤْخَذُ الصَّيْدُ مِنْهَا سَلِيمًا. وَصَيْدُ الْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ صَيْدِ الْفَهْدِ؛ لِكَوْنِ الْكَلْبِ أَطْيَبَ الْحَيَوَانِ نَكْهَةً. قِيلَ: هُوَ أَطْيَبُ الْحَيَوَانِ نَكْهَةً؛ لِكَوْنِهِ مَفْتُوحَ الْفَمِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ يَسِيرٌ، وَلَا يَكَادُ الثَّمَنُ يَتَبَايَنُ بِاخْتِلَافِهِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ. وَإِذَا لَمْ يَحْتَجْ فِي الرَّقِيقِ إلَى ذِكْرِ الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ، وَالسِّمَنِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 وَالْهُزَالِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا يَتَبَايَنُ بِهَا الثَّمَنُ وَتَخْتَلِفُ الرَّغَبَاتُ بِهَا، وَيَعْرِفُهَا النَّاسُ، فَهَذَا أُولَى. وَيَلْزَمُ قَبُولُ اللَّحْمِ بِعِظَامِهِ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُقْطَعُ، فَهُوَ كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ فِي لَحْمِ طَيْرٍ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ بِذَلِكَ، كَلَحْمِ الدَّجَاجِ، وَلَا إلَى ذِكْرِ مَوْضِعِ اللَّحْمِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يَأْخُذُ مِنْهُ بَعْضَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الرَّأْسِ وَالسَّاقَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا. وَفِي السَّمَكِ يَذْكُرُ النَّوْعَ؛ بَرَدِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْكِبَرَ وَالصِّغَرَ، وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ، وَالطَّرِيَّ وَالْمِلْحَ، وَلَا يَقْبَلُ الرَّأْسَ وَالذَّنَبَ، وَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَأْخُذُ بَعْضَهُ، ذَكَرَ مَوْضِعَ اللَّحْمِ مِنْهُ. [فَصْلٌ ضَبْطُ السَّمْن فِي السَّلَم] (3208) فَصْلٌ: وَيَضْبِطُ السَّمْنَ بِالنَّوْعِ مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ أَوْ بَقَرٍ، وَاللَّوْنِ، أَبْيَضَ أَوْ أَصْفَرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَذْكُرُ الْمَرْعِيَّ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ حَدِيثٍ أَوْ عَتِيقٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَقْتَضِي الْحَدِيثَ، وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي عَتِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ، وَلَا يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يُضْبَطُ بِهِ. وَيَصِفُ الزُّبْدَ بِأَوْصَافِ السَّمْنِ، وَيَزِيدُ، زُبْدُ يَوْمِهِ أَوْ أَمْسِهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ مُتَغَيِّرٍ فِي السَّمْنِ أَوْ الزُّبْدِ، وَلَا رَقِيقٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ رِقَّتُهُ لِلْحَرِّ. وَيَصِفُ اللَّبَنَ بِالنَّوْعِ وَالْمَرْعَى، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اللَّوْنِ، وَلَا حَلْبَةِ يَوْمِهِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ مُتَغَيِّرٍ. قَالَ أَحْمَدُ: وَيَصِحُّ السَّلَمَ فِي الْمَخِيضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ السَّلَمَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ مَجْهُولًا. وَلَنَا أَنَّ الْمَاءَ يَسِيرٌ، يُتْرَكُ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمَ فِيهِ، كَالْمَاءِ فِي الشَّيْرَجِ، وَالْمِلْحِ وَالْإِنْفَحَة فِي الْجُبْنِ، وَالْمَاءِ فِي خَلِّ التَّمْرِ، وَيَصِفُ الْجُبْنَ بِالنَّوْعِ وَالْمَرْعَى، وَرَطْبٍ أَوْ يَابِسٍ، وَيَصِفُ اللِّبَأَ بِصِفَاتِ اللَّبَنِ، وَيَزِيدُ اللَّوْنَ، وَيَذْكُرُ الطَّبْخَ أَوْ لَيْسَ بِمَطْبُوخٍ. [فَصْلٌ ضَبْطُ الثِّيَابِ فِي السَّلَم بِسِتَّةِ أَوْصَافٍ] (3209) فَصْلٌ: وَتُضْبَطُ الثِّيَابُ بِسِتَّةِ أَوْصَافٍ؛ النَّوْعُ، كَتَّانٌ أَوْ قُطْنٌ. وَالْبَلَدُ. وَالطُّولُ. وَالْعَرْضُ. وَالصَّفَاقَةُ وَالرِّقَّةُ. وَالْغِلَظُ وَالدِّقَّةُ. وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ. وَلَا يَذْكُرُ الْوَزْنَ، فَإِنْ ذَكَرَهُ، لَمْ يَصِحَّ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِهِ الْمُشْتَرَطَةِ، وَكَوْنِهِ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ، فَيَكُونُ فِيهِ تَغْرِيرٌ؛ لِتَعَذُّرِ اتِّفَاقِهِ. وَإِنْ ذَكَرَ خَامًا أَوْ مَقْصُورًا، فَلَهُ مَا شَرَطَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، جَازَ، وَلَهُ خَامٌ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ. وَإِنْ ذَكَرَ مَغْسُولًا أَوْ لَبِيسًا. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ، وَلَا يَنْضَبِطُ. فَإِنْ أَسْلَمَ فِي مَصْبُوغٍ، وَكَانَ مِمَّا يُصْبَغُ غَزْلُهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُصْبَغُ بَعْدَ نَسْجِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ صَبْغَ الثَّوْبِ يَمْنَعُ الْوُقُوفَ عَلَى نُعُومَتِهِ وَخُشُونَتِهِ، وَلِأَنَّ الصِّبْغَ غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ مُخْتَلِفِ الْغُزُولِ؛ كَقُطْنِ وَإِبْرَيْسَمَ، أَوْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ، أَوْ صُوفٍ، وَكَانَتْ الْغُزُولُ مَضْبُوطَةً بِأَنْ يَقُولَ: السُّدَى إبْرَيْسَمُ، وَاللُّحْمَةُ كَتَّانٌ أَوْ نَحْوُهُ، جَازَ. وَلِهَذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْخَزِّ، وَهُوَ مِنْ غَزْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ مَوْشِيٍّ، وَكَانَ الْوَشْيُ مِنْ تَمَامِ نَسْجِهِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ. [فَصْلٌ وَصْفُ غَزْل الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ فِي السَّلَم] (3210) فَصْلٌ: وَيَصِفُ غَزْلَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، بِالْبَلَدِ وَاللَّوْنِ، وَالْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ، وَالنُّعُومَةِ وَالْخُشُونَةِ وَيَصِفُ الْقُطْنَ بِذَلِكَ، وَيَجْعَلُ مَكَانَ الْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ الطُّولَ وَالْقِصَرَ. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقُطْنِ مَنْزُوعَ الْحَبِّ، جَازَ. وَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ لَهُ بِحَبِّهِ، كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ. يَصِفُ الْإِبْرَيْسَمَ بِالْبَلَدِ وَاللَّوْنِ، وَالْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ، يَصِفُ الصُّوفَ بِالْبَلَدِ وَاللَّوْنِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالزَّمَانِ، خَرِيفِيٍّ أَوْ رَبِيعِيٍّ؛ لِأَنَّ صُوفَ الْخَرِيفِ أَنْظَفُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَصِفُهُ بِالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ؛ لِأَنَّ صُوفَ الْإِنَاثِ أَنْعَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذَا يَسِيرٌ. وَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ نَقِيًّا مِنْ الشَّوْكِ وَالْبَعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ. وَإِنْ اشْتَرَطَهُ، جَازَ، وَكَانَ تَأْكِيدًا. وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ، كَالصُّوفِ. وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْكَاغَدِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، وَيَصِفُهُ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَالدِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، وَاسْتِوَاءِ الصَّنْعَةِ، وَمَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ. [فَصْلٌ ضَبْطُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ فِي السَّلَمِ بِالنَّوْعِ] (3211) فَصْلٌ: وَيَضْبِطُ النُّحَاسُ، وَالرَّصَاصُ، وَالْحَدِيدُ بِالنَّوْعِ، فَيَقُولُ فِي الرَّصَاصِ: قَلْعِيٌّ أَوْ أُسْرُبٌ. وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ، وَاللَّوْنُ إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ. وَيَزِيدُ فِي الْحَدِيدِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَحَدُّ وَأَمْضَى. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُمْكِنُ ضَبْطُ قَدْرِهَا وَطُولِهَا وَسُمْكِهَا وَدُورِهَا، كَالْأَسْطَالِ الْقَائِمَةِ الْحِيطَانِ، وَالطُّسُوتِ، جَازَ. وَيَضْبِطُهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي قِصَاعٍ وَأَقْدَاحٍ مِنْ الْخَشَبِ، جَازَ، وَيَذْكُرُ نَوْعَ خَشَبِهَا مِنْ جَوْزٍ، أَوْ تُوتٍ، وَقَدْرَهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالْعُمْقِ وَالضِّيقِ، وَالثَّخَانَةِ وَالرِّقَّةِ وَأَيِّ عَمَلٍ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي سَيْفٍ، ضَبَطَهُ بِنَوْعِ حَدِيدِهِ، وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَرِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ، وَبَلَدِهِ، وَقَدِيمِ الطَّبْعِ أَوْ مُحْدَثٍ، مَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصِفُ قَبْضَتَهُ وَجَفْنَهُ. [فَصْلٌ الْخَشَبُ فِي السَّلَم عَلَى أَضْرِب] (3212) فَصْلٌ: وَالْخَشَبُ عَلَى أَضْرُبٍ؛ مِنْهُ مَا يُرَادُ لِلْبِنَاءِ، فَيَذْكُرُ نَوْعَهُ، وَيُبْسَهُ وَرُطُوبَتَهُ، وَطُولَهُ، وَدُورَهُ، أَوْ سُمْكَهُ، وَعَرْضَهُ. وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ طَرَفِهِ إلَى طَرَفِهِ بِذَلِكَ الْعَرْضِ وَالدَّوْرِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَغْلَظَ مِمَّا وَصَفَ، فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ أَدَقَّ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ. وَإِنْ ذَكَرَ الْوَزْنَ أَوْ سَمْحًا، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، جَازَ، وَلَهُ سَمْحٌ خَالٍ مِنْ الْعُقَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ، عَيْبٌ. وَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 لِلْقِسِيِّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ، وَزَادَ سَهْلِيًّا، أَوْ جَبَلِيًّا، أَوْ خُوطًا أَوْ فِلْقَةً؛ فَإِنَّ الْجَبَلِيَّ أَقْوَى مِنْ السَّهْلِيِّ؛ وَالْخُوطَ أَقْوَى مِنْ الْفِلْقَةِ. وَيَذْكُرُ فِيمَا لِلْوَقُودِ الْغِلْظَةَ، وَالْيُبْسَ، وَالرُّطُوبَةَ، وَالْوَزْنَ وَيَذْكُرُ فِيمَا لِلنَّصْبِ النَّوْعَ، وَالْغِلَظَ، وَسَائِرَ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ، ضَبَطَهُ بِنَوْعِ جِنْسِهِ، وَطُولِهِ وَقِصَرِهِ، وَدِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ، وَلَوْنِهِ، وَنَصْلِهِ، وَرِيشِهِ. (3213) فَصْلٌ: وَالْحِجَارَةُ مِنْهَا مَا هُوَ لِلْأَرْحِيَةِ، فَيَضْبِطُهَا بِالدَّوْرِ، وَالثَّخَانَةِ، وَالْبَلَدِ، وَالنَّوْعِ إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْبِنَاءِ، فَيَذْكُرُ النَّوْعَ، وَاللَّوْنَ، وَالْقَدْرَ وَالْوَزْنَ. وَيَذْكُرُ فِي حِجَارَةِ الْآنِيَةِ اللَّوْنَ، وَالنَّوْعَ، وَالْقَدْرَ، وَاللِّينَ، وَالْوَزْنَ. وَيَصِفُ الْبَلُّورَ بِأَوْصَافِهِ. يَصِفُ الْآجُرَّ وَاللَّبِنَ بِمَوْضِعِ التُّرْبَةِ، وَاللَّوْنِ، وَالدَّوْرِ، وَالثَّخَانَةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْجِصِّ، وَالنُّورَةِ، ذَكَرَ اللَّوْنَ، وَالْوَزْنَ. وَلَا يَقْبَلُ مَا أَصَابَهُ الْمَاءُ فَجَفَّ، وَلَا مَا قَدُمَ قِدَمًا يُؤَثِّرُ فِيهِ. وَيَضْبِطُ التُّرَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَقْبَلُ الطِّينَ الَّذِي قَدْ جَفَّ إذَا كَانَ لَا يَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ. [فَصْلٌ ضَبْطُ الْعَنْبَر فِي السَّلَم بِاللَّوْنِ وَالْبَلَدِ] (3214) فَصْلٌ: وَيَضْبِطُ الْعَنْبَرَ بِلَوْنِهِ وَالْبَلَدِ، وَإِنْ شَرَطَ قِطْعَةً أَوْ قِطْعَتَيْنِ، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْعَنْبَرَ نَبَاتٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَنْبَاتِ الْبَحْرِ. وَيَضْبِطُ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ بِبَلَدِهِ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ. وَيَضْبِطُ الْمَصْطَكَى، وَاللُّبَانَ، وَالْغِرَاءَ الْعَرَبِيَّ، وَصَمْغَ الشَّجَرِ، وَالْمِسْكَ، وَسَائِرُ مَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، بِمَا يَخْتَلِفُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ] (3215) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إذَا كَانَ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ، أَوْ عَدَدٍ مَعْلُومٍ) هَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ. وَهُوَ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَيْلِ إنْ كَانَ مَكِيلًا، وَبِالْوَزْنِ إنْ كَانَ مَوْزُونًا، وَبِالْعَدَدِ إنْ كَانَ مَعْدُودًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، كَالثَّمَنِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي اعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ خِلَافًا. وَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمِكْيَالِ، أَوْ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ. فَإِنْ قَدَّرَهُ بِإِنَاءٍ مَعْلُومٍ، أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ، غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ، فَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهَذَا غَرَرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَقْدُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلَمَ فِي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ بِقَفِيزٍ لَا يُعْلَمُ عِيَارُهُ، وَلَا فِي ثَوْبٍ بِذَرْعِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْمِعْيَارَ لَوْ تَلِفَ، أَوْ مَاتَ فُلَانٌ، بَطَلَ السَّلَمُ. مِنْهُمْ؛ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وَأَبُو ثَوْرٍ. وَإِنْ عَيَّنَ مِكْيَالَ رَجُلٍ أَوْ مِيزَانَهُ، وَكَانَا مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، جَازَ. وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِمَا. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفَا، لَمْ يَجُزْ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ فِيمَا يُكَالُ وَزْنًا أَوْ فِيمَا يُوزَنُ كَيْلًا] (3216) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا يُكَالُ وَزْنًا، أَوْ فِيمَا يُوزَنُ كَيْلًا، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ عَنْ السَّلَمِ فِي التَّمْرِ وَزْنًا؟ فَقَالَ: لَا إلَّا كَيْلًا. قُلْت: إنَّ النَّاسَ هَاهُنَا لَا يَعْرِفُونَ الْكَيْلَ. قَالَ: وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْكَيْلَ. فَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمَكِيلِ إلَّا كَيْلًا، وَلَا فِي الْمَوْزُونِ إلَّا وَزْنًا. وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الْأَصْلِ، كَبَيْعِ الرُّطُوبَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ. وَلِأَنَّهُ قَدَّرَ الْمُسْلَمَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الْأَصْلِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الْمَذْرُوعِ وَزْنًا. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ إذَا كَانَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا، وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، وَقَدْ أَجَازَ السَّلَمَ فِيهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ التَّمْرَ وَزْنًا. وَهَذَا أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ، وَإِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، فَبِأَيِّ قَدْرٍ قَدَّرَهُ جَازَ. وَيُفَارِقُ بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ؛ فَإِنَّ التَّمَاثُلَ فِيهَا فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا شَرْطٌ، وَلَا نَعْلَمُ هَذَا الشَّرْطَ إذَا قَدَّرَهَا بِغَيْرِ مِقْدَارِهَا الْأَصْلِيِّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْحُبُوبَ كُلَّهَا مَكِيلَةٌ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْفُسْتُقُ وَالْبُنْدُقُ وَالْمِلْحُ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ الْأَدْهَانُ. وَقَالَ فِي السَّمْنِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا كَيْلًا وَوَزْنًا. وَلَا يُسْلِمُ فِي اللِّبَأِ إلَّا وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ يَجْمُدُ عَقِيبَ حَلْبِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْكَيْلُ فِيهِ. [فَصْلٌ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِمَّا لَا يُمَكِّنهُ وَزْنه بِالْمِيزَانِ] (3217) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ وَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ لِثِقَلِهِ، كَالْأَرْحِيَةِ وَالْحِجَارَةِ الْكِبَارِ، يُوزَنُ بِالسَّفِينَةِ، فَتُتْرَكُ السَّفِينَةُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُتْرَكُ ذَلِكَ فِيهَا فَيَنْظُرُ إلَى أَيْ مَوْضِعٍ تَغُوصُ، فَيُعَلِّمُهُ، ثُمَّ يُرْفَعُ وَيُتْرَكُ مَكَانَهُ رَمْلٌ أَوْ حِجَارَةٌ صِغَارٌ، إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ بَلَغَهُ، ثُمَّ يُوزَنُ بِمِيزَانٍ. فَمَا بَلَغَ فَهُوَ زِنَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي أُرِيدَ مَعْرِفَةُ وَزْنِهِ. [فَصْلٌ تَقْدِيرِ الْمَذْرُوعِ بِالذَّرْعِ] (3218) فَصْلٌ: وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَذْرُوعِ بِالذَّرْعِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ فِي الثِّيَابِ بِذَرْعِ مَعْلُومٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 [فَصْلٌ مَا عَدَّا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْحَيَوَانَ وَالْمَذْرُوعَ فِي السَّلَم عَلَى ضَرْبَيْنِ] (3219) فَصْلٌ: وَمَا عَدَّا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَذْرُوعِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: مَعْدُودٍ، وَغَيْرِهِ فَالْمَعْدُودُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَتَبَايَنُ كَثِيرًا، كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُسْلِمُ فِيهِ عَدَدًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْلِمُ فِيهِمَا كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَبَايَنُ وَيَخْتَلِفُ، فَلَمْ يَجُزْ عَدَدًا، كَالْبِطِّيخِ. وَلَنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ يَسِيرٌ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ الْكِبَرِ أَوْ الصِّغَرِ أَوْ الْوَسَطِ، فَيَذْهَبُ التَّفَاوُتُ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ يَسِيرٌ عُفِيَ عَنْهُ، كَسَائِرِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، وَيُفَارِقُ الْبِطِّيخَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُودٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ كَثِيرٌ لَا يَنْضَبِطُ. النَّوْعُ الثَّانِي، مَا يَتَفَاوَتُ؛ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَيْسَ بِمَعْدُودٍ مِنْ الْبِطِّيخِ وَالْبُقُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُسْلِمُ فِيهِ عَدَدًا، وَيَضْبِطُهُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ هَكَذَا. الثَّانِي، لَا يُسْلِمُ فِيهِ إلَّا وَزْنًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِالْعَدَدِ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا، وَيَتَبَايَنُ جِدًّا، وَلَا بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْبُقُولِ بِالْحَزْمِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ، وَيُمْكِنُ حَزْمُ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيرُهُ بِغَيْرِ الْوَزْنِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُهُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ كُوِّنَ السَّلَم مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا] [الْفَصْل الْأَوَّل يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ كَوْنُهُ مُؤَجَّلًا] (3220) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ بِالْأَهِلَّةِ) وَهَذَا الشَّرْطُ الرَّابِعُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: (3221) أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ كَوْنُهُ مُؤَجَّلًا، وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَالُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْأَجَلَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ السَّلَمُ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا، فَصَحَّ حَالًّا، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ مُؤَجَّلًا فَحَالًّا أَجْوَزُ، وَمِنْ الْغَرَرِ أَبْعَدُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . فَأَمَرَ بِالْأَجَلِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَبْيِينًا لِشُرُوطِ السَّلَمِ، وَمَنْعًا مِنْهُ بِدُونِهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ إذَا انْتَفَى الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، فَكَذَلِكَ الْأَجَلُ. وَلِأَنَّ السَّلَمَ إنَّمَا جَازَ رُخْصَةً لِلرِّفْقِ، وَلَا يَحْصُلُ الرِّفْقُ إلَّا بِالْأَجَلِ، فَإِذَا انْتَفَى الْأَجَلُ انْتَفَى الرِّفْقُ، فَلَا يَصِحُّ، كَالْكِتَابَةِ. وَلِأَنَّ الْحُلُولَ يُخْرِجُهُ عَنْ اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ، أَمَّا الِاسْمُ فَلِأَنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا؛ لِتَعَجُّلِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَتَأَخُّرِ الْآخَرِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ أَرْخَصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 إلَيْهِ، وَمَعَ حُضُورِ مَا يَبِيعُهُ حَالًّا لَا حَاجَةً إلَى السَّلَمِ، فَلَا يَثْبُتُ. وَيُفَارِقُ تَنَوُّعَ الْأَعْيَانِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالتَّأْجِيلِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّنْبِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُجْزِئُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ بِصِفَةِ التَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ الْبُعْدَ مِنْ الضَّرَرِ لَيْسَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ، وَإِنَّمَا الْمُصَحَّحُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ، لَمْ نَذْكُرْ اجْتِمَاعَهُمَا فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا افْتِرَاقَهُمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ بَاعَهُ مَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ حَالًّا فِي الذِّمَّة، صَحَّ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى السَّلَمِ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي اللَّفْظِ. [الْفَصْل الثَّانِي كَوْن الْأَجَل مَعْلُومًا فِي السَّلَم الْحَال] (3222) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ السَّلَمِ كَوْنِ الْأَجَلِ مَعْلُومًا السَّلَم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ". وَلَا نَعْلَمُ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ اخْتِلَافًا فَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُعْلِمَهُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ بِالْحَصَادِ وَالْجِزَازِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَبْتَاعُ إلَى الْعَطَاء. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ شَيْءٌ يُعْرَفُ فَأَرْجُو، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إلَى قُدُومِ الْغُزَاةِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَقْتَ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فَأَمَّا نَفْسُ الْعَطَاءِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَجْهُولٌ يَخْتَلِفُ وَيَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَ الْعَطَاءِ؛ لِكَوْنِهِ يَتَفَاوَتُ أَيْضًا، فَأَشْبَهَ الْحَصَادَ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ أَجَلٌ يَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ مِنْ الزَّمَنِ، يُعْرَفُ فِي الْعَادَةِ، لَا يَتَفَاوَتُ فِيهِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا، فَأَشْبَهَ إذَا قَالَ: إلَى رَأْسِ السَّنَةِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَبَايَعُوا إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَلَا تَتَبَايَعُوا إلَّا إلَى شَهْرٍ مَعْلُومٍ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَيَقْرُبُ وَيَبْعُدُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجَلًا كَقُدُومِ زَيْدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ إلَى يَهُودِيٍّ، أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِثَوْبَيْنِ إلَى الْمَيْسَرَةِ» . قُلْنَا: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَوَاهُ حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: فِيهِ غَفْلَةٌ، وَهُوَ صَدُوقٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَفَلَاتِهِ، إذْ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْأَجَلَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لَمْ يَصِحَّ. [فَصْلٌ جَعَلَ الْأَجَل إلَى شَهْرٍ فِي السَّلَم] (3223) فَصْلٌ: إذَا جَعَلَ الْأَجَلَ إلَى شَهْرٍ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ. وَإِنْ جَعَلَ الْأَجَلَ اسْمًا يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ كَجُمَادَى وَرَبِيعٍ وَيَوْمِ النَّفْرِ، تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَانَ إلَى انْقِضَائِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُبْهَمَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ لَفْظِهِ بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَى شَهْرٍ. كَانَ آخِرَهُ. وَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْأَشْهُرِ الْهِلَالِيَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] . وَأَرَادَ الْهِلَالِيَّةَ. وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ كَمَّلْنَا شَهْرَيْنِ بِالْهِلَالِ وَشَهْرًا بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: تَكُونُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَدَدِيَّةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ قَالَ: مَحَلُّهُ شَهْرَ كَذَا أَوْ يَوْمَ كَذَا. صَحَّ، وَتَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ ظَرْفًا، فَيَحْتَمِلُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ كَذَا. تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: الطَّلَاقُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِخْطَارِ وَالْإِغْرَارِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَجْهُولٍ، كَنُزُولِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ زَيْدٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ مَحَلَّهُ فِي شَهْرٍ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ، فَلَا يَكُونُ مَجْهُولًا، وَكَذَا السَّلَمُ. [فَصْلٌ شَرْطِ الْأَجَلِ فِي السَّلَم] (3224) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مُدَّةً لَهَا وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ، كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ قَدَّرَهُ بِنِصْفِ يَوْمٍ، جَازَ. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَجُوزُ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهَا آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ رُخَصِ السَّفَرِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّمَا اُعْتُبِرَ التَّأْجِيلُ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعْدُومٌ فِي الْأَصْلِ، لِكَوْنِ السَّلَمِ إنَّمَا ثَبَتَ رُخْصَةً فِي حَقِّ الْمَفَالِيسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَحْصُلَ وَيُسَلَّمَ؛ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ فِيهَا وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ لِيَتَحَقَّقَ الْمَرْفِقُ الَّذِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهِ السَّلَمُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لَا وَقْعَ لَهَا فِي الثَّمَنِ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِمُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَجُوزُ سَاعَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالْأَجَلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْوَامًا، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْخِيَارَ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثٍ، وَكَوْنُهَا آخِرَ حَدِّ الْقِلَّةِ، لَا يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ بِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ السَّلَمَ إنَّمَا يَكُونُ لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ الَّذِينَ لَهُمْ ثِمَارٌ أَوْ زُرُوعٌ أَوْ تِجَارَاتٌ يَنْتَظِرُونَ حُصُولَهَا، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ. [الْفَصْل الثَّالِث كَوْنِ الْأَجَلِ فِي السَّلَم مَعْلُومًا بِالْأَهِلَّةِ] (3225) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي كَوْنِ الْأَجَلِ مَعْلُومًا بِالْأَهِلَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى وَقْتٍ يُعْلَمُ بِالْهِلَالِ، نَحْوَ أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَوْ أَوْسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ، أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ التَّأْجِيلِ بِذَلِكَ. وَلَوْ أَسْلَمَ إلَى عِيدِ الْفِطْرِ، أَوْ النَّحْرِ، أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ عَاشُورَاءَ، أَوْ نَحْوِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْأَهِلَّةِ. وَإِنْ جَعَلَ الْأَجَلَ مُقَدَّرًا بِغَيْرِ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ، فَذَلِكَ قِسْمَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 أَحَدُهُمَا، مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ بَيْنَهُمْ مَشْهُورٌ كَكَانُونَ وَشُبَاطَ، أَوْ عِيدٍ لَا يَخْتَلِفُ كَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُمَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ إلَى غَيْرِ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ. أَشْبَهَ إذَا أَسْلَمَ إلَى الشَّعَانِينِ وَعِيدِ الْفَطِيرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ إلَى فِصْحِ النَّصَارَى وَصَوْمِهِمْ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لَا يَخْتَلِفُ، أَشْبَهَ أَعْيَادَ الْمُسْلِمِينَ. وَفَارَقَ مَا يَخْتَلِفُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ الْمُسْلِمُونَ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ، كَعِيدِ الشَّعَانِينِ وَعِيدِ الْفَطِيرِ وَنَحْوِهِمَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهُ وَيُؤَخِّرُونَهُ عَلَى حِسَابٍ لَهُمْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنْ أَسْلَمَ إلَى مَا لَا يَخْتَلِفُ، مِثْلُ كَانُونِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَامَ الْوُجُودِ فِي مَحِلِّهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (مَوْجُودًا عِنْدَ مَحَلِّهِ) هَذَا الشَّرْطُ الْخَامِسُ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَ الْوُجُودِ، لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الْآبِقِ، بَلْ أَوْلَى؛ فَإِنَّ السَّلَمَ اُحْتُمِلَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، فَلَا يَحْتَمِلُ فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ، لِئَلَّا يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ إلَى شُبَاطَ أَوْ آذَارَ، وَلَا إلَى مَحِلٍّ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِيهِ، كَزَمَانِ أَوَّلِ الْعِنَبِ أَوْ آخِرِهِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا نَادِرًا، فَلَا يُؤْمَنُ انْقِطَاعُهُ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ] (3227) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُهُ وَانْقِطَاعُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إبْطَالُ السَّلَمِ إذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا عَنْهُ ذَلِكَ؛ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ أَسَلَفَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ دَنَانِيرَ فِي تَمْرٍ مُسَمًّى، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: مِنْ تَمْرِ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَلَا، وَلَكِنْ كَيْلٌ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، فِي " الْمُتَرْجَمِ ". وَقَالَ: أَجْمَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 النَّاسُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِهَذَا الْبَيْعِ. وَلِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يُؤْمَنْ انْقِطَاعُهُ وَتَلَفُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالِ مُعَيَّنٍ، أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ أَحْضَرَ خِرْقَةً، وَقَالَ: أَسْلَمْت إلَيْك فِي مِثْلِ هَذِهِ. [فَصْلٌ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا حَالَ السَّلَم] (3228) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا حَالِ السَّلَمِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الرُّطَبِ فِي أَوَانِ الشِّتَاءِ، وَفِي كُلِّ مَعْدُومٍ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَحَلِّ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ جِنْسُهُ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ زَمَنٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلْمُسْلِمِ فِيهِ لِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ وُجُودُهُ فِيهِ كَالْمَحِلِّ وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ أَسَلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُجُودَ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَذَكَرَهُ، وَلَنَهَاهُمْ عَنْ السَّلَفِ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْقِطَاعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْسَطِ السَّنَةِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَيُوجَدُ فِي مَحِلِّهِ غَالِبًا، فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ، كَالْمَوْجُودِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الْوُجُودَ، إذْ لَوْ لَزِمَ أَفْضَى إلَى أَنْ تَكُونَ آجَالُ السَّلَمِ مَجْهُولَةً، وَالْمَحِلُّ مَا جَعَلَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ مَحِلًّا، وَهَا هُنَا لَمْ يَجْعَلَاهُ. [فَصْلٌ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِلّ] (3229) فَصْلٌ: إذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ، إمَّا لِغَيْبَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ عَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ، حَتَّى عَدِمَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، أَوْ لَمْ تَحْمِلْ الثِّمَارُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَالْمُسْلِمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ فَيُطَالِبَ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلَّا قِيمَتَهُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِ التَّعَذُّرِ؛ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ مِنْهَا، فَإِذَا هَلَكَتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَهَلَكَتْ. وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلَا يَصِحُّ دَعْوَى التَّعْيِينِ فِي هَذَا الْعَامِ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا، جَازَ، وَإِنَّمَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ، لِتَمْكِينِهِ مِنْ دَفْعِ مَا هُوَ بِصِفَةِ حَقِّهِ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ مِنْ ثَمَرَةِ نَفْسِهِ إذَا وَجَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَلَيْسَتْ مُتَعَيِّنَةً. وَإِنْ تَعَذَّرَ الْبَعْضُ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْكُلِّ، وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إلَى حِينِ الْإِمْكَانِ، وَيُطَالِبَ بِحَقِّهِ. فَإِنْ أَحَبَّ الْفَسْخَ فِي الْمَفْقُودِ دُونَ الْمَوْجُودِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَرَأَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَتَيْنِ فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إلَّا فِي الْكُلِّ، أَوْ يَصْبِرُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 الْإِقَالَةِ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ التَّعَذُّرِ. انْفَسَخَ فِي الْمَفْقُودِ دُونَ الْمَوْجُودِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ عَلَى بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْجَمِيعِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فِي الْمَوْجُودِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ نَصْرَانِيّ إلَى نَصَّرَانِي فِي خَمْر ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا] (3230) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ إلَى نَصْرَانِيٍّ فِي خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا. فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مِنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَأْخُذُ دَرَاهِمَهُ. كَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَبِهِ نَقُولُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُسَلِّمَ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْخَمْرِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إيفَاؤُهَا، فَصَارَ الْأَمْرُ إلَى رَأْسِ مَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَبْضُ الثَّمَن كَامِلًا وَقْتَ السَّلَم قَبْلَ التَّفَرُّقِ] (3231) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ كَامِلًا وَقْتَ السَّلَمَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ) هَذَا الشَّرْطُ السَّادِسُ، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ قَبْضُهُ يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ لَا يَخْرُجُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَأَخَّرَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، لَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ تَأْخِيرِ الْعِوَضِ الْمُطْلَقِ، فَلَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَالصَّرْفِ وَيُفَارِقُ الْمَجْلِسُ مَا بَعْدَهُ، بِدَلِيلِ الصَّرْفِ. وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقَا، فَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِقَوْلِهِ: " كَامِلًا ". وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَلْ يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، إذَا أَسْلَمَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي أَصْنَافٍ شَتَّى؛ مِائَةً فِي حِنْطَةٍ وَمِائَةً فِي شَعِيرٍ، وَمِائَةً فِي شَيْءٍ آخَرَ، فَخَرَجَ فِيهَا زُيُوفٌ، رَدَّ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى كُلِّ صِنْفٍ بِقَدْرِ مَا وَجَدَ مِنْ الزُّيُوفِ، فَصَحَّ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، فِي مَنْ أَسْلَمَ أَلْفًا إلَى رَجُلٍ، فَقَبَّضَهُ نِصْفَهُ، وَأَحَالَهُ بِنِصْفِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِقَدْرِ نِصْفِهِ، فَحَسَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَلْفِ: فَإِنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي النِّصْفِ الْمَقْبُوضِ، وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي. فَأَبْطَلَ السَّلَمَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ، وَصَحَّحَهُ فِيمَا قَبَضَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَبْطُلُ فِي الْحَوَالَةِ فِي الْكُلِّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى: يَبْطُلُ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ، وَيَصِحُّ فِيمَا قَبَضَ بِقِسْطِهِ؛ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. [فَصْلٌ قَبَضَ الثَّمَنَ فِي السَّلَم فَوَجَدَهُ رَدِيئًا فَرَدَّهُ وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ] فَصْلٌ: وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ رَدِيئًا، فَرَدَّهُ وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ، بَطَلَ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، وَيَبْتَدِئَانِ عَقْدًا آخَرَ إنْ أَحَبَّا. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَهُ إبْدَالُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 ثَمَنٍ سَلِيمٍ، فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَا لَيْسَ بِسَلِيمِ، كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلِيمِ، وَلَا يُؤَثِّرُ قَبْضُ الْمَعِيبِ فِي الْعَقْدِ. وَإِنْ تَفَرَّقَا، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ فَرَدَّهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، لِوُقُوعِ الْقَبْضِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ. وَالثَّانِي، لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْأَوَّلَ كَانَ صَحِيحًا؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَمْسَكَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْبُوضِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْبَدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، فَإِنْ تَفَرَّقَا عَنْ مَجْلِسِ الرَّدِّ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَ لَمْ يَصِحَّ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِخُلُوِّ الْعَقْدِ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا. وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ رَدِيئًا فَرَدَّهُ، فَعَلَى الْمَرْدُودِ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي غَيْرِ الرَّدِيءِ إذَا قُلْنَا بِفَسَادِهِ فِي الرَّدِيءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. [فَصْلٌ خَرَجَتْ الدَّرَاهِمُ فِي السَّلَم مُسْتَحَقَّة وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ] (3233) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَتْ الدَّرَاهِمُ مُسْتَحَقَّةً وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا خَرَجَتْ الدَّرَاهِمُ مَسْرُوقَةً، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فَقَدْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنْ قَبَضَهُ ثُمَّ تَفَرَّقَا بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا، فَقَدْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَخْذِ الثَّمَنِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُلْ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، أَوْ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. [فَصْلٌ لَهُ فِي ذِمَّة رَجُل دِينَار فَجَعَلَهُ سَلَمَا فِي طَعَام إلَى أَجَلٍ] (3234) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دِينَارٌ، فَجَعَلَهُ سَلَمًا فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ، لَمْ يَصِحَّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ، فَإِذَا جَعَلَ الثَّمَنَ دَيْنًا كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ قَالَ أَسْلَمْت إلَيْك مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ طَعَامٍ. وَشَرَطَا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ مِنْهَا خَمْسِينَ وَخَمْسِينَ إلَى أَجَلٍ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَيُخَرَّجُ [فِي] صِحَّتِهِ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ لِلْمُعَجَّلِ فَضْلًا عَلَى الْمُؤَجَّلِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَكْثَرِ مِمَّا فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤَجَّلِ، وَالزِّيَادَةُ مَجْهُولَةٌ، فَلَا يَصِحُّ. [مَسْأَلَةٌ مَعْرِفَةُ صِفَةِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّن فِي السَّلَم] (3235) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَتَى عَدِمَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، بَطَلَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ السِّتَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إلَّا بِهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 أَحَدُهُمَا، مَعْرِفَةُ صِفَةِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ. وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ صِفَتِهِ، إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ عِوَضَيْ السَّلَمِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا اشْتَرَطَ مَعْرِفَةَ صِفَتِهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ وَفِي الْبَلَدِ نَقْدٌ مُعَيَّنٌ، انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ، وَقَامَ مَقَامَ وَصْفِهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَصْفِهِ، وَاحْتَجَّا بُقُولِ أَحْمَدَ: يَقُولُ: أَسْلَمْت إلَيْك كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. وَيَصِفُ الثَّمَنَ. فَاعْتَبَرَ ضَبْطَ صِفَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ إتْمَامَهُ فِي الْحَالِ، وَلَا تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُؤْمَنُ انْفِسَاخُهُ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةُ رَأْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لِيَرُدَّ بَدَلَهُ، كَالْقَرْضِ وَالشَّرِكَةِ. وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَظْهَرَ بَعْضُ الثَّمَنِ مُسْتَحِقًّا، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِهِ، فَلَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ وَكَمْ انْفَسَخَ؟ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومَاتُ لَا تُعْتَبَرُ. قُلْنَا: التَّوَهُّمُ مُعْتَبَرٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ إذَا وَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْغَرَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، بِدَلِيلِ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ قَدَّرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِصَنْجَةٍ أَوْ مِكْيَالٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُشَاهَدٌ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا تَنَاوَلَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ أَوْصَافِهِ. وَدَلِيلُهُمْ يَنْتَقِضُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَأَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْيَقِينِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْصَافِ. وَلِأَنَّ رَدَّ مِثْلِ الثَّمَنِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ، لَا مِنْ جِهَةِ عَقْدِهِ، وَجَهَالَةُ ذَلِكَ لَا تُؤَثِّرُ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَكِيلَ، أَوْ الْمَوْزُونَ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّتْ شَرَائِطُهُ. فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَبِرُ صِفَاتَهُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ، كَالْجَوَاهِرِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، فَإِنْ جَعَلَاهُ سَلَمًا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَيَجِبُ رَدُّهُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَقِيمَتِهِ إنْ عُرِفَتْ إذَا كَانَ مَعْدُومًا. فَإِنْ اخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. وَهَكَذَا إنْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ ثُمَّ انْفَسَخَ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: فِي مِائَةِ مُدَّيْ حِنْطَةٍ. وَقَالَ الْآخَرُ: فِي مِائَةِ مُدَّيْ شَعِيرٍ. تَحَالَفَا، وَتَفَاسَخَا بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ. [فَصْلٌ مَنَعَ بَيْعَ الْعُرُوضِ بَعْضَهَا بِبَعْضِ نِسَاء] (3236) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَالَيْنِ حَرُمَ النَّسَاءُ فِيهِمَا، لَا يَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ مِنْ شَرْطِهِ النَّسَاءُ وَالتَّأْجِيلُ. وَالْخِرَقِيُّ مَنَعَ بَيْعَ الْعُرُوضِ بَعْضُهَا بِبَعْضِ نَسَاءً. فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ إلَّا عَيْنًا أَوْ وَرِقًا. وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ هَاهُنَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: يُسْلَمُ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ، وَمَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ؟ فَلَمْ يُعْجِبْهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَمَنًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا ثَمَنًا، فَلَا تَكُونُ مُثَمَّنَةً. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِجَوَازِ النَّسَاءِ فِي الْعُرُوضِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ عَرْضًا، كَالثَّمَنِ سَوَاءً، وَيَجُوزُ إسْلَامُهَا فِي الْأَثْمَانِ. قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا، فَتَثْبُتُ سَلَمًا، كَالْعُرُوضِ. وَلِأَنَّهُ لَا رِبًا بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُلُ وَلَا النَّسَاءُ، فَصَحَّ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، كَالْعَرْضِ فِي الْعَرْضِ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ صَحَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثَمَّنًا. فَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ عَرْضًا فِي عَرْضٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتِهِ، فَجَاءَهُ عِنْدَ الْحُلُولِ بِذَلِكَ الْعَرْضِ بِعَيْنِهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى كَوْنِ الثَّمَنِ هُوَ الْمُثَمَّنُ، وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ قَالَ: هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إنَّمَا هُوَ فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا عِوَضٌ عَنْهُ. وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ جَارِيَةً صَغِيرَةً فِي كَبِيرَةٍ فَحَلَّ الْمَحِلُّ وَهِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَأَحْضَرَهَا، فَعَلَى احْتِمَالَيْنِ أَيْضًا؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْتَعَ بِهَا وَرَدَّهَا خَالِيَةً عَنْ عُقْرٍ. وَالثَّانِي، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَحْضَرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ. وَيَبْطُلُ الْأَوَّلُ بِمَا إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً؛ لِيَنْتَفِعَ بِالْعَيْنِ، أَوْ لِيَطَأَ الْجَارِيَةَ ثُمَّ يَرُدَّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَمْ يَجُزْ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، تَعَيُّنُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَ الْإِيفَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ «، أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَسْلَمَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَلَا، وَلَكِنْ كَيْلٌ مُسَمًّى، إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» . وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَ الْإِيفَاءِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُشْتَرَطُ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَجِبُ بِحُلُولِهِ، وَلَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ شَرْطُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مَجْهُولًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةً، وَجَبَ شَرْطُهُ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةً اخْتَلَفَ فِيهِ الْغَرَضُ، بِخِلَافِ مَا لَا مُؤْنَةَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إنْ كَانَا فِي بَرِّيَّةٍ لَزِمَ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَرِّيَّةٍ، فَذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَاهُ كَانَ الْإِيفَاءُ فِي مَكَانَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَا فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يُمْكِنْ التَّسْلِيمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَإِذَا تَرَكَ ذِكْرَهُ كَانَ مَجْهُولًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَرِّيَّةٍ اقْتَضَى الْعَقْدُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذَكَره، فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ تَأْكِيدًا، فَكَانَ حَسَنًا فَإِنْ شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي مَكَان سَوَاءٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ بَيْعٍ فَصَحَّ شَرْطُ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَلِأَنَّهُ شَرَطَ ذِكْرَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ شَرَطَ خِلَافَ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: مَتَى ذَكَرَ مَكَانَ الْإِيفَاءِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الْمِكْيَالِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ غَرَضًا وَمَصْلَحَةً لَهُمَا، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الزَّمَانِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ احْتِمَالِ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ فِيهِ يَبْطُلُ بِتَعْيِينِ الزَّمَانِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ، فَإِذَا شَرَطَهُ فَقَدْ شَرَطَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَتَعَيَّنَ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ عَنْهُ، وَقَطْعًا لِلتَّنَازُعِ، فَالْغَرَرُ فِي تَرْكِهِ لَا فِي ذِكْرِهِ. وَفَارَقَ تَعْيِينَ الْمِكْيَالِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَيَفُوتُ بِهِ عِلْمُ الْمِقْدَارِ الْمُشْتَرَطِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَرْطٌ، وَيَقْطَعُ التَّنَازُعَ، فَالْمَعْنَى الْمَانِعُ مِنْ التَّقْدِيرِ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ مَجْهُولٍ هُوَ الْمُقْتَضِي لِشَرْطِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ] (3237) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، قَبْلَ قَبْضِهِ، فَاسِدٌ. وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ، وَالتَّوْلِيَةُ، وَالْحَوَالَةُ بِهِ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ) أَمَّا بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافًا، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ» ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فِيهِ وَالتَّوْلِيَةُ، فَلَا تَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بَيْعٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَأَرْخَصَ فِي الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ» . وَلَنَا، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ. وَلِأَنَّهُمَا نَوْعَا بَيْعٍ، فَلَمْ يَجُوزَا فِي الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَالْخَبَرُ لَا نَعْرِفُهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَالشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فَيَدْخُلَانِ فِي النَّهْيِ. وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَأَرْخَصَ فِي الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ. عَلَى أَنَّهُ أَرْخَصَ فِيهِمَا فِي الْجُمْلَةِ، لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَإِنَّهَا فَسْخٌ وَلَيْسَتْ بَيْعًا. وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إنَّمَا تَجُوزُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَالسَّلَمُ بِغَرَضِ الْفَسْخِ، فَلَيْسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 بِمُسْتَقَرٍّ. وَلِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفَسْخِ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْبَيْعِ. وَمَعْنَى الْحَوَالَةِ بِهِ، أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ قَرْضٍ أَوْ سَلَمٍ آخَرَ أَوْ بَيْعٍ فَيُحِيلُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ السَّلَمُ، فَلَا يَجُوزُ. وَإِنْ أَحَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْمُسْلَمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْبَيْعِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ، فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ عِوَضًا عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ. فَهَذَا حَرَامٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْقِيمَةِ، أَوْ أَقَلِّ، أَوْ أَكْثَرِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَنْ أَسْلَمَ فِي بُرٍّ، فَعَدِمَهُ عِنْدَ الْمَحِلِّ، فَرَضِيَ الْمُسْلِمُ بِأَخْذِ الشَّعِيرِ مَكَانَ الْبُرِّ، جَازَ. وَلَمْ يَجُزْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَكَانَهُ، يَتَعَجَّلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُهُ إلَى الطَّعَامِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ إلَى أَجَلٍ فَإِنْ أَخَذْت مَا أَسْلَفْت فِيهِ، وَإِلَّا فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ مِنْهُ، وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ بَيْعٌ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَأَمَّا إنْ أَعْطَاهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَسْلَمَ فِيهِ خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ دُونَهُ فِي الصِّفَاتِ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ، إنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ لِلْحَقِّ، مَعَ تَفَضُّلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا. [فَصْلٌ الْإِقَالَةُ فِي الْمُسْلِم فِيهِ] (3238) فَصْلٌ فَأَمَّا. الْإِقَالَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّهَا فَسْخٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي جَمِيعِ مَا أَسْلَمَ فِيهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَرَفْعٌ لَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ قَالَ: لِي عِنْدَك هَذَا الطَّعَامُ، صَالِحْنِي مِنْهُ عَلَى ثَمَنِهِ. جَازَ، وَكَانَتْ إقَالَةً صَحِيحَةً. فَأَمَّا الْإِقَالَةُ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَاخْتَلَفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَبِيعَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ. أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُوسٍ، وَمُحَمَّدِ بْن عَلِيٍّ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 وَالشَّافِعِيِّ، وَالنُّعْمَانِ وَأَصْحَابِهِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ جَازَ فِي الْجَمِيعِ جَازَ فِي الْبَعْضِ، كَالْإِبْرَاءِ وَالْإِنْظَارِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ السَّلَفَ فِي الْغَالِبِ يُزَادُ فِيهِ فِي الثَّمَنِ مِنْ أَجْلِ التَّأْجِيلِ، فَإِذَا أَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ، بَقِيَ الْبَعْضُ بِالْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ وَبِمَنْفَعَةِ الْجُزْءِ الَّذِي حُصِلَتْ الْإِقَالَةُ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ. وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ وَالْإِنْظَارُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (3239) فَصْلٌ: إذَا أَقَالَهُ، رَدَّ الثَّمَنَ إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضًا عَنْهُ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: لَيْسَ لَهُ صَرْفُ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي عَقْدٍ آخَرَ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» . وَلِأَنَّ هَذَا مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، فَلَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَرْضًا. وَلِأَنَّهُ مَالٌ عَادَ إلَيْهِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ إذَا فُسِخَ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَضْمُونٌ بَعْدَ فَسْخِهِ، وَالْخَبَرُ أَرَادَ بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا. فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ وَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ إذَا فُسِخَتْ. [مَسْأَلَةٌ أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ ثَمَنًا وَاحِدًا] (3240) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ ثَمَنًا وَاحِدًا، لَمْ يَجُزْ، حَتَّى يُبَيِّنَ ثَمَنَ كُلِّ جِنْسٍ) صُورَةُ ذَلِكَ أَنَّ يُسْلِمَ دِينَارًا وَاحِدًا فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ وَقَفِيزِ شَعِيرٍ، وَلَا يُبَيِّنَ ثَمَنَ الْحِنْطَةِ مِنْ الدِّينَارِ، وَلَا ثَمَنَ الشَّعِيرِ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ. وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ عَلَى جِنْسَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ، جَازَ عَلَيْهِمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَكَمَا لَوْ بَيَّنَ ثَمَنَ أَحَدِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّ مَا يُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَيْهِ مُفْرَدًا بِثَمَنِ مَجْهُولٍ. وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ الْفَسْخَ بِتَعَذُّرِ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَعْرِفُ بِمَ يَرْجِعُ؟ وَهَذَا غَرَرٌ أَثَّرَ مِثْلُهُ فِي السَّلَمِ. وَبِمِثْلِ هَذَا عَلَّلْنَا مَعْرِفَةَ صِفَةِ الثَّمَنِ وَقَدْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ثَمَّ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسْلِمَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إلَى أَجَلَيْنِ، وَلَا يُبَيِّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَذَا هَاهُنَا. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، حَتَّى يُبَيِّنَ حِصَّةَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ. وَالْأَوْلَى صِحَّةُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْهُمَا؛ إنْ تَعَذَّرَ النِّصْفُ رَجَعَ بِنِصْفِهِمَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْخُمْسُ رَجَعَ بِدِينَارِ وَعَشْرَةِ دَرَاهِمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 [مَسْأَلَةٌ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً] (3241) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً، فَجَائِزٌ) قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَدْفَعُ إلَى الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ فِي الشَّيْءِ يُؤْكَلُ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ السِّلْعَةِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: عَلَى مَعْنَى السَّلَمِ إذًا؟ فَقُلْت: نَعَمْ. قَالَ: لَا بَأْسَ. ثُمَّ قَالَ: مِثْلُ الرَّجُلِ الْقَصَّابِ، يُعْطِيه الدِّينَارَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رِطْلًا مِنْ لَحْمٍ قَدْ وَصَفَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ إلَى أَجَلَيْنِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ أَبْعَدَهُمَا أَجَلًا أَقَلُّ مِمَّا يُقَابِلُ الْآخَرَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ جَازَ فِي أَجَلٍ وَاحِدٍ، جَازَ فِي أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا قَبَضَ الْبَعْضَ وَتَعَذَّرَ قَبْضُ الْبَاقِي، فَفَسَخَ الْعَقْدَ، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يَجْعَلُ لِلْبَاقِي فَضْلًا عَنْ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَاحِدٌ مُتَمَاثِلُ الْأَجْزَاءِ، فَيُقَسِّطُ الثَّمَنَ عَلَى أَجْزَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ أَجَلُهُ. [مَسْأَلَةٌ أَحْضَرَ الْمُسْلِم فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَة] (3242) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَمُ فِيهِ، كَالْحَدِيدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وَالرَّصَاصِ، وَمَا لَا يَفْسُدُ، وَلَا يَخْتَلِفُ قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَبْضُهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ) يَعْنِي بِالسَّلَمِ: الْمُسْلَمَ فِيهِ، بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُسَمَّى الْمَسْرُوقُ سَرِقَةً وَالْمَرْهُونُ رَهْنًا. قَالَ إبْرَاهِيمُ: خُذْ سَلَمَك أَوْ دُونَ سَلَمَك، وَلَا تَأْخُذْ فَوْقَ سَلَمَك. وَمَتَى أَحْضَرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُحْضِرَهُ فِي مَحِلِّهِ، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِحَقِّهِ فِي مَحَلِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنْ أَبَى، قِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْبِضَ حَقَّك، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْهُ. فَإِنْ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِلْمُسْلِمِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ بِوِلَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ، فَيُنْظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي قَبْضِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ ضَرَرٌ، إمَّا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، كَالْفَاكِهَةِ وَالْأَطْعِمَةِ كُلِّهَا، أَوْ كَانَ قَدِيمُهُ دُونَ حَدِيثِهِ، كَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِهِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْلِهِ أَوْ إطْعَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَهُ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. وَهَكَذَا إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى مُؤْنَةٍ، كَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى نَهْبَ مَا يَقْبِضُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَحِلُّ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ صِفَةٍ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ، بِأَنْ يَكُونَ لَا يَتَغَيَّرُ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الزَّيْتُ وَالْعَسَلُ، وَلَا فِي قَبْضِهِ ضَرَرُ الْخَوْفِ، وَلَا تَحَمُّلُ مُؤْنَةٍ، فَعَلَيْهِ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ حَاصِلٌ مَعَ زِيَادَةِ تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ، فَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةِ الصِّفَةِ وَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يُحْضِرَهُ بَعْدَ مَحَلِّ الْوُجُوبِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَحْضَرَ الْمَبِيعَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا. [فَصْلٌ أَحْضُرَ الْمُسْلِم فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ] (3243) فَصْلٌ: وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْضِرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ، أَوْ دُونَهَا، أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا. فَإِنْ أَحْضَرَهُ عَلَى صِفَتِهِ، لَزِمَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ. وَإِنْ أَتَى بِهِ دُونَ صِفَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ حَقِّهِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دُونَ حَقِّهِ، وَيَزِيدَهُ شَيْئًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ صِفَةَ الْجَوْدَةِ بِالْبَيْعِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَبَيْعُ وَصْفِهِ أَوْلَى. الثَّالِثُ، أَنْ يُحْضِرَهُ أَجْوَدَ مِنْ الْمَوْصُوفِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ أَتَاهُ بِهِ مِنْ نَوْعِهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَزِيَادَةً تَابِعَةً لَهُ، فَيَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ، إذْ لَا يَفُوتُهُ غَرَضٌ. فَإِنْ أَتَاهُ بِهِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا وَصَفَاهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَاهَا، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ النَّوْعَ صِفَةٌ، وَقَدْ فَاتَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَات. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ. وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْآخَرُ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ، فَوَّتَ عَلَيْهِ الْغَرَضَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ النَّوْعِ بَدَلًا عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَجَازَ أَخْذُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ لُزُومَ أَخْذِهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا تَأْخُذْ فَوْقَ سَلَمَك فِي كَيْلٍ وَلَا صِفَةٍ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ، أَوْ الْجَيِّدِ مَكَانَ الرَّدِيءِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَخْذُ الرَّدِيءِ، وَيَجُوزُ أَخْذُهُ. وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ النَّوْعِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا صِفَةُ الْجَوْدَةِ، وَقَدْ سَمَحَ بِهَا صَاحِبُهَا. [فَصْلٌ جَاءَهُ بِالْأَجْوَدِ فَقَالَ خُذْهُ وَزِدْنِي دِرْهَمًا] (3244) فَصْلٌ: إذَا جَاءَهُ بِالْأَجْوَدِ، فَقَالَ: خُذْهُ، وَزِدْنِي دِرْهَمًا. لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي عَشَرَةٍ فَجَاءَهُ بِأَحَدِ عَشَرِ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَوْدَةَ صِفَةٌ، فَلَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَإِنْ جَاءَهُ بِزِيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، فَقَالَ: خُذْهُ، وَزِدْنِي دِرْهَمًا. فَفَعَلَا، صَحَّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 [فَصْلٌ سَلَّمَ إلَيْهِ مَا تَنَاوَلَهُ عَقْد السَّلَم] (3245) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَقَلُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمَ إلَيْهِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْحِنْطَةَ نَقِيَّةً مِنْ التِّبْنِ وَالْقَصْلِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْحِنْطَةِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ تُرَابٌ كَثِيرٌ يَأْخُذُ مَوْضِعًا مِنْ الْمِكْيَالِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمِكْيَالِ وَلَا يَعِيبُهَا، لَزِمَهُ أَخْذُهُ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ التَّمْرِ إلَّا جَافًّا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَنَاهَى جَفَافُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْبَلَ مَعِيبًا بِحَالِ، وَمَتَى قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ أَوْ الْأَرْشِ، كَالْمَبِيعِ سَوَاءً. [فَصْلٌ لَا يَقْبِضُ الْمَكِيل إلَّا بِالْكَيْلِ وَلَا الْمَوْزُون إلَّا بِالْوَزْنِ] (3246) فَصْلٌ: وَلَا يَقْبِضُ الْمَكِيلَ إلَّا بِالْكَيْلِ، وَلَا الْمَوْزُونَ إلَّا بِالْوَزْنِ، وَلَا يَقْبِضُهُ جُزَافًا، وَلَا بِغَيْرِ مَا يُقَدَّرُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يَخْتَلِفَانِ، فَإِنْ قَبَضَهُ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَقَبْضِهِ جُزَافًا، فَيُقَدِّرُهُ بِمَا أَسْلَمَ فِيهِ، وَيَأْخُذُ قَدْرَ حَقِّهِ، وَيَرُدُّ الْبَاقِي، وَيُطَالِبُ بِالْعِوَضِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي قَدْرِ حَقِّهِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَعْتَبِرَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، مَضَى ذِكْرُهُمَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُسْلِمُ إلَيْهِ مِلْءَ الْمِكْيَالِ وَمَا يَحْمِلُهُ، وَلَا يَكُونُ مَمْسُوحًا، وَلَا يَدُقُّ وَلَا يَهُزُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَسْلَمْت إلَيْك فِي قَفِيزٍ. يَقْتَضِي مَا يَسَعُهُ الْمِكْيَالُ وَمَا يَحْمِلُهُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ الرَّهْن وَالضَّمِينِ فِي السَّلَم] (3247) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا، وَلَا كَفِيلًا مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ، فَرَوَى الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو طَالِبٍ، مَنْعَ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ. وَرُوِيَتْ كَرَاهَة ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَرَوَى حَنْبَلٌ جَوَازَهُ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] . إلَى قَوْله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّلَم. وَلِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، فَيَدْخُلُ السَّلَمُ فِي عُمُومِهِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْهُ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الرَّاهِنَ وَالضَّمِينَ إنْ أَخَذَا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، فَقَدْ أَخَذَا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، فَالرَّهْنُ إنَّمَا يَجُوزُ بِشَيْءِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ، وَلَا مِنْ ذِمَّةِ الضَّامِنِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ بِعُدْوَانٍ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ يُقِيمُ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مُقَامَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْعِوَضِ وَالْبَدَلِ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. [فَصْلٌ أَخَذَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا بِالْمُسْلِمِ فِيهِ] (3248) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَذَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، ثُمَّ تَقَايَلَا السَّلَمَ، أَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِزَوَالِ الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ، وَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي الْحَالِ. وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ أَلْفًا، وَأَخَذَ بِهِ رَهْنًا، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى طَعَامٍ مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ، وَزَالَ الرَّهْنُ، لِزَوَالِ دَيْنِهِ مِنْ الذِّمَّةِ، وَبَقِيَ الطَّعَامُ فِي الذِّمَّةِ، وَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ، كَيْ لَا يَكُونَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ الصُّلْحُ، وَرَجَعَ الْأَلْفُ إلَى ذِمَّته بِرَهْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ ثُمَّ عَادَ خَلًّا. وَهَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَنْ الدَّرَاهِمِ بِدَنَانِيرَ فِي ذِمَّتِهِ، فَالْحُكْمُ مِثْلُ مَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [فَصْلٌ ضَمَان السَّلَم] (3249) فَصْلٌ: وَإِذَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ ضَمَانِ السَّلَمِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَيُّهُمَا قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مِنْهُ. فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ إلَى الضَّامِنِ لِيَدْفَعَهُ إلَى الْمُسْلِمِ، جَازَ، وَكَانَ وَكِيلًا. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ عَنْ الَّذِي ضَمِنْت عَنِّي. لَمْ يَصِحَّ، وَكَانَ قَبْضًا فَاسِدًا مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَخْذَ بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ إلَى الْمُسْلِمِ، بَرِئَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهِ مَا سَلَّطَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ صَالَحَ الْمُسْلِمُ الضَّامِنَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِثَمَنِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا إقَالَةٌ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ. وَإِنْ صَالَحَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِثَمَنِهِ صَحَّ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ هَذَا إقَالَةٌ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. [فَصْلٌ مَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ فِي السَّلَم] (3250) فَصْلٌ: وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ، كُلُّ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ، كَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ، وَالْمَهْرِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَالْقَرْضِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ، وَلَا مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ، كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهَا إلَى الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ جُنُّوا أَوْ افْتَقَرُوا أَوْ مَاتُوا، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَصِحَّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا. فَأَمَّا بَعْدَ الْحَوْلِ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ أَخْذَ الرَّهْنِ بِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْيَسَارِ وَالْعَقْلِ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِالْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ؛ لِأَنَّ مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ وَاللُّزُومِ، فَأَشْبَهَتْ أَثْمَانَ الْبِيَاعَاتِ. وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 إفْضَاءَهَا إلَى الْوُجُوبِ مُحْتَمِلٌ؛ فَأَشْبَهَتْ الدِّيَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ فَإِنَّ لِلْعَبْدِ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ مِنْ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ صَارَ الرَّهْنُ لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِ الْمُكَاتَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ: وَلَنَا، أَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَضَمَانِ الْخَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضِ الْمُسَابَقَةِ؛ لِأَنَّهَا جُعَلَةٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ إفْضَاؤُهَا إلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ، إنَّمَا يَثْبُتُ بِسَبْقِ غَيْرِ الْمُخْرِجِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مَظْنُونٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِيهَا وَجْهَانِ، هَلْ هِيَ إجَارَةٌ أَوْ جَعَالَةٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ إجَارَةٌ. جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَلِّلٌ فَهِيَ جَعَالَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُحَلِّلٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَهَذَا كُلُّهُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ لَيْسَ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ مَسْبُوقًا. وَقَدْ عَمِلَ الْعَمَلَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ السَّبْقِ، وَلَا تُعْلَمُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْجَاعِلِ فِيهِ، وَلَا هُوَ مُرَادٌ لَهُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ إجَارَةً مَعَ عَدَمِ الْمُحَلِّلِ، فَمَعَ وُجُودِهِ أَوْلَى، لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْجَعْلِ هُوَ السَّابِقُ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ إجَارَةً لَكَانَ عِوَضُهَا غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْوُجُوبِ وَلَا يُظَنُّ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ كَالْجَعْلِ فِي رَدِّ الْآبِقِ وَاللَّقْطِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضٍ غَيْرِ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، كَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، وَالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ إذَا كَانَ مَنَافِعُ مُعَيَّنَةٌ، مِثْلُ إجَارَةِ الدَّارِ، وَالْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ، وَالْجَمَلِ الْمُعَيَّنِ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، أَوْ لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَا بِالذِّمَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ. وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةَ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وَبِنَاءِ دَارٍ، جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ ثَمَنِهِ مَنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ، كَالدَّيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا قُلْنَا. [فَصْلٌ الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ] (3251) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ، كَالْمَغْصُوبِ، وَالْعَوَارِيّ، وَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ إنْ رَهَنَهُ عَلَى قِيمَتِهَا إذَا تَلِفَتْ، فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْوُجُوبِ. وَإِنْ أَخَذَ الرَّهْنَ عَلَى عَيْنِهَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ عَيْنِهَا مِنْ الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَ أَثْمَانَ الْبِيَاعَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ. وَالثَّانِي يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: كُلُّ عَيْنٍ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا. يُرِيدُ مَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ كَالْمَبِيعِ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِفَسَادِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ، وَهَذَا حَاصِلٌ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ يَحْمِلُ الرَّاهِنَ عَلَى أَدَائِهَا. وَإِنْ تَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا، اسْتَوْفَى بَدَلَهَا مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَتْ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ. [فَصْلٌ مَا جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ جَازَ أَخْذُ الضَّمِينِ بِهِ] (3252) فَصْلٌ قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ، جَازَ أَخْذُ الضَّمِينِ بِهِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ بِهِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الضَّمِينِ بِهِ، إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ؛ عُهْدَةُ الْمَبِيعِ يَصِحُّ ضَمَانُهَا وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا، وَالْكِتَابَةُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِدَيْنِهَا، وَفِي ضَمَانِهَا رِوَايَتَانِ، وَمَا لَمْ يَجِبْ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ وَيَصِحُّ ضَمَانُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدِهِمَا، أَنَّ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُبْطِلُ الْإِرْفَاقَ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ، وَدَفَعَ رَهْنًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَكَأَنَّهُ مَا قَبَضَ الثَّمَنَ، وَلَا ارْتَفَقَ بِهِ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا دَفَعَ مَا يُسَاوِي كِتَابَتَهُ، فَمَا ارْتَفَقَ بِالْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ بَيْعُ الرَّهْنِ أَوْ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ، وَيَسْتَرِيحُ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ عَبْدِهِ، وَالضَّمَانُ بِخِلَافِ هَذَا. الثَّانِي أَنَّ ضَرَرَ الرَّهْنِ يَعُمُّ؛ لِأَنَّهُ يَدُومُ بَقَاؤُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَيَمْنَعُ. الْبَائِعَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَالضَّمَانُ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُ وَالْمُسْلِم إلَيْهِ فِي حُلُولِ الْأَجَلِ] (3253) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ، فِي حُلُولِ الْأَجَلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَدَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ. وَقَالَ الْآخَرُ: بَعْدَهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ سَلَامَةَ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمُوجَبِ دَعْوَاهُ، قُدِّمَتْ أَيْضًا بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ. [بَابُ الْقَرْضِ] ِ وَالْقَرْضُ نَوْعٌ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أَبُو رَافِعٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبِلُ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ. فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رُبَاعِيًّا. فَقَالَ: أَعْطِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ. إلَّا كَانَ كَصَدَقَةِ مَرَّةٍ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشْرَ. فَقُلْت: يَا جِبْرِيلُ، مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ . قَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ.» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ.، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ. [فَصْلٌ الْقَرْضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ] (3254) فَصْلٌ: وَالْقَرْضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَشَفَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» . وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: " لَأَنْ أُقْرِضَ دِينَارَيْنِ ثُمَّ يُرَدَّانِ، ثُمَّ أُقْرِضَهُمَا، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنَّ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا. وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيجًا عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَضَاءً لِحَاجَتِهِ، وَعَوْنًا لَهُ، فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ، كَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ. قَالَ أَحْمَدُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ سُئِلَ الْقَرْضَ فَلَمْ يُقْرِضْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ، فَأَشْبَهَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وَلَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ الْقَرْضُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ. يَعْنِي لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَقْرِضُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِعِوَضِهِ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ بِدَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا أُحِبُّ أَنْ يَتَحَمَّلَ بِأَمَانَتِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. يَعْنِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ، فَلْيُعْلِمْ مَنْ يَسْأَلُهُ الْقَرْضَ بِحَالِهِ، وَلَا يَغُرُّهُ مِنْ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَتَعَذَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اقْتَرَضَ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِحَالِهِ، لَمْ يُعْجِبْنِي. وَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ بِجَاهِهِ لِإِخْوَانِهِ. قَالَ الْقَاضِي: يُعْنَى إذَا كَانَ مَنْ يَقْتَرِضُ لَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَفَاءِ؛ لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الْمُقْرِضِ، وَإِضْرَارًا بِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْوَفَاءِ، لَمْ يُكْرَهْ؛ لِكَوْنِهِ إعَانَةً لَهُ، وَتَفْرِيجًا لِكُرْبَتِهِ. [فَصْلٌ الْقَرْض لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ] (3255) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ. وَحُكْمُهُ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكْمُ الْبَيْعِ، عَلَى مَا مَضَى. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ السَّلَفِ وَالْقَرْضِ؛ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِمَا، وَبِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَلَّكْتُك هَذَا، عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَى بَدَلَهُ. أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ الْقَرْضِ. فَإِنْ قَالَ: مَلَّكْتُك. وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ، وَلَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهُوَ هِبَةٌ. فَإِنْ اخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هِبَةٌ. [فَصْلٌ الْقَرْض لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ] (3256) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ مَا؛ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةِ أَنَّ الْحَظَّ لِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ، وَالْمُقْتَرِضُ مَتَى شَاءَ رَدَّهُ، فَيَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ. وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 وَهُوَ عَقَدَ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِهِ مَلَكَ أَخْذَهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِعِوَضٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ، وَيُفَارِقُ الْمَغْصُوبَ، وَالْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا الْمُقْتَرِضُ، فَلَهُ رَدُّ مَا اقْتَرَضَهُ عَلَى الْمُقْرِضِ، إذَا كَانَ عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَنْقُصْ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَكَمَا لَوْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقْتَرِضَ قَبُولُ مَا لَيْسَ بِمِثْلِي؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهِ يُوجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَرُدَّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ كَالْمَبِيعِ. [فَصْلٌ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَة بِبَدَلِهِ فِي الْحَال] (3257) فَصْلٌ: وَلِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَأَوْجَبَهُ حَالَّا كَالْإِتْلَافِ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ تَفَارِيقَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً؛ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ حَالٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا حَالَّةً، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً. وَإِنْ أَجَّلَ الْقَرْضَ، لَمْ يَتَأَجَّلْ، وَكَانَ حَالًّا. وَكُلُّ دَيْنٍ حَلَّ أَجَلُهُ، لَمْ يَصِرْ مُؤَجَّلًا بِتَأْجِيلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَتَأَجَّلُ الْجَمِيعُ بِالتَّأْجِيلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ وَالْإِمْضَاءِ؛ فَمَلَكَا الزِّيَادَةَ فِيهِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَرْضِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ كَقَوْلِنَا، وَفِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ كَقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَقْتَضِي جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ، وَالْقَرْضُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي عِوَضِهِ، وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ الْوَاجِبِ فِيهِ الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَأَجَّلْ، وَبَقِيَّةُ الْأَعْوَاضِ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهَا، فَجَازَ تَأْجِيلُهَا. وَلَنَا، أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ، حَالًّا، وَالتَّأْجِيلَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَوَعْدٌ، فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْطِ، وَلَوْ سُمِّيَ، فَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالْعَارِيَّةِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَلَنَا، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا زِيَادَةٌ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ، وَأَمَّا الْإِقَالَةُ: فَهِيَ فَسْخٌ، وَابْتِدَاءُ عَقْدٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ الْقَبْضُ لِمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، وَالتَّعَيُّنُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ. [فَصْلٌ قَرْضُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ] (3258) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَاضَ مَالَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُون وَالْأَطْعِمَةِ جَائِزٌ. وَيَجُوزُ قَرْضُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 كُلِّ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا، سِوَى بَنِي آدَمَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ قَرْضٌ غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، أَشْبَهَ الْجَوَاهِرَ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ بَكْرًا، وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ» . وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ سَلَمًا، يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ، فَجَازَ قَرْضُهُ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا مِثْلَ لَهُ. خِلَافُ أَصْلِهِمْ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَوْ أَتْلَفَ عَلَى رَجُلٍ ثَوْبًا، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهُ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. فَأُمًّا مَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا، كَالْجَوَاهِرِ وَشَبَهِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ فِيهَا قَرْضُهَا، وَيَرُدُّ الْمُسْتَقْرِضُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، وَالْجَوَاهِرُ كَغَيْرِهَا فِي الْقِيَمِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ قَرْضُهَا، لِأَنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْلِ، وَهَذِهِ لَا مِثْلَ لَهَا. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ قَرْضُهَا، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى مَا نُقِلَ الْقَرْضُ فِيهِ، لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَرَافِقِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهَا عَلَى الْمَنْعِ. وَيُمْكِنُ بِنَاءُ هَذَا الْخِلَافِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَاجِبِ فِي بَدَلِ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ. لَمْ يَجُزْ قَرْضُ الْجَوَاهِرِ وَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا، لِتَعَذُّرِ رَدِّ مِثْلِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ. جَازَ قَرْضُهُ؛ لِإِمْكَانِ رَدِّ الْقِيمَةِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ قَرْض بَنَى آدَم مَكْرُوه] (3259) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَنُو آدَمَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ قَرْضَهُمْ. فَيَحْتَمِلُ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ، وَيَصِحُّ قَرْضُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجِ، وَالْمَزْنِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا، فَصَحَّ قَرْضُهُ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، فَلَا يَصِحُّ قَرْضُهُمْ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ قَرْضُهُمْ، وَلَا هُوَ مِنْ الْمَرَافِقِ. وَيَحْتَمِلُ صِحَّةَ قَرْضِ الْعَبِيدِ دُونَ الْإِمَاء. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنْ يُقْرِضَهُنَّ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِنَّ، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْقَرْضِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ، فَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ، كَالْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَإِذَا لَمْ يُبَحْ الْوَطْءُ لَمْ يَصِحَّ الْقَرْضُ، لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ، وَلِأَنَّ الْأَبْضَاعَ مِمَّا يُحْتَاطُ لَهَا، وَلَوْ أَبَحْنَا قَرْضَهُنَّ، أَفْضَى إلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَقْرِضُ أَمَةً، فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا مِنْ يَوْمِهِ، وَمَتَى احْتَاجَ إلَى وَطْئِهَا، اسْتَقْرَضَهَا فَوَطِئَهَا ثُمَّ رَدَّهَا، كَمَا يَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَلَا نُسَلِّمُ ضِعْفَ الْمِلْكِ؛ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَقَوْلُهُمْ: مَتَى شَاءَ الْمُقْتَرِضُ رَدَّهَا. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّنَا إذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ. لَمْ يَمْلِكْ الْمُقْتَرِضُ رَدَّ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ قِيمَتَهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ مَتَى قَصَدَ الْمُقْتَرِضُ هَذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِرَاضُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً لِيَطَأَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا بِالْمُقَابَلَةِ أَوْ بِعَيْبٍ فِيهَا، وَإِنْ وَقَعَ هَذَا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، لَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِهَا، ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَرْضَ ضَعِيفٌ لَا يُبِيحُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 الْوَطْءَ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فِي الْجَوَارِي، كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَعَدَمُ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ لَيْسَ بِشَيْءِ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوَاضِعِهِ. وَعَدَمُ نَقْلِهِ لَيْسَ بِحَجَّةِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَيَوَانَاتِ لَمْ يُنْقَلْ قَرْضُهَا، وَهُوَ جَائِزٌ. [فَصْلٌ اقْتَرَضَ دَرَاهِم أَوْ دَنَانِير غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْن] (3260) فَصْلٌ: وَإِذَا اقْتَرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهَا يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ الْمِثْلُ لَمْ يُمْكِنْ الْقَضَاءُ. وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَرَضَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا جُزَافًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِذَلِكَ. وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ صَنْجَةٍ بِعَيْنِهَا، غَيْرِ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَ ذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرَ رَدُّ الْمِثْلِ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي مَاءٍ بَيْنَ قَوْمٍ، لَهُمْ نُوَبٌ فِي أَيَّامٍ مُسَمَّاةٍ، فَاحْتَاجَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنْ يَسْتَقِيَ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهِ، فَاسْتَقْرَضَ مِنْ نَوْبَةِ غَيْرِهِ، لِيَرُدَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ فِي يَوْمِ نَوْبَتِهِ: فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَرِهْته. فَكَرِهَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ مِثْلِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ يَتَعَامَلُ بِهَا عَدَدًا، فَاسْتَقْرَضَ عَدَدًا، رَدَّ عَدَدًا. وَإِنْ اسْتَقْرَضَ وَزْنًا. رَدَّ وَزْنًا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَاسْتَقْرَضَ أَيُّوبُ مِنْ حَمَّادِ بْن زَيْدٍ دَرَاهِمَ بِمَكَّةَ عَدَدًا، وَأَعْطَاهُ بِالْبَصْرَةِ عَدَدًا، لِأَنَّهُ وَفَّاهُ مِثْلَمَا اقْتَرَضَ فِيمَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا وَزْنًا. فَرَدَّ وَزْنًا. [فَصْلٌ رَدُّ الْمِثْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ] (3261) فَصْلٌ: وَيَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا، مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّفَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَأَنَّ لِلْمُسَلِّفِ أَخْذَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِمِثْلِهِ. فَكَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، فَيَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ، كَحَالِ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ. وَالثَّانِي، يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَرَدَّ مِثْلَهُ.» وَيُخَالِفُ الْإِتْلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا مُسَامَحَةَ فِيهِ، فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ، لِأَنَّهَا أُحْصَرُ، وَالْقَرْضُ أَسْهَلُ، وَلِهَذَا جَازَتْ النَّسِيئَةُ فِيهِ فِيمَا فِيهِ الرِّبَا، وَيَعْتَبِرُ مِثْلَ صِفَاتِهِ تَقْرِيبًا، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْمِثْلِ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ حِينَئِذٍ. وَإِذَا قُلْنَا: تَجِبُ الْقِيمَةُ. وَجَبَتْ حِينَ الْقَرْضِ. لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ. [فَصْلٌ قَرْضُ الْخُبْزِ] (3262) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْخُبْزِ. وَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو قِلَابَةَ وَمَالِكٌ. وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَوْزُونٌ، فَجَازَ قَرْضُهُ، كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ. وَإِذَا أَقْرَضَهُ بِالْوَزْنِ، وَرَدَّ مِثْلَهُ بِالْوَزْنِ، جَازَ. وَإِنْ أَخَذَهُ عَدَدًا، فَرَدَّهُ عَدَدًا، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَوْزُونَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إذَا كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْوَزْنِ، وَالْوَزْنُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَوَجْهُ الْجَوَازِ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الْجِيرَانَ يَسْتَقْرِضُونَ الْخُبْزَ وَالْخَمِيرَ، وَيَرُدُّونَ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا. فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إنَّ ذَلِكَ مِنْ مَرَافِقِ النَّاسِ، لَا يُرَادُ بِهِ الْفَضْلُ» . ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " الشَّافِي " بِإِسْنَادِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اسْتِقْرَاضِ الْخُبْزِ وَالْخَمِيرِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إنَّمَا هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَخُذْ الْكَبِيرَ وَأَعْطِ الصَّغِيرَ، وَخُذْ الصَّغِيرَ وَأَعْطِ الْكَبِيرَ، خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً. سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ» . وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَيَشُقُّ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ فِيهِ، وَتَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ، فَجَازَ، كَدُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ، وَالرُّكُوبِ فِي سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا. فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْرَضَهُ أَوْ أَجْوَدَ، أَوْ أَعْطَاهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ وَزَادَهُ كِسْرَةً، كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا. وَكَذَلِكَ إنْ أَقْرَضَهُ صَغِيرًا، قَصْدَ أَنَّ يُعْطِيَهُ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِمَشَقَّةِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، فَإِذَا قَصَدَ أَوْ شَرَطَ أَوْ أَفْرَدَتْ الزِّيَادَةُ، فَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَحُرِّمَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. [فَصْلٌ فِي قَرْضٍ شَرَطَ فِيهِ أَنَّ يَزِيدَهُ] (3263) فَصْلٌ: وَكُلُّ قَرْضٍ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَزِيدَهُ، فَهُوَ حَرَامٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّفَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رَبًّا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ، فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الزِّيَادَةَ أَخْرَجَهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ أَوْ فِي الصِّفَةِ، مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ مُكَسَّرَةً، لِيُعْطِيَهُ صِحَاحًا، أَوْ نَقْدًا، لِيُعْطِيَهُ خَيْرًا مِنْهُ. وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَكَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، جَازَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمَيْمُونُ بْنُ أَبِي شَبِيبٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهَا سَفْتَجَةً لَمْ يَجُزْ، وَمَعْنَاهُ: اشْتِرَاطُ الْقَضَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهَا؛ لِكَوْنِهَا مَصْلَحَةً لَهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُمْ بِهَا إلَى مُصْعَبِ بْن الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ. رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَح خَطَرَ الطَّرِيقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا مَضَرَّةَ فِيهَا، بَلْ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا. وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ أَنْ يُؤْجَرَهُ دَارِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا، أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُقْتَرَضُ مَرَّةً أُخْرَى، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ. وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الْآخَرُ دَارِهِ. وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُؤْجَرَهُ دَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارَ الْمُقْرِضِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا، كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ قَبْلَ الْوَفَاءِ، لَمْ يَقْبَلْهُ، وَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ، إلَّا أَنْ يُكَافِئَهُ، أَوْ يَحْسُبَهُ مِنْ دَيْنِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى سَمَّاكٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَجَعَلَ يُهْدِي إلَيْهِ السَّمَكَ وَيُقَوِّمُهُ حَتَّى بَلَغَ ثَلَاثَةَ عَشَرِ دِرْهَمًا، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَعْطِهِ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَهْدَى إلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَ مَنَعْت هَدِيَّتَنَا، ثُمَّ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ فَقَبِلَ. وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسِيرَ إلَى أَرْضِ الْجِهَادِ إلَى الْعِرَاقِ. فَقَالَ: إنَّك تَأْتِي أَرْضًا فَاشٍ فِيهَا الرِّبَا، فَإِنْ أَقْرَضْت رَجُلًا قَرْضًا، فَأَتَاك بِقَرْضِك وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ، فَاقْبِضْ قَرْضَك، وَارْدُدْ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَلَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ. وَذَكَرَ حَدِيثًا. وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ لِي: إنَّك بِأَرْضِ فِيهَا الرِّبَا فَاشٍ، فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَأَهْدَى إلَيْك حِمْلَ تِبْنٍ، أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ، أَوْ حِمْلَ قَتٍّ، فَلَا تَأْخُذْهُ، فَإِنَّهُ رَبًّا. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَلَوْ أَقْرَضَهُ قَرْضًا، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا، لَمْ يَكُنْ لِيَسْتَعْمِلهُ مِثْلَهُ قَبْلَ الْقَرْضِ، كَانَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً. وَلَوْ اسْتَضَافَ غَرِيمَهُ، وَلَمْ تَكُنْ الْعَادَةُ جَرَتْ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ، حَسَبِ لَهُ مَا أَكَلَهُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا، فَأَهْدَى إلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلَا يَرْكَبْهَا، وَلَا يَقْبَلْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» . وَهَذَا كُلُّهُ فِي مُدَّةِ الْقَرْضِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَهُوَ كَالزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أُقْرِضَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْر شَرْط فَقَضَاهُ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْقَدْر أَوْ الصُّفَّة أَوْ دُونَهُ بِرِضَاهُمَا] (3264) فَصْلٌ: فَإِنْ أَقْرَضَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَقَضَاهُ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْقَدْرِ، أَوْ الصِّفَةِ، أَوْ دُونَهُ، بِرِضَاهُمَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 جَازَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ لَهُ بِهَا سَفْتَجَةً، أَوْ قَضَاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، جَازَ. وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ قَضَاهُ خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ زَادَهُ زِيَادَةً بَعْدَ الْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسِ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ يَأْخُذُ مِثْلَ قَرْضِهِ، وَلَا يَأْخُذُ فَضْلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ فَضْلًا كَانَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ بَكْرًا، فَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ. وَقَالَ: «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ، وَلَا وَسِيلَةً إلَيْهِ، وَلَا إلَى اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَحَلَّتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرْضٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إذَا زَادَهُ بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَعَادَ الْمُسْتَقْرِضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مِنْهُ قَرْضًا ثَانِيًا، فَفَعَلَ، لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ إلَّا مِثْلَ مَا أَعْطَاهُ، فَإِنْ أَخَذَ زِيَادَةً، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَعْطَاهُ، كَانَ حَرَامًا، قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، لَمْ يُكْرَهْ إقْرَاضُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي حُسْنِ عَادَتِهِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، فَهَلْ يَسُوغُ لَأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ إقْرَاضَهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ خَيْرُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ. وَلَوْ أَقْرَضَهُ مُكَسَّرَةً، فَجَاءَهُ مَكَانَهَا بِصِحَاحِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، جَازَ. وَإِنْ جَاءَهُ بِصِحَاحٍ أَقَلَّ مِنْهَا، فَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ، لَمْ يَجُزْ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ لِلنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْهُ، فَكَانَ رَبًّا. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي الْقَرْض أَنْ يُوفِيه أَنْقُص مِمَّا أُقْرِضَهُ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرَّبَّا] فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ أَنْ يُوَفِّيَهُ أَنْقَصَ مِمَّا أَقْرَضَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى فَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هِيَ شَرْطٌ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ جُعِلَ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْتَقْرِضِ، وَشَرْطُ النُّقْصَانِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي الْمِثْلَ، فَشَرْطُ النُّقْصَانِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ. فَلَمْ يَجُزْ، كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ. [فَصْلٌ اقْتَرِضْ مِنْ رَجُل نِصْف دِينَار فَدَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا صَحِيحًا وَقَالَ نِصْفه قَضَاء وَنِصْفه وَدِيعَة عِنْدَك] (3266) فَصْلٌ: وَلَوْ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا صَحِيحًا، وَقَالَ: نِصْفُهُ قَضَاءٌ، وَنِصْفُهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَك، أَوْ سَلَمًا فِي شَيْءٍ، صَحَّ. وَإِنْ امْتَنَعَ الْمُقْرِضُ مِنْ قَبُولِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرِكَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 ضَرَرًا. وَلَوْ اشْتَرَى بِالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الدِّينَارِ سِلْعَةً، جَازَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ مُشَارَطَةٍ، فَقَالَ: أَقْضِيك صَحِيحًا بِشَرْطِ أَنِّي آخُذُ مِنْك بِنِصْفِهِ الْبَاقِي قَمِيصًا. فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ صَحِيحًا إلَّا لِيُعْطِيَهُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي فَضْلَ مَا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَكْسُورِ مِنْ النِّصْفِ الْمَقْضِيِّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، جَازَ. فَإِنْ تَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، جَازَ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى كَسْرِهِ، كَسَرَاهُ. فَإِنْ اخْتَلَفَا، لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا عَلَى كَسْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ قِيمَتَهُ. [فَصَلِّ أفلس غَرِيمه فَأُقْرِضَهُ أَلْفًا لِيُوفِيَهُ كُلَّ شَهْرٍ شَيْئًا مَعْلُومًا] (3267) فَصْلٌ: وَلَوْ أَفْلَسَ غَرِيمُهُ، فَأَقْرَضَهُ أَلْفًا، لِيُوَفِّيَهُ كُلَّ شَهْرٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا انْتَفَعَ بِاسْتِيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ. فَأَقْرَضَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ حِنْطَةً يُوَفِّيه إيَّاهَا، لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا؛ لِذَلِكَ. وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْعَثَ إلَى عِيَالِهِ نَفَقَةً، فَأَقْرَضَهَا رَجُلًا، عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى عِيَالِهِ. فَلَا بَأْسَ، إذَا لَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهَا شَيْئًا. وَلَوْ أَقْرَضَ أَكَّارَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ بَقَرًا يَعْمَلُ عَلَيْهَا فِي أَرْضِهِ، أَوْ بَذْرًا يَبْذُرُهُ فِيهَا، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْقَرْضِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ شَرْطَ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَقْرِضْنِي أَلْفًا، وَادْفَعْ إلَى أَرْضَك أَزْرَعْهَا بِالثُّلُثِ. كَانَ خَبِيثًا. وَالْأَوْلَى جَوَازُ ذَلِكَ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَالْمُسْتَقْرِضُ إنَّمَا يَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ انْتِفَاعُ الْمُقْرِضِ ضِمْنًا، فَأَشْبَهَ أَخْذَ السَّفْتَجَةَ بِهِ، وَإِيفَاءَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَلِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ اقْتَرِضْ مِنْ رَجُل دَرَاهِم وَابْتَاعَ بِهَا مِنْهُ شَيْئًا فَخَرَجَتْ زُيُوفًا] (3268) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ، وَابْتَاعَ بِهَا مِنْهُ شَيْئًا، فَخَرَجَتْ زُيُوفًا: فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ. يَعْنِي لَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِبَدَلِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُهُ، فَعَيْبُهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَدَلُ مَا أَقْرَضَهُ إيَّاهُ بِصِفَتِهِ زُيُوفًا. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ فِيمَا إذَا بَاعَهُ السِّلْعَةَ بِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ عَيْبَهَا؛ فَأَمَّا إنْ بَاعَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ قَبَضَ هَذِهِ بَدَلًا عَنْهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لَهُ دَرَاهِمُ خَالِيَةٌ مِنْ الْعَيْبِ، وَيَرُدَّ هَذِهِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهَا عَلَى الْبَائِعِ، وَفَاءً عَنْ الْقَرْضِ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ حَسَبَهَا عَلَى الْبَائِعِ وَفَاءً عَنْ الْقَرْضِ، وَوَفَّاهُ الثَّمَنَ جَيِّدًا، جَازَ. قَالَ: وَلَوْ أَقْرَضَ رَجُلًا دَرَاهِمَ، وَقَالَ: إذَا مِتّ فَأَنْتِ فِي حِلٍّ. كَانَتْ وَصِيَّةً. وَإِنْ قَالَ: إنْ مِتّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ. لَمْ يَصِحَّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشُّرُوطِ، وَالْأَوَّلُ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى مَوْتِ نَفْسِهِ، وَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ. قَالَ: وَلَوْ أَقْرَضَهُ تِسْعِينَ دِينَارًا بِمِائَةٍ عَدَدًا وَالْوَزْنُ وَاحِدٌ، وَكَانَتْ لَا تُنْفَقُ فِي مَكَان إلَّا بِالْوَزْنِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَتْ تُنْفَقُ بِرُءُوسِهَا، فَلَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُنْفَقُ فِي مَكَان بِرُءُوسِهَا، كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً، لِأَنَّ التِّسْعِينَ مِنْ الْمِائَةِ تَقُومُ مَقَامَ التِّسْعِينَ الَّتِي أَقْرَضَهُ إيَّاهَا، وَيَسْتَفْضِلُ عَشَرَةً، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تُنْفَقُ إلَّا بِالْوَزْنِ، فَلَا زِيَادَةَ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهَا. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 اقْتَرِضْ لِي مِنْ فُلَانٍ مِائَةً، وَلَك عَشَرَةٌ. فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ قَالَ: اُكْفُلْ عَنِّي وَلَك أَلْفٌ. لَمْ يَجُزْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اقْتَرِضْ لِي وَلَك عَشْرَةٌ. جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَجَازَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَك عَشْرَةٌ. وَأَمَّا الْكَفَالَةُ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، فَإِذَا أَدَّاهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَصَارَ كَالْقَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا صَارَ الْقَرْضُ جَارًّا لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ. [فَصْلٌ كَانَ الْقَرْض فُلُوسًا أَوْ مُكَسَّرَة فَحَرَّمَهَا السُّلْطَان وَتَرَكَتْ الْمُعَامَلَة بِهَا] (3269) فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَرُدُّ الْمِثْلَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، سَوَاءٌ رَخُصَ سِعْرُهُ أَوْ غَلَا، أَوْ كَانَ بِحَالِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا أَقْرَضَهُ مَوْجُودًا بِعَيْنِهِ، فَرَدَّهُ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ يَحْدُثُ فِيهِ، لَزِمَ قَبُولُهُ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ. وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ فُلُوسًا أَوْ مُكَسَّرَةً، فَحَرَّمَهَا السُّلْطَانُ، وَتَرَكَتْ الْمُعَامَلَةُ بِهَا، كَانَ لِلْمُقْرِضِ قِيمَتُهَا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي مِلْكِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُكَسَّرَةِ، وَقَالَ: يُقَوِّمُهَا كَمْ تُسَاوِي يَوْمَ أَخَذَهَا؟ ثُمَّ يُعْطِيه، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهَا، فَأَمَّا إنْ تَعَامَلُوا بِهَا مَعَ تَحْرِيمِ السُّلْطَانِ لَهَا، لَزِمَ أَخْذُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ إلَّا مِثْلُ مَا أَقْرَضَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ حَدَثَ فِيهَا، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ سِعْرِهَا. وَلَنَا أَنَّ تَحْرِيمَ السُّلْطَانِ لَهَا مَنْعُ إنْفَاقِهَا، وَإِبْطَالُ مَالِيَّتِهَا، فَأَشْبَهَ كَسْرَهَا، أَوْ تَلَفَ أَجْزَائِهَا، وَأَمَّا رُخْصُ السِّعْرِ فَلَا يَمْنَعُ رَدَّهَا، سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا، مِثْلَ إنْ كَانَتْ عَشَرَةً بِدَانِقٍ، فَصَارَتْ عِشْرِينَ بِدَانِقٍ، أَوْ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا شَيْءٌ، إنَّمَا تَغَيَّرَ السِّعْرُ، فَأَشْبَهَ الْحِنْطَةَ إذَا رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ. [فَصْلٌ أُقْرِضَهُ مَا لَحَمَلَهُ مُؤْنَة ثُمَّ طَالِبه بِمِثْلِهِ بِبَلَدِ آخَر] (3270) فَصْلٌ وَإِذَا أَقْرَضَهُ مَا لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِمِثْلِهِ بِبَلَدٍ آخَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَمْلُهُ لَهُ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ. فَإِنْ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤْنَةَ لِحَمْلِهَا. فَإِنْ تَبَرَّعَ الْمُسْتَقْرِضُ بِدَفْعِ الْمِثْلِ، وَأَبَى الْمُقْرِضُ قَبُولَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى حَمْلِهِ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ أَثْمَانًا، أَوْ مَا لَا مُؤْنَةَ فِي حَمْلِهِ، وَطَالَبَهُ بِهَا، وَهُمَا بِبَلَدٍ آخَرَ، لَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ وَاحِدٌ. [فَصْلٌ أُقْرِضَ ذِمِّيّ ذِمِّيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدهمَا] (3271) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقْرَضَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا. بَطَلَ الْقَرْضُ. وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُقْتَرِضِ شَيْءٌ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ أَوْ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ خَمْرٌ، لِعَدَمِ مَالِيَّتِهَا، وَلَا يَجِبُ بَدَلُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُهَا إذَا أَتْلَفَهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْآخَرَ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ، لِذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 [كِتَابُ الرَّهْنِ] ِ الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ: الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ. يُقَالُ: مَاءٌ رَاهِنٌ. أَيْ رَاكِدٌ. وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ. أَيْ ثَابِتَةٌ دَائِمَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ الْحَبْسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] وَقَالَ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَفَارَقَتْك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَضْحَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا شَبَّهَ لُزُومَ قَلْبِهِ لَهَا، وَاحْتِبَاسَهُ عِنْدَهَا، لِشِدَّةِ وَجْدِهِ بِهَا، بِالرَّهْنِ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْمُرْتَهِنُ، فَيُبْقِيه عِنْدَهُ، وَلَا يُفَارِقُهُ. وَغَلْقُ الرَّهْنِ: اسْتِحْقَاقُ الْمُرْتَهِنِ إيَّاهُ، لِعَجْزِ الرَّاهِنِ عَنْ فِكَاكِهِ. وَالرَّهْنُ فِي الشَّرْعِ: الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ إنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَهُوَ جَائِزٌ. بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَتُقْرَأُ: فَرِهَانٌ. وَالرِّهَانُ: جَمْعُ رَهْنٍ، وَالرُّهُنُ: جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ رَهْنٍ، مِثْل سَقْفٍ وَسُقُفٍ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ، إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْجُمْلَةِ. [فَصْلٌ الرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ] (3272) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ، كَمَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ، إلَّا مُجَاهِدًا، قَالَ: لَيْسَ الرَّهْنُ إلَّا فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ السَّفَرَ فِي الرَّهْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ، وَكَانَا بِالْمَدِينَةِ.» وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ فِي السَّفَرِ، فَجَازَتْ فِي الْحَضَرِ، كَالضَّمَانِ. فَأَمَّا ذِكْرُ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ لِكَوْنِ الْكَاتِبِ يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ غَالِبًا، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَدَمَ الْكَاتِبِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ مَعَهُ أَيْضًا. [فَصْلٌ الرَّهْنُ غَيْرُ وَاجِبٍ] (3273) فَصْلٌ: وَالرَّهْنُ غَيْرُ وَاجِبٍ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ، فَلَمْ يَجِبْ، كَالضَّمَانِ وَالْكِتَابَةِ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . إرْشَادٌ لَنَا لَا إيجَابٌ عَلَيْنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ إعْوَازِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا. [فَصْلٌ لَا يَخْلُو الرَّهْنُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ] (3274) فَصْلٌ: وَلَا يَخْلُو الرَّهْنُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا، أَنْ يَقَعَ بَعْدَ الْحَقِّ، فَيَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى أَخْذِ الْوَثِيقَةِ بِهِ، فَجَازَ أَخْذُهَا بِهِ كَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فَجَعَلَهُ بَدَلًا عَنْ الْكِتَابَةِ، فَيَكُونُ فِي مَحَلِّهَا، وَمَحَلُّهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . فَجَعَلَهُ جَزَاءً لِلْمُدَايِنَةِ مَذْكُورًا بَعْدَهَا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَقَعَ الرَّهْنُ مَعَ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ، فَيَقُولُ: بِعْتُك ثَوْبِي هَذَا بِعَشْرَةٍ إلَى شَهْرٍ، تَرْهَنُنِي بِهَا عَبْدَك سَعْدًا. فَيَقُولُ: قَبِلْت ذَلِكَ. فَيَصِحُّ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ثُبُوتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْقِدْهُ مَعَ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَيَشْتَرِطْ فِيهِ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إلْزَامِ الْمُشْتَرِي عَقْدَهُ، وَكَانَتْ الْخِيرَةُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَبْذُلُهُ، فَتَفُوتُ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يَرْهَنَهُ قَبْلَ الْحَقِّ، فَيَقُولُ: رَهَنْتُك عَبْدِي هَذَا بِعَشْرَةٍ تُقْرِضُنِيهَا. فَلَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي. وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ. فَمَتَى قَالَ: رَهَنْتُك ثَوْبِي هَذَا بِعَشْرَةٍ تُقْرِضُنِيهَا غَدًا. وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ الدَّرَاهِمَ، لَزِمَ الرَّهْنُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِحَقِّ، فَجَازَ عَقْدُهَا قَبْلَ وُجُوبِهِ، كَالضَّمَانِ، أَوْ فَجَازَ انْعِقَادُهَا عَلَى شَيْءٍ يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَضَمَانِ الدَّرْكِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِحَقِّ لَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَهُ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، فَلَا يَسْبِقُهُ، كَالشَّهَادَةِ، وَالثَّمَنُ لَا يَتَقَدَّمُ الْبَيْعَ. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ الْتِزَامُ مَالٍ تَبَرُّعًا بِالْقَوْلِ، فَجَازَ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ، كَالنَّذْرِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 [فَصْلٌ لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْقَبْضِ] (3275) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، لَا يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَّاهُمَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَالْأُخْرَى، يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، كَالْبَيْعِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ خَاصَّةً. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ مَعَ عُمُومِهِ، قَدْ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّعْمِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، فَقَبْضُهُ أَخْذُهُ إيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، فَقَبْضُهُ بِتَخْلِيَةِ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَقَدْ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الدَّارِ وَالْجَارِيَةِ إذَا رَدَّهَا إلَى الرَّاهِنِ: لَمْ يَكُنْ رَهْنًا فِي الْحَالِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْتَزِمُ الرَّهْنَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَلَزِمَ قَبْلَهُ، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبْضِ، كَالْقَرْضِ، وَلِأَنَّهُ رَهْنٌ لَمْ يُقْبَضْ، فَلَا يَلْزَمُ إقْبَاضُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ، وَلَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ بِإِرْفَاقِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ ". يَعْنِي أَنَّ الرَّاهِنَ الَّذِي يَرْهَنُ وَيَقْبِضُ، يَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ، وَلَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَالِ رَهْنِهِ وَإِقْبَاضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالتَّسْلِيمَ لَيْسَ بِوَاجِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى اخْتِيَارِ الرَّاهِنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فِي الْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، كَالْبَيْعِ. فَإِنْ جُنَّ أَحَدُ الْمُتَرَاهِنَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ مَاتَ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِجُنُونِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ مَوْتِهِ، كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ، وَيَقُومُ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ مَقَامَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ الرَّاهِنَ، وَكَانَ الْحَظُّ فِي التَّقْبِيضِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي بَيْعٍ يَسْتَضِرُّ بِفَسْخِهِ وَنَحْوَهُ أَقْبَضَهُ. وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْبِيضُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ الْمُرْتَهِنَ، قَبَضَهُ وَلِيُّهُ إنْ اخْتَارَ الرَّاهِنُ، وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ. وَإِذَا مَاتَ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ. فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ، لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتُهُ تَقْبِيضَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ سِوَى هَذَا الدَّيْنِ، فَأَحَبَّ الْوَرَثَةُ تَقْبِيضَ الرَّهْنِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ تَخْصِيصُ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْن سَعِيدٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، أَخْذًا مِمَّا نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ أَفْلَسَ، فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ وُجُودَ الْقَبْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا نَقَلَهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ وَهَذَا عَامٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 يَضْعُفُ جِدًّا لِنُدْرَتِهَا، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِهِ الْخَاصُّ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَدْ لَزِمَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَوَجَبَ تَقْبِيضُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ عَلَى وَارِثِهِ. وَيَخْتَصُّ هَذَا بِمَا عَدَّا الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَلْزَمْ الرَّهْنُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ تَقْبِيضُهُ؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ تَعَلَّقَتْ دُيُونُهُمْ بِالتَّرِكَةِ قَبْلَ لُزُومِ حَقِّهِ فِي الرَّهْنِ، فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الرَّاهِنُ، إلَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ لِلْوَرَثَةِ التَّصَرُّفَ فِي التَّرِكَةِ، وَوَفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ إذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ الْمُرْتَهِنُ؟ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْضَى الْغُرَمَاءُ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، فَيَتِمُّ الرَّهْنُ. وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ؛ لِكَوْنِ الْإِذْنِ يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْحَجْرِ. [فَصْلٌ حُجِرَ عَلَى الرَّاهِنِ لِفَلْسِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ] (3276) فَصْلٌ وَلَوْ حُجِرَ عَلَى الرَّاهِنِ لِفَلْسِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا لِلْمُرْتَهِنِ بِثَمَنِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ غُرَمَائِهِ. وَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ زَالَ عَقْلُهُ بِجُنُونِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْنِ، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ تَقْبِيضُهُ؛ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لَمْ يَكُنْ لَأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ أَيْضًا. وَانْتُظِرَ إفَاقَتُهُ، وَإِنْ خَرِسَ، وَكَانَتْ لَهُ كِتَابَةٌ مَفْهُومَةٌ، أَوْ إشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَكَلِّمِينَ، إنْ أَذِنَ فِي الْقَبْضِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ وَلَا كِتَابَتُهُ، لَمْ يَجُزْ الْقَبْضُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَذِنَ فِي الْقَبْضِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِنْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّ إذْنَهُمْ يَبْطُلُ بِمَا عَرَضَ لَهُمْ. وَجَمِيعُ هَذَا تَنَاوَلَهُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ ". وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ جَائِزَ الْأَمْرِ. [فَصْلٌ تَصْرِف الرَّاهِن فِي الرَّهْن قَبْل الْقَبْض بِهِبَةِ أَوْ بَيْع أَوْ عِتْق] (3277) فَصْلٌ إذَا تَصَرَّفَ الرَّاهِنُ فِي الرَّهْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بِهِبَةِ أَوْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ جَعَلَهُ صَدَاقًا، أَوْ رَهَنَهُ ثَانِيًا، بَطَلَ الرَّهْنُ الْأَوَّلُ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْهِبَةَ وَالْمَبِيعَ وَالرَّهْنَ الثَّانِيَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ دَبَّرَ الْعَبْدَ، أَوْ أَجَرَهُ، أَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتَدَامَتْهُ كَاسْتِخْدَامِهِ. وَإِنْ كَاتَبَ الْعَبْدَ، انْبَنَى عَلَى صِحَّةِ رَهْنِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ رَهْنُهُ. لَمْ يَبْطُلْ رَهْنُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ. بَطَلَ رَهْنُهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ. [فَصْلٌ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِلُزُومِ الرَّهْنِ] فَصْلٌ: وَاسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِلُزُومِ الرَّهْنِ. فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ، كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَبْضٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةِ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ، عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا ارْتَهَنَ دَارًا، ثُمَّ أَكْرَاهَا صَاحِبُهَا، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ، فَإِذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ، صَارَتْ رَهْنًا. وَقَالَ فِي مَنْ رَهَنَ جَارِيَةً، ثُمَّ سَأَلَ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يَبْعَثَهَا إلَيْهِ لِتَخْبِزَ لَهُمْ، فَبَعَثَ بِهَا، فَوَطِئَهَا: انْتَقَلَتْ مِنْ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا، فَلَا شَيْءَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَكُونُ رَهْنًا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِذَا رَدَّهَا رَجَعَتْ إلَى الرَّهْنِ. وَمِمَّنْ أَوْجَبَ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: ابْتِدَاءُ الْقَبْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فَأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِدَامَةُ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِدَامَةِ، يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِدَامَةِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا قُلْنَا: الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ. كَانَ شَرْطًا فِي الِاسْتِدَامَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ لَيْسَتْ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ اسْتَدَامَتْهُ كَالْهِبَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . لِأَنَّهَا إحْدَى حَالَتَيْ الرَّهْنِ، فَكَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا، كَالِابْتِدَاءِ. وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي ابْتِدَائِهَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ، فَإِذَا ثَبَتَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْقَبْضِ ثَانِيًا، وَالرَّهْنُ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ مِنْ بَيْعِهِ، وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ بَيْعِهِ، وَلَمْ تَحْصُلْ وَثِيقَةٌ. وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ لِغَيْرِ حَقٍّ، كَغَصْبٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ إبَاقِ الْعَبْدِ، أَوْ ضَيَاعِ الْمَتَاعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَزُلْ لُزُومُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ ثَابِتَةٌ حُكْمًا، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْنِ إلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِن] (3279) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْنِ إلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَقْبِيضُهُ، فَاعْتُبِرَ إذْنُهُ فِي قَبْضِهِ، كَالْوَاهِبِ. فَإِنْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ، فَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَقْبِضْ. وَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ فِي الْقَبْضِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ قَبْلَهُ، زَالَ حُكْمُ الْإِذْنِ. وَإِنْ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ بَعْدَ قَبْضِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ لَزِمَ لِاتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْقَبْضِ، اُعْتُبِرَ الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ يَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ، أَشْبَهَ الْأَوَّلَ، وَيَقُومُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ مَقَامَهُ، مِثْلُ إرْسَالِهِ الْعَبْدَ إلَى مُرْتَهِنِهِ، وَرَدِّهِ لِمَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ إلَى يَدِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ، فَاكْتُفِيَ بِهِ، كَدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ، وَتَقْدِيمِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ فِي أَكْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ] (3280) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْقَبْضُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، فَقَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لَهُ أَخْذُهُ إيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، فَقَبْضُهُ تَخْلِيَةُ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُرْتَهِنِهِ، لَا حَائِلَ دُونَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ أَوْ تَنَاوُلُهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 وَإِنْ كَانَ أَثْمَانًا، أَوْ شَيْئًا خَفِيفًا يُمْكِنُ قَبْضُهُ بِالْيَدِ، فَقَبْضُهُ تَنَاوُلُهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا، رَهَنَهُ بِالْكَيْلِ، أَوْ مَوْزُونًا، رَهَنَهُ بِالْوَزْنِ، فَقَبْضُهُ اكْتِيَالُهُ أَوْ اتِّزَانُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَمَّيْت الْكَيْلَ فَكِلْ» . وَإِنْ ارْتَهَنَ الصُّبْرَةَ جُزَافًا، أَوْ كَانَ ثِيَابًا أَوْ حَيَوَانًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا. فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مَنْقُولٍ، كَالْعَقَارِ وَالثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرَةِ، فَقَبْضُهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ مُرْتَهِنِهِ وَبَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، بِأَنْ يَفْتَحَ لَهُ بَابَ الدَّارِ، أَوْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مِفْتَاحَهَا. وَإِنْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَفِيهَا قُمَاشٌ لِلرَّاهِنِ، صَحَّ التَّسْلِيمُ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِمِلْكِ الرَّاهِنِ، لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ، كَالثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ دَابَّةً عَلَيْهَا حِمْلٌ لِلرَّاهِنِ، فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، صَحَّ التَّسْلِيمُ. وَلَوْ رَهَنَ الْحِمْلَ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ بِحِمْلِهَا، صَحَّ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي الرَّهْنِ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ رَهَنَهُ سَهْمًا مُشَاعًا مِمَّا لَا يُنْقَلُ] (3281) فَصْلٌ: وَإِنْ رَهَنَهُ سَهْمًا مُشَاعًا مِمَّا لَا يُنْقَلُ. خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، سَوَاءٌ حَضَرَ الشَّرِيكُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالْجَوْهَرَةِ يَرْهَنُ نِصْفَهَا، فَقَبْضُهَا تَنَاوُلُهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهَا إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكِ، فَإِنْ رَضِيَ الشَّرِيكُ، تَنَاوَلَهَا، وَإِنْ امْتَنَعَ الشَّرِيكُ، فَرَضِيَ الْمُرْتَهِنُ وَالرَّاهِنُ بِكَوْنِهَا فِي يَدِ الشَّرِيكِ، جَازَ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْقَبْضِ، وَإِنْ تَنَازَعَ الشَّرِيكُ وَالْمُرْتَهِنُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ عَدْلًا تَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا وَإِنْ نَاوَلَهَا الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ رِضَا الشَّرِيكِ فَتَنَاوَلَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطٌ. لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ التَّنَاوُلُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِشَرْطِ. فَقَدْ حَصَلَ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ حَصَلَ فِي يَدِهِ مَعَ التَّعَدِّي فِي غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَهَنَهُ ثَوْبًا فَسَلَّمَهُ إلَيْهِ مَعَ ثَوْبٍ لِغَيْرِهِ، فَتَنَاوَلَهُمَا مَعًا. وَلَوْ رَهَنَهُ ثَوْبًا، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، فَسَلَّمَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا، لَمْ يَثْبُتْ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَقْبِضهُ الرَّهْنَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الرَّهْنُ، تَبَيَّنَ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ. وَإِنْ سَلَّمَ إلَيْهِ الثَّوْبَيْنِ مَعًا، حَصَلَ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَسَلَّمَ الرَّهْنَ يَقِينًا. [فَصْلٌ رَهْنه دَارًا فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَهُمَا فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ الرَّاهِن] (3282) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَهُ دَارًا، فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَهُمَا فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ الرَّاهِنُ، صَحَّ الْقَبْضُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْد خُرُوجِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي الدَّارِ فَيَدُهُ عَلَيْهَا، فَمَا حُصِلَتْ التَّخْلِيَةُ. وَلَنَا، أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَصِحُّ بِقَوْلِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا وَعَدَمِ الْمَانِعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا خَارِجِينَ عَنْهَا، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُرْتَهِنِ مِنْهَا لَا يُزِيلُ يَدَهُ عَنْهَا، وَدُخُولَهُ إلَى دَارِ غَيْرِهِ لَا يُثْبِتُ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ بِخُرُوجِهِ عَنْهَا مُحَقِّقٌ لِقَوْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ التَّخْلِيَةِ. [فَصَلِّ رَهْنه مَالًا لَهُ فِي يَد الْمُرْتَهِن عَارِيَّة أَوْ وَدِيعَة أَوْ غَصْبًا أَوْ نَحْوه] (3283) فَصْلٌ: وَإِنْ رَهَنَهُ مَالًا لَهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ نَحْوَهُ، صَحَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ يُمْكِنُ قَبْضُهُ، فَصَحَّ رَهْنُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد لُزُومُ الرَّهْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا حُصِلَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ بَعْد الرَّهْنِ، فَهُوَ رَهْنٌ. فَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمْرًا زَائِدًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ ثَابِتَةٌ، وَالْقَبْضُ حَاصِلٌ. وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ لَا غَيْرُ، وَيُمْكِنْ تَغَيُّرُ الْحُكْمِ مَعَ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ. كَمَا لَوْ طُولِبَ الْوَدِيعَةِ فَجَحَدَهَا لِتَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَصَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ زَائِدٍ. وَلَوْ عَادَ الْجَاحِدُ، فَأَقَرَّ بِهَا، وَقَالَ لِصَاحِبِهَا: خُذْ وَدِيعَتَك. فَقَالَ: دَعْهَا عِنْدَك وَدِيعَةً كَمَا كَانَتْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْك فِيهَا. لَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ أَمْرٍ زَائِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِيرُ رَهْنًا حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةً يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَبِمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْلُهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا فَبِمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ اكْتِيَالُهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ فَبِمُضِيِّ مُدَّةِ التَّخْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَصِرْ مَقْبُوضًا حَتَّى يُوَافِيَهُ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، ثُمَّ تَمْضِي مُدَّةٌ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِإِمْكَانِهِ، وَيَكْفِي ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ حَقِيقَةِ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً. فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهَا، فَهُوَ كَتَلَفِ الرَّهْنِ قَبْلَ قَبَضَهُ. ثُمَّ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ مِنْ الرَّاهِنِ فِي الْقَبْضِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَفْتَقِرُ، لِأَنَّهُ قَبْضٌ يَلْزَمُ بِهِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِغَيْرِ إذْنٍ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، وَإِقْرَارُهُ فِي يَدِهِ لَا يَكْفِي، كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ غَاصِبِهِ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ مِنْهُ. وَالثَّانِي، لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنٍ فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الْقَبْضِ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا، لَمْ يَلْزَمْ الرَّهْنُ. حَتَّى يَعُودَ فَيَأْذَنَ، ثُمَّ تَمْضِي مُدَّةٌ يَقْبِضُهُ فِي مِثْلِهَا. [فَصْلٌ رَهْنه الْمَضْمُون كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّة وَالْمَقْبُوض فِي بَيْع فَاسِد أَوْ عَلَى تَوَجَّهَ السَّوْم] (3284) فَصْلٌ: وَإِذَا رَهَنَهُ الْمَضْمُونَ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمَقْبُوضِ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ، أَوْ عَلَى تَوَجُّهِ السَّوْمِ. صَحَّ، وَزَالَ الضَّمَانُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَزُولُ الضَّمَانُ، وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا فِيهِ يَبْقَى بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ صَارَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْغَصْبِ. وَهُوَ رَهْنٌ كَمَا كَانَ، فَكَذَلِكَ ابْتِدَاؤُهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الرَّهْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي إمْسَاكِهِ رَهْنًا لَمْ يَتَجَدَّدْ مِنْهُ فِيهِ عُدْوَانٌ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ قَبَضَهُ مِنْهُ ثُمَّ أَقْبِضهُ إيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَدُهُ عَادِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَتُهَا، وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ مُحِقَّةٌ جَعَلَهَا الشَّرْعُ لَهُ، وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ يَدُ أَمَانَةٍ. وَيَدُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَنَحْوِهِمَا يَدٌ ضَامِنَةٌ، وَهَذَانِ مُتَنَافِيَانِ. وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلضَّمَانِ زَالَ، فَزَالَ الضَّمَانُ لِزَوَالِهِ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ الْغَصْبُ وَالْعَارِيَّةُ وَنَحْوُهُمَا، وَهَذَا لَمْ يَبْقَ غَاصِبًا وَلَا مُسْتَعِيرًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ وَحُدُوثِ سَبَبٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَأَمَّا إذَا تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، لِعُدْوَانِهِ، لَا لِكَوْنِهِ غَاصِبًا وَلَا مُسْتَعِيرًا، وَهَا هُنَا قَدْ زَالَ سَبَبُ الضَّمَانِ، وَلَمْ يَحْدُثْ مَا يُوجِبهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ. [فَصْلٌ وَكَّلَ الْمُرْتَهِن الرَّاهِن فِي قَبَضَ الرَّهْن لَهُ مِنْ نَفْسه] (3285) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ، وَيَقُومُ قَبْضُ وَكِيلِهِ مَقَامَ قَبْضِهِ، فِي لُزُومِ الرَّهْنِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ. وَإِنْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الرَّاهِنِ، فَإِذَا كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ لَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ دَفَعَ إلَى الْبَائِعِ غِرَارَةً، وَقَالَ: كُلُّ حَقِّي فِي هَذِهِ. فَفَعَلَ، كَانَ ذَلِكَ قَبْضًا. فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الرَّاهِن بِتَقْبِيضِ الرَّهْن أَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِن بِقَبْضِهِ] (3286) فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِتَقْبِيضِ الرَّهْنِ، أَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ، كَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا فِيمَا يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا فِيهِ. وَإِنْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالتَّقْبِيضِ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَقْرَرْت بِذَلِكَ وَلَمْ أَكُنْ قَبَّضْت شَيْئًا. أَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ أَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لَهُ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُنْكِرُ يَمِينَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَنْصُوصِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَيَلْزَمُ خَصْمَهُ الْيَمِينُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْعَادَةِ، وَهَذَا أَجْوَدُ. وَيُفَارِقُ الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّهَا لَا تَشْهَدُ بِالْحَقِّ قَبْلَهُ، وَلَوْ فَعَلْت ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً عَادِلَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْمُقِرُّ غَائِبًا، فَقَالَ: أَقْرَرْت لِأَنَّ وَكِيلِي كَتَبَ إلَيَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَانَ لِي خِلَافُهُ. سَمِعْنَا قَوْلَهُ، وَأَحْلَفْنَا خَصْمَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ عَادَ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ، لَمْ يَحْلِفْ خَصْمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَأُمًّا إنْ اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبَّضْته. وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَالْأَصْلُ مَعَهُ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْبَاضِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ، لِكَوْنِهِ لَا يَحْصُلُ فِي يَدِهِ إلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: أَخَذْته بِغَيْرِ إذْنِي. قَالَ: بَلْ بِإِذْنِك. وَهُوَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ وُجِدَ، وَيَدُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِحَقِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ رَهَنَهُ عَيْنَيْنِ فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ قَبْضِهَا] (3287) فَصْلٌ: وَإِذَا رَهَنَهُ عَيْنَيْنِ، فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ قَبْضِهَا، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهَا دُونَ الْبَاقِيَةِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا فِيهِمَا، وَإِنَّمَا طَرَأَ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي إحْدَاهُمَا، فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ، ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِعَيْبِ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ، وَالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إقْبَاضِ الْبَاقِيَةِ وَبَيْنَ مَنْعِهَا. وَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بَعْد قَبْضِ الْأُخْرَى، فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ؛ لِتَعَذُّرِ الرَّهْنِ بِكَمَالِهِ، فَإِنْ رَضِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ التَّالِفَةِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا، وَتَكُونُ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَلَوْ تَلِفَتْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ بَعْد الْقَبْضِ، فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَوْ تَلِفَ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، فَإِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ أَوْلَى. ثُمَّ إنْ كَانَ تَلَفُهَا بَعْدَ قَبْضِ الْعَيْنِ الْأُخْرَى، فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الْأُخْرَى، فَالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إقْبَاضِهَا وَبَيْنَ تَرْكِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَقْبِيضِهَا، ثَبَتَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَتْلَفْ الْأُخْرَى. [فَصْلٌ رَهَنَهُ دَارًا فَانْهَدَمَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا] (3288) فَصْلٌ: وَإِنْ رَهَنَهُ دَارًا فَانْهَدَمَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا، لَمْ يَنْفَسِخْ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهَا لَمْ تَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ عَرْصَتَهَا وَأَنْقَاضَهَا بَاقِيَةٌ، وَيَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ إنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الرَّهْنِ كَمَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ؟ قُلْنَا: الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةِ السُّكْنَى، وَقَدْ تَعَذَّرَتْ وَعَدِمَتْ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالرَّهْنُ عَقْدُ اسْتِيثَاقٍ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي فِيهَا الْمَالِيَّةُ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعَرْصَةُ وَالْأَنْقَاضُ مِنْ الْأَخْشَابِ وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْيَانِ وَالْأَنْقَاضُ مِنْهَا، وَمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ اسْتَقَرَّ بِالْقَبْضِ. [فَصْلٌ كُلُّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا جَازَ رَهْنُهَا] (3289) فَصْلٌ: وَكُلُّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا جَازَ رَهْنُهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الِاسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ لِلتَّوَصُّلِ إلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ إنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَانَ مَحَلًّا لِحِكْمَةِ الرَّهْنِ، وَمَحِلُّ الشَّيْءِ مَحِلُّ حِكْمَتِهِ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِهِ، أَوْ يَفُوتَ شَرْطٌ، فَيَنْتَفِيَ الْحُكْمُ لِانْتِفَائِهِ، فَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ لِذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالْبَتِّيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَوَّارٌ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ، إلَّا أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ شَرِيكِهِ، أَوْ يَرْهَنَهَا الشَّرِيكَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَرْهَنَ رَجُلًا دَارِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَيَقْبِضَانِهَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ مَقْصُودُهُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ، بَيَانُهُ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ، وَالْمُشَاعُ لَا يُمْكِنُ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهُ، لِأَنَّ شَرِيكَهُ يَنْتَزِعُهُ يَوْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 نَوْبَتِهِ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ شَرْطٌ، وَهَذَا يَسْتَحِقُّ زَوَالَ الْيَدِ عَنْهُ لِمَعْنًى قَارَنَ الْعَقْدَ، فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ كَالْمَغْصُوبِ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي مَحِلِّ الْحَقِّ، فَيَصِحُّ رَهْنُهَا كَالْمُفْرَزَةِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَبْسُ، بَلْ مَقْصُودُهُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُشَاعُ قَابِلٌ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِرَهْنِ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمَغْصُوبِ، وَرَهْنِ مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ. [فَصْلٌ رَهَنَ بَعْضَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُشَاعِ] (3290) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَنْ يَرْهَنَ بَعْضَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُشَاعِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَرْهَنَ جَمِيعَهُ، سَوَاءٌ رَهَنَهُ مُشَاعًا فِي نَصِيبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَرْهَنَ نِصْفَ نَصِيبِهِ، أَوْ يَرْهَنَ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَيَّنٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ دَارٍ فَيَرْهَنَ نَصِيبَهُ مِنْ بَيْتٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُ حِصَّتِهِ مِنْ مُعَيَّنٍ مِنْ شَيْءٍ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْتَسِمَ الشَّرِيكَانِ، فَيَحْصُلُ الرَّهْنُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَصَحَّ رَهْنُهُ كَغَيْرِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ بِمَا يَضُرُّ بِالْمُرْتَهِنِ، فَيُمْنَعُ مِنْ الْقِسْمَةِ الْمُضِرَّةِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ. [فَصْلٌ رَهْنُ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْجَانِي] (3291) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْجَانِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي هَذَا عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِحَالِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَأَشْبَهَ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ الْعَيْبَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، ثُمَّ عَلِمَ بَعْد إسْلَامِ الْمُرْتَدِّ وَفِدَاءِ الْجَانِي، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ زَالَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ زَالَ عَيْبُ الْمَبِيعِ. وَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفَسْخُ الْبَيْعِ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ بَيْعٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ اقْتَضَاهُ سَلِيمًا، فَإِذَا سَلَّمَ إلَيْهِ مَعِيبًا، مَلَكَ الْفَسْخَ، كَالْبَيْعِ، وَإِنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ وَلَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِجُمْلَتِهِ لَوْ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، لَمْ يَمْلِكْ بَدَلَهُ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى قُتِلَ الْعَبْدُ بِالرِّدَّةِ أَوْ الْقِصَاصِ، أَوْ أُخِذَ فِي الْجِنَايَةِ، فَلَا أَرْشَ لِلْمُرْتَهِنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ الْأَرْشَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ عِوَضٌ عَنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضَهُ، رَجَعَ بِمَا يُقَابِلهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ فَاتَ كُلُّهُ، مِثْلَ أَنْ يَتْلَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، وَالرَّهْنُ لَيْسَ بِعِوَضٍ، وَلَوْ تَلِفَ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَمَا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ عَيْنِهِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهِ؟ وَإِنْ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ فِدَاءِ الْجَانِي، لَمْ يُجْبَرْ، وَيُبَاعُ فِي الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَدَّثَتْ الْجِنَايَةُ بَعْدَ الرَّهْنِ. فَعَلَى هَذَا إنْ اسْتَغْرَقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الْأَرْشُ قِيمَتَهُ، بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ. [فَصْلٌ رَهْنُ الْمُدَبَّرِ] (3292) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُدَبَّرِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ. وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةِ تُوجَدُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْعَيْنِ، أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ. وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةِ لَا تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ تُوجَدُ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرُ التَّعْلِيقَ بِصِفَةِ تَحِلُّ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَمْنَعُ عِتْقَهُ بِالصِّفَةِ، فَإِذَا عَتَقَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَالدَّيْنُ فِي الْمُدَبَّرِ يَمْنَعُ عِتْقَهُ بِالتَّدْبِيرِ، وَيَقْدُمُ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْنَعُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا عُلِمَ التَّدْبِيرُ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي، عَلَى مَا فُصِّلَ فِيهِ. وَمَتَى مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْوَفَاءِ، فَعَتَقَ الْمُدَبَّرُ، بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ عَتَقَ بَعْضُهُ، بَقِيَ الرَّهْنُ فِيمَا بَقِيَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مَالٌ يَفْضُلُ عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ، بِيعَ الْمُدَبَّرُ فِي الدَّيْنِ، وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّدْبِيرِ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَسْتَغْرِقُهُ، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَعَتَقَ مِنْهُ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ. [فَصْلٌ رَهْن الْمَكَاتِب] (3293) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ رَهْنِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا يُؤَدِّيه مِنْ نُجُوم كِتَابَتِهِ رَهْنًا مَعَهُ، فَإِنْ عَجَزَ ثَبَتَ الرَّهْنُ فِيهِ وَفِي اكْتِسَابِهِ، وَإِنْ عَتَقَ كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ نُجُومِهِ رَهْنًا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَسَبَ الْعَبْدُ الْقِنُّ، ثُمَّ مَاتَ. (3294) فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِصِفَةِ تَحِلُّ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، كَمَنْ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ، وَمَحَلُّ الْحَقِّ آخِرُهُ، لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ، وَلَا اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ يَحِلُّ قَبْلَهَا، مِثْلُ أَنْ يُعَلَّقَ عِتْقُهُ بِآخِرِ رَمَضَانَ، وَالْحَقُّ يَحِلُّ فِي أَوَّلِهِ، صَحَّ رَهْنُهُ؛ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، كَقُدُومِ زَيْدٍ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ رَهْنِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مَحِلٌّ لِلرَّهْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَصَحَّ رَهْنُهُ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُدَبَّرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَّرَا، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ رَهْنُ الْجَارِيَةِ] (3295) فَصْلٌ: وَيَحُوزُ رَهْنُ الْجَارِيَةِ دُونَ وَلَدِهَا، وَرَهْنُ وَلَدِهَا دُونَهَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ تَفْرِقَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْوَلَدِ مَعَ أُمِّهِ، وَالْأُمِّ مَعَ وَلَدِهَا، فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهَا فِي الدَّيْنِ، بِيعَ وَلَدُهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي الْعَقْدِ مُمْكِنٌ، وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا حَرَامٌ، فَوَجَبَ بَيْعُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 مَعَهَا. فَإِذَا بِيعَا مَعًا، تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً، مَعَ أَنَّهَا ذَاتُ وَلَدٍ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ خَمْسُونَ، فَحِصَّتُهَا ثُلُثَا الثَّمَنِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُرْتَهِنُ بِالْوَلَدِ، ثُمَّ عَلِمَ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَيْبٌ فِيهَا، لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا بِدُونِهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ حَالَ الْعَقْدِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ رَدَّهَا فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ، إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ. [فَصْلٌ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ] (3296) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ بِالتَّجْفِيفِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ، كَالْبِطِّيخِ وَالطَّبِيخِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مِمَّا يُجَفَّفُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ تَجْفِيفُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ حِفْظِهِ وَتَبْقِيَتِهِ، فَلَزِمَ الرَّاهِنَ، كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجَفَّفُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ، وَيَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ، إنْ كَانَ حَالًّا، أَوْ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، جَعَلَ ثَمَنَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا، سَوَاءٌ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ بَيْعَهُ أَوْ أَطْلَقَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ مِمَّا يَفْسُدُ قَبْلَ مَحِلِّ الدَّيْنِ، فَشَرَطَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بَيْعَهُ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ مَكَانَهُ، صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ لَا يَقْتَضِيه عَقْدُ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَجِبْ، وَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهَيْنِ، كَالْقَوْلَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُعَرِّضُ مِلْكَهُ لِلتَّلَفِ وَالْهَلَاكِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ حِفْظُهُ فِي بَيْعِهِ، حُمِلَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، كَتَجْفِيفِ مَا يَجِفُّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَحِرْزِ مَا يَحْتَاجُ إلَى حِرْزٍ. وَأَمَّا إذَا شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعَ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يَتَضَمَّنُ فَسَادَهُ، وَفَوَاتَ الْمَقْصُودِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُجَفِّفَ مَا يَجِفُّ، أَوْ لَا يُنْفِقَ عَلَى الْحَيَوَانِ. وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ إنْ شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعَهُ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ، بَاعَهُ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، وَلَا يَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُ وَفَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ رَهَنَهُ ثِيَابًا فَخَافَ تَلَفَهَا، أَوْ حَيَوَانًا وَخَافَ مَوْتَهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ رَهَنَ ثِيَابًا يَخَافُ فَسَادَهَا، كَالصُّوفِ: أَتَى السُّلْطَانَ، فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهَا. [فَصْلٌ رَهْن الْعَصِيرِ] (3297) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ رَهْنُ الْعَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَتَعَرُّضُهُ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْمَالِيَّةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ رَهْنِهِ، كَالْمَرِيضِ وَالْجَانِي. ثُمَّ إنْ اسْتَحَالَ إلَى حَالٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ الْمَالِيَّةِ، كَالْخَلِّ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، وَإِنْ صَارَ خَمْرًا زَالَ لُزُومُ الْعَقْدِ، وَوَجَبَتْ إرَاقَتُهُ، فَإِنْ أُرِيقَ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ. وَإِنْ عَادَ خَلًّا، عَادَ اللُّزُومُ، بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ، كَمَا لَوْ زَالَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الرَّهْنِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ. وَإِنْ اسْتَحَالَ خَمْرًا قَبْلَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ، بَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَمْ يَعُدْ بِعَوْدِهِ خَلًّا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ ضَعِيفٌ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ إسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا اسْتَحَالَ خَمْرًا بَعْدَ الْقَبْضِ، بَطَلَ الرَّهْنُ، ثُمَّ إذَا عَادَ خَلًّا، عَادَ مِلْكًا لِصَاحِبِهِ، مَرْهُونًا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ مَمْلُوكًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ، فَيَعُودُ حُكْمُ الرَّهْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ، فَيَعُودُ بِعَوْدِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ حَالَةَ كَوْنِهِ عَصِيرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ قِيمَةٌ، فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّ الْجَانِي، وَلِأَنَّ الْيَدَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ حُكْمًا، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ، فَتَخَلَّلَ فِي يَدِهِ، كَانَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ زَالَتْ يَدُهُ، لَكَانَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ أَرَاقَهُ فَجَمَعَهُ إنْسَانٌ، فَتَخَلَّلَ فِي يَدِهِ، كَانَ لَهُ، دُونَ مَنْ أَرَاقَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُنَا الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى، إلَّا أَنْ يَقُولُوا بِبَقَاءِ اللُّزُومِ فِيهِ حَالَ كَوْنِهِ خَمْرًا. وَلَمْ يَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ الْخِلَافِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَوْدِهِ رَهْنًا بِاسْتِحَالَتِهِ خَلًّا، وَأَرَى الْقَوْلَ بِبَقَائِهِ رَهْنًا أَقْرَبَ إلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَوْ بَطَلَ لَمَا عَادَ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ ابْتِدَاءِ عَقْدٍ. فَإِنْ قَالُوا: يُمْكِنُ عَوْدُهُ صَحِيحًا لِعَوْدِ الْمَعْنَى الَّذِي بَطَلَ بِزَوَالِهِ، كَمَا أَنَّ زَوْجَةَ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَتْ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ، لِاخْتِلَافِ دِينِهِمَا، فَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ، عَادَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، لِزَوَالِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ. قُلْنَا: هُنَاكَ مَا زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ، وَلَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَوْ بَطَلَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمَا عَادَ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَإِنَّمَا الْعَقْدُ كَانَ مَوْقُوفًا مُرَاعًى، فَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَطَلَ، وَهَا هُنَا قَدْ جَزَمْتُمْ بِبُطْلَانِهِ. [فَصْلٌ رَهْنُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بَدْو صَلَاحِهَا] (3298) فَصْلٌ: وَهَلْ يَصِحُّ رَهْنُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ يَقِلُّ فِيهِ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مَتَى تَلِفَتْ، عَادَ إلَى حَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَجَازَ رَهْنُهُ، وَمَتَى حَلَّ الْحَقُّ بِيعَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُهُ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُ الْمَبِيعِ الَّذِي يُشْتَرَطُ، قَبْضُهُ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ، فَيُمْكِنُ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُهُ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ. أَمَّا الْبَيْعُ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. [فَصْلٌ رَهْنِ الْمُصْحَفِ] (3299) فَصْلٌ: وَفِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ. نَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُ: أَرْخَصَ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيْعِهِ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِيَةُ، يَصِحُّ رَهْنُهُ. فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رَهَنَ مُصْحَفًا لَا يَقْرَأُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ رَهْنِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ فَصَحَّ رَهْنُهُ، كَغَيْرِهِ. [فَصْلٌ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا يَرْهَنُهُ] (3300) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنَّ يَسْتَعِيرَ شَيْئًا يَرْهَنُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَعَارَ مِنْ الرَّجُلِ شَيْئًا يَرْهَنُهُ عَلَى دَنَانِيرَ مَعْلُومَةٍ، عِنْدَ رَجُلٍ سَمَّاهُ، إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَفَعَلَ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْمُرْتَهَنَ، وَالْقَدْرَ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ، وَجِنْسَهُ، وَمُدَّةَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَاحْتِيجَ إلَى ذِكْرِهِ، كَأَصْلِ الرَّهْنِ، وَمَتَى شَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَخَالَفَ، وَرَهَنَهُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي هَذَا الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِقَدْرِ مِنْ الْمَالِ، فَنَقَصَ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِمِائَةِ، فَيَرْهَنُهُ بِخَمْسِينَ، صَحَّ؛ لِأَنَّ مَنْ أَذِنَ فِي مِائَةٍ، فَقَدْ أَذِنَ فِي خَمْسِينَ. وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ، مِثْلُ أَنَّ رَهَنَهُ بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ، احْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ قَالَ: ارْهَنْهُ بِدَنَانِيرَ. فَرَهَنَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِحَالٍّ فَرَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ أَوْ بِمُؤَجَّلٍ. فَرَهَنَهُ بِحَالٍّ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمِائَةِ، وَيَبْطُلُ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَجَازَ فِيمَا دُونَ غَيْرِهِ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَأْذُونًا فِيهِ بِحَالٍّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لَا يُوجَدُ فِي الْآخَرِ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِهِ فِي الْحَالِّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَلِ وَبِالْعَكْسِ. وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِهِ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إذَا صَحَّ فِي الْمِائَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْغَرَضُ، فَإِنْ أَطْلَقَ الرَّهْنَ فِي الْإِذْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ، وَلَهُ رَهْنُهُ بِمَا شَاءَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالْآخَرُ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ قَدْرَ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ، وَصِفَتَهُ، وَحُلُولَهُ، وَتَأْجِيلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَالْعَارِيَّةُ مَا أَفَادَتْ الْمَنْفَعَةَ، إنَّمَا حَصَّلَتْ لَهُ نَفْعًا يَكُونُ الرَّهْنُ وَثِيقَةً عَنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ، وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَارِيَّةٌ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصِحَّتِهَا ذِكْرُ ذَلِكَ، كَالْعَارِيَّةِ لِغَيْرِ الرَّهْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عَارِيَّةٌ أَنَّهُ قَبَضَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ عَارِيَّةً، كَقَبْضِهِ لِلْخِدْمَةِ. وَقَوْلُهُمْ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 إنَّهُ ضَمَانٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الرَّقَبَةِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِي حَقِّ الضَّامِنِ، وَهَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَإِلْزَامُ الْمُسْتَعِيرِ بِفِكَاكِهِ بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَنَافِعَ لِلسَّيِّدِ. قُلْنَا: الْمَنَافِعُ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ لِتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَائِرَ الْمَنَافِعِ لِلسَّيِّدِ، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَهُ لِحِفْظِ مَتَاعٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخِيطُ لِسَيِّدِهِ. أَوْ يَعْمَلُ لَهُ شَيْئًا، أَوْ اسْتَعَارَهُ لِيَخِيطَ لَهُ، وَيَحْفَظَ الْمَتَاعَ لِسَيِّدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ عَارِيَّةً لَمَا صَحَّ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَلْزَمُ، وَالرَّهْنُ لَازِمٌ. قُلْنَا: الْعَارِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ الْمُطَالَبَةَ بِفِكَاكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ. وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَعَارَهُ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ، أَوْ أَرْضًا لِيَدْفِنَ فِيهَا، أَوْ لِيَزْرَعَ فِيهَا مَا لَا يُحْصَدُ قَصِيلًا. إذْ ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ بِمَا شَاءَ، إلَى أَيْ وَقْتٍ شَاءَ، مِمَّنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِإِطْلَاقِهِ، وَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِفِكَاكِ الرَّهْنِ، حَالًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا، فِي مَحِلِّ الْحَقِّ وَقَبْلَ مَحِلِّهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَلْزَمُ. وَمَتَى حَلَّ الْحَقُّ فَلَمْ يَقْبِضْهُ، فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الرَّهْنِ. وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ، أَوْ مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا بِيعَتْ بِهِ، سَوَاءٌ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا، رَجَعَ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّة مَضْمُونَةٌ، فَيَضْمَنُ نَقْصَ ثَمَنِهَا، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ، رَجَعَ بِمَا بِيعَتْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكٌ لِلْمُعِيرِ، فَيَكُونُ ثَمَنُهُ كُلُّهُ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ عَنْ الرَّاهِنِ، رَجَعَ الثَّمَنُ كُلُّهُ إلَى صَاحِبِهِ. فَإِذَا قَضَى بِهِ دَيْنَ الرَّاهِنِ، رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ ضَمَانِ النَّقْصِ أَنْ لَا تَكُونَ الزِّيَادَةُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ، وَإِنْ تَلَفَ الرَّهْنُ ضَمِنَهُ الرَّاهِنُ بِقِيمَتِهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَفْرِيطِ أَوْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ. [فَصْلٌ فَكَّ الْمُعَيَّر الرَّهْن وَأَدَّى الدِّين الَّذِي عَلَيْهِ بِإِذْنِ الرَّاهِن] (3301) فَصْلٌ: وَإِنْ فَكَّ الْمُعِيرُ الرَّهْنَ، وَأَدَّى الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، رَجَعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَضَاهُ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ. وَإِنْ قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهَلْ يَرْجِعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَتَرَجَّحُ الرُّجُوعُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِفِكَاكِ عَبْدِهِ، وَأَدَاءُ دَيْنِهِ فِكَاكُهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ شَهِدَ الْمُرْتَهِنُ لِلْمُعِيرِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضَرَرًا، وَإِنْ قَالَ: أَذِنْت لِي فِي رَهْنِهِ بِعَشْرَةٍ. قَالَ: بَلْ بِخَمْسَةٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، فَقَضَاهُ حَالًّا بِإِذْنِهِ، رَجَعَ بِهِ حَالًّا، وَإِنْ قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَرْجِعُ بِهِ حَالًّا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِفِكَاكِ عَبْدِهِ فِي الْحَالِّ. [فَصْلٌ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُل عَبْدًا لِيَرْهَنَّهُ بِمِائَةِ فَرَهْنه عِنْدَ رَجُلَيْنِ] (3302) فَصْلٌ: وَلَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لِيَرْهَنهُ بِمِائَةٍ، فَرَهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَا يَرْهَنُ بِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَرْهَنُ عِنْدَهُ، وَلِأَنَّ رَهْنَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْ رَهْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ مِنْهُ بَعْضُهُ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ رَهْنًا عِنْدَ وَاحِدٍ. فَعَلَى هَذَا، إذَا قَضَى أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، خَرَجَ نَصِيبُهُ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ، فَرَهَنَهُ عِنْدَ وَاحِدٍ بِمِائَةٍ، فَقَضَاهُ نِصْفَهَا عَنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَنْفَكُّ مِنْ الرَّهْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ، مِنْ رَاهِنٍ وَاحِدٍ، مَعَ مُرْتَهِنٍ وَاحِدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ. وَالثَّانِي، يَنْفَكُّ نِصْفُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا أَذِنَ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ بِخَمْسِينَ، فَلَا يَكُونُ رَهْنًا بِأَكْثَرَ مِنْهَا، كَمَا لَوْ صَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ارْهَنْ نَصِيبِي بِخَمْسِينَ، لَا تَزِدْ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَالرَّهْنُ مَشْرُوطٌ فِي بَيْعٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَقَدْ فَاتَهُ ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ سُلِّمَ لَهُ كُلُّهُ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ، وَهُوَ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ رَهَنَ هَذَا الْعَبْدَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ، فَقَضَى أَحَدَهُمَا، انْفَكَّ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعِيرَيْنِ مِنْ نِصْفِهِ. وَإِنْ قَضَى نِصْفَ دَيْنِ أَحَدِهِمَا انْفَكَّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يَنْفَكُّ نِصْفُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ فَأَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ] (3303) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ، فَأَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ مِنْ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، فَرَهَنَاهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ مُطْلَقًا، صَحَّ، فَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّنِي مَتَى قَضَيْت مَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ، انْفَكَّ الرَّهْنُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي رَهَنْته، وَفِي الْعَبْدِ الْآخَرِ، أَوْ فِي قَدْرِ نَصِيبِي مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ. فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَنْفَكَّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ رَهْنٌ عَلَى دَيْنٍ آخَرَ، وَيَفْسُدُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ نَقْصًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَكُلُّ شَرْطٍ فَاسِدٍ يُنْقِصُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ، يُفْسِدُ الرَّهْنَ. فَأَمَّا إنْ شَرَطَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَبْقَى الرَّهْنُ مَحْبُوسًا بِغَيْرِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ رَهْنٌ بِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْقُصُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ، فَهَلْ يَفْسُدُ الرَّهْنُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ رَهْنُ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ] (3304) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ رَهْنُ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْوَقْفِ، وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ. وَلَوْ رَهَنَ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، لَمْ يَجُزْ. فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: زِدْنِي مَا لَا يَكُونُ الرَّهْنُ الَّذِي عِنْدَك رَهْنًا بِهِ وَبِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 لَمْ يَجُزْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَهُ رَهْنًا جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا زَادَ فِي دَيْنِ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَدَى الْمُرْتَهِنُ الْعَبْدَ الْجَانِي بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، لِيَكُونَ رَهْنًا بِالْمَالِ الْأَوَّلِ وَبِمَا فَدَاهُ بِهِ، جَازَ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ مَحْضَةٌ، فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ فِيهَا كَالضَّمَانِ وَلَنَا، أَنَّهَا عَيْنٌ مَرْهُونَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا بِدَيْنٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ رَهَنَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ اسْتِيثَاقٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْجَانِي فَيَصِحُّ فِدَاؤُهُ، لِيَكُونَ رَهْنًا بِالْفِدَاءِ وَالْمَالِ الْأَوَّلِ، لِكَوْنِ الرَّهْنِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْأَرْشِ بِالْجَانِي، لِكَوْنِ الْجِنَايَةِ أَقْوَى، وَلِأَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْمُطَالَبَةَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الرَّهْنِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَهُ فِي الرَّهْنِ الْجَائِزِ حَقًّا قَبْلَ لُزُومِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ جَائِزًا بِالْجِنَايَةِ، وَيُفَارِقُ الرَّهْنُ الضَّمَانَ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ لِغَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَرَهَنَهُ بِحَقٍّ ثَانٍ كَانَ رَهْنًا بِالْأَوَّلِ خَاصَّةً، فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ يَعْتَقِدَانِ فَسَادَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَا صِحَّتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّهُ رَهَنَهُ بِالْحَقَّيْنِ مُطْلَقًا، بَلْ يَشْهَدَانِ بِكَيْفِيَّةِ الْحَالِ، لِيَرَى الْحَاكِمُ فِيهِ رَأْيَهُ. [فَصْلٌ رَهْنُ سَوَادِ الْعِرَاقِ وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ] (3305) فَصْلٌ: وَأَمَّا رَهْنُ سَوَادِ الْعِرَاقِ، وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَكَذَلِكَ رَهْنُهَا. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ بِنَائِهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تُرَابِهَا أَوْ مِنْ الشَّجَرِ الْمُجَدَّدِ فِيهَا، إنْ أَفْرَدَهُ بِالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ؛ إحْدَاهُمَا: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ طَلْقٌ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا رَهْنُهُ، فَهُوَ كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ. وَإِنْ رَهَنَهُ مَعَ الْأَرْضِ، بَطَلَ فِي الْأَرْضِ، وَهَلْ يَجُوزُ فِي الْأَشْجَارِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ رَهْنُهَا مُنْفَرِدَةً؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - [فَصْلٌ رَهْنُ الْمَجْهُولِ] (3306) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَلَوْ قَالَ: رَهَنْتُك هَذَا الْجِرَابَ أَوْ الْبَيْتَ أَوْ الْخَرِيطَةَ بِمَا فِيهَا. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَإِنْ لَمْ يَقْلُ: بِمَا فِيهَا. صَحَّ رَهْنُهَا؛ لِلْعِلْمِ بِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، كَالْجِرَابِ الْخَلِقِ وَنَحْوِهِ. وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتُك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِلْعِلْمِ فِي الرَّهْنِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْآبِقِ وَلَا الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَلَا غَيْرِ مَمْلُوكٍ. [فَصْلٌ رَهَنَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ يَعْتَقِدُهُ مَغْصُوبًا فَبَانَ مِلْكُهُ] (3307) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا، أَوْ بَاعَهُ، يَعْتَقِدُهُ مَغْصُوبًا، فَبَانَ مِلْكُهُ، مِثْلُ إنْ رَهَنَ عَبْدَ أَبِيهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 فَبَانَ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ مَاتَ، وَصَارَ الْعَبْدُ مِلْكَهُ بِالْمِيرَاثِ، أَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا يَشْتَرِي لَهُ عَبْدًا مِنْ سَيِّدِهِ، ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ رَهَنَهُ، يَعْتَقِدُهُ لِسَيِّدِهِ الْأَوَّلِ، فَبَانَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَادَفَ مِلْكَهُ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ عَلِمَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَهُ بَاطِلًا. [فَصْلٌ رَهَنَ الْمَبِيعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَار] (3308) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَ الْمَبِيعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، لَمْ يَصِحَّ، إلَّا أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ. وَلَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، فَرَهَنَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ الَّتِي لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْلَ الرُّجُوعِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ مَالًا يَمْلِكُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ الْأَبُ الْعَيْنَ الَّتِي وَهَبَهَا لِابْنِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ فِيهَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلشَّافِعِي فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ؛ لِأَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ، فَتَصَرُّفُهُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ فِيهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ رَهَنَ مَا لَا يَمْلِكُهُ. بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ رَهَنَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. [فَصْلٌ رَهَنَ ثَمَرَة شَجَرٍ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ] (3309) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَ ثَمَرَةَ شَجَرٍ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ، لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ، فَرَهَنَ الثَّمَرَةَ الْأُولَى إلَى مَحِلٍّ تَحْدُثُ الثَّانِيَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ، فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ حِينَ حُلُولِ الْحَقِّ، فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ مَجْهُولًا حِينَ الْعَقْدِ، وَكَمَا لَوْ رَهَنَهُ إيَّاهَا بَعْدَ اشْتِبَاهِهَا. فَإِنْ شَرَطَ قَطْعَ الْأُولَى إذَا خِيفَ اخْتِلَاطُهَا بِالثَّانِيَةِ، صَحَّ. فَإِنْ كَانَ الْحِمْلُ الْمَرْهُونُ بِحَقِّ حَالًّا، وَكَانَتْ الثَّمَرَةُ الثَّانِيَةُ تَتَمَيَّزُ مِنْ الْأُولَى إذَا حَدَثَتْ، فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ. فَإِنْ وَقَعَ التَّوَانِي فِي قَطْعِ الْأُولَى حَتَّى اخْتَلَطَتْ بِالثَّانِيَةِ، وَتَعَذَّرَ التَّمَيُّزُ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَقَدْ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ. فَعَلَى هَذَا إنْ سَمْحَ الرَّاهِنُ بِكَوْنِ الثَّمَرَةِ رَهْنًا، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الْمَرْهُونِ مِنْهُمَا، فَحَسَنٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. [فَصْلٌ رَهَنَ مَنَافِع دَارِ شَهْرًا] (3310) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَهُ مَنَافِعَ دَارِهِ شَهْرًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَالْمَنَافِعُ تَهْلِكُ إلَى حُلُولِ الْحَقِّ. وَإِنْ رَهَنَهُ أُجْرَةَ دَارِهِ شَهْرًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ وَغَيْرُ مَمْلُوكَةٍ. [فَصْلٌ رَهَنَ الْمَكَاتِب مِنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ] (3311) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَ الْمُكَاتَبُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ. وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ. وَلَوْ رَهَنَ الْعَبْدَ الْمَأْذُونُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى السَّيِّدِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ. فَقَدْ صَارَ حُرًّا بِشِرَائِهِ إيَّاهُ. [فَصْلٌ رَهَنَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ أَوْ بَاعَهَا وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنِ] (3312) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ، أَوْ بَاعَهَا، وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، صَحَّ فِي أَحَدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِي، فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ، كَالْمَرْهُونِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَلَمْ يُعَلِّقْ بِهِ حَقًّا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ رَهَنَ الْمُرْتَدَّ. وَفَارَقَ الْمَرْهُونَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتنَا فَالْحَقُّ تَعَلَّقَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَصَرُّفَهُ. وَهَكَذَا كُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِهِ، كَالزَّكَاةِ وَالْجِنَايَةِ، فَلَا يَمْنَعُ رَهْنَهُ، فَإِذَا رَهَنَهُ، ثُمَّ قَضَى الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْحَقَّ، فَلِلْغُرَمَاءِ انْتِزَاعُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ أَسْبَقُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْجَانِي. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي التَّرِكَةِ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ مَبِيعٌ بَاعَهُ الْمَيِّتُ بِعَيْبٍ ظَهَرَ فِيهِ، أَوْ حَقٌّ تَجَدَّدَ تَعَلُّقُهُ بِالتَّرِكَةِ، مِثْلُ إنْ وَقَعَ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فِي بِئْرٍ حَفَرَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ نَافِذٍ، فَإِنْ قَضَى الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ نَفَذَ، وَإِلَّا فُسِخَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ. [فَصْلٌ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرِ] (3313) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ صِحَّةَ رَهْنِهِ، إذَا شَرَطَا كَوْنَهُ عَلَى يَدِ مُسْلِمٍ، وَيَبِيعُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ مَالِكُهُ. وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ. [مَسْأَلَةٌ قَبَضَ الرَّهْنَ مَنْ تَشَارَطَا أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ عَلَى يَدِهِ] (3314) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا قَبَضَ الرَّهْنَ مَنْ تَشَارَطَا أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ عَلَى يَدِهِ، صَارَ مَقْبُوضًا وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُتَرَاهِنَيْنِ إذَا شَرَطَا كَوْنَ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ رَضِيَاهُ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ، جَازَ، وَكَانَ وَكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ، فَمَتَى قَبَضَهُ صَحَّ قَبْضُهُ، فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَكُونُ مَقْبُوضًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ، فَتَعَلَّقَ بِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلَنَا، أَنَّهُ قَبْضٌ فِي عَقَدَ، فَجَازَ فِيهِ التَّوْكِيلُ، كَسَائِرِ الْقُبُوضِ، وَفَارَقَ الْقَبُولَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إذَا كَانَ لِشَخْصِ كَانَ الْقَبُولُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِهِ، وَلَوْ وَكَّلَ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ قَبْلَ أَنْ يُوجِبَ لَهُ، صَحَّ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَا الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ مَنْ يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ، وَهُوَ الْجَائِزُ التَّصَرُّفِ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا، فَإِنْ فَعَلَا كَانَ قَبْضُهُ وَعَدَمُ الْقَبْضِ وَاحِدًا، وَلَا عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَضْيِيعُهَا فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، جَازَ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 بِجَعْلٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ لَهُ الْكَسْبَ، وَبَذْلَ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جَعَلَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِمَنَافِعِهِ. [فَصْلٌ جَعَلَ الرَّاهِن وَالْمُرْتَهِن الرَّهْن فِي يَد اثْنَيْنِ] (3315) فَصْلٌ: فَإِنْ: جَعَلَا الرَّهْنَ فِي يَدِ عَدْلَيْنِ، جَازَ، وَلَهُمَا إمْسَاكُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِحِفْظِهِ. وَإِنْ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي تَعَدَّى فِيهِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي الْآخَرِ، إذَا رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِإِمْسَاكِ الْآخَرِ، جَازَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ، اقْتَسَمَاهُ، وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمْسَاكُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى حِفْظِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحِفْظَ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُتَرَاهِنِينَ لَمْ يَرْضَيَا إلَّا بِحِفْظِهِمَا فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِذَلِكَ، كَالْوَصِيَّيْنِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدِهِمَا بِالتَّصَرُّفِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحِفْظِ يَشُقُّ. لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُهُ فِي مَخْزَنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ قُفْلٌ. (3316) فَصْلٌ: وَمَا دَامَ الْعَدْلُ بِحَالِهِ، لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ الْأَمَانَةِ، وَلَا حَدَثَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا عَدَاوَةٌ، فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا، وَلَا لِلْحَاكِمِ، نَقْلُ الرَّهْنِ عَنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى نَقْلِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَمْ يَعْدُهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْحَاكِمِ نَقْلُهُ عَنْ يَدِهِ. وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ بِفِسْقٍ، أَوْ ضَعْفٍ عَنْ الْحِفْظِ، أَوْ حَدَثَتْ عَدَاوَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، أَوْ بَيْنَ أَحَدِهِمَا، فَلِمَنْ طَلَبَ نَقْلَهُ عَنْ يَدِهِ ذَلِكَ، وَيَضَعَانِهِ فِي يَدِ مَنْ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا، وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تُغَيِّرْ حَالِهِ، بَحَثَ الْحَاكِمُ، وَعَمِلَ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَتَغَيَّرَتْ حَاله فِي الثِّقَةِ وَالْحِفْظِ، فَلِلرَّاهِنِ رَفْعُهُ عَنْ يَدِهِ إلَى الْحَاكِمِ، لِيَضَعَهُ فِي يَدِ عَدْلٍ وَإِذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ تَغَيُّرَ حَالِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَنْكَرَ، بَحَثَ الْحَاكِمُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَمَلَ بِمَا بَانَ لَهُ. وَإِنْ مَاتَ الْعَدْلُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِمَا إمْسَاكُهُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى عَدْلٍ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِهِ، فَلَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَيُفَوَّضُ أَمْرُهُ إلَيْهِمَا. فَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ مَوْتِ الْعَدْلِ، أَوْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَوَرَثَةُ الْمُرْتَهِنِ، رَفَعَا الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ، لِيَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ اثْنَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، بِفِسْقٍ، أَوْ ضَعْفٍ عَنْ الْحِفْظِ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَ أَحَدِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ، أُقِيمَ مُقَامَهُ عَدْلٌ يَنْضَمُّ إلَى الْعَدْلِ الْآخَرِ، فَيَحْفَظَانِ مَعًا. [فَصْلٌ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّ الرَّهْن عَلَى مِنْ أُودَعهُ] (3317) فَصْلٌ: وَلَوْ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّهُ عَلَيْهِمَا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِمَا قَبُولُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُتَطَوِّعٌ بِالْحِفْظِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْمُقَامُ عَلَيْهِ. فَإِنْ امْتَنَعَا، أَجْبَرَهُمَا الْحَاكِمُ. فَإِنْ تَغَيَّبَا، نَصَبَ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَقْبِضُهُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى الْأَمِينِ مِنْ غَيْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 امْتِنَاعِهِمَا، ضَمِنَ، وَضَمِنَ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْر الْمُمْتَنِع. وَكَذَا لَوْ تَرَكَهُ الْعَدْلُ عِنْدَ آخَرَ مَعَ وُجُودِهِمَا، ضَمِنَ، وَضَمِنَ الْقَابِضُ. وَإِنْ امْتَنَعَا، وَلَمْ يَجِدْ حَاكِمَا، فَتَرَكَهُ عِنْدَ عَدْلٍ آخَرَ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ دَفْعُهُ إلَى الْآخَرِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ، وَالْعَدْلُ يُمْسِكُهُ لَهُمَا، هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ حَاضِرَيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَا غَائِبِينَ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ لِلْعَدْلِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ، رَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَقَبَضَهُ مِنْهُ، أَوْ نَصَبَ لَهُ عَدْلًا يَقْبِضُهُ لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، أَوْدَعَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إلَى ثِقَةٍ يُودِعُهُ عِنْدَهُ، مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، وَكَانَتْ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، دَفَعَهُ إلَى عَدْلٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ. وَإِنْ كَانَا أَحَدُهُمَا حَاضِرًا وَالْآخَرُ غَائِبًا، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَائِبَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، مَتَى دَفَعَهُ إلَى أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ رَدَّهُ إلَى يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ حَقِّ الْآخَرِ. [فَصْلٌ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْل وَشَرَطَا لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ حُلُول الْحَقِّ] (3318) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَشَرَطَا لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ، صَحَّ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَإِنْ عَزَلَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَنْ الْبَيْعِ، صَحَّ عَزْلُهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْبَيْعَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا يَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ صَارَتْ مِنْ حُقُوقِ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ إسْقَاطُهُ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَيَتَوَجَّهُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ مَنَعَ الْحِيلَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ الْحِيلَةِ لِلرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ، لِيُجِيبَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَعْزِلَهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْمَقَامُ عَلَيْهَا، كَسَائِرِ الْوَكَالَاتِ، وَكَوْنُهُ مِنْ حُقُوقِ الرَّاهِنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَا الرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ لَازِمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْإِذْنِ، انْفَسَخَتْ الْوَكَالَةُ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَتَى عَزَلَهُ عَنْ الْبَيْعِ، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ الَّذِي حَصَلَ الرَّهْنُ بِثَمَنِهِ، كَمَا لَوْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ، فَأَمَّا إنْ عَزَلَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَلَا يَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلُ الرَّاهِنِ، إذْ الرَّهْنُ مِلْكُهُ، وَلَوْ انْفَرَدَ بِتَوْكِيلِهِ صَحَّ، فَلَمْ يَنْعَزِلْ بِعَزْلِ غَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْزِلَاهُ، فَحَلَّ الْحَقُّ، لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ الْمُرْتَهِنَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَجُزْ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ إذْنٍ مِنْ الرَّاهِنِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ وُجِدَ مَرَّةً، فَيَكْفِي، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ إذْنٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ الْإِذْنَ كَافٍ مَا لَمْ يُغَيَّرْ، وَالْغَرَضُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 مَعَ صَرِيحِ الْإِذْنِ بِخِلَافِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَدَّدَ الْإِذْنَ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. [فَصْلٌ أَتْلَفَ الرَّهْنَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَجْنَبِيّ] (3319) فَصْلٌ: وَلَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَجْنَبِيٌّ، فَعَلَى الْجَانِي قِيمَتُهُ، تَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلِ الرَّهْنِ، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهُ، وَلَهُ إمْسَاكُ الرَّهْنِ وَحِفْظُهُ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَرَاهِنَانِ أَذِنَا لَهُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ بَيْعَ قِيمَته؛ لِأَنَّ لَهُ بَيْعَ نَمَاءِ الرَّهْنِ تَبِعَا لِلْأَصْلِ، فَالْقِيمَةُ أَوْلَى. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَا لَمْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، وَالْمَأْذُونُ فِي بَيْعِهِ قَدْ تَلِفَ، وَقِيمَتُهُ غَيْرُهُ. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ، وَالْقِيمَةُ رَهْنٌ، يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْأَصْلِ، مِنْ كَوْنِهِ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهَا، وَإِمْسَاكَهَا، وَاسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَكَذَلِكَ بَيْعُهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي وَفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، مَلَكَ إيفَاءَهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الرَّهْنِ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَأَشْبَهَتْ ثَمَنَ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ أَذِنَ الرَّاهِن وَالْمُرْتَهِن لِلْعَدْلِ فِي الْبَيْعِ وَعَيَّنَا لَهُ نَقْدًا] (3320) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَا لِلْعَدْلِ فِي الْبَيْعِ، وَعَيَّنَا لَهُ نَقْدًا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: بِعْهُ بِدَرَاهِمَ. وَقَالَ الْآخَرُ: بِدَنَانِيرَ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ حَقًّا، لِلرَّاهِنِ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ، وَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ، فَيَأْمُرُ مَنْ يَبِيعُهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَافَقَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا أَوْ لَمْ يُوَافِقْ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ بَاعَهُ بِأَغْلَبِهِمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَبِيعُ بِمَا يُؤَدِّيه اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ الْأَحَظُّ، وَالْغَرَضُ تَحْصِيلِ الْحَظِّ، فَإِنْ تَسَاوَيَا، بَاعَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جِنْسُ الدَّيْنِ، عَيَّنَ لَهُ الْحَاكِمُ مَا يَبِيعُهُ بِهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْوَكِيلِ فِي وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ، وَالْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَمِنْ الْبَيْعِ نَسَاء، مَتَى خَالَفَ لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ الْمُخَالِفَ وَذَكَرَ فِي الْبَيْعِ نَسَاءً رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا لِإِيفَاءِ دَيْنٍ حَالِ يَجِبُ تَعْجِيلُهُ، وَالْبَيْعُ نَسَاءً يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَكَذَا نَقُولُ فِي الْوَكِيلِ، مَتَى وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ نَسَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِيهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَرَائِنِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَجَبَ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ، فَلِلْمُرْتَهِنِ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ قِيمَةَ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ، لَا رَهْنًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَإِنْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ الرَّهْنِ، رَجَعَ الرَّاهِنُ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وَمَتَى ضَمِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. لِأَنَّ الْعَيْنَ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْعَدْلُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 [فَصْلٌ قَدَّرَ الرَّاهِن وَالْمُرْتَهِن لِلْعَدْلِ الَّذِي فِي يَده الرَّهْن ثَمَنًا] (3321) فَصْلٌ: وَمَتَى قَدَّرَا لَهُ ثَمَنًا لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ بِدُونِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَا، فَلَهُ بَيْعُهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ بَيْعُهُ وَلَوْ بِدَرَاهِمَ وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْوَكَالَةِ. فَإِنْ أَطْلَقَا، فَبَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ، صَحَّ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُضْبَطُ غَالِبًا. وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ، أَوْ بَاعَ بِأَنْقَصَ مِمَّا قَرَّرَا لَهُ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَضَمِنَ النَّقْصَ كُلَّهُ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَفَ فِي النَّقْدِ. [فَصْلٌ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِإِذْنِهِمَا وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ] (3322) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِإِذْنِهِمَا، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِأَجْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ، وَالثَّمَنُ مِلْكُهُ، وَهُوَ أَمِينٌ لَهُ فِي قَبْضِهِ، فَإِذَا تَلِفَ، كَانَ مِنْ ضَمَانِ مُوَكَّلِهِ، كَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ. وَإِنْ ادَّعَى التَّلَفَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَلَّفْنَاهُ الْبَيِّنَةَ، شَقَّ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّاسُ فِي الْأَمَانَاتِ فَإِنْ خَالَفَاهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَقَالَا: مَا قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي. وَادَّعَى ذَلِكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ. وَالْآخَرُ: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْله فِيهِ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ الثَّمَنِ. وَإِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، فَالْعُهْدَةُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْعَدْلِ، إذَا كَانَ قَدْ أَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ وَكِيلٌ. وَكَذَلِكَ كُلُّ وَكِيلٍ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَكِيلِ. وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْوَكَالَةِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ تَلَفِ الثَّمَنِ فِي يَدِ الْعَدْلِ، رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَا شَيْء عَلَى الْعَدْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَدْلِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ أَمِينٌ فِي قَبْضِهِ، يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ، فَقَدْ بَانَ لَهُ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ كَانَ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعِ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِ، وَإِلَّا سَقَطَ حَقُّهُ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، كَانَ الْمُرْتَهِنُ وَالْمُشْتَرِي أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي ثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِي الذِّمَّةِ، فَاسْتَوَوْا فِي قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَهُمْ فَأَمَّا إنْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ مَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُرْتَهِنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَرْجِعُ عَلَى الْعَدْلِ، وَيَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. وَلَنَا، أَنَّ عَيْنَ مَالِهِ صَارَ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ مِنْهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ بِعَيْبٍ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ بِحَقِّ، وَلَا عَلَى الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَوَكِيلٌ، وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ حِينَ بَاعَهُ لَمْ يُعْلِمْ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ وَكِيلٌ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الرَّاهِنِ، إنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَدْلِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، أَوْ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَحَلَفَ، وَرَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ، لَمْ يَرْجِعْ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ ظَلَمَهُ وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ الْقَوْلُ فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فَإِذَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي، رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ، وَرَجَعَ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَإِنْ تَلِفَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ بَانَ مُسْتَحَقًّا قَبْلَ وَزْنِ ثَمَنِهِ، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْعَدْلِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّلَفَ فِي يَدِهِ، هَذَا إذَا عَلِمَ بِالْغَصْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالَمًا، فَهَلْ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْغَاصِبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ ادَّعَى الْعَدْلُ الْمَأْذُون لَهُ فِي الْبَيْع دَفْعَ الثَّمَنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَأَنْكَرَ] (3323) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى الْعَدْلُ دَفْعَ الثَّمَنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلُ الرَّاهِنِ فِي دَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمُرْتَهِنِ فِي ذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِي الْحِفْظِ فَقَطْ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي قَضَاءِ دَيْنٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي رُءُوسِ مَسَائِلِهِمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا حَلَفَ الْعَدْلُ لَهُ، سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ قَبَضَهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ، وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ، لَمْ يَرْجِعْ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: ظَلَمَنِي وَأَخَذَ مِنِّي بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرَّاهِنِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ مَالًا آخَرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ، فَهَلْ يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ؟ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَمَاتَتْ أَوْ غَابَتْ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يُفَرِّطْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فِي غَيْبَةِ الرَّاهِنِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي الْقَضَاءِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الرَّهْنُ بِتَفْرِيطِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَدْفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا، وَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي حَقِّهِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي الْقَضَاءِ أَوْ كَذَّبَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَذَّبَهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. [فَصْلٌ غَصَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الْعَدْلِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ] (3324) فَصْلٌ: إذَا غَصَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الْعَدْلِ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ. وَلَوْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَتَعَدَّى فِيهِ، ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ، أَوْ سَافَرَ بِهِ ثُمَّ رَدَّهُ، لَمْ يَزُلْ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّ اسْتِئْمَانَهُ زَالَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِفِعْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنْ رَدَّهُ إلَى يَدِ نَائِبِ مَالِكِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَدَّهَا إلَى يَدِ مَالِكهَا. [فَصْلٌ اسْتَقْرَضَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ مَالًا وَرَهَنَهُ خَمْرًا] (3325) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَقْرَضَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ مَالًا، وَرَهَنَهُ خَمْرًا، لَمْ يَصِحَّ، سَوَاءٌ جَعَلَهُ عَلَى يَدِ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ بَاعَهَا الرَّاهِنُ، أَوْ نَائِبُهُ الذِّمِّيُّ، وَجَاءَ الْمُقْرِضُ بِثَمَنِهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ. فَإِنْ أَبَى، قِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْبِضَ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا تَقَابَضُوا فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، جَرَتْ مَجْرَى الصَّحِيحَةِ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، مَعَهُمْ الْخَمْرُ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا مِنْ أَثْمَانِهَا. وَإِنْ جَعَلَهَا عَلَى يَدِ مُسْلِمٍ. فَبَاعَهَا، لَمْ يُجْبَرْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قَبُولِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ، وَلَا حُكْمَ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَرْهَنُ مَالَ مِنْ أَوْصَى إلَيْهِ بِحِفْظِ مَالِهِ إلَّا مِنْ ثِقَة] (3326) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَا يَرْهَنُ مَالَ مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ بِحِفْظِ مَالِهِ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَيْسَ لَهُ رَهْنُ مَالِهِ، إلَّا عِنْدَ ثِقَةٍ يُودِعُ مَالَهُ عِنْدَهُ، لِئَلَّا يَجْحَدَهُ أَوْ يُفَرِّطَ فِيهِ فَيَضِيعَ. قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لِوَلِيِّهِ رَهْنُ مَالِهِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ثِقَةٍ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ حَاجَةٌ إلَى نَفَقَةٍ، أَوْ كُسْوَةٍ، أَوْ إنْفَاقٍ عَلَى عَقَارِهِ الْمُتَهَدِّمِ، أَوْ أَرْضِهِ، أَوْ بَهَائِمِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَالُهُ غَائِبٌ يَتَوَقَّعُ وُرُودَهُ، أَوْ ثَمَرَةٌ يَنْتَظِرُهَا، أَوْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ يَحِلُّ، أَوْ مَتَاعٌ كَاسِدٌ يَرْجُو نِفَاقَهُ؛ فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ الِاقْتِرَاضُ وَرَهْنُ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يَنْتَظِرُهُ، فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الِاقْتِرَاضِ، فَيَبِيعُ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ مَالِهِ، وَيَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُقْرِضُهُ، وَوَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ نَسِيئَةً، وَكَانَ أَحْظَ مِنْ بَيْعِ أَصْلِهِ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ نَسِيئَةً وَيَرْهَنَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ وَأَمِينُهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ، إلَّا أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ وَلِنَفْسِهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَالِ الْيَتِيم] (3327) فَصْلٌ: فَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَالِ الْيَتِيمِ، فَيَكُونُ فِي بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقَرْضَ فِي بَابِ الْمُصَرَّاةِ وَفِي الْبَيْعِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهُنَّ، أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً نَقْدًا بِمِائَةِ أَوْ دُونهَا نَسِيئَةً، وَيَأْخُذَهَا رَهْنًا، فَهَذَا بَيْعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ نَقْدًا أَحْوَطُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ نَسِيئَةً. الثَّانِيَةُ، أَنْ يَبِيعَهُ بِمِائَةٍ نَقْدًا وَعِشْرِينَ نَسِيئَةً، يَأْخُذُ بِهَا رَهْنًا، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِمِائَةٍ نَقْدًا جَازَ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهَا، فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، سَوَاء قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الثَّالِثَةُ، بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ نَسِيئَةً، وَأَخَذَ بِهَا رَهْنًا، فَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِمَالِهِ، وَبَيْعُ النَّقْدِ أَحْوَطُ لَهُ وَلَنَا، أَنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَقَدْ أَمَرْنَاهُ بِالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ، وَهَذَا مِنْ جِهَاته، وَالتَّغْرِيرُ يَزُولُ بِالرَّهْنِ (3328) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا فِي يَدَيْهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ، فَإِنْ دَفَعَ لَهُ سَيِّدُهُ مَالًا يَتَّجِرُ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ، فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الدَّيْنَ غَرَّرَ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ. [فَصْلٌ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ رَهْنًا فَاسْتَعَادَهُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ] (3329) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ رَهْنًا، فَاسْتَعَادَهُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ، جَازَ. وَإِنْ اسْتَعَادَهُ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ. وَإِنْ فَكَّهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَأَطْلَقَ، فَهُوَ لِلْيَتِيمِ. وَإِنْ فَكَّهُ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَأَطْلَقَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتَعَادَهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنْ قَالَ: اسْتَعَدْته لِلْيَتِيمِ. قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ وَإِنْ قَالَ اسْتَعَدْته لِلْيَتِيمِ بَعْدَ هَلَاكِهِ أَوْ هَلَاكِ بَعْضِهِ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِالضَّمَانِ ظَاهِرًا، فَلَا يَزُولُ بِقَوْلِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ؛ وَهُوَ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا، كَمَا قَبْلَ التَّلَفِ. [فَصْلٌ رَهْنِ الْوَصِيّ أَوْ الْحَاكِم مَالَ الْيَتِيمِ عِنْدَ مُكَاتَبِهِ أَوْ وَلَدِهِ] (3330) فَصْلٌ: وَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ أَوْ الْحَاكِمُ مَالَ الْيَتِيمِ عِنْدَ مُكَاتَبِهِ، أَوْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةً لَهُ عَلَيْهِمَا. [فَصْلٌ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَرَهَنَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ] (3331) فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ. فَرَهَنَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَ الْغَرِيمِ، أَوْ غَيْرِهِ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي رَهْنِهَا، فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ. [مَسْأَلَةٌ رَهَنَ شَيْئًا بِمَالِ فَأَدَّى بَعْضَ الْمَالِ] (3332) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا قَضَاهُ بَعْضَ الْحَقِّ، كَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ عَلَى مَا بَقِيَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْوَثِيقَةِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ جَمِيعِهِ، فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ الْحَقِّ، وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَوْ لَا يُمْكِنُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ مَنْ رَهَنَ شَيْئًا بِمَالِ، فَأَدَّى بَعْضَ الْمَالِ، وَأَرَادَ إخْرَاجَ بَعْضِ الرَّهْنِ، أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ حَتَّى يُوَفِّيَهُ آخِرَ حَقِّهِ، أَوْ يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ. كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِحَقِّ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِزَوَالِ جَمِيعِهِ، كَالضَّمَانِ وَالشَّهَادَةِ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ] (3333) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا، وَيُؤْخَذُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِقِيمَةِ الْمُعْتَقِ، فَيَكُونُ رَهْنًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ عِتْقُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ، فَإِنْ أَعْتَقَ، نَفَذَ عِتْقُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعَسِّرًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ {شَرِيكٌ} ، وَالْحَسَنُ بْن صَالِحٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ فِي قِيمَتِهِ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعَسِّرًا. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُعَسِّرِ. ذَكَرَهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي لِأَنَّ عِتْقَهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ، مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ وَبَدَلِهَا، فَلَمْ يَنْفُذْ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُرْتَهِنِ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ يُبْطِلُ حَقَّ غَيْرِ الْمَالِكِ، فَنَفَذَ مِنْ الْمُوسِرِ دُونَ الْمُعَسِّرِ، كَعِتْقِ شِرْكٍ لَهُ مِنْ عَبْدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الرَّاهِنِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعَسِّرًا. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِي لِأَنَّهُ مَعْنَى يُبْطِلُ حَدُّ الْوَثِيقَةِ مِنْ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَنْفُذْ كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ مَالِكٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ تَامِّ الْمِلْكِ، فَنَفَذَ، كَعِتْقِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَنَفَذَ فِيهَا عِتْقُ الْمَالِكِ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالْعِتْقُ يُخَالِفُ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَيَجُوزُ عِتْقُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَالْآبِقِ، وَالْمَجْهُولِ، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشُّرُوطِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أُخِذَتْ مِنْ قِيمَتُهُ، فَجُعِلَتْ مَكَانه رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ الْوَثِيقَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ أَبْطَلَهَا أَجْنَبِيٌّ، أَوْ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ الْعَيْنِ، وَبَدَلٌ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا فَالْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أُيْسِرَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا، إلَّا أَنْ يَخْتَارَ تَعْجِيلَ الْحَقِّ، فَيَقْضِيَهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى رَهْنٍ، وَإِنْ أُيْسِرَ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ، طُولِبَ بِالدَّيْنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ تَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْحَقَّيْنِ مَعًا، وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ حَالَ الْإِعْتَاقِ، لِأَنَّهُ حَالُ الْإِتْلَافِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُعَسِّرِ: يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ فِي قِيمَتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَفِيهِ إيجَابُ الْكَسْبِ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَا صُنْعَ لَهُ، وَلَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَإِلْزَامُ الْغُرْمِ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِتْلَافُ أَوْلَى، كَحَالِ الْيَسَارِ، وَكَسَائِرِ الْإِتْلَافِ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ] (3334) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ أَذِنَ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الْوَثِيقَةِ مُوسِرًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ مُعَسِّرًا، لِأَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا يُنَافِي حَقَّهُ، فَإِذَا وُجِدَ، زَالَ حَقُّهُ، وَقَدْ رَضِيَ بِهِ لِرِضَاهُ بِمَا يُنَافِيه، وَإِذْنِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ. فَإِنْ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَعَلِمَ الرَّاهِنُ بِرُجُوعِهِ، كَانَ كَمَنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَإِنْ عَلِمَ الرَّاهِنُ بِرُجُوعِهِ، فَأَعْتَقَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ بِدُونِ عِلْمِهِ. وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْعِتْقِ، لَمْ يَنْفَعْ رُجُوعُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينه؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَوَرَثَةُ الْمُرْتَهِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 إلَّا أَنَّ أَيْمَانَهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمُرْتَهِنُ وَوَرَثَةُ الرَّاهِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ. [فَصْلٌ تَصَرَّفَ الرَّاهِنُ فِي الْمَرْهُون بِغَيْرِ الْعِتْق] (3335) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الرَّاهِنُ بِغَيْرِ الْعِتْقِ، كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالرَّهْنِ، وَغَيْرِهِ، فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ، غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ، كَفَسْخِ الرَّهْنِ. فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ، صَحَّ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا يُنَافِي حَقَّهُ، فَيَبْطُلُ بِفِعْلِهِ، كَالْعِتْقِ. وَإِنْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَرْهُونَةَ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ، وَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا، وَمَهْرُهَا رَهْنٌ مَعَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّكَاحِ غَيْرُ مَحَلِّ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ رَهْنُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ، كَالْإِجَارَةِ وَلَنَا، أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الرَّهْنِ بِمَا يُنْقِصُ ثَمَنَهُ، وَيَسْتَغِلُّ بَعْضَ مَنَافِعِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ الرَّاهِنُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ، كَالْإِجَارَةِ، وَلَا يُخْفِي تَنْقِيصَهُ لِثَمَنِهَا، فَإِنَّهُ يُعَطِّلُ مَنَافِعَ بَعْضِهَا، وَيَمْنَعُ مُشْتَرِيَهَا مِنْ وَطْئِهَا وَحِلِّهَا، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ تَمْكِينَ زَوْجِهَا مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا فِي اللَّيْلِ، وَيُعَرِّضُهَا بِوَطْئِهِ لِلْحَمْلِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُهَا، وَيَشْغَلُهَا عَنْ خِدْمَتِهِ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهَا، فَتَذْهَبُ الرَّغْبَةُ فِيهَا، وَتَنْقُصُ نَقْصًا كَثِيرًا، وَرُبَّمَا مَنَعَ بَيْعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مَحِلَّ عَقْدِ النِّكَاحِ غَيْرُ مَحِلِّ الرَّهْنِ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ مَحِلَّ الرَّهْنِ مَحِلُّ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَتَنَاوَلُ جُمْلَتَهَا، وَلِهَذَا يُبَاحُ لِمُشْتَرِيهَا اسْتِمْتَاعُهَا، وَإِنَّمَا صَحَّ رَهْنُ الْمُزَوَّجَةِ لِبَقَاءِ مُعْظَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا، وَبَقَائِهَا مَحِلًّا لِلْبَيْعِ، كَمَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَيُفَارِقُ الرَّهْنُ الْإِجَارَةَ؛ فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِ الْإِجَارَةِ، وَلَا يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ، وَيُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِ الرَّهْنِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَإِنَّ تَزْوِيجَهَا يَمْنَعُ بَيْعَهَا، أَوْ يَنْقُصُ ثَمَنَهَا، فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ بِكَمَالِهِ. [فَصْلٌ وَطْءُ أَمَتِهِ الْمَرْهُونَة] (3336) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ وَطْءُ أَمَتِهِ الْمَرْهُونَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ وَطْءُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ فَإِنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ الْخَوْفُ مِنْ الْحَمْلِ، مَخَافَةَ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ، فَتَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ الرَّهْنِ، أَوْ تَتَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيهِمَا. وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ هَذَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَنَعَ الرَّاهِنِ مِنْ وَطْءِ أَمَتِهِ الْمَرْهُونَةِ. وَلِأَنَّ سَائِرَ مَنْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا، كَالْمُعْتَدَّةِ وَالْمُسْتَبْرَأَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ الَّذِي تَحْبَلُ فِيهِ يَخْتَلِفُ، وَلَا يَنْحَزِرُ، فَمُنِعَ مِنْ الْوَطْءُ جُمْلَةً، كَمَا حُرِّمَ الْخَمْرُ لِلسُّكْرِ، وَحُرِّمَ مِنْهُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، لِكَوْنِ السُّكْرِ يَخْتَلِفُ. وَإِنْ وَطِئَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ، كَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَنْفَعَتِهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وَوَطْؤُهَا لَا يُنْقِصُ قِيمَتَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَخْدَمَهَا وَإِنْ تَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا أَوْ نَقَصَهَا، مِثْلَ إنْ افْتَضَّ الْبِكْرَ أَوْ أَفْضَاهَا، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ رَهْنًا مَعَهَا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ قَضَاءً مِنْ الْحَقِّ، إنْ لَمْ يَكُنْ حَلَّ. فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ قَدْ حَلَّ، جَعَلَهُ قَضَاءً لَا غَيْرُ؛ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ رَهْنًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ فَأُوَلِّدهَا] (3337) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً، فَأَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ، خَرَجَتْ أَيْضًا مِنْ الرَّهْنِ، وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا، فَتَكُونُ رَهْنًا وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ، فَأَوْلَدَهَا، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حِينَ أَحْبَلَهَا، كَمَا لَوْ جَرَحَ الْعَبْدَ كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ حِينَ جَرَحَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعَسِّرِ، إلَّا أَنَّ الْمُوسِرَ يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهَا، وَالْمُعَسِّرُ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ قِيمَتُهَا، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعِتْقِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا كَقَوْلِهِ فِي الْعِتْقِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: لَا يَنْفُذُ الْإِحْبَالُ. فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَهَا لِلْمُرْتَهِنِ. وَلَوْ حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَامِلٌ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ، فَإِذَا وَلَدَتْ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا حَتَّى تَسْقِيَ وَلَدَهَا اللِّبَأَ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْ يُرْضِعُهُ بِيعَتْ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تُرْضِعَهُ، ثُمَّ يُبَاعُ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ خَاصَّةً، وَيَثْبُتُ لِلْبَاقِي حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، فَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ عَتَقَ وَإِنْ رَجَعَ هَذَا الْمَبِيعُ إلَى الرَّاهِنِ بِإِرْثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ بِيعَ جَمِيعُهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ، ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَتْ الْأَمَةُ تَخْرُجُ إلَى الرَّاهِنِ وَتَأْتِيه، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا، أَخَذَ وَلَدَهَا، وَبِيعَتْ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ أُمُّ وَلَدٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَطْءُ سَابِقًا عَلَى الرَّهْنِ، أَوْ نَقُولُ: مَعْنَى يُنَافِي الرَّهْنَ فِي ابْتِدَائِهِ، فَنَافَاهُ فِي دَوَامِهِ، كَالْحُرِّيَّةِ. [فَصْلٌ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ] (3338) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ مَا يُنَافِي حَقِّهِ، فَكَانَ إذْنًا فِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ، فَهِيَ رَهْنٌ بِحَالِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَذِنَ فِي الْوَطْءِ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِحْبَالِ. قُلْنَا: الْوَطْءُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْإِحْبَالِ، وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِهِ، فَالْإِذْنُ فِي سَبَبِهِ إذْنٌ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَ ثُمَّ رَجَعَ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَأْذَنْ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِذْنِ، وَأَنْكَرَ كَوْنَ الْوَلَدِ مِنْ الْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِذْنِ وَالثَّانِي، أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْوَطْءِ. وَالثَّالِثِ، أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْوِلَادَةِ. وَالرَّابِعِ، أَنْ يَعْتَرِفَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 الْوَطْءِ يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ فِيهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نُلْحِقْهُ بِهِ بِدَعْوَاهُ، بَلْ بِالشَّرْعِ. فَإِنْ أَنْكَرَ شَرْطًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ، فَقَالَ: لَمْ آذَنْ. أَوْ قَالَ: أَذِنْت فَمَا وَطِئَتْ. أَوْ قَالَ: لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ تَضَعُ فِيهَا الْحَمْلَ مُنْذُ وَطِئَتْ. أَوْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا وَلَدَهَا، وَإِنَّمَا اسْتَعَارَتْهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبَقَاءُ الْوَثِيقَةِ صَحِيحَةً حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ أَذِنَ فِي ضَرْبِ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ فَضَرَبَهَا فَتَلِفَتْ] (3339) فَصْلٌ: وَلَوْ أَذِنَ فِي ضَرْبِهَا، فَضَرَبَهَا فَتَلِفَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَتَوَلُّدِ الْإِحْبَالِ مِنْ الْوَطْءِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِوَطْءِ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ] (3340) فَصْلٌ: إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالْوَطْءِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُقِرَّ بِهِ حَالَ الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَ لُزُومِهِ، فَحُكْمُ هَذَيْنِ وَاحِدٌ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ، فَإِنْ بَانَتْ حَائِلًا، أَوْ حَامِلًا بِوَلَدِ لَا يَلْحَقُ بِالرَّاهِنِ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَلْحَقُ بِهِ، لَكِنْ لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، مِثْلُ إنْ وَطِئَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ، ثُمَّ مَلَكَهَا وَرَهَنَهَا. وَإِنْ بَانَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، بَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا قَدْ لَا تَكُونُ رَهْنًا، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ بِذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي عَلِمَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، كَالْمَرِيضِ إذَا مَاتَ، وَالْجَانِي إذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ نَفْسَهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهُ بِهِ رِضَى بِالْحَمْلِ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ وَالْمَرَضِ وَلَنَا، أَنَّ إذْنَهُ فِي الْوَطْءِ إذْنٌ فِيمَا يَئُولُ إلَيْهِ، كَذَلِكَ رِضَاهُ بِهِ رِضَى بِمَا يَئُولهُ إلَيْهِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَقَرَّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَفْسَخُ عَقْدًا لَازِمًا لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ بَيْعِهَا. وَيَحْتَمِلَ أَنْ يُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ فِي مِلْكِهِ بِمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ بِخُرُوجِهَا مِنْ الرَّهْنِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يُقْبَلُ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ غَصَبَهَا، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ جَنَتْ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهَا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا، صَحَّ إقْرَارُهُ، وَخَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يُقْبَلُ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْتَاقُهُ لِلرَّهْنِ وَلَنَا، أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَنَفَذَ عِتْقُهُ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِعِتْقِهِ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِعِتْقِهِ يَجْرِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 مَجْرَى عِتْقِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَنْفُذَ إقْرَارُ الْمُعَسِّرِ، بِنَاءٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. فَقَالَ الْقَاضِي: ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ كَذِبَهُ مُحْتَمَلٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِفَ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي اسْتِحْلَافِهِ، عَلَى نَحْوِ الْوَجْهَيْنِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْعِتْقِ لَمْ يَسْتَحْلِفْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ. فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى يَمِينٍ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِ الرَّاهِنِ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ، فَالْيَمِينُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَرُجُوعُهُمَا عَنْهُ مَقْبُولٌ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيلَادِ أَمَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا عَائِدٌ إلَيْهِ مِنْ حِلِّ اسْتِمْتَاعِهَا، وَمِلْكِ خِدْمَتِهَا، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ. فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ ثَبَتَ الْحَقُّ فِي الرَّهْنِ، وَيَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيِ فَعَلَ الْغَيْرِ، فَإِذَا حَلَفَ، سَقَطَتْ الدَّعْوَى بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَبَقِيَ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، بِحَيْثُ لَوْ عَادَ إلَيْهِ الرَّهْنُ ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ إقْرَارِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، أَنْ يُغَرِّمَاهُ فِي الْحَالِ، فَلَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْجِنَايَةِ بِتَصَرُّفِهِ، فَلَزِمَهُ أَرْشُهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ. [فَصْلٌ وَطْءُ الْمُرْتَهِنِ الْجَارِيَة الْمَرْهُونَة] (3341) فَصْلٌ: وَلَا يَحِلُّ لِلْمُرْتَهِنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إجْمَاعًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَةً وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ. فَإِنْ وَطِئَهَا، عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّهْنَ اسْتِيثَاقٌ بِالدَّيْنِ، وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ، لِأَنَّ وَطْءَ الْمُسْتَأْجَرَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ مِلْكِهِ لِنَفْعِهَا، فَالرَّهْنُ أَوْلَى. فَإِنْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ، وَاحْتَمَلَ صِدْقَهُ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ، أَوْ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا مُعْتَقِدًا إبَاحَةَ وَطْئِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا يَظُنُّهَا أَمَتَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ وَلَدِهَا يَوْمَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ الْحِلَّ مَنَعَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ رَقِيقًا، فَفَوَّتَ رِقَّ الْوَلَدِ عَلَى سَيِّدِهَا، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، كَالْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ صِدْقَهُ، كَالنَّاشِئِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، مُخْتَلِطًا بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَعْلَمُ بِهِ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَمَنْ لَمْ يَدَّعِ الْجَهْلَ، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِنَا. وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ قِيمَةُ الْوَلَدِ مَعَ الْإِذْنِ فِي الْوَطْءِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْوَطْءِ. إذْنٌ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي الْوَطْءِ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الرَّهْنِ وَلَوْ أَذِنَ فِي قَطْعِ إصْبَعٍ، فَسَرَتْ إلَى أُخْرَى، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ رَقِيقًا، وَسَبَبُهُ اعْتِقَادُ الْحِلِّ، وَمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 بِخِلَافِ الْوَطْءِ، فَإِنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الرَّهْنِ بِالْحَمْلِ الَّذِي الْوَطْءَ الْمَأْذُونِ فِيهِ سَبَبٌ لَهُ. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، فَلَا مَهْرَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لَهَا ابْتِدَاءً، فَلَا يَسْقُطُ بِإِذْنِ غَيْرِهَا. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَلَنَا، أَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِهِ، وَهُوَ حَقُّهُ، فَلَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي قَتْلِهَا، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجِبْ عِوَضُهَا، كَالْحُرَّةِ الْمُطَاوِعَةِ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ، سَوَاءٌ أَكْرَهَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ مَعَ الْمُطَاوَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ، كَالْحُرَّةِ وَلَنَا، أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَةِ الْأَمَةِ وَإِذْنِهَا، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ يَدِهَا، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمَمْلُوكَةَ لِلسَّيِّدِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهَا، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا، وَكَأَرْشِ بَكَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ بِكْرًا، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالْمُكْرَهَةِ عَلَى الْبِغَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِذَلِكَ، مَعَ كَوْنِهَا مُكْرَهَةً عَلَيْهِ، فَقَالَ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] وَقَوْلُهُمْ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ. قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَجِبُ لَهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِسَيِّدِهَا، وَيُفَارِقُ الْحُرَّةَ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهَا، وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا بِإِذْنِهَا، وَهَاهُنَا الْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَأْذَنْ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ بِإِكْرَاهِهَا، وَسُقُوطُهُ بِمُطَاوَعَتِهَا، فَكَذَلِكَ السَّيِّدُ هَاهُنَا، لَمَا تَعَلَّقَ السُّقُوطُ بِإِذْنِهِ، يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَسَوَاءٌ وَطِئَهَا مُعْتَقِدًا لِلْحِلِّ، أَوْ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ، أَوْ ادَّعَى شُبْهَةً، أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقُّ آدَمِي، فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا تَصِيرُ هَذِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُرْتَهِنِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ مَلَكَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَسَوَاءٌ حَكَمْنَا بِرِقِّ الْوَلَدِ أَوْ حُرِّيَّته؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا جَنَى] (3342) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِرَقَبَتِهِ مِنْ مُرْتَهِنِهِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، فَإِنْ اخْتَارَ سَيِّدُهُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَفَعَلَ، فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا جَنَى عَلَى إنْسَانٍ، أَوْ عَلَى مَالِهِ، تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ، وَالْمِلْكُ أَقْوَى مِنْ الرَّهْنِ، فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الرَّهْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ. قُلْنَا: حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ بِعَقْدِهِ، وَحَقُّ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِعَقْدِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُخْتَصٌّ بِالْعَيْنِ، يَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْعَيْنِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا، فَكَانَ تَعَلُّقُهُ بِهَا أَخَفَّ وَأَدْنَى، فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ اسْتِيفَاؤُهُ، فَإِنْ اقْتَصَّ سَقَطَ الرَّهْنُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وَصَارَ كَالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، فَيُقَالُ لِلسَّيِّدِ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ لِلْبَيْعِ فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَبِكَمْ يَفْدِيه؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلِّ، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا يَدْفَعُهُ عِوَضٌ عَنْ الْعَبْدِ، فَلَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ وَالثَّانِيَةُ، يَفْدِيه بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَرْغَبُ فِيهِ رَاغِبٌ، فَيَشْتَرِيه بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِذَا فَدَاهُ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قَائِمٌ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِقُوَّتِهِ، فَإِذَا زَالَ ظَهَرَ حُكْمُ الرَّهْنِ، كَحَقِّ مِنْ لَا رَهْنَ لَهُ مَعَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي تَرِكَةِ مُفْلِسٍ، إذَا أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ ظَهَرَ حُكْمُ الْآخَرِ، فَإِنْ امْتَنَعَ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَبِكَمْ يَفْدِيه؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنْ فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْحَقَّ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، فَرَجَعَ بِهِ، كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ فَدَاهُ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ. وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ زَادَ فِي الْفِدَاءِ عَلَى الْوَاجِبِ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِمَا فَدَاهُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ شَرَطَ لَهُ الرَّاهِنُ الرُّجُوعَ، رَجَعَ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ قَضَاهُ بِإِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا أَصْلٌ يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ فَدَاهُ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُنْ رَهْنًا بِالْفِدَاءِ مَعَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَمْلِكُ بَيْعَ الْعَبْدِ، وَإِبْطَالَ الرَّهْنِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي دَيْنِ الرَّهْنِ قَبْلَ لُزُومِهِ جَائِزَةٌ، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْجِنَايَةِ إلَى الرَّهْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِدَيْنٍ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ثَانِيًا بِدَيْنٍ سِوَاهُ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ سِوَى هَذَا وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ ضَمَانَ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ فَدَاهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْفِدَاءِ، وَإِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ أَوْ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ سَقَطَ دَيْنُ الرَّهْنِ، إنْ كَانَ بِقَدْرِ الْفِدَاءِ. وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ. وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَإِذَا لَمْ يَفْدِ الْجَانِي. فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَغْرِقْهَا، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَبَاقِيه رَهْنٌ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهِ، فَيُبَاعَ الْكُلُّ، وَيُجْعَلَ بَقِيَّةُ الثَّمَنِ رَهْنًا وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَلْ يُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ، أَمْ يُبَاعُ جَمِيعُهُ، وَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْ ثَمَنِهِ عَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ رَهْنًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا جنى عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ] (3343) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْقَوَدِ، كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ، أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ، أَوْ إتْلَافِ مَالٍ، فَيَكُونُ هَدْرًا، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِسَيِّدِهِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ مَالٌ فِي مَالِهِ. الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَالْحَقُّ لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ إنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصَّ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ الْجِنَايَةَ عَلَى عَبْدِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى زَجْرِهِ عَنْ سَيِّدِهِ. فَإِنْ اقْتَصَّ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَقَضَاءً عَنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا بِاخْتِيَارِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ، فَلِلْوَرَثَةِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ لَهُمْ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ لَهُمْ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. فَإِنْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهَلْ يَثْبُتُ لِغَيْرِ الْعَافِي نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ جَنَّى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لِسَيِّدِهِ] (3344) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ لَا يَكُونَ مَرْهُونًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِ سَيِّدِهِ، لَهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُوجِبَةً لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ، ذَهَبَتْ هَدْرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ رَهْنًا، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ وَالْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ، فَلِسَيِّدِهِ الْقِصَاصُ. فَإِنْ اقْتَصَّ، بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، وَكَانَا رَهْنًا بِحَقٍّ وَاحِدٍ فَجِنَايَتُهُ، هَدْرٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا، بَقِيَ الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونًا بِحَقِّ مُفْرَدٍ، فَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ؛ (3345) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، أَنْ يَكُونَ الْحَقَّانِ سَوَاءً، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً، فَتَكُونَ الْجِنَايَةُ هَدْرًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَالْآخَرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ. (3346) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَ الْحَقَّانِ وَتَتَّفِقَ الْقِيمَتَانِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا مِائَةً وَدَيْنُ الْآخَرِ مِائَتَيْنِ، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ، فَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ، لَمْ يُنْقَلْ إلَى دَيْنِ الْمَقْتُولِ، لِعَدَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 الْغَرَضِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، نُقِلَ إلَى الْقَاتِلِ، لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ، غَرَضًا فِي ذَلِكَ. وَهَلْ يُبَاعُ الْقَاتِلُ، وَتُجْعَلُ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ، أَوْ يُنْقَلُ بِحَالِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُبَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالثَّانِي، يُبَاعُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَادَ فِيهِ مُزَايِدٌ، فَبَلَّغَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ عُرِضَ لِلْبَيْعِ فَلَمْ يُزَدْ فِيهِ، لَمْ يُبَعْ، لِعَدَمِ ذَلِكَ (3347) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ؛ أَنْ يَتَّفِقَ الدَّيْنَانِ وَتَخْتَلِفَ الْقِيمَتَانِ، بِأَنْ يَكُونَ دَيْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةً، وَالْآخَرُ مِائَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، فَلَا غَرَضَ فِي النَّقْلِ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَانِي أَكْثَرَ، بَيْعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، يَكُونُ رَهْنًا بِدَيْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَبْقِيَتِهِ وَنَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ، صَارَ مَرْهُونًا بِهِمَا، فَإِنْ حَلَّ أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ، بِيعَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَيْنُهُ الْمُعَجَّلَ بِيعَ لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ رَهْنٌ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلَ الْآخَرُ بِيعَ لِيُسْتَوْفَى بِقَدْرِهِ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ بِدَيْنِهِ (3348) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَ الدَّيْنَانِ وَالْقِيمَتَانِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ خَمْسِينَ وَالْآخَرُ ثَمَانِينَ، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةً وَالْآخَرُ مِائَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، نُقِلَ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ رَهْنًا عِنْدَ غَيْرِ مُرْتَهَنِ الْقَاتِلِ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَالِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَالْقِصَاصُ أَوْلَى، فَإِنْ اقْتَصَّ، بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ لَمْ تُوجِبْ مَالًا يُجْعَلُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَتَكُونُ رَهْنًا، لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ الْوَثِيقَةِ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلِلسَّيِّدِ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ، فَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ كَالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، فَيَثْبُتُ الْمَالُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ، لَوَجَبَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْلَى فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ لَا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، بِعْنَا مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَبَاقِيه بَاقٍ عِنْدَ مُرْتَهِنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُ بَعْضِهِ، بِيعَ جَمِيعُهُ، وَقُسِّمَ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، يَكُونُ رَهْنًا. وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، نُقِلَ الْجَانِي، فَجُعِلَ رَهْنًا عِنْدَ الْآخَرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَيَفْضُلُ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ يَكُنْ رَهْنًا عِنْدَ مُرْتَهِنِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ جنى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى مَوْرُوثِ سَيِّدِهِ] (3349) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مَوْرُوثِ سَيِّدِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، كَأَطْرَافِهِ أَوْ مَالِهِ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَلَهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَهُ، وَالْعَفْوُ عَلَى مَالٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ابْتِدَاءً، ثَبَتَ، فَإِنْ انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَى السَّيِّدِ بِمَوْتِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلَهُ مَا لِمُوَرِّثِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ، لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا مَا لَا يَثْبُتُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ، ثَبَتَ الْحُكْمُ لِسَيِّدِهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ. وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ابْتِدَاءً، فَهَلْ يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَتْ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. وَالثَّانِي، لَا يَثْبُتُ لَهُ مَالُهُ فِي عَبْدِهِ، وَلَا لَهُ الْعَفْوُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ ابْتِدَاءً، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ، وُجُوبُ الْحَقِّ فِي ابْتِدَائِهِ هَلْ يَثْبُتُ لِلْقَتِيلِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ، أَوْ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ لَهُ الْمَالُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَوْرُوثِ كَذَلِكَ، فَيَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ كَذَلِكَ، وَإِنْ اقْتَصَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُدِّمَ الْمَالُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَالْقِصَاصُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ لِلْمَوْرُوثِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ وَارِثِهِ. [فَصْلٌ جنى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى مُكَاتَبِ السَّيِّدِ] (3350) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مُكَاتَبِ السَّيِّدِ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَعْجِيزُهُ كَمَوْتِ وَلَدِهِ، فِيمَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ جنى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ] (3351) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْجِنَايَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، أَوْ صَبِيًّا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَالسَّيِّدُ هُوَ الْقَاتِلُ، وَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِهِ، لَا يُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهَا، مُوسِرًا كَانَ السَّيِّدُ أَوْ مُعَسِّرًا كَمَا لَوْ بَاشَرَ السَّيِّدُ الْقَتْلَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ إذَا كَانَ السَّيِّدُ مُعَسِّرًا؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْجِنَايَةَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ آلَةٌ، فَلَوْ تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِهِ بِيعَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُوسِرًا، وَحُكْمُ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ، حُكْمُ إقْرَارِ الْعَبْدِ غَيْرِ الْمَرْهُونِ، عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. [مَسْأَلَةٌ جُرِحَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ أَوْ قُتِلَ] (3352) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِنْ جُرِحَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ، أَوْ قُتِلَ، فَالْخَصْمُ فِي ذَلِكَ سَيِّدُهُ، وَمَا قَبَضَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رَهْنٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جُنِيَ عَلَى الرَّهْنِ، فَالْخَصْمُ فِي ذَلِكَ سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ، وَالْأَرْشُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُودَعِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ، أَوْ أَخَّرَهَا، أَوْ كَانَ غَائِبًا، أَوْ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْهَا، فَلِلْمُرْتَهِنِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمُوجِبِهَا، فَكَانَ لَهُ الطَّلَبُ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْجَانِي سَيِّدُهُ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِيُسْتَوْفَى، فَإِنْ اقْتَصَّ، أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ أَقَلِّهِمَا قِيمَةً، فَجُعِلَتْ مَكَانَهُ رَهْنًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 شَيْءٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ مَالٌ، وَلَا اُسْتُحِقَّ بِحَالِ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يَسْعَى لِلْمُرْتَهِنِ فِي اكْتِسَابِ مَالٍ وَلَنَا، أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا اُسْتُحِقَّ بِسَبَبِ إتْلَافِ الرَّهْنِ، فَغَرِمَ قِيمَتَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ لِلسَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا أَقَلِّ الْقِيمَتَيْنِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ، وَالْوَاجِبُ مِنْ الْمَالِ هُوَ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ إنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ صَحَّ عَفْوُهُ، وَوَجَبَ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ، لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ قَتْلًا، وَإِنْ كَانَ جُرْحًا أَوْ قَلْعَ سِنٍّ وَنَحْوَهُ، فَالْوَاجِبُ بِالْعَفْوِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ أَرْشِ الْجُرْحِ، أَوْ قِيمَةِ الْجَانِي. وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، انْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مُوجِبِ الْعَمْدِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ. ثَبَتَ الْمَالُ وَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ اقْتَصَّ؛ إنْ قُلْنَا ثَمَّ: يَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَجَبَ هَاهُنَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ بَدَلَ الرَّهْنِ بِفِعْلِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ شَيْءٌ ثَمَّ. لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا شَيْءٌ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، أَوْ ثَبَتَ الْمَالُ بِالْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَيَكُونُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، فَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا، أَوْ يَأْخُذَ حَيَوَانًا عَنْهَا، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَمَا قَبَضَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رَهْنٌ، بَدَلًا عَنْ الْأَوَّلِ، نَائِبًا عَنْهُ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ، فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْ الْمَالِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَسْقُطُ حَقُّ الرَّاهِنِ دُونَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَتُؤْخَذُ الْقِيمَةُ تَكُنْ رَهْنًا، فَإِذَا زَالَ الرَّهْنُ رَجَعَ الْأَرْشُ إلَى الْجَانِي، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الرَّهْنَ مَغْصُوبٌ أَوْ جَانٍ وَإِنْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ مِنْ الْأَرْشِ، احْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ الْجَانِي عَلَى الْعَافِي؛ لِأَنَّ مَالَهُ ذَهَبَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَوْ اسْتَعَارَهُ فَرَهَنَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِي حَقِّ الْجَانِي مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا اُسْتُوْفِيَ بِسَبَبِ كَانَ مِنْهُ حَالَ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَى إنْسَانٌ عَلَى عَبْدِهِ. ثُمَّ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ، فَتَلِفَ بِالْجِنَايَةِ السَّابِقَةِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَصِحُّ الْعَفْوُ مُطْلَقًا، وَيُؤْخَذُ مِنْ الرَّاهِنِ قِيمَتُهُ تَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ دَيْنَهُ عَنْ غَرِيمِهِ، فَصَحَّ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ. قَالَ: وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ رَهْنًا مَعَ عَدَمِ حَقِّ الرَّاهِنِ فِيهِ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، لِتَفْوِيتِهِ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ بَدَلُ الرَّهْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الرَّاهِنِ عَنْهُ كَالرَّهْنِ نَفْسِهِ، وَكَمَا لَوْ وُهِبَ الرَّهْنُ أَوْ غُصِبَ، فَعُفِيَ عَنْ غَاصِبِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَسْقَطْت حَقِّي مِنْ ذَلِكَ. سَقَطَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُ الرَّاهِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 وَلَا يَضُرُّهُ. وَإِنْ قَالَ: أَسْقَطْت الْأَرْشَ. أَوْ: أَبْرَأْت مِنْهُ. لَمْ يَسْقُطْ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ، فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ غَيْرِهِ وَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَسْقُطُ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ غَيْرِهِ سَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَسْقَطْت حَقِّي وَحَقَّ الرَّاهِنِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ. فَلَمْ يَصِحَّ مَا تَضَمَّنَهُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ فَكَذَّبَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ] (3353) فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ، فَكَذَّبَاهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَصَدَّقَهُ الرَّاهِنُ، فَلَهُ الْأَرْشُ، وَلَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَحْدَهُ، تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْأَرْشِ، وَلَهُ قَبْضُهُ. فَإِذَا قَضَى الرَّاهِنُ الْحَقَّ، أَوْ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ، رَجَعَ الْأَرْشُ إلَى الْجَانِي، وَلَا شَيْءَ لِلرَّاهِنِ فِيهِ. وَإِنْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الْأَرْشِ، لَمْ يَمْلِكْ الْجَانِي مُطَالَبَةَ الرَّاهِنِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ. [فَصْلٌ كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً حَامِلًا فَضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيٌّ] (3354) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً حَامِلًا، فَضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ. وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لِوَقْتِ يَعِيشُ مِثْلُهُ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ. وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ نَقْصِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ نَقْصُهَا عَمَّا وَجَبَ ضَمَانُهُ مِنْ وَلَدِهَا. وَيَحْتَمِلَ أَنْ يَضْمَنَ نَقْصَهَا بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ حُصِلَ بِفِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا ثُمَّ جَنَى عَلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ نَقْصِهَا، أَوْ ضَمَانِ جَنِينِهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ ضَمَانِهَا وُجِدَ، فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ ضَمَانُهُمَا، وَجَبَ ضَمَانُ أَكْثَرِهِمَا. وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ بَهِيمَةٍ، فَأَلْقَتْ وَلَدَهَا مَيِّتًا، فَفِيهِ مَا نَقَصَتْهَا الْجِنَايَةُ لَا غَيْرُ، وَمَا وَجَبَ مِنْ ذَلِكَ كُلّه فَهُوَ رَهْنٌ مَعَ الْأُمِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَا وَجَبَ لِنَقْصِ الْأُمِّ، أَوْ لِنَقْصِ الْبَهِيمَةِ، فَهُوَ رَهْنٌ مَعَهَا، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ فِي وَلَدِهَا، وَمَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِرَهْنٍ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا ضَمَانٌ يَجِبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ، فَكَانَ مِنْ الرَّهْنِ، كَالْوَاجِبِ لِنَقْصِ الْوِلَادَةِ وَضَمَانِ وَلَدِ الْبَهِيمَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا أَوْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِالثَّمَنِ] (3355) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً، عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ يَعْرِفَانِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِالثَّمَنِ حَمِيلًا يَعْرِفَانِهِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ. فَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَ الرَّهْنِ، أَوْ أَبَى الْحَمِيلُ أَنْ يَتَحَمَّلَ، فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَفِي إقَامَتِهِ بِلَا رَهْنٍ وَلَا حَمِيلٍ الْحَمِيلُ: الضَّمِينُ. وَهُوَ فَعِيلَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، يُقَالُ: ضَمِينٌ، وَحَمِيلٌ، وَقَبِيلٌ، وَكَفِيلٌ، وَزَعِيمٌ، وَصَبِيرٌ، بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الرَّهْنِ أَوْ الضَّمِينِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، غَيْرُ مُنَافٍ لِمُقْتَضَاهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّتِهِ خِلَافًا إذَا كَانَ مَعْلُومًا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ يَعْرِفَانِهِ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ مَعًا وَمَعْرِفَةُ الرَّهْنِ تَحْصُلُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ الْمُشَاهَدَةُ، أَوْ الصِّفَةُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمَوْصُوفُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 كَمَا فِي السَّلَمِ. وَيَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ. وَأَمَّا الضَّمِينُ فَيُعْلَمُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، أَوْ تَعْرِيفِهِ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَلَا يَصِحُّ بِالصِّفَةِ بِأَنْ يَقُولَ: رَجُلٌ غَنِيٌّ. مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: بِشَرْطِ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ. كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، وَلَيْسَ لَهُ عُرْفٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِإِطْلَاقِ. وَلَوْ قَالَ: بِشَرْطِ رَهْنِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ. أَوْ: يَضْمَنُنِي أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ. فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، كَالْبَيْعِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَصِحُّ شَرْطُ الرَّهْنِ الْمَجْهُولِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ رَهْنًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ، فَجَازَ شَرْطُهَا مُطْلَقًا، كَالشَّهَادَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَالَ: عَلَى أَنْ أَرْهَنَك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ. جَازَ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرَطَ رَهْنًا مَجْهُولًا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رَهْنَ مَا فِي كُمِّهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْلِ، كَالْبَيْعِ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ، فَإِنْ لَهَا عُرْفًا فِي الشَّرْعِ حُمِلَتْ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْ مَضَى فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ، فَسَلَّمَ الرَّهْنَ، أَوْ حَمَلَ عَنْهُ الْحَمِيلُ، لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَ الرَّهْنِ، أَوْ أَبَى الْحَمِيلُ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ إمْضَائِهِ وَالرِّضَا بِهِ بِلَا رَهْنٍ وَلَا حَمِيلٍ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ لَزِمَهُ الْبَيْعُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ وَقَالَ مَالِك وَأَبُو ثَوْرٍ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ إذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ. وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ وَجَدَهُ الْحَاكِمُ دَفَعَهُ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ وَقَعَ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْخِيَارَ وَقَالَ الْقَاضِي: مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَلْزَمُ فِيهِ الرَّهْنُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَلِأَنَّهُ رَهْنٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ، أَوْ كَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ، لَا يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ، وَالرَّهْنُ عَقْدٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ التَّوَابِعِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ يَثْبُتُ بِالْقَوْلِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَسْلِيمٍ، فَاكْتُفِيَ فِي ثُبُوتِهِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ. وَأَمَّا الضَّمِينُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، إذْ لَا يَلْزَمُهُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ وَأَدَاءُ دَيْنِ غَيْرِهِ بِاشْتِرَاطِ غَيْرِهِ وَلَوْ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَلْزَمْ فِي الْحُكْمِ، كَمَا لَوْ وَعَدَهُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ، ثُمَّ أَبَى ذَلِكَ. وَمَتَى لَمْ يَفِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِشَرْطِهِ، كَانَ لَهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ صِفَةً فِي الثَّمَنِ، فَلَمْ يَفِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ، ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ، كَالْبَائِعِ إذَا شَرَطَ الْمَبِيعَ عَلَى صِفَةٍ، فَبَانَ بِخِلَافِهَا. [فَصْلٌ شَرَطَ الْبَائِع رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا مُعَيَّنًا فَجَاءَ بِغَيْرِهِمَا] (3356) فَصْلٌ: وَلَوْ شَرَطَ رَهْنًا، أَوْ ضَمِينًا مُعَيَّنًا، فَجَاءَ بِغَيْرِهِمَا، لَمْ يَلْزَمْ الْبَائِعَ قَبُولُهُ، وَإِنْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِنْ الْمَشْرُوطِ، مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ الْمَشْرُوطِ، وَحَمِيلٍ أَوْثَقَ مِنْ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ غَيْرِهِ، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِالْأَعْيَانِ، فَمِنْهَا مَا يَسْهُلُ بَيْعُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وَالِاسْتِيفَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَأَسْهَلُ حِفْظًا، وَبَعْضُ الذِّمَمِ أَمْلَأُ مِنْ بَعْضِ، وَأَسْهَلُ إيفَاءً، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ. [فَصْلٌ تَعِيب الرَّهْنُ أَوْ اسْتَحَالَ الْعَصِيرُ خَمْرًا قَبْلَ قَبْضِهِ] (3357) فَصْلٌ: وَإِنْ تَعَيَّبَ الرَّهْنُ، أَوْ اسْتَحَالَ الْعَصِيرُ خَمْرًا قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ قَبْضِهِ مَعِيبًا، وَرِضَاهُ بِلَا رَهْنٍ فِيمَا إذَا تَخَمَّرَ الْعَصِيرُ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَرَدِّ الرَّهْنِ. وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَكَذَلِكَ. وَلَيْسَ لَهُ مَعَ إمْسَاكِهِ أَرْشٌ مِنْ أَجْلِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا لَزِمَ فِيمَا حَصَلَ قَبْضُهُ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ، وَالْجُزْءُ الْفَائِتُ لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْأَرْشُ بَدَلًا عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ. وَإِنْ تَلِفَ أَوْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ حُدُوثِ الْعَيْبِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَ أَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُرَادُ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ. وَإِنْ احْتَمَلَ قَوْلَيْهِمَا مَعًا، انْبَنَى عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِيهِ هَاهُنَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَلُزُومُهُ وَالْآخَرُ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لِلْجُزْءِ الْفَائِتِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ مِنْهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ التَّلَفِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: بَعْدَ الْقَبْضِ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبْلَهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَصِيرًا فَاسْتَحَالَ خَمْرًا، وَاخْتَلَفَا فِي زَمَنِ اسْتِحَالَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، كَالِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ التَّلَفِ وَلَنَا، أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، وَاخْتَلَفَا فِيمَا يَفْسُدُ بِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيه، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَيُفَارِقُ اخْتِلَافَهُمَا فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْقَبْضِ هَاهُنَا، وَثَمَّ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الثَّانِي، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا هُنَا فِيمَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَالْعَيْبُ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ وَجَدَ بِالرَّهْنِ عَيْبًا] (3358) فَصْلٌ: وَلَوْ وَجَدَ بِالرَّهْنِ عَيْبًا بَعْدَ أَنْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفَسْخُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِ الرَّاهِنِ لَا يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ضَمَانُهُ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ. وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ، فَعَلَى قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ. لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَعِيبًا، لَمْ يَمْلِكْ فَسْخَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ رَدُّهُ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِيهِ، قُلْنَا: إنَّمَا تُضْمَنُ قِيمَتُهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مِلْكِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْوَثِيقَةِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْوَثِيقَةِ، أَمَّا إذَا تَعَيَّبَ فَقَدْ رَدَّهُ، فَيَسْتَحِقُّ بَدَلَ مَا رَدَّهُ، وَهَاهُنَا لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا لَهُ بَدَلَهُ، لَأَوْجَبْنَا عَلَى الرَّاهِنِ غَيْرَ مَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ. [فَصْلٌ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي بِرّهنَّ] (3359) فَصْلٌ: وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ، فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي بِرَهْنٍ، وَقَبَضَهُ الْبَائِعُ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، وَلَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ انْتِزَاعَهُ، وَلَا التَّصَرُّفَ فِيهِ، إلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَدَّهُ بِعَيْبِ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَمْلِكْ فَسْخَ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ تَبَايَعَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ] (3360) فَصْلٌ: وَإِذَا تَبَايَعَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ، لَمْ يَصِحَّ قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمَبِيعَ حِينَ شَرَطَ رَهْنَهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّهُ يَقْبِضُهُ ثُمَّ يَرْهَنُهُ، أَوْ شَرَطَ رَهْنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَبَسَ الْمَبِيعَ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ، فَهُوَ غَاصِبٌ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَجَازَ رَهْنُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ رَهْنًا غَيْرَ الْمَبِيعِ، فَيَكُونُ لَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الرَّهْنَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فُسِخَ الْبَيْعُ. فَأَمَّا شَرْطُ رَهْنِ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ عَلَى ثَمَنِهِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِوُجُوهِ، مِنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي إيفَاءَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنُ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ مِنْهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ أَوَّلًا، وَرَهْنُ الْمَبِيعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا، وَالرَّهْنُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا، وَهَذَا يُوجِبُ تَنَاقُضَ أَحْكَامِهِمَا. وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ صِحَّةُ رَهْنِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ. قُلْنَا إنَّمَا شَرَطَ رَهْنَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ. وَقَوْلُهُمْ الْبَيْعَ يَقْتَضِي إيفَاءَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ. غَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا يَقْتَضِي وَفَاءَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا، وَلَوْ تَعَذَّرَ وَفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ لَاسْتُوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَقَوْلُهُمْ: الْبَيْعُ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ. مَمْنُوعٌ. وَإِنْ سُلِّمَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُثْبِتَ بِالشَّرْطِ خِلَافُهُ. كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ حُلُولُ الثَّمَنِ وَوُجُوبُ تَسْلِيمه فِي الْحَالِ، وَلَوْ شَرَطَ التَّأْجِيلَ جَازَ، وَكَذَلِكَ مُقْتَضَى الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَيَنْتَفِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، لَكِنْ رَهَنَهُ عِنْدَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَصَحَّ عِنْدَهُ كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ، فَصَحَّ رَهْنُهُ عَلَى ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ، انْبَنَى عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ رَهْنُهُ، وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ، فَأَشْبَهَ بَيْعَهُ. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا فَاسِدًا] (3361) فَصْلٌ: وَإِذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا فَاسِدًا كَالْمُحَرَّمِ، وَالْمَجْهُولِ، وَالْمَعْدُومِ، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، أَوْ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ شَرَطَ رَهْنَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ، فَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ رِوَايَتَانِ، مَضَى تَوْجِيهُهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ هَاهُنَا فَسَادَ الْبَيْعِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الشُّرُوطُ فِي الرَّهْنِ] (3362) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ فِي الرَّهْنِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ صَحِيحًا وَفَاسِدًا، فَالصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ كَوْنَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ عَيَّنَهُ، أَوْ عَدْلَيْنِ، أَوْ أَكْثَرِ، أَوْ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَدْلُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ هَذَا خِلَافًا، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ الْمُرْتَهِنُ، صَحَّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِيمَا يَتَنَافَى فِيهِ الْغَرَضَانِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ. وَوَجْهُ التَّنَافِي أَنَّ الرَّاهِنَ يُرِيدُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَبِيعِ، وَالِاحْتِيَاطَ فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ، وَالْمُرْتَهِنَ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحَقِّ، وَإِنْجَازَ الْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا جَازَ تَوْكِيلُ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ، جَازَ تَوْكِيلُ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ، كَبَيْعِ عَيْنٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ لَهُ الْإِمْسَاكُ، جَازَ اشْتِرَاطُ الْبَيْعِ لَهُ، كَالْعَدْلِ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْغَرَضَيْنِ، إذَا كَانَ غَرَضُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ، وَإِنْجَازِ الْبَيْعِ؛ وَعَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا وَكَّلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِغَرَضِهِ، فَقَدْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ، وَالْحَقُّ لَهُ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ السَّمَاحَةِ بِهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فَاسِقًا فِي بَيْعِ مَالِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بَائِعًا مُشْتَرِيًا، وَمُوجِبًا، قَابِلًا، وَقَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ رَهَنَهُ أَمَةً فَشَرَطَ كَوْنَهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ لَهَا] (3363) فَصْلٌ: وَإِذَا رَهَنَهُ أَمَةً، فَشَرَطَ كَوْنَهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ، أَوْ ذِي مَحْرَمٍ لَهَا، أَوْ كَوْنَهَا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى الْخَلْوَةِ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا زَوْجَاتٌ، أَوْ سَرَارِيٌّ، أَوْ نِسَاءٌ مِنْ مَحَارِمِهِمَا مَعَهُمَا فِي دَارِهِمَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مُحَرَّمٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَسَدَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْخَلْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا. وَلَا يَفْسُدُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى نَقْصٍ، وَلَا ضَرَرٍ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ رَهَنَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، يَصِحُّ الرَّهْنُ، وَيَجْعَلُهَا الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا، فَشَرَطَ مَوْضِعَهُ، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَوْضِعَهُ، صَحَّ أَيْضًا، كَالْأَمَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ لِلْأَمَةِ عُرْفًا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مِمَّنْ يَجُوزُ وَضْعُهَا عِنْدَهُ كَالْعَبْدِ، وَإِذَا كَانَ مُرْتَهِنُ الْعَبْدِ امْرَأَةً لَا زَوْجَ لَهَا، فَشَرَطَتْ كَوْنِهِ عِنْدَهَا عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى خَلْوَتِهِ بِهَا، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، فَاسْتَوَيَا. [فَصْلٌ وَالْقِسْمُ الثَّانِي الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي الرَّهْن] (3364) فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي، الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الرَّهْنِ نَحْوِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَلَّا يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ حُلُول الْحَقِّ، أَوْ لَا يُسْتَوْفَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ لَا يُبَاعُ مَا خِيفَ تَلَفُهُ، أَوْ بَيْعَ الرَّهْنِ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ، أَوْ أَنْ لَا يَبِيعَهُ إلَّا بِمَا يُرْضِيه. فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ؛ لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَإِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 الْمَقْصُودَ مَعَ الْوَفَاءِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ مَفْقُودٌ وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلرَّاهِنِ، أَوْ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي حَقِّهِ، أَوْ تَوْقِيتَ الرَّهْنِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا يَوْمًا وَيَوْمًا لَا، أَوْ كَوْنَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، أَوْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، أَوْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ كَوْنَهُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ، فَهَذِهِ كُلّهَا فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ، وَلَا هُوَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَإِنْ شَرَطَا شَيْئًا مِنْهَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الرَّهْنُ بِهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ إنَّمَا بَذَلَ مِلْكَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِعَدَمِ الرِّضَى بِهِ بِدُونِهِ. وَقِيلَ: إنْ شَرَطَ الرَّهْنَ مُؤَقَّتًا، أَوْ رَهَنَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا، فَسَدَ الرَّهْنُ. وَهَلْ يَفْسُدُ بِسَائِرِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَنَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " صِحَّتَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ. وَلَمْ يُحْكَمْ بِفَسَادِهِ. وَقِيلَ: مَا يُنْقِصُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يُبْطِلُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَمَا لَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ شَرَطَتْ لَهُ زِيَادَةٌ لَمْ تَصِحَّ لَهُ، فَإِذَا فَسَدَتْ الزِّيَادَةُ لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الرَّهْنِ. [فَصْلٌ رَهْن الدِّين] (3365) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ مَتَى حَلَّ الْحَقُّ وَلَمْ يُوَفِّنِي فَالرَّهْنُ لِي بِالدَّيْنِ أَوْ: فَهُوَ مَبِيعٌ لِي بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك. فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. قَالَ الْأَثْرَمُ قُلْت: لِأَحْمَدْ مَا مَعْنَى قَوْله: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» ؟ قَالَ: لَا يَدْفَعُ رَهْنًا إلَى رَجُلٍ، وَيَقُولُ: إنْ جِئْتُك بِالدَّرَاهِمِ إلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» عِنْدَ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَمَضَى الْأَجَلُ، فَقَالَ الَّذِي ارْتَهَنَ: مَنْزِلِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْعَ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مَبِيعًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ الْحَقَّ فِي مَحِلِّهِ، وَالْبَيْعُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا شَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ فَسَدَ الرَّهْنُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَفْسُدَ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " وَاحْتَجَّ بُقُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» فَنَفَى غَلْقَهُ دُونَ أَصْلِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ قَدْ رَضِيَ بِرَهْنِهِ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ، فَمَعَ بُطْلَانِهِ أَوْلَى أَنْ يَرْضَى بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ رَهْنٌ بِشَرْطِ فَاسِدٍ، فَكَانَ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ شَرَطَ تَوَفَّيْته، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ. [فَصْلٌ الرَّهْن بِشَرْطِ الزِّيَادَة فِي الْأَجَلِ] (3366) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ الْغَرِيمُ: رَهَنْتُك عَبْدِي هَذَا، عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي فِي الْأَجَلِ. كَانَ بَاطِلًا؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ فِي الدَّيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدٍ وَجَبَ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَجَلُ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُضَاهِي رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، كَانُوا يَزِيدُونَ فِي الدَّيْنِ لِيَزْدَادُوا فِي الْأَجَلِ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَقْدَ الرَّهْنِ بِالْأَلْفِ عَلَى مرتهن بِأَلْفَيْنِ] (3367) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ، فَقَالَ: أَقْرِضْنِي أَلْفًا، بِشَرْطِ أَنْ أَرْهَنَك عَبْدِي هَذَا بِالْأَلْفَيْنِ فَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقَرْضَ بَاطِلٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ يَجُرُّ مَنْفَعَةً، وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ بِالْأَلْفِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا بَطَلَ الْقَرْضُ بَطَلَ الرَّهْنُ. فَإِذَا قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِمَا يَقْتَرِضُهُ جَازَ؟ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا حَصَلَ لَهُ تَأْكِيدُ الِاسْتِيفَاءِ لِبَدَلِ مَا أَقْرَضَهُ، وَهُوَ مِثْلُهُ، وَالْقَرْضُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوَفَاءِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا شَرَطَ فِي هَذَا الْقَرْضِ الِاسْتِيثَاقَ لِدَيْنِهِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ شَرَطَ اسْتِيثَاقًا لِغَيْرِ مُوجِبِ الْقَرْضِ. وَنَقَلَ مُهَنَّا أَنَّ الْقَرْضَ صَحِيحٌ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَرْضِ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى جَرِّ الْمَنْفَعَةِ بِالْقَرْضِ، أَوْ حَكَمَ بِفَسَادِ الرَّهْنِ فِي الْأَلْفِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ، وَصَحَّحَهُ فِيمَا عَدَاهُ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْقَرْضِ بَيْعٌ، فَقَالَ: بِعْنِي عَبْدَك هَذَا بِأَلْفٍ، عَلَى أَنْ أَرْهَنَك عَبْدِي بِهِ وَبِالْأَلْفِ الْآخَرِ الَّذِي عَلَى. فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الثَّمَنَ أَلْفًا وَمَنْفَعَةً هِيَ وَثِيقَةٌ بِالْأَلْفِ الْأَوَّلِ، وَتِلْكَ الْمَنْفَعَةُ مَجْهُولَةٌ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدَ الرَّهْنِ بِالْأَلْفِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ، أَوْ كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الْآخَرُ دَارِهِ. [فَصْلٌ فَسَدَ الرَّهْنُ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ] (3368) فَصْلٌ: وَإِذَا فَسَدَ الرَّهْنُ، وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِحُكْمِ أَنَّهُ رَهْنٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ أَوْ مَضْمُونًا، فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا، أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يَصِيرُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ، وَحُكْمُ الْفَاسِدِ مِنْ الْعُقُودِ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ. فَإِنْ كَانَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، فَهُوَ كَغَرْسِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَإِنْ غَرَسَ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَكَانَ قَدْ شَرَطَ أَنَّ الرَّهْنَ يَصِيرُ لَهُ، فَقَدْ غَرَسَ بِإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ فِي التَّصَرُّفِ، فَيَكُونُ الرَّاهِنُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ غَرْسَهُ لَهُ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ بِقِيمَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَلْعِهِ، وَيَضْمَنَ لَهُ مَا نَقَصَ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَنْتَفِعُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءِ] (3369) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَنْتَفِعُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءِ، إلَّا مَا كَانَ مَرْكُوبًا أَوْ مَحْلُوبًا، فَيَرْكَبُ وَيَحْلُبُ بِقَدْرِ الْعَلَفِ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَالَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ، كَالدَّارِ وَالْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ بِحَالٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ نَمَاؤُهُ وَمَنَافِعُهُ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَانَ دَيْنُ الرَّهْنِ مِنْ قَرْضٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ قَرْضًا يَجُرُّ مَنْفَعَةً، وَذَلِكَ حَرَامٌ. قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ قَرْضَ، الدُّورِ، وَهُوَ الرِّبَا الْمَحْضُ. يَعْنِي: إذَا كَانَتْ الدَّارُ رَهْنًا فِي قَرْضٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُرْتَهِنُ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ بِثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ أَجْرِ دَارٍ، أَوْ دَيْنٍ غَيْرِ الْقَرْضِ، فَأَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي الِانْتِفَاعِ، جَازَ ذَلِكَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِعِوَضِ، مِثْلُ إنْ اسْتَأْجَرَ الْمُرْتَهِنُ الدَّارَ مِنْ الرَّاهِنِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، مِنْ غَيْر مُحَابَاةٍ، جَازَ فِي الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ مَا انْتَفَعَ بِالْقَرْضِ، بَلْ بِالْإِجَارَةِ، وَإِنْ حَابَاهُ فِي ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الِانْتِفَاعِ، بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ. وَمَتَى اسْتَأْجَرَهَا الْمُرْتَهِنُ، أَوْ اسْتَعَارَهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا رَهْنًا، فَمَتَى انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، أَوْ الْعَارِيَّةُ، عَادَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا كَانَ الرَّهْنُ دَارًا، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: اُسْكُنْهَا بِكِرَائِهَا، وَهِيَ وَثِيقَةٌ بِحَقِّي يَنْتَقِلُ فَيَصِيرُ دَيْنًا، وَيَتَحَوَّلُ عَنْ الرَّهْنِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَكْرَاهَا لِلرَّاهِنِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا ارْتَهَنَ دَارًا، ثُمَّ أَكْرَاهَا لِصَاحِبِهَا، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ، فَإِذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ صَارَتْ رَهْنًا. وَالْأَوْلَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ، إذَا اسْتَأْجَرَهَا الْمُرْتَهِنُ، أَوْ اسْتَعَارَهَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَدَامٌ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي سُكْنَاهَا، كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَزَالَ اللُّزُومُ لِزَوَالِ الْيَدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَنَهَا الْمُرْتَهِنُ. وَمَتَى اسْتَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْعَارِيَّةِ، فَإِنَّهَا عِنْدَنَا مَضْمُونَةٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ] (3370) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الرَّهْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ، قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارِ، بِشَرْطِ أَنْ تَرْهَنَنِي عَبْدَك يَخْدُمُنِي شَهْرًا. فَيَكُونُ بَيْعًا وَإِجَارَةً، فَهُوَ صَحِيحٌ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ إلَى أَجَلٍ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، وَكَرِهَهُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ، وَكَرِهَهُ فِي الْقَرْضِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ مَا يُنَافِيه، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْقَرْضِ. [فَصْلٌ الِانْتِفَاع بِالرَّهْنِ الَّذِي يَحْتَاج إلَى مُؤْنَة] (3371) فَصْلٌ: الْحَالُ الثَّانِي مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُؤْنَةٍ، فَحُكْمُ الْمُرْتَهِنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ وَالِانْتِفَاعِ بِقَدْرِهِ، جَازَ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 لِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ. وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ، فَإِنْ الرَّهْنَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ مَحْلُوبًا وَمَرْكُوبًا، وَغَيْرَهُمَا، فَأَمَّا الْمَحْلُوبُ وَالْمَرْكُوبُ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَيَرْكَبَ، وَيَحْلُبَ، بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ، مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَأَحْمَدَ بْن الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَسَوَاءٌ أَنَفَقَ مَعَ تَعَذُّرِ النَّفَقَةِ مِنْ الرَّاهِنِ، لِغَيْبَتِهِ، أَوْ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ، أَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ النَّفَقَةِ مِنْ الرَّاهِنِ، وَاسْتِئْذَانِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» . وَلِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَا الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا» ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ. فَجَعَلَ مَنْفَعَتَهُ بِنَفَقَتِهِ، وَهَذَا مَحِلُّ النِّزَاعِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الرَّاهِنَ يُنْفِقُ وَيَنْتَفِعُ. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: " إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً، فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلْفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ نَفَقَتُهُ ". فَجَعَلَ الْمُنْفِقَ الْمُرْتَهِنَ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُنْتَفِعَ. وَالثَّانِي، أَنَّ قَوْلَهُ: (بِنَفَقَتِهِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ عِوَضُ النَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَإِنْفَاقُهُ وَانْتِفَاعُهُ لَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقٌّ قَدْ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ نَمَاءِ الرَّهْنِ، وَالنِّيَابَةِ عَنْ الْمَالِكِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِ، فَجَازَ ذَلِكَ كَمَا، يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَخْذُ مُؤْنَتِهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا عِنْدَ امْتِنَاعِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْحَدِيثُ نَقُولُ بِهِ: وَالنَّمَاءُ لِلرَّاهِنِ، وَلَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ صَرْفِهَا إلَى نَفَقَتِهِ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ وَوِلَايَتِهِ، وَهَذَا فِيمَنْ أَنْفَقَ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ، فَأَمَّا إنْ أَنْفَقَ مُتَبَرِّعًا بِغَيْرِ نِيَّةِ الرُّجُوعِ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. [فَصْلٌ مُؤْنَة الرَّهْن غَيْرُ الْمَحْلُوبِ وَالْمَرْكُوبِ] (3372) فَصْلٌ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمَحْلُوبِ وَالْمَرْكُوبِ، فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ؛ حَيَوَانٌ، وَغَيْرُهُ، فَأَمَّا الْحَيَوَانُ كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ وَيَسْتَخْدِمَهُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ؟ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّه يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَرْهَنُ الْعَبْدَ، فَيَسْتَخْدِمُهُ فَقَالَ: الرَّهْنُ لَا يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِشَيْءِ، إلَّا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ خَاصَّةً فِي الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ وَيَعْلِفُ. قُلْت لَهُ: فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ وَالرُّكُوبُ أَكْثَرَ؟ قَالَ: لَا إلَّا بِقَدْرِ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ اسْتِخْدَامَ الْعَبْدِ أَيْضًا - وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ - إذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ الْإِنْفَاقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَالَفَ حَنْبَلٌ الْجَمَاعَةَ، وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءِ، إلَّا مَا خَصَّهُ الشَّرْعُ بِهِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِشَيْءِ مِنْهُ، تَرَكْنَاهُ فِي الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْلُوبِ لِلْأَثَرِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يُبْقِي عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ. النَّوْعُ الثَّانِي، غَيْرُ الْحَيَوَانِ، كَدَارٍ اسْتُهْدِمَتْ، فَعَمَرَهَا الْمُرْتَهِنُ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ. رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ، فَإِنَّ عِمَارَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الرَّاهِنِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِيمَا لَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَبَرِّعًا، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَالِكِهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، لِحُرْمَتِهِ فِي نَفْسِهِ. [فَصْلٌ مُؤْنَة رَهْن الْحَيَوَانُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا] (3373) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَيَوَانُ، إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِعِوَضِهِ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى مِسْكِينٍ. وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَى مَالِكِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، رَجَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ بِإِذْنِهِ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِئْذَانِهِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فَكَفَنَهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ فِي الْمَذْهَبِ؛ إذْ لَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِئْذَانِ الْغَرِيمِ. [فَصْلٌ انْتَفَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالرَّهْنِ بِاسْتِخْدَامِ أَوْ رُكُوبٍ] (3374) فَصْلٌ: وَإِذَا انْتَفَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالرَّهْنِ، بِاسْتِخْدَامِ، أَوْ رُكُوبٍ أَوْ لُبْسٍ، أَوْ اسْتِرْضَاعٍ، أَوْ اسْتِغْلَالٍ، أَوْ سُكْنَى، أَوْ غَيْرِهِ، حَسَبَ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ: يُوضَعُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا فِي ذِمَّتِهِ لِلرَّاهِنِ، فَيُتَقَاصُّ الْقِيمَةَ وَقَدْرَهَا مِنْ الدَّيْنِ، وَيَتَسَاقَطَانِ. [مَسْأَلَةٌ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ الْمَرْهُونَةِ] (3375) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَغَلَّةُ الدَّارِ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ، وَحَمْلُ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا، وَثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ الْمَرْهُونَةِ، مِنْ الرَّهْنِ) أَرَادَ بِغَلَّةِ الدَّارِ أَجْرَهَا. وَكَذَلِكَ خِدْمَةُ الْعَبْدِ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ جَمِيعَهُ وَغَلَّاتَهُ تَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِ مَنْ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ كَالْأَصْلِ. وَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ، بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُتَّصِلُ، كَالسَّمْنِ وَالتَّعَلُّمِ، وَالْمُنْفَصِلُ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ. وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: فِي النَّمَاءِ يَتْبَعُ، وَفِي الْكَسْبِ لَا يَتْبَعُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَا يَتْبَعُ فِي الرَّهْنِ، كَأَعْيَانِ مَالِ الرَّاهِنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتْبَعُ الْوَلَدُ فِي الرَّهْنِ خَاصَّةً، دُونَ سَائِرِ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ، كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ شَيْءٌ مِنْ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ، وَلَا مِنْ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْأَصْلِ، يُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهِ، كَحَقِّ الْجِنَايَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ رَهَنَهُ مَاشِيًا مَخَاضًا، فَنَتَجَتْ، فَالنِّتَاجُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ. وَخَالَفَهُ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» وَالنَّمَاءُ غُنْمٌ، فَيَكُونُ لِلرَّاهِنِ. وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مِنْ أَعْيَانِ مِلْكِ الرَّاهِنِ، لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا عَقْدَ رَهْنٍ فَلَمْ تَكُنْ رَهْنًا، كَسَائِرِ مَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حُكْمٌ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدِ الْمَالِكِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ، كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ، النَّمَاءَ نَمَاءٌ حَادِثٌ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ، كَالْمُتَّصِلِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي الْأُمِّ، ثَبَتَ بِرِضَى الْمَالِكِ، فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ. لَنَا عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ نَمَاءٌ حَادِثٌ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ، فَسَرَى إلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ كَالْوَلَدِ. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ؛ أَنَّهُ عَقْدٌ يَسْتَتْبِعُ النَّمَاءَ، فَاسْتَتْبَعَ الْكَسْبَ كَالشِّرَاءِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ. فَنَقُولُ بِهِ، وَأَنَّ غُنْمَهُ وَنَمَاءَهُ وَكَسْبَهُ لِلرَّاهِنِ، لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الرَّهْنِ، كَالْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لِلرَّاهِنِ، وَالْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ مَالِ الرَّاهِنِ، أَنَّهُ تَبَعٌ، فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ أَصْلِهِ. وَأَمَّا حَقُّ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِغَيْرِ رِضَى الْمَالِكِ، فَلَمْ يَتَعَدَّ مَا ثَبَتَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ جَزَاءُ عُدْوَانٍ، فَاخْتَصَّ الْجَانِي كَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ فِي الرَّهْنِ لَا تُفْضِي إلَى اسْتِيفَاءِ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ، فَلَا يَكْثُرُ الضَّرَرُ فِيهِ. [فَصْل هَلْ يَدْخُلُ الشَّجَرُ فِي رَهْنِ الْأَرْض] (3376) فَصْلٌ: وَإِذَا ارْتَهَنَ أَرْضًا، أَوْ دَارًا، أَوْ غَيْرَهُمَا، تَبِعَهُ فِي الرَّهْنِ مَا يَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ، فَقَالَ: رَهَنْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا. أَوْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَ فِي الرَّهْنِ، دَخَلَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، فَهَلْ يَدْخُلُ الشَّجَرُ فِي الرَّهْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ رَهَنَهُ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَفِيهِ ثَمَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، لَمْ تَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ، كَمَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً دَخَلَتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ فِي الرَّهْنِ بِحَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَدْخُلُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عِنْدَهُ لَا يَصِحُّ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَقَدْ قَصَدَ إلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ، فَتَدْخُلُ الثَّمَرَةُ ضَرُورَةَ الصِّحَّةِ. وَلَنَا، أَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، مَعَ قُوَّتِهِ، وَإِزَالَتِهِ لِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَالرَّهْنُ مَعَ ضَعْفِهِ أَوْلَى، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الشَّجَرَةِ فَاسْتَتْبَعَ الثَّمَرَةَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ، كَالْبَيْعِ، وَيَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ الصُّوفُ وَاللَّبَنُ الْمَوْجُودَانِ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْحَمْلُ وَسَائِرُ مَا بِيعَ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَارِدٌ عَلَى الْعَيْنِ، فَدَخَلَتْ فِيهِ هَذِهِ التَّوَابِعُ كَالْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ دَارًا فَخَرِبَتْ، كَانَتْ أَنْقَاضُهَا رَهْنًا؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَرْهُونَةً قَبْلَ خَرَابِهَا، وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا، فَنَبَتَ فِيهَا شَجَرٌ، فَهُوَ مِنْ الرَّهْنِ، سَوَاءٌ نَبَتَ بِفِعْلِ الرَّاهِنِ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا. [فَصْلٌ انْتِفَاعُ الرَّاهِنِ بِالرَّهْنِ] (3377) فَصْلٌ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ الِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ، بِاسْتِخْدَامٍ، وَلَا وَطْءٍ، وَلَا سُكْنَى، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، بِإِجَارَةِ، وَلَا إعَارَةٍ، وَلَا غَيْرِهِمَا، بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لِلرَّاهِنِ إجَارَتُهُ وَإِعَارَتُهُ مُدَّةً لَا يَتَأَخَّرُ انْقِضَاؤُهَا عَنْ حُلُولِ الدَّيْنِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا، فَلَهُ اسْتِيفَاء مَنَافِعِهِ بِغَيْرِهِ. وَهَلْ لَهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؟ عَلَى الْخِلَافِ. وَلَيْسَ لَهُ إجَارَةُ الثَّوْبِ وَلَا مَا يَنْقُصُ بِالِانْتِفَاعِ. وَبَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لِلرَّاهِنِ، لَا تَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّهُ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، كَالْبَيْعِ الْمَحْبُوسِ عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى اسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. أَوْ نَقُولُ: نَوْعُ انْتِفَاعٍ، فَلَا يَمْلِكُهُ الرَّاهِنُ، كَاَلَّذِي يُنْقِصُ قِيمَةَ الرَّهْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُتَرَاهِنَيْنِ إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا مُعَطَّلَةً، فَإِنْ كَانَتْ دَارًا أُغْلِقَتْ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ غَيْرَهُ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ حَتَّى يَفُكَّ الرَّهْنُ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إجَارَةِ الرَّهْنِ، أَوْ إعَارَتِهِ، جَازَ ذَلِكَ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ جَعَلَ غَلَّةَ الدَّارِ وَخِدْمَةَ الْعَبْدِ رَهْنًا، وَلَوْ عُطِّلَتْ مَنَافِعُهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا غَلَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي إعَارَتِهِ، أَوْ إجَارَتِهِ، جَازَ وَالْأُجْرَةُ رَهْنٌ، وَإِنْ أَجَرَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْآخَرُ لَا يَخْرُجُ، كَمَا لَوْ أَجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي الْمُشَاعِ: يُؤْجِرُهُ الْحَاكِمُ لَهُمَا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ، أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ تُعَطَّلُ مُطْلَقًا، وَلَا يُؤْجَرَاهُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالُوا: إذَا أَجَرَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، كَانَ إخْرَاجًا مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَقْتَضِي حَبْسَهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَمَتَى وُجِدَ عَقْدٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ زَوَالَ الْحَبْسِ زَالَ الرَّهْنُ. وَلَنَا، أَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الِاسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ، وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَلَا إجَارَتَهُ، وَلَا إعَارَتَهُ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا، كَانْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَلِأَنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْوَثِيقَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ إجَارَتَهَا، كَالْعَبْدِ إذَا ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّده، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُقْتَضَى الرَّهْنِ الْحَبْسُ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ تَعَلُّقُ الْحَقِّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ الْوَثِيقَةُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُقْتَضَاهُ الْحَبْسُ، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ نَائِبًا عَنْهُ فِي إمْسَاكِهِ وَحَبْسِهِ، وَمُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَتِهِ لِنَفْسِهِ. [فَصْلٌ إصْلَاحِ الرَّهْنِ وَدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْهُ وَمُدَاوَاتِهِ] (3378) فَصْلٌ: وَلَا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنْ إصْلَاحِ الرَّهْنِ، وَدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْهُ، وَمُدَاوَاتِهِ إنْ احْتَاجَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 إلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَاحْتَاجَتْ إلَى إطْرَاقِ الْفَحْلِ، فَلِلرَّاهِنِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلرَّهْنِ، وَزِيَادَتَهُ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ، فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَإِنْ كَانَتْ فُحُولًا لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ إطْرَاقُهَا بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا مَصْلَحَةَ لِلرَّهْنِ فِيهِ، فَهُوَ كَالِاسْتِخْدَامِ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ الْإِطْرَاقِ، فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُدَاوَاةِ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ مُؤْنَةُ الرَّهْنِ] (3379) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمُؤْنَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَمَاتَ، فَعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخَزَّنُ، فَعَلَيْهِ كِرَاءُ مَخْزَنِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مُؤْنَةَ الرَّهْنِ مِنْ طَعَامِهِ، وَكُسْوَتِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَحَافِظِهِ، وَحِرْزِهِ، وَمَخْزَنِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَجْرُ الْمَسْكَنِ وَالْحَافِظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ إمْسَاكِهِ وَارْتِهَانِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إنْفَاقٍ، فَكَانَ عَلَى الرَّاهِنِ، كَالطَّعَامِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ، فَكَانَ عَلَيْهِ مَسْكَنُهُ وَحَافِظُهُ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ. وَإِنْ أَبَقَ الْعَبْدُ فَأُجْرَةُ مَنْ يَرُدُّهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ بِقَدْرِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَبِقَدْرِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى مُدَاوَاتِهِ لِمَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ فَذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، هُوَ كَأَجْرِ مَنْ يَرُدُّهُ مِنْ إبَاقِهِ. وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ ضَمَانٍ، بِقَدْرِ دَيْنِهِ فِيهِ، وَمَا زَادَ فَهُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ. وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ كَانَتْ مُؤْنَتُهُ، كَتَجْهِيزِهِ، وَتَكْفِينه، وَدَفْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِمُؤْنَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ شَخْصٍ كَانَتْ مُؤْنَتُهُ كَتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالْأَقَارِبِ مِنْ الْأَحْرَارِ. [فَصْلٌ كَانَ الرَّهْنُ ثَمَرَةً فَاحْتَاجَتْ إلَى سَقْيٍ وَتَسْوِيَةٍ وَجُذَاذٍ] (3380) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ ثَمَرَةً فَاحْتَاجَتْ إلَى سَقْيٍ وَتَسْوِيَةٍ وَجُذَاذٍ، فَذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى تَجْفِيفٍ، وَالْحَقُّ مُؤَجَّلٌ، فَعَلَيْهِ التَّجْفِيفُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا رَهْنًا حَتَّى يَحِلَّ الْحَقُّ. وَإِنْ كَانَ حَالًّا، بِيعَتْ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْفِيفِهَا. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهَا وَجَعْلِ ثَمَنِهَا رَهْنًا بِالْحَقِّ الْمُؤَجَّلِ، جَازَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ يَسْتَبْقِيهَا بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَقِلُّ قِيمَتُهُ بِالتَّجْفِيفِ، وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَيْعِهِ رَطْبًا، فَإِنَّهُ يُبَاعُ، وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ مَكَانَهُ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ فِي وَقْتٍ، فَلَهُمَا ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَسَوَاء كَانَ الْأَصْلَحُ الْقَطْعَ أَوْ التَّرْكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا قَدَّمْنَا قَوْلَ مِنْ طَلَبَ الْأَصْلَحَ، إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْقَطْعَ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرْتَهِنَ، فَهُوَ طَالِبٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ الْحَالِّ، فَلَزِمَ إجَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنَ، فَهُوَ يَطْلُبُ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ، وَتَخْلِيصَ عَيْنِ مِلْكِهِ مِنْ الرَّهْنِ، وَالْقَطْعُ أَحْوَطُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي تَبَقَّيْته غَرَرًا. ذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا فِي الْمُفْلِسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الثَّمَرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ تَنْقُصُ بِالْقَطْعِ نَقْصًا كَثِيرًا، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى نَقْضِ دَارِهِ لِيَبِيعَ أَنْقَاضِهَا، وَلَا عَلَى ذَبْحِ فَرَسِهِ لِيَبِيعَ لَحْمَهَا، وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا قَبْلَ كَمَالِهَا، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ بِحَالٍ. [فَصْلٌ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً تَحْتَاجُ إلَى إطْرَاقِ الْفَحْلِ] (3381) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً تَحْتَاجُ إلَى إطْرَاقِ الْفَحْلِ، لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مَا يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِبَقَائِهَا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهَا زِيَادَةً لَهُمَا، لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ. وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى رَعْيٍ، فَعَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يُقِيمَ لَهَا رَاعِيًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى عَلْفِهَا. وَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ السَّفَرَ بِهَا لِيَرْعَاهَا فِي مَكَان آخَرَ، وَكَانَ لَهَا فِي مَكَانِهَا مَرْعَى تَتَمَاسَكُ بِهِ، فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِهَا إخْرَاجَهَا عَنْ نَظَرِهِ وَيَدِهِ. وَإِنْ أَجْدَبَ مَكَانُهَا، فَلَمْ يَجِدْ مَا تَتَمَاسَكُ بِهِ فَلِلرَّاهِنِ السَّفَرُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّهَا تَهْلَكُ إذَا لَمْ يُسَافِرْ بِهَا، إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ فِي يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، أَوْ يَنْصِبُهُ الْحَاكِمُ، وَلَا يَنْفَرِدُ الرَّاهِنُ بِهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ السَّفَرِ بِهَا، فَلِلْمُرْتَهِنِ نَقْلُهَا؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهَا هَلَاكَهَا، وَضَيَاعَ حَقِّهِ مِنْ الرَّهْنِ. فَإِنْ أَرَادَا جَمِيعًا السَّفَرَ بِهَا، وَاخْتَلَفَا فِي مَكَانِهَا، قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ يُعَيِّنُ الْأَصْلَحَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا، قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمُرْتَهِن. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَدَّمُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْوَاهَا إلَى يَدِ عَدْلٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْيَدَ لِلْمُرْتَهِنِ، فَكَانَ أَوْلَى، كَمَا لَوْ كَانَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ نَقْلَهَا عَنْ الْبَلَدِ مَعَ خِصْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، سَوَاءٌ أَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مِثْلِهِ، أَوْ أَخْصَبِ مِنْهُ، إذْ لَا مَعْنَى لِلْمُسَافِرَةِ بِالرَّهْنِ مَعَ إمْكَانِ تَرْكِ السَّفَرِ بِهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى نَقْلِهَا، جَازَ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ أَنْفَعَ لَهَا أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا. [فَصْلٌ مَرِضَ الْمَرْهُون فَاحْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ] (3382) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يَحْتَاجُ إلَى خِتَانٍ، وَالدَّيْنُ حَالٌّ، أَوْ أَجَلُهُ قَبْلَ بُرْئِهِ، مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ ثَمَنَهُ، وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَإِنْ كَانَ يَبْرَأُ قَبْلَ مَحِلِّ الْحَقِّ، وَالزَّمَانُ مُعْتَدِلٌ لَا يَخَافُ عَلَيْهِ فِيهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَيَزِيدُ بِهِ الثَّمَنُ، وَلَا يَضُرُّ الْمُرْتَهِنَ، وَمُؤْنَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ مَرِضَ، فَاحْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ، لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ، وَقَدْ يَبْرَأُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ مُدَاوَاتَهُ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ مِمَّا يُخَافُ غَائِلَتُهُ، كَالسُّمُومِ، فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَهُ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى فَصْدٍ، أَوْ احْتَاجَتْ الدَّابَّةُ إلَى تَوْدِيجٍ، وَمَعْنَاهُ فَتْحُ الْوَدَجَيْنِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ، وَهُمَا عِرْقَانِ عَرِيضَانِ غَلِيظَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 مِنْ جَانِبَيْ ثَغْرَةِ النَّحْرِ، أَوْ تَبْزِيغٍ، وَهُوَ فَتْحُ الرَّهْصَةِ، فَلِلرَّاهِنِ فِعْلُ ذَلِكَ، مَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا. وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِدَوَاءٍ لَا يُخَافُ مِنْهُ، جَازَ، وَإِنْ خِيفَ مِنْهُ، فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَا مِنْهُ لَمْ يُجْبَرْ. وَإِنْ كَانَتْ بِهِ آكِلَةٌ كَانَ لَهُ قَطْعُهَا؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْ تَرْكِهَا لَا مِنْ قَطْعِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِلَحْمِ مَيِّتٍ. وَإِنْ كَانَتْ بِهِ خَبِيثَةٌ، فَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: الْأَحْوَطُ قَطْعُهَا. وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ بَقَائِهَا، فَلِلرَّاهِنِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. وَإِنْ تَسَاوَى الْخَوْفُ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطْعُهَا؛ لِأَنَّهُ يُحْدِثُ جُرْحًا فِيهِ لَمْ يَتَرَجَّحْ إحْدَاثُهُ. وَإِنْ كَانَتْ بِهِ سِلْعَةٌ أَوْ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ، لَمْ يَمْلِكْ الرَّاهِنُ قَطْعَهَا؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يُخَافُ مِنْهُ، وَتَرْكَهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَاشِيَةُ جَرِبَةً، فَأَرَادَ الرَّاهِنُ دَهْنَهَا بِمَا يُرْجَى نَفْعُهُ، وَلَا يُخَافُ ضَرَرُهُ، كَالْقَطِرَانِ وَالزَّيْتِ الْيَسِيرِ، لَمْ يُمْنَعْ. وَإِنْ خِيفَ ضَرَرُهُ، كَالْكَثِيرِ، فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ لَهُ مُعَالَجَةَ مِلْكِهِ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ مُدَاوَاتَهَا بِمَا يَنْفَعُهَا، وَلَا يُخْشَى ضَرَرُهُ، لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إصْلَاحَ حَقِّهِ بِمَا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ خِيفَ مِنْهُ الضَّرَرُ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَطَرًا بِحَقِّ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ كَانَ الرَّهْنُ نَخْلًا فَاحْتَاجَ إلَى تَأْبِيرٍ] (3383) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ نَخْلًا، فَاحْتَاجَ إلَى تَأْبِيرٍ، فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً بِغَيْرِ مَضَرَّةٍ. وَمَا يَسْقُطُ مِنْ لِيفٍ أَوْ سَعَفٍ أَوْ عَرَاجِينَ، فَهُوَ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهِ، أَوْ مِنْ نَمَائِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ مِنْ الرَّهْنِ. بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ مِنْهُ. وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ السَّعَفَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي وَرَدَ عَلَيْهَا عَقْدُ الرَّهْنِ، فَكَانَتْ مِنْهُ، كَالْأُصُولِ وَأَنْقَاضِ الدَّارِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ كَرْمًا فَلَهُ زِبَارُهُ، لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ. وَالزَّرَجُونُ مِنْ الرَّهْنِ. وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ مُزْدَحِمًا، وَفِي قَطْعِ بَعْضِهِ صَلَاحٌ لِمَا يُبْقِي، فَلَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ كُلَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ. وَإِنْ قِيلَ: هُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَقُ فَيَفُوتُ الرَّهْنُ. وَإِنْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ فِعْلِ هَذَا كُلِّهِ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ مِنْ الرَّهْنِ. [فَصْلٌ حُكْم الزِّيَادَة فِي الرَّهْن] (3384) فَصْلٌ: وَكُلُّ زِيَادَةٍ تَلْزَمُ الرَّاهِنَ إذَا امْتَنَعَ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ اكْتَرَى لَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَرَى مِنْ الرَّهْنِ. فَإِنْ بَذَلَهَا الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَإِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، أَوْ إذْنِ الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إذْنِ الرَّاهِنِ، مُحْتَسِبًا، رَجَعَ بِهِ. وَإِنْ تَعَذَّرَ إذْنُهُمَا، أَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَقَ، لِيَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ. وَلَهُ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ مَعَ إمْكَانِهِ، أَوْ مِنْ غَيْر إشْهَاد بِالرُّجُوعِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِئْذَانِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِيَكُونَ الرَّهْنُ رَهْنًا بِالنَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَصِرْ رَهْنًا بِالنَّفَقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنْفَقْت مُتَبَرِّعًا. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ أَنْفَقْت مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي نِيَّتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا، وَلَا اطِّلَاعَ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ الرَّاهِنُ مُحْتَمِلٌ. وَكُلُّ مُؤْنَةٍ لَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ، كَنَفَقَةِ الْمُدَاوَاةِ وَالتَّأْبِيرِ وَأَشْبَاهِهِمَا، لَا يَرْجِعُ بِهَا الْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَهَا مُحْتَسِبًا أَوْ مُتَبَرِّعًا. [مَسْأَلَةٌ الرَّهْنُ إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِ] (3385) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالرَّهْنُ إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ، وَكَانَتْ الْمُصِيبَةُ فِيهِ مِنْ رَاهِنِهِ، وَإِنْ كَانَ بِتَعَدِّي الْمُرْتَهِنِ، أَوْ لَمْ يَحْرُزْهُ، ضَمِنَ) أَمَّا إذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ، أَوْ فَرَّطَ فِي الْحِفْظِ لِلرَّهْنِ الَّذِي عِنْدَهُ حَتَّى تَلِفَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ. لَا نَعْلَمُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَهُ إذَا تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، كَالْوَدِيعَةِ. وَأَمَّا إنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَيُرْوَى عَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ أَنَّ الرَّهْنَ يَضْمَنُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ» وَقَالَ. مَالِكٌ إنْ كَانَ تَلَفُهُ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ، كَالْمَوْتِ وَالْحَرِيقِ، فَمِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَضَمِنَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ وَيَرْوِي ذَلِكَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَطَاءٌ، أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «ذَهَبَ حَقُّك» . وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مَقْبُوضَةٌ لِلِاسْتِيفَاءِ، فَيَضْمَنُهَا مَنْ قَبَضَهَا لِذَلِكَ، أَوْ مَنْ قَبَضَهَا نَائِبُهُ، كَحَقِيقَةِ الْمُسْتَوْفَى، وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْنٍ، فَكَانَ مَضْمُونًا، كَالْمَبِيعِ إذَا حُبِسَ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَلَفْظُهُ: «الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ» وَبَاقِيه سَوَاءٌ. قَالَ: وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُنَيْسَةَ. وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ، فَلَا يَضْمَنُ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ، وَكَالْكَفِيلِ وَالشَّاهِدِ، وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدِ وَاحِدٍ بَعْضُهُ أَمَانَةٌ، فَكَانَ جَمِيعُهُ أَمَانَةً، كَالْوَدِيعَةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِهِ الْعَقَارُ، لَا يُضْمَنُ بِهِ الذَّهَبُ. كَالْوَدِيعَةِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ يُخَالِفُهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يَرْوِيه إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ كَذَّابًا، وَقِيلَ: يَرْوِيه مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَانَ ضَعِيفًا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ، ذَهَبَ حَقُّك مِنْ الْوَثِيقَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ قَدْرِ الدَّيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 وَقِيمَةِ الْفَرَسِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ إنْ صَحَّ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِمَا فِيهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَوْفَى فَإِنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْتَوْفِي، وَلَهُ نَمَاؤُهُ وَغُنْمُهُ، فَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَغُرْمُهُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَمْنُوعٌ. [فَصْلٌ قَضَى الرَّاهِن الْمُرْتَهِن جَمِيعَ الْحَقِّ] (3386) فَصْلٌ: وَإِذَا قَضَاهُ جَمِيعَ الْحَقِّ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ، بَقِيَ الرَّهْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَضَاهُ كَانَ مَضْمُونًا، وَإِذَا أَبْرَأهُ أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا اسْتِحْسَانًا. وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَضْمُونٌ مِنْهُ، لَمْ يَزُلْ، وَلَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً، وَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَهُوَ كَالْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا، لَزِمَهُ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي إمْسَاكِهِ، فَأَمَّا إنْ سَأَلَ مَالِكُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ دَفْعَهُ إلَيْهِ، لَزِمَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ دَفْعُهُ إلَيْهِ، إذَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، صَارَ ضَامِنًا، كَالْمُودَعِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ طَلَبِهَا. وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ لِعُذْرٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ طَرِيقٌ مُخِيفٌ، أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ لَا يُمْكِنُهُ فَتْحُهُ، أَوْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَ جُمُعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، أَوْ فَوْتَ صَلَاةٍ، أَوْ بِهِ مَرَضٌ، أَوْ جُوعٌ شَدِيدٌ، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَأَخَّرَ التَّسْلِيمَ لِذَلِكَ، فَتَلِفَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمُودِعَ. [فَصْلٌ قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَوَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا] (3387) فَصْلٌ: وَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، فَوَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا، لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ، وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ فَإِنْ أَمْسَكَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ، حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِهِ، اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ، رَجَعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ حَتَّى تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا يَضْمَنُ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَالَ غَيْرِهِ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْعَادِيَةِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ عَلِمَ. وَالثَّانِي، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ مِنْ غَيْر عِلْمه، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْوَدِيعَةِ. فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ لَا غَيْرُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ، أَنَّ لِلْمَالِكِ تَضْمِينَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ، كَالْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ. [مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ] (3388) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا بِمَا قَالَ بَيِّنَةٌ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 يَعْنِي: إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ، إذَا تَلِفَ فِي الْحَالِ الَّتِي يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ضَمَانُهُ، وَهِيَ إذَا تَعَدَّى، أَوْ لَمْ يَحْرُزْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ. فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ بِأَلْفَيْنِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَتِّيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، مَا لَمْ يُجَاوِزْ ثَمَنَ الرَّهْنِ، أَوْ قِيمَتَهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ بِقَدْرِ الْحَقِّ. وَلَنَا، أَنَّ الرَّاهِنَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُرْتَهِنُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ؛ لَقَوْلِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهَا، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الدَّيْنِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الظَّاهِرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ رَهْنُ الشَّيْءِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي قَدْرِ مَا رَهَنَهُ بِهِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ رَهَنَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ أَوْ اخْتَلَفَا، فَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ أَلْفَانِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: إنَّمَا رَهَنْتُك بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ رَهَنْته بِهِمَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ بِعَبْدِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: هُوَ رَهْنٌ بِالْمُؤَجَّلِ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ بِالْحَالِّ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ] (3389) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ، فَقَالَ: رَهَنْتُك هَذَا الْعَبْدَ. قَالَ: بَلْ هُوَ وَالْعَبْدَ الْآخَرَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ قَالَ: رَهَنْتُك هَذَا الْعَبْدَ. قَالَ: بَلْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ. خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الرَّهْنِ، لِاعْتِرَافِ الْمُرْتَهِنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرْهَنْهُ، وَحَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى أَنَّهُ مَا رَهَنَهُ الْجَارِيَةَ، وَخَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ أَيْضًا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الرَّهْنِ إلَى الرَّاهِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَأْجِرِ، إذَا ادَّعَى رَدَّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَتَخَرَّجُ فِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الرَّدِّ، بِنَاءً عَلَى الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ بِجَعْلٍ، إذَا ادَّعَيَا الرَّدَّ، فَإِنَّ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، أَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَبَضَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْوَكِيلُ، قَبَضَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بِالْجَعْلِ لَا بِالْعَيْنِ، وَالْمُضَارِبُ قَبَضَهَا لِيَنْتَفِعَ بِرِبْحِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 لَا بِهَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تَلَفِ الْعَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى التَّلَفِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَالْمُودَعِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِثَمَنِهِ عَبْدَيْك هَذَيْنِ قَالَ بَلْ عَلَى أَنْ أَرْهَنَك هَذَا وَحْدَهُ] (3390) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ، عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِثَمَنِهِ عَبْدَيْك هَذَيْنِ. قَالَ: بَلْ عَلَى أَنْ أَرْهَنَك هَذَا وَحْدَهُ. فَفِيهَا رِوَايَتَانِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي، إحْدَاهُمَا، يَتَحَالَفَانِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الْبَيْعِ، فَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ. وَالثَّانِيَةُ، الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِشَرْطِ رَهْنِ الْعَبْدِ الَّذِي اخْتَلَفَا فِيهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَهَذَا أَصَحُّ. (3391) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَرْسَلْت وَكِيلَك، فَرَهَنَنِي عَبْدَك، عَلَى عِشْرِينَ قَبَضَهَا. قَالَ: مَا أَمَرْته بِرَهْنِهِ إلَّا بِعَشْرَةِ، وَلَا قَبَضْت إلَّا عَشَرَةً سُئِلَ الرَّسُولُ، فَإِنْ صَدَّقَ الرَّاهِنَ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا رَهَنَهُ إلَّا بِعَشْرَةِ، وَلَا قَبَضَ إلَّا عَشَرَةً، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا حَلَفَ الْوَكِيلُ بَرِئَا جَمِيعًا، وَإِنْ نَكِلَ، فَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ يُصَدِّقُ الرَّاهِنَ فِي أَنَّهُ مَا أَخَذَهَا، وَلَا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرْتَهِنُ ظَلَمَهُ. وَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلُ الْمُرْتَهِنَ، وَادَّعَى أَنَّهُ سَلَّمَ الْعِشْرِينَ إلَى الرَّاهِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينه. فَإِنْ نَكِلَ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْعَشَرَةِ، وَيَدْفَعُ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَعَلَى الرَّسُولِ غَرَامَةُ الْعَشَرَةِ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ وَإِنَّمَا الرَّاهِنُ ظَلَمَهُ. وَإِنْ عَدِمَ الرَّسُولَ، أَوْ تَعَذَّرَ إحْلَافُهُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا أَذِنَ فِي رَهْنِهِ إلَّا بِعَشْرَةٍ، وَلَا قَبَضَ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَيَبْقَى الرَّهْنُ بِالْعَشَرَةِ الْأُخْرَى. (3392) فَصْلٌ: إذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ، أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ، وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَقَضَى أَلْفًا، وَقَالَ: قَضَيْت دَيْنَ الرَّهْنِ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ قَضَيْت الدَّيْنَ الْآخَرَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينه، سَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي نِيَّةِ الرَّاهِنِ بِذَلِكَ أَوْ فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَصِفَةِ، دَفْعِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الدَّيْنَ الْبَاقِيَ بِلَا رَهْنٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَهُ صَرْفُهَا إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ، فَأَدَّى قَدْرَ زَكَاةِ أَحَدِهِمَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضِهِمْ: يَقَعُ الدَّفْعُ عَنْ الدَّيْنَيْنِ مَعًا، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْقَضَاءِ، فَتُسَاوَيَا فِي وُقُوعِهِ عَنْهُمَا، فَأَمَّا إنْ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ، وَاخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّاهِنِ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. [فَصْلٌ اتَّفَقَ الْمُتَرَاهِنَانِ عَلَى قَبْضِ الْعَدْلِ لِلرَّهْنِ] (3393) فَصْلٌ: وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُتَرَاهِنَانِ عَلَى قَبْضِ الْعَدْلِ لِلرَّهْنِ لَزِمَ الرَّهْنُ فِي حَقِّهِمَا، وَلَمْ يَضُرَّ إنْكَارُهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَبَضَهُ الْعَدْلُ. فَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، كَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ. وَلَوْ شَهِدَ الْعَدْلُ بِالْقَبْضِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ. [فَصْلٌ قَالَ رَهَنْتنِي عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ فَقَالَ بَلْ قَدْ غَصَبْته أَوْ اسْتَعَرْته] (3394) فَصْلٌ: إذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَبْدٌ، فَقَالَ: رَهَنْتنِي عَبْدَك هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ: بَلْ قَدْ غَصَبْته، أَوْ اسْتَعَرْته. فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالدَّيْنِ أَوْ جَحَدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّهْنِ. وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ: بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ قَالَ: بَلْ رَهَنْته عِنْدِي بِهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ الَّذِي يُنْكِرُهُ، وَيَأْخُذُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: رَهَنْتَكَهُ بِأَلْفٍ أَقْرَضْتنِيهِ. قَالَ: بَلْ بِعْتنِيهِ بِأَلْفٍ قَبَضْته مِنِّي ثَمَنًا. فَكَذَلِكَ، وَيَرُدُّ صَاحِبُ الْعَبْدِ الْأَلْفَ، وَيَأْخُذُ عَبْدَهُ. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ فَقَالَ رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا بِدَيْنِي عَلَيْكُمَا فَأَنْكَرَاهُ] (3395) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا بِدَيْنِي عَلَيْكُمَا. فَأَنْكَرَاهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا، فَإِنْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَصِيرَ جَمِيعُهُ رَهْنًا، أَوْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَصِيرَ نَصِيبُ الْآخَرِ رَهْنًا، وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا، ثَبَتَ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ. وَإِنْ شَهِدَ الْمُقِرُّ عَلَى الْمُنْكِرِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْلُبُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَنْكَرَا جَمِيعًا فِي شَهَادَتِهِمَا نَظَرَ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لَهُ بِجُحُودِهِ حَقَّهُ مِنْ الرَّهْنِ، فَإِذَا طَعَنَ الْمَشْهُودُ لَهُ فِي شُهُودِهِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ هَذَا؛ فَإِنَّ إنْكَارَ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ بِهِ فِسْقُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَنْسَى، أَوْ تَلْحَقهُ شُبْهَةٌ فِيمَا يَدَّعِيه أَوْ يُنْكِرهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَى رَجُلَانِ شَيْئًا، وَتَخَاصَمَا فِيهِ، ثُمَّ شَهِدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَيْءٍ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْفِسْقُ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا جَمِيعًا، مَعَ تَحَقُّقِ الْجَرْحِ فِي أَحَدِهِمَا. [فَصْلٌ رَهَنَ عَيْنًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ] فَصْلٌ: وَإِذَا رَهَنَ عَيْنًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ، فَنِصْفُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَيْنِهِ، وَمَتَى وَفَّى أَحَدُهُمَا، خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ، فَكَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ مُفْرَدًا، فَإِنْ أَرَادَ مُقَاسَمَةَ الْمُرْتَهِنِ، وَأَخْذَ نَصِيبِ مَنْ وَفَّاهُ، وَكَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا تَنْقُصُهُ الْقِسْمَةُ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، لَزِمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَنْقُصُهُ الْقِسْمَةُ، لَمْ تَجِبْ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ضَرَرًا فِي قِسْمَتِهِ، وَيُقَرُّ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، نِصْفُهُ رَهْنٌ، وَنِصْفُهُ وَدِيعَةٌ، وَإِنْ رَهَنَ اثْنَانِ عَبْدَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ، فَوَفَّاهُ أَحَدُهُمَا، انْفَكَّ الرَّهْنُ فِي نَصِيبِهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي رَجُلَيْنِ رَهَنَا دَارًا لَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ، عَلَى أَلْفٍ، فَقَضَاهُ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَقْضِ الْآخَرُ: فَالدَّارُ رَهْنٌ عَلَى مَا بَقِيَ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رَجُلٍ رَهَنَ عَبْدَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ، فَوَفَّى أَحَدُهُمَا، فَجَمِيعُهُ رَهْنٌ عِنْدَ الْآخَرِ، حَتَّى يُوَفِّيَهُ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي الْخَطَّابِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ مُقَاسَمَةُ الْمُرْتَهِنِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَيْنَ كُلَّهَا تَكُونُ رَهْنًا، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ رَهَنَ نِصْفَ الْعَبْدِ عِنْدَ رَجُلٍ، فَصَارَ جَمِيعُهُ رَهْنًا. وَلَوْ رَهَنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 اثْنَانِ عَبْدًا لَهُمَا عِنْدَ اثْنَيْنِ بِأَلْفٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ عُقُودٍ، وَيَصِيرُ كُلُّ رُبْعٍ مِنْ الْعَبْدِ رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، فَمَتَى قَضَاهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، انْفَكَّ مِنْ الرَّهْنِ ذَلِكَ الْقَدْرُ. قَالَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ. [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُمَا عَبْدَهُ فَأَنْكَرَهُمَا جَمِيعًا] (3397) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُمَا عَبْدَهُ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: رَهَنَهُ عِنْدِي دُونَ صَاحِبِي. فَأَنْكَرَهُمَا جَمِيعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ أَحَدَهُمَا، وَصَدَّقَ الْآخَرَ، سُلِّمَ إلَى مَنْ صَدَّقَهُ، وَحُلِّفَ الْآخَرُ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ عَيْنَ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُمَا. حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينه. وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهِ، وَصَارَ رَهْنًا عِنْدَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، أَقْرَعِ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكَهُ. وَلَوْ قَالَ: رَهَنْته عِنْدَ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ رَهَنْته لِلْآخَرِ، وَلَا أَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا. فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا هُوَ السَّابِقُ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ. سُلِّمَ إلَيْهِ، وَحَلَفَ لِلْآخَرِ، وَإِنْ نَكِلَ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ، أَوْ يَدِ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلثَّانِي، كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِزَيْدٍ، وَغَصَبْته مِنْ عَمْرٍو. فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى زَيْدٍ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِعَمْرٍو. وَإِنْ نَكِلَ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الثَّانِي، أَقَرَّ فِي يَدِهِ، وَغَرِمَ قِيمَتَهُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ مَا فَعَلَ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَقَرَّ لَهُ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، كَمَا قُلْنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا اعْتَرَفَ بِهِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَهَلْ يَرْجِعُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ الْمُقِرُّ لَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَوْ اعْتَرَفَ لَأَحَدِهِمَا وَهُوَ فِي يَدَيْهِمَا. ثَبَتَتْ يَدُ الْمُقِرِّ لَهُ فِي النِّصْفِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ] (3398) فَصْلٌ: إذَا أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ، جَازَ، وَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِثَمَنِهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ مُطْلَقًا، فَبَاعَهُ، بَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِوَضُهُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيمَا يُنَافِي حَقَّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ فِي عِتْقِهِ، وَلِلْمَالِكِ أَخْذُ ثَمَنِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ بَاعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ حَلَّ الدَّيْنُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ، وَالثَّمَنُ بَدَلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، مُتْلِفٌ. وَلَنَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُرْتَهِنُ، فَإِذَا أَذِنَ فِيهِ، أَسْقَطَ حَقَّهُ، كَالْعِتْقِ، وَيُخَالِفُ مَا بَعْدَ الْحُلُولِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَحِقُّ الْبَيْعَ، وَيُخَالِفُ الْإِتْلَافَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْت بِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي بَيْعًا بِفَسْخِ الرَّهْنِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ ثَمَنَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا، أَوْ يُعَجِّلَ لَهُ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ، جَازَ، وَلَزِمَ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِ جَعْلِ ثَمَنِهِ رَهْنًا، أَوْ تَعْجِيلِ دَيْنِهِ مِنْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشَّرْطِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَثِيقَةِ. وَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ فِي الْبَيْعِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَبَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالرُّجُوعِ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ. فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرُّجُوعِ، وَعَدَمُ الْبَيْعِ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ، وَبَقِيت الْعَيْنُ رَهْنًا عَلَى مَا كَانَتْ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَهَذَا فِيمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ، فَأَمَّا مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ، كَاَلَّذِي خِيفَ تَلَفُهُ، إذَا أَذِنَ فِي بَيْعِهِ مُطْلَقًا، تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِثَمَنِهِ، لِأَنَّ بَيْعَهُ مُسْتَحَقٌّ، فَأَشْبَهَ مَا بِيعَ بَعْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ. [فَصْلٌ إذَا حَلَّ الْحَقُّ لَزِمَ الرَّاهِنَ الْإِيفَاءُ] (3399) فَصْلٌ: إذَا حَلَّ الْحَقُّ، لَزِمَ الرَّاهِنَ الْإِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَالٌّ، فَلَزِمَ إيفَاؤُهُ، كَاَلَّذِي لَا رَهْنَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ، وَكَانَ قَدْ أَذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ، بَاعَهُ، وَوَفَّى الْحَقَّ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ فَلِمَالِكِهِ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَعَلَى الرَّاهِنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِ، أَوْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُمَا ثُمَّ عَزَلَهُمَا، طُولِبَ بِالْوَفَاءِ وَبَيْعِ الرَّهْنِ، فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا فَعَلَ الْحَاكِمُ مَا يَرَى مِنْ حَبْسِهِ وَتَعْزِيرِهِ لِبَيْعِهِ، أَوْ يَبِيعُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمِينِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَبِيعُهُ الْحَاكِمُ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لَا عَلَى مَالِهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي أَدَائِهِ كَالْإِيفَاءِ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَإِنْ وَفَّى الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ، انْفَكَّ الرَّهْنُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ] (3400) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ الرَّاهِنُ أَوْ مَيِّتًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا ضَاقَ مَالُ الرَّاهِنِ عَنْ دُيُونِهِ، وَطَالَبَ الْغُرَمَاءُ بِدُيُونِهِمْ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلْسِهِ، وَأُرِيدَ قِسْمَةُ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَأَوَّلُ مَنْ يُقَدَّمُ مَنْ لَهُ أَرْشُ جِنَايَةٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ بَعْض عَبِيدِ الْمُفْلِسِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ مَنْ لَهُ رَهْنٌ؛ فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِثَمَنِهِ عَنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ وَذِمَّةِ الرَّاهِنِ مَعًا، وَسَائِرُهُمْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَكَانَ حَقُّهُ أَقْوَى، وَهَذَا مِنْ أَكْثَرِ فَوَائِدِ الرَّهْنِ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُ بِحَقِّهِ عِنْدَ فَرْضِ مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ، فَيُبَاعُ الرَّهْنُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ وَفْقَ حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِهِ رُدَّ الْبَاقِي عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ أَخَذَ ثَمَنَهُ، وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ، ثُمَّ مَنْ بَعْدِ ذَلِكَ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ دَيْنُهُ ثَابِتٌ بِجِنَايَةِ الْمُفْلِسِ، لَمْ يُقَدَّمْ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ كَبَقِيَّةِ الدُّيُونِ، بِخِلَافِ أَرْشِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِمَّنْ تَعَلَّقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 حَقُّهُ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ، وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْقَاقِ ثَمَنِ الرَّهْنِ وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ بَيْنَ كَوْنِ الرَّهْنِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الْمَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِهِ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. [فَصْلٌ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَتُلْفِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ وَخَرَجَتْ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً] (3401) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ وَكِيلُهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، أَوْ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَتُلْفِ، وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ، وَخَرَجَتْ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً، سَاوَى الْمُشْتَرِي الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَرْشِ جِنَايَةِ الْمُفْلِسِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ، فَكَانَ أَوْلَى كَالْمُرْتَهِنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَى الْغُرَمَاءِ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ شِرَاءِ مَالِ الْمُفْلِسِ، خَوْفًا مِنْ ضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ، فَتَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ، وَيَقِلُّ ثَمَنُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَنْفَعَ لَهُمْ. وَهَذَا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلَنَا، أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَلَمْ يُقَدَّمْ، كَاَلَّذِي جَنَى عَلَيْهِ الْمُفْلِسُ، وَفَارَقَ الْمُرْتَهِنَ، فَإِنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مُنْتَقَضٌ بِأَرْشِ جِنَايَةِ الْمُفْلِسِ، وَالثَّانِي مَصْلَحَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا، يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَجَبَ رَدُّهُ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ يَأْخُذُهَا، وَمَتَى بَاعَ الْعَدْلُ مَالَ الْمُفْلِسِ، أَوْ بَاعَ الرَّهْنَ وَخَرَجَتْ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً، فَالْعُهْدَةُ، عَلَى الْمُفْلِسِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجَّر] (3402) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ، أَوْ شَيْئًا غَيْرَهُمَا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْمَالِ، وَالْمَنْفَعَةُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهَا، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا. فَإِنْ هَلَكَ الْبَعِيرُ، أَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَقِيَّةِ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ غَيْرَهُ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَإِنْ آجَرَ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ، فَاتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ وَالْمُفْلِسُ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَيَبِيعُونَهَا مُسْتَأْجَرَةً، وَإِنْ اخْتَلَفُوا، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْبَيْعَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ مِنْ التَّأْخِيرِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ يُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيْعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ. [فَصْلٌ بَاعَ سِلْعَةً ثُمَّ أَفْلَسَ قَبْلَ تَقْبِيضِهَا] (3403) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً، ثُمَّ أَفْلَسَ قَبْلَ تَقْبِيضِهَا، فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهَا، وَثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهَا، فَكَانَ أَحَقَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 بِهَا، كَمَا لَوْ قَبَضَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَمَا بَعْدَهُ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سَلَمٌ فَوَجَدَ الْمُسْلِمُ الثَّمَنَ قَائِمًا. فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، فَلَهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِعَيْنِ مَالٍ، وَلَا ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهِ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالْمُسْلِمِ فِيهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ دُونَ الثَّمَنِ، فَيُعْزَلُ لَهُ قَدْرُ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ جِنْسُ حَقِّهِ، أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ جِنْسُ حَقِّهِ، عُزِلَ لَهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، فَيَشْتَرِي بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَيَأْخُذُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَعْزُولَ بِعَيْنِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ بَدَلًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِي بِالْمَعْزُولِ أَكْثَرِ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ، لِرُخْصِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، اُشْتُرِيَ لَهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَرُدَّ الْبَاقِي عَلَى الْغُرَمَاءِ. مِثَالُهُ، رَجُلٌ أَفْلَسَ وَلَهُ دِينَارٌ، وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ دِينَارٌ، وَلِآخَرَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مِنْ سَلَمٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ. فَإِنَّهُ يُقْسَمُ دِينَارُ الْمُفْلِسِ نِصْفَيْنِ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ نِصْفُهُ، وَيُعْزَلُ نِصْفُهُ لِلْمُسْلِمِ، فَإِنْ رَخَّصَتْ الْحِنْطَةُ، فَصَارَ قِيمَةُ الْقَفِيزِ نِصْفَ دِينَارٍ، تَبَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّ صَاحِبِ الدِّينَارِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْ دِينَارِ الْمُفْلِسِ إلَّا ثُلُثَهُ، يَشْتَرِي لَهُ بِهِ ثُلُثَا قَفِيزٍ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِ، وَيُرَدُّ سُدُسُ الدِّينَارِ عَلَى الْغَرِيمِ الْآخَرِ، فَإِنْ غَلَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَصَارَ قِيمَةُ الْقَفِيزِ دِينَارَيْنِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِثْلَيْ مَا يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الدِّينَارِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنْ دِينَارِ الْمُفْلِسِ ثُلُثَاهُ فَيَشْتَرِي لَهُ بِالنِّصْفِ الْمَعْزُولِ، وَيُرْجَعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِسُدُسِ دِينَارٍ، يَشْتَرِي لَهُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْزُولَ مِلْكُ الْمُفْلِسِ، وَإِنَّمَا لِلْمُسْلِمِ قَدْرُ حَقِّهِ، فَإِنْ زَادَ فَلِلْمُفْلِسِ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ. [فَصْلٌ رَجُل عِنْدَهُ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا وَلَا مَنْ رَهَنَ عِنْدَهُ] (3404) فَصْلٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ: سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ، لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا، وَلَا مَنْ رَهَنَ عِنْدَهُ قَالَ: إذَا أَيِسَتْ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَمَعْرِفَةِ وَرَثَتِهِمْ، فَأَرَى أَنْ تُبَاعَ وَيُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، فَإِنْ عَرَفَ بَعْدُ أَرْبَابَهَا، خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْأَجْرِ أَوْ يَغْرَمُ لَهُمْ، هَذَا الَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ عِنْدَهُ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ، يَأْيَسُ مِنْ صَاحِبِهِ: يَبِيعُهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ. وَلَكِنْ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَطَلَبِهِ، أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ حَقَّهُ، وَأَمَّا إنْ رَفَعَ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَبَاعَهُ وَوَفَّاهُ مِنْهُ حَقَّهُ، جَازُ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 [كِتَابُ الْمُفْلِسِ] ِ الْمُفْلِسُ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَا مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: «أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَلَطَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَكَّ لَهُ صَكٌّ إلَى النَّارِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُفْلِسِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَيْسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ " تَجُوزُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ فَلَسَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُفْلِسُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالْغَنِيِّ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» وَقَوْلُهُ: «لَيْسَ السَّابِقُ مَنْ سَبَقَ بَعِيرُهُ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ مَنْ غُفِرَ لَهُ» وَقَوْلُهُ «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا مُفْلِسًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ إلَّا الْفُلُوسَ، وَهِيَ أَدْنَى أَنْوَاعِ الْمَالِ. وَالْمُفْلِسُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، وَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ مِنْ دَخْلِهِ. وَسَمَّوْهُ مُفْلِسًا وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ فِي جِهَةِ دَيْنِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفْلِسُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَا عَلَيْهِ، فَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَبَقِيَ لَا شَيْءَ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، إلَّا الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ، كَالْفُلُوسِ وَنَحْوِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْأَحْكَام الْمُتَعَلِّقَة بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ] (3405) فَصْلٌ: وَمَتَى لَزِمَ الْإِنْسَانَ دُيُونٌ حَالَّةٌ، لَا يَفِي مَالُهُ بِهَا، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُمْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَظْهَرَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ، فَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ؛ أَحَدُهَا، تَعَلُّقُ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِعَيْنِ مَالِهِ. وَالثَّانِي، مَنْعُ تَصَرُّفِهِ فِي عَيْنِ مَالِهِ. وَالثَّالِثُ، أَنَّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ إذَا وَجَدَتْ الشُّرُوطُ. الرَّابِعُ، أَنَّ لِلْحَاكِمِ بَيْعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 مَالِهِ وَإِيفَاءَ الْغُرَمَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَرَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَبَاعَ مَالَهُ.» رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ أَفْضَلِ شَبَابِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْسِكُ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ يُدَانُ حَتَّى أَغْرَقَ مَالَهُ فِي الدَّيْنِ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُرَمَاؤُهُ، فَلَوْ تُرِك أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ لَتَرَكُوا مُعَاذًا مِنْ أَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَاعَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ، حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا لَمْ يَتْرُكْ الْغُرَمَاءُ لِمُعَاذٍ حِينَ كَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا. [مَسْأَلَةٌ فَلَّسَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَصَابَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ عَيْنَ مَالِهِ] (3406) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا فَلَّسَ الْحَاكِمُ رَجُلًا، فَأَصَابَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ عَيْنَ مَالِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ تَرْكَهُ، وَيَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُفْلِسَ مَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ سِلْعَتَهُ الَّتِي بَاعَهُ إيَّاهَا بِعَيْنِهَا، بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَذْكُرُهَا، مَلَكَ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَأَخَذَ سِلْعَتَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ لَهُ حَقُّ الْإِمْسَاكِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَمَّا سَلَّمَهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْإِمْسَاكِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ بِالْإِفْلَاسِ، كَالْمُرْتَهِنِ إذَا سَلَّمَ الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ. وَلِأَنَّهُ سَاوَى الْغُرَمَاءَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَيُسَاوِيهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، كَسَائِرِهِمْ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ أَنَّهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى رَجُلٍ يَرَى الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ، جَازَ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ، فَجَازَ فِيهِ الْفَسْخُ؛ لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا تَعَذَّرَ. وَلِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا، فَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ، اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ، وَهُوَ وَثِيقَةٌ بِالثَّمَنِ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ أَوْلَى. وَيُفَارِقُ الْمَبِيعُ الرَّهْنَ؛ فَإِنْ إمْسَاكَ الرَّهْنِ إمْسَاكٌ مُجَرَّدٌ عَلَى سَبِيلِ الْوَثِيقَةِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ، وَالثَّمَنُ هَاهُنَا بَدَلٌ عَنْ الْعَيْنِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، رَجَعَ إلَى الْمُبْدَلِ. وَقَوْلُهُمْ: تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. قُلْنَا: لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ شَرْطٌ لِمِلْكِ الْفَسْخِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَجِدْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَجَعَ فِي السِّلْعَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْجِعْ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ السِّلْعَةُ مُسَاوِيَةً لِثَمَنِهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ سَبَبٌ يُثْبِتُ جَوَازَ الْفَسْخِ، فَلَا يُوجِبهُ، كَالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 وَلَا يَفْتَقِرُ الْفَسْخُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، كَفَسْخِ النِّكَاحِ لِعِتْقِ الْأَمَةِ. [فَصْلٌ خِيَارُ الرُّجُوعِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي] (3407) فَصْلٌ: وَهَلْ خِيَارُ الرُّجُوعِ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّهُ حَقُّ رُجُوعٍ يَسْقُطُ إلَى عِوَضٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ. وَالثَّانِي، هُوَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ لِنَقْصٍ فِي الْعِوَضِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلِأَنَّ جَوَازَ تَأْخِيرِهِ يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْغُرَمَاءِ، لِإِفْضَائِهِ إلَى تَأْخِيرِ حُقُوقِهِمْ، فَأَشْبَهَ خِيَارَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ. وَنَصَرَ الْقَاضِي هَذَا الْوَجْهَ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ بَذَلَ الْغُرَمَاءُ الثَّمَنَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ لِيَتْرُكهَا] (3408) فَصْلٌ: فَإِنْ بَذَلَ الْغُرَمَاءُ الثَّمَنَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ لِيَتْرُكَهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إنَّمَا يَجُوزُ لِدَفْعِ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ النَّقْصِ فِي الثَّمَنِ، فَإِذَا بُذِلَ بِكَمَالِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ زَالَ الْعَيْبُ مِنْ الْمَعِيبِ. وَلَنَا، الْخَبَرُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِدَفْعِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ، فَبَذَلَهَا غَيْرُهُ، أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَبَذَلَ غَيْرُهُ مَا عَلَيْهِ لِسَيِّدِهِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ، وَسَوَاءٌ بَذَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ خَصُّوهُ بِثَمَنِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَفِي هَذَا الْقَسَمِ ضَرَرٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَجَدُّدَ ثُبُوتِ دَيْنٍ آخَرَ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعُوا إلَى الْمُفْلِسِ الثَّمَنَ، فَبَذَلَهُ لِلْبَائِعِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَزَالَ مِلْكُ الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ سَائِرُ الْغُرَمَاءِ حُقُوقَهُمْ عَنْهُ، فَمَلَكَ أَدَاءَ الثَّمَنِ. وَلَوْ أَسْقَطَ الْغُرَمَاءُ حُقُوقَهُمْ عَنْهُ، فَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ، أَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ. فَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ مِنْهُ، أَوْ غَلَتْ أَعْيَانُ مَالِهِ، فَصَارَتْ قِيمَتُهَا وَافِيَةً بِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ كُلِّهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ؛ لِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى ثَمَنِ سِلْعَتِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُفْلِسْ. [فَصْلٌ اشْتَرَى الْمُفْلِسُ سِلْعَةً بَعْد الْحَجْرِ عَلَيْهِ] (3409) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَى الْمُفْلِسُ مِنْ إنْسَانٍ سِلْعَةً بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِثَمَنِهَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ لِتَعَذُّرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَمَنُهَا مُؤَجَّلًا. وَلِأَنَّ الْعَالِمَ بِالْعَيْبِ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِخَرَابِ الذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ مَنْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْفَسْخِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ فَقِيرًا مُعْسِرًا بِنَفَقَتِهَا وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، إنْ بَاعَهُ عَالِمًا بِفَلَسِهِ فَلَا فَسْخَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْفَسْخُ، كَمُشْتَرِي الْمَعِيبِ. وَيُفَارَقُ الْمُعْسِرُ بِالنَّفَقَةِ؛ لِكَوْنِ النَّفَقَةِ يَتَجَدَّدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وُجُوبُهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَالرِّضَى بِالْمُعْسِرِ بِهَا رِضَى بِعَيْبِ مَا لَمْ يَجِبْ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ هَذَا إذَا تَزَوَّجَتْهُ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ وَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَتْ الْفَسْخَ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعهَا فَأَفْلَسَ] (3410) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا، فَأَفْلَسَ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ فَلِلْمُؤَجَّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَهُوَ غَرِيمٌ بِالْأُجْرَةِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا، لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ فِي قِيَاسِ قَوْلِنَا فِي الْمَبِيعِ إذَا تَلِفَ بَعْضُهُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ هَاهُنَا كَالْمَبِيعِ، وَمُضِيُّ بَعْضِهَا كَتَلَفِ بَعْضِهِ، لَكِنْ يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْهَا بِحَالِ وَقَالَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَنْ اكْتَرَى أَرْضًا فَزَرَعَهَا، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَفَسَخَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَعَلَيْهِ تَبْقِيَةُ زَرْعِ الْمُفْلِسِ إلَى حِينِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ مِثْله؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ، فَإِذَا فَسَخَ الْعَقْدَ، فَسَخَهُ فِيمَا مَلَكَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهَا، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بَعْدَ أَنْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ، فَلَهُ قِيمَتُهُ، وَيَضْرِبُ بِذَلِكَ مَعَ الْغُرَمَاءِ، كَذَا هَاهُنَا، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِيه مَذْهَبُنَا، وَلَا يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ الْخَبَرُ، وَلَا يَصِحُّ فِي النَّظَرِ؛ أَمَّا الْخَبَرُ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَهَذَا مَا أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا عَلَى وُجُوبِ تَبَقَّيْتِهَا، وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِهَا، وَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ، لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ. وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا كَانَ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ، وَإِمْكَانِ رَدِّ مَالِهِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ، وَلَا أَمْكَنَ رَدُّهَا إلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ فَائِدَةُ الرُّجُوعِ الضَّرْبَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُقْتَضَى فِي مَحِلِّ النَّصِّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَوْ اكْتَرَى رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ مَتَاعًا إلَى بَلَدٍ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُكْتَرِي قَبْلَ حَمْلِ شَيْءٍ، فَلِلْمُكْتَرِي الْفَسْخُ. وَإِنْ حَمَلَ الْبَعْضَ، أَوْ بَعْضَ الْمَسَافَةِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ. فَإِذَا فَسَخَ سَقَطَ عَنْهُ حَمْلُ مَا بَقِيَ، وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِ مَا حَمَلَ مِنْ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْقَاضِي: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَضْرِبُ بِقِسْطِ مَا حَمَلَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِيهَا. [فَصْلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُقْتَرِضُ] (3411) فَصْلٌ: فَإِنْ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُقْتَرِضُ، وَعَيْنُ الْمَالِ قَائِمٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَلِأَنَّهُ غَرِيمٌ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهَا، كَالْبَائِعِ. وَإِنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً لَهُ عَيْنًا، ثُمَّ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 يُسْقِطُ صَدَاقَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ فِي نِصْفِهِ، وَقَدْ أَفْلَسَتْ وَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ الْبَائِعَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي السِّلْعَةِ بِخَمْسِ شَرَائِط] (3412) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَدْ تَلِفَ بَعْضُهَا، أَوْ مَزِيدَةً بِمَا لَا تَنْفَصِلُ زِيَادَتُهَا، أَوْ نَقَدَ بَعْضَ ثَمَنِهَا، كَانَ الْبَائِعُ فِيهَا كَأُسْوَةِ الْغُرَمَاءِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي السِّلْعَةِ بِخَمْسِ شَرَائِطَ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا، لَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا، فَإِنْ تَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا كَبَعْضِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ، أَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ، أَوْ تَلِفَ بَعْضُ الثَّوْبِ، أَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ الدَّارِ، أَوْ اشْتَرَى شَجَرًا مُثْمِرًا لَمْ تَظْهَرْ ثَمَرَتُهُ، فَتَلْفِت الثَّمَرَةُ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ: لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْبَاقِي، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ التَّالِفِ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي جَمِيعِهَا، فَمَلَكَ الرُّجُوعَ فِي بَعْضِهَا، كَاَلَّذِي لَهُ الْخِيَارُ، وَكَالْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . فَشَرَطَ أَنْ يَجِدَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَجِدْهُ بِعَيْنِهِ. وَلِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَهُ بِعَيْنِهِ، حَصَلَ لَهُ بِالرُّجُوعِ فَصْلُ الْخُصُومَةِ، وَانْقِطَاعُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ بَعْضَهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِالْمَوْجُودِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، أَوْ يَأْخُذَهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ، كَعَبْدَيْنِ، أَوْ ثَوْبَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا، أَوْ بَعْضُ أَحَدُهُمَا، فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْبَاقِي مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَرْجِعُ. نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: لَا يَرْجِعُ بِبَقِيَّةِ الْعَيْنِ، وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً. وَلِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ تَالِفٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ وَنَقَلَ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ عَنْ أَحْمَدَ، إنْ كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا، فَتَلِفَ بَعْضُهُ، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ رِزَمًا، فَتَلِفَ بَعْضُهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِقِيمَتِهَا إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ السَّالِمَ مِنْ الْمَبِيعِ وَجَدَهُ الْبَائِعُ بِعَيْنِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ. فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ، وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ. [فَصْلٌ بَاعَ بَعْضَ الْمَبِيعِ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ وَقَفَهُ] (3413) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ بَعْضَ الْمَبِيعِ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ وَقَفَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَا أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ. [فَصْلٌ نَقَصَتْ مَالِيَّةُ الْمَبِيعِ لِذَهَابِ صِفَةٍ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ] (3414) فَصْلٌ: وَإِنْ نَقَصَتْ مَالِيَّةُ الْمَبِيعِ، لِذَهَابِ صِفَةٍ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَعَبْدٍ هَزِلَ، أَوْ نَسِيَ صِنَاعَةً أَوْ كِتَابَةً، أَوْ كَبِرَ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ، أَوْ كَانَ ثَوْبًا فَخَلِقَ، لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 الصِّفَةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَيْنَ مَالِهِ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِكَمَالِ؛ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَتَقَسَّطُ عَلَى صِفَةِ السِّلْعَةِ مِنْ سِمَنٍ، أَوْ هُزَالٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَيَصِيرُ كَنَقْصِهِ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً ثَيِّبًا، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، وَلَمْ تَحْمِلْ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ فِي ذَاتٍ وَلَا فِي صِفَاتِ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ صِفَةً، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا جَزْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْجِرَاحِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ مِنْهَا جُزْءًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا. وَإِنْ وُجِدَ الْوَطْءُ مِنْ غَيْرِ الْمُفْلِسِ، فَهُوَ كَوَطْءِ الْمُفْلِسِ، فِيمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ جُرِحَ الْعَبْدُ الْمَبِيع أَوْ شُجَّ] (3415) فَصْلٌ: وَإِنْ جُرِحَ الْعَبْدُ أَوْ شُجَّ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ جُزْءٌ يَنْقُصُ بِهِ الثَّمَنُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فُقِئَتْ عَيْنُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ الْعَيْنِ جُزْءٌ لَهُ بَدَلٌ فَمَنَعَ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَقَصَ صِفَةً مُجَرَّدَةً، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا شَيْءٌ سِوَاهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي هُزَالِ الْعَبْدِ، وَنِسْيَانِ الصَّنْعَةِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْمَحِلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ، وَيُزِيلُ الْمُعَامَلَةَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَثْبُتُ فِي مَحِلٍّ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ صِفَةً، فَأَشْبَهَ نِسْيَانَ الصَّنْعَةِ، وَاسْتِخْلَاقَ الثَّوْبِ. فَإِذَا رَجَعَ، نَظَرْنَا فِي الْجَرْحِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا أَرْشَ لَهُ، كَالْحَاصِلِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِعْلِ بَهِيمَةٍ، أَوْ جِنَايَةِ الْمُفْلِسِ، أَوْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ، أَوْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَعَ الرُّجُوعِ أَرْشٌ. وَإِنْ كَانَ الْجَرْحُ مُوجِبًا لِأَرْشٍ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلِلْبَائِعِ إذَا رَجَعَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ مَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ، فَيَنْظُرُ كَمْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَيَرْجِعُ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ لَهُ الْأَرْشَ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ بِهِ أَرْشٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ. قُلْنَا: لَمَّا أَتْلَفَهُ الْأَجْنَبِيُّ، صَارَ مَضْمُونًا بِإِتْلَافِهِ لِلْمُفْلِسِ، فَكَانَ بِالْأَرْشِ لَهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُفْلِسِ لِلْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْأَرْشِ، وَإِذَا لَمْ يُتْلِفْهُ أَجْنَبِيٌّ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا، فَلَمْ يَجِبْ بِفَوَاتِهِ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ هَذَا الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي كَكَسْبِهِ، لَا يَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ قُلْنَا: الْكَسْبُ بَدَلُ مَنَافِعِهِ، وَمَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَذَا بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ جَمِيعُهَا مَضْمُونَةٌ بِالْعِوَضِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي. [فَصْلٌ اشْتَرَى زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ أَوْ قَمْحًا فَخَلَطَهُ بِمَا لَا يُمْكِنُ مِنْهُ] (3416) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَى زَيْتًا، فَخَلَطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ، أَوْ قَمْحًا، فَخَلَطَهُ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ مِنْهُ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُ زَيْتَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ، لَمْ يَسْقُطْ الرُّجُوعُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 أَحَدُهُمَا، يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الْعَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهِ أَقُولُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ مَوْجُودَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ اخْتِلَاطِ مَالِهِ بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ، وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ مَالِهِ، إنَّمَا يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ مَالِهِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ مَالُهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ» . أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْمُفْلِسِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمُفْلِسِ، أَوْ كَانَتْ مَسَامِيرَ قَدْ سَمَّرَ بِهَا بَابًا، أَوْ حَجَرًا قَدْ بَنِي عَلَيْهِ، أَوْ خَشَبًا فِي سَقْفِهِ، أَوْ أَمَةً اسْتَوْلَدَهَا، وَهَذَا إذَا أَخَذَ كَيْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضَ مَالِهِ، فَهُوَ كَالثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ. وَفَارَقَ الْمَصْبُوغَ، فَإِنْ عَيْنَهُ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا، وَالسَّوِيقُ كَذَلِكَ، فَاخْتَلَفَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى شَيْئًا فَعَمِلَ بِهِ مَا أَزَالَ اسْمَهُ] (3417) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ زَرَعَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ زَيْتًا فَعَمِلَهُ صَابُونًا، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا، أَوْ خَشَبًا فَنَجَّرَهُ أَبْوَابًا، أَوْ شَرِيطًا فَعَمِلَهُ إبَرًا، أَوْ شَيْئًا فَعَمِلَ بِهِ مَا أَزَالَ اسْمَهُ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، بِهِ أَقُولُ، يَأْخُذُ عَيْنَ مَالِهِ، وَيُعْطِي قِيمَةَ عَمَلِ الْمُفْلِسِ فِيهَا؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ اسْمُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ حَمَلًا فَصَارَ كَبْشًا، أَوْ وَدِيًّا فَصَارَ نَخْلًا وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ، وَلِأَنَّهُ غَيَّرَ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى فَنَبَتَ شَجَرًا. وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ اسْمُهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى حَبًّا فَصَارَ زَرْعًا أَوْ زَرْعًا فَصَارَ حَبًّا] (3418) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ حَبًّا فَصَارَ زَرْعًا، أَوْ زَرْعًا فَصَارَ حَبًّا، أَوْ نَوًى فَنَبَتَ شَجَرًا، أَوْ بَيْضًا فَصَارَ فِرَاخًا ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَسْقُطُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ نَفْسُ الْحَبِّ، وَالْفَرْخَ نَفْسُ الْبَيْضَةِ وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ. وَلِأَنَّ الْحَبَّ أَعْيَانٌ ابْتَدَأَهَا اللَّهُ تَعَالَى، لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ أَعْيَانُ الزَّرْعِ وَالْفَرْخِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، وَاشْتَرَى بَذْرًا وَمَاءً، فَزَرَعَ، وَسَقَى، وَاسْتَحْصَدَ، وَأَفْلَسَ، فَالْمُؤَجَّرُ وَبَائِعُ الْبَذْرِ وَالْمَاءِ غُرَمَاءُ، لَا حَقَّ لَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا أَعْيَانَ أَمْوَالِهِمْ. وَعَلَى قَوْلِ مِنْ قَالَ: لَهُ الرُّجُوعُ فِي الزَّرْعِ. يَكُونُ عَلَيْهِ غَرَامَةُ الْأُجْرَةِ وَثَمَنُ الْمَاءِ، أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِزَيْتِ] (3419) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِزَيْتٍ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِبَائِعِ الثَّوْبِ وَالسَّوِيقِ الرُّجُوعُ فِي أَعْيَانِ أَمْوَالِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِمَا قَائِمَةٌ مُشَاهَدَةٌ، مَا تَغَيَّرَ اسْمُهَا، وَيَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لِصَاحِبِ الثَّوْبِ وَالسَّوِيقِ بِمَا زَادَ عَنْ قِيمَتِهِمَا. فَإِنْ حَصَلَ زِيَادَةٌ، فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ حَصَلَ نَقَصَ، فَعَلَيْهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَوْ السَّوِيقِ، فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ أَخَذَهُمَا نَاقِصَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا، وَلَهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْصَ صِفَةٍ، فَهُوَ كَالْهُزَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ إذَا زَادَتْ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِالْمَبِيعِ زِيَادَةٌ لِلْمُفْلِسِ، فَمَنَعَتْ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ سَمِنَ الْعَبْدُ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ هَاهُنَا لَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ الْمُفْلِسِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَإِزَالَةِ الْمُعَامَلَةِ، بَلْ يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى صَبْغًا فَصَبَغَ بِهِ ثَوْبًا أَوْ زَيْتًا فَلَتّ بِهِ سَوِيقًا] (3420) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى صَبْغًا فَصَبَغَ بِهِ ثَوْبًا، أَوْ زَيْتًا فَلَتَّ بِهِ سَوِيقًا، فَبَائِعُهُمَا أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ. قَالُوا: وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَصَبْغًا، وَصَبَغَ الثَّوْبَ بِالصَّبْغِ، رَجَعَ بَائِعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَكَانَ بَائِعُ الصَّبْغِ شَرِيكًا لِبَائِعِ الثَّوْبِ. وَإِنْ حَصَلَ نَقْصٌ، فَهُوَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَفَرَّقُ وَيَنْقُصُ وَالثَّوْبُ بِحَالِهِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً، وَقِيمَةُ الصَّبْغِ خَمْسَةً، فَصَارَتْ قِيمَتُهُمَا اثْنَا عَشَرَ، كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا نَقَصَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَذَكَرَ الْقَاضِي مِثْلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَغَلَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَائِعُهُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَجَرًا بُنِيَ عَلَيْهِ، أَوْ مَسَامِيرَ سَمَّرَ بِهَا بَابًا. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَصِبْغًا مِنْ وَاحِدٍ، فَصَبَغَهُ بِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِ الصَّبْغِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِ الثَّوْبِ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَرْجِعُ فِي الثَّوْبِ وَحْدَهُ، وَيَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لَهُ بِزِيَادَةِ الصَّبْغِ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِ الصَّبْغِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِمَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَحِلِّ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الرُّجُوعُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا، فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِهِ، كَمَا يَمْلِكُهُ ثَمَّ، وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى رُفُوفًا وَمَسَامِيرَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَسَمَّرَهَا بِهَا، رَجَعَ بَائِعُهُمَا فِيهِمَا كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَصَرَهُ] (3421) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَصَرَهُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 أَحَدِهِمَا، أَنْ لَا تَزِيدَ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَائِمَةٌ لَمْ يَزُلْ اسْمُهَا، وَلَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا وَلَا اتَّصَلَتْ بِغَيْرِهَا، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ عَلَّمَ الْعَبْدَ صِنَاعَةً لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ بِهَا. وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَنْقُصْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ نَقْصُ صِفَةٍ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، كَنِسْيَانِ صِنَاعَةٍ، وَهُزَالِ الْعَبْدِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعَ الرُّجُوعِ الثَّانِي، أَنْ تَزِيدَ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ زَادَ زِيَادَةً لَا تَتَمَيَّزُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَمَا لَوْ سَمِنَ الْعَبْدُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ، كَبَائِعِ الصِّبْغِ إذَا صَبَغَ بِهِ، وَالزَّيْتِ إذَا لَتّ بِهِ سَوِيقٌ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ. لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ اسْمُهَا وَلَا ذَهَبَتْ عَيْنُهَا، فَمَلَكَ الرُّجُوعَ فِيهَا، كَمَا لَوْ صَبَغَهَا فَعَلَى قَوْلِهِمْ إنْ كَانَتْ الْقُصَارَةُ بِعَمَلِ الْمُفْلِسِ، أَوْ بِأُجْرَةٍ وَفَّاهَا، فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الثَّوْبِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً، فَصَارَ يُسَاوِي سِتَّةً، فَلِلْمُفْلِسِ سُدُسُهُ، وَلِبَائِعِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْبَائِعُ دَفْعَ قِيمَةِ الزِّيَادَةِ إلَى الْمُفْلِسِ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَ الشَّفِيعُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ بِيعَ الثَّوْبُ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْ صَانِعٍ لَمْ يَسْتَوْفِ أَجْرَهُ، فَلَهُ حَبْسُ الثَّوْبِ عَلَى اسْتِيفَاءِ أَجْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ الْأَجْرِ، دُفِعَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ، فَلَهُ حَبْسُ الثَّوْبِ عَلَى اسْتِيفَاءِ قَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ دِرْهَمَيْنِ، وَالْآخَرُ دِرْهَمٌ، فَلَهُ قَدْرُ أَجْرِهِ، وَمَا فَضَلَ لِلْغُرَمَاءِ. [فَصْلٌ الْمَبِيعُ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً] (3422) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ لَا يَكُونَ الْمَبِيعُ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ، وَالْكِبَرِ، وَتَعَلُّمِ الصِّنَاعَةِ أَوْ الْكِتَابَةِ أَوْ الْقُرْآنِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي هَذَا، فَذَهَبَ الْخِرَقِيِّ إلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وَرَوَى الْمَيْمُونِي، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا يُخَيِّرُ الْغُرَمَاءَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ السِّلْعَةَ أَوْ ثَمَنِهَا الَّذِي بَاعَهَا بِهِ. وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ، وَبِأَنَّهُ فَسْخٌ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، فَلَا تَمْنَعُهُ الْمُتَّصِلَةُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفَارَقَ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ، فَيَصِلُ إلَى حَقِّهِ تَامًّا. وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي الثَّمَنِ وَلَنَا، أَنَّهُ فَسْخٌ بِسَبَبٍ حَادِثٍ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهِ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ الْمَالِ الزَّائِدَةِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ أَوْ الرَّضَاعِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ أَخْذَهَا، كَالْمُنْفَصِلَةِ، وَكَالْحَاصِلَةِ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّ النَّمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ الْبَائِعِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ مِنْهُ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَفَارَقَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِوَجْهَيْنِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْفَسْخَ فِيهِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ رَاضٍ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَتَرْكِهَا لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا وَالثَّانِي، أَنَّ الْفَسْخَ ثُمَّ لِمَعْنَى قَارَنَ الْعَقْدَ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْقَدِيمُ، وَالْفَسْخُ هَاهُنَا لِسَبَبٍ حَادِثٍ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِفَسْخِ النِّكَاحِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ الزَّائِدَةِ. وَقَوْلهمْ: إنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْعَيْنِ لِكَوْنِهِ يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِالْقِيمَةِ - لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ انْدِفَاعَ الضَّرَرِ عَنْهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلزِّيَادَةِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ، كَمُشْتَرِي الْمَعِيبِ ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْعَيْنِ زَائِدَةً؛ لِكَوْنِ الزِّيَادَةِ مُسْتَحَقَّةً، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، عُلِمَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الرُّجُوعِ كَوْنُ الزِّيَادَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، بَلْ أَوْلَى؛ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ، فَمَنْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَخْذِ زِيَادَةٍ لَيْسَتْ لَهُ، أُولَى مِنْ تَفْوِيتِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إلَى تَمَامِ دُيُونِهِمْ، وَالْمُفْلِسِ الْمُحْتَاجِ إلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ اشْتِدَادِ حَاجَتِهِ (3423) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عَلَى صِفَتِهِ، لَيْسَ بِزَائِدٍ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ آخَرُ، وَهَاهُنَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْمُفْلِسِ، وَلَا بِالْغُرَمَاءِ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ فِيهِ مَعَ تَفْوِيتِهَا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ فِي النَّاقِصِ، فَمَا رَجَعَ إلَّا فِيمَا بَاعَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَإِذَا رَجَعَ فِي الزَّائِدِ، أَخَذَ مَا لَمْ يَبِعْهُ، وَاسْتَرْجَعَ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ، فَكَانَ بِالْمَنْعِ أَحَقَّ. [فَصْلٌ الْمَبِيعُ زَادَ زِيَادَة مُنْفَصِلَة] (3424) فَصْلٌ: فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالْكَسْبِ ، فَلَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَسَوَاءٌ نَقَصَ بِهَا الْمَبِيعُ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ، إذَا كَانَ نَقْصَ صِفَةٍ، وَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الرُّجُوعَ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، لِكَوْنِهَا لِلْمُفْلِسِ، فَالْمُنْفَصِلَةُ أَوْلَى. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ، وَنِتَاجِ الدَّابَّةِ: هُوَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ، فَكَانَتْ لِلْبَائِعِ كَالْمُتَّصِلَةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا زِيَادَةٌ انْفَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ لَهُ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ اسْتَحَقَّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَفَسْخِ الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ أَوْ الْخِيَارِ أَوْ الْإِقَالَةِ، وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِسَبَبِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسْخِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ وَالْغَلَّةَ لِلْمُشْتَرِي لِكَوْنِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ، فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لِلْمُفْلِسِ أَيْضًا، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِ الْمُنْفَصِلَةِ لَهُ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا ثَمَّ، فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمُتَّصِلَةَ تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ لِظُهُورِهِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ بَاعِهِمَا فِي حَالِ حَمْلِهِمَا، فَيَكُونَانِ مَبِيعَيْنِ، وَلِهَذَا خَصَّ هَذَيْنِ بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّمَاءِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى أَمَةً حَامِلًا ثُمَّ أَفْلَسَ] (3425) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً حَامِلًا، ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ قَدْ زَادَ بِكِبَرِهِ، وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا مِنْ أَجْلِهِ، فَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الزَّائِدِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ وَضْعِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا بِكُلِّ حَالٍ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّنَا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ. فَالْوَلَدُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِمَا، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، يَكُونُ الْوَلَدُ لِلْمُفْلِسِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ الرُّجُوعَ فِي الْأُمِّ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأُمِّ، وَيَدْفَعَ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِيَكُونَا جَمِيعًا. لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، بِيعَتْ الْأُمُّ وَوَلَدُهَا جَمِيعًا، وَقُسِمَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، فَمَا خَصَّ الْأُمَّ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَمَا خَصَّ الْوَلَدَ كَانَ لِلْمُفْلِسِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ لِلْوَلَدِ حُكْمًا. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ قَدْ زَادَا بِالْوَضْعِ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمَبِيعِ الزَّائِدِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً. وَإِنْ لَمْ يَزِيدَا، جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِمَا. وَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، خَرَجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ فَتَلِفَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا، فَهَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ الرُّجُوعَ فِي الْأُخْرَى كَذَلِكَ؟ يُخَرَّجُ هَاهُنَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لَهُ الرُّجُوعَ فِيمَا لَمْ يَزِدْ، دُونَ مَا زَادَ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الرُّجُوعِ فِي الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ الثَّانِي، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ الْمَبِيعَ إلَّا زَائِدًا، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ، كَالْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَيَوَانًا غَيْرَ الْأَمَةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا، إلَّا فِي أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا جَائِزٌ، وَالْأَمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ اشْتَرَى حَائِلًا فَحَمَلَتْ ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ حَامِلٌ فَزَادَتْ قِيمَتُهَا بِهِ] (3426) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى حَائِلًا، فَحَمَلَتْ، ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ حَامِلٌ، فَزَادَتْ قِيمَتُهَا بِهِ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَلَا تَمْنَعُهُ، عَلَى رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي، وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ وَضْعِهَا، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، فَتَكُونُ لِلْمُفْلِسِ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأُمِّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ، فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا وَجَدْنَا حَامِلًا، انْبَنَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا حُكْمَ لَهُ. جَرَى مَجْرَى الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ حُكْمٌ. فَالْوَلَدُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ، يَتَرَبَّصُ بِهِ حَتَّى تَضَعَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ فِي غَيْر الْآدَمِيَّةِ، جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي] (3427) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدِهَا، أَنْ يُفْلِسَ وَهِيَ بِحَالِهَا، لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تُثْمِرْ وَلَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ فِيهَا ثَمَرٌ ظَاهِرٌ، أَوْ طَلْعٌ مُؤَبَّرٌ، وَيَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي، فَيَأْكُلَهُ، أَوْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، أَوْ يَذْهَبَ بِجَائِحَةٍ، ثُمَّ يُفْلِسَ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنَيْنِ فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَهَلْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي الْأُصُولِ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ التَّالِفِ مِنْ الثَّمَرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَإِنْ تَلِفَ بَعْضهَا، فَهُوَ كَتَلَفِ جَمِيعِهَا. وَإِنْ زَادَتْ، أَوْ بَدَا صَلَاحُهَا، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ فِي إحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَيَانَ حُكْمِهَا. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يَبِيعَهُ نَخْلًا قَدْ أَطْلَعَتْ وَلَمْ تُؤَبَّرْ، أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرَةٌ لَمْ تَظْهَرْ، فَهَذِهِ الثَّمَرَةُ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، فَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِهَا، أَوْ الزِّيَادَةِ فِيهَا، أَوْ بُدُوِّ صَلَاحٍ، فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ تَلَفِ بَعْضِ الْمَبِيعِ وَزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا دَخَلَ الثَّمَرُ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا الْحَالُ الرَّابِعُ، بَاعَهُ نَخْلًا حَائِلًا فَأَثْمَرَ، أَوْ شَجَرًا فَأَثْمَرَ، فَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدِهَا، أَنْ يُفْلِسَ قَبْلَ تَأْبِيرِهَا، فَالطَّلْعُ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النَّخْلِ دُونَ الطَّلْعِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فَصْلُهُ، وَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَهُوَ كَالْمُؤَبَّرِ، بِخِلَافِ السِّمَنِ وَالْكِبَرِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي، لَا يَمْنَعُ، بَلْ يَرْجِعُ، وَيَكُونُ الطَّلْعُ لِلْبَائِعِ، كَمَا لَوْ فُسِخَ بِعَيْبِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي، يَرْجِعُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الطَّلْعِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَفْلَسَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ وَظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَالطَّلْعُ لِلْمُشْتَرِي، إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ الَّذِي ثَبَتَ بِتَرَاضِيهِمَا، فَفِي الْفَسْخِ الْحَاصِلِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي أَوْلَى. وَلَوْ بَاعَهُ أَرْضًا فَارِغَةً فَزَرَعَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْتَرِي الضَّرْبُ الثَّالِثُ، أَفْلَسَ وَالطَّلْعُ غَيْرُ مُؤَبَّرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى أَبَّرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ تَأْبِيرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ لَهَا، وَهَذَا لَمْ يَخْتَرْهَا إلَّا بَعْدَ تَأْبِيرِهَا. فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ الرُّجُوعَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، وَأَنْكَرَهُ الْمُفْلِسُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ، وَعَدَمُ زَوَالِهِ. وَإِنْ قَالَ لَهُ الْبَائِعُ: بِعْت بَعْدَ التَّأْبِيرِ، وَقَالَ الْمُفْلِسُ: بَلْ قَبْلَهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ شَهِدَ الْغُرَمَاءُ لِلْمُفْلِسِ، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ نَفْعًا. وَإِنْ شَهِدُوا لِلْبَائِعِ، وَهُمْ عُدُولٌ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الضَّرْبُ الرَّابِعُ، أَفْلَسَ بَعْدَ أَخْذِ الثَّمَرَةِ، أَوْ ذَهَبَتْ بِجَائِحَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، رَجَعَ الْبَائِعَ فِي الْأَصْلِ، وَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي، إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَتْبَعُ الثَّمَرُ الشَّجَرَ إذَا رَجَعَ الْبَائِعُ فِيهِ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُفْلِسِ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَوَانِ الْجُذَاذِ. وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فِي الْأَرْضِ، وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْمُفْلِسِ، فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَخْذِهِ قَبْلَ أَوَانِ الْحَصَادِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَرَعَ فِي أَرْضِهِ بِحَقِّ، وَطَلْعُهُ عَلَى الشَّجَرِ بِحَقِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهُ، قَبْلَ كَمَالِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَصْلَ وَعَلَيْهِ الثَّمَرَةُ أَوْ الزَّرْعُ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ فِي أَرْضِهِ زَرْعًا تَجِبُ تَبْقِيَتُهُ، فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى التَّبْقِيَةِ، أَوْ الْقَطْعِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ قَطْعَهُ، وَبَعْضُهُمْ تَبْقِيَتُهُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ مَقْطُوعًا، أَوْ قِيمَتُهُ يَسِيرَةً، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ سَفَهٌ. وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ كَثِيرَةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقَدَّمُ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، فَإِنَّ فِي تَبْقِيَتُهُ غَرَرًا، وَلِأَنَّ طَالِبَ الْقَطْعِ إنْ كَانَ الْمُفْلِسَ فَهُوَ يَقْصِدُ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغُرَمَاءَ فَهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ حُقُوقِهِمْ، وَذَلِكَ حَقٌّ لَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي، يُنْظَرُ إلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ فَيُعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِجَمِيعِهِمْ، وَالظَّاهِرُ سَلَامَتُهُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُزْرَعَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ. إنْ كَانَ الطَّالِبُ لِلْقَطْعِ الْغُرَمَاءَ، وَجَبَتْ إجَابَتُهُمْ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ حَالَّةٌ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَأْخِيرُهَا مَعَ إمْكَانِ إيفَائِهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ لَهُ الْمُفْلِسَ دُونَهُمْ، وَكَانَ التَّأْخِيرُ أَحَظَّ لَهُ، لَمْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِتَأْخِيرِ حُقُوقِهِمْ لِحَظٍّ يَحْصُلُ لَهُمْ وَلِلْمُفْلِسِ، وَالْمُفْلِسُ يَطْلُبُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ بِنَفْسِهِ، وَمَنْعٌ لِلْغُرَمَاءِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِالتَّأْخِيرِ، فَلَا يَلْزَمُ الْغُرَمَاءَ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِأَنَّ الزَّرْعَ أَوْ الطَّلْع لِلْبَائِعِ] (3428) فَصْلٌ: إذَا أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِأَنَّ الزَّرْعَ أَوْ الطَّلْعَ لِلْبَائِعٍ، وَلَمْ يَشْهَدُوا بِهِ، أَوْ شَهِدُوا بِهِ وَلَمْ يَكُونُوا عُدُولًا، أَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمْ. حَلَفَ الْمُفْلِسُ، وَثَبَتَ الطَّلْعُ لَهُ يَنْفَرِدُ بِهِ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهُ إلَى أَحَدِهِمْ وَتَخْصِيصَهُ بِثَمَنِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِإِقْرَارِ بَاقِيهمْ بِعَدَمِ حَقِّهِمْ فِيهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ ذَلِكَ الْغَرِيمُ مِنْ قَبُولِهِ، أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ، أَوْ الْإِبْرَاءِ مِنْ قَدْرِهِ مِنْ دَيْنِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْ قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِك، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَى سَيِّدِهِ نُجُومَ كِتَابَتِهِ، فَقَالَ سَيِّدُهُ: هَذَا حَرَامٌ. وَأَنْكَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 الْمُكَاتَبُ. وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَتَهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، لَزِمَهُمْ قَبُولُهُ، أَوْ الْإِبْرَاءُ؛ لِذَلِكَ. فَإِنْ قَبَضُوا الثَّمَرَةَ بِعَيْنِهَا، لَزِمَهُمْ رَدُّ مَا حَصَلَ لَهُمْ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لَهُ بِهَا، فَلَزِمَهُمْ دَفْعُهَا إلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقَرُّوا بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي مِلْكِ غَيْرهمْ، ثُمَّ اشْتَرَوْهُ مِنْهُ وَإِنْ بَاعَ الثَّمَرَةَ، وَفَرَّقَ ثَمَنَهَا فِيهِمْ، أَوْ دَفَعَهُ إلَى بَعْضِهِمْ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ رَدُّ مَا أَخَذُوا مِنْ ثَمَنهَا؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا اعْتَرَفُوا بِالْعَيْنِ، لَا بِثَمَنِهَا. وَإِنْ شَهِدَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، لَزِمَ الشَّاهِدَ أَوْ الْمُقِرَّ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْمُفْلِسُ الثَّمَرَةَ بِعَيْنِهَا، فَأَبَوْا أَخْذَهَا، لَمْ يَلْزَمْهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ جِنْسِ دُيُونِهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ جِنْسٌ مِنْ الثَّمَرِ أَوْ الزَّرْعِ، كَالْمُقْرِضِ أَوْ الْمُسْلِمِ، فَيَلْزَمُهُ أَخْذُ مَا عُرِضَ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ بِصِفَةِ حَقِّهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِأَنَّ الْمُفْلِسَ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ قَبْلَ فَلَسِهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ فِي قَبْضِ الْعَبْدِ أَوْ أَخْذِ ثَمَنِهِ إنْ عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ، حُكْمَ مَا لَوْ أَقَرُّوا بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرُّوا بِعَيْنِ مِمَّا فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا غَصْبٌ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ وَإِنْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بَعْدَ فَلَسِهِ، انْبَنَى عَلَى صِحَّةِ عِتْقِ الْمُفْلِسِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ عِتْقُهُ. فَلَا أَثَرَ لَإِقْرَارِهِمْ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، فَهُوَ كَإِقْرَارِهِمْ بِعِتْقِهِ قَبْلَ فَلَسِهِ، وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ، أَوْ بِفَسَادِهِ، نَفَذَ حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَيَلْزَمُ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ. [فَصْلٌ صَدَّقَ الْمُفْلِسُ الْبَائِعَ فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ] (3429) فَصْلٌ: وَإِنْ صَدَّقَ الْمُفْلِسُ الْبَائِعَ فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ، وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ تَعَلَّقَتْ بِالثَّمَرَةِ ظَاهِرًا، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالنَّخِيلِ، وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْيَمِينُ، أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْبَائِعَ رَجَعَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا يَنُوبُونَ فِيهَا عَنْ الْمُفْلِسِ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا وَأَقَامَ شَاهِدًا فَلَمْ يَحْلِفْ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ ثُمَّ عَلَى الْمُفْلِسِ، فَلَوْ حَلَفُوا حَلَفُوا لِيُثْبِتُوا حَقًّا لَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَحْلِفُ الْإِنْسَانُ لِيُثْبِتَ لِغَيْرِهِ حَقًّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَصْلُ أَنَّ هَذَا الطَّلْعَ قَدْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِهِ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِ غَرِيمِهِمْ، وَمُتَّصِلٌ بِنَخْلِهِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي مَا يُزِيلُ حُقُوقَهُمْ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَعْيَانِ مَالِهِ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ الدَّيْنِ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِبَعْضِ غُرَمَائِهِ، فَأَنْكَرَهُ الْغُرَمَاءُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ الْيَمِينُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِغَرِيمٍ آخَرَ يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَتَهُمْ، فَأَنْكَرُوهُ، فَعَلَيْهِمْ الْيَمِينُ أَيْضًا، وَيَكُونُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ، أَعْتَقَ عَبْدَهُ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ عِتْقِ الْمُفْلِسِ فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ عِتْقُهُ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَعَتَقَ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعِتْقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِتْقُ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ عِتْقُهُ. لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ، وَكَانَ عَلَى الْغُرَمَاءِ الْيَمِينُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا عَلَى الْغُرَمَاءِ الْيَمِينُ، فَهُوَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَإِنْ حَلَفُوا أَخَذُوا، وَإِنْ نَكَّلُوا قُضِيَ لِلْمُدَّعِي بِمَا ادَّعَاهُ، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، فَتُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، فَيَحْلِفَ وَيَسْتَحِقُّ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، أَخَذَ الْحَالِفُ نَصِيبَهُ، وَحُكْمُ النَّاكِلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَأَنْكَرَ الْغُرَمَاءُ] (3430) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ مُنْذُ شَهْرٍ، وَكَانَ الْعَبْدُ قَدْ اكْتَسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا، وَأَنْكَرَ الْغُرَمَاءُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ. حَلَفُوا، وَاسْتَحَقُّوا الْعَبْدَ وَكَسْبَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ. لَمْ يُقْبَلْ فِي كَسْبِهِ، وَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْكَسْبِ، وَيَأْخُذُونَ كَسْبَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ إنَّمَا قُبِلَ فِي الْعِتْقِ دُونَ غَيْرِهِ لِصِحَّتِهِ مِنْهُ، وَلِبِنَائِهِ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ، لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ، وَلِأَنَّنَا نَزَّلْنَا إقْرَارَهُ مَنْزِلَةَ إعْتَاقِهِ فِي الْحَالِ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ فِيمَا مَضَى، فَيَكُونُ كَسْبُهُ مَحْكُومًا بِهِ لِسَيِّدِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَفْلَسَ فَأَرَادَ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ] (3431) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ غَرَسَهَا، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَأَرَادَ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِي الْأَرْضِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، فَإِذَا قَلَعُوهُ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا، وَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْقَلْعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ حَتَّى يُوجَدَ الْقَلْعُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَلْعِ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ إلَّا مَشْغُولًا بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ مَسَامِيرَ فِي بَابِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ. فَقَلَعُوهُ، لَزِمَهُمْ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ مِنْ الْحَفْرِ، وَأَرْشُ نَقْصِ الْأَرْضِ الْحَاصِلِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ حَصَلَ لِتَخْلِيصِ مِلْكِ الْمُفْلِسِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فَصِيلُهُ دَارَ إنْسَانٍ وَكَبِرَ، فَأَرَادَ صَاحِبُهُ إخْرَاجَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِهَدْمِ بَابِهَا، فَإِنَّ الْبَابَ يُهْدَمُ لِيَخْرُجَ، وَيَضْمَنُ صَاحِبُهُ مَا نَقَصَ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ نَاقِصَةً. فَرَجَعَ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي النَّقْصِ لِأَنَّ النَّقْصَ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ، وَهُنَا حَدَثَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْعَيْنِ، فَلِهَذَا ضَمِنُوهُ، وَيَضْرِبُ بِالنَّقْصِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ. لَمْ يَلْزَمْهُمْ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ، وَلَا أَرْشُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْمُفْلِسِ قَبْلَ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِيهَا، فَلَمْ يَضْمَنُوا النَّقْصَ، كَمَا لَوْ قَلَعَهُ الْمُفْلِسُ قَبْلَ فَلَسِهِ، فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَلْعِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ بِحَقٍّ. وَمَفْهُومُ قَوْله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا فَلَهُ حَقٌّ فَإِنْ بَذَلَ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، لِيَكُونَ لَهُ الْكُلُّ. أَوْ قَالَ: أَنَا أَقْلَعُ، وَأَضْمَنُ مَا نَقَصَ فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ، أَوْ قَلْعُهُ وَضَمَانُ نَقْصِهِ، كَالشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الْأَرْضَ وَفِيهَا غِرَاسٌ وَبِنَاءٌ لِلْمُشْتَرِي، وَالْمُعِيرِ إذَا رَجَعَ فِي أَرْضِهِ بَعْدَ غَرْسِ الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 قَبْلَ الْقَلْعِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمُفْلِسِ وَغَرْسَهُ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِ لِهَذَا الْبَائِعِ، وَلَا عَلَى قَلْعِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْأَرْضِ. فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ بَذْلِ ذَلِكَ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، وَفِيهِ مَالُ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ الرُّجُوعَ، كَالثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ الْمُشْتَرِي وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، كَالْحَجَرِ فِي الْبِنَاءِ، وَالْمَسَامِيرِ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْغُرَمَاءِ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالرُّجُوعِ هَاهُنَا انْقِطَاعُ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهَا غَيْر مَشْغُولَةٍ بِشَيْءِ. وَأَمَّا الثَّوْبُ إذَا صَبَغَهُ، فَلَا نُسَلَّمُ لَهُ الرُّجُوعَ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الصَّبْغَ تَقَرَّرَ فِي الثَّوْبِ، فَصَارَ كَالصِّفَةِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَإِنَّهُ أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ، وَأَصْلٌ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ. فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ. فَرَجَعَ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى بَيْعِهِمَا، بِيعَا لَهُمَا، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْبَيْعِ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا، فَصَبَغَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الثَّوْبَ يُبَاعُ لَهُمَا، كَذَا هَاهُنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ طَالِبُ الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ مِلْكَهُ مُفْرَدًا، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ، فَإِنْ بِيعَا لَهُمَا، قَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ غَيْرَ ذَاتِ شَجَرٍ وَلَا بِنَاءٍ، ثُمَّ تُقَوَّمُ وَهُمَا فِيهَا، فَمَا كَانَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ غِرَاسٍ وَلَا بِنَاءٍ، فَلِلْبَائِعِ قِسْطُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَمَا زَادَ فَهُوَ لِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ. أَوْ لَمْ يَطْلُبْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَاتَّفَقَا عَلَى كَيْفِيَّةِ كَوْنِهِمَا بَيْنَهُمَا، جَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا، كَانَتْ الْأَرْضُ لِلْبَائِعِ، وَالْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ، وَلَهُمْ دُخُولُ الْأَرْضِ لِسَقْيِ الشَّجَرِ وَأَخْذِ الثَّمَرَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهَا لِلتَّفَرُّجِ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَلِلْبَائِعِ دُخُولُهَا لِلزَّرْعِ، وَلَمَّا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُ وَمِلْكُهُ. وَإِنْ بَاعُوا الشَّجَرَ وَالْبِنَاءَ لَإِنْسَانٍ، فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُمْ. وَلَوْ بَذَلَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ، أَوْ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ، قِيمَةَ الْأَرْضِ لِلْبَائِعِ، لِيَدْفَعهَا لَهُمْ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا، بِخِلَافِ مَا فِيهَا مِنْ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى غِرَاسًا فَغَرَسَهُ فِي أَرْضِهِ ثُمَّ أَفْلَسَ] (3432) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى غِرَاسًا، فَغَرَسَهُ فِي أَرْضِهِ، ثُمَّ أَفْلَسَ، وَلَمْ يَزِدْ الْغِرَاسُ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ. وَإِذَا أَخَذَهُ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا الْحَاصِلُ بِقِلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ لِتَخْلِيصِ مِلْكِهِ مِنْ مِلْكِ غَيْره. وَإِنْ بَذَلَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ لَهُ قِيمَتَهُ، لِيَمْلِكُوهُ بِذَلِكَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ مَالِهِ، وَتَفْرِيغَ مِلْكِهِمْ، وَإِزَالَةَ ضَرَرِهِ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْعُهُ، كَالْمُشْتَرِي إذَا غَرَسَ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْقَلْعِ، فَبَذَلُوا لَهُ الْقِيمَةَ لِيَمْلِكَهُ الْمُفْلِسُ، أَوْ أَرَادُوا قَلْعَهُ وَضَمَانَ النَّقْصِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادُوا قَلْعَهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ إنَّمَا ابْتَاعَهُ مَقْلُوعًا، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إبْقَاؤُهُ فِي أَرْضِهِ وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُمْ قَلْعُهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ بِحَقٍّ، فَأَشْبَهَ غَرْسَ الْمُفْلِسِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ابْتَاعَهَا إذَا رَجَعَ بَائِعُهَا فِيهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ إبْقَاءَ الْغِرَاسِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا إبْقَاؤُهُ حَقٌّ لَهُ فَوَجَبَ لَهُ بِغِرَاسِهِ فِي مِلْكِهِ. فَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْقَلْعَ، وَبَعْضُهُمْ التَّبْقِيَةَ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْقَلْعَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُفْلِسَ أَوْ الْغُرَمَاءَ، أَوْ بَعْضَ الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِبْقَاءَ ضَرَرٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْمُمْتَنِعَ مِنْهُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ وَإِنْ زَادَ الْغِرَاسُ فِي الْأَرْضِ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، تَمْنَعُ الرُّجُوعَ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَلَا تَمْنَعُهُ عَلَى رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي. [فَصْلٌ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ وَغِرَاسًا مِنْ آخَرَ فَغَرَسَهُ فِيهَا ثُمَّ أَفْلَسَ] (3433) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ، وَغِرَاسًا مِنْ آخَرَ، فَغَرَسَهُ فِيهَا، ثُمَّ أَفْلَسَ وَلَمْ يَزِدْ الشَّجَرُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُ الْغِرَاسِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ نَقْصِهِ بِالْقَلْعِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا بَاعَهُ مَقْلُوعًا، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا كَذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ بَائِعُهُ قَلْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ، فَقَلَعَهُ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ، وَضَمَانُ نَقْصِهَا الْحَاصِلِ بِهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ بَذَلَ صَاحِبُ الْغِرَاسِ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا لِيَمْلِكَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا تَبَعًا. وَإِنْ بَذَلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغِرَاسِ لِيَمْلِكَهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْقَلْعِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ غَرْسَهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ، فَأَشْبَهَ غَرْسَ الْمُفْلِسِ فِي أَرْضِ الْبَائِعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إبْقَائِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ قِيمَتِهِ، أَوْ أَرْشِ نَقْصِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِالْقِيمَةِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْأُولَى أَوْلَى. وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِغَرْسِ الْغَاصِبِ. [فَصْلٌ قَبَضَ بَائِعُ الْأَرْض بَعْض ثَمَنهَا] (3434) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهَا، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي قَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ تَرْجِعُ بِهِ الْعَيْنُ كُلُّهَا إلَى الْعَاقِدِ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ بَعْضُهَا، كَالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ رَدَّ مَا قَبَضَهُ وَرَجَعَ فِي جَمِيعَ الْعَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ وَلَمْ يَرْجِعْ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً، فَأَدْرَكَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 شَيْئًا، فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي قِسْطِ مَا بَقِيَ تَبْعِيضًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِضْرَارًا بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يُبَاعُ، وَلَا يَبْقَى لَهُ، فَيَزُولُ عَنْهُ الضَّرَرُ قُلْنَا: لَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِالْبَيْعِ؛ فَإِنْ قِيمَتَهُ تَنْقُصُ بِالتَّشْقِيصِ، وَلَا يُرْغَبُ فِيهِ مُشَقَّصًا، فَيَتَضَرَّرُ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ بِنَقْصِ الْقِيمَةِ. وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ، فَلَمْ يَجُزْ تَشْقِيصُهُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ، وَقِيَاسُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ عَيْنًا وَاحِدَةً، أَوْ عَيْنَيْنِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُكُمْ يَرْوِيه أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَلَا حُجَّةَ فِي الْمَرَاسِيلِ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي " سُنَنِهِمْ " مُتَّصِلًا، فَلَا يَضُرُّ إرْسَالُ مَنْ أَرْسَلَهُ، فَإِنَّ رَاوِيَ الْمُسْنَدِ مَعَهُ زِيَادَةٌ لَا يُعَارِضُهَا تَرْكُ مُرْسِلِ الْحَدِيثِ لَهَا، وَعَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ، فَلَا يَضُرُّ إرْسَالُهُ. [فَصْلٌ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْمَبِيعِ] (3435) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ لَا يَكُونَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ. فَإِنْ رَهَنَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَفْلَسَ أَوْ وَهَبَهَا، لَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ إضْرَارًا بِالْمُرْتَهِنِ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَهَذَا لَمْ يَجِدْهُ عِنْدَ الْمُفْلِسِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا فَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ دُونَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، بِيعَ كُلُّهُ، فَقُضِيَ مِنْهُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَى سَائِرِ مَالِ الْمُفْلِسِ، وَيَشْتَرِكُ الْغُرَمَاءُ فِيهِ، وَإِنْ بِيعَ بَعْضُهُ، فَبَاقِيه بَيْنَهُمْ يُبَاعُ لَهُمْ أَيْضًا، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ. قَالَ الْقَاضِي: لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُخَرَّجُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ تَلَفَ بَعْضِ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَكَذَلِكَ ذَهَابُ بَعْضِهَا بِالْبَيْعِ وَلَوْ رَهَنَ بَعْضَ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي بَاقِيه؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ، فَرَهَنَ إحْدَاهُمَا، فَهَلْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِي الْأُخْرَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا تَلِفَتْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ. وَإِنْ فَكَّ الرَّهْنَ قَبْلَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي. أَوْ أُبْرِئَ مِنْ دَيْنِهِ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ؛ أَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ أَفْلَسَ وَهُوَ رَهْنٌ، فَأَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الْمُشْتَرِي مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ أَيْضًا كَذَلِكَ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيع عَبْدًا فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ تَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ] (3436) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ تَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ بِهِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَالثَّانِي، لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ، كَالدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ. وَفَارَقَ الرَّهْنَ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرَّهْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ. فَهُوَ مُخَيَّرٌ؛ إنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهِ نَاقِصًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَ بِثَمَنِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ الْجِنَايَةِ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ خَالِيًا مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ. [فَصْلٌ أَفْلَسَ الْمُشْتَرَى بَعْدَ خُرُوجِ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ] (3437) فَصْلٌ: وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ ؛ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي يُمْكِنُهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِخِيَارِ لَهُ، أَوْ عَيْبٍ فِي ثَمَنِهِ، أَوْ رُجُوعِهِ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَخُرُوجُ بَعْضِهِ كَخُرُوجِ جَمِيعِهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ أَفْلَسَ بَعْد رُجُوعِ ذَلِكَ إلَى مِلْكِهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ خَالِيًا عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَبِعْهُ. وَالثَّانِي، لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ مِنْهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ فَسْخَهُ. ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ، أَنَّهُ إنْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، كَبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ إرْثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ. وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِفَسْخٍ، كَالْإِقَالَةِ، وَالرَّدِّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ اسْتَنَدَ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الثَّانِي لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا أَزَالَ السَّبَبَ الْمُزِيلَ لِمُلْكِ الْبَائِعِ، فَثَبَتَ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ، فَمَلَكَ اسْتِرْجَاعَ مَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِبَيْعِهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مَشْفُوعًا وَأَفْلَسَ الْمُشْتَرَى] (3438) فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ فِيهِ عَادَ الشِّقْصُ إلَيْهِ، فَزَالَ الضَّرَرُ عَنْ الشَّفِيعِ، لِأَنَّهُ عَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلَمْ تَتَجَدَّدْ شَرِكَةُ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ فَكَانَ أَوْلَى، بَيَانُهُ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ ثَبَتَ بِالْحَجْرِ، وَحَقَّ الشَّفِيعِ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ انْتِزَاعَ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ إلَيْهِ، وَحَقُّ الْبَائِعِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، مَا دَامَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِرَدِّهِ إلَى الْبَائِعِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لِبَائِعِهِ، أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ، أَوْ أَقَالَهُ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي عَيْنٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، وَهَذِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الشَّفِيعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 الْوَجْهُ الثَّالِثُ، أَنَّ الشَّفِيعَ إنْ كَانَ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ، فَهُوَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَأَكَّدَ هُنَا بِالْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطَالِبْ بِهَا، فَالْبَائِعُ أَوْلَى. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَالْأَوَّلَيْنِ، وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الثَّمَنَ يُؤْخَذُ مِنْ الشَّفِيعِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ الْبَائِعُ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، فَإِنْ غَرَضَ الشَّفِيعِ فِي عَيْنِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ، وَغَرَضَ الْبَائِعِ فِي ثَمَنِهِ، فَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا. وَلَيْسَ هَذَا جَيِّدًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إلَى وُجُوبِ الثَّمَنِ، تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ، فَسَاوَى الْغُرَمَاءُ فِيهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَبِيعُ صَيْدًا فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ مُحْرِمٌ.] (3439) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ صَيْدًا، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ مُحْرِمٌ، لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ الصَّيْدَ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْإِحْرَامِ، كَشِرَاءِ الصَّيْدِ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَمَ إنَّمَا يَحْرُمُ الصَّيْدُ الَّذِي فِيهِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ صَيْدِهِ، فَلَا يَحْرُمُ، وَلَوْ أَفْلَسَ الْمُحْرِمُ، وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ، بَائِعُهُ حَلَالٌ، فَلَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِ. [فَصْلٌ أَفْلَسَ الْمُشْتَرَى وَفِي يَدِهِ عَيْنُ مَالٍ دَيْنُ بَائِعهَا مُؤَجَّلٌ] (3440) فَصْلٌ: وَإِذَا أَفْلَسَ، وَفِي يَدِهِ عَيْنُ مَال، دَيْنُ بَائِعِهَا مُؤَجَّلٌ، وَقُلْنَا: لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ بِالْفَلَسِ. فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ: يَكُونُ مَالُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَحِلّ دَيْنُهُ، فَيَخْتَارَ الْبَائِعُ الْفَسْخَ أَوْ التَّرْكَ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ حَالَّةٌ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، كَدَيْنِ مَنْ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ. وَلِلْأَوَّلِ الْخَبَرُ، وَلِأَنَّ حَقَّ هَذَا الْبَائِعِ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، فَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا. كَالْمُرْتَهِنِ، وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ ابْتَاعَ طَعَامًا نَسِيئَةً وَنَظَرَ إلَيْهِ وَقَلَّبَهُ وَقَالَ أَقْبِضُهُ غَدًا فَمَاتَ الْبَائِعُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ] (3441) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ طَعَامًا نَسِيئَةً، وَنَظَرَ إلَيْهِ وَقَلَّبَهُ، وَقَالَ: أَقْبِضُهُ غَدًا. فَمَاتَ الْبَائِعُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالطَّعَامُ لِلْمُشْتَرِي، وَيَتْبَعُهُ الْغُرَمَاءُ فِي الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ رَخِيصًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ بِالشِّرَاءِ، وَزَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْهُ، فَلَمْ يُشَارِكْهُ غُرَمَاءُ الْبَائِعِ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَبَضَهُ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ، أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ حَيًّا. وَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْبَابِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ رُجُوعُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ] (3442) فَصْلٌ: وَرُجُوعُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ، لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ، وَلَا الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَلَا اشْتِبَاهِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ، فَلَوْ رَجَعَ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَغَيَّرُ فِيهَا، ثُمَّ وَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتْلَفْ شَيْءٌ مِنْهُ، صَحَّ رُجُوعُهُ. وَإِنْ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ إبَاقِهِ، أَوْ الْجَمَلِ بَعْد شُرُودِهِ، أَوْ الْفَرَسِ الْعَاثِرِ، صَحَّ، وَصَارَ ذَلِكَ لَهُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ ذَهَبَ كَانَ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَالِفًا حِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 اسْتِرْجَاعِهِ، لَمْ يَصِحَّ اسْتِرْجَاعُهُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْجُودِ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ رَجَعَ فِي الْمَبِيعِ، وَاشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: هَذَا هُوَ الْمَبِيعُ. وَقَالَ الْمُفْلِسُ: بَلْ هَذَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِاسْتِحْقَاقِ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ. [مَسْأَلَةٌ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ بِشَاهِدِ فَلَمْ يَحْلِفْ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ بِشَاهِدٍ، فَلَمْ يَحْلِفْ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ، وَيَسْتَحِقُّوا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفْلِسَ فِي الدَّعْوَى كَغَيْرِهِ، فَإِذَا ادَّعَى حَقًّا لَهُ بِهِ شَاهِدُ عَدْلٍ، وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، ثَبَتَ الْمَالُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشَّاهِدِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى يَمِينٍ مَعَهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ كَغَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ الْغُرَمَاءُ: نَحْنُ نَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ. لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَحْلِفُونَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ تَعَلَّقَتْ بِالْمَالِ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا، كَالْوَرَثَةِ يَحْلِفُونَ عَلَى مَالِ مَوْرُوثِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ؛ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِهِمْ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ، كَالْمَرْأَةِ تَحْلِفُ لِإِثْبَاتِ مِلْكٍ لِزَوْجِهَا؛ لِتَعَلُّقِ نَفَقَتِهَا بِهِ، وَكَالْوَرَثَةِ قَبْلَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِمْ. وَفَارَقَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَالَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ، وَهُمْ يُثْبِتُونَ بِأَيْمَانِهِمْ مِلْكًا لَأَنْفُسِهِمْ. [مَسْأَلَة كَانَ عَلَى الْمُفْلِسِ دَيْن مُؤَجَّلٌ] (3444) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُفْلِسِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَحِلَّ بِالتَّفْلِيسِ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ، إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِفَلَسِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. قَالَهُ الْقَاضِي. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَحِلُّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْإِفْلَاسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَالِ، فَأَسْقَطَ الْأَجَلَ كَالْمَوْتِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفْلِسِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَالِهِ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ، كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَيٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذِمَّتَهُ خَرِبَتْ وَبَطَلَتْ بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ غُرَمَاءَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، بَلْ يُقْسَمُ الْمَالُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، وَيَبْقَى الْمُؤَجَّلُ فِي الذِّمَّةِ إلَى وَقْتِ حُلُولِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمْ الْغُرَمَاءُ حَتَّى حَلَّ الدَّيْنُ، شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، كَمَا لَوْ تَجَدَّدَ عَلَى الْمُفْلِسِ دَيْنٌ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْضَ الْمَالِ قَبْلَ قَسَمَهُ، شَارَكَهُمْ فِيهِ، وَيَضْرِبُ فِيهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ، وَيَضْرِبُ سَائِرُ الْغُرَمَاءِ بِبَقِيَّةِ دُيُونِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ. فَإِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 فَأَمَّا إنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ، فَهَلْ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَحِلُّ إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: الدَّيْنُ إلَى أَجَلِهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، أَنَّهُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَوَّارٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوْ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا، وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ؛ أَمَّا الْمَيِّتُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَيِّتُ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ وَأَمَّا الْوَرَثَةُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَعْيَانِ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةِ لَهُمْ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُفْلِسِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ، وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» وَمَا ذَكَرُوهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهَا شَاهِدُ الشَّرْعِ بِاعْتِبَارِ، وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِ هَذَا، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَدَاءَ الدَّيْنِ، وَالْتِزَامَهُ لِلْغَرِيمِ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ، أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءً، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمْ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْحَقِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِلُ إلَى ذِمَمِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ الْتِزَامُهُمْ لَهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ دَيْنٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَمْ يَتَعَاطَ سَبَبَهُ، وَلَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ لِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ لَلَزِمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ. فَأَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْقَضَاءَ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ، وَاسْتِخْلَاصَ التَّرِكَةَ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ قَضَوْا مِنْهَا، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ الْقَضَاءِ، بَاعَ الْحَاكِمُ مِنْ التَّرِكَةِ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ وَإِنْ مَاتَ مُفْلِسٌ وَلَهُ غُرَمَاءُ، بَعْضُ دُيُونِهِمْ مُؤَجَّلٌ، وَبَعْضُهَا حَالٌ، وَقُلْنَا: الْمُؤَجَّلُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ. تَسَاوَوْا فِي التَّرِكَةِ، فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى قَدْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 دُيُونِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ. نَظَرْنَا؛ فَإِنْ وَثَقَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الْمُؤَجَّلِ، اخْتَصَّ أَصْحَابُ الْحَالِ بِالتَّرِكَةِ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ التَّوْثِيقِ، حَلَّ دَيْنُهُ، وَشَارَكَ أَصْحَابَ الْحَالِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إسْقَاطِ دَيْنِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. [فَصْلٌ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ] (3445) فَصْلٌ: حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، هَلْ يَمْنَعُ الدَّيْنُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ؟ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَمْنَعُهُ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالْمَالِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْجَانِي وَالرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ، فَلَمْ يَمْنَعْ نَقْلَهُ. فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، صَحَّ تَصَرُّفُهُمْ، وَلَزِمَهُمْ أَدَاءُ الدَّيْنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وَفَاؤُهُ، فُسِخَ تَصَرُّفُهُمْ، كَمَا لَوْ بَاعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْجَانِي، أَوْ النِّصَابَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلَيْهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . فَجَعَلَ التَّرِكَةَ لِلْوَارِثِ مِنْ بَعْدِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْمِلْكُ قَبْلَهُمَا فَعَلَى هَذَا، لَوْ تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي غَيْرِ مِلْكِهِمْ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْغُرَمَاءُ لَهُمْ، وَإِنْ تَصَرَّفَ الْغُرَمَاءُ، لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ فِي مَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَهُ الْحَاكِمُ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ فِي مَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَهُ الْحَاكِمُ، فَجَائِزٌ يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ. فَنَبْدَأُ بِذِكْرِ سَبَبِ الْحَجْرِ، فَنَقُولُ: إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، لَمْ يُجِبْهُمْ حَتَّى تَثْبُتَ دُيُونُهُمْ بِاعْتِرَافِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَإِذَا ثَبَتَتْ، نَظَرَ فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ وَافِيًا بِدَيْنِهِ، لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ، وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ قَضَى الْحَاكِمُ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى بَيْعِ مَالِهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ دُونَ دَيْنِهِ، وَدُيُونُهُ مُؤَجَّلَةٌ، لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ مُطَالَبَتُهُ بِهَا، فَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُؤَجَّلًا، وَبَعْضُهَا حَالًّا، وَمَالُهُ يَفِي بِالْحَالِّ، لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْفَلَسِ، لِكَوْنِ مَالِهِ بِإِزَاءِ دَيْنِهِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ إلَّا مِنْ مَالِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْجُرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَالَهُ يَعْجِزُ عَنْ دُيُونِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ نَاقِصًا. وَلَنَا: أَنَّ مَالَهُ وَافٍ بِمَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، فَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَاتُ الْفَلَسِ، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ لَا يُمْكِنُهُمْ طَلَبُ حُقُوقِهِمْ فِي الْحَالِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَجْرِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ دُيُونُهُ حَالَّةً، يَعْجِزُ مَالُهُ عَنْ أَدَائِهَا، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُمْ وَلَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ سُؤَالِ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَاعْتُبِرَ رِضَاهُمْ بِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا، فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، أُجِيبَ مَنْ طَلَبَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْحَاكِمِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ ثَبَتَ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى الْبَيْعِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْإِيفَاءُ بِدُونِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يَبِعْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ، لَا يَبِيعُ مَالَهُ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ لِيَبِيعَ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ، وَمَالُهُ مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ، فَيَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرَ، وَالدَّنَانِيرَ عَنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ بَيْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَاَلَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ وَلَنَا، مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ، وَبَاعَ مَالَهُ فِي دَيْنِهِ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجَّ، فَادَّانَ مُعَرِّضًا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَلْيَحْضُرْ غَدًا، فَإِنَّا بَائِعُو مَالِهِ، وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، مُحْتَاجٌ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَجَازَ بَيْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَالصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ، فَجَازَ بَيْعُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، كَالْأَثْمَانِ. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ، مِنْ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ قَضَاءِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ نَافِذٌ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ. وَلِأَنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ الْحَجْرُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْمَلِيءَ، وَإِنْ أَكْرَى جَمَلًا بِعَيْنِهِ، أَوْ دَارًا، لَمْ تَنْفَسِخْ إجَارَتُهُ بِالْفَلَسِ، وَكَانَ الْمُكْتَرِي أَحَقَّ بِهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 [فَصْلٌ الْمُفْلِس إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ] (3447) فَصْلٌ: وَمَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ بِبَيْعِ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ أَصْدَقَ امْرَأَةً مَالًا لَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَقَالَ فِي آخَرَ: يَقِفُ تَصَرُّفُهُ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ وَفَاءُ الْغُرَمَاء نَفَذَ، وَإِلَّا بَطَلَ وَلَنَا، أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، كَالسَّفِيهِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِ مَالِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا، كَالْمَرْهُونَةِ. فَأَمَّا إنْ تَصَرَّفَ فِي ذِمَّتِهِ، فَاشْتَرَى، أَوْ اقْتَرَضَ، أَوْ تَكَفَّلَ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي حَقِّهِ الْحَجْرُ، وَالْحَجْرُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لَا بِذِمَّتِهِ، وَلَكِنْ لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ هَذِهِ الدُّيُونِ الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ، إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مُفْلِسٌ وَعَامَلُوهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، وَيُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَإِنْ أَقَرَّ بِدِينٍ، لَزِمَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْن الْحَسَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يُشَارِكُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ مُضَافٌ إلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ، فَيُشَارِكُ صَاحِبُهُ الْغُرَمَاءَ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ، كَالسَّفِيهِ، أَوْ كَالرَّاهِنِ يُقِرُّ عَلَى الرَّهْنِ، وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ يُبْطِلُ ثُبُوتُهُ حَقَّ غَيْرِ الْمُقِرِّ، فَلَمْ يُقْبَلْ، أَوْ إقْرَارٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَإِقْرَارِ الرَّاهِنِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ، فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ، وَفَارَقَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهَا وَلَوْ كَانَ الْمُفْلِسُ صَانِعًا، كَالْقِصَارِ، وَالْحَائِكِ، فِي يَدَيْهِ مَتَاعٌ، فَأَقَرَّ بِهِ لِأَرْبَابِهِ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ، وَالْقَوْلُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَتُبَاعُ الْعَيْنُ الَّتِي فِي يَدَيْهِ، وَتُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَتَكُونُ قِيمَتُهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمُفْلِسِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا صُرِفَتْ فِي دَيْنِهِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُفْلِسِ يَمِينٌ، فَنَكِلَ عَنْهَا، فَقُضِيَ عَلَيْهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ، يَلْزَمُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ الْمُفْلِسُ بَعْضَ رَقِيقِهِ] (3448) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُفْلِسُ بَعْضَ رَقِيقِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَصِحُّ وَيَنْفُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مَالِكٍ رَشِيدٍ، فَنَفَذَ، كَمَا قَبْلَ الْحَجْرِ، وَيُفَارِقُ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ لِلْعِتْقِ تَغْلِيبًا وَسِرَايَةً، وَلِهَذَا يَسْرِي إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، وَيَسْرِي وَاقِفِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 أَبُو الْخَطَّابِ، فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ "؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ دَيْنُهُ مَالَهُ، وَلِأَنَّ الْمُفْلِسَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ كَالسَّفِيهِ، وَفَارَقَ الْمُطْلَقَ وَأَمَّا سِرَايَتُهُ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَلَا يَتَضَرَّرُ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَحِفْظًا لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ، كَذَا هَاهُنَا. وَهَذَا أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ إظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِس] (3449) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ إظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ، كَيْ لَا يَسْتَضِرَّ النَّاسُ بِضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَرُبَّمَا عُزِلَ الْحَاكِمُ أَوْ مَاتَ، فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ عِنْدَ الْآخَرِ، فَيُمْضِيه، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ابْتِدَاءِ حَجْرٍ ثَانٍ. [فَصْلٌ الْمُفْلِس ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ بِبَيِّنَةِ] (3450) فَصْلٌ: وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ بِبَيِّنَةٍ شَارَكَ صَاحِبُهُ الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ. وَلَوْ جَنَى الْمُفْلِسُ بَعْدَ الْحَجْرِ جِنَايَةً أَوْجَبَتْ مَالًا، شَارَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَعَفَا صَاحِبُهَا عَنْهَا إلَى مَالٍ، أَوْ صَالَحَهُ الْمُفْلِسُ عَلَى مَالٍ، شَارَكَ الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ ثَبَتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْجَبَتْ الْمَالَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَا قَدَّمْتُمْ حَقَّهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، كَمَا قَدَّمْتُمْ حَقَّ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ عَبِيدِ الْمُفْلِسِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَقُدِّمَ لِذَلِكَ، وَحَقُّ هَذَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، كَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ، فَاسْتَوَيَا. [فَصْلٌ قَسَمَ الْحَاكِم مَال الْمُفْلِس بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ] (3451) فَصْلٌ: وَلَوْ قَسَمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ، رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ: لَا يَحَاصُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَنَا، أَنَّهُ غَرِيمٌ لَوْ كَانَ حَاضِرًا قَاسَمَهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَاسَمَهُمْ، كَغَرِيمِ الْمَيِّتِ يَظْهَرُ بَعْدَ قَسَمَ مَالِهِ، وَلَيْسَ قَسْمُ الْحَاكِمِ مَالَهُ حُكْمًا، إنَّمَا هُوَ قِسْمَةٌ بَانَ الْخَطَأُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَسَّمَ مَالَ الْمَيِّتِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ. أَوْ قَسَمَ أَرْضًا بَيْنَ شُرَكَاءَ، ثُمَّ ظَهَرَ شَرِيكٌ آخَرُ. أَوْ قَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ وَرَثَةٍ، ثُمَّ ظَهَرَ وَارِثٌ سِوَاهُ، أَوْ وَصِيَّةٌ، ثُمَّ ظَهَرَ مُوصَى لَهُ آخَرُ. [فَصْلٌ أَفْلَسَ وَلَهُ دَار مُسْتَأْجَرَة فَانْهَدَمَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمُفْلِسِ الْأُجْرَةَ] (3452) فَصْلٌ: وَلَوْ أَفْلَسَ وَلَهُ دَارٌ مُسْتَأْجَرَةٌ، فَانْهَدَمَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمُفْلِسِ الْأُجْرَةَ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَسَقَطَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، أَخَذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ قَسْمِ مَالِهِ، رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ يُشَارِكُهُمْ إذَا وَجَبَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً، وَقَبَضَ ثَمَنَهَا، ثُمَّ أَفْلَسَ فَوَجَدَ بِهَا الْمُشْتَرِي عَيْبًا، فَرَدَّهَا بِهِ، أَوْ رَدَّهَا بِخِيَارٍ، أَوْ اخْتِلَافٍ فِي الثَّمَنِ، وَنَحْوِهِ، وَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 أَخَذَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا انْفَسَخَ، زَالَ مِلْكُ الْمُفْلِسِ عَنْ الثَّمَنِ، كَزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمَبِيعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، شَارَكَ الْمُشْتَرِي الْغُرَمَاءَ. [مَسْأَلَةٌ يُنْفَق عَلَى الْمُفْلِس وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ] (3453) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ، إلَى أَنْ يُفْرَغَ مِنْ قِسْمَتِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَكَانَ ذَا كَسْبٍ يَفِي بِنَفَقَتِهِ، وَنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ مَالِهِ مَعَ غِنَاهُ بِكَسْبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَالِهِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ دُونَ نَفَقَتِهِ، كَمَّلْنَاهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا كَسْبٍ، أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مُدَّةَ الْحَجْرِ، وَإِنْ طَالَتْ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِيمَنْ يَعُولُهُ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، فَإِذَا قَدَّمَ نَفَقَةَ نَفْسِهِ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَكَذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ آكَدُ حُرْمَةً مِنْ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ، وَتَقْدِيمُ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، وَمُؤْنَةِ دَفْنِهِ عَلَى دَيْنِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَنَفَقَتُهُ أَوْلَى وَتُقَدَّمُ أَيْضًا نَفَقَةُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، مِثْلِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ، وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ تُحَبُّ نَفَقَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ مَجْرَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْهُمْ يَعْتِقُونَ إذَا مَلَكَهُمْ، كَمَا يَعْتِقُ إذَا مَلَكَ نَفْسَهُ، فَكَانَتْ نَفَقَتُهُمْ كَنَفَقَتِهِ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ تُقَدَّمُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْإِحْيَاءِ، كَمَا فِي الْأَقَارِبِ، وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمُفْلِسِ وَزَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ مِنْ مَالِهِ، أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ. وَتَجِبُ كُسْوَتُهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا تَقُومُ النَّفْسُ بِدُونِهِ، وَالْوَاجِبُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ أَدْنَى مَا يُنْفَقُ عَلَى مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدْنَى مَا يَكْتَسِي مِثْلُهُ، إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ أَوْ مُتَوَسِّطِهِ، وَكَذَلِكَ كُسْوَتُهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكْتَسِبهُ مِثْلُهُ، وَكُسْوَةُ امْرَأَتِهِ وَنَفَقَتُهَا مِثْلُ مَا يُفْتَرَضُ عَلَى مِثْلِهِ وَأَقَلُّ مَا يَكْفِيه مِنْ اللِّبَاسِ قَمِيصٌ، وَسَرَاوِيلُ، وَشَيْءٌ يَلْبَسُهُ عَلَى رَأْسِهِ، إمَّا عِمَامَةٌ وَإِمَّا قَلَنْسُوَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ، وَلِرِجْلِهِ حِذَاءٌ، إنْ كَانَ يَعْتَادُهُ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى جُبَّةٍ، أَوْ فَرْوَةٍ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، دُفِعَ إلَيْهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ثِيَابٌ لَا يَلْبَسُ مِثْله مِثْلَهَا، بِيعَتْ، وَاشْتُرِيَ لَهُ كُسْوَةٌ مِثْلُهَا، وَرُدَّ الْفَضْلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ إذَا بِيعَتْ، وَاشْتُرِيَ لَهُ كُسْوَةٌ، لَا يَفْضُلُ مِنْهَا شَيْءٌ تُرِكَتْ؛ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي بَيْعِهَا. [فَصْلٌ كُفِّنَ الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ] (3454) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ الْمُفْلِسُ، كُفِّنَ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ كَانَتْ وَاجِبَةً مِنْ مَالِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَوَجَبَ تَجْهِيزُهُ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ كَفَنُ مَنْ يُمَوِّنُهُ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ تَكْفِينُ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ، فَسَقَطَتْ النَّفَقَةُ. وَيُفَارِقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 الْأَقَارِبَ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ بَاقِيَةٌ. وَإِنْ مَاتَ مِنْ عَبِيدِهِ وَاحِدٌ، وَجَبَ تَكْفِينُهُ وَتَجْهِيزُهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَالْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةٍ أَثْوَابٍ، كَمَا كَانَ يَلْبَسُ فِي حَيَاتِهِ ثَلَاثَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَسْتُرُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِيه، فَلَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَفَارَقَ حَالَةَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، وَكَشْفُ ذَلِكَ يُؤْذِيه، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ وَيَمْتَدُّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُفْلِسِ إلَى حِينِ فَرَاغِهِ مِنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا بِذَلِكَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَة حُكْم بَيْع دَار الْمُفْلِس الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا] (3455) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا. وَجُمْلَته أَنَّ الْمُفْلِسَ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ، بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الْمُفْلِسُ الْبَيْعَ، لَمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، لِيُحْصِيَ ثَمَنَهُ، وَيَضْبِطَهُ. الثَّانِي، أَنَّهُ أَعْرَفُ بِثَمَنِ مَتَاعِهِ، وَجَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ، فَإِذَا حَضَرَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ الْغَبْنَ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ، أَنْ تَكْثُرَ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَحَبُّ إلَى الْمُشْتَرِي الرَّابِعُ، أَنَّ ذَلِكَ أَطْيَبُ لِنَفْسِهِ، وَأَسْكَنُ لِقَلْبِهِ. وَيُسْتَحَبُّ إحْضَارُ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا، لَأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُبَاعُ لَهُمْ. الثَّانِي، أَنَّهُمْ رُبَّمَا رَغِبُوا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَزَادُوا فِي ثَمَنِهِ، فَيَكُونُ أَصْلَحَ لَهُمْ وَلِلْمُفْلِسِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ أَطْيَبُ لِقُلُوبِهِمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ. الرَّابِعُ، أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَجِدُ عَيْنَ مَالِهِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِمْ كُلِّهِمْ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ، وَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَبَانَتْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْبَيْعِ قَبْلَ إحْضَارِهِمْ. وَيَأْمُرُهُمْ الْحَاكِمُ أَنْ يُقِيمُوا مُنَادِيًا يُنَادِي لَهُمْ عَلَى الْمَتَاعِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِرَجُلٍ ثِقَةٍ، أَمْضَاهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ رَدَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يَرُدُّهُ وَأَصْحَابُ الْحَقِّ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ غَيْرُ ثِقَةٍ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِرَاضُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ هَاهُنَا نَظَرًا وَاجْتِهَادًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ غَرِيمٌ آخَرُ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهِ، فَلِهَذَا نَظَرَ فِيهِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ لَا نَظَرَ لِلْحَاكِمِ فِيهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْمُفْلِسُ رَجُلًا، وَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ آخَرُ، أَقَرَّ الْحَاكِمُ الثِّقَةَ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَا ثِقَتَيْنِ، قَدَّمَ الْمُتَطَوِّعَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ، فَإِنْ كَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ، ضَمَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَا بِجَعْلٍ، قَدَّمَ أَعْرَفَهُمَا وَأَوْثَقَهُمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا قَدَّمَ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا. فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا بِالنِّدَاءِ، وَإِلَّا دُفِعَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حَقٌّ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ طَرِيقَ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَقِيلَ يَدْفَعُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَجْرِ مَنْ يَحْفَظُ الْمَتَاعَ وَالثَّمَنَ، وَأَجْرِ الْحَمَّالِينَ، وَنَحْوِهِمْ. وَيُسْتَحَبُّ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي سُوقِهِ؛ الْبَزُّ فِي الْبَزَّازِينَ، وَالْكُتُبُ فِي سُوقِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَكْثَرُ لِطُلَّابِهِ، وَمَعْرِفَةُ قِيمَتِهِ. فَإِنْ بَاعَ فِي غَيْرِ سُوقِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ، وَرُبَّمَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْ ثَوْبِي فِي سُوقِ كَذَا بِكَذَا. فَبَاعَهُ بِذَلِكَ فِي سُوقٍ آخَرَ، جَازَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 وَيَبِيعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ. فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ بَاعَ بِغَالِبِهَا، فَإِنْ تَسَاوَتْ بَاعَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ، وَإِنْ زَادَ فِي السِّلْعَةِ زَائِدٌ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَلْزَمَ الْأَمِين الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ بَيْعُهُ بِثَمَنِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِدُونِهِ، كَمَا لَوْ زِيدَ فِيهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ زَادَ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، اُسْتُحِبَّ لِلْأَمِينِ سُؤَالُ الْمُشْتَرِي الْإِقَالَةَ، وَاسْتُحِبَّ لِلْمُشْتَرِي الْإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ؛ لِتَعْلِيقِهِ بِمَصْلَحَةِ الْمُفْلِسِ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَيَبْدَأُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الْجَانِي، فَيَدْفَعُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَمَا فَضَلَ مِنْهُ رَدَّهُ إلَى الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ يَبِيعُ الرَّهْنَ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمُرْتَهِنِ قَدْرَ دَيْنِهِ، وَمَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ رَدَّهُ إلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ بَقِيَتْ مِنْ دَيْنِهِ بَقِيَّةٌ، ضَرَبَ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ يَبِيعُ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الطَّعَامِ الرَّطْبِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ يُتْلِفُهُ بِيَقِينٍ، ثُمَّ يَبِيعُ الْحَيَوَانَ، لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ، وَيَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي بَقَائِهِ، ثُمَّ يَبِيعُ السِّلَعَ وَالْأَثَاثَ، لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ، وَتَنَالُهُ الْأَيْدِي، ثُمَّ الْعَقَارَ آخِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ تَلَفُهُ، وَبَقَاؤُهُ أَشْهَرُ لَهُ وَأَكْثَرُ لِطُلَّابِهِ وَمَتَى بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَكَانَ الدَّيْنُ لَوَاحِدٍ وَحْدَهُ، دَفَعَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَأْخِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غُرَمَاءُ، فَأَمْكَنَ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِمْ، قَسَمَ وَلَمْ يُؤَخِّرْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهُ، أُودِعَ عِنْدَ ثِقَةٍ، إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ، وَيُمْكِنَ قِسْمَتُهُ فَيُقْسَمُ. وَإِنْ احْتَاجَ فِي حِفْظِهِ إلَى غَرَامَةٍ، دَفَعَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَحْفَظُهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةٌ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: لَا تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُبَاعُ، وَيَكْتَرِي لَهُ بَدَلَهَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ لِغُرَمَائِهِ «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ» . وَهَذَا مِمَّا وَجَدُوهُ، وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْمُفْلِسِ فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِي دَيْنِهِ، كَسَائِرِ مَالِهِ وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا غِنَى لِلْمُفْلِسِ عَنْهُ، فَلَمْ يُصْرَفْ فِي دَيْنِهِ، كَثِيَابِهِ وَقُوتِهِ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقَارٌ، وَلَا خَادِمٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ) مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَ ذَلِكَ، كَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ. فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ» . أَيْ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ بِدَارٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهَا وَلَا خَادِمٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ مَخْصُوصٌ بِثِيَابِ الْمُفْلِسِ وَقُوتِهِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَبِأَجْرِ الْمَسْكَنِ، وَسَائِرِ مَالِهِ يُسْتَغْنَى عَنْهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ كَانَ لِلْمُفْلِسِ دَارَانِ يَسْتَغْنِي بِسَكَنِيِّ إحْدَاهُمَا] (3456) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لَهُ دَارَانِ يَسْتَغْنِي بِسُكْنَى إحْدَاهُمَا، بِيعَتْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ بِهِ غِنًى عَنْ سُكْنَاهَا. وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُهُ وَاسِعًا، لَا يَسْكُنُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ، بِيعَ، وَاشْتُرِيَ لَهُ مَسْكَنُ مِثْلِهِ، وَرُدَّ الْفَضْلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، كَالثِّيَابِ الَّتِي لَهُ إذَا كَانَتْ رَفِيعَةً لَا يُلْبَسُ مِثْلُهُ مِثْلَهَا. وَلَوْ كَانَ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ اللَّذَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا عَيْنَ مَالِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ، أَوْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ أَعْيَانَ أَمْوَالٍ أَفْلَسَ بِأَثْمَانِهَا، وَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا، فَلَهُمْ أَخْذُهَا، بِالشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَلِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، فَكَانَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْمُفْلِسِ، وَلِأَنَّ الْإِعْسَارَ بِالثَّمَنِ سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ تَعَلُّقُ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي، كَمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ. وَلِأَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ أَخْذِ أَعْيَانِ أَمْوَالِهِمْ يَفْتَحُ بَابَ الْحِيَلِ، بِأَنْ يَجِيءَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، فَيَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ ثِيَابًا يَلْبَسُهَا، وَدَارًا يَسْكُنُهَا، وَخَادِمًا يَخْدِمُهُ، وَفَرَسًا يَرْكَبُهَا، وَطَعَامًا لَهُ وَلِعَائِلَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَلَى أَرْبَابِهَا أَخْذُهَا؛ لِتَعَلُّقِ حَاجَتِهِ بِهَا، فَتَضِيعُ أَمْوَالُهُمْ وَيَسْتَغْنِي هُوَ بِهَا. فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ. وَلَا يُتْرَكُ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْيَانُ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، أَوْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ غَصْبًا. [فَصْلٌ كَانَ الْمُفْلِس ذَا صَنْعَةٍ] (3457) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ الْمُفْلِسُ ذَا صَنْعَةٍ، يَكْسِبُ مَا يُمَوِّنُهُ وَيُمَوَّنُ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَكْسِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ، أَوْ يَتَوَكَّلَ لَإِنْسَانٍ، أَوْ يَكْتَسِبَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يَكْفِيه، لَمْ يُتْرَكْ لَهُ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، تُرِكَ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرُ مَا يَكْفِيه. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَيُتْرَكُ لَهُ قُوتٌ يَتَقَوَّتُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ تُرِكَ لَهُ قِوَامٌ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي: يُتْرَكُ لَهُ قَدْرُ مَا يَقُومُ بِهِ مَعَاشُهُ، وَيُبَاعُ الْبَاقِي. وَهَذَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذَوِي الْهَيْئَاتِ الَّذِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ التَّصَرُّفُ بِأَبْدَانِهِمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ بَعْضِهِمْ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ تلف شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ تَحْتَ يَدِ الْأَمِينِ] (3458) فَصْلٌ: وَإِذَا تَلِفَ شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ تَحْتَ يَدِ الْأَمِينِ، أَوْ بِيعَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ وَأُودِعَ ثَمَنُهُ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُودَعِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُفْلِسِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ الْعُرُوض مِنْ مَالِهِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: الدَّنَانِيرُ مِنْ مَالِ أَصْحَابِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمُ مِنْ مَالِ أَصْحَابِ الدَّرَاهِمِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ، وَنَمَاؤُهُ لَهُ، فَكَانَ تَلَفُهُ فِي مَالِهِ، كَالْعُرُوضِ. [فَصْلٌ إذَا اجْتَمَعَ مَال الْمُفْلِسِ] (3459) فَصْلٌ: وَإِذَا اجْتَمَعَ مَالُ الْمُفْلِسِ قُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، أَخَذُوهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ دَيْنُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْقَرْضِ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ، فَرَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَ حَقِّهِ مِنْ الْأَثْمَانِ، جَازَ، وَإِنْ امْتَنَعَ. وَطَلَبَ جِنْسَ حَقِّهِ، اُبْتِيعَ لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ. وَلَوْ أَرَادَ الْغَرِيمُ الْأَخْذَ مِنْ الْمَالِ الْمَجْمُوعِ، وَقَالَ الْمُفْلِسُ: لَا أُوَفِّيك إلَّا مِنْ جِنْسِ دَيْنِك. قُدِّمَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ دَيْنٌ مِنْ سَلَمٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا مِنْ جِنْسِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 حَقِّهِ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ عِوَضِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ السَّلَمِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ.» [فَصْلٌ هَلْ يُجْبِرُ الْحَاكِمُ الْمُفْلِسَ عَلَى إيجَارِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ] (3460) فَصْلٌ: وَإِذَا فُرِّقَ مَالُ الْمُفْلِسِ، وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ، وَلَهُ صَنْعَةٌ، فَهَلْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى إيجَارِ نَفْسِهِ، لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُجْبِرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وَلَمَّا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، «أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، وَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ. فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَالِ، فَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَيْهِ، كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَمَا لَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزْوِيجِ لِتَأْخُذَ الْمَهْرَ. وَالثَّانِيَةُ، يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَوَّارٍ وَالْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ سَرَقًا فِي دَيْنِهِ، وَكَانَ سَرَقَ رَجُلًا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ وَرَاءَهُ مَالًا، فَدَايَنَهُ النَّاسُ، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَالٌ، فَسَمَّاهُ سَرَقًا، وَبَاعَهُ بِخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ. وَالْحُرُّ لَا يُبَاعُ، ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ. وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ، فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ، وَثُبُوتِ الْغِنَى بِهَا، فَكَذَلِكَ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا. وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ إجْبَارُهُ عَلَيْهَا، كَبَيْعِ مَالِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا. وَلِأَنَّهَا إجَارَةٌ لِمَا يَمْلِكُ إجَارَتَهُ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، كَإِجَارَةِ أَمِّ وَلَدِهِ. وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ، فَلَزِمَهُ. كَمَالِكِ مَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ سَرَقٍ مَنْسُوخٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُبَاعُ، وَالْبَيْعُ وَقَعَ عَلَى رَقَبَتِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْغُرَمَاءَ قَالُوا لِمُشْتَرِيهِ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ أُعْتِقُهُ. قَالُوا: لَسْنَا بِأَزْهَدَ مِنْك فِي إعْتَاقِهِ. فَأَعْتَقُوهُ. قُلْنَا: هَذَا إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا يَجُوزُ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِنَا، وَحَمْلُ لَفْظِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ مَنَافِعِهِ أَسْهَلُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَيْعِ رَقَبَتِهِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ وَإِقَامَةَ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ سَائِغٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " أُعْتِقُهُ ". أَيْ مِنْ حَقِّي عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ: " فَأَعْتَقُوهُ " يَعْنِي الْغُرَمَاءَ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ إلَّا الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَيَتَوَجَّه مَنْعُ كَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا فِي حُكْمِ الْأَغْنِيَاءِ، فِي حِرْمَانِ الزَّكَاةِ، وَسُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْ قَرِيبِهِ، وَوُجُوبِ نَفَقَةِ قَرِيبِهِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُهُمْ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا فِي مِثْلِهَا، وَلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 يَثْبُتْ أَنَّ لِذَلِكَ الْغَرِيمِ كَسْبًا يَفْضُلُ عَنْ قَدْرِ نَفَقَتِهِ. وَأَمَّا قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَفِيهِ مِنَّةٌ وَمَعَرَّةٌ تَأْبَاهَا قُلُوبُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ إلَّا مَنْ فِي كَسْبِهِ فَضْلَةٌ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَنَفَقَةِ مِنْ يُمَوِّنُهُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [فَصْلٌ لَا يُجْبَر الْمُفْلِس عَلَى قَبُولِ هَدِيَّةٍ] (3461) فَصْلٌ: وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ هَدِيَّةٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَا وَصِيَّةٍ وَلَا قَرْضٍ، وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزَوُّجِ، لِيَأْخُذَ مَهْرَهَا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا لِلُحُوقِ الْمِنَّةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالْعِوَضِ فِي الْقَرْضِ، وَمِلْكِ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ، وَوُجُوبِ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ مِنْ الرَّدِّ وَالْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَلَسَ يَمْنَعُهُ مِنْ إحْدَاثِ عَقْدٍ، أَمَّا مِنْ إمْضَائِهِ وَتَنْفِيذِ عُقُودِهِ فَلَا. وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْمُفْلِسِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ، ثَبَتَ الْمَالُ، وَتَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْعَفْوِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْقِصَاصَ الَّذِي يَجِبُ لِمَصْلَحَتِهِ، فَإِنْ اقْتَصَّ، لَمْ يَجِبْ لِلْغُرَمَاءِ شَيْءٌ. وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، ثَبَتَ، وَتَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ. وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ، إنْ قُلْنَا: الْقِصَاصُ خَاصَّةً. لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ. وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُ أَمْرَيْنِ. ثَبَتَتْ لَهُ الدِّيَةُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْنَا: الْقِصَاصُ عَيْنًا. لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ. وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. تَثْبُتُ الدِّيَةُ، وَلَمْ يَصِحَّ إسْقَاطُهُ، لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْ الْقِصَاصِ يُثْبِتُ لَهُ الدِّيَةَ، وَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُهَا. وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً بِشَرْطِ الثَّوَابِ، ثُمَّ أَفْلَسَ، فَبُذِلَ لَهُ الثَّوَابُ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إسْقَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ عَنْ الْمَوْهُوبِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ أُجْرَةٍ فِي إجَارَةٍ، وَلَا قَبْضُهُ رَدِيئًا، وَلَا قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ دُونَ صِفَاتِهِ، إلَّا بِإِذْنِ غُرَمَائِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا. [فَصْلٌ إذَا فَرَّقَ مَالُ الْمُفْلِسِ فَهَلْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ بِذَلِكَ] (3462) فَصْلٌ إذَا فُرِّقَ مَالُ الْمُفْلِسِ، فَهَلْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ بِذَلِكَ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَزُولُ بِقِسْمَةِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ، فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ، زَالَ سَبَبُ الْحَجْرِ، فَزَالَ الْحَجْرُ، كَزَوَالِ حَجْرِ الْمَجْنُونِ، لِزَوَالِ جُنُونِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِحُكْمِهِ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِهِ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ. وَفَارَقَ الْجُنُونَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، فَزَالَ بِزَوَالِهِ. وَلِأَنَّ فَرَاغَ مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ وَبِحَثِّ، فَوَقْفُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 [فَصْلٌ الْمُفْلِس إذَا ثَبَتَ إعْسَارُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ] (3463) فَصْلٌ: وَمَتَى ثَبَتَ إعْسَارُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لَمْ يَكُنْ لَأَحَدٍ مُطَالَبَتُهُ وَمُلَازَمَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِغُرَمَائِهِ مُلَازَمَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْكَسْبِ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ، دَخَلُوا مَعَهُ، وَإِلَّا مَنَعُوهُ مِنْ الدُّخُولِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ» . وَلَنَا، أَنَّ مَنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَته، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وَمَنْ وَجَبَ إنْظَارُهُ، حَرُمَتْ مُلَازَمَتُهُ، كَمَنْ دَيْنُهُ مُؤَجَّلٌ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَقَالٌ. قَالَهُ. ابْنُ الْمُنْذِرِ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمُوسِرِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَإِنْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَأَحَدٍ مُطَالَبَتُهُ، وَلَا مُلَازَمَتُهُ، حَتَّى يَمْلِكَ مَالًا، فَإِنْ جَاءَ الْغُرَمَاءُ عَقِيبَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَادَّعَوْا أَنَّ لَهُ مَالًا، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ، حَتَّى يُثْبِتُوا سَبَبَهُ، فَإِنْ جَاءُوا بَعْدَ مُدَّةٍ، فَادَّعَوْا أَنَّ فِي يَدِهِ مَالًا، أَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ عَقِيبَ فَكِّ الْحَجْرِ، وَبَيَّنُوا سَبَبَهُ أَحْضَرَهُ الْحَاكِمُ وَسَأَلَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا فَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ أَقَرَّ، وَقَالَ: هُوَ لِفُلَانٍ، وَأَنَا وَكِيلُهُ أَوْ مُضَارِبُهُ. وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ حَاضِرًا، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ لَهُ، وَيَسْتَحْلِفُهُ الْحَاكِمُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا تَوَاطَأَ عَلَى ذَلِكَ. لِيَدْفَعَ الْمُطَالَبَةَ عَنْ الْمُفْلِسِ. وَإِنْ قَالَ: مَا هُوَ لِي. عَرَفْنَا كَذِبَ الْمُفْلِسِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: الْمَالُ لِي. فَيُعَادُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إنْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَقَرَّ لِغَائِبٍ، أَقَرَّ فِي يَدَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، ثُمَّ يُسْأَلُ، كَمَا حَكَمْنَا فِي الْحَاضِرِ. وَمَتَى أُعِيدَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِدُيُونِ تَجَدَّدَتْ عَلَيْهِ، شَارَكَ غُرَمَاءُ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ غُرَمَاءَ الْحَجْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ الْأَوَّلِينَ يَضْرِبُونَ بِبَقِيَّةِ دُيُونِهِمْ، وَالْآخَرِينَ يَضْرِبُونَ بِجَمِيعِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَدْخُلُ غُرَمَاءُ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَجَدَّدَتْ حُقُوقُهُمْ، حَتَّى يَسْتَوْفُوا، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنْ مِيرَاثٍ، أَوْ يُجْنَى عَلَيْهِ جِنَايَةٌ، فَيَتَحَاصُّ الْغُرَمَاءُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، كَاَلَّذِينَ تَثْبُتُ حُقُوقُهُمْ فِي حَجْرٍ وَاحِدٍ، وَكَتَسَاوِيهِمْ فِي الْمِيرَاثِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ مَكْسَبَهُ مَالٌ لَهُ، فَتَسَاوَوْا فِيهِ، كَالْمِيرَاثِ. [مَسْأَلَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقُّ فَذَكَرَ أَنَّهُ مُعَسِّر بِهِ] (3464) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ بِهِ، حُبِسَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِعُسْرَتِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌ، فَطُولِبَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّهِ، نَظَرَ الْحَاكِمُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ظَاهِرٌ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا، فَادَّعَى الْإِعْسَارَ، فَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ، لَمْ يُحْبَسْ، وَوَجَبَ إنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلَازَمَتُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُرَمَاءِ الَّذِي كَثُرَ دَيْنُهُ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ.» وَلِأَنَّ الْحَبْسَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَعُسْرَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالْقَضَاءُ مُتَعَذِّرٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ فَلَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لِكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ، كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ سِوَى هَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ ذُو مَالٍ، حُبِسَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَقُضَاتِهِمْ، يَرَوْنَ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالنُّعْمَانُ وَسَوَّارٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يُحْبَسُ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُ الْغَرِيمِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ مَالِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنْ طَلَبَ الْغَرِيمُ إحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ، وَإِنْ شَهِدَتْ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِعْسَارِ اُكْتُفِيَ بِشَهَادَتِهَا، وَثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِعُسْرَتِهِ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ لَا غَيْرُ، وَطَلَبَ الْغَرِيمُ يَمِينَهُ عَلَى عُسْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، اسْتَحْلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ. وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِالتَّلَفِ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالْإِعْسَارِ، لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ إلَّا مِنْ ذِي خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، وَمَعْرِفَةٍ مُتَقَادِمَةٍ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ، فَلَمْ تُسْمَعْ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «يَا قَبِيصَةُ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ. قُلْنَا: لَا تُرَدُّ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا وَارِثُ الْمَيِّتِ، لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ قُبِلَتْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ، فَهِيَ تُثْبِتُ حَالَةً تَظْهَرُ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْمُشَاهَدَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَتْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وَلَا يُشْهَدُ بِهِ حَالٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَتِهِ بِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ فِي الْحَالِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُسْمَعُ فِي الْحَالِ، وَيُحْبَسُ شَهْرًا، وَرُوِيَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَرُوِيَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنَّ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَأَظْهَرَهُ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ بَيِّنَةٍ جَازَ سَمَاعُهَا بَعْدَ مُدَّةٍ، جَازَ سَمَاعُهَا فِي الْحَالِ، كَسَائِرِ الْبَيِّنَاتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَأَغْنَى عَنْ الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ قَالَ الْغَرِيمُ: أَحْلِفُوهُ لِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ جَاءَ بِشُهُودِ عَلَى حَقٍّ، فَقَالَ الْغَرِيمُ اسْتَحْلِفُوهُ: لَا يَسْتَحْلِفُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ". قَالَ الْقَاضِي: سَوَاءٌ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ الْمَالِ أَوْ بِالْإِعْسَارِ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ، فَلَمْ يَسْتَحْلِفْ مَعَهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بِأَنَّ هَذَا عَبْدُهُ، أَوْ هَذِهِ دَارُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ مَالًا خَفِيَ عَلَى الْبَيِّنَةِ. وَيَصِحُّ عِنْدِي إلْزَامُهُ الْيَمِينَ عَلَى الْإِعْسَارِ، فِيمَا إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ الْمَالِ، وَسُقُوطِهَا عَنْهُ فِيمَا إذَا شَهِدَتْ بِالْإِعْسَارِ، لِأَنَّهَا إذَا شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ، صَارَ كَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلُ مَالٍ أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ غَرِيمُهُ بِتَلَفِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَادَّعَى أَنَّ لَهُ مَالًا سِوَاهُ، أَوْ أَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مَالًا بَعْدَ تَلَفِهِ. وَلَوْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ، وَأَقَرَّ لَهُ غَرِيمُهُ بِتَلَفِ مَالِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ مَالًا سِوَاهُ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْإِقْرَارِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَثْبُتُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ مَالٍ أَخَذَهُ، كَأَرْشِ جِنَايَةٍ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَمَهْرٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ كَفَالَةٍ، أَوْ عِوَضِ خُلْعٍ، إنْ كَانَ امْرَأَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَلَمْ يُحْبَسْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ، قُبِلَتْ، وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ مَعَهَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَتَلِفَ، لَمْ يُسْتَغْنَ بِذَلِكَ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ غَرِيمُهُ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَالِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِحَبَّةَ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ خَالِدِ بْنِ سَوَاءٍ: «لَا تَيْئَسَا مِنْ الرِّزْقِ مَا اهْتَزَّتْ رُءُوسُكُمَا، فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ يُخْلَقُ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا قِشْرَتَاهُ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى.» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ ذَنْبًا يُعَاقَبُ بِهِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَالِهِ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 الْأَصْلَ ثُبُوتُ مَالِهِ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعْلَمَ ذَهَابُهُ. وَالْخِرَقِيُّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، لَكِنَّهُ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْقِ. [فَصْلٌ امْتِنَاع الْمُوسِر مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ] (3465) فَصْلٌ: إذَا امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلِغَرِيمِهِ مُلَازَمَتُهُ، وَمُطَالَبَتُهُ، وَالْإِغْلَاظُ لَهُ بِالْقَوْلِ، فَيَقُولُ: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُّ الْوَاجِدِ، يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ» . فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضُهُ أَيْ يُحِلُّ الْقَوْلَ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ لَهُ. وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» . وَقَالَ: «إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا.» [مَسْأَلَة مَاتَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُفْلِسًا] (3466) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُفْلِسًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ) هَذَا الشَّرْطُ الْخَامِسُ لِاسْتِحْقَاقِ اسْتِرْجَاعِ عَيْنِ الْمَالِ مِنْ الْمُفْلِسِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ، فَالْبَائِعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِفَلَسِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَحَجَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ، أَوْ مَاتَ فَتَبَيَّنَ فَلَسُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ الْفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ خَلْدَةَ الزُّرَقِيُّ، قَاضِي الْمَدِينَةِ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ، أَوْ أَفْلَسَ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ، أَوْ إنْسَانٍ، قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ، فَجَازَ فَسْخُهُ لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْفَلَسَ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ، فَجَازَ الْفَسْخُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْعَيْبِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْمُفْلِسِ: «فَإِنْ مَاتَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرِئٍ مَاتَ، وَعِنْدَهُ مَالُ امْرِئٍ بِعَيْنِهِ، اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، أَوْ لَمْ يَقْتَضِ، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.» رَوَاهُ ابْن مَاجَهْ. . وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ فَأَشْبَهَ الْمَرْهُونَ. وَحَدِيثُهُمْ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَرْوِيه أَبُو الْمُعْتَمِرِ، عَنْ الزُّرَقِيُّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 وَأَبُو الْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ. ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ إجْمَاعًا؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَتَاعَ لِصَاحِبِهِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُشْتَرِي، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ فَلَسِهِ، وَلَا تَعَذُّرِ وَفَائِهِ، وَلَا عَدَمِ قَبْضِ ثَمَنِهِ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً. وَهَذَا شُذُوذٌ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخِلَافٌ لِلسُّنَّةِ لَا يَعْرُجُ عَلَى مِثْلِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ، فَنَقُولُ بِهِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ إذَا وَجَدَهُ عِنْدَ الْمُفْلِسِ، وَمَا وَجَدَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا عِنْدَهُ، إنَّمَا وَجَدَهُ عِنْدَ وَرَثَتِهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِيهِ، ثُمَّ هُوَ مُطْلَقٌ وَحَدِيثُنَا يُقَيِّدُهُ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَتُفَارِقُ حَالَةُ الْحَيَاةِ حَالَ الْمَوْتِ لِأَمْرَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَيَاةِ لِلْمُفْلِسِ، وَهَا هُنَا لِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ ذِمَّةَ الْمُفْلِسِ خَرِبَتْ هَاهُنَا خَرَابًا لَا يَعُودُ، فَاخْتِصَاصُ هَذَا بِالْعَيْنِ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْغُرَمَاءُ كَثِيرًا، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ. [مَسْأَلَةٌ أَرَادَ سَفَرًا وَعَلَيْهِ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ قَبْلَ مُدَّةِ سَفَرِهِ] (3467) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَرَادَ سَفَرًا وَعَلَيْهِ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ قَبْلَ مُدَّةِ سَفَرِهِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مَنْعُهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ، وَأَرَادَ غَرِيمُهُ مَنْعَهُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الدَّيْنِ قَبْلَ مَحَلِّ قُدُومِهِ مِنْ السَّفَرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَقْدَمُ إلَّا فِي صَفَرٍ، وَدَيْنُهُ يَحِلُّ فِي الْمُحَرَّمِ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْ مَحَلِّهِ. فَإِنْ أَقَامَ ضَمِينًا مَلِيئًا، أَوْ دَفَعَ رَهْنًا يَفِي بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْمَحَلِّ، فَلَهُ السَّفَرُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَزُولُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ مَحَلِّ السَّفَرِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي رَبِيعٍ، وَقُدُومُهُ فِي صَفَرٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ إلَى الْجِهَادِ، فَلَهُ مَنْعُهُ إلَّا بِضَمِينٍ أَوْ رَهْنٍ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ، وَذَهَابِ النَّفْسِ، فَلَا يَأْمَنُ فَوَاتَ الْحَقِّ. وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لِغَيْرِ الْجِهَادِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِأَمَارَةٍ عَلَى مَنْعِ الْحَقِّ فِي مَحَلِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْهُ، كَالسَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ، وَلَا الْمُطَالَبَةُ بِكَفِيلٍ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا بِحَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ يَحِلُّ قَبْلَ مَحَلِّ سَفَرِهِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ إلَى الْجِهَادِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ السَّفَرِ، وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِكَفِيلٍ، كَالسَّفَرِ الْآمِنِ الْقَصِيرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَفَرٌ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ فِي مَحَلِّهِ، فَمَلَكَ مَنْعَهُ مِنْهُ، إنْ لَمْ يُوَثِّقْهُ بِكَفِيلٍ، أَوْ رَهْنٍ، كَالسَّفَرِ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَفِي السَّفَرِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ تَأْخِيرُهُ عَنْ مَحَلِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَجَحْدِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 [كِتَاب الْحَجْرِ] ِ الْحَجْرُ؛ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ وَالتَّضْيِيقُ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَرَامُ حِجْرًا، قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا، وَيُسَمَّى الْعَقْلُ حِجْرًا، قَالَ اللَّه تَعَالَى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] . أَيْ عَقْلٍ. سُمِّيَ حِجْرًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ ارْتِكَابِ مَا يَقْبَحُ، وَتَضُرُّ عَاقِبَتُهُ، وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ: مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَالْحَجْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، حَجْرٌ عَلَى الْإِنْسَانِ لِحَقِّ نَفْسِهِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهِ لِحَقِّ غَيْرِهِ، فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ لِحَقِّ غَيْرِهِ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ، لِحَقِّ غُرَمَائِهِ، وَعَلَى الْمَرِيضِ فِي التَّبَرُّعِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، أَوْ التَّبَرُّعِ بِشَيْءِ لِوَارِثِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، وَعَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ لِحَقِّ سَيِّدِهِمَا، وَالرَّاهِنِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلِهَؤُلَاءِ أَبْوَابٌ يُذْكَرُونَ فِيهَا. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ، فَثَلَاثَةٌ؛ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالسَّفِيهُ، وَهَذَا الْبَابُ مُخْتَصٌّ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ. وَالْحَجْرُ عَلَيْهِمْ حَجْرٌ عَامٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَذِمَمِهِمْ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ هُوَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدَك، لَا تُؤْتِهِ إيَّاهُ، وَأَنْفِقْ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَهِيَ لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قِوَامُهَا وَمُدَبِّرُوهَا، وقَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] يَعْنِي، اخْتَبِرُوهُمْ فِي حِفْظِهِمْ لِأَمْوَالِهِمْ. {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] أَيْ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أَيْ أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمْ، وَصَلَاحًا فِي تَدْبِيرِ مَعَايِشِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ أُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ] [الْفَصْل الْأَوَّل دَفْع الْمَالِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا رَشَدَ وَبَلَغَ] (3468) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ أُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ، دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ، إذَا كَانَ قَدْ بَلَغَ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: (3469) أَحَدُهَا، فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا رَشَدَ وَبَلَغَ، وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي نَصِّ كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، حِفْظًا لِمَالِهِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَيُحْفَظُ مَالُهُ، فَيَزُولُ الْحَجْرُ، لِزَوَالِ سَبَبِهِ. وَلَا يُعْتَبَرُ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْ الْمَجْنُونِ إذَا عَقَلَ حُكْمَ حَاكِمٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الصَّبِيِّ إذَا رَشَدَ وَبَلَغَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَزُولُ إلَّا بِحَاكِمٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ إلَى اجْتِهَادٍ، فَيُوقَفُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، كَزَوَالِ الْحَجْرِ عَنْ السَّفِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَاشْتِرَاطُ حُكْمِ الْحَاكِمِ زِيَادَةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 تَمْنَعُ الدَّفْعَ عِنْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّهُ حَجْرٌ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَبِهَذَا فَارَقَ السَّفِيهَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ يَزُولُ بِزَوَالِ السَّفَهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَصَارَ الْحَجْرُ مُنْقَسِمًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ يَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَهُوَ حَجْرُ الْمَجْنُونِ، وَقِسْمٌ لَا يَزُولُ إلَّا بِحَاكِمِ، وَهُوَ حَجْرُ السَّفِيهِ، وَقِسْمٌ فِيهِ الْخِلَافُ، وَهُوَ حَجْرُ الصَّبِيِّ. [الْفَصْل الثَّانِي الْيَتِيم لَا يَدْفَع إلَيْهِ مَاله قَبْلَ وُجُودِ أَمْرَيْنِ] (3470) الْفَصْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ قَبْلَ وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ، الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَالشَّامِ،، وَمِصْرَ، يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُلِّ مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، فِي " كِتَابِهِ "، قَالَ: كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَلِي أَمْرَ شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ ذِي أَهْلٍ وَمَالٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَمْرٌ فِي مَالِهِ دُونَهُ؛ لِضَعْفِ عَقْلِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: رَأَيْته شَيْخًا يُخَضِّبُ، وَقَدْ جَاءَ إلَى الْقَاسِمِ بْن مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، ادْفَعْ إلَيَّ مَالِي، فَإِنَّهُ لَا يُوَلَّى عَلَى مِثْلِيٍّ فَقَالَ: إنَّك فَاسِدٌ. فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ، إنْ لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ مَالِي. فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَدْفَعَ إلَيْك مَالَك عَلَى حَالِك هَذِهِ. فَبَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ: هِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا كُنْت لِأَحْبِسهَا عَلَيْك وَقَدْ فُهْت بِطَلَاقِهَا. فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: أَمَّا رَقِيقُك فَلَا عِتْقَ لَك، وَلَا كَرَامَةَ. فَحَبَسَ رَقِيقَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَا كَانَ يُعَابُ عَلَى الرَّجُلِ إلَّا سَفَّهَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُدْفَعُ مَالُهُ إلَيْهِ قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ. وَدُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] وَهَذَا قَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَدًّا، وَلِأَنَّهُ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، كَالرَّشِيدِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . عَلَّقَ الدَّفْعَ عَلَى شَرْطَيْنِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ، وَقَوْلُ اللَّه تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فَأَثْبَتِ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ، وَلِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَيْهِ، كَمَنْ لَهُ دُونَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا، فَإِنَّمَا يَدُلُّ بِدَلِيلِ خِطَابِهَا، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ، ثُمَّ هِيَ مُخَصَّصَةٌ فِيمَا قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِالْإِجْمَاعِ، لِعِلَّةِ السَّفَهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فَيَجِبُ أَنْ تُخَصَّ بِهِ أَيْضًا، كَمَا أَنَّهَا لَمَّا خُصِّصَتْ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ لِأَجْلِ جُنُونِهِ قَبْلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، خُصَّتْ أَيْضًا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَنْطُوقِ أَوْلَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُخَصَّصِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِهِ جَدًّا لَيْسَ تَحْتَهُ مَعْنَى يَقْضِي الْحُكْمَ، وَلَا لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَهُوَ إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِالتَّحَكُّمِ. ثُمَّ هُوَ مُتَصَوَّرٌ فِي مَنْ لَهُ دُونَ هَذِهِ السِّنِّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ جَدَّةً لِإِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِمَنْ لَهُ دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَا أَوْجَبَ الْحَجْرَ قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يُوجِبُهُ بَعْدَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ، وَلَا إقْرَارُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ. وَإِنَّمَا لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ عِنْدَهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ تَسْلِيمُ مَالِهِ إلَيْهِ لِلْآيَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي إقْرَارِهِ: يَلْزَمُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، إذَا كَانَ بَالِغًا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ لِعَدَمِ رُشْدِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ، كَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّهُ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ تَلِفَ مَالُهُ، وَلَمْ يُفِدْ مَنْعُهُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ لَوْ كَانَ نَافِذًا، لَسُلِّمَ إلَيْهِ مَالُهُ، كَالرَّشِيدِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مَالَهُ حِفْظًا لَهُ، فَإِذَا لَمْ يُحْفَظْ بِالْمَنْعِ، وَجَبَ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ. [الْفَصْل الثَّالِث الْبُلُوغ فِي حَقّ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ] (3471) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي الْبُلُوغِ، وَيَحْصُلُ فِي حَقِّ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ بِشَيْئَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهَا، أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَأَوَّلُهَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ قُبُلِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، فَكَيْفَمَا خَرَجَ فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ، بِجِمَاعِ، أَوْ احْتِلَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَصَلَ بِهِ الْبُلُوغُ. لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ.» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْتَلِمِ الْعَاقِلِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ بِظُهُورِ الْحَيْضِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْإِنْبَاتُ فَهُوَ أَنْ يَنْبُتَ الشَّعْرُ الْخَشِنُ حَوْلَ ذَكَرِ الرَّجُلِ، أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، الَّذِي اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِالْمُوسَى، وَأَمَّا الزَّغَبُ الضَّعِيفُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: هُوَ بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ، وَهَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَبَاتُ شَعْرٍ، فَأَشْبَهَ نَبَاتَ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، حَكَمَ بِأَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ مُؤَازَرَتِهِمْ، فَمَنْ أَنْبَتَ، فَهُوَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ، أَلْحَقُوهُ بِالذُّرِّيَّةِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْقُرَظِيّ: عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَشَكُّوا فِي، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنْظَرَ إلَيَّ، هَلْ أَنْبَتُّ بَعْدُ، فَنَظَرُوا إلَيَّ، فَلَمْ يَجِدُونِي أَنْبَتُّ بَعْدُ، فَأَلْحَقُونِي بِالذُّرِّيَّةِ. مُتَعَلِّقٌ عَلَى مَعْنَاهُ. وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى عَامِلِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 أَنْ لَا تَأْخُذَ الْجِزْيَةَ إلَّا مِنْ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، أَنَّ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَارِ شَبَّبَ بِامْرَأَةِ فِي شِعْرِهِ، فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ، فَلَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ، فَقَالَ: لَوْ أَنْبَتَّ الشَّعْرَ لَحَدَدْتُك. وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُلَازِمُهُ الْبُلُوغُ غَالِبًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، كَالِاحْتِلَامِ، وَلِأَنَّ الْخَارِجَ ضَرْبَانِ، مُتَّصِلٌ، وَمُنْفَصِلٌ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمُنْفَصِلِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْبُلُوغُ، كَانَ كَذَلِكَ الْمُتَّصِلُ. وَمَا كَانَ بُلُوغًا فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ بُلُوغًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، كَالِاحْتِلَامِ، وَالسِّنِّ. وَأَمَّا السِّنُّ، فَإِنَّ الْبُلُوغَ بِهِ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ دَاوُد: لَا حَدَّ لِلْبُلُوغِ مِنْ السِّنِّ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» . وَإِثْبَاتُ الْبُلُوغِ بِغَيْرِهِ يُخَالِفُ الْخَبَرَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَقَالَ أَصْحَابُهُ: سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْغُلَامِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا، سَبْعَ عَشْرَةَ، وَالثَّانِيَةُ، ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَالْجَارِيَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، أَوْ اتِّفَاقٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي مَا دُونَ هَذَا، وَلَا اتِّفَاقَ. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجْزِنِي فِي الْقِتَالِ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشَرَةَ، فَأَجَازَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَرَدَّنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْت، وَعُرِضْت عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشَرَةَ، فَأَجَازَنِي. فَأُخْبِرَ بِهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَكَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ: أَنْ لَا تَفْرِضُوا إلَّا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً كُتِبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ» . وَلِأَنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَحْصُلُ بِهِ الْبُلُوغُ، يَشْتَرِكُ فِيهِ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ، كَالْإِنْزَالِ. وَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَفِيمَا رَوَيْنَاهُ جَوَابٌ عَنْهُ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ دَاوُد لَا يَمْنَعُ إنْبَاتَ الْبُلُوغِ بِغَيْرِ الِاحْتِلَامِ إذَا ثَبَت بِالدَّلِيلِ، وَلِهَذَا كَانَ إنْبَاتُ الشَّعْرِ عَلَمًا. وَأَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّه صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا الْحَمْلُ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْلَقُ إلَّا مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ، فَمَتَى حَمَلَتْ، حُكِمَ بِبُلُوغِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَمَلَتْ فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 [فَصْلٌ مِنْ عَلَامَات الْبُلُوغ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ] (3472) فَصْلٌ: وَإِذَا وُجِدَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهِ، وَكَوْنِهِ رَجُلًا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِهِ، أَوْ حَاضَ، فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهِ، وَكَوْنِهِ امْرَأَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، فَإِنْ اجْتَمَعَا، فَقَدْ بَلَغَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ خِلْقَةً زَائِدَةً. وَلَنَا، أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، فَخُرُوجُ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ رَجُلًا خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ذَكَرِهِ، أَوْ امْرَأَةً خَرَجَ الْحَيْضُ مِنْ فَرْجِهَا، لَزِمَ وُجُودُ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْحَيْضِ مِنْ الرَّجُلِ، مُسْتَحِيلٌ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا ثَبَتَ التَّعْيِينُ لَزِمَ كَوْنُهُ دَلِيلًا عَلَى الْبُلُوغِ، كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَلِأَنَّهُ مَنِيٌّ خَارِجٌ مِنْ ذَكَرٍ، أَوْ حَيْضٌ خَارِجٌ مِنْ فَرْجٍ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغ كَالْمَنِيِّ الْخَارِجِ مِنْ الْغُلَامِ، وَالْحَيْضِ الْخَارِجِ مِنْ الْجَارِيَةِ، وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا دَلِيلٌ عَلَى الْبُلُوغِ، فَخُرُوجُ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا يَقْتَضِي تَعَارُضَهُمَا، وَإِسْقَاطَ دَلَالَتِهِمَا، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعَ حَيْضٌ صَحِيحٌ وَمَنِيُّ رَجُلٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلَةً خَارِجَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَتَبْطُلُ دَلَالَتُهُمَا، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا، وَكَالْبَوْلِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا مُنْفَرِدًا، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّ الْحَيْضَ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةَ عِنْدَ بُلُوغِهَا، وَمَنِيَّ الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ، وَيَقْضِي بِثُبُوتِ دَلَالَتِهِ، كَالْحُكْمِ بِكَوْنِهِ رَجُلًا، بِخُرُوجِ الْبَوْلِ مِنْ ذَكَرِهِ، وَبِكَوْنِهِ امْرَأَةً، بِخُرُوجِهِ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْحُكْمِ لِلْغُلَامِ بِالْبُلُوغِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَلِلْجَارِيَةِ بِخُرُوجِ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهَا، فَعَلَى هَذَا إنْ خَرَجَا جَمِيعًا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَيْنِ تَعَارَضَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْ الْفَرْجَيْنِ. وَهَلْ يَثْبُتُ الْبُلُوغُ بِذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا، فَقَدْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً، فَقَدْ حَاضَتْ. وَالثَّانِي، لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا حَيْضًا وَلَا مَنِيًّا، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ، وَقَدْ دَلَّ تَعَارُضُهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَانْتَفَتْ دَلَالَتُهُمَا عَلَى الْبُلُوغِ، كَانْتِفَاءِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْجَارِيَةَ إذَا بَلَغَتْ وَأُونِسَ رُشْدُهَا بَعْد بُلُوغِهَا] (3473) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ، وَإِنْ لَمْ تُنْكَحْ) يَعْنِي أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا بَلَغَتْ، وَأُونِسَ رُشْدُهَا بَعْد بُلُوغِهَا، دُفِعَ إلَيْهَا مَالُهَا، وَزَالَ الْحَجْرُ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ لَا يُدْفَعُ إلَى الْجَارِيَةِ مَالُهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا، حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَتَلِدَ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا سَنَةٌ فِي بَيْتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 الزَّوْجِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: عَهِدَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ لَا أُجِيزَ لِجَارِيَةٍ عَطِيَّةً حَتَّى تَحُولَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلًا، أَوْ تَلِدَ وَلَدًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ، فَصَارَ إجْمَاعًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُدْفَعُ إلَيْهَا مَالُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ جَازَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهَا، لَمْ يَنْفَكَّ عَنْهَا الْحَجْرُ، كَالصَّغِيرَةِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَلِأَنَّهَا يَتِيمٌ بَلَغَ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ فَيُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ كَالرَّجُلِ، وَلِأَنَّهَا بَالِغَةٌ رَشِيدَةٌ، فَجَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا، كَالَّتِي دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَحَدِيثُ عُمَرَ إنْ صَحَّ، فَلَمْ يُعْلَمْ انْتِشَارُهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْكِتَابُ وَالْقِيَاسُ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ مُخْتَصٌّ بِمَنْعِ الْعَطِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ تَسْلِيمِ مَالِهَا إلَيْهَا، وَمَنْعُهَا مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمَالِكٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى إجْبَارِ الْأَبِ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَإِنَّمَا أَجْبَرَهَا عَلَى النِّكَاحِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا لِلنِّكَاحِ وَمَصَالِحِهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْمُعَامَلَاتُ مُمْكِنَةٌ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَصْلًا احْتَمَلَ أَنْ يَدُومَ الْحَجْرُ عَلَيْهَا، عَمَلًا بِعُمُومِ حَدِيثِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ دَفْعِ مَالِهَا إلَيْهَا، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَيْهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تُرْشَدْ. وَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهَا مَالُهَا إذَا عَنَّسَتْ وَبَرَزَتْ لِلرِّجَالِ، يَعْنِي كَبِرَتْ. [فَصْل تَصَرُّف الْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ فِي مَالِهَا] (3474) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ، بِالتَّبَرُّعِ، وَالْمُعَاوَضَةِ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَحُكِيَ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ تَعْتِقَ جَارِيَةً لَهَا لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا، فَحَنِثَتْ، وَلَهَا زَوْجٌ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، قَالَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهَا عِتْقٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِك أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَلْ اسْتَأْذَنْت كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى كَعْبٍ، فَقَالَ: هَلْ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ . قَالَ: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: «لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ مِنْ مَالِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ إذْ هُوَ مَالِكُ عِصْمَتِهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 «لَا يَجُوزُ لَامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» . وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُعَلَّقٌ بِمَالِهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا ". وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْلِ مَالِهَا، وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِذَا أُعْسِرَ بِالنَّفَقَةِ أَنْظَرَتْهُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُمْ، وَإِطْلَاقِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» «. وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ» «. وَأَتَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى اسْمُهَا زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ عَنْ الصَّدَقَةِ، هَلْ يَجْزِيهِنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَأَيْتَامٍ لَهُنَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُنَّ هَذَا الشَّرْطَ، وَلِأَنَّ مَنْ وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ لِرُشْدٍ، جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْغُلَامِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَلَا حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا. فَلَمْ يَمْلِكْ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ، كَأُخْتِهَا. وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ وَشُعَيْبٌ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، فَهُوَ مُرْسَلٌ. وَعَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَطِيَّتُهَا لِمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَطِيَّتُهَا مَا دُونَ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا، وَلَيْسَ مَعَهُمْ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى تَحْدِيدِ الْمَنْعِ بِالثُّلُثِ، فَالتَّحْدِيدُ بِذَلِكَ تَحَكُّمٌ لَيْسَ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَلَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرِيضِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِوُجُوهِ؛ أَحَدِهَا، أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبٌ يُفْضِي إلَى وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بِالْمِيرَاثِ، وَالزَّوْجِيَّة إنَّمَا تَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، فَهِيَ أَحَدُ وَصَفِّي الْعِلَّةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهَا، كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْمَرْأَةِ الْحَجْرُ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَا لِسَائِرِ الْوُرَّاثِ بِدُونِ الْمَرَضِ. الثَّانِي: أَنَّ تَبَرُّعَ الْمَرِيضِ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ، صَحَّ تَبَرُّعُهُ، وَهَا هُنَا أَبْطَلُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْفَرْعُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَصْلِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تَنْتَفِعُ بِمَالِ زَوْجِهَا وَتَتَبَسَّطُ فِيهِ عَادَةً، وَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْهُ، وَانْتِفَاعُهَا بِمَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْأَصْلِ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ وُجُودُ الْمَعْنَى الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا. [فَصْلٌ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ] فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، بِغَيْرِ إذْنِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا، وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» . وَلَمْ يَذْكُرْ إذْنًا. وَعَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: «ارْضَخِي مَا اسْطَعْتِ، وَلَا تُوعِي، فَيُوعَى عَلَيْك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ «امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَآبَائِنَا، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ: الرَّطْبُ تَأْكُلِينَهُ، وَتُهْدِينَهُ» . وَلِأَنَّ الْعَادَةَ السَّمَاحُ بِذَلِكَ، وَطِيبُ النَّفْسِ، فَجَرَى مَجْرَى صَرِيحِ الْإِذْنِ، كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْ الْأَكَلَةِ قَامَ مَقَامَ صَرِيحِ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهِ. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة، لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ . قَالَ: ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . وَقَالَ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . وَلِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَغَيْرِ الزَّوْجَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّة صَحِيحَةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِ وَيُبَيِّنُهُ، وَيُعَرِّفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَامِّ غَيْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالْحَدِيثُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ تَتَصَرَّفُ فِي مَالِ زَوْجِهَا، وَتَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَتَتَصَدَّقُ مِنْهُ، لِحُضُورِهَا وَغَيْبَتِهِ، وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ الْحَقِيقِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: افْعَلِي هَذَا. فَإِنْ مَنَعَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا تَتَصَدَّقِي بِشَيْءٍ، وَلَا تَتَبَرَّعِي مِنْ مَالِي بِقَلِيلٍ، وَلَا كَثِيرٍ. لَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الصَّرِيحَ نَفْيٌ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الرَّجُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ امْرَأَتِهِ كَجَارِيَتِهِ، أَوْ أُخْتِهِ. أَوْ غُلَامِهِ الْمُتَصَرِّفِ فِي بَيْتِ سَيِّدِهِ وَطَعَامِهِ، جَرَى مَجْرَى الزَّوْجَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ. وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مَمْنُوعَةً مِنْ التَّصَرُّفِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، كَالَّتِي يُطْعِمُهَا بِالْفَرْضِ، وَلَا يُمَكِّنُهَا مِنْ طَعَامِهِ، وَلَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّدَقَةُ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ؛ لِعَدَمِ الْمَعْنَى فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الرُّشْد الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ] (3476) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ الرُّشْدُ صَلَاحُهُ فِي دِينِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ رَشِيدٍ، وَلِأَنَّ إفْسَادَهُ لِدِينِهِ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِهِ فِي حِفْظِ مَالِهِ، كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ قَوْلِهِ، وَثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَذِبٌ وَلَا تَبْذِيرٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاحًا فِي أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا كَانَ عَاقِلًا. وَلِأَنَّ هَذَا إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ هَذَا مُصْلِحٌ لِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَالِ، أَوْ حِفْظِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ رَشِيدٍ. قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي دِينِهِ، أَمَّا فِي مَالِهِ وَحِفْظِهِ فَهُوَ رَشِيدٌ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالْكَافِرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، لَمْ يَزُلْ رُشْدُهُ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي الرُّشْدِ، لَزَالَ بِزَوَالِهَا، كَحِفْظِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ قَبُولِ الْقَوْلِ مَنْعُ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، أَوْ مِنْ يَأْكُلُ فِي السُّوقِ، وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ، وَأَشْبَاهِهِمْ. لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَتُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْفَاسِقَ إنْ كَانَ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي، كَشِرَاءِ الْخَمْرِ، وَآلَاتِ اللَّهْوِ، أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفَسَادِ، فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ؛ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ، وَتَضْيِيعِهِ إيَّاهُ فِي غَيْر فَائِدَةٍ. وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، كَالْكَذِبِ، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ، مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ، دُفِعَ مَالُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَالِ، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْد دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ. [فَصْلٌ يَعْرِف رُشْدُ الْيَتِيم بِأَخْبَارِهِ] (3477) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ رُشْدُهُ بِاخْتِبَارِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] . يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] أَيْ يَخْتَبِرَكُمْ. وَاخْتِبَارُهُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ فُوِّضَ إلَيْهِ الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ مِنْهُ، فَلَمْ يَغِبْنَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا فِي يَدَيْهِ، فَهُوَ رَشِيدٌ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الدَّهَاقِينِ، وَالْكُبَرَاءِ الَّذِينَ يُصَانُ أَمْثَالُهُمْ عَنْ الْأَسْوَاقِ، رُفِعَتْ إلَيْهِ نَفَقَةُ مُدَّةٍ، لِيُنْفِقهَا فِي مَصَالِحِهِ، فَإِنْ كَانَ قَيِّمًا بِذَلِكَ، يَصْرِفُهَا فِي مَوَاقِعِهَا، وَيَسْتَوْفِي عَلَى وَكِيلِهِ، وَيَسْتَقْصِي عَلَيْهِ، فَهُوَ رَشِيدٌ. وَالْمَرْأَةُ يُفَوَّضُ إلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ إلَى رَبَّةِ الْبَيْتِ، مِنْ اسْتِئْجَارِ الْغَزَالَاتِ، وَتَوْكِيلِهَا فِي شِرَاءِ الْكَتَّانِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَإِنْ وُجِدَتْ ضَابِطَةً لِمَا فِي يَدَيْهَا، مُسْتَوْفِيَةً مِنْ وَكِيلِهَا، فَهِيَ رَشِيدَةٌ. وَوَقْتُ الِاخْتِبَارِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ ابْتِلَاءَهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ، لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظَةِ: (حَتَّى) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِبَارَ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الِاخْتِبَارِ إلَى الْبُلُوغِ مُؤَدٍّ إلَى الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ الرَّشِيدِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يُخْتَبَرَ وَيُعْلَمَ رُشْدُهُ، وَاخْتِبَارُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 قَبْلَ الْبُلُوغِ يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَكَانَ أَوْلَى. لَكِنْ لَا يُخْتَبَرُ إلَّا الْمُرَاهِقُ الْمُمَيِّزُ، الَّذِي يَعْرِفُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَالْمَصْلَحَةَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ. وَمَتَى أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فَتَصَرَّفَ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى. وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ إلَى اخْتِبَارِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَظِنَّةُ الْعَقْلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي وَقْتِ الِاخْتِبَارِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ] (3478) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ عَاوَدَ السَّفَهَ، حُجِرَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ، وَدُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ، أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ. وَبِهَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُبْتَدَأُ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ، وَتَصَرُّفُهُ نَافِذٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ. وَلَنَا. إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ بَيْعًا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْك. فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ، فَقَالَ: قَدْ ابْتَاعَ بَيْعًا، وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُك فِي الْبَيْعِ. فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ، فَقَالَ إنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدْ ابْتَاعَ بَيْعَ كَذَا، فَاحْجُرْ عَلَيْهِ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا إلَّا مِنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي. وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا، وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ، فَيَحْجُرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتْ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا حَدَثَ، أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَالِ كَالْجُنُونِ. وَفَارَقَ الرَّشِيدَ؛ فَإِنَّ رُشْدَهُ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ لَمْ يَمْنَعْ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ لَا يَحْجُر عَلَى السَّفِيه إلَّا الْحَاكِمُ] (3479) فَصْلٌ: وَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَاكِمُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ تَبْذِيرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْحَجْرِ، فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ. وَلَنَا: أَنَّ التَّبْذِيرَ يَخْتَلِفُ، وَيُخْتَلَفُ فِيهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا افْتَقَرَ السَّبَبُ إلَى الِاجْتِهَادِ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، كَابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّهُ حَجْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَفَارَقَ الْجُنُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ فَرَشَدَ، فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. وَلَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَزُولُ السَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَجْرِ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ، كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وَلَنَا، أَنَّهُ حَجْرٌ ثَبَتَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِهِ، كَحَجْرِ الْمُفْلِسِ، وَلِأَنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَزَوَالِ تَبْذِيرِهِ، فَكَانَ كَابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَفَارَقَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ؛ فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ. وَلِأَنَّنَا لَوْ وَقَفْنَا تَصَرُّفَ النَّاسِ عَلَى الْحَاكِمِ، كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ يُنْكَرُ عَقْلُهُ، يُحْجَرُ عَلَيْهِ. يَعْنِي: إذَا كَبِرَ، وَاخْتَلَّ عَقْلُهُ، حُجِرَ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ يَعْجِزُ بِذَلِكَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَحِفْظِهِ، فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ. [مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ إذَا حَجَرَ عَلَى السَّفِيه فَمِنْ عَامِله بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ] (3480) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَمَنْ عَامَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَجَرَ عَلَى السَّفِيهِ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ، لِيَظْهَرَ أَمْرُهُ، فَتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِذَلِكَ، لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ، فَعَلَ. وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَشِرُ أَمْرُهُ بِشُهْرَتِهِ، وَحَدِيثِ النَّاسِ بِهِ. فَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ. فَبَاعَ وَاشْتَرَى، كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا، وَاسْتَرْجَعَ الْحَاكِمُ مَا بَاعَ مِنْ مَالِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنَ إنْ كَانَ بَاقِيًا. وَإِنْ أَتْلَفَهُ السَّفِيهُ، أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّفِيهِ. وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِرِضَا أَصْحَابِهَا، كَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ بِقَرْضٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، رَدَّهُ الْحَاكِمُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ، عَلِمَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَلِمَ فَقَدْ فَرَّطَ، بِدَفْعِ مَالِهِ إلَى مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَهُوَ مُفْرِطٌ إذَا كَانَ فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، هَذَا إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إنْ حَصَلَ فِي يَدِهِ بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إنْ أَتْلَفَهُ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبه، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْقَبْضُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِإِتْلَافِهِ، وَسَلَّطَهُ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ. وَأَمَّا مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ، كَالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْ الْمَالِكِ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ، لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ، فَالسَّفِيهُ أَوْلَى. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ الْحِجْر فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ] (3481) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، كَالْحُكْمِ فِي السَّفِيهِ، فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَتْلَفَاهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ غَصَبَاهُ فَتَلِفَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ عَنْهُمَا فِيمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ وَتَسْلِيطِهِ، كَالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِدَانَةِ. وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمَا، وَإِنْ أَتْلَفَاهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. " [فَصْلٌ لَا يَنْظُر فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مَا دَامَا فِي الْحَجْرِ] (3482) فَصْلٌ: وَلَا يَنْظُرُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، مَا دَامَا فِي الْحَجْرِ، إلَّا الْأَبُ، أَوْ وَصِيُّهُ بَعْدَهُ، أَوْ الْحَاكِمُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا. وَأَمَّا السَّفِيهُ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ صَغِيرًا، وَاسْتُدِيمَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ، فَالْوَلِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ جُدِّدَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، لَمْ يَنْظُرْ فِي مَالِهِ إلَّا الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَزَوَالَهُ يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي مَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا] (3483) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَأَنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، أَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، لِفَلَسٍ، أَوْ سَفَهٍ، إذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالشُّرْبِ، وَالْقَذْفِ، وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ، أَوْ قَطْعِ الْيَدِ، وَمَا أَشْبَهَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْحَال. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ جَائِزٌ، إذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِزِنًا، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ قَتْلٍ، وَأَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْحَجْرُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ. وَإِنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، نَفَذَ طَلَاقُهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمَالٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمَالٍ، فَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَالْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَالِ، وَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ. كَالْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ. وَدَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ، أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، مَعَ مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَلَا يُمْلَكُ بِالْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مُخْتَارًا، فَوَقَعَ طَلَاقُهُ، كَالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ. [فَصْلٌ إذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاص فَعَفَا الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى مَالٍ] فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَعَفَا الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى مَالٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَجِبَ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ قِصَاصٍ ثَابِتٍ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، بِأَنْ يَتَوَاطَأَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ عَلَى مَالٍ. وَلِأَنَّهُ وُجُوبُ مَالٍ، مُسْتَنَدُهُ إقْرَارُهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ، كَالْإِقْرَارِ بِهِ ابْتِدَاءً. فَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَسْقُطُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِي الْحَالِ. [فَصْلٌ خَلَعَ الْمَحْجُور عَلَيْهِ] (3485) فَصْلٌ: وَإِنْ خَالَعَ، صَحَّ خُلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الطَّلَاقُ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْخُلْعُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَالُ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْعِوَضَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ، وَإِنْ دُفِعَ إلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَمْ تَبْرَأْ الْمَرْأَةُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا إنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا سَلَّطَتْهُ عَلَى إتْلَافِهِ. [فَصْلٌ عِتْق الْمَحْجُور عَلَيْهِ] (3486) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ، لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى: أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ مَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ، فَصَحَّ، كَعِتْقِ الرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَأَشْبَهَ هِبَتَهُ وَوَقْفَهُ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لَحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَفَارَقَ الْمُفْلِسَ وَالرَّاهِنَ؛ فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا لِحَقِّ غَيْرِهِمَا.، [فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْمَحْجُور عَلَيْهِ] (3487) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ، صَحَّ النِّكَاحُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَجِبُ بِهِ مَالٌ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، كَالشِّرَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ، فَصَحَّ مِنْهُ، كَخُلْعِهِ وَطَلَاقِهِ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الْمَالُ، فَحُصُولُهُ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ تَدْبِير وَوَصِيَّة الْمَحْجُور عَلَيْهِ] (3488) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ مَصْلَحَتِهِ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَالِهِ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْهُ. وَيَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ، وَتَعْتِقُ الْأَمَةُ الْمُسْتَوْلَدَةُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْنُونِ، فَمِنْ السَّفِيهِ أَوْلَى. وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ. وَلَهُ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْمَالِ، لَا تَضْيِيعٌ لَهُ. وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ نَظَرْتَ؛ فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا. صَحَّ عَفْوُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَضْيِيعَ الْمَالِ. وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ الْمَالِ، وَوَجَبَ الْمَالُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، صَحَّ إحْرَامُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، فَصَحَّتْ مِنْهُ، كَسَائِرِ عِبَادَاتِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، دُفِعَ إلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي السَّفَرِ كَنَفَقَتِهِ فِي الْحَضَرِ، دُفِعَتْ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي إحْرَامِهِ. وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ السَّفَرِ أَكْثَرَ، فَقَالَ: أَنَا أَكْتَسِبُ تَمَامَ نَفَقَتِي، دُفِعَتْ إلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِمَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، فَلِوَلِيِّهِ تَحْلِيلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ مَالِهِ، وَيَتَحَلَّلُ بِالصِّيَامِ كَالْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ وَلِيُّهُ تَحْلِيلَهُ، بِنَاءً عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، أَوْ عَادَ فِي ظِهَارِهِ، أَوْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ بِالْقَتْلِ أَوْ الْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، كَفَّرَ بِالصِّيَامِ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ أَطْعَمَ عَنْ ذَلِكَ، لَمْ يُجْزِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ، أَشْبَهَ الْمُفْلِسَ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُجْزِئَهُ الْعِتْقُ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا بِصِحَّتِهِ مِنْهُ. وَإِنْ نَذَرَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً، لَزِمَهُ فِعْلُهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ. وَإِنْ نَذَرَ صَدَقَةَ الْمَالِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، وَكَفَّرَ بِالصِّيَامِ. وَإِنْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، لَزِمَهُ الْعِتْقُ، إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَنْ أَقَرَّ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، ثُمَّ فُكَّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَإِنْ فُكَّ بَعْدَ تَكْفِيرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِالصِّيَامِ ثُمَّ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْمَحْجُور عَلَيْهِ بِنَسَبِ وَلَدْ] (3489) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارِ بِمَالِ، وَلَا تَصَرُّفٍ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَإِقْرَارِهِ بِالْحَدِّ وَالطَّلَاقِ. وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ، لَزِمَتْهُ أَحْكَامُهُ، مِنْ النَّفَقَةِ وَغَيْرهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ ضِمْنًا لِمَا صَحَّ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ. [مَسْأَلَةٌ أَقَرَّ السَّفِيه بِدِينِ] (3490) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي حَالِ حَجْرِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ، كَالدَّيْنِ، أَوْ بِمَا يُوجِبُهُ، كَجِنَايَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَغَصْبِهِ، وَسَرِقَتِهِ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَلِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَا إقْرَارَهُ فِي مَالِهِ، لَزَالَ مَعْنَى الْحَجْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ، ثُمَّ يُقِرُّ بِهِ، فَيَأْخُذُهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ كَإِقْرَارِ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَالْمُفْلِسِ عَلَى الْمَالِ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ أَقَرَّ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ فَلَزِمَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، كَالْعَبْدِ يُقِرُّ بِدَيْنٍ وَالرَّاهِنِ يُقِرُّ عَلَى الرَّهْنِ، وَالْمُفْلِسِ عَلَى الْمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَلَا يُؤْخَذَ بِهِ فِي الْحُكْمِ بِحَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ رُشْدِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ بَعْدَ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ نُفُوذِ إقْرَارِهِ فِي الْحَالِ، إنَّمَا ثَبَتَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ فَكَّ الْحَجْرِ، لَمْ يُفِدْ إلَّا تَأْخِيرَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ إلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ. وَفَارَقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِحَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمَانِعَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِمَالِهِ، فَيَزُولُ الْمَانِعُ بِزَوَالِ الْحَقِّ عَنْ مَالِهِ، فَيَثْبُتُ مُقْتَضَى إقْرَارِهِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا انْتَفَى الْحُكْمُ لِخَلَلٍ فِي الْإِقْرَارِ. فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا، وَبِزَوَالِ الْحَجْرِ لَمْ يَكْمُلْ السَّبَبُ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ، كَمَا لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ. وَلِأَنَّ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَمْنَعْ تَصَرُّفَهُمْ فِي ذِمَمِهِمْ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ إقْرَارِهِمْ فِي ذِمَمِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ، بِأَنْ يَلْزَمَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ حَقِّ غَيْرِهِمْ وَالْحَجْرُ هَاهُنَا لِحَظِّ نَفْسِهِ، مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ عَقْلِهِ، وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ، وَلَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ إلَّا بِإِبْطَالِ إقْرَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. فَأَمَّا صِحَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَقَرَّ بِهِ، كَدَيْنٍ لَزِمَهُ مِنْ جِنَايَةٍ، أَوْ دَيْنٍ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا، فَلَزِمَهُ أَدَاؤُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ. وَإِنْ عَلِمَ فَسَادَ إقْرَارِهِ، مِثْلُ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، أَوْ بِجِنَايَةٍ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ، أَوْ أَقَرَّ بِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 لَا يَلْزَمُهُ، مِثْلُ إنْ أَتْلَفَ مَالَ مَنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِقَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ. [فَصْلٌ أَذِنَ وَلِي السَّفِيهِ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ] (3491) فَصْلٌ: إذَا أَذِنَ وَلِيُّ السَّفِيهِ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٌ، فَمَلَكَهُ بِالْإِذْنِ، كَالنِّكَاحِ. وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ بِالْإِذْنِ فِيهِ كَالصَّبِيِّ. يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الصَّبِيِّ أَعْلَى مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ثُمَّ، يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِالْإِذْنِ، فَهَاهُنَا أُولَى. وَلِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَا تَصَرُّفَهُ بِالْإِذْنِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَة رُشْدِهِ وَاخْتِبَارِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِتَبْذِيرِهِ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ، فَقَدْ أَذِنَ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي بَيْعِ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [كِتَاب الصُّلْح] ِ الصُّلْحُ مُعَاقَدَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَيَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ صُلْحٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَصُلْحٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ، وَصُلْحٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ، إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَابٌ يُفْرَدُ لَهُ، يَذْكُرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. وَهَذَا الْبَابُ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ صُلْحٌ عَلَى إقْرَارٍ، وَصُلْحٌ عَلَى إنْكَارٍ. وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ خَاصَّةً. [مَسْأَلَةٌ الصُّلْح الْجَائِز] [الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ] (3492) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالصُّلْحُ الَّذِي يَجُوزُ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ لَا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَى بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ، فَجَحَدَهُ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُعَاوَضَةُ كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَبَطَلَ، كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ» . فَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ: «إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا» . وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَحَلَّ بِالصُّلْحِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ دُخُولَهُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ هَذَا يُوجَدُ فِي الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ بِمَعْنَى الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ، الْإِسْقَاطُ يُحِلُّ لَهُ تَرْكَ أَدَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. الثَّانِي، أَنَّهُ لَوْ حَلَّ بِهِ الْمُحَرَّمُ، لَكَانَ الصُّلْحُ صَحِيحًا، فَإِنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى اسْتِرْقَاقِ حُرٍّ، أَوْ إحْلَالِ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ صَالَحَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ. وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا، فَإِنَّهُمْ يُبِيحُونَ لِمَنْ لَهُ حَقٌّ يَجْحَدُهُ غَرِيمُهُ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِهِ أَوْ دُونَهُ، فَإِذَا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا عِلْمِهِ، فَلَأَنْ يَحِلَّ بِرِضَاهُ وَبَذْلِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَّ مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلَأَنْ يَحِلَّ مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ، وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَصَحَّ مَعَ الْخَصْمِ كَالصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، فَلَأَنْ يَصِحَّ مَعَ الْخَصْمِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ أَوْلَى. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ. قُلْنَا: فِي حَقِّهِمَا أَمْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلِّمٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ مِنْ الْمُنْكِرِ لِعِلْمِهِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، وَالْمُنْكِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ عَنْهُ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ شَرِّ الْمُدَّعِي، فَهُوَ أَبْرَأُ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ ثُبُوتُ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شَهِدَ بِحُرِّيَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَاسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ الرِّقِّ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، كَذَا هَاهُنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ، وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ التَّبَذُّلِ، وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ ذَوِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ وَالْمُرُوءَةِ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَ دَفْعَ ضَرَرِهَا عَنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِمْ، وَالشَّرْعُ لَا يَمْنَعهُمْ مِنْ وِقَايَةِ أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَتِهَا، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ، فَلَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِقَدْرِ حَقِّهِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِقَدْرِهِ فَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 مُسْتَوْفٍ لَهُ، وَإِنْ أَخَذَ دُونَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى بَعْضَهُ وَتَرَكَ بَعْضَهُ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَا مُقَابِلَ لَهُ، فَيَكُونَ ظَالِمًا بِأَخْذِهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ جَازَ، وَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لِاعْتِقَادِهِ أَخْذَهُ عِوَضًا، فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ شِقْصًا فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ، وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهُ، وَالرُّجُوعُ فِي دَعْوَاهُ، وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ، لِأَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لَا عِوَضًا عَنْ حَقٍّ يَعْتَقِدُهُ فَيَلْزَمُهُ أَيْضًا حُكْمُ إقْرَارِهِ. فَإِنْ وَجَدَ بِالْمُصَالَحِ عَنْهُ عَيْبًا، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مَا أَخَذَ عِوَضًا. وَإِنْ كَانَ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ عَلَى مِلْكِهِ، لَمْ يَزُلْ، وَمَا مَلَكَهُ بِالصُّلْحِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْمُدَّعِي مَا ادَّعَاهُ أَوْ بَعْضَهُ، لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حُكْمُ الْبَيْعِ وَلَا تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ عَيْنَ مَالِهِ، مُسْتَرْجِعًا لَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْعًا، كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَيُنْكِرَ الْمُنْكِرُ حَقًّا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَيْهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ كَاذِبًا، فَمَا يَأْخُذُهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَخَذَهُ بِشَرِّهِ وَظُلْمِهِ وَدَعْوَاهُ الْبَاطِلَةُ، لَا عِوَضًا عَنْ حَقٍّ لَهُ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهِ، كَمَنْ خَوَّفَ رَجُلًا بِالْقَتْلِ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ صِدْقَهُ وَثُبُوتَ حَقِّهِ، فَجَحَدَهُ لِيَنْتَقِصَ حَقَّهُ، أَوْ يُرْضِيَهُ عَنْهُ بِشَيْءِ فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا، وَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ مَالُ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي قَوْله " وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فَجَحَدَهُ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ". يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ لَنَا فَهُوَ الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ بَاطِنَ الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَالظَّاهِرُ، مِنْ الْمُسْلِمِ السَّلَامَةُ. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُل وَدِيعَة أَوْ قَرْضًا] (3493) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَدِيعَةً، أَوْ قَرْضًا، أَوْ تَفْرِيطًا فِي وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ، فَأَنْكَرَهُ وَاصْطَلَحَا، صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ صَالِح عَنْ الْمُنْكِرِ أَجْنَبِيٌّ] (3494) فَصَلِّ: وَإِنْ صَالَحَ عَنْ الْمُنْكِرِ أَجْنَبِيٌّ، صَحَّ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّمَا يَصِحُّ إذَا اعْتَرَفَ لِلْمُدَّعِي بِصِدْقِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صُلْحِ الْمُنْكِرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. ثُمَّ لَا يَخْلُو الصُّلْحُ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ، صَحَّ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْمُنْكِرِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّ «عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَضَيَا عَنْ الْمَيِّتِ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ عَيْنٍ بِإِذْنِ الْمُنْكِرِ، فَهُوَ كَالصُّلْحِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهُوَ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنْ الدَّعْوَى، وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ، إذَا صَالَحَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَالًا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ. وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. فِيمَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ الثَّابِتَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إلَى الْمُدَّعِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. وَمَنْ قَالَ بِرُجُوعِهِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ كَالْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْكَرِ لَا غَيْرُ، أَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّاهُ حَتْمًا، فَلَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَجِبُ لِمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ لَهُ حَقٌّ، وَلَا لَزِمَ الْأَدَاءُ إلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ جَوَازِ الدَّعْوَى، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى أَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى بِشَيْءِ لَا يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ، وَأَمَّا مَا إذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ. ثُمَّ إنْ أَدَّى عَنْهُ بِإِذْنِهِ، رَجَعَ إلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ أَدَّى عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ وَإِنْ قَضَاهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ وَقَضَى بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْكِرِ قَضَاؤُهُ. [فَصْل صَالِح الْأَجْنَبِيُّ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ] (3495) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ؛ لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لَا يَعْتَرِفَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ، كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَكَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَصِحُّ. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِحُّ، فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ أُولَى. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، فَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّك صَادِقٌ، فَصَالِحْنِي عَنْهَا، فَإِنِّي قَادِرٌ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ الْمُنْكِرِ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَصِحُّ الصُّلْحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى انْتِزَاعِهِ، اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ عَجَزَ، كَانَ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِهِ مَعْدُومٌ حَالَ الْعَقْدِ، فَكَانَ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مَيِّتٌ. وَلَوْ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ. فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ قَبْضِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ مُمْكِنٌ، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَنَاوَلَ مَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَا ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 عَدَمَ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا يَظُنُّ أَنَّهُ حُرُّ، أَوْ أَنَّهُ عَبْدُ غَيْرِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْلَمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَانَ بَيْعُهُ فَاسِدًا؛ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِقَوْلِهِ: مُعْتَقِدًا فَسَادَهُ، وَمِنْ لَا يَعْلَمُ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ اجْتِمَاعُ شُرُوطِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَهُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ. [فَصْلٌ قَالَ الْأَجْنَبِيّ لِلْمُدَّعِيَّ أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ] (3496) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَك بِهَا، وَإِنَّمَا يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ. فَظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِيَ بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ، يَتَوَصَّلُ إلَى أَخْذِ الْمُصَالِحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعَدُوَّانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاك، وَأَنَّ هَذَا لَك، وَلَكِنْ لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك، وَلَا أُقِرُّ لَك بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ. وَهَذَا مَذْهَبُ. الشَّافِعِيِّ. قَالُوا: ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ، مَلَكَ الْعَيْنَ، وَرَجَعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَعَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ، إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي الدَّفْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مِنْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمِلْكِهَا. فَأَمَّا حُكْمُ مِلْكِهَا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ وَكَّلَ الْأَجْنَبِيَّ فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ، فَلَا يَقْدَحُ إنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالْإِنْكَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَكِّلْهُ، لَمْ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي مَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَجَازَهُ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْهُ لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ. وَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاك، وَهُوَ يَسْأَلُك أَنْ تُصَالِحَهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَكَّلَنِي فِي الْمُصَالَحَةِ عَنْهُ. فَصَالَحَهُ صَحَّ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَلْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ، مَعَ بَذْلِهِ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ. [مَسْأَلَة اعْتَرَفَ بِحَقِّ فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ] (3497) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ، فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صُلْحًا؛ لِأَنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ حَتَّى صُولِحَ عَلَى بَعْضِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضٍ، وَهَذَا مُحَالُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَوْ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْمَقْرُونِ بِشَرْطِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأَتْك عَنْ خَمْسِمِائَةٍ، أَوْ وَهَبْت لَك خَمْسَمِائَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا بَقِيَ. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ بَعْضَ حَقِّهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ بَعْضَهُ، فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ هَضَمَهُ حَقَّهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، فَمَتَى أَلْزَمَ الْمُقَرَّ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ، فَتَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 نَفْسِهِ، لَمْ يَطِبْ الْأَخْذُ. وَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، جَازَ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ، وَلَا مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ، وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَأَمَّا فِي الِاعْتِرَافِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِشَيْءِ وَقَضَاهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَهُوَ وَفَاءٌ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ، فَهُوَ إبْرَاءٌ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ وَأَخَذَ بَاقِيَهَا بِطِيبِ نَفْسٍ، فَهِيَ هِبَةٌ، فَلَا يُسَمِّي ذَلِكَ صُلْحًا. وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَسَمَّاهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ صُلْحًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ وَالْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا عَدَا وَفَاءَ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ مُعَاوَضَةٌ، وَإِبْرَاءٌ، وَهِبَةٌ. فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ، فَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَجُوزُ تَعْوِيضُهُ بِهِ، وَهَذَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ الْآخَرُ، نَحْوُ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَرْفٌ، يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الصَّرْفِ، مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعُرُوضٍ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى أَثْمَانٍ، أَوْ بِأَثْمَانٍ فَيُصَالِحَهُ عَلَى عُرُوضٍ، فَهَذَا بَيْعٌ يَثْبُتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِدَيْنٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينٍ. الثَّالِثُ. أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ، خِدْمَةِ عَبْدٍ، وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا مَعْلُومًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجَارَةً لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَإِذَا أَتْلَفَ الدَّارُ أَوْ الْعَبْدُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَرَجَعَ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ. وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، انْفَسَخَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَرَجَعَ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَتَهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، صَحَّ. وَكَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ صَدَاقَهَا، فَإِنْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَمْرٍ يُسْقِطُ الصَّدَاقَ، رَجَعَ الزَّوْجُ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَرِفُ امْرَأَةً، فَصَالَحَتْ الْمُدَّعِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا، جَازَ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَرَفُ بِهِ عَيْبًا فِي مَبِيعِهَا، فَصَالَحَتْهُ عَلَى نِكَاحِهَا صَحَّ. فَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ، رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَدَاقُهَا، فَرَجَعَتْ بِهِ، لَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا. وَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْعَيْبُ، لَكِنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِمَا يُسْقِطُ صَدَاقَهَا، رَجَعَ عَلَيْهَا بِأَرْشِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، الْإِبْرَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَقُولَ: قَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ نِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ، فَأَعْطِنِي مَا بَقِيَ. فَيَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 الرَّجُلِ الدَّيْنُ، لَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ غُرَمَاءَ جَابِرٍ لِيَضَعُوا عَنْهُ، فَوَضَعُوا عَنْهُ، الشَّطْرَ. وَفِي الَّذِي أُصِيبَ فِي حَدِيقَتِهِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَلْزُومٌ، فَأَشَارَ إلَى غُرَمَائِهِ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذُوهُ مِنْهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ الْيَوْمَ، جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالنَّظَرِ لَهُمَا. وَرَوَى يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ نَادَى: «يَا كَعْبُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ إلَيْهِ، أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنَك. قَالَ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُمْ فَأَعْطِهِ» . فَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي مَا بَقِيَ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ إلَّا لِيُوَفِّيَهُ بَقِيَّتَهُ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، الْهِبَةُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَيَقُولَ قَدْ وَهَبْتُك نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيتهَا. فَيَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْهِبَةِ الْوَفَاءَ جَعَلَ الْهِبَةَ عِوَضًا عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: صَالِحْنِي بِنِصْفِ دَيْنَك عَلَيَّ، أَوْ بِنِصْفِ دَارِك هَذِهِ. فَيَقُولَ: صَالِحَتك بِذَلِكَ. لَمْ يَصِحَّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ بِلَفْظِهِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صُلْحًا، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، فَلَا يُسَمَّى صُلْحًا، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ سُمِّيَ صُلْحًا؛ لِوُجُودِ اللَّفْظِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ الْمَعْنَى، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظُ الصُّلْحِ الْمُعَاوَضَةَ إذَا كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا. وَإِنَّمَا مَعْنَى الصُّلْحِ الِاتِّفَاقُ، وَالرِّضَى، وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَالتَّمْلِيكِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ سُمِّيَ بَيْعًا، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ سُمِّيَ هِبَةً. وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: صَالِحْنِي بِهِبَةِ كَذَا، أَوْ عَلَى نِصْفِ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَنَحْوُ هَذَا. فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: بِعْنِي بِأَلْفٍ. وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهِ " عَلَى " جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] . وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ أَوْ بِلَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ. وَقَوْلُهُمْ: أَنَّهُ يُسَمَّى صُلْحًا. مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سُمِّيَ صُلْحًا فَمَجَازٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ وَإِزَالَةَ الْخُصُومَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الصُّلْحَ لَا يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْمُعَاوَضَةَ حَصَلَتْ مِنْ اقْتِرَانِ حَرْفِ الْبَاءِ، أَوْ عَلَى، أَوْ نَحْوِهِمَا بِهِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ تَحْتَاجُ إلَى حَرْفٍ تَعَدَّى بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِهِ] (3498) فَصْل: وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا، فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عَلَى بِنَاءِ غُرْفَةٍ فَوْقَهُ، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ سَنَةً، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُصَالِحُهُ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ. وَإِنْ أَسْكَنَهُ كَانَ تَبَرُّعًا مِنْهُ، مَتَى شَاءَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا. وَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْضَ دَارِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، فَمَتَى شَاءَ انْتَزَعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ إيَّاهُ عِوَضًا عَمَّا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَالَحَةِ، مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَجْرِ مَا سَكَنَ وَأَجْرِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَسُكْنَى الدَّارِ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ. وَإِنْ بَنَى فَوْقَ الْبَيْتِ غُرْفَةً، أُجْبِرَ عَلَى نَقْضِهَا، وَإِذَا آجَرَ السَّطْحَ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ، فَلَهُ أَخْذُ آلَتِهِ. وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُصَالِحَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَنْ بِنَائِهِ بِعِوَضٍ، جَازَ. وَإِنْ بَنَى الْغُرْفَةَ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَآلَاتِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ. وَإِنْ أَرَادَ نَقْضَ الْبِنَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إذَا أَبْرَأْهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يُتْلَفُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَقْضَهُ، كَقَوْلِنَا فِي الْغَاصِبِ. [فَصْلٌ صَالِحه بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً] (3499) فَصْلٌ: وَإِذَا صَالَحَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً، صَحَّ. وَكَانَتْ إجَارَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. فَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي السَّنَةِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَّةَ السَّنَةِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، فَلَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ. وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَصَحَّ عِتْقُهُ لِغَيْرِهِ، وَلِلْمُصَالِحِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ نَفْعَهُ فِي الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ مَلَّكَ مَنْفَعَتَهُ لِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَة لِحُرٍّ. وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ مَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ إلَّا عَنْ الرَّقَبَةِ، وَالْمَنَافِعُ حِينَئِذٍ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ تَتْلَفْ مَنَافِعُهُ بِالْعِتْقِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ زَمِنًا أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ، أَوْ أَعْتَقَ أَمَةً مُزَوَّجَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعِتْقَ اقْتَضَى إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ جَمِيعًا، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ الْمَنْفَعَةُ لِلْعَبْدِ هَاهُنَا، فَكَأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْفَعَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ إعْتَاقَهُ لَمْ يُصَادِفْ لِلْمُعْتَقِ سِوَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِيهِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ وَلِآخَرَ بِنَفْعِهِ، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَمَةً مُزَوَّجَةً. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ اقْتَضَى زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي إعْتَاقُهُ إزَالَةَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَحِقٌّ، تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ لِفَسَادِ الْعِوَضِ، وَرَجَعَ الْمُدَّعِي فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ. وَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدَ مَعِيبًا عَيْبًا تَنْقُصُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ، فَلَهُ رَدَّهُ وَفَسْخُ الصُّلْحِ. وَإِنْ صَالَحَ عَلَى الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ بَيْعًا. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، كَمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 [فَصْلٌ ادَّعَى زَرْعًا فِي يَد رَجُلٍ] (3500) فَصْل: إذَا ادَّعَى زَرْعًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ، جَازَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ الزَّرْعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ، فَأَقَرَّ لَهُ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ اشْتِدَادِ حُبِّهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ. وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ؛ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ إلَّا بِقَطْعِ زَرْعِ الْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ لَوَاحِدٍ، فَأَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِنِصْفِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْهُ بِنِصْفِ الْأَرْضِ لِيَصِيرَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِلْمُقِرِّ، وَالْأَرْضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ جَازَ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ كُلّه لِلْمُقِرِّ، فَجَازَ شَرْطُ قَطْعِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ فِي الزَّرْعِ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهُ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ قَطْعِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ قَطْعَ زَرْعٍ آخَرَ فِي أَرْضٍ أُخْرَى. وَإِنْ صَالِحَهُ مِنْهُ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لِيُسَلِّمَ الْأَرْضَ إلَيْهِ فَارِغَةً، صَحَّ؛ لِأَنَّ قَطْعَ جَمِيعِ الزَّرْعِ مُسْتَحَقٌّ نِصْفُهُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ، وَالْبَاقِي لِتَفْرِيغِ الْأَرْضِ، فَأَمْكَنَ الْقَطْعُ. وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِجَمِيعِ الزَّرْعِ، فَصَالَحَهُ مِنْ نِصْفِهِ عَلَى نِصْفِ الْأَرْضِ، لِيَكُونَ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَشَرَطَ الْقَطْعَ فِي الْجَمِيعِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ شَرَطَا قَطْعَ كُلِّ الزَّرْعِ وَتَسْلِيمَ الْأَرْضِ فَارِغَةً، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ بَاقِيَ الزَّرْعِ لَيْسَ بِمَبِيعٍ، فَلَا يَصِحُّ شَرْطُ قَطْعِهِ فِي الْعَقْدِ. [فَصْلٌ حُصِلَتْ أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ] (3501) فَصْلٌ: إذَا حَصَلَتْ أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ هَوَاءِ جِدَارٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، أَوْ عَلَى نَفْسِ الْجِدَارِ، لَزِمَ مَالِكَ الشَّجَرَةِ إزَالَةُ تِلْكَ الْأَغْصَانِ، إمَّا بِرَدِّهَا إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَإِمَّا بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْقَرَارَ، فَوَجَبَ إزَالَةُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ كَالْقَرَارِ. فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ إزَالَته، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إزَالَتِهِ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ. وَإِنْ تَلِفَ بِهَا شَيْءٌ، لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إزَالَتِهِ، وَيَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ، إذَا أُمِرَ بِإِزَالَتِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا مَالَ حَائِطُهُ إلَى مِلْكِ غَيْره، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، إذَا امْتَنَعَ مِنْ إزَالَتِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْهَوَاءِ إزَالَتُهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَدْخُلُ دَارِهِ، لَهُ إخْرَاجُهَا، كَذَا هَاهُنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ أَمْكَنَهُ إزَالَتُهَا بِلَا إتْلَافٍ وَلَا قَطْعٍ، مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْزَمُهُ وَلَا غَرَامَةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ إتْلَافُهَا، كَمَا أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ إخْرَاجُ الْبَهِيمَةِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ إتْلَافُهَا. فَإِنْ أَتْلَفَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ غَرِمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَتُهَا إلَّا بِالْإِتْلَافِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُ مَالِ غَيْرِهِ فِي مِلْكِهِ. فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إقْرَارِهَا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَابْنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ رَطْبًا كَانَ الْغُصْنُ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، بِخِلَافِ الْعِوَضِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ؛ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الصُّلْحِ عَنْهُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 يَكْثُرُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُتَجَاوِرَةِ، وَفِي الْقَطْعِ إتْلَافٌ وَضَرَرٌ. وَالزِّيَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ يُعْفَى عَنْهَا، كَالسِّمَنِ الْحَادِثِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ لِلرُّكُوبِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْغُرْفَةِ يَتَجَدَّدُ لَهُ الْأَوْلَادُ، وَالْغِرَاسِ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ لَهُ الْأَرْضَ يَعْظُمُ وَيَجْفُو. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَصِحُّ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ بِحَالٍ، رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ وَيَتَغَيَّرُ وَالْيَابِسُ يَنْقُصُ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ كُلُّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ يَابِسًا مُعْتَمِدًا عَلَى نَفْسِ الْجِدَارِ، صَحَّتْ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَأْمُونَةٌ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْجِدَارِ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعُ الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ سَبِيلٌ، وَذَلِكَ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمٍ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَالْهَوَاءُ كَالْقَرَارِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِهِ، فَجَازَ الصُّلْحُ عَلَى مَا فِيهِ، كَاَلَّذِي فِي الْقَرَارِ. [فَصْلٌ صَالِحه عَلَى أَرْض بِجُزْءِ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا] (3502) فَصْل: وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إقْرَارِهَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا، أَوْ بِثَمَرِهَا كُلُّهُ، فَقَدْ نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ. وَنَحْوَهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شَجَرَةٍ ظُلِّلَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَطْعِ مَا ظَلَّلَ، أَوْ أَكْلِ ثَمَرَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مَجْهُولَةٌ، وَجُزْؤُهَا مَجْهُولٌ، وَمِنْ شَرْطِ الصُّلْحِ الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ، وَلِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَتَغَيَّرُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا. وَوَجْهُ الْأَوَّل، أَنَّ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ فِي الْأَمْلَاكِ، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَفِي الْقَطْعِ إتْلَافٌ، فَجَازَ مَعَ الْجَهَالَةَ، كَالصُّلْحِ عَلَى مَجْرَى مِيَاهِ الْأَمْطَارِ، وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَوَارِيثِ الدَّارِسَةِ، وَالْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهَا، وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا يَصِحُّ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُبِيحُ صَاحِبَهُ مَا بَذَلَ لَهُ، فَصَاحِبُ الْهَوَاءِ يُبِيحُ صَاحِبَ الشَّجَرَةِ إبْقَاءَهَا، وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِهَا وَإِزَالَتِهَا، وَصَاحِبُ الشَّجَرَةَ يُبِيحُهُ مَا بَذَلَ لَهُ مِنْ ثَمَرَتهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ بِمَعْدُومٍ وَلَا مَجْهُولٍ، وَالثَّمَرَةُ فِي حَالِ الصُّلْحِ مَعْدُومَةٌ مَجْهُولَةٌ، وَلَا هُوَ لَازِمٌ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ عَمَّا بَذَلَهُ، وَالْعَوْدُ فِيمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ إبَاحَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: اُسْكُنْ دَارِي، وَأَسْكُنُ دَارَك. مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، وَلَا ذِكْرِ شُرُوطِ الْإِجَارَةِ، أَوْ قَوْلِهِ: أَبَحْتُك الْأَكْلَ مِنْ ثَمَرَةِ بُسْتَانِي، فَأَبِحْنِي الْأَكْلَ مِنْ ثَمَرَة بُسْتَانِك. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: دَعْنِي أُجْرِي فِي أَرْضِك مَاءً، وَلَك أَنْ تَسْقِيَ بِهِ مَا شِئْت، وَتَشْرَبَ مِنْهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ كَثِيرًا، وَفِي إلْزَامِ الْقَطْعِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ، وَإِتْلَافُ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَى صَاحِبِ الْهَوَاءِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعٌ بَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الْأَمْرَيْنِ، وَنَظَرٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ، فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ مَا امْتَدَّ مِنْ عُرُوق شَجَرَة إنْسَان إلَى أَرْض جَاره] (3503) فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا امْتَدَّ مِنْ عُرُوقِ شَجَرَةِ إنْسَانٍ إلَى أَرْضِ جَارِهِ، سَوَاءٌ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مِثْلُ تَأْثِيرِهَا فِي الْمَصَانِعِ، وَطَيِّ الْآبَارِ، وَأَسَاسِ الْحِيطَانِ أَوْ مَنْعِهَا مِنْ ثَبَاتِ شَجَرٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ زَرْعٍ، أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي قَطْعِهِ وَالصُّلْحِ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ، إلَّا أَنَّ الْعُرُوقَ لَا ثَمَرَ لَهَا، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَا نَبَتَ مِنْ عُرُوقِهَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، أَوْ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، فَهُوَ كَالصُّلْحِ عَلَى الثَّمَرِ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَعَلَى قَوْلِنَا، إذَا اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ، ثُمَّ أَبَى صَاحِبُ الشَّجَرَةِ دَفْعَ نَبَاتِهَا إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ فِي أَرْضِهِ لِهَذَا، فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُ، رَجَعَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهَا بِعِوَضٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَنْ مَالَ حَائِطُهُ إلَى هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ ذَلِقَ مِنْ أَخْشَابِهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ صَالِحه عَلَى الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا] (3504) فَصْلٌ: وَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا، لَمْ يَجُزْ، كَرِهَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ - وَقَالَ: نَهَى عُمَرُ أَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ بِالدَّيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ. وَرَوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِالْعُرُوضِ أَنْ يَأْخُذُهَا مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا الْعُرُوضَ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا. وَلَعَلَّ ابْنَ سِيرِينَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ التَّعْجِيلَ جَائِزٌ وَالْإِسْقَاطَ وَحْدَهُ جَائِزٌ، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَبْذُلُ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُطُّهُ عِوَضًا عَنْ تَعْجِيلِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَبَيْعُ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَشَرَةً حَالَّةً بِعِشْرِينَ مُؤَجَّلَةٍ. وَلِأَنَّهُ يَبِيعُهُ عَشَرَةً بِعِشْرِينَ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا عَقْدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ بِبَذْلِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ جَوَازُهُ فِي الْعَقْدِ، أَوْ مَعَ الشَّرِكَة كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ. وَيُفَارِقُ مَا إذَا اشْتَرَى الْعُرُوضَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ الْحُلُولِ عِوَضًا، فَأَمَّا إنْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ بِنِصْفِهَا مُؤَجَّلًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَتَبَرُّعًا بِهِ، صَحَّ الْإِسْقَاطُ، وَلَمْ يَلْزَمْ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى، وَالْإِسْقَاطُ صَحِيحٌ. وَإِنْ فَعَلَهُ لِمَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ بِدُونِهِ، أَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْوَفَاءِ، لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ أَيْضًا. عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا رِوَايَتَيْنِ، أَصَحُّهُمَا لَا يَصِحُّ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الصُّلْح عَنْ الْمَجْهُولِ] (3505) فَصْل: وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ الْمَجْهُولِ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، إذَا كَانَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 مَعْرِفَتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يُصَالِحُ عَلَى الشَّيْءِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُوقِفَهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا لَا يَدْرِي مَا هُوَ، وَنَقَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ، إذَا اخْتَلَطَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ، وَطُحِنَا، فَإِنْ عَرَفَ قِيمَةَ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِ الشَّعِيرِ، بِيعَ هَذَا، وَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ مَالِهِ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ وَيَتَحَالَّا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الصُّلْحُ الْجَائِزُ هُوَ صُلْحُ الزَّوْجَةِ مِنْ صَدَاقِهَا الَّذِي لَا بَيِّنَةَ لَهَا بِهِ، وَلَا عِلْمَ لَهَا، وَلَا لِلْوَرَثَةِ بِمَبْلَغِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمُعَامَلَةُ وَالْحِسَابُ الَّذِي قَدْ مَضَى عَلَيْهِ الزَّمَانُ الطَّوِيلُ، لَا عِلْمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ، فَيَجُوزُ الصُّلْحُ، بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا عِلْمَ لَهُ بِقَدْرِهِ، جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ يَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، أَوْ لَا عِلْمَ لَهُ. وَيَقُول الْقَابِضُ: إنْ كَانَ لِي عَلَيْك حَقٌّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ. وَيَقُول الدَّافِعُ: إنْ كُنْت أَخَذْت مِنِّي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّك فَأَنْتَ مِنْهُ فِي حِلٍّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ عَلَى مَجْهُولٍ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ: «اسْتِهِمَا، وَتَوَخَّيَا، وَلْيَحْلِلْ أَحَدُكُمَا صَاحِبَهُ» . وَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْمَجْهُولِ. وَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْعِلْمِ، وَإِمْكَانِ أَدَاءِ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ، فَلَأَنْ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَهُمَا طَرِيقٌ إلَى التَّخَلُّصِ وَبَرَاءَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِهِ، وَمَعَ الْجَهْلِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ أَفْضَى إلَى ضَيَاعِ الْمَالِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ. وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ بَيْعًا، وَلَا فَرْعَ بَيْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إبْرَاءٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ بَيْعًا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِدَلِيلِ بَيْعِ أَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ، وَطَيِّ الْآبَارِ، وَمَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ، وَلَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ صُبْرَةَ طَعَامٍ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا، فَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِمُتْلِفِهِ: بِعْتُك الطَّعَامَ الَّذِي فِي ذِمَّتِك بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ. صَحَّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ فِي الصُّلْحِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، كَالْمُخْتَصِمِينَ فِي مَوَارِيثَ دَارِسَةٍ، وَحُقُوقٍ سَالِفَةٍ، أَوْ عَيْنٍ مِنْ الْمَالِ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهَا، صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْجَهَالَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِهِ، لَمْ يَجُزْ مَعَ الْجَهَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ وَاجِبٌ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَتُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الصُّلْحِ (3506) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يُمْكِنُهُمَا مَعْرِفَتُهُ، كَتَرِكَةٍ مَوْجُودَةٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَيَجْهَلُهُ صَاحِبُهُ، فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ صُولِحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ ثُمُنِهَا، لَمْ يَصِحَّ. وَاحْتَجَّ بُقُولِ شُرَيْحٍ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ مِنْ ثُمُنِهَا، لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا مَا تَرَكَ زَوْجُهَا، فَهِيَ الرِّيبَةُ كُلُّهَا. قَالَ: وَإِنْ وَرِثَ قَوْمٌ مَالًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وَدُورًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَبَعْضِهِمْ: نُخْرِجُك مِنْ الْمِيرَاثِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهَا شَيْءٌ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ لَعَلَّهَا تَظُنُّ أَنَّهُ قَلِيلٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَثِيرٌ وَلَا يَشْتَرِي حَتَّى تَعْرِفَهُ وَتَعْلَمَ مَا هُوَ، وَإِنَّمَا يُصَالِحُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ حِسَابُ بَيْنَهُمَا، فَيُصَالِحُهُ، أَوْ يَكُونُ رَجُلٌ يَعْلَمُ مَالَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُهُ فَيُصَالِحُهُ، فَأَمَّا إذَا عَلِمَ فَلَمْ يُصَالِحْهُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَهْضِمَ حَقَّهُ وَيَذْهَبَ بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا جَازَ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ لِإِبْرَاءِ الذِّمَمِ، وَإِزَالَةِ الْخِصَامِ، فَمَعَ إمْكَانِ الْعِلْمِ لَا حَاجَةَ إلَى الصُّلْحِ مَعَ الْجَهَالَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ الصُّلْح عَنْ كُلِّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ] (3507) فَصْل: وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ كُلِّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ، فَيَصِحُّ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَعَيْبِ الْمَبِيعِ. وَمَتَى صَالَحَ عَمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَقَلَّ، جَازَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَسَعِيدَ بْنِ الْعَاصِ بَذَلُوا لِلَّذِي وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ سَبْعَ دِيَاتٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. وَلِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، فَلَا يَقَعُ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتَهُ. فَأَمَّا إنْ صَالَحَ عَنْ قَتْلِ الْخَطَأِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا، لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ عَبْدًا أَوْ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَصَالَحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا، لَمْ يَجُزْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْمُتْلَفِ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَالثَّابِتَةِ عَنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لَا مُقَابِلَ لَهَا، فَيَكُونُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. فَأَمَّا إنْ صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا، بِأَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ. [فَصْلٌ صَالِح عَنْ الْمِائَة الثَّابِتَة فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ] (3508) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْمِائَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ، بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتْ حَالَّةً. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ الْمُتْلِفِ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ وَهُوَ مِائَةٌ حَالَّةٌ، الْحَالُّ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ. [فَصْلٌ صَالِح عَنْ الْقِصَاصِ بِعَبْدِ فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا] (3509) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ بِعَبْدٍ، فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا، رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ خَرَجَ حُرًّا فَكَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فَاسِدٌ، فَيَرْجِعُ بِبَذْلِ مَا صَالَحَ عَنْهُ، وَهُوَ الدِّيَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ مَا جَعَلَهُ عِوَضًا، فَرَجَعَ فِي قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 [فَصْلٌ صَالِح عَنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ بِعِوَضِ] (3510) فَصْل: وَلَوْ صَالَحَ عَنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ بِعِوَضِ، فَوَجَدَ الْعِوَضَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا، رَجَعَ فِي الدَّارِ وَمَا صَالَحَ عَنْهُ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِوَضَ كَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، فَرَجَعَ فِيمَا كَانَ لَهُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ الْقِصَاصِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَصَالَحَهُ عَنْهُ بِعَبْدٍ، فَبَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا، رَجَعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ امْرَأَةً، فَزَوْجَته نَفْسَهَا عِوَضًا عَنْ أَرْشِ الْعَيْبِ، فَزَالَ الْعَيْبُ رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ، لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا. [فَصْل صَالِحه عَنْ الْقِصَاصِ بَحْر يَعْلَمَانِ حُرِّيَّته] (3511) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْ الْقِصَاصِ بِحُرٍّ يَعْلَمَانِ حُرِّيَّتَهُ أَوْ عَبْدٍ يَعْلَمَانِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، أَوْ تَصَالَحَا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْقِصَاصِ، رَجَعَ بِالدِّيَةِ وَبِمَا صَالَحَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا بَاطِلٌ يَعْلَمَانِ بُطْلَانَهُ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. [فَصْلٌ صَالِح رَجُلًا عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ مِنْ أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ] (3512) فَصْلٌ: إذَا صَالَحَ رَجُلًا عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ مِنْ أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ، بَيَّنَّا مَوْضِعَهَا وَعَرْضَهَا وَطُولَهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ لَمَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ عُمْقِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ كَانَ لَهُ إلَى تُخُومِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مَا شَاءَ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مِنْ أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، فَهَذَا إجَارَةٌ لِلْأَرْضِ، فَيَشْتَرِطُ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْإِجَارَةِ. فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ رَجُلٍ بِإِجَارَةٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهَا فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ مُدَّةً لَا تُجَاوِزُ مُدَّةَ إجَارَتِهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ السَّاقِيَةُ مَحْفُورَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ سَاقِيَةٍ فِي أَرْضٍ فِي يَدِهِ بِإِجَارَةِ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِهِ وَقْفًا عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا سَاقِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، إنَّمَا يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَهَا، كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ سَوَاءً. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ حَفْرُ السَّاقِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَيْفَمَا شَاءَ، مَا لَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي الْحَفْرِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَهَلْ لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَسْخُ الصُّلْحِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا آجَرَهُ مُدَّةً، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ فَسْخُ الصُّلْحِ. فَفَسَخَهُ، رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى وَرَثَةِ الَّذِي صَالَحَهُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ. رَجَعَ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَة. [فَصْلٌ صَالِح رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنْ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ] (3513) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنْ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ سَطْحِهِ، أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ أَرْضِهِ، جَازَ، إذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاءً مَعْلُومًا، إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ الْمِسَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَكِبَرِهِ. وَلَا يُمَكِّنُ ضَبْطُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْرِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 مِنْهُ الْمَاءُ إلَى السَّطْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ. وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى هَذَا، وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْمَاءِ مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَسْتَوْفِي بِهِ مَنَافِعَ الْمَجْرَى دَائِمًا، وَلَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ السَّاقِيَةِ، وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي السَّاقِيَّةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَقْدِيرِ السَّاقِيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْرِيَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَائِهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي عَلَى السَّطْحِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ السَّطْحِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مِنْهُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ. وَإِنْ كَانَ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا، أَوْ عَارِيَّةً مَعَ إنْسَانٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ فِي السَّاقِيَةِ الْمَحْفُورَةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مَاءُ السَّطْحِ يَجْرِي عَلَى أَرْضٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ احْتَاجَ إلَى حَفْرٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ أَرْضَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ رَسْمًا، فَرُبَّمَا ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهَا. وَاحْتَمَلَ الْجَوَازَ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى حَفْرٍ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُدَّةً لَا تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إجَارَتِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي السَّاقِيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ] (3514) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ لِلزِّرَاعَةِ، لَهَا مَاءٌ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا أَرْضُ جَارِهِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَا تُبِيحُ مَالَ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الزَّرْعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، وَلَا الْبِنَاءُ فِيهَا، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِشَيْءِ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ قَبْل هَذِهِ الْحَاجَةِ. وَالْأُخْرَى يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا مِنْ الْعَرِيضِ، فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَك، تَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَلَا يَضُرُّك؟ فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ، فَدَعَا مُحَمَّدَ بْن مَسْلَمَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاَللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاك مَا يَنْفَعُهُ، وَهُوَ لَك نَافِعٌ، تَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاَللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِك. فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ، فَفَعَلَهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَسَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ، فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْل صَالِح رَجُلًا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِ الرَّجُلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ] (3515) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِ الرَّجُلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ مِنْ عَيْنِهِ، وَقَدَّرَهُ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِمَمْلُوكِ، وَلَا يَجُوزُ؛ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. قَالَ: وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ النَّهْرِ كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ، جَازَ، وَكَانَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ، وَالْمَاءُ تَابِعٌ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى السَّقْيِ مِنْ نَهْرِهِ وَقَنَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَالْمَاءُ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي قِرْبَتِهِ أَوْ إنَائِهِ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ بِدَلِيلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَأَشْبَاهِهِ، وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَجْهُولِ. [فَصْلٌ الصُّلْح عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ] (3516) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ امْرَأَةً لِتُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ يُحِلُّ حَرَامًا، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ بَذْلَ نَفْسِهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لِيَكُفَّ عَنْهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْإِنْكَارِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ، وَهَذِهِ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِأَخْذِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ الَّذِي يَدَّعِيه، وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ الْخَلْع لِلْحَاجَةِ إلَى افْتِدَاءِ نَفْسِهَا. وَالثَّانِي، يَصِحُّ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ مِنْ النِّكَاحِ، فَجَازَ كَعِوَضِ الْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ تَبْذُلُهُ لِقَطْعِ خُصُومَتِهِ وَإِزَالَةِ شَرِّهِ، وَرُبَّمَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهَا لِكَوْنِ الْحَاكِمِ يَرَى ذَلِكَ، أَوَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَتَى صَالَحَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، ثَبَتَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الصُّلْحُ بَاطِلٌ. فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَلَا خَلَعَ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ صَحِيحٌ. احْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نِكَاحِهَا، فَكَانَ خُلْعًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَخَالَعَهَا. وَلَوْ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ لِتَنْزِلَ عَنْ دَعْوَاهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا بَذْلُ نَفْسِهَا لِمُطَلِّقِهَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ. وَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ مَالًا لِيُقِرَّ بِطَلَاقِهَا، لَمْ يَجُزْ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ يَجُوزُ، كَمَا لَوْ بَذَلَتْ لَهُ عِوَضًا لِيُطَلِّقهَا ثَلَاثًا. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَهُ] (3517) فَصْل: وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَأَنْكَرَهُ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ لِيُقِرَّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُحِلُّ حَرَامًا، فَإِنَّ إرْقَاقَ الْحُرِّ نَفْسَهُ لَا يَحِلُّ بِعِوَضِ وَلَا بِغَيْرِهِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ بِمَالِ، وَيُشْرَعُ لِلدَّافِعِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَالْخُصُومَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ إلَيْهِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا، فَأَنْكَرَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا لِيُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ، لَمْ يَصِحَّ. فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ كَذِبُهُ فِي إنْكَارِهِ، وَأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُنْكَرُ مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ، صَحَّ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 [فَصْل صَالِح شَاهِدًا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ] (3518) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَ شَاهِدًا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ تَلْزَمُ الشَّهَادَةُ بِهِ، كَدَيْنِ آدَمِي، أَوْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ. الثَّانِي، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ. فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ذَلِكَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَهُ وَلَا يَغْصِبَ مَالَهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقِّ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ عِوَضِهِ، كَسَائِرِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ. وَلَوْ صَالَحَ السَّارِقَ وَالزَّانِيَ وَالشَّارِبَ بِمَالٍ، عَلَى أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، فَأَشْبَهَ حَدَّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ حَقًّا لَيْسَ بِمَالِي، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ إلَى بَدَلَ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِتَنْزِيهِ الْعِرْضِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ عِرْضِهِ بِمَالٍ. وَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالصُّلْحِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَقًّا لِآدَمِي؛ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَسْقُطْ بِصُلْحِ الْآدَمِيِّ وَلَا إسْقَاطِهِ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ سَقَطَ بِصُلْحِهِ وَإِسْقَاطِهِ، مِثْل الْقِصَاصِ. وَإِنْ صَالَحَ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ شُرِعَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ، سَقَطَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ هَاهُنَا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ. [فَصْلٌ لَا يَشْرَعَ إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا] (3519) فَصْل: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا؛ وَهُوَ الرَّوْشَنُ يَكُونُ عَلَى أَطْرَافِ خَشَبَةٍ مَدْفُونَةٍ فِي الْحَائِطِ، وَأَطْرَافُهَا خَارِجَةٌ فِي الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي الْعَادَةِ بِالْمَارَّةِ أَوْ لَا يَضُرُّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا. سَابَاطًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْمُسْتَوْفِي لِهَوَاءِ الطَّرِيقِ كُلِّهِ عَلَى حَائِطَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِطَانِ مِلْكَهُ أَوْ لَمْ يَكُونَا، وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ جَازَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ، فَجَرَى إذْنُهُ مَجْرَى إذْنِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 بِنَافِدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَإِنْ عَارَضَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ قَلْعُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَنْعَهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَقَ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أَحَدٍ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، فَكَانَ جَائِزًا، كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَضُرُّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ فِي شَارِعٍ تَمُرُّ فِيهِ الْجُيُوشُ وَالْأَحْمَالُ، فَيَكُونُ بِحَيْثُ إذَا سَارَ فِيهِ الْفَارِسُ وَرُمْحُهُ مَنْصُوبٌ لَا يَبْلُغُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يُقَدَّرُ بِذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بالعماريات وَالْمَحَامِلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبِنَاءِ الدَّكَّةِ أَوْ بِنَاءِ ذَلِكَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ، وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ لَا يَدُومُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُظْلِمُ الطَّرِيقَ، وَيَسُدُّ الضَّوْءَ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ، أَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَعْلُو الْأَرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالْأَحْمَالِ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ إلَّا عَلَى الْمَاشِي، وَقَدْ رَأَيْنَا مِثْل هَذَا كَثِيرًا، وَمَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَالِ، يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إلَى الطَّرِيقِ يُخْشَى وُقُوعُهُ عَلَى مِنْ يَمُرُّ فِيهَا. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، لَوْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى هَوَاءِ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا، كَمَا لَا يَجُوزُ إذَا مَنَعَ مِنْهُ. [فَصْلٌ لَا يَبْنِي فِي الطَّرِيقِ دُكَّانًا] (3520) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ فِي الطَّرِيقِ دُكَّانًا، بِغَيْرِ خِلَافِ نَعْلَمُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا أَوْ غَيْرَ وَاسِعٍ، سَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْمَارَّةَ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْثُرُ بِهِ الْعَاثِرُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا. [فَصْل لَا يَبْنِي دُكَّانًا وَلَا يَخْرُج رَوِشْنَا وَلَا سَابَاطًا عَلَى دَرْب غَيْر نَافِذ] (3521) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ دُكَّانًا، وَلَا يُخْرِجَ رَوْشَنًا وَلَا سَابَاطًا عَلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدَّرْبِ بَابٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الدَّرْبِ بَابٌ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ لَهُ إخْرَاجَ الْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الدَّرْبِ اسْتِطْرَاقًا، فَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا يَمْلِكُهُ فِي الدَّرْبِ النَّافِذِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ مِلْكِ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ بَابٌ، وَلَا نُسَلِّمُ الْأَصْلَ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ أَذِنَ أَهْلُ الدَّرْبِ فِيهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، فَجَازَ بِإِذْنِهِمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالِكُ وَاحِدًا. وَإِنْ صَالَحَ أَهْلَ الدَّرْبِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ، جَازَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْهَوَاءِ دُونَ الْقَرَارِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وَلَنَا أَنَّهُ يَبْنِي فِيهِ بِإِذْنِهِمْ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ أَذِنُوا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، فَجَازَ لَهُمْ أَخْذُ عِوَضِهِ، كَالْقَرَارِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ كَوْنِ مَا يُخْرِجُهُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ فِي الْخُرُوجِ وَالْعُلُوِّ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِهِ، بِعِوَضِ وَبِغَيْرِهِ، إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ: لَا يَحْفِر فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِئْرًا لِنَفْسِهِ] (3522) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْفِرَ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِئْرًا لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ، أَوْ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ أَرَادَ حَفْرَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ أَوْ لِنَفْعِ الطَّرِيقِ، مِثْل أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْ مَائِهَا، وَيَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ، أَوْ لِيَنْزِلَ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ عَنْ الطَّرِيقِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقِ ضَيِّقًا، أَوْ يَحْفِرَهَا فِي مَمَرِّ النَّاسِ بِحَيْثُ يُخَافُ سُقُوطُ إنْسَانٍ فِيهَا أَوْ دَابَّةٍ، أَوْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ مَمَرَّهُمْ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا، وَإِنْ حَفَرَهَا فِي زَاوِيَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ فِيهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ بِلَا ضَرَرٍ، فَجَازَ كَتَمْهِيدِهَا، وَبِنَاءِ رَصِيفٍ فِيهَا، فَأَمَّا مَا فَعْلَهُ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ لِقَوْمِ مُعَيَّنِينَ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي بُسْتَانِ إنْسَانٍ. وَلَوْ صَالَحَ أَهْلَ الدَّرْبِ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، جَازَ، سَوَاءٌ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ لِيَنْزِل فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ عَنْ دَارِهِ، أَوْ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا مَاءً لِنَفْسِهِ، أَوْ حَفَرَهَا لِلسَّبِيلِ وَنَفْعِ الطَّرِيقِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ. [فَصْلٌ إخْرَاجُ الميازيب إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ] (3523) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْمَيَازِيبِ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ. وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إلَى دَرْبٍ نَافِذٍ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ إخْرَاجُهُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ نَصَبَ مِيزَابًا عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَلَعَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا نَصَبْته إلَّا عَلَى ظَهْرِي، وَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَنَصَبَهُ. وَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِغَيْرِهِ فِعْلُهُ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُهُ رَدَّ مَائِهِ إلَى الدَّارِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقِ غَيْرُ نَافِذٍ وَلِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلِهَا، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ دَكَّةٍ فِيهَا أَوْ جَنَاحٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهَا. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِنَّ مَاءَهُ يَقَعُ عَلَى الْمَارَّةِ، وَرُبَّمَا جَرَى فِيهِ الْبَوْلُ أَوْ مَاءٌ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُهُمْ، وَيَزْلَقُ الطَّرِيقَ، وَيَجْعَلُ فِيهَا الطِّينَ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، أَوْ تَجَدَّدَتْ الطَّرِيقُ بَعْدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 نَصْبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ. [فَصْلٌ لَا يُفْتَح فِي الْحَائِط الْمُشْتَرَكِ طَاقَا وَلَا بَابًا] فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَحَ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ طَاقًا وَلَا بَابًا، إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْرِزَ فِيهِ وَتَدًا، وَلَا يُحْدِثَ عَلَيْهِ حَائِطًا وَلَا يَسْتُرَهُ، وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعَ تَصَرُّفٍ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْحَائِطِ بِمَا يَضْرِبُهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَنَقْضِهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي حَائِطِ جَارِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ؛ إذَا لَمْ يَجُزْ فِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَفِيمَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ أَوْلَى. وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، جَازَ. وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ، وَإِسْنَادُ شَيْءٍ لَا يَضُرُّهُ إلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهِ. [فَصْلٌ وَضَعَ خَشَبَة عَلَى حَائِط غَيْره] (3525) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ لِضَعْفِهِ عَنْ حَمْلِهِ، لَمْ يَجُزْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لَا ذَكَرْنَا، وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.» وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ، إلَّا أَنَّ بِهِ غَنِيَّةً عَنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ، لِإِمْكَانِ وَضْعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ حَائِطٍ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَى جَوَازِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى جِدَارِهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ، كَأَخْذِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْفَسْخِ بِالْخِيَارِ أَوْ بِالْعَيْبِ، اتِّخَاذِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وَإِبَاحَةِ السَّلَمِ، وَرُخَصِ السَّفَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى وَضْعِهِ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ، أَوْ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْقِيفُ بِدُونِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَضْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ لَهُ وَضْعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَزِرَاعَتِهِ. وَلَنَا، الْخَبَرُ وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِحَائِطِ جَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِهِ، أَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ إلَيْهِ وَالِاسْتِظْلَالَ بِهِ، وَيُفَارِقُ الزَّرْعَ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَلَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَاشْتَرَطَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ حِيطَانٍ، وَلِجَارِهِ حَائِطٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ هَذَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، إنَّمَا قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: لَا يَمْنَعُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ، وَكَانَ الْحَائِطُ يَبْقَى. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ التَّسْقِيفُ عَلَى حَائِطَيْنِ إذَا كَانَا غَيْرَ مُتَقَابِلَيْنِ، أَوْ كَانَ الْبَيْتُ وَاسِعًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا ثُمَّ يَضَعُ الْخَشَبَ عَلَى ذَلِكَ الْجِسْرِ. وَالْأَوْلَى اعْتِبَارُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ التَّسْقِيفِ بِدُونِهِ. وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْبَالِغِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَضْعُهُ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ خَشَب الْحَائِط] (3526) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَضْعُهُ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، إذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 إحْدَاهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ، مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ. نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهًا لِلْمَنْعِ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ فِي مِلْكِ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِلْوَاضِعِ فِيهِ حَقٌّ فَلَأَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُخْتَصِّ بِغَيْرِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ فِي حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ حَقَّهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ؛ لِغِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ مَعَ شُحِّهِ وَضِيقِهِ أَوْلَى. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تُجِيزُونَ فَتْحَ الطَّاقِ وَالْبَابِ فِي الْحَائِطِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى وَضْعِ الْخَشَبِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْخَشَبَ يُمْسِكُ الْحَائِطَ وَيَنْفَعُهُ، بِخِلَافِ الطَّاقِ وَالْبَابِ، فَإِنَّهُ يُضْعِفُ الْحَائِطَ، لِأَنَّهُ يَبْقَى مَفْتُوحًا فِي الْحَائِطِ، وَاَلَّذِي يَفْتَحُهُ لِلْخَشَبَةِ يَسُدُّهُ بِهَا، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْخَشَبِ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [فَصْل مِلْك وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَالَ بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ ثُمَّ أُعِيدَ] (3527) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ، فَزَالَ بِسُقُوطِهِ، أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ، فَلَهُ إعَادَةُ خَشَبِهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ، فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ. وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ، مِثْلُ أَنْ يُخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ وَضْعِهِ، لَمْ تَجُزْ إعَادَتُهُ؛ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ. وَإِنْ خِيفَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ وَضْعِهِ، لَزِمَ إزَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْمَالِكِ، وَيَزُولُ الْخَشَبُ. وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ، لَكِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ إبْقَائِهِ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْ إزَالَتُهُ؛ لِأَنَّ فِي إزَالَتِهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ فِي إبْقَائِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَشِيَ سُقُوطَهُ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ وَضَعَ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ] (3528) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ، لَمْ يَمْلِكْ إعَارَتَهُ وَلَا إجَارَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ، كَطَعَامِ غَيْرِهِ إذَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إعَارَةَ الْحَائِطِ، أَوْ إجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَنْعِهِ. وَلَوْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْحَقِّ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى هَدْمِهِ لِلْخَوْفِ مِنْ انْهِدَامِهِ، أَوْ لِتَحْوِيلِهِ إلَى مَكَان آخَرَ أَوْ لِغَرَضِ صَحِيحٍ مَلَكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 صَاحِبَ الْخَشَبِ إنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُ لِلْإِرْفَاقِ بِهِ، مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ، فَمَتَى أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ زَالَ الِاسْتِحْقَاقُ؛ لِزَوَالِ شَرْطِهِ. [فَصْلٌ أَذِنَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِجَارِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى حَائِطِهِ] (3529) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِجَارِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى حَائِطِهِ، أَوْ وَضْعِ سُتْرَةٍ عَلَيْهِ، أَوْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ وَضْعَهُ، جَازَ، فَإِذَا فَعَلَ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، صَارَتْ الْعَارِيَّةُ لَازِمَةً، فَإِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَعِيرَ إزَالَةُ مَا فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ اقْتَضَى الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ، وَفِي الْقَلْعِ إضْرَارٌ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمُعِيرُ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلدَّفْنِ وَالْغِرَاسِ، لَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِنَقْلِ الْمَيِّتِ وَالْغِرَاسِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ. وَإِنْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَدْ اسْتَحَقَّ تَبْقِيَةَ الْخَشَبِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَبْقِيَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْدَمًا، فَلَهُ نَقْضُهُ. وَعَلَى صَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْخَشَبِ إزَالَتُهُ. وَإِذَا أُعِيدَ الْحَائِطُ لَمْ يَمْلِكْ الْمُسْتَعِيرُ رَدَّ بِنَائِهِ وَخَشَبِهِ إلَّا بِإِذْنِ جَدِيدٍ، سَوَاءٌ بَنَاهُ بِآلَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَكَذَا لَوْ قَلَعَ الْمُسْتَعِيرُ خَشَبًا، أَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إلَّا بِإِذْنِ مُسْتَأْنَفٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْقَلْعِ إنَّمَا كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَهَا هُنَا قَدْ حَصَلَ الْقَلْعُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ فَانْقَلَعَ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالُوا فِي الْآخَرِ: ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ بَقَاءَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِبْقَاءَ ضَرُورَةَ دَفْعِ ضَرَرِ الْقَلْعِ، وَقَدْ حَصَلَ الْقَلْعُ هَاهُنَا، فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ. وَإِنْ قَلَعَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ذَلِكَ عُدْوَانًا، كَانَ لِلْآخَرِ إعَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أُزِيلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، تَعَدِّيًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَمْ يَسْقُطْ الْحَقُّ عَنْهُ بِعُدْوَانِهِ. وَإِنْ أَزَالَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُهُ إعَادَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ. [فَصْلٌ أَذِنَ لَهُ فِي وَضَعَ خَشَبه أَوْ الْبِنَاء عَلَى جِدَارِهِ بِعِوَضِ] (3530) فَصْلٌ: وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِ خَشَبِهِ، أَوْ الْبِنَاءِ عَلَى جِدَارِهِ بِعِوَضٍ، جَازَ سَوَاءٌ كَانَ إجَارَةً فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ صُلْحًا عَلَى وَضْعِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَمَتَى زَالَ فَلَهُ إعَادَتُهُ، سَوَاءٌ زَالَ لِسُقُوطِهِ، أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ بِعِوَضٍ، وَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَعْلُومَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَالسُّمْكِ، وَالْآلَاتُ مِنْ الطِّينِ وَاللَّبَنِ، وَالْآجُرُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْتَلِفُ فَيُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَإِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ الْخَشَبُ، فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، سُقُوطًا لَا يَعُودُ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَرَجَعَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ. وَإِنْ أُعِيدَ رَجَعَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي سَقَطَ الْبِنَاءُ وَالْخَشَبُ عَنْهُ. وَإِنْ صَالَحَهُ مَالِكُ الْحَائِطِ عَلَى رَفْعِ بِنَائِهِ أَوْ خَشَبِهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، جَازَ كَمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى وَضْعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا صَالَحَهُ بِهِ مِثْلَ الْعِوَضِ الَّذِي صُولِحَ بِهِ عَلَى وَضْعِهِ، أَوْ أَقَلِّ أَوْ أَكْثَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا عِوَضٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 مِيزَابٌ، أَوْ غَيْرُهُ فَصَالَحَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، لِيُزِيلَهُ عَنْهُ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ أَوْ الْحَائِطُ قَدْ سَقَطَ، فَصَالَحَهُ بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ لَا يُعِيدَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مِنْهُ، جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَيْعٌ. [فَصْلٌ وَجَدَ بِنَاؤُهُ أَوْ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ حَائِطِ جَارِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبَهُ] فَصْل: وَإِذَا وُجِدَ بِنَاؤُهُ أَوْ خَشَبُهُ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ، أَوْ حَائِطِ جَارِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُهُ، فَمَتَى زَالَ فَلَهُ إعَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ بِحَقٍّ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَزُولُ هَذَا الظَّاهِرُ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مَسِيلُ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ مَجْرَى مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَهُ بِحَقٍّ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْيَدِ الثَّابِتَةِ. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، هَلْ هُوَ بِحَقٍّ أَوْ بِعُدْوَانٍ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْخَشَبِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَسِيلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ. [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُل دَارًا فِي يَدِ أَخَوَيْنِ فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا] (3532) فَصْل: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ أَخَوَيْنِ، فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِعِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ، وَلِأَخِيهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ: هَذِهِ لَنَا وَرِثْنَاهَا جَمِيعًا عَنْ أَبِينَا أَوْ أَخِينَا. فَيُقَال: إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ قَالَ: وَرِثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا. فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمِلْكَ لِأَخِيهِ الْمُقِرَّ لَمْ يَزُلْ، وَأَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ، فَيُؤَاخَذُ بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شُفْعَةً. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِيَّ حُكْمًا؛ وَقَدْ رَجَعَ إلَى الْمُقِرِّ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ مُعْتَرَفٌ بِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ فَتَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتَقَلَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ إلَى الْمُدَّعِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَلَا يَتَنَافَى إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ، كَحَالَةِ إطْلَاقِ الْإِنْكَارِ وَهَذَا أَصَحُّ. [مَسْأَلَةٌ تَدَاعَى نَفْسَانِ جِدَارًا مَعْقُودًا بِبِنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا] (3533) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَدَاعَى نَفْسَانِ جِدَارًا مَعْقُودًا بِبِنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، تَحَالَفَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا. وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، كَانَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَعْقُودًا بِبِنَائِهِمَا مَعًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، كَهَذِهِ الْفَطَائِرِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُ اتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، أَيْ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِبِنَائِهِمَا الِاتِّصَالَ الْمَذْكُورَ، بَلْ بَيْنَهُمَا شَقٌّ مُسْتَطِيلٌ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ اللَّذَيْنِ أُلْصِقَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِ الْحَائِطِ، أَنَّهُ لَهُ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُهُ عَلَى نِصْفِ الْحَائِطِ؛ لِكَوْنِ الْحَائِطِ فِي أَيْدِيهِمَا. وَإِنْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْحَائِطِ، أَنَّهُ لَهُ، وَمَا هُوَ لِصَاحِبِهِ، جَازَ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْعَيْنِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، كَانَتْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي نِصْفِهَا مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، تَعَارَضَتَا، وَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَا عَنْ الْيَمِينِ، كَانَ الْحَائِطُ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى مَا كَانَ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، قُضِيَ عَلَى النَّاكِلِ، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يُرَجَّحُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْبِنَاءِ بُنِيَ كُلُّهُ بِنَاءً وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُ لِرَجُلِ، كَانَ بَقِيَّتُهُ لَهُ، وَالْبِنَاءُ الْآخَرُ الْمَحْلُولُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ بُنِيَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ بُنِيَ مَعَ هَذَا، كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِغَيْرِ صَاحِبِ هَذَا الْحَائِطِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بِهَذَا، كَالْيَدِ وَالْأَزَجِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ تَجْعَلُوهُ لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِيَقِينٍ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَنَى الْحَائِطَ لِصَاحِبِهِ تَبَرُّعًا مَعَ حَائِطِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ، أَوْ بَنَاهُ بِأُجْرَةِ، فَشُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ أَجْلِ الِاحْتِمَالِ، كَمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ وَسَائِرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَقْدًا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ، مِثْلُ الْبِنَاءِ بِاللَّبِنِ وَالْآجُرِّ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْزَعَ مِنْ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ نِصْفَ لَبِنَةٍ أَوْ آجُرَّةً، أَوْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا لَبِنَةً صَحِيحَةً أَوْ آجُرَّةً صَحِيحَةً تُعْقَدُ بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُرَجَّحُ بِهَذَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَعَلَ هَذَا لِيَتَمَلَّكَ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِهَذَا الِاتِّصَالِ، كَمَا يُرَجَّحُ بِالِاتِّصَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ لَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، بِنَزْعِ آجُرِّهِ، وَتَغْيِيرِ بِنَائِهِ، وَفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بِهَذَا، كَمَا يُرَجَّحُ بِالْيَدِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدًا عَادِيَةً، حَدَثَتْ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ الْعَارِيَّة أَوْ الْإِجَارَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ التَّرْجِيحَ بِهَا. [فَصْلٌ كَانَ لَأَحَدِهِمَا بِنَاءٌ كَحَائِطِ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ] (3534) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ بِنَاءٌ، كَحَائِطٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ، أَوْ عَقْدٍ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ، أَوْ قُبَّةٍ وَنَحْوهَا فَهُوَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ وَضْعَ بِنَائِهِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 فَجَرَى مَجْرَى كَوْنِ حِمْلِهِ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَزَرْعِهِ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ يَبْنِي عَلَى حَائِطِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ خَشَبَةٌ طَرَفُهَا تَحْتَ حَائِطٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، أَوْ لَهُ عَلَيْهَا أَزَجٌ مَعْقُودٌ، فَالْحَائِطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَشَبَةَ لِمَنْ يَنْفَرِدُ بِوَضْعِ بِنَائِهِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْبِنَاءِ لَهُ. (3535) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ. وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ. وَعِنْدَنَا إنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ التَّمْكِينُ مِنْهُ. فَلَمْ تُرَجَّحْ بِهِ الدَّعْوَى، كَإِسْنَادِ مَتَاعِهِ إلَيْهِ، وَتَجْصِيصِهِ وَتَزْوِيقِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَجَّحَ بِهِ الدَّعْوَى. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ، وَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ، لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، بِدَلِيلِ أَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوَضْعِهِ عَلَى كَوْنِ الْوَضْعِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الدَّوَامِ، حَتَّى مَتَى زَالَ جَازَتْ إعَادَتُهُ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُسْتَحَقًّا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ إلَى وَضْعِهِ، فَفِيمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ وَضْعِهِ. وَأَمَّا السَّمَاحُ بِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرِ النَّاسِ لَا يَتَسَامَحُونَ بِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، طَأْطَئُوا رُءُوسَهُمْ، كَرَاهَةً لِذَلِكَ، فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَ التَّمْكِينَ مِنْ هَذَا، وَيَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَنْعِ لَا عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَلِأَنَّ الْحَائِطَ يَبْنِي لِذَلِكَ، فَيُرَجَّحُ بِهِ، كَالْأَزَجِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يَبْنِي لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يَبْنِي لَهُمَا وَلَنَا، أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْحَائِطِ، فَاسْتَوَى فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى بِهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالْبِنَاءِ. (3536) فَصْلٌ: وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْخَوَارِجِ وَوُجُوهِ الْآجُرِّ وَالْحِجَارَةِ، وَلَا كَوْنِ الْآجُرَّةِ الصَّحِيحَةِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا وَأَقْطَاعِ الْآجُرِّ إلَى مِلْكِ الْآخَرِ، وَلَا بِمَعَاقِدِ الْقِمْطِ فِي الْخُصِّ، يَعْنِي عَقْدَ الْخُيُوطِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الْخُصُّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقِمْطِ؛ لِمَا رَوَى نَمِرُ بْنُ حَارِثَةَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ قَوْمًا اخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُصٍّ، فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ يَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقِمْطِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 أَصَبْت، وَأَحْسَنْت» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إلَيْهِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَلِأَنَّ وَجْهَ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدَ الْقِمْطِ إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إلَى أَحَدِهِمَا، إذْ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَبَطَلَتْ دَلَالَتُهُ كَالتَّزْوِيقِ، وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلزِّينَةِ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيقَ. وَحَدِيثُهُمْ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ الشَّالَنْجِيُّ: ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ، فَلَمْ يُقْنِعْهُ، وَذَكَرْته لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا حَدِيثًا. وَلَمْ يُصَحِّحْهُ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِيهِ مَقَالٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُرْفِ لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَعْلُ وَجْهِ الْحَائِطِ إلَى خَارِجٍ لِيَرَاهُ النَّاسُ، كَمَا يَلْبَسُ الرَّجُلُ أَحْسَنَ أَثْوَابِهِ، أَعْلَاهَا الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ، لِيَرَوْهُ، فَيَتَزَيَّنُ بِهِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ. (3537) . فَصْلٌ: وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالتَّزْوِيقِ وَالتَّحْسِينِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَهُ عَلَى الْآجُرِّ سُتْرَةٌ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُتَسَامَحُ بِهِ، وَيُمْكِنُ إحْدَاثُهُ. [فَصْل تُنَازِع صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي حَوَائِطِ الْبَيْتِ السفلاني] (3538) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ، فِي حَوَائِطِ الْبَيْتِ السُّفْلَانِيِّ، فَهِيَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِهَا، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيْتِ، فَكَانَتْ لِصَاحِبِهِ. وَإِنْ تَنَازَعَا حَوَائِطَ الْعُلْوِ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ تَنَازَعَا السَّقْفَ، تَحَالَفَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ السَّقْفَ عَلَى مِلْكِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا سَرْجًا عَلَى دَابَّةِ أَحَدِهِمَا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِهَا، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ. وَحُكِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ السُّكْنَى إلَّا بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، يَنْتَفِعَانِ بِهِ، غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ الْبُنْيَانِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا، كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ: هُوَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ السُّفْلِ. يَبْطُلُ بِحِيطَانِ الْعُلْوِ، وَلَا يُشْبِهُ السَّرْجَ عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُ صَاحِبِهَا، وَلَا يُرَادُ إلَّا لَهَا، فَكَانَ فِي يَدِهِ. وَهَذَا السَّقْفُ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سَمَاءُ صَاحِبِ السُّفْلِ يُظِلُّهُ، وَأَرْضُ صَاحِبِ الْعُلْوِ تُقِلُّهُ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ. [فَصْلٌ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَصْعَدُ مِنْهَا] (3539) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَصْعَدُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتِهَا مِرْفَقٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، كَسُلَّمِ مُسَمَّرًا، أَوْ دَكَّةٍ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْيَدَ وَالتَّصَرُّفَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهَا مَصْعَدُ صَاحِبِ الْعُلْوِ لَا غَيْرُ. وَالْعَرْصَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الدَّرَجَةُ لَهُ أَيْضًا؛ لِانْتِفَاعِهِ بِهَا وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا بُنِيَتْ لِأَجْلِهِ، لِتَكُونَ مَدْرَجًا لِلْعُلْوِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ يَدَيْهِمَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا سَقْفٌ لِلسُّفْلَانِيِّ، وَمَوْطِئٌ لِلْفَوْقَانِيِّ، فَهِيَ كَالسَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ تَحْتِهَا طَاقَ صَغِيرٌ لَمْ تُبْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 الدَّرَجَةُ لِأَجَلِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ مِرْفَقًا يُجْعَلُ فِيهِ جُبُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ؛ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِأَجْلِهِ وَحْدَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا عَلَيْهَا، وَانْتِفَاعَهُمَا حَاصِلٌ بِهَا، فَهِيَ كَالسَّقْفِ. [فَصْلٌ تَنَازَعَا مُسَنَّاةً بَيْنَ نَهْرِ أَحَدِهِمَا وَأَرْضِ الْآخَرِ] (3540) فَصْلٌ: وَلَوْ تَنَازَعَا مُسَنَّاةً بَيْنَ نَهْرِ أَحَدِهِمَا وَأَرْضِ الْآخَرِ، تَحَالَفَا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَهِيَ كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ. [فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ فَانْهَدَمَ] (3541) فَصْلٌ: إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا إعَادَتَهُ فَأَبَى الْآخَرُ مُشْتَرَكٌ، فَانْهَدَمَ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا إعَادَتَهُ، فَأَبَى الْآخَرُ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى إعَادَتِهِ؟ قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُجْبَرُ. نَقَلَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَحَرْبٌ، وَسِنْدِي. قَالَ الْقَاضِي: هِيَ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَعَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَصَحَّحَهُ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إضْرَارًا، فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا، وَعَلَى النَّقْضِ إذَا خِيفَ سُقُوطُهُ عَلَيْهِمَا، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» . وَهَذَا وَشَرِيكُهُ يَتَضَرَّرَانِ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة، لَا يُجْبَرُ. نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ مَالِكُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَالِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى بِنَائِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ، أَوْ لِحَقِّ جَارِهِ، أَوْ لِحَقَّيْهِمَا جَمِيعًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ، وَلَا لِحَقِّ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ جَارُهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجَبًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا. وَفَارَقَ الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهَا دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَالْبِنَاءُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَامَةِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إجْبَارِهِ عَلَى إزَالَةِ الضَّرَرِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، إجْبَارُهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ، بِدَلِيلِ قِسْمَةِ مَا فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرٌ. وَيُفَارِقُ هَدْمَ الْحَائِطِ إذَا خِيفَ سُقُوطُهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ سُقُوطَ حَائِطِهِ عَلَى مَا يُتْلِفُهُ، فَيُجْبَرُ عَلَى مَا يُزِيلُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِالْحَائِطِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي تَرْكِهِ إضْرَارًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا حَصَلَ بِانْهِدَامِهِ، وَإِنَّمَا تَرْكُ الْبِنَاءِ تَرْكٌ لِمَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ، بِدَلِيلِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إضْرَارٌ، لَكِنْ فِي الْإِجْبَارِ إضْرَارٌ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُمْتَنِعُ لَا نَفْعَ لَهُ فِي الْحَائِطِ، أَوْ يَكُونُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ النَّفْعِ، أَوْ يَكُونُ مُعْسِرًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَبْنِي بِهِ، فَيُكَلَّفُ الْغَرَامَةَ مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُجْبَرْ، فَإِنْ أَرَادَ شَرِيكُهُ الْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْحَمْلِ وَرَسْمًا، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْهُ، وَلَهُ بِنَاؤُهُ بِأَنْقَاضِهِ إنْ شَاءَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وَبِنَاؤُهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ وَأَنْقَاضِهِ، فَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمُنْفِقَ عَلَيْهِ إنَّمَا أَنْفَقَ عَلَى التَّالِفِ وَذَلِكَ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ يَمْلِكُهَا. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَالْحَائِطُ مِلْكُهُ خَاصَّةً، وَلَهُ مَنْعُ شَرِيكِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَوَضْعِ خَشَبِهِ وَرُسُومِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَهُ. وَإِذَا أَرَادَ نَقْضَهُ، فَإِنْ كَانَ بَنَاهُ بِآلَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ نَقْضَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ [بِمَا] فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً. فَإِنْ قَالَ شَرِيكُهُ: أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَلَا تَنْقُضْهُ. لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِبْقَاءِ. وَإِنْ أَرَادَ غَيْرُ الْبَانِي نَقْضَهُ، أَوْ إجْبَارَ بَانِيه عَلَى نَقْضِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ بِنَائِهِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ إجْبَارَهُ عَلَى نَقْضِهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْحَائِطِ رَسْمُ انْتِفَاعٍ، وَوَضْعِ خَشَبٍ، قَالَ لَهُ: إمَّا أَنْ تَأْخُذَ مِنِّي نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ انْتِفَاعِي وَوَضْعِ خَشَبِي، وَإِمَّا أَنْ تَقْلَعَ حَائِطَك، لِنُعِيدَ الْبِنَاءَ بَيْنَنَا. فَيَلْزَمُ الْآخَرَ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ رُسُومِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِبِنَائِهِ. وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الِانْتِفَاعَ بِهِ، فَطَالَبَهُ الْبَانِي بِالْغَرَامَةِ أَوْ الْقِيمَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْغَرَامَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ فِي الْبِنَاءِ وَالْإِنْفَاقِ، فَيَلْزَمُهُ مَا أَذِنَ فِيهِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَمَتَى امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَخَذَ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، أَوْ إذْنِ الشَّرِيكِ، رَجَعَ عَلَيْهِ مَتَى قَدَرَ. وَإِنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ، لَمْ يَمْلِكْ الشَّرِيكُ مَنْعَهُ، وَمَا أَنْفَقَ؛ إنْ تَبَرَّعَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِهِ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِآلَتِهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً. فَإِنْ أَرَادَ نَقْضِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَرِيكُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْبِرَ عَلَى بِنَائِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إبْقَائِهِ. [فَصْلٌ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا] (3542) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا حَائِطٌ قَدِيمٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مُبَانَاتِهِ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. رِوَايَةٌ وَاحِدَةً. وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إلَّا فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. [فَصْلٌ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلِ وَالْعُلْوُ لِآخَرَ فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا] (3543) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَالْعُلْوُ لِآخَرَ، فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنْ الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ، فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 إحْدَاهُمَا، يُجْبَرُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً. وَالثَّانِيَة، لَا يُجْبَرُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا. فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ، فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ السُّفْلِ. يَعْنِي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْكُنَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْبَيْتَ إنَّمَا يَبْنِي لِلسُّكْنَى، فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَغَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِالْحِيطَانِ خَاصَّةً، مِنْ طَرْحِ الْخَشَبِ، وَسَمْرِ الْوَتَدِ، وَفَتْحِ الطَّاقِ، وَيَكُونُ لَهُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى إنَّمَا هِيَ إقَامَتُهُ فِي فِنَاءِ الْحِيطَانِ، مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهَا مِنْ خَارِجِ. فَأَمَّا إنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ، وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلَا مُسَاعَدَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ غَيْرُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلَا الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُلْوٌ. وَالثَّانِيَة، يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَشْبَهَ الْحَائِطَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ. [فَصْلٌ كَانَ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ حَائِطٌ لِأَحَدِهِمَا فَانْهَدَمَ] (3544) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ حَائِطٌ لِأَحَدِهِمَا، فَانْهَدَمَ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِنَاءَهُ. أَوْ الْمُسَاعَدَةَ فِي بِنَائِهِ، فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مَالِكَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، كَحَائِطِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ الْآخَرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا الْمُسَاعَدَةَ فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا حَائِطُ السُّفْلِ، حَيْثُ يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى بِنَائِهِ، مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ مَلَكَهُ مُسْتَحِقًّا لِإِبْقَائِهِ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ دَائِمًا، فَلَزِمَ صَاحِبَ السُّفْلِ تَمْكِينُهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَطَرِيقُهُ الْبِنَاءُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِنَاءَهُ، أَوْ نَقْضَهُ بَعْدَ بِنَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً. وَإِنْ أَرَادَ جَارُهُ بِنَاءَهُ، أَوْ نَقْضَهُ أَوْ التَّصَرُّفَ فِيهِ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. [فَصْلٌ هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ] (3545) فَصْلٌ: وَمَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ، أَوْ السَّقْفَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، نَظَرْت، فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ، وَوَجَبَ هَدْمُهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ، وَأَزَالَ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ بِسُقُوطِهِ، وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ إعَادَتُهُ. [فَصْلٌ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ] (3546) فَصْلٌ: فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَمِلْكُهُ بَيْنَهُمَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُصَالِحُ عَلَى بَعْضِ مِلْكِهِ بِبَعْضٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى سُكْنَاهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُحَمِّلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا شَاءَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِجَهَالَةِ الْحِمْلِ فَإِنَّهُ يُحَمِّلُهُ مِنْ الْأَثْقَالِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِحَمْلِهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ. [فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ قَنَاةٌ أَوْ دُولَابٌ فَاحْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ] (3547) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ قَنَاةٌ أَوْ دُولَابٌ، أَوْ نَاعُورَةٌ، أَوْ عَيْنٌ، فَاحْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ، فَفِي إجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يُجْبَرُ هَاهُنَا عَلَى الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ شَرِيكُهُ مِنْ مُقَاسَمَتِهِ، فَيَضُرُّ بِهِ، بِخِلَافِ الْحَائِطِ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُمَا قِسْمَةُ الْعَرْصَةِ. وَالْأَوْلَى التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الْعَرْصَةِ إضْرَارًا بِهِمَا وَالْإِنْفَاقُ أَرْفَقُ بِهِمَا، فَكَانَا سَوَاءً. وَالْحُكْمُ فِي الدُّولَابِ وَالنَّاعُورَةِ، كَالْحُكْمِ فِي الْحَائِطِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِنْقَاقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ الْآخَرِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكَيْهِمَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، فَأَشْبَهَ الْحَائِطَ إذَا بَنَاهُ بِآلَتِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ بِالنَّفَقَةِ، كَحُكْمِ الرُّجُوعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْحَائِطِ، عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلٌ كَانَ لِرَجُلَيْنِ بَابَانِ فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ] (3548) فَصْل: إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ بَابَانِ فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ، أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ مِنْ بَابِ الزُّقَاقِ وَالْآخَرُ فِي دَاخِلِهِ. فَلِلْقَرِيبِ مِنْ الْبَابِ نَقْلُ بَابِهِ إلَى مَا يَلِي بَابِ الزُّقَاقِ؛ لِأَنَّ لَهُ الِاسْتِطْرَاقَ إلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ، فَقَدْ نَقَصَ مِنْ اسْتِطْرَاقِهِ، وَمَتَى أَرَادَ رَدَّ بَابِهِ إلَى مَوْضِعِهِ الْأَوَّلِ، كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ بَابِهِ تِلْقَاءَ صَدْرِ الزُّقَاقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ بَابَهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا اسْتِطْرَاقَ لَهُ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَابَهُ فِي أَوَّلِ الْبِنَاءِ، فِي أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ، فَتَرَكَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ، كَمَا أَنَّ تَحْوِيلَهُ بَعْدَ فَتْحِهِ لَا يُسْقِطُ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ حَائِطَهُ كُلَّهُ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ رَفْعِ مَوْضِعِ الْبَابِ وَحْدَهُ. فَأَمَّا صَاحِبُ الْبَابِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ فِي دَاخِلِ الدَّرْبِ بَابٌ لِآخَرَ، فَحُكْمُهُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حُكْمُ صَاحِبِ الْبَابِ الْأَوَّلِ سَوَاءً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَّ بَابٌ آخَرُ، كَانَ لَهُ تَحْوِيلُ بَابِهِ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيمَا تَجَاوَزَ الْبَابَ الْأَوَّلَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ. وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ فِي دَارِهِ بَابًا آخَرَ، أَوْ يَجْعَلَ دَارِهِ دَارَيْنِ، يَفْتَحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا، جَازَ، إذَا وَضَعَ الْبَابَيْنِ فِي مَوْضِعِ اسْتِطْرَاقِهِ. وَإِنْ كَانَ ظَهْرُ دَارِ أَحَدِهِمَا إلَى شَارِعٍ نَافِذٍ، أَوْ زُقَاقٍ نَافِذٍ، فَفَتَحَ فِي حَائِطِهِ بَابًا إلَيْهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَفِقُ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أَحَدٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا إضْرَارٌ بِأَهْلِ الدَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ نَافِذًا يَسْتَطْرِقُ إلَيْهِ مِنْ الشَّارِعِ قُلْنَا: لَا يَصِيرُ الدَّرْبُ نَافِذًا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُ نَافِذَةً، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ اسْتِطْرَاقُ دَارِهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ بَابُهُ فِي الشَّارِعِ، وَظَهْرُ دَارِهِ إلَى الزُّقَاقِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا إلَى الزُّقَاقِ لِلِاسْتِطْرَاقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الدَّرْبِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِلْكُ أَرْبَابِهِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لِغَيْرِ الِاسْتِطْرَاقِ، أَوْ يَجْعَلَ لَهُ بَابًا يُسَمِّرُهُ، أَوْ شُبَّاكًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ رَفْعُ الْحَائِطِ بِجُمْلَتِهِ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ شَكْلَ الْبَابِ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ رُبَّمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حَقِّ الِاسْتِطْرَاقِ، فَيَضُرُّ بِأَهْلِ الدَّرْبِ، بِخِلَافِ رَفْعِ الْحَائِطِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ. [فَصْلٌ لِرَجُلِ دَارَانِ مُتَلَاصِقَتَانِ ظَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى] (3549) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارَانِ مُتَلَاصِقَتَانِ، ظَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، وَبَابُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَرَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَهُمَا دَارًا وَاحِدَةً، جَازَ. وَإِنْ فَتَحَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا إلَى الْأُخْرَى، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّطَرُّقِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى كِلَا الدَّارَيْنِ، لَمْ يَجُزْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الِاسْتِطْرَاقَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ مِنْ دَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ طَرِيقٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا بِالطَّرِيقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ فِي زُقَاقِ الْأُخْرَى. وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ رَفْعَ الْحَاجِزِ جَمِيعِهِ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى، وَهَذَا أَشْبَهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْمَنْعِ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا رَفَعَ الْحَائِطَ جَمِيعَهُ. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. إذَا صَالَحَهُ أَهْلُ الدَّرْبِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، أَوْ أَذِنُوا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، جَازَ. [فَصْلٌ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْبَابَيْنِ فِي الدَّرْبِ وَتَدَاعَيَاهُ] (3550) فَصْلٌ: إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الْبَابَيْنِ فِي الدَّرْبِ، وَتَدَاعَيَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَابٌ لَغَيْرِهِمَا. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالدَّرْبِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي أَوَّلَهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لَهُمَا الِاسْتِطْرَاقَ فِيهِ جَمِيعًا، وَمَا بَعْدَهُ إلَى صَدْرِ الدَّرْبِ لِلْأُخَرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطْرَاقَ فِي ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَهُ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى أَقْصَى حَائِطِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ لَهُمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ حَائِطِهِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِنَاءٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَا لَهُ فِيهِ اسْتِطْرَاقٌ. وَالثَّالِثُ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لَهُمَا جَمِيعًا يَدًا وَتَصَرُّفًا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ لِرَجُلِ عُلْوُ خَانٍ، وَلِآخَرَ سُفْلُهُ، وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ دَرَجَةٌ فِي أَثْنَاءِ صَحْنِ الْخَانِ، فَاخْتَلَفَا فِي الصَّحْنِ، فَمَا كَانَ مِنْ الدَّرَجَةِ إلَى بَابِ الْخَانِ بَيْنَهُمَا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَى صَدْرِ الْخَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا هُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ. وَالثَّانِي هُوَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ كَانَتْ الدَّرَجَةُ فِي صَدْرِ الصَّحْنِ، فَالصَّحْنُ بَيْنَهُمَا؛ لِوُجُودِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مِنْهُمَا جَمِيعًا. فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إنْ صَدْرَ الدَّرْبِ مُخْتَصٌّ بِصَاحِبِ الْبَابِ الصَّدْرَانِيِّ. لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ دِهْلِيزًا لِنَفْسِهِ، أَوْ يُدْخِلَهُ فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِجَارِهِ، وَلَا يَضَعُ عَلَى حَائِطِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُ يَنْفَرِدُ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 [فَصْلٌ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِجَارِهِ] (3551) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِجَارِهِ، نَحْو أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ حَمَّامًا بَيْنَ الدُّورِ، أَوْ يَفْتَحَ خَبَّازًا بَيْنَ الْعَطَّارِينَ، أَوْ يَجْعَلَهُ دُكَّانَ قِصَارَةٍ يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيُخَرِّبُهَا، أَوْ يَحْفِرَ بِئْرًا إلَى جَانِبِ بِئْرِ جَارِهِ يَجْتَذِبُ مَاءَهَا. وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَة أُخْرَى: لَا يُمْنَعُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَمَا لَوْ طَبَخَ فِي دَارِهِ أَوْ خَبَزَ فِيهَا، وَسَلَّمُوا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيَنْثِرُهَا. وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِأَنَّ هَذَا إضْرَارٌ بِجِيرَانِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَالدَّقِّ الَّذِي يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيَنْثِرُهَا، وَكَسَقْيِ الْأَرْضِ الَّذِي يَتَعَدَّى إلَى هَدْمِ حِيطَانِ جَارِهِ، أَوْ إشْعَالِ نَارٍ تَتَعَدَّى إلَى إحْرَاقِهَا. قَالُوا: هَاهُنَا تَعَدَّتْ النَّارُ الَّتِي أَضْرَمَهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَكَانَ مُرْسِلًا لِذَلِكَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرْسَلَهُ إلَيْهَا قَصْدًا. قُلْنَا: وَالدُّخَانُ هُوَ أَجْزَاءُ الْحَرِيقِ الَّذِي أَحْرَقَهُ، فَكَانَ مُرْسِلًا لَهُ فِي مِلْكِ جَارِهِ، فَهُوَ كَأَجْزَاءِ النَّارِ وَالْمَاءِ. وَأَمَّا دُخَانُ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ يَسِيرٌ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَتَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ. [فَصْلٌ كَانَ سَطْح أَحَدِهِمَا أَعْلَى مِنْ سَطْحِ الْآخَرَ] (3552) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ سَطْحُ أَحَدِهِمَا أَعْلَى مِنْ سَطْحِ الْآخَرَ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى الصُّعُودُ عَلَى سَطْحِهِ عَلَى وَجْهٍ يُشْرِفُ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ، إلَّا أَنْ يَبْنِيَ سُتْرَةً تَسْتُرُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ عَمَلُ سُتْرَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَلَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ، كَالْأَسْفَلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إضْرَارٌ بِجَارِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَدَقِّ يَهُزُّ الْحِيطَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ جَارَهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى حُرُمِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ بَابِهِ أَوْ خَصَاصِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ إلَيْك، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْت عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْك جُنَاحٌ» . وَيُفَارِقُ الْأَسْفَلَ؛ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَضُرُّ بِالْأَعْلَى، وَلَا يَكْشِفُ دَارِهِ. [فَصْلٌ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ حَائِطٍ فَاتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهَا طُولًا] (3553) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ حَائِطٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى قَسْمَهَا طُولًا، جَازَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهَا طُولًا أَوْ عَرْضًا؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمَا، وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُمَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا طُولًا وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نِصْفُ الطُّولِ فِي جَمِيعِ الْعَرْضِ، وَلِلْآخَرِ مِثْلُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقِسْمَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ. فَإِذَا اقْتَسَمَا اقْتَرَعَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَخْرُجُ بِهِ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَبْنِيٍّ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُدْخِلَ بَعْضَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 عَرْصَتِهِ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ فِي حَائِطِهِ مِنْ عَرْصَتِهِ فَعَلَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الْحَائِطِ الْمُقَابِلِ لِمِلْكِ شَرِيكِهِ، وَزَوَالَ مِلْكِ شَرِيكِهِ، فَيَتَضَرَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَائِطٍ يَسْتُرُ مِلْكَهُ، وَرُبَّمَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَبْنِيَ حَائِطَهُ، فَيَبْقَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكْشُوفًا، أَوْ يَبْنِيه وَيَمْنَعُ جَارَهُ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا تَمَكَّنَ أَيْضًا مِنْ مَنْعِ شَرِيكِهِ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ رَسْمُ وَضْعِ خَشَبِهِ، أَوْ انْتِفَاعٌ بِهِ، لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ رَسْمِهِ، وَهَا هُنَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا إنْ طَلَبَ قَسْمَهَا عَرْضًا، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعَرْضِ فِي كَمَالِ الطُّولِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَتْ الْعَرْصَةُ لَا تَتَّسِعُ لِحَائِطَيْنِ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهَا عَرْصَةٌ، فَأُجْبِرَ عَلَى قَسْمِهَا، كَعَرْصَةِ الدَّارِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي قَسْمِهَا ضَرَرًا، فَلَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا عَلَيْهِ، كَالدَّارِ الصَّغِيرَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ تَتَّسِعُ لِحَائِطَيْنِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَبْنِي فِيهِ حَائِطًا، فَفِي إجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ. قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، فَأَشْبَهَ عَرْصَةَ الدَّارِ الَّتِي يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَبْنِي فِيهِ دَارًا. وَالثَّانِي، لَا يُجْبَرُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَا تَقَعُ فِيهَا قُرْعَةٌ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَخْرُجَ قُرْعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَلِي مِلْكَ جَارِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَلَوْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى الْقِسْمَةِ لَأَجْبَرْنَاهُ عَلَى أَخْذِ مَا يَلِي دَارِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَمَتَى اقْتَسَمَا الْعَرْصَةَ طُولًا، فَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ حَائِطًا، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا عَلَى سَدِّهَا، وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَدِّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى بِنَاءِ الْحَائِطِ فِي عَرْصَتِهِ. [فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ فَاتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ طُولًا] (3554) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ طُولًا، جَازَ، وَيُعَلَّمُ بَيْنَ نَصِيبِهِمَا بِعَلَامَةٍ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ عَرْضًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَأَشْبَهَ الْعَرْصَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَهَا هُنَا لَا يَتَمَيَّزُ، وَلَا يُمْكِنُ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ إنْ وَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْ الْحَائِطِ، كَانَ ثِقْلُهُ عَلَى الْحَائِطِ كُلِّهِ، وَإِنْ فَتَحَ فِيهِ طَاقًا يُضْعِفُهُ، ضَعُفَ كُلُّهُ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُهُ، تَضَرَّرَ النَّصِيبُ الْآخَرُ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسَمَهُ وَأَبَى الْآخَرُ، فَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحَائِطِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 كَالْحُكْمِ فِي عَرْصَتِهِ، سَوَاءٌ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَسْمِ الْحَائِطِ، إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهُ طُولًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى قَسْمِهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ قَطَعَاهُ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ أَتْلَفَا جُزْءًا مِنْ الْحَائِطِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَطْعَهُ. وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ وَعَلَّمَا عَلَامَةَ عَلَى نِصْفِهِ، كَانَ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ انْتِفَاعًا بِنَصِيبِ الْآخَرِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَسْمِ الدَّارِ وَقَسْمِ حَائِطِهَا الْمُحِيطِ بِهَا، وَكَذَلِكَ قَسْمِ الْبُسْتَانِ وَحَائِطِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ الْمُضِرِّ، بَلْ يُعَلِّمُهُ بِخَطِّ بَيْنَ نَصِيبِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِ الْآخَرِ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ، بِدَلِيلِ الْحَائِطِ الْمُتَّصِلِ فِي دَارَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَاب الْحَوَالَة] ِ وَالضَّمَانِ الْحَوَالَةُ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ» وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الْحَوَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاشْتِقَاقِهَا مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا بَيْعٌ، فَإِنَّ الْمُحِيلَ يَشْتَرِي مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَالِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَجَازَ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الرِّفْقِ، فَيَدْخُلُهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَقْدُ إرْفَاقٍ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا جَازَتْ، لِكَوْنِهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَمَّا جَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الرَّبَّا بِجِنْسِهِ. وَلَجَازَتْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَلَجَازَتْ بَيْنَ جِنْسَيْنِ، كَالْبَيْعِ كُلِّهِ. وَلِأَنَّ لَفْظَهَا يُشْعِرُ بِالتَّحَوُّلِ لَا بِالْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ، وَتَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ. وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُحِيلٍ وَمُحْتَالٍ وَمُحَالٍ عَلَيْهِ. وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رِضَى الْمُحِيلِ، بِلَا خِلَافٍ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ جِهَةُ قَضَائِهِ. وَأَمَّا الْمُحْتَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ] (3555) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَرَضِيَ، فَقَدْ بَرِئَ الْمُحِيلُ أَبَدًا) . مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا، تَمَاثُلُ الْحَقَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَحْوِيلٌ لِلْحَقِّ وَنَقْلٌ لَهُ، فَيُنْقَلُ عَلَى صِفَتِهِ، وَيُعْتَبَرُ تَمَاثُلُهُمَا فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا، الْجِنْسُ. فَيُحِيلُ مَنْ عَلَيْهِ ذَهَبٌ بِذَهَبٍ، وَمَنْ عَلَيْهِ فِضَّةٌ بِفِضَّةٍ. وَلَوْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ ذَهَبٌ بِفِضَّةٍ، أَوْ مَنْ عَلَيْهِ فِضَّةٌ بِذَهَبٍ، لَمْ يَصِحَّ. الثَّانِي، الصِّفَةُ. فَلَوْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ صِحَاحٌ بِمُكَسَّرَةٍ، أَوْ مَنْ عَلَيْهِ مِصْرِيَّةٌ بِأَمِيرِيَّةٍ، لَمْ يَصِحَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 الثَّالِثُ، الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ. وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ أَجَلِ الْمُؤَجَّلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا، أَوْ أُجِّلَ أَحَدُهُمَا إلَى شَهْرٍ وَالْآخَرُ إلَى شَهْرَيْنِ، لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ. وَلَوْ كَانَ الْحَقَّانِ حَالَّيْنِ، فَشَرَطَ عَلَى الْمُحْتَالِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَتَأَجَّلُ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ مَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ؛ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَهُ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَصَحَّتْ الْحَوَالَةُ، وَتَرَاضَيَا بِأَنْ يَدْفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ خَيْرًا مِنْ حَقِّهِ، أَوْ رَضِيَ الْمُحْتَالُ بِدُونِ الصِّفَةِ، أَوْ رَضِيَ مَنْ عَلَيْهِ الْمُؤَجَّلُ بِتَعْجِيلِهِ، أَوْ رَضِيَ مَنْ لَهُ الْحَالُ بِإِنْظَارِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ، فَفِي الْحَوَالَةِ أَوْلَى. وَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ، أَوْ الْمُحَالُ، فَالْأَجَلُ بِحَالِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَفِي حُلُولِ الْحَقِّ رِوَايَتَانِ، مَضَى ذِكْرُهُمَا. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ. وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يُحِيلَ بِدَيْنٍ [غَيْرِ] مُسْتَقِرٍّ، إلَّا أَنَّ السَّلَمَ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ لَيْسَ بِمُسْتَقَرٍّ لِكَوْنِهِ بِعَرْضِ الْفَسْخِ، لِانْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ إلَّا فِيمَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَالسَّلَمُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» . وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِمَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهِ، وَيَسْقُطُ بِعَجْزِهِ. وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ غَيْرِ دَيْنٍ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فِي الْمُدَايِنَات. وَإِنْ أَحَالَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ بِنَجْمٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، صَحَّ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُكَاتَبِ بِالْحَوَالَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ. وَإِنْ أَحَالَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَإِنْ أَحَالَهَا الزَّوْجُ بِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَهُ تَسْلِيمَهُ إلَيْهَا، وَحَوَالَتُهُ بِهِ تَقُومُ مَقَامَ تَسْلِيمِهِ. وَإِنْ أَحَالَتْ بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ. وَإِنْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، لَمْ يَصِحَّ، فِي قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي بِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَفَاءِ، وَلَهُ الْوَفَاءُ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ. وَإِنْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ، لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا، وَالْبَيْعُ كَانَ لَازِمًا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْجَوَازُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْجَوَازِ عَيْبُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْحَوَالَةِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بِهِ، ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ، كَالزَّوْجَةِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا، أَوْ الْمُشْتَرِي يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَيَرُدُّ الْمَبِيعَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، تَبْطُلُ الْحَوَالَةَ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَائِهَا، وَيَرْجِعُ الْمُحِيلُ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ عَنْ الْمُحِيلِ، فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ، وَثَبَتَ لِلْمُحْتَالِ فَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ، فَكَأَنَّ الْمُحِيلَ أَقْبَضَ الْمُحْتَالَ دَيْنَهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُحْتَالُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وَسَوَاءٌ تَعَذَّرَ الْقَبْضُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَبْطُلْ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَيَرْجِعُ الْمُحِيلُ عَلَى الْمُحْتَالِ بِهِ. (3556) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحَالَ مَنْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ رَجُلًا عَلَى آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَوَالَةٍ، بَلْ هِيَ وَكَالَةٌ تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُهَا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَحَوُّلِ الْحَقِّ وَانْتِقَالِهِ، وَلَا حَقَّ هَاهُنَا يَنْتَقِلُ وَيَتَحَوَّلُ، وَإِنَّمَا جَازَتْ الْوَكَالَةُ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى؛ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْوَكِيلِ مُطَالَبَةَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، كَاسْتِحْقَاقِ الْمُحْتَالِ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَتَحُولُ ذَلِكَ إلَى الْوَكِيلِ كَتَحَوُّلِهِ إلَى الْمُحِيلِ. وَإِنْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَتْ حَوَالَةً أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَلَا يَلْزَمُهُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَلَا الْمُحْتَالُ قَبُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُعَاوَضَةٌ، وَلَا مُعَاوَضَةَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَاضٌ. فَإِنْ قَبَضَ الْمُحْتَالُ مِنْهُ الدَّيْنَ، رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ؛ لِأَنَّهَا بَرَاءَةُ لِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّيْنَ، ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ، رَجَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا عَادَ إلَيْهِ الْمَالُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مَا غَرِمَ عَنْهُ شَيْئًا. وَإِنْ أَحَالَ مَنْ لَا دَيْنٍ عَلَيْهِ فَهِيَ وَكَالَةٌ فِي اقْتِرَاضٍ وَلَيْسَتْ حَوَالَةً، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِدَيْنٍ عَلَى دَيْنٍ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. (3557) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ تَكُونَ بِمَالٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ بَيْعًا فَلَا تَصِحُّ فِي مَجْهُولٍ، وَإِنْ كَانَتْ تُحَوِّلُ الْحَقَّ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا التَّسْلِيمُ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَصِحُّ بِكُلِّ مَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ مِنْ الْأَثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، وَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ الْحَوَالَةِ تَسَاوِي الدَّيْنَيْنِ، فَأَمَّا مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَّمَا غَيْرَ الْمِثْلِيَّاتِ، كَالْمَذْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ، فَفِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ فِيهِ لَا يَتَحَرَّرُ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ فِي الْإِتْلَافِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ مَالَهُ مِثْلٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَرَّجَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا يَقْتَضِي بِهِ قَرْضَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ الدِّيَةِ وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِثْلُهَا فِي السِّنِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي السِّنِّ وَالْقِيمَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَصِحُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ لَيْسَتْ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تُضْمَنُ بِمِثْلِهَا فِي الْإِتْلَافِ، وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا. فِي رِوَايَةٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ دِيَةٍ، وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِثْلُهَا قَرْضًا، فَأَحَالَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَرُدُّ فِي الْقَرْضِ قِيمَتَهَا. لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةِ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 قُلْنَا: يَرُدُّ مِثْلَهَا. اقْتَضَى قَوْلُ الْقَاضِي صِحَّةَ الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ عَلَى صِفَتِهِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْخِيرَةَ فِي التَّسْلِيمِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ. وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ، فَاحْتَالَ الْمُقْرِضُ بِإِبِلِ الدِّيَةِ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا: تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْقَرْضِ. فَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الْمِثْلُ. فَلِلْمُقْرِضِ مِثْلُ مَا أَقْرَضَ فِي صِفَاتِهِ وَقِيمَتِهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الدِّيَةُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. (3558) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يُحِيلَ بِرِضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ مِنْ جِهَةِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فَإِذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُ الْحَوَالَةِ وَصَحَّتْ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْحَوَالَةَ بَرَاءَةً إلَّا أَنْ يُبْرِئَهُ. وَعَنْ زَفَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْقُلُ الْحَقَّ. وَأَجْرَاهَا مَجْرَى الضَّمَانِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ، فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ. فَعُلِّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُقْتَضَاهُ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ. إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ، فَمَتَى رَضِيَ بِهَا الْمُحْتَالُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْيَسَارَ، لَمْ يَعُدْ الْحَقُّ إلَى الْمُحِيلِ أَبَدًا، سَوَاءٌ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ، أَوْ تَعَذَّرَ لِمَطْلٍ أَوْ فَلَسٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ، إلَّا أَنْ يَرْضَى بَعْدَ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْفَلَسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ غَرَّهُ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْمَبِيعَ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ: مَتِّي أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ، رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي حَالَيْنِ؛ إذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَإِذَا جَحَدَهُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أُحِيلَ بِحَقِّهِ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَقَالَ: يَرْجِعُ بِحَقِّهِ، لَا تَوَى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَمْ يَسْلَمْ الْعِوَضُ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ، فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ اعْتَاضَ بِثَوْبٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَيْنٌ، فَأَحَالَهُ بِهِ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: اخْتَرْت عَلَيْنَا، أَبْعَدَك اللَّهُ. فَأَبْعَدَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِيَالِهِ، وَلَمْ يُخْبِرُهُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ. وَلِأَنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ دَيْنٍ لَيْسَ فِيهَا قَبْضٌ مِمَّنْ عَلَيْهِ، وَلَا مِمَّنْ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا رُجُوعٌ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ لَمْ يَصِحَّ، يَرْوِيه خَالِدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: فِي حَوَالَةٍ أَوْ كَفَالَةٍ. وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، وَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ قَوْلُ عَلِيٍّ مُخَالِفًا لَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ، بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيُفَارِقُ الْمُعَاوَضَةَ بِالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَبْضًا يَقِفُ اسْتِقْرَارُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ، وَإِلَّا كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. [فَصْلٌ شَرَطَ مُلَاءَة الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَبَانَ مُعْسِرًا] (3559) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ مُلَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَبَانَ مُعْسِرًا، رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَا تُرَدُّ بِالْإِعْسَارِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُلَاءَةَ، فَلَا تُرَدُّ بِهِ، وَإِنْ شَرَطَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ كَوْنَهُ مُسْلِمًا، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِالْإِعْسَارِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . وَلِأَنَّهُ شَرَطَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَيَثْبُتُ الْفَسْخُ بِفَوَاتِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ صِفَةً فِي الْمَبِيعِ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ مَا لَا يَثْبُتُ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ. [فَصْلٌ لَمْ يَرْضَ الْمُحْتَالُ بِالْحَوَالَةِ] (3560) فَصْلٌ: وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْمُحْتَالُ بِالْحَوَالَةِ، ثُمَّ بَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا أَوْ مَيِّتًا، رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ، بِلَا خِلَافٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَالُ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ لِمَا عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ إذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ» وَلَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَلِيءٍ فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى أَعْسَرَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ أَيْضًا، عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِكَوْنِهِ اشْتَرَطَ فِي بَرَاءَةِ الْمُحِيل إبْدَاءَ رِضَى الْمُحْتَالِ. [مَسْأَلَةٌ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ] (3561) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَالَ) الْمَلِيءُ: هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْوَفَاءِ. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضُ الْمَلِيءَ غَيْرَ الْمُعْدِمِ.» وَقَالَ الشَّاعِرُ: تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيئَة ... وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا يَعْنِي قَادِرَةٌ عَلَى وَفَائِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ بِالْمَلِيءِ هَاهُنَا الْقَادِرَ عَلَى الْوَفَاءِ غَيْرَ الْجَاحِدِ وَلَا الْمُمَاطِلِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ الْمَلِيءِ، كَأَنَّ الْمَلِيءَ عِنْدَهُ، أَنْ يَكُونَ مَلِيًّا بِمَالِهِ وَقَوْلِهِ وَبَدَنِهِ وَنَحْو هَذَا. فَإِذَا أُحِيلَ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَزِمَ الْمُحْتَالَ وَالْمُحَالَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، فَيُعْتَبَرُ الرِّضَا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ رِضَى الْمُحْتَالِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِالدَّيْنِ عَرْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 فَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ عَدُوَّهُ. وَلِلشَّافِعِي فِي اعْتِبَارِ رِضَائِهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ. وَهُوَ يَحْكِي عَنْ الزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحَوَالَةُ، فَأَشْبَهَ الْمُحِيلَ. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ مَقَامَ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى رِضَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَالتَّوْكِيلِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . وَلِأَنَّ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُوَفِّيَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ، وَقَدْ أَقَامَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّقْبِيضِ فَلَزِمَ الْمُحَالَ الْقَبُولُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي إبْقَائِهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عَرْضًا؛ لِأَنَّهُ يُعْطِيه غَيْرَ مَا وَجَبَ لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ. [فَصْلٌ أُحَال رَجُلًا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ فَأُحَالَهُ زَيْدٌ بِهَا عَلَى عَمْرٍو] (3562) فَصْلٌ: إذَا أَحَالَ رَجُلًا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفٍ، فَأَحَالَهُ زَيْدٌ بِهَا عَلَى عَمْرٍ فَالْحَوَالَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَصَحَّ أَنْ يُحِيلَ بِهِ، كَالْأَوَّلِ. وَهَكَذَا لَوْ أَحَالَ الرَّجُلُ عَمْرًا عَلَى زَيْدٍ بِمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَتَكَرُّرُ الْمُحْتَالِ وَالْمُحِيلِ لَا يَضُرُّ. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَأُحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ] (3563) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ثَمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ حُرِّيَّته بِبَيِّنَةٍ أَوْ اتِّفَاقِهِمْ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى حُرِّيَّته، وَكَذَّبَهُمَا الْمُحْتَالُ، وَلَا بَيِّنَةَ بِذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ حَقَّهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، ثُمَّ اعْتَرَفَ هُوَ وَبَائِعُهُ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً، لَمْ تُسْمَعْ؛ لِأَنَّهُمَا كَذَّبَاهَا بِدُخُولِهِمَا فِي التَّبَايُعِ. وَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِحُرِّيَّتِهِ، قُبِلَتْ، وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ. وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمُحْتَالُ، وَادَّعَى أَنَّ الْحَوَالَةَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْحَوَالَةِ، وَهُمَا يَدَّعِيَانِ بُطْلَانَهَا، فَكَانَتْ جَنْبَتُهُ أَقْوَى. فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بِالثَّمَنِ، قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَذِّبَاهَا. وَإِنْ اتَّفَقَ الْمُحِيلُ وَالْمُحْتَالُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ، وَكَذَّبَهُمَا الْمُحَالُ عَلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ فِي حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ؛ لِاتِّفَاقِ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَالرَّاجِعِ بِهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ يَعْتَرِفُ لِلْمُحْتَالِ بِدَيْنٍ لَا يُصَدِّقُهُ فِيهِ، فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُحْتَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عَتَقَ؛ لِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ مَعَهُ فِي الْحَوَالَةِ اعْتِرَافٌ بِبَرَاءَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى آخَرَ] (3564) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى آخَرَ، فَقَبَضَهُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِعَيْبٍ، أَوْ مُقَايَلَةٍ، أَوْ اخْتِلَافٍ فِي ثَمَنٍ، فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ بِإِذْنِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، وَيَعُودُ الْمُشْتَرِي إلَى ذِمَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيَبْرَأُ الْبَائِعُ، فَلَا يَبْقَى لَهُ دَيْنٌ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ، وَقَدْ سَقَطَ بِالْفَسْخِ، فَيَجِبُ أَنْ تَبْطُلَ الْحَوَالَةُ لِذَهَابِ حَقِّهِ مِنْ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَوَّضَ الْبَائِعَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مَالَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ حَقَّهُ إلَيْهِ نَقْلًا صَحِيحًا، وَبَرِئَ مِنْ الثَّمَنِ، وَبَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ بِالثَّمَنِ ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، فَسَخَ الْعَقْدَ، لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّوْبِ، كَذَا هَاهُنَا. فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ، رَجَعَ الْمُحِيلُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْبَائِعِ مُعَامَلَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ. رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَيَأْخُذُهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. فَإِنْ عَادَ الْبَائِعُ فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، صَحَّ وَبَرِئَ الْبَائِعُ، وَعَادَ الْمُشْتَرِي إلَى غَرِيمِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَكِنْ أَحَالَ الْبَائِعُ أَجْنَبِيًّا عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَدَّ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ، فَفِي الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُشْتَرِي بَرِئَتْ بِالْحَوَالَةِ مِنْ حِقَّ الْبَائِعَ، وَصَارَ الْحَقُّ عَلَيْهِ لِلْأَجْنَبِيِّ الْمُحْتَالِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْمُحِيلِ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَيُسَلِّمُ إلَى الْمُحْتَالِ مَا أَحَالَهُ بِهِ. وَالثَّانِي، تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ إنْ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِسُقُوطِ الثَّمَنِ الَّذِي كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْحَوَالَةِ هَاهُنَا، فَيَعُودُ الْبَائِعُ بِدَيْنِهِ، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا، كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ. فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، صَحَّ، وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا. [فَصْلٌ رَجُل لَهُ عَلَى آخَر دَيْنٌ فَأَذِنَ لِآخَر فِي قَبْضِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا] (3565) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ، فَأَذِنَ لِآخَرَ فِي قَبْضِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمَأْذُونُ لَهُ، فَقَالَ: وَكَّلْتُك فِي قَبْضِ دَيْنِي بِلَفْظِ التَّوْكِيلِ. فَقَالَ: بَلْ أَحَلْتنِي بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ. أَوْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ: أَحَلْتُك بِدَيْنِك. فَقَالَ: بَلْ وَكَّلْتنِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بَقَاءَ الْحَقِّ عَلَى مَا كَانَ، وَيُنْكِرُ انْتِقَالَهُ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ، فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَالَ: أَحَلْتُك بِالْمَالِ الَّذِي لِي قِبَلَ زَيْدٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُحِيلُ: إنَّمَا وَكَّلْتُك فِي الْقَبْضِ لِي. وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنِي عَلَيْك. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْحَوَالَةِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ فَإِنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَوَالَةِ دُونَ الْوَكَالَةِ، فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي دَارٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وَالثَّانِي، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَالْمُحْتَالُ يَدَّعِي نَقْلَهُ، وَالْمُحِيلُ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَحْلِفُ الْمُحْتَالُ وَيَثْبُتُ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُحِيلِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَحْلِفُ الْمُحِيلُ، وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَ الْحَقَّ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَقَدْ بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ، وَكَانَ الْمُحْتَالُ مُحِقًّا، فَقَدْ أَتْلَفَ مَالَهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا، ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَهُ، فَيَتَقَاصَّانِ، وَيَسْقُطَانِ. وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَالْمُحَالُ قَدْ قَبَضَ حَقَّهُ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، وَبَرِئَ مِنْهُ الْمُحِيلُ بِالْحَوَالَةِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِتَسَلُّمِهِ، وَالْمُحِيلُ يَقُولُ: قَدْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِ وَكِيلِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ. فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَتْلَفْ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ طَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلَ مَا لَهُ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِقَبْضِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَيَمْلِكَ الْمُحْتَالُ مُطَالَبَتَهُ بِدَيْنِهِ. وَقِيلَ: يَمْلِكُ الْمُحِيلُ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَلَا يَمْلِكَ الْمُحْتَالُ الْمُطَالَبَةَ بِدَيْنِهِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَةِ الْمُحِيلِ مِنْهُ بِالْحَوَالَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ إنْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ هَذَا الْمَالَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، فَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ، هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ هَذَا الْمَالِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ، فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِهِ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي لَفْظٍ يُسْمَعُ، وَلَا فِعْلٍ يُرَى، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْمُحِيلُ بَيِّنَةً، وَهَذَا لَا تَشْهَدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. (3566) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ: أَحَلْتُك بِدَيْنِك. فَقَالَ: بَلْ وَكَّلْتنِي. فَفِيهَا الْوَجْهَانِ أَيْضًا؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ. فَحَلَفَ، بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْمُحْتَالِ، وَلِلْمُحْتَالِ قَبَضَ الْمَالِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بُقُولِهِمَا مَعًا، فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ لَهُ بِحَقِّهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ، فَحَلَفَ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ بِحَقِّهِ، وَمُطَالَبَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا وَكِيلٌ وَإِمَّا مُحْتَالٌ. فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ قَبْلَ أَخْذِهِ مِنْ الْمُحِيلِ، فَلَهُ أَخْذُ مَا قَبَضَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَقُولُ: هُوَ لَك. وَالْمُحْتَالُ يَقُولُ: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِي، وَلِي مِثْلُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ ضِمْنًا. فَإِذَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ حَصَلَ غَرَضُهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحِيلِ شَيْئًا. وَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُحِيلِ، رَجَعَ عَلَى الْمُحَالِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَثَبَّتَتْ الْوَكَالَةُ بِيَمِينِ الْمُحْتَالِ، وَبَقِيَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ. وَالثَّانِي، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْمُحْتَالُ ظَلَمَهُ بِأَخْذِ مَا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ، فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِتَفْرِيطٍ، أَوْ أَتْلَفَهَا، سَقَطَ حَقُّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحِقًّا فَقَدْ أَتْلَفَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 أَتْلَفَ مِثْلَ دَيْنِهِ، فَيَثْبُت فِي ذِمَّتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ. وَإِنْ تَلْفِتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَسْقُطُ حَقُّهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ. وَعَلَى الثَّانِي، لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِحَقِّهِ، وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِبَرَاءَتِهِ. (3567) فَصْلٌ: وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمُحِيلَ قَالَ: أَحَلْتُك بِدَيْنِك. ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدِهِمَا: هِيَ حَوَالَةٌ بِلَفْظِهَا. وَقَالَ الْآخَرُ: هِيَ وَكَالَةٌ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْحَوَالَةِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِدَيْنِهِ لَا تَحْتَمِلُ الْوَكَالَةَ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ مُدَّعِيهَا. وَسَوَاءٌ اعْتَرَفَ الْمُحِيلُ بِدَيْنِ الْمُحْتَالِ، أَوْ قَالَ: لَا دَيْنَ لَك عَلَيَّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَلْتُك بِدَيْنِك. اعْتِرَافٌ بِدَيْنِهِ، فَلَا يُقْبَلُ جَحْدُهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَقُلْ بِدَيْنِك، بَلْ قَالَ: أَحَلْتُك. ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ لَك عَلَيَّ دَيْنٌ، وَإِنَّمَا عَنَيْت التَّوْكِيلَ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ. أَوْ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَقُولَ، وَكَّلْتُك، فَسَبَقَ لِسَانِي فَقُلْت: أَحَلْتُك. وَادَّعَى الْمُحْتَالُ أَنَّهَا حَوَالَةٌ بِدَيْنِهِ، وَأَنَّ دَيْنَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْمُحِيلِ، فَهَلْ ذَلِكَ اعْتِرَافٌ بِالدَّيْنِ أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، سَبَقَ تَوْجِيهُهُمَا. [فَصْلٌ لِرَجُلِ دَيْنٌ عَلَى آخَر فَطَالَبَهُ بِهِ فَقَالَ قَدْ أَحَلْت بِهِ عَلَيَّ فُلَانًا الْغَائِبَ] (3568) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلِ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ، فَطَالَبَهُ بِهِ، فَقَالَ: قَدْ أَحَلْت بِهِ عَلَيَّ فُلَانًا الْغَائِبَ. وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَيِّنَةٌ بِدَعْوَاهُ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، لِإِسْقَاطِ حَقَّ الْمُحِيلِ عَلَيْهِ. وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ أَحَالَنِي عَلَيْك، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، ثَبَتَتْ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْغَائِبِ، وَلَزِمَ الدَّفْعُ إلَى الْمُحْتَالِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ اعْتَرَفَ لَهُ هَلْ يَلْزَمُهُ الدُّفَعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِدَيْنِهِ عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيِّنَةً. وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ إنْكَارِ الْمُحِيلِ وَرُجُوعِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الِاحْتِيَاطُ لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنِّي وَكَيْلُ فُلَانٍ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ مِنْك، فَصَدَّقَهُ، وَقَالَ: لَا أَدْفَعُهُ إلَيْك. فَإِذَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الدُّفَعُ مَعَ الْإِقْرَارِ. لَزِمَهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ. فَإِذَا حَلَفَ، بَرِئَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ قُلْنَا: لَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ. فَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمُحِيلِ، فَإِنْ صَدَقَ الْمُدَّعِي فِي أَنَّهُ أَحَالَهُ، ثَبَتَتْ الْحَوَّالَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ رِضَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْحَوَالَةَ، حَلَفَ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْحَوَالَةِ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَاسْتُوْفِيَ الْحَقُّ مِنْهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلَ صَدَّقَ الْمُدَّعِيَ، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْحَوَالَة، فَالْقَوْلُ قَوْله، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ لَهُ بِالْحَقِّ وَيَدَّعِي أَنَّ الْمُحْتَالَ ظَلَمَهُ، وَيَبْقَى دَيْنُ الْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ. وَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 الْمُحِيلُ يُنْكِرُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يُقِرُّ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ، لِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُحِيلُ يَعْتَرِفُ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ بِالْحَوَالَةِ، وَالْمُحِيلُ يُصَدِّقُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ الْمُحْتَالِ قَدْ ظَلَمَهُ، وَاسْتَوْفَى مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْمُحْتَالُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُحِيلَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ أَيْضًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ إلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُحْتَالُ، وَيُسَلِّمُهَا إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْذَنَ لِلْمُحِيلِ فِي دَفْعِهَا إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَإِنْ صَدَّقَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْمُحْتَالَ فِي الْحَوَالَة، وَدَفَعَ إلَيْهِ، فَأَنْكَرَ الْمُحِيلُ الْحَوَالَةَ، حَلَفَ، وَرَجَعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ بِمَا عَلَى الْمُحِيلِ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفٌ ضَمِنَهُ رَجُلٌ فَأُحَالَ الضَّامِنُ صَاحِبَ الدِّين بِهِ] (3569) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفٌ ضَمِنَهُ رَجُلٌ، فَأَحَالَ الضَّامِنُ صَاحِبَ الدَّيْنِ بِهِ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذَمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالتَّسْلِيمِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ الدَّيْنَ. فَإِنْ كَانَ الْأَلْفُ عَلَى رَجُلَيْنِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ بِذَلِكَ، فَأَحَالَهُ أَحَدِهِمَا بِالْأَلْفِ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مَعًا، كَمَا لَوْ قَضَاهَا. وَإِنْ أَحَالَ صَاحِبُ الْأَلْفِ رَجُلًا عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِالْأَلْفِ، صَحَّتْ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِرٌّ. وَإِنْ أَحَالَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ هَاهُنَا فِي نَوْعٍ وَلَا أَجَلٍ وَلَا عَدَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ اسْتِيثَاقٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ، كَحَوَالَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْمَلِيءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ قَدْ دَخَلَهَا، فَإِنَّ الْمُحْتَالَ ارْتَفَقَ بِالتَّخْيِيرِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحَالَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ مَا إذَا أَحَالَهُ بِأَلْفَيْنِ، أَنَّهُ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ هَاهُنَا، وَثَمَّ تَفَاضَلَا فِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ هَاهُنَا بِأَلْفِ مُعَيَّنٍ، وَثَمَّ الْحَوَالَةُ بِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَأَنَّهُ إذَا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ فَقَدْ قَضَى جَمِيعَ الدَّيْنِ، وَثَمَّ إذَا قَضَى أَحَدَهُمَا بَقِيَ مَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبَهُ، فَأَحَالَ عَلَيْهِمَا، صَحَّتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَلْفَ مِنْ وَاحِدٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ اثْنَيْنِ، كَالْوَكِيلَيْنِ. [بَاب الضَّمَان] [مَسْأَلَةٌ ضَمِنَ عَنْهُ حَقٌّ بَعْدَ وُجُوبِهِ] بَاب الضَّمَان (3570) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ضُمِنَ عَنْهُ حَقٌّ بَعْدَ وُجُوبِهِ، أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْته فَهُوَ عَلَيَّ. فَقَدْ لَزِمَهُ مَا صَحَّ أَنَّهُ أَعْطَاهُ) . الضَّمَانُ: ضَمُّ ذِمَّةِ الضَّامِنِ إلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ. فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِمَا جَمِيعًا، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الضَّمِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الضَّامِنِ تَتَضَمَّنُ الْحَقَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، دِينَارَانِ. قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لَا، فَتَأَخَّرَ، فَقِيلَ: لَمْ لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ؟ : فَقَالَ: مَا تَنْفَعُهُ صَلَاتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ؟ أَلَا إنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ. فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعٍ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: ضَمِينٌ، وَكَفِيلٌ، وَقَبِيلٌ، وَحَمِيلٌ، وَزَعِيمٌ، وَصَبِيرٌ، بِمَعْنِيِّ وَاحِدٍ. وَلَا بُدَّ فِي الضَّمَان مِنْ ضَامِن، ومضمون عَنْهُ، ومضمون لَهُ. وَلَا بد مِنْ رِضَى الضَّامِن، فَإِن أُكْرِهَ عَلَى الضَّمَانِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. لِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ الدَّيْنُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ صَحَّ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَمِنَ عَنْهُ. وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَضْمُونِ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ مَالٍ لِآدَمِي، فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِرِضَاهُ أَوْ رِضَى مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُمَا وَثِيقَةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا قَبْضٌ، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ، وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ دَيْنٍ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ دَيْنٍ الْمَيِّتِ لِلْغَائِبِ، وَقَدْ سَلَّمُوهُ. (3571) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَعْرِفَهُمَا الضَّامِنُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُمَا، لِيَعْلَمَ هَلْ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أَهْلٌ لِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ إلَيْهِ أَوَّلًا؟ وَلِيَعْرِفَ الْمَضْمُونَ لَهُ، فَيُؤَدِّيَ إلَيْهِ. وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ تُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ لِذَلِكَ. وَلَا تُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَامَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ نَحْو هَذِهِ. وَلَنَا، حَدِيثُ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّهُمَا ضَمِنَا لِمَنْ لَمْ يَعْرِفَاهُ عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفَاهُ. وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعْرِفَةُ مَنْ يَتَبَرَّعُ لَهُ بِهِ، كَالنَّذْرِ. [فَصْلٌ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ] فَصْلٌ: وَقَدْ دَلَّتْ مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَحْكَامٍ؛ مِنْهَا، صِحَّةُ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ؛ لِقَوْلِهِ: مَا أَعْطَيْته فَهُوَ عَلَيَّ. وَهَذَا مَجْهُولٌ فَمَتَى قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَك مَالَك عَلَى فُلَانٍ، أَوْ مَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ يُقِرُّ بِهِ لَك، أَوْ مَا يَخْرُجُ فِي رَوْز مَانِحك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 صَحَّ الضَّمَانُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَالٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مَجْهُولًا، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وَحِمْلُ الْبَعِيرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِهِ، وَعُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» ، وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالنَّذْرِ وَالْإِقْرَارِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِضَرَرٍ وَخَطَرٍ، وَهُوَ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ. وَإِذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. أَوْ قَالَ: ادْفَعْ ثِيَابَك إلَى هَذَا الرِّفَاء، وَعَلَيَّ ضَمَانُهَا. فَصَحَّ الْمَجْهُولُ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. وَمِنْهَا صِحَّةُ ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " مَا أَعْطَيْته "، أَيْ مَا يُعْطِيه فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى مَنْ ضَمِنَ عَنْهُ حَقٌّ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ " مَا أَعْطَيْته " فِي الْمَاضِي، كَانَ مَعْنَى الْمَسْأَلَتَيْنِ سَوَاءً، أَوْ إحْدَاهُمَا دَاخِلَةً فِي الْأُخْرَى. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَدَلِيلُ الْقَوْلَيْنِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: الضَّمَانُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْتِزَامِ الدَّيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَا ضَمَّ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ ضَمَانًا. قُلْنَا: قَدْ ضَمَّ ذِمَّته إلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّة مَضْمُونِهِ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ. وَهَذَا كَافٍ. وَقَدْ سَلَّمُوا ضَمَانَ مَا يُلْقِيه فِي الْبَحْرِ قَبْلَ وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. وَسَلَّمَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ضَمَانَ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَمَا وَجَبَ شَيْءٌ بَعْدُ. وَمِنْهَا، أَنَّ الضَّمَانَ إذَا صَحَّ لَزِمَ الضَّامِنَ مِنْ أَدَاءِ مَا ضَمِنَهُ، وَكَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَتُهُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَهُوَ فَائِدَةُ الضَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» . وَاشْتِقَاقُ اللَّفْظِ. وَمِنْهَا صِحَّةُ الضَّمَانِ عَنْ كُلِّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ، إلَّا أَنْ يَخْلُفَ وَفَاءً، فَإِنْ خَلَفَ بَعْضَ الْوَفَاءِ، صَحَّ ضَمَانُهُ بِقَدْرِ مَا خَلَفَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِالْأَبْرَاءِ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ خَرِبَتْ خَرَابًا لَا تَعْمُرُ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا دَيْنٌ، وَالضَّمَانُ: ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْتِزَامِهِ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَعَلِيٍّ، فَإِنَّهُمَا ضَمِنَا دَيْنَ مَيِّتٍ لَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَّهُمْ عَلَى ضَمَانِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، بِقَوْلِهِ: «أَلَا قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ؟» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ خَلَفَ وَفَاءً، وَدَلِيلُ ثُبُوتِهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، جَازَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ اقْتِضَاؤُهُ، وَلَوْ ضَمِنَهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ، وَلَوْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بَرِئَتْ ذِمَّة الضَّامِنِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 وَمِنْهَا، صِحَّةُ الضَّمَانِ فِي كُلِّ حَقٍّ، أَعْنِي مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ الَّتِي تَئُولُ إلَى الْوُجُوبِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبَعْدَهُ، وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَازِمَةٌ، وَجَوَازُ سُقُوطِهَا لَا يَمْنَعُ ضَمَانَهَا، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِرَدِّ بِعَيْبِ أَوْ مُقَايَلَةٍ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. [فَصْلٌ مَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ] (3573) فَصْلٌ: فِيمَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ: وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، كَمَا فِي الْكِتَابَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] . وَلِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ إذَا عَمِلَ الْعَمَلَ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ، وَالْمَالُ يَلْزَمُ بِوُجُودِهِ، وَالضَّمَانُ لِلْمَالِ دُونَ الْعَمَلِ. وَيَصِحُّ ضَمَانُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نُقُودًا كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، أَوْ حَيَوَانًا كَالدِّيَاتِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَقَدْ مَضَى الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ الْوَاجِبَةَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَةُ الْأَسْنَانِ وَالْعَدَدِ، وَجَهَالَةُ اللَّوْنِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْبَاقِيَةِ لَا تَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى لَوْنٍ أَوْ صِفَةٍ فَتَحْصُلُ مَعْلُومَةً، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ جَهْلَ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالْإِتْلَافِ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالِالْتِزَامِ. وَيَصِحُّ ضَمَانُ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَفَقَةَ يَوْمِهَا أَوْ مُسْتَقْبَلَةً؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ وَاجِبَةٌ، وَالْمُسْتَقْبِلَةُ مَآلُهَا إلَى اللُّزُومِ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا ضَمِنَ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يَصِحُّ ضَمَانُهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَاحْتِمَالُ عَدَمِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ضَمَانِهَا، بِدَلِيلِ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ فِي الْمَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، إمَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا، أَوْ قُلْنَا: بِوُجُوبِهَا بِدُونِ حُكْمِهِ، صَحَّ ضَمَانُهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَيَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ السَّلَمِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْحَوَالَةِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَالْأُجْرَةِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ الْكِتَابَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأُخْرَى: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ. وَالْأُولَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَلَا مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ، فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ، وَالِامْتِنَاعَ عَنْ أَدَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ الْأَصِيلَ، فَالضَّمِينُ أَوْلَى. وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 الْآخَرِ: لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ، وَوَصْفُنَا لَهَا بِالضَّمَانِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا إنَّ تَلِفَتْ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَصَحَّ ضَمَانُهَا، كَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. قُلْنَا: الضَّمَانُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ ضَمَانُ اسْتِنْقَاذِهَا وَرَدِّهَا، وَالْتِزَامُ تَحْصِيلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا عِنْدَ تَلَفِهَا. وَهَذَا مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، كَعُهْدَةِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَصِحُّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة الْتِزَامُ رَدِّ الثَّمَنِ أَوْ عِوَضِهِ، إنْ ظَهَرَ بِالْبَيْعِ عَيْبٌ، أَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا الْأَمَانَاتُ، كَالْوَدِيعَةِ، وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَة، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْعَيْنِ الَّتِي يَدْفَعُهَا إلَى الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ، فَهَذِهِ إنْ ضَمِنَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فِيهَا، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ عَلَى ضَامِنِهِ. وَإِنْ ضَمِنَهَا إنْ تَعَدَّى فِيهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي رَجُلٍ يَتَقَبَّلُ مِنْ النَّاسِ الثِّيَابَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ادْفَعْ إلَيْهِ ثِيَابَك، وَأَنَا ضَامِنٌ. فَقَالَ لَهُ: هُوَ ضَامِنٌ لِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ. يَعْنِي إذَا تَعَدَّى أَوْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ. فَعَلَى هَذَا إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا فِعْلِهِ، لَمْ يَلْزَمْ الضَّامِنَ شَيْءٌ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَفْرِيطٍ لَزِمَ ضَمَانُهَا وَلَزِمَ ضَامِنُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَ ضَامِنَهُ، كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيّ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَهُ. وَيَصِحُّ ضَمَانُ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، وَعَنْ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ الْوَاجِبَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ اُسْتُحِقَّ، رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ، وَضَمَانُهُ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي هُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ، أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ. فَضَمَانُ الْعُهْدَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. وَحَقِيقَةُ الْعُهْدَةِ الْكِتَابُ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ وَثِيقَةَ الْبَيْعِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ الثَّمَنَ، فَعُبِّرَ بِهِ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَضْمَنُهُ. وَمِمَّنْ أَجَازَ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ، وَضَمَانَ مَجْهُولٍ، وَضَمَانَ عَيْنٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الضَّمَانِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْوَثِيقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْوَثَائِقُ ثَلَاثَةٌ؛ الشَّهَادَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالضَّمَانُ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهَا الْحَقُّ، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَبْقَى أَبَدًا مَرْهُونًا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الضَّمَانُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا حَالَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ حُكْمٌ إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا حَالَ الْعَقْدِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ضَمِنَ مَا وَجَبَ حِينَ الْعَقْدِ، وَالْجَهَالَةُ مُنْتَفِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْجُمْلَةَ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا، لَزِمَهُ بَعْضُ مَا ضَمِنَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ إذَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى الْوُجُوبِ، كَالْجَعَالَةِ. وَأَلْفَاظُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ أَنْ يَقُولَ: ضَمِنْت عُهْدَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ دَرَكَهُ. أَوْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي: ضَمِنْت خَلَاصَك مِنْهُ. أَوْ يَقُولَ: مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَقَدْ ضَمِنْت لَك الثَّمَنَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ قَالَ: ضَمِنْت عُهْدَته، أَوْ ضَمِنَتْ لَك الْعُهْدَةَ. وَالْعُهْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ: هِيَ الصَّكُّ الْمَكْتُوبُ فِيهِ الِابْتِيَاعُ. هَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ الدَّرْكِ وَضَمَانِ الثَّمَنِ، وَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ، كَالرَّاوِيَةِ، تُحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِهَا عَلَى الْمَزَادَةِ، لَا عَلَى الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْضُوعَ. فَأَمَّا إنْ ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْمَبِيعِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا، لَا يَسْتَطِيعُ تَخْلِيصَهُ، وَلَا يَحِلُّ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ بَاعَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَضَمِنَ لَهُ الْخَلَاصَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ إذَا خَرَجَ حُرًّا؟ فَإِنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ وَخَلَاصَهُ، بَطَلَ فِي الْخَلَاصِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي الْعُهْدَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. إذَا ثَبَتَ صِحَّةُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ، فَالْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ، فَنَقُولُ: إنَّ اسْتِحْقَاقَ رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ مُقَارِنٍ لَهُ، فَأَمَّا الْحَادِثُ فَمِثْلُ تَلَفِ الْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَصْبِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَقَايَلَانِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الِاسْتِحْقَاقَ الْمَوْجُودَ حَالَ الْعَقْدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ، وَهَذَا مِنْهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ لَا تَفْرِيطَ مِنْ الْبَائِعِ فِيهِ، كَأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ الشَّفِيعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا الضَّامِنِ. وَمَتَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الضَّامِنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَمَّا إنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْبَائِعِ، بِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى الضَّامِنِ، وَهَذَا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ، رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَهُ كُلُّ الثَّمَنِ، لَزِمَهُ بَعْضُهُ إذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَ كُلُّ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقًّا أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَقَدْ خَرَجَتْ الْعَيْنُ كُلُّهَا مِنْ يَدِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَكِنْ اسْتَحَقَّ رَدَّهَا، فَإِنْ رَدَّهَا كُلَّهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْسَكَ الْمَمْلُوكَ مِنْهَا، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا. وَلَوْ بَاعَهُ عَيْنًا أَوْ أَقْرِضَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَهُ عَيْنَهَا، فَتَكَفَّلَ رَجُلٌ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الرَّاهِنَ إقْبَاضُهُ وَتَسْلِيمُهُ، فَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ مَا لَا يَلْزَمُ الْأَصْلَ. وَإِنْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا يَحْدُثُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 فِي الْمَبِيعِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ، صَحَّ، سَوَاءٌ ضَمِنَهُ الْبَائِعُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَإِذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الضَّامِنِ بِقِيمَةِ مَا تَلِفَ أَوْ نَقَصَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَجْهُولٍ، وَضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ مِنْ يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَمِنْ لَا يَصِحُّ] (3574) فَصْلٌ: فِي مَنْ يَصِحُّ ضَمَانُهُ، وَمَنْ لَا يَصِحُّ، يَصِحُّ ضَمَانُ كُلِّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَصَحَّ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ، وَلَا مِنْ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيَّزٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ مَالٍ بِعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ، كَالنَّذْرِ. وَلَا يَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. ذَكَرِهِ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ يُتْبَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، صَحَّ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ مَالٍ بِعَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَا يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِحَقٍّ سَابِقٍ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْتِزَامُ مَالٍ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، كَالتَّبَرُّعِ وَالنَّذْرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الضَّمَانِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: قَبْلَ بُلُوغِي. وَقَالَ الْمَضْمُونُ لَهُ: بَعْدَ الْبُلُوغِ. فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ سَلَامَةَ الْعَقْدِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْبُلُوغِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ ثَمَّ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَا يَتَصَرَّفَانِ إلَّا تَصَرُّفًا صَحِيحًا، فَكَانَ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهَاهُنَا اخْتَلَفَا فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ يَدَّعِي الْأَهْلِيَّةَ ظَاهِرٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ، وَلَا أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ، فَلَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ. وَالْحُكْمُ فِي مَنْ عُرِفَ لَهُ حَالُ جُنُونٍ، كَالْحُكْمِ فِي الصَّبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ حَالُ جُنُونٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، لَا فِي ذِمَّتِهِ، فَأَشْبَهَ الرَّاهِنَ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيمَا عَدَّا الرَّهْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اقْتَرَضَ أَوْ أَقَرَّ أَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ. وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَيُتْبَعَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ بِمَا لَا ضَرَرَ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ، كَالْإِقْرَارِ بِالْإِتْلَافِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ عَقْدٌ تَضَمَّنَ إيجَابَ مَالٍ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنٍ، كَالنِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ صَحَّ. قَالَ الْقَاضِي: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ تَعَلُّقُ الْمَالِ بِرَقَبَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّد. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَاسْتِدَانَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الضَّمَانِ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ، صَحَّ، وَيَكُونُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِ الْعَبْدِ، كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، كَمَا لَوْ قَالَ الْحُرُّ: ضَمِنْت لَك الدَّيْنَ، عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِي هَذَا. صَحَّ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ، فَأَشْبَهَ نَذْرَ الصَّدَقَةَ بِغَيْرِ مَالٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، كَقَوْلِنَا فِي الْعَبْدِ. وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إلَى تَفْوِيتِ الْحُرِّيَّةِ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا. فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ غَيْرَ مَخُوفٍ، أَوْ غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ، فَحُكْمُ ضَمَانِهِ حُكْمُ تَبَرُّعِهِ، يَحْسِبُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ عِوَضًا، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ. وَإِذَا فُهِمَتْ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ، صَحَّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ وَتَبَرُّعُهُ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَالنَّاطِقِ، وَلَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِكِتَابَةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ إشَارَةٍ يُفْهَمُ بِهَا أَنَّهُ قَصَدَ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ عَبَثًا أَوْ تَجْرِبَةً، فَلَمْ يَثْبُتْ الضَّمَانُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَمَنْ لَا تُفْهَمُ إشَارَتُهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِضَمَانِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُهُ. [فَصْلٌ ضَمِنَ الدَّيْنَ الْحَالَ مُؤَجَّلًا] (3575) فَصْلٌ: إذَا ضَمِنَ الدَّيْنَ الْحَالَ مُؤَجَّلًا، صَحَّ، وَيَكُونُ حَالًّا عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ مُؤَجَّلًا عَلَى الضَّامِنِ، يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ ضَمِنَ مَا عَلَى فُلَانٍ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ: فَهُوَ عَلَيْهِ، وَيُؤَدِّيَهُ كَمَا ضَمِنَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقَنَّكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ، فَجَرَّهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمْ تَسْتَنْظِرْهُ؟ قَالَ: شَهْرًا. قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَنَا أَحْمِلُ. فَجَاءَ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ أَصَبْت هَذَا؟ قَالَ: مِنْ مَعْدِنٍ. قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا. وَقَضَاهَا عَنْهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا بِعَقْدٍ مُؤَجَّلٍ، فَكَانَ مُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 فَإِنْ قِيلَ: فَعِنْدَكُمْ الدَّيْنُ الْحَالُ لَا يَتَأَجَّلُ، فَكَيْفَ يَتَأَجَّلُ عَلَى الضَّامِنِ؟ أَمْ كَيْفَ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ عَلَى غَيْرِ الْوَصْفِ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؟ قُلْنَا: الْحَقُّ يَتَأَجَّلُ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ، إذَا كَانَ بِعَقْدٍ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الضَّامِنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَيْهِ حَالًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ، فَضَمِنَهُ إلَى شَهْرَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ إلَى شَهْرَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الْحَالِ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّهُ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ رَجَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ هَاهُنَا، أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ إذْنٍ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَا يَرْجِعُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَضَمِنَهُ حَالًّا، لَمْ يَصِرْ حَالًّا، وَلَا يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرْعٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَوْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ تَعْجِيلَ هَذَا الدَّيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْجِيلُهُ، فَبِأَنْ لَا يَلْزَمَ الضَّامِنَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الْتِزَامُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ. فَعَلَى هَذَا، إنْ قَضَاهُ حَالًّا، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَنْ تَأْجِيلِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلهَا، أَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، مُسْتَحَقُّ الْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ مُؤَجَّلًا فَقَدْ الْتَزَمَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَشْرَةً، فَضَمِنَ خَمْسَةً، وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ، فَلَا يُسْتَحَقُّ قَضَاؤُهُ إلَّا عِنْدَ أَجَلِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ حَالًّا الْتَزَمَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَشْرَةً فَضَمِنَ عِشْرِينَ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ضَمَانُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ حَالًّا، كَمَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَالِ مُؤَجَّلًا، قِيَاسًا لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِمَا يَمْنَعُ الْقِيَاسَ، إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. [فَصْلٌ ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا عَنْ إنْسَانٍ] (3576) فَصْلٌ: وَإِذَا ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا عَنْ إنْسَانٍ، فَمَاتَ أَحَدَاهُمَا، إمَّا الضَّامِنُ وَإِمَّا الْمَضْمُونُ عَنْهُ، فَهَلْ يَحِلُّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. فَإِنْ قُلْنَا: يَحِلُّ عَلَى الْمَيِّتِ، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحِلُّ عَلَى شَخْصٍ بِمَوْتِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةَ الضَّامِنِ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، كَانَ مُتَبَرِّعًا بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ، وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ قَبْلَ الْأَجَلِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ قَضَى بِغَيْرِ إذْنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الضَّامِنَ، فَاسْتَوْفَى الْغَرِيمُ الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ حَتَّى يَحِلَّ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ زَفَرَ أَنَّ لَهُمْ مُطَالَبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَلَا تَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُتْ. وَقَوْلُهُ: أَدْخَلَهُ فِيهِ. قُلْنَا: إنَّمَا أَدْخَلَهُ فِي الْمُؤَجَّلِ، وَحُلُولُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَضَى قَبْلَ الْأَجَلِ. [مَسْأَلَة لَا يَبْرَأُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الضَّامِنِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَبْرَأُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الضَّامِنِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَا يَبْرَأُ بِنَفْسِ الضَّمَانِ، كَمَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بَلْ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ سَوَاءٌ، وَكِلَاهُمَا يَنْقُلُ الْحَقَّ عَنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْمُحِيلِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَدَاوُد، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَتْ، قَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، دِرْهَمَانِ فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّه، وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ: فَقَالَ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَفَكَّ رِهَانَك كَمَا فَكَكْت رِهَانَ أَخِيك. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه، هَذَا لِعَلِيٍّ خَاصَّةً، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فَقَالَ: لِلنَّاسِ عَامَّةً» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِئَ بِالضَّمَانِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ "، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَخَطَا خُطْوَةً، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قُلْنَا: دِينَارَانِ. فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ. فَقَالَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ. فَقَالَ. رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَجَبَ حَقُّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟ قَالَ: إنَّمَا مَاتَ أَمْسِ. قَالَ: فَعَادَ إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَيْتُهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْآنَ بَرَّدْت جِلْدَتَهُ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَرَاءَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ: " وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا ". وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا صَارَ فِي ذِمَّةٍ ثَانِيَةٍ بَرِئَتْ الْأُولَى مِنْهُ، كَالْمُحَالِ بِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْوَاحِدَ لَا يَحِلُّ فِي مَحَلَّيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . وَقَوْلُهُ فِي خَبَرِ أَبِي قَتَادَةَ: " الْآنَ بَرَّدْت جِلْدَهُ ". حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ، فَلَا تَنْقُلُ الْحَقَّ، كَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ صَارَ لَهُ وَفَاءٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَنِعُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَدِينٍ لَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَلِّي: «فَكَّ اللَّهُ رِهَانَك، كَمَا فَكَكْت رِهَانَ أَخِيك» . فَإِنَّهُ كَانَ بِحَالٍ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا ضَمِنَهُ فَكَّهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: " بَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا " أَيْ صِرْت أَنْتَ الْمُطَالَبَ بِهِمَا. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 لِثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ذِمَّتِهِ، وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، حِينَ أَخْبَرَهُ بِالْقَضَاءِ: " الْآنَ بَرَّدْت عَلَيْهِ جِلْدَهُ ". وَيُفَارِقُ الضَّمَانُ الْحَوَالَةَ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّمِّ، فَيَقْتَضِي الضَّمَّ بَيْنَ الذِّمَّتَيْنِ فِي تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِمَا وَثُبُوتِهِ فِيهِمَا. وَالْحَوَالَةُ مِنْ التَّحَوُّلِ، فَتَقْتَضِي تَحَوُّلَ الْحَقِّ مِنْ مَحَلِّهِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَقَوْلهمْ: إنَّ الدَّيْنَ الْوَاحِدَ لَا يَحِلُّ فِي مَحَلَّيْنِ. قُلْنَا: يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِمَحَلَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيثَاقِ، كَتَعَلُّقِ دَيْنِ الرَّهْنِ بِهِ وَبِذِمَّةِ الرَّاهِنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: أَمَّا الْحَيُّ فَلَا يَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ الضَّمَانِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْمَيِّتُ فَفِي بَرَاءَتِهِ بِمُجَرَّدِ الضَّمَانِ، رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ الضَّمَانِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّ فَائِدَةَ الضَّمَانِ فِي حَقِّهِ تَبْرِئَةُ ذِمَّتِهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْفَائِدَةُ بِمُجَرَّدِ الضَّمَانِ، بِخِلَافِ الْحَيِّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الضَّمَانِ فِي حَقِّهِ الِاسْتِيثَاقُ، وَثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّتَيْنِ آكَدُ فِي الِاسْتِيثَاقِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالْأَدَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ ضَمَانٌ، فَلَا يَبْرَأُ بِهِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ كَالْحَيِّ. (3578) فَصْلٌ: وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الضَّامِنَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ، فَلَا يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْأَصْلِ، كَالرَّهْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ، كَالْأَصِيلِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِمَا، فَمَلَكَ مُطَالَبَةَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، كَالضَّامِنَيْنِ إذَا تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. وَلَا يُشْبِهُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ يُطَالِبُ، إنَّمَا يُطَالِبُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، لِيَقْضِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ أَبْرَأَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ] (3579) فَصْلٌ: وَإِنْ أَبْرَأَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ، فَإِذَا بَرِئَ الْأَصْلُ زَالَتْ الْوَثِيقَةُ، كَالرَّهْنِ. وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ، فَلَا يَبْرَأُ بِإِبْرَاءِ التَّبَعِ؛ وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ انْحَلَّتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْأَصِيلِ، كَالرَّهْنِ إذَا انْفَسَخَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَائِهِ. وَأَيُّهُمَا قَضَى الْحَقَّ بَرِئَا جَمِيعًا مِنْ الْمَضْمُونِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ مَرَّةً زَالَ تَعَلُّقُهُ بِهِمَا، كَمَا لَوْ اُسْتُوْفِيَ الْحَقُّ الَّذِي بِهِ رَهْنٌ، وَإِنْ أَحَالَ الْغَرِيمَ بَرِئَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ مَرَّةً زَالَ تَعَلُّقُهُ بِهِمَا كَمَا لَوْ اُسْتُوْفِيَ دَيْنُ الرَّهْنِ. وَإِنْ أَحَالَ أَحَدُهُمَا الْغَرِيمَ بَرِئَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْقَضَاءِ. [فَصْلٌ ضَمِنَ الضَّامِنَ ضَامِنٌ آخَرُ] (3580) فَصْلٌ: وَإِنْ ضَمِنَ الضَّامِنَ ضَامِنٌ آخَرُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فِي ذِمَّتِهِ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَيَثْبُتُ الْحَقُّ فِي ذِمَمِ ثَلَاثَةٍ، أَيُّهُمْ قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَمُهُمْ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَإِذَا قُضِيَ مَرَّةً لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَإِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، بَرِئَ الضَّامِنَانِ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْعٌ. وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الْأَوَّلَ بَرِئَ الضَّامِنَانِ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَبْرَأْ الْمَضْمُونُ عَنْهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الْأَوَّلَ، بَرِئَ الضَّامِنَانِ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَبْرَأْ الْمَضْمُونُ عَنْهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الثَّانِي بَرِئَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 وَحْدَهُ. وَمَتَى حَصَلَتْ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ بِالْإِبْرَاءِ، فَلَا رُجُوعَ فِيهَا بِحَالٍ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ مَعَ الْغُرْمِ، وَلَيْسَ فِي الْإِبْرَاءِ غُرْمٌ. وَالْكَفَالَةُ كَالضَّمَانِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جَمِيعِهِ، وَتَزِيدُ بِأَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بَرِئَ كَفِيلَاهُ، وَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بَرِئَ الثَّانِي دُونَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَثِيقَةَ انْحَلَّتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءٍ، فَأَشْبَهَ الرَّهْنَ، وَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ الثَّانِي بَرِئَ وَحْدَهُ. [فَصْلٌ ضَمِنَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ الضَّامِنَ أَوْ تَكَفَّلَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ الْكَفِيلَ] (3581) فَصْلٌ: وَإِنْ ضَمِنَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ الضَّامِنَ، أَوْ تَكَفَّلَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ الْكَفِيلَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَقْتَضِي إلْزَامَهُ الْحَقَّ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْحَقُّ لَازِمٌ لَهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إلْزَامُهُ ثَانِيًا، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي هَذَا الدَّيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فَرْعًا فِيهِ. وَإِنْ ضَمِنَ عَنْهُ دَيْنًا آخَرَ، أَوْ كَفَلَ بِهِ فِي حَقٍّ آخَرَ، جَازَ؛ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ. " [فَصْلٌ ضَمِنَ الْحَقَّ عَنْ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ اثْنَانِ وَأَكْثَرُ] (3582) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ الْحَقَّ عَنْ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ اثْنَانِ وَأَكْثَرُ، سَوَاءٌ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَهُ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنْ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَهُ، بَرِئَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَدَاءِ أَحَدِهِمْ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، بَرِئَ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّهُمْ فُرُوعٌ لَهُ. وَإِنْ أُبْرِئَ أَحَدُ الضُّمَّانِ، بَرِئَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَبْرَأْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ فُرُوعٍ لَهُ، فَلَمْ يَبْرَءُوا بِبَرَاءَتِهِ، كَالْمَضْمُونِ عَنْهُ. وَإِنْ ضَمِنَ أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِضَمَانِهِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ثَانِيًا، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِيهِ بِالضَّمَانِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِيهِ فَرْعًا. وَلَوْ تَكَفَّلَ بِالرَّجُلِ الْوَاحِدِ رَجُلَانِ، جَازَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَكَفَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِبَدَنِهِ، لَا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ. وَأَيُّ الْكَفِيلَيْنِ أَحْضَرَ الْمَكْفُولَ بِهِ بَرِئَ وَبَرِئَ صَاحِبُهُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهُ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ إحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَفَلَ الْمَكْفُولُ الْكَفِيلَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لَهُ فِي الْكَفَالَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ فَرْعًا لَهُ فِيمَا كَفَلَ بِهِ. وَإِنْ كَفَلَ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَقِّ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْعٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ أَدَّى الدَّيْن مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ] (3583) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَمَتَى أَدَّى رَجَعَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اضْمَنْ عَنِّي، أَوْ لَمْ يَقُلْ) . يَعْنِي إذَا أَدَّى الدَّيْنَ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَأَمَّا إنْ قَضَى الدَّيْنَ مُتَبَرِّعًا بِهِ، غَيْرَ نَاوٍ لِلرُّجُوعِ بِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ يَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ، أَشْبَهَ الصَّدَقَةَ. وَسَوَاءٌ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأَمَّا إذَا أَدَّاهُ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدِهَا، أَنْ يَضْمَنَ بِأَمْرِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَيُؤَدِّيَ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اضْمَنْ عَنِّي. أَوْ: أَدِّ عَنِّي. أَوْ أَطْلَقَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ قَالَ: اضْمَنْ عَنِّي، وَانْقُدْ عَنِّي. رَجَعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: اُنْقُدْ هَذَا. لَمْ يَرْجِعْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لَهُ، يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ، وَيُودِعُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اضْمَنْ عَنِّي، وَانْقُدْ عَنِّي. إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَإِذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: هَبْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 لِهَذَا، أَوْ تَطَوَّعْ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ مُخَالِطًا لَهُ رَجَعَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ مُخَالِطَهُ بِالنَّقْدِ عَنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ ضَمِنَ وَدَفَعَ بِأَمْرِهِ، فَأَشْبَهَ إذَا كَانَ مُخَالِطًا لَهُ، أَوْ قَالَ: اضْمَنْ عَنِّي. وَمَا ذَكَرَاهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَمْرُهُ بِالنَّقْدِ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا ضَمِنَهُ، بِدَلِيلِ الْمُخَالِطِ لَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا أَدَّى عَنْهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. الْحَالُ الثَّانِي، ضَمِنَ بِأَمْرِهِ، وَقَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَدَفَعَ مَا عَلَيْهِ، رَجَعَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالدَّفْعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الضَّمَانِ، تَضَمَّنَ ذَلِكَ إذْنَهُ فِي الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءَ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي الْأَدَاءِ صَرِيحًا. الْحَالُ الثَّالِثُ، ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَضَى بِأَمْرِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ أَيْضًا. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْقَضَاءِ انْصَرَفَ إلَى مَا وَجَبَ بِضَمَانِهِ. وَلَنَا: أَنَّهُ أَدَّى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، أَوْ كَمَا لَوْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ إذْنَهُ فِي الْقَضَاءِ انْصَرَفَ إلَى مَا وَجَبَ بِضَمَانِهِ. قُلْنَا: الْوَاجِبُ بِضَمَانِهِ إنَّمَا هُوَ أَدَاءُ دَيْنِهِ، وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا آخَرَ، فَمَتَى أَدَّاهُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ لَزِمَهُ إعْطَاؤُهُ بَدَلَهُ. الْحَالُ الرَّابِعُ، ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّهُمَا لَوْ كَانَا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَيِّتِ، صَارَ الدَّيْنُ لَهُمَا، فَكَانَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مَشْغُولَةً بِدَيْنِهِمَا، كَاشْتِغَالِهَا بِدَيْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَفَ دَوَابَّهُ وَأَطْعَمَ عَبِيدَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَوَجْهُ الْأُولَى، أَنَّهُ قَضَاءٌ مُبْرِئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إذَا قَضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ. فَأَمَّا عَلِيٌّ وَأَبُو قَتَادَةَ، فَإِنَّهُمَا تَبَرَّعَا بِالْقَضَاءِ وَالضَّمَانِ، فَإِنَّهُمَا قَضَيَا دَيْنَهُ قَصْدًا لِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُحْتَسِبِ بِالرُّجُوعِ. [فَصْلٌ يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا قَضَى أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ] (3584) فَصْلٌ: وَيَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا قَضَى أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَقَلُّ الدَّيْنَ، فَالزَّائِدُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ أَقَلَّ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَإِنْ دَفَعَ عَنْ الدَّيْنِ عَرَضًا، رَجَعَ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْر الدَّيْنِ لِذَلِكَ، وَإِنْ قَضَى الْمُؤَجَّلَ قَبْلَ أَجَلِهِ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ لِلْغَرِيمِ. فَإِنْ أَحَالَهُ، كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيضِهِ، وَيَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ مِمَّا أَحَالَ بِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْغَرِيمُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ أَبْرَأَهُ، أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ، لِفَلَسٍ أَوْ مَطْلٍ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَوَالَةِ كَالْإِقْبَاضِ. [فَصْلٌ كَانَ عَلَى رَجُلَيْنِ مِائَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا] (3585) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ عَلَى رَجُلَيْنِ مِائَةٌ، عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ مَا عَلَيْهِ، فَضَمِنَ آخَرُ عَنْ أَحَدِهِمَا الْمِائَةَ بِأَمْرِهِ وَقَضَاهَا، سَقَطَ الْحَقُّ عَنْ الْجَمِيعِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الَّذِي ضَمِنَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ عَنْهُ، وَلَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ، فَإِذَا رَجَعَ عَلَى الَّذِي ضَمِنَ عَنْهُ، رَجَعَ عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِهَا، إنْ كَانَ ضَمِنَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهَا عَنْهُ بِإِذْنِهِ، وَقَضَاهَا ضَامِنُهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَة، لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْآخَرِ بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لَهُ عَلَى مَنْ أَدَّاهَا عَنْهُ، فَمَلَكَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَيْهِ كَالْأَصْلِ. " [فَصْلٌ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِأُذُنِهِ فَطُولِبَ الضَّامِنُ] (3586) فَصْلٌ: إذَا ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، فَطُولِبَ الضَّامِنُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِتَخْلِيصِهِ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْأَدَاءُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ الضَّامِنُ، لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ غَرَامَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ مِنْهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَة؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِإِذْنِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَهَنَهُ، كَانَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِفِكَاكِهِ وَتَفْرِيغِهِ مِنْ الرَّهْنِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُفَارِقُ الضَّمَانُ الْعَارِيَّةَ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَتَضَرَّرُ بِتَعْوِيقِ مَنَافِعِ عَبْدِهِ الْمُسْتَعَارِ، فَمَلَكَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا يُزِيلُ الضَّرَرَ عَنْهُ، وَالضَّامِنُ لَا يَبْطُلُ بِالضَّمَانِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ. فَأَمَّا إنْ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ يُطَالِبُ بِهِ، وَلَا شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِأَمْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَقِيلَ: إنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا أَدَّى عَنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ. فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِحَالٍ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ضَمِنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، عَلَى مَا مَضَى تَفْصِيلِهِ. [فَصْلٌ ضَمِنَ الضَّامِنَ ضَامِنٌ آخَرُ فَقَضَى أَحَدُهُمْ الدَّيْنَ] (3587) فَصْلٌ: فَإِنْ ضَمِنَ الضَّامِنَ ضَامِنٌ آخَرُ، فَقَضَى أَحَدُهُمْ الدَّيْنَ، بَرِئُوا جَمِيعًا. فَإِنْ قَضَاهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ قَضَاهُ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ عَنْهُ، وَإِنْ قَضَاهُ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَذِنَ لَصَاحِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ، فَفِي الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ أَذِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِيَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، أَوْ أَذِنَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ لِضَامِنِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ الضَّامِنُ لِضَامِنِهِ، رَجَعَ الْمَأْذُونُ لَهُ عَلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْآخَرُ عَلَى إحْدَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ لِلضَّامِنِ الثَّانِي فِي الضَّمَانِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ، رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الضَّامِنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرْجَعُ عَلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ لَهُ أَلْف عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ] (3588) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لَهُ أَلْفٌ عَلَى رَجُلَيْنِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فَأَبْرَأَ الْغَرِيمُ أَحَدَهُمَا مِنْ الْأَلْفِ، بَرِئَ مِنْهُ، وَبَرِئَ صَاحِبُهُ مِنْ ضَمَانِهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ. وَإِنْ قَضَاهُ أَحَدُهُمَا خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ أَبْرَأْهُ الْغَرِيمُ مِنْهَا، وَعَيَّنَ الْقَضَاءَ بِلَفْظِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ عَنْ الْأَصْلِ وَالضَّمَانِ، انْصَرَفَ إلَيْهِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، احْتَمَلَ أَنَّ لَهُ صَرْفَهَا إلَى مَا شَاءَ مِنْهُمَا، كَمَنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ نِصَابٍ وَلَهُ نِصَابَانِ غَائِبٌ وَحَاضِرٌ، كَانَ لَهُ صَرْفُهَا إلَى مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهَا عَنْ الْأَصْلِ، وَنِصْفُهَا عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى جُمْلَةِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَضَاءِ لَفْظُ الْقَاضِي وَنِيَّتُهُ، وَفِي الْإِبْرَاءِ لَفْظُ الْمُبْرِئِ وَنِيَّتُهُ، وَمَتَى اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ الْمُعْتَبَرُ لَفْظُهُ وَنِيَّتُهُ. [فَصْل ادَّعَى أَلْفًا عَلَى حَاضِرٍ وَغَائِبٍ] (3589) فَصْل: وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا عَلَى حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فَاعْتَرَفَ الْحَاضِرُ بِذَلِكَ، فَلَهُ أَخْذُ الْأَلْفِ مِنْهُ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ فَاعْتَرَفَ، رَجَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنِصْفِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحَاضِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَاسْتَوْفَى الْأَلْفَ مِنْهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِهِ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمُدَّعِي ظَلَمَهُ. وَإِنْ اعْتَرَفَ الْغَائِبُ وَعَادَ الْحَاضِرُ عَنْ إنْكَارِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى الْحَاضِرِ بَيِّنَةٌ، حَلَفَ وَبَرِئَ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ فَأَنْكَرَ أَيْضًا وَحَلَفَ، بَرِئَ، وَإِنْ اعْتَرَفَ، لَزِمَهُ دَفْعُ الْأَلْفِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسُ الْمِائَةِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْمَضْمُونَةِ؛ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِيَمِينِهِ، فَتَسْقُطُ عَنْ ضَامِنِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِهَا وَغَرِيمُهُ يَدَّعِيهَا، وَالْيَمِينُ إنَّمَا أَسْقَطَتْ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ تُسْقِطْ عَنْهُ الْحَقَّ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بَعْدَ يَمِينِهِ، لَزِمَهُ، وَلَزِمَ الضَّامِنَ. [فَصْلٌ ادَّعَى الضَّامِنُ أَنَّهُ قَضَى الدَّيْنَ] (3590) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى الضَّامِنُ أَنَّهُ قَضَى الدَّيْنَ، فَأَنْكَرَ الْمَضْمُونُ لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَى مَنْ لَمْ يَأْمَنْهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَهَلْ يَرْجِعُ الضَّامِنُ بِمَا قَضَاهُ عَنْهُ؟ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِالْقَضَاءِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْقَضَاءِ، وَكَانَ قَدْ قَضَى بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فِي غَيْبَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَضَاءٍ مُبَرِّئٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ قَضَاهُ بِبَيِّنَةٍ، ثَبَتَ بِهَا الْحَقُّ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ مَيْتَةً أَوْ غَائِبَةً فَلِلضَّامِنِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وَلَا فَرَّطَ. وَإِنْ قَضَاهُ بِبَيِّنَةٍ مَرْدُودَةٍ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ، كَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ، لَمْ يَرْجِعْ الضَّامِنُ لِتَفْرِيطِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ كَعَدَمِهَا، وَإِنْ رُدَّتْ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، كَالْفِسْقِ الْبَاطِنِ، أَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا، مِثْلُ أَنْ أَشْهَدَ عَبْدَيْنِ، أَوْ شَاهِدًا وَاحِدًا، فَرُدَّتْ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَ مَيْتًا أَوْ غَائِبًا، احْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِبَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لَيْسَ إلَيْهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَ مَنْ لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ. وَإِنْ قَضَى بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بِحَضْرَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَرْجِعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا كَانَ الِاحْتِيَاطُ إلَيْهِ، فَإِذَا تَرَكَ التَّحَفُّظَ وَهُوَ حَاضِرٌ، فَهُوَ الْمُفَرِّطُ دُونَ الضَّامِنِ. وَالثَّانِي، لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى قَضَاءً لَا يُبْرِئُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَضَى فِي غَيْبَتِهِ. فَأَمَّا إنْ رَجَعَ الْمَضْمُونُ لَهُ عَلَى الضَّامِنِ، فَاسْتَوْفِي مِنْهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا قَضَاهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ بِهِ ذِمَّتَهُ ظَاهِرًا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ بِمَا قَضَاهُ أَوَّلًا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ بِهِ فِي الْبَاطِنِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا أَبْرَأَهُ ظَاهِرًا، وَالثَّانِيَ مَا أَبْرَأَهُ بَاطِنًا. وَلَنَا، أَنَّ الضَّامِنَ أَدَّى عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إذَا أَبْرَأَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَرَجَعَ بِهِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْمُبْرِئَ فِي الْبَاطِنِ مَا أَوْجَبَ الرُّجُوعَ، فَيَجِبُ أَنْ يَجِبَ بِالْبَاقِي الْمُبْرِئِ فِي الظَّاهِرِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَضْمُونُ لَهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَنْكَرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ لِلْمَضْمُونِ لَهُ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِالْقَبْضِ مِنْ الضَّامِنِ، فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ صَارَ لِلضَّامِنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ، لِكَوْنِهِ إقْرَارًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ مُدَّعٍ لِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَقَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَا يُقْبَلُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ، كَشَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ بِالرَّضَاعِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ. [فَصْلٌ لَا يَدْخُلُ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ خِيَارٌ] (3591) فَصْلٌ: وَلَا يَدْخُلُ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ جُعِلَ لِيُعْرَفَ مَا فِيهِ الْحَظُّ، وَالضَّمِينُ وَالْكَفِيلُ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمَا، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ يَدْخُلْهُ خِيَارٌ، كَالنَّذْرِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُمْ. فَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِمَا، فَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبْطُلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، فَفَسَدَتْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى الضَّمَانِ وَالْكَفَالَة لُزُومُ مَا ضَمِنَهُ أَوْ كَفَلَ بِهِ، وَالْخِيَارُ يُنَافِي ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الشَّرْطُ وَتَصِحَّ الْكَفَالَةُ، كَمَا قُلْنَا فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 كَفَلَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُبْطِلُهُ، فَأَشْبَهَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ. [فَصْلٌ ضَمِنَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ أَلْفًا] (3592) فَصْلٌ: وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ أَلْفًا، ضَمَانَ اشْتِرَاطٍ فَقَالَا: ضَمِنَّا لَك الْأَلْفَ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِنِصْفِهِ. وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ ثُلُثَهُ. فَإِنْ قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: أَنَا وَهَذَانِ ضَامِنُونَ لَك الْأَلْفَ. فَسَكَتَ الْآخَرَانِ، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَامِنٌ لَك الْأَلْفَ. فَهَذَا ضَمَانُ اشْتِرَاكٍ وَانْفِرَادٍ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْأَلْفِ كُلِّهِ إنْ شَاءَ. وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمْ الْأَلْفَ كُلَّهُ، أَوْ حِصَّتَهُ. لَمْ يَرْجِعْ إلَّا عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ أَصْلِيٌّ، وَلَيْسَ بِضَامِنٍ عَنْ الضَّامِنِ الْآخَرِ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ كِفْل بِنَفْسِ لَزِمَهُ مَا عَلَيْهَا إنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا] (3593) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ. (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسٍ لَزِمَهُ مَا عَلَيْهَا إنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ صَحِيحَةٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. هَذَا مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ: الْكَفَالَةُ بِالْبَدَنِ ضَعِيفَةٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ صَحِيحَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ فِي الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ وَالْأَثَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهَا قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهَا كَفَالَةٌ بِعَيْنٍ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَالْكَفَالَةِ بِالْوَجْهِ وَبَدَنِ الشَّاهِدِينَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَة، كَالْمَالِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ عَلَى الْكَفِيلِ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعَ حَيَاتِهِ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ إحْضَارِهِ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَغْرَمُ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» . وَلِأَنَّهَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَالَةِ، فَوَجَبَ بِهَا الْغُرْمُ، كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنَا كَفِيلٌ بِفُلَانِ أَوْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ] (3594) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ بِفُلَانٍ، أَوْ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِبَدَنِهِ، أَوْ بِوَجْهِهِ، كَانَ كَفِيلًا بِهِ. وَإِنْ كَفَلَ بِرَأْسِهِ أَوْ كَبِدِهِ، أَوْ جُزْءٍ لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ بِدُونِهِ، أَوْ بِجُزْءِ شَائِعٍ مِنْهُ، كَثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ، صَحَّتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُ ذَلِكَ إلَّا بِإِحْضَارِهِ كُلِّهِ. وَإِنْ تَكَفَّلَ بِعُضْوٍ تَبْقَى الْحَيَاةُ بَعْدَ زَوَاله، كَيَدِهِ وَرِجْلِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَصِحُّ الْكَفَالَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 إحْضَارُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى صِفَتِهَا إلَّا بِإِحْضَارِ الْبَدَنِ كُلِّهِ، فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْبَعْضِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إحْضَارُهُ بِدُونِ الْجُمْلَةِ مَعَ بَقَائِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ، وَلَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَسْرِي لَا يَصِحُّ إذَا خُصَّ بِهِ عُضْوٌ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ كُلّ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِدِينِ لَازِمٍ] (3595) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ كُلِّ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِدَيْنٍ لَازِمٍ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا؛ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَاب الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَصِحُّ بِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، وَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ مِنْهُ لِجَهْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْبَدَنِ لَا بِالدَّيْنِ، وَالْبَدَنُ مَعْلُومٌ، فَلَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ لِاحْتِمَالِ عَارِضٍ، وَلِأَنَّا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ يَصِحُّ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً، فَالْكَفَالَةُ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ابْتِدَاءً أَوْلَى. وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجِبُ إحْضَارُهُمَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا بِالْإِتْلَافِ، وَإِذْنُ وَلِيِّهِمَا يَقُومُ مَقَامَ إذْنِهِمَا. وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ مَعَ الْحُضُورِ صَحَّتْ مَعَ الْغَيْبَةِ وَالْحَبْسِ، كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ، لِكَوْنِ الْمَحْبُوسِ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، أَوْ أَمْرِ مَنْ حَبَسَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى الْحَبْسِ بِالْحَقَّيْنِ جَمِيعًا، وَالْغَائِبُ يَمْضِي إلَيْهِ فَيُحَضِّرُهُ إنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ خَبَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ: قَالَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَلْزَمُهُ مَا عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ فِيهَا، فَلَا يَفْعَلُ. [فَصْلٌ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ] (3596) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ، سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، أَوْ لِآدَمِي كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي حُدُودِ الْآدَمِيِّ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَا كَفَالَةَ فِي حُدُودِ الْآدَمِيِّ وَلَا لِعَانَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ أَوْ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِي، فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ، فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيهِ كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ اسْتِيثَاقٌ، وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَلَمْ تَصِحّ الْكَفَالَةُ بِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَحَدِّ الزِّنَى. [فَصْلٌ الْكَفَالَةُ بِالْمَكَاتِبِ مِنْ أَجْلِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ] (3597) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْمُكَاتِبِ مِنْ أَجْلِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ لَا يَلْزَمُهُ. فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ، كَدَيْنِ الْكِتَابَةِ. [فَصْلٌ الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً] (3598) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً، كَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، وَإِذَا أَطْلَقَ كَانَتْ حَالَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَدْخُلُهُ الْحُلُولُ اقْتَضَى إطْلَاقُهُ الْحُلُولَ، كَالثَّمَنِ وَالضَّمَانِ، فَإِذَا تَكَفَّلَ حَالًّا كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِإِحْضَارِهِ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَهُنَاكَ يَدٌ حَائِلَةٌ ظَالِمَةٌ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمَكْفُولَ لَهُ تَسَلُّمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ غَرَضُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَدٌ حَائِلَةٌ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، فَإِنْ قَبِلَهُ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَقُولَ: قَدْ بَرِئْت إلَيْك مِنْهُ. أَوْ قَدْ سَلَّمْته إلَيْك. أَوْ قَدْ أَخْرَجْت نَفْسِي مِنْ كَفَالَتِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ، فَبَرِئَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهِ بَرِئَ، لِأَنَّهُ أَحْضَرَ مَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ غَرِيمِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ تَسَلُّمَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ كَالْمُسْلِمِ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهِ، أَشْهَدَ عَلَى امْتِنَاعِهِ رَجُلَيْنِ، وَبَرِئَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى فَعَلَهُ، فَبَرِئَ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَرْفَعُهُ إلَى الْحَاكِمِ فَيُسَلِّمهُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إحْضَارِهِ وَامْتِنَاعِ الْمَكْفُولِ لَهُ مِنْ قَبُوله. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ مَعَ وُجُودِ صَاحِبِ الْحَقِّ لَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَى نَائِبِهِ، كَحَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً، لَمْ يَلْزَمْ إحْضَارُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَأَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ بَرِئَ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مُرْتَدًّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يُؤْخَذْ بِالْحَقِّ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنٌ يُمْكِنُ الْمُضِيُّ إلَيْهِ وَإِعَادَتُهُ. وَقَالَ ابْن شُبْرُمَةَ: يُحْبَسُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَقَّ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ أَدَائِهِ إمْكَانُ التَّسْلِيمِ. وَإِنْ كَانَ حَالًّا كَالدَّيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ إحْضَارُهُ فِيهَا وَلَمْ يُحْضِرْهُ، أَوْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةً لَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ إحْضَارِهِ مَعَ إمْكَانِهِ، أُخِذَ بِمَا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةً لَا يُعْلَمُ مَكَانُهُ، لَمْ يُطَالَبْ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ إحْضَارِهِ مَعَ إمْكَانِهِ حُبِسَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْغُرْمِ فِيمَا مَضَى. وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَكْفُولَ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَسْلِيمِهِ، لَزِمَهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ حُجَّةُ الْغَرِيمِ غَائِبَةً، أَوْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، أَوْ الدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ اقْتِضَاؤُهُ مِنْهُ، أَوْ قَدْ وَعَدَهُ بِالْإِنْظَارِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، كَمَا نَقُولُ فِي مَنْ دَفَعَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ قَبْلَ حُلُولِهِ [فَصْلٌ عَيَّنَ فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَان ثُمَّ أَحْضَرَهُ فِي غَيْرِهِ] (3599) فَصْلٌ: وَإِذَا عَيَّنَ فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَان، فَأَحْضَرَهُ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْكَفَالَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ أَحْضَرَهُ بِمَكَانٍ آخَرَ مِنْ الْبَلَدِ وَسَلَّمَهُ، بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَتَى أَحْضَرَهُ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سُلْطَانٌ، بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحُجَّةِ فِيهِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي إحْضَارِهِ بِمَكَانٍ آخَرَ، لَمْ يَبْرَأْ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِهِ فِيهِ، وَإِلَّا بَرِئَ، كَقَوْلِنَا فِيمَا إذَا أَحْضَرَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اخْتِلَافٌ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَنَا، أَنَّهُ سَلَّمَ مَا شَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَان فِي غَيْرِهِ، فَلَمْ يَبْرَأْ، كَمَا لَوْ أَحْضَرَ الْمُسَلَّمَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُجَّةِ فِيهِ، لِغَيْبَةِ شُهُودِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَهْرُبُ مِنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِهِ، يُفَارِقُ مَا إذَا أَحْضَرَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ عَجَّلَ الْحَقَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، فَزَادَهُ خَيْرًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ وَجَبَ قَبُولُهُ. وَإِنْ وَقَعَتْ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً، وَجَبَ تَسْلِيمُهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ، كَالسَّلَمِ. فَإِنْ سَلَّمَهُ فِي غَيْرِهِ، فَهُوَ كَتَسْلِيمِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَحْبُوسًا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهُ مَحْبُوسًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَبْسَ يَمْنَعُهُ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَسَلَّمَهُ إلَيْهِ مَحْبُوسًا لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الْحَاكِمِ لَا يَمْنَعُهُ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ. وَإِذَا طَالَبَ الْحَاكِمُ بِإِحْضَارِهِ، أَحْضَرَهُ مَجْلِسَهُ، وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْحَبْسِ. فَإِنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلْمَكْفُولِ لَهُ، حَبَسَهُ بِالْحَقِّ الْأَوَّلِ أَوْ حَقِّ الْمَكْفُولِ لَهُ. [فَصْلٌ كِفْل إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ] (3600) فَصْلٌ: وَإِنْ كَفَلَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتُهُ فِيهِ، وَهَكَذَا الضَّمَانُ. وَإِنْ جَعَلَهُ إلَى الْحَصَادِ وَالْجِزَازِ وَالْعَطَاءِ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَالْأَجَلِ فِي الْبَيْعِ. وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا هُنَا، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، جَعَلَ لَهُ أَجَلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، فَصَحَّ، كَالنَّذْرِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَجْهُولٍ لَا يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْكَفَالَةِ. وَقَدْ رَوَى مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ كَفَلَ رَجُلًا آخَرَ، فَقَالَ: إنْ جِئْت بِهِ فِي وَقْتِ كَذَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 وَإِلَّا فَمَا عَلَيْهِ عَلَى. فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَلَكِنْ إنْ قَالَ: سَاعَةَ كَذَا. لَزِمَهُ. فَنَصَّ عَلَى تَعْيِينِ السَّاعَةِ وَتَوَقَّفَ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ وَقْتًا مُتَّسِعًا، أَوْ وَقْتَ شَيْءٍ يَحْدُثُ، مِثْلُ وَقْتِ الْحَصَادِ وَنَحْوه. فَأَمَّا إنْ قَالَ: وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَنَحْو ذَلِكَ، صَحَّ. وَإِنْ قَالَ: إلَى الْغَدِ أَوْ شَهْرِ كَذَا. تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّلَمِ. [فَصْل تَكَفَّلَ بِرَجُلِ إلَى أَجَلٍ] فَصْلٌ: وَإِذَا تَكَفَّلَ بِرَجُلٍ إلَى أَجَلٍ، إنْ جَاءَ بِهِ فِيهِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ، صَحَّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الضَّمَانِ بِخَطَرٍ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِقُدُومِ زَيْدٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُوجِبُ الْكَفَالَةِ وَمُقْتَضَاهَا، فَصَحَّ اشْتِرَاطُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنَّ جِئْت بِهِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَكَ حَبْسِي. وَمَبْنَى الْخِلَافِ هَاهُنَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى الْكَفَالَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا إنْ قَالَ: إنْ جِئْت بِهِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَأَنَا كَفِيلٌ بِبَدَنِ فُلَانٍ، أَوْ فَأَنَا ضَامِنٌ لَك مَالَك عَلَى فُلَانٍ. أَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لَك مَا عَلَيْهِ. أَوْ إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَأَنَا كَفِيلٌ بِفُلَانٍ. أَوْ قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ بِفُلَانٍ شَهْرًا. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَطَرٌ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ بِهِ، كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ، وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ، وَلَا تَوْقِيتُهُ، كَالْهِبَةِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى سَبَبِ الْوُجُودِ، فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ، كَضَمَانِ الدَّرَكِ. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. فَإِنْ قَالَ: كَفَلْت بِفُلَانٍ إنْ جِئْت بِهِ فِي وَقْتِ كَذَا. وَإِلَّا فَأَنَا كَفِيلٌ بِفُلَانٍ، أَوْ ضَامِنُ الْمَالِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ. لَمْ يَصِحَّ فِيهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُؤَقَّتٌ، وَالثَّانِيَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَصِحُّ فِيهِمَا. فَأَمَّا إنْ قَالَ: كَفَلْت بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ. [فَصْلٌ قَالَ كَفَلْت بِبَدَنِ فُلَانٍ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلَانٌ الْكَفِيلُ أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ] (3602) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: كَفَلْت بِبَدَنِ فُلَانٍ، عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلَانٌ الْكَفِيلُ. أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَيَكُونُ فَاسِدًا وَتَفْسُدُ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ تَحْوِيلَ الْوَثِيقَةِ الَّتِي عَلَى الْكَفِيلِ إلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَالَةُ، إلَّا أَنْ يُبْرِئَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلَا تَثْبُتُ كَفَالَتُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ. وَإِنْ قَالَ: كَفَلْت لَك بِهَذَا الْغَرِيمِ، عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ الْكَفَالَةِ بِفُلَانٍ. أَوْ ضَمِنْت لَك هَذَا الدَّيْنَ، بِشَرْطِ أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ ضَمَانِ الدِّينِ الْآخَرِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ الْكَفَالَةِ بِفُلَانِ. خُرِّجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فَسْخَ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ فَسْخِ بَيْعٍ آخَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَوْ الضَّمَانِ أَنْ يَتَكَفَّلَ الْمَكْفُولُ لَهُ أَوْ الْمَكْفُولُ بِهِ بِآخَرَ، أَوْ يَضْمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَيَّنَهُ، أَوْ يُؤْجِرَهُ دَارِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ تَكَفَّلَ اثْنَانِ بِوَاحِدِ] (3603) فَصْلٌ: وَلَوْ تَكَفَّلَ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، صَحَّ. وَأَيُّهُمْ قَضَى الدَّيْنَ بَرِئَ الْآخَرَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الضَّمَانِ. وَإِنْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ، بَرِئَ كَفِيلَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَيْنِ، وَهُوَ إحْضَارُ نَفْسِهِ، فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا، كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ. وَإِنْ أَحْضَرَ أَحَدَ الْكَفِيلَيْنِ، لَمْ يَبْرَأْ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْوَثِيقَتَيْنِ انْحَلَّتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءٍ، فَلَمْ تَنْحَلَّ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا، أَوْ انْفَكَّ أَحَدُ الرَّهْنَيْنِ مِنْ قَضَاءِ الْحَقِّ. وَفَارَقَ مَا إذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لَهُمَا، فَإِذَا بَرِئَ الْأَصْلُ مِمَّا تَكَفَّلَ بِهِ عَنْهُ، بَرِئَ فَرْعَاهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 وَكَّلَ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ لَيْسَ بِفَرْعٍ لِلْآخَرِ، فَلَمْ يَبْرَأْ بِبَرَاءَتِهِ. وَلِذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَ الْمَكْفُولَ بِهِ بَرِئَ كَفِيلَاهُ. وَلَوْ أُبْرِئَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ بَرِئَ وَحْدَهُ، دُونَ صَاحِبِهِ. [فَصْل تَكَفَّلَ وَاحِدٌ لِاثْنَيْنِ فَأَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا] (3604) فَصْلٌ: وَلَوْ تَكَفَّلَ وَاحِدٌ لِاثْنَيْنِ، فَأَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا، أَوْ أَحْضَرَهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدَيْنِ، فَقَدْ الْتَزَمَ إحْضَارَهُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا أَحْضَرَهُ عِنْدَ وَاحِدِ، بَرِئَ مِنْهُ، وَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ، وَكَمَا لَوْ ضَمِنَ دَيْنًا لِرَجُلَيْنِ، فَوَفَّى أَحَدَهُمَا حَقَّهُ. " [فَصْلٌ تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ إلَى رِضَى الْكَفِيلِ] (3605) فَصْلٌ: وَتَفْتَقِرُ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ إلَى رِضَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَقُّ ابْتِدَاءً إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَهُ لَا قَبْضَ فِيهَا، فَصَحَّتْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فِيهَا، كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهَا الْتِزَامُ حَقٍّ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُ فِيهَا، كَالنَّذْرِ، فَأَمَّا رِضَى الْمَكْفُولِ لَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُعْتَبَرُ، كَالضَّمَانِ. وَالثَّانِي، يُعْتَبَرُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا إحْضَارُهُ، وَإِنْ تَكَفَّلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ مَعَهُ، وَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْحُضُورُ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَلْزَمَهُ الدَّيْنَ، وَفَارَقَ الضَّمَانَ، فَإِنَّ الضَّامِنَ يَقْضِي الْحَقَّ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، مَتَى كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ، فَأَرَادَ الْكَفِيلُ إحْضَارَهُ، لَزِمَهُ الْحُضُورُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ مِنْ أَجْلِهِ بِإِذْنِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهَا، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ عَبْدَهُ فَرَهَنَهُ بِإِذْنِهِ، كَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ إذَا طَلَبَهُ سَيِّدُهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ إذْنِهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ طَلَبَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْهُ، لَزِمَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُ حَقٌّ لِلْمَكْفُولِ لَهُ، وَقَدْ اسْتَنَابَ الْكَفِيلَ فِي طَلَبِهِ. وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الْمَكْفُولُ لَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْغِلْ ذِمَّتَهُ، وَإِنَّمَا الْكَفِيلُ شَغَلَهَا بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ بِذَلِكَ حَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ قَالَ الْمَكْفُولُ لَهُ: أَحْضِرْ كَفِيلَك. كَانَ تَوْكِيلًا فِي إحْضَارِهِ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ أَجْنَبِيًّا. وَإِنْ قَالَ: اُخْرُجْ مِنْ كَفَالَتِك. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلًا فِي إحْضَارِهِ، كَاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُطَالَبَةً بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ تَوْكِيلًا، فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ مَعَهُ. [فَصْلٌ قَالَ رَجُلٌ لِآخَر اضْمَنْ عَنْ فُلَانٍ أَوْ اُكْفُلْ بِفُلَانِ] (3606) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: اضْمَنْ عَنْ فُلَانٍ، أَوْ اُكْفُلْ بِفُلَانٍ. فَفَعَلَ، كَانَ الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ لَازِمَيْنِ لِلْمُبَاشِرِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إرْشَادٌ وَحَثٌّ عَلَى فِعْلِ خَيْرٍ، فَلَمْ يُلْزِمْهُ بِهِ بِشَيْءٍ. [مَسْأَلَةٌ مَوْتِ الْمَكْفُول بِهِ] (3607) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ، بَرِئَ الْمُتَكَفِّلُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، سَقَطَتْ الْكَفَالَةُ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ. وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَكَمُ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمُ مَا عَلَيْهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ اسْتَوْفَى مِنْ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ، فَلَزِمَ كَفِيلَهُ مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَابَ. وَلَنَا، أَنَّ الْحُضُورَ سَقَطَ عَنْ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَبَرِئَ الْكَفِيلُ، كَمَا لَوْ بَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ. وَلِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ أَجْلِهِ سَقَطَ عَنْ الْأَصْلِ، فَبَرِئَ الْفَرْعُ، كَالضَّامِنِ إذَا قَضَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ الدَّيْنَ، أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ، وَفَارَقَ مَا إذَا غَابَ، فَإِنَّ الْحُضُورَ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ، وَيُفَارِقُ الرَّهْنَ؛ فَإِنَّهُ عُلِّقَ بِهِ الْمَالُ، فَاسْتُوْفِيَ مِنْهُ. [فَصْلٌ قَالَ الْكَفِيلُ قَدْ بَرِئَ الْمَكْفُولُ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ] (3608) فَصْلٌ: إذَا قَالَ الْكَفِيلُ: قَدْ بَرِئَ الْمَكْفُولُ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَسَقَطَتْ الْكَفَالَةُ. أَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حِينَ كَفَلْته. فَأَنْكَرَ الْمَكْفُولُ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ نَكَلَ، قُضِيَ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِفَ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّهُ تَكَفَّلَ بِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَإِنَّ مَنْ كَفَلَ بِشَخْصٍ مُعْتَرِفٍ بِدَيْنِهِ فِي الظَّاهِرِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ. [فَصْلٌ قَالَ الْمَكْفُولُ لَهُ لِلْكَفِيلِ أَبْرَأْتُك مِنْ الْكَفَالَةِ] (3609) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ الْمَكْفُولُ لَهُ لِلْكَفِيلِ: أَبْرَأْتُك مِنْ الْكَفَالَةِ. بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، كَالدَّيْنِ. وَإِنَّ قَالَ: قَدْ بَرِئْت إلَى مِنْهُ. أَوْ قَدْ رَدَدْته إلَى. بَرِئَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِوَفَاءِ الْحَقِّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ فِي الضَّمَانِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بَرِئْت مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَفَلْت بِهِ. يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دُونَ الْمَكْفُولِ بِهِ. وَلَا يَكُونُ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْحَقِّ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: يَكُونُ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْحَقِّ، فِيمَا إذَا قَالَ: بَرِئْت مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَفَلْت بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بَرَاءَتُهُ بِدُونِ قَبْضِ الْحَقِّ، بِإِبْرَاءِ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ مَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ. فَأَمَّا إنَّ قَالَ لِلْمَكْفُولِ بِهِ: أَبْرَأْتُك عَمَّا لِي قِبَلَك مِنْ الْحَقِّ. أَوْ بَرِئْت مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي قِبَلَك. فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الْحَقِّ، وَتَزُولُ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ مَا قَبْلَهُ. وَإِنْ قَالَ: بَرِئْت مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ فُلَانٌ. بَرِئَ، وَبَرِئَ كَفِيلُهُ. [فَصْل كَانَ لِذِمِّيِّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرٌ] (3610) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِذِمِّيِّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرٌ، فَكَفَلَ بِهِ ذِمِّيٌّ آخَرُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَكْفُولُ لَهُ أَوْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ، بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَسْلَمَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ، لَمْ يَبْرَأْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَيَلْزَمُهُمَا قِيمَةُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا، وَلَمْ يُوجَدْ إسْقَاطٌ وَلَا اسْتِيفَاءٌ، وَلَا وُجِدَ مِنْ الْمَكْفُولِ لَهُ مَا يُسْقِطُ حَقَّهُ، فَبَقِيَ بِحَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مُسْلِمٌ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْكَفَالَةِ. وَإِذَا بَرِئَ الْمَكْفُولُ بِهِ، بَرِئَ كَفِيلُهُ. كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّيْنَ أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الْمَكْفُولُ لَهُ، بَرِئَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 إذَا أَسْلَمَ الْمَكْفُولُ بِهِ. وَإِنْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ وَحْدَهُ، بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُجُوبُ الْخَمْرِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ قَالَ أَعْطِ فُلَانًا أَلْفًا فَفَعَلَ] (3611) فَصْلٌ: فَإِذَا قَالَ: أَعْطِ فُلَانًا أَلْفًا. فَفَعَلَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ كَفَالَةً، وَلَا ضَمَانًا إلَّا أَنْ يَقُولَ: أُعْطِهِ عَنِّي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ خَلِيطًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ خَلِيطِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: أَعْطِهِ عَنِّي. فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا. وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ، فَقَالَ: أَعْطِهِ فُلَانًا. حَيْثُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِأَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ لِأَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا يَلْزَمهُ؛ أَدَاؤُهُ. (3612) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ، وَفِيهَا مَتَاعٌ، فَخِيفَ غَرَقُهَا، فَأَلْقَى بَعْضُ مَنْ فِيهَا مَتَاعَهُ فِي الْبَحْرِ لِتَخِفَّ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَلْقَاهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ أَوْ مُتَبَرِّعًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ. فَإِنْ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: أَلْقِ مَتَاعَك. فَأَلْقَاهُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْرِهُهُ عَلَى إلْقَائِهِ، وَلَا ضَمِنَ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. فَأَلْقَاهُ، فَعَلَى الْقَائِلِ ضَمَانُهُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ صَحِيحٌ. وَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، وَأَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضُمَنَاءُ لَهُ. فَفَعَلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَضْمَنُهُ الْقَائِلُ وَحْدَهُ، إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بَقِيَّتُهُمْ. قَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ ضَمَانَ اشْتِرَاكٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ضَمَانُ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ الْجَمِيعَ، إنَّمَا يَضْمَنْ حِصَّتَهُ، وَأَخْبَرَ عَنْ سَائِرِ رُكْبَانِ السَّفِينَةِ بِضَمَانِ سَائِره، فَلَزِمَتْهُ حِصَّتُهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ اشْتِرَاكٍ وَانْفِرَادٍ، بِأَنْ يَقُولَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَامِنٌ لَك مَتَاعَك أَوْ قِيمَتَهُ. لَزِمَ الْقَائِلَ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَسَوَاءٌ قَالَ هَذَا وَالْبَاقُونَ يَسْمَعُونَ فَسَكَتُوا، أَوْ قَالُوا: لَا نَفْعَلُ. أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ لَا يَلْزَمُهُمْ بِهِ حَقٌّ. [فَصْل لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَقَامَ بِهَا كَفِيلَيْنِ] (3613) فَصْلٌ: قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَأَقَامَ بِهَا كَفِيلَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ، فَأَيُّهُمَا شَاءَ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَأَحَالَ رَبُّ الْمَالِ عَلَيْهِ رَجُلًا بِحَقِّهِ؟ فَقَالَ: يَبْرَأُ الْكَفِيلَانِ. قُلْت: فَإِنْ مَاتَ الَّذِي أَحَالَهُ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا شَيْءَ لَهُ، وَيَذْهَبُ الْأَلْفُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 [كِتَاب الشَّرِكَة] [الشَّرِكَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ وَشَرِكَةُ عُقُودٍ] ِ الشَّرِكَةُ: هِيَ الِاجْتِمَاعُ فِي اسْتِحْقَاقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ. وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] . وَالْخُلَطَاءُ. هُمْ الشُّرَكَاءُ. وَمِنْ السُّنَّةِ، مَا رُوِيَ «أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَا شَرِيكَيْنِ، فَاشْتَرَيَا فِضَّةً بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُمَا أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرُدُّوهُ.» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، خَرَجْت مِنْ بَيْنِهِمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ قَالَ: يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا» . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْهَا نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالشَّرِكَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ. وَهَذَا الْبَابُ لِشَرِكَةِ الْعُقُودِ. وَهِيَ أَنْوَاعٌ خَمْسَةٌ؛ شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَالْأَبْدَانِ، وَالْوُجُوهِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُفَاوَضَةِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، كَالْبَيْعِ. (3614) فَصْلٌ قَالَ أَحْمَدُ: يُشَارَكُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، وَلَكِنْ لَا يَخْلُو الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِالْمَالِ دُونَهُ وَيَكُونُ هُوَ الَّذِي يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِالرِّبَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ مُشَارَكَتَهُمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُشَارِكْ الْمُسْلِمُ الْيَهُودِيَّ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ مَالَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لَيْسَ بِطَيِّبٍ، فَإِنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْخَمْرَ، وَيَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا، فَكَرِهَتْ مُعَامَلَتُهُمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ بِيَدِ الْمُسْلِمِ» . وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي كَرَاهَةِ مَا خَلَوَا بِهِ، مُعَامَلَتُهُمْ بِالرِّبَا، وَبَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَا حَضَرَهُ الْمُسْلِمُ أَوْ وَلِيَهُ. وَقَوْلُ ابْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 عَبَّاسٍ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِمْ يُرْبُونَ. كَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تُشَارِكَنَّ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا مَجُوسِيًّا؛ لِأَنَّهُمْ يُرْبُونَ، وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحِلُّ. وَهُوَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ انْتِشَارُهُ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَمْوَالَهُمْ غَيْرُ طَيِّبَةٍ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ «النَّبِيَّ، قَدْ عَامَلَهُمْ، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ، وَأَرْسَلَ إلَى آخَرَ يَطْلُبُ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، وَأَضَافَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ. وَلَا يَأْكُلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ» ، وَمَا بَاعُوهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ قَبْلَ مُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِ، فَثَمَنُهُ حَلَالٌ، لِاعْتِقَادِهِمْ حِلَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا. فَأَمَّا مَا يَشْتَرِيه أَوْ يَبِيعُهُ مِنْ الْخَمْرِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ أَوْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَثْبُتُ مِلْكُهُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى بِهِ مَيْتَةً، أَوْ عَامَلَ بِالرِّبَا، وَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ، فَالْأَصْلُ إبَاحَتُهُ وَحِلُّهُ، فَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ، فَإِنَّ أَحْمَدَ كَرِهَ مُشَارَكَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ، قَالَ: مَا أُحِبُّ مُخَالَطَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ مَا لَا يَسْتَحِلُّ هَذَا. قَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عَمِّي: لَا تُشَارِكْهُ وَلَا تُضَارِبْهُ. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، لِتَرْكِ مُعَامَلَتِهِ وَالْكَرَاهَةِ لِمُشَارَكَتِهِ، وَإِنْ فَعَلَ صَحَّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ صَحِيحٌ. [مَسْأَلَةٌ شَرِكَة الْأَبْدَانِ] (3615) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَشَرِكَةُ الْأَبْدَانِ جَائِزَةٌ) . مَعْنَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، كَالصُّنَّاعِ يَشْتَرِكُونَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا فِي صِنَاعَتِهِمْ، فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمْ. وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِيمَا يَكْتَسِبُونَ مِنْ الْمُبَاحِ، كَالْحَطَبِ، وَالْحَشِيشِ، وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْجِبَالِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا جَائِزٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقَوْمُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَالٌ، مِثْلُ الصَّيَّادِينَ وَالنَّقَّالِينَ وَالْحَمَّالِينَ. قَدْ «أَشْرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ عَمَّارٍ وَسَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ يَجِيئَا بِشَيْءٍ» . وَفَسَّرَ أَحْمَدُ صِفَةَ الشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يُصِيبَانِ مِنْ سَلَبَ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ الْغَانِمِينَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ فِي الصِّنَاعَةِ، وَلَا يَصِحُّ فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحِ، كَالِاحْتِشَاشِ وَالِاغْتِنَامِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُقْتَضَاهَا الْوَكَالَةُ وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَهَا مَلَكَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ كُلُّهَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ عَلَى غَيْرِ مَالٍ. فَلَمْ تَصِحَّ. كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ الصِّنَاعَاتُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّه، قَالَ: اشْتَرَكْنَا أَنَا وَسَعْدٌ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ، وَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَغَانِمُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَصِحُّ اخْتِصَاصُ هَؤُلَاءِ بِالشَّرِكَةِ فِيهَا؟ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: غَنَائِمُ بَدْرٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مَنْ شَاءَ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِهَذَا. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ لِمَنْ أَخَذَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُشْرِكَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا نُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» . فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحَاتِ؛ مَنْ سَبَقَ إلَى أَخْذِ شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرَكَ بَيْنَهُمْ فِيمَا يُصِيبُونَهُ مِنْ الْأَسْلَابِ وَالنَّفَلِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ: جَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْغَنِيمَةَ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَنَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] . وَالشَّرِكَةُ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبَاحَهُمْ أَخْذَهَا، فَصَارَتْ كَالْمُبَاحَاتِ، أَوْ لَمْ يُبِحْهَا لَهُمْ، فَكَيْفَ يَشْتَرِكُونَ فِي شَيْءٍ لِغَيْرِهِمْ؟ . وَفِي هَذَا الْخَبَرِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي مُبَاحٍ، وَفِيمَا لَيْسَ بِصِنَاعَةٍ، وَهُوَ يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ أَحَدُ جِهَتِي الْمُضَارَبَةِ، فَصَحَّتْ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ كَالْمَالِ، وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مَكْسَبٍ مُبَاحٍ فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْمُبَاحَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي تَحْصِيلِهَا بِأُجْرَةِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ إذَا تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ، كَالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِ مَالِهِ. (3616) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ مَعَ اتِّفَاقِ الصَّنَائِعِ. فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِهَا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَصِحُّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ، وَيَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَيُطَالَبُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا تَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مَعَ اخْتِلَافِ صَنَائِعِهِمَا، لَمْ يُمْكِنْ الْآخَرَ أَنْ يَقُومَ بِهِ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ عَمَلُهُ، أَمْ كَيْفَ يُطَالَبُ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: تَصِحُّ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مَكْسَبٍ مُبَاحٍ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَتْ الصَّنَائِعُ، وَلِأَنَّ الصَّنَائِعَ الْمُتَّفِقَةَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَحْذَقُ فِيهَا مِنْ الْآخَرِ، فَرُبَّمَا يَتَقَبَّلُ أَحَدُهُمَا مَا لَا يُمْكِنُ الْآخَرَ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّتَهَا، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّنَاعَتَانِ. وَقَوْلهمْ: يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَتَقَبَّلُهُ صَاحِبُهُ. قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْوَكِيلَيْنِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِمَا فِي الْمُبَاحِ، وَلَا ضَمَانَ فِيهَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ. أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ بِالْأُجْرَةِ، أَوْ بِمَنْ يَتَبَرَّعُ لَهُ بِعَمَلِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا أَتَقَبَّلُ وَأَنْتَ تَعْمَلُ. صَحَّتْ الشَّرِكَةُ، وَعَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ عَمَلِ صَاحِبِهِ. [فَصْلٌ قَالَ أَحَدُهُمَا أَنَا أَتَقَبَّلُ وَأَنْتَ تَعْمَلُ وَالْأُجْرَةُ بَيْنِي وَبَيْنَك] (3617) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا أَتَقَبَّلُ، وَأَنْت تَعْمَلُ، وَالْأُجْرَةُ بَيْنِي وَبَيْنَك. صَحَّتْ الشَّرِكَةُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَلَنَا، أَنَّ الضَّمَانَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحُ، بِدَلِيلِ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، وَتَقَبُّلُ الْعَمَلِ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتَقَبِّلِ، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّبْحَ، فَصَارَ كَتَقَبُّلِهِ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالْعَمَلُ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَامِلُ الرِّبْحَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ، فَيَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارَبَةِ. [فَصْلٌ الرِّبْح فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ] (3618) فَصْلٌ وَالرِّبْحُ، فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، مِنْ مُسَاوَاةٍ أَوْ تَفَاضُلٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحُ، وَيَجُوزُ تَفَاضُلُهُمَا فِي الْعَمَلِ، فَجَازَ تَفَاضُلُهُمَا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ بِالْأُجْرَةِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ دَفْعُهَا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِلَى أَيِّهِمَا دَفَعَهَا بَرِئَ مِنْهَا. وَإِنْ تَلْفِت فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُمَا كَالْوَكِلَيْنِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْأَعْمَالِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِمَا، يُطَالَبُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَلْزَمُهُ عَمَلُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى الضَّمَانِ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الشَّرِكَةُ حَالَ الضَّمَانِ، فَكَأَنَّ الشَّرِكَةَ تَضَمَّنَتْ ضَمَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ مَا يَلْزَمُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ أَحَدَهُمَا مَا لَزِمَ الْآخَرَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَمَا يَتْلَفُ بِتَعَدِّي أَحَدِهِمَا أَوْ تَفْرِيطِهِ أَوْ تَحْت يَدِهِ، عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِمَا فِي يَدِهِ، قُبِلَ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِمَا فِيهَا، وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ، وَلَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 (3619) فَصْلٌ: وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونِ صَاحِبِهِ، فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي عَمَلِ الْأَبْدَانِ، فَيَأْتِي أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ، وَلَا يَأْتِي الْآخَرُ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَدِيثِ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. يَعْنِي حَيْثُ اشْتَرَكُوا فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَأَخْفَقَ الْآخَرَانِ. وَلِأَنَّ الْعَمَلَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَبِضَمَانِهِمَا لَهُ وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ، فَيَكُونُ لَهُمَا كَمَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَيَكُونُ الْعَامِلُ عَوْنًا لِصَاحِبِهِ فِي حِصَّتِهِ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَهُ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْصُرَ لَهُ ثَوْبًا، فَاسْتَعَانَ الْقَصَّارُ بِإِنْسَانِ. فَقَصَرَ مَعَهُ، كَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْقِصَارِ الْمُسْتَأْجَرِ. كَذَا هَاهُنَا. وَسَوَاءٌ تَرَكَ الْعَمَلَ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْره، فَإِنْ طَالَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ أَوْ يُقِيمَ مُقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ، فَلَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ امْتَنَعَ، فَلِلْآخَرِ الْفَسْخُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَتَى تَرَكَ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَنْ لَا يُشَارِكْ صَاحِبَهُ فِي أُجْرَةِ مَا عَمِلَهُ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَارَكَهُ لِيَعْمَلَا جَمِيعًا، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدُهُمَا الْعَمَلَ، فَمَا وَفَى بِمَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا جُعِلَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَإِنَّمَا احْتَمَلَ ذَلِكَ فِيمَا إذَا تَرَكَ أَحَدُهُمَا الْعَمَلَ لِعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَابَّةٌ عَلَى أَنْ يُؤْجَرَاهُمَا فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا] (3620) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَابَّةٌ، عَلَى أَنْ يُؤْجَرَاهُمَا، فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، صَحَّ. فَإِذَا تَقَبَّلَا حَمْلَ شَيْءٍ مَعْلُومٍ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهِمَا، ثُمَّ حَمَلَاهُ عَلَى الْبَهِيمَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا، صَحَّ، وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لِأَنَّ تَقَبُّلَهُمَا الْحَمْلَ أَثْبَتِ الضَّمَانَ، فِي ذِمَّتهمَا، وَلَهُمَا أَنْ يَحْمِلَاهُ بِأَيِّ ظَهْرٍ كَانَ، وَالشَّرِكَةُ تَنْعَقِدُ عَلَى الضَّمَانِ، كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ أَجَرَاهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا عَلَى حَمْلِ شَيْءٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْرُ دَابَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْ ضَمَانُ الْحَمْلِ فِي ذِمَمِهِمَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْمُكْتَرِي مَنْفَعَةَ الْبَهِيمَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا، وَلِهَذَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الدَّابَّةِ الَّتِي اكْتَرَاهَا، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ إمَّا أَنْ تَنْعَقِدَ عَلَى الضَّمَانِ فِي ذِمَمِهِمَا، أَوْ عَلَى عَمَلِهِمَا. وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَمِهِمَا ضَمَانٌ، وَلَا عَمِلَا بِأَبْدَانِهِمَا مَا يَجِبُ الْأَجْرُ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْوَكَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: آجِرِهِ عَبْدَك، وَتَكُونُ أُجْرَتُهُ بَيْنِي وَبَيْنَك. لَمْ تَصِحَّ. كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدَك وَثَمَنُهُ بَيْنَنَا. لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِيمَا يَكْتَسِبَانِ مِنْ الْمُبَاحِ بِأَبْدَانِهِمَا. فَإِنْ أَعَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي التَّحْمِيلِ وَالنَّقْلِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْله؛ لِأَنَّهَا مَنَافِعُ وَفَّاهَا بِشُبْهَةِ عَقْدٍ. [فَصْلٌ كَانَ لِقِصَارِ أَدَاة وَلِآخِرِ بَيْت فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هَذَا فِي بَيْت هَذَا] (3621) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لِقَصَّارٍ أَدَاةٌ، وَلِآخَرَ بَيْتٌ، فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هَذَا فِي بَيْتِ هَذَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، جَازَ، وَالْأَجْرُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ عَلَى عَمَلِهِمَا، وَالْعَمَلُ يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ، وَالْآلَةُ وَالْبَيْتُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْعَمَلِ الْمُشْتَرَكِ، فَصَارَا كَالدَّابَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَجَرَاهُمَا لِحَمْلِ الشَّيْءِ الَّذِي تَقَبَّلَا حَمْلَهُ. وَإِنْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ، قُسِمَ مَا حَصَلَ لَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَجْرِ عَمَلِهِمَا وَأَجْرِ الدَّارِ وَالْآلَةِ. وَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا آلَةٌ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ شَيْءٌ، أَوْ لَأَحَدِهِمَا بَيْتٌ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ شَيْءٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْآلَةِ أَوْ فِي الْبَيْتِ وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا، جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ دَفَعَ رَجُلٌ دَابَّتَهُ إلَى آخَر لِيَعْمَل عَلَيْهَا وَمَا يَرْزُقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ كَيْفَمَا شَرَطَا] فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ رَجُلٌ دَابَّتَهُ إلَى آخَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَمَا يَرْزُقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ كَيْفَمَا شَرَطَا، صَحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ وَأَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ. وَنُقِلَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَصِحُّ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِوَضُ مِنْهَا. وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَكُونُ بِالتِّجَارَةِ فِي الْأَعْيَانِ وَهَذِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِ مَالِكِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَصِحَّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَجْرُ الدَّابَّةِ بِعَيْنِهَا فَالْأَجْرُ لِمَالِكِهَا، وَإِنْ تَقَبَّلَ حَمْلَ شَيْءٍ فَحَمَلَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مُبَاحًا فَبَاعَهُ، فَالْأُجْرَةُ وَالثَّمَنُ لَهُ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا لِمَالِكِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا فَصَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَكَالشَّجَرِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَالْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ، وَلَا هُوَ مُضَارَبَةٌ. قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ، فَإِنَّهُ دَفْعٌ لِعَيْنِ الْمَالِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَخْرِيجَهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي رَقَبَةِ الْمَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً؛ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ ثُلُثِهِ، جَازَ. وَلَا أَرَى لِهَذَا وَجْهًا؛ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ، وَتَقْدِيرُ الْمُدَّةِ أَوْ الْعَمَلِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْإِجَارَةِ الْمُعَامَلَةَ عَلَى الْوَجْه الَّذِي تَقَدَّمَ. وَقَدْ أَشَارَ أَحْمَدُ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَى تَشْبِيهِهِ لِمِثْلِ هَذَا بِالْمُزَارِعَةِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالثَّوْبِ يُدْفَعُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشَّطْرِ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ إلَى الْجَوَازِ؛ لِشَبَهِهِ بِالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، لَا إلَى الْمُضَارَبَةِ، وَلَا إلَى الْإِجَارَةِ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ يُعْطِي فَرَسَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْغَنِيمَةِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا كَانَ عَلَى النِّصْفِ وَالرُّبْعِ، فَهُوَ جَائِزٌ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ دَفَعَ عَبْدَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَكْسِبَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ أَوْ رُبْعه، فَجَائِزٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ. وَإِنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى خَيَّاطٍ لِيُفَصِّلَهُ قُمْصَانًا يَبِيعُهَا، وَلَهُ نِصْفُ رِبْحِهَا بِحَقِّ عَمَلِهِ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَإِنْ دَفَعَ غَزْلًا إلَى رَجُلٍ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا بِثُلُثِ ثَمَنِهِ أَوْ رُبُعِهِ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَجْهُولٌ وَعَمَلٌ مَجْهُولٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ جَوَازِهِ. وَإِنْ جَعَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، لَمْ يَجُزْ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ الْجَوَازُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَمَا رُوِيَ غَيْرُ هَذَا فَعَلَيْهِ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّه يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالثَّوْبِ يُدْفَعُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُعْطِي الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ وَدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ؟ قَالَ: أَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ. وَالثُّلُثُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ نَرَاهُ جَائِزًا؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشَّطْرِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّه: فَإِنْ كَانَ النَّسَّاجُ لَا يَرْضَى حَتَّى يُزَادَ عَلَى الثُّلُثِ دِرْهَمًا؟ قَالَ: فَلْيَجْعَلْ لَهُ ثُلُثًا وَعُشْرَيْ ثُلُثٍ وَنِصْفَ عُشْرٍ وَمَا أَشْبَهَ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَيُّوبَ، وَيَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّهُمْ أَجَازُوا ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَرِهَ هَذَا كُلَّهُ الْحَسَنُ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: هَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَقَالُوا: لَوْ دَفَعَ شَبَكَتَهُ إلَى الصَّيَّادِ لِيَصِيدَ بِهَا السَّمَكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَالصَّيْدُ كُلُّهُ لِلصَّيَّادِ، وَلِصَاحِبِ الشَّبَكَةِ أَجْرُ مِثْلِهَا. وَقِيَاسُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ صِحَّةُ الشَّرِكَةِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ فِيهَا، فَصَحَّ دَفْعُهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالْأَرْضِ. (3623) فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» . وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الطَّحَّانَ أَقْفِزَةً مَعْلُومَةً يَطْحَنُهَا بِقَفِيزِ دَقِيقٍ مِنْهَا. وَعِلَّةُ الْمَنْعِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ بَعْضَ مَعْمُولِهِ أَجْرًا لِعَمَلِهِ، فَيَصِيرُ الطَّحْنُ مُسْتَحَقًّا لَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ مِنْ الْمَسَائِلِ. (3624) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لِرَجُلِ دَابَّةٌ، وَلِآخَرَ إكَافٌ وَجُوَالِقَاتٌ، فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يُؤْجَرَاهُمَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ فِي مَنَافِعِهَا، إذْ تَقْدِيره: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 آجِرْ دَابَّتَك لِتَكُونَ أُجْرَتُهَا بَيْنَنَا، وَأُؤْجِرُ جُوَالِقَاتِي لِتَكُونَ أُجْرَتُهَا بَيْنَنَا. وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَصْلِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، هَذَا إذَا أَجَرَ الدَّابَّةَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْإِكَافِ وَالْجُوَالِقَاتِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. فَأَمَّا لَوْ أَجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكَهُ مُنْفَرِدًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْرُ مِلْكِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ: آجِرْ عَبْدِي، وَالْأَجْرُ بَيْنَنَا. كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ. (3625) فَصْلٌ فَإِنْ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ؛ مِنْ أَحَدِهِمْ دَابَّةٌ، وَمِنْ آخَرَ رَاوِيَةٌ، وَمِنْ آخَرَ الْعَمَلُ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمْ، صَحَّ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ نَصَّ فِي الدَّابَّةِ يَدْفَعُهَا إلَى آخَرَ يَعْمَلُ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ لَهُمَا الْأُجْرَةَ عَلَى الصِّحَّةِ. وَهَذَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى آخَرَ يَعْمَلُ عَلَيْهَا، وَالرَّاوِيَةُ عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَهِيَ كَالْبَهِيمَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُمَا وَكَّلَا الْعَامِلَ فِي كَسْبٍ مُبَاحٍ بِآلَةٍ دَفَعَاهَا إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا. وَهَكَذَا لَوْ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَحَدِهِمْ دُكَّانٌ وَمِنْ آخَرَ رَحًى، وَمِنْ آخَرَ بَغْلٌ، وَمِنْ آخَرَ الْعَمَلُ، عَلَى أَنْ يَطْحَنُوا بِذَلِكَ، فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمْ، صَحَّ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا شَرَطُوهُ وَقَالَ الْقَاضِي: الْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشَارَكَةً وَلَا مُضَارَبَةً، لِكَوْنِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِهِمَا الْعُرُوضَ، وَلِأَنَّ مِنْ شُرُوطِهِمَا عَوْدَ رَأْسِ الْمَالِ سَلِيمًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ حَتَّى يُسْتَوْفَى رَأْسُ الْمَالِ بِكَمَالِهِ. وَالرَّاوِيَةُ هَاهُنَا تَخْلُقُ وَتَنْقُصُ، وَلَا إجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَتَكُونُ فَاسِدَةً. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَجْرُ كُلُّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِلسَّقَّاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَرَفَ الْمَاءَ فِي الْإِنَاءِ مَلَكَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ فَثَمَنُهُ لَهُ، لِأَنَّهُ عِوَضُ مِلْكِهِ، وَعَلَيْهِ لِصَاحِبَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مِلْكَهُمَا بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُمَا، فَكَانَ لَهُمَا أَجْرُ الْمِثْلِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُمْ إذَا طَحَنُوا لِرَجُلٍ طَعَامًا بِأُجْرَةِ، نَظَرْت فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابَهُ، وَلَا نَوَاهُمْ، فَالْأَجْرُ كُلُّهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِأَصْحَابِهِ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ نَوَى أَصْحَابَهُ، أَوْ ذَكَرَهُمْ، كَانَ كَمَا لَوْ عَقَدَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا، أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَقَالَ: اسْتَأْجَرْتُكُمْ لِتَطْحَنُوا لِي هَذَا الطَّعَامَ بِكَذَا. فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ لَزِمَهُ طَحْنُ رُبْعِهِ بِرُبْعِ الْأَجْرِ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَصْحَابِهِ بِرُبْعِ أَجْرِ مِثْلِهِ. وَإِنْ كَانَ قَالَ: اسْتَأْجَرْت هَذَا الدُّكَّانَ وَالْبَغْلَ وَالرَّحَى، وَهَذَا الرَّجُلَ بِكَذَا وَكَذَا، لِطَحْنِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الطَّعَامِ. صَحَّ، وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَجْرِ مِثْلِهِمْ، لِكُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 مِنْ الْمُسَمَّى بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا بِمَهْرِ وَاحِدٍ، أَوْ كَاتَبَ أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ. وَهَلْ يَكُونُ الْعِوَضُ أَرْبَاعًا، أَوْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة اشْتَرَكَ بَدَنَانِ بِمَالِ أَحَدِهِمَا أَوْ بَدَنَانِ بِمَالِ غَيْرِهِمَا] (3626) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَكَ بَدَنَانِ بِمَالِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَدَنَانِ بِمَالِ غَيْرِهِمَا، أَوْ بَدَنٌ وَمَالٌ، أَوْ مَالَانِ وَبَدَنُ صَاحِبِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَدَنَانِ بِمَالَيْهِمَا، تَسَاوَى الْمَالُ أَوْ اخْتَلَفَ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.) ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الشَّرِكَةَ الْجَائِزَةَ أَرْبَعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَوْعًا مِنْهَا؛ وَهُوَ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا الْمُضَارَبَةُ، وَهِيَ إذَا اشْتَرَكَ بَدَنَانِ بِمَالِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَدَنٌ وَمَالٌ، أَوْ مَالَانِ وَبَدَنُ صَاحِبِ أَحَدِهِمَا. وَقِسْمٌ مِنْهَا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَهُوَ إذَا اشْتَرَكَ بَدَنَانِ بِمَالِ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى هَذَا الْقِسْمِ، أَنْ يَدْفَعَ وَاحِدٌ مَالَهُ إلَى اثْنَيْنِ مُضَارَبَةً، فَيَكُونُ الْمُضَارِبَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ بِمَالِ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا إذَا أُخِذَا الْمَالُ بِجَاهِهِمَا فَلَا يَكُونَانِ مُشْتَرِكَيْنِ بِمَالِ غَيْرِهِمَا، وَهَذَا مُحْتَمِلٌ. وَاَلَّذِي قُلْنَا لَهُ وَجْهٌ؛ لِكَوْنِهِمَا اشْتَرَكَا فِيمَا يَأْخُذَانِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِمَا، وَاخْتَرْنَا هَذَا التَّفْسِيرَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ بِهَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ جَامِعًا لِأَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْقَاضِي يَكُونُ مُخِلًّا بِنَوْعٍ مِنْهَا، وَهِيَ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْمَذْكُورُ نَوْعًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَلِأَنَّ الْخِرَقِيِّ ذَكَرَ الشَّرِكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى تَفْسِيرِنَا، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْقَاضِي تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ إذَا اشْتَرَكَ بَدَنَانِ بِمَالَيْهِمَا، وَهَذِهِ شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَهِيَ شَرِكَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. فَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِك اثْنَانِ فِيمَا يَشْتَرِيَانِ بِجَاهِهِمَا، وَثِقَةُ التُّجَّارِ بِهِمَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا رَأْسُ مَالٍ، عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ أَرْبَاعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيَبِيعَانِ ذَلِكَ، فَمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمَا، فَهِيَ جَائِزَةٌ، سَوَاءٌ عَيَّنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا يَشْتَرِيه، أَوْ قَدْرَهُ، أَوْ وَقْتَهُ، أَوْ ذَكَرَ صِنْفَ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا بِغَيْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، عَلَى أَنَّ مَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ جَائِزٌ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ الْوَقْتَ أَوْ الْمَالَ، أَوْ صِنْفًا مِنْ الثِّيَابِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شَرَائِطِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْوَكَالَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي ذَلِكَ، مِنْ تَعَيُّنِ الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْوَكَالَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الِابْتِيَاعِ، وَأَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِيهِ، فَصَحَّ، وَكَانَ مَا يَتَبَايَعَانِهِ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ ذَكَرَ شَرَائِطَ الْوَكَالَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قَدْرَ الثَّمَنِ وَالنَّوْعَ. مَمْنُوعٌ عَلَى رِوَايَةٍ لَنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ، أَمَّا الْوَكَالَةُ الدَّاخِلَةُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 فِيهَا ذَلِكَ، بِدَلِيلِ الْمُضَارَبَةِ وَشَرِكَةِ الْعِنَانِ، فَإِنَّ فِي ضِمْنِهِمَا تَوْكِيلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا، كَذَا هَاهُنَا. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: مَا اشْتَرَيْت الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ. أَوْ أَطْلَقَ الْوَقْتَ، فَقَالَ: نَعَمْ. أَوْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْت أَنَا مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ. جَازَ، وَكَانَتْ شَرِكَةً صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَيَكُونُ تَوْكِيلًا لَهُ فِي شِرَاءِ نِصْفِ الْمَتَاعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِهِ الْحَاصِلِ فِي الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ خَصَّ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَتَاعِ أَوْ أَطْلَقَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَا: مَا اشْتَرَيْنَاهُ أَوْ مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُنَا مِنْ تِجَارَةٍ فَهُوَ بَيْنَنَا. فَهُوَ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ، وَهُمَا فِي تَصَرُّفَاتِهِمَا، وَمَا يَجِبُ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَفِي إقْرَارِهِمَا، وَخُصُومَتِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ شَرِيكِي الْعِنَانِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَيُّهُمَا عَزَلَ صَاحِبَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ، انْعَزَلَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يَشْتَرِيَانِ بِجَاهِهِمَا، وَالْجَاهُ وَالْوَجْهُ وَاحِدُ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَجِيهٌ. إذَا كَانَ ذَا جَاهٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَالَ يَا رَبِّ، إنْ كَانَ قَدْ خَلِقَ جَاهِي عِنْدَك، فَأَسْأَلُك بِحَقِّ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي تَبْعَثُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ: مَا خَلِقَ جَاهُك عِنْدِي، وَإِنَّك عِنْدِي لَوَجِيهٌ. [فَصْلٌ شَرِكَةُ الْعِنَانِ] (3627) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِكَ بَدَنَانِ بِمَالَيْهِمَا. وَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةُ، وَهِيَ شَرِكَةُ الْعِنَانِ. وَمَعْنَاهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ بِمَالَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهِمَا، بِأَبْدَانِهِمَا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ تَسْمِيَتِهَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ، فَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ، كَالْفَارِسَيْنِ إذَا سَوَّيَا بَيْنَ فَرَسَيْهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِي السَّيْرِ، فَإِنَّ عِنَانَيْهِمَا يَكُونَانِ سَوَاءً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عَنَّ الشَّيْءُ إذَا عَرَضَ، يُقَالُ: عَنَّتْ لِي حَاجَةٌ. إذَا عَرَضَتْ، فَسُمِّيت الشَّرِكَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنَّ لَهُ أَنْ يُشَارِكْ صَاحِبَهُ. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُعَانَنَةِ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ، يُقَالُ: عَانَنْت فُلَانًا. إذَا عَارَضْته بِمِثْلِ مَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُعَارِضٌ لِصَاحِبِهِ بِمَالِهِ وَفِعَالِهِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ. (3628) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، فَإِنَّهُمَا قِيَمُ الْأَمْوَالِ وَأَثْمَانُ الْبَيَّاعَات، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وَالنَّاسُ يَشْتَرِكُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى زَمَنِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. فَأَمَّا الْعُرُوض، فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهَا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَحَرْبٍ. وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى أَعْيَانِ الْعُرُوضِ أَوْ قِيمَتِهَا أَوْ أَثْمَانِهَا، لَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِمِثْلِهِ، وَهَذِهِ لَا مِثْلَ لَهَا، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ، وَقَدْ تَزِيدُ قِيمَةُ جِنْسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَسْتَوْعِبُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الرِّبْحِ أَوْ جَمِيعَ الْمَالِ، وَقَدْ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يُشَارِكَهُ الْآخَرُ فِي ثَمَنِ مِلْكِهِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبْحٍ، وَلَا عَلَى قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةِ الْقَدْرِ، فَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، وَقَدْ يُقَوَّمُ الشَّيْءُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ بَيْعِهِ، فَيُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَثْمَانِهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَالَ الْعَقْدِ وَلَا يَمْلِكَانِهَا، وَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي يَبِيعُهَا بِهِ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ شَرِكَةً مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ، وَتُجْعَلُ قِيمَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ رَأْسَ الْمَالِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ، يُقَسَّمُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّه يُسْأَلُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَتَاعِ؟ فَقَالَ: جَائِزٌ. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ بِهَا. اخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَبِهِ قَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ طَاوُسٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ جَوَازُ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَكَوْنُ رِبْحِ الْمَالَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْعُرُوضِ كَحُصُولِهِ فِي الْأَثْمَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا، كَالْأَثْمَانِ. وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِقِيمَةِ مَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّنَا جَعَلْنَا نِصَابَ زَكَاتِهَا قِيمَتَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعُرُوض مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، جَازَتْ الشَّرِكَةُ بِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَشْبَهَتْ النُّقُودَ، وَيَرْجِعُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِمِثْلِهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، لَمْ يَجُزْ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بِمِثْلِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ، فَاسْتَوَى فِيهَا مَالُهُ مِثْلٌ مِنْ الْعُرُوضِ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ، كَالْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ سَلَّمَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَجُوزُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَقْدٍ، فَلَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ بِهَا، كَاَلَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ. (3629) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي النُّقْرَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، فَهِيَ كَالْعُرُوضِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنْ الْأَثْمَانِ، قَلَّ الْغِشُّ أَوْ كَثُرَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ الْغِشُّ أَقَلِّ مِنْ النِّصْفِ، جَازَ، وَإِنْ كَثُرَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْغَالِبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَغْشُوشَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْغِشُّ أَكْثَرَ، وَلِأَنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، أَشْبَهَتْ الْعُرُوضَ. وَقَوْلُهُمْ: الِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْفِضَّةَ إذَا كَانَتْ أَقَلَّ، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُهَا فِي الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغِشُّ قَلِيلًا جِدًّا لِمَصْلَحَةِ النَّقْدِ، كَيَسِيرِ الْفِضَّةِ فِي الدِّينَارِ، مِثْلُ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الرِّبَا، وَلَا فِي غَيْرِهِ. [فَصْلٌ الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ] (3630) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ. وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ إذَا كَانَتْ نَافِقَةً؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا أَرَى السَّلَمَ فِي الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّرْفَ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ، فَجَازَتْ الشَّرِكَةُ بِهَا، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، نَافِقَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ نَافِقَةٍ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهَا تُنْفَقُ مَرَّةً وَتَكْسُدُ أُخْرَى، فَأَشْبَهَتْ الْعُرُوضَ، فَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ بِهَا، فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ نَافِقَةً كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً، كَانَتْ قِيمَتُهَا كَالْعُرُوضِ. [فَصْلٌ لَا يَجُوز أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ مَجْهُولًا] (3631) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ مَجْهُولًا، وَلَا جُزَافًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الرُّجُوعِ بِهِ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ مَعَ الْجَهْلِ وَالْجُزَافِ. وَلَا يَجُوزُ بِمَالٍ غَائِبٍ، وَلَا دَيْنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ. (3632) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا اتِّفَاقُ الْمَالَيْنِ فِي الْجِنْسِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي مَالٍ وَاحِدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ خَلْطَ الْمَالَيْنِ شَرْطٌ، وَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي الْمَالِ الْوَاحِدِ. وَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَصَحَّتْ الشَّرِكَةُ فِيهِمَا، كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَمَتَى تَفَاصَلَا، رَجَعَ هَذَا بِدَنَانِيرِهِ، وَهَذَا بِدَرَاهِمِهِ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الْفَضْلَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: يَرْجِعُ هَذَا بِدَنَانِيرِهِ، وَهَذَا بِدَرَاهِمِهِ. وَقَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 كَذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أَرَادَا الْمُفَاصَلَةَ، قَوَّمَا الْمَتَاعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَقَوَّمَا مَالَ الْآخَرِ بِهِ، وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ حِينَ صَرَفَا الثَّمَنَ فِيهِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ، رَأْسُ الْمَالِ فِيهَا الْأَثْمَانُ، فَيَكُونُ الرُّجُوعُ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا. (3633) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ فِي الْقَدْرِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مَالَانِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَجَازَ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ تَسَاوَيَا. (3634) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ اخْتِلَاطُ الْمَالَيْنِ، إذَا عَيَّنَاهُمَا وَأَحْضَرَاهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا شَرَطَ أَنْ تَكُونَ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ، بِأَنْ يَجْعَلَاهُ فِي حَانُوتٍ لَهُمَا، أَوْ فِي يَدِ وَكِيلِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَخْلِطَاهُمَا فَمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتْلَفُ مِنْهُ دُونَ صَاحِبِهِ، أَوْ يَزِيدُ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، فَلَمْ تَنْعَقِد الشَّرِكَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ الْمَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الرِّبْحُ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ خَلْطُ الْمَالِ، كَالْمُضَارَبَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ الْخَلْطُ كَالْوَكَالَةِ. وَعَلَى مَالِكٍ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ، كَالْوَكَالَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَتْلَفُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، أَوْ يَزِيدُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ. مَمْنُوعٌ، بَلْ مَا يَتْلَفُ مِنْ مَالِهِمَا وَزِيَادَتُهُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ اقْتَضَتْ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ مَالِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ تَلَفُهُ مِنْهُمَا، وَزِيَادَتُهُ لَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى تَلِفَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَضِيعَةَ وَالضَّمَانَ أَحَدُ مُوجِبِي الشَّرِكَةِ، فَتَعَلَّقَ بِالشَّرِيكَيْنِ، كَالرِّبْحِ، وَكَمَا لَوْ اخْتَلَطَا. [فَصْل فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ] فَصْلٌ: وَمَتَى وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً، فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَجْرِ عَمَلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْمُضَارَبَةِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى يَسْقُطُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا وَرِبْحُهُ مَعْلُومًا، فَيَكُونَ لَهُ رِبْحُ مَالِهِ. وَلَوْ رَبِحَ فِي جُزْءٍ مِنْهُ رِبْحًا مُتَمَيِّزًا وَبَاقِيهِ مُخْتَلِطٌ، كَانَ لَهُ مَا تَمَيَّزَ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ، وَلَهُ بِحِصَّتِهِ بَاقِي مَالِهِ مِنْ الرِّبْحِ. وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَجْرَ عَمَلِهِ. وَأَجْرَاهَا مَجْرَى الصَّحِيحَةِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا. قَالَ: لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ، قُسِّمَ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَاهُ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 عَقْدٌ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، فَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى فِي فَاسِدِهِ، كَالنِّكَاحِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَهُ الْقَاضِي وَكَلَامُ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي تَصْحِيحِ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ رِبْحِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاؤُهُ، وَإِنَّمَا تُرِك ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ صَحِيحًا، بَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَنْقُلْ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَنْ مَالِهِ. [فَصْلٌ شَرِكَةُ الْعِنَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْأَمَانَةِ] (3636) فَصْلٌ: وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى صَاحِبِهِ أَمَنَةً، وَبِإِذْنِهِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَكَّلَهُ. وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا أَنْ يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ، تَصَرَّفَ فِيهَا، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ جِنْسًا أَوْ نَوْعًا أَوْ بَلَدًا، تَصَرَّفَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، كَالْوَكِيلِ. وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مُسَاوَمَةً وَمُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً وَمُوَاضَعَةً، وَكَيْفَ رَأَى الْمَصْلَحَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ. وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ، وَيَقْبِضَهُمَا، وَيُخَاصِمَ فِي الدِّينِ، وَيُطَالِبَ بِهِ، وَيُحِيلَ، وَيَحْتَالَ، وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبِهِ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ وَيُؤْجَرُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْأَعْيَانِ، فَصَارَ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْأَجْرِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَخْتَصُّ الْعَاقِدَ. (3637) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّقِيقَ، وَلَا يَعْتِقَ عَلَى مَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يُزَوِّجَ الرَّقِيقَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ تِجَارَةً، سِيَّمَا تَزْوِيجُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مَحْضُ ضَرَرٍ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ وَلَا يُحَابِيَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. وَلَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ بِمَالِ الشَّرِكَةِ، وَلَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ فِي الْمَالِ حُقُوقًا، وَيُسْتَحَقُّ رِبْحُهُ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَ الشَّرِكَةِ بِمَالِهِ، وَلَا مَالِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ حُقُوقٍ فِي الْمَالِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا. وَلَا يَأْخُذُ بِالْمَالِ سَفْتَجَةً؛ وَلَا يُعْطِي بِهِ سَفْتَجَةً؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرًا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَذَلِكَ لَهُ، وَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فِي مَنْ اسْتَدَانَ فِي الْمَالِ بِوَجْهِهِ أَلْفًا: فَهُوَ لَهُ، وَرِبْحُهُ لَهُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا اسْتَقْرَضَ شَيْئًا، لَزِمَهُمَا، وَرِبْحُهُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالِ، فَهُوَ كَالصَّرْفِ. وَنَصُّ أَحْمَدَ يُخَالِفُ هَذَا. وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي الشَّرِكَةِ أَكْثَرَ مِمَّا رَضِيَ الشَّرِيكُ بِالْمُشَارَكَةِ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ ضَمَّ إلَيْهَا أَلْفًا مِنْ مَالِهِ. وَيُفَارِقُ الصَّرْفَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَإِبْدَالُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، فَهُوَ كَبَيْعِ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَ فِي حَقِّهِ دُونَ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِعَيْنِ أَوْ دَيْنٍ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 لِأَنَّ شَرِيكَهُ إنَّمَا أَذِنَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ دَاخِلًا فِيهَا. وَإِنْ أَقَرَّ بِعَيْبٍ فِي عَيْنٍ بَاعَهَا، قُبِلَ إقْرَارُهُ، وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكَّلِهِ بِالْعَيْبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِبَقِيَّةِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، أَوْ بِجَمِيعِهِ، أَوْ بِأَجْرِ الْمُنَادِي أَوْ الْحَمَّالِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَأَدَاءِ ثَمَنِهِ. وَإِنْ رُدَّتْ السِّلْعَةُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا. وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ أَرْشَ الْعَيْبِ، أَوْ يَحُطَّ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ ثَمَنَهُ لِأَجْلِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَحْظَ مِنْ الرَّدِّ، وَإِنْ حَطَّ مِنْ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً، أَوْ أَسْقَطَ دَيْنًا لَهُمَا عَنْ غَرِيمِهِمَا، لَزِمَ فِي حَقِّهِ، وَبَطَلَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ يَجُوزُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ شَرِيكِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمَا دَيْنٌ حَالٌ، فَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ، جَازَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ، فَصَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ، كَالْإِبْرَاءِ. (3638) فَصْلٌ: وَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ. وَإِنْ اشْتَرَى نَسَاءً بِنَقْدٍ عِنْدَهُ مِثْلُهُ، أَوْ نَقْدٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ اشْتَرَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَوَات الْأَمْثَالِ وَعِنْدَهُ مِثْلُهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِجِنْسِ مَا عِنْدَهُ، فَهُوَ يُؤَدِّي مِمَّا فِي يَدَيْهِ، فَلَا يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ فِي الشَّرِكَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ نَقْدٌ وَلَا مِثْلِيٌّ مِنْ جِنْسِ مَا اشْتَرَى بِهِ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَرْضٌ فَاسْتَدَانَ عَرْضًا، فَالشِّرَاءُ لَهُ خَاصَّةً، وَرِبْحُهُ لَهُ، وَضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَانَهُ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ مِنْهُ بِبَيْعِهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ نَقْدٌ، وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ أَوْ يُودِعَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَادَةُ التُّجَّارِ، وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْإِيدَاعِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَفِيهِ غَرَرٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِيدَاعَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الشَّرِكَةِ، أَشْبَهَ دَفْعَ الْمَتَاعِ إلَى الْحَمَّالِ. وَفِي التَّوْكِيلِ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ التَّوْكِيلُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ، لَاسْتَفَادَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ مِثْلُ الْعَقْدِ، وَالشَّرِيكُ يَسْتَفِيدُ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ وَدُونَهُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ أَخُصُّ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ. فَإِنْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا، مَلَكَ الْآخَرُ عَزْلَهُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِالتَّوْكِيلِ، فَكَذَلِكَ بِالْعَزْلِ. وَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْهَنَ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِمَا، أَوْ يَرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أَصَحِّهِمَا، أَنَّ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُرَادُ لِلْإِيفَاءِ، وَالِارْتِهَانُ يُرَادُ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِيفَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ، فَمَلَكَ مَا يُرَادُ لَهُمَا. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَطَرًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ وَلِي الْعَقْدَ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لِكَوْنِ الْقَبْضِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَخْتَصُّ الْعَاقِدَ، فَكَذَلِكَ مَا يُرَادُ لَهُ. وَهَلْ لَهُ السَّفَرُ بِالْمَالِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، نَذْكُرُهُمَا فِي الْمُضَارَبَةِ. فَأَمَّا الْإِقَالَةُ، فَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ بَيْعًا فَهُوَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ، وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا فَهُوَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ إذَا كَانَ الْحَظُّ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي مَا يَرَى أَنَّهُ قَدْ غَبَنَ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَهَا إذَا قُلْنَا: هِيَ فَسْخٌ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ. وَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك. جَازَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ مَا يَقَعُ فِي التِّجَارَةِ، مِنْ الْإِبْضَاعِ، وَالْمُضَارَبَةِ بِالْمَالِ، وَالْمُشَارَكَةِ بِهِ، وَخَلْطِهِ بِمَالِهِ، وَالسَّفَرِ بِهِ، وَالْإِيدَاعِ، وَالْبَيْعِ نَسَاءً، وَالرَّهْنِ، وَالِارْتِهَانِ، وَالْإِقَالَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ الرَّأْيَ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ، فَجَازَ لَهُ كُلُّ مَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ تَمَسُّكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ، وَالْحَطِيطَةِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَالْقَرْضِ، وَالْعِتْقِ، وَمُكَاتَبَةِ الرَّقِيقِ، وَتَزْوِيجِهِمْ، وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا. [فَصْلٌ أَخَذَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً] (3639) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مُضَارَبَةً، فَرِبْحُهُ لَهُ، وَوَضِيعَتُهُ عَلَيْهِ، دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُضَارَبَةِ: إذَا ضَارَبَ لِرَجُلٍ آخَرَ، رَدَّ مَا حَصَلَ مِنْ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْأَوَّلِ، إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْأَوَّلِ. فَيَجِيءُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. [فَصْلٌ الشَّرِكَة مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ] (3640) فَصْلٌ: وَالشَّرِكَةُ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَجُنُونِهِ، وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ، وَبِالْفَسْخِ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ، كَالْوَكَالَةِ، وَإِنْ عَزَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، انْعَزَلَ الْمَعْزُولُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي قَدْرِ نَصِيبِهِ، وَلِلْعَازِلِ التَّصَرُّفُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْزُولَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ إذْنِهِ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ نَاضًّا، وَإِنْ كَانَ عَرْضًا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ حَتَّى يَنِضَّ الْمَالُ، كَالْمُضَارِبِ إذَا عَزَلَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ بِسِلْعَةِ أُخْرَى، أَوْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ مَا يَنِضُّ بِهِ الْمَالُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ مُطْلَقًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَأَشْبَهَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 الْوَكَالَةَ. فَعَلَى هَذَا إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ أَوْ الْقِسْمَةِ، فَعَلَا. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَالْآخَرُ الْبَيْعَ. أُجِيبَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ دُونَ طَالِبِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا فَسَخَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارَبَةَ، فَطَلَبَ الْعَامِلُ الْبَيْعَ، أُجِيبَ إلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ، وَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ إلَّا بِالْبَيْعِ، فَاسْتَحَقَّهُ الْعَامِلُ لِوُقُوفِ حُصُولِ حَقّه عَلَيْهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا، مَا يَحْصُلُ مِنْ الرِّبْحِ يَسْتَدْرِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْمَتَاعِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبَيْعِ. [فَصْلٌ مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَهُ وَارِثٌ رَشِيدٌ] (3641) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَلَهُ وَارِثٌ رَشِيدٌ، فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَيَأْذَنَ لَهُ الشَّرِيكُ فِي التَّصَرُّفِ. وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ قَامَ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُولَى عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ وَصَّى بِمَالِ الشَّرِكَةِ، أَوْ بِبَعْضِهِ، لِمُعَيَّنٍ، فَالْمُوصَى لَهُ كَالْوَارِثِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ وَصَّى بِهِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ، لَمْ يَجُزْ لِلْوَصِيِّ الْإِذْنُ فِي التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ، فَيَعْزِلُ نَصِيبَهُمْ، وَيُفَرِّقُهُ بَيْنَهُمْ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ إمْضَاءُ الشَّرِكَةِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ، فَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَلَهُ الْإِتْمَامُ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْهُ، بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ فِي قَدْرِ مَا قَضَى. [فَصْلٌ فِي شَرِكَة الْمُضَارَبَةِ] (3642) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَشْتَرِك بَدَنٌ وَمَالٌ. وَهَذِهِ الْمُضَارَبَةُ، وَتُسَمَّى قِرَاضًا أَيْضًا، وَمَعْنَاهَا أَنْ يَدْفَعَ رَجُلٌ مَالَهُ إلَى آخَرَ يَتَّجِرُ لَهُ فِيهِ، عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا حَسَبِ مَا يَشْتَرِطَانِهِ، فَأَهْلُ الْعِرَاقِ يُسَمُّونَهُ مُضَارَبَةً، مَأْخُوذٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّفَرُ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرِّبْحِ بِسَهْمٍ. وَيُسَمِّيه أَهْلُ الْحِجَازِ الْقِرَاضَ. فَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَطْعِ. يُقَالُ: قَرَضَ الْفَأْرُ الثَّوْبَ. إذَا قَطَعَهُ. فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ اقْتَطَعَ مِنْ مَالِهِ قِطْعَةً وَسَلَّمَهَا إلَى الْعَامِلِ، وَاقْتَطَعَ لَهُ قِطْعَةً مِنْ الرِّبْحِ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُوَازَنَةِ. يُقَالُ: تَقَارَضَ الشَّاعِرَانِ. إذَا وَازَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِشِعْرِهِ. وَهَاهُنَا مِنْ الْعَامِلِ الْعَمَلُ، وَمِنْ الْآخَرِ الْمَالُ، فَتَوَازَنَا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَعْطَاهُ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً يَعْمَلُ بِهِ فِي الْعِرَاقِ،. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، خَرَجَا فِي جَيْشٍ إلَى الْعِرَاقِ، فَتَسَلَّفَا مِنْ أَبِي مُوسَى مَالًا، وَابْتَاعَا بِهِ مَتَاعًا. وَقَدِمَا بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَبَاعَاهُ، وَرَبِحَا فِيهِ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَخْذَ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ كُلِّهِ. فَقَالَا: لَوْ تَلِفَ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْنَا، فَلِمَ لَا يَكُونُ رِبْحُهُ لَنَا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ جَعَلْته قِرَاضًا؟ قَالَ: قَدْ جَعَلْته. وَأَخَذَ مِنْهُمَا نِصْفَ الرِّبْحِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ. وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُثْمَانَ قَارَضَهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ فَلَا ضَمَانَ، هُمَا عَلَى مَا شَرَطَا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، أَنَّهُمَا قَارِضًا. وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ فَحَصَلَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تُنَمَّى إلَّا بِالتَّقَلُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُهَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ، وَلَا كُلُّ مَنْ يُحْسِنُ التِّجَارَةَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ، فَاحْتِيجَ إلَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَشَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِدَفْعِ الْحَاجَتَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُضَارَبَةِ وَالْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ مَوْضُوعَانِ لَهَا أَوْ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، فَجَازَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ، كَلَفْظِ التَّمْلِيكِ فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ حُكْم شَرِكَةِ الْمُضَارَبَة] (3643) فَصْلٌ: وَحُكْمُهَا حُكْمُ شَرِكَةِ الْعِنَانِ، فِي أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لِلشَّرِيكِ عَمَلُهُ جَازَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ، وَمَا مُنِعَ مِنْهُ الشَّرِيكُ مُنِعَ مِنْهُ الْمُضَارِبُ، وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ثَمَّ، فَهَاهُنَا مِثْلُهُ، وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَمَا لَا يَجُوزُ ثَمَّ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ. [فَصْلٌ أَنْ يَشْتَرِك مَالَانِ وَبَدَنُ] (3644) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَشْتَرِكَ مَالَانِ وَبَدَنُ صَاحِبِ أَحَدِهِمَا. فَهَذَا يَجْمَعُ شَرِكَةً وَمُضَارَبَةً، وَهُوَ صَحِيحٌ. فَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ، وَلِلْآخَرِ أَلْفَانِ، فَأَذِنَ صَاحِبُ الْأَلْفَيْنِ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، صَحَّ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ ثُلُثُ الرِّبْحِ بِحَقِّ مَالِهِ، وَالْبَاقِي وَهُوَ ثُلُثَا الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا، لِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلِلْعَامِلِ رُبْعُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ، فَجَعَلْنَاهُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ لِلْعَامِلِ، حِصَّةُ مَالِهِ سَهْمَانِ، وَسَهْمٌ يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِ شَرِيكِهِ، وَحِصَّةُ مَالِ شَرِيكِهِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، لِلْعَامِلِ سَهْمٌ وَهُوَ الرُّبْعُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ وَرَأْسُ الْمَالِ مُشَاعٌ؟ قُلْنَا: إنَّمَا تَمْنَعُ الْإِشَاعَةُ الْجَوَازَ إذَا كَانَتْ مَعَ غَيْرِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مَعَ الْعَامِلِ، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ. فَإِنْ شَرَطَ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَقَطْ، فَمَالُ صَاحِبِهِ بِضَاعَةٌ فِي يَدِهِ، وَلَيْسَتْ بِمُضَارَبَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ إذَا كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا إذَا قَالَ: رِبْحُ مَالِكَ لَك، وَرِبْحُ مَالِي لِي. فَقَبِلَ الْآخَرُ، كَانَ إبْضَاعًا لَا غَيْرُ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الْقِرَاضِ شَرِكَةً، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ عَقْدَ إجَارَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 وَلَنَا، أَنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا لِلْآخَرِ، فَلَمْ نَمْنَعْ مِنْ جَمْعِهِمَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ مُتَمَيِّزًا. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا مُضَارَبَةً] (3645) فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا مُضَارَبَةً، وَقَالَ: أَضِفْ إلَيْهِ أَلْفًا مِنْ عِنْدِك، وَاتَّجَرَ بِهِمَا، وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا، لَك ثُلُثَاهُ، وَلِي ثُلُثُهُ. جَازَ؛ وَكَانَ شَرِكَةً وَقِرَاضًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَالِ كَانَ الرِّبْحُ تَابِعًا لَهُ، دُونَ الْعَمَلِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْمَالِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَمَلِ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِزِيَادَةِ الرِّبْحِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِلْمَالِ وَحْدَهُ. مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لَهُمَا، كَمَا أَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِمَا. فَإِنْ شَرَطَ غَيْرُ الْعَامِلِ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ، لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَفَاضُلِهِمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لَا مُقَابِلَ لَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رِبْحَ مَالِ الْعَامِلِ الْمُنْفَرِدِ، وَفَارَقَ شَرِكَةَ الْعِنَانِ؛ لِأَنَّ فِيهَا عَمَلًا مِنْهُمَا، فَجَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ لِتَفَاضُلِهِمَا فِي الْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ جَعَلَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَقُولَا مُضَارَبَةً، جَازَ، وَكَانَ إبْضَاعًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ قَالَا: مُضَارَبَةً. فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَنْ يَشْتَرِك بَدَنَانِ بِمَالِ أَحَدِهِمَا] (3646) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الْخَامِسُ، أَنْ يَشْتَرِكَ بَدَنَانِ بِمَالِ أَحَدِهِمَا. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ مِنْهُمَا، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا، وَيَعْمَلَانِ فِيهِ مَعًا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. فَهَذَا جَائِزٌ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ. وَتَكُونُ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ غَيْرَ صَاحِبِ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ الْمَشْرُوطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ فِي مَالِ غَيْره، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمُضَارَبَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: إذَا شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. قَالَ: وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ حَتَّى يُسَلِّمَ الْمَالَ إلَى الْعَامِلِ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَيُخَالِفُ مَوْضُوعَهَا. وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَمَلَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْمُضَارَبَةِ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا مَعَ وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، كَالْمَالِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ. مَمْنُوعٌ، إنَّمَا تَقْتَضِي إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْ رِبْحِهِ، وَهَذَا حَاصِلٌ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَمَلِ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ مَالَهُ إلَى اثْنَيْنِ مُضَارَبَةً صَحَّ، وَلَمْ يَحْصُلْ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَى أَحَدِهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 (3647) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غُلَامُ رَبِّ الْمَالِ، صَحَّ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ يَدَ الْغُلَامِ كَيَدِ سَيِّدِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْغُلَامِ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، فَصَحَّ ضَمُّهُ إلَيْهِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ بَهِيمَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ شَرِكَة الْمُفَاوَضَةِ] (3648) فَصْلٌ: وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَنَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَشْتَرِكَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، مِثْلُ أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ شَرِكَةِ الْعِنَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْأَبْدَانِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا يَصِحُّ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَصَحَّ مَعَ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا فِي الشَّرِكَةِ الِاشْتِرَاكَ فِيمَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مِيرَاثٍ، أَوْ يَجِدُهُ مِنْ رِكَازٍ أَوْ لُقَطَةٍ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَلْزَمُ الْآخَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، وَضَمَانِ غَصْبٍ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَغَرَامَةِ الضَّمَانِ، أَوْ كَفَالَةٍ، فَهَذَا فَاسِدٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَجَازَهُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَشَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهَا شُرُوطًا، وَهِيَ أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالُهُمَا فِي الشَّرِكَةِ سَوَاءً، وَأَنْ يُخْرِجَا جَمِيعَ مَا يَمْلِكَانِهِ مِنْ جِنْسِ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَفَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ» . وَلِأَنَّهَا نَوْعُ شَرِكَةٍ يَخْتَصُّ بِاسْمٍ، فَكَانَ فِيهَا صَحِيحٌ كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ. وَلَنَا: أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ، وَلَا بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَّرَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيَانُ غَرَّرَهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مَا لَزِمَ الْآخَرَ، وَقَدْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَقَدْ أَدْخَلَا فِيهِ الْأَكْسَابَ النَّادِرَةَ، وَالْخَبَرُ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْعَقْدَ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُفَاوَضَةَ فِي الْحَدِيثِ وَلِهَذَا رُوِيَ فِيهِ: «وَلَا تَجَادَلُوا، فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ» . وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَلَا يَصِحُّ. فَإِنْ اخْتِصَاصَهَا بِاسْمِ لَا يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، كَبَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَسَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرَيْنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ هَذَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 [مَسْأَلَةٌ الرِّبْحُ عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ] (3649) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ) يَعْنِي فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْمَحْضَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ، أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ مَا يُجْمِعَانِ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ. وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ، فَجَازَ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، كَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَكَالْجُزْءِ مِنْ الثَّمَرَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِك بَدَنَانِ بِمَالَيْهِمَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَا الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَسَاوَيَا مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْمَالِ، وَأَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَالِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَوْنُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ تَبَعٌ لِلْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ عَقْدُ الشَّرِكَةِ، وَإِطْلَاقُ الرِّبْحِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِالشَّرْطِ، كَالْوَضِيعَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَمَلَ مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحُ، فَجَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ مِنْهُمَا، كَالْمُضَارِبَيْنِ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ أَبْصَرَ بِالتِّجَارَةِ مِنْ الْآخَرِ، وَأَقْوَى عَلَى الْعَمَلِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ زِيَادَةً فِي الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ الرِّبْحُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ الْمُضَارِبِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْمَالِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ إذَا كَانَ مُفْرَدًا، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا، وَأَمَّا حَالَةُ الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ يُقْسَمُ الرِّبْحُ عَلَيْهِ، وَيَتَقَدَّرُ بِهِ، قَدَّرْنَاهُ بِالْمَالِ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، فَهُوَ الْأَصْلُ، فَيَصِيرُ إلَيْهِ، كَالْمُضَارَبَةِ يُصَارُ إلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا عَدَمَ، وَقَالَا: الرِّبْحُ بَيْنَنَا. كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَفَارَقَ الْوَضِيعَةَ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَالِ، بِدَلِيلِ الْمُضَارَبَةِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، فَهِيَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُمَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهِ مَرَّةً، وَيَتَسَاوَيَانِ أُخْرَى، فَجَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ مُسَاوَاةٍ أَوْ تَفَاضُلٍ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ، بَلْ هَذِهِ أَوْلَى؛ لِانْعِقَادِهَا عَلَى الْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، فَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ مُسَاوَاةٍ أَوْ تَفَاضُلٍ. وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الشَّرِكَاتِ الرِّبْحُ فِيهَا عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ، فَجَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالضَّمَانِ، إذْ الشَّرِكَةُ وَقَعَتْ عَلَيْهِ خَاصَّةً إذْ لَا مَالَ عِنْدَهُمَا، فَيَشْتَرِكَانِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالضَّمَانُ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وَلَنَا، أَنَّهَا شَرِكَةٌ فِيهَا عَمَلٌ، فَجَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الرِّبْحِ، كَسَائِرِ الشَّرِكَاتِ. وَقَوْلُ الْقَاضِي: لَا مَالَ لَهُمَا يَعْمَلَانِ فِيهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَشْتَرِكَانِ لِيَعْمَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِيمَا يَأْخُذَانِهِ بِجَاهِهِمَا، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الشَّرِكَاتِ إنَّمَا يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا فِيمَا يَأْتِي، فَكَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ الَّتِي فِيهَا شَرِكَةٌ وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ مَالَانِ وَبَدَنُ صَاحِبِ أَحَدِهِمَا، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، وَيَأْذَنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي التِّجَارَةِ بِهِمَا، فَمَهْمَا شَرَطَا لِلْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ إذَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُضَارِبٌ لِصَاحِبِهِ فِي أَلْفٍ، وَلِعَامِلِ الْمُضَارَبَةِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ شَرَطَا لَهُ دُونَ نِصْفِ الرِّبْحِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِمَالٍ وَعَمَلٍ، وَهَذَا الْجُزْءُ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ الْمَشْرُوطِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ لَا مُقَابِلَ لَهُ، فَبَطَلَ شَرْطُهُ. وَإِنْ جَعَلَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَلَيْسَ هَذَا شَرِكَةً، وَلَا مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ تَقْتَضِي أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْمَالِ وَالْعَمَلِ، وَالْمُضَارَبَةُ تَقْتَضِي أَنَّ لِلْعَامِلِ نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلَا لَهُ هَاهُنَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ شَيْئًا. وَإِنَّمَا جَعَلَا الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَعَمَلُهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ تَبَرُّعٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إبْضَاعًا، وَهُوَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ قَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ اقْتَرَضَ الْأَلْفَ أَوْ بَعْضَهَا مِنْ صَاحِبِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَمَلَهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ عِوَضًا عَنْ قَرْضِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إذَا اشْتَرَكَ بَدَنَانِ بِمَالِ أَحَدِهِمَا، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا وَيَعْمَلَانِ جَمِيعًا فِيهِ، فَإِنَّ لِلْعَامِلِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُضَارِبٌ مَحْضٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، سَوَاءٌ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُضَارَبَةِ الَّتِي فِيهَا شَرِكَةٌ عَلَى مَا شَرَحْنَا. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ تَقْدِيرُ نَصِيبِ الْعَامِلِ] فَصْلٌ: وَمَنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ تَقْدِيرُ نَصِيبِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يُقَدَّرْ إلَّا بِهِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً. وَلَمْ يُسَمِّ لِلْعَامِلِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ، فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا. لَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا. وَلَنَا، أَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَوْلُهُ: مُضَارَبَةً. اقْتَضَى أَنَّ لَهُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ مَجْهُولًا، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَلَك جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا. فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا إضَافَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَتَرَجَّحْ فِيهَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَاقْتَضَى التَّسْوِيَةَ، كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ بَيْنِي وَبَيْنَك. وَإِنْ قَدَّرَ نَصِيبَ الْعَامِلِ، فَقَالَ: وَلَك ثُلُثُ الرِّبْحِ، أَوْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 رُبْعُهُ، أَوْ جُزْءٌ مَعْلُومٌ، أَيِّ جُزْءٍ كَانَ. فَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمَالِهِ، لِكَوْنِهِ نَمَاءَهُ وَفَرْعَهُ، وَالْعَامِلُ يَأْخُذُ بِالشَّرْطِ، فَمَا شَرَطَ لَهُ اسْتَحَقَّهُ، وَمَا بَقِيَ فَلِرَبِّ الْمَالِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ. وَإِنْ قَدَّرَ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: وَلِيَ ثُلُثُ الرِّبْحِ. وَلَمْ يَذْكُرْ نَصِيبَ الْعَامِلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ شَيْءٌ، فَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً. وَالثَّانِي، يَصِحُّ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَهُمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمَا، فَإِذَا قُدِّرَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ فَالْبَاقِي لِلْآخَرِ مِنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ، كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . وَلَمْ يَذْكُرْ نَصِيبَ الْأَبِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَوْصَيْت بِهَذِهِ الْمِائَةِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَنَصِيبُ زَيْدٍ مِنْهَا ثَلَاثُونَ، كَانَ الْبَاقِي لِعَمْرٍو. كَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ قَالَ: لِي النِّصْفُ وَلَك الثُّلُثُ. وَسَكَتَ عَنْ السُّدُسِ، صَحَّ. وَكَانَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَمِيعِ الْبَاقِي بَعْدَ جُزْءِ الْعَامِلِ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ فَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ بَعْضَهُ وَتَرَك بَعْضَهُ. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً عَلَى الثُّلُثِ أَوْ النِّصْفِ. أَوْ قَالَ: بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ. صَحَّ، وَكَانَ تَقْدِيرُ النَّصِيبِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُرَادُ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ بِمَالِهِ لَا بِالشَّرْطِ، وَالْعَامِلُ يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يَكْثُرُ وَيَقِلُّ، وَإِنَّمَا تَتَقَدَّرُ حِصَّتُهُ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ الشَّرْطُ لَهُ، وَمَتَى شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا شَيْئًا، وَاخْتَلَفَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِمَنْ هُوَ؟ فَهُوَ لِلْعَامِلِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً، وَلَك ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَثُلُثُ مَا بَقِيَ. صَحَّ، وَكَانَ لَهُ خَمْسَةُ أَتْسَاعٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ. وَإِنْ قَالَ: لَك ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَرُبْعُ مَا بَقِيَ. فَلَهُ النِّصْفُ. وَإِنْ قَالَ: لَك رُبْعُ الرِّبْحِ، وَرُبْعُ مَا بَقِيَ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ وَنِصْفُ ثُمْنٍ. وَسَوَاءٌ عَرَفَا الْحِسَابَ أَوْ جَهِلَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْزَاءٌ مَعْلُومَةٌ مُقَدَّرَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُمْسَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا. [فَصْل قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً وَلَك جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ] (3651) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً، وَلَك جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ شَرِكَةٌ فِي الرِّبْحِ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ نَصِيبٌ أَوْ حَظٌّ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ إلَّا عَلَى قَدْرٍ مَعْلُومٍ. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ، وَلَك مِثْلُ مَا شَرَطَ لِفُلَانٍ. وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ. صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا أَشَارَا إلَى مَعْلُومٍ عِنْدَهُمَا. وَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِهِ، أَوْ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدُهُمَا، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. (3652) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاتَّجَرَ بِهِ. وَرِبْحُهُ كُلُّهُ لَك. كَانَ قَرْضًا لَا قِرَاضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خُذْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 فَاتَّجَرَ بِهِ. يَصْلُحُ لَهُمَا، وَقَدْ قَرَنَ بِهِ حُكْمَ الْقَرْضِ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَلَا ضَمَانَ عَلَيْك. فَهَذَا قَرْضٌ شَرَطَ فِيهِ نَفْيَ الضَّمَانِ، فَلَا يَنْتَفِي بِشَرْطِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا قَرْضًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْك. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ فَاتَّجَرَ بِهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. كَانَ إبْضَاعًا؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ بِهِ حُكْمَ الْإِبْضَاعِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَعَلَيْك ضَمَانُهُ. لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ أَمَانَةً غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ. وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَك، أَوْ كُلُّهُ لِي. فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ: وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي كَانَ إبْضَاعًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتِ لَهُ حُكْمَ الْإِبْضَاعِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فِي الْقِرَاضِ، فَإِذَا شَرَطَ لَأَحَدِهِمَا، فَكَأَنَّهُ وَهَبَ الْآخَرَ نَصِيبَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا شَرَطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا. بِالرِّبْحِ، فَقَدْ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَفَسَدَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ الرِّبْحَ كُلَّهُ فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ لَأَحَدِهِمَا. وَيُفَارِقُ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِمَا أَثْبَتَ حُكْمَهُ مِنْ الْإِبْضَاعِ وَالْقِرَاضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَرَّحَ بِالْمُضَارَبَةِ. وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ قَبْلَ وُجُودِ الْمَوْهُوبِ. [فَصْلٌ دَفَعَ مَالًا إلَى اثْنَيْنِ مُضَارَبَةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ] (3653) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا إلَى اثْنَيْنِ مُضَارَبَةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُمَا جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، جَازَ. وَإِنْ قَالَ: لَكُمَا كَذَا وَكَذَا مِنْ الرِّبْحِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفَ هُوَ، بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ قَوْلِهِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَامِلِهِ: وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا. وَإِنْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِلْآخَرِ رُبْعَهُ، وَجَعَلَ الْبَاقِيَ لَهُ، جَازَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ بِأَبْدَانِهِمَا، فَلَا يَجُوزُ تَفَاضُلُهُمَا فِي الرِّبْحِ كَشَرِيكَيْ الْأَبْدَانِ. وَلَنَا، أَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ، فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ. وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ بِالْعَمَلِ وَهُمَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهِ، فَجَازَ تَفَاضُلُهُمَا فِي الْعِوَضِ، كَالْأَجِيرَيْنِ. وَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ التَّسَاوِي فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، بَلْ هِيَ كَمَسْأَلَتِنَا فِي جَوَازِ تَفَاضُلِهِمَا. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ وَاحِدٌ، وَهَذَانِ عَقْدَانِ. [فَصْلٌ قَارِضِ اثْنَانِ وَاحِدًا بِأَلْفِ لَهُمَا] (3654) فَصْلٌ: وَإِنْ قَارِضِ اثْنَانِ وَاحِدًا بِأَلْفٍ لَهُمَا، جَازَ. وَإِذَا شَرَطَا لَهُ رِبْحًا مُتَسَاوِيًا مِنْهُمَا، جَازَ. وَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا لَهُ النِّصْفَ، وَالْآخَرُ الثُّلُثَ، جَازَ، وَيَكُونُ بَاقِي رِبْحِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَإِنْ شَرَطَا كَوْنَ الْبَاقِي مِنْ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَلَامُ الْقَاضِي يَقْتَضِي جَوَازَهُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وَلَنَا، أَنَّ أَحَدَهُمَا يَبْقَى لَهُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ النِّصْفُ، وَالْآخَرَ يَبْقَى لَهُ الثُّلُثَانِ. فَإِذَا اشْتَرَطَا التَّسَاوِي فَقَدْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَلَمْ يَجُزْ. كَمَا لَوْ شَرَطَ رِبْحَ مَالِهِ الْمُنْفَرِدِ. [فَصْلٌ شَرْطًا فِي الْمُضَارَبَة جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ] (3655) فَصْلٌ: وَإِذَا شَرَطَا جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ نَظَرْت؛ فَإِنْ شَرَطَاهُ لِعَبْدِ أَحَدِهِمَا أَوْ لِعَبْدَيْهِمَا، صَحَّ، وَكَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا لِسَيِّدِهِ. فَإِذَا جَعَلَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَبْدَيْهِمَا أَثْلَاثًا، كَانَ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ. وَإِنْ شَرَطَاهُ لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِوَلَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ امْرَأَتِهِ، أَوْ قَرِيبِهِ وَشَرَطَا عَلَيْهِ عَمَلًا مَعَ الْعَامِلِ، صَحَّ، وَكَانَا عَامِلَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا عَلَيْهِ عَمَلًا، لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَالْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ لَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، سَوَاءٌ شَرَطَ لِقَرِيبِ الْعَامِلِ، أَوْ لِقَرِيبِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا شَرَطَ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمَالِ أَوْ عَمَلٍ، وَلَيْسَ هَذَا وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَمَا شَرَطَ لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَيَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ ذِكْرَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ يَعُودُ إلَى الرِّبْحِ، فَفَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً. وَإِنْ قَالَ: لَك الثُّلُثَانِ، عَلَى أَنْ تُعْطِيَ امْرَأَتَك نِصْفَهُ. فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الرِّبْحِ شَرْطًا لَا يَلْزَمُ، فَكَانَ فَاسِدًا. وَالْحُكْمُ فِي الشَّرِكَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُضَارَبَةِ، فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ الْحَكَم فِي الشَّرِكَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُضَارَبَة] (3656) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الشَّرِكَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُضَارَبَةِ، فِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا أَطْلَقَاهَا وَلَمْ يَذْكُرَا الرِّبْحَ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَفِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّ لَهُمَا أَصْلًا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ، وَيَتَقَدَّرُ الرِّبْحُ بِهِ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الرِّبْحِ فِيهَا بِالْمَالِ وَالْعَمَلِ، لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْآخَرِ، فَلَا يُعْلَمُ قَدْره مِنْهُ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، فَلَا مَالَ فِيهَا يُقَدَّرُ الرِّبْحُ بِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْآخَرِ، فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي أَصْلِ الْعَمَلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا يُرْجَعُ إلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَقْدِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ وَيَتَفَاضَلُ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى مِقْدَارِهِ، بِخِلَافِ الْمَالِ، فَيَعْتَبِرُ ذِكْرُ الرِّبْحِ وَالْمَعْرِفَةُ بِهِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ. [مَسْأَلَةٌ الْخُسْرَانَ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ] (3657) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ) . يَعْنِي الْخُسْرَانَ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُمَا مُتَسَاوِيًا فِي الْقَدْرِ، فَالْخُسْرَانُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَثْلَاثًا، فَالْوَضِيعَةُ أَثْلَاثًا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ تَكُونُ الْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمُشْتَرَى، سَوَاءٌ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ لِتَلَفٍ، أَوْ نُقْصَانٍ فِي الثَّمَنِ عَمَّا اشْتَرَيَا بِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْوَضِيعَةَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْمَالِ خَاصَّةً، لَيْسَ عَلَى الْعَامِلِ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِ رَبِّهِ، لَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيهِ، فَيَكُونُ نَقْصِهِ مِنْ مَالِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ، فَأَشْبَهَ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ، فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ يُشَارِكُ الْعَامِلَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الزَّرْعِ وَالتَّمْرِ. وَإِنْ تَلِفَ الشَّجَرُ، أَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْضِ بِغَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَامِلِ شَيْءٌ. [مَسْأَلَة جَعَلَ فَضْلَ دَرَاهِمَ لَأَحَدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ] (3658) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَأَحَدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ فَضْلَ دَرَاهِمَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى جَعَلَ نَصِيبَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، أَوْ جَعَلَ مَعَ نَصِيبِهِ دَرَاهِمَ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا وَعَشْرَةَ دَرَاهِمَ، بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مِنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ الْقِرَاضِ إذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا لِنَفْسِهِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً. وَمِمَّنْ حَفِظْنَا ذَلِكَ عَنْهُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْجَوَابُ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَك نِصْفُ الرِّبْحِ إلَّا عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ نِصْفُ الرِّبْحِ وَعَشْرَةُ دَرَاهِمَ، كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا شَرَطَ دَرَاهِمَ مُفْرَدَةً. وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحّ ذَلِكَ لِمَعْنَيَيْنِ؛: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ إذَا شَرَطَ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْبَحَ غَيْرَهَا، فَيَحْصُلَ عَلَى جَمِيعِ الرِّبْحِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْبَحَهَا، فَيَأْخُذَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جُزْءًا. وَقَدْ يَرْبَحُ كَثِيرًا، فَيَسْتَضِرُّ مَنْ شُرِطَتْ لَهُ الدَّرَاهِمُ. وَالثَّانِي، أَنَّ حِصَّةَ الْعَامِلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً بِالْأَجْزَاءِ، لَمَّا تَعَذَّرَ كَوْنُهَا مَعْلُومَةً بِالْقَدْرِ، فَإِذَا جُهِلَتْ الْأَجْزَاءُ، فَسَدَتْ، كَمَا لَوْ جُهِلَ الْقَدْرُ فِيمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِهِ. وَلِأَنَّ الْعَامِلَ مَتَى شَرَطَ لِنَفْسِهِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، رُبَّمَا تَوَانَى فِي طَلَبِ الرِّبْحِ؛ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ فِيهِ وَحُصُولِ نَفْعِهِ لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ. [فَصْل دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَيْنِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحَ أَلْفٍ] (3659) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَيْنِ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحَ أَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَأَحَدِهِمَا رِبْحَ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، أَوْ رِبْحَ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ، أَوْ رِبْحَ تِجَارَتِهِ فِي شَهْرٍ أَوْ عَامٍ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَسَدَ الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْبَحُ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَرْبَحُ فِي غَيْرِهِ دُونَهُ، فَيَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالرِّبْحِ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ الشَّرِكَةِ وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا، وَقَالَ لَك رِبْحُ نِصْفِهِ. لَمْ يَجُزْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ رِبْحِهِ هُوَ رِبْحُ نِصْفِهِ، فَجَازَ شَرْطُهُ، كَمَا لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَتِهِ الْأُخْرَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وَلَنَا، أَنَّهُ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحَ بَعْضِ الْمَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْآخَرَ، فَلَمْ يَجُزْ. كَمَا لَوْ قَالَ: لَك رِبْحُ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ. وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُفْرِدَ نِصْفَ الْمَالِ، فَيَرْبَحَ فِيهِ دُونَ النِّصْفِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ نِصْفِ الرِّبْحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى انْفِرَادِهِ بِرِبْحِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ. [مَسْأَلَة الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ بِنَسِيئَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ ضَمِنَ] (3660) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَالْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ بِنَسِيئَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ، ضَمِنَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى لَا يَضْمَنُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ وَغَيْرَهُ مِنْ الشُّرَكَاءِ، إذَا نَصَّ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَقَالَ: نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً أَوْ قَالَ: بِنَقْدِ الْبَلَدِ. أَوْ ذَكَرَ نَقْدًا غَيْرَهُ، جَازَ، وَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ يَطْلُبُ بِذَلِكَ الْفَائِدَةَ فِي الْعَادَةِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ حَالًّا، وَفِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَيْعُ نَسِيئَةً بِغَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ فِيهِ، كَالْوَكِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّائِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالِاحْتِيَاطِ، وَفِي النَّسِيئَةِ تَغْرِيرٌ بِالْمَالِ، وَقَرِينَةُ الْحَالِ تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْكَلَامِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْهُ حَالًا. وَالثَّانِيَة: أَنَّهُ، يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ يَنْصَرِفُ إلَى التِّجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ، وَالرِّبْحُ فِي النَّسَاءِ أَكْثَرُ. وَيُفَارِقُ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ؛ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ فَحَسْبُ، فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ، كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْبَيْعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَاجَةَ الْمُوَكِّلِ إلَى الثَّمَنِ نَاجِزَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَة. وَإِنْ قَالَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك. فَلَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ: تَصَرَّفْ كَيْف شِئْت، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَدُلُّ عَلَى رِضَائِهِ بِرَأْيِهِ فِي صِفَاتِ الْبَيْعِ، وَفِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا مِنْهَا. فَإِذَا قُلْنَا: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً. فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَمَهْمَا فَاتَ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إلَّا أَنْ يُفَرِّطَ بِبَيْعِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ، أَوْ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ الَّذِي انْكَسَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: يَقِفُ بَيْعُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْإِجَازَةِ. فَهَاهُنَا مِثْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ صِحَّةَ؛ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الضَّمَانَ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فَسَادَ الْبَيْعِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَلْزَمُ الْعَامِلَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الثَّمَنِ حَصَلَ بِتَفْرِيطِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْبَيْعِ، ضَمِنَ الْمَبِيعَ بِقِيمَتِهِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُهُ، إمَّا لِتَلَفِ الْمَبِيعِ أَوْ امْتِنَاعِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّهِ إلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِقِيمَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ بِالْبَيْعِ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَلَا يُتَحَفَّظُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 بِتَرْكِهِ سِوَاهَا، وَزِيَادَةُ، الثَّمَنِ حَصَلَتْ بِتَفْرِيطِهِ، فَلَا يَضْمَنُهَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْبَيْعِ، وَفَاتَ بِتَفْرِيطِ الْبَائِعِ. وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقِيمَةِ، فَقَدْ انْتَقَلَ، الْوُجُوبُ إلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الثَّمَنُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. [فَصْل سَفَرُ الشَّرِيك بِالْمَالِ] (3661) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ السَّفَرُ بِالْمَالِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ تَغْرِيرًا بِالْمَالِ وَخَطَرًا، وَلِهَذَا يُرْوَى: " إنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ لَعَلَى خَطَرٍ " قُلْت، إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ تَعَالَى: أَيْ هَلَاكٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّغْرِيرُ بِالْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، لَهُ السَّفَرُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا. قَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ، بِنَاءً عَلَى السَّفَرِ الْوَدِيعَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِالتِّجَارَةِ سَفَرًا وَحَضَرًا،. وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، فَمَلَكَ ذَلِكَ بِمُطْلَقِهَا، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْمُطْلَقِ. فَأَمَّا إنْ أُذِنَ فِي السَّفَرِ، أَوْ نُهِيَ عَنْهُ، أَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، تَعَيَّنَ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَحَرُمَ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَلَيْسَ لَهُ السَّفَرُ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أُذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ السَّفَرُ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٌ، وَلَا إلَى بَلَدٍ مَخُوفٍ، فَإِنْ فَعَلَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِفِعْلِ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. وَإِنْ سَافَرَ فِي طَرِيقٍ آمِنٍ جَازَ، وَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُنْفِقُ مِنْ الْمَالِ بِالْمَعْرُوفِ، إذَا شَخَصَ بِهِ عَنْ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْهُ كَأَجْرِ الْحَمَّالِ. وَلَنَا، أَنَّ نَفَقَتَهُ تَخُصُّهُ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ، كَنَفَقَةِ الْحَضَرِ، وَأَجْرِ الطَّبِيبِ، وَثَمَنِ الطِّبِّ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ الرِّبْحِ الْجُزْءَ الْمُسَمَّى، فَلَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ النَّفَقَةَ أَفْضَى إلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِالرِّبْحِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ سِوَى مَا أَنْفَقَهُ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَطَ لَهُ النَّفَقَةَ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ مَا قَدَّرَ لَهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَشْتَرِطَ نَفَقَةً مَحْدُودَةً، وَإِنْ أَطْلَقَ صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْمَأْكُولِ، وَلَا كُسْوَةَ لَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ: لَهُ نَفَقَتُهُ. فَإِنَّهُ يُنْفِقُ. قِيلَ لَهُ: فَيَكْتَسِي؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا لَهُ النَّفَقَةُ. وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا، يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ كُسْوَةٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهَا؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَلَمْ يَشْتَرِطْ الْكُسْوَةَ، إلَّا أَنَّهُ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَلَهُ مُقَامٌ طَوِيلٌ، يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كُسْوَةٍ. فَقَالَ: إذَا أَذِنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ فَعَلَ، مَا لَمْ يَحْمِلْ عَلَى مَالِ الرَّجُلِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَصْدَهُ. هَذَا مَعْنَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: إذَا شَرَطَ لَهُ النَّفَقَةَ، فَلَهُ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ، مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَلْبُوسٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ أَحْمَدُ: يُنْفِقُ عَلَى مَعْنَى مَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ، غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِالنَّفَقَةِ، وَلَا مُضِرٍّ بِالْمَالِ لَمْ يَذْهَبْ أَحْمَدُ إلَى تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَسْعَارَ تَخْتَلِفُ، وَقَدْ تَقِلُّ، وَقَدْ تَكْثُرُ. فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَرْجِعُ فِي الْقُوتِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَفِي الْكُسْوَةِ إلَى أَقَلِّ مَلْبُوسِ مِثْلِهِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ لِنَفْسِهِ مَعَ مَالِ الْمُضَارَبَة، أَوْ كَانَ مَعَهُ مُضَارَبَةٌ أُخْرَى، أَوْ بِضَاعَةٌ لِآخَرَ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ السَّفَرِ، وَالسَّفَرُ لِلْمَالَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ مَقْسُومَةً عَلَى قَدْرِهِمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ شَرَطَ لَهُ النَّفَقَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ لَقِيَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي السَّفَرِ، إمَّا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَقَدْ نَضَّ الْمَالُ، فَأَخَذَ مَالَهُ، فَطَالَبَهُ الْعَامِلُ بِنَفَقَةِ الرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا دَامَا فِي الْقِرَاضِ، وَقَدْ زَالَ، فَزَالَتْ النَّفَقَةُ، وَلِذَلِكَ لَوْ مَاتَ لَمْ يَجِبْ تَكْفِينُهُ. وَقَدْ قِيلَ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرَطَ لَهُ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ وَغَيْرِهِ، بِتَسْفِيرِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، فَإِذَا قَطَعَ عَنْهُ النَّفَقَةَ، تَضَرَّرَ بِذَلِكَ. [فَصْل حُكْمُ الْمُضَارِبِ] (3662) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُضَارِبِ حُكْمُ الْوَكِيلِ، فِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَإِنْ فَعَلَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ، وَيَضْمَنُ النَّقْصَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَنْجَبِرُ بِضَمَانِ النَّقْص. وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْأَجْنَبِيِّ. فَعَلَى هَذَا، إنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ، ضَمِنَ النَّقْصَ أَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ رَدُّهُ، وَجَبَ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا؛ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا، وَلِرَبِّ الْمَالِ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَامِلِ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْعَامِلِ بِقِيمَتِهِ رَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهَا. وَرَدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ. وَأَمَّا مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ. وَإِنْ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، لَزِمَ الْعَامِلَ دُونَ رَبِّ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ، فَيَكُونَ لَهُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ أَطْلَقَ الشِّرَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ رَبَّ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ صَرَّحَ لِلْبَائِعِ إنَّنِي اشْتَرَيْته لِفُلَانِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ أَيْضًا. [فَصْل بَيْع الشَّرِيك وَشِرَاؤُهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ] فَصْلٌ: وَهَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: الْأُولَى، جَوَازُهُ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَالرِّبْحَ حَاصِلٌ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَرْضًا بِعَرْضٍ وَيَشْتَرِيَهُ بِهِ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. فَفَعَلَهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 بِرَأْيِك فَلَهُ ذَلِكَ. وَهَلْ لَهُ الزِّرَاعَةُ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِهَا الْمُزَارَعَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي مَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا، وَقَالَ: اتَّجَرَ فِيهَا بِمَا شِئْت فَزَرَعَ زَرْعًا، فَرَبِحَ فِيهِ، فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: اتَّجِرْ بِمَا شِئْت دَخَلَتْ فِيهِ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يُبْتَغَى بِهَا النَّمَاءُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ نَوَى الْمَالَ كُلَّهُ فِي الْمُزَارَعَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ. [فَصْل لِلشَّرِيكِ شِرَاء الْمَعِيب إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ] (3664) فَصْل: وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَعِيبَ، إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الرِّبْحُ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِي الْمَعِيبِ. فَإِنْ اشْتَرَاهُ يَظُنُّهُ سَلِيمًا، فَبَانَ مَعِيبًا، فَلَهُ فِعْلُ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، مِنْ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ، أَوْ إمْسَاكِهِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ. فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الرَّدِّ، فَطَالَبَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَبَاهُ الْآخَرُ، فَعَلَ مَا فِيهِ النَّظَرُ وَالْحَظُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الْحَظِّ فَيُحْتَمَلُ الْأَمْرُ عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ. وَأَمَّا الشَّرِيكَانِ إذَا اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْمَعِيبِ، فَلِطَالِبِ الرَّدِّ رَدُّ نَصِيبِهِ، وَلِلْآخَرِ إمْسَاكُ نَصِيبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الشِّرَاءَ لَهُمَا جَمِيعًا، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ رَدِّ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ أَنَّ الْعَقْدَ لِمَنْ وَلِيَهُ، فَلَمْ يَجُزْ إدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ بِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرَادَ الَّذِي وَلِيَ الْعَقْدَ رَدَّ بَعْضِ الْمَبِيعِ وَإِمْسَاكَ الْبَعْضِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ أَرَادَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ. [فَصْل شِرَاء الْمُضَارِب مَنْ يُعْتِقْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (3665) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرًا. فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ، جَازَ، وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَتَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ فِي قَدْرِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ، وَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ كُلَّ الْمَالِ، انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ رَجَعَ الْعَامِلُ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ الشِّرَاءُ إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اشْتَرَى مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْمُضَارَبَةِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَالرِّبْحُ فِيهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْعَاقِدِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ قَابِلٌ لِلْعُقُودِ، فَصَحَّ شِرَاؤُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَنْ نَذَرَ رَبُّ الْمَالِ إعْتَاقَهُ، وَيَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَتَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ فِيهِ. وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ ضَمَانُهُ، عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ جَهِلَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ تَلِفَ بِسَبَبِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْإِتْلَافِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَفِيمَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهِ ثُمَّ تَلِفَ، فَأَشْبَهَ، مَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ. وَالثَّانِي، الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ حَصَلَ بِالشِّرَاءِ، وَبَذْلِ الثَّمَنِ فِيمَا يَتْلَفُ بِالشِّرَاءِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 فَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا فَرَّطَ فِيهِ. وَمَتَى ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَلِلْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ لَمْ يَكُنْ الْعَامِلُ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ لِمَعْنًى فِي الْمَبِيعِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا لَمْ يَعْلَمْ بِعَيْبِهِ، فَتَلِفَ بِهِ. قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَضْمَنَ، وَإِنْ عَلِمَ. [فَصْل اشْتَرَى الْمُضَارِب زَوْجَ رَبَّةِ الْمَالِ] (3666) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى امْرَأَةَ رَبُّ الْمَالِ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ نِصْفُ الصَّدَاقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ. رَجَعَ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ تَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَتْ امْرَأَةٌ نِكَاحَهُ بِالرَّضَاعِ. وَإِنْ اشْتَرَى زَوْجَ رَبَّةِ الْمَالِ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ شِرَاءَ مَا لَهَا فِيهِ حَظٌّ، وَشِرَاءُ زَوْجِهَا يَضُرُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَفْسَخُ نِكَاحَهَا، وَيَضُرُّ بِهَا، وَيُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَشِرَاءِ ابْنِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ اشْتَرَى مَا يُمْكِنُ طَلَبُ الرِّبْحِ فِيهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَجْنَبِيًّا. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يَفُوتُ مِنْ الْمَهْرِ وَيَسْقُطُ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَى الْمُضَارَبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ شِرَائِهِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ بِعَيْنِ الْمَالِ. [فَصْل اشْتَرَى الْمَأْذُونُ لَهُ مَنْ يُعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِإِذْنِهِ] (3667) فَصْل: وَإِنْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ لَهُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِإِذْنِهِ، صَحَّ وَعَتَقَ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ وَمَا فِي يَدِهِ، وَقُلْنَا: يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ. فَعَلَيْهِ دَفْعُ قِيمَةِ الْعَبْدِ الَّذِي عَتَقَ إلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ بِالْعِتْقِ. وَإِنْ نَهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْإِذْنِ، وَقَدْ زَالَ بِالنَّهْيِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَصِحُّ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ السَّيِّدُ، صَحَّ شِرَاءُ الْمَأْذُونِ لَهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ إتْلَافًا عَلَى السَّيِّدِ، فَإِنَّ إذْنَهُ يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ حَظٌّ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِتْلَافُ. وَفَارَقَ عَامِلَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ، فَيَزُولُ الضَّرَرُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ اشْتَرَى امْرَأَةَ رَبُّ الْمَالِ، أَوْ زَوْجَ رَبَّةِ الْمَالِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا، كَشِرَاءِ مَنْ يَعْتِقُ بِالشِّرَاءِ. [فَصْل اشْتَرَى الْمُضَارِبُ مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ] (3668) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ صَحَّ الشِّرَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ رِبْحٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْعَامِلِ مَتَى يَمْلِكُ الرِّبْحَ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالْقِسْمَةِ. لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالظُّهُورِ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 أَحَدُهُمَا، لَا يَعْتِقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، فَلَمْ يَعْتِقْ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي، يَعْتِقُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، إنْ كَانَ مُعَسِّرًا، وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ بَاقِيهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنَّ عِنْدَهُمْ يُسْتَسْعَى فِي بَقِيَّتِهِ إنْ كَانَ مُعَسِّرًا. وَلَنَا رِوَايَةٌ كَقَوْلِهِمْ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ بَاقٍ فِي التِّجَارَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ الرِّبْحُ ظَاهِرًا وَقْتَ الشِّرَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، لَمْ يَصِحَّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُنْجِزَ الْعَامِلُ حَقَّهُ قَبْلَ رَبِّ الْمَالِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ، فَصَحَّ شِرَاءُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، كَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ. [فَصْل شِرَاء الْمُضَارِب بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْس الْمَالِ] (3669) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِذْنَ مَا تَنَاوَلَ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا، فَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا آخَرَ بِعَيْنِ الْأَلْفِ، فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُهُ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَالْعَبْدُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ، فَوَقَعَ لَهُ. وَهَلْ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْل الْمُضَارِب لَا يَطَأ أَمَة مِنْ الْمُضَارَبَة] (3670) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ وَطْءُ أَمَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ، فَإِنْ فَعَلَ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَالتَّعْزِيرُ. وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ وَكَذَلِكَ وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ سُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الرِّبْحِ يَنْبَنِي عَلَى التَّقْوِيمِ، وَالتَّقْوِيمُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ السِّلَعَ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِمَّا قُوِّمَتْ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ، الْحَدِّ، لِأَنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. (3671) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ وَطْءُ الْأَمَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَيُعَرِّضُهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَالتَّلَفِ، فَإِنْ فَعَلَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ. وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ كَذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وَتَخْرُجُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَتُحْسَبُ قِيمَتُهَا، وَيُضَافُ إلَيْهَا بَقِيَّةُ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَلِلْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنْهُ. [فَصْل أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ فِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ] (3672) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ فِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً لِيَتَسَرَّى بِهَا، خَرَجَ ثَمَنُهَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَصَارَ قَرْضًا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْبُضْعِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمِلْكِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . (3673) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُهَا، وَلَا مُكَاتَبَةُ الْعَبْدِ لِذَلِكَ. فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا. [فَصْل الْمُضَارِبِ لَا يَدْفَع الْمَال إلَى آخَرِ مُضَارَبَةً] (3674) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ دَفْعُ الْمَالِ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَحَرْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إنْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَإِلَّا فَلَا. وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي جَوَازِ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُوَكِّلِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْوَكِيلِ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ هَاهُنَا لِيُضَارِبَ بِهِ، وَبِدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُضَارِبًا بِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. الثَّانِي، أَنَّ هَذَا يُوجِبُ فِي الْمَالِ حَقًّا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ إيجَابُ حَقٍّ فِي مَالِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَلَا أَعْرِفُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. فَإِنْ فَعَلَ، فَلَمْ يَتْلَفْ الْمَالُ، وَلَا ظَهَرَ فِيهِ رِبْحٌ، رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَإِنْ تَلَفَ، أَوْ رَبِحَ فِيهِ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: هُوَ فِي الضَّمَانِ وَالتَّصَرُّفِ كَالْغَاصِبِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِرَدِّ الْمَالِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَبِرَدِّ بَدَلِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، فَإِنْ طَالَبَ الْأَوَّلَ، وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ التَّالِفِ، وَلَمْ يَكُنْ الثَّانِي عَلِمَ بِالْحَالِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ. وَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ، رَجَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعُدْوَانِ، وَتَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِي مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَالِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛: أَحَدُهُمَا، يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ كَانَ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَبِحَ فِي الْمَالِ، فَالرِّبْحُ لِمَالِكِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ. وَهَلْ لِلثَّانِيَّ أَجْرُ مِثْلِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، كَالْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وَالثَّانِيَةُ: لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ لِذَلِكَ عِوَضًا، كَالْغَاصِبِ. وَفَارَقَ الْمُضَارَبَةَ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِهِ بِإِذْنِهِ. وَسَوَاءٌ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ يَكُونُ الرِّبْحُ لَهُ، لِأَنَّهُ رَبِحَ فِيمَا اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي الشِّرَاءِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ. قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. يَعْنِي قَوْلَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، كَالْغَاصِبِ، وَإِنْ جَهِلَ الْحَالَ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَوَجَبَ أَجْرُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ نَقَدَ الْمَالَ، وَكَانَ قَدْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ النِّصْفَ، فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا؛ فَهُوَ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَضِيَ بِنِصْفِ الرِّبْحِ فَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَالْعَامِلَانِ عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيَّ وَلَيْسَ هَذَا مُوَافِقًا لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ، وَلَا لِنَصِّ أَحْمَدَ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ. وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ وَلَا مَالٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْعَامِلُ الثَّانِي عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا شَرْطِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا شَرَطَهُ لَهُ غَيْرُهُ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْغَاصِبُ مُضَارَبَةً، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا شَرَطَهُ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، فَمَا شَرَطَهُ لَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْلَى. [فَصْل أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ فِي دَفْعِ الْمَالِ مُضَارَبَةً] (3675) فَصْل: وَإِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ فِي دَفْعِ الْمَالِ مُضَارَبَةً، جَازَ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَيَكُونُ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ وَكِيلًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى آخَرَ، وَلَمْ يَشْرُطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ، كَانَ صَحِيحًا. وَإِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: اعْمَلْ بِرَأْيِك، أَوْ بِمَا أَرَاك اللَّهُ. جَازَ لَهُ دَفْعُهُ مُضَارَبَةً. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى أَبْصَرَ مِنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك. يَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إذْنُهُ. [فَصْل الْمُضَارِب لَا يَخْلِط مَالَ الْمُضَارَبَة بِمَالِهِ] (3676) فَصْل: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلِطَ مَال الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ، فَإِنْ فَعَلَ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فَهُوَ كَالْوَدِيعَةِ. فَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إنْ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ يَرَى الْخَلْطَ أَصْلَحَ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِك. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُشَارَكَةِ بِهِ لَيْسَ لَهُ فِعْلُهَا، إلَّا أَنْ يَقُولَ: اعْمَلْ بِرَأْيِك. فَيَمْلِكُهَا. [فَصْل الْمُضَارِب لَا يَشْتَرِيَ خَمْرًا وَلَا خِنْزِيرًا] (3677) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْرًا وَلَا خِنْزِيرًا، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا، فَإِنْ فَعَلَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الْعَامِلُ ذِمِّيًّا صَحَّ شِرَاؤُهُ لِلْخَمْرِ، وَبَيْعُهُ إيَّاهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَكِيلِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ شِرَاؤُهُ إيَّاهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مَا لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ، وَلَا لِمُوَكِّلِهِ. وَلَنَا إنَّهُ إنْ كَانَ الْعَامِلُ مُسْلِمًا فَقَدْ اشْتَرَى خَمْرًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْرًا وَلَا يَبِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، فَقَدْ اشْتَرَى لِلْمُسْلِمِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ ابْتِدَاءً، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْخِنْزِيرَ، وَلِأَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةٌ فَلَا يَصِحُّ شِرَاؤُهَا لَهُ، كَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَكُلُّ مَا جَازَ فِي الشَّرِكَةِ، جَازَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَمَا جَازَ فِي الْمُضَارَبَةِ، جَازَ فِي الشَّرِكَةِ، وَمَا مُنِعَ مِنْهُ فِي إحْدَاهُمَا مُنِعَ مِنْهُ فِي الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ شَرِكَةٌ، وَمَبْنَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْأَمَانَةِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا ضَارَبَ لِرَجُلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَارِبَ لِآخَرَ] (3678) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا ضَارَبَ لِرَجُلٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَارِبَ لِآخَرَ، إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْأَوَّلِ. فَإِنْ فَعَلَ، وَرَبِحَ، رَدَّهُ فِي شَرِكَةِ الْأَوَّلِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ مِنْ إنْسَانٍ مُضَارَبَةً إحْدَاهَا ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَ مُضَارَبَةٍ أُخْرَى مِنْ آخَرَ، فَأَذِنَ لَهُ الْأَوَّلُ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، جَازَ أَيْضًا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَأْذَنْ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الثَّانِي كَثِيرًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقْطَعَ زَمَانَهُ، وَيَشْغَلَهُ عَنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ الْمَالُ الْأَوَّلُ كَثِيرًا مَتَى اشْتَغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ انْقَطَعَ عَنْ بَعْضِ تَصَرُّفَاتِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ مَنَافِعَهُ كُلَّهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، وَكَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْحَظِّ وَالنَّمَاءِ، فَإِذَا فَعَلَ مَا يَمْنَعُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ، كَمَا لَوْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ بِالْعَيْنِ، وَفَارَقَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إذَا فَعَلَ وَرَبِحَ، رَدَّ الرِّبْحَ فِي شَرِكَةِ الْأَوَّلِ، وَيَقْتَسِمَانِهِ، فَلْيَنْظُرْ مَا رَبِحَ فِي الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَدْفَعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا نَصِيبَهُ، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَيَضُمُّهُ إلَى رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، وَيُقَاسِمُهُ لِرَبِّ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِالْمَنْفَعَةِ الَّتِي اُسْتُحِقَّتْ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا، كَرِبْحِ الْمَالِ. الْأَوَّلِ. فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ الثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ، فَتُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 الْعُدْوَانَ مِنْ الْمُضَارِبِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ الثَّانِي، وَلِأَنَّا لَوْ رَدَدْنَا رِبْحَ الثَّانِي كُلَّهُ فِي الشَّرِكَةِ الْأُولَى، لَاخْتَصَّ الضَّرَرُ بِرَبِّ الْمَالِ الثَّانِي، وَلَمْ يَلْحَقْ الْمُضَارِبَ شَيْءٌ مِنْ الضَّرَرِ، وَالْعُدْوَانُ مِنْهُ، بَلْ رُبَّمَا انْتَفَعَ إذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ الْأَوَّلُ النِّصْفَ وَالثَّانِي الثُّلُثَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْكَمَ بِفَسَادِ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ بِصِحَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً، فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهَا، وَجَبَ صَرْفُ حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ إلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجِبِ الشَّرْطِ. وَالنَّظَرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ رَبُّ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى مِنْ رَبِّ الثَّانِيَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ. وَتَعَدِّي الْمُضَارِبِ إنَّمَا كَانَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، وَاشْتِغَالِهِ عَنْ الْمَالِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ عِوَضًا، كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ آجَرَ نَفْسَهُ، أَوْ تَرَكَ التِّجَارَةَ لِلَّعِبِ، أَوْ اشْتِغَالٍ بِعِلْمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْجَبَ عِوَضًا، لَأَوْجَبَ شَيْئًا مُقَدَّرًا، لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِرِبْحِهِ فِي الثَّانِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً وَاشْتَرَطَ النَّفَقَةَ] (3679) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً، وَاشْتَرَطَ النَّفَقَةَ، فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِضَاعَةً أَوْ مُضَارَبَةً، وَلَا ضَرَرَ فِيهَا. فَقَالَ: أَحْمَدُ إذَا اشْتَرَطَ النَّفَقَةَ، صَارَ أَجِيرًا لَهُ، فَلَا يَأْخُذُ. مِنْ أَحَدٍ بِضَاعَةً، فَإِنَّهَا، تَشْغَلُهُ عَنْ الْمَالِ الَّذِي يُضَارِبُ بِهِ. قِيلَ: فَإِنْ كَانَتْ لَا تَشْغَلُهُ؟ فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شُغْلٍ. وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَإِنْ فَعَلَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ. (3680) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مُضَارَبَةً، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ آخَرَ بِضَاعَةً، أَوْ عَمِلَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ اتَّجَرَ فِيهِ، فَرِبْحُهُ فِي مَالِ الْبِضَاعَةِ لِصَاحِبِهَا، وَفِي مَالِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. (3681) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مِائَةً قِرَاضًا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ آخَرَ مِثْلَهَا، وَاشْتَرَى بِكُلِّ مِائَةٍ عَبْدًا، فَاخْتَلَطَ الْعَبْدَانِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزَا، فَإِنَّهُمَا يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِمَا. كَمَا لَوْ كَانَتْ لِرَجُلِ حِنْطَةٌ، فَانْثَالَتْ عَلَيْهِ أُخْرَى. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَيُبَاعَانِ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا رِبْحٌ دَفَعَ إلَى الْعَامِلِ حِصَّتَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وَالثَّانِي: يَكُونَانِ لِلْعَامِلِ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ رَأْسِ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ لَهُ وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، فَلَا يَزُولُ بِالِاشْتِبَاهِ عَنْ جَمِيعِهِ، وَلَا عَنْ بَعْضِهِ، بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُونَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَاهُمَا لِلْمُضَارِبِ، أَدَّى إلَى أَنْ يَكُونَ تَفْرِيطُهُ سَبَبًا لِانْفِرَادِهِ بِالرِّبْحِ، وَحِرْمَانِ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ، وَعَكْسُ ذَلِكَ أَوْلَى، وَإِنْ جَعَلْنَاهُمَا شَرِيكَيْنِ، أَدَّى إلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا رِبْحَ مَالِ الْآخَرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ؛ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ. [فَصْل تَعَدَّى الْمُضَارِبُ وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ] (3682) فَصْلٌ: إذَا تَعَدَّى الْمُضَارِبُ، وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ، أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا نُهِيَ عَنْ شِرَائِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَنَافِعٍ، وَإِيَاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ شُورِكَ فِي الرِّبْحِ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ، مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَالْغَاصِبِ. وَلَا نَقُولُ بِمُشَارَكَتِهِ فِي الرِّبْحِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَتَى اشْتَرَى مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، فَرَبِحَ فِيهِ، فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَنَافِعٌ وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُمَا يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُ أَحْمَدَ: يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ. عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، وَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الْقَضَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَمَالِكٌ: الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَعَدٍّ، فَلَا يَمْنَعُ كَوْنَ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، كَمَا لَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ، وَرَكِبَ دَابَّةً لَيْسَ لَهُ رُكُوبُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ نَقَدَ الْمَالَ، فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ. وَإِنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ، صَحَّ، وَإِلَّا بَطَلَ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَرْوِ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ إلَّا حَنْبَلٌ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو لَبِيدٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْن الْجَعْدِ، قَالَ: «عَرَضَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَبٌ، فَأَعْطَانِي دِينَارًا، فَقَالَ: عُرْوَةُ، ائْتِ الْجَلَبَ، فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً. فَأَتَيْت الْجَلَبَ، فَسَاوَمْت صَاحِبَهُ، فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَجِئْت أَسُوقُهُمَا أَوْ أَقُودُهُمَا، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ بِالطَّرِيقِ، فَسَاوَمَنِي، فَبِعْت مِنْهُمَا شَاةً بِالدِّينَارِ، فَجِئْت بِالدِّينَارِ وَبِالشَّاةِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا دِينَارُكُمْ، وَهَذِهِ شَاتُكُمْ. قَالَ: وَكَيْفَ صَنَعْت؟ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ.» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِ غَيْرِهِ، بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، فَكَانَ لِمَالِكِهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا. فَأَمَّا الْمُضَارِبُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَقْدًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، كَالْغَاصِبِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِيَةُ، لَهُ أَجْرٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَضِيَ بِالْبَيْعِ، وَأَخَذَ الرِّبْحَ، فَاسْتَحَقَّ الْعَامِلُ عِوَضًا، كَمَا لَوْ عَقَدَهُ بِإِذْنٍ. وَفِي قَدْرِ الْأَجْرِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَجْرُ، مِثْلِهِ، مَا لَمْ يُحِطْ بِالرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ الْمُسَمَّى، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، كَالْمُضَارَبَةِ. الْفَاسِدَةِ، وَالثَّانِيَةُ، لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَقَلُّ الْمُسَمَّى، فَقَدْ رَضِيَ بِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ أَجْرَ الْمِثْلِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا رَضِيَ بِهِ. وَإِنْ قَصَدَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، فَلَا أَجْرَ لَهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: إنْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ نَقَدَ الْمَالَ، فَلَا أَجْرَ لَهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْل الْعَامِلِ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ كُلَّ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُضَارِبُ بِنَفْسِهِ] (3683) فَصْلٌ: وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ كُلَّ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُضَارِبُ بِنَفْسِهِ؛ مِنْ نَشْرِ الثَّوْبِ، وَطَيِّهِ، وَعَرْضِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَمُسَاوَمَتِهِ، وَعَقْدِ الْبَيْعِ مَعَهُ، وَأَخَذَ الثَّمَنِ، وَانْتِقَادِهِ، وَشَدِّ الْكِيسِ، وَخَتْمِهِ، وَإِحْرَازِهِ فِي الصُّنْدُوقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلرِّبْحِ فِي مُقَابَلَتِهِ. فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا لَا يَلِيهِ الْعَامِلُ فِي الْعَادَةِ؛ مِثْلُ النِّدَاءِ عَلَى الْمَتَاعِ، وَنَقْلِهِ إلَى الْخَانِ، فَلَيْسَ عَلَى الْعَامِلِ عَمَلُهُ، وَلَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ مَنْ يَعْمَلُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ، لِمَشَقَّةِ اشْتِرَاطِهِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ. فَإِنْ فَعَلَ الْعَامِلُ مَا لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ مُتَبَرِّعًا، فَلَا أَجْرَ لَهُ. وَإِنْ فَعَلَهُ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ أَجْرًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ أَيْضًا، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ. وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا، إنَّ لَهُ الْأَجْرَ، بِنَاءً عَلَى الشَّرِيكِ إذَا انْفَرَدَ بِعَمَلِ لَا يَلْزَمُهُ، هَلْ لَهُ أَجْرٌ لِذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا مِثْلُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ عَمَلًا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ، فَلَمْ يَسْتَحِقّ شَيْئًا، كَالْأَجْنَبِيِّ. [فَصْل سُرِقَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ غُصِبَ] (3684) فَصْلٌ: وَإِذَا سُرِقَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ غُصِبَ، فَعَلَى الْمُضَارِبِ طَلَبُهُ، وَالْمُخَاصَمَةُ فِيهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ عَلَى التِّجَارَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْخُصُومَةُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 يَقْتَضِي حِفْظَ الْمَالِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ، سِيَّمَا إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ رَبِّ الْمَالِ، إمَّا لِسَفَرِ الْمُضَارِبِ، أَوْ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يُطَالِبَ بِهِ إلَّا الْمُضَارِبُ، فَإِنْ تَرَكَهُ ضَاعَ. فَعَلَى هَذَا إنْ تَرَكَ الْخُصُومَةَ وَالطَّلَبَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، غَرِمَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حَاضِرًا، وَعَلِمَ الْحَالَ، لَمْ يَلْزَمْ الْعَامِلَ طَلَبُهُ، وَلَا يَضْمَنُهُ إذَا تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ وَكِيلِهِ. [فَصْل اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ عَبْدًا فَقَتَلَهُ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ] (3685) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ عَبْدًا، فَقَتَلَهُ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَالْأَمْرُ إلَى رَبِّ الْمَالِ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ، وَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ فِيهِ؛ لِذَهَابِ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَلَى مَالٍ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ مِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، فَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَدَلٌ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَ بَدَلَهُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَبْدِ رِبْحٌ، فَالْقِصَاصُ إلَيْهِمَا، وَالْمُصَالَحَةُ كَذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِمَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ. وَالْحُكْمُ فِي انْفِسَاخِ الْمُضَارَبَةِ وَبَقَائِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ لَا رِبْح لِلْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَالِ] (3686) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ رِبْحٌ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَالِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ حَتَّى يُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّهِ، وَمَتَى كَانَ فِي الْمَالِ خُسْرَانٌ، وَرِبْحٌ، جُبِرَتْ الْوَضِيعَةُ مِنْ الرِّبْحِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخُسْرَانُ وَالرِّبْحُ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ الْخُسْرَانُ فِي صَفْقَةٍ وَالرِّبْحُ فِي أُخْرَى، أَوْ أَحَدُهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَالْآخَرُ فِي أُخْرَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرِّبْحِ هُوَ الْفَاضِلُ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا لَمْ يَفْضُلْ فَلَيْسَ بِرِبْحِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَأَمَّا مِلْكُ الْعَامِلِ لِنَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَثْبُتُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ بِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَاخْتَصَّ بِرِبْحِهِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِرَبِّ الْمَالِ، كَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ، فَيَثْبُتُ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِذَا وُجِدَ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِحُكْمِ الشَّرْطِ، كَمَا يَمْلِكُ الْمُسَاقِي حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ لِظُهُورِهَا، وَقِيَاسًا عَلَى كُلِّ شَرْطٍ صَحِيحٍ فِي عَقْدٍ، وَلِأَنَّ هَذَا الرِّبْحَ مَمْلُوكٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالِكٍ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهُ اتِّفَاقًا، وَلَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُضَارِبِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْقِسْمَةِ؛ فَكَانَ مَالِكًا كَأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ. وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَمْلِكَهُ، وَيَكُونَ وِقَايَةً لِرَأْسِ الْمَالِ، كَنَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ، وَبِهَذَا امْتَنَعَ اخْتِصَاصُهُ بِرِبْحِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ بِرِبْحِ نَصِيبِهِ لَاسْتَحَقَّ مِنْ الرِّبْحِ أَكْثَرَ مِمَّا شَرَطَ لَهُ، وَلَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ إذَا وَطِئَ الْمُضَارِبُ جَارِيَةً مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ رِبْحٌ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 [فَصْل دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مِائَةً مُضَارَبَةً فَخَسِرَ عَشَرَةً ثُمَّ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا عَشَرَةً] (3687) فَصْل: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مِائَةً مُضَارَبَةً، فَخَسِرَ عَشَرَةً، ثُمَّ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا عَشَرَةً، فَإِنَّ الْخُسْرَانَ لَا يَنْقُصُ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْبَحُ فَيَجْبُرُ الْخُسْرَانَ، لَكِنَّهُ يَنْقُصُ بِمَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَهِيَ الْعَشَرَةُ، وَقِسْطُهَا مِنْ الْخُسْرَانِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَتُسْعُ دِرْهَمٍ، وَيَبْقَى رَأْسُ الْمَالِ ثَمَانِينَ وَثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ. وَإِنْ كَانَ أَخَذَ نِصْفَ التِّسْعِينَ الْبَاقِيَةِ، وَبَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ نِصْفَ الْمَالِ، فَسَقَطَ نِصْفُ الْخُسْرَانِ. وَإِنْ كَانَ أَخَذَ خَمْسِينَ، بَقِيَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ. وَكَذَلِكَ إذَا رَبِحَ الْمَالُ، ثُمَّ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ بَعْضَهُ، كَانَ مَا أَخَذَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَالِ، فَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِائَةً فَرَبِحَ عِشْرِينَ، فَأَخَذَهَا رَبُّ الْمَالِ، لَبَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ سُدُسَ الْمَالِ، فَنَقَصَ رَأْسُ الْمَالِ سُدُسَهُ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَحَظُّهَا مِنْ الرِّبْحِ ثَلَاثَةُ وَثُلُثٌ. وَلَوْ كَانَ أَخَذَ سِتِّينَ، بَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ نِصْفَ الْمَالِ، فَبَقِيَ نِصْفُ الْمَالِ. وَإِنْ أَخَذَ خَمْسِينَ، بَقِيَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ رُبْعَ الْمَالِ وَسُدُسَهُ، فَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَرُبْعُهُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ سِتِّينَ، ثُمَّ خَسِرَ فِي الْبَاقِي فَصَارَ أَرْبَعِينَ، فَرَدَّهَا، كَانَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ انْفَسَخَتْ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ، فَلَا يَجْبُرُ بِرِبْحِهِ خُسْرَانَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، لِمُفَارَقَتِهِ إيَّاهُ، وَقَدْ أَخَذَ مِنْ الرِّبْحِ عَشَرَةً، لِأَنَّ سُدُسَ مَا أَخَذَهُ رِبْحٌ، فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْأَرْبَعِينَ كُلَّهَا، بَلْ رَدَّ مِنْهَا إلَى رَبِّ الْمَالِ عِشْرِينَ، بَقِيَ، رَأْسُ الْمَالِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ. [فَصْل اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ] (3688) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ، لَمْ يَصِحَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيَصِحُّ فِي الْأُخْرَى. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُضَارِبِ بِهِ فَجَازَ لَهُ شِرَاؤُهُ، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَلَكَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ لَهُ، كَشِرَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَفَارَقَ الْمُكَاتَبَ؛ فَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ، وَلِهَذَا لَا يُزَكِّيهِ، وَلَهُ أَخْذُ مَا فِيهِ شُفْعَةٌ بِهَا. فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ شِرَاءُ سَيِّدِهِ مِنْهُ بِحَالٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ إذَا اسْتَغْرَقَتْهُ الدُّيُونُ؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يَأْخُذُونَ مَا فِي يَدِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ السَّيِّدِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ، كَمَالِ الْمُفْلِسِ. [فَصْل اشْتَرَى الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ] (3689) فَصْل: وَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَصَحَّ شِرَاؤُهُ لَهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ مِنْ مُوَكِّلِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ شَرِيكًا إذَا ظَهَرَ رِبْحٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُشَارِكُ رَبَّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ، لَا فِي أَصْلِ الْمَالِ، وَمَتَى ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ كَانَ شِرَاؤُهُ كَشِرَاءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْل اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ شَيْئًا] فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ شَيْئًا، بَطَلَ فِي قَدْرِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَهَلْ يَصِحُّ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَتَتَخَرَّجُ الصِّحَّةُ فِي الْجَمِيعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِلْكَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الشَّرِيكَيْنِ فِي الطَّعَامِ، يُرِيدُ أَحَدُهُمَا بَيْعَ حِصَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ: إنْ لَمْ يَكُونَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ كَيْلِهِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ عَلِمَ مَبْلَغَ شَيْءٍ لَمْ يَبِعْهُ صُبْرَةً، وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، جَازَ. [فَصْل اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ دَارًا لِيَحْرُز فِيهَا مَال الشَّرِكَةِ أَوْ غَرَائِرَ] (3691) فَصْلٌ: وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ دَارًا، لِيَحْرُزَ فِيهَا مَالَ الشَّرِكَةِ أَوْ غَرَائِرَ، جَازَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِنَقْلِ الطَّعَامِ، أَوْ غُلَامِهِ، أَوْ دَابَّتِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ غَيْرَ الْحَيَوَانِ، جَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ الْحَيَوَانَ، كَمَالِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِيهِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا يُمْكِنُ إيفَاءُ الْعَمَلِ فِي الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَجَّرِ، فَإِذَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ، وَالدَّارُ وَالْغَرَائِزُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا إيقَاعُ الْعَمَلِ، إنَّمَا تَجِبُ بِوَضْعِ الْعَيْنِ فِي الدَّارِ، فَيُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى الْمُضَارِب سِلْعَتَيْنِ فَرَبِحَ فِي إحْدَاهُمَا وَخَسِرَ فِي الْأُخْرَى] (3692) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى سِلْعَتَيْنِ، فَرَبِحَ فِي إحْدَاهُمَا، وَخَسِرَ فِي الْأُخْرَى، جُبِرَتْ الْوَضِيعَةُ مِنْ الرِّبْحِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الْمُضَارِبِ أَلْفَيْنِ، فَاشْتَرَى بِكُلِّ أَلْفٍ عَبْدًا، فَرِبْحَ فِي أَحَدِهِمَا، وَخَسِرَ فِي الْآخَرِ، أَوْ تَلِفَ، وَجَبَ جَبْرُ الْخُسْرَانِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَيْئًا إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْأَلْفَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إلَّا فِيمَا إذَا تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَهُ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهًا ثَانِيًا، أَنَّ التَّالِفَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَلَوْ تَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ، كَانَ رَأْسَ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ تَلِفَ بَعْدَ أَنْ دَارَ فِي الْقِرَاضِ، وَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ، فَكَانَ تَلَفُهُ مِنْ الرِّبْحِ، كَمَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دِينَارًا وَاحِدًا، فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا سِلْعَتَانِ تُجْبَرُ خَسَارَةُ إحْدَاهُمَا بِرِبْحِ الْأُخْرَى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 فَجُبِرَ تَلَفُهَا بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دِينَارًا، وَلِأَنَّهُ رَأْسُ مَالٍ، وَاحِدٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ فِيهِ رِبْحًا حَتَّى يَكْمُلَ رَأْسُ الْمَالِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ تَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ، انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا تَلِفَ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ الْبَاقِي خَاصَّةً وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّالِفَ مِنْ الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَالِ الْأَلْفَانِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَصِيرُ قِرَاضًا بِالْقَبْضِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَلَاكِهِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ وَبَعْدَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَتِهِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ، وَشَرَعَ فِيمَا قُصِدَ بِالْعَقْدِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الرِّبْحِ. فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا مُضَارَبَةً، ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا آخَرَ مُضَارَبَةً، وَأَذِنَ لَهُ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَوَّلِ، جَازَ، وَصَارَا مُضَارَبَةً وَاحِدَةً، كَمَا لَوْ دَفَعَهُمَا إلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَوَّلِ فِي شِرَاءِ الْمَتَاعِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ اسْتَقَرَّ، فَكَانَ رِبْحُهُ وَخُسْرَانُهُ مُخْتَصًّا بِهِ، فَضَمُّ الثَّانِي إلَيْهِ يُوجِبُ جُبْرَانَ خُسْرَانِ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ، فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الثَّانِي فَسَدَ. فَإِنْ نَضَّ، الْأَوَّلُ، جَازَ ضَمُّ الثَّانِي إلَيْهِ لِزَوَالِ هَذَا الْمَعْنَى. وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ضَمِّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَوَّلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَقْدِ، فَكَانَا عَقْدَيْنِ لِكُلِّ عَقْدٍ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَلَا تُجْبَرُ وَضِيعَةُ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. (3694) فَصْلٌ: قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُضَارِبِ بِرِبْحٍ، وَيَضَعُ مِرَارًا. فَقَالَ: يَرُدُّ الْوَضِيعَةَ عَلَى الرِّبْحِ، إلَّا أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَيْهِ، فَيَقُولُ: اعْمَلْ بِهِ ثَانِيَةً. فَمَا رَبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُجْبَرُ بِهِ وَضِيعَةُ الْأَوَّلِ، فَهَذَا لَيْسَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ، فَحَتَّى يَحْتَسِبَا حِسَابًا كَالْقَبْضِ، كَمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ قِيلَ: وَكَيْفَ يَكُونُ حِسَابًا كَالْقَبْضِ؟ قَالَ: يَظْهَرُ الْمَالُ. يَعْنِي يَنِضُّ وَيَجِيءُ، فَيَحْتَسِبَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ قَبَضَهُ. قِيلَ لَهُ: فَيَحْتَسِبَانِ عَلَى الْمَتَاعِ؟ فَقَالَ: لَا يَحْتَسِبَانِ إلَّا عَلَى النَّاضِّ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ قَدْ يَنْحَطُّ سِعْرُهُ وَيَرْتَفِعُ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: قِيلَ لِأَحْمَدَ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَوَضَعَ، فَبَقِيَتْ أَلْفٌ، فَحَاسَبَهُ صَاحِبُهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاعْمَلْ بِهَا. فَرَبِحَ؟ قَالَ: يُقَاسِمُهُ مَا فَوْقَ الْأَلْفِ. يَعْنِي إذَا كَانَتْ الْأَلْفُ نَاضَّةً حَاضِرَةً، إنْ شَاءَ صَاحِبُهَا قَبَضَهَا. فَهَذَا الْحِسَابُ الَّذِي كَالْقَبْضِ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمُضَارَبَةِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ابْتِدَاءَ مُضَارَبَةٍ ثَانِيَةٍ، كَمَا لَوْ قَبَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ. فَأَمَّا قَبْلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 ذَلِكَ، فَلَا شَيْءِ لِلْمُضَارِبِ حَتَّى يُكْمِلَ عَشْرَةَ آلَافٍ، وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبَ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ، أَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا، ثُمَّ سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِهِ، فَخَسِرَ، كَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبْحٍ، مَا لَمْ تَنْجَبِرْ الْخَسَارَةُ. [فَصْلٌ قَارَضَ الْمُضَارِب فِي مَرَضِهِ] (3695) فَصْلٌ: وَإِذَا قَارَضَ فِي مَرَضِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَبْتَغِي بِهِ الْفَضْلَ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَلِلْعَامِلِ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى شَرْطِ، مِثْلِهِ، وَإِلَّا يَحْتَسِبُ بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِعَمَلِ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ، فَمَا يُوجَدُ مِنْ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْعَامِلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَابَى الْأَجِيرَ فِي الْأَجْرِ، فَإِنَّهُ يَحْتَسِبُ بِمَا حَابَاهُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَحْتَسِبَ بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَخْرُجُ عَلَى مِلْكَيْهِمَا، كَالرِّبْحِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ زِيَادَةٌ فِي مِلْكِهِ، خَارِجَةٌ عَنْ عَيْنِهِ، وَالرِّبْحُ لَا يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّقْلِيبِ. [فَصْلٌ مَوْت رَبِّ الْمَالِ] فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ، قَدَّمْنَا حِصَّةَ الْعَامِلِ عَلَى غُرَمَائِهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ، فَكَانَ شَرِيكًا فِيهِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ مِنْ نَصِيبِهِ، فَهُوَ كَالشَّرِيكِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْمَالِ دُونَ الذِّمَّةِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا، كَحَقِّ الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَكَانَ أَسْبَقَ، كَحَقِّ الرَّهْنِ. [فَصْلٌ مَاتَ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُعْرَفْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ بِعَيْنِهِ] (3697) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُعْرَفْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ بِعَيْنِهِ، صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلِصَاحِبِهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ حَيٌّ شَيْءٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ قَدْ هَلَكَ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمَالِ فِي يَدِهِ، وَاخْتِلَاطُهُ بِجُمْلَةِ التَّرِكَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِهِ، فَكَانَ دَيْنًا كَالْوَدِيعَةِ إذَا لَمْ تُعْرَفْ عَيْنُهَا، وَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إسْقَاطِ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ وَيُخَالِفُهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إعْطَائِهِ عَيْنًا مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا تَعَلُّقُهُ بِالذِّمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ تَبَيَّنَ لِلْمُضَارِبِ أَنَّ فِي يَدِهِ فَضْلًا] (3698) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْمُضَارِبِ أَنَّ فِي يَدِهِ فَضْلًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرِّبْحَ إذَا ظَهَرَ فِي الْمُضَارَبَةِ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُضَارِبِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ رَبٍّ الْمَالِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا. وَإِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ لَأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدهَا، إنَّ الرِّبْحَ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَأْمَنُ الْخُسْرَانَ الَّذِي يَكُونُ هَذَا الرِّبْحُ جَابِرًا لَهُ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ رِبْحًا. وَالثَّانِي، إنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرِيكُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُقَاسَمَةُ نَفْسِهِ. الثَّالِث، أَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ؛ لِأَنَّهُ بِعَرْضِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ يَدِهِ بِجُبْرَانِ خَسَارَةِ الْمَالِ. وَإِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ فِي أَخْذِ شَيْءٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا. [فَصْلٌ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ وَأَبَى الْآخَرُ فِي الشَّرِكَة] (3699) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ، وَأَبَى الْآخَرُ، قُدِّمَ قَوْلُ الْمُمْتَنِعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ، فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخُسْرَانَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَيَجْبُرُهُ بِالرِّبْحِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِلَ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَةِ جَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا يُنْفِقُهُ. ثُمَّ مَتَى ظَهَرَ فِي الْمَالِ خُسْرَانٌ، أَوْ تَلِفَ كُلُّهُ، لَزِمَ الْعَامِلَ رَدُّ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا أَخَذَهُ، أَوْ نِصْفِ خُسْرَانِ الْمَالِ، إذَا اقْتَسَمَا الرِّبْحَ نِصْفَيْنِ وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إذَا اقْتَسَمَا الرِّبْحَ، وَلَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: يَرُدُّ الْعَامِلُ الرِّبْحَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الْقِسْمَةِ، أَنَّ الْمَالَ لَهُمَا، فَجَازَ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا بَعْضَهُ، كَالشَّرِيكَيْنِ. أَوْ نَقُولَ: إنَّهُمَا شَرِيكَانِ، فَجَازَ لَهُمَا قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْلَ الْمُفَاضَلَةِ، كَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ. [فَصْلٌ الْمُضَارَبَةُ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ] فَصْلٌ: وَالْمُضَارَبَةُ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا، أَيِّهِمَا كَانَ، وَبِمَوْتِهِ، وَجُنُونِهِ، وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ وَبَعْدَهُ. فَإِذَا انْفَسَخَتْ وَالْمَالُ نَاضٌّ لَا رِبْحَ فِيهِ، أَخَذَهُ رَبُّهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، قَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى مَا شَرَطَاهُ. وَإِنْ انْفَسَخَتْ وَالْمَالُ عَرْضٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهِ أَوْ قَسَمَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَعْدُوهُمَا. وَإِنْ طَلَبَ الْعَامِلُ الْبَيْعَ، وَأَبَى، رَبُّ الْمَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، أُجْبِرَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْبَيْعِ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ، وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْبَيْعِ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ رَضِيَهُ مَالِكُهُ كَذَلِكَ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ وَجْهٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 آخَرُ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَادَ فِيهِ زَائِدٌ، أَوْ رَغِبَ فِيهِ رَاغِبٌ، فَزَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ لِلْعَامِلِ فِي الْبَيْعِ حَظٌّ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ إلَى حِينِ الْفَسْخِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا غَرَسَ أَوْ بَنَى، أَوْ الْمُشْتَرِيَ، كَانَ لِلْمُعِيرِ وَالشَّفِيعِ أَنْ يَدْفَعَا قِيمَةَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَرْضِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ، بِزِيَادَةِ مُزَايِدٍ أَوْ رَاغِبٍ عَلَى قِيمَتِهِ، فَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْعَامِلُ. وَإِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيْعَ، وَأَبَى الْعَامِلُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى الْبَيْعِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ الْمَالِ نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ. وَالثَّانِي، لَا يُجْبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، أَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ زَالَ تَصَرُّفُهُ، وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْ الْمَالِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ إذَا اشْتَرَى مَا يُسْتَحَقُّ رَدُّهُ، فَزَالَتْ وَكَالَتُهُ قَبْلَ رَدِّهِ. وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرَ، فَصَارَ دَرَاهِمَ، أَوْ دَرَاهِمَ، فَصَارَ دَنَانِيرَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ عَرْضًا، عَلَى مَا شُرِحَ. وَإِذَا نَضَّ رَأْسُ الْمَالِ جَمِيعُهُ، لَمْ يَلْزَمْ الْعَامِلَ أَنْ يَنِضَّ لَهُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ أَنْ يَنِضَّ مَالَ شَرِيكِهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ أَنْ يَنِضَّ رَأْسَ الْمَالِ، لِيَرُدَّ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرِّبْحِ. [فَصْلٌ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ وَالْمَالُ دَيْنٌ] (3701) فَصْلٌ: وَإِنْ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ، وَالْمَالُ دَيْنٌ، لَزِمَ الْعَامِلَ تَقَاضِيهِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ ظَهَرَ رِبْحٌ، لَزِمَهُ تَقَاضِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَقَاضِيهِ، لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى صِفَتِهِ، وَالدُّيُونُ لَا تَجْرِي مَجْرَى النَّاضِّ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَنِضَّهُ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، وَكَمَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرْضًا وَيُفَارِقُ الْوَكِيلَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَالِ كَمَا قَبَضَهُ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْعُرُوضِ. وَلَا فَرْقَ بَيْن كَوْنِ الْفَسْخِ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ اقْتَضَى مِنْهُ قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ قَدْرَ الرِّبْحِ، أَوْ دُونَهُ، لَزِمَ الْعَامِلَ تَقَاضِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِمَا عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَوُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ مِنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ تَقَاضِيهِ. [فَصْلٌ أَيُّ الْمُتَقَارِضَيْنِ مَاتَ أَوْ جُنَّ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ] فَصْلٌ: (3702) وَأَيُّ الْمُتَقَارِضَيْنِ مَاتَ أَوْ جُنَّ، انْفَسَخَ الْقِرَاضُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَانْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجُنُونِهِ، كَالتَّوْكِيلِ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوْ الْجُنُونُ بِرَبِّ الْمَالِ، فَأَرَادَ الْوَارِثُ أَوْ وَلِيُّهُ إتْمَامَهُ، وَالْمَالُ نَاضٌّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 جَازَ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ رَأْسَ الْمَالِ، وَحِصَّةُ الْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ مُشَاعَةٌ. وَهَذِهِ الْإِشَاعَةُ لَا تَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ هُوَ الْعَامِلُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرْضًا وَأَرَادُوا إتْمَامَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ: إذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِيَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ. فَظَاهِرُ هَذَا بَقَاءُ الْعَامِلِ عَلَى قِرَاضِهِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا إتْمَامٌ لِلْقِرَاضِ لَا ابْتِدَاءَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقِرَاضَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ فِي الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ إلَى رَدِّ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ غَيْرُ الْعُرُوضِ، وَحُكْمُهُ بَاقٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَالِ وَيَقْسِمَ الْبَاقِيَ وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ قَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ قِرَاضٍ عَلَى عُرُوضٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَوْ كَانَ نَاضًّا كَانَ ابْتِدَاءَ قِرَاضٍ، وَكَانَتْ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ رَبِّ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ نَاضًّا بِخَسَارَةٍ أَوْ تَلَفٍ، كَانَ رَأْسُ الْمَالِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ حَالَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاضِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ هَاهُنَا وَبِنَاءَهُمَا عَلَى الْقِرَاضِ، لَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، وَحِصَّتُهَا مِنْ الرِّبْحِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا، وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ الْعُرُوض بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِمَا، فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْقِرَاضِ. فَأَمَّا إنْ مَاتَ الْعَامِلُ أَوْ جُنَّ، وَأَرَادَ ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ مَعَ وَارِثِهِ أَوْ وَلِيِّهِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا، جَازَ، كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ عَرْضًا، لَمْ يَجُزْ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُجَوِّزُ ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ عَلَى الْعُرُوضِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الْعُرُوض، وَيُجْعَلَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعَمَلُ قَدْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، وَذَهَبَ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَخْلُفْ أَصْلًا يَبْنِي عَلَيْهِ وَارِثُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنَّ الْمَالَ الْمُقَارَضَ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ، وَمَنَافِعَهُ مَوْجُودَةٌ، فَأَمْكَنَ اسْتِدَامَةُ الْعَقْدِ، وَبِنَاءُ الْوَارِثِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ نَاضًّا، جَازَ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ فِيهِ إذَا اخْتَارَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئَاهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ شِرَاءٌ وَلَا بَيْعٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا رَضِيَ بِاجْتِهَادِ مُوَرِّثِهِ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِبَيْعِهِ، رَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَبَّ الْمَالِ، فَلَيْسَ لِلْعَامِلِ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ انْفَسَخَ. فَأَمَّا الْبَيْعُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ وَفِي التَّقْوِيمِ وَاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إذَا فُسِخَتْ الْمُضَارَبَةُ وَرَبُّ الْمَالِ حَيٌّ. [فَصْلٌ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ فِي الْمُضَارَبَة] (3703) فَصْلٌ: إذَا تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِزَوَالِ الْمَالِ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ، وَمَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُضَارَبَةِ، فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِتَلَفِ الْمَالِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ جَهِلَ ذَلِكَ وَهَلْ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 إحْدَاهُمَا، إنْ أَجَازَهُ، فَالثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ، لَزِمَ الْعَامِلَ. وَالثَّانِيَةُ: هُوَ لِلْعَامِلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَإِنْ اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ شَيْئًا، فَتَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ نَقْدِهِ، فَالشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَعَقْدُهَا بَاقٍ، وَيَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ الثَّمَنُ، وَيَصِيرُ رَأْسَ الْمَالِ الثَّمَنُ دُونَ التَّالِفِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَلِفَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رَأْسُ الْمَالِ هَذَا وَالتَّالِفُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّالِفَ تَلِفَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ قَبْلَ الشِّرَاءِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَتَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، كَانَ تَلَفُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَمْ يَنْقُصْ رَأْسُ الْمَالِ بِتَلَفِهِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَإِنْ تَلِفَ الْعَبْدَانِ كِلَاهُمَا، انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِزَوَالِ مَالِهَا كُلِّهِ. فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ أَلْفًا، كَانَ الْأَلْفُ رَأْسَ الْمَالِ، وَلَمْ يُضَمَّ إلَى الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا انْفَسَخَتْ لِذَهَابِ مَالِهَا. [مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِمَا] (3704) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اتَّفَقَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِمَا، كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ الْمَالِ، أَوْ سَهْمًا مِنْ الْوَضِيعَةِ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَأَفْسَدَ الْمُضَارَبَةَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ لَأَحَدِهِمَا فَضْلَ دَرَاهِمَ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَهَالَةِ الرِّبْحِ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ لُزُومَ الْمُضَارَبَةِ. وَيُفَارِقُ شَرْطَ الدَّرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الشَّرْطُ ثَبَتَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرِّبْحِ مَجْهُولَةً. [فَصْلٌ الشُّرُوطُ فِي الْمُضَارَبَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ] (3705) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ فِي الْمُضَارَبَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ، فَالصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِالْمَالِ، أَوْ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ، أَوْ لَا يَتَّجِرَ إلَّا فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ نَوْعٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ النَّوْعُ مِمَّا يَعُمُّ وُجُودُهُ، أَوْ لَا يَعُمُّ، وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَكْثُرُ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ أَوْ يَقِلُّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: إذَا شَرَطَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ مَا لَا يَعُمُّ وُجُودُهُ، كَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، وَالْخَيْلِ الْبُلْقِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ التَّقْلِيبُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَنْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 وَلَنَا، أَنَّهَا مُضَارَبَةٌ خَاصَّةٌ، لَا تَمْنَعُ الرِّبْحَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَصَحَّتْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَّجِرَ إلَّا فِي نَوْعٍ يَعُمُّ وُجُودُهُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِنَوْعِ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا، كَالْوَكَالَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ. مَمْنُوعُ، وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهُ، وَتَقْلِيلُهُ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَتَخْصِيصِهِ بِالنَّوْعِ. وَيُفَارِقُ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الرِّبْحَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَا تَبِعْ إلَّا مِنْ فُلَانٍ، وَلَا تَشْتَرِ إلَّا مِنْ فُلَانٍ. فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الرِّبْحَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي مَا بَاعَهُ إلَّا بِدُونِ ثَمَنِهِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لَا تَبِعْ إلَّا مِمَّنْ اشْتَرَيْت مِنْهُ. لَمْ يَصِحّ؛ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ تَأْقِيت الْمُضَارَبَةِ] (3706) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَأْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: ضَارَبْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّرَاهِمِ سَنَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ فَلَا تَبِعْ، وَلَا تَشْتَرِ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا أَلْفًا مُضَارَبَةً شَهْرًا، قَالَ: إذَا مَضَى شَهْرٌ يَكُونُ قَرْضًا. قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. قُلْت: فَإِنْ جَاءَ الشَّهْرُ وَهِيَ مَتَاعٌ؟ قَالَ: إذَا بَاعَ الْمَتَاعَ يَكُونُ قَرْضًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي صِحَّةِ شَرْطِ التَّأْقِيتِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ صَحِيحٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِيَةُ، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ. وَاخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ عَقْدٌ يَقَعُ مُطْلَقًا، فَإِذَا شَرَطَ قَطْعَهُ لَمْ يَصِحَّ، كَالنِّكَاحِ. الثَّانِي، أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا لَهُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ نَاضًّا، فَإِذَا مَنَعَهُ الْبَيْعَ لَمْ يَنِضَّ. الثَّالِثُ، إنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ بِالْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الرِّبْحُ وَالْحَظُّ فِي تَبْقِيَةِ الْمَتَاعِ، وَبَيْعِهِ بَعْدَ السَّنَةِ. فَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِمُضِيِّهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَتَوَقَّتُ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَتَاعِ فَجَازَ تَوْقِيتُهُ فِي الزَّمَانِ، كَالْوَكَالَةِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَبْطُلُ تَخْصِيصُهُ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَتَاعِ، وَلِأَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ مَنْعَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي كُلِّ وَقْتٍ إذَا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ بِمَالِهِ عَرْضًا، فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ، فَقَدْ شَرَطَ مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ فَلَا تَشْتَرِ شَيْئًا. وَقَدْ سَلَّمُوا صِحَّةَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ اشْتِرَاط الْمُضَارِب نَفَقَةَ نَفْسِهِ] (3707) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُضَارِبُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ، صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ السَّفَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ فِي الْحَضَرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 وَلَنَا أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الْحَضَرِ إحْدَى حَالَتَيْ الْمُضَارَبَةِ، فَصَحَّ اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ فِيهَا، كَالسَّفَرِ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَهَا فِي الْوَكَالَةِ. [فَصْلٌ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَة فِي الْمُضَارَبَة تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ] (3708) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا، مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لُزُومَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ لَا يَعْزِلَهُ مُدَّةً بِعَيْنِهَا، أَوْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَقَلِّ، أَوْ لَا يَبِيعَ إلَّا مِمَّنْ اشْتَرَى مِنْهُ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ، أَوْ لَا يَبِيعَ، أَوْ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ السِّلَعِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ الرِّبْحُ، أَوْ تَمْنَعُ الْفَسْخَ الْجَائِزَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَعُودُ بِجَهَالَةِ الرِّبْحِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ مَجْهُولًا، أَوْ رِبْحَ أَحَدِ الْكَسْبَيْنِ، أَوْ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، أَوْ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ رِبْحَ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ، أَوْ مَا يَرْبَحُ فِي هَذَا الشَّهْرِ، أَوْ أَنَّ حَقَّ أَحَدِهِمَا فِي عَبْدٍ يَشْتَرِيه، أَوْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً بِجَمِيعِ حَقِّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِأَجْنَبِيٍّ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى جَهْلِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ إلَى فَوَاتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، اشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَلَا مُقْتَضَاهُ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْمُضَارَبَةَ لَهُ فِي مَالٍ آخَرَ، أَوْ يَأْخُذَهُ بِضَاعَةً أَوْ قَرْضًا، أَوْ أَنْ يَخْدِمَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ يَرْتَفِقَ بِبَعْضِ السِّلَعِ، مِثْلُ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ، وَيَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ، وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ، أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ الْمَالِ أَوْ سَهْمًا مِنْ الْوَضِيعَةِ، أَوْ أَنَّهُ مَتَى بَاعَ السِّلْعَةَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ، أَوْ شَرَطَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُعَلَّلًا. وَمَتَى اشْتَرَطَ شَرْطًا فَاسِدًا يَعُودُ بِجَهَالَةِ الرِّبْحِ، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى فِي الْعِوَضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَمَا لَوْ جَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ، فَتُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَا يَعْلَمُ مَا يَدْفَعُهُ إلَى الْمُضَارِبِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَجْهُولٍ، فَلَمْ تُبْطِلْهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، كَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَشَرْطِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، أَوْ شَرْطِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِضَاعَةً، وَالْحُكْمُ فِي الشَّرِكَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُضَارَبَةِ سَوَاءٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 [فَصْلٌ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ] (3709) فَصْلٌ: وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: (3710) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الْإِذْنُ فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ، كَالْوَكِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ شِرَاءً فَاسِدًا، ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ، مَعَ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَصَرَّفُ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ لَا بِالْإِذْنِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَائِعُ كَانَ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ، لَمْ يَصِحّ، وَهَا هُنَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَمَا شَرَطَهُ مِنْ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوطِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي تَصَرُّفٍ يَقَعُ لَهُ. (3711) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرِّبْحَ جَمِيعَهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ فَسَدَ الشَّرْطُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيّ. وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ، قُسِمَ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ. قَالَ: وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، فَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى فِي فَاسِدِهِ، كَالنِّكَاحِ. قَالَ: وَلَا أَجْرَ لَهُ. وَجَعَلَ أَحْكَامَهَا كُلَّهَا كَأَحْكَامِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَالْمَذْهَبُ مَا حَكَيْنَا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّحَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ. وَحُكِيَ عَنْهُ: إنْ لَمْ يَرْبَحْ فَلَا أَجْرَ لَهُ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ إنْ رَبِحَ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِمَّا شَرَطَ لَهُ أَوْ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا مِثْلُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَقَلُّ مَا شَرَطَ لَهُ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِالْعَمَلِ الزَّائِدِ، وَلَنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الرِّبْحِ مِنْ تَوَابِعِ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَتْ أَرْكَانُهَا وَتَوَابِعُهَا، كَالصَّلَاةِ وَلَا نُسَلِّمُ فِي النِّكَاحِ وُجُوبَ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَهُ الْمُسَمَّى، وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ لِيَأْخُذَ الْمُسَمَّى، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمُسَمَّى وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، وَهُوَ أَجْرُ مِثْلِهِ، كَمَا لَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا فَاسِدًا، وَتَقَابَضَا، وَتَلِفَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي يَدِ الْقَابِضِ لَهُ، وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ. فَعَلَى هَذَا سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ، فَأَمَّا إنْ رَضِيَ الْمُضَارِبُ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَارَضْتُكَ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعَانَهُ فِي شَيْءٍ، أَوْ تَوَكَّلَ لَهُ بِغَيْرِ جَعْلٍ، أَوْ أَخَذَ لَهُ بِضَاعَةً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِي الضَّمَانِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتْلَفُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ وَتَفْرِيطِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْقَبْضُ فِي صَحِيحِهِ مَضْمُونًا، كَانَ مَضْمُونًا فِي فَاسِدِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي صَحِيحِهِ، لَمْ يُضْمَنْ فِي فَاسِدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ فِي صَحِيحِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ فِي فَاسِدِهِ، كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّهَا إذَا فَسَدَتْ صَارَتْ إجَارَةً، وَالْأَجِيرُ لَا يَضْمَنُ سُكْنَى مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدِّيه وَلَا فِعْلِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا الشَّرِكَةُ إذَا فَسَدَتْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هَذَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ضَارِبِ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك] (3713) . مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ: ضَارِبْ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا ذَلِكَ عَنْهُ: عَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ، فَقَدْ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَدَفَعَ الدَّيْنَ إلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَرْضًا، وَقَالَ: بِعْهُ، وَضَارِبِ بِثَمَنِهِ. وَجَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَكَانَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ الشِّرَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الْقِرَاضِ بِشَرْطٍ. وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدَيْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ لِغَرِيمِهِ بِقَبْضِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ هَاهُنَا. وَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْزِلْ الْمَالَ الَّذِي لِي عَلَيْك، وَقَدْ قَارَضْتُكَ عَلَيْهِ. فَفَعَلَ، وَاشْتَرَى بِعَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ، وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَحَصَلَ الشِّرَاءُ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْقِرَاضَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَعَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْمَالَ. [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلِ اقْبِضْ الْمَالَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً] (3714) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْبِضْ الْمَالَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً. فَقَبَضَهُ، وَعَمِلَ بِهِ، جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَيَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ، مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَجَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْبِضْ الْمَالَ مِنْ غُلَامِي، وَضَارِبِ بِهِ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: أَقْرِضْنِي أَلْفًا شَهْرًا، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الشَّهْرِ مُضَارَبَةٌ؟ قَالَ: لَا يَصْلُحُ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَارِبَ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: ضَارِبْ بِهِ شَهْرًا، ثُمَّ خُذْهُ قَرْضًا. جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 [فَصْل مِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ] (3715) فَصْلٌ: وَمَنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا وَلَا جُزَافًا، وَلَوْ شَاهَدَاهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ إذَا شَاهَدَاهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا فِي يَدَيْهِ، فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُشَاهِدَاهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِكَمْ يَرْجِعُ عِنْد الْمُفَاصَلَةِ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْكِيسِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالسَّلَمِ، وَبِمَا إذَا لَمْ يُشَاهِدَاهُ. [فَصْلٌ أَحْضَرَ كِيسَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ وَقَالَ قَارِضَتك عَلَى أَحَدِهِمَا] (3716) فَصْلٌ: وَلَوْ أَحْضَرَ كِيسَيْنِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ، وَقَالَ: قَارَضْتُك عَلَى أَحَدِهِمَا. لَمْ يَصِحَّ، سَوَاءٌ تَسَاوَى مَا فِيهِمَا أَوْ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ الْجَهَالَةُ، فَلَمْ يَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْبَيْعِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ ضَارِبِ بِهَا] (3717) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: ضَارِبْ بِهَا) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَقْبِضَهَا مِنْهُ، قِيَاسًا عَلَى الدَّيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَدِيعَةَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ يُضَارِبَهُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً. فَقَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى هَذَا الْأَلْفِ. وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ. وَفَارَقَ الدَّيْنَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ عَيْنُ الْمَالِ مِلْكًا لِلْغَرِيمِ إلَّا بِقَبْضِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ قَدْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، وَصَارَتْ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَارِبَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ مَالٌ مَغْصُوبٌ فَضَارَبَ الْغَاصِب بِهِ] (3718) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ مَالٌ مَغْصُوبٌ، فَضَارَبَ الْغَاصِبَ بِهِ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لِرَبِّ الْمَالِ، يُبَاحُ لَهُ بَيْعُهُ مِنْ غَاصِبِهِ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ. وَإِنْ تَلِفَ، وَصَارَ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ تَجُزْ الْمُضَارَبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا. وَمَتَى ضَارَبَهُ بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ، زَالَ ضَمَانُ الْغَصْبِ، بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَزُولُ ضَمَانُ الْغَصْبِ إلَّا بِدَفْعِهِ ثَمَنًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ لَا يُنَافِي الضَّمَانَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَعَدَّى فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُمْسِكٌ لِلْمَالِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ إيَّاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 [فَصْلٌ الْعَامِلُ أَمِينٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَة] (3719) فَصْل: وَالْعَامِلُ أَمِينٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَكَانَ أَمِينًا، كَالْوَكِيلِ. وَفَارَقَ الْمُسْتَعِيرَ؛ فَإِنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَتِهِ خَاصَّةً، وَهَا هُنَا الْمَنْفَعَةُ بَيْنَهُمَا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ. كَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَبِهِ نَقُولُ. وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ شَيْءٍ، وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيه مِنْ تَلَفِ الْمَالِ أَوْ خَسَارَةٍ فِيهِ، وَمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ خِيَانَةٍ وَتَفْرِيطٍ، وَفِيمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا فِي نِيَّتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا نَوَاهُ، لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا نَوَاهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نِيَّةِ الزَّوْجِ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ. وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الشِّرَاءِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَالْوَكِيلِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كُنْت نَهَيْتُك عَنْ شِرَائِهِ. فَأَنْكَرَ الْعَامِلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّهْيِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. (3720) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَذِنْت لِي فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً وَفِي الشِّرَاءِ بِعَشْرَةٍ. قَالَ: بَلْ أَذِنْت لَك فِي الْبَيْعِ نَقْدًا، وَفِي الشِّرَاءِ بِخَمْسَةٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ. وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: قَدْ نَهَيْتُك عَنْ شِرَاءِ عَبْدٍ فَأَنْكَرَ النَّهْيَ. [فَصْلٌ قَالَ الْمُضَارِب شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَقَالَ بَلْ ثُلُثَهُ] (3721) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ. فَقَالَ: بَلْ ثُلُثَهُ. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمَنْصُورِ وَسِنْدِيٍّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يُنْكِرُ السُّدُسَ الزَّائِدَ وَاشْتِرَاطَهُ لَهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّ الْعَامِلَ إذَا ادَّعَى أَجْرَ الْمِثْلِ، وَزِيَادَةً يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا وَافَقَ أَجْرَ الْمِثْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي عِوَضِ عَقْدٍ، فَيَتَحَالَفَانِ، كَالْمُتَبَايِعِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَلَمْ يَتَحَالَفَا، كَسَائِرِ مَا قَدَّمْنَا اخْتِلَافَهُمَا فِيهِ، وَالْمُتَبَايِعَانِ يَرْجِعَانِ إلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى الْعَامِلُ رَدَّ الْمَالِ فَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَالِ] (3722) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى الْعَامِلُ رَدَّ الْمَالِ، فَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَالِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا كَقَوْلِنَا. وَالْآخَرُ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَ النَّفْعِ لِرَبِّ الْمَالِ، فَالْعَامِلُ كَالْمُودَعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، كَالْمُسْتَعِيرِ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَفَارَقَ الْمُودَعَ؛ فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ لَهُ فِي الْوَدِيعَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مُعْظَمَ النَّفْعِ لِرَبِّ الْمَالِ. يَمْنَعُهُ، وَإِنْ سُلِّمَ إلَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَقْبِضْهُ إلَّا لِنَفْعِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ لِنَفْعِ رَبِّ الْمَالِ. [فَصْل قَالَ الْمُضَارِب رَبِحْت أَلْفًا ثُمَّ قَالَ خَسِرْت ذَلِكَ] (3723) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: رَبِحْت أَلْفًا. ثُمَّ قَالَ: خَسِرْت ذَلِكَ. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْخَسَارَةِ، كَالْوَكِيلِ. وَإِنْ قَالَ: غَلِطْت أَوْ نَسِيت. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِحَقٍّ لِآدَمِي، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ ثُمَّ رَجَعَ. وَلَوْ أَنَّ الْعَامِلَ خَسِرَ، فَقَالَ لِرَجُلِ: أَقْرِضْنِي مَا أُتَمِّمُ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ لِأَعْرِضَهُ عَلَى رَبِّهِ، فَإِنَّنِي أَخْشَى أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي إنْ عَلِمَ بِالْخَسَارَةِ. فَأَقْرَضَهُ، فَعَرَضَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَقَالَ: هَذَا رَأْسُ مَالِكَ. فَأَخَذَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْعَامِلِ عَنْ إقْرَارِهِ إنْ رَجَعَ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُقْرِضِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا. وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَلَكَهُ بِالْقَرْضِ، ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ الْمُقْرِضُ عَلَى الْعَامِلِ لَا غَيْرُ. (3724) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ، فَنَضَّ الْمَالُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَانِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ هُوَ أَلْفٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ وَالرِّبْحَ أَلْفَانِ، فَنَصِيبُهُ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، يَبْقَى أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُصَدِّقُهُ، وَيَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ رِبْحًا بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ الْآخَرِ، يَقْتَسِمَانِهَا أَثْلَاثًا، لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَاهَا، وَلِلْعَامِلِ ثُلُثُهَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ نِصْفُهُ، وَنَصِيبَ هَذَا الْعَامِلِ رُبْعُهُ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بَاقِي الرِّبْحِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَمَا أَخَذَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 الْحَالِفُ فِيمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ كَالتَّالِفِ مِنْهُمَا، وَالتَّالِفُ يَحْسِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ الرِّبْحِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (3725) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا يَتَّجِرُ فِيهِ، فَرِبْحَ، فَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ قَرْضًا لِي رِبْحُهُ كُلُّهُ. وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ قِرَاضًا فَرِبْحُهُ بَيْنَنَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ خُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ. فَإِذَا حَلَفَ قَسَمْنَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا، وَيَكُونَ لِلْعَامِلِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا شَرَطَهُ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَجْرِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَرَبُّ الْمَالِ مُعْتَرِفٌ لَهُ بِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي الرِّبْحَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي عَمَلِهِ مَعَ يَمِينِهِ. كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، فَإِذَا حَلَفَ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مَا عَمِلَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا عَمِلَ لِغَرَضٍ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَنَصَّ، أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَيُقْسَمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ بِضَاعَةً. وَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ كَانَ قِرَاضًا. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَهُ لَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا، وَيَكُونَ لِلْعَامِلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَجْرِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ أَجْرَ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قِرَاضًا، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ بِضَاعَةً. وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ قَرْضًا. حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ، وَكَانَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ لَا غَيْرُ. وَإِنْ خَسِرَ الْمَالُ أَوْ تَلِفَ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ قَرْضًا. وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ قِرَاضًا أَوْ بِضَاعَةً. فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ. [فَصْلٌ اشْتَرَطَ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ] (3726) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ، فَلَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدَيْهِ، أَوْ قَدْ رَجَعَ إلَى مَالِكِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَعْدَ رَدِّهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمِينٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، وَكَالْوَصِيِّ إذَا ادَّعَى النَّفَقَةَ عَلَى الْيَتِيمِ. (3727) فَصْلٌ: إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ الْآخَرِ بِأَلْفٍ، وَقَالَ: لَمْ أَقْبِضْ ثَمَنَهُ. وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَبَضَهُ، وَصَدَّقَهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ، بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ ثَمَنِهِ؛ لِاعْتِرَافِ شَرِيكِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ حَقَّهُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 فَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، وَتَبْقَى الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَشَرِيكِهِ وَالْمُشْتَرِي. فَإِنْ خَاصَمَهُ شَرِيكُهُ، وَادَّعَى عَلَيْهِ إنَّك قَبَّضْته نَصِيبِي مِنْ الثَّمَنِ. فَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ قُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُشْتَرِي لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا. وَإِنْ خَاصَمَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. فَإِذَا حَلَفَ، أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ شَرِيكُهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ ظُلْمًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَتَهُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَمِنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ تَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُخَاصَمَةِ الشَّرِيكِ قَبْلَ مُخَاصَمَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ بَعْدَهَا. وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ شَرِيكَ الْبَائِعِ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ، فَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَذِنَ لِشَرِيكِهِ فِي الْقَبْضِ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْقَبْضِ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَكِّلْهُ فِي الْقَبْضِ، فَقَبْضُهُ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ. وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَى شَرِيكِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ، وَلِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ شَرِيكَهُ قَبَضَ حَقَّهُ. وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ دَفْعُ نَصِيبِهِ إلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَمِينٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ بِبَقَاءِ حَقِّهِ. وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى شَرِيكِهِ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ، فَإِذَا قَبَضَ حَقَّهُ، فَلِشَرِيكِهِ مُشَارَكَتُهُ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَهُمَا ثَابِتٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، فَمَا قَبَضَ مِنْهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا. وَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ، وَيُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الشَّرِيكُ مُشَارَكَتَهُ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَ نَصِيبِهِ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ مُشَارَكَتُهُ فِيمَا قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ فِي صَفْقَةٍ. وَيُخَالِفُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَرَثَةِ لَا يَتَبَعَّضُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ تَبْعِيضُهُ، وَهَا هُنَا يَتَبَعَّضُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْرُوثِ، فَكَانَ مَا يَقْبِضُهُ لِلْمَوْرُوثِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، بِخِلَافِ. مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ مَا يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ مُشَارَكَتُهُ فِيمَا قَبَضَ. فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَيَأْخُذُ مِنْ الْقَابِضِ نِصْفَ مَا قَبَضَهُ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ بِبَقِيَّةِ حَقِّهِ، إذَا حَلَفَ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَا قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا. وَلَيْسَ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضِ مَا أَخَذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُ ظُلْمًا، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا ظَلَمَهُ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ خَاصَمَ الْمُشْتَرِي شَرِيكَ الْبَائِعِ، فَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ، فَكَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَائِعِ لَهُ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرِيكَهُ قَبَضَ الثَّمَنَ، لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَتَهُ بِشَيْءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُ لَهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ مُشَارَكَةِ شَرِيكِهِ لَهُ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَحَلَفَ، أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ، وَإِنْ نَكَلَ، أَخَذَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ نِصْفَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 [فَصْلٌ كَانَ الْعَبْدُ بَيْن اثْنَيْنِ فَغَصَبَ رَجُلٌ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا] (3728) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَغَصَبَ رَجُلٌ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَمْنَعَ أَحَدَهُمَا الِانْتِفَاعَ دُونَ الْآخَرِ، ثُمَّ إنَّ مَالِكَ نِصْفِهِ وَالْغَاصِبَ بَاعَا الْعَبْدَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، صَحَّ فِي نَصِيبِ الْمَالِكِ، وَبَطَلَ فِي نَصِيبِ الْغَاصِبِ. وَإِنْ وَكَّلَ الشَّرِيكُ الْغَاصِبَ، أَوْ وَكَّلَ الْغَاصِبُ الشَّرِيكَ فِي الْبَيْعِ، فَبَاعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً، بَطَلَ فِي نَصِيبِ الْغَاصِبِ، فِي الصَّحِيحِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ هَاهُنَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً، وَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي بَعْضِهَا، فَبَطَلَ فِي سَائِرِهَا. بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَالِكُ وَالْغَاصِبُ، فَإِنَّهُمَا عَقْدَانِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ. وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ ذَكَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ وُكِّلَ فِي نِصْفِهِ، لَصَلَحَ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ؛ لِكَوْنِهِ كَالْعَقْدِ الْمُنْفَرِدِ. [فَصْلٌ كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنٌ لِسَبَبِ وَاحِدٍ] (3729) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنٌ لِسَبَبِ وَاحِدٍ؛ إمَّا عَقْدٌ أَوْ مِيرَاثٌ أَوْ اسْتِهْلَاكٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا، فَلِلْآخَرِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَلَا يُشَارِكَهُ الْآخَرُ فِيمَا أَخَذَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ قِيلَ لِأَحْمَدَ: بِعْت أَنَا وَصَاحِبِي مَتَاعًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَعْطَانِي حَقِّي، وَقَالَ: هَذَا حَقُّك خَاصَّةً، وَأَنَا أُعْطِي شَرِيكَك بَعْدُ. قَالَ: لَا يَجُوزُ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَخَّرَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقِّهِ دُونَ صَاحِبِهِ؟ قَالَ: يَجُوزُ. قِيلَ: فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ دُونَ صَاحِبِهِ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ، وَيُبْرِئَهُ دُونَ صَاحِبِهِ؟ فَفَكَّرَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا يُشْبِهُ الْمِيرَاثَ إذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ نَصِيبِهِ. قَالَ: فَرَأَيْته قَدْ احْتَجَّ لَهُ وَأَجَازَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْعَمَلُ عِنْدِي عَلَى مَا رَوَاهُ حَرْبٌ وَحَنْبَلٌ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ عَمَّا قَالَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْقَابِضِ مَا أَخَذَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الشَّرِيكِ، فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ وَالْبَاقِي جَمِيعًا مُشْتَرَكًا، وَلِغَيْرِ الْقَابِضِ الرُّجُوعُ عَلَى الْقَابِضِ بِنِصْفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْهَا بِرَهْنٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لَهُمَا عَلَى وَجْهٍ سَوَاءٍ، فَلَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُ حَقِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّرِيكِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لِلْقَابِضِ مَنْعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَرِيمِ، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا أُعْطِيك نِصْفَ مَا قَبَضْت. بَلْ الْخِيرَةُ إلَيْهِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ قَبَضَ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ شَرِيكِهِ شَيْئًا، رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْغَرِيمِ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْقَابِضِ، تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ لِلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ حَقِّهِ فِيمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 تَعَدَّى بِالْقَبْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِشَرِيكِهِ مُشَارَكَتُهُ لِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكًا. وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ حَقِّهِ، بَرِئَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ بِشَيْءٍ. وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِنْ عُشْرِ الدَّيْنِ، ثُمَّ قَبَضَا مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا، اقْتَسَمَاهُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا فِي الْبَاقِي؛ لِلْمُبْرِئِ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِ، وَلِشَرِيكِهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ. وَإِنْ قَبَضَا نِصْفَ الدَّيْنِ، ثُمَّ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِنْ عُشْرِ الدَّيْنِ كُلِّهِ، نَفَذَتْ بَرَاءَتُهُ فِي خُمْسِ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِلْمُبْرِئِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ، وَلِلْآخَرِ خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ، فَمَا قَبَضَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ اقْتَسَمَاهُ عَلَى هَذَا. وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ ثَوْبًا، فَلِلْآخَرِ إبْطَالُ الشِّرَاءِ فَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّوْبِ، وَلَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ لِيَمْلِكَ نِصْفَ الثَّوْبِ، انْبَنَى عَلَى بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، هَلْ يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ أَوْ لَا؟ وَإِنْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ الدَّيْنِ، جَازَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ جَازَ، فَتَأْخِيرُهُ أَوْلَى. فَإِنْ قَبَضَ الشَّرِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالْأَوْلَى أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَّ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ؛ فَوُجُودُ التَّأْجِيلِ كَعَدَمِهِ. فَأَمَّا إنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُهُمَا لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، فَوَجْهُهَا أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْعَيْنِ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ إلَى غَرِيمِهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَمَا قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ فِيهِ قَبْضٌ، وَلَا لِوَكِيلِهِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَكَانَ لِقَابِضِهِ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ بِسَبَبَيْنِ. وَلَيْسَ هَذَا قِسْمَةَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ بِقَبْضِهِ، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِغَيْرِ الْقَابِضِ حَقٌّ فِي الْمَقْبُوضِ، لَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِهِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَبْضَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ، لَمْ يُشَارِكْهُ غَيْرُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ بِسَبَبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ غَاصِبٌ مِنْهُ مَالًا، فَعَلَى هَذَا مَا قَبَضَهُ الْقَابِضُ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ شَرِيكِهِ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ. وَإِنْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ ثَوْبًا، صَحَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ إبْطَالُ الشِّرَاءِ. وَإِنْ قَبَضَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِمَّا زَادَ عَلَى حَقِّهِ. [فَصْلٌ قِسْمَة الدَّيْنِ فِي الذِّمَمِ] (3730) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي قِسْمَةِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَمِ، فَنَقَلَ حَنْبَلٌ مَنْعَ ذَلِكَ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا تَتَكَافَأُ وَلَا تَتَعَادَلُ، وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي التَّعْدِيلَ. وَأَمَّا الْقِسْمَةُ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ فَهِيَ بَيْعٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَقَاسَمَا، ثُمَّ تَوِيَ بَعْضُ الْمَالِ، رَجَعَ مَنْ تَوِيَ مَالُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتْوَ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ. وَنَقَلَ حَرْبٌ جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَا يَمْنَعُ الْقِسْمَةَ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ الْأَعْيَانُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَرْجِعُ مَنْ تَوِيَ مَالُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتْوَ، إذَا أَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 وَهَذَا إذَا كَانَ فِي ذِمَمٍ، فَأَمَّا فِي ذِمَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا تُمْكِنُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ إفْرَازُ الْحَقِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي ذِمَّةٍ وَاحِدَةٍ. [فُصُول الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ] (3731) فُصُول فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِإِذْنِهِ. وَيَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي قَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ إنَّمَا جَازَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَزَالَ الْحَجْرُ فِي قَدْرِ مَا أَذِنَ فِيهِ، كَالْوَكِيلِ. فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا يَتَّجِرُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَّجِرَ فِيهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ، جَازَ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ نَوْعًا مِنْ الْمَالِ يَتَّجِرُ فِيهِ، جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ التِّجَارَةُ فِي غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي غَيْرِهِ، وَيَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ إذْنَهُ إطْلَاقٌ مِنْ الْحَجْرِ وَفَكٌّ لَهُ، وَالْإِطْلَاقُ لَا يَتَبَعَّضُ، كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ. وَمَا قَالَهُ يُنْقَضُ بِمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ لِيَلْبَسَهُ، أَوْ طَعَامٍ لِيَأْكُلَهُ، وَيُخَالِفُ الْبُلُوغَ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ بِهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحَجْرِ، فَإِنَّ الْبُلُوغَ مَظِنَّةُ كَمَالِ الْعَقْلِ، الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَهَا هُنَا الرِّقُّ سَبَبُ الْحَجْرِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَنَظِيرُ الْبُلُوغِ فِي الصَّبِيِّ الْعِتْقُ لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْعَبْدُ بِالْإِذْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ يَسْتَفِيدُ بِالْبُلُوغِ قَبُولَ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، (3732) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَوَكَّلَ لَإِنْسَانٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَبَاحَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، فَمَلَكَ ذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، كَبَيْعِ نَفْسِهِ وَتَزَوُّجِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ. مَمْنُوعٌ، بَلْ يَتَصَرَّفُ لِسَيِّدِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمُكَاتَبَ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ سَيِّدِهِ. [فَصْلٌ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ فَلَمْ يَنْهَهُ] (3733) فَصْلٌ: وَإِذَا رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ، فَلَمْ يَنْهَهُ. لَمْ يَصِرْ مَأْذُونًا لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ سَكَتَ عَنْ حَقِّهِ، فَكَانَ مُسْقِطًا لَهُ، كَالشَّفِيعِ إذَا سَكَتَ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ، فَلَمْ يَقُمْ السُّكُوتُ مَقَامَ الْإِذْنِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ وَالْمُرْتَهِنُ سَاكِتٌ، أَوْ بَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالرَّاهِنُ سَاكِتٌ، وَكَتَصَرُّفَاتِ الْأَجَانِبِ. وَيُخَالِفُ الشُّفْعَةَ؛ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ إذَا عَلِمَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 (3734) فَصْلٌ: وَلَا يَبْطُلُ الْإِذْنُ بِالْإِبَاقِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ بِهِ وِلَايَةَ السَّيِّدِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا رَهْنُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِدَامَتَهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ أَوْ حُبِسَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ بَاقٍ وَهُوَ الرِّقُّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَبْطُلُ بِالْمَغْصُوبِ. [فَصْل الْمَأْذُون لَا يَتَبَرَّعُ بِهِبَةِ الدَّرَاهِم] (3735) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ التَّبَرُّعُ بِهِبَةِ الدَّرَاهِمِ، وَلَا كِسْوَةِ الثِّيَابِ. وَتَجُوزُ هِبَتُهُ الْمَأْكُولَ، وَإِعَارَةُ دَابَّتِهِ، وَاِتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ إسْرَافًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالِ مَوْلَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَهِبَةِ دَرَاهِمِهِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ، فَحَضَرَ دَعْوَتَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو ذَرٍّ، فَأَمَّهُمْ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ. رَوَاهُ صَالِحٌ فِي مَسَائِلِهِ بِإِسْنَادِهِ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهَذَا بَيْنَ التُّجَّارِ، فَجَازَ، كَمَا جَازَ لِلْمَرْأَةِ الصَّدَقَةُ بِكِسْرَةِ الْخُبْزِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 [كِتَابُ الْوَكَالَة] ِ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . فَجَوَّزَ الْعَمَلَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] . وَهَذِهِ وَكَالَةٌ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ أَبِي لَبِيدٍ لُمَازَةَ بْنِ زَبَّارٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ قَالَ: «عُرِضَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَبٌ، فَأَعْطَانِي دِينَارًا، فَقَالَ: يَا عُرْوَةُ، ائْتِ الْجَلَبَ، فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً. قَالَ: فَأَتَيْت الْجَلَبَ، فَسَاوَمْت صَاحِبَهُ، فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَجِئْت أَسُوقُهُمَا، أَوْ أَقُودُهُمَا، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ بِالطَّرِيقِ، فَسَاوَمَنِي، فَبِعْت مِنْهُ شَاةً بِدِينَارٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّينَارِ وَبِالشَّاةِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا دِينَارُكُمْ، وَهَذِهِ شَاتُكُمْ. قَالَ: وَصَنَعْت كَيْفَ؟ . قَالَ: فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ» . هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت لَهُ: إنِّي أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ. فَقَالَ: ائْتِ وَكِيلِي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً، فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ وَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، فِي قَبُولِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَبَا رَافِعٍ فِي قَبُولِ نِكَاحِ مَيْمُونَةَ.» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا. [فَصْلٌ كُلُّ مَنْ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ بِنَفْسِهِ وَكَانَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ صَحَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ] (3736) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، صَحَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. وَأَمَّا مَنْ يَتَصَرَّفُ بِالْإِذْنِ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَالْوَكِيلِ، وَالْمُضَارِبِ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا. لَكِنْ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ التَّوْكِيلُ فِيمَا يَمْلِكُهُ دُونَ سَيِّدِهِ، كَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، لَا يُوَكَّلُ إلَّا فِيمَا لَهُ فِعْلُهُ، مِنْ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ، وَطَلَبِ الْقِصَاصِ، وَنَحْوِهِ. وَكُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ، وَتَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، صَحَّ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فِيهِ، إلَّا الْفَاسِقَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَهُ لِغَيْرِهِ. وَكَلَامُ أَبِي الْخَطَّابِ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ. وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. فَأَمَّا تَوْكِيلُهُ فِي الْإِيجَابِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْوِلَايَةَ لَهُ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وَوَجْهُ الْوَجْهِ الْآخَرِ، أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلنِّكَاحِ، أَشْبَهَ الْوَلِيَّ. وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهِ، كَالْمَرْأَةِ. وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا، وَطَلَاقِ غَيْرِهَا. وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْعَبْدِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِنَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى إذْنِ سَيِّدِهِ، لِيُرْضِيَ بِتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ. وَمَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ لِنَفْسِهِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهِ، كَالْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَقَبُولِهِ، وَالْكَافِرِ فِي تَزْوِيجِ مُسْلِمَةٍ، وَالطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا. [فَصْل لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُوَكَّل فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِنَفْسِهِ] فَصْلٌ: وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِنَفْسِهِ. وَلَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ بِجَعْلٍ، لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ. وَلَا يُمْنَعُ الْمُكَاتَبُ مِنْ الِاكْتِسَابِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ جَعْلٍ، إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ كَأَعْيَانِ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ بَذْلُ عَيْنِ مَالِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَوَكَّلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لَا يَتَنَاوَلُ التَّوْكِيلَ. وَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ، إذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ. [مَسْأَلَةٌ التَّوْكِيلُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَمُطَالَبَةِ الْحُقُوقِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ] (3738) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَمُطَالَبَةِ الْحُقُوقِ، وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، حَاضِرًا كَانَ الْمُوَكِّلُ أَوْ غَائِبًا) . لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ. وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَقَدْ يُحْسِنُ وَلَا يَتَفَرَّغُ، وَقَدْ لَا تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ لِكَوْنِهِ امْرَأَةً، أَوْ مِمَّنْ يَتَعَيَّرُ بِهَا، وَيَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ، فَأَبَاحَهَا الشَّرْعُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ الْمَخْلُوقِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْحَوَالَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْجَعَالَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْقَرْضِ، وَالصُّلْحِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْفَسْخِ، وَالْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهَا، فَيَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُهُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافًا. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ، وَأَبَا رَافِعٍ، فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ» . وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى التَّزَوُّجِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ، لَا يُمْكِنُهُ السَّفَرُ إلَيْهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، كَدُعَائِهَا إلَى التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَالِاحْتِشَاشِ؛ لِأَنَّهَا تَمَلُّكُ مَالٍ بِسَبَبٍ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ، كَالِابْتِيَاعِ وَالِاتِّهَابِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إثْبَاتِ الْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَاسْتِيفَائِهِمَا، فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ وَغَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِمَا، لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ قَدْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، أَوْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ. [فَصْلٌ التَّوْكِيلُ فِي مُطَالَبَةِ الْحُقُوقِ وَإِثْبَاتِهَا وَالْمُحَاكَمَةِ فِيهَا] (3739) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي مُطَالَبَةِ الْحُقُوقِ، وَإِثْبَاتِهَا، وَالْمُحَاكَمَةِ فِيهَا، حَاضِرًا كَانَ الْمُوَكِّلُ أَوْ غَائِبًا، صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْخَصْمِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مُحَاكَمَةِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَمُخَاصَمَتَهُ حَقٌّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ خَصْمِهِ، كَالدَّيْنِ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، فَكَانَ لِصَاحِبِهِ الِاسْتِنَابَةُ بِغَيْرِ رِضَاءِ خَصْمِهِ، كَحَالِ غَيْبَتِهِ وَمَرَضِهِ، وَكَدَفْعِ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَّلَ عَقِيلًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: مَا قُضِيَ لَهُ فَلِي، وَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ. وَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عِنْدَ عُثْمَانَ، وَقَالَ: إنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَمًا، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَحْضُرُهَا، وَإِنِّي لِأَكْرَه أَنْ أَحْضُرَهَا. قَالَ أَبُو زِيَادٍ: الْقُحَمُ الْمَهَالِكُ. وَهَذِهِ قِصَصٌ انْتَشَرَتْ، لِأَنَّهَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، فَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَقٌّ، أَوْ يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُحْسِنُ الْخُصُومَةَ، أَوْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْإِقْرَارِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِحَقٍّ، فَلَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ فِيهِ، كَالشَّهَادَةِ وَلَنَا، أَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ بِالْقَوْلِ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ، كَالْبَيْعِ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّهَا لَا تُثْبِتُ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِثُبُوتِهِ عَلَى غَيْرِهِ. [فَصْلٌ التَّوْكِيلُ فِي الشَّهَادَة] (3740) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الشَّاهِدِ لِكَوْنِهَا خَبَرًا عَمَّا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَائِبِهِ. فَإِنْ اسْتَنَابَ فِيهَا، كَانَ النَّائِبُ شَاهِدًا عَلَى شَهَادَتِهِ، لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي مَا سَمِعَهُ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ بِوَكِيلِ. وَلَا يَصِحُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ، فَأَشْبَهَتْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْحُدُودَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 وَلَا يَصِحُّ فِي الْإِيلَاءِ وَالْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ. وَلَا فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الزَّوْجِ لَأَمْرٍ لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَا فِي الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُرْضِعَةِ وَالْمُرْتَضِعِ، لَأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِإِثْبَاتِ لَحْمِ الْمُرْتَضِعِ، وَإِنْشَازِ عَظْمِهِ بِلَبَنِ الْمُرْضِعَةِ. وَلَا فِي الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، وَلَا الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ. وَلَا يَصِحُّ فِي الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ. وَلَا فِي الْجِنَايَاتِ؛ لِذَلِكَ. وَلَا فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَلَمْ يَجُزْ لِنَائِبِهِ. [فَصْلٌ الْوَكَالَة فِي حُقُوق اللَّهِ تَعَالَى] (3741) فَصْلٌ: فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ مِنْهَا حَدًّا كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، جَازَ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ مَاعِزٍ، فَرَجَمُوهُ» . وَوَكَّلَ عُثْمَانُ عَلِيًّا فِي إقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. وَوَكَّلَ عَلِيٌّ الْحَسَنَ فِي ذَلِكَ، فَأَبَى الْحَسَنُ، فَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، فَأَقَامَهُ، وَعَلِيٌّ يَعُدُّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إثْبَاتِهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ فِي إثْبَاتِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْئِهَا بِهَا، وَالتَّوْكِيلُ يُوصِلُ إلَى الْإِيجَابِ. وَلَنَا، حَدِيثُ أُنَيْسٍ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَّلَهُ فِي إثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَبَتَ، وَقَدْ وَكَّلَهُ فِي إثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ جَمِيعًا. وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا اسْتَنَابَ، دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْحُدُودُ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي التَّوْكِيلِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَجَبَ أَنْ تَدْخُلَ بِالتَّخْصِيصِ بِهَا أَوْلَى، وَالْوَكِيلُ يَقُومُ مُقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي دَرْئِهَا بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ، كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، جَازَ التَّوْكِيلُ فِي قَبْضِهَا وَتَفْرِيقِهَا، وَيَجُوزُ لِلْمُخْرِجِ التَّوْكِيلُ فِي إخْرَاجِهَا وَدَفْعِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَخْرِجْ زَكَاةَ مَالِي مِنْ مَالِكَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عُمَّالَهُ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقِهَا، وَقَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْحَجِّ إذَا أَيِسَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ مِنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَنَابَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهَا، إلَّا أَنَّ الصِّيَامَ الْمَنْذُورَ يُفْعَلُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْ فِي ذَلِكَ، وَلَا وَكَّلَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَلَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي رَكْعَتِي الطَّوَافِ تَبَعًا لِلْحَجِّ. وَفِي فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ، وَفِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ رِوَايَتَانِ. وَلَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الطَّهَارَةِ، إلَّا فِي صَبِّ الْمَاءِ، وَإِيصَالِ الْمَاءِ لِلْأَعْضَاءِ، وَفِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَغَيْرِهِمَا. [فَصْلٌ كُلُّ مَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكَّلِ وَغَيْبَتِهِ] (3742) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ، جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكَّلِ وَغَيْبَتِهِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْفُوَ الْمُوَكَّلُ فِي حَالَةِ غَيْبَتِهِ، فَيَسْقُطَ؛ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ. وَلِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَإِذَا حَضَرَ، احْتَمَلَ أَنْ يَرْحَمَهُ فَيَعْفُوَ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، جَازَ فِي غَيْبَتِهِ، كَالْحُدُودِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَاحْتِمَالُ الْعَفْوِ بَعِيدٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ عَفَا لَبَعَثَ وَأَعْلَمَ وَكِيلَهُ بِعَفْوِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَلَا يُؤَثِّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ قُضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي الْبِلَادِ، وَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، مَعَ احْتِمَالِ النَّسْخِ؟ وَكَذَلِكَ لَا يُحْتَاطُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ، مَعَ احْتِمَالِ رُجُوعِهِمْ عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. [فَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ] (3743) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَافْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، كَالْبَيْعِ. وَيَجُوزُ الْإِيجَابُ بِكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ، نَحْوُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ، أَوْ يَقُولَ: أَذِنْت لَك فِي فِعْلِهِ «. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَّلَ عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ فِي شِرَاءِ شَاةٍ» بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] . وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ دَالٌ عَلَى الْإِذْنِ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: وَكَّلْتُك. وَيَجُوزُ الْقَبُولُ بِقَوْلِهِ: قَبِلْت. وَكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ بِكُلِّ فِعْلٍ دَلَّ عَلَى الْقَبُولِ، نَحْوِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ وَكَّلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ سِوَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَجَازَ الْقَبُولُ فِيهِ بِالْفِعْلِ، كَأَكْلِ الطَّعَامِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وَيَجُوزُ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، نَحْوُ أَنْ يَبْلُغَهُ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مُنْذُ سَنَةٍ، فَيَبِيعَهُ. أَوْ يَقُولَ: قَبِلْت. أَوْ يَأْمُرَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ، فَيَفْعَلَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ؛ لِأَنَّ قَبُولَ وُكَلَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَكَالَتِهِ كَانَ بِفِعْلِهِمْ، وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَوْكِيلِهِ إيَّاهُمْ. وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، وَالْإِذْنُ قَائِمٌ، مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الْإِبَاحَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الْوَكَالَة عَلَى شَرْطٍ] (3744) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ، نَحْوِ قَوْلِهِ: إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَبِعْ هَذَا الطَّعَامَ. وَإِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ فَاشْتَرِ لَنَا فَحْمًا. وَإِذَا جَاءَ الْأَضْحَى فَاشْتَرِ لَنَا أُضْحِيَّةً. وَإِذَا طَلَبَ مِنْك أَهْلِي شَيْئًا فَادْفَعْهُ إلَيْهِمْ. وَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَدْ وَكَّلْتُك فِي هَذَا، أَوْ فَأَنْتَ وَكِيلِي. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ، لَكِنْ إنْ تَصَرَّفَ صَحَّ تَصَرُّفُهُ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا بِجَعْلٍ فَسَدَ الْمُسَمَّى، وَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ التَّصَرُّفَ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ حُكْمُهُ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتُهُ، فَكَانَ صَحِيحًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ عَبْدِي إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي شِرَاءِ كَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا. صَحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ فِي مَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّأْمِيرَ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ بِغَيْرِ جَعْلٍ، وَلَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَصَحَّ بِالْجَعْلِ، كَالتَّوْكِيلِ النَّاجِزِ. [فَصْلٌ التَّوْكِيلُ بِجَعْلِ وَغَيْرِ جَعَلَ] (3745) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِجَعْلٍ وَغَيْرِ جَعْلٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَّلَ أُنَيْسًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، وَعُرْوَةَ فِي شِرَاءِ شَاةٍ، وَعَمْرًا وَأَبَا رَافِعٍ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ جَعْلٍ. وَكَانَ يَبْعَثُ عُمَّالَهُ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ عِمَالَةً. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ ابْنَا عَمِّهِ: لَوْ بَعَثْتنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّي إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبُ مَا يُصِيبُهُ النَّاسُ يَعْنِيَانِ الْعِمَالَةَ. فَإِنْ كَانَتْ بِجَعْلٍ، اسْتَحَقَّ الْوَكِيلُ الْجَعْلَ بِتَسْلِيمِ مَا وُكِّلَ فِيهِ إلَى الْمُوَكِّلِ، إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ، كَثَوْبٍ يَنْسِجُهُ أَوْ يَقْصِرُهُ أَوْ يَخِيطُهُ، فَمَتَى سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مَعْمُولًا فَلَهُ الْأَجْرُ. وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ فِي دَارِ الْمُوَكِّلِ، فَكُلَّمَا عَمِلَ شَيْئًا وَقَعَ مَقْبُوضًا، فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيلُ الْجَعْلَ إذَا فَرَغَ الْخَيَّاطُ مِنْ الْخِيَاطَةِ. وَإِنْ وُكِّلَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ حَجٍّ، اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ إذَا عَمِلَهُ. وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ قَالَ: إذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 بِعْت الثَّوْبَ، وَقَبَضْت ثَمَنَهُ، وَسَلَّمْته إلَيَّ، فَلَكَ الْأَجْرُ. لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، فَإِنْ فَاتَهُ التَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. [فَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إلَّا فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ] (3746) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إلَّا فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ. فَإِنْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَوْ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. أَوْ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ يَجُوزُ لِي. أَوْ فِي كُلِّ مَالِي التَّصَرُّفُ فِيهِ. لَمْ يَصِحَّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَصِحُّ، وَيَمْلِكُ بِهِ كُلَّ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌ، فَصَحَّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ مَالِي كُلَّهُ. وَلَنَا، أَنَّ فِي هَذَا غَرَرًا عَظِيمًا، وَخَطَرًا كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ هِبَةُ مَالِهِ، وَطَلَاقُ نِسَائِهِ، وَإِعْتَاقُ رَقِيقِهِ، وَتَزَوُّجُ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ. وَيَلْزَمُهُ الْمُهُورُ الْكَثِيرَةُ، وَالْأَثْمَانُ الْعَظِيمَةُ، فَيَعْظُمُ الضَّرَرُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي مَا شِئْت. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِقَوْلِهِ فِي رَجُلَيْنِ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا اشْتَرَيْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا: إنَّهُ جَائِزٌ. وَأَعْجَبَهُ. وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ وَالْمُضَارِبَ وَكِيلَانِ فِي شِرَاءِ مَا شَاءَ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَمَا دُونِ، وَلَا يَشْتَرِيَ مَا لَا يَقْدِرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى ثَمَنِهِ، وَلَا مَا لَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ لَهُ فِي شِرَائِهِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْ مَالِيِّ كُلَّهُ، وَاقْبِضْ دُيُونِي كُلَّهَا. صَحَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِفُ مَالَهُ وَدُيُونَهُ. وَإِنْ قَالَ: بِعْ مَا شِئْت مِنْ مَالِي، وَاقْبِضْ مَا شِئْت مِنْ دُيُونِي. جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِي الْجَمِيعِ، فَفِي بَعْضِهِ أَوْلَى. وَإِنْ قَالَ: اقْبِضْ دَيْنِي كُلَّهُ، وَمَا يَتَجَدَّدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. صَحَّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَالَ: بِعْ مَا شِئْت مِنْ مَالِي. لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ قَالَ: مِنْ عَبِيدِي. جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ بِالْجِنْسِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِهِ، جَازَ فِي بَعْضِهِ، كَعَبْدِهِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا، تُرْكِيًّا، أَوْ ثَوْبًا هَرَوِيًّا. صَحَّ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا، أَوْ قَالَ ثَوْبًا وَلَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ، صَحَّ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَصِحُّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي شِرَاءِ عَبْدِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ ذِكْرُ نَوْعِهِ، كَالْقِرَاضِ. وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ قَدْرِ الثَّمَنِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قَدْرَ الثَّمَنِ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ تَتَفَاوَتُ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا تَتَمَيَّزُ بِالثَّمَنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ نَوْعًا، فَقَدْ أَذِنَ فِي أَغْلَاهُ ثَمَنًا، فَيَقِلُّ الْغَرَرُ، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ يَضُرُّ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ بِقَدْرِ الثَّمَنِ. وَمَنْ اعْتَبَرَ ذِكْرَ الثَّمَنِ، جَوَّزَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أَكْثَرُ الثَّمَنِ وَأَقَلَّهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 [فَصْلٌ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي تَصَرُّفٍ وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِانْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ] (3747) فَصْلٌ: وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي تَصَرُّفٍ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِانْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مَا أَذِنَ فِيهِ مُوَكِّلُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ وَكَّلَهُمَا فِي حِفْظِ مَالِهِ، حَفِظَاهُ مَعًا فِي حِرْزٍ لَهُمَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: افْعَلَا كَذَا. يَقْتَضِي اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ، فَتَعَلَّقَ بِهِمَا. وَفَارَقَ هَذَا قَوْلَهُ: بِعْتُكُمَا. حَيْثُ كَانَ مُنْقَسِمًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمِلْكِ لَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، فَانْقَسَمَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ غَابَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ، وَلَا لِلْحَاكِمِ ضَمُّ أَمِينٍ إلَيْهِ لِيَتَصَرَّفَا؛ لِأَنَّ الْمُوَكَّلَ رَشِيدٌ جَائِزُ التَّصَرُّفِ، لَا وِلَايَةَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ، فَلَا يَضُمُّ الْحَاكِمُ وَكِيلًا لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَفَارَقَ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ، حَيْثُ يُضِيفُ الْحَاكِمُ إلَى الْوَصِيِّ أَمِينًا لِيَتَصَرَّفَ؛ لِكَوْنِ الْحَاكِمِ لَهُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْيَتِيمِ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ، أَقَامَ الْحَاكِمُ أَمِينًا فِي النَّظَرِ لِلْيَتِيمِ. وَإِنْ حَضَرَ الْحَاكِمَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ، وَادَّعَى الْوَكَالَةَ لَهُمَا، وَأَقَامَ بَيِّنَةً سَمِعَهَا الْحَاكِمُ، وَحَكَمَ بِثُبُوتِ الْوَكَالَةِ لَهُمَا، وَلَمْ يَمْلِكْ الْحَاضِرُ التَّصَرُّفَ وَحْدَهُ، فَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ تَصَرَّفَا مَعًا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ سَمِعَهَا لَهُمَا مَرَّةً. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُكْمٌ لِلْغَائِبِ. قُلْنَا: يَجُوزُ تَبَعًا لِحَقِّ الْحَاضِرِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْوَقْفِ الَّذِي يَثْبُتُ لِمَنْ لَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَالِ، كَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ جَحَدَ الْغَائِبُ الْوَكَالَةَ، أَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَجَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَكَّلَهُمَا فِي خُصُومَةٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ أَحَدِهِمَا، أَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكَّلَ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ] (3748) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكَّلَ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ) لَا يَخْلُو التَّوْكِيلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَنْهَى الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ عَنْ التَّوْكِيلِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إذْنِهِ. فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ. الثَّانِي، أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ فِعْلُهُ، كَالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَيْنِ خِلَافًا. وَإِنْ قَالَ لَهُ: وَكَّلْتُك فَاصْنَعْ مَا شِئْت. فَلَهُ أَنْ يُوَكَّلَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ يَقْتَضِي تَصَرُّفًا يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ: اصْنَعْ مَا شِئْت. يَرْجِعُ إلَى مَا يَقْتَضِيه التَّوْكِيلُ مِنْ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وَلَنَا، أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ فِيمَا شَاءَ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ التَّوْكِيلُ. الثَّالِثُ، أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا يَرْتَفِعُ الْوَكِيلُ عَنْ مِثْلِهِ، كَالْأَعْمَالِ الدَّنِيَّةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَعْمَلُهُ الْوَكِيلُ عَادَةً، انْصَرَفَ الْإِذْنُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْمَلُهُ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ؛ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي عَمَلِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ جَمِيعِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيلِ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّهُ إنَّمَا لَهُ التَّوْكِيلُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ، فَاخْتَصَّ مَا دَعَتْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ بِخِلَافِ وُجُودِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ عَمَلُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَرَفَّعُ عَنْهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ. نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، وَلَا تَضَمَّنَهُ إذْنُهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتِئْمَانٌ فِيمَا يُمْكِنُهُ النُّهُوضُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْهُ عَلَيْهِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْأُخْرَى، يَجُوزُ. نَقَلَهَا حَنْبَلٌ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، إذَا مَرِضَ أَوْ غَابَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ، فَمَلَكَهُ نِيَابَةً كَالْمَالِكِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلَا يُشْبِهُ الْوَكِيلُ الْمَالِكَ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. [فَصْل كُلُّ وَكِيلٍ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ] (3749) فَصْلٌ: وَكُلُّ وَكِيلٍ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكَّلَ إلَّا أَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لِلْمُوَكِّلِ فِي تَوْكِيلِ مَنْ لَيْسَ بِأَمِينٍ، فَيُقَيَّدُ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ وَالنَّظَرُ، كَمَا أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْبَيْعِ يَتَقَيَّدُ بِالْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمُوَكَّلُ مَنْ يُوَكِّلُهُ، فَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ نَظَرَهُ بِتَعْيِينِهِ. وَإِنْ وَكَّلَ أَمِينًا، وَصَارَ خَائِنًا، فَعَلَيْهِ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ يَتَصَرَّفُ مَعَ الْخِيَانَةِ تَضْيِيعٌ وَتَفْرِيطٌ، وَالْوَكَالَةُ تَقْتَضِي اسْتِئْمَانَ أَمِينٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِأَمِينٍ، فَوَجَبَ عَزْلُهُ. [فَصْلٌ الْوَصِيِّ يُوَكَّلُ فِيمَا أُوصِيَ بِهِ إلَيْهِ] (3750) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْوَصِيِّ يُوَكَّلُ فِيمَا أُوصِيَ بِهِ إلَيْهِ، وَفِي الْحَاكِمِ يُوَلِّي الْقَضَاءَ فِي نَاحِيَةٍ يَسْتَنِيبُ غَيْرَهُ، حُكْمُ الْوَكِيلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ، إلَّا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِيمَا نُصَّ لَهُ عَلَيْهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِالْإِذْنِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيمَا اقْتَضَتْهُ الْوَصِيَّةُ، كَالْوَكِيلِ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيمَا اقْتَضَتْهُ الْوَكَالَةُ. [فَصْل الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا] (3751) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ، فَلَهُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا، أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي مَنْ وِلَايَتُهُ غَيْرُ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ: هُوَ كَالْوَكِيلِ، يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا فِي الْوَكِيلِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ إلَّا بِإِذْنِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ إلَّا بِإِذْنِهَا، أَشْبَهَ الْوَكِيلَ، وَلَنَا، أَنَّ وِلَايَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهَا فِي تَوْكِيلِهِ فِيهَا، كَالْأَبِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَلِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَشْبَهَ الْحَاكِمَ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ النِّسَاءِ، فَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْحَاكِمِ. وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا فِيهِ هُوَ غَيْرُ مَا يُوَكَّلُ فِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إذْنِهَا لَهُ فِي التَّزْوِيجِ أَيْضًا، فَهُوَ كَالْمُوَكَّلِ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ أَذِنَ الْمُوَكِّلُ فِي التَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ] (3752) فَصْلٌ: إذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ فِي التَّوْكِيلِ، فَوَكَّلَ، كَانَ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَا عَزْلِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ عَزْلَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلِهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوَكَّلَ لِنَفْسِهِ، جَازَ، وَكَانَ وَكِيلًا لِلْمُوَكَّلِ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَعَزْلِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُوَكَّلُ، أَوْ عُزِلَ الْأَوَّلُ، انْعَزِلَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا فَرْعَانِ لَهُ، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا فَرْعٌ لِلْآخَرِ، فَذَهَبَ حُكْمُهُمَا بِذَهَابِ أَصْلِهِمَا. وَإِنْ وُكِّلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ نُطْقًا، بَلْ وُجِدَ عُرْفًا، أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي أَجَزْنَا لَهُ التَّوْكِيلَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، فَالثَّانِي وَكِيلُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِنَفْسِهِ. [فَصْلٌ التَّوْكِيل فِي الْخُصُومَة] (3753) فَصْلٌ: إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي الْخُصُومَةِ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَلَا غَيْرِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيْ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنْ الْوَكِيلِ، كَالْإِنْكَارِ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا، فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ فِيهَا، كَالْإِبْرَاءِ. وَفَارَقَ الْإِنْكَارَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ، وَيَمْلِكُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمُوَكِّلَ مِنْ الْإِقْرَارِ، فَلَوْ مَلَكَ الْإِقْرَارَ، لَامْتَنَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ الْإِنْكَارُ، فَافْتَرَقَا، وَلَا يَمْلِكُ الْمُصَالَحَةَ عَنْ الْحَقِّ، وَلَا الْإِبْرَاءَ مِنْهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي تَثْبِيتِ حَقٍّ، لَمْ يَمْلِكْ قَبْضَهُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمْلِكُ قَبْضَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّثْبِيتِ قَبْضُهُ وَتَحْصِيلُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ نُطْقًا وَلَا عُرْفًا، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْضَاهُ لِتَثْبِيتِ الْحَقِّ يَرْضَاهُ لِقَبْضِهِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ حَقٍّ، فَجَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، كَانَ وَكِيلًا فِي تَثْبِيتِهِ عَلَيْهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْآخَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَالْوَكِيلُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْآخَرِ، كَمَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْقَبْضِ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْقَبْضِ إلَّا بِالتَّثْبِيتِ؛ فَكَانَ إذْنًا فِيهِ عُرْفًا، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، فَمَلَكَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مَلَكَ وَزْنَ ثَمَنِهِ، أَوْ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مَلَكَ تَسْلِيمَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَالِمًا بِجَحْدِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوْ مَطْلِهِ، كَانَ تَوْكِيلًا فِي تَثْبِيتِهِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ، لِعِلْمِهِ بِوُقُوفِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ تَوْكِيلًا فِيهِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَوَقُّفِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ عَيْنٍ لَمْ يَمْلِكْ تَثْبِيتَهَا؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي نَقْلِهَا، أَشْبَهَ الْوَكِيلَ فِي نَقْلِ الزَّوْجَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِ حَقٍّ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالتَّوْكِيلِ فِي قَبْضِ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهِ وَنَقْلِهِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ وَكَّلَ فِي بَيْعِ شَيْءٍ] (3754) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ، مَلَكَ تَسْلِيمَهُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، لِكَوْنِهِ مِنْ تَمَامِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْإِبْرَاءَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمْلِكُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ، وَلَا مِنْ تَتِمَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ تَوْكِيلًا فِيهِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا قَبْضُ الثَّمَنِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُمْكِنُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوَكِّلُ فِي الْبَيْعِ مَنْ لَا يَأْمَنُهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ. فَعَلَى هَذَا إنْ تَعَذَّرَ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ شَيْءٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ قَبْضَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبِ الْبَيْعِ، فَمَلَكَهُ الْوَكِيلُ فِيهِ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَّا بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ حُضُورِهِ. وَإِنْ سَلَّمَهُ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ ضَمِنَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ دَلَّتْ قَرِينَةُ الْحَالِ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، مِثْلُ تَوْكِيلِهِ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ فِي سُوقٍ غَائِبٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ، أَوْ مَوْضِعٍ يَضِيعُ الثَّمَنُ بِتَرْكِ قَبْضِ الْوَكِيلِ لَهُ، كَانَ إذْنًا فِي قَبْضِهِ. وَمَتَى تَرَكَ قَبْضَهُ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُوَكِّلِ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ لِتَحْصِيلِ ثَمَنِهِ، فَلَا يَرْضَى بِتَضْيِيعِهِ، وَلِهَذَا يُعَدُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُضَيِّعًا مُفَرِّطًا. وَإِنْ لَمْ تَدُلّ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ. [فَصْلٌ وَكَّلَ فِي بَيْعِ شَيْءٍ أَوْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَوْ قَسَمَ شَيْءٍ] (3755) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ، أَوْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ، أَوْ قَسْمِ شَيْءٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُ تَثْبِيتَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِسْمَةِ وَطَلَبِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَا وَكَّلَهُ فِيهِ إلَّا بِالتَّثْبِيتِ. وَالثَّانِي، لَا يَمْلِكُهُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْإِذْنُ فِي أَحَدِهِمَا الْإِذْنَ فِي الْآخَرِ. [فَصْلٌ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ] (3756) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ، مَلَكَ تَسْلِيمَ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَتِمَّتِهِ وَحُقُوقِهِ، فَهُوَ كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ. فِي الْبَيْعِ. وَالْحُكْمُ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ كَالْحُكْمِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ. فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا، وَنَقَدَ ثَمَنَهُ، فَخَرَجَ الْعَبْدُ مُسْتَحَقًّا؛ فَهَلْ يَمْلِكُ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا، وَقَبَضَهُ، وَأَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِثْلُ أَنْ ذَهَبَ لِيَنْقُدَهُ فَهَلَكَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إمْسَاكِهِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ. [فَصْلٌ وَكَّلَ فِي قَبْضِ دَيْنٍ مِنْ رَجُلٍ فَمَاتَ] (3757) فَصْلٌ: وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ دَيْنٍ مِنْ رَجُلٍ، فَمَاتَ؛ نَظَرْت فِي لَفْظِهِ؛ فَإِنْ قَالَ: اقْبِضْ حَقِّي مِنْ فُلَانٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ مِنْ وَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: اقْبِضْ حَقِّي الَّذِي قِبَلَ فُلَانٍ. أَوْ عَلَى فُلَانٍ. فَلَهُ مُطَالَبَةُ وَارِثِهِ وَالْقَبْضُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مِنْ الْوَارِثِ قَبْضٌ لِلْحَقِّ الَّذِي عَلَى مَوْرُوثِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ: اقْبِضْ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ. فَوَكَّلَ زَيْدٌ إنْسَانًا فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ، كَانَ لَهُ الْقَبْضُ مِنْهُ، وَالْوَارِثُ نَائِبُ الْمَوْرُوثِ، فَهُوَ كَوَكِيلِهِ. قُلْنَا: إنَّ الْوَكِيلَ إذَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ جَرَى مَجْرَى تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ فَاسْتَحَقَّتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِمْ، لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْرُوثِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، حَنِثَ بِفِعْلِ وَكِيلِهِ لَهُ، وَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ وَارِثِهِ. [مَسْأَلَةٌ بَاعَ الْوَكِيلُ ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرٍ تَعَدٍّ] (3758) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرٍ تَعَدٍّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَإِنْ اُتُّهِمَ، حَلَفَ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 إذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّلَفِ، فَيَقُولَ الْوَكِيلُ تَلِفَ مَالُكَ فِي يَدِي، أَوْ الثَّمَنُ الَّذِي قَبَضْته ثَمَنَ مَتَاعِك تَلِفَ فِي يَدِي. فَيُكَذِّبُهُ الْمُوَكِّلُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَلَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ كَالْمُودِعِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ، كَالْأَبِ، وَالْوَصِيِّ، وَأَمِينِ الْحَاكِمِ، وَالْمُودِعِ، وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ مَعَ تَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْأَمَانَات مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَيَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ. قَالَ الْقَاضِي: إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ التَّلَفَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ، كَالْحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَشِبْهِهِمَا، فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْأَمْرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي تَلَفِهَا بِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ مِمَّا لَا يَخْفَى، فَلَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ، وَمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّك حَمَلْت عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَلْت عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِك، أَوْ فَرَّطْت فِي حِفْظِهَا، أَوْ لَبِسْت الثَّوْبَ، أَوْ أَمَرْتُك بِرَدِّ الْمَالِ فَلَمْ تَفْعَلْ. وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَمَتَى ثَبَتَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ، إمَّا لِقَبُولِ قَوْلِهِ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ مُوَكِّلِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَتَاعُ الَّذِي أُمِرَ بِبَيْعِهِ، أَوْ بَاعَهُ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَتَلِفَ الثَّمَنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِجَعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جَعْلٍ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَجَرَى مَجْرَى الْمُودِعِ وَالْمُضَارِبِ وَشِبْهِهِمَا. وَإِنْ تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ، ضَمِنَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَنَاءِ. وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ سِلْعَةً وَقَبَضَ ثَمَنَهَا، فَتَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، وَاسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَهُ، فَالرُّجُوعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ. الْحَالُ الثَّالِثَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّصَرُّفِ، فَيَقُولَ الْوَكِيلُ: بِعْت الثَّوْبَ وَقَبَضْت الثَّمَنَ، فَتَلِفَ. فَيَقُولُ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَبِعْ وَلَمْ تَقْبِضْ. أَوْ يَقُولَ: بِعْت وَلَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْقَبْضَ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي تَزْوِيجِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ لَغَيْرِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَاهُ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْته بِأَلْفِ. وَقَالَ: بَلْ اشْتَرَيْته بِخَمْسِمِائَةٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَيَّنَ لَهُ الشِّرَاءَ بِمَا ادَّعَاهُ، فَقَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ إذًا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ شَيْءٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ مُطَالَبٌ بِالثَّمَنِ. وَإِنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِكَوْنِهِ الْغَارِمَ؛ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِرَدِّ مَا زَادَ عَلَى خُمْسِ الْمِائَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الشِّرَاءِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي قَدْرِ ثَمَنِ الْمُشْتَرَيْ، كَالْمُضَارِبِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ بِأَلْفٍ عِنْدَ الْقَاضِي. الْحَالُ الرَّابِعَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الرَّدِّ، فَيَدَّعِيَهُ الْوَكِيلُ، فَيُنْكِرَهُ الْمُوَكِّلُ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جَعْلٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ مَالِكِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَالْمُودِعِ، وَإِنْ كَانَ بِجَعْلٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَالْأَوَّلِ. وَالثَّانِي، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ كَالْمُسْتَعِيرِ وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْعَيْنِ، أَوْ رَدِّ ثَمَنِهَا. وَجُمْلَةُ الْأُمَنَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، مَنْ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ مَالِكِهِ لَا غَيْرُ، كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ بِغَيْرِ جَعْلٍ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ، فَيَلْحَقُ النَّاسَ الضَّرَرُ. الثَّانِي، مَنْ يَنْتَفِعُ بِقَبْضِ الْأَمَانَةِ، كَالْوَكِيلِ بِجَعْلٍ، وَالْمُضَارِبِ، وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُرْتَهِنِ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ. ذَكَرَهُمَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُضَارِبِ فِي الرَّدِّ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارِبِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَلِأَنَّ مَنْ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْوَكِيلُ قَبْضَ الْمَالِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ اعْتِرَافٍ، فَادَّعَى الرَّدَّ أَوْ التَّلَفَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ خِيَانَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِجَحْدِهِ. فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الرَّدِّ أَوْ التَّلَفِ، فَهَلْ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهَا بِجَحْدِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَا قَبَضْت. يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الرَّدَّ وَالتَّلَفَ قَبْلَ وُجُودِ خِيَانَتِهِ. وَإِنْ كَانَ جُحُودُهُ أَنَّك لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، أَوْ مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، سُمِعَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ لَا يُكَذِّبُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ تَلِفَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 أَوْ رُدَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ. فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ أَوْ تَلِفَ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ. فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَيْضًا؛ لِثُبُوتِ كَذِبِهِ وَخِيَانَتِهِ. الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ، إذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْوَكَالَةِ، فَقَالَ: وَكَّلْتنِي. فَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوَكَالَةِ، فَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ أَمِينُهُ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك، وَدَفَعْت إلَيْك مَالًا. فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَوْ اعْتَرَفَ بِالتَّوْكِيلِ، وَأَنْكَرَ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: وَكَّلْتنِي أَنْ أَتَزَوَّجَ لَك فُلَانَةَ، بِصَدَاقِ كَذَا، فَفَعَلْت. وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ عَقْدُ النِّكَاحِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُسْتَحْلَفُ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَدَّعِي حَقًّا لِغَيْرِهِ. فَأَمَّا إنْ ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الصَّدَاقَ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ. وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ ضَامِنٌ لِلثَّمَنِ، وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ، كَذَا هَاهُنَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُفَارِقُ الشِّرَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْصُودُ الْبَائِعِ، وَالْعَادَةُ تَعْجِيلُهُ وَأَخْذُهُ مِنْ الْمُتَوَلِّي لِلشِّرَاءِ، وَالنِّكَاحُ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ ضَمِنَ الْمَهْرَ، فَلَهَا الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُ الْوَكِيلَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِإِنْكَارِهِ، فَيَكُونُ ثَابِتًا فِي الْبَاطِنِ، فَيَجِبُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَإِذَا أَنْكَرَ فَقَدْ أَقَرَّ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِهِ لَهَا تَحْرُمُ بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ حَتَّى يُطَلِّقَ، لَعَلَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إنْكَارِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا تَحْرِيمُ نِكَاحِهَا قَبْلَ طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهَا مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْكَارُهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ طَلَاقُهَا؟ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ نِكَاحٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يُكَلِّفْ الطَّلَاقَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَلَّفَهُ، لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالِ، وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهَا بِمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ. فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ فِي تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ، فَتَزَوَّجَهَا لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْغَائِبُ، لَمْ تَرِثْهُ الْمَرْأَةُ، إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ، أَوْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ. وَإِنْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِالتَّوْكِيلِ فِي التَّزْوِيجِ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ تَزَوَّجَ لَهُ، فَهَاهُنَا الِاخْتِلَافُ فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِيهِ، فَيَثْبُتُ التَّزْوِيجُ هَاهُنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَثْبُتُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ إلَى نَصَّهُ فِيمَا إذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ مِنْ أَصْلِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وَلَنَا، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي فِعْلِ الْوَكِيلِ مَا أُمِرَ بِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ فَادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ، أَوْ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ فَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ، فَلَيْسَ بِنَصِّ هَاهُنَا؛ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الصُّورَتَيْنِ وَتَبَايُنِهِمَا، فَلَا يَكُونُ النَّصُّ فِي إحْدَاهُمَا نَصًّا فِي الْأُخْرَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا أَصْلَ لَهُ، فَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ. وَلَوْ غَابَ رَجُلٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ إلَى امْرَأَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَأَبَانَهَا، وَوَكَّلَهُ فِي تَجْدِيدِ نِكَاحِهَا بِأَلْفِ. فَأَذِنَتْ لَهُ فِي نِكَاحِهَا، فَعَقَدَ عَلَيْهَا، وَضَمِنَ الْوَكِيلُ الْأَلْفَ، ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَأَنْكَرَ هَذَا كُلَّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَالنِّكَاحُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ. وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ صَدَّقَتْ الْوَكِيلَ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ، إلَّا أَنْ يُبِينَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَزُفَرَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمَضْمُونَ عَنْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ فَرْعُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَكِيلَ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ عَنْهُ، فَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَأَقَرَّ الضَّامِنُ بِالضَّمَانِ وَصِحَّتِهِ وَثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَكَمَا لَوْ ادَّعَى شُفْعَةً عَلَى إنْسَانٍ فِي شِقْصٍ اشْتَرَاهُ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ، وَأَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ الْمَرْأَةُ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ الْوَكِيلُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ الضَّمَانَ أَسْقَطَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ أَوْجَبَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يَكُونُ فِيهَا اخْتِلَافٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَالُ السَّادِسَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَةِ الْوَكَالَةِ، فَيَقُولَ: وَكَّلْتُك فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ. قَالَ: بَلْ وَكَّلْتنِي فِي بَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ. أَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ. قَالَ: بَلْ بِأَلْفٍ. أَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي بَيْعِهِ نَقْدًا. قَالَ بَلْ نَسِيئَةً. أَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي شِرَاءِ عَبْدٍ. قَالَ: بَلْ فِي شِرَاءِ أَمَةٍ. أَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي الشِّرَاءِ بِخَمْسَةٍ. قَالَ: بَلْ بِعَشْرَةٍ. فَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا قَالَ: أَذِنْت لَك فِي الْبَيْعِ نَقْدًا، فِي الشِّرَاءِ بِخَمْسَةٍ. قَالَ: بَلْ أَذِنْت لِي فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً، وَفِي الشِّرَاءِ بِعَشْرَةٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ، كَالْخَيَّاطِ إذَا قَالَ: أَذِنْت لِي فِي تَفْصِيلِهِ قَبَاءً. قَالَ: بَلْ قَمِيصًا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِك، إنْ أَدْرَكَتْ السِّلْعَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ فَاتَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَزِمَ الْوَكِيلَ الضَّمَانُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي التَّوْكِيلِ الَّذِي يَدَّعِيه الْوَكِيلُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيه، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِتَوْكِيلِهِ فِي غَيْرِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 وَالثَّانِي، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ قَوْلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ كَلَامِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: اشْتَرَيْت لَك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِك. قَالَ: مَا أَذِنْت لَك إلَّا فِي شِرَاءِ غَيْرِهَا. أَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتهَا لَك بِأَلْفَيْنِ. فَقَالَ: مَا أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا إلَّا بِأَلْفٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ مِنْ الشِّرَاءِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ الْمَالِ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَتُرَدُّ الْجَارِيَةُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ لَهُ فَإِنْ ادَّعَى الْوَكِيلُ عِلْمَهُ بِذَلِكَ، حَلَّفَهُ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِ مُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ فَكَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِذَا حَلَفَ، أَمْضَى الْبَيْعَ، وَعَلَى الْوَكِيلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ لِمُوَكِّلِهِ، وَدَفْعُ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ، وَتَبْقَى الْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، فَتَكُونَ لِلْمُوَكِّلِ، أَوْ كَاذِبًا فَتَكُونَ لِلْبَائِعِ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِحْلَالَهَا، اشْتَرَاهَا مِمَّنْ هِيَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إيَّاهَا، رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ، لِيَرْفُقَ بِهِ لِيَبِيعَهُ إيَّاهَا، لِيَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَصِيرَ مَا ثَبَتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنًا قِصَاصًا بِاَلَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْآخَرُ ظُلْمًا، فَإِنْ امْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ الْبَيْعِ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِي فَقَدْ بِعْتُكَهَا. أَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: إنْ كُنْت أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا بِأَلْفَيْنِ، فَقَدْ بِعْتُكَهَا. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ يَعْلَمَانِ، وُجُودَهُ، فَلَا يَضُرُّ جَعْلُهُ شَرْطًا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ جَارِيَتِي، فَقَدْ بِعْتُكَهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ عَلِمَا وُجُودَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوفَ الْبَيْعِ وَلَا شَكًّا فِيهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ نَقَدَ الثَّمَنَ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ فِي الظَّاهِرِ، فَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ، فَالْجَارِيَةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، فَالْجَارِيَةُ لِمُوَكِّلِهِ. فَإِذَا أَرَادَ إحْلَالَهَا لَهُ، تَوَصَّلَ إلَى شِرَائِهَا مِنْهُ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَتْ لِلْمُوَكِّلِ فِي الْبَاطِنِ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا لِلْوَكِيلِ، فَقَدْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، وَهِيَ لِلْمُوَكِّلِ، وَفِي ذِمَّتِهِ لِلْوَكِيلِ ثَمَنُهَا. فَأَقْرَبُ الْوُجُوهِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْحَاكِمِ فِي بَيْعِهَا، وَتَوْفِيَةِ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِلْوَكِيلِ، فَقَدْ أَذِنَ فِي بَيْعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُوَكِّلِ، فَقَدْ بَاعَهَا الْحَاكِمُ فِي إيفَاءِ دَيْنٍ امْتَنَعَ الْمَدِينُ مِنْ وَفَائِهِ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا أَقْرَبُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ اشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ مِنْ الْحَاكِمِ بِمَالِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي هَذَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ. [فَصْل وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَهُ نَسِيئَةً فَقَالَ الْمُوَكِّلُ مَا أَذِنَتْ فِي بَيْعِهِ إلَّا نَقْدًا] (3759) فَصْلٌ: وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ، فَبَاعَهُ نَسِيئَةً، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ: مَا أَذِنْت فِي بَيْعِهِ إلَّا نَقْدًا. وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي، فَسَدَ الْبَيْعُ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِالْعَبْدِ، إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا. فَإِنْ أَخَذَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 الْقِيمَة مِنْ الْوَكِيلِ، رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهَا؛ لِأَنَّ التَّلَفَ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ كَذَّبَاهُ، وَادَّعَيَا أَنَّهُ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: يَحْلِفُ الْمُوَكِّلُ، وَيَرْجِعُ فِي الْعَيْنِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، رَجَعَ بِقِيمَتِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَبِيعَ، وَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ، وَإِنَّ الْبَائِعَ ظَلَمَهُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْأَجَلِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ، رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ، فَمَا غَرِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَا يَرْجِعُ بِأَكْثَرَ مِمَّا غَرِمَ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ، فَالْوَكِيلُ مُعْتَرِفٌ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمُوَكِّلَ ظَلَمَهُ بِأَخْذِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّمَنِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا ظَلَمَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُصَدِّقِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيَحْلِفُ عَلَى الْمُكَذِّبِ، وَيَرْجِعُ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا. هَذَا إنْ اعْتَرَفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ الْوَكِيلَ وَكِيلٌ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إنَّمَا بِعْتنِي مِلْكَك، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ وَكِيلًا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ. [فَصْلٌ قَبَضَ الْوَكِيلُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ] (3760) فَصْلٌ: وَإِذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ قَبْلَ طَلَبِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ طَلَبَهُ فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إمْكَانِهِ، فَتَلِفَ، ضَمِنَهُ. وَإِنْ وَعَدَهُ بِرَدِّهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّنِي كُنْت رَدَدْته قَبْلَ طَلَبِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ تَلِفَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ بِوَعْدِهِ بِرَدِّهِ. فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ، بَرِئَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِذَلِكَ، فَهَلْ يُقْبَلُ، عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ بَرِئَ، فَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ، فَبَرِئَ بِهَا كَالْإِقْرَارِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ بِوَعْدِهِ بِالدَّفْعِ. أَمَّا إذَا صَدَّقَهُ، فَقَدْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ. وَإِنْ لَمْ يَعِدْهُ بِرَدِّهِ، لَكِنْ مَنَعَهُ أَوْ مَطَلَهُ بِرَدِّهِ مَعَ إمْكَانِهِ، ثُمَّ ادَّعَى التَّلَفَ أَوْ الرَّدَّ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ بِالْمَنْعِ، خَارِجٌ عَنْ حَالِ الْأَمَانَةِ. وَإِنْ أَقَامَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الرَّدِّ أَوْ التَّلَفِ بَيِّنَةً، سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْهَا. [فَصْلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا فَبَعَثَ إلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا فَضَاعَ مَعَ الرَّسُول] (3761) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا، فَضَاعَ مَعَ الرَّسُولِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الرَّسُولِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِلُ، فَإِنَّ الْمُرْسِلَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ، فَصَارَ الرَّسُولُ وَكِيلًا لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ. كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنْ الدَّرَاهِمِ. فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِلِ. وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَمَرَ بِقَبْضِهَا، فَضَاعَتْ مِنْ الرَّسُولِ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا، وَقَالَ: خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا. فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ، فَضَاعَتْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ. يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ. يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ؛ إنَّمَا جُعِلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إلَيْهِ، وَرَجَعَ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، وَحَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ. فَإِذَا ضَمِنَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي اقْتِضَاءِ دَيْنِهِ، وَغَابَ، فَأَخَذَ الْوَكِيلُ بِهِ رَهْنًا، فَتَلِفَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، فَقَالَ: أَسَاءَ الْوَكِيلُ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ فَاسِدٌ، وَالْقَبْضُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، كَالْقَبْضِ فِي الصَّحِيحِ، فَمَا كَانَ الْقَبْضُ فِي صَحِيحِهِ مَضْمُونًا، كَانَ مَضْمُونًا فِي فَاسِدِهِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ فِي صَحِيحِهِ، كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ فِي فَاسِدِهِ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيّ، عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَعْطَى آخَرَ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي لَهُ بِهَا شَاةً، فَخَلَطَهَا مَعَ دَرَاهِمِهِ، فَضَاعَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ ضَاعَ أَحَدُهُمَا، أَيُّهُمَا ضَاعَ غَرِمَهُ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خَلَطَهَا بِمَا تَمَيَّزَ مِنْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي خَلْطِهَا. أَمَّا إنْ خَلَطَهَا بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، ضَمِنَهَا، كَالْوَدِيعَةِ. وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ إذَا ضَاعَ أَحَدُهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الضَّائِعَ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا. وَمَعْنَى الضَّمَانِ هَاهُنَا، أَنَّهُ يَحْسُبُ الضَّائِعَ مِنْ دَرَاهِمَ نَفْسِهِ فَأَمَّا عَلَى الْمَحْمَلِ الْآخَرِ، وَهُوَ إذَا خَلَطَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَاعَتْ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ وَحْدَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا ضَاعَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ. [مَسْأَلَة أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا فَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ] (3762) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا، فَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي قَضَاءِ دِينِهِ، وَدَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَادَّعَى الْوَكِيلُ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَدَفْعَ الْمَالِ إلَى الْغَرِيمِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْغَرِيمِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ. فَإِذَا حَلَفَ الْغَرِيمُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَبْرَأُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 وَكِيلِهِ. فَإِذَا دَفَعَهُ فَهَلْ لِلْمُوَكِّلِ الرُّجُوعُ عَلَى وَكِيلِهِ؟ يُنْظَرُ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَلِلْمُوَكَّلِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ إذَا قَضَاهُ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ. قَالَ الْقَاضِي: سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَنَّهُ قَضَى الْحَقَّ أَوْ كَذَّبَهُ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَضَاءٍ يُبْرِئُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ فَلَمْ يَفْعَلْ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، فَضَمِنَ كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يَأْمُرُهُ بِالْإِشْهَادِ؟ قُلْنَا إطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِ، فَيَصِيرُ كَأَمْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعُرْفُ لَا الْعُمُومُ. كَذَا هَاهُنَا. وَقِيَاسُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الْقَضَاءِ، لَكِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ، لَا لِرَدِّ قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، لَمْ يَضْمَنْ الْوَكِيلُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ الْإِشْهَادَ وَالِاحْتِيَاطَ رِضًى مِنْهُ بِمَا فَعَلَ وَكِيلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ قَوْلِهِ يُقَدَّمُ عَلَى مَا تَقْتَضِيه دَلَالَةُ الْحَالِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَشْهَدَ عَلَى الْقَضَاءِ عُدُولًا فَمَاتُوا أَوْ غَابُوا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ. وَإِنْ أَشْهَدَ مَنْ يُخْتَلَفُ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ، كَشَاهِدٍ وَاحِدٍ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَهَلْ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ فَقَالَ: قَضَيْت الدَّيْنَ بِحَضْرَتِك. قَالَ: بَلْ فِي غَيْبَتِي، أَوْ قَالَ: أَذِنْت لِي فِي قَضَائِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. فَأَنْكَرَ الْإِذْنَ أَوْ قَالَ: أَشْهَدْت عَلَى الْقَضَاءِ شُهُودًا فَمَاتُوا. فَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي إيدَاعِ مَالِهِ فَأَوْدَعَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ] (3763) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي إيدَاعِ مَالِهِ، فَأَوْدَعَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَضْمَنُ إذَا أَنْكَرَ الْمُودَعُ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، فَهِيَ كَالدَّيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ يُقْبَلُ فِي الرَّدِّ وَالْهَلَاكِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِيثَاقِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ. فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ: دَفَعْت الْمَالَ إلَى الْمُودَعِ. فَقَالَ: لَمْ تَدْفَعْهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَصَرُّفِهِ، وَفِيمَا وُكِّلَ فِيهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ. [فَصْلٌ كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهِمَا وَأَقَامَ بَيِّنَةً] (3764) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 قَبْضِهِمَا، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، وَجَبَ الدَّفْعُ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ وَكِيلُهُ أَوْ كَذَّبَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَدَّقَهُ، لَزِمَهُ وَفَاءُ الدَّيْنِ. وَفِي دَفْعِ الْعَيْنِ إلَيْهِ رِوَايَتَانِ؛ أَشْهَرُهُمَا، لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَزِمَهُ، إيفَاؤُهَا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ أَنَّهُ وَارِثُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَسْلِيمٌ لَا يُبْرِئُهُ، فَلَا يَجِبُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذَا وَصِيُّ الصَّغِيرِ. وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ بِكَوْنِهِ وَارِثَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُ؛ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِسِوَاهُ. فَأَمَّا إنْ أَنْكَرَ وَكَالَتَهُ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَحْلَفُ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ مَعَ التَّصْدِيقِ، فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدَّفْعَ مَعَ التَّصْدِيقِ، أَلْزَمَهُ الْيَمِينَ عِنْدَ التَّكْذِيبِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الدَّفْعَ مَعَ التَّصْدِيقِ، قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ عِنْدَ التَّكْذِيبِ؛ لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا. فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مَعَ التَّصْدِيقِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ، وَصَدَّقَ الْوَكِيلَ، بَرِئَ الدَّافِعُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينُهُ، فَإِذَا حَلَفَ، وَكَانَ الْحَقُّ عَيْنًا قَائِمَةً فِي يَدِ الْوَكِيلِ، فَلَهُ أَخْذُهَا، وَلَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ بِرَدِّهَا؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، وَالْوَكِيلُ عَيْنُ مَالِهِ فِي يَدِهِ. فَإِنْ طَالَبَ الدَّافِعَ، فَلِلدَّافِعِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِهَا، وَأَخْذُهَا مِنْ يَدِهِ، لِيُسَلِّمهَا إلَى صَاحِبِهَا. وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، فَلِصَاحِبِهَا الرُّجُوعُ بِبَدَلِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ، وَالْمَدْفُوعَ إلَيْهِ قَبَضَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ. وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ مَا يَأْخُذهُ الْمَالِكُ ظُلْمٌ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِهِ تَعَدٍّ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِظُلْمِ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ دَفَعَهَا إلَى الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْوَكَالَةِ. فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ بِوَكَالَتِهِ، وَلَا ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةِ. وَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ لَكِنَّ الْوَكِيلَ تَعَدَّى فِيهَا أَوْ فَرَّطَ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. فَإِنْ ضَمِنَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ، رَجَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ أَنَّهُ قَبَضَهُ قَبْضًا صَحِيحًا، لَكِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيه، فَالدَّافِعُ يَقُولُ: ظَلَمَنِي الْمَالِكُ بِالرُّجُوعِ عَلَيَّ. وَلَهُ عَلَى الْوَكِيلِ حَقٌّ يَعْتَرِفُ بِهِ الْوَكِيلُ، فَبِأَخْذِهِ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ دَيْنًا، لَمْ يَرْجِعْ إلَّا عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ لَمْ يَبْرَأَ مِنْهُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى غَيْرِ وَكِيلِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ الْوَكِيلُ عَيْنُ مَالِ الدَّافِعِ فِي زَعْمِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَالْوَكِيلُ وَالدَّافِعُ يَزْعُمَانِ أَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ ظَالِمٌ لِلدَّافِعِ بِالْأَخْذِ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ الدَّافِعُ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْوَكِيلُ، وَيَكُونُ قِصَاصًا مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ أَمِينٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَتْلَفَ بِتَعَدِّيهِ وَتَفْرِيطِهِ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 [فَصْلٌ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنَا وَارِثُ صَاحِبِ الْحَقِّ] (3765) فَصْلٌ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا وَارِثُ صَاحِبِ الْحَقِّ. فَإِنْ أَنْكَرَهُ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هَاهُنَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَكَانَتْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ لَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، فَلَمَّا لَزِمَهُ الدَّفْعُ مَعَ الْإِقْرَارِ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ وَارِثُ صَاحِبِ الْحَقِّ، لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، لَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِالْحَقِّ، وَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِهَذَا الدَّفْعِ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ جَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ. فَأَمَّا إنْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: قَدْ أَحَالَنِي عَلَيْك صَاحِبُ الْحَقِّ. فَصَدَّقَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعُ إلَيْهِ غَيْرُ مُبْرِئٍ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِيءَ الْمُحِيلُ فَيُنْكِرَ الْحَوَالَةَ أَوْ يُضَمِّنَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُدَّعِيَ لِلْوَكَالَةِ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ لَا لَغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَارِثَ. فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ مَعَ الْإِقْرَارِ. لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ مَعَ الْإِقْرَارِ. لَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا. وَمِثْلُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْل طُلِبَ مِنْهُ حَقٌّ فَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِ حَتَّى يُشْهِدَ الْقَابِضُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ] (3766) فَصْلٌ: وَمَنْ طُلِبَ مِنْهُ حَقٌّ، فَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِ حَتَّى يُشْهِدَ الْقَابِضُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، لَمْ يُلْزِمْهُ الْقَاضِي بِالْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَتَى ادَّعَى الْحَقَّ عَلَى الدَّافِعِ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيَّ شَيْءٌ. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ بِغَيْرِ جَعْلٍ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اُدُّعِيَ عَلَيْهِ حَقٌّ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ، كَالْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُرْتَهِنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ مَا قَبِلَهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ، لِئَلَّا يُنْكِرَ الْقَابِضُ الْقَبْضَ. وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ فِي الرَّدِّ. وَإِنْ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. أَوْ إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْوَثِيقَةِ بِالْحَقِّ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْقَبْضِ تُسْقِطُ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى، وَالْكِتَابُ مِلْكُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إلَى غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة شِرَاءُ الْوَكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ] (3767) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَشِرَاءُ الْوَكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعِ شَيْءٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. نَقَلَهَا. مُهَنَّا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ ذَلِكَ فِيهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَا بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَزِيدَا عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ. وَالثَّانِي، أَنْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ غَيْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ تَوَلِّي غَيْرِهِ النِّدَاءَ وَاجِبًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ يَبِيعُ، وَيَكُونَ هُوَ أَحَدَ الْمُشْتَرِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِهِ لِيَبِيعَهَا، وَهَذَا تَوْكِيلٌ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ؟ قُلْنَا: يَجُوز التَّوْكِيلُ فِيمَا لَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ، وَالنِّدَاءُ مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بِنُفُوسِهِمْ. وَإِنْ وَكَّلَ إنْسَانًا يَشْتَرِي لَهُ، وَبَاعَهُ هُوَ، جَازَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ فِي الْبَيْعِ، وَحَصَّلَ غَرَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا أَجْنَبِيٌّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الشِّرَاءُ دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] . وَإِذَا اشْتَرَى مَالَ الْيَتِيمِ بِأَكْثَر مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَقَدْ قَرِبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْأَبِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْأَبِ، فَكَذَلِكَ لِنَائِبِهِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ الْعُرْفَ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ، فَحَمَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَقَالَ: بِعْهُ غَيْرَك. وَلِأَنَّهُ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ، وَيَتَنَافَى الْغَرَضَانِ فِي بَيْعِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ. وَالْوَصِيُّ كَالْوَكِيلِ، لَا يَلِي بَيْعَ مَالِ غَيْرِهِ بِتَوَلِّيهِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ، بَلْ التُّهْمَةُ فِي الْوَصِيِّ آكَدُ مِنْ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يُتَّهَمُ فِي تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الثَّمَنِ لَا غَيْرُ، وَالْوَصِيُّ يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ، وَفِي أَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا لَا حَظَّ لِلْيَتِيمِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَخْذُهُ لِمَالِهِ قُرْبًا لَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِتَرِكَتِهِ، وَقَدْ تَرَكَ فَرَسًا، فَقَالَ الْوَصِيُّ: اشْتَرِهِ؟ قَالَ: لَا. . (3768) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْحَاكِمِ وَأَمِينِهِ، كَالْحُكْمِ فِي الْوَكِيلِ، وَالْحُكْمُ فِي بَيْعِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ لِوَكِيلِهِ، أَوْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، أَوْ الطِّفْلِ يَلِي عَلَيْهِ، أَوْ لِوَكِيلِهِ، أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، كَالْحُكْمِ فِي بَيْعِهِ لِنَفْسِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى بَيْعِهِ لِنَفْسِهِ، أَمَّا بَيْعُهُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ، أَوْ وَالِدِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، فَذَكَرَهُمْ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِي جُمْلَةِ مَا يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِمْ وَجْهَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ، وَوَافَقَ الْعُرْفَ فِي بَيْعِ غَيْرِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ لِأَخِيهِ، وَفَارَقَ الْبَيْع لِوَكِيلِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إنَّمَا يَقَعُ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَبَيْعُ طِفْلٍ يَلِي عَلَيْهِ، بَيْعٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 لَهُ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ، أَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي حَقِّهِمْ، وَيَمِيلُ إلَى تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الثَّمَنِ، كَتُهْمَتِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَالْحُكْمُ فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ، كَالْحُكْمِ فِي بَيْعِهِ لِمَالِهِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. [فَصْلٌ وَكَّلَ رَجُلًا يَتَزَوَّجُ لَهُ امْرَأَةً] (3769) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلًا يَتَزَوَّجُ لَهُ امْرَأَةً، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ؟ وَيُخَرَّجَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ، هَلْ يَبِيعُ لِوَلَدِهِ؟ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ. وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ وَلِيَّتُهُ فِي تَزْوِيجِهَا، خُرِّجَ فِي تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ، خُرِّجَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَوَكَّلَهُ آخَرُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ] (3770) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَوَكَّلَهُ آخَرُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي طَرَفَيْ الْعَقْدِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَلِيَهُمَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ، كَالْأَبِ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ الْمُتَدَاعِيَانِ فِي الدَّعْوَى عَنْهُمَا، فَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ تُمْكِنُهُ الدَّعْوَى عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْجَوَابُ عَنْ الْآخَرِ، وَإِقَامَةُ حُجَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ أَذِنَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ] (3771) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُ فِي عَقْدِهِ غَرَضَانِ، الِاسْتِرْخَاصُ لِنَفْسِهِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهُمَا مُتَضَادَّانِ، فَتُمَانِعَا. وَلَنَا، أَنَّهُ وَكَّلَ فِي التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَرْأَةَ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا، وَلِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ هِيَ مِنْ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فِي مَحَلٍّ لِاتِّفَاقِ التُّهْمَةِ، لِدَلَالَتِهَا عَلَى عَدَمِ رِضَى الْمُوَكِّلِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، وَإِخْرَاجِ هَذَا التَّصَرُّفِ عَنْ عُمُومِ لَفْظِهِ وَإِذْنِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَاهُنَا بِالْإِذْنِ فِيهَا، فَلَا تَبْقَى دَلَالَةُ الْحَالِ مَعَ نَصِّهِ بِلَفْظِهِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَتَضَادَّ مَقْصُودُهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. قُلْنَا: إنْ عَيَّنَ الْمُوَكِّلُ لَهُ الثَّمَنَ، فَاشْتَرَى بِهِ، فَقَدْ زَالَ مَقْصُودُ الِاسْتِقْصَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ أَكْثَرُ مِمَّا قَدْ حَصَّلَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الثَّمَنَ، تَقَيَّدَ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَجْنَبِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا وَكَّلَ عَبْدًا يَشْتَرِي لَهُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَيَخْرُجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ وَكَّلَ عَبْدًا يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْ سَيِّده أَوْ يَشْتَرِي مِنْهُ عَبْدًا آخَر فَفَعَلَ] (3772) فَصْلٌ: إذَا وَكَّلَ عَبْدًا يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ، أَوْ يَشْتَرِي مِنْهُ عَبْدًا آخَرَ، فَفَعَلَ، صَحَّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ لِلْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا كَذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهُ، فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهُ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا جَازَ تَوْكِيلُهَا فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا، جَازَ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا. وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُقَدَّرُ هَاهُنَا جَعْلُ تَوْكِيلِ الْعَبْدِ كَتَوْكِيلِ سَيِّدِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا صِحَّةَ تَوْكِيلِ السَّيِّدِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا، إذَا قَالَ الْعَبْدُ: اشْتَرَيْت نَفْسِي لِزَيْدٍ فَصَدَّقَهُ سَيِّدُهُ وَزَيْدٌ، صَحَّ، وَلَزِمَ زَيْدًا الثَّمَنُ. وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ: مَا اشْتَرَيْت نَفْسَك إلَّا لِنَفْسِك. عَتَقَ الْعَبْدُ بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَعْتِقُ بِهِ، وَيَلْزَمُ الْعَبْدَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا لَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعَبْدِ لَهُ، وَكَوْنِ سَيِّدِهِ لَا يَدَّعِيه عَلَيْهِ، فَلَزِمَ الْعَبْدَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ أَنَّهُ لَهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ وَكَذَّبَهُ زَيْدٌ، نَظَرْت فِي تَكْذِيبِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْوَكَالَةِ، حَلَفَ وَبَرِئَ، وَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَاسْتِرْجَاعُ عَبْدِهِ؛ لِتَعَذُّرِ ثَمَنِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَكَذَّبَهُ فِي أَنَّك مَا اشْتَرَيْت نَفْسَك لِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. [فَصْلٌ وَكَّلَ عَبْدَهُ فِي إعْتَاقِ نَفْسِهِ أَوْ امْرَأَتَهُ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا] (3773) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَ عَبْدَهُ فِي إعْتَاقِ نَفْسِهِ، أَوْ امْرَأَتَهُ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا، صَحَّ. وَإِنْ وَكَّلَ الْعَبْدَ فِي إعْتَاقِ عَبِيدِهِ، وَالْمَرْأَةَ فِي طَلَاقِ نِسَائِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْعَبْدُ إعْتَاقَ نَفْسِهِ، وَلَا الْمَرْأَةُ طَلَاقَ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ بِإِطْلَاقِهِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي غَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمَا ذَلِكَ، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ، الْبَيْعُ مِنْ نَفْسِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ وَكَّلَ غَرِيمًا لَهُ فِي إبْرَاءِ نَفْسِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي إسْقَاطِ حَقٍّ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ فِي إعْتَاقِ نَفْسِهِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي إبْرَاءِ غُرَمَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ نَفْسَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي حَبْسِ غُرَمَائِهِ، لَمْ يَمْلِكْ حَبْسَ نَفْسِهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي خُصُومَتِهِمْ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي خُصُومَةِ نَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ إبْرَاءَ نَفْسِهِ؛ لَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ وَكَّلَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، فِي إبْرَاءِ الضَّامِنِ فَأَبْرَأَهُ، صَحَّ. وَلَا يَبْرَأُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ. وَإِنْ وَكَّلَ الضَّامِنَ فِي إبْرَاءِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، أَوْ الْكَفِيلَ فِي إبْرَاءِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَأَبْرَأَهُ، صَحَّ، وَبَرِئَ الْوَكِيلُ بِبَرَاءَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَرِئَ الْأَصْلُ بَرِئَ الْفَرْعُ بِبَرَاءَتِهِ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي إخْرَاجِ صَدَقَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَهُوَ مِسْكِينٌ] (3774) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي إخْرَاجِ صَدَقَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَهُوَ مِسْكِينٌ، أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ مِنْهُمْ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَأَمَرَهُ بِتَفْرِيقِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ، أَوْ دَفْعِهِ إلَى مَنْ شَاءَ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ وَأَبْوَابِ الْبِرِّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، إنَّمَا أَمَرَهُ بِتَنْفِيذِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُوَكِّلِ يَنْصَرِفُ إلَى دَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْأَخْذُ إذَا تَنَاوَلَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَصَلَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَاللَّفْظُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ كَغَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ إلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْعُمُومَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَمَا غَلَبَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ، وَمَا تَسَاوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ لِوَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَوَّلُهُمَا، جَوَازُهُ؛ لِدُخُولِهِمْ، فِي عُمُومِ لَفْظِهِ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ. فَأَمَّا مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ غَيْرَ هَؤُلَاءِ، فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، كَمَا يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إلَيْهِمْ. [مَسْأَلَة شِرَاءُ الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الطِّفْلِ] (3775) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَشِرَاءُ الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الطِّفْلِ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ) . يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ. وَيَبِيعَ وَلَدَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَزَادُوا الْجَدَّ، فَأَبَاحُوا لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ زُفَرُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا وَقَابِلًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَلِي بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ، كَالْأَبِ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، وَالسَّيِّدِ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ. وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدِ لِغَيْرِهِ. فَأَمَّا الْجَدُّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى ابْنِ ابْنِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ. وَلِأَنَّ التُّهْمَةَ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ مُنْتَفِيَةٌ، إذْ مِنْ طَبْعِهِ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَالْمَيْلُ لَهُ، وَتَرْكُ حَظِّ نَفْسِهِ لِحَظِّهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ. وَفَارَقَ الْجَدَّ وَالْوَصِيَّ وَالْحَاكِمَ وَأَمِينَهُ؛ فَإِنَّ التُّهْمَةَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ فِي حَقِّهِمْ. وَأَمَّا تَوَلِّي طَرَفَيْ الْعَقْدِ، فَيَجُوزُ، بِدَلِيلِ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ، بَلْ يَجُوزُ بِدَلِيلِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ لِابْنَةِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُك. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَإِنَّ التُّهْمَةَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ ثَمَّ. [مَسْأَلَة فَعَلَ الْوَكِيل بَعْدَ فَسْخِ الْمُوَكِّل أَوْ مَوْتِهِ] (3776) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا فَعَلَ الْوَكِيلُ بَعْدَ فَسْخِ الْمُوَكِّلِ أَوْ مَوْتِهِ فَبَاطِلٌ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَلِلْمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيلِهِ مَتَى شَاءَ، وَلِلْوَكِيلِ عَزْلُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالُهُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي أَكْلِ طَعَامِهِ. وَتَبْطُلُ أَيْضًا بِمَوْتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 أَحَدِهِمَا، أَيِّهِمَا كَانَ، وَجُنُونِهِ الْمُطْبِقِ. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا كُلِّهِ فِيمَا نَعْلَمُ. فَمَتَى تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ فَسْخِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ مَوْتِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ، وَلَا مَوْتِ الْمُوَكِّلِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَذَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَمَتَى تَصَرَّفَ، فَبَانَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ عَزْلِهِ أَوْ مَوْتِ مُوَكِّلِهِ، فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ عَقْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إلَى رِضَى صَاحِبِهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى عِلْمِهِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَعَزْلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ، كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً، وَرُبَّمَا بَاعَ الْجَارِيَةَ فَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ الطَّعَامَ فَيَأْكُلُهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْمُشْتَرِي، وَيَجِبُ ضَمَانُهُ، وَيَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي وَالْوَكِيلُ. وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ قَبْلَ عِلْمِهِ، كَالْفَسْخِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مَتَى تَصَرَّفَ قَبْلَ الْعِلْمِ، نَفَذَ تَصَرُّفُهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ، فَلَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ عِلْمِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ عَزَلَ الْوَكِيلُ نَفْسَهُ، لَمْ يَنْعَزِلْ إلَّا بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَصِحُّ رَدُّ أَمْرِهِ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ، كَالْمُودَعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ. فَأَمَّا الْفَسْخُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. ثُمَّ هُمَا مُفْتَرِقَانِ؛ فَإِنَّ أَمْرَ الشَّارِعِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْصِيَةَ بِتَرْكِهِ، وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْعَزْلُ عَنْهُ إبْطَالَ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ. [فَصْلٌ خُرُوج الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل عَنْ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ] (3777) فَصْلٌ: وَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، مِثْلُ أَنْ يُجَنَّ، أَوْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، فَلَا يُمَلِّكُهُ غَيْرَهُ مِنْ جِهَتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الشَّرِكَةِ: إذَا وَسْوَسَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مِثْلُ الْعَزْلِ. وَإِنْ حُجِرَ عَلَى الْوَكِيلِ لِفَلْسِ، فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ. وَإِنْ حُجِرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَكَانَتْ الْوَكَالَةُ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ، بَطَلَتْ؛ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْخُصُومَةِ، أَوْ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ الطَّلَاقِ، أَوْ الْخُلْعِ، أَوْ الْقِصَاصِ، فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ابْتِدَاءً، فَلَا تَنْقَطِعُ الِاسْتِدَامَةُ. وَإِنْ فَسَقَ الْوَكِيلُ لَمْ يَنْعَزِلْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ فِيمَا يُنَافِيهِ الْفِسْقُ، كَالْإِيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ أَوْ فِسْقِ مُوَكِّلِهِ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فِي الْقَبُولِ لِلْمُوَكِّلِ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَبُولِهِ. وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ نَفْسِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَمَانَةُ، كَوَكِيلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَوَلِيِّ الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَنَحْوِ هَذَا، انْعَزَلَ بِفِسْقِهِ وَفِسْقِ مُوَكِّلِهِ بِخُرُوجِهِمَا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِوَكِيلِ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، انْعَزَلَ بِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ تَوْكِيلُ فَاسِقٍ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ وَكِيلٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا يُنَافِيه الْفِسْقُ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِالنَّوْمِ وَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ الْفِسْقُ بِالسُّكْرِ، فَيَكُونَ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا أَسْلَفْنَاهُ. [فَصْل التَّعَدِّي فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ] (3778) فَصْلٌ: وَلَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِالتَّعَدِّي فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ، وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ، فَتَبْطُلُ بِالتَّعَدِّي كَالْوَدِيعَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَدَّ. وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا أَمَانَةٌ مُجَرَّدَةٌ، فَنَافَاهَا التَّعَدِّي وَالْخِيَانَةُ، وَالْوَكَالَةُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ تَضَمَّنَتْ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا انْتَفَتْ الْأَمَانَةُ بِالتَّعَدِّي، بَقِيَ الْإِذْنُ بِحَالِهِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ فَلَبِسَهُ. صَارَ ضَامِنًا. فَإِذَا بَاعَهُ، صَحَّ بَيْعُهُ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ. فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ، كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا، وَوَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ، فَتَعَدَّى فِي الثَّمَنِ، صَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ وَسَلَّمَهُ، زَالَ الضَّمَانُ، وَقَبْضُهُ لِلْمَبِيعِ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَإِنْ وُجِدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ، فَرُدَّ عَلَيْهِ، أَوْ وَجَدَ هُوَ بِمَا اشْتَرَى عَيْبًا، فَرَدَّهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُزِيلَ لِلضَّمَانِ زَالَ، فَعَادَ مَا زَالَ عَنْهُ. [فَصْلٌ وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا] (3779) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، لَمْ تَنْفَسِخْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتَدَامَتْهَا. وَإِنْ وَكَّلَ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، أَوْ بَاعَهُ، لَمْ يَنْعَزِلْ؛ لِذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْعَزِلَ، لِأَنَّ تَوْكِيلَ عَبْدِهِ لَيْسَ بِتَوْكِيلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، إنَّمَا هُوَ اسْتِخْدَامٌ بِحَقِّ الْمِلْكِ، فَيَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ. وَإِذَا بَاعَهُ فَقَدْ صَارَ إلَى مِلْكِ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي تَوْكِيلِهِ، وَثُبُوتُ مِلْك غَيْرِهِ فِيهِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ تَوْكِيلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَيَقْطَعُ اسْتَدَامَتْهُ. وَهَكَذَا الْوَجْهَانِ فِيمَا إذَا وَكَّلَ عَبْدَ غَيْرِهِ ثُمَّ بَاعَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ، وَالْعِتْقُ لَا يُبْطِلُ؛ الْإِذْنَ. وَهَكَذَا إنْ بَاعَهُ، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ رَضِيَ بِبَقَائِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ، بَقِيَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ وَإِنْ وَكَّلَ عَبْدَ غَيْرِهِ، فَأَعْتَقَهُ، لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ حَقِيقَةً، وَالْعِتْقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 غَيْرُ مُنَافٍ لَهُ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ مِنْهُ لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَهُ لَا يُنَافِي إذْنَهُ لَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ. [فَصْلٌ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِيمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ] (3780) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِيمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، صَحَّ تَوْكِيلُهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا، أَوْ حَرْبِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الدِّينُ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ وَكَّلَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ، سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ أَقَامَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ تَبْطُلْ وَكَالَتُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ وَكَالَتِهِ فَلَمْ تَمْنَعْ اسْتِدَامَتَهَا، كَسَائِرِ الْكُفْرِ. وَإِنْ ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ، لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ فِيمَا لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي مَالِهِ، فَيَنْبَنِي عَلَى تَصَرُّفِهِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ. لَمْ يَبْطُلْ تَوْكِيلُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مَوْقُوفٌ. فَوَكَالَتُهُ مَوْقُوفَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ. بَطَلَ تَوْكِيلُهُ. وَإِنْ وَكَّلَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، فَفِيهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا. [فَصْلٌ وَكَّلَ رَجُلًا فِي نَقْلِ امْرَأَتِهِ فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِطَلَاقِ الزَّوْجَةِ] (3781) فَصْلٌ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي نَقْلِ امْرَأَتِهِ، أَوْ بَيْعِ عَبْدِهِ، أَوْ قَبْضِ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ، فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِطَلَاقِ الزَّوْجَةِ، وَعِتْقِ الْعَبْدِ، وَانْتِقَالِ الدَّارِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَصَرُّفُ الْمُوَكِّلِ، فَزَالَتْ وَكَالَتُهُ. [فَصْلٌ تَلَفِ الْعَيْنُ الَّتِي وَكَّلَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا] (3782) فَصْلٌ: وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ الَّتِي وَكَّلَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، بَطَلَتْ، الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا ذَهَبَ، فَذَهَبَتْ الْوَكَالَةُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ فَمَاتَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا، وَوَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهِ، فَهَلَكَ الدِّينَارُ، أَوْ ضَاعَ، أَوْ اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، سَوَاءٌ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ أَوْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ إنْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ اسْتَحَالَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ تَلَفِهِ، فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ مُطْلَقًا، وَنَقَدَ الدِّينَارَ، بَطَلَتْ، أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْقُدَهُ ثَمَنَ ذَلِكَ الْبَيْعِ، إمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِتَلَفِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ شِرَاؤُهُ، لَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ ثَمَنٌ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَا رَضِيَ بِلُزُومِهِ وَإِذَا اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ، ثُمَّ عَزَلَ دِينَارًا عِوَضَهُ، وَاشْتَرَى بِهِ، فَهُوَ كَالشِّرَاءِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَطَلَتْ، وَالدِّينَارُ الَّذِي عَزَلَهُ عِوَضًا لَا يَصِيرُ لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَإِذَا اشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ بِهِ شَيْئًا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ وَلَزِمَ الثَّمَنُ، وَإِلَّا لَزِمَ الْوَكِيلَ. وَعَنْهُ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ. بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَتَى اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ لِغَيْرِهِ شَيْئًا، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: مَتَى اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ شَيْئًا، صَحَّ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ. (3783) فَصْلٌ: نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَقَالَ لَهُ: إذَا أَمْكَنَك قَضَاؤُهَا فَادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ. وَغَابَ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلَمْ يُوصِ إلَى هَذَا الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ، لَكِنْ جَعَلَهُ وَكِيلًا، وَتَمَكَّنَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ الْقَضَاءِ، فَخَافَ إنْ دَفَعَهَا إلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ مَاتَ، وَيَخَافُ التَّبِعَةَ مِنْ الْوَرَثَةِ. فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لَعَلَّهُ قَدْ مَاتَ، لَكِنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْوَرَثَةِ، وَيَبْرَأُ إلَيْهِمَا مِنْ ذَلِكَ. هَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ لِلْغَرِيمِ، خَوْفًا مِنْ التَّبِعَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ إنْ كَانَ مُوَرِّثُهُمْ قَدْ مَاتَ، فَانْعَزَلَ وَكِيلُهُ وَصَارَ الْحَقُّ لَهُمْ، فَيَرْجِعُونَ عَلَى الدَّافِعِ إلَى الْوَكِيلِ. فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَلِلْوَكِيلِ الْمُطَالَبَةُ، وَلِلْآخَرِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إذَا وَكَّلَهُ فِي الْحَدِّ وَغَابَ، اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ. وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا؛ لِكَوْنِهِ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، لَكِنَّ هَذَا احْتِيَاطٌ حَسَنٌ، وَتَبْرِئَةٌ لِلْغَرِيمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِزَالَةٌ لِلتَّبِعَةِ عَنْهُ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى الْوَكِيلِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ مَاتَ، فَانْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتَارَ هَذَا لِئَلَّا يَكُونَ الْقَاضِي مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِالْمَوْتِ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْعَزْلِ بِهِ. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَيَقْبَلُ. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّوْكِيلِ. وَقَدْ نَقَلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ: بِعْ ثَوْبِي. لَيْسَ شَيْءٌ حَتَّى يَقُولَ: قَدْ وَكَّلْتُك. وَهَذَا سَهْوٌ مِنْ النَّاقِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّوْكِيلِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ. [مَسْأَلَة وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ] (3784) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، فَهُوَ فِي يَدِهِ حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، مَلَكَ التَّصَرُّفَ أَبَدًا، مَا لَمْ تَنْفَسِخْ الْوَكَالَةُ، وَفَسْخُ الْوَكَالَةِ أَنْ يَقُولَ: فَسَخْت الْوَكَالَةَ، أَوْ أَبْطَلْتهَا، أَوْ نَقَضْتهَا، أَوْ عَزَلْتُك، أَوْ صَرَفْتُك عَنْهَا، وَأَزَلْتُك عَنْهَا. أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ وَكَّلَهُ فِيهِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُقْتَضِيَةِ عَزْلَهُ أَوْ الْمُؤَدِّيَةِ مَعْنَاهُ، أَوْ يَعْزِلَ الْوَكِيلُ نَفْسَهُ، أَوْ يُوجَدَ مَا يَقْتَضِي فَسْخَهَا حُكْمًا، عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا، أَوْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَمَّا قَدْ وَكَّلَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْوَكَالَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ وَطِئَهَا، انْفَسَخَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهَا، وَاخْتِيَارِهِ إمْسَاكَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ وَطِئَهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا طَلَاقًا رَجْعِيَّا، كَانَ ارْتِجَاعًا لَهَا، فَإِذَا اقْتَضَى رَجْعَتَهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا، فَلَأَنْ يَقْتَضِيَ اسْتِبْقَاءَهَا عَلَى نِكَاحِهَا وَمَنْعَ طَلَاقِهَا أَوْلَى. وَإِنْ بَاشَرَهَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ قَبَّلَهَا، أَوْ فَعَلَ بِهَا مَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ، فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي حُصُولِ الرَّجْعَةِ بِهِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، انْفَسَخَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ لَا يَبْقَى لَهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَنْ بَيْعِهِ. وَإِنْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ لَمْ يَزُلْ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. [مَسْأَلَة وُكِّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ فَاشْتَرَى غَيْرَهُ] (3785) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ وُكِّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ فَاشْتَرَى غَيْرَهُ، كَانَ الْآمِرُ مُخَيَّرًا فِي قَبُولِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، لَزِمَ الْوَكِيلَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَيَبْطُلُ الشِّرَاءُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ، فَاشْتَرَى غَيْرَ مَا وُكِّلَ فِي شِرَائِهِ، مِثْلُ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ فَيَشْتَرِيَ جَارِيَةً، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ، فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِهِ لِغَيْرِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، الشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ غَيْرِهِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ وَقَدْ أَجَازَهُ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ لَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُوَكِّلَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي شِرَائِهِ، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَدَرَ مِنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ وَكِيلًا لِلَّذِي قَصَدَ الشِّرَاءَ لَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا لَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْنِي الْجَارِيَةَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ. أَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ، وَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ؛ لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ، «أَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا لَهُ» وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَصَحَّ، وَوَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ، كَالْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَالِ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ، ثُمَّ بَلَغَ، فَأَجَازَهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» . يَعْنِي مَا لَمْ تَمْلِكْ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ بَاعَ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ جَائِزًا لِمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ اتِّفَاقًا. وَمَتَى حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَاعْتَرَفَ لَهُ الْعَاقِدُ مَعَهُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، وَلَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، حَلَفَ الْعَاقِدُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يُبْطِلُ عَقْدَهُ. وَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: إنَّك بِعْت مَالَ غَيْرِك بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ. وَقَالَ: بَلْ بِعْت مِلْكِي. أَوْ قَالَ: بِعْت مَالَ مُوَكِّلِي بِإِذْنِهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا. وَإِنْ اتَّفَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى مَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: بَلْ الْبَيْعُ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْعِوَضِ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ لَهُ امْرَأَةً فَتَزَوَّجَ لَهُ غَيْرَهَا] (3786) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ لَهُ امْرَأَةً، فَتَزَوَّجَ لَهُ غَيْرَهَا، أَوْ تَزَوَّجَ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ بِكُلِّ حَالٍ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ ذِكْرَ الزَّوْجِ، فَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَقَعْ لَهُ وَلَا لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَعْيَانُ الزَّوْجَيْنِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمُشْتَرَى لَهُ، فَافْتَرَقَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُتَزَوَّجِ لَهُ، فَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ، وَإِلَّا بَطَلَ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْبَيْعِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلِ اشْتَرِ لِي بِدَيْنِي عَلَيْك طَعَامًا] (3787) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ لِي بِدَيْنِي عَلَيْك طَعَامًا. لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ: تَسَلَّفْ لِي أَلْفًا مِنْ مَالِك فِي كُرِّ طَعَامٍ. فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْإِنْسَانُ بِمَالِهِ مَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي فِي ذِمَّتِك. أَوْ قَالَ: تَسَلَّفْ لِي أَلْفًا فِي كُرِّ طَعَامٍ، وَاقْضِ الثَّمَنَ عَنِّي مِنْ مَالِك، أَوْ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْك. صَحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ حَصَلَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَضَاهُ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَقَدْ دَفَعَ الدَّيْنَ إلَى مَنْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ مَالِهِ عَنْ دَيْنِ السَّلَفِ الَّذِي عَلَيْهِ، صَارَ قَرْضًا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا مَا يَقْتَضِيه إذْنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ] (3788) فَصْلٌ: وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا مَا يَقْتَضِيه إذْنُ مُوَكِّلِهِ، مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْإِذْنِ، فَاخْتَصَّ بِمَا أَذِنَ فِيهِ، وَالْإِذْنُ يُعْرَفُ بِالنُّطْقِ تَارَةً وَبِالْعُرْفِ أُخْرَى. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي التَّصَرُّفِ فِي زَمَنٍ مُقَيَّدٍ، لَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إذْنُهُ مُطْلَقًا وَلَا عُرْفًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ التَّصَرُّفَ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا عَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادَتِهِ وَقْتًا، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهَا عَنْهُ. فَلَوْ قَالَ لَهُ: بِعْ ثَوْبِي غَدًا. لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ الْيَوْمَ وَلَا بَعْدَ غَدٍ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمَكَانَ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ، مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبِهِ فِي سُوقٍ، وَكَانَ ذَلِكَ السُّوقُ مَعْرُوفًا بِجَوْدَةِ، النَّقْدِ، أَوْ كَثْرَةِ الثَّمَنِ، أَوْ حِلِّهِ، أَوْ بِصَلَاحِ أَهْلِهِ، أَوْ بِمَوَدَّةٍ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَبَيْنَهُمْ، تَقَيَّدَ الْإِذْنُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَمْرٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً فِي الْغَرَضِ، لَمْ يَتَقَيَّدْ الْإِذْنُ بِهِ، وَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ؛ لِمُسَاوَاتِهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ، فَكَانَ تَنْصِيصُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إذْنًا فِي الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَوْ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ، كَانَ إذْنًا فِي زِرَاعَةِ مِثْلِهِ فَمَا دُونَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى عَقَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مِثْلَهُ، وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ، جَازَ الِاعْتِكَافُ وَالصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ: بِعْهُ فُلَانًا. لَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ لِغَيْرِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ، سَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ إيَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِقَرِينَةِ أَوْ صَرِيحٍ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ] (3789) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْلِكُهُ، فَالْوَكِيلُ أَوْلَى. وَلَا يَمْلِكُ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمْلِكُ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الْفَاسِدِ، فَالصَّحِيحُ أَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي مُحَرَّمٍ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْحَلَالَ بِهَذَا الْإِذْنِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، لَمْ يَمْلِكْ شِرَاءَ الْخَيْلِ وَالْغَنَمِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 [فَصْل وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ شِرَائِهِ] (3790) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ شِرَائِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْعَقْدَ عَلَى بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَنَاوَلَ جَمِيعَهُ، وَفِي التَّبْعِيضِ إضْرَارٌ بِالْمُوَكَّلِ وَتَشْقِيصٌ لِمِلْكِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبِيدٍ أَوْ شِرَائِهِمْ، مَلَكَ الْعَقْدَ عَلَيْهِمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَاحِدًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ عَلَيْهِمْ جُمْلَةً، وَالْعُرْفُ فِي بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا ضَرَرَ فِي جَمْعِهِمْ وَلَا إفْرَادِهِمْ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبِيدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدًا وَاحِدًا، أَوْ بِعْهُمْ. لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ؛ لِأَنَّ تَنْصِيصَهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَرَضِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إذْنُهُ سِوَاهُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدَيْنِ صَفْقَةً. فَاشْتَرَى عَبْدَيْنِ لِاثْنَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَهُمَا، مِنْ وَكِيلِهِمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ مُفْرَدٌ، فَاشْتَرَاهُمَا مِنْ الْمَالِكَيْنِ، بِأَنْ أَوْجَبَا لَهُ الْبَيْعَ فِيهِمَا، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ هُوَ الشِّرَاءُ، وَهُوَ مُتَّحِدٌ، وَالْغَرَضُ لَا يَخْتَلِفُ. وَإِنْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ وَكِيلِهِمَا، وَعَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، هَذَا بِمِائَةٍ وَهَذَا بِمِائَتَيْنِ. فَقَالَ: قَبِلْت. احْتَمَلَ أَيْضًا وَجْهَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ وَيُقَسَّطَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِم وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ عَبْدًا] (3791) فَصْلٌ: فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ عَبْدًا. كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِهَا، وَفِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ، كَانَ لَهُ فِعْلُ مَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ بِعَيْنِهَا. فَاشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ نَقَدَهَا، لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَيَّنَ الثَّمَنُ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ، أَوْ كَوْنِهِ مَغْصُوبًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا غَرَضٌ لِلْمُوَكِّلِ، فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ، وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ. وَهَلْ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي فِي ذِمَّتِك، وَانْقُدْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ ثَمَنًا. فَاشْتَرَاهُ بِعَيْنِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي عَقْدٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الثَّمَنُ مَعَ بَقَاءِ الدَّرَاهِمِ وَتَلَفِهَا، فَكَانَ إذْنًا فِي عَبْدٍ لَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إلَّا مَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 بَقَائِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي الشِّرَاءِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، لِكَوْنِهَا فِيهَا شُبْهَةٌ لَا يُحِبُّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا، أَوْ يُحِبُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهَا، وَلَا يَبْطُلُ بِتَحْرِيمِهَا، وَهَذَا غَرَضٌ صَحِيحٌ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ غَرَضِهِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ عَيَّنَ الْمُوَكِّل لِلْوَكِيلِ الشِّرَاءَ بِنَقْدِ أَوْ حَالًا] (3792) فَصْلٌ: وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الشِّرَاءَ بِنَقْدٍ أَوْ حَالًا، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي النَّسِيئَةِ وَالْبَيْعِ بِأَيِّ نَقْدٍ شَاءَ، جَازَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَبِعْ إلَّا حَالًّا بِنَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الْحُلُولُ، وَإِطْلَاقُ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَأَطْلَقَ، حُمِلَ عَلَى الْحُلُولِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ، بَاعَ بِأَغْلَبِهِمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا، بَاعَ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فَأَشْبَهَ الْحَالَ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ فِي الْمُضَارِبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَالْأَوَّلُ؛ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ حُمِلَ عَلَى الْحُلُولِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ فِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ تَسَاوِي الْعَادَةِ فِيهِمَا، فَإِنَّ بَيْعَ الْحَالِ أَكْثَرُ، وَيُفَارِقُ الْمُضَارَبَةَ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحُ، لَا دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالثَّمَنِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِي الْوَكَالَةِ دَفْعَ حَاجَةٍ نَاجِزَةٍ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي، أَنَّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَيَعُودُ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي التَّقَاضِي عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ، فَلَا يَرْضَى بِهِ الْمُوَكِّلُ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي تَوَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُضَارِبِ، لِأَنَّهُ يَحْسِبُ مِنْ الرِّبْحِ، لِكَوْنِ الرِّبْحِ وِقَايَةً لِرَأْسِ الْمَالِ، وَهَا هُنَا يَعُودُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَانْقَطَعَ الْإِلْحَاقُ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهَا نَقْدًا بِدُونِ ثَمَنِهَا نَسِيئَةً أَوْ بِدُونِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ] (3793) فَصْلٌ: إذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ نَسِيئَةً، فَبَاعَهَا نَقْدًا بِدُونِ ثَمَنِهَا نَسِيئَةً، أَوْ بِدُونِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ، لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمُوَكِّلِهِ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِثَمَنِ النَّسِيئَةِ دُونَ النَّقْدِ. وَإِنْ بَاعَهَا نَقْدًا بِمَا تُسَاوِي نَسِيئَةً، أَوْ عَيَّنَ لَهُ ثَمَنَهَا فَبَاعَهَا بِهِ نَقْدًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهَا بِعَشْرَةٍ فَبَاعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي النَّسِيئَةِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَرَضٌ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا يُسْتَضَرُّ بِحِفْظِهِ فِي الْحَالِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ التَّلَفِ أَوْ الْمُتَغَلِّبِينَ، أَوْ يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ إلَى وَقْتِ الْحُلُولِ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحُلُولِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ فِي الْمَصْلَحَةِ، كَالْمَنْطُوقِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أَوْ الْمُمَاثَلَةِ، وَمَتَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 كَانَ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ غَرَضٌ مُخْتَصٌّ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ، وَلَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. [فَصْل وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِثَمَنِ نَقْدًا فَاشْتَرَاهُ نَسِيئَةً بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ النَّقْدِ] (3794) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِثَمَنِ نَقْدًا، فَاشْتَرَاهُ نَسِيئَةً بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ النَّقْدِ، لَمْ يَقَعْ لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً بِثَمَنِهِ نَقْدًا، أَوْ بِمَا عَيَّنَهُ لَهُ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَيَصِحُّ لِلْمُوَكِّلِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، نَحْوُ أَنْ يُسْتَضَرَّ بِبَقَاءِ الثَّمَنِ مَعَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ، كَقَوْلِنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ فِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ لَا يَبِيع الْوَكِيل بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَا يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ] (3795) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ دُونَ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ فِي الْبَيْعِ، فَلَهُ الْبَيْعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ فِي الْإِذْنِ مُطْلَقٌ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ مُطْلَقٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَاقْتَضَى ثَمَنَ الْمِثْلِ، كَالشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَنْتَقِضُ بِالشِّرَاءِ. فَإِنْ بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، أَوْ بَاعَ بِدُونِ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ دُونَ الشِّرَاءِ، وَيَضْمَنُ الْوَكِيلُ النَّقْصَ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، صَحَّ بِدُونِهِ كَالْمَرِيضِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَعَلَى الْوَكِيلِ ضَمَانُ النَّقْصِ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا بَيْنَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَا بَاعَهُ بِهِ. وَالثَّانِي، مَا بَيْنَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ، وَمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ، لِأَنَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لِلْوَكِيلِ فِي هَذَا الْبَيْعِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ. وَكُلُّ تَصَرُّفٍ كَانَ الْوَكِيلُ مُخَالِفًا فِيهِ لِمُوَكِّلِهِ، فَحُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْأَجْنَبِيِّ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ عَادَةً، فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُوَكِّلُ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ يُعَدُّ ثَمَنَ الْمِثْلِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَلَوْ حَضَرَ مِنْ يَزِيدُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ وَطَلَبَ الْحَظِّ لِمُوَكِّلِهِ. وَإِنْ بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَحَضَرَ مَنْ يَزِيدُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، لَمْ يَلْزَمْهُ فَسْخُ الْعَقْدِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا، مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَلَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْمُزَايِدَ قَدْ لَا يَثْبُتُ عَلَى الزِّيَادَةِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَسْخُ بِالشَّكِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَجَازَ بِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَالنَّهْيُ يَتَوَجَّهُ إلَى الَّذِي زَادَ لَا إلَى الْوَكِيلِ، فَأَشْبَهَ مَنْ جَاءَتْهُ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ وُكِّلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِمِائَةِ فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا] (3796) فَصْلٌ: وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ، فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً؛ لِأَنَّهُ بَاعَ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ وَزَادَ زِيَادَةً تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيَبِيعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ أَوْ ثَوْبٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِمِائَةِ وَثَوْبٍ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ. وَلَنَا، أَنَّهَا زِيَادَةٌ تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَدِينَارٍ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي بَيْعِهِ بِمِائَةٍ، إذْنٌ فِي بَيْعِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا عُرْفًا، لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِمِائَةٍ لَا يَكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ. وَإِنْ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، أَوْ بِمِائَةِ ثَوْبٍ، أَوْ بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَعِشْرِينَ ثَوْبًا، لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ فِي الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بِثَوْبٍ يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا جَعَلَ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، أَوْ مَكَانَ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ بِدِرْهَمٍ رَضِيَ مَكَانَهُ بِدِينَارٍ، فَجَرَى مَجْرَى بَيْعِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ. وَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ بِهَا أَوْ وَكَّلَهُ مُطْلَقًا فَبَاعَ نِصْفَهُ بِثَمَنِ الْكُلِّ] (3797) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ، فَبَاعَ نِصْفَهُ بِهَا، أَوْ وَكَّلَهُ مُطْلَقًا، فَبَاعَ نِصْفَهُ بِثَمَنِ الْكُلِّ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ مِائَةً ثَمَنًا لِلْكُلِّ، رَضِيَ بِهَا ثَمَنًا لِلنِّصْفِ، وَلِأَنَّهُ حَصَّلَ لَهُ الْمِائَةَ وَأَبْقَى لَهُ زِيَادَةً تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ. وَلَهُ بَيْعُ النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي بَيْعِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ بِمِثْلَيْ ثَمَنِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَّلَ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ بِبَيْعِ نِصْفِهِ، فَرُبَّمَا لَا يُؤْثِرُ بَيْعَ بَاقِيهِ، لِلْغِنَى عَنْ بَيْعِهِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ثَمَنِ نِصْفِهِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَوْكِيلِهِ فِي بَيْعِ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ، إذَا بَاعَ أَحَدَهُمَا بِهَا، صَحَّ. وَهَلْ يَكُونُ لَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْآخَرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ بِمِائَةٍ، فَبَاعَ بَعْضَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ وَكَّلَهُ مُطْلَقًا، فَبَاعَ بَعْضَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْكُلِّ، لَمْ يَجُزْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ. بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لِلْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ الْبَيْعَ بِمَا شَاءَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 وَلَنَا، أَنَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ ضَرَرًا فِي تَبْعِيضِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ فِيهِ نُطْقًا وَلَا عُرْفًا، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَى نِصْفَهُ. [فَصْل وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِمِائَةِ فَاشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ أَوْ بِمَا دُونَ الْمِائَةِ] (3798) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِمِائَةٍ، فَاشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ، أَوْ بِمَا دُونَ الْمِائَةِ، صَحَّ، وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ. وَإِنْ قَالَ: لَا تَشْتَرِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ، فَخَالَفَهُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ نَصَّهُ، وَصَرِيحُ قَوْلِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَلَالَةِ الْعُرْفِ. فَإِنْ قَالَ: اشْتَرِهِ بِمِائَةٍ، وَلَا تَشْتَرِهِ بِخَمْسِينَ. جَازَ لَهُ شِرَاؤُهُ بِمَا فَوْقَ الْخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي الشِّرَاءِ بِمِائَةٍ دَلَّ عُرْفًا عَلَى الشِّرَاءِ بِمَا دُونَهَا، خَرَجَ مِنْهُ الْخَمْسُونَ بِصَرِيحِ النَّهْيِ، بَقِيَ فِيمَا فَوْقَهَا عَلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْخَمْسِينَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ صَرِيحَ نَهْيِهِ، أَشْبَهَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ الْخَمْسِينَ اسْتِقْلَالًا لَهَا. فَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى النَّهْيِ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُمَا، كَمَا أَنَّ الْإِذْنَ فِي الشِّرَاءِ بِمِائَةٍ إذْنٌ فِيمَا دُونَهَا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى صَرِيحِ نَهْيِهِ، فَإِنَّ تَنْبِيهَ الْكَلَامِ كَنَصِّهِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ. فَاشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي نِصْفَهُ بِمِائَةٍ. فَاشْتَرَاهُ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ بِمِائَةٍ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي نِصْفَهُ بِمِائَةٍ، وَلَا تَشْتَرِهِ جَمِيعَهُ، فَاشْتَرَى أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ وَأَقَلَّ مِنْ الْكُلِّ بِمِائَةٍ، صَحَّ، فِي قِيَاسِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْعُرْفِ قَاضِيَةً بِالْإِذْنِ فِي شِرَاءِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، خَرَجَ الْجَمِيعُ بِصَرِيحِ نَهْيِهِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِمِائَةِ فَاشْتَرَاهُ عَلَى الصِّفَةِ بِدُونِهَا] (3799) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِمِائَةٍ، فَاشْتَرَاهُ عَلَى الصِّفَةِ بِدُونِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا. وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصِّفَةِ، أَوْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِمِائَةٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةً بِدُونِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ جَازَ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِدُونِهَا فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، فَيَجُوزُ. وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي مِائَةً، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَلَمْ يُحَصِّلْ غَرَضَهُ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقَلِّ مِنْ دِينَارٍ] (3800) فَصْلٌ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِنْ دِينَار لَمْ يَقَعْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُسَاوِي دِينَارًا. أَوْ إحْدَاهُمَا تُسَاوِي دِينَارًا وَالْأُخْرَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، صَحَّ، وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ. وَهَذَا الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إحْدَى الشَّاتَيْنِ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَالْأُخْرَى لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِإِلْزَامِهِ عُهْدَةَ شَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ دِينَارًا، فَقَالَ: اشْتَرِ لَنَا بِهِ شَاةً. قَالَ: فَأَتَيْت الْجَلَبَ، فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَجِئْت أَسُوقُهُمَا، أَوْ أَقُودُهُمَا، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ بِالطَّرِيقِ، فَسَاوَمَنِي، فَبِعْت مِنْهُ شَاةً بِدِينَارٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا دِينَارُكُمْ، وَهَذِهِ شَاتُكُمْ. قَالَ: وَصَنَعْتَ كَيْفَ؟ فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ.» وَلِأَنَّهُ حَصَّلَ لَهُ الْمَأْذُونَ فِيهِ وَزِيَادَةً مِنْ جِنْسِهِ تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَوَقَعَ ذَلِكَ لَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ بِعْهُ بِدِينَارٍ. فَبَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ. فَإِنْ بَاعَ الْوَكِيلُ إحْدَى الشَّاتَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ مُوَكِّلِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبَيْعِ الشَّاتَيْنِ. وَالثَّانِي، إنْ كَانَتْ الْبَاقِيَةُ تُسَاوِي دِينَارًا جَازَ، لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ، وَلِأَنَّهُ حَصَّلَ لَهُ الْمَقْصُودَ، وَالزِّيَادَةُ لَوْ كَانَتْ غَيْرَ الشَّاةِ جَازَ، فَجَازَ لَهُ إبْدَالُهَا بِغَيْرِهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الشَّاةِ. فَبَاعَهَا، فَهَلْ يَقَعُ الْبَيْعُ بَاطِلًا أَوْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَوَكِيلٌ يُخَالِفُ مُوَكِّلَهُ، هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا أَوْ يَصِحُّ وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ هَاهُنَا وَجْهَانِ. [فَصْلٌ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ] (3801) فَصْلٌ: وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا إلَّا سَلِيمَةً لِأَنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، وَلِذَلِكَ جَازَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ. فَإِنْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ، صَحَّ، الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الصَّحِيحِ فِي الظَّاهِرِ، لِعَجْزِهِ عَنْ التَّحَرُّزِ عَنْ شِرَاءِ مَعِيبٍ لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، فَإِذَا عَلِمَ عَيْبَهُ مَلَكَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي الشِّرَاءِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ رَدِّ الْوَكِيلِ، وَرَضِيَ بِالْعَيْبِ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ، فَإِنَّ لَهُ الرَّدَّ وَإِنْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، فَأَرَادَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ، فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: تَوَقَّفْ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ، فَرُبَّمَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ. لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ فَوَاتَ الرَّدِّ لِهَرَبِ الْبَائِعِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 وَفَوَاتَ الثَّمَنِ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، لَمْ يَسْقُطْ رَدُّهُ. وَإِنْ قُلْنَا: الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: مُوَكِّلُك قَدْ عَلِمَ الْعَيْبَ فَرَضِيَهُ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْوَكِيلُ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَهُ، فَيَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ كَانَ نَائِبًا فِي الْيَمِينَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحِ، فَإِنَّهُ لَا نِيَابَةَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ، وَهَذَا لَا يَنُوبُ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ. فَإِنْ رَدَّ الْوَكِيلُ، وَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ، وَقَالَ: بَلَغَنِي الْعَيْبُ، وَرَضِيت بِهِ. وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، لَمْ يَقَعْ الرَّدُّ مَوْقِعَهُ، وَكَانَ لِلْمُوَكِّلِ اسْتِرْجَاعُهُ، وَلِلْبَائِعِ رَدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِهِ عَزَلَ الْوَكِيلَ عَنْ الرَّدِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، إلَّا أَنْ نَقُولَ: إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْلَمَ الْعَزْلَ. وَإِنْ رَضِيَ الْوَكِيلُ الْمَعِيبَ، أَوْ أَمْسَكَهُ إمْسَاكًا يَنْقَطِعُ بِهِ الرَّدُّ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ، فَأَرَادَ الرَّدَّ، فَلَهُ ذَلِكَ إنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ كَذَّبَهُ وَلَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَحَلَّفَهُ الْبَائِعُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ، وَعَلَيْهِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْوَكِيلِ شِرَاءُ الْمَعِيبِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا يَدْخُلُ الْمَعِيبُ فِي إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ أَمِينُهُ فِي الشِّرَاءِ، فَجَازَ لَهُ شِرَاءُ الْمَعِيبِ، كَالْمُضَارِبِ. وَلَنَا، أَنَّ الْبَيْعَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الصَّحِيحَ دُونَ الْمَعِيبِ، فَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ فِيهِ، وَيُفَارِقُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الرِّبْحُ، وَالرِّبْحُ يَحْصُلُ مِنْ الْمَعِيبِ كَحُصُولِهِ مِنْ الصَّحِيحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوَكَالَةِ شِرَاءُ مَا يَقْتَنِي أَوْ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَيْبُ مَانِعًا مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِهِ وَمِنْ قِنْيَتِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] : لَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ وَلَا مَعِيبَةٌ عَيْبًا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ. وَقَالَ هَاهُنَا: يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ شِرَاءُ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. [فَصْل أَمَرَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَاشْتَرَاهَا فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً] (3802) فَصْلٌ: وَإِنْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا، فَاشْتَرَاهَا، فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً، احْتَمَلَ أَنَّ لَهُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَوْصُوفَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَطَعَ نَظَرَهُ بِالتَّعْيِينِ، فَرُبَّمَا رَضِيَهُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ. وَإِنْ عَلِمَ عَيْبَهُ قَبْلَ شِرَائِهِ، فَهَلْ لَهُ شِرَاؤُهُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَيْضًا، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى رَدِّهِ إذَا عَلِمَ عَيْبَهُ بَعْدَ شِرَائِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ رَدَّهُ. فَلَيْسَ لَهُ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ إذَا جَازَ بِهِ الرَّدُّ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ مِنْ الشِّرَاءِ أَوْلَى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ ثَمَّ. فَلَهُ الشِّرَاءُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوَكِّلِ قَطَعَ نَظَرَهُ وَاجْتِهَادَهُ فِي جَوَازِ الرَّدِّ، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 [فَصْلٌ اشْتَرَى الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ شَيْئًا بِإِذْنِهِ] (3803) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ شَيْئًا بِإِذْنِهِ، انْتَقَلَ الْمِلْكُ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْوَكِيلِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَكِيلِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُوَكِّلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَبِلَ عَقْدًا لَغَيْرِهِ صَحَّ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَ لَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ. غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَاشْتَرَاهُ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ، وَيَقَعُ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَتَمَوَّلُونَهَا وَيَتَبَايَعُونَهَا، فَصَحَّ تَوْكِيلُهُمْ فِيهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ، كَتَزْوِيجِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَبِهَذَا خَالَفَ سَائِرَ أَمْوَالِهِمْ. وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ، فَلِلْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ الْمُطَالَبَةُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَهُ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ مَجْلِسُ الصَّرْفِ وَالْخِيَارِ بِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ، فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا دَيْنٌ لِلْمُوَكِّلِ يَصِحُّ قَبْضُهُ لَهُ، فَمَلَكَ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ الَّتِي وَكَّلَ فِيهَا، وَيُفَارِقُ مَجْلِسَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ، فَتَعَلَّقَ بِالْعَاقِدِ، كَالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ وَمَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، وَهِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ، وَقَبْضُ الْمَبِيعِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَضَمَانُ الدَّرْك. فَأَمَّا ثَمَنُ مَا اشْتَرَاهُ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا، وَفِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ تَبَعًا، كَالضَّامِنِ، وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَبْرَأَ الْوَكِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْمُوَكِّلُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمُوَكِّلَ بَرِئَ الْوَكِيلُ أَيْضًا، كَالضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ سَوَاءٌ. وَإِنْ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَرَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ، كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ. إنْ تَلِفَ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا يَتَسَلَّفُ لَهُ أَلْفًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، فَفَعَلَ، مَلَكَ الْمُوَكِّلُ ثَمَنَهَا، وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ فَفَعَلَ فَوَهَبَ لَهُ الْمُشْتَرِي مَنْدِيلًا] (3804) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ، فَفَعَلَ، فَوَهَبَ لَهُ الْمُشْتَرِي مَنْدِيلًا، فَالْمِنْدِيلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ. إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ هِبَةَ الْمِنْدِيلِ سَبَبُهَا الْبَيْعُ، فَكَانَ الْمِنْدِيلُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ، وَالزِّيَادَةُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ تَلْحَقُ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 [فَصْلٌ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ] (3805) فَصْلٌ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ، إذَا ادَّعَى الْوَكَالَةَ، وَأَقَامَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَثْبُتُ بِذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِمَالٍ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُوَكِّلُ، وَيُشْهِدُ عَلَى نَفْسِهِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، إذَا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنٍ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ. نَقَلَهَا الْخِرَقِيِّ بِقَوْلِهِ: وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِأَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إثْبَاتٌ لِلتَّصَرُّفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الْمَالِ يُقْصَدُ بِهَا الْمَالُ، فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ. فَإِنْ شَهِدَا بِوَكَالَتِهِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ عَزَلَهُ. لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْعَزْلِ رَجُلًا غَيْرَهُمَا، لَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوْكِيلُ. وَمَتَى عَادَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ، فَقَالَ: قَدْ عَزَلَهُ. لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا. فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِمَا رَجَعَ عَنْهُ الشَّاهِدُ. وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ عَادَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: قَدْ عَزَلَهُ بَعْدَ مَا وَكَّلَهُ. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِالشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ. فَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: قَدْ كَانَ عَزَلَهُ؛ ثَبَتَ الْعَزْلُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَمَّتْ فِي الْعَزْلِ، كَتَمَامِهَا فِي التَّوْكِيلِ. [فَصْلٌ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ يَوْمَ السَّبْتِ] (3806) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ يَوْمَ السَّبْتِ، لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غَيْرُ التَّوْكِيلِ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِتَوْكِيلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ إخْبَارٌ عَنْ عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَيَشُقُّ جَمْعَ الشُّهُودِ لِيُقِرَّ عِنْدَهُمْ حَالَةً وَاحِدَةً، فَجُوِّزَ لَهُ الْإِقْرَارُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالْوَكَالَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ، ثَبَتَتْ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ التَّوْكِيلِ بِالْعَجَمِيَّةِ، فَلَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: وَكَّلْتُك. وَشَهِدَ الْآخَرُ، أَنَّهُ قَالَ: أَذِنْت لَك فِي التَّصَرُّفِ. أَوْ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلْتُك وَكِيلًا. أَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلْتُك جَرْيًا. لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 مُخْتَلِفٌ. وَالْجَرْيُ: الْوَكِيلُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَحْكِيَا لَفْظَ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَا عَنْهُ بِلَفْظِهِمَا، وَاخْتِلَافُ لَفْظِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ إذَا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ وَكَّلَهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ جَرْيُهُ. أَوْ أَنَّهُ أَوْصَى إلَيْهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَيَاتِهِ. ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ بِذَلِكَ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ وَزَيْدًا، أَوْ شَهِدَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ، وَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي، أَوْ تَسْتَأْمِرَ فُلَانًا. لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَ اسْتِقْلَالَهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَالثَّانِيَ يَنْفِي ذَلِكَ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَجَارِيَتِهِ، حَكَمَ بِالْوَكَالَةِ فِي الْعَبْدِ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ الثَّانِي لَا تَقْدَحُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي الْأَوَّلِ، فَلَا تَضُرُّهُ. وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ لِزَيْدٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ لِزَيْدِ وَإِنْ شَاءَ لِعَمْرٍو. [فَصْلٌ الْوَكَالَةُ وَالْعَزْلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] (3807) فَصْلٌ: وَلَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ وَالْعَزْلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً. وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِلْمُخْبَرِ بِذَلِكَ، إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ، بِشَرْطِ الضَّمَانِ إنْ أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ. وَيَثْبُتُ الْعَزْلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ رَسُولًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي هَذَا يَشُقُّ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَلِأَنَّهُ أَذِنَ فِي التَّصَرُّفِ وَمَنَعَ مِنْهُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي هَذَا شُرُوطُ الشَّهَادَةِ، كَاسْتِخْدَامِ غُلَامِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ مَالِيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، كَالْبَيْعِ، وَفَارَقَ الِاسْتِخْدَامَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَ فُلَانًا الْحَاضِرَ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: مَا عَلِمْت هَذَا، وَأَنَا أَتَصَرَّفُ عَنْهُ. ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَعْلَمْ إلَى الْآنَ، وَقَبُولُ الْوَكَالَةِ يَجُوزُ مُتَرَاخِيًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوْكِيلِ حُضُورُ الْوَكِيلِ وَلَا عِلْمُهُ، فَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ صِدْقَ الشَّاهِدَيْنِ. لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ؛ لِقَدْحِهِ فِي شَهَادَتِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: مَا عَلِمْت. وَسَكَتَ، قِيلَ لَهُ: فَسِّرْ. فَإِنْ فَسَّرَ بِالْأَوَّلِ ثَبَتَتْ وَكَالَتُهُ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِالثَّانِي لَمْ تَثْبُتْ. [فَصْلٌ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ عَلَى الْغَائِبِ] (3808) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَنِي فِي كَذَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حُضُورُهُ كَغَيْرِهِ. وَإِذَا قَالَ لَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ: احْلِفْ أَنَّك تَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتِي. لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَعْنٌ فِي الشَّهَادَةِ. وَإِنْ قَالَ: قَدْ عَزَلَك الْمُوَكِّلُ، فَاحْلِفْ أَنَّهُ مَا عَزَلَك. لَمْ يُسْتَحْلَفْ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْيَمِينُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 تَعْلَمُ أَنَّ مُوَكِّلَك قَدْ عَزَلَك. سُمِعَتْ دَعْوَاهُ. وَإِنْ طَلَبَ الْيَمِينَ مِنْ الْوَكِيلِ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوَكِّلَهُ عَزَلَهُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَامَ الْخَصْمُ بَيِّنَةً بِالْعَزْلِ، سُمِعَتْ، وَانْعَزَلَ الْوَكِيلُ. [فَصْلٌ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ] (3809) فَصْلٌ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضَرَرًا. وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِيمَا لَمْ يُوَكِّلْهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقًّا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ حَقٍّ، فَشَهِدَ بِهِ لَهُ، ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ قَبْضِهِ، وَلِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُخَاصَمَةَ فِيهِ. فَإِنْ شَهِدَ بِمَا كَانَ وَكِيلًا فِيهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ خَاصَمَ فِيهِ بِالْوَكَالَةِ أَوْ لَمْ يُخَاصِمْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ لَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِيهِ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بِعَقْدِ الْوَكَالَةِ صَارَ خَصْمًا فِيهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ خَاصَمَ فِيهِ، وَفَارَقَ مَا لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْن نَفْسَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّ زَوْجَهَا وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا] (3810) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ نَفْسَيْنِ، فَشَهِدَا أَنَّ زَوْجَهَا وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ زَوَالُ حَقِّ الزَّوْجِ مِنْ الْبُضْعِ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُمَا. وَإِنْ شَهِدَا بِعَزْلِ الْوَكِيلِ فِي الطَّلَاقِ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ إبْقَاءُ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الرَّجُلِ لَهُ بِالْوَكَالَةِ، وَلَا أَبَوَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لَهُ حَقَّ التَّصَرُّفِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ حَقٌّ بِشَهَادَةِ ابْنِهِ وَلَا أَبِيهِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْمُوَكِّلِ، وَلَا أَبَوَيْهِ بِالْوَكَالَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ عَلَى الْمُوَكِّلِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَكِيلُ الْمُطَالَبَةَ، فَقُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ قَرَابَةِ الْمُوَكِّلِ، كَالْإِقْرَارِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا حَقٌّ لِأَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ، كَشَهَادَةِ ابْنَيْ الْوَكِيلِ وَأَبَوَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لِأَبِيهِمَا نَائِبًا مُتَصَرِّفًا لَهُ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهِ مُتَمَحِّضَةٌ. وَلَوْ ادَّعَى الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ، فَأَنْكَرَهَا الْمُوَكِّلُ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ ابْنَاهُ أَوْ أَبَوَاهُ، ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ وَأُمْضِيَ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ ادَّعَى الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِوَكَالَتِهِ، وَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ أَوْ ابْنَاهُ، قُبِلَ أَيْضًا؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ ادَّعَى وَكِيلٌ لِمُوَكِّلِهِ الْغَائِبِ حَقًّا، وَطَالَبَ بِهِ، فَادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ عَزَلَهُ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ ابْنَا الْمُوَكِّلِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَثَبَتَ الْعَزْلُ بِهَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا. وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْخَصْمُ عَزْلَهُ، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِمَنْ لَا يَدَّعِيهَا. فَإِنْ قَبَضَ الْوَكِيلُ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ، وَادَّعَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَلَ الْوَكِيلَ، وَأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، وَشَهِدَ لَهُ ابْنَاهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ حَقًّا لِأَبِيهِمَا. وَلَوْ ادَّعَى مُكَاتَبٌ الْوَكَالَةَ، فَشَهِدَ لَهُ سَيِّدُهُ، أَوْ ابْنَا سَيِّدِهِ، أَوْ أَبَوَاهُ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَشْهَدُ لِعَبْدِهِ، وَابْنَاهُ يَشْهَدَانِ لِعَبْدِ أَبِيهِمَا، وَالْأَبَوَانِ يَشْهَدَانِ لِعَبْدِ ابْنِهِمَا. فَإِنْ عَتَقَ، فَأَعَادَ الشَّهَادَةَ، فَهَلْ تُقْبَلُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ حَضَرَا عِنْد الْحَاكِمِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآخَرَ وَكَّلَهُ ثُمَّ غَابَ الْمُوَكِّلُ وَحَضَرَ الْوَكِيلُ] (3811) فَصْلٌ: إذَا حَضَرَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآخَرَ وَكَّلَهُ، ثُمَّ غَابَ الْمُوَكِّلُ، وَحَضَرَ الْوَكِيلُ، فَقَدَّمَ خَصْمًا لِمُوَكِّلِهِ، وَقَالَ: أَنَا وَكِيلُ فُلَانٍ. فَأَنْكَرَ الْخَصْمُ كَوْنَهُ وَكِيلَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ. لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِوَكَالَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ. وَكَانَ الْحَاكِمُ يَعْرِفُ الْمُوَكِّلَ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، صَدَّقَهُ، وَمَكَّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ كَالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ بِالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَثْبِيتَ نَسَبِهِ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ. [فَصْلٌ حَضَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ رَجُلٌ فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ] (3812) فَصْلٌ: وَلَوْ حَضَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ رَجُلٌ، فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ، فِي شَيْءٍ عَيَّنَهُ، وَأَحْضَرَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِالْوَكَالَةِ، سَمِعَهَا الْحَاكِمُ. وَلَوْ ادَّعَى حَقًّا لِمُوَكِّلِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ وَكَالَتِهِ، لَمْ يَسْمَعْ الْحَاكِمُ دَعْوَاهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَسْمَعُهَا إلَّا أَنْ يُقَدِّمَ خَصْمًا مِنْ خُصَمَاءِ الْمُوَكِّلِ، فَيَدَّعِيَ عَلَيْهِ حَقًّا، فَإِذَا أَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الْبَيِّنَةَ، فَحَصَلَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْحَاكِمَ عِنْدَنَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ خَصْمٍ، وَعِنْدَهُ لَا يَسْمَعُ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِمُوَكِّلِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ وَكَالَتِهِ، وَعِنْدَهُ تُسْمَعُ. وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تُلْزِمُ الْخَصْمَ، مَا لَمْ يَجِبْ الْوَكِيلُ عَنْ دَعْوَى الْخَصْمِ أَنَّك لَسْت بِوَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْوَكَالَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حُضُورِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَكَّلُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً فَأُحْضِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْبَاقِينَ لَا يُفْتَقَرُ إلَى حُضُورِهِمْ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ إلَّا مِنْ خَصْمٍ يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مُوَكِّلِهِ، وَهَذَا لَا يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِمَنْ يَدَّعِي لَهُ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى لِمَنْ لَمْ يَدَّعِ وَكَالَتَهُ، وَفِي هَذَا الْأَصْلِ جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 [فَصْلٌ حَضَرَ رَجُلٌ وَادَّعَى عَلَى غَائِبٍ مَالًا فِي وَجْهِ وَكِيلِهِ فَأَنْكَرَهُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ] (3813) فَصْلٌ: وَلَوْ حَضَرَ رَجُلٌ، وَادَّعَى عَلَى غَائِبٍ مَالًا فِي وَجْهِ وَكِيلِهِ، فَأَنْكَرَهُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، حَلَّفَهُ الْحَاكِمُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْمَالِ. فَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ، وَجَحَدَ الْوَكَالَةَ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَلَهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُضُورِ وَكِيلِهِ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةِ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَك] (3814) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَك. صَحَّ، وَاسْتَحَقَّ الزِّيَادَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ بِإِذْنِهِ، فَصَحَّ شَرْطُ الرِّبْحِ لَهُ فِي الثَّانِي، كَالْمُضَارِبِ وَالْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 [كِتَابُ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ] ِ الْإِقْرَارُ: هُوَ الِاعْتِرَافُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] . فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ بِالزِّنَى، فَرَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الْغَامِدِيَّةُ، وَقَالَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارَ. وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَالرِّيبَةَ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ كَذِبًا يُضِرُّ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ آكَدَ مِنْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا اعْتَرَفَ لَا تُسْمَعُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ إذَا أَنْكَرَ، وَلَوْ كَذَّبَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُسْمَعْ، وَإِنْ كَذَّبَ الْمُقِرَّ ثُمَّ صَدَّقَهُ سُمِعَ. (3815) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ. فَأَمَّا الطِّفْلُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُبَرْسَمُ، وَالنَّائِمُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمْ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» . فَنَصَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ غَائِبِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ، كَالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ، صَحَّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي الْيَتِيمِ: إذَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، جَازَ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى: إنَّمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِيهِ، فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحَالٍ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ، وَلِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَاقِلٌ مُخْتَارٌ، يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ، كَالْبَالِغِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا مَضَى، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ التَّكْلِيفِ وَالْإِثْمِ. فَإِنْ أَقَرَّ مُرَاهِقٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُقَرُّ لَهُ فِي بُلُوغِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِبُلُوغِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ. وَلَا يَحْلِفُ الْمُقِرُّ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 بِعَدَمِ بُلُوغِهِ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَا بَعْدَ ثُبُوتِ بُلُوغِهِ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا. وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ مُبَاحٍ أَوْ مَعْذُورٍ فِيهِ، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ، لَا يُسْمَعُ إقْرَارُهُ. بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ، كَالسَّكْرَانِ، وَمَنْ شَرِبَ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ عَامِدًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَجْرِي مَجْرَى الصَّاحِي. وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، كَالْمَجْنُونِ الَّذِي سَبَّبَ جُنُونَهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يُوثَقُ بِصِحَّةِ مَا يَقُولُ، وَلَا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ مَعْنَى الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِ قَوْلِهِ. وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.» وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِرَجُلٍ، فَأَقَرَّ لِغَيْرِهِ، أَوْ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ، فَيُقِرَّ بِغَيْرِهِ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ، فَأَقَرَّ بِطَلَاقِ أُخْرَى، أَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ابْتِدَاءً. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ، فَبَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِيُؤَدِّيَ ذَلِكَ، صَحَّ بَيْعُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْبَيْعِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ أَقَرَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةً عَلَى الْإِكْرَاهِ، كَالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِكْرَاهِ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ حَالَ إقْرَارِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهَا. وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِإِقْرَارِهِ، لَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يَقُولُوا طَوْعًا فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَةُ الْحَالِ وَصِحَّةُ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ إقْرَارِ السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضِ فِي أَبْوَابِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ مَوْلَاهُ. وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا الْمَالَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَيَجِبُ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَهِيَ مَالُ السَّيِّدِ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ، كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ. وَأَمَّا إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَالْمُزَنِيُّ وَدَاوُد وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ سَيِّدِهِ بِإِقْرَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّهُ يُقِرُّ لِرَجُلٍ لِيَعْفُوَ عَنْهُ، وَيَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ، فَيَتَخَلَّصُ بِذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ، كَمَا دُونَ النَّفْسِ. وَبِهَذَا الْأَصْلِ يَنْتَقِضُ دَلِيلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 الْأَوَّلِ. وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَصِحُّ عَفْوُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالٍ إلَّا بِاخْتِيَارِ سَيِّدِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ عَلَى سَيِّدِهِ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ، وَلَا شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَا بِجِنَايَةِ عَمْدٍ مُوجِبُهَا الْمَالُ، كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، لِأَنَّهُ إيجَابُ حَقٍّ فِي رَقَبَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْمَوْلَى. وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ حَقٍّ فِي مَالِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مُوجِبُهَا الْمَالُ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ، وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ مُوجِبُهَا الْقَطْعَ وَالْمَالَ، فَأَقَرَّ بِهَا الْعَبْدُ، وَجَبَ قَطْعُهُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ بَاقِيًا، أَوْ تَالِفًا فِي يَدِ السَّيِّدِ أَوْ يَدِ الْعَبْدِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي عَبْدٍ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ دَرَاهِمَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ سَرَقَهَا مِنْ رَجُلٍ، وَالرَّجُلُ يَدَّعِي ذَلِكَ، وَسَيِّدُهُ يُكَذِّبُهُ: فَالدَّرَاهِمُ لِسَيِّدِهِ، وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ، وَيُتْبَعُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ، فَيُدْرَأُ بِهَا الْقَطْعُ، لِكَوْنِهِ حَدًّا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي يُقِرُّ بِسَرِقَتِهَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ السَّرِقَةِ فِيهَا، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْقَطْعِ بِهَا. وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالرِّقِّ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ، وَالْعَبْدُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِحَالٍ، وَلِأَنَّنَا لَوْ قَبِلْنَا إقْرَارَهُ، أَضْرَرْنَا بِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ إذَا شَاءَ أَقَرَّ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَبْطَلَ مِلْكَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ لِرَجُلِ، وَأَقَرَّ هُوَ لِآخَرَ، فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ السَّيِّدِ، لَا فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ مُنْفَرِدًا قُبِلَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُقْبَلْ، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُ الْعَبْدِ مُنْفَرِدًا فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَعَ مُعَارَضَتِهِ لِإِقْرَارِ السَّيِّدِ؟ . وَلَوْ قُبِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ، لَمَا قُبِلَ إقْرَارُ السَّيِّدِ، كَالْحَدِّ وَجِنَايَةِ الْعَمْدِ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحُرِّ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ خَطَأً صَحَّ إقْرَارُهُ، فَإِنْ عَجَزَ بِيعَ فِيهَا إنْ لَمْ يَفْدِهِ سَيِّدُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُسْتَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَجَزَ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِهَا، سَوَاءٌ قُضِيَ بِهَا أَوْ لَمْ يُقْضَ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ مُرَاعًى إنْ أَدَّى لَزِمَهُ، وَإِنْ عَجَزَ بَطَلَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ لَزِمَهُ فِي كِتَابَتِهِ، فَلَا يَبْطُلُ بِعَجْزِهِ، كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. وَعَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ، كَالْحُرِّ. [فَصْل الْإِقْرَارُ لِكُلِّ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ] (3816) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِكُلِّ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ. فَإِذَا أَقَرَّ لِعَبْدٍ بِنِكَاحٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ، صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ، صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ. وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مُطَالَبَةٌ بِهِ وَلَا عَفْوٌ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْعَبْدُ، لَمْ يَقْبَلْ. وَإِنْ أُقِرَّ لَهُ بِمَالٍ، صَحَّ، وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ الْمَالَ. صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 كَانَ الْإِقْرَارُ لِمَوْلَاهُ، يَلْزَمُ بِتَصْدِيقِهِ وَيَبْطُلُ بِرَدِّهِ. وَإِنْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ أَوْ دَارٍ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهَا، وَكَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْمَالَ مُطْلَقًا، وَلَا يَدَ لَهَا. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لَأَحَدٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِمَنْ هِيَ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ ذِكْرُ الْمُقَرِّ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: لِمَالِكِهَا أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ بِسَبَبِهَا أَلْفٌ. صَحَّ الْإِقْرَارُ. وَإِنْ قَالَ: بِسَبَبِ حَمْلِ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ. لَمْ يَصِحَّ، إذْ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءٍ بِسَبَبِ الْحَمْلِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالِ وَعَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ] (3817) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ، وَعَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، صَحَّ، وَكَانَ لِلْحَمْلِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ يَصِحُّ. وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ، فَصَحَّ لَهُ الْإِقْرَارُ الْمُطْلَقُ، كَالطِّفْلِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ عَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمَا لِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا أَنْ يَعْزِيَهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِغَيْرِهِمَا. فَإِنْ وَلَدَتْ الْوَلَدَ مَيِّتًا، وَكَانَ قَدْ عَزَا الْإِقْرَارَ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، عَادَتْ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَمَوْرُوثِ الطِّفْلِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ، كُلِّفَ ذِكْرَ السَّبَبِ، فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّفْسِيرُ بِمَوْتِهِ أَوْ غَيْرِهِ، بَطَلَ إقْرَارُهُ، كَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ لَا يَعْرِفُ مَنْ أَرَادَ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ عَزَا الْإِقْرَارَ إلَى جِهَةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، فَقَالَ: لِهَذَا الْحَمْلُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَقْرَضَنِيهَا، أَوْ وَدِيعَةٌ أَخَذْتهَا مِنْهُ. فَعَلَى قَوْلِ التَّمِيمِيِّ، الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ، فَيَسْقُطُ مَا وَصَلَهُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا تَلْزَمُنِي. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ جَعَلْتهَا لَهُ. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهِيَ عِدَّةٌ لَا يُؤْخَذُ بِهَا. وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَحَمْلٍ إلَّا إذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْإِقْرَارِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَصْنَعٍ أَوْ طَرِيقٍ، وَعَزَاهُ إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ، مِثْلِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ غَلَّةِ وَقْفِهِ. صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة أَقَرَّ بِشَيْءِ وَاسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلًا، إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ وَرِقًا مِنْ عَيْنٍ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ: (3819) أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَبِهَذَا قَالَ زُفَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ اسْتَثْنَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، جَازَ، وَإِنْ اسْتَثْنَى عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، لَمْ يَجُزْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا - إِلا قِيلا سَلامًا} [الواقعة: 25 - 26] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَقَالَ آخَرُ: عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا أُوَارِي لَأَيًّا مَا أُبَيِّنُهَا وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيه لَوْلَاهُ. وَقِيلَ: هُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ ثَنَيْت فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ. إذَا صَرَفْته عَنْ رَأْيٍ كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ. وَثَنَيْت عِنَانَ دَابَّتِي. إذَا صَرَفْتهَا بِهِ عَنْ وِجْهَتِهَا الَّتِي كَانَتْ تَذْهَبُ إلَيْهَا. وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ، فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اسْتِثْنَاءً تَجَوُّزًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ. " وَإِلَّا " هَاهُنَا بِمَعْنَى " لَكِنْ ". هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَحَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ لَا يَأْتِي إلَّا بَعْدَ الْجَحْدِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ إلَّا بَعْدَ النَّفْيِ، وَلَا يَأْتِي بَعْدَهُ الْإِثْبَاتُ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا مَدْخَلَ لِلِاسْتِدْرَاكِ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْمُقِرِّ بِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ جُمْلَةٍ كَأَنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ. فَيَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ مُدَّعِيًا لَشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِغَيْرِ لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} [الكهف: 50] فَإِنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِالسُّجُودِ غَيْرَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ، وَلَا عَاصِيًا بِتَرْكِهِ، وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] . وَلَا قَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا فَلِمَ أَنْكَسَهُ اللَّهُ وَأَهْبَطَهُ وَدَحَرَهُ؟ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالسُّجُودِ إلَّا الْمَلَائِكَةَ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ تَنَاوَلَ الْأَمْرُ الْمَلَائِكَةَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَدَخَلَ إبْلِيسُ فِي الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ مَعَهُمْ. قُلْنَا: قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلَالُكُمْ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ إبْلِيسُ دَاخِلًا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ، فَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجِنْسِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا، مَتَى قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا. لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَكِنْ لِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 (3820) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا اسْتَثْنَى عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ وَرِقًا مِنْ عَيْنٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ؛ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَاخْتَارَ الْخِرَقِيِّ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ أَحَدِهِمَا مَعْلُومٌ مِنْ الْآخَرِ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَآخَرُونَ يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ، عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فِي مَوْضِعٍ يُعَبِّرُ فِيهِ بِالدِّينَارِ عَنْ تِسْعَةٍ، كَانَ مَعْنَاهُ: لَهُ عَلَيَّ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً. وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، لَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهُ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَوَجَبَ تَصْحِيحُهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، فَيَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْآخَرِ، أَوْ يُعْلَمُ قَدْرُهُ مِنْهُ، وَرِوَايَةِ الْبُطْلَانِ عَلَى مَا إذَا انْتَفَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ جِنْسٍ وَاسْتَثْنَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي الْإِقْرَارِ] (3821) فَصْلٌ: وَلَوْ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ جِنْسٍ وَاسْتَثْنَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةُ آصُعٍ تَمْرًا بَرْنِيًّا، إلَّا ثَلَاثَةً تَمْرًا مَعْقِلِيًّا. لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَيُخَالِفُ الْعَيْنَ وَالْوَرِقَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُهُ؛ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ مِنْ النَّوْعَيْنِ، فَهُمَا كَالْعَيْنِ وَالْوَرِقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ غَيْرُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِقْرَارِ] (3822) فَصْلٌ: فَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَائِزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] . وَقَالَ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهِيدِ: «يُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كُلُّهَا إلَّا الدَّيْنَ.» وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ، وَفِي سَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ. فَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ، كَانَ مُقِرًّا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا عَشْرَةً. كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعِينَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَمَا أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْعَشَرَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ إنْكَارُهَا. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] . إخْبَارٌ بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 فَالِاسْتِثْنَاءُ بَيَّنَ أَنَّ الْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَاةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ غَيْرُ مُرَادٍ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إلَّا هَذَا الْبَيْتَ. كَانَ مُقِرًّا بِمَا سِوَى الْبَيْتِ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إلَّا ثُلُثَهَا، أَوْ رُبُعَهَا. صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِالْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَهُ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِي. صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِكَوْنِهِ أَخْرَجَ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ إلَّا هَذَا. صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِمَنْ سِوَاهُ مِنْهُمْ. وَإِنْ قَالَ: إلَّا وَاحِدًا. صَحَّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَصِحُّ مَجْهُولًا، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَثْنَى إلَيْهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بِهِ. وَإِنْ عَيَّنَ مَنْ عَدَا الْمُسْتَثْنَى، صَحَّ، وَكَانَ الْبَاقِي لَهُ. فَإِنْ هَلَكَ الْعَبِيدُ إلَّا وَاحِدًا، فَذَكَرَ أَنَّهُ الْمُسْتَثْنَى، قُبِلَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا يُقْبَلُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُرْفَعُ بِهِ الْإِقْرَارُ كُلُّهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، فَقُبِلَ كَحَالَةِ حَيَاتِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا رَفْعًا لِلْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُقَرّ بِهِ لِتَلَفِهِ، لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى التَّفْسِيرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَيَّنَهُ فِي حَيَاتِهِمْ، فَتَلِفَ بَعْدَ تَعْيِينِهِ. وَإِنْ قُتِلَ الْجَمِيعُ إلَّا وَاحِدًا، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِالْبَاقِي، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ قُتِلَ الْجَمِيعُ، فَلَهُ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ، وَيُرْجَعُ فِي التَّفْسِيرِ إلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُك هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ إلَّا وَاحِدًا. فَهَلَكُوا إلَّا وَاحِدًا؛ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ الْهَالِكِينَ، فَلَا يُفْضِي التَّفْسِيرُ بِالْبَاقِي إلَى سُقُوطِ الْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا فَصْلٌ (3823) : وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ بِسَائِرِ أَدَوَاتِهِ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ سِوَى دِرْهَمٍ، أَوْ لَيْسَ دِرْهَمًا، أَوْ خَلَا دِرْهَمًا، أَوْ عَدَا دِرْهَمًا، أَوْ مَا خَلَا أَوْ مَا عَدَا دِرْهَمًا، أَوْ لَا يَكُونُ دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَ دِرْهَمٍ. بِفَتْحِ الرَّاءِ، كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعَةٍ. وَإِنْ قَالَ: غَيْرُ دِرْهَمٍ، بِضَمِّ رَائِهَا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، كَانَ مُقِرًّا بِعَشْرَةٍ، لِأَنَّهَا تَكُونُ صِفَةً لِلْعَشَرَةِ الْمُقَرِّ بِهَا، وَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً. فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ اسْتِثْنَاءً كَانَتْ مَنْصُوبَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لَزِمَهُ تِسْعَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ لَكِنَّهُ رَفَعَهَا جَهْلًا مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَا قَصْدًا لِلصِّفَةِ. [فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ] (3824) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ، فَإِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى بِكَلَامِ أَجْنَبِيٍّ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ أَوْ عَدَلَ عَنْ إقْرَارِهِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، اسْتَقَرَّ حُكْمُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَيَنْتَظِرُ مَا يَتِمُّ بِهِ كَلَامُهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْعَطْفِ وَالْبَدَلِ وَنَحْوِهِ. [فَصْل اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ فِي الْإِقْرَار] (3825) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَفَعَ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ رَفَعَ الْكُلَّ، فَلَوْ صَحَّ صَارَ الْكَلَامُ كُلُّهُ لَغْوًا غَيْرَ مُفِيدٍ، فَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا. أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إلَّا دِرْهَمَيْنِ. أَوْ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفًا، أَوْ إلَّا دِرْهَمًا. أَوْ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ إلَّا خَمْسَةً. لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَزِمَهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ، وَتَجْعَلُ الْجُمْلَتَيْنِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، عَادَ إلَى جَمِيعِهَا، كَقَوْلِنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَادَ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَمْ تُخْرِجْ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُمْلَتَيْنِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ إحْدَاهُمَا جَمِيعًا، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا فِي كَلَامِهِمْ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَجْعَلُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَغْوًا، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شَيْئًا بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ، ثُمَّ رَفَعَهُ كُلَّهُ، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى مِنْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَعْطُوفَةٍ عَلَى بَعْضِهَا، فَأَمَّا الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَرْفَعْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ، إنَّمَا أَخْرَجَ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ، فَنَظِيرُهُ مَا لَوْ قَالَ لِلْبَوَّابِ: مَنْ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ فَأْذَنْ لَهُ، وَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، إلَّا فُلَانًا. وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا إلَّا عَمْرًا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمَانِ وَثَلَاثَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى كُلَّهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا إلَّا زَيْدًا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيه، وَاسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فَاسِدٌ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 [فَصْلٌ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ وَعَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْإِقْرَار] (3826) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، وَعَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، وَإِلَّا دِرْهَمَيْنِ. كَانَ مُسْتَثْنِيًا لِخَمْسَةِ مُبْقِيًا لِخَمْسَةٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَوَّلِ، كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، قَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60] . فَإِذَا كَانَ صَدْرُ الْكَلَامِ إثْبَاتًا، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ نَفْيًا وَالثَّانِي إثْبَاتًا، فَإِنْ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً ثَالِثًا، كَانَ نَفْيًا يَعُودُ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى مَا يَلِيهِ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمًا. كَانَ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عَشْرَةً، ثُمَّ نَفَى مِنْهَا ثَلَاثَةً وَأَثْبَتَ دِرْهَمًا، وَبَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَنْفِيَّةِ دِرْهَمَانِ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ الْعَشَرَةِ، فَيَبْقَى مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ، وَسَنَزِيدُ لِهَذَا الْفَصْلِ فُرُوعًا فِي مَسْأَلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ هَذِهِ الدَّارُ هِبَةً أَوْ سُكْنَى أَوْ عَارِيَّة فِي الْإِقْرَار بِالْحُقُوقِ] (3827) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ هِبَةً، أَوْ سُكْنَى، أَوْ عَارِيَّةٌ كَانَ إقْرَارًا بِمَا أَبْدَلَ بِهِ كَلَامَهُ، وَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ بِآخِرِ كَلَامِهِ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي أَوَّلِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِجُمْلَةٍ وَاسْتَثْنَى بَعْضَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي هَذَا وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِثْنَاءً، إنَّمَا هَذَا بَدَلٌ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ. وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَدَلِ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، وَهُوَ أَنْ يُبْدِلَ مِنْ الشَّيْءِ بَعْضَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] . فَأَبْدَلَ الْقِتَالَ مِنْ الشَّهْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنَّهُ قَالَ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] . أَيْ أَنْسَانِي ذِكْرَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ ثُلُثُهَا. أَوْ قَالَ: رُبْعُهَا. صَحَّ، وَيَكُونُ مُقِرًّا بِالْجُزْءِ الَّذِي أَبْدَلَهُ، وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاسْتِثْنَاءٍ. وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَلَكِنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، فِي كَوْنِهِ يُخْرِجُ مِنْ الْكَلَامِ بَعْضَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ لَوْلَاهُ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْدَلَ الْمُسْتَطِيعَ لِلْحَجِّ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِمْ، وَأَبْدَلَ الْقِتَالَ مِنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ غَيْرُهُ؟ وَمَتَى قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ سُكْنَى أَوْ عَارِيَّةٌ ثَبَتَ فِيهَا حُكْمُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ لَا يُسْكِنَهُ إيَّاهَا، وَأَنْ يَعُودَ فِيمَا أَعَارَهُ. [مَسْأَلَة اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقَالَ قَدْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْته] (3828) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 حَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً بِغَيْرِ هَذَا. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْحَقِّ، مُدَّعٍ لِقَضَائِهِ، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْقَضَاءِ؛ وَإِلَّا حَلَفَ غَرِيمُهُ وَأَخَذَ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَادَّعَى الْقَضَاءَ، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْقَضَاءَ بِكَلَامِ مُنْفَصِلٍ، وَلِأَنَّهُ رَفَعَ جَمِيعَ مَا أَثْبَتَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ قَوْلٌ مُتَّصِلٌ، يُمْكِنُ صِحَّتُهُ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ، وَفَارَقَ الْمُنْفَصِلَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ قَدْ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ بَعْضُهُ بِاسْتِثْنَاءِ وَلَا غَيْرِهِ، فَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ دَعْوَى الْقَضَاءِ يَكُونُ دَعْوَى مُجَرَّدَةً، لَا تُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةِ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ فَمُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. (3829) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ، وَقَضَيْتُهُ مِنْهَا خَمْسِينَ. فَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَالَ: وَقَضَيْتهَا. وَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: لِي عَلَيْك مِائَةٌ. فَقَالَ: قَضَيْتُك مِنْهَا خَمْسِينَ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَاهَا فِي كَلَامِهِ مَا تَمْنَعُ بَقَاءَهَا، وَهُوَ دَعْوَى الْقَضَاءِ، وَبَاقِي الْمِائَةِ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَوْلُهُ: مِنْهَا. يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا مِمَّا يَدَّعِيه، وَيَحْتَمِلُ مِمَّا عَلَيَّ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِكَلَامٍ مُحْتَمِلٍ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْخَمْسُونَ الَّتِي ادَّعَى قَضَاءَهَا؛ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ دَعْوَى الْقَضَاءِ إقْرَارًا بِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. [فَصْلٌ قَالَ كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَسَكَتَ فِي الْإِقْرَار بِالْحُقُوقِ] (3830) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. وَسَكَتَ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْحَالِ، إنَّمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَجَازَ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، فَلَا يَثْبُتْ فِي الْحَالِ، وَلِذَلِكَ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَرْفَعُهُ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ تَنَازَعَا دَارًا، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ، حُكِمَ بِهَا لَهُ، إلَّا أَنَّهُ هَاهُنَا إنْ عَادَ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ الْإِبْرَاءَ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إقْرَارِهِ وَبَيْنَ مَا يَدَّعِيه. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْته إيَّاهَا فِي الْإِقْرَار بِالْحُقُوقِ] (3831) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، قَضَيْته إيَّاهَا. لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْقَضَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وَقَالَ الْقَاضِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ بِدَعْوَى الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَضَيْته. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى إنْ قَالَ: قَضَيْت جَمِيعَهُ. لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ. وَلَوْ قَالَ: قَضَيْت بَعْضَهُ. قُبِلَ مِنْهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَثْنَاهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: قَضَيْت جَمِيعَهُ. لِكَوْنِهِ رَفَعَ جَمِيعَ مَا هُوَ ثَابِتٌ، فَأَشْبَهَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفٌ قَدْ قَضَاهُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي بَقَاءَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَاسْتِحْقَاقَ مُطَالَبَتِهِ بِهِ، وَقَضَاؤُهُ يَقْتَضِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، وَتَحْرِيمَ مُطَالَبَتِهِ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ، وَالْقَضَاءُ يَقْتَضِي رَفْعَهُ، وَهَذَانِ ضِدَّانِ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَضَيْته. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْتَفِعَ مَا كَانَ ثَابِتًا، وَيَقْضِيَ مَا كَانَ دَيْنًا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا فِي الْجَمِيعِ، لَمْ يَصِحَّ فِي الْبَعْضِ؛ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ أَلْفٍ عَلَيْهِ وَقَدْ قَضَى بَعْضَهُ، وَيُفَارِقُ الِاسْتِثْنَاءَ؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] . عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. أَمَّا الْقَضَاءُ فَإِنَّمَا يَرْفَعُ جُزْءًا كَانَ ثَابِتًا، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ. [فَصْلٌ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ] فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ، فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مِنْ ثَمَنِ طَعَامٍ اشْتَرَيْته فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، أَوْ تَكَفَّلْت بِهِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ. لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ زُيُوفٌ. فَفَسَّرَهُ بِرَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ كُلَّ مَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَقَالَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزَا إقْرَارَهُ إلَى سَبَبِهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ عَزَاهُ إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَالصُّورَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي. أَوْ يَقُولُ: دَفَعَ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ. فَلَمْ يُقْبَلْ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. وَغَيْرُ خَافٍ تَنَاقُضُ كَلَامِهِ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَلْفٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِقْرَارُهُ إخْبَارٌ بِثُبُوتِهِ، فَيَتَنَافَيَانِ، وَإِنْ سَلَّمَ ثُبُوتَ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا قُلْنَاهُ. [فَصْلٌ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ] (3832) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ، إلَّا فِيمَا كَانَ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى، يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَيُحْتَاطُ لِإِسْقَاطِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ، لَا بَلْ لِعَمْرٍو. أَوْ ادَّعَى زَيْدٌ عَلَى مَيِّتٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ تَرِكَتِهِ، فَصَدَّقَهُ ابْنُهُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَمْرٌو، فَصَدَّقَهُ، حُكِمَ بِهِ لِزَيْدٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ غَرَامَتُهُ لِعَمْرٍو. وَهَذَا ظَاهِرُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَغْرَمُ لِعَمْرٍو شَيْئًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْحُكْمُ مِنْ قَبُولِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَالَ بَيْنَ عَمْرٍو وَبَيْنَ مِلْكِهِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ غُرْمُهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى آخَرَ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ كَمَا لَوْ رَمَى بِهِ إلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ، لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو. أَوْ غَصَبْتهَا مِنْ زَيْدٍ، وَغَصَبَهَا زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو. حُكِمَ بِهَا لِزَيْدِ، وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، وَيَغْرَمُهَا لِعَمْرٍو. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَضْمَنُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ وَالرَّدِّ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ مَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ: اسْتَوْدَعْتُك هَذَا الثَّوْبَ. قَالَ: صَدَقْت، ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْدَعَنِيهِ رَجُلٌ آخَرِ. فَالثَّوْبُ لِلْأَوَّلِ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِلْآخَرِ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بِكَلَامِ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ. [فَصْلٌ قَالَ غَصَبْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَمِلْكُهَا لِعَمْرِو فِي الْإِقْرَار بِالْحُقُوقِ] (3833) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: غَصَبْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ، وَمِلْكُهَا لِعَمْرٍو. لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَى زَيْدٍ؛ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهَا فِي يَدِهِ بِحَقٍّ، وَمِلْكُهَا لِعَمْرٍو لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ زَيْدٍ بِإِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَلَا يَغْرَمُ لِعَمْرِو شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ. وَفَارَقَ هَذَا مَا إذَا قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ، بَلْ لِعَمْرِو؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِلثَّانِيَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ، فَكَانَ الثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِتَعَارُضِهِمَا، وَهَا هُنَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ إقْرَارَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: مِلْكُهَا لِعَمْرٍو، وَغَصَبْتهَا مِنْ زَيْدٍ. فَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إلَى عَمْرٍو، وَيَغْرَمُهَا لِزَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو أَوَّلًا، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالْيَدِ لِزَيْدِ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْأَلْفُ دَفَعَهُ إلَيَّ زَيْدٌ، وَهُوَ لِعَمْرٍو. أَوْ قَالَ: هُوَ لِعَمْرٍو دَفَعَهُ إلَيَّ زَيْدٌ. فَكَذَلِكَ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ. [فَصْلٌ قَالَ غَصَبْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ هِيَ لِأَحَدِهِمَا] (3834) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتهَا مِنْ أَحَدِهِمَا. أَوْ هِيَ لِأَحَدِهِمَا. صَحَّ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ، فَيَصِحُّ لِلْمَجْهُولِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وَيُطَالَبُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا دُفِعَتْ إلَيْهِ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ إنْ ادَّعَاهَا، وَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا. فَصَدَّقَاهُ، نُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَا خَصْمَيْنِ فِيهَا، وَإِنْ كَذَّبَاهُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَتُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ. فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ. وَإِنْ بَيَّنَ الْغَاصِبُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكَهَا، قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَيَّنَهُ ابْتِدَاءً. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ، فَإِنْ حَلَفَ لَأَحَدِهِمَا، لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى تَعْيِينِهِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَهُمَا جَمِيعًا، فَسُلِّمَتْ إلَى أَحَدِهِمَا بِقُرْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لَزِمَهُ غُرْمُهَا لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَنْ يَمِينٍ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَاهَا وَحْدَهُ. [فَصْلٌ كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدَانِ فَقَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ لِزَيْدِ] (3835) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدَانِ، فَقَالَ: أَحَدُ هَذَيْنِ لِزَيْدٍ. طُولِبَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا فَصَدَّقَهُ زَيْدٌ أَخَذَهُ. وَإِنْ قَالَ: هَذَا لِي، وَالْعَبْدُ الْآخَرُ لِزَيْدٍ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يُنْكِرُهُ. وَإِنْ قَالَ زَيْدٌ: إنَّمَا لِي الْعَبْدُ الْآخَرُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يُنْكِرُهُ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى زَيْدٍ الْعَبْدَ الْمُقَرَّ بِهِ وَلَكِنْ يُقَرُّ فِي يَدِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَيَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ مَعْرُوفٌ، فَأَشْبَهَ مِيرَاثَ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَارِثُهُ. فَإِنْ أَبَى التَّعْيِينَ، فَعَيَّنَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَقَالَ: هَذَا عَبْدِي. طُولِبَ بِالْجَوَابِ، فَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعْيِينِهِ لِلْآخَرِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ، فَهُوَ كَتَعْيِينِهِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ لِرَجُلِ بِعَبْدِ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ] (3836) فَصْلٌ: وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ. فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ هَذَا، إنَّمَا هُوَ آخَرُ. فَعَلَى الْمُقِرِّ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ سِوَاهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ هَذَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه. وَإِنْ قَالَ: هَذَا لِي، وَلِي عِنْدَك آخَرُ. سَلَّمَ إلَيْهِ هَذَا، وَحَلَفَ لَهُ عَلَى نَفْيِ الْآخَرِ. وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ، فَكَذَّبَهُ، بَطَلَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِلْكٌ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ. وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ، فَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، يُؤْخَذُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه أَحَدٌ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ هَذَا. فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ، دُفِعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيه، وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَذَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، نَفْسَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ، وَادَّعَاهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا بِتَلَفٍ أَوْ إبَاقٍ وَنَحْوِهِ، بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ يَمِينٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ بِتَعَدٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا. فَإِذَا حَلَفَ، سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ. بِتَعَدِّيهِ، وَوَجَبَ لَهُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخَرِ، إنْ كَانَ تَلَفُهُ بِتَعَدٍّ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة أَقَرَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِم ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ] (3837) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِعَشَرَةِ، دَرَاهِمَ، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفًا أَوْ صِغَارًا أَوْ إلَى شَهْرٍ. كَانَتْ عَشَرَةً جِيَادًا وَافِيَةً حَالَّةً) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ، وَأَطْلَقَ، اقْتَضَى إقْرَارُهُ الدَّرَاهِمَ الْوَافِيَةَ، وَهِيَ دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ، كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَكُلُّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِقَ، وَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ جِيَادًا، حَالَّةً، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَأَطْلَقَ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ كَذَلِكَ. فَإِذَا سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ أَخَذَ فِي كَلَامٍ غَيْرِ مَا كَانَ فِيهِ، اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. فَإِنْ عَادَ، فَقَالَ: زُيُوفًا. يَعْنِي رَدِيئَةً. أَوْ صِغَارًا. وَهِيَ الدَّرَاهِمُ النَّاقِصَةُ، مِثْلُ دَرَاهِمَ طَبَرِيَّةَ، كَانَ كُلُّ دِرْهَمٍ مِنْهَا أَرْبَعَةَ دَوَانِقَ، وَذَلِكَ ثُلُثَا دِرْهَمٍ. أَوْ إلَى شَهْرٍ. يَعْنِي مُؤَجَّلَةً، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَرْفَعُهُ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِهَا دَيْنًا، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ غَصْبًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلٍ فِي عَيْنٍ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي سَلَامَتَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ بِغَصْبِ عَبْدٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ مَعِيبًا. وَلَنَا، أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقْتَضِي الْوَازِنَةَ الْجِيَادَ، فَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، كَالدَّيْنِ، وَيُفَارِقُ الْعَبْدَ؛ فَإِنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ وَصَفَهَا بِذَلِكَ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ، أَوْ سَكَتَ لِلتَّنَفُّسِ، أَوْ اعْتَرَضَتْهُ سَعْلَةٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِذَلِكَ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، قُبِلَ مِنْهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ التَّأْجِيلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيّ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ قَضَيْته إيَّاهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِالنَّاقِصَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ نَاقِصَةٌ. قُبِلَ قَوْلُهُ. وَإِنْ قَالَ: صِغَارًا. وَلِلنَّاسِ دَرَاهِمُ صِغَارٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَاهِمُ صِغَارٌ لَزِمَهُ وَازِنَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: دُرَيْهِمٌ. لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَازِنٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ بِكَلَامِ مُتَّصِلٍ، فَقُبِلَ مِنْهُ، كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْوَازِنَةِ وَالنَّاقِصَةِ، وَالزُّيُوفِ وَالْجَيِّدَةِ، وَكَوْنُهَا عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ الْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ، فَإِذَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ، تَقَيَّدَتْ بِهِ، كَمَا لَوْ وَصَفَ الثَّمَنَ بِهِ، فَقَالَ: بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، مُؤَجَّلَةٍ نَاقِصَةٍ. وَثُبُوتُهَا عَلَى غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 هَذِهِ الصِّفَةِ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ تَقْيِيدِهَا بِهِ، كَالثَّمَنِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّأْجِيلَ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا. لَيْسَ بِصَحِيحِ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُ، فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ الْمُؤَجَّلَ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لَمْ تَقْتَضِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ سَدَّ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهَا عَلَى صِفَتِهَا. وَعَلَى مَا ذَكَرُوهُ، لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْإِقْرَارِ بِهَا إلَّا عَلَى وَجْهٍ يُؤَاخَذُ بِغَيْرِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَيَفْسُدُ بَابُ الْإِقْرَارِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ " صِغَارًا " يَنْصَرِفُ إلَى الْمِقْدَارِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِسَاحَةَ الدَّرَاهِمِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِمِسَاحَةٍ مُقَدَّرَةٍ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ فِي الْوَزْنِ، فَيَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْمُقِرِّ، فَأَمَّا إنْ قَالَ: زُيُوفًا. وَفَسَّرَهَا بِمَغْشُوشَةٍ، أَوْ مَعِيبَةٍ عَيْبًا يَنْقُصُهَا، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِنُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ، أَوْ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ دَرَاهِمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُهُ بِهِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. [فَصْلٌ أَقَرَّ بِدَرَاهِم وَأَطْلَقَ فِي بَلَدٍ أَوْزَانُهُمْ نَاقِصَةٌ] (3838) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ وَأَطْلَقَ، فِي بَلَدٍ أَوْزَانُهُمْ نَاقِصَةٌ، كَطَبَرِيَّةَ، كَانَ دِرْهَمُهُمْ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ، وَخُوَارِزْمَ كَانَ دِرْهَمُهُمْ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ وَنِصْفًا، وَمَكَّةَ دِرْهَمُهُمْ نَاقِصٌ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ، أَوْ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ مَغْشُوشَةٌ، كَمِصْرِ وَالْمَوْصِلِ، أَوْ بِدَنَانِيرَ فِي بَلَدٍ دَنَانِيرُهُمْ مَغْشُوشَةٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَوَّلُهُمَا، يَلْزَمُهُ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَدَنَانِيرِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِهِمْ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ بَلَدِهِمْ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْأَثْمَانِ. وَالثَّانِي، تَلْزَمُهُ الْوَازِنَةُ الْخَالِصَةُ مِنْ الْغِشِّ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ فِي الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ بِهَا تَقْدِيرَ نُصُبِ الزَّكَاةِ وَمَقَادِيرِ الدِّيَاتِ، فَكَذَلِكَ إطْلَاقُ الشَّخْصِ. وَفَارَقَ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ، فَاخْتَصَّ بِدَرَاهِمِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ فَانْصَرَفَ إلَى دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ بِدَرَاهِم وَأَطْلَقَ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِسِكَّةِ الْبَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهَا فِيهِ] (3839) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ، وَأَطْلَقَ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِسِكَّةِ الْبَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهَا فِيهِ، قُبِلَ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِسِكَّةٍ غَيْرِ سِكَّةِ الْبَلَدِ أَجْوَدَ مِنْهَا، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى مِنْ سِكَّةِ الْبَلَدِ، لَكِنَّهَا مُسَاوِيَةٌ فِي الْوَزْنِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَقْتَضِي دَرَاهِمَ الْبَلَدِ وَنَقْدَهُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دُونَهَا، كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهَا نَاقِصَةُ الْقِيمَةِ، فَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِهَا، كَالنَّاقِصَةِ وَزْنًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ. وَفَارَقَ النَّاقِصَةَ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الشَّرْعِ الدَّرَاهِمَ، لَا يَتَنَاوَلُهَا، بِخِلَافِ هَذِهِ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ مِقْدَارُ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَفَارَقَ الثَّمَنَ؛ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ] (3840) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ. لَزِمَهُ دِرْهَمٌ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ كَبِيرٌ فِي الْعُرْفِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ. فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ التَّصْغِيرَ قَدْ يَكُونُ لِصِغَرِهِ فِي ذَاتِهِ، أَوْ لِقِلَّةِ قَدْرِهِ عِنْدَهُ وَتَحْقِيرِهِ، وَقَدْ يَكُون لِمَحَبَّتِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بِذَيَّالِك الْوَادِي أَهِيمُ وَلَمْ أَقُلْ ... بِذَيَّالِك الْوَادِي وَذُيَّاكَ مِنْ زُهْدِ وَلَكِنْ إذَا مَا حُبَّ شَيْءٌ تَوَلَّعَتْ ... بِهِ أَحْرُفُ التَّصْغِيرِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجْدِ وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَدَدًا. لَزِمَتْهُ عَشْرَةٌ مَعْدُودَةٌ وَازِنَةٌ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ يَقْتَضِي وَازِنَةً، وَذِكْرُ الْعَدَدِ لَا يُنَافِيهَا، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا فِي بَلَدٍ أَوْزَانُهُمْ نَاقِصَةٌ، أَوْ دَرَاهِمُهُمْ مَغْشُوشَةٌ، عَلَى مَا فُصِّلَ فِيهِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ بِدِرْهَمِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدِرْهَمِ] (3841) فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ، أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجَالِسَ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَرَّرَ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ، كَمَا كَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَبَرَ عَنْ إرْسَالِهِ نُوحًا وَهُودًا وَصَالِحًا وَلُوطًا وَشُعَيْبًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُ فِي قِصَّةٍ غَيْرَ الْمَذْكُورِ فِي أُخْرَى، كَذَا هَاهُنَا. فَإِنْ وَصَفَ أَحَدَهُمَا وَأَطْلَقَ الْآخَرَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمَوْصُوفَ، أَطْلَقَهُ فِي حَالٍ وَوَصَفَهُ فِي حَالٍ. وَإِنْ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمَرَّتَيْنِ، كَانَ تَأْكِيدًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ وَصَفَهُ فِي إحْدَى الْمَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ مَا وَصَفَهُ فِي الْأُخْرَى، فَقَالَ: دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ. ثُمَّ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ ثَوْبٍ. ثُمَّ قَالَ: دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ. أَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ أَبْيَضُ، ثُمَّ قَالَ: دِرْهَمٌ أَسْوَدُ. فَهُمَا دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ. [فَصْل قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ] (3842) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ. أَوْ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ. لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا، فِيمَا إذَا قَالَ: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ. وَقَالَ: أَرَدْت: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ لَازِمٌ لِي. أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّفَةَ. وَلَنَا، أَنَّ الْفَاءَ أَحَدُ حُرُوفِ الْعَطْفِ الثَّلَاثَةِ، فَأَشْبَهَتْ الْوَاوَ وَثُمَّ، وَلِأَنَّهُ عَطَفَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 بِالْفَاءِ، فَاقْتَضَى ثُبُوتَهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ. وَقَدْ سَلَّمَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ احْتِمَالِ الصِّفَةِ بَعِيدٌ، لَا يُفْهَمُ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ، فَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ، كَمَا لَوْ فَسَّرَ الدَّرَاهِمَ الْمُطْلَقَةَ بِأَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ صِغَارٌ أَوْ مُؤَجَّلَةٌ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمَانِ. لَزِمَتْهُ ثَلَاثَةٌ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِينَارٌ، أَوْ فَدِينَارٌ، أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ. لَزِمَتْهُ ثَلَاثَةٌ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَرَدْت بِالثَّالِثِ تَأْكِيدَ الثَّانِي وَبَيَانَهُ. أَنَّهُ يُقْبَلُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ فِي لَفْظِ الثَّانِي، وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ غَيْرَ الثَّانِي، كَمَا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدًا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَدَدِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ، أَوْ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ، أَوْ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ، أَوْ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ. لَزِمَتْهُ الثَّلَاثَةُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ مُغَايِرٌ لِلثَّانِي، لِاخْتِلَافِ حَرْفَيْ الْعَطْفِ الدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِمَا، فَلَمْ يَحْتَمِلْ التَّأْكِيدَ. [فَصْل قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِرْهَمٌ لَكِنَّ دِرْهَمَانِ] (3843) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمَانِ، أَوْ دِرْهَمٌ لَكِنْ دِرْهَمَانِ. لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ زُفَرُ وَدَاوُد تَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ " بَلْ " لِلْإِضْرَابِ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِدِرْهَمِ وَأَضْرَبَ عَنْهُ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ، وَلَزِمَهُ الدِّرْهَمَانِ اللَّذَانِ أَقَرَّ بِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدٍ، وَأَثْبَتَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، بَلْ أَكْثَرُ. فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، بَلْ دِرْهَمٌ، أَوْ لَكِنْ دِرْهَمٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ: إنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ دِرْهَمٍ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ عَلَيَّ دِرْهَمٌ. وَ " لَكِنْ " لِلِاسْتِدْرَاكِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى " بَلْ " إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا بَعْدَ الْجَحْدِ، إلَّا أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ. وَيَقْتَضِيهِ قَوْلُ زُفَرَ وَدَاوُد؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْإِضْرَابِ يُغَايِرُ مَا قَبْلَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدِّرْهَمُ الَّذِي أَضْرَبَ عَنْهُ غَيْرَ الدِّرْهَمِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ بَعْدَهُ، فَيَجِبُ الِاثْنَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، بَلْ دِينَارٌ. وَلِأَنَّ " بَلْ " مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَا جَمِيعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ. وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ إلَّا دِرْهَمًا، جَعَلْنَا كَلَامَهُ لَغْوًا، وَإِضْرَابَهُ عَنْهُ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَالْأَصْلُ فِي كَلَامِ الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا. وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَضْرَبَ عَنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ، وَلَا بَعْضَهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، بَلْ دِينَارٌ أَوْ دِينَارَانِ. أَوْ: لَهُ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ، بَلْ قَفِيزُ شَعِيرٍ. أَوْ: هَذَا الدِّرْهَمُ، بَلْ هَذَانِ. لَزِمَهُ الْجَمِيعُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِيَ وَلَا بَعْضَهُ، فَكَانَ مُقِرًّا، بِهِمَا، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ جُمْلَتَيْنِ أَقَرَّ بِإِحْدَاهُمَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأُخْرَى، لَزِمَاهُ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمَانِ، بَلْ دِرْهَمٌ. أَوْ عَشْرَةٌ، بَلْ تِسْعَةٌ. لَزِمَهُ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ أَضْرَبَ عَنْ وَاحِدٍ، وَنَفَاهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ نَفْيُهُ لَهُ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي شَيْئًا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا قَالَ: عَشْرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا. كَانَ مَعْنَاهُ تِسْعَةً. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ] (3844) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ. لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ. وَإِنْ قَالَ: قَبْلَهُ دِرْهَمٌ وَبَعْدَهُ دِرْهَمٌ. لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ " قَبْلُ " وَ " بَعْدُ " تُسْتَعْمَلُ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْوُجُوبِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ، أَوْ تَحْتَ دِرْهَمٍ، أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ مَعَ دِرْهَمٍ. فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ فَوْقَ دِرْهَمٍ فِي الْجَوْدَةِ، أَوْ فَوْقَ دِرْهَمٍ لِي، وَكَذَلِكَ تَحْتَ دِرْهَمٍ. وَقَوْلُهُ: مَعَهُ دِرْهَمٌ. يَحْتَمِلُ مَعَهُ دِرْهَمٌ لِي وَكَذَلِكَ مَعَ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَجِبْ الزَّائِدُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَطْفِ، لِكَوْنِهِ يَقْتَضِي ضَمَّ دِرْهَمٍ آخَرَ إلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْإِقْرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إقْرَارٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " عَلَيَّ " يَقْتَضِي فِي ذِمَّتِي، وَلَيْسَ لِلْمُقِرِّ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَا فَوْقَهُ، وَلَا تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إنْ قَالَ: فَوْقَ دِرْهَمٍ. لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّ " فَوْقَ " تَقْتَضِي فِي الظَّاهِرِ الزِّيَادَةَ. وَإِنْ قَالَ: تَحْتَ دِرْهَمٍ. لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ " تَحْت " تَقْتَضِي النَّقْصَ. وَلَنَا، إنْ حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنَى الْعَطْفِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الصِّفَةِ لِلدِّرْهَمِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ ذَكَرَهُ بِمَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْجَوْدَةِ أَوْ نَقْصَهَا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِينَارٌ، أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ، أَوْ مَعَهُ، أَوْ فَوْقَهُ، أَوْ تَحْتَهُ، أَوْ مَعَ ذَلِكَ. فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي الدِّرْهَمِ سَوَاءٌ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ مَا عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ] (3845) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ مَا عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ. لَزِمَتْهُ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قَالَ: مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 أَحَدُهَا، تَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ. وَهَذَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَأَوَّلُ الْغَايَةِ مِنْهَا، وَ " إلَى " لِانْتِهَائِهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَالثَّانِي، تَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَالْعَاشِرَ حَدَّانِ، فَلَا يَدْخُلَانِ فِي الْإِقْرَارِ، وَلَزِمَهُ مَا بَيْنَهُمَا، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَالثَّالِثُ، تَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا كَالْأَوَّلِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: قَرَأْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِيِّ مِنْ وَاحِدٍ إلَى عَشَرَةٍ. مَجْمُوعَ الْأَعْدَادِ كُلِّهَا، أَيْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ إلَى الْعَشَرَةِ، لَزِمَهُ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَاخْتِصَارُ حِسَابِهِ أَنْ تَزِيدَ أَوَّلَ الْعَدَدِ وَهُوَ الْوَاحِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ، فَيَصِيرَ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبَهَا فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ الْجَوَابُ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ] (3846) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ. لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ. لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ، أَوْ وَافِرَةٌ، أَوْ عَظِيمَةٌ. لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِدُونِ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ الْغِنَى، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ. وَلَنَا، أَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْعَظَمَةَ لَا حَدَّ لَهَا شَرْعًا وَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَتَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَاتِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ، فَالثَّلَاثَةُ أَكْثَرُ مِمَّا دُونَهَا وَأَقَلُّ مِمَّا فَوْقَهَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَعْظِمُ الْيَسِيرَ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَسْتَعْظِمُ الْكَثِيرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَرَادَ كَثِيرَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا، أَوْ كَثِيرَةً فِي نَفْسِهِ، فَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ بِالِاحْتِمَالِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمَانِ فِي عَشَرَةٍ وَقَالَ أَرَدْت الْحِسَابَ] (3847) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمَانِ فِي عَشَرَةٍ. وَقَالَ: أَرَدْت الْحِسَابَ. لَزِمَهُ عِشْرُونَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت دِرْهَمَيْنِ مَعَ عَشَرَةٍ. وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْحِسَابَ، قُبِلَ مِنْهُ، وَلَزِمَهُ اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَامَّةِ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْحِسَابِ اسْتِعْمَالُ أَلْفَاظِهِ لِمَعَانِيهَا فِي اصْطِلَاحِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ اصْطِلَاحَ الْعَامَّةِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت دِرْهَمَيْنِ فِي عَشَرَةٍ لِي. لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا يَقُولُ. وَإِنْ قَالَ: دِرْهَمَانِ فِي دِينَارٍ. لَمْ يَحْتَمِلْ الْحِسَابَ، وَسُئِلَ عَنْ مُرَادِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْعَطْفَ أَوْ مَعْنَى مَعَ. لَزِمَهُ الدِّرْهَمَانِ وَالدِّينَارُ. وَإِنْ قَالَ: أَسْلَمْتُهُمَا فِي دِينَارٍ. فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ؛ بَطَلَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ سَلْمَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ، فَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَطَلَ قَوْلُهُ فِي دِينَارٍ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمَانِ فِي ثَوْبٍ. وَفَسَّرَهُ بِالسَّلْمِ، أَوْ قَالَ: فِي ثَوْبٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ إلَى سَنَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 فَصَدَّقَهُ، بَطَلَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، بَطَلَ السَّلْمُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَالْمُقِرُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَهُ الدِّرْهَمَانِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عِنْدِي دِرْهَمٌ فِي ثَوْبٍ أَوْ فِي كِيسٍ] (3848) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي دِرْهَمٌ فِي ثَوْبٍ، أَوْ فِي كِيسٍ، أَوْ زَيْتٌ فِي جَرَّةٍ، أَوْ تِبْنٌ فِي غِرَارَةٍ، أَوْ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ، أَوْ سِكِّينٌ فِي قِرَابٍ، أَوْ فَصٌّ فِي خَاتَمٍ، أَوْ كِيسٌ فِي صُنْدُوقٍ. أَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْهُ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ، أَوْ زَيْتًا فِي زِقٍّ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَكُونُ مُقِرًّا بِالْمَظْرُوفِ دُون الظَّرْفِ. هَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الظَّرْفَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي ظَرْفٍ لِلْمُقِرِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْإِقْرَارِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِهِ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: عِنْدِي عَبْدٌ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغَصْبِ: يَلْزَمُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ الْمِنْدِيلَ يَكُونُ ظَرْفًا لِلثَّوْبِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَهُ فِي حَالِ الْغَصْبِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: غَصَبْت ثَوْبًا وَمِنْدِيلًا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْدِيلُ لِلْغَاصِبِ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِلثَّوْبِ، فَيَقُولُ: غَصَبْت ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ لِي. وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِغَصْبِهِ، فَإِذَا أَطْلَقَ، كَانَ مُحْتَمِلًا لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِغَصْبِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: غَصَبْت دَابَّةً فِي إصْطَبْلِهَا. أَوْ: لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي مِنْدِيلٍ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي جَرَّةٌ فِيهَا زَيْتٌ، أَوْ جِرَابٌ فِيهِ تَمْرٌ، أَوْ قِرَابٌ فِيهِ سِكِّينٌ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ خَاتَمٌ فِيهِ فَصُّ. فَكَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِهِ بِفَصِّهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْفَصَّ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِيهِ عَلَمٌ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي خَاتَمٌ. وَأَطْلَقَ، لَزِمَهُ الْخَاتَمُ بِفَصِّهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَجْمَعُهُمَا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ مُطَرَّزٌ. لَزِمَهُ الثَّوْبُ بِطِرَازِهِ. [فَصْل قَالَ لَهُ عِنْدِي دَارٌ مَفْرُوشَةٌ أَوْ دَابَّةٌ مُسْرِجَة أَوْ عَبْدٌ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ] (3849) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي دَارٌ مَفْرُوشَةٌ، أَوْ دَابَّةٌ مُسْرَجَةٌ، أَوْ عَبْدٌ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ. فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَلْزَمُهُ عِمَامَةُ الْعَبْدِ دُونَ الْفَرْشِ أَوْ السَّرْجِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَدُهُ عَلَى عِمَامَتِهِ، وَيَدُهُ كَيَدِ سَيِّدِهِ، وَلَا يَدَ لِلدَّابَّةِ وَالدَّارِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وَلَنَا، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ سَرْجَ الدَّابَّةِ لِصَاحِبِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ سَرْجًا عَلَى دَابَّةِ أَحَدِهِمَا، كَانَ لِصَاحِبِهَا، فَصَارَ كَعِمَامَةِ الْعَبْدِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي دَابَّةٌ بِسَرْجِهَا، أَوْ دَارٌ بِفَرْشِهَا، أَوْ سَفِينَةٌ بِطَعَامِهَا. كَانَ مُقِرًّا بِهِمَا بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تُعَلِّقُ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ أَوْ إمَّا دِرْهَمٌ وَإِمَّا دِينَارٌ] (3850) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، أَوْ دِينَارٌ. أَوْ: إمَّا دِرْهَمٌ وَإِمَّا دِينَارٌ. كَانَ مُقِرًّا بِأَحَدِهِمَا، يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ " أَوْ " وَ " إمَّا " فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ، وَتَقْتَضِي أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ لَا جَمِيعَهُمَا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ إمَّا دِرْهَمٌ وَإِمَّا دِرْهَمَانِ. كَانَ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ، وَالثَّانِي مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالشَّكِّ. [مَسْأَلَة أَقَرَّ بِشَيْءِ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْكَثِيرَ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ] (3851) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْكَثِيرَ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ، أُخِذَ بِالْكُلِّ، وَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلًا) . لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ. وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ النَّحْوِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ: يَصِحُّ مَا لَمْ يَسْتَثْنِ الْكُلَّ، فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ. لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] . وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . فَاسْتَثْنَى فِي مَوْضِعٍ الْغَاوِينَ مِنْ الْعِبَادِ، وَفِي مَوْضِعٍ الْعِبَادَ مِنْ الْغَاوِينَ، وَأَيُّهُمَا كَانَ الْأَكْثَرَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ. وَأَنْشَدُوا: أَدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ ... ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّامًا فَاسْتُثْنِيَ تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَمُشَبَّهٌ بِهِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ، فَجَازَ، كَاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ، وَلِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، فَجَازَ فِي الْأَكْثَرِ، كَالتَّخْصِيصِ وَالْبَدَلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا فِي الْأَقَلِّ، وَقَدْ أَنْكَرُوا اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مِائَةٌ إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ. لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عِيًّا مِنْ الْكَلَامِ وَلُكْنَةً. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يُقَالُ: صُمْت الشَّهْرَ إلَّا يَوْمًا. وَلَا يُقَالُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 صُمْت الشَّهْرَ إلَّا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَيُقَالُ: لَقِيت الْقَوْمَ جَمِيعَهُمْ إلَّا وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَقِيت الْقَوْمَ إلَّا أَكْثَرَهُمْ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي الْكَلَامِ، لَمْ يَرْتَفِعْ بِهِ مَا أَقَرَّ بِهِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. وَكَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ، بَلْ خَمْسَةٌ. فَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ التَّنْزِيلِ، فَإِنَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى اسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُمْ الْأَقَلُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] . وَفِي الْأُخْرَى اسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنْ الْعِبَادِ وَهُمْ الْأَقَلُّ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ الْعِبَادِ، وَهُمْ غَيْرُ غَاوِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] . وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] مُبْقًى عَلَى عُمُومِهِ، لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . أَيْ لَكِنْ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْغَاوِينَ فَإِنَّهُمْ غَوَوْا بِاتِّبَاعِك. وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لِأَتْبَاعِهِ {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] . وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ. وَأَمَّا الْبَيْتُ فَقَالَ ابْنُ فَضَالٍ النَّحْوِيُّ: هُوَ بَيْتٌ مَصْنُوعٌ، لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الْعَرَبِ. عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَهُ كَلِمَاتٌ مَخْصُوصَةٌ لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْقِيَاسُ لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ: ثُمَّ نُعَارِضُهُ بِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ، أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْهُ فِي الْأَقَلِّ وَحَسَّنَتْهُ، وَنَفَتْهُ فِي الْأَكْثَرِ وَقَبَّحَتْهُ، فَلَمْ يَجُزْ قِيَاسُ مَا قَبَّحُوهُ عَلَى مَا جَوَّزُوهُ وَحَسَّنُوهُ. [فَصْلٌ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ فِي الْإِقْرَار] (3852) فَصْلٌ: وَفِي اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِتَخْصِيصِهِ الْإِبْطَالَ بِمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ، فَجَازَ كَالْأَقَلِّ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِهِمْ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ الْكَثِيرِ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِقَلِيلٍ. . [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا سَبْعَةً إلَّا خَمْسَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ] (3853) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ، إلَّا سَبْعَةً، إلَّا خَمْسَةً، إلَّا دِرْهَمَيْنِ. صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَثْنَى الْكُلَّ أَوْ الْأَكْثَرَ سَقَطَ إنْ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَصَلَهُ بِاسْتِثْنَاءِ آخَر اسْتَعْمَلْنَاهُ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِبَارَةٌ عَمَّا بَقِيَ، فَإِنَّ خَمْسَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ، بَقِيَ أَرْبَعَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عَشَرَةٍ، بَقِيَ مِنْهَا سِتَّةٌ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَمَانِيَةٌ، إلَّا أَرْبَعَةً، إلَّا دِرْهَمَيْنِ، إلَّا دِرْهَمًا. بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى النِّصْفَ. وَصَحَّ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، فَلَزِمَهُ خَمْسَةٌ. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ، إلَّا خَمْسَةً، إلَّا ثَلَاثَةً، إلَّا دِرْهَمَيْنِ، إلَّا دِرْهَمًا. بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَصَحَّ فِي الْآخَرِ، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِسَبْعَةٍ. وَلَوْ قَالَ: عَشَرَةٌ، إلَّا سِتَّةً، إلَّا أَرْبَعَةً، إلَّا دِرْهَمَيْنِ. فَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مُقِرٌّ بِسِتَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ، إلَّا دِرْهَمَيْنِ. إلَّا دِرْهَمًا. كَانَ مُقِرًّا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ، إلَّا ثَلَاثَةً، إلَّا دِرْهَمَيْنِ. بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ دِرْهَمَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، فَبَطَلَ فَإِذَا بَطَلَ الثَّانِي بَطَلَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَطَلَ، لِكَوْنِهِ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ، فَبَطَلَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهُ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ، وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لَمَّا بَطَلَ، جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ مِنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيَهُ لِبُطْلَانِ مَا بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ، يَصِحُّ، وَيَكُونُ مُقِرًّا بِدِرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى دِرْهَمَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَيَبْقَى مِنْهَا دِرْهَمٌ مُسْتَثْنًى مِنْ الْإِقْرَارِ، وَاسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ عِنْدَهُمْ صَحِيحٌ. وَوَافَقَهُمْ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ، إلَّا دِرْهَمًا. بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ مِثْلُ مَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ] (3854) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ. فَالْمُسْتَثْنَى دَرَاهِمُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَثْنِي فِي الْإِثْبَاتِ إلَّا مِنْ الْجِنْسِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا. فَالْجَمِيعُ دَرَاهِمُ كَذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يَكُونُ الْأَلْفُ مُبْهَمًا، يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّ لَفْظَهُ فِي الْأَلْفِ مُبْهَمٌ وَالدِّرْهَمُ لَمْ يُذْكَرْ تَفْسِيرًا لَهُ، فَيَبْقَى عَلَى إبْهَامِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ الْعَرَبِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِثْبَاتِ إلَّا مِنْ الْجِنْسِ، فَمَتَى عُلِمَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عُلِمَ أَنَّ الْآخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، كَمَا لَوْ عُلِمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَقَدْ سَلَّمُوهُ، وَعِلَّتُهُ تَلَازُمُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْجِنْسِ، فَمَا ثَبَتَ فِي أَحَدِهِمَا ثَبَتَ فِي الْآخَرِ، فَعَلَى قَوْلِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ، بَطَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمَا يُنْظَرُ فِي الْمُسْتَثْنَى، إنْ كَانَ مِثْلَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، بَطَلَ، وَإِلَّا صَحَّ. وَعِنْدَ الْقَاضِي يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُ الْأَلْفِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، إذَا كَانَ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنْهُ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا] (3855) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا. فَالْجَمِيعُ دَرَاهِمُ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. فَكَذَلِكَ. وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا إلَّا لِمَا يَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَأَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفٌ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةٌ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا؛ فَإِنَّ الدِّرْهَمَ الْمُفَسَّرَ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِجَمِيعِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْجُمَلِ الْمُبْهَمَةِ وَجِنْسِ الْعَدَدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ قَالَ {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ عَنْتَرَةُ: فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُودًا كَخَافِيَةِ الْغُرَابِ الْأَسْحَمِ وَلِأَنَّ الدِّرْهَمَ ذُكِرَ تَفْسِيرًا، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَكَانَ تَفْسِيرًا لِجَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ، وَهُوَ صَالِحٌ لِتَفْسِيرِهَا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ: أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَسَائِر الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ الْمُجْمَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُفَسَّرِ لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. [فَصْل قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ أَوْ أَلْفٌ وَثَوْبٌ أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ] (3856) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفٌ وَثَوْبٌ، أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ. فَالْمُجْمَلُ مِنْ جِنْسِ الْمُفَسَّرِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةٌ، أَوْ أَلْفُ ثَوْبٍ وَعِشْرُونَ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَابْنِ حَامِدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ إلَيْهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ يُعْطَفُ عَلَى جِنْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وَلِأَنَّ الْأَلْفَ مُبْهَمٌ فَرُجِعَ فِي تَفْسِيرِهِ إلَى الْمُقِرِّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ عَطَفَ عَلَى الْمُبْهَمِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ، وَإِنْ عَطَفَ مَذْرُوعًا أَوْ مَعْدُودًا، لَمْ يَكُنْ تَفْسِيرًا؛ لِأَنَّ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ، كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ كَقَوْلِهِ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلَنَا، أَنَّ الْعَرَبَ تَكْتَفِي بِتَفْسِيرِ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَنْ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] . وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ مُبْهَمًا مَعَ مُفَسَّرٍ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَكَانَ الْمُبْهَمُ مِنْ جِنْسِ الْمُفَسَّرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمُبْهَمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّفْسِيرِ، وَذِكْرُ التَّفْسِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسِّرَهُ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . فَإِنَّهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعَشْرُ أَشْهُرًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْعَشْرَ بِغَيْرِ هَاءٍ عَدَدٌ لِلْمُؤَنَّثِ، وَالْأَشْهَرُ مُذَكَّرَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّ بِغَيْرِهَا. الثَّانِي، أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَشْهُرًا لَقَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. بِالتَّرْكِيبِ، لَا بِالْعَطْفِ، كَمَا قَالَ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] . وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَلْفَ مُبْهَمٌ. قُلْنَا قَدْ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَفْسِيرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ. عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. فَالدِّرْهَمُ ذُكِرَ لِلتَّفْسِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَزْدَادُ بِهِ الْعَدَدُ، فَصَلَحَ تَفْسِيرُ الْجَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ الدِّرْهَمَ لِلْإِيجَابِ، لَا لِلتَّفْسِيرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ زَادَ بِهِ الْعَدَدَ. قُلْنَا: هُوَ صَالِحٌ لِلْإِيجَابِ وَالتَّفْسِيرِ مَعًا، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى التَّفْسِيرِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، صِيَانَةً لِكَلَامِ الْمُقِرِّ عَنْ الْإِلْبَاسِ وَالْإِبْهَامِ، وَصَرْفًا لَهُ إلَى الْبَيَانِ وَالْإِفْهَامِ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ " عَلَيَّ " لِلْإِيجَابِ. قُلْنَا: فَمَتَى عُطِفَ مَا يَجِبُ بِهَا عَلَى مَا يَجِبُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُبْهَمًا وَالْآخَرُ مُفَسَّرًا، وَأَمْكَنَ تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْهَمُ مِنْ جِنْسِ الْمُفَسَّرِ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يُمْكِنْ، مِثْلُ أَنْ يُعْطَفَ عَدَدُ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ، وَيَبْقَى الْمُبْهَمُ عَلَى إبْهَامِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَعَشْرٌ. [مَسْأَلَة قَالَ لَهُ عِنْدِيّ عَشَرَةُ دَرَاهِم ثُمَّ قَالَ وَدِيعَةٌ] (3857) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. ثُمَّ قَالَ: وَدِيعَةٌ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَقَالَ: لَهُ عِنْدِي دَرَاهِمُ. فُسِّرَ إقْرَارُهُ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ فَسَّرَهُ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ لَفْظَهُ بِمَا يَقْتَضِيه، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ. وَفَسَّرَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْوَدِيعَةِ، بِحَيْثُ لَوْ ادَّعَى تَلَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَإِنْ فَسَّرَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ، قُبِلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةٌ رَدَدْتهَا إلَيْهِ. أَوْ تَلِفَتْ. لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ الْإِقْرَارِ، وَالرُّجُوعِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ، فَإِنَّ الْأَلْفَ الْمَرْدُودَ وَالتَّالِفَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ أَصْلًا، وَلَا هِيَ وَدِيعَةٌ، وَكُلُّ كَلَامٍ يُنَاقِضُ الْإِقْرَارَ وَيُحِيلُهُ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا قَالَ: لَك عِنْدِي وَدِيعَةٌ دَفَعْتهَا إلَيْك. صُدِّقَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ رَدَّهَا، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ. وَإِنْ قَالَ كَانَتْ عِنْدِي، وَظَنَنْت أَنَّهَا بَاقِيَةٌ، ثُمَّ عَرَفْت أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ هَلَكَتْ. فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [مَسْأَلَة قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ ثُمَّ قَالَ وَدِيعَةً] (3858) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَدِيعَةً. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ كَذَا. ثُمَّ فَسَّرَهُ الْوَدِيعَةِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، فَلَوْ ادَّعَى بَعْدَ هَذَا تَلَفَهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ، وَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ تَلَفِهَا، قُبِلَ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَرَدُّهَا، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ. وَفَسَّرَهَا بِذَلِكَ، احْتَمَلَ صِدْقَهُ، فَقُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ، فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِيعَةً. وَلِأَنَّ حُرُوفَ الصِّلَاتِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ " عَلَيَّ " بِمَعْنَى " عِنْدِي " كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنَّهُ قَالَ {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] . أَيْ عِنْدِي. وَلَنَا، أَنَّ " عَلَيَّ " لِلْإِيجَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا عَلَى فُلَانٍ عَلَيَّ. كَانَ ضَامِنًا لَهُ، الْوَدِيعَةُ لَيْسَتْ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا هِيَ عَلَيْهِ، إنَّمَا هِيَ عِنْدَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مَجَازٌ، طَرِيقُهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ، أَوْ إقَامَةُ حَرْفٍ مَقَامَ حَرْفٍ، وَالْإِقْرَارُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ. لَزِمَتْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ جَازَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنْ اثْنَيْنِ، وَعَنْ وَاحِدٍ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَمَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ. وَقَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 أَرَدْت نِصْفَ دِرْهَمٍ، فَحَذَفْت الْمُضَافَ وَأَقَمْت الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ. لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ: لَك مِنْ مَالِي أَلْفٌ. قَالَ: صَدَقْت، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ عَلَيْك مِنْ مَالِي أَلْفًا، وَأَقَمْت اللَّامَ مَقَامَ " عَلَيَّ " كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] . لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَلَوْ قُبِلَ فِي الْإِقْرَارِ مُطْلَقُ الِاحْتِمَالِ، لَسَقَطَ، وَلَقُبِلَ فِي تَفْسِيرِ الدَّرَاهِمِ بِالنَّاقِصَةِ وَالزَّائِفَةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: كَانَ وَدِيعَةً فَتَلِفَ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ. وَقَدْ سَبَقَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. [فَصْلٌ قَالَ لَك عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحْضَرَهَا وَقَالَ هَذِهِ الَّتِي أَقْرَرْت بِهَا وَهِيَ وَدِيعَةٌ كَانَتْ لَك عِنْدِي] (3859) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَك عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ. ثُمَّ أَحْضَرَهَا، وَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي أَقْرَرْت بِهَا، وَهِيَ وَدِيعَةٌ كَانَتْ لَك عِنْدِي. فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هَذِهِ وَدِيعَةٌ، وَاَلَّتِي أَقْرَرْت بِهَا غَيْرُهَا، وَهِيَ دَيْنٌ عَلَيْك. فَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ، وَتَعْلِيلُهُمَا مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَ قَالَ فِي إقْرَارِهِ: لَك عَلَيَّ مِائَةٌ فِي ذِمَّتِي. فَإِنَّ الْقَاضِيَ وَافَقَ هَاهُنَا فِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عَيْنٌ لَا تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ. قَالَ: وَقَدْ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ: فِي ذِمَّتِي أَدَاؤُهَا. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ تَعَدَّى فِيهَا، فَكَانَ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ وَجْهَانِ. فَأَمَّا إنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِكَلَامِهِ، فَقَالَ: لَك عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِيعَةً. قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، فَصَحَّ. كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ نَاقِصَةٌ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِيعَةً دَيْنًا، أَوْ مُضَارَبَةً دَيْنًا. صَحَّ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ يَتَعَدَّى فِيهَا، فَتَكُونُ دَيْنًا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيَّ ضَمَانَهَا. لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِذَلِكَ دَيْنًا. وَإِنْ قَالَ: عِنْدَهُ مِائَةٌ وَدِيعَةً، شَرَطَ عَلَيَّ ضَمَانَهَا. لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَصِيرُ بِالشَّرْطِ مَضْمُونَةً. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةً. لَزِمَتْهُ، وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، سَوَاءٌ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْعَارِيَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ بِفَسَادِهَا؛ لِأَنَّ مَا ضُمِنَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ضُمِنَ فِي الْفَاسِدِ. وَإِنْ قَالَ: أَوْدَعَنِي مِائَةً، فَلَمْ أَقْبِضْهَا. أَوْ أَقْرَضَنِي مِائَةً، فَلَمْ آخُذْهَا. قُبِلَ قَوْلُهُ مُتَّصِلًا، وَلَمْ يُقْبَلْ إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا. وَهَكَذَا إذَا قَالَ: نَقَدَنِي مِائَةً، فَلَمْ أَقْبِضْهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْل قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ أَوْ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ] (3860) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ. أَوْ: لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ. طُولِبَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ قَالَ: نَقَدَ عَنِّي أَلْفًا فِي ثَمَنِهِ. كَانَ قَرْضًا، وَإِنْ قَالَ: نَقَدَ فِي ثَمَنِهِ أَلْفًا. قُلْنَا: بَيِّنْ كَمْ ثَمَنُ الْعَبْدِ، وَكَيْفَ كَانَ الشِّرَاءُ؟ فَإِنْ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 إيجَابٌ وَاحِدٌ، وَزَنَ أَلْفًا وَوَزَنْت أَلْفًا. كَانَ مُقِرًّا بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَالَ: وَزَنْت أَنَا أَلْفَيْنِ. كَانَ مُقِرًّا بِثُلُثِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِيمَةُ قَدْرَ مَا ذَكَرَهُ، أَوْ أَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْبِنُ وَقَدْ يُغْبَنُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْنَاهُ بِإِيجَابَيْنِ. قِيلَ: فَكَمْ اشْتَرَى مِنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ: نِصْفًا، أَوْ ثُلُثًا، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ. قُبِلَ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَافَقَ الْقِيمَةَ أَوْ خَالَفَهَا. وَإِنْ قَالَ: وَصَّى لَهُ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِهِ. وَصُرِفَ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ أَلْفٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا مِنْ مَالِهِ، مِنْ غَيْرِ ثَمَنِ الْعَبْدِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي ثَمَنِهِ. وَإِنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ مِنْ جِنَايَةٍ جَنَاهَا الْعَبْدُ فَتَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ، قُبِلَ ذَلِكَ، وَلَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ، وَدَفْعُ الْأَلْفِ مِنْ ثَمَنِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ رَهْنٌ عِنْدَهُ بِأَلْفٍ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ، فَصَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ، كَالْجِنَايَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ جَمِيعِهِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ فِي مَالِيِّ هَذَا أَلْفٌ أَوْ مِنْ مَالِيِّ أَلْفٌ وَفَسَّرَهُ بِدَيْنِ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فِيهِ] (3861) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ فِي مَالِي هَذَا أَلْفٌ، أَوْ مِنْ مَالِي أَلْفٌ. وَفَسَّرَهُ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فِيهِ، قُبِلَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لَيْسَ هُوَ لِغَيْرِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ قَالَ: فِي مَالِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ مَالًا بَعْضُهُ لِغَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ مَالَ غَيْرِهِ إلَيْهِ، لِاخْتِصَاصٍ لَهُ بِهِ، أَوْ يَدٍ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ وِلَايَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي النِّسَاءِ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَقَالَ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] فَلَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ مَعَ احْتِمَالِ صِحَّتِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت هِبَةً. قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَقْبِيضِهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِيهَا لَا تَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِيمَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ فِي دَارِي هَذِهِ نِصْفُهَا، أَوْ مِنْ دَارِي بَعْضُهَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي مَنْ قَالَ: نِصْفُ عَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ. لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَقُولَ وَهَبْتُهُ. وَإِنْ قَالَ: نِصْفُ مَالِي هَذَا لِفُلَانٍ. لَا أَعْرِفُ هَذَا. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ: إذَا قَالَ: فَرَسِي هَذِهِ لِفُلَانٍ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الْإِقْرَارِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 فَإِنْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نِصْفُهُ، أَوْ لَهُ نِصْفُ هَذِهِ الدَّارِ. فَهُوَ إقْرَارٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ أَلْفٌ. صَحَّ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفٌ. فَهُوَ إقْرَارٌ بِدَيْنٍ عَلَى التَّرِكَةِ. وَإِنْ قَالَ: فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي. وَقَالَ: أَرَدْت هِبَةً. قُبِلَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْمِيرَاثَ إلَى أَبِيهِ، فَمُقْتَضَاهُ مَا خَلَّفَهُ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُقَرِّ بِهِ فِيهِ، وَإِذَا أَضَافَ الْمِيرَاثَ إلَى نَفْسِهِ، فَمَعْنَاهُ مَا وَرِثْته وَانْتَقَلَ إلَيَّ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِذَا أَضَافَ إلَيْهِ مِنْهُ جُزْءًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ شَرِكَةٌ] (3862) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ شَرِكَةٌ. صَحَّ إقْرَارُهُ، وَلَهُ تَفْسِيرُهُ بِأَيِّ قَدْرٍ كَانَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ مُقِرًّا بِنِصْفِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . فَاقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ، كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا، أَنَّ أَيَّ جُزْءٍ كَانَ لَهُ مِنْهُ، فَلَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، فَكَانَ لَهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا شَاءَ، كَالنِّصْفِ، وَلَيْسَ إطْلَاقُ لَفْظِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا دُونَ النِّصْفِ مَجَازًا، وَلَا مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ، وَالْآيَةُ تُثْبِتُ التَّسْوِيَةَ فِيهَا بِدَلِيلٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ شَرِكَةٌ بَيْنَنَا. [فَصْلٌ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ] (3863) فَصْلٌ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ: وَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ. أَوْ كَذَا. صَحَّ إقْرَارُهُ، وَلَزِمَهُ تَفْسِيرُهُ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَيُفَارِقُ الدَّعْوَى، حَيْثُ لَا تَصِحُّ مَجْهُولَةً؛ لِكَوْنِ الدَّعْوَى لَهُ وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ مَعَ الْجَهَالَةِ دُونَ مَالِهِ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا لَمْ يُصَحِّحْ دَعْوَاهُ، فَلَهُ دَاعٍ إلَى تَحْرِيرِهَا، وَالْمُقِرُّ لَا دَاعِيَ لَهُ إلَّا التَّحْرِيرُ، وَلَا يُؤْمَنُ رُجُوعُهُ عَنْ إقْرَارِهِ، فَيَضِيعُ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ، فَأَلْزَمْنَاهُ إيَّاهُ مَعَ الْجَهَالَةِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ، حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْعَلُ نَاكِلًا، وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ بَيَّنَ شَيْئًا، فَصَدَّقَهُ الْمُقِرُّ، ثَبَتَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ الْبَيَانِ، قِيلَ لَهُ: إنْ بَيَّنْت، وَإِلَّا جَعَلْنَاك نَاكِلًا، وَقَضَيْنَا عَلَيْك. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ بَيَّنْت وَإِلَّا حَلَّفْنَا الْمُقَرَّ لَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيه، وَأَوْجَبْنَاهُ عَلَيْك. فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا أَحَلَفْنَا الْمُقَرَّ لَهُ، وَأَوْجَبْنَاهُ عَلَى الْمُقِرِّ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ، فَيُحْبَسُ بِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ مَتَى عَيَّنَهُ الْمُدَّعِي وَادَّعَاهُ، فَنَكَلَ الْمُقِرُّ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَإِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، أُخِذَ وَرَثَتُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَى مَوْرُوثِهِمْ، فَيَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ وَقَدْ صَارَتْ إلَى الْوَرَثَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مَا لَزِمَ مَوْرُوثَهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُعَيَّنًا. وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ الْمَيِّتُ تَرِكَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَمَتَى فَسَّرَ إقْرَارَهُ بِمَا يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ وَثَبَتَ، إلَّا أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَيَدَّعِيَ جِنْسًا آخَرَ، أَوْ لَا يَدَّعِيَ شَيْئًا، فَيَبْطُلَ إقْرَارُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً، كَقِشْرَةِ جَوْزَةٍ، أَوْ قِشْرَةِ بَاذِنْجَانَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ اعْتِرَافٌ بِحَقٍّ عَلَيْهِ ثَابِتٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الشَّرْعِ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، فَالْإِيجَابُ يَتَنَاوَلُهُ. وَالثَّانِي، لَا يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَمَّا يَجِبُ ضَمَانُهُ، وَهَذَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ وَنَحْوِهَا، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً عَلَى انْفِرَادِهِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَدِّ قَذْفٍ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَئُولُ إلَى مَالٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَلَيَّ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَيَئُولُ إلَى الْمَالِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِرَدِّ السَّلَامِ، أَوْ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا الْإِقْرَارُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ تَفْسِيرُهُ بِهِ، إذَا أَرَادَ أَنَّ حَقًّا عَلَيَّ رَدُّ سَلَامِهِ إذَا سَلَّمَ، وَتَشْمِيتُهُ إذَا عَطَسَ؛ لِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ثَلَاثُونَ حَقًّا: يَرُدُّ سَلَامَهُ، وَيُشَمِّتُ عَطْسَتَهُ، وَيُجِيبُ دَعْوَتَهُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ» . وَإِنْ قَالَ: غَصَبْته شَيْئًا. وَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، قُبِلَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْغَصْبِ يَقَعُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْته نَفْسَهُ. لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْفَصْلُ أَكْثَرُهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلْ تَفْسِيرُ إقْرَارِهِ بِغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الشَّيْءُ فِي الْإِقْرَارِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَحَّ التَّفْسِيرُ كَالْمَكِيلِ، وَلَا عِبْرَةَ بِسَبَبِ ثُبُوتِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ. [فَصْل الْإِقْرَار بِمَالِ] (3864) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَالِ الزَّكَوِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] . وَقَوْلِهِ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} [الذاريات: 19] . وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 أَحَدُهَا، كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي؛ لَا يُقْبَلُ إلَّا أَوَّلُ نِصَابٍ مِنْ نُصُبِ الزَّكَاةِ، مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ. وَالثَّالِثُ، مَا يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ، وَيَصِحُّ مَهْرًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَلَنَا، أَنَّ غَيْرَ مَا ذَكَرُوهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَيَتَمَوَّلُ عَادَةً، فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ، كَاَلَّذِي وَافَقُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا آيَةُ الزَّكَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} [الذاريات: 19] . لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، ثُمَّ يَرُدُّ قَوْلَهُمْ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَالتَّزْوِيجُ جَائِزٌ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ الْمَالِ، وَبِمَا دُونَ النِّصَابِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ، أَوْ كَثِيرٌ، أَوْ جَلِيلٌ، أَوْ خَطِيرٌ. جَازَ تَفْسِيرُهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَالٌ. لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ، وَيَكُونُ صَدَاقًا عِنْدَهُ. وَعَنْهُ: لَا يُقْبَلُ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَبِهِ قَالَ صَاحِبَاهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ أَقَلَّ زِيَادَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَدْرَ الدِّيَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: اثْنَانِ وَسَبْعُونَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] . وَكَانَتْ غَزَوَاتُهُ وَسَرَايَاهُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَبَّةَ لَا تُسَمَّى مَالًا عَظِيمًا وَلَا كَثِيرًا. وَلَنَا، أَنَّ مَا فُسِّرَ بِهِ الْمَالُ فُسِّرَ بِهِ الْعَظِيمُ، كَاَلَّذِي سَلَّمُوهُ، وَلِأَنَّ الْعَظِيمَ وَالْكَثِيرَ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي اللُّغَةِ، وَلَا الْعُرْفِ، وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْظِمُ الْقَلِيلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْظِمُ الْكَثِيرَ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَحْتَقِرُ الْكَثِيرَ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ حَدٌّ يُرْجَعُ إلَى تَفْسِيرِهِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ مَالٍ إلَّا وَهُوَ عَظِيمٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ عَظِيمًا عِنْدَهُ؛ لِفَقْرِ نَفْسِهِ وَدَنَاءَتِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدٌ لِلْكَثِيرِ، وَكَوْنُ مَا ذَكَرُوهُ كَثِيرًا لَا يَمْنَعُ الْكَثْرَةَ فِيمَا دُونَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] . فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249] . فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى ذَلِكَ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَالَ: عَظِيمٌ جِدًّا، أَوْ عَظِيمٌ عَظِيمٌ. كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْهُ؛ لِمَا قَرَّرْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَفَسَّرَهُ بِأَكْثَر مِنْهُ عَدَدًا أَوْ قَدْرًا] (3865) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ. فَفَسَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ عَدَدًا أَوْ قَدْرًا، لَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَتُفَسَّرُ الزِّيَادَةُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَرَادَ، وَلَوْ حَبَّةً أَوْ أَقَلَّ. وَإِنْ قَالَ مَا عَلِمْت لِفُلَانٍ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا. وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَكْثَر مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَبْلَغَ الْمَالِ حَقِيقَةً لَا يُعْرَفُ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَيَمْلِكُ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمُقِرُّ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ الْمُقِرُّ مَعَ يَمِينِهِ، إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ مَالِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِمَالِهِ، لَمْ يَقْبَلْ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَالَ فُلَانٍ أَوْ جَهِلَهُ، أَوْ ذَكَرَ قَدْرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرُهُ، أَوْ قَالَهُ عَقِيبَ الشَّهَادَةِ بِقَدْرِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُ بَقَاءً أَوْ مَنْفَعَةً أَوْ بَرَكَةً، لِكَوْنِهِ مِنْ الْحَلَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ قَالَ: لِي عَلَيْك أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَالَ: لَك عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَكْثَرُ مُبْهَمَةٌ، لِاحْتِمَالِهَا مَا ذَكَرْنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَكْثَرَ مِنْهُ فُلُوسًا، أَوْ حَبَّ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ دَخَنٍ، فَرَجَعَ فِي تَفْسِيرِهَا إلَيْهِ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَةَ أَكْثَرُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الْعَدَدِ، أَوْ فِي الْقَدْرِ، وَتَنْصَرِفُ إلَى جِنْسِ مَا أُضِيفَ أَكْثَرُ إلَيْهِ، لَا يُفْهَمُ فِي الْإِطْلَاقِ غَيْرُ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} [غافر: 82] . وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِي قَالَ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا} [الكهف: 34] {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} [سبأ: 35] . وَالْإِقْرَارُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالظَّاهِرِ دُونَ مُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ، لَزِمَهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ جِيَادًا صِحَاحًا وَازِنَةً حَالَّةً. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ. لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهَا الْوَدِيعَةِ. وَلَوْ رَجَعَ إلَى مُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ لَسَقَطَ الْإِقْرَارُ. وَاحْتِمَالُ مَا ذَكَرُوهُ أَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي لَمْ يَقْبَلُوا تَفْسِيرَهُ بِهَا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى هَذَا. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا شَيْئًا] (3866) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، إلَّا شَيْئًا. قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ. فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا دُونَ النِّصْفِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إلَّا قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: إلَّا شَيْئًا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مُعْظَمُ أَلْفٍ، أَوْ جُلُّ أَلْفٍ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفٍ. لَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ، وَيَحْلِفُ عَلَى الزِّيَادَةِ إنْ اُدُّعِيَتْ عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 [فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا] (3867) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا. فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: (3868) أَحَدُهَا، أَنْ يَقُولَ: كَذَا. بِغَيْرِ تَكْرِيرٍ وَلَا عَطْفٍ. الثَّانِيَةُ، أَنْ يُكَرِّرَ بِغَيْرِ عَطْفٍ. الثَّالِثَةُ، أَنْ يَعْطِفَ، فَيَقُولَ: كَذَا وَكَذَا. فَأَمَّا الْأُولَى، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمٌ. لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمٌ. بِالرَّفْعِ، فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ. وَتَقْدِيرُهُ شَيْءٌ هُوَ دِرْهَمٌ، فَجَعَلَ الدِّرْهَمَ بَدَلًا مِنْ كَذَا. الثَّانِي، أَنْ يَقُولَ: دِرْهَمٍ. بِالْجَرِّ، فَيَلْزَمُهُ جُزْءُ دِرْهَمٍ، يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ جُزْءُ دِرْهَمٍ، أَوْ بَعْضُ دِرْهَمٍ. وَيَكُونُ كَذَا كِنَايَةً عَنْهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقُولَ: دِرْهَمًا. بِالنَّصْبِ، فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ، وَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى التَّفْسِيرِ، وَهُوَ التَّمْيِيزُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، كَأَنَّهُ قَطَعَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِدِرْهَمٍ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. الرَّابِعُ، أَنْ يَذْكُرَهُ بِالْوَقْفِ، فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِجُزْءِ دِرْهَمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْقَطَ حَرَكَةَ الْجَرِّ لِلْوَقْفِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ فِي الْحَالَاتِ كُلِّهَا. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّ " كَذَا " اسْمٌ مُبْهَمٌ فَصَحَّ تَفْسِيرُهُ بِجُزْءِ دِرْهَمٍ فِي حَالِ الْجَرِّ وَالْوَقْفِ. (3869) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، إذَا قَالَ: كَذَا كَذَا. بِغَيْرِ عَطْفٍ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي " كَذَا " بِغَيْرِ تَكْرَارٍ سَوَاءٌ، لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ. وَلَا يَقْتَضِي تَكْرِيرُهُ الزِّيَادَةَ، كَأَنَّهُ قَالَ: شَيْءٌ شَيْءٌ. وَلِأَنَّهُ إذَا قَالَهُ بِالْجَرِّ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَضَافَ جُزْءًا إلَى جُزْءٍ، ثُمَّ أَضَافَ الْجُزْءَ الْآخَرَ إلَى الدِّرْهَمِ، فَقَالَ: نِصْفَ تُسْعِ دِرْهَمٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا كَذَا. لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ ثُلُثَ خُمْسِ سُبْعِ دِرْهَمٍ، وَنَحْوَهُ. (3870) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، إذَا عَطَفَ، فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمٌ. بِالرَّفْعِ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُمَا دِرْهَمًا، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: هُمَا دِرْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ: دِرْهَمًا. بِالنَّصْبِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي؛ لِأَنَّ " كَذَا " يَحْتَمِلُ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، ثُمَّ فَسَّرَهُمَا بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، جَازَ، وَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا. وَهَذَا يُحْكَى قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ، فَإِذَا فَسَّرَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ عَادَ التَّفْسِيرُ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، كَقَوْلِهِ: عِشْرُونَ دِرْهَمًا. يَعُودُ التَّفْسِيرُ إلَى الْعِشْرِينَ، وَكَذَا هَاهُنَا. وَهَذَا يُحْكَى قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ، يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ دِرْهَمٍ. وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الدِّرْهَمَ تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيه، فَيَلْزَمُهُ بِهَا دِرْهَمٌ، وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ عَلَى إبْهَامِهَا، فَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهَا إلَيْهِ. وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ التَّمِيمِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا قَالَ: كَذَا دِرْهَمًا. لَزِمَهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يُفَسَّرُ بِالْوَاحِدِ الْمَنْصُوبِ. وَإِنْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا. لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ مُرَكَّبٍ يُفَسَّرُ بِالْوَاحِدِ الْمَنْصُوبِ. وَإِنْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. لَزِمَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ عُطِفَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ يُفَسَّرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٍ. بِالْجَرِّ لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يُضَافُ إلَى الْوَاحِدِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ إذَا قَالَ: كَذَا كَذَا، أَوْ كَذَا وَكَذَا. يَلْزَمُهُ بِهِمَا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قُلْنَا، وَيَحْتَمِلُ مَا قَالُوهُ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَرَاهِمُ. لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَلَا يَلْزَمُ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْأَمْرَيْنِ، جَازَ التَّفْسِيرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ يَكُونُ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ مُوجِبًا لِأَكْثَرَ مِنْ الْمُكَرَّرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالْمُفْرَدِ عِشْرُونَ، وَبِالْمُكَرَّرِ أَحَدَ عَشَرَ، وَلَا نَعْرِفُ لَفْظًا مُفْرَدًا مُتَنَاوِلًا لِعَدَدٍ صَحِيحٍ يَلْزَمُ بِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ بِمُكَرَّرِهِ. [فَصْل قَالَ غَصَبْتُكَ أَوْ غَبَنْتُك] (3871) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُك، أَوْ غَبَنْتُك. لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُهُ نَفْسَهُ، وَيَغِبْنَهُ فِي غَيْرِ الْمَالِ. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُك شَيْئًا. وَفَسَّرَهُ بِغَصْبِ نَفْسِهِ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مَفْعُولَيْنِ، فَجَعَلَهُ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَشَيْئًا الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَالٍ، قُبِلَ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ، أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ، أَوْ سِرْجِينٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْهَرُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا نَفْعَ فِيهِ، أَوْ بِمَا لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ أَخْذَ ذَلِكَ لَيْسَ بِغَصْبٍ. [فَصْل الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ] (3872) فَصْلٌ: وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، صَحَّتْ الشَّهَادَةُ بِهِ، كَالْمَعْلُومِ. [مَسْأَلَة قَالَ لَهُ عِنْدِيّ رَهْنٌ فَقَالَ الْمَالِكُ وَدِيعَةٌ] (3873) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي رَهْنٌ. فَقَالَ الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ) . إنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ ثَبَتَتْ لَهُ بِالْإِقْرَارِ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ دَيْنًا لَا يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ، وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بِهِ تَعَلُّقًا، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ ادَّعَاهُ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ، وَقَالَ: اسْتَأْجَرْتهَا. أَوْ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ قَصَّرَهُ، أَوْ خَاطَهُ بِأَجْرٍ يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا، فَلَا يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَهُ، وَلِي سُكْنَاهَا سَنَةً. [فَصْلٌ قَالَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ] (3874) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ. فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفٌ، وَلَا شَيْءَ لَك عِنْدِي. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْأَلْفِ، وَادَّعَى عَلَيْهِ مَبِيعًا، فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَالَ: هَذَا رَهْنٌ. فَقَالَ الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ. أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَلِي عِنْدَهُ مَبِيعٌ لَمْ أَقْبِضْهُ. وَالثَّانِي، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ لَهُ، وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَالَهُ، لَمْ يُسَلِّمْ لِلْمُقَرِّ لَهُ مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ. قَالَ: بَلْ مَلَّكْتنِيهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَفَارَقَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: عِنْدِي رَهْنٌ. فَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ وَدِيعَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنُ يَنْفَكُّ عَنْ الرَّهْنِ. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: بِعْتُك نَفْسَك بِأَلْفٍ. فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ. عَتَقَ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْفَكُّ عَنْ الثَّمَنِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَمْ أَقْبِضْهُ مُنْفَصِلًا أَوْ مُتَّصِلًا. فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْهُ. فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ تَعَلَّقَ بِالْمَبِيعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْقَبْضِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ. لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُ وُجُوبَ تَسْلِيمِهِ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَمْ يُقْبَلْ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: مُؤَجَّلٌ. [فَصْلٌ قَالَ بِعْتُك جَارِيَتِي هَذِهِ قَالَ بَلْ زَوَّجْتنِيهَا] (3875) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: بِعْتُك جَارِيَتِي هَذِهِ. قَالَ: بَلْ زَوَّجْتنِيهَا. فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ الِاسْتِيلَادِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ اعْتِرَافِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، فَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا لِمُدَّعِي الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَيَدَّعِي حِلَّهَا لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَيَثْبُتُ الْحِلُّ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَلَا تُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَ الِاسْتِيلَادِ، فَالْبَائِعُ يُقِرُّ أَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَوَلَدُهَا حُرٌّ، وَأَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهُ، وَيَدَّعِي الثَّمَنَ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِإِقْرَارِ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مِلْكُهُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَلَا تُرَدُّ الْأَمَةُ إلَى الْبَائِعِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُهَا إلَّا قَدْرَ الْمَهْرِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 سَبَبِهِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَحَالَفَانِ، وَلَا يَجِبُ مَهْرٌ وَلَا ثَمَنٌ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ عَلَى الْبَائِعِ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْيَمِينَ فِي إنْكَارِ النِّكَاحِ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَنَفَقَةُ الْأَمَةِ عَلَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ إمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا سَيِّدٌ، وَكِلَاهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: نَفَقَتُهَا فِي كَسْبِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ؛ لِأَنَّنَا أَزَلْنَا عَنْهَا مِلْكَ السَّيِّدِ، وَأَثْبَتْنَا لَهَا حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ. فَإِنْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ مَالًا، فَلِلْبَائِعِ قَدْرُ ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا، وَتَرِكَتُهَا لِلْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي مُقِرٌّ لِلْبَائِعِ بِهَا، فَيَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَدَّعِيهِ. وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَهِيَ مِلْكُهُ، وَتَرِكَتُهَا كُلَّهَا لَهُ، فَيَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَدَّعِيه، وَبَقِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ. وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ، فَقَدْ مَاتَتْ حُرَّةً، فَمِيرَاثُهَا لِوَلَدِهَا وَوَرَثَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ، فَمِيرَاثُهَا مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الثَّمَنَ عَلَى الْوَاطِئِ، وَلَيْسَ مِيرَاثُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ، فَعِنْدِي أَنَّهَا تُقَرُّ فِي يَدِ الزَّوْجِ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى حِلِّهَا لَهُ، وَاسْتِحْقَاقِهِ إمْسَاكَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ. وَلَا تُرَدُّ إلَى السَّيِّدِ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ. وَلِلْبَائِعِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ الْمَهْرِ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ. وَالْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ السَّيِّدَ إنْ كَانَ صَادِقًا، فَالْأُمَّةُ حَلَالٌ لِزَوْجِهَا بِالْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ. وَالْقَدْرُ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ، إنْ كَانَ السَّيِّدُ صَادِقًا، فَهُوَ يَسْتَحِقُّهُ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَهُوَ يَسْتَحِقُّهُ مَهْرًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْلِفُ الزَّوْجُ أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهَا؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الثَّمَنُ، وَلَا يَحْتَاجُ السَّيِّدُ إلَى الْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ فِيهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَتَحَالَفَانِ مَعًا، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مَا ثَبَتَ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَدَّعِيهِ، وَتُرَدُّ الْجَارِيَةُ إلَى سَيِّدِهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَرْجِعُ إلَيْهِ، فَيَمْلِكُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَمَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ فِي السِّلْعَةِ عِنْدَ فَلْسِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هَاهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ، فَيَحْتَاجُ السَّيِّدُ أَنْ يَقُولَ: فَسَخْت الْبَيْعَ. وَتَعُودُ إلَيْهِ مِلْكًا. وَالثَّانِي، تَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ مَعَ إمْكَانِهِ. فَعَلَى هَذَا يَبِيعُهَا الْحَاكِمُ وَيُوَفِّيه ثَمَنَهَا، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ حَقِّهِ، فَحَسَنٌ. وَإِنْ كَانَ دُونَهُ، أَخَذَهُ، وَإِنْ زَادَ، فَالزِّيَادَةُ لَا يَدَّعِيهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقِرُّ بِهَا لِلْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهَلْ تُقَرُّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَرْجِعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. فَإِنْ رَجَعَ الْبَائِعُ، وَقَالَ: صَدَقَ خَصْمِي، مَا بِعْته إيَّاهَا، بَلْ زَوَّجْته. لَمْ يُقْبَلْ فِي إسْقَاطِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَلَا فِي اسْتِرْجَاعِهَا إنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَقُبِلَ فِي إسْقَاطِ الثَّمَنِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ، وَأَخْذِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَاسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهَا وَمِيرَاثِ وَلَدِهَا. وَإِنْ رَجَعَ الزَّوْجُ، ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 [فَصْلٌ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ] (3876) فَصْلٌ: وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، أَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ لِغَيْرِهِمَا فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ سَيِّدِهِ، عَتَقَ فِي الْحَالِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الَّذِي اشْتَرَاهُ حُرٌّ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِرِقِّهِ، وَفِي حَقِّ الْمُشْتَرِي اسْتِنْقَاذًا وَاسْتِخْلَاصًا، فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ، حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ؛ لِإِقْرَارِهِ السَّابِقِ، وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَرَدَّ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا، فَدَفَعَا إلَى الزَّوْجِ عِوَضًا لِيَخْلَعَهَا، صَحَّ، وَكَانَ فِي حَقِّهِ خُلْعًا صَحِيحًا، وَفِي حَقِّهِمَا اسْتِخْلَاصًا، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه، فَإِنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ: مَا أَعْتَقْته. وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: مَا أَعْتَقْته. وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: مَا أَعْتَقَهُ إلَّا الْبَائِعُ وَأَنَا اسْتَخْلَصْته. فَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ مَالًا، فَرَجَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ قَوْلِهِ، فَالْمَالُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه سِوَاهُ، لِأَنَّ الرَّاجِعَ إنْ كَانَ الْبَائِعَ، فَقَالَ: صَدَقَ الْمُشْتَرِي، كُنْت أَعْتَقْته. فَالْوَلَاءُ لَهُ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِإِقْرَارِهِ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاجِعُ الْمُشْتَرِيَ، قُبِلَ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه سِوَاهُ، وَلَا يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ رَجَعَا مَعًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُوقَفَ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَأَحَدِهِمَا، وَلَا يَعْرِفُ عَيْنَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ يَحْلِفُ وَيَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقَرُّ فِي يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ أَقَرَّ لِرَجُلِ بِعَبْدِ أَوْ غَيْرِهِ] (3877) فَصْلٌ: وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَقْرَرْت لَك بِهِ. قَالَ: بَلْ هُوَ غَيْرُهُ. لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه، وَيَحْلِفُ الْمُقِرُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَبْدٌ سِوَاهُ. فَإِنْ رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَادَّعَاهُ، لَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: صَدَقْت، هَذَا لِي الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ آخَرُ لِي عِنْدَك. لَزِمَهُ تَسْلِيمُ هَذَا، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْآخَرِ. [مَسْأَلَة مَاتَ فَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ أَوْ أُخْتٍ] (3878) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ، فَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ أَوْ أُخْتٍ، لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْفَضْلَ الَّذِي فِي يَدِهِ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الْوَارِثَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ، مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ، وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ، وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشَارِكُهُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 يُقِرُّوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، فَلَا يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ مَعْرُوفِ النَّسَبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِهِ، فَلَزِمَهُ الْمَالُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، فَأَنْكَرَ الْآخَرُ. وَفَارَقَ مَا إذَا أَقَرَّ بِنَسَبٍ مَعْرُوفِ النَّسَبِ؛ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِبُطْلَانِهِ. وَلِأَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِمَالٍ يَدَّعِيه الْمُقَرُّ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ لَهُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِ، أَوْ أَقَرَّ لَهُ وَصِيَّةً، فَأَنْكَرَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَهُ فَضْلُ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ عَنْ مِيرَاثِهِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَانَ اثْنَانِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ، لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّرِكَةِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ غَصَبَ بَعْضَ التَّرِكَةِ أَجْنَبِيٌّ. وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا هَلَكَ بَعْضُهَا، أَوْ غُصِبَ، تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ، فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ. وَلَنَا، أَنَّ التَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ مِمَّا فِي يَدِهِ إلَّا الثُّلُثَ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ. وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَكَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ. وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَهُ بِالنَّسَبِ أَجْنَبِيٌّ ثَبَتَ، وَلَوْ لَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِكَوْنِهِ يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا، لِكَوْنِهِ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَالْوَصِيَّةِ. وَفَارَقَ مَا إذَا غَصَبَ بَعْضَ التَّرِكَةِ وَهُمَا اثْنَانِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ، وَهَا هُنَا يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ مِنْ كُلّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ. وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ إقْرَار جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ] (3879) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ، وَدُيُونِهِ، وَالدُّيُونِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَبَيِّنَاتِهِ، وَدَعَاوِيهِ، وَالْأَيْمَانِ الَّتِي لَهُ وَعَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، وَأَقْبِضَهُ، فَإِنَّهُ ابْنُهُ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هُوَ أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . فَقَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ. وَقَالَ " احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ". وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالشَّهَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالدَّيْنِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْعَدَدُ فِيهِ، كَإِقْرَارِ الْمَوْرُوثِ، وَاعْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ وَلَا الْعَدَالَةُ، وَيَبْطُلُ بِالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. [فَصْلٌ شُرُوطِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ] (3880) فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً، أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يُقِرَّ بِوَلَدٍ، اُعْتُبِرَ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ نَسَبَهُ الثَّابِتَ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيه. الثَّانِي، أَنْ لَا يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. الثَّالِثُ، أَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ، بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِهِ. الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ، كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إنْ كَانَ ذَا قَوْلٍ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْدِيقُهُ. فَإِنْ كَبِرَ وَعَقَلَ، فَأَنْكَرَ، لَمْ يُسْمَعْ إنْكَارُهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَنْ ادَّعَى مِلْكَ عَبْدٍ صَغِيرٍ فِي يَدِهِ، وَثَبَتَ بِذَلِكَ مِلْكُهُ، فَلَمَّا كَبِرَ جَحَدَ ذَلِكَ. وَلَوْ طَلَبَ إحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَإِنْ اعْتَرَفَ إنْسَانٌ بِأَنَّ هَذَا أَبُوهُ، فَهُوَ كَاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ ابْنُهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ إقْرَارًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، كَإِقْرَارٍ بِأَخٍ، اُعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ، وَشَرْطٌ خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً لَا وَارِثَ مَعَهُمَا، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ الْإِمَامُ مَعَهُ، ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسْلِمِينَ، فِي مُشَارَكَةِ الْوَارِثِ وَأَخْذِ الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ، كَالِابْنِ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَلَهُمْ فِيمَا إذَا وَافَقَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ. وَهَذَا مِنْ فُرُوعِ الرَّدِّ، وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَتْ بِنْتٌ وَأُخْتٌ، أَوْ أُخْتٌ وَزَوْجٌ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَأْخُذَانِ الْمَالَ كُلَّهُ. وَإِذَا أَقَرَّ بِابْنِ ابْنِهِ، وَابْنُهُ مَيِّتٌ، اُعْتُبِرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَخِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِعَمٍّ وَهُوَ ابْنُ جَدِّهِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 (3881) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ غَيْرَ وَارِثٍ، لِكَوْنِهِ رَقِيقًا، أَوْ مُخَالِفًا لِدِينِ مَوْرُوثِهِ، أَوْ قَاتِلًا، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِ الْآخَرِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَرِثُ، شَارَكَ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ، لِوُجُودِ أَحَدِ الْمَوَانِعِ فِيهِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقِرُّ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. [فَصْل كَانَ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ] (3882) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ. فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، فَأَقَرَّا بِهِ أَيْضًا، ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ. وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ كَانَ الْوَارِثَانِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ، فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَوَرِثَهُ الْمُقِرُّ، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، فَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرِيكُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ وَارِثٌ. وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ، أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ، لَمْ يَثْبُت النَّسَبُ بِقَوْلِ الْبَاقِي مِنْهُمَا، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلَّ الْوَرَثَةِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مَقَامَهُ، فَإِذَا وَافَقَ الْمُقِرَّ فِي إقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ كَالْمَوْرُوثِ. وَإِنْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ، وَخَلَّفَ ابْنًا، فَأَقَرَّ بِاَلَّذِي أَنْكَرَهُ أَبُوهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِإِقْرَارِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِإِنْكَارِ الْمَيِّتِ لَهُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ] (3883) فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ، كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، وَأَخٍ مِنْ أَبٍ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَابْنِ ابْنٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ، وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ، وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ تَوْرِيثِهِ. فَسَقَطَ، بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَخَرَجَ الْمُقَرُّ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ وَارِثًا، فَيَبْطُلُ إقْرَارُهُ، وَيَسْقُطُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَتَوْرِيثُهُ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إسْقَاطِ نَسَبِهِ وَتَوْرِيثِهِ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ الْمِيرَاثِ. وَلَنَا، أَنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 أَيْ فَيَرِثُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ، وَلَا يُوَرَّثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ الْمَوَانِعِ. وَمَا احْتَجُّوا بِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا نَعْتَبِرُ كَوْنِ الْمُقِرِّ وَارِثًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَخُرُوجُهُ بِالْإِقْرَارِ عَنْ الْإِرْثِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِابْنَ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ فَإِنَّهُ يَرِثُ، مَعَ كَوْنِهِ يَخْرُجُ بِإِقْرَارِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ إذَا صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِهِ، فَصَارَ إقْرَارًا مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ طِفْلًا أَوْ مَجْنُونًا، لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ، فَقَدْ أَقَرَّ كُلُّ مَنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ. قُلْنَا: وَمِثْلُهُ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِهِ كُلُّ مَنْ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُعْتَبَرِ الْقَوْلِ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِقَوْلِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ كَانَا اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ فَأَقَرَّ الْبَالِغُ بِأَخٍ آخَر، لَمْ يُقْبَلْ، وَلَمْ يَقُولُوا: أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ مُوَافَقَتُهُ، كَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ إنْسَانٍ عَبْدٌ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ، فَأَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ، ثَبَتَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ يَخْرُجُ بِالْإِقْرَارِ عَنْ كَوْنِهِ مَالِكًا، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ خَلَّفَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ] (3884) فَصْلٌ: فَإِنْ خَلَّفَ ابْنًا، فَأَقَرَّ بِأَخٍ، ثَبَتَ نَسَبُهُ، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِثَالِثٍ، ثَبَتَ نَسَبُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ قَالَ الثَّالِثُ: الثَّانِي لَيْسَ بِأَخٍ لَنَا. فَقَالَ الْقَاضِي: يَسْقُطُ نَسَبُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ وَارِثٌ مُنْكِرٌ لِنَسَبِ الثَّانِي، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ نَسَبُهُ ثَابِتًا قَبْلَ الثَّانِي. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرِ: لَا يَسْقُطُ نَسَبُهُ وَلَا مِيرَاثُهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَثَبَتَ مِيرَاثُهُ، فَلَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ مَنْ هُوَ كُلُّ الْوَرَثَةِ حِينَ الْإِقْرَارِ، وَثَبَتَ مِيرَاثُهُ فَلَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَ لَوْ أَنْكَرَ الثَّالِثَ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إسْقَاطُ نَسَبِ مَنْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِقَوْلِهِ، كَالْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الِابْنُ بِأَخَوَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً] (3885) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ الِابْنُ بِأَخَوَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا. وَإِنْ تَكَاذَبَا، فَفِيهِمَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ كُلُّ الْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي، يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ الْإِقْرَارُ بِهِ مِنْ ثَابِتِ النَّسَبِ، هُوَ كُلَّ الْوَرَثَةِ حِينَ الْإِقْرَارِ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ مُوَافَقَةُ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُصَدِّقُ صَاحِبَهُ دُونَ الْآخَرِ، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، وَفِي الْآخَرِ وَجْهَانِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 وَإِنْ كَانَا تَوْأَمَيْنِ، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا، وَلَمْ يَلْتَفِت إلَى إنْكَارِ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ تَجَاحَدَا مَعًا، أَوْ جَحَدَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ كَذِبَهُمَا، فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِنَسَبِ أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي النَّسَبِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرَيْنِ، دَفْعَةً وَاحِدَةً، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ نَسَبُ الْكَبِيرَيْنِ الْمُتَجَاحِدَيْنِ. وَهَلْ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ كُلُّ الْوَرَثَةِ حِينَ الْإِقْرَارِ، وَلَمْ يَجْحَدْهُ أَحَدٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْفَرَدَ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَثْبُتَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَارِثٌ، وَلَمْ يُقِرَّ بِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ كُلُّ الْوَرَثَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ، وَيَدْفَعُ الْمُقِرُّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْمِيرَاثِ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ أَوْ لَمْ نَقُلْ؛ لِأَنَّهُ مُقَرٌّ بِهِ. [فَصْلٌ خَلَّفَ امْرَأَةً وَأَخًا فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِابْنِ لِلْمَيِّتِ وَأَنْكَرَ الْأَخُ] (3886) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ امْرَأَةً وَأَخًا، فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ. وَأَنْكَرَ الْأَخُ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَدَفَعَتْ إلَيْهِ ثُمْنَ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ الْفَضْلَةُ الَّتِي فِي يَدِ الزَّوْجَةِ عَنْ مِيرَاثِهَا. وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ وَحْدَهُ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ الْمَالِ. فَإِنْ خَلَّفَ اثْنَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِأَبِيهِ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، لَمْ تَثْبُتْ الزَّوْجِيَّةُ، وَيَدْفَعُ إلَيْهَا نِصْفَ الْمِيرَاثِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِنَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ زَالَتْ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا الْمُقَرُّ بِهِ حَقُّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ. وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ: لَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ امْرَأَةٌ أُخْرَى، فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُقِرِّ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا، مِثْلُ أَنْ يُخَلِّفَ أَخًا مِنْ أَبٍ وَأَخًا مِنْ أُمٍّ، فَيُقِرَّ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ بِأَخٍ لِلْمَيِّتِ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ بِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَبٍ، أَوْ مِنْ أُمٍّ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُقِرِّ. وَإِنْ أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ، دَفَعَ إلَيْهِمَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُسْعٌ، وَفِي يَدِهِ سُدْسٌ، وَهُوَ تُسْعٌ وَنِصْفُ تُسْعٍ، فَيَفْضُلُ فِي يَدِهِ نِصْفُ تُسْعٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ شَهِدَ مِنْ الْوَرَثَةِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِنَسَبِ مُشَارِك لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ] (3887) فَصْل: وَإِذَا شَهِدَ مِنْ الْوَرَثَةِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِنَسَبٍ مُشَارِكٍ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ إذَا لَمْ يَكُونَا مُتَّهَمَيْنِ. وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِهِ. وَإِنْ كَانَا مُتَّهَمَيْنِ، كَأَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ يَشْهَدَانِ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُخْتَانِ مِنْ أَبَوَيْنِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ يُسْقِطُ الْعَوْلَ، فَيَتَوَفَّرُ عَلَيْهِمَا الثُّلُثُ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِأَخٍ مِنْ أَبٍ، فِي مَسْأَلَةٍ مَعَهُمَا أُمٌّ وَأُخْتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ مِنْ أَبٍ، لَمْ تُقْبَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ يُسْقِطُ أُخْتَهُ، فَيَذْهَبُ الْعَوْلُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَارِثَيْنِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَثَبَتَ النَّسَبُ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِنَسَبِ مُشَارِك لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ وَثَمَّ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا] (3888) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِنَسَبٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَثَمَّ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُمَا بَيِّنَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ النَّسَبُ، كَالْوَاحِدِ. وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْإِقْرَارُ بِخِلَافِهِ. [فَصْل أَقَرَّ بِنَسَبِ مَيِّتٍ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ] (3889) فَصْلٌ: إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ مَيِّتٍ، صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَوَرِثَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ دُونَ مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي قَصْدِ أَخْذِ مِيرَاثِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلَا إرْثُهُ؛ لِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ فِي حَيَاتِهِ الْإِقْرَارُ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَثْبُتُ بِهِ، كَحَالَةِ الْحَيَاةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ حَيًّا مُوسِرًا، أَوْ الْمُقِرُّ فَقِيرًا، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَيَمْلِكُ الْمُقِرُّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَإِيقَافَهُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا عَاقِلًا، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ الْقَاضِي، وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ، أَشْبَهَ الصَّغِيرَ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْمُكَلَّفِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَإِنْ ادَّعَى نَسَبَ الْمُكَلَّفِ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى مَاتَ الْمُقِرُّ، ثُمَّ صَدَّقَهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَدَّقَهُ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِزَوْجِيَّةِ امْرَأَةٍ، أَوْ أَقَرَّتْ أَنَّ فُلَانًا زَوْجُهَا، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُقَرَّ بِهِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَرِثَهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ مَعًا. [فَصْلٌ خَلَّفَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَابْنًا مِنْ غَيْرِهَا فَأَقَرَّ الِابْنُ بِأَخٍ لَهُ] (3890) فَصْلٌ: وَإِذَا خَلَّفَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَابْنًا مِنْ غَيْرِهَا، فَأَقَرَّ الِابْنُ بِأَخٍ لَهُ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِهِ كُلُّ الْوَرَثَةِ. وَهَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَتَوَارَثَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِرُّ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَى صَاحِبِهِ، وَلَا مُنَازِعَ لَهُمَا. وَالثَّانِي، لَا يَتَوَارَثَانِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثٌ غَيْرَ صَاحِبِهِ، لَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ مُنَازَعٌ فِي الْمِيرَاثِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 [فَصْلٌ ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْإِقْرَارِ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ] (3891) فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْإِقْرَارِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ؛ لِأَنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ فَلَمْ يَزُلْ بِإِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِالْفِرَاشِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ مُكَلَّفًا، فَصَدَّقَ الْمُقِرُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ نَسَبُ الْمُكَلَّفِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمَا، فَزَالَ بِرُجُوعِهِمَا، كَالْمَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، فَأَشْبَهَ نَسَبَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَفَارَقَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ. [فَصْلٌ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِوَلَدِ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا نَسَبٍ] (3892) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ، وَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا نَسَبٍ، قُبِلَ إقْرَارُهَا. وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، فَهَلْ يُقْبَلُ إقْرَارُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، أَوْ إلْحَاقًا لِلْعَارِ بِهِ بِوِلَادَةِ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا شَخْصٌ أَقَرَّ بِوَلَدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَقُبِلَ كَالرَّجُلِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنُ مَنْصُورٍ، فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا: فَإِنْ كَانَ لَهَا إخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ابْنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ فَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ ذَاتَ أَهْلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ وِلَادَتُهَا، فَمَتَى ادَّعَتْ وَلَدًا لَا يَعْرِفُونَهُ، فَالظَّاهِرُ كَذِبُهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقْبَلَ دَعْوَاهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ، فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ. [فَصْلٌ قَدِمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ وَمَعَهَا طِفْلٌ فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ] (3893) فَصْلٌ: وَلَوْ قَدِمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، وَمَعَهَا طِفْلٌ، فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ، لَحِقَهُ؛ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ، وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ أَرْضَهُمْ، أَوْ دَخَلَتْ هِيَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَوَطِئَهَا، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مِنْ غَيْبَتِهِ، لَحِقَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ قُدُومٌ إلَيْهَا، وَلَا عُرِفَ لَهَا خُرُوجٌ مِنْ بَلَدِهَا. [فَصْلٌ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ] (3894) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْحُرِّيَّةِ، كَانَ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّتِهَا؛ لِأَنَّ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْوَالَهُمْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ مِنْهُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَلَنَا، أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَيْسَتْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَلَا مَضْمُونِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 بِالْحُرِّيَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّسَبَ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَقَدْ يُلْحَقُ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالشُّبْهَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ، مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ لَفْظُهُ، وَلَمْ يُوجِبْهُ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ أَمَةٌ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فَقَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي] (3895) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ أَمَةٌ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ، لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، فَقَالَ: أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي. فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ، وَيُطَالَبُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، ثُمَّ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنْ قَالَ: كَانَ بِنِكَاحٍ. فَعَلَى الْوَالِدِ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَسَّهُ رِقٌّ، وَالْأُمُّ وَوَلَدَاهَا الْآخَرَانِ رَقِيقٌ قِنٌّ. وَإِنْ قَالَ: اسْتَوْلَدْتهَا فِي مِلْكِي. فَالْمُقَرُّ بِهِ حُرُّ الْأَصْلِ، لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ الْأَكْبَرَ، فَأَخَوَاهُ أَبْنَاءُ أُمِّ وَلَدٍ، حُكْمُهُمَا حُكْمُهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا. وَإِنْ كَانَ الْأَوْسَطَ، فَالْأَكْبَرُ قِنٌّ، وَالْأَصْغَرُ لَهُ حُكْمُ أُمِّهِ، وَإِنْ عَيَّنَ الْأَصْغَرَ، فَأَخَوَاهُ رَقِيقٌ قِنٌّ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. فَالْوَلَدُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَأَخَوَاهُ مَمْلُوكَانِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ، أَخَذَ وَرَثَتُهُ بِالْبَيَانِ، وَيَقُومُ بَيَانُهُمْ مَقَامَ بَيَانِهِ، فَإِنْ بَيَّنُوا النَّسَبَ وَلَمْ يُبَيِّنُوا الِاسْتِيلَادَ، ثَبَتَ النَّسَبُ وَحُرِّيَّةُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْأُمِّ وَلَا لِوَلَدَيْهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنُوا النَّسَبُ، وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ ذَلِكَ، وَلَا الِاسْتِيلَادَ، فَإِنَّا نُرِيه الْقَافَةَ، فَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَلْحَقْنَاهُ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَافَةٌ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ عَتَقَ وَوَرِثَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُوَرِّثُهُ بِالْقُرْعَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حُرٌّ اسْتَنَدَتْ حُرِّيَّتُهُ إلَى إقْرَارِ أَبِيهِ بِهِ، فَوَرِثَ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ فِي إقْرَارِهِ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ أَمَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ فَقَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ وَلَدِي مِنْ أَمَتِي] (3896) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ أَمَتَانِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ، فَقَالَ: أَحَدُ هَذَيْنِ وَلَدِي مِنْ أَمَتِي. نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَأُلْحِقَ الْوَلَدَانِ بِالزَّوْجَيْنِ. وَإِنْ كَانَ لِإِحْدَاهُمَا زَوْجٌ دُونَ الْأُخْرَى، انْصَرَفَ الْإِقْرَارُ إلَى وَلَدِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ، وَلَكِنْ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِوَطْئِهِمَا، صَارَتَا فِرَاشًا، وَلَحِقَ وَلَدَاهُمَا بِهِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُولَدَا بَعْدَ وَطْئِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، انْصَرَفَ الْإِقْرَارُ إلَى مَنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ حُكْمًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِوَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، صَحَّ إقْرَارُهُ وَثَبَتَتْ حُرِّيَّةُ الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبٍ صَغِيرٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 مَجْهُولِ النَّسَبِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، فَلَحِقَهُ نَسَبُهُ، ثُمَّ يُكَلَّفُ الْبَيَانَ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ، فَإِذَا بَيَّنَ قُبِلَ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ، ثُمَّ يُطَالَبُ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ قَالَ: اسْتَوْلَدْتهَا فِي مِلْكِي. فَالْوَلَدُ حُرُّ الْأَصْلِ، لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ. وَإِنْ قَالَ: فِي نِكَاحٍ. فَعَلَى الْوَلَدِ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَسَّهُ رِقٌّ، وَالْأَمَةُ قِنٌّ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِمَمْلُوكٍ. وَإِنْ قَالَ: بِوَطْءِ شُبْهَةٍ. فَالْوَلَدُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَالْأَمَةُ قِنٌّ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ. وَإِنْ ادَّعَتْ الْأُخْرَى أَنَّهَا الَّتِي اسْتَوْلَدَهَا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاسْتِيلَادِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَتْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إقْرَارِهِ بِشَيْءٍ، فَإِذَا حَلَفَ رَقَّتْ وَرَقَّ وَلَدُهَا، وَإِذَا مَاتَ وَرِثَهُ وَلَدُهُ الْمُقَرُّ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً قَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عَتَقَتْ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ عَتَقَتْ عَلَى وَلَدِهَا إنْ كَانَ هُوَ الْوَارِثَ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ عَتَقَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا مَلَكَ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إلْحَاقِ النَّسَبِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا بَيَّنَ كَانَ كَمَا لَوْ بَيَّنَ الْمَوْرُوثُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْوَارِثُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِيلَادِ، فَفِي الْأَمَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَكُونُ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْأَصْلُ، فَلَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ. وَالثَّانِي يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَلَدِهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، أَوْ كَانَ وَارِثٌ فَلَمْ يُعَيِّنْ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقَتْ بِهِ أَحَدَهُمَا، ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْوَارِثُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَافَةٌ، أَوْ كَانَتْ فَلَمْ تَعْرِفْ، أُقْرِعَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّ لِلْقُرْعَةِ مَدْخَلًا فِي إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ ثُبُوتُ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ نَسَبٌ وَلَا مِيرَاثٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِيرَاثِ، فَقَالَ الْمُزَنِيّ: يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنٍ؛ لِأَنَّنَا تَيَقَّنَّا ابْنًا وَارِثًا. وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ: لَا يُوقَفُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى انْكِشَافُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ، وَيُسْتَسْعَى فِي بَاقِيهِ، وَلَا يَرِثَانِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مِثْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَدْفَعَانِهِ فِي سِعَايَتِهِمَا. وَالْكَلَامُ عَلَى قِسْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالسِّعَايَةِ يَأْتِي فِي الْعِتْقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 [مَسْأَلَة أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِ] (3897) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِ، لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَارِثَ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى مَوْرُوثِهِ، قُبِلَ إقْرَارُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَيِّتُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ تَرِكَةً، لَمْ يُلْزَمْ الْوَارِثُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ دَيْنِهِ إذَا كَانَ حَيًّا مُفْلِسًا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَيِّتًا. وَإِنْ خَلَفَ تَرِكَةً، تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهَا، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَارِثُ تَسْلِيمَهَا فِي الدَّيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ اسْتِخْلَاصَهَا وَإِيفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ، أَوْ بَيِّنَةٍ، أَوْ إقْرَارِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَكَذَلِكَ. وَإِذَا اخْتَارَ الْوَرَثَةُ أَخْذَ التَّرِكَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ، لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ، وَالْخِيرَةُ إلَيْهِ فِي تَسْلِيمِ نَصِيبِهِ فِي الدَّيْنِ أَوْ اسْتِخْلَاصِهِ. وَإِذَا قَدَّرَهُ مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ، لَزِمَهُ النِّصْفُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، فَعَلَيْهِ الثُّلُثُ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدَّيْنِ، أَوْ جَمِيعُ مِيرَاثِهِ. وَهَذَا آخِرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَجَعَ إلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ كَقَوْلِنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَارِثُ مِنْهَا إلَّا مَا فَضَلَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وَلِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. فَكَانَ غَاصِبًا، فَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْمِيرَاثِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدَّيْنِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَخُوهُ، وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا مَا يَخُصُّهُ، كَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ قَوْلِ الْمَيِّتِ، أَوْ إقْرَارِ الْوَارِثِينَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا نِصْفُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِإِقْرَارِهِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ، كَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِالدَّيْنِ مَعَ غَيْرِهِ تُقْبَلُ، وَلَوْ لَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا. [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا بَيْنهمَا مَلَكَاهَا بِسَبَبِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ] (3898) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا بَيْنَهُمَا، مَلَكَاهَا بِسَبَبٍ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَا: وَرِثْنَاهَا أَوْ ابْتَعْنَاهَا مَعًا. فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنِصْفِهَا لَأَحَدِهِمَا، فَذَلِكَ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا اعْتَرَفَا أَنَّ الدَّارَ لَهُمَا مُشَاعَةً، فَإِذَا غَصَبَ غَاصِبٌ نِصْفَهَا، كَانَ مِنْهُمَا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا ادَّعَيَا شَيْئًا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، بَلْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِمَا ادَّعَاهُ، لَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ، وَكَانَ عَلَى خُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْتَرِفَا بِالِاشْتِرَاكِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 فَإِنْ أَقَرَّ لَأَحَدِهِمَا بِالْكُلِّ، وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ يَعْتَرِفُ لِلْآخَرِ بِالنِّصْفِ، سَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ، وَجَبَ تَسْلِيمُ النِّصْفِ، إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ قَدْ اعْتَرَفَ لَهُ بِهَا، فَصَارَ بِمَنْزِلَتِهِ، فَيَثْبُتُ لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اعْتَرَفَ لِلْآخَرِ، وَادَّعَى جَمِيعَهَا أَوْ ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَهُوَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَمْلِكُ جَمِيعَهَا وَلَمْ يَدَّعِ إلَّا نِصْفَهَا؟ قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ تَقَدُّمُ الدَّعْوَى، بَلْ مَتَى أَقَرَّ الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، ثَبَتَ، وَقَدْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ هَاهُنَا فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ دَعْوَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اقْتَصَرَ عَلَى دَعْوَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّ لَهُ حُجَّةً بِهِ، أَوْ لِأَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ قَدْ اعْتَرَفَ لَهُ بِهِ، فَادَّعَى النِّصْفَ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ. فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي إقْرَارِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَدَّعِهِ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ لِلْآخَرِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ لِمَنْ لَا يَدَّعِيه. الثَّانِي، يَنْزِعُهُ الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَثْبُتَ لِمُدَّعِيهِ، وَيُؤْجِرُهُ، وَيَحْفَظُ أُجْرَتَهُ لِمَالِكِهِ. وَالثَّالِثُ، يُدْفَعُ إلَى مُدَّعِيه لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِيهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَة كُلُّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فَلِخَصْمِهِ عَلَيْهِ الْيَمِينُ] (3899) . مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكُلُّ مَنْ قُلْت: الْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَلِخَصْمِهِ عَلَيْهِ الْيَمِينُ) يَعْنِي فِي هَذَا الْبَابِ وَفِيمَا أَشْبَهَهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عِنْدِي أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَدِيعَةً. أَوْ قَالَ: عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: وَدِيعَةً. أَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي رَهْنٌ. فَقَالَ الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ. وَمِثْلُ الشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُنْكِرِ لِلدَّعْوَى، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي الرَّهْنُ بِهِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا، فَكُلُّ مَنْ قُلْنَا الْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَعَلَيْهِ لِخَصْمِهِ الْيَمِينُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ يُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ، وَقَوِيَ جَانِبُهُ، تَقْوِيَةً لِقَوْلِهِ وَاسْتِظْهَارًا، وَاَلَّذِي جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُشْرَعَ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِ. (3900) فَصْلٌ: إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ وَأُقْبِضَ الْهِبَةَ، أَوْ رَهَنَ وَأُقْبِضَ، أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، أَوْ أَجْرَ الْمُسْتَأْجَرِ، ثُمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَسَأَلَ إحْلَافَ خَصْمِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُسْتَحْلَفُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَكْذِيبٌ لِإِقْرَارِهِ، فَلَا تُسْمَعُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ رَبِحَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: غَلِطْت. وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ: أَحْلِفُوهُ لِي مَعَ بَيِّنَتِهِ. لَمْ يُسْتَحْلَفْ، كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِيَةُ، يُسْتَحْلَفُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالْإِقْرَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَحْتَمِلُ صِحَّةَ مَا قَالَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ خَصْمُهُ لِنَفْيِ الِاحْتِمَالِ. وَيُفَارِقُ الْإِقْرَارُ الْبَيِّنَةَ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَبْضِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ شَهَادَةَ زُورٍ. وَالثَّانِي، أَنَّ إنْكَارَهُ مَعَ الشَّهَادَةِ طَعْنٌ فِي الْبَيِّنَةِ، وَتَكْذِيبٌ لَهَا، وَفِي الْإِقْرَارِ بِخِلَافِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ أَلْفًا وَقَبَضَهَا، أَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْت قَبَضْتهَا، وَإِنَّمَا أَقْرَرْت لِأَقْبِضَهَا. فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ وَكِيلِهِ وَظَنِّهِ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى الْيَقِينِ. فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَهُ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَا أَقْبَضْتُكَهُ. وَقَالَ الْمُتَّهِبُ: بَلْ أَقْبَضْتنِيهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، فَقَالَ: أَقْبَضْتنِيهَا. فَقَالَ: بَلْ أَخَذْتهَا مِنِّي بِغَيْرِ إذْنِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ. وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْهِبَةِ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا. وَعَلَى مَنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ. مِنْهُمَا الْيَمِينُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ الْإِقْرَارُ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ] (3901) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْإِقْرَارُ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، كَالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ، إذَا كَانَ لِغَيْرِ وَارِثٍ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ جَائِزٌ. وَحَكَى أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى؛ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، أَشْبَهَ الْإِقْرَارَ لِوَارِثِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ الْوَارِثِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا لَا يَمْلِكُ عَطِيَّتَهُ، بِخِلَافِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، وَتَحَرِّي الصِّدْقِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. . [فَصْلٌ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ أَوْ إقْرَارٍ] (3902) فَصْلٌ: فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ فِي صِحَّتِهِ، وَفِي الْمَالِ سَعَةٌ لَهُمَا، فَهُمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 سَوَاءٌ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْ قَضَائِهِمَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ التَّمِيمِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ، فَاسْتَوَيَا، كَمَا لَوْ ثَبَتَا بِبَيِّنَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا يُحَاصَّ غُرَمَاءُ الصِّحَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِنَصِّ أَحْمَدَ فِي الْمُفْلِسِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ، يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ الَّذِي بِالْبَيِّنَةِ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْي؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِتَرِكَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُشَارِكَ الْمُقَرُّ لَهُ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِبَيِّنَةٍ، كَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمَالِهِ، مَنْعُهُ مِنْ التَّبَرُّعِ وَمِنْ الْإِقْرَارِ لَوَارِثٍ؛ وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا تَنْفُذُ هِبَاتُهُ وَتَبَرُّعَاتُهُ، فَلَمْ يُشَارِكْ مَنْ أَقَرَّ لَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ، وَمَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِبَيِّنَةٍ، كَاَلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمُفْلِسُ. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا جَمِيعًا فِي الْمَرَضِ، تَسَاوَيَا، وَلَمْ يُقَدَّمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَا غَرِيمَيْ الصِّحَّةِ. " [مَسْأَلَةٌ الْإِقْرَار لِوَارِثِ] (3903) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ، لَمْ يَلْزَمْ بَاقِي الْوَرَثَةِ قَبُولُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَابْنُ أُذَيْنَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ فِي الصِّحَّةِ، صَحَّ فِي الْمَرَضِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ إذَا لَمْ يُتَّهَمْ، وَيَبْطُلُ إنْ اُتُّهِمَ، كَمَنْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ عَمٍّ، فَأَقَرَّ لِابْنَتِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ أَقَرَّ لِابْنِ عَمِّهِ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ يَزْوِي ابْنَتَهُ وَيُوصِلُ الْمَالَ إلَى ابْنِ عَمِّهِ، وَعِلَّةُ مَنْعِ الْإِقْرَارِ التُّهْمَةُ، فَاخْتَصَّ الْمَنْعُ بِمَوْضِعِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ إيصَالٌ لِمَالِهِ إلَى وَارِثِهِ بِقَوْلِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ رِضَى بَقِيَّةِ وَرَثَتِهِ، كَهِبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهُ، كَالصَّبِيِّ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ. وَفَارَقَ الْأَجْنَبِيَّ؛ فَإِنَّ هِبَتَهُ لَهُ تَصِحُّ. وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ التُّهْمَةَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا بِنَفْسِهَا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ الْإِرْثُ، وَكَذَلِكَ اُعْتُبِرَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّبَرُّعِ وَغَيْرِهِمَا. [فَصْلٌ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ دُونَهُ] (3904) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ دُونَهُ، صَحَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إلَّا الشَّعْبِيَّ قَالَ: لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِوَارِثٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا تَحَقَّقَ سَبَبُهُ، وَعُلِمَ وُجُودُهُ، وَلَمْ تُعْلَمْ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ، فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى مِنْ وَارِثِهِ شَيْئًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ بِدَيْنٍ سِوَى الصَّدَاقِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ أَقَرَّ لَهَا، ثُمَّ أَبَانَهَا، ثُمَّ رَجَعَ تَزَوَّجَهَا، وَمَاتَ فِي مَرَضِهِ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ لَهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا يُتَّهَمُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ ثُمَّ بَرَأَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ لِوَارِثِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُبِنْهَا، وَفَارَقَ مَا إذَا صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ. [فَصْل أَقَرَّ لِوَارِثِ فَصَارَ غَيْرَ وَارِثٍ] (3905) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ، فَصَارَ غَيْرَ وَارِثٍ كَرَجُلٍ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا، صَحَّ إقْرَارُهُ لَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةِ بِدَيْنٍ فِي الْمَرَضِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. وَحُكِيَ لَهُ قَوْلُ سُفْيَانَ فِي رَجُلٍ لَهُ ابْنَانِ، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ، وَتَرَكَ ابْنًا، وَالْأَبُ حَيٌّ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَازَ إقْرَارُهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ لَا يَجُوزُ. وَبِهَذَا قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى فِي الصُّورَتَيْنِ مُخَالِفَةً لِمَا قُلْنَا. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مَعْنَى يُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَمُ الْمِيرَاثِ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، كَالْوَصِيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلٌ تُعْتَبَرُ فِيهِ التُّهْمَةُ، فَاعْتُبِرَتْ حَالَ وُجُودِهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ، ثَبَتَ الْإِقْرَارُ، وَصَحَّ؛ لِوُجُودِهِ مِنْ أَهْلِهِ خَالِيًا عَنْ تُهْمَةٍ، فَيَثْبُتُ الْحَقُّ بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مُسْقِطٌ لَهُ، فَلَا يَسْقُطُ. وَإِذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ، وَقَعَ بَاطِلًا؛ لِاقْتِرَانِ التُّهْمَةِ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِوَارِثِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الْمِيرَاثُ. وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ، صَحَّ، وَاسْتَمَرَّ، كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ عَدَمُ الْإِرْثِ. أَمَّا الْوَصِيَّةُ، فَإِنَّهَا عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهَا حَالَةُ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ أَقَرَّ لِوَارِثِ وَأَجْنَبِيٍّ] (3906) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، بَطَلَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَصَحَّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بَعْضَهَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ، وَكَمَا لَوْ شَهِدَ لِابْنِهِ وَأَجْنَبِيٍّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ أَقَرَّ لَهُمَا بِدَيْنٍ مِنْ الشَّرِكَةِ، فَاعْتَرَفَ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ، صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُمَا، وَإِنْ جَحَدَهَا، صَحَّ لَهُ دُونَ الْوَارِثِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ لِوَارِثِ وَأَجْنَبِيٍّ، فَيَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ دُونَ الْوَارِثِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِلَفْظَيْنِ، أَوْ كَمَا لَوْ جَحَدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 الْأَجْنَبِيُّ الشَّرِكَةَ. وَيُفَارِقُ الْإِقْرَارُ الشَّهَادَةَ؛ لِقُوَّةِ الْإِقْرَارِ، وَلِذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ. وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ، كَالْإِقْرَارِ بِنَسَبٍ مُوسِرٍ، قُبِلَ. وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ يَتَضَمَّنُ دَعْوَى عَلَى غَيْرِهِ، قُبِلَ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَا لَهُ. كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ. بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اشْتَرَيْت نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ. فَكَذَلِكَ. [فَصْل إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِوَارِثِ] (3907) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِوَارِثٍ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِوَارِثٍ، فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ لَهُ بِمَالٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ غَيْرُ وَارِثٍ، فَصَحَّ. كَمَا لَوْ لَمْ يَصِرْ وَارِثًا، وَيُمْكِنُ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا إذَا أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا، فَمَنْ صَحَّحَ الْإِقْرَارَ ثَمَّ، صَحَّحَهُ هَاهُنَا، وَمَنْ أَبْطَلَهُ، أَبْطَلَهُ. وَإِنْ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ، فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَقْرَبُ عُصْبَته، عَتَقَ، وَلَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُوجِبُ إبْطَالَ الْإِقْرَارِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْحُرِّيَّةُ سَقَطَ الْإِرْثُ، فَصَارَ تَوْرِيثُهُ سَبَبًا إلَى إسْقَاطِ تَوْرِيثِهِ، فَأَسْقَطْنَا التَّوْرِيثَ وَحْدَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرِثَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْإِقْرَارِ غَيْرُ وَارِثٍ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ لَهُ، كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. [فَصْلٌ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمَرِيضِ بِإِحْبَالِ الْأَمَةِ] (3908) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمَرِيضِ بِإِحْبَالِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا مَلَكَهُ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ. فَإِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فِي مِلْكِهِ، فَوَلَدُهُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، تَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ قَالَ: مِنْ نِكَاحِهِ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. لَمْ تَصِرْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ وَعَتَقَ الْوَلَدُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ نِكَاحٍ فَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَسَّهُ رِقٌّ، وَإِنْ قَالَ: مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. لَمْ تَصِرْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ السَّبَبُ، فَالْأَمَةُ مَمْلُوكَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، وَلَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِيلَادُهَا فِي مِلْكِهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَالْوِلَادَةُ مَوْجُودَةٌ، وَلَا وَلَاءَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ. [فَصْلٌ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْإِقْرَارُ] (3909) فَصْلٌ: فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْإِقْرَارُ، إذَا قَالَ: لَهُ عَلَى أَلْفٌ. أَوْ قَالَ لَهُ: لِي عَلَيْك أَلْفٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ أَجَلْ، أَوْ صَدَقْت، أَوْ لَعَمْرِي، أَوْ أَنَا مُقِرٌّ بِهِ، أَوْ بِمَا ادَّعَيْت، أَوْ بِدَعْوَاك. كَانَ مُقِرًّا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ لِلتَّصْدِيقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] . وَإِنْ قَالَ: أَلَيْسَ لِي عِنْدَك أَلْفٌ؟ قَالَ: بَلَى. كَانَ إقْرَارًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ بَلَى جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ بِحَرْفِ النَّفْيِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] . وَإِنْ قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ فِي عِلْمِي، أَوْ فِيمَا أَعْلَمُ. كَانَ مُقِرًّا بِهِ، لِأَنَّ مَا فِي عِلْمِهِ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْوُجُوبَ. وَإِنْ قَالَ: اقْضِنِي الْأَلْفَ الَّذِي لِي عَلَيْك. قَالَ: نَعَمْ. كَانَ مُقِرًّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ لِمَا ادَّعَاهُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ عَبْدِي هَذَا. أَوْ أَعْطِنِي عَبْدِي هَذَا. فَقَالَ: نَعَمْ. كَانَ إقْرَارًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. كَانَ مُقِرًّا بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ إقْرَارَهُ عَلَى شَرْطٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةِ زَيْدٍ، وَلِأَنَّ مَا عَلَّقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يَرْفَعُهُ كُلَّهُ، وَلَا يَصْرِفُهُ إلَى غَيْرِ الْإِقْرَارِ، فَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَطَلَ مَا وَصَلَهُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَلْفًا. وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ الْإِقْرَارَ بِمَا لَا يُفِيدُ حُكْمًا آخَرَ، وَلَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْحُكْمِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. صَحَّ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ، ثُمَّ عَلَّقَ رَفْعَ الْإِقْرَارِ عَلَى أَمْرٍ لَا يُعْلَمُ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ. وَإِنْ قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ، إنْ شِئْت، أَوْ إنْ شَاءَ زَيْدٌ. لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَقَّبَهُ بِمَا يَرْفَعُهُ، فَصَحَّ الْإِقْرَارُ دُونَ مَا يَرْفَعُهُ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ يُمْكِنُ عِلْمُهُ. فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، إنْ شَهِدَ بِهَا فُلَانٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ بِحَقٍّ سَابِقٍ، فَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَيُفَارِقُ التَّعْلِيقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى تُذْكَرُ فِي الْكَلَامِ تَبَرُّكًا وَصِلَةً وَتَفْوِيضًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا لِلِاشْتِرَاطِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] . وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ بِغَيْرِ شَكٍّ. وَيَقُولُ النَّاسُ: صَلَّيْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَعَ تَيَقُّنِهِمْ صَلَاتَهُمْ، بِخِلَافِ مَشِيئَةِ الْآدَمِيِّ. الثَّانِي، أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعْلَمُ إلَّا بِوُقُوعِ الْأَمْرِ، فَلَا يُمْكِنُ وَقْفُ الْأَمْرِ عَلَى وُجُودِهَا، وَمَشِيئَةُ الْآدَمِيِّ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا، فَيُمْكِنُ جَعْلُهَا شَرْطًا. يَتَوَقَّفُ الْأَمْرُ عَلَى وُجُودِهَا، وَالْمَاضِي لَا يُمْكِنُ وَقْفُهُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ هَاهُنَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَكُونُ وَعْدًا لَا إقْرَارًا. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ زَوَّجْتُك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا لَا أَعْلَمُ خِلَافًا عَنْهُ فِي أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ بِهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك بِأَلْفٍ إنْ شِئْت. فَقَالَ: قَدْ شِئْت وَقَبِلْت. صَحَّ؛ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 هَذَا الشَّرْطَ مِنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ، فَإِنَّ الْإِيجَابَ إذَا وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ كَانَ الْقَبُولُ إلَى مَشِيئَةِ الْمُشْتَرِي وَاخْتِيَارِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفَانِ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ. لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِهَا فِي الْحَالِ، وَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ، لَا يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شَهِدَ فُلَانٌ عَلَيَّ لَك بِأَلْفٍ صَدَّقْته. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَ الْكَاذِبَ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شَهِدَ بِهَا فُلَانٌ فَهُوَ صَادِقٌ. احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ، فَأَشْبَهَتْ الَّتِي قَبْلَهَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُهُ إذَا شَهِدَ بِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي الْحَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِصِدْقِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَهِدَ بِهَا فُلَانٌ. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ. (3910) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لِي عَلَيْك أَلْفٌ. فَقَالَ: أَنَا أُقِرُّ. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِنْكَارِ الْإِقْرَارُ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا قِسْمًا آخَرَ، وَهُوَ السُّكُوتُ عَنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ مُحِقًّا. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا مُقِرٌّ. وَلَمْ يَزِدْ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَقِيبَ الدَّعْوَى، فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَقْرَرْت. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وَلَمْ يَقُولُوا أَقْرَرْنَا بِذَلِكَ وَلَا زَادُوا عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْهُمْ إقْرَارًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مُقِرًّا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ: أَنَا مُقِرٌّ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بِبُطْلَانِ دَعْوَاك وَإِنْ قَالَ لَعَلَّ أَوْ عَسَى لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لِأَنَّهُمَا لِلتَّرَجِّي، وَإِنْ قَالَ: أَظُنُّ أَوْ أَحْسَبُ أَوْ أُقَدِّرُ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّكِّ، وَإِنْ قَالَ: خُذْ، أَوْ اتَّزِنْ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ: خُذْ الْجَوَابَ، أَوْ اتَّزِنْ شَيْئًا آخَرَ، وَإِنْ قَالَ: خُذْهَا، أَوْ اتَّزِنْهَا، أَوْ هِيَ صِحَاحٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَرْجِعُ إلَى الْمُدَّعِي، وَلَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَدَّعِيه مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَأَمْرُهُ بِأَخْذِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُجُوبُ. وَالثَّانِي، يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَلَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَوَّلُ إقْرَارٌ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِمَا لَا يَقْتَضِي رَفْعَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَحَلَّ، فَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَفِي الثَّانِي بَدَأَ بِالشَّرْطِ فَعَلَّقَ عَلَيْهِ لَفْظًا يَصْلُحُ لِلْإِقْرَارِ وَيَصْلُحُ لِلْوَعْدِ، فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ وَتَأْخِيرَهُ سَوَاءٌ، فَيَكُونُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَجْهَانِ. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 [كِتَابُ الْعَارِيَّةِ] [مَسْأَلَةٌ الْعَارِيَّة مَضْمُونَةٌ] ِ (3911) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهَا الْمُسْتَعِيرُ) الْعَارِيَّةُ: إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمَالِ. مُشْتَقَّةٌ مِنْ عَارَ الشَّيْءُ: إذَا ذَهَبَ وَجَاءَ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَطَّالِ: عِيَارٌ؛ لِتَرَدُّدِهِ فِي بَطَالَتِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَعَارَهُ، وَعَارَهُ. مِثْلُ أَطَاعَهُ، وَطَاعَهُ. وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الْعَوَارِيُّ. وَفَسَّرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: الْقِدْرُ وَالْمِيزَانُ وَالدَّلْوُ. وَأُمًّا السُّنَّةُ، فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْعَارِيَّةِ وَاسْتِحْبَابِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ هِبَةُ الْأَعْيَانِ، جَازَتْ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَلِذَلِكَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِالْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ جَمِيعًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِلْآيَةِ، وَلَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا. الْحَدِيثَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: إعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَمِنْحَةُ لَبَنِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا» . فَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَانِعَ الْعَارِيَّةِ، وَتَوَعَّدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذَكَرَ فِي خَبَرِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ: «إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِكَ، فَقَدْ قَضَيْت مَا عَلَيْك» . رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» . وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ «الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: الزَّكَاةُ. فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا. أَوْ كَمَا قَالَ» . وَالْآيَةُ فَسَّرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إذَا جَمَعَ ثَلَاثَتَهَا فَلَهُ الْوَيْلُ، إذَا سَهَا عَنْ الصَّلَاةِ، وَرَاءَى، وَمَنَعَ الْمَاعُونَ. وَيَجِبُ رَدُّ الْعَارِيَّةِ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً. بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَيَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا كَانَتْ تَالِفَةً، تَعَدَّى فِيهَا الْمُسْتَعِيرُ أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: هِيَ أَمَانَةٌ لَا يَجِبُ ضَمَانُهَا إلَّا بِالتَّعَدِّي؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ، ضَمَانٌ» . وَلِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا، فَكَانَتْ أَمَانَةً، كَالْوَدِيعَةِ. قَالُوا: وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَمَانَةٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» . وَرَوَى الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَلِأَنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا بِنَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا إذْنٍ فِي الْإِتْلَافِ، فَكَانَ مَضْمُونًا كَالْغَصْبِ، وَالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ. وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيه عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعُمَرُ وَعُبَيْدٌ ضَعِيفَانِ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ ضَمَانَ الْمَنَافِعِ وَالْأَجْزَاءِ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ. [فَصْل شَرْطِ نَفْي الضَّمَانِ فِي الْعَارِيَّة] (3912) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ نَفْيَ الضَّمَانِ، لَمْ يَسْقُطْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: يَسْقُطُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ لِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ فِي إتْلَافِهَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْقَطَ عَنْهُ ضَمَانَهَا. وَقِيلَ: بَلْ مَذْهَبُ قَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ضَمَانَهَا فَيَجِبُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَفْوَانَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ اقْتَضَى الضَّمَانَ، لَمْ يُغَيِّرْهُ الشَّرْطُ، كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ، وَمَا اقْتَضَى الْأَمَانَةَ، فَكَذَلِكَ، كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَاَلَّذِي كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخْبَارٌ بِصِفَةِ الْعَارِيَّةِ وَحُكْمِهَا. وَفَارَقَ مَا إذَا أَذِنَ فِي الْإِتْلَافِ، فَإِنَّ الْإِتْلَافَ فِعْلٌ يَصِحُّ الْإِذْنُ فِيهِ، وَيَسْقُطُ حُكْمُهُ، إذْ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ مَعَ الْإِذْنِ فِيهِ، وَإِسْقَاطُ الضَّمَانِ هَاهُنَا نَفْيٌ لِلْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْمَالِكِ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ فِيهِ. [فَصْلٌ انْتَفَعَ بِالْعَارِيَّةِ وَرَدَّهَا عَلَى صِفَتِهَا] (3913) فَصْلٌ: وَإِذَا انْتَفَعَ بِهَا، وَرَدَّهَا عَلَى صِفَتِهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَأْذُونٌ فِي إتْلَافِهَا، فَلَا يَجِبُ عِوَضُهَا. وَإِنْ تَلِفَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا الَّتِي لَا تَذْهَبُ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّ مَا ضَمِنَ جُمْلَتُهُ ضَمِنَتْ أَجْزَاؤُهُ، كَالْمَغْصُوبِ. وَأَمَّا أَجْزَاؤُهَا الَّتِي تَذْهَبُ بِالِاسْتِعْمَالِ، كَحَمْلِ الْمِنْشَفَةِ وَالْقَطِيفَةِ، وَخُفِّ الثَّوْبِ يَلْبَسُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهَا أَجْزَاءُ عَيْنٍ مَضْمُونَةٌ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً، كَمَا لَوْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً، وَلِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ يَجِبُ ضَمَانُهَا لَوْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا، فَتُضْمَنُ إذَا تَلِفَتْ وَحْدَهَا، كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ. وَالثَّانِي، لَا يَضْمَنُهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَضَمَّنَهُ، فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، كَالْمَنَافِعِ، وَكَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إتْلَافِهَا صَرِيحًا. وَفَارَقَ مَا إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزهَا مِنْ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ فِي إتْلَافِهَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَلِفَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ، فَضَمِنَهَا، كَمَا لَوْ أَجَّرَ الْعَيْنَ الْمُسْتَعَارَةَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَنَافِعَهَا. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَضْمَنُ الْأَجْزَاءَ. فَتَلِفَتْ الْعَيْنُ بَعْدَ ذَهَابِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ حَالَ التَّلَفِ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ التَّالِفَةَ تَلِفَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، لِكَوْنِهَا مَأْذُونًا فِي إتْلَافِهَا، فَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ ضَمَانُ الْأَجْزَاءِ. قُوِّمَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ تَلَفِ أَجْزَائِهَا. وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ ذَهَابِ أَجْزَائِهَا. ضَمِنَهَا كُلَّهَا بِأَجْزَائِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ تَلِفَتْ الْأَجْزَاءُ بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ يُعِيرَهُ ثَوْبًا لِيَلْبَسهُ، فَحَمَلَ فِيهِ تُرَابًا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نَقْصَهُ وَمَنَافِعَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ. وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا اسْتِعْمَالٍ، كَتَلَفِهَا لِطُولِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا وَوُقُوعِ نَارٍ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ مَا تَلِفَ مِنْهَا بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ الِاسْتِعْمَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ تَلَفَهَا بِفِعْلِ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ. وَمَا تَلِفَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ، يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا تَلِفَ بِالِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِالْإِمْسَاكِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ تَلَفَهُ بِالْفِعْلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 [فَصْلٌ وَلَدُ الْعَارِيَّة لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ] (3914) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَدُ الْعَارِيَّةِ، فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِعَارَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ، وَلَا فَائِدَةَ لِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ، وَيَضْمَنُهُ فِي الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، فَيَضْمَنُ، كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْصُوبًا. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْعَارِيَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ أُمِّهِ. وَإِنَّمَا يَضْمَنُ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ إذَا كَانَ مَغْصُوبًا، فَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ وَلَدًا لَهَا. (3915) فَصْلٌ: وَيَجِبُ ضَمَانُ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلِيَّةً، ضَمِنَهَا بِقِيمَتِهَا يَوْمَ تَلَفِهَا، إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ ضَمَانُ الْأَجْزَاءِ التَّالِفَةِ بِالِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا قَبْلَ تَلَفِ أَجْزَائِهَا، إنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا حِينَئِذٍ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ، ضَمِنَهَا بِقِيمَتِهَا يَوْمَ تَلَفِهَا، عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. [فَصْلٌ إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا إلَى الْمُعِيرِ] (3916) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً، فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا إلَى الْمُعِيرِ أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا، وَيَبْرَأُ ذَلِكَ مِنْ ضَمَانِهَا. وَإِنْ رَدَّهَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، أَوْ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْمَقْبُوضَةِ، فَإِنَّ رَدَّ الْعَوَارِيِّ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ إلَى أَمْلَاكِ أَرْبَابِهَا، فَيَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا، وَلَا نَائِبِهِ فِيهَا، فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى أَجْنَبِيٍّ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالسَّارِقِ إذَا رَدَّ الْمَسْرُوقَ إلَى الْحِرْزِ، وَلَا تُعْرَفُ الْعَادَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَإِنْ رَدَّهَا إلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِجَرَيَانِ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، كَزَوْجَتِهِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي مَالِهِ، وَرَدِّ الدَّابَّةِ إلَى سَائِسِهَا، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَبْرَأُ. قَالَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الْوَدِيعَةِ: إذَا سَلَّمَهَا الْمُودِعُ إلَى امْرَأَتِهِ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَلِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ أُذِنَ فِيهِ نُطْقًا. وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» . وَقَوْلِهِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . وَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ؛ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهَا إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ رَدُّهُ، لَزِمَ رَدُّهُ إلَى مَوْضِعِهِ، كَالْمَغْصُوبِ. [فَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْعَارِيَّة إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ] فَصْلٌ: (3917) وَلَا تَصِحُّ الْعَارِيَّةِ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، فَأَشْبَهَ التَّصَرُّفَ بِالْبَيْعِ وَتُعْقَدُ بِكُلِّ فِعْلٍ أَوْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا، مِثْلُ قَوْلِهِ: أَعَرْتُك هَذَا. أَوْ يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا، وَيَقُولُ: أَبَحْتُك الِانْتِفَاعَ بِهِ. أَوْ خُذْ هَذَا فَانْتَفِعْ بِهِ. أَوْ يَقُولُ: أَعِرْنِي هَذَا. أَوْ أَعْطِنِيهِ أَرْكَبْهُ أَوْ أَحْمِلْ عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ. وَأَشْبَاهُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَصَحَّ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ بِقَوْلِهِ وَتَقْدِيمِهِ إلَى الضَّيْفِ. [فَصْل إعَارَةُ عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً] فَصْلٌ: وَتَجُوزُ إعَارَةُ كُلِّ عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الدَّوَامِ، كَالدُّورِ، وَالْعَقَارِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْجَوَارِي، وَالدَّوَابِّ، وَالثِّيَابِ، وَالْحُلِيِّ لِلُّبْسِ، وَالْفَحْلِ لِلضِّرَابِ، وَالْكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ أَدْرُعًا، وَذَكَرَ إعَارَةَ دَلْوِهَا وَفَحْلِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَارِيَّةَ الْقِدْرِ وَالْمِيزَانِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا عَدَاهَا مَقِيسٌ عَلَيْهَا إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّ مَا جَازَ لِلْمَالِكِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمَنَافِعِ، مَلَكَ إبَاحَتَهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ كَالثِّيَابِ. وَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ تَجُوزُ إجَارَتُهَا، فَجَازَتْ إعَارَتُهَا، كَالثِّيَابِ. وَيَجُوزُ اسْتِعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيَزِنَ بِهَا، فَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِيُنْفِقَهَا، فَهَذَا قَرْضٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا جَائِزًا، وَلَا تَكُونُ الْعَارِيَّةُ فِي الدَّنَانِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْقَرْضِ، فَانْعَقَدَ الْقَرْضُ بِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. [فَصْل إعَارَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرِ] (3919) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ إعَارَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ، فَلَمْ تَجُزْ إعَارَتُهُ لِذَلِكَ، وَلَا إعَارَةُ الصَّيْدِ لِمُحْرِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إمْسَاكُهُ، وَلَا إعَارَةُ الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ لِرَجُلٍ غَيْرِ مَحْرَمِهَا، إنْ كَانَ يَخْلُو بِهَا، أَوْ يَنْظُرُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا. وَتَجُوزُ إعَارَتُهَا لِامْرَأَةِ وَلِذِي مَحْرَمِهَا. وَلَا تَجُوزُ إعَارَةُ الْعَيْنِ لِنَفْعِ مُحَرَّمٍ، كَإِعَارَةِ الدَّارِ لِمَنْ يَشْرَبُ فِيهَا الْخَمْرَ، أَوْ يَبِيعُهُ فِيهَا، أَوْ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا، وَلَا إعَارَةُ عَبْدِهِ لِلزَّمْرِ، أَوْ لِيَسْقِيَهُ الْخَمْرَ، أَوْ يَحْمِلَهَا لَهُ، أَوْ يَعْصِرَهَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِيرَ وَالِدَيْهِ لِخِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ اسْتِخْدَامُهُمَا. فَكَرِهَ اسْتِعَارَتُهُمَا لِذَلِكَ. [فَصْل الْإِعَارَةُ مُطْلَقَة مُقَيَّدَة] (3920) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْإِعَارَةُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ، فَجَازَ فِيهَا ذَلِكَ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ. وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، فَإِذَا أَعَارَهُ شَيْئًا مُطْلَقًا، أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ. فَإِذَا أَعَارَهُ أَرْضًا مُطْلَقًا، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا، وَيَغْرِسَ، وَيَبْنِيَ، وَيَفْعَلَ فِيهَا كُلَّ مَا هِيَ مُعَدَّةٌ لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقٌ. وَإِنْ أَعَارَهُ لِلْغِرَاسِ أَوْ لِلْبِنَاءِ، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِهِمَا، فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِلزَّرْعِ، لَمْ يَغْرِسْ، وَلَمْ يَبْنِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا أَكْثَرُ، فَلَمْ يَكُنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 الْإِذْنُ فِي الْقَلِيلِ إذْنًا فِي الْكَثِيرِ. وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِلْغِرَاسِ، أَوْ لِلْبِنَاءِ، مَلَكَ الْمَأْذُونَ فِيهِ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا مُخْتَلِفٌ. فَإِنَّ ضَرَرَ الْغِرَاسِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ لِانْتِشَارِ الْعُرُوقِ فِيهَا، وَضَرَرَ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِهَا، فَلَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ فِي أَحَدِهِمَا إذْنًا فِي الْآخَرِ. وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ، فَلَهُ زَرْعُهَا وَزَرْعُ مَا هُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْهَا، كَالشَّعِيرِ وَالْبَاقِلَّا وَالْعَدَسِ، وَلَهُ زَرْعُ مَا ضَرَرُهُ كَضَرَرِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الرِّضَى بِزِرَاعَةِ شَيْءٍ رِضَى بِضَرَرِهِ، وَمَا هُوَ دُونَهُ، وَلَيْسَ لَهُ زَرْعُ مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنْهُ، كَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالْقُطْنِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَكْثَرُ. وَحُكْمُ إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فِي الْعَارِيَّةِ، كَحُكْمِ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَةِ فِيمَا لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَسَنَذْكُرُ فِي الْإِجَارَةِ تَفْصِيلَ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي زَرْعِ مَرَّةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ أَكْثَرَ مِنْهَا. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي غَرْسِ شَجَرَةٍ فَانْقَلَعَتْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرْسُ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ إنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِ خَشَبَةٍ عَلَى حَائِطٍ فَانْكَسَرَتْ، لَمْ يَمْلِكْ وَضْعَ أُخْرَى، لِأَنَّ الْإِذْنَ إذَا اخْتَصَّ بِشَيْءِ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ. [فَصْلٌ إنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَلَهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ] (3921) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا، فَلَهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤْجِرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَنَافِعَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ اسْتِعْمَالَ الْمُعَارِ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ غَيْرَهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالُوا فِي الْآخَرِ: لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ عَلَى حَسَبِ مَا مَلَكَهُ، فَجَازَ كَمَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤْجَرَ. قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَلْبَسهُ هُوَ، فَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ، فَلَبِسَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ. وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهَا إلَّا الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ بِهَا الَّذِي أُعِيرَهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَارِيَّةَ إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهَا غَيْرَهُ كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ. وَفَارَقَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، فَمَلَكَ أَنْ يُمَلِّكَهَا، وَفِي الْعَارِيَّةِ لَمْ يَمْلِكْهَا، إنَّمَا مَلَكَ اسْتِيفَاءَهَا عَلَى وَجْهِ مَا أُذِنَ لَهُ، فَأَشْبَهَ مِنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْلُ الطَّعَامِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَعَارَ فَلِلْمَالِكِ الرُّجُوعُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَلَّطَ غَيْرَهُ عَلَى أَخْذِ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالثَّانِي اسْتَوْفَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ حَصَلَ مِنْهُ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَوَّلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي لَمْ يَعْلَمْ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَقِرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّ الثَّانِيَ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْعَيْنَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنَافِعَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الثَّانِي، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ، رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 [فَصْلٌ أَعَارَهُ شَيْئًا وَأَذِنَ لَهُ فِي إجَارَتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً] (3922) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعَارَهُ شَيْئًا، وَأَذِنَ لَهُ فِي إجَارَتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، أَوْ فِي إعَارَتِهِ مُطْلَقًا، أَوْ مُدَّةً، جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لِمَالِكِهِ، فَجَازَ مَا أَذِنَ فِيهِ. وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ، وَتَكُونُ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا. وَإِنْ أَجَرَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الضَّمَانُ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَارِيَّةِ. . [فَصْلٌ اسْتَعَارَ عَبْدًا لِيَرْهَنهُ] (3923) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ عَبْدًا لِيَرْهَنهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَعَارَ مِنْ الرَّجُلِ شَيْئًا يَرْهَنُهُ عِنْدَ رَجُلٍ، عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَرَهَنَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَهُ لِيَقْضِيَ بِهِ حَاجَتَهُ، فَصَحَّ، كَسَائِرِ الْعَوَارِيِّ. وَلَا يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ الدِّينِ وَجِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعِلْمُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَارِيَّةٌ لِجِنْسٍ مِنْ النَّفْعِ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، كَعَارِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ. وَلَا يَصِيرُ الْمُعِيرُ ضَامِنًا لِلدَّيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ، وَالْمَنْفَعَةُ هَاهُنَا لِلْمَالِكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ضَمَانٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَعَارَهُ لِيَقْضِيَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، كَسَائِرِ الْعَوَارِيِّ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَارِيَّةِ النَّفْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ النَّفْعِ فَهُوَ لِمَالِكِ الْعَيْنِ. وَإِنْ عَيَّنَ الْمُعِيرُ قَدْرَ الدَّيْنِ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ وَجِنْسَهُ، أَوْ مَحَلًّا، تَعَيَّنَ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِنْسِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي رَهْنِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي مَحَلٍّ، فَخَالَفَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَرَهَنَهُ بِحَالِ، فَقَدْ لَا يَجِدُ مَا يَفُكُّهُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ أَذِنَ فِي رَهْنِهِ بِحَالٍ، فَرَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ، فَلَمْ يَرْضَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ إلَى أَجَلٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِقَدْرٍ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَرْضَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ. وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَنْقَصَ مِنْهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِعَشْرَةٍ، رَضِيَ بِمَا دُونَهَا عُرْفًا، فَأَشْبَهَ مَنْ أُمِرَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِثَمَنِ، فَاشْتَرَاهُ بِدُونِهِ. وَلِلْمُعِيرِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِفِكَاكِ الرَّهْنِ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ كَانَ بِدَيْنٍ حَالٍ أَوْ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ الرُّجُوعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ. وَإِنْ حَلَّ الدَّيْنُ، فَلَمْ يَفُكَّهُ الرَّاهِنُ، جَازَ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الرَّهْنِ، فَإِذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ، أَوْ تَلِفَ، رَجَعَ السَّيِّدُ عَلَى الرَّاهِنِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا. وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُضْمَنُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَإِنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ، فَرَهَنَهُ بِمِائَةٍ، ثُمَّ قَضَى خَمْسِينَ، عَلَى أَنْ تَخْرُجَ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا، لَمْ تَخْرُجْ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فِي صَفْقَةٍ، فَلَا يَنْفَكُّ بَعْضُهُ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ. [فَصْلٌ الْعَارِيَّة مُطْلَقَةً وَمُؤَقَّتَةً] (3924) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْعَارِيَّةِ مُطْلَقَةً وَمُؤَقَّتَةً؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ، فَأَشْبَهَتْ إبَاحَةَ الطَّعَامِ. وَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَقَّتَةً، مَا لَمْ يَأْذَنْ فِي شَغْلِهِ بِشَيْءِ يَتَضَرَّرُ بِالرُّجُوعِ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ تُؤَقَّتْ لَهُ مُدَّةٌ، لَزِمَهُ تَرْكُهُ مُدَّةً يُنْتَفَعُ بِهَا فِي مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ قَدْ مَلَّكَهُ الْمَنْفَعَةَ فِي مُدَّةٍ، وَصَارَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بِعَقْدٍ مُبَاحٍ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ، كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَالْمُسْتَأْجَرِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا بِالْإِعَارَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَحْصُلْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَلِلْمُوصِي الرُّجُوعُ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْوَرَثَةُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَيَلْزَمُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ الرَّدُّ مَتَى شَاءَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةٌ، فَكَانَ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ تَرْكُهُ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ. (3925) فَصْلٌ: وَإِذَا أَطْلَقَ الْمُدَّةَ فِي الْعَارِيَّةِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مَا لَمْ يَرْجِعْ. وَإِنْ وَقَّتَهَا، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ مَا لَمْ يَرْجِعْ، أَوْ يَنْقَضِيَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ ذَلِكَ بِالْإِذْنِ، فَفِيمَا عَدَا مَحَلِّ الْإِذْنِ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ كَانَ الْمُعَارُ أَرْضًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ، وَلَا يَبْنِيَ، وَلَا يَزْرَعَ بَعْدَ الْوَقْتِ أَوْ الرُّجُوعِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَزِمَهُ قَلْعُ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ فِي ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» . وَعَلَيْهِ أَجْرُ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ نَفْعِ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَلْعُ، وَتَسْوِيَةُ الْحَفْرِ، وَنَقْضُ الْأَرْضِ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ. [فَصْلٌ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَنْتَفِع بِهِ انْتِفَاعًا يَلْزَمُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَّة فِي أَثْنَائِهِ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَعِيرِ] (3926) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ انْتِفَاعًا يَلْزَمُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَّةِ فِي أَثْنَائِهِ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَعِيرِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يَضُرُّ بِالْمُسْتَعِيرِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِضْرَارُ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يُعِيرَهُ لَوْحًا يَرْقَعُ بِهِ سَفِينَتَهُ، فَرَقَعَهَا بِهِ، وَلَجَّجَ بِهَا فِي الْبَحْرِ، لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ مَا دَامَتْ فِي الْبَحْرِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْبَحْرِ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وَإِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِيَدْفِنَ فِيهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَدْفِنْ فِيهَا. فَإِذَا دَفَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، مَا لَمْ يَبْلَ الْمَيِّتُ. وَإِنْ أَعَارَهُ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ أَطْرَافَ خَشَبِهِ، جَازَ، كَمَا تَجُوزُ إعَارَةُ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَضَعْهُ، وَبَعْدَ وَضْعِهِ مَا لَمْ يَبْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك أَرْشَ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ. لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَعِيرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَلَعَهُ انْقَلَعَ مَا فِي مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ مِنْهُ. وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ قَلْعُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ انْهَدَمَ الْحَائِطُ وَزَالَ الْخَشَبُ عَنْهُ، أَوْ أَزَالَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِاخْتِيَارِهِ، لَمْ يَمْلِكْ إعَادَتَهُ، سَوَاءٌ بَنَى الْحَائِطَ بِآلَتِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَلْزَمُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ قَبْلَ انْهِدَامِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمُسْتَعِيرِ، بِإِزَالَةِ الْمَأْذُونِ فِي وَضْعِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ الْخَشَبُ وَالْحَائِطُ بِحَالِهِ. وَإِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَزْرَعْ، فَإِذَا زَرَعَ لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهَا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الزَّرْعُ. فَإِنْ بَذَلَ لَهُ قِيمَةَ الزَّرْعِ لِيَمْلِكَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ لَهُ وَقْتًا يَنْتَهِي إلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْصَدُ قَصِيلًا، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي وَقْتِ إمْكَانِ حَصَادِهِ؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ حَتَّى يَنْتَهِيَ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِيهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ قَلْعِهِ. فَإِذَا غَرَسَ وَبَنَى، فَلِلْمَالِكِ الرُّجُوعُ فِيمَا بَيْنَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مِلْكُ الْمُسْتَعِيرِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَبْنِ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا، وَلَمْ يَغْرِسْ فِيهَا. ثُمَّ إنْ اخْتَارَ الْمُسْتَعِيرُ أَخْذَ بِنَائِهِ وَغِرَاسِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فَمَلَكَ نَقْلَهُ. وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ رَضِيَ بِذَلِكَ حَيْثُ أَعَارَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ لَهُ قَلْعَ غَرْسِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَلَيْهِ تَسْوِيَةَ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، كَمَا لَوْ خَرَّبَ أَرْضَهُ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِرْهَا. وَإِنْ أَبَى الْقَلْعَ، فَبَذَلَ لَهُ الْمُعِيرُ مَا يَنْقُصُ بِالْقَلْعِ، أَوْ قِيمَةَ غِرَاسِهِ وَبِنَائِهِ قَائِمًا، لِيَأْخُذَهُ الْمُعِيرُ، أُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فِي الْعَارِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ. وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَعِيرُ: أَنَا أَدْفَعُ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِتَصِيرَ لِي. لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغِرَاسَ تَابِعٌ، وَالْأَرْضَ أَصْلٌ، وَلِذَلِكَ يَتْبَعُهَا الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا تَتْبَعُهُمَا، وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ يُطَالِبُ الْمُسْتَعِيرَ بِالْقَلْعِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعَارَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَرَجَعَ فِيهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَمْ يَغُرَّهُ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْقَلْعُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَنَى وَغَرَسَ بِإِذْنِ الْمُعِيرِ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَلْعُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، كَمَا لَوْ طَالَبَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَغُرَّهُ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ يُرَادُ لِلتَّبْقِيَةِ، وَتَقْدِيرُ الْمُدَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 ابْتِدَائِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا تَغْرِسْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ. فَإِنْ امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ الْقَلْعِ وَدَفْعِ الْأَجْرِ، لَمْ يُقْلَعْ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَقْتَضِي الِانْتِفَاعَ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، وَالْإِذْنُ فِيمَا يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ وَتَضُرُّ إزَالَتُهُ رِضًى بِالْإِبْقَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» . يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْعِرْقَ الَّذِي لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُ حَقٌّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، بِيعَتْ الْأَرْضُ بِغِرَاسِهَا، وَدُفِعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرُ حَقِّهِ، فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَةُ الْأَرْضِ غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ وَلَا مَبْنِيَّةٍ؟ فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةٌ. قُلْنَا: وَكَمْ تُسَاوِي مَغْرُوسَةً وَمَبْنِيَّةً؟ فَإِنْ قَالُوا: خَمْسَةَ عَشَرَ. قُلْنَا: فَلِلْمُعِيرِ ثُلُثَا الثَّمَنِ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ ثُلُثُهُ. وَإِنْ امْتَنَعَا مِنْ الْبَيْعِ، بَقِيَا عَلَى حَالِهِمَا، وَلِلْمُعِيرِ دُخُولُ أَرْضِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لَا يَضُرُّ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِمَا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الدُّخُولُ إلَّا لِحَاجَةٍ، مِثْلِ السَّقْيِ وَإِصْلَاحِ الثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْغِرَاسِ إذْنٌ فِيمَا يَعُودُ بِصَلَاحِهِ، وَأَخْذِ ثِمَارِهِ، وَسَقْيِهِ. وَلَيْسَ لَهُ دُخُولُهَا لِلتَّفَرُّجِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الْإِذْنِ لَهُ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْعُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْمِلْكِ مُنْفَرِدًا، فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِثْلُ مَا كَانَ لِبَائِعِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ بَيْعُ الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُعِيرِ أَخْذَهُ مَتَى شَاءَ بِقِيمَتِهِ. قُلْنَا: عَدَمُ اسْتِقْرَارِهِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَهُ، بِدَلِيلِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، مَتَى كَانَ الْمُعِيرُ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْقَلْعَ عِنْدَ رُجُوعِهِ، وَرَدَّ الْعَارِيَّةِ غَيْرِ مَشْغُولَةٍ، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ غَيْرُ مُطْلَقَةٍ، فَلَمْ تَتَنَاوَلْ مَا عَدَا الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ دَخَلَ فِي الْعَارِيَّةِ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَأَمَّا تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ الْحَاصِلَةِ بِالْقَلْعِ فَإِذَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ، لَزِمَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِضَرَرِ الْقَلْعِ مِنْ الْحَفْرِ وَنَحْوِهِ، حَيْثُ اشْتَرَطَ الْقَلْعَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ أَجْرًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، إلَّا فِيمَا إذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ، فَزَرَعَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمُعِيرُ فِيهَا قَبْلَ كَمَالِ الزَّرْعِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ، مِنْ حِينَ رَجَعَ الْمُعِيرُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الرُّجُوعِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ الْقَلْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَفِي دَفْعِ الْأَجْرِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، فَيُخَرَّجُ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ مِثْلُ هَذَا، لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْأَجْرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ بَاقٍ فِيهِ، لِكَوْنِهَا صَارَتْ لَازِمَةً لِلضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِفَسْخِهَا، وَالْإِعَارَةُ تَقْتَضِي الِانْتِفَاعَ بِغَيْرِ عِوَضٍ. [فَصْلٌ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبهَا] (3927) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ إجَارَتَهَا لِذَلِكَ جَائِزَةٌ، وَالْإِعَارَةُ أَوْسَعُ، لِجَوَازِهَا فِيمَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، مِثْلُ إعَارَةِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ. فَإِنْ اسْتَعَارَهَا إلَى مَوْضِعٍ، فَجَاوَزَهُ، فَقَدْ تَعَدَّى، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِلزِّيَادَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 خَاصَّةً. فَإِذَا اسْتَعَارَهَا إلَى طَبَرِيَّةَ، فَتَجَاوَزَ إلَى الْقُدْسِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ مَا بَيْنَ طَبَرِيَّةَ وَالْقُدْسِ خَاصَّةً. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمَالِكُ: أَعَرْتُكَهَا إلَى طَبَرِيَّةَ. وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ: أَعَرْتنِيهَا إلَى الْقُدْسِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ يُشْبِهُ مَا قَالَ الْمُسْتَعِيرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَالِكَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . . [فَصْل اسْتَعَارَ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا] (3928) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا، فَانْتَفَعَ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَلِمَالِكِهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، يُطَالِبُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ، رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِذَلِكَ وَغَرَّمَهُ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنْ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي قَصَّارٍ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى غَيْرِ صَاحِبِهِ، فَلَبِسَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ اللَّابِسِ. وَإِنْ تَلِفَ فَالْقِيمَةُ تَسْتَقِرُّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ. فَإِنْ ضَمِنَ الْمُعِيرُ، رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْعَيْنُ بِالِاسْتِعْمَالِ، انْبَنَى عَلَى ضَمَانِ النَّقْصِ، فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِيمَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ عَلَى الْمُعِيرِ. فَهُوَ كَالْأَجْرِ. عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. [فَصْلٌ حَمَلَ السَّيْلُ بَذْرَ رَجُلِ مِنْ أَرْضِهِ إلَى أَرْضٍ غَيْرِهِ فَنَبَتَ فِيهَا] فَصْلٌ: وَإِذَا حَمَلَ السَّيْلُ بَذْرَ رَجُلِ مِنْ أَرْضِهِ إلَى أَرْضٍ غَيْرِهِ، فَنَبَتَ فِيهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، إذَا طَالَبَهُ رَبُّ الْأَرْضِ بِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ جَارِهِ. وَلَنَا، أَنَّ قَلْعَهُ إتْلَافٌ لِلْمَالِ عَلَى مَالِكِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ، وَلَا يَدُومُ ضَرَرُهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا لَوْ حَصَلَتْ دَابَّتُهُ فِي دَارِ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ خُرُوجُهَا إلَّا بِقَلْعِ الْبَابِ أَوْ قَتْلِهَا، فَإِنَّنَا لَا نُجْبِرُهُ عَلَى قَتْلِهَا. وَيُفَارِقُ أَغْصَانَ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّهُ يَدُومُ ضَرَرُهُ، وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ مَا يَشْغَلُ مِنْ الْهَوَاءِ فَيُؤَدِّي أَجْرَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُقَرُّ فِي الْأَرْضِ إلَى حِينِ حَصَادِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ عَلَيْهِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاتَتْ دَابَّتُهُ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ إلْزَامَهُ تَبْقِيَةَ زَرْعٍ مَا أَذِنَ فِيهِ، فِي أَرْضِهِ، بِغَيْرِ أَجْرٍ وَلَا انْتِفَاعٍ، إضْرَارٌ بِهِ، وَشَغْلٌ لِمِلْكِهِ بِغَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 اخْتِيَارِهِ، مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَرَادَ إبْقَاءَ بَهِيمَتِهِ فِي دَارِ غَيْرِهِ عَامًا. وَيُفَارِقُ مَبِيتَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ إخْرَاجِهَا، فَإِذَا تَرَكَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ، كَانَ رَاضِيًا بِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَيَكُونُ الزَّرْعُ لِمَالِكِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ مَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا الزَّرْعِ حُكْمَ زَرْعِ الْغَاصِبِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ زَرَعَهُ مَالِكُهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ جَبْرُ حَقِّ مَالِكِ الْأَرْضِ، بِدَفْعِ الْأَجْرِ إلَيْهِ. وَإِنْ أَحَبَّ مَالِكُهُ قَلْعَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ، وَمَا نَقَصَتْ الْأَرْضُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، لِاسْتِصْلَاحِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُسْتَعِيرَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ السَّيْلُ حَمَلَ نَوًى، فَنَبَتَ شَجَرًا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، كَالزَّيْتُونِ وَالنَّخِيلِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ لِمَالِكِ النَّوَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَاءِ مِلْكِهِ، فَهُوَ كَالزَّرْعِ، وَيُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَدُومُ، فَأُجْبِرَ عَلَى إزَالَتِهِ، كَأَغْصَانِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِ مَالِكِهَا. وَإِنْ حَمَلَ السَّيْلُ أَرْضًا بِشَجَرِهَا، فَنَبَتَتْ فِي أَرْضِ آخَرَ كَمَا كَانَتْ، فَهِيَ لِمَالِكِهَا، يُجْبَرُ عَلَى إزَالَتِهَا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ، إذَا تَرَكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمُنْتَقِلَةِ أَوْ الشَّجَرِ أَوْ الزَّرْعِ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ نَقْلُهُ وَلَا أَجْرٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ وَلَا عُدْوَانِهِ، وَكَانَتْ الْخِيرَةُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِهِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ قَلَعَهُ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَاكِبُهَا فَقَالَ الرَّاكِبُ هِيَ عَارِيَّة وَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ اكْتَرَيْتهَا] (3930) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَاكِبُهَا، فَقَالَ الرَّاكِبُ: هِيَ عَارِيَّةٌ. وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ اكْتَرَيْتهَا. فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بَاقِيَةً لَمْ تَنْقُصْ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَإِنْ كَانَ عَقِيبَ الْعَقْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الرَّاكِبِ مِنْهَا، فَيَحْلِفُ، وَيَرُدُّ الدَّابَّةَ إلَى مَالِكِهَا؛ لِأَنَّهَا عَارِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهَا عَارِيَّةٌ. وَقَالَ الرَّاكِبُ: بَلْ اكْتَرَيْتهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَادَّعَى الْمَالِكُ الْإِجَارَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَلَفِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِ الرَّاكِبِ، وَادَّعَى الْمَالِكُ عِوَضًا لَهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِهِ. وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الرَّاكِبِ مِنْهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ انْتِقَالِ الْمَنَافِعِ إلَى مِلْكِ الرَّاكِبِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنٍ، فَقَالَ الْمَالِكُ: بِعْتُكَهَا. وَقَالَ الْآخَرُ: وَهَبْتنِيهَا. وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 مَجْرَى الْأَعْيَانِ، فِي الْمِلْكِ وَالْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْأَعْيَانِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، كَذَا هَاهُنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَنْتَقِلُ إلَى الرَّاكِبِ إلَّا بِنَقْلِ الْمَالِكِ لَهَا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي كَيْفِيَّةِ الِانْتِقَالِ، كَالْأَعْيَانِ، فَيَحْلِفُ الْمَالِكُ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ. وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِهِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، فَمَعَ الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِقَوْلِ الْمَالِكِ وَيَمِينِهِ، فَوَجَبَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، كَالْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ فِيمَا مَضَى مِنْهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اخْتَلَفَا عَقِيبَ الْعَقْدِ. وَإِنْ ادَّعَى الْمَالِكُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا عَارِيَّةٌ. وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا بِأَجْرِ، فَالرَّاكِبُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْمَنَافِعِ، وَيَعْتَرِفُ بِالْأَجْرِ لِلْمَالِكِ، وَالْمَالِكُ يُنْكِرُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَيَحْلِفُ، وَيَأْخُذُ بَهِيمَتَهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَلَفِ الْبَهِيمَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، سَوَاءٌ ادَّعَى الْإِجَارَةَ أَوْ الْإِعَارَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى الْإِجَارَةَ، فَهُوَ مُعْتَرِفٌ لِلرَّاكِبِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ ضَمَانِهَا، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ ادَّعَى الْإِعَارَةَ، فَهُوَ يَدَّعِي قِيمَتَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْقَبْضِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا يَقْبِضُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ الضَّمَانُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . فَإِذَا حَلَفَ الْمَالِكُ، اسْتَحَقَّ الْقِيمَةَ، وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِهَا قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، وَتَلَفِ الْبَهِيمَةِ، وَكَانَ الْأَجْرُ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، أَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيه الْمَالِكُ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِمَّا يَعْتَرِفُ بِهِ الرَّاكِبُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، سَوَاءٌ ادَّعَى الْإِجَارَةَ أَوْ الْإِعَارَةَ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ إلَّا بِيَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ الرَّاكِبُ بِمَا لَا يَدَّعِيه، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيه. وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيه الْمَالِكُ أَكْثَرَ، مِثْلُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِهَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهَا عَارِيَّةٌ، لِتَجِبَ لَهُ الْقِيمَةُ، وَأَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، أَوْ كَانَ الْكِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ أَجَرَهَا، لِيَجِبَ لَهُ الْكِرَاءُ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 عَارِيَّةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا، فَإِذَا حَلَفَ، اسْتَحَقَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْل قَالَ مَالِك الدَّابَّة غَصَبْتهَا وَقَالَ الرَّاكِبُ بَلْ أَعَرْتنِيهَا] (3931) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ: غَصَبْتهَا. وَقَالَ الرَّاكِبُ: بَلْ أَعَرْتنِيهَا. فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالدَّابَّةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِاخْتِلَافِ، وَيَأْخُذُ الْمَالِكُ بَهِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ تَالِفَةً؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، كَوُجُوبِهَا عَلَى الْغَاصِبِ. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَالِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَ الْمُزَنِيّ عَنْهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ عِوَضًا، الْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْيَدِ أَنَّهَا بِحَقٍّ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِهَا. وَلَنَا، مَا قَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُمَا ثَمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مِلْكٌ لِلرَّاكِبِ، وَهَا هُنَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ يُنْكِرُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ يَدَّعِيهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ، فَيَحْلِفُ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ. وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ: غَصَبْتهَا. وَقَالَ الرَّاكِبُ: أَجَرْتنِيهَا. فَالِاخْتِلَافُ هَاهُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُسَمَّى وَأَجْرُ الْمِثْلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ تَالِفَةً عَقِيبَ أَخْذِهَا، حَلَفَ وَأَخَذَ قِيمَتَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَقِيَتْ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، وَالْمُسَمَّى بِقَدْرِ أَجْرِ الْمِثْلِ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى. وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمُسَمَّى، لَمْ يَسْتَحِقَّهُ إلَّا بِيَمِينٍ، وَجْهًا وَاحِدًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 [كِتَاب الْغَصْب] الْغَصْبُ: هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] . وَالسَّرِقَةُ نَوْعٌ مِنْ الْغَصْبِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى جَابِرٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو حَرَّةَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ عَمِّهِ وَعَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ، إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْغَصْبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعٍ مِنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ، مَا كَانَ بَاقِيًا، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ مَالِهِ وَمَالِيَّتِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِرَدِّهِ. فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ بَدَلُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَجَبَ رَدُّ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ، وَتَتَفَاوَتُ صِفَاتُهُ، كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، وَجَبَ مِثْلُهُ، لِأَنَّ الْمِثْلَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْقِيمَةُ مُمَاثِلَةٌ مِنْ طَرِيقِ الظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ، فَكَانَ مَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ مُقَدَّمًا، كَمَا يُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الْقِيَاسِ، لِكَوْنِ النَّصِّ طَرِيقُهُ الْإِدْرَاكُ بِالسَّمَاعِ، وَالْقِيَاسُ طَرِيقُهُ الظَّنُّ وَالِاجْتِهَادُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَقَارِبِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فِي قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَحُكِيَ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ يَجِبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُهُ؛ لِمَا رَوَتْ جَسْرَةُ بِنْتُ دَجَاجَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْت صَانِعًا مِثْلَ حَفْصَةَ، صَنَعَتْ طَعَامًا، فَبَعَثَتْ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَنِي الْأَكْلُ فَكَسَرْت الْإِنَاءَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْت؟ فَقَالَ: إنَاءٌ مِثْلُ الْإِنَاءِ، وَطَعَامٌ مِثْلُ الطَّعَامِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَنَسٌ، «أَنَّ إحْدَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسَرَتْ قَصْعَةَ الْأُخْرَى، فَدَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْعَةَ الْكَاسِرَةِ إلَى رَسُولِ صَاحِبَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُطَوَّلًا، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ بَعِيرًا، وَرَدَّ مِثْلَهُ. وَلَنَا؛ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَرَ بِالتَّقْوِيمِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهَا مُتْلَفَةٌ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمِثْلِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهَا، وَتَتَبَايَنُ صِفَاتُهَا، فَالْقِيمَةُ فِيهَا أَعْدَلُ وَأَقْرَبُ إلَيْهَا، فَكَانَتْ أَوْلَى. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَرْضَى بِذَلِكَ. (3932) فَصْلٌ: وَمَا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ، وَتَتَقَارَبُ صِفَاتُهُ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، ضَمِنَ بِمِثْلِهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ: كُلُّ مَطْعُومٍ، مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَمُجْمَعٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ مِثْلُهُ لَا قِيمَتُهُ. وَأَمَّا سَائِرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ: مَا كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ دُونَ الْقِيمَةِ. فَظَاهِرُ هَذَا وُجُوبُ الْمِثْلِ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِيهِ صِنَاعَةٌ، كَمَعْمُولِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ مِنْ الْأَوَانِي وَالْآلَاتِ وَنَحْوِهَا. وَالْحُلِيِّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَشِبْهِهِ، وَالْمَنْسُوجِ مِنْ الْحَرِيرِ وَالْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ، وَالْمَغْزُولِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ تُؤَثِّرُ فِي قِيمَتِهِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْقِيمَةُ فِيهِ أَحْصَرُ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ النُّقْرَةَ وَالسَّبِيكَةَ مِنْ الْأَثْمَانِ، وَالْعِنَبَ وَالرُّطَبَ وَالْكُمَّثْرَى إنَّمَا يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ مَا فِيهِ الصِّنَاعَةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَضْمَنَ النَّقْرَةَ بِقِيمَتِهَا، لِتَعَذُّرِ وُجُودِ مِثْلِهَا إلَّا بِتَكْسِيرِ الدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ وَسَبْكِهَا، وَفِيهِ إتْلَافٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ الْمَضْمُونُ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَجَبَتْ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ، فَكَانَتْ مَوْزُونَةً وَجَبَتْ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، قُوِّمَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ فِيهِ صِنَاعَةٌ مُبَاحَةٌ، فَزَادَتْ قِيمَتُهُ مِنْ أَجْلِهَا، جَازَ تَقْوِيمُهُ بِجِنْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِيمَتُهُ، وَالصِّنَاعَةُ لَهَا قِيمَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كُسِرَ الْحُلِيُّ، وَجَبَ أَرْشُ كَسْرِهِ، وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ، لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَا يُقَابِلُهَا الْعِوَضُ فِي الْعُقُودِ، وَيُقَابِلُهَا فِي الْإِتْلَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ، وَتَنْفَرِدُ بِضَمَانِهَا بِالْإِتْلَافِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَأْخُوذَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ رِبًا، كَالْبَيْعِ وَكَالنَّقْصِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا كَسَرَ الْحُلِيَّ، يُصْلِحُهُ أَحَبُّ إلَيَّ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، لَا أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ. وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الصِّنَاعَةُ مُبَاحَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً كَالْأَوَانِي وَحُلِيِّ الرِّجَالِ، لَمْ يَجُزْ ضَمَانُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ. [مَسْأَلَةٌ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا] [الْفَصْل الْأَوَّل غَصْبُ الْعَقَارِ مِنْ الْأَرَاضِي وَالدُّورِ] (3933) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَغَرَسَهَا، أُخِذَ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَأُجْرَتِهَا إلَى وَقْتِ تَسْلِيمِهَا، وَمِقْدَارِ نُقْصَانِهَا، إنْ كَانَ نَقَصَهَا الْغَرْسُ) . الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ: (3934) أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ غَصْبُ الْعَقَارِ مِنْ الْأَرَاضِي وَالدُّورِ، وَيَجِبُ ضَمَانُهَا عَلَى غَاصِبَهَا. هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، ثُمَّ أَصَابَهَا غَرَقٌ مِنْ الْغَاصِبِ، غَرِمَ قِيمَةَ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ السَّمَاءِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُهَا، وَلَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَإِنْ أَتْلَفَهَا، ضَمِنَهَا بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهَا النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَتَاعِهِ، فَتَلِفَ الْمَتَاعُ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ عُدْوَانًا عَلَى وَجْهٍ تَزُولُ بِهِ يَدُ الْمَالِكِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَقَارِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ، طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ. وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ» . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 أَنَّهُ يُغْصَبُ وَيُظْلَمُ فِيهِ. وَلِأَنَّ مَا ضَمِنَ فِي الْبَيْعِ، وَجَبَ ضَمَانُهُ فِي الْغَصْبِ، كَالْمَنْقُولِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ، مِثْلُ أَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ وَيَمْنَعَ مَالِكَهَا مِنْ دُخُولِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ الدَّابَّةَ وَالْمَتَاعَ. وَأَمَّا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَتَاعِهِ، فَمَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِهِ، فَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنْ يَحْبِسَ الْمَالِكَ، وَلَا يَسْتَوْلِيَ عَلَى دَارِهِ. وَأَمَّا مَا تَلِفَ مِنْ الْأَرْضِ بِفِعْلِهِ، أَوْ سَبَبِ فِعْلِهِ، كَهَدْمِ حِيطَانِهَا، وَتَغْرِيقِهَا، وَكَشْطِ تُرَابِهَا، وَإِلْقَاءِ الْحِجَارَةِ فِيهَا، أَوْ نَقْصٍ يَحْصُلُ بِغَرْسِهِ أَوْ بِنَائِهِ، فَيَضْمَنُهُ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا إتْلَافٌ، وَالْعَقَارُ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ. وَلَا يَحْصُلُ الْغَصْبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيلَاءٍ، فَلَوْ دَخَلَ أَرْضِ إنْسَانٍ أَوْ دَارِهِ، لَمْ يَضْمَنْهَا بِدُخُولِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهَا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنْ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا فِيهَا، ضَمِنَهَا، سَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا دَارُهُ، أَوْ دَارٌ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الدَّاخِلِ ثَبَتَتْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، فَيَصِيرُ غَاصِبًا، فَإِنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ، وَهَذَا قَدْ ثَبَتَتْ يَدُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي الدَّارِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، حُكِمَ بِهَا لِمَنْ هُوَ فِيهَا، دُونَ الْخَارِجِ مِنْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ دَخَلَهَا بِإِذْنِهِ، أَوْ دَخَلَ صَحْرَاءَهُ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ مَا يَضْمَنُهُ فِي الْعَارِيَّة، وَهَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَارِيَّةُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْغَصْبُ، إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنٍ. [الْفَصْل الثَّانِي غَرَسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ بَنَى فِيهَا فَطَلَبَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَلْعَ غِرَاسِهِ أَوْ بِنَائِهِ] (3935) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا غَرَسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ بَنَى فِيهَا، فَطَلَبَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَلْعَ غِرَاسِهِ أَوْ بِنَائِهِ، لَزِمَ الْغَاصِبَ ذَلِكَ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، «أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى لِلرَّجُلِ بِأَرْضِهِ، وَقَضَى لِلْآخَرِ أَنْ يَنْزِعَ نَخْلَهُ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتهَا تُضْرَبُ فِي أُصُولِهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ» . . وَلِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ، بِمِلْكِهِ الَّذِي لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَزِمَهُ تَفْرِيغُهُ، كَمَا لَوْ جَعَلَ فِيهِ قُمَاشًا. وَإِذْ قَلَعَهَا لَزِمَهُ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ، وَرَدُّ الْأَرْضِ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَزِمَتْهُ إزَالَتُهُ. وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَخْذَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 مَالِ الْغَاصِبِ، فَلَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَخْذَهُ، كَمَا لَوْ وَضَعَ فِيهَا أَثَاثًا أَوْ حَيَوَانًا. وَإِنْ طَلَبَ أَخْذَهُ بِقِيمَتِهِ، وَأَبِي مَالِكُهُ إلَّا الْقَلْعَ، فَلَهُ الْقَلْعُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَمَلَكَ نَقْلَهُ. وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا. وَإِنْ اتَّفَقَ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْهُ بِالْقِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَجَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَإِنْ وَهَبَ الْغَاصِبُ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ قَلْعِهِ، وَقَبِلَهُ الْمَالِكُ، جَازَ. وَإِنْ أَبَى قَبُولَهُ، وَكَانَ فِي قَلْعِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ احْتَمَلَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ يَفُوتُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إجْبَارًا عَلَى عَقْدٍ يُعْتَبَرُ الرِّضَى فِيهِ. وَإِنْ غَصَبَ أَرْضًا وَغِرَاسًا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَغَرَسَهُ فِيهَا فَالْكُلُّ لِمَالِكِ الْأَرْضِ. فَإِنْ طَالَبَهُ الْمَالِكُ بِقَلْعِهِ، وَفِي قَلْعِهِ غَرَضٌ، أُجْبِرَ عَلَى قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ غَرَضًا مَقْصُودًا بِالْأَرْضِ، فَأُخِذَ بِإِعَادَتِهَا إلَى مَا كَانَتْ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، وَنَقْصِهَا، وَنَقْصِ الْغِرَاسِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْعِهِ غَرَضٌ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى السَّفَهِ. وَقِيلَ: يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مُحَكَّمٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْغَاصِبُ غَيْرُ مُحَكَّمٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ قَلْعَهُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكُ لَمْ يَمْلِكْ قَلْعَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ غَيْرُهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْبِنَاء فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَة] (3936) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا غَرَسَ فِيهَا فِي هَذَا التَّفْصِيلِ جَمِيعِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَرَّجُ أَنَّهُ إذَا بَذَلَ مَالِكُ الْأَرْضِ الْقِيمَةَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهَا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي النَّقْضِ غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ سَفَهٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَنَى فِي رِبَاعِ قَوْمٍ بِإِذْنِهِمْ فَلَهُ الْقِيمَةُ، وَمَنْ بَنَى بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَهُ النَّقْضُ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَتْ الْآلَةُ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ وَأَحْجَارِهَا، فَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ النَّقْضُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْغَرْسِ. [فَصْلٌ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا وَزَوَّقَهَا وَطَالَبَهُ رَبُّهَا بِإِزَالَتِهِ] (3937) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ دَارًا، فَجَصَّصَهَا وَزَوَّقَهَا وَطَالَبَهُ رَبُّهَا بِإِزَالَتِهِ، وَفِي إزَالَتِهِ غَرَضٌ، لَزِمَهُ إزَالَتُهُ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا إنْ نَقَصَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ، فَوَهَبَهُ الْغَاصِبُ لِمَالِكِهَا، أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ فِي الدَّارِ، فَأَشْبَهَ قَصَارَةَ الثَّوْبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَانُ مُتَمَيِّزَةٌ، فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقُمَاشِ. وَإِنْ طَلَبَ الْغَاصِبُ قَلْعَهُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكُ، وَكَانَ لَهُ قِيمَةٌ بَعْدَ الْكَشْطِ، فَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهُ، كَمَا يَمْلِكُ قَلْعَ غِرَاسِهِ، سَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ، أَوْ لَمْ يَبْذُلْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُ قَلْعَهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ غَصَبَ أَرْضًا فَكَشَطَ تُرَابَهَا] (3938) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَكَشَطَ تُرَابَهَا، لَزِمَهُ رَدُّهُ وَفَرْشُهُ عَلَى مَا كَانَ، إنْ طَلَبَهُ الْمَالِكُ، وَكَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى فَرْشِهِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَإِنْ مَنَعَهُ الْمَالِكُ فَرْشَهُ، أَوْ رَدَّهُ وَطَلَبَ الْغَاصِبُ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي رَدِّهِ غَرَضٌ مِنْ إزَالَةِ ضَرَرٍ، أَوْ ضَمَانٍ، فَلَهُ فَرْشُهُ وَرَدُّهُ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا مُدَّةَ شَغْلِهَا وَأَجْرُ نَقْصِهَا. وَإِنْ أَخَذَ تُرَابَ أَرْضٍ، فَضَرَبَهُ لِبِنَاءٍ، رَدَّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ فِيهِ تِبْنًا لَهُ، فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَحُلَّهُ وَيَأْخُذَ تِبْنَهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى كَشْطِ التَّزْوِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ. وَإِنْ طَالَبَهُ الْمَالِكُ بِحَلِّهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ غَرَضٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ جَعَلَهُ آجُرًّا أَوْ فَخَّارًا، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَلَا أَجْرَ لَهُ لِعَمَلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ كَسْرُهُ، وَلَا لِلْمَالِكِ إجْبَارُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَفَهُ لَا يُفِيدُ، وَإِتْلَافٌ لِلْمَالِ، وَإِضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.» [فَصْلٌ غَصَبَ أَرْضًا فَحَفَرَ فِيهَا بِئْرًا فَطَالَبَهُ الْمَالِكُ بِطَمِّهَا] (3939) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَحَفَرَ فِيهَا بِئْرًا فَطَالَبَهُ الْمَالِكُ بِطَمِّهَا، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْأَرْضِ، وَلِأَنَّ التُّرَابَ مِلْكُهُ، نَقَلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَتُرَابِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَ فِيهَا نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ طَمَّهَا، فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي طَمِّهَا، بِأَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ مَا يَقَعُ فِيهَا، أَوْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَ تُرَابَهَا إلَى مِلْكِ نَفْسِهِ، أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ طَرِيقٌ يَحْتَاجُ إلَى تَفْرِيغِهِ، فَلَهُ الرَّدُّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَضِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَمِّ الْبِئْرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَضَعَ التُّرَابَ فِي مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَأَبْرَأَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مِمَّا حَفَرَ، وَأَذِنَ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ طَمُّهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لَا نَفْعَ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ نُقْرَةً، فَطَبَعَهَا دَرَاهِمَ، ثُمَّ أَرَادَ جَعْلَهَا نُقْرَةً. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ طَمُّهَا. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ بِإِبْرَاءِ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ، وَهُوَ أَيْضًا إبْرَاءٌ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فِيهَا. وَلَنَا، أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا لَزِمَهُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي، فَإِذَا رَضِيَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، زَالَ التَّعَدِّي، فَزَالَ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ هَذَا إبْرَاءً مِمَّا لَمْ يَجِبْ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ التَّعَدِّي بِرِضَائِهِ بِهِ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالْإِبْرَاءِ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ طَمِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِذَلِكَ. [الْفَصْل الثَّالِث عَلَى الْغَاصِبِ أَجْرَ الْأَرْضِ مُنْذُ غَصْبِهَا إلَى وَقْتِ تَسْلِيمِهَا] (3940) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ أَجْرَ الْأَرْضِ مُنْذُ غَصْبِهَا إلَى وَقْتِ تَسْلِيمِهَا. وَهَكَذَا كُلُّ مَا لَهُ أَجْرٌ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى ذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ الْعَادِيَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهَا، كَالْأَعْيَانِ. وَإِنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَبَنَاهَا دَارًا، فَإِنْ كَانَتْ آلَاتُ بِنَائِهَا مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْأَرْضِ دُونَ بِنَائِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا غَصَبَ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءُ لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَجْرُ مَالِهِ. وَإِنْ بَنَاهَا بِتُرَابٍ مِنْهَا، وَآلَاتٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ أَجْرُهَا مَبْنِيَّةً؛ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لِلْغَاصِبِ فِيهَا أَثَرُ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عُدْوَانًا. وَإِنْ غَصَبَ دَارًا، فَنَقَضَهَا، وَلَمْ يَبْنِهَا، فَعَلَيْهِ أَجْرُ دَارٍ إلَى حِينِ نَقْضِهَا، وَأَجْرُهَا مَهْدُومَةً مِنْ حِينِ نَقْضِهَا إلَى حِينِ رَدِّهَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ انْهَدَمَ وَتَلِفَ، فَلَمْ يَجِبْ أَجْرُهُ مَعَ تَلَفِهَا. وَإِنْ نَقَضَهَا، ثُمَّ بَنَاهَا بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ. وَإِنْ بَنَاهَا بِآلَتِهَا، أَوْ آلَةٍ مِنْ تُرَابِهَا، أَوْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ أَجْرُهَا عَرْصَةً، مُنْذُ نَقَضَهَا إلَى أَنْ بَنَاهَا، وَأَجَّرَهَا دَارًا فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمَالِكِ. وَحُكْمُهَا فِي نَقْضِ بِنَائِهَا الَّذِي بَنَاهُ الْغَاصِبُ، حُكْمُ مَا لَوْ غَصَبَهَا عَرْصَةً فَبَنَاهَا. وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ بَاعَهَا، فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ نَقَضَهَا ثُمَّ بَنَاهَا، فَالْحُكْمُ لَا يَخْتَلِفُ، لَكِنَّ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَالرُّجُوعَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ، رَجَعَ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ مَا تَلِفَ مِنْ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَلَ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ، فَاسْتَقَرَّ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُشْتَرِي، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِنَقْصِ التَّالِفِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَةِ مَا تَلِفَ. وَهَلْ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْأَجْرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَجْرِ إلَّا بِأَجْرِ مُدَّةِ مُقَامِهَا فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ إنَّمَا ثَبَتَتْ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 [الْفَصْل الرَّابِع عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانَ نَقْصِ الْأَرْضِ] (3941) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: إنَّ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانَ نَقْصِ الْأَرْضِ، إنْ كَانَ نَقَصَهَا الْغَرْسُ، أَوْ نَقَصَتْ بِغَيْرِهِ. وَهَكَذَا كُلُّ عَيْنٍ مَغْصُوبَةٍ، عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِهَا إذَا كَانَ نَقْصًا مُسْتَقِرًّا، كَثَوْبٍ تَخَرَّقَ، وَإِنَاءٍ تَكَسَّرَ، وَطَعَامٍ سَوَّسَ، وَبِنَاءٍ خَرِبَ، وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَأَرْشَ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَالْقَفِيزِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالذِّرَاعِ مِنْ الثَّوْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا شَقَّ رَجُلٌ لِرَجُلِ ثَوْبًا شَقًّا قَلِيلًا، أَخَذَ أَرْشَهُ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ إمْسَاكِهِ وَأَخْذِ أَرْشِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ، فِي الثَّوْبِ: إنْ شَاءَ شَقَّ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ مِثْلَهُ. يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الشَّقِّ. وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ أَتْلَفَتْ مُعْظَمَ مَنْفَعَتِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ شَاةً لَهُ. وَحَكَى أَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ، أَنَّهُ إذَا جَنَى عَلَى عَيْنٍ، فَأَتْلَفَ غَرَضَ صَاحِبِهَا فِيهَا، كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَجَعَ بِمَا نَقَصَتْ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهَا وَأَخَذَ قِيمَتَهَا. وَلَعَلَّ مَا يُحْكَى عَنْهُ مِنْ قَطْعِ ذَنَبِ حِمَارِ الْقَاضِي، يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ غَرَضَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُهُ فِي الْعَادَةِ. وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ السِّلْعَةِ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جَمِيعَهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى مَالٍ أَرْشُهَا دُونَ قِيمَتِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الشَّقُّ يَسِيرًا، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ تَنْقُصُ بِهَا الْقِيمَةُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَتْلَفْ غَرَضُ صَاحِبِهَا، وَفِي الشَّاةِ تَلِفَ جَمِيعُهَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِتْلَافِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لَا بِغَرَضِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَصْلُحْ لِهَذَا صَلَحَ لِغَيْرِهِ. [فَصْلٌ قَدْرُ الْأَرْشِ قَدْرُ نَقْصِ الْقِيمَةِ فِي الْغَصْب] (3942) فَصْلٌ: وَقَدْرُ الْأَرْشِ قَدْرُ نَقْصِ الْقِيمَةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَيْنَ الدَّابَّةِ تُضْمَنُ بِرُبْعِ قِيمَتِهَا. فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فِي رَجُلٍ فَقَأَ عَيْنَ دَابَّةٍ لِرَجُلٍ: عَلَيْهِ رُبْعُ قِيمَتِهَا. قِيلَ لَهُ: فَقَأَ الْعَيْنَيْنِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ رُبْعُ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا الْعَيْنَانِ فَمَا سَمِعْت فِيهِمَا شَيْئًا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً؟ فَقَالَ: هَذَا غَيْرُ الدَّابَّةِ، هَذَا يُنْتَفَعُ بِلَحْمِهِ، يُنْظَرُ مَا نَقَصَهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَوْجَبَ مِقْدَارًا فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الدَّابَّةِ، وَهِيَ الْفَرَسُ وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ خَاصَّةً لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَمَا عَدَا هَذَا يُرْجَعُ إلَى الْقِيَاسِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، بِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ قِيمَتِهَا» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ عَيْنِ الدَّابَّةِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 إنَّا كُنَّا نُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ الْآدَمِيِّ، إلَّا أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ قِيمَتَهَا رُبْعُ الثَّمَنِ. وَهَذَا إجْمَاعٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. ذَكَرَ هَذَيْنِ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَلَعَ عَيْنَ بَهِيمَةٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ وِجْهَتَيْنِ، كَالدَّابَّةِ وَالْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ، وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَفِي إحْدَاهُمَا رُبْعُ قِيمَتِهَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْمَعَ رَأْيُنَا عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا رُبْعُ الثَّمَنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْعَبْدِ، أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الْغَصْبِ بِمَا يَضْمَنُ بِهِ فِي الْجِنَايَةِ؛ فَفِي يَدِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ لِأَبْعَاضِ الْعَبْدِ، فَكَانَ مُقَدَّرًا مِنْ قِيمَتِهِ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ، كَالثَّوْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالضَّمَانِ جَبْرُ حَقِّ الْمَالِكِ بِإِيجَابِ قَدْرِ الْمُفَوِّتِ عَلَيْهِ، وَقَدْرُ النَّقْصِ هُوَ الْجَابِرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءُ وَجَبَ قَدْرُهُ مِنْ الْقِيمَةِ، كَغَيْرِ الْحَيَوَانِ. وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا احْتَجَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَتَرَكُوهُ، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ يُحْتَجّ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَدْرَ نَقْصِهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، وَلَوْ كَانَ تَقْدِيرًا، لَوَجَبَ فِي الْعَيْنِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، كَعَيْنِ الْآدَمِيِّ. وَأَمَّا ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِ الْعَبْدِ، فَمَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، لِلْإِلْحَاقِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ، وَالْوَاجِبُ هَاهُنَا ضَمَانُ الْيَدِ، وَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَى الْحُرِّ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِيهِ عَلَى مُوجِبِ الْأَصْلِ، وَإِلْحَاقُهُ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ هَذَا فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالدَّابَّةِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَقَوْلُ عُمَرَ إنَّمَا هُوَ فِي الدَّابَّةُ، وَالدَّابَّةُ فِي الْعُرْفِ مَا يُعَدُّ لِلرُّكُوبِ دُونَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. [فَصْلٌ غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً مُقَدَّرَةَ الدِّيَةِ] (3943) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا، فَجَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً مُقَدَّرَةَ الدِّيَةِ، فَعَلَى قَوْلِنَا: ضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ. الْوَاجِبُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ، فَنَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ. وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ الْغَصْبِ غَيْرُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ، مِنْ أَرْشِ النَّقْصِ أَوْ دِيَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، لِأَنَّ سَبَبَ ضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ، فَوَجَبَ أَكْثَرُهُمَا، وَدَخَلَ الْآخَرُ فِيهِ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَالْيَدَ وُجِدَا جَمِيعًا. فَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا؛ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ، فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ، فَنَقَصَ أَلْفًا، لَزِمَهُ أَلْفٌ، وَرَدَّ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ زِيَادَةِ السُّوقِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ مَضْمُونَةٌ، وَيَدُ الْعَبْدِ كَنِصْفِهِ، فَكَأَنَّهُ بِقَطْعِ يَدِهِ فَوَّتَ نِصْفَهُ. وَإِنْ نَقَصَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَقُلْنَا: الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ. فَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَيَرُدُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الْعَبْدَ. وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ. فَعَلَيْهِ أَلْفٌ، وَرَدُّ الْعَبْدِ فَحَسْبُ. وَإِنْ نَقَصَ خَمْسَمِائَةٍ، فَعَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَلْفٌ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ غَصَبَ عَبْدًا فَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ] (3944) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا، فَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ قَطَعَ يَدَهُ، وَالْغَاصِبُ حَصَلَ النَّقْصُ فِي يَدِهِ، إنْ ضَمَّنَ الْجَانِيَ، فَلَهُ تَضْمِينُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضَمِّنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ إنْ نَقَصَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ، أَوْ لَمْ يَنْقُصْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ. لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ هَاهُنَا شَيْئًا. وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ، وَقُلْنَا: إنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ كَضَمَانِ الْجِنَايَةِ. ضَمَّنَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ بِهَا الْغَاصِبُ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِمَا نَقَصَ. فَلِرَبِّ الْعَبْدِ تَضْمِينُهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ فِي يَدِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَرْشُ جِنَايَتِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا. [فَصْلٌ غَصَبَ عَبْدًا فَقَطَعَ أُذُنَيْهِ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ أَوْ أَنْفَهُ أَوْ لِسَانَهُ أَوْ خُصْيَتَيْهِ] فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا فَقَطَعَ أُذُنَيْهِ، أَوْ يَدَيْهِ، أَوْ ذَكَرَهُ، أَوْ أَنْفَهُ، أَوْ لِسَانَهُ أَوْ خُصْيَتَيْهِ، لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ كُلُّهَا، وَرَدُّ الْعَبْدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ وَيَمْلِكُهُ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ، فَلَا يَبْقَى مِلْكُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ مَعَ ضَمَانِهِ لَهُ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُتْلَفَ الْبَعْضُ، فَلَا يَقِفُ ضَمَانُهُ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ جُمْلَتِهِ، كَقَطْعِ ذَكَرِ الْمُدَبَّرِ، وَكَقَطْعِ إحْدَى يَدَيْهِ أَوْ أُذُنَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمُفَوِّتُ، فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْ غَيْرِهِ بِضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ تِسْعَ أَصَابِعَ. وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ الضَّمَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُتْلَفِ، لَا فِي مُقَابَلَةِ الْجُمْلَةِ. فَأَمَّا إنْ ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ، فَهَلْ يَضْمَنُهَا ضَمَانَ الْإِتْلَافِ، أَوْ بِمَا نَقَصَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، سَبَقَ ذِكْرُهُمَا. [فَصْلٌ جِنَايَة الْعَبْد الْمَغْصُوب] (3946) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ، فَجِنَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي، لِكَوْنِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَسَائِرِ نَقْصِهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوْ الْمَالَ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ النَّقْصِ الَّذِي لَحِقَ الْعَبْدَ. وَإِنْ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ، فَجِنَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جِنَايَاتِهِ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 [فَصْل نُقْصَانِ عَيْن الْمَغْصُوبِ دُونَ قِيمَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ] (3947) فَصْلٌ: إذَا نَقَصَتْ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ دُونَ قِيمَتِهِ، فَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ جُزْءًا مُقَدَّرَ الْبَدَلِ، كَعَبْدٍ خَصَاهُ، وَزَيْتٍ أَغْلَاهُ، وَنُقْرَةٍ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ فَنَقَصَتْ عَيْنُهَا دُونَ قِيمَتِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ النَّقْصِ، فَيَضْمَنُ نَقْصَ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ، وَنَقْصَ الزَّيْتِ وَالنُّقْرَةِ بِمِثْلِهِمَا مَعَ رَدِّ الْبَاقِي مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ النَّاقِصَ مِنْ الْعَيْنِ لَهُ بَدَلٌ مُقَدَّرٌ، فَلَزِمَهُ مَا تُقُدِّرَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَ الْجَمِيعَ. الثَّانِي، أَنْ لَا يَكُونَ مُقَدَّرًا، مِثْلَ إنْ غَصَبَ عَبْدًا ذَا سِمَنٍ مُفْرِطٍ، فَخَفَّ جِسْمُهُ، وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ سِوَى رَدِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَوْجَبَ فِي هَذَا مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ بَدَلَهُ، وَلَمْ تَنْقُصْ الْقِيمَةُ، فَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى؛ فَإِنَّ الذَّاهِبَ مُقَدَّرُ الْبَدَلِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بَدَلُهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي مُقَدَّرِ الْبَدَلِ، لَكِنَّ الذَّاهِبَ مِنْهُ أَجْزَاءٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، كَعَصِيرٍ أَغْلَاهُ فَذَهَبَتْ مَائِيَّتُهُ، وَانْعَقَدَتْ أَجْزَاؤُهُ، فَنَقَصَتْ عَيْنُهُ دُونَ قِيمَتِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا شَيْءَ فِيهِ سِوَى رَدِّهِ؛ لِأَنَّ النَّارَ إنَّمَا أَذْهَبَتْ مَائِيَّتَهُ الَّتِي يَقْصِدُ ذَهَابَهَا، وَلِهَذَا تَزْدَادُ حَلَاوَتُهُ، وَتَكْثُرُ قِيمَتُهُ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا، كَسِمَنِ الْعَبْدِ الَّذِي يَنْقُصُ قِيمَتَهُ. وَالثَّانِي، يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرُ الْبَدَلِ، فَأَشْبَهَ الزَّيْتَ إذَا أَغْلَاهُ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْعَيْنُ وَالْقِيمَةُ جَمِيعًا، وَجَبَ فِي الزَّيْتِ وَشِبْهِهِ ضَمَانُ النَّقْصَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رِطْلُ زَيْتٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، فَأَغْلَاهُ، فَنَقَصَ ثُلُثُهُ، فَصَارَ قِيمَةُ الْبَاقِي نِصْفَ دِرْهَمٍ، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ رِطْلٍ وَسُدُسُ دِرْهَمٍ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَاقِي ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ رِطْلٍ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْبَاقِي لَمْ تَنْقُصْ. وَإِنْ خَصَى الْعَبْدَ، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ضَمَانِ خُصْيَتَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ. وَهَلْ يَجِبُ فِي الْعَصِيرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ، أَوْ يَكُونُ كَالزَّيْتِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ غَصَبَ عَبْدًا فَنَقَصَتْ قِيمَتِهِ] (3948) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا فَسَمِنَ سِمَنًا نَقَصَتْ بِهِ قِيمَتُهُ، أَوْ كَانَ شَابًّا فَصَارَ شَيْخًا، أَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ نَاهِدًا فَسَقَطَ ثَدْيَاهَا. وَجَبَ أَرْشُ النَّقْصِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَمْرَدَ، فَنَبَتَتْ لِحْيَتُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ، وَجَبَ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَا يُقْصَدُ قَصْدًا صَحِيحًا، فَأَشْبَهَ الصِّنَاعَةَ الْمُحَرَّمَةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ نَقَصَ فِي الْقِيمَةِ بِتَغَيُّرِ صِفَتِهِ، فَيَضْمَنُهُ، كَبَقِيَّةِ الصُّوَرِ. [فَصْلٌ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ نَقْصًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَطَعَامِ ابْتَلَّ وَخِيفَ فَسَادُهُ] (3949) فَصْلٌ: وَإِنْ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ نَقْصًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، كَطَعَامٍ ابْتَلَّ. وَخِيفَ فَسَادُهُ، أَوْ عَفِنَ وَخُشِيَ تَلَفُهُ. فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ؛ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ نَقْصَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ قَدْرُ نَقْصِهِ، وَكُلَّمَا نَقَصَ شَيْئًا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى السَّبَبِ الْمَوْجُودِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَكَانَ كَالْمَوْجُودِ فِي يَدِهِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُهُ بَيْنَ أَخْذِ بَدَلِهِ، وَبَيْنِ تَرْكِهِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فَسَادُهُ، وَيَأْخُذَ أَرْشَ نَقْصِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ تَسْلِيمِهِ إلَى الْغَاصِب وَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ النَّقْصَ لَحَصَلَ لَهُ مِثْلُ كَيْلِهِ وَزِيَادَةٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ بَاعَ قَفِيزًا جَيِّدًا بِقَفِيزٍ رَدِيءٍ وَدِرْهَمٍ. وَلَنَا، أَنَّ عَيْنَ مَالِهِ بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا حَدَثَ فِيهِ نَقْصٌ، فَوَجَبَ فِيهِ مَا نَقَصَ، كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدًا فَمَرِضَ. وَقَدْ وَافَقَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا فِي الْعَفَنِ. وَقَالَ: يَضْمَنُ مَا نَقَصَ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْبَلَلَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعَفَنُ بِسَبَبٍ مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ مَا وُجِدَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، لِوُجُودِهِ فِي يَدِهِ، فَلَا فَرْقَ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّعَامَ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْهُ. وَقَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ لَا بَأْسَ بِهِ. [مَسْأَلَة زَرَعَ الْأَرْض الْمَغْصُوبَة فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ] (3950) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ زَرَعَهَا، فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ، كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ أَخْذِ الْغَاصِبِ الزَّرْعَ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ) قَوْلُهُ: " فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا " يَعْنِي اسْتَرْجَعَهَا مِنْ الْغَاصِبِ، أَوْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " اُسْتُحِقَّتْ ". يَعْنِي أَخَذَهَا مُسْتَحِقُّهَا. فَمَتَى كَانَ هَذَا بَعْدَ حَصَادِ الْغَاصِبِ الزَّرْعَ، فَإِنَّهُ لِلْغَاصِبِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ وَضَمَانُ النَّقْصِ. وَلَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا، فَنَقَصَتْ لِتَرْكِ الزِّرَاعَةِ، كَأَرَاضِي الْبَصْرَةِ، أَوْ نَقَصَتْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، ضَمِنَ نَقْصَهَا أَيْضًا؛ لِمَا قَدَّمْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. فَأَمَّا إنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا، لَمْ يَمْلِكْ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى قَلْعِهِ، وَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يُقِرُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 الزَّرْع فِي الْأَرْضِ إلَى الْحَصَادِ، وَيَأْخُذَ مِنْ الْغَاصِبِ أَجْرَ الْأَرْضِ وَأَرْشَ نَقْصِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ وَيَكُونَ الزَّرْعُ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: يَمْلِكُ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى قَلْعِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْغَرْسِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» . وَلِأَنَّهُ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ظُلْمًا، أَشْبَهَ الْغِرَاسَ. وَلَنَا، مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى زَرْعًا فِي أَرْضِ ظُهَيْرٍ، فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ. فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لِظُهَيْرٍ، وَلَكِنَّهُ لِفُلَانٍ. قَالَ: فَخُذُوا زَرْعَكُمْ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ. قَالَ رَافِعٌ: فَأَخَذْنَا زَرْعَنَا، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ» . وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ إلَى مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافِ مَالِ الْغَاصِبِ، عَلَى قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ سَفِينَةً، فَحَمَلَ فِيهَا مَالَهُ. وَأَدْخَلَهَا الْبَحْرَ، أَوْ غَصَبَ لَوْحًا. فَرَقَّعَ بِهِ سَفِينَةً، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ فِي اللُّجَّةِ، وَيُنْتَظَرُ حَتَّى تُرْسَى، صِيَانَةً لِلْمَالِ عَنْ التَّلَفِ. كَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ زَرْعٌ حَصَلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ. كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مُسْتَعَارَةً أَوْ مَشْفُوعَةً. وَفَارَقَ الشَّجَرَ وَالنَّخْلَ؛ لِأَنَّ مُدَّتَهُ تَتَطَاوَلُ، وَلَا يُعْلَمُ مَتَى يَنْقَطِعُ مِنْ الْأَرْضِ، فَانْتِظَارُهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ رَدِّ الْأَصْلِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَحَدِيثُهُمْ وَرَدَ فِي الْغَرْسِ، وَحَدِيثُنَا فِي الزَّرْعِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَيُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِهِ. وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى رَضِيَ الْمَالِكُ بِتَرْكِ الزَّرْعِ لِلْغَاصِبِ. وَيَأْخُذُ مِنْهُ أَجْرَ الْأَرْضِ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ، فَمَلَكَ صَاحِبُهُ أَخْذَ أَجْرِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ فِي الدَّارِ طَعَامًا أَوْ أَحْجَارًا يَحْتَاجُ فِي نَقْلِهِ إلَى مُدَّةٍ. وَإِنْ أَحَبَّ أَخْذَ الزَّرْعِ، فَلَهُ ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أَخْذَ شَجَرِ الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهِ. وَفِيمَا يُرَدُّ عَلَى الْغَاصِبِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، قِيمَةُ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الزَّرْعِ. فَيُقَدَّرُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَلِأَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ إلَى حِينِ انْتِزَاعِ الْمَالِكِ لَهُ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ قَبْلَ انْتِزَاعِ الْمَالِكِ لَهُ، كَانَ مِلْكًا لَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ لَمَا مَلَكَهُ بِأَخْذِهِ. فَيَكُونُ أَخْذُ الْمَالِكِ لَهُ تَمَلُّكًا لَهُ، إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ. وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ الْأَرْضِ إلَى حِينِ تَسْلِيمِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ، وَقَدْ شَغَلَ بِهِ أَرْضَ غَيْرِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَنْفَقَ مِنْ الْبَذْرِ، وَمُؤْنَةِ الزَّرْعِ فِي الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ، وَغَيْرِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَظَاهِرُ الْحَدِيثُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ". وَقِيمَةُ الشَّيْءِ لَا تُسَمَّى نَفَقَةً لَهُ. وَالْحَدِيثُ، مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى هَذَا الْحُكْمِ اسْتِحْسَانًا، عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ عَيْنِ مَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَ دَجَاجَةً فَحَضَنَتْ بَيْضًا لَهُ. أَوْ طَعَامًا فَعَلَفَهُ دَوَابَّ لَهُ، كَانَ النَّمَاءُ لَهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ، أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ؛ لِلْأَثَرِ. وَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ لِلْغَاصِبِ إذَا اسْتَحَقَّتْ الْأَرْضُ بَعْدَ أَخْذِ الْغَاصِبِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ مَدْلُولُهُ. (3951) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يَبْقَى أُصُولُهُ فِي الْأَرْضِ، وَيُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالرَّطْبَةِ وَالنَّعْنَاعِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الزَّرْعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَرْعٌ قَوِيٌّ، فَأَشْبَهَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْغَرْسِ؛ لِبَقَاءِ أَصْلِهِ وَتَكَرُّرِ أَخْذِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ زَرْعٍ مِثْلُ حُكْمِ الْغَرْسِ، وَإِنَّمَا تُرِكَ فِيمَا تَقِلُّ مُدَّتُهُ لِلْأَثَرِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْقِيَاسِ. [فَصْلٌ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا فَأَثْمَرَتْ فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا بَعْدَ أَخْذِ الْغَاصِبِ ثَمَرَتَهَا] (3952) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا فَأَثْمَرَتْ، فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا بَعْدَ أَخْذِ الْغَاصِبِ ثَمَرَتَهَا، فَهِيَ لَهُ. وَإِنْ أَدْرَكَهَا وَالثَّمَرَةُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ شَجَرِهِ، فَكَانَتْ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي أَرْضِهِ، وَلِأَنَّهَا نَمَاءُ أَصْلٍ مَحْكُومٍ بِهِ لِلْغَاصِبِ، فَكَانَ لَهُ، كَأَغْصَانِهَا وَوَرَقِهَا. وَلَبَنِ الشَّاةِ وَوَلَدِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ إنْ أَدْرَكَهَا فِي الْغِرَاسِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ: إذَا غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا، فَالنَّمَاءُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ مَا أَنْفَقَهُ الْغَارِسُ مِنْ مُؤْنَةِ الثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي مَعْنَى الزَّرْعِ فَكَانَتْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إذَا أَدْرَكَهُ قَائِمًا فِيهَا، كَالزَّرْعِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَخْذَ رَبِّ الْأَرْضِ الزَّرْعَ شَيْءٌ لَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ، وَإِنَّمَا صَارَ إلَيْهِ لِلْأَثَرِ، فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهِ، وَلَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ تُفَارِقُ الزَّرْعَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الزَّرْعَ نَمَاءُ الْأَرْضِ، فَكَانَ لِصَاحِبِهَا، وَالثَّمَرَةُ نَمَاءُ الشَّجَرِ. فَكَانَ لِصَاحِبِهِ. الثَّانِي، أَنَّهُ يَرُدُّ عِوَضَ الزَّرْعِ الَّذِي أَخَذَهُ، مِثْلُ الْبَذْرِ الَّذِي نَبَتَ مِنْهُ الزَّرْعُ، مَعَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الثَّمَرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 [فَصْلٌ غَصَبَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ] (3953) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ، فَالثَّمَرُ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَلِأَنَّ الشَّجَرَ عَيْنُ مِلْكِهِ نَمَا وَزَادَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَالَتْ أَغْصَانُهُ. وَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَرِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ. وَإِنْ كَانَ رُطَبًا فَصَارَ تَمْرًا، أَوْ عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ وَأَرْشُ نَقْصِهِ إنْ نَقَصَ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ بِعَمَلِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ لِلشَّجَرِ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّ أُجْرَتَهَا لَا تَجُوزُ فِي الْعُقُودِ، فَكَذَلِكَ فِي الْغَصْبِ، وَلِأَنَّ نَفْعَ الشَّجَرِ تَرْبِيَةُ الثَّمَرِ وَإِخْرَاجُهُ، وَقَدْ عَادَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ إلَى الْمَالِكِ. وَلَوْ كَانَتْ مَاشِيَةً، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ وَلَدِهَا إنْ وَلَدَتْ عِنْدَهُ، وَيَضْمَنُ لَبَنَهَا بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَيَضْمَنُ أَوْبَارَهَا وَأَشْعَارَهَا بِمِثْلِهِ، كَالْقُطْنِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْأَرْض الْمَغْصُوبَة فِي جَوَازِ دُخُولِ غَيْرِ الْغَاصِبِ إلَيْهَا] (3954) فَصْلٌ: وَإِذَا غَصَبَ أَرْضًا، فَحُكْمُهَا فِي جَوَازِ دُخُولِ غَيْرِهِ إلَيْهَا حُكْمُهَا قَبْلَ الْغَصْبِ. فَإِنْ كَانَتْ مُحَوَّطَةً، كَالدَّارِ وَالْبُسْتَانِ الْمُحَوَّطِ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ مَالِكِهَا دُخُولُهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ مَالِكِهَا لَمْ يَزُلْ عَنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الضَّيْعَةِ تَصِيرُ غَيْضَةً فِيهَا سَمَكٌ: لَا يَصِيدُ فِيهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ صَحْرَاءَ، جَازَ الدُّخُولُ فِيهَا وَرَعْيُ حَشِيشِهَا. قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِرَعْيِ الْكَلَأِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَأَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ. وَيَتَخَرَّجُ فِي كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ مِثْلُ حُكْمِ الْأُخْرَى. قِيَاسًا لَهَا عَلَيْهَا. وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ، فِي رَجُلٍ وَالِدَاهُ فِي دَارٍ طَوَابِيقُهَا غَصْبٌ. لَا يَدْخُلُ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دُخُولَهُ عَلَيْهِمَا تَصَرُّفٌ فِي الطَّوَابِيقِ الْمَغْصُوبَةِ. وَنَقَلَ عَنْهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، فِي رَجُلٍ لَهُ إخْوَةٌ فِي أَرْضِ غَصْبٍ: يَزُورُهُمْ وَيُرَاوِدُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ، وَإِلَّا لَمْ يُقِمْ مَعَهُمْ، وَلَا يَدَعُ زِيَارَتَهُمْ. يَعْنِي يَزُورُهُمْ بِحَيْثُ يَأْتِي بَابَ دَارِهِمْ، وَيَتَعَرَّفُ أَخْبَارَهُمْ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَيُكَلِّمُهُمْ، وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِمْ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْهُ: أَكْرَهُ الْمَشْيَ عَلَى الْعَبَّارَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبَّارَةَ وُضِعَتْ لِعُبُورِ الْمَاءِ، لَا لِلْمَشْيِ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَشْيُ عَلَيْهَا يَضُرُّ بِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَدْفِنُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي أَرْضِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا مِنْ مَوْضِعِ غَصْبٍ، ثُمَّ عَلِمَ: رَجَعَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ، فَرَدَّهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَطْرَحُهُ. يَعْنِي عَلَى مَنْ ابْتَاعَهُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قُعُودَهُ فِيهِ حَرَامٌ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَكَانَ الْبَيْعُ فِيهِ مُحَرَّمًا، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ مِمَّنْ يَقْعُدُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُحَرَّمِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقُعُودِ وَالْبَيْعِ فِيهِ، وَتَرْكُ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْقُعُودِ. وَقَالَ: لَا يَبْتَاعُ مِنْ الْخَانَاتِ الَّتِي فِي الطُّرُقِ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ غَيْرَهُ. كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ. وَقَالَ فِي السُّلْطَانِ إذَا بَنَى دَارًا، وَجَمَعَ النَّاسَ إلَيْهَا: أَكْرَهُ الشِّرَاءَ مِنْهَا. وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ عِبَادَةٌ، فَمَا لَيْسَ بِعِبَادَةِ أَوْلَى. وَقَالَ فِي مَنْ غَصَبَ ضَيْعَةً، وَغُصِبَتْ مِنْ الْغَاصِبِ، فَأَرَادَ الثَّانِي رَدَّهَا: جَمَعَ بَيْنَهُمَا. يَعْنِي بَيْنَ مَالِكِهَا وَالْغَاصِبِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ، جَمَعَ وَرَثَتَهُ. إنَّمَا قَالَ هَذَا احْتِيَاطًا، خَوْفَ التَّبِعَةِ مِنْ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا طَالَبَ بِهَا، وَادَّعَاهَا مِلْكًا بِالْيَدِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ رَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفًا، فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمُسْتَوْدَعِ، فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا غَصَبَنِي الْأَلْفَ الَّذِي اسْتَوْدَعَكَهُ. وَصَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْتَوْدَعِ، فَإِنْ لَمْ يَخَفْ التَّبِعَةَ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَيْهِ، دَفَعَهُ إلَيْهِ. " [مَسْأَلَة غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَة فَزَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَتْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَقَصَتْ حَتَّى صَارَتْ مِائَةً] (3955) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَزَادَ فِي بَدَنِهِ، أَوْ بِتَعَلُّمٍ، حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ نَقَصَ بِنُقْصَانِ بَدَنِهِ، أَوْ نِسْيَانِ مَا عُلِّمَ، حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً، أَخَذَهُ السَّيِّدُ، وَأَخَذَ مِنْ الْغَاصِبِ مِائَةً) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِوَضُ الزِّيَادَةِ، إلَّا أَنْ يُطَالِبَ بِرَدِّهَا زَائِدَةً، فَلَا يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّهُ رَدَّ الْعَيْنَ كَمَا أَخَذَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ نَقْصَ قِيمَتِهَا، كَنَقْصِ سِعْرِهَا، وَلَنَا، أَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي نَفْسِ الْمَغْصُوبِ، فَلَزِمَ الْغَاصِبَ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ طَالَبَهُ بِرَدِّهَا فَلَمْ يَفْعَلْ. وَفَارَقَ زِيَادَةَ السِّعْرِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً حَالَ الْغَصْبِ، لَمْ يَضْمَنْهَا، وَالصِّنَاعَةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، فَهِيَ صِفَةٌ فِيهِ، وَلِذَلِكَ يَضْمَنُهَا إذَا طُولِبَ بِرَدِّ الْعَيْنِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَلَمْ يَرُدَّهَا، وَأَجْرَيْنَاهَا هِيَ وَالتَّعَلُّمَ مَجْرَى السِّمَنِ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ تَتْبَعُ الْعَيْنَ، وَأَجْرَيْنَا الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَجْرَى الزِّيَادَةِ الْمَوْجُودَةِ حَالَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَتَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْعَيْنِ. فَأَمَّا إنْ غَصَبَ الْعَيْنَ سَمِينَةً، أَوْ ذَاتَ صِنَاعَةٍ، أَوْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَنَحْوَهُ، فَهَزَلَتْ وَنَسِيَتْ فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ عَنْ حَالِ غَصْبِهَا نَقْصًا أَثَّرَ فِي قِيمَتِهَا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 (3956) فَصْلٌ: إذَا غَصَبَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ فَسَمِنَتْ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا، ثُمَّ تَعَلَّمَتْ صِنَاعَةً، فَبَلَغَتْ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ هَزَلَتْ وَنَسِيَتْ، فَعَادَتْ قِيمَتُهَا إلَى مِائَةٍ، رَدَّهَا وَرَدَّ أَلْفًا وَتِسْعَمِائَةٍ. وَإِنْ بَلَغَتْ بِالسِّمَنِ أَلْفًا، ثُمَّ هَزَلَتْ فَبَلَغَتْ مِائَةً، ثُمَّ تَعَلَّمَتْ فَبَلَغَتْ أَلْفًا، ثُمَّ نَسِيَتْ فَعَادَتْ إلَى مِائَةٍ، رَدَّهَا وَرَدَّ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ بِالْهُزَالِ تِسْعَمِائَةٍ، وَبِالنِّسْيَانِ تِسْعَمِائَةٍ. وَإِنْ سَمِنَتْ فَبَلَغَتْ أَلْفًا، ثُمَّ هَزَلَتْ فَعَادَتْ إلَى مِائَةٍ، ثُمَّ تَعَلَّمَتْ فَعَادَتْ إلَى أَلْفٍ، رَدَّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الزِّيَادَةِ الْأُولَى أَوْجَبَ الضَّمَانَ، ثُمَّ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ أُخْرَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَلَا يَنْجَبِرُ مِلْكُ الْإِنْسَانِ بِمُلْكِهِ، وَأَمَّا إذَا بَلَغَتْ بِالسِّمَنِ أَلْفًا، ثُمَّ هَزَلَتْ فَعَادَتْ إلَى مِائَةٍ، ثُمَّ سَمِنَتْ فَعَادَتْ إلَى أَلْفٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَرُدُّهَا زَائِدَةً، وَيَضْمَنُ نَقْصَ الزِّيَادَةِ الْأُولَى، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ، فَإِنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَنْجَبِرُ بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. فَعَلَى هَذَا إنْ هَزَلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَعَادَتْ إلَى مِائَةٍ، ضَمِنَ النَّقْصَيْنِ بِأَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا رَدَّهَا سَمِينَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ مَا ذَهَبَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَرِضَتْ فَنَقَصَتْ، ثُمَّ عُوفِيَتْ، أَوْ نَسِيَتْ صِنَاعَةً ثُمَّ تَعَلَّمَتْهَا، أَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَادَ. وَفَارَقَ مَا إذَا زَادَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعُدْ مَا ذَهَبَ. وَهَذَا الْوَجْهُ، أَقْيَسُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِهِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ سَمِنَتْ بَعْدَ الْهُزَالِ، وَلَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا إلَى مَا بَلَغَتْ فِي السِّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ زَادَتْ عَلَيْهِ، ضَمِنَ أَكْثَرَ الزِّيَادَتَيْنِ، وَتَدْخُلُ الْأُخْرَى فِيهَا. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَضْمَنُهُمَا جَمِيعًا. فَأَمَّا إنْ زَادَتْ بِالتَّعْلِيمِ أَوْ الصِّنَاعَةِ، ثُمَّ نَسِيَتْ، ثُمَّ تَعَلَّمَتْ مَا نَسِيَتْهُ، فَعَادَتْ الْقِيمَةُ الْأُولَى، لَمْ يَضْمَنْ النَّقْصَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ عَادَ مَا ذَهَبَ. وَإِنْ تَعَلَّمَتْ عِلْمًا آخَرَ، أَوْ صِنَاعَةً أُخْرَى، فَهُوَ كَعَوْدِ السِّمَنِ، فِيهِ وَجْهَانِ. ذَكَرَ هَذَا الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَتَى زَادَتْ، ثُمَّ نَقَصَتْ، ثُمَّ زَادَتْ مِثْلَ الزِّيَادَةِ الْأُولَى، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسٍ كَالسِّمَنِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالسِّمَنِ وَالتَّعْلِيمِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْلٌ مَرِضَ الْمَغْصُوبُ ثُمَّ بَرَّأَ أَوْ ابْيَضَّتْ عَيْنُهُ ثُمَّ ذَهَبَ بَيَاضُهَا] (3957) فَصْلٌ: وَإِنْ مَرِضَ الْمَغْصُوبُ ثُمَّ بَرَأَ، أَوْ ابْيَضَّتْ عَيْنُهُ ثُمَّ ذَهَبَ بَيَاضُهَا، أَوْ غَصَبَ جَارِيَةً حَسْنَاءَ فَسَمِنَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 سِمَنًا نَقَصَهَا، ثُمَّ خَفَّ سِمَنُهَا فَعَادَ حُسْنُهَا وَقِيمَتُهَا رَدَّهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مَا لَهُ قِيمَةٌ، وَالْعَيْبُ الَّذِي أَوْجَبَ الضَّمَانَ زَالَ فِي يَدَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَتْ فَنَقَصَتْ، ثُمَّ وَضَعَتْ فَزَالَ نَقْصُهَا، لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. فَإِنْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ نَاقِصًا بِمَرَضٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ سِمَنٍ مُفْرِطٍ، أَوْ حَمْلٍ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهِ، فَإِنْ زَالَ عَيْبُهُ فِي يَدَيْ مَالِكِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْ أَرْشِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ ضَمَانُهُ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الْمَغْصُوبَ دُونَ أَرْشِهِ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَخْذِ أَرْشِهِ، لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ؛ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ زَوَائِدُ الْغَصْبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ] (3958) فَصْلٌ: زَوَائِدُ الْغَصْبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ الْغَصْبِ، مِثْلُ السِّمَنِ، وَتَعَلُّمِ الصِّنَاعَةِ، وَغَيْرِهَا، وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ، مَتَى تَلِفَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ تَلِفَ مُنْفَرِدًا، أَوْ تَلِفَ مَعَ أَصْلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يَجِبُ ضَمَانُ زَوَائِدِ الْغَصْبِ، إلَّا أَنْ يُطَالَبَ بِهَا فَيَمْتَنِعُ مِنْ أَدَائِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَغْصُوبَةٍ، فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهَا، كَالْوَدِيعَةِ، وَدَلِيلُ عَدَمِ الْغَصْبِ أَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، وَثُبُوتُ يَدِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّوَائِدِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى وُجُودِ الزَّوَائِدِ فِي يَدِهِ، وَوُجُودُهَا لَيْسَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، حَصَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ، فَيَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ، كَالْأَصْلِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ إثْبَاتَ يَدِهِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بِإِمْسَاكِ الْأُمِّ تَسَبَّبَ إلَى إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّوَائِدِ، وَإِثْبَاتُ يَدِهِ عَلَى الْأُمِّ مَحْظُورٌ. [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِ الْقِيمَةِ الْحَاصِلِ بِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ] (3959) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِ الْقِيمَةِ الْحَاصِلِ بِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ، فَيَلْزَمُهُ إذَا رَدَّهَا، كَالسِّمَنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ رَدَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا عَيْنٌ وَلَا صِفَةٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ لَمْ تَنْقُصْ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّهُ وَجَبَتْ قِيمَةُ الْعَيْنِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهَا، فَدَخَلَتْ فِي التَّقْوِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهَا؛ فَإِنَّ الْقِيمَةَ لَا تَجِبُ، وَيُخَالِفُ السِّمَنَ، فَإِنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَالْعِلْمُ بِالصِّنَاعَةِ صِفَةٌ فِيهَا، وَهَا هُنَا لَمْ تَذْهَبْ عَيْنٌ وَلَا صِفَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْقِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْعَيْنِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ كُلُّهَا كَمَا كَانَتْ، وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ مَا غَصَبَ، وَالْقِيمَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْغَصْبِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهَا مَغْصُوبَةٌ وَقَدْ ذَهَبَتْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 [فَصْلٌ غَصَبَ شَيْئًا فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ وَكَانَ ثَوْبًا يَنْقُصُهُ الْقَطْعُ] (3960) فَصْلٌ: وَلَوْ غَصَبَ شَيْئًا فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ، وَكَانَ ثَوْبًا يَنْقُصُهُ الْقَطْعُ، رَدَّهُ وَأَرْشُ نَقْصِهِ، فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ، رَدَّ الْبَاقِي وَقِيمَةَ التَّالِفِ، وَأَرْشَ النَّقْصِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهُ الْقَطْعُ، رَدَّ الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ التَّالِفِ لَا غَيْرُ. وَإِنْ كَانَا بَاقِيَيْنِ، رَدَّهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ. وَإِنْ غَصَبَ شَيْئَيْنِ يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، كَزَوْجَيْ خُفٍّ، وَمِصْرَاعَيْ بَابٍ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، رَدَّ الْبَاقِيَ، وَقِيمَةَ التَّالِفِ وَأَرْشَ نَقْصِهِمَا. فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، فَصَارَتْ قِيمَةُ الْبَاقِي دِرْهَمَيْنِ، رَدَّ الْبَاقِيَ وَأَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةُ التَّالِفِ مَعَ رَدِّ الْبَاقِي. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْلَفْ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْبَاقِي نَقْصُ قِيمَةٍ، فَلَا يَضْمَنُهُ، كَالنَّقْصِ بِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِجِنَايَتِهِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَشَقِّ الثَّوْبِ الَّذِي يَنْقُصُهُ الشَّقُّ إذَا أَتْلَفَ أَحَدَ شِقَّيْهِ، بِخِلَافِ نَقْصِ السِّعْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الْمَغْصُوبِ عَيْنٌ وَلَا مَعْنَى، وَهَا هُنَا فَوَّتَ مَعْنَى، وَهُوَ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِنَقْصِ قِيمَتِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَهُ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ بَصَرَهُ أَوْ سَمْعَهُ أَوْ عَقْلَهُ، أَوْ فَكَّ تَرْكِيبَ بَابٍ وَنَحْوِهِ. [فَصْلٌ غَصَبَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَنَقَصَ نِصْفُ قِيمَتِهِ ثُمَّ عَادَتْ قِيمَتُهُ] (3961) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَأَبْلَاهُ، فَنَقَصَ نِصْفُ قِيمَتِهِ، ثُمَّ غَلَتْ الثِّيَابُ، فَعَادَتْ لِذَلِكَ قِيمَتُهُ، كَمَا كَانَتْ، لَزِمَهُ رَدُّهُ وَأَرْشُ نَقْصِهِ، فَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَنَقَصَهُ لُبْسُهُ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةً، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ عَشَرَةً، رَدَّهُ وَرَدَّ خَمْسَةً؛ لِأَنَّ مَا تَلِفَ قَبْلَ غَلَاءِ الثَّوْبِ ثَبَتَتْ قِيمَتُهُ فِي الذِّمَّةِ خَمْسَةٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِغَلَاءِ الثَّوْبِ وَلَا رُخْصِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَخَّصَتْ الثِّيَابُ، فَصَارَتْ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةً، لَمْ يَلْزَمْ الْغَاصِبَ إلَّا خَمْسَةٌ، مَعَ رَدِّ الثَّوْبِ. وَلَوْ تَلِفَ الثَّوْبُ كُلُّهُ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ غَلَتْ الثِّيَابُ، فَصَارَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عِشْرِينَ، لَمْ يَضْمَنْ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ عَشَرَةً، فَلَا تَزْدَادُ بِغَلَاءِ الثِّيَابِ، وَلَا تَنْقُصُ بِرُخْصِهَا. [فَصْلٌ غَصَبَ ثَوْبًا أَوْ زوليا فَذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ] (3962) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا أَوْ زوليا، فَذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ، كَخَمْلِ الْمِنْشَفَةِ، وزئبرة الثَّوْبِ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهِ. وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ، لَزِمَهُ أَجْرُهُ، سَوَاءٌ اسْتَعْمَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ. وَإِنْ اجْتَمَعَا، مِثْلُ أَنْ أَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً، فَذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُمَا مَعًا، الْأَجْرُ وَأَرْشُ النَّقْصِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُ الْأَجْزَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنْ نَقَصَ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ، كَثَوْبِ يَنْقُصُهُ النَّشْرُ، فَنَقَصَ بِنَشْرِهِ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ مُدَّةً، ضَمِنَ الْأَجْرَ وَالنَّقْصَ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كَثَوْبٍ لَبِسَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وَأَبْلَاهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَضْمَنُهُمَا مَعًا. وَالثَّانِي، يَجِبُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْأَجْرِ وَأَرْشُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ مَا نَقَصَ مِنْ الْأَجْزَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْإِيجَابِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَجَبَا، كَمَا لَوْ أَقَامَ فِي يَدِهِ مُدَّةً ثُمَّ تَلِفَ، وَالْأُجْرَةُ تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَفُوتُ مِنْ الْمَنَافِعِ، لَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَجْزَاءِ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ تَفُتْ الْأَجْزَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ، كَثَوْبٍ غَيْرِ مَخِيطٍ، فَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ لَا غَيْرُ. [فَصْلٌ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ بَاعَهُ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي] فَصْلٌ: وَإِذَا نَقَصَ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ الْغَاصِبِ، ثُمَّ بَاعَهُ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إلَى حِينِ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ مِنْ حِينِ غَصْبِهِ إلَى يَوْمِ تَلِفَ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ قَبْضِهِ إلَى حِينِ تَلَفِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أُجْرَةٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِجَمِيعِهَا، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَجْرِ مُقَامِهِ فِي يَدِهِ، وَالْبَاقِي عَلَى الْغَاصِبِ. وَالْكَلَامُ فِي رُجُوعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا] (3964) فَصْلٌ: وَإِذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا، أَوْ حَدِيدًا فَعَمِلَهُ سَكَاكِينَ أَوْ أَوَانِيَ، أَوْ خَشَبَةً فَنَجَرَهَا بَابًا أَوْ تَابُوتًا، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ، وَيَأْخُذُهُ وَأَرْشَ نَقْصِهِ إنْ نَقَصَ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِي زِيَادَتِهِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا: يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهَا عَنْهَا، إلَّا أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَّا بِالصَّدَقَةِ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ قِيمَتَهَا فَيَمْلِكَهَا وَيَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ رَجَعَ عَنْهُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا مَاتَ قَبْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَارَ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي دَارِهِمْ، فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَشْوِيَّةً فَتَنَاوَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، فَجَعَلَ يَلُوكُهَا وَلَا يُسِيغُهَا، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ. فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَلَبْنَا فِي السُّوقِ فَلَمْ نَجِدْ، فَأَخَذْنَا شَاةً لِبَعْضِ جِيرَانِنَا، وَنَحْنُ نُرْضِيهِمْ مِنْ ثَمَنِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَطْعِمُوهَا الْأَسْرَى.» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ أَصْحَابِهَا انْقَطَعَ عَنْهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَمَرَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ عَيْنَ مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَائِمَةٌ، فَلَزِمَ رَدُّهَا إلَيْهِ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَلَمْ يَشْوِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِمُلْكِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ، أَوْ ضَرَبَ النُّقْرَةَ دَرَاهِمَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ، فَلَمْ يُزِلْهُ إذَا فَعَلَهُ آدَمِيٌّ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ كَمَا رَوَوْهُ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: " وَنَحْنُ نُرْضِيهِمْ مِنْ ثَمَنِهَا ". فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بِعَمَلِهِ، سَوَاءٌ زَادَتْ الْعَيْنُ أَوْ لَمْ تَزِدْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْغَاصِبَ يُشَارِكُ الْمَالِكَ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِمَنَافِعِهِ، وَمَنَافِعُهُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَعْيَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ عَمِلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ لِذَلِكَ عِوَضًا، كَمَا لَوْ أَغْلَى زَيْتًا فَزَادَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ بَنَى حَائِطًا لِغَيْرِهِ، أَوْ زَرَعَ حِنْطَةَ إنْسَانٍ فِي أَرْضِهِ، وَسَائِرِ عَمَلِ الْغَاصِبِ. فَأَمَّا صَبْغُ الثَّوْبِ، فَإِنَّ الصَّبْغَ عَيْنُ مَالٍ، لَا يَزُولُ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ بِجَعْلِهِ مَعَ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ صَبْغِهِ بِجَعْلِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَجَعْلِهِ كَالصِّفَةِ، فَلَأَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُ غَيْرِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ أَوْلَى، فَإِنْ احْتَجَّ بِأَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ، قُلْنَا: الزَّرْعُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ تَزْدَادُ بِهِ قِيمَتُهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ مَالِكُ الْأَرْضِ، احْتَسَبَ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مِلْكِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا عَمَلُهُ فِي مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَانَ لَاغِيًا، عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ: إنَّمَا تَجِبُ قِيمَةُ الزَّرْعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ نَقَصَتْ الْعَيْنُ دُونَ الْقِيمَةِ، رَدَّ الْمَوْجُودَ وَقِيمَةَ النَّقْصِ، وَإِنْ نَقَصَتْ الْعَيْنُ وَالْقِيمَةُ، ضَمِنَهُمَا مَعًا، كَالزَّيْتِ إذَا غَلَاهُ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلٍّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، مِثْلُ نُقْرَةٍ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا، أَوْ طِينًا جَعَلَهُ لَبَنًا، أَوْ غَزْلًا نَسَجَهُ، أَوْ ثَوْبًا قَصَرَهُ. وَإِنْ جَعَلَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ، مِثْلُ أَنْ سَمَّرَ الرُّفُوفَ بِمَسَامِيرَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ قَلْعُهَا وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَتْ الرُّفُوفُ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَامِيرُ مِنْ الْخَشَبِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوْ مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ، وَلَيْسَ لَهُ قَلْعُهَا، إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْمَالِكُ، بِذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَامِيرُ لِلْغَاصِبِ، فَوَهَبَهَا لِلْمَالِكِ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْهِبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ عَلَى عَمَلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ. وَالْحُكْمُ فِي زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، كَمَا لَوْ وَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يُضَمِّنَ النَّقْصَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَلَوْ اسْتَأْجَرَ قَصَّابًا فَذَبَحَ شَاةً، فَلِلْمَالِكِ أَخْذُهَا وَأَرْشُ نَقْصِهَا، وَيُغَرِّمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَصَّابُ الْحَالَ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْقَصَّابَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ، وَإِنْ عَلِمَ الْقَصَّابُ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَالِمًا بِالْحَالِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، رَجَعَ عَلَى الْقَصَّابِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْهُ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَعَانَ بِمَنْ ذَبَحَ لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ. [فَصْل غَصَبَ حَبًّا فَزَرَعَهُ فَصَارَ زَرْعًا أَوْ نَوَى فَصَارَ شَجَرًا أَوْ بَيْضًا فَحَضَنَهُ فَصَارَ فَرْخًا] (3965) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ حَبًّا فَزَرَعَهُ فَصَارَ زَرْعًا، أَوْ نَوًى فَصَارَ شَجَرًا، أَوْ بَيْضًا فَحَضَنَهُ فَصَارَ فَرْخًا، فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ نَمَا، فَأَشْبَهَ مَا تَقَدَّمَ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَمْلِكَهُ الْغَاصِبُ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ. وَإِنْ غَصَبَ دَجَاجَةً فَبَاضَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ حَضَنَتْ بَيْضَهَا فَصَارَ فِرَاخًا، فَهُمَا لِمَالِكِهَا، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِي عَلَفِهَا. قَالَ أَحْمَدُ فِي طَيْرَةٍ جَاءَتْ إلَى دَارِ قَوْمٍ فَأَفْرَخَتْ عِنْدَهُمْ: يَرُدُّ فُرُوخَهَا إلَى أَصْحَابِ الطَّيْرَةِ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا عَمِلَ. وَإِنْ غَصَبَ شَاةً، فَأَنْزَى عَلَيْهَا فَحْلًا، فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا. وَإِنْ غَصَبَ فَحْلًا، فَأَنْزَاهُ عَلَى شَاتِه، فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ. وَإِنْ نَقَصَهُ الضِّرَابُ ضَمِنَ نَقْصَهُ. [فَصْلٌ غَصَبَ دَنَانِير أَوْ دَرَاهِم مِنْ رَجُلٍ وَخَلَطَهَا بِمِثْلِهَا لِآخَر فَلَمْ يَتَمَيَّزَا] (3966) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ، وَخَلَطَهَا بِمِثْلِهَا لِآخَرَ، فَلَمْ يَتَمَيَّزَا، صَارَا شَرِيكَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ، وَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلِهَا لَهُمَا، وَإِنْ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا مِنْ مَالِهِ، مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهَا بِعَيْنِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَتْ. وَلَنَا، أَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْمَغْصُوبِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، لَمْ يَذْهَبْ بِمَالِيَّتِهِ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ، كَذَبْحِ الشَّاةِ. [فَصْلٌ غَصَبَ عَبْدًا فَصَادَ صَيْدًا أَوْ كَسَبَ شَيْئًا] (3967) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا، فَصَادَ صَيْدًا، أَوْ كَسَبَ شَيْئًا، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ غَصَبَ جَارِحًا كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي، فَصَادَ بِهِ، فَالصَّيْدُ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ مَالِهِ، فَأَشْبَهَ صَيْدَ الْعَبْدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ الصَّائِدُ، وَالْجَارِحَةُ آلَةٌ لَهُ، وَلِهَذَا يَكْتَفِي بِتَسْمِيَتِهِ عِنْدَ إرْسَالِهِ الْجَارِحَ. وَإِنْ غَصَبَ قَوْسًا أَوْ سَهْمًا أَوْ شَبَكَةً، فَصَادَ بِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْقَوْسِ وَالسَّهْمِ وَالشَّبَكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَكَسْبَ عَبْدِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 وَالثَّانِي، لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَهَذِهِ آلَاتٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَبَحَ بِسِكِّينِ غَيْرِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلْغَاصِبِ. فَعَلَيْهِ أَجْرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ إنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلْمَالِكِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ فِي مُدَّةِ اصْطِيَادِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ، وَمَنَافِعُهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَائِدَةٌ إلَى مَالِكِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضَهَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ زَرَعَ أَرْضَ إنْسَانِ، فَأَخَذَ الْمَالِكُ الزَّرْعَ بِنَفَقَتِهِ، وَالثَّانِي عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَصِدْ شَيْئًا. [مَسْأَلَة غَصَبَ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وَأُوَلِّدهَا] (3968) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً، فَوَطِئَهَا، وَأَوْلَدَهَا، لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَأَخَذَهَا سَيِّدُهَا وَأَوْلَادَهَا وَمَهْرَ مِثْلِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ، فَهُوَ زَانٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ مُطَاوِعَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا مَهْرَ لِلْمُطَاوِعَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلسَّيِّدِ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ يَدِهَا، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ مَعَ إكْرَاهِهَا، فَيَجِبُ مَعَ مُطَاوَعَتِهَا، كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُرَّةِ، وَيَجِبُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْبِكْرِ يَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ؛ وَلِهَذَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ الثَّيِّبِ عَادَةً، لِأَجْلِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَفْوِيتِ الْبَكَارَةِ. وَإِنْ حَمَلَتْ، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا وَأَجْزَائِهَا، وَلَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِنًى. فَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، وَجَبَ رَدُّهُ مَعَهَا، وَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ حَيَاتَهُ قَبْلَ هَذَا. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: يَجِبُ ضَمَانُهُ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ لَوْ سَقَطَ بِضَرْبَتِهِ، وَمَا ضُمِنَ بِالْإِتْلَافِ ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ بِالتَّلَفِ فِي يَدِهِ، كَأَجْرِ الْعَيْنِ. وَالْأَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنْ يَضْمَنَهُ بِعُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَضْمَنُهُ بِهِ بِالْجِنَايَةِ، فَيَضْمَنُهُ بِهِ فِي التَّلَفِ، كَالْأَجْزَاءِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، حَصَلَ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ، كَالْأُمِّ. فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْأُمُّ بِالْوِلَادَةِ، ضَمِنَ نَقْصَهَا، وَلَمْ يَنْجَبِرْ بِالْوَلَدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَنْجَبِرُ نَقْصُهَا بِوَلَدِهَا. وَلَنَا، أَنَّ وَلَدَهَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَلَا يَنْجَبِرُ بِهِ نَقْصٌ حَصَلَ بِجِنَايَةِ الْغَاصِبِ، كَالنَّقْصِ الْحَاصِلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ. وَإِنْ ضَرَبَ الْغَاصِبُ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ الْجَنِينَ مَيِّتًا، فَعَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ. وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَفِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، رَجَعَ عَلَى الضَّارِبِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الضَّارِبَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ وُجِدَ مِنْهُ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَرْشُ بَكَارَتِهَا، وَنَقْصِ وِلَادَتِهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ ضَمَانُ وَلَدِهَا، وَلَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا حَالَةُ الْإِكْرَاهِ أَوْ الْمُطَاوَعَةِ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِسَيِّدِهَا، فَلَا تَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا. وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْحَدِّ عَلَيْهَا، وَالْإِثْمِ، وَالتَّعْزِيرِ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ، فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً عَلَى الْوَطْءِ، عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ، وَالْإِثْمُ، وَإِلَّا فَلَا. (3969) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، فَاعْتَقَدَ حِلَّ وَطْئِهَا، أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَإِنْ حَمَلَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ لِمَوْضِعِ الشُّبْهَةِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَقْوِيمُهُ لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْفِصَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ رِقَّهُ بِاعْتِقَادِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ حَمْلًا، فَقُوِّمَ عَلَيْهِ أَوَّلَ حَالِ انْفِصَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَالِ إمْكَانِ تَقْوِيمِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ. وَإِنْ ضَرَبَ الْغَاصِبُ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، قِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، مَوْرُوثَةً عَنْهُ، لَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ جَنِينًا حُرًّا، وَعَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ لَمَّا اعْتَقَبَ الضَّرْبَ، فَالظَّاهِرُ حُصُولُهُ بِهِ، وَضَمَانُهُ لِلسَّيِّدِ ضَمَانُ الْمَمَالِيكِ، وَلِهَذَا لَوْ وَضَعَتْهُ حَيًّا قَوَّمْنَاهُ مَمْلُوكًا. وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ أَجْنَبِيًّا، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ دِيَةُ الْجَنِينِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، وَتَكُونُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ، وَعَلَى الْغَاصِبِ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ الْمَمَالِيكِ، وَقَدْ فَوَّتَ رِقَّهُ عَلَى السَّيِّدِ، وَحَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدَيْهِ. وَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ، وَالْأَرْشِ، وَالْأَجْرِ، وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ، وَقِيمَتِهَا إنْ تَلِفَتْ، مَا مَضَى إذَا كَانَا عَالِمَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَلَا تَسْقُطُ بِالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ، كَالدِّيَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 [مَسْأَلَة الْغَاصِبُ لِلْجَارِيَةِ بَاعَهَا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي وَأَوْلَدَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ] (3970) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ بَاعَهَا، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، وَأَوْلَدَهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، رُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى سَيِّدِهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا، وَفَدَى أَوْلَادَهُ بِمِثْلِهِمْ، وَهُمْ أَحْرَارٌ، وَرَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ، فَبَيْعُهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ، وَيَنْفُذُ، لِأَنَّ الْغَصْبِ فِي الظَّاهِرِ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْغَاصِبِ، أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمَالِكِ وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَمْلِكُ ثَمَنَهَا، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهَا. وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَالْحُكْمُ فِي وَطْءِ الْمُشْتَرِي كَالْحُكْمِ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى الْجَهَالَةَ، قُبِلَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِشَرْطٍ ذَكَرْنَاهُ. وَيَجِبُ رَدُّ الْجَارِيَةِ إلَى سَيِّدِهَا، وَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِرَدِّهَا؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» . وَالْمُشْتَرِي أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَيْضًا، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ مَالَ غَيْرِهِ فِي يَدِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ. وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَطَأُ مَمْلُوكَتَهُ، فَمَنَعَ ذَلِكَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ رَقِيقًا، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَعَلَيْهِ فِدَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ بِاعْتِقَادِهِ حِلَّ الْوَطْءِ. وَهَذَا الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَلْزَمُهُ فِدَاءُ أَوْلَادِهِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ بَدَلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَالِ الْعُلُوقِ أَحْرَارًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِيمَةٌ حِينَئِذٍ. قَالَ الْخَلَّالُ أَحْسَبُهُ قَوْلًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلَ، وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْدِيهِمْ. وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَيَفْدِيهِمْ بِبَدَلِهِمْ يَوْمَ الْوَضْعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَضْمَنُهُ عِنْدَهُ إلَّا بِالْمَنْعِ، وَقَبْلَ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَحْصُلْ مَنْعٌ فَلَمْ يَجِبْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى، أَنَّهُ يَحْدُثُ مَضْمُونًا، فَيُقَوَّمُ يَوْمَ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَالٍ أَمْكَنَ تَقْوِيمُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَفْدِيهِمْ بِهِ، فَنَقَلَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ يَفْدِيهِمْ بِمِثْلِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِمِثْلِهِمْ فِي السِّنِّ، وَالصِّفَاتِ، وَالْجِنْسِ، وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَفْدِيهِمْ بِمِثْلِهِمْ فِي الْقِيمَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ يَفْدِيهِمْ بِقِيمَتِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ، فَيُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 كَسَائِرِ الْمُتَقَوِّمَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " رَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ ". يَعْنِي بِالْمَهْرِ، وَمَا فَدَى بِهِ الْأَوْلَادَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْأَوْلَادَ، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَطْءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ غَرَّهُ الْبَائِعُ، فَرَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إذَا رَدَّهَا لَمْ يَرْجِعْ بِبَدَلِهَا؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ رَجَعَتْ إلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُهَا. وَإِنْ اغْتَصَبَهَا بِكْرًا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا. وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ أَوْ غَيْرُهَا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا. وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا. وَكُلُّ ضَمَانٍ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ سَبَبُ يَدِ الْمُشْتَرِي. وَمَا وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ، مِنْ أَجْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ نَقْصٍ حَدَثَ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ يَدِ الْمُشْتَرِي. فَإِذَا طَالَبَ الْمَالِكُ الْمُشْتَرِيَ بِمَا وَجَبَ فِي يَدِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ، فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ الشِّرَاءِ عَلِمَ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الضَّمَانِ وُجِدَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ، وَهُوَ قِيمَتُهَا إنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَأَرْشُ بَكَارَتِهَا، وَبَدَلُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الْبَائِعِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ بِالثَّمَنِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ. وَضَرْبٌ يَرْجِعُ بِهِ، وَهُوَ بَدَلُ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ جِهَتِهِ إتْلَافٌ، وَإِنَّمَا الشَّرْعُ أَتْلَفَهُ بِحُكْمِ بَيْعِ الْغَاصِبِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ نَقْصُ الْوِلَادَةِ. وَضَرْبٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا وَأَجْرُ نَفْعِهَا، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِذَا غَرِمَ عِوَضَهُ رَجَعَ بِهِ، كَبَدَلِ الْوَلَدِ، وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَرْجِعُ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ غَرِمَ مَا اسْتَوْفَى بَدَلَهُ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ، كَقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَبَدَلِ أَجْزَائِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَإِنْ رَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَكُلُّ مَا لَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، إذَا رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ بِهِ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَكُلُّ مَا لَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ إذَا غَرِمَهُ الْغَاصِبُ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَمَتَى رَدَّهَا حَامِلًا فَمَاتَتْ مِنْ الْوَضْعِ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 [فَصْل اسْتَكْرَهَ الْغَاصِب امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى] (3971) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْذُورَةٌ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً كَانَ الْمَهْرُ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ لِسَيِّدِهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَهْرُ، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، سَقَطَ فِيهِ الْحَدَّ مِنْ الْمَوْطُوءَةِ. فَإِذَا كَانَ الْوَاطِئُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ فِي حَقِّهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ مَهْرُهَا كَمَا لَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، وَأَمَّا الْمُطَاوِعَةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَجَبَ عَلَيْهِ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِسَيِّدِهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً، لَمْ يَجِبْ لَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ، فَلَمْ يُوجِبْ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْهُ فِي قَطْعِ يَدِهَا، أَوْ إتْلَافِ جُزْءٍ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الثَّيِّبَ لَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ أُكْرِهَتْ. نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، فَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ، كَالْبِكْرِ، وَيَجِبُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ مَعَ الْمَهْرِ، كَمَا قَدَّمْنَا. [فَصْلٌ أَجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ] (3972) فَصْلٌ: إذَا أَجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ، كَالْبَيْعِ، وَلِمَالِكِهِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ أَجْرَ مِثْلِهَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ، لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَنْفَعَةَ، إلَّا أَنْ يَزِيدَ أَجْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْغَاصِبِ، رَجَعَ بِهِ. وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلِمَالِكِهَا تَغْرِيمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا قِيمَتَهَا، فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَأْجِرَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا غَرِمَ، هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ، وَإِنْ عَلِمَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَحَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ الْأَجْرَ وَالْقِيمَةَ، رَجَعَ بِالْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَالِمًا بِالْغَصْبِ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْفَصْلِ كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجْرَ لِلْغَاصِبِ دُونَ صَاحِبِ الدَّارِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ لِرَبِّ الدَّارِ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا الْغَاصِبُ، كَعِوَضِ الْأَجْزَاءِ. [فَصْلٌ أَوْدَعَ الْمَغْصُوبَ أَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِهِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ] (3973) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْدَعَ الْمَغْصُوبَ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِهِ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ أَمَّا الْغَاصِبُ فَلِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَبَيْنَ مِلْكِهِ، وَأَثْبَتَ الْيَدَ الْعَادِيَةَ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ وَالْوَكِيلُ لِإِثْبَاتِهِمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 أَيْدِيهِمَا عَلَى مِلْكٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ، وَكَانَا غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِالْغَصْبِ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ غَرَّمَهُمَا رَجَعَا عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا غَرِمَا مِنْ الْقِيمَةِ وَالْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى أَنْ لَا يَضْمَنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمَا بَدَلٌ عَمَّا ضَمِنَا. وَإِنْ عَلِمَا أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ تَحْتَ أَيْدِيهِمَا مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ بِهِمَا، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ غَرِمَا شَيْئًا، لَمْ يَرْجِعَا بِهِ. وَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ، رَجَعَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا. وَإِنْ جَرَحَهَا الْغَاصِبُ، ثُمَّ أَوْدَعَهَا، أَوْ رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا، فَتَلِفَتْ بِالْجَرْحِ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهَا بِالْإِتْلَافِ فِي يَدِهِ. [فَصْل أَعَارَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ فَتَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ] فَصْلٌ: وَإِنْ أَعَارَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ، فَتَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ أَجْرَهَا وَقِيمَتَهَا، فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَعِيرَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْغَصْبِ، فَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ. وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ مِنْ الْأَجْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَهُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَا، فَقَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ مَا غَرِمَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْأَجْزَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ وَقْتَ الْقَبْضِ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ يَوْمِ التَّلَفِ، فَضَمِنَ الْأَكْثَرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ بَدَلَهُ. فَإِنْ رَدَّهَا الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمِلْكَ عَلَى مَالِكِهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ. وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ إنْ حَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُودَعِ وَغَيْرِهِ. [فَصْلٌ هِبَة الْمَغْصُوبَ لِعَالَمِ بِالْغَصْبِ] (3975) فَصْلٌ: وَإِنْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ لِعَالَمٍ بِالْغَصْبِ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَّهِبِ، فَمَهْمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ أَوْ أَجْزَائِهَا، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ، وَأَرْشُ نَقْصِهِ إنْ حَصَلَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلِصَاحِبِهَا تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتَّهِبَ، رَجَعَ عَلَى الْوَاهِبِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ وَالْأَجْزَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيُّهُمَا ضُمِّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُتَّهِبَ دَخَلَ عَلَى أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ الْعَيْنُ، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَتِهَا، كَقِيمَةِ الْأَوْلَادِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 فَإِنَّهُ وَافَقَنَا عَلَى الرُّجُوعِ بِضَمَانِهِ. فَأَمَّا الْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ الْمُتَّهِبُ عَلَى الْوَاهِبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ ضَمَّنَهُ الْوَاهِبَ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُتَّهِبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ تَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ] (3976) فَصْلٌ: وَتَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ كَتَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، بُطْلَانُهَا. وَالثَّانِيَةُ، صِحَّتُهَا وَوُقُوفُهَا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ فِي تَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ الْحُكْمِيَّةِ رِوَايَةً، أَنَّهَا تَقَعُ صَحِيحَةً، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، أَوْ الْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ فِي الْعُقُودِ بِمَا لَمْ يُبْطِلْهُ الْمَالِكُ، فَأَمَّا مَا اخْتَارَ الْمَالِكُ إبْطَالَهُ وَأَخْذَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَمْ نَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا، وَأَمَّا مَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْمَالِكُ، فَوَجْهُ التَّصْحِيحِ فِيهِ أَنَّ الْغَاصِبَ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَتَكْثُرُ تَصَرُّفَاتُهُ، فَفِي الْقَضَاءِ بِبُطْلَانِهَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ، وَرُبَّمَا عَادَ الضَّرَرُ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ لِلْمَالِكِ، وَالْعِوَضِ بِنَمَائِهِ وَزِيَادَتِهِ لَهُ، وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ غَصَبَ أَثْمَانًا فَاتَّجَرَ بِهَا أَوْ عُرُوضًا فَبَاعَهَا وَاتَّجَرَ بِثَمَنِهَا] (3977) فَصْلٌ: وَإِذَا غَصَبَ أَثْمَانًا فَاتَّجَرَ بِهَا، أَوْ عُرُوضًا فَبَاعَهَا وَاتَّجَرَ بِثَمَنِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الرِّبْحُ لِلْمَالِكِ، وَالسِّلَعُ الْمُشْتَرَاةُ لَهُ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ إنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ الْمَالِ فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ. قَالَ الشَّرِيفُ: وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ نَقَدَ الْأَثْمَانَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالرِّبْحُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَدَلُ الْمَغْصُوبِ. وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَكَانَ لَهُ. كَمَا لَوْ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ الْمَالِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَإِنْ حَصَلَ خُسْرَانٌ، فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي الْمَغْصُوبِ. وَإِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَى مَنْ يُضَارِبُ بِهِ، فَالْحُكْمُ فِي الرِّبْحِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ فِي مَالِهِ، وَأَمَّا الْغَاصِبُ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ عَالِمًا بِالْغَصْبِ، فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ، وَلَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا بِعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَلَزِمَهُ أَجْرُهُ، كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. [مَسْأَلَة غَصَبَ شَيْئًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ] (3978) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، لَزِمَتْ الْغَاصِبَ الْقِيمَةُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، رَدَّهُ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا فَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ، كَعَبْدٍ أَبَقَ، أَوْ دَابَّةٍ شَرَدَتْ، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ، فَإِذَا أَخَذَهُ مَلَكَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ، بَلْ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهَا لَزِمَهُ رَدُّهَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 وَيَسْتَرِدُّ قِيمَتَهَا الَّتِي أَدَّاهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ الصَّبْرِ إلَى إمْكَانِ رَدِّهَا فَيَسْتَرِدُّهَا، وَبَيْنَ تَضْمِينِهِ إيَّاهَا فَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ دُونَ قِيمَتِهَا بِقَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَلَكَ الْبَدَلَ، فَلَا يَبْقَى مِلْكُهُ عَلَى الْمُبْدَلِ، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ تَضْمِينٌ فِيمَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ، فَنَقَلَهُ، كَمَا لَوْ خَلَطَ زَيْتَهُ. بِزَيْتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ بِالْبَيْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِالتَّضْمِينِ كَالتَّالِفِ، وَلِأَنَّهُ غَرِمَ مَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا، وَلَيْسَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْقِيمَةَ لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، وَلِهَذَا إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَيْهِ، رَدَّ الْقِيمَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْبِهُ الزَّيْتَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِهِ انْقَطَعَ عَنْهُ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ أَبَدًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْمَغْصُوبِ رَدَّهُ، وَنَمَاءَهُ الْمُنْفَصِلَ وَالْمُتَّصِلَ، وَأَجْرَ مِثْلِهِ إلَى حِينِ دَفْعِ بَدَلِهِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَجْرُهُ مِنْ حِينِ دَفْعِ بَدَلِهِ إلَى رَدِّهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الِانْتِفَاعَ بِبَدَلِهِ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَهُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَبِمَا قَامَ مَقَامَهُ، كَسَائِرِ مَا عَدَاهُ. وَالثَّانِي، لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ بَدَلًا عَنْهُ إلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِالْحَيْلُولَةِ، وَقَدْ زَالَتْ، فَيَجِبُ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْ أَجْلِهَا إنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ، وَرَدُّ زِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ، كَالسِّمَنِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ، وَهَذَا فَسْخٌ، وَلَا يَلْزَمُ رَدُّ زِيَادَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي مِلْكِهِ، وَلَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ، فَأَشْبَهَتْ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِعَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ تَالِفًا، رَدَّ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. [فَصْلٌ غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَمْرًا] (3979) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَمْرًا، فَعَلَيْهِ مِثْلُ الْعَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ فِي يَدَيْهِ، فَإِنْ صَارَ خَلًّا، وَجَبَ رَدُّهُ، وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ، وَيَسْتَرْجِعُ مَا أَدَّاهُ مِنْ بَدَلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَرُدُّ الْخَلَّ، وَلَا يَسْتَرْجِعُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ تَلِفَ بِتَخَمُّرِهِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ وَإِنْ عَادَ خَلًّا، كَمَا لَوْ هَزَلَتْ الْجَارِيَةُ السَّمِينَةُ ثُمَّ عَادَ سِمَنُهَا، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَأَرْشَ نَقْصِهَا. وَلَنَا، أَنَّ الْخَلَّ عَيْنُ الْعَصِيرِ، تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، وَقَدْ رَدَّهُ، فَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا أَدَّاهُ بَدَلًا عَنْهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ فَغَصَبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَكَمَا لَوْ غَصَبَ حَمَلًا فَصَارَ كَبْشًا. أَمَّا السِّمَنُ الْأَوَّلُ فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 [فَصْلٌ غَصَبَ شَيْئًا بِبَلَدِ فَلَقِيَهُ بِبَلَدِ آخَرَ فَطَالَبَهُ بِهِ] (3980) فَصْلٌ: وَإِذَا غَصَبَ شَيْئًا بِبَلَدٍ، فَلَقِيَهُ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَطَالَبَهُ بِهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ أَثْمَانًا، لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ قِيَمُ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ قِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا وَكَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتُهُ فِي الْبَلَدَيْنِ وَاحِدَةٌ، أَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي بَلَدِ الْغَصْبِ أَكْثَرَ، لَزِمَهُ أَدَاءُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مُخْتَلِفَةً إلَّا أَنَّهُ لَا مُؤْنَةَ لِحَمْلِهِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ رَدُّ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ. وَإِنْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، وَقِيمَتُهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ أَقَلَّ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَلَا رَدُّ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نُكَلِّفُهُ مُؤْنَةَ النَّقْلِ إلَى بَلَدٍ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِيهِ، وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْخِيرَةُ بَيْنَ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فِي بَلَدِهِ، وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ بِقِيمَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَرَدُّ مِثْلِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ، وَمَتَى قَدَرَ عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، رَدَّهَا، وَاسْتَرْجَعَ بَدَلَهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا. [مَسْأَلَة غَصَبَهَا حَامِلًا فَوَلَدَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ] (3981) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ غَصَبَهَا حَامِلًا، فَوَلَدَتْ فِي يَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ، أَخَذَهَا سَيِّدُهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا، أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ إذَا غَصَبَ حَامِلًا مِنْ الْحَيَوَانِ، أَمَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَالْوَلَدُ مَضْمُونٌ، كَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ حَائِلًا، فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ، وَوَلَدَتْ، ضَمِنَ وَلَدَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْوَلَدِ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَغْصُوبٍ، إذْ الْغَصْبُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ ثُبُوتُ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ ضَمِنَ خَارِجَ الْوِعَاءِ ضَمِنَ مَا فِيهِ، كَالدُّرَّةِ فِي الصَّدَفَةِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ؛ وَلِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَيَضْمَنُ، كَالْأُمِّ، فَإِنَّ الْوَلَدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْدُوعًا فِي الْأُمِّ، كَالدُّرَّةِ فِي الْحُقَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَأَجْزَائِهَا، وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ، الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الظَّرْفِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْجُمْلَةِ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْجُزْءِ الْمَطْرُوقِ، فَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ مَا نَقَصَتْ الْأُمُّ عَنْ كَوْنِهَا حَامِلًا، وَأَمَّا إذَا حَدَثَ الْحَمْلُ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمَغْصُوبِ وَقِيمَةُ التَّالِفِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ التَّالِفِ لَا تَخْتَلِفُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إلَى حِينِ الرَّدِّ، رَدَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا لِمَعْنًى فِيهِ، مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ، وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ وَتَعَلُّمٍ وَنِسْيَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَزِيدُ بِهَا الْقِيمَةُ وَتَنْقُصُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ، لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ لِمَالِكِهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً حِينَ تَلَفِهَا، لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا زَائِدَةً، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً قَبْلَ تَلَفِهَا، ثُمَّ نَقَصَتْ عِنْدَ تَلَفِهَا، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا حِينَ كَانَتْ زَائِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا نَاقِصَةً لَلَزِمَهُ أَرْشُ نَقْصِهَا، وَهُوَ بَدَلَ الزِّيَادَةِ، فَإِذَا ضَمِنَ الزِّيَادَةَ مَعَ رَدِّهَا، ضَمِنَهَا عِنْدَ تَلَفِهَا، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهَا لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ، لَمْ يَضْمَنْ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ لِذَلِكَ لَا يُضْمَنُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ، فَلَا يُضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهَا. وَحَمَلَ الْقَاضِي قَوْلَ الْخِرَقِيِّ عَلَى مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ فِيهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا ضَمِنَهَا، كَقِيمَتِهِ يَوْمَ التَّلَفِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْقِيمَةُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَتُفَارِقُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ زِيَادَةَ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ تِلْكَ تُضْمَنُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ مَعَ تَلَفِهَا، وَهَذِهِ لَا تُضْمَنُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ مَعَ تَلَفِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا سَقَطَتْ بِرَدِّ الْعَيْنِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَمَا سَقَطَتْ بِالرَّدِّ، كَزِيَادَةِ السِّمَنِ وَالتَّعَلُّمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً بِأَنَّهَا تُضْمَنُ بِأَكْثَرِ الْقِيمَتَيْنِ؛ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ. فَعَلَى هَذَا تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَنْهُ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ الْغَصْبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي أَزَالَ يَدَهُ عَنْهُ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ حِينَ التَّلَفِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ دُونَ قِيمَتِهَا، فَاعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَتُهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَغْصُوبِ غَصْبٌ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِيَوْمِ الْغَصْبِ، فَقَالَ الْخَلَّالُ: جَبُنَ أَحْمَدُ عَنْهُ. كَأَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ الْمِثْلِيَّات فَتَلِفَ] (3982) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَتَلِفَ، وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهِ فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ إلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ فَقْدِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ دُونَ الْقِيمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّ: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْمُحَاكَمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى ذِمَّتِهِ إلَّا حِينَ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ. وَلَنَا، أَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، فَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ طَلَبَهَا وَاسْتِيفَاءَهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ أَدَاؤُهَا، وَلَا يَنْفِي وُجُوبَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْهُ، وَالتَّكْلِيفُ يَسْتَدْعِي الْوُسْعَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ طَلَبَ الْمِثْلِ وَلَا اسْتِيفَاءَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ أَدَاؤُهُ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَحَالَةِ الْمُحَاكَمَةِ. وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الْمِثْلِ بَعْدَ فَقْدِهِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ وُجُوبُهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ، وَلِهَذَا لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمُحَاكَمَةِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، لَاسْتَحَقَّ الْمَالِكُ طَلَبَهُ وَأَخْذَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ أَرْطَالًا مِنْ كَذَا وَكَذَا: أَعْطَاهُ عَلَى السِّعْرِ يَوْمَ أَخَذَهُ، لَا يَوْمَ يُحَاسِبُهُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ فِي حَوَائِجِ الْبَقَّالِ: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْأَخْذِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْغَصْبِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا. وَيُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْغَصْبِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَنْ أَخَذَهُ هَاهُنَا بِإِذْنِ مَالِكِهِ، مَلَكَهُ وَحَلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَتَثْبُتُ قِيمَتُهُ يَوْمَ مَلَكَهُ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَالْمَغْصُوبُ مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَالْوَاجِبُ رَدُّهُ لَا قِيمَتُهُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ قِيمَتُهُ فِي الذِّمَّةِ يَوْمَ تَلَفِهِ، أَوْ انْقِطَاعِ مِثْلِهِ، فَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، وَتَغَيَّرَتْ بِتَغَيُّرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ بَاقِيًا، وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ، فَأَوْجَبْنَا رَدَّ قِيمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا، وَبَيْنَ الصَّبْرِ إلَى وَقْتِ إمْكَانِ الرَّدِّ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِالسَّعْيِ فِي رَدِّهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْقِيمَةَ لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَيُعْتَبَرُ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة كَانَتْ لِلْمَغْصُوبِ أُجْرَةٌ] (3983) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ لِلْمَغْصُوبِ أُجْرَةٌ، فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ. وَالثَّانِي، رَدُّ أُجْرَتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مَتَى كَانَ بَاقِيًا، وَجَبَ رَدُّهُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. يَعْنِي أَنَّهُ يَقْصِدُ الْمَزْحَ مَعَ صَاحِبِهِ بِأَخْذِ مَتَاعِهِ، وَهُوَ جَادٌّ فِي إدْخَالِ الْغَمِّ وَالْغَيْظِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ أَزَالَ يَدَ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَزِمَهُ إعَادَتُهَا. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ غَصَبَ شَيْئًا، فَبَعَّدَهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَإِنْ غَرِمَ عَلَيْهِ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى بِتَبْعِيدِهِ، فَكَانَ ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ: خُذْ مِنِّي أَجْرَ رَدِّهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي هَاهُنَا. أَوْ بَذَلَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْتَرِدُّهُ، لَمْ يَلْزَمْ الْمَالِكَ قَبُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ: دَعْهُ لِي فِي مَكَانِهِ الَّذِي نَقَلْتَهُ إلَيْهِ. لَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُ حَقًّا فَسَقَطَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: رُدَّهُ لِي إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ. لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَسَافَةِ، فَلَزِمَهُ بَعْضُهَا الْمَطْلُوبُ، وَسَقَطَ عَنْهُ مَا أَسْقَطَهُ. وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ حَمْلَهُ إلَى مَكَان آخَرَ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الرَّدِّ، لَمْ يَلْزَمْ الْغَاصِبَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ. وَإِنْ قَالَ: دَعْهُ فِي مَكَانِهِ، وَأَعْطِنِي أَجْرَ رَدِّهِ. لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إجَابَتِهِ؛ لِذَلِكَ. وَمَهْمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا. [فَصْلٌ غَصَبَ شَيْئًا فَشَغَلَهُ بِمِلْكِهِ كَخَيْطٍ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَهُ] (3984) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ شَيْئًا، فَشَغَلَهُ بِمِلْكِهِ، كَخَيْطٍ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا، أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ حَجَرًا بَنَى عَلَيْهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ بَلِيَ الْخَيْطُ، أَوْ انْكَسَرَ الْحَجَرُ، أَوْ كَانَ مَكَانَهُ خَشَبَةٌ فَتَلِفَتْ، لَمْ يَأْخُذْ بِرَدِّهِ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ هَالِكًا، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْبِنَاءُ، وَتَفَصَّلَ الثَّوْبُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ رَدُّ الْخَشَبَةِ وَالْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِمِلْكِهِ يَسْتَضِرُّ بِقَلْعِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ جُرْحَ عَبْدِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَمْكَنَ رَدُّهُ، وَيَحُوزُ لَهُ فَوَجَبَ، كَمَا لَوْ بَعَّدَ الْعَيْنَ، وَلَا يُشْبِهُ الْخَيْطَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ، لِمَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ تَلَفِ الْآدَمِيِّ. وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ تُبِيحُ أَخْذَهُ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ خَاطَ بِالْخَيْطِ جُرْحَ حَيَوَانٍ، فَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ لَا حُرْمَةَ لَهُ، كَالْمُرْتَدِّ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَيَجِبُ نَزْعُهُ وَرَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَفْوِيتَ ذِي حُرْمَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا. وَالثَّانِي، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، كَالْآدَمِيِّ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهِ الْهَلَاكُ أَوْ إبْطَاءُ بُرْئِهِ، فَلَا يَجِبُ نَزْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ آكَدُ حُرْمَةً مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَالِ غَيْرِهِ لِيَحْفَظَ حَيَاتَهُ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ لِتَبْقِيَتِهِ وَهُوَ مَا يَأْكُلُهُ. وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 الثَّالِثُ، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ الْغَاصِبِ، وَخِيفَ تَلَفُهُ بِقَلْعِهِ، لَمْ يُقْلَعْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ، وَلَا يَجِبُ إتْلَافُ مَالٍ مَنْ لَمْ يَجْنِ صِيَانَةً لَمَالٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ لِلْغَاصِبِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ وَالِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ نَقْصٌ عَلَى الْغَاصِبِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعِ مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، كَنَقْصِ الْبِنَاءِ لِرَدِّ الْحَجَرِ الْمَغْصُوبِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هَذَا. وَالثَّانِي، لَا يَجِبُ قَلْعُهُ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلِهِ.» وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ مِنْ الْحَيَوَانِ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالدَّجَاجِ وَأَكْثَرِ الطَّيْرِ، وَبَيْنَ مَا لَا يُعَدُّ لَهُ، كَالْخَيْلِ وَالطَّيْرِ الْمَقْصُودِ صَوْتُهُ؛ فَالْأَوَّلُ يَجِبُ ذَبْحُهُ إذَا تَوَقَّفَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ إتْلَافٌ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَمَتَى أَمْكَنَ رَدُّ الْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ تَلَفِ الْحَيَوَانِ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ، أَوْ ضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَجَبَ رَدُّهُ. [فَصْلٌ غَصْب فَصِيلًا فَأَدْخَلَهُ دَارِهِ فَكَبِرَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَابِ] (3985) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ فَصِيلًا، فَأَدْخَلَهُ دَارِهِ، فَكَبِرَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَابِ، أَوْ خَشَبَةً وَأَدْخَلَهَا دَارِهِ، ثُمَّ بَنَى الْبَابَ ضَيِّقًا، لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِنَقْضِهِ، وَجَبَ نَقْضُهُ، وَرَدُّ الْفَصِيلِ وَالْخَشَبَةِ، كَمَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ لِرَدِّ السَّاجَةِ، فَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ فِي الدَّارِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ، نَقَضَ الْبَابَ، وَضَمَانُهُ عَلَى صَاحِبِ الْفَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ. وَأَمَّا الْخَشَبَةُ فَإِنْ كَانَ كَسْرُهَا أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ نَقْضِ الْبَابِ، فَهِيَ كَالْفَصِيلِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، كُسِرَتْ. وَيَحْتَمِلُ فِي الْفَصِيلِ مِثْلَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ ذَبْحُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا، ذُبِحَ وَأُخْرِجَ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَشَبَةِ، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ فِي الدَّارِ بِعِدْوَانٍ مِنْ صَاحِبِهِ، كَرَجُلٍ غَصَبَ دَارًا فَأَدْخَلَهَا فَصِيلًا، أَوْ خَشَبَةً، أَوْ تَعَدَّى عَلَى إنْسَانٍ، فَأَدْخَلَ دَارِهِ فَرَسًا وَنَحْوَهَا، كَسَرَتْ الْخَشَبَةُ، وَذُبِحَ الْحَيَوَانُ، وَإِنْ زَادَ ضَرَرُهُ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الضَّرَرِ عُدْوَانُهُ، فَيُجْعَلُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا خَوَابِي لَا تَخْرُجُ إلَّا بِنَقْضِ الْبَابِ، أَوْ خَزَائِنُ أَوْ حَيَوَانٌ، وَكَانَ نَقْضُ الْبَابِ أَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ فِي الدَّارِ، أَوْ تَفْصِيلِهِ، أَوْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ نُقِضَ، وَكَانَ إصْلَاحُهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ ضَرَرًا، لَمْ يُنْقَضْ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيَصْطَلِحَانِ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ مُشْتَرِي الدَّارِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 [فَصْلٌ غَصْب جَوْهَرَةً فَابْتَلَعَتْهَا بَهِيمَةٌ] (3986) فَصْلٌ: (وَإِنْ غَصَبَ جَوْهَرَةً، فَابْتَلَعَتْهَا بَهِيمَةٌ،) فَقَالَ أَصْحَابُنَا: حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَيْطِ الَّذِي خَاطَ بِهِ جُرْحَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْجَوْهَرَةَ مَتَى كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْحَيَوَانِ، ذُبِحَ الْحَيَوَانُ، وَرُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا، وَضَمَانُ الْحَيَوَانِ عَلَى الْغَاصِبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ آدَمِيًّا. وَفَارَقَ الْخَيْطَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْجَوْهَرَةُ أَكْثَرُ قِيمَةً، فَفِي ذَبْحِ الْحَيَوَانِ رِعَايَةُ حَقِّ الْمَالِكِ بِرَدِّ عَيْنِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَرِعَايَةُ حَقِّ الْغَاصِبِ بِتَقْلِيلِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَإِنْ ابْتَلَعَتْ شَاةُ رَجُلٍ جَوْهَرَةَ آخَرَ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهَا إلَّا بِذَبْحِ الشَّاةِ، ذُبِحَتْ إذَا كَانَ ضَرَرُ ذَبْحِهَا أَقَلَّ، وَكَانَ ضَمَانُ نَقْصِهَا عَلَى صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيطُ مِنْ صَاحِبِ الشَّاةِ، بِكَوْنِ يَدِهِ عَلَيْهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الشَّاةِ، فَالضَّرَرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي قُمْقُمٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهُ إلَّا بِذَبْحِهَا، وَكَانَ الضَّرَرُ فِي ذَبْحِهَا أَقَلَّ، ذُبِحَتْ. وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي كَسْرِ الْقُمْقُمِ أَقَلَّ، كُسِرَ الْقُمْقُمُ، وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ صَاحِبِ الشَّاةِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ صَاحِبِ الْقُمْقُمِ، بِأَنْ وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ، فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّاةِ إنْ كُسِرَ الْقُمْقُمُ؛ لِأَنَّهُ كُسِرَ لِتَخْلِيصِ شَاتِهِ، وَإِنْ ذَبَحَتْ الشَّاةُ، فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الْقُمْقُمِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ قُمْقُمِهِ، فَإِنْ قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مِنْهُمَا: أَنَا أُتْلِفُ مَالِي، وَلَا أَغْرَمُ شَيْئًا لِلْآخَرِ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْآخَرِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ، وَسَلَامَةِ مَالِهِ وَتَخْلِيصِهِ، فَإِذَا رَضِيَ بِتَلَفِهِ، لَمْ يَجُزْ إتْلَافُ غَيْرِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أُتْلِفُ مَالِي، وَلَا أَغْرَمُ شَيْئًا، لَمْ نُمَكِّنْهُ مِنْ إتْلَافِ مَالِ صَاحِبِهِ، لَكِنَّ صَاحِبَ الْقُمْقُمِ لَا يُجْبَرُ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْقُمْقُمَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى تَخْلِيصِهِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الشَّاةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، فَيُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَذْبَحَ الشَّاةَ لِتُرِيحَهَا مِنْ الْعَذَابِ، وَإِمَّا أَنْ تَغْرَمَ الْقُمْقُمَ لِصَاحِبِهِ، إذَا كَانَ كَسْرُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا، وَيُخَلِّصُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ إبْقَائِهَا أَوْ تَخْلِيصِهَا مِنْ الْعَذَابِ، فَلَزِمَهُ كَعَلَفِهَا. وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَأْكُولِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُكْسَرَ الْقُمْقُمُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي ذَبْحِهِ، وَلَا هُوَ مَشْرُوعٌ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلِهِ.» وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمَأْكُولِ فِي أَنَّهُ مَتَى كَانَ قَتْلُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا، وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ صَاحِبِهِ، قُتِلَ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مُعَارِضَةٌ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ الَّذِي يُتْلِفُ مَالَهُ، وَالنَّهْيُ عَنْ ذَبْحِهِ مُعَارَضٌ بِالنَّهْيِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي كَسْرِ الْقُمْقُمِ مَعَ كَثْرَةِ قِيمَتِهِ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 [فَصْلٌ غَصْب دِينَارًا فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَتِهِ أَوْ أَخَذَ دِينَارَ غَيْرِهِ] (3987) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ دِينَارًا، فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَتِهِ، أَوْ أَخَذَ دِينَارَ غَيْرِهِ، فَسَهَا فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَتِهِ، كُسِرَتْ، وَرُدَّ الدِّينَارُ، كَمَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ لِرَدِّ السَّاجَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، كُسِرَتْ لِرَدِّ الدِّينَارِ إنْ أَحَبَّ صَاحِبُهُ، وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ. وَإِنْ غَصَبَ دِينَارًا، فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَةِ آخَرَ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، كُسِرَتْ لِرَدِّهِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ الْمِحْبَرَةِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي كَسْرِهَا. وَإِنْ كَانَ كَسْرُهَا أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ تَبْقِيَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا، ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ، وَلَمْ تُكْسَرْ. وَإِنْ رَمَى إنْسَانٌ دِينَارَهُ فِي مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ عُدْوَانًا، فَأَبَى صَاحِبُ الْمِحْبَرَةِ كَسْرَهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى بِرَمْيِهِ فِيهَا، فَلَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُهَا عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ عُدْوَانِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ نَقْصِ الْمِحْبَرَةِ بِوُقُوعِ الدِّينَارِ فِيهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى كَسْرِهَا لِرَدِّ عَيْنِ مَالِ الْغَاصِبِ، وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا، كَمَا لَوْ غَرَسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، مَلَكَ حَفْرَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِأَخْذِ غَرْسِهِ، وَيَضْمَنُ نَقْصَهَا بِالْحَفْرِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، لَوْ كَسَرَهَا الْغَاصِبُ قَهْرًا، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا. [فَصْلٌ غَصْب لَوْحًا فَرَقَعَ بِهِ سَفِينَةً] (3988) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ لَوْحًا، فَرَقَعَ بِهِ سَفِينَةً، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى السَّاحِلِ، لَزِمَ قَلْعُهُ وَرَدُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَاللَّوْحُ فِي أَعْلَاهَا، بِحَيْثُ لَا تَغْرَقُ بِقَلْعِهِ، لَزِمَ قَلْعُهُ، وَإِنْ خِيفَ غَرَقُهَا بِقَلْعِهِ، لَمْ يُقْلَعْ حَتَّى تَخْرُجَ إلَى السَّاحِلِ، وَلِصَاحِبِ اللَّوْحِ طَلَبُ قِيمَتِهِ، فَإِذَا أَمْكَنَ رَدُّ اللَّوْحِ، اسْتَرْجَعَهُ وَرَدَّ الْقِيمَةَ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ لَهُ حُرْمَةٌ، أَوْ مَالٌ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ، لَمْ يُقْلَعْ، كَالْخَيْطِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَالٌ لِلْغَاصِبِ، أَوْ لَا مَالَ فِيهَا، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُقْلَعُ. وَالثَّانِي: يُقْلَعُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ، فَلَزِمَ وَإِنْ أَدَّى إلَى تَلَفِ الْمَالِ، كَرَدِّ السَّاجَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِتْلَافُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِيهَا مَالُ غَيْرِهِ. وَفَارَقَ السَّاجَةَ فِي الْبِنَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ. [فَصْلٌ غَصْب شَيْئًا فَخَلَطَهُ بِمَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ مِنْهُ] (3989) فَصْلٌ: وَإِذَا غَصَبَ شَيْئًا، فَخَلَطَهُ بِمَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ مِنْهُ، كَحِنْطَةِ بِشَعِيرٍ أَوْ سِمْسِمٍ، أَوْ صِغَارِ الْحَبِّ بِكِبَارِهِ، أَوْ زَبِيبٍ أَسْوَدَ بِأَحْمَرَ، لَزِمَهُ تَمْيِيزُهُ، وَرَدُّهُ، وَأَجْرُ الْمُمَيِّزِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُ جَمِيعِهِ، وَجَبَ تَمْيِيزُهُ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُهُ، فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 أَحَدُهَا، أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ، كَزَيْتٍ بِزَيْتٍ، أَوْ حِنْطَةٍ بِمِثْلِهَا، أَوْ دَقِيقٍ بِمِثْلِهِ، أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَلْزَمُهُ مِثْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا بِهِ إذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، إلَّا فِي الدَّقِيقِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمِثْلِي. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ، إنْ شَاءَ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ مَالِهِ بِالْخَلْطِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ بَعْضِ مَالِهِ إلَيْهِ، مَعَ رَدِّ الْمِثْلِ فِي الْبَاقِي، فَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمِثْلِ فِي الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ صَانِعًا، فَتَلِفَ نِصْفُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مِنْهُ، فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ بَعْضَ مَالِهِ وَبَدَلَ الْبَاقِي، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ دَفْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ، أَنْ يَخْلِطَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ، يُبَاعُ الْجَمِيعُ، وَيُدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فِي رَجُلٍ لَهُ رِطْلُ زَيْتٍ، وَآخَرَ لَهُ رِطْلُ شَيْرَجٍ اخْتَلَطَا: يُبَاعُ الدُّهْنُ كُلُّهُ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حِصَّتِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، أَوْصَلْنَا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إلَى عَيْنِ الْمَالِ، لَمْ يُرْجَعْ إلَى الْبَدَلِ. وَإِنْ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ عَنْ قِيمَتِهِ مُنْفَرِدًا، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْخَلْطِ مُسْتَهْلَكًا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتِهِ، ثُمَّ أَفْلَسَ، صَارَ الْبَائِعُ كَبَعْضِ الْغُرَمَاءِ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مَالِهِ، فَكَانَ لَهُ بَدَلُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ تَالِفًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى مَا إذَا اخْتَلَطَا مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ، فَأَمَّا الْمَغْصُوبُ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ مَا مَنَعَ الْمَالِكَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ مُمَيَّزًا، فَلَزِمَهُ مِثْلُهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، إلَّا بِأَنْ خَلَطَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، وَبَذَلَ لِصَاحِبِهِ مِثْلَ حَقِّهِ مِنْهُ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَيْهِ بَعْضَ حَقِّهِ بِعَيْنِهِ وَتَبَرَّعَ بِالزِّيَادَةِ فِي مِثْلِ الْبَاقِي. وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَدْوَنَ مِنْهُ، فَرَضِيَ الْمَالِكُ بِأَخْذِ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْهُ، لَزِمَ الْغَاصِبَ بَذْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ رَدُّ بَعْضِ الْمَغْصُوبِ وَرَدُّ مِثْلِ الْبَاقِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ انْتَقَلَ إلَى الذِّمَّةِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، وَإِنْ بَذَلَهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَأَبَاهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، جَازَ، وَكَانَ الْمَالِكُ مُتَبَرِّعًا بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مِنْ الرَّدِيءِ، أَوْ دُونَ حَقِّهِ مِنْ الْجَيِّدِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ رِبًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الزَّائِدَ فِي الْقَدْرِ عِوَضًا عَنْ الْجَوْدَةِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ، فَرَضِيَ بِأَخْذِ دُونَ حَقِّهِ مِنْ الرَّدِيءِ، أَوْ سَمَحَ الْغَاصِبُ فَدَفَعَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مِنْ الْجَيِّدِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَابِلَ لِلزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَبَرُّعٌ مُجَرَّدٌ. وَإِنْ خَلَطَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا. الضَّرْبُ الْخَامِسُ، أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، كَزَيْتٍ خَلَطَهُ بِمَاءٍ، أَوْ لَبَنٍ شَابَهُ بِمَاءٍ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهُ خَلَّصَهُ وَرَدَّ نَقْصَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُهُ. رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْهَالِكِ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْهُ. رَدَّهُ وَرَدَّ نَقْصَهُ. وَإِنْ اُحْتِيجَ فِي تَخْلِيصِهِ إلَى غَرَامَةٍ، لَزِمَ الْغَاصِبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ] (3990) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَصْبُغَهُ بِصَبْغٍ لَهُ. وَالثَّانِي، أَنْ يَصْبُغَهُ بِصَبْغٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يَصْبُغَهُ بِصَبْغٍ لِغَيْرِهِمَا. وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ وَالصِّبْغُ بِحَالِهِمَا، لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُمَا وَلَمْ تَنْقُصْ، مِثْلُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةً، فَصَارَتْ قِيمَتُهُمَا بَعْدَ الصِّبْغِ عَشَرَةً، فَهُمَا شَرِيكَانِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالٍ لَهُ قِيمَةٌ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِتَرْكِهِ لَهُمَا، جَازَ، وَإِنْ بَاعَاهُ، فَثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. الْحَالُ الثَّانِي، إذَا زَادَتْ قِيمَتُهُمَا، فَصَارَا يُسَاوِيَانِ عِشْرِينَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ الثِّيَابِ فِي السُّوقِ، كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَتْ لِزِيَادَةِ الصِّبْغِ فِي السُّوقِ، فَالزِّيَادَةُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِزِيَادَتِهِمَا مَعًا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ زِيَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الزِّيَادَةِ فِي السُّوقِ، تَسَاوَى صَاحِبَاهُمَا فِيهِمَا، وَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا ثَمَانِيَةً وَالْآخَرُ اثْنَيْنِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ، وَإِنْ زَادَ بِالْعَمَلِ، فَالزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْغَاصِبِ زَادَ بِهِ فِي الثَّوْبِ وَالصِّبْغِ، وَمَا عَمِلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا كَانَ أَثَرًا، وَزِيَادَةُ مَالِ الْغَاصِبِ لَهُ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ، لَمْ يَضْمَنْهُ الْغَاصِبُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ نَقَصَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ بِتَعَدِّيهِ، فَإِذَا صَارَ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا خَمْسَةً، فَهُوَ كُلُّهُ لِمَالِكِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِعُدْوَانِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ سَبْعَةً، صَارَ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا، لِصَاحِبِهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ، وَلِصَاحِبِ الصِّبْغِ سُبْعَاهُ. وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ فِي السُّوقِ، فَصَارَ يُسَاوِي سَبْعَةً، وَنَقَصَ الصِّبْغُ، فَصَارَ يُسَاوِي ثَلَاثَةً، وَكَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا عَشَرَةً، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، لِصَاحِبِ الثَّوْبِ سَبْعَةً، وَلِصَاحِبِ الصِّبْغِ ثَلَاثَةٌ. وَإِنْ سَاوَى اثْنَيْ عَشَرَ، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، لِصَاحِبِ الثَّوْبِ نِصْفُهَا وَخُمْسُهَا، وَلِلْغَاصِبِ خُمْسُهَا وَعُشْرُهَا، وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 انْعَكَسَ الْحَالُ، فَصَارَ الثَّوْبُ يُسَاوِي فِي السُّوقِ ثَلَاثَةً، وَالصِّبْغُ سَبْعَةً انْعَكَسَتْ الْقِسْمَةُ، فَصَارَ لِصَاحِبِ الصِّبْغَ هَاهُنَا مَا كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ مِثْلُ مَا كَانَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ السِّعْرِ لَا تُضْمَنُ، فَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ قَلْعَ الصِّبْغِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَضَرَّ بِالثَّوْبِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ، وَيَضْمَنُ نَقْصَ الثَّوْبِ إنْ نَقَصَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، فَمَلَكَ أَخْذَهُ، كَمَا لَوْ غَرَسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ مَا يَهْلَكُ صِبْغُهُ بِالْقَلْعِ، وَبَيْنَ مَا لَا يَهْلَكُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا يَهْلَكُ بِالْقَلْعِ لَا يَمْلِكُ قَلْعَهُ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ قَلْعِهِ إذَا تَضَرَّرَ الثَّوْبُ بِقَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُشْتَرِي إذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ: فَلَهُ أَخْذُهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، كَقَطْعِ خِرْقَةٍ مِنْهُ، وَفَارَقَ قَلْعَ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ قَلِيلٌ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ قَلْعِ الْعُرُوقِ مِنْ الْأَرْضِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ قَلْعَ الصِّبْغِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ، كَمَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى قَلْعِ شَجَرِهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهُ، فَلَزِمَهُ تَخْلِيصُهُ، وَإِنْ اسْتَضَرَّ الْغَاصِبُ، كَقَلْعِ الشَّجَرِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِ الثَّوْبِ، وَأَجْرُ الْقَلْعِ، كَمَا يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ. وَالثَّانِي، لَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ قَلْعِهِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ يَهْلَكُ بِالِاسْتِخْرَاجِ، وَقَدْ أَمْكَنَ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِدُونِهِ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ، كَقَلْعِ الزَّرْعِ مِنْ الْأَرْضِ، وَفَارَقَ الشَّجَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَتْلَفُ بِالْقَلْعِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الزَّرْعِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلزَّرْعِ؛ لِأَنَّ لَهُ غَايَةً يَنْتَهِي إلَيْهَا، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِنَفَقَتِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُ أَرْضِهِ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ الصِّبْغِ، فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ إلَّا تَلَفُ الثَّوْبِ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالشَّجَرِ فِي الْأَرْضِ. وَلَا يَخْتَصُّ وُجُوبُ الْقَلْعِ فِي الشَّجَرِ بِمَا لَا يَتْلَفُ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِ مَا يَتْلَفُ وَمَا لَا يَتْلَفُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الثَّوْبِ قِيمَةَ الصِّبْغِ لِلْغَاصِبِ لِيَمْلِكَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُ إجْبَارٌ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْلَعْهُ، قِيَاسًا عَلَى الشَّجَرِ، وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا لَمْ يَقْلَعْهُ الْغَاصِبُ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يَرْتَفِعُ بِهِ النِّزَاعُ، وَيَتَخَلَّصُ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ بَذَلَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 لِصَاحِبِهِ لِيَمْلِكَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا لَوْ بَذَلَ صَاحِبُ الْغِرَاسِ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِمَالِكِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَإِنْ وَهَبَ الْغَاصِبُ الصِّبْغَ لِمَالِكِ الثَّوْبِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مِنْ صِفَاتِ الْعَيْنِ، فَهُوَ كَزِيَادَةِ الصِّفَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ. الثَّانِي، لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنٌ يُمْكِنُ إفْرَادُهَا، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الصَّدَاقِ: إذَا كَانَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، فَبَذَلْت لَهُ نِصْفَهُ مَصْبُوغًا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ. وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ بَيْعَ الثَّوْبِ، وَأَبَى الْغَاصِبُ، فَلَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَلَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ مَنْعَهُ مِنْ بَيْعِ مِلْكِهِ بِعُدْوَانِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ بَيْعَهُ، لَمْ يُجْبَرْ الْمَالِكُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، فَلَمْ يَسْتَحِقُّ إزَالَةَ مِلْكِ صَاحِبِ الثَّوْبِ عَنْهُ بِعُدْوَانِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ لِيَصِلَ الْغَاصِبُ إلَى ثَمَنِ صِبْغِهِ. الْقَسَمُ الثَّانِي، أَنْ يَغْصِبَ ثَوْبًا وَصِبْغًا مِنْ وَاحِدٍ، فَيَصْبُغَهُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُمَا وَلَمْ تَنْقُصْ، رَدَّهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ زَادَتْ الْقِيمَةُ فَهِيَ لِلْمَالِكِ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَهُ فِي الصِّبْغِ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ. وَإِنْ نَقَصَتْ بِالصَّبْغِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ بِتَعَدِّيهِ. وَإِنْ نَقَصَ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ لَمْ يَضْمَنْهُ. الْقَسَمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَغْصِبَ ثَوْبَ رَجُلٍ وَصِبْغَ آخَرَ، فَيَصْبُغَهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَتَانِ بِحَالِهِمَا، فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مَالِهِمَا، وَإِنْ زَادَتْ، فَالزِّيَادَةُ لَهُمَا، وَإِنْ نَقَصَتْ بِالصَّبْغِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَيَكُونُ النَّقْصُ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ؛ لِأَنَّهُ تَبَدَّدَ فِي الثَّوْبِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ نَقَصَ لِنَقْصِ سِعْرِ الثِّيَابِ، أَوْ سِعْرِ الصِّبْغِ، أَوْ لِنَقْصِ سِعْرِهِمَا، لَمْ يَضْمَنْهُ الْغَاصِبُ، وَكَانَ نَقْصُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الصِّبْغِ قَلْعَهُ، أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّوْبِ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ مَا لَوْ صَبَغَهُ الْغَاصِبُ بِصَبْغٍ مِنْ عِنْدِهِ، عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَإِنْ غَصَبَ عَسَلًا وَنَشَاءً، وَعَقَدَهُ حَلْوَاءَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ. الْحُكْمُ الثَّانِي، أَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ أَوْ تَرَكَهَا تَذْهَبُ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ. وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ غَصَبَ دَارًا فَسَكَنَهَا عِشْرِينَ سَنَةً: لَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ سُكْنَى مَا سَكَنَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَوَقُّفِهِ عَنْ إيجَابِ الْأَجْرِ، إلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَكَمِ مَاتَ قَبْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْأَجْرَ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . وَضَمَانُهَا عَلَى الْغَاصِبِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُطَاوِعَةٍ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ مَا ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، جَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِتْلَافِ، كَالْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَالْأَعْيَانِ. أَوْ نَقُولُ: مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَغْصُوبٌ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَالْعَيْنِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَوَارِدٌ فِي الْبَيْعِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَغْصُوبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُشْبِهُ الزِّنَى؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا عَقْدٍ يَقْتَضِي الْعِوَضَ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعَارَهُ دَارِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ، لَزِمَهُ مَهْرُهَا. وَالْخِلَافُ فِي مَا لَهُ مَنَافِعُ تُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، كَالْعَقَارِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا الْغَنَمُ وَالشَّجَرُ وَالطَّيْرُ وَنَحْوُهَا، فَلَا شَيْءَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَافِعَ لَهَا يُسْتَحَقُّ بِهَا عِوَضٌ. وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً وَلَمْ يَطَأْهَا، وَمَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةٌ تُمْكِنُ الْوَطْءَ فِيهَا، لَمْ يَضْمَنْ مَهْرَهَا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تَتْلَفُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهَا لَا تُقَدَّرُ بِزَمَنٍ، فَيَكُونُ مُضِيُّ الزَّمَانِ بِتَلَفِهَا، بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ. [فَصْلٌ غَصَبَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ غَيْرَهُ] (3991) فَصْلٌ: إذَا غَصَبَ طَعَامًا، فَأَطْعَمَهُ غَيْرَهُ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، وَالْآكِلُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَقَبَضَهُ عَنْ يَدِ ضَامِنِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، فَإِنْ كَانَ الْآكِلُ عَالِمًا بِالْغَصْبِ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ عَالِمًا مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ، فَإِذَا ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْآكِلَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْآكِلُ بِالْغَصْبِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَالَ لَهُ: كُلْهُ، فَإِنَّهُ طَعَامِي. اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الضَّمَانَ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْآكِلَ شَيْءٌ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْآكِلِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. وَالثَّانِيَةُ، يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّ الْآكِلَ، وَأَطْعَمَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْمُشْتَرِي لِلْأَمَةِ: يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ وَكُلُّ مَا غَرِمَ عَلَى الْغَاصِبِ. وَأَيُّهُمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَغَرِمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنْ غَرِمَهُ صَاحِبُهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَطْعَمَ الْمَغْصُوبَ لِمَالِكِهِ، فَأَكَلَهُ عَالِمًا أَنَّهُ طَعَامُهُ، بَرِئَ الْغَاصِبُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَقَالَ لَهُ الْغَاصِبُ: كُلْهُ، فَإِنَّهُ طَعَامِي. اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ طَعَامُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَدَّمَهُ إلَيْهِ، وَقَالَ: كُلْهُ، أَوْ قَالَ: قَدْ وَهَبْتُك إيَّاهُ. أَوْ سَكَتَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي رَجُلٍ، لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ تَبِعَةٌ، فَأَوْصَلَهَا إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ صَدَقَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ، فَقَالَ: كَيْفَ هَذَا؟ هَذَا يَرَى أَنَّهُ هَدِيَّةٌ. يَقُولُ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 : هَذَا لَك عِنْدِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ هَاهُنَا بِأَكْلِ الْمَالِكِ طَعَامَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ ثَمَّ رَدَّ إلَيْهِ يَدَهُ وَسُلْطَانَهُ، وَهَا هُنَا بِالتَّقْدِيمِ إلَيْهِ لَمْ تَعُدْ إلَيْهِ الْيَدُ وَالسُّلْطَانُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِكُلِّ مَا يُرِيدُ، مِنْ أَخْذِهِ وَبَيْعِهِ وَالصَّدَقَةِ بِهِ، فَلَمْ يَبْرَأْ الْغَاصِبُ، كَمَا لَوْ عَلَفَهُ لِدَوَابِّهِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَبْرَأَ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى إذَا أَطْعَمَهُ لِغَيْرِ مَالِكِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْآكِلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَيَبْرَأُ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. . وَإِنْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ لِمَالِكِهِ، أَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ تَسْلِيمًا صَحِيحًا تَامًّا، وَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَارِدٌ فِيمَا إذَا أَعْطَاهُ عِوَضَ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ، فَأَخَذَهُ الْمَالِكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْمُعَاوَضَةُ، وَمَسْأَلَتُنَا فِيمَا إذَا رَدَّ إلَيْهِ عَيْنَ مَالِهِ، وَأَعَادَ يَدَهُ الَّتِي أَزَالَهَا. وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِالِابْتِيَاعِ، وَالِابْتِيَاعُ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ، بَرِئَ أَيْضًا؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَعَارَهُ إيَّاهُ، بَرِئَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تُوجِبُ الضَّمَانَ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ، أَوْ آجَرَهُ إيَّاهُ، أَوْ رَهَنَهُ، أَوْ أَسْلَمَهُ عِنْدَهُ لِيَقْصِرهُ أَوْ يُعْلِمَهُ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ سُلْطَانُهُ، إنَّمَا قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى يَدِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ إيَّاهُ فَأَكَلَهُ، لَمْ يَبْرَأْ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ اخْتِلَاف الْمَالِك وَالْغَاصِب فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ] (3992) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْغَاصِبُ فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَأَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَلَا يُلْزِمُهُ، مَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بِهِ حُجَّةً، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا، فَأَقَرَّ بِبَعْضِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْمَالِكُ: كَانَ كَاتِبًا أَوْ لَهُ صِنَاعَةٌ. فَأَنْكَرَ الْغَاصِبُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِالصِّفَةِ ثَبَتَتْ. وَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ: كَانَتْ فِيهِ سِلْعَةٌ، أَوْ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، أَوْ عَيْبٌ. فَأَنْكَرَ الْمَالِكُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي قِيمَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ زِيَادَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فِي وَقْتِ زِيَادَتِهِ، فَقَالَ الْمَالِكُ: زَادَتْ قَبْلَ تَلَفِهِ. وَقَالَ الْغَاصِبُ: إنَّمَا زَادَتْ قِيمَةُ الْمَتَاعِ بَعْدَ تَلَفِهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 وَإِنْ شَاهَدْنَا الْعَبْدَ مَعِيبًا، فَقَالَ الْغَاصِبُ: كَانَ مَعِيبًا قَبْلَ غَصْبِهِ. وَقَالَ الْمَالِكُ: تَعَيَّبَ عِنْدَك. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صِفَةَ الْعَبْدِ لَمْ تَتَغَيَّرْ. وَإِنْ غَصَبَهُ خَمْرًا، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُهُ: تَخَلَّلَ عِنْدَكَ. وَأَنْكَرَ الْغَاصِبُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْمَغْصُوبِ، أَوْ رَدِّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ، وَاشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تَلَفِهِ، فَادَّعَاهُ الْغَاصِبُ، وَأَنْكَرَهُ الْمَالِكُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَتَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ فَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، فَلَزِمَ بَدَلُهَا، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْت مِنِّي حَدِيثًا. فَقَالَ: بَلْ عَتِيقًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِيثِ، وَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالْعَتِيقِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ. [فَصْلٌ بَاعَ عَبْدًا فَادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ غَصَبَهُ] (3993) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ عَبْدًا، فَادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ غَصَبَهُ الْعَبْدَ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، انْتَقَضَ الْبَيْعُ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ وَحْدَهُ، لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَزِمَتْ الْبَائِعَ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ، وَيُقَرُّ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلِلْبَائِعِ إحْلَافُهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ مُطَالَبَتَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْقِيمَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي يُقِرُّ لَهُ بِالثَّمَنِ، فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، فَوَجَبَ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا فِي السَّبَب بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى حُكْمِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيْك أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ الْبَيْعِ. فَقَالَ: بَلْ أَلْفٌ مِنْ قَرْضٍ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه. وَمَتَى عَادَ الْعَبْدُ إلَى الْبَائِعِ بِفَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى مُدَّعِيه، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ إقْرَارُ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَهُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَسْخَهُ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِمَا يَفْسَخُهُ. وَإِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، لَزِمَهُ رَدُّ الْعَبْدِ وَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، إنْ كَانَ قَبَضَهُ، وَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ. وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً بِمَا أَقَرَّ بِهِ، قُبِلَتْ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ. وَإِنْ أَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً، إذَا كَانَ هُوَ الْمُقِرَّ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْبَيْعِ قَالَ: بِعْتُك عَبْدِي هَذَا أَوْ مِلْكِي هَذَا. لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهَا وَتُكَذِّبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ، قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَغَيْرَ مِلْكِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، سُمِعَتْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَائِعِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُجَرِّبُهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا. وَإِنْ أَنْكَرَاهُ جَمِيعًا، فَلَهُ إحْلَافُهُمَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ يَجِدُ سَرِقَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ إنْسَانٍ، قَالَ: هُوَ مِلْكُهُ، يَأْخُذُهُ، أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَمُرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَتْبَعُ الْمُبْتَاعُ مَنْ بَاعَهُ» . رَوَاهُ هُشَيْمٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ السَّائِبِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، وَمُوسَى بْنِ السَّائِبِ ثِقَةٌ. [فَصْلٌ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْعَبْدَ فَأَقَرَّا جَمِيعًا] (3994) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْعَبْدَ، فَأَقَرَّا جَمِيعًا، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْعَبْدُ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ وَافَقَهُمَا. الْعَبْدُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْبَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْعِتْقِ، مَعَ اتِّفَاقِ السَّيِّدَ وَالْعَبْدِ عَلَى الرِّقِّ، سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا حُرٌّ. ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ إذَا اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ، وَيَعُودُ الْعَبْدُ إلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ، أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِمَنْ يَدَّعِيه، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي. وَمَتَى حَكَمْنَا بِالْحُرِّيَّةِ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ قِيمَتَهُ يَوْمَ عِتْقِهِ، ثُمَّ إنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ، رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْهُ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ وَخَلَّفَ مَالًا، فَهُوَ لِلْمُدَّعِي؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَهُ. وَإِنَّمَا مَنَعْنَا رَدَّ الْعَبْدِ إلَيْهِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَخْلُفَ وَارِثًا فَيَأْخُذَهُ، وَلَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لَأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه أَحَدٌ. وَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ وَحْدَهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ. وَبَقِيَّةُ الْأَقْسَامِ عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلٌ بَاعَ عَبْدًا أَوْ وَهَبَهُ ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ أَنَّ أَمْلِكَهُ] (3995) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ عَبْدًا أَوْ وَهَبَهُ، ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَمْلِكَهُ، وَقَدْ مَلَكْته الْآنَ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ مِنْ مَالِكِهِ، فَيَلْزَمُك رَدُّهُ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ وَالْهِبَةَ بَاطِلَانِ. وَإِنْ أَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ قَالَ حِينَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ: هَذَا مِلْكِي. أَوْ بِعْتُك مِلْكِي هَذَا. أَوْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: قَبَضْت ثَمَنَ مِلْكِي أَوْ قَبَضْته. وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا، وَهِيَ تُكَذِّبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ وَيَهَبُ مِلْكَهُ وَغَيْرَ مِلْكِهِ. [فَصْلٌ جَنَى الْعَبْدُ الْمَغْصُوب جِنَايَةً أَوْجَبَتْ الْقِصَاصَ] (3996) فَصْلٌ: إذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ جِنَايَةً أَوْجَبَتْ الْقِصَاصَ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ فِي يَدَيْهِ، فَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِرَقَبَتِهِ، وَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَدَثَ فِي يَدِهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعَبْدِ وَنَقْصَهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَيَضْمَنُهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، كَمَا يَفْدِيهِ سَيِّدُهُ. وَإِنْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ يَدًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا، فَعَلَى الْغَاصِبِ مَا نَقَصَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ دُونَ أَرْشِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ذَهَبَتْ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَتْ. وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ أَرْشُ الْيَدِ بِرَقَبَتِهِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ الْيَدِ، فَإِنْ زَادَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى قِيمَتِهِ، ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ، فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ، يَدْفَعُهَا إلَى سَيِّدِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا تَعَلَّقَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَبْدِ، فَتَعَلَّقَتْ بِبَدَلِهِ، كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهَا، فَإِذَا أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْقِيمَةَ مِنْ الْمَالِكِ، رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ أُخْرَى، لِأَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا اُسْتُحِقَّتْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَدِيعَةً، فَجَنَى جِنَايَةً اسْتَغْرَقَتْ قِيمَتَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُودِعَ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَتَعَلَّقَ بِهَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُودِعِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ جَنَى فِي يَدِ سَيِّدِهِ جِنَايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، ثُمَّ غَصَبَهُ غَاصِبٌ، فَجَنَى فِي يَدِهِ جِنَايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، بِيعَ فِي الْجِنَايَتَيْنِ، وَقُسِمَ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا، وَرَجَعَ صَاحِبُ الْعَبْدِ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أَخَذَهُ الثَّانِي مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَكَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَأْخُذَهُ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ عِوَضُ مَا أَخَذَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَانِيًا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ قِيمَةِ الْجَانِي لَا يُزَاحِمُ فِيهِ، فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، وَيَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَكُونُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَة أَتْلَفَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا] (3997) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (مَنْ أَتْلَفَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَيُنْهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتْلِفُهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فِي الرَّجُلِ يُهْرِيقُ مُسْكِرًا لِمُسْلِمٍ، أَوْ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَجِبُ ضَمَانُهُمَا إذَا أَتْلَفَهُمَا عَلَى ذِمِّيٍّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ مُسْلِمًا بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ إذَا عَصَمَ عَيْنًا قَوَّمَهَا، كَنَفْسِ الْآدَمِيِّ، وَقَدْ عَصَمَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُمْنَعُ مِنْ إتْلَافِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يُقَوِّمَهَا، وَلِأَنَّهَا مَالٌ لَهُمْ يَتَمَوَّلُونَهَا، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَامِلَهُ كَتَبَ إلَيْهِ: إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَمُرُّونَ بِالْعَاشِرِ، وَمَعَهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 الْخُمُورُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا مِنْهُمْ عُشْرَ ثَمَنِهَا. وَإِذَا كَانَتْ مَالًا لَهُمْ وَجَبَ ضَمَانُهَا، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ جَابِرًا، النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: رَوَى «أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لَا لِحُرْمَتِهِ، لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ، كَالْمَيْتَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، كَالْمُرْتَدِّ، وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ، فَلَا تُضْمَنُ، كَالْمَيْتَةِ، وَدَلِيلُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا، وَخِطَابُ النَّوَاهِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمَا، فَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ فِي حَقِّ الْآخَرِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَعْصُومَةٌ، بَلْ مَتَى أُظْهِرَتْ حَلَّتْ إرَاقَتُهَا، ثُمَّ لَوْ عَصَمَهَا مَا لَزِمَ تَقْوِيمُهَا؛ فَإِنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانَهُمْ مَعْصُومُونَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا مَالٌ عِنْدَهُمْ. يَنْتَقِضُ بِالْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ مَالٌ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِأَخْذِ عُشْرِ أَثْمَانِهَا، لِأَنَّهُمْ إذَا تَبَايَعُوا وَتَقَابَضُوا حَكَمْنَا لَهُمْ بِالْمِلْكِ وَلَمْ نَنْقُضْهُ، وَتَسْمِيَتُهَا أَثْمَانًا مَجَازٌ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ثَمَنَ يُوسُفَ ثَمَنًا، فَقَالَ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] . وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: وَيُنْهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ، فَلِأَنَّ كُلَّ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهُ فِي دِينِهِمْ، مِمَّا لَا أَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ، مِنْ الْكُفْرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهِ، وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، لَا يَجُوزُ لَنَا التَّعَرُّضُ لَهُمْ فِيهِ، إذَا لَمْ يُظْهِرُوهُ، لِأَنَّنَا الْتَزَمْنَا إقْرَارَهُمْ عَلَيْهِ فِي دَارِنَا، فَلَا نَعْرِضُ لَهُمْ فِيمَا الْتَزَمْنَا تَرْكَهُ، وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ، تَعَيَّنَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَمْرًا جَازَتْ إرَاقَتُهُ، وَإِنْ أَظْهَرُوا صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا جَازَ كَسْرُهُ، وَإِنْ أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ أُدِّبُوا عَلَى ذَلِكَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ غَصْب مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا] فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، لَزِمَهُ رَدُّهَا؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى شُرْبِهَا. وَإِنْ غَصَبَهَا مِنْ مُسْلِمٍ، لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا، وَوَجَبَتْ إرَاقَتُهَا؛ «لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَأَمَرَهُ بِإِرَاقَتِهَا.» وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» . وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَتْ خَلًّا، لَزِمَ رَدُّهَا عَلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَلًّا، عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَلَزِمَ رَدُّهَا إلَيْهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ، ضَمِنَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَإِنْ أَرَاقَهَا فَجَمَعَهَا إنْسَانٌ، فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ الْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بَعْدَ إتْلَافِهَا، وَزَوَالِ الْيَدِ عَنْهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 [فَصْلٌ غَصْب كَلْبًا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ] (3999) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ كَلْبًا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، وَجَبَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَاقْتِنَاؤُهُ، فَأَشْبَهَ الْمَالَ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ، لَمْ يَغْرَمْهُ. وَإِنْ حَبَسَهُ مُدَّةً، لَمْ يَلْزَمْهُ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ. وَإِنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي طَهَارَتِهِ بِالدَّبْغِ، فَمِنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ، أَوْجَبَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ، فَهُوَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. وَمِنْ قَالَ: لَا يَطْهُرُ. لَمْ يُوجِبْ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إصْلَاحِهِ. فَإِنْ أَتْلَفَهُ، أَوْ أَتْلَفَ مَيْتَةً بِجِلْدِهَا، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ. وَإِنْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ، لَزِمَ رَدُّهُ إنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا بِفِعْلِهِ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَطْهُرُ. لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ رَدُّهُ، إذَا قُلْنَا: يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ. لِأَنَّهُ نَجِسٌ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، أَشْبَهَ الْكَلْبَ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدَّبْغِ. [فَصْلٌ كَسِرِّ صَلِيبًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ صَنَمًا] (4000) فَصْلٌ: وَإِنْ كَسَرَ صَلِيبًا، أَوْ مِزْمَارًا، أَوْ طُنْبُورًا، أَوْ صَنَمًا، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ ذَلِكَ إذَا فُصِلَ يَصْلُحُ لِنَفْعٍ مُبَاحٍ وَإِذَا كُسِرَ لَمْ يَصْلُحْ لِنَفْعٍ مُبَاحٍ، لَزِمَهُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُفَصَّلًا وَمَكْسُورًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِالْكَسْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْت بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ.» [فَصْلٌ كَسِرِّ آنِيَة ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ] (4001) فَصْلٌ: وَإِنْ كَسَرَ آنِيَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا مُحَرَّمٌ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَضْمَنُ، فَإِنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عَنْهُ فِي مَنْ هَشَّمَ عَلَى غَيْرِهِ إبْرِيقًا فِضَّةً: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، يَصُوغُهُ كَمَا كَانَ. قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اتِّخَاذِهَا؟» فَسَكَتَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِيمَنْ كَسَرَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْمَيْتَةِ. وَرِوَايَةُ مُهَنَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ سَكَتَ حِينَ ذَكَرَ السَّائِلُ تَحْرِيمَهُ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: يَصُوغُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ صِيَاغَتُهُ. فَكَيْفَ يَجِبُ ذَلِكَ،. [فَصْلٌ كَسِرِّ آنِيَةَ الْخَمْرِ] (4002) فَصْلٌ: وَإِنْ كَسَرَ آنِيَةَ الْخَمْرِ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّهَا مَالٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَحِلُّ بَيْعُهُ، فَيَضْمَنُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا خَمْرٌ، وَلِأَنَّ جَعْلَ الْخَمْرِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ ضَمَانِهَا، كَالْبَيْتِ الَّذِي جُعِلَ مَخْزَنًا لِلْخَمْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 وَالثَّانِيَةُ، لَا تُضْمَنُ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ، وَهِيَ الشَّفْرَةُ، فَأَتَيْته بِهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا فَأُرْهِفَتْ، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا، وَقَالَ: اُغْدُ عَلَيَّ بِهَا فَفَعَلْت، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا زِقَاقُ الْخَمْرِ قَدْ جُلِبَتْ مِنْ الشَّامِ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي، فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ كُلِّهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي، وَيُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْأَسْوَاقَ كُلَّهَا، فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إلَّا شَقَقْته، فَفَعَلْت، فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إلَّا شَقَقْته» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنْت أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ، شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ، فَأَتَانَا آتٍ، فَقَالَ: إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الدِّنَانِ فَاكْسِرْهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ حُرْمَتِهَا، وَإِبَاحَةِ إتْلَافِهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. [فَصْلٌ الْغَصْبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالِ كَالْحُرِّ] (4003) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ الْغَصْبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْحُرِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ. وَإِنْ أَخَذَ حُرًّا، فَحَبَسَهُ فَمَاتَ عِنْدَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ مُكْرَهًا، لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ. وَإِنْ حَبَسَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ أَجْرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهُ، وَهِيَ مَالٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، فَضَمِنَتْ بِالْغَصْبِ، كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يَصِحُّ غَصْبُهُ، فَأَشْبَهَتْ ثِيَابَهُ إذَا بَلِيَتْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ، وَلِأَنَّهَا تَلِفَتْ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ، لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْعَبْدِ لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ، فَالْحُرُّ أَوْلَى. وَلَوْ حَبَسَ الْحُرَّ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَمْ تَثْبُتْ الْيَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ أُمّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ] (4004) فَصْلٌ: وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُضْمَنُ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّ. وَلَنَا، أَنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، كَالْقِنِّ، وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ، وَفَارَقَتْ الْحُرَّةَ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 [فَصْلٌ فَتْح قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ أَوْ حَلَّ دَابَّةً فَذَهَبَتْ] (4005) فَصْلٌ: وَإِذَا فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ، أَوْ حَلَّ دَابَّةً فَذَهَبَتْ، ضَمِنَهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهَاجَهُمَا حَتَّى ذَهَبَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ وَقَفَا بَعْدَ الْفَتْحِ وَالْحَلِّ، ثُمَّ ذَهَبَا، لَمْ يَضْمَنْهُمَا، وَإِنْ ذَهَبَا عَقِيبَ ذَلِكَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَاحْتَجَّا بِأَنَّ لَهُمَا اخْتِيَارًا، وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْهُمَا الْمُبَاشَرَةُ، وَمِنْ الْفَاتِحِ سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ. فَإِذَا اجْتَمَعَا، لَمْ يَتَعَلَّقْ الضَّمَانُ بِالسَّبَبِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَجَاءَ عَبْدٌ لَإِنْسَانٍ، فَرَمَى نَفْسَهُ فِيهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ ذَهَبَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ نَفَّرَهُ، أَوْ ذَهَبَ عَقِيبَ فَتْحِهِ وَحَلِّهِ، وَالْمُبَاشَرَةُ إنَّمَا حَصَلَتْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ، كَمَا لَوْ نَفَّرَ الطَّائِرَ، وَأَهَاجَ الدَّابَّةَ، أَوْ أَشْلَى كَلْبًا عَلَى صَبِيٍّ فَقَتَلَهُ، أَوْ أَطْلَقَ نَارًا فِي مَتَاعِ إنْسَانٍ، فَإِنَّ لِلنَّارِ فِعْلًا، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلِأَنَّ الطَّائِرَ وَسَائِرَ الصَّيْدِ مِنْ طَبْعِهِ النُّفُورُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى بِالْمَانِعِ، فَإِذَا أُزِيلَ الْمَانِعُ ذَهَبَ بِطَبْعِهِ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَى مَنْ أَزَالَ الْمَانِعَ، كَمَنْ قَطَعَ عَلَاقَةَ قِنْدِيلٍ، فَوَقَعَ فَانْكَسَرَ. وَهَكَذَا لَوْ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ فَذَهَبَ، أَوْ أَسِرْ فَأَفْلَتَ. وَإِنْ فَتَحَ الْقَفَصَ، وَحَلَّ الْفَرَسَ، فَبَقِيَا وَاقِفَيْنِ، فَجَاءَ إنْسَانٌ فَنَفَّرَهُمَا فَذَهَبَا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُنَفِّرِهِمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَخَصُّ، فَاخْتَصَّ الضَّمَانُ بِهِ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ. وَإِنْ وَقَعَ طَائِرٌ إنْسَانٍ عَلَى جِدَارٍ، فَنَفَّرَهُ إنْسَانٌ، فَطَارَ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيرَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبَ فَوَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُمْتَنِعًا قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِنْ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ، ضَمِنَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي دَارِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ تَنْفِيرُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ الطَّائِرُ فِي هَوَاءِ دَارِهِ، فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الطَّائِرِ مِنْ هَوَاءِ دَارِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَاهُ فِي هَوَاءِ دَارِ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ حَلَّ زِقًّا فِيهِ مَائِعٌ فَانْدَفَقَ] (4006) فَصْلٌ: وَلَوْ حَلَّ زِقًّا فِيهِ مَائِعٌ، فَانْدَفَقَ، ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ خَرَجَ فِي الْحَالِ، أَوْ خَرَجَ قَلِيلًا قَلِيلًا، أَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَلَّ أَسْفَلَهُ فَسَقَطَ، أَوْ ثَقُلَ أَحَدُ جَانِبَيْهِ فَلَمْ يَزُلْ يَمِيلُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى سَقَطَ، أَوْ سَقَطَ بِرِيحٍ، أَوْ بِزَلْزَلَةِ الْأَرْضِ، أَوْ كَانَ جَامِدًا فَذَابَ بِشَمْسٍ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَضْمَنُ إذَا سَقَطَ بِرِيحٍ أَوْ زَلْزَلَةٍ، وَيَضْمَنُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُمْ فِيمَا إذَا ذَابَ بِالشَّمْسِ وَجْهَانِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُلْجِئٍ، وَالْمَعْنَى الْحَادِثُ مُبَاشَرَةٌ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الضَّمَانُ بِفِعْلِهِ. كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إنْسَانٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 وَلَنَا، أَنَّ فِعْلَهُ سَبَبُ تَلَفِهِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ خَرَجَ عَقِيبَ فِعْلِهِ، أَوْ مَالَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَكَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ أَوْ الْبَرْدُ، فَسَرَتْ الْجِنَايَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ. وَأَمَّا إنْ دَفَعَهُ إنْسَانٌ، فَإِنَّ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَهُمَا مُبَاشَرَةً يُمْكِنُ الْإِحَالَةُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلَوْ كَانَ جَامِدًا، فَأَدْنَى مِنْهُ آخَرُ نَارًا، فَأَذَابَهُ فَسَالَ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَذَابَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَخَصُّ، لِكَوْنِ التَّلَفِ يَعْقُبُهُ، فَأَشْبَهَ الْمُنَفِّرَ مَعَ فَاتِحِ الْقَفَصِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَسَارِقَيْنِ نَقَّبَ أَحَدُهُمَا، وَأَخْرَجَ الْآخَرُ الْمَتَاعَ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُدْنِيَ النَّارِ أَلْجَأَهُ إلَى الْخُرُوجِ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ وَاقِفًا فَدَفَعَهُ. وَالْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى مُخْرِجِ الْمَتَاعِ مِنْ الْحِرْزِ، وَالْقَطْعُ حَدٌّ لَا يَجِبُ إلَّا بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَالِ جَمِيعًا، ثُمَّ إنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ. وَلَوْ أَذَابَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا، ثُمَّ فَتَحَ الثَّانِي رَأْسَهُ، فَانْدَفَقَ، فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ التَّلَفَ تَعَقَّبَهُ. وَإِنْ فَتَحَ زِقًّا مُسْتَعْلِيَ الرَّأْسِ، فَخَرَجَ بَعْضُ مَا فِيهِ، وَاسْتَمَرَّ خُرُوجُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، فَجَاءَ آخَرُ فَنَكَّسَهُ، فَانْدَفَقَ، فَضَمَانُ مَا خَرَجَ بَعْدَ التَّنْكِيسِ عَلَى الْمُنَكِّسِ، وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْفَاتِحِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَخَصُّ، كَالْجَارِحِ وَالذَّابِحِ. [فَصْلٌ حَلَّ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَذَهَبَتْ أَوْ غَرِقَتْ] (4007) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَّ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَذَهَبَتْ أَوْ غَرِقَتْ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، سَوَاءٌ تَعَقَّبَ فِعْلَهُ أَوْ تَرَاخَى. وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالْخِلَافِ فِي الطَّائِرِ فِي الْقَفَصِ. [فَصْلٌ أُوقِد فِي مِلْكِهِ نَارًا أَوْ فِي مَوَاتٍ] (4008) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْقَدَ فِي مِلْكِهِ نَارًا، أَوْ فِي مَوَاتٍ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا، أَوْ سَقَى أَرْضَهُ فَنَزَلَ الْمَاءُ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَغَرَّقَهَا، لَمْ يَضْمَنْ إذَا كَانَ فَعَلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَلِأَنَّهَا سِرَايَةُ فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَسِرَايَةِ الْقَوَدِ، وَفَارَقَ مَنْ حَلَّ زِقًّا فَانْدَفَقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِحَلِّهِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ خُرُوجُ الْمَائِعِ مِنْ الزِّقِّ الْمَفْتُوحِ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ سِرَايَةَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُعْتَادِ إلَى تَلَفِ مَالِ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، بِأَنْ أَجَّجَ نَارًا تَسْرِي فِي الْعَادَةِ لِكَثْرَتِهَا، أَوْ فِي رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَحْمِلُهَا، أَوْ فَتَحَ مَاءً كَثِيرًا يَتَعَدَّى، أَوْ فَتَحَ الْمَاءَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ أَوْقَدَ فِي دَارِ غَيْرِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ. وَإِنْ سَرَى إلَى غَيْرِ الدَّارِ الَّتِي أَوْقَدَ فِيهَا، وَالْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَ الْمَاءَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا سِرَايَةُ عُدْوَانٍ، أَشْبَهَتْ سِرَايَةُ الْجُرْحِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ. وَإِنْ أَوْقَدَ نَارًا فَأَيْبَسَتْ أَغْصَانَ شَجَرَةِ غَيْرِهِ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ نَارٍ كَثِيرَةٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَغْصَانُ فِي هَوَائِهِ، فَلَا يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي دَارِهِ؛ لِحُرْمَتِهَا. وَهَذَا الْفَصْلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 [فَصْلٌ أَلْقَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ لَزِمَهُ حِفْظُهُ] (4009) فَصْلٌ: وَإِنْ أَلْقَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ حِفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ حَصَلَتْ تَحْتَ يَدِهِ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهُ، كَاللُّقَطَةِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ، فَهُوَ لُقَطَةٌ تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا وَإِنْ عَرَفَ صَاحِبَهُ، لَزِمَهُ إعْلَامُهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ. وَإِنْ سَقَطَ طَائِرٌ فِي دَارِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ حِفْظُهُ، وَلَا إعْلَامُ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ دَخَلَ بُرْجَهُ، فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ نَاوِيًا إمْسَاكَهُ لِنَفْسِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي بُرْجِهِ كَيْفَ شَاءَ، فَلَا يَضْمَنُ مَالَ غَيْرِهِ بِتَلَفِهِ ضِمْنًا، لِتَصَرُّفِهِ الَّذِي لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ. [فَصْلٌ أَكَلَتْ بَهِيمَة حَشِيشَ قَوْمٍ وَيَدُ صَاحِبِهَا عَلَيْهَا] (4010) فَصْلٌ: إذَا أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَشِيشَ قَوْمٍ، وَيَدُ صَاحِبِهَا عَلَيْهَا، لِكَوْنِهِ مَعَهَا، ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا، لَمْ يَضْمَنْ مَا أَكَلَتْهُ. وَإِذَا اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ بَهِيمَتَهُ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا وَهِيَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، سَوَاءٌ أَتْلَفَتْ شَيْئًا لِمَالِكِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ يَجِبُ بِالْيَدِ، وَالْيَدُ لِلْمُسْتَعِيرِ. وَإِنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ الرَّاعِي، فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاعِي دُونَ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ إتْلَافَهَا لِلزَّرْعِ فِي النَّهَارِ لَا يَضْمَنُ إلَّا بِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا، وَالْيَدُ لِلرَّاعِي دُونَ الْمَالِكِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَالْمُسْتَعِيرِ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِلْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْيَدِ أَقْوَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا. [فَصْلٌ شَهِدَ بِالْغَصْبِ شَاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدهمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْخَمِيس وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (4011) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ بِالْغَصْبِ شَاهِدَانِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَمْ تَتِمَّ الْبَيِّنَةُ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثَبَتَتْ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنْ اخْتَلَفَ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَمْ تَثْبُتْ الْبَيِّنَةُ أَيْضًا. وَإِنْ شَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ، وَحَلَفَ مَعَهُ، ثَبَتَ الْغَصْبُ، فَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ لَمْ نُوقِعْ طَلَاقَهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ فِي الْمَالِ، لَا فِي الطَّلَاقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 [كِتَاب الشُّفْعَة] ِ وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ انْتِزَاعَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الْمُنْتَقِلَةِ عَنْهُ مِنْ يَدِ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ. وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمِ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ؛ رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ. فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَلِلْبُخَارِيِّ: «إنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشُّفْعَةَ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصَرَفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ.» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ، فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضِ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِشَرِيكِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِمَّا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْخَلَاصِ وَالِاسْتِخْلَاصِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيه حُسْنُ الْعِشْرَةِ، أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ، لِيَصِلَ إلَى غَرَضِهِ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ، وَتَخْلِيصِ شَرِيكِهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، سَلَّطَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَذَا إلَّا الْأَصَمَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِأَرْبَابِ الْأَمْلَاكِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا ابْتَاعَهُ، لَمْ يَبْتَعْهُ، وَيَتَقَاعَدُ الشَّرِيكُ عَنْ الشِّرَاءِ، فَيَسْتَضِرُّ الْمَالِكُ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمُخَالَفَتِهِ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ وَالْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ قَبْلَهُ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّا نُشَاهِدُ الشُّرَكَاءَ يَبِيعُونَ، وَلَا يُعْدَمُ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُمْ غَيْرَ شُرَكَائِهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ مِنْ الشِّرَاءِ. الثَّانِي، أَنَّهُ يُمْكِنُهُ إذَا لَحِقَتْهُ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ أَنْ يُقَاسِمَ، فَيَسْقُطَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ، وَاشْتِقَاقُ الشُّفْعَةِ مِنْ الشَّفْعِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ كَانَ نَصِيبُهُ مُنْفَرِدًا فِي مِلْكِهِ، فَبِالشُّفْعَةِ يَضُمُّ الْمَبِيعَ إلَى مِلْكِهِ فَيَشْفَعُهُ بِهِ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَزِيدُ الْمَبِيعَ فِي مِلْكِهِ. [مَسْأَلَة الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِشُرُوطٍ] [مِنْ شُرُوط الشُّفْعَة أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ] (4012) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (وَلَا يَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا لِلشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصَرَفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إذْ هِيَ انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ، وَإِجْبَارٌ لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْأَصَمُّ، لَكِنْ أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ ، فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ. فَأَمَّا الْجَارُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ، ثُمَّ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ بِالْجِوَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا، كَدَرْبٍ لَا يَنْفُذُ، تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّرْبِ، الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا، ثَبَتَتْ لِلْمُلَاصِقِ مِنْ دَرْبٍ آخَرَ خَاصَّةً. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ، وَسَوَّارٌ: تَثْبُتُ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ، وَبِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِدَارِهِ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ إذَا كَانَ غَائِبًا، إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ اتِّصَالُ مِلْكٍ يَدُومُ وَيَتَأَبَّدُ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ بِهِ، كَالشَّرِكَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوْ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُسِّمَتْ الْأَرْضُ، وَحُدَّتْ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِمَعْنًى مَعْدُومٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ، وَبَيَانُ انْتِفَاءِ الْمَعْنَى، هُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَرِيكٌ، فَيَتَأَذَّى بِهِ، فَتَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إلَى مُقَاسَمَتِهِ أَوْ يَطْلُبُ الدَّاخِلُ الْمُقَاسَمَةَ، فَيَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى الشَّرِيكِ بِنَقْصِ قِيمَةِ مِلْكِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَى إحْدَاثِهِ مِنْ الْمَرَافِقِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْسُومِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الصَّقَبَ الْقُرْبُ. يُقَالُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ. قَالَ الشَّاعِرُ: كُوفِيَّةٌ نَازِحٌ مَحَلَّتَهَا ... لَا أُمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِإِحْسَانِ جَارِهِ وَصِلَتِهِ وَعِيَادَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخَبَرُنَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ، فَيُقَدَّمُ، وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ. فَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَرْوِيه عَنْهُ الْحَسَنُ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ. قَالَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثُ جَابِرٍ، الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِيهَا مَقَالٌ. عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ؛ فَإِنَّهُ جَارٌ أَيْضًا، وَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ جَارًا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ ... كَذَاك أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ قَالَهُ الْأَعْشَى. وَتُسَمَّى الضَّرَّتَانِ جَارَتَيْنِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزَّوْجِ. قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي، فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا. وَهَذَا يُمْكِنُ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مُفْرَدَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ تَشْرَبُ هِيَ وَأَرْضُ غَيْرِهِ مِنْ نَهْرٍ وَاحِدٍ: وَلَا شُفْعَةَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الشُّرْبِ، إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَمُثَنَّى، فِي مَنْ لَا يَرَى الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ، وَقُدِّمَ إلَى الْحَاكِمِ فَأَنْكَرَ: لَمْ يَحْلِفْ إنَّمَا هُوَ اخْتِيَارٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا هَذَا لِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ هَاهُنَا عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَظْنُونَةٌ، فَلَا يُقْطَعُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ هَاهُنَا عَلَى الْوَرَعِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ. وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الِامْتِنَاعُ بِهِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 [فَصْلٌ مِنْ شُرُوط الشُّفْعَة أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ أَرْضًا] (4013) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ أَرْضًا؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَيُدَوِّهِ ضَرَرُهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدَهُمَا، تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، وَهُوَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ يُبَاعُ مَعَ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا نَعْرِفُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ خِلَافًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَضَاؤُهُ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ» . وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَالْأَشْجَارُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا وَلَا مُفْرَدًا، وَهُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ الظَّاهِرَةُ تُبَاعُ مَعَ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَ الْأَصْلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ مَعَ أُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا. فَلَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ، كَقُمَاشِ الدَّارِ، وَعَكْسُهُ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الشُّفْعَةَ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ لَهُ سُلْطَانَ الْأَخْذِ بِغَيْرِ رِضَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ بِيعَ الشَّجَرُ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، كَالطَّلْعِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرِ، دَخَلَ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ، فَأَشْبَهَتْ الْغِرَاسَ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا مَا بِيعَ مُفْرَدًا مِنْ الْأَرْضِ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالسُّفُنِ وَالْحِجَارَةِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، أَوْ لَا يُنْقَلُ، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ إذَا بِيعَ مُفْرَدًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَإِسْحَاقَ: لَا شُفْعَةَ فِي الْمَنْقُولَاتِ. وَاخْتَلَفَ عَنْ مَالِكٍ وَعَطَاءٍ، فَقَالَا مَرَّةً كَذَلِكَ، وَمَرَّةً قَالَا: الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي الثَّوْبِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ كَالْحِجَارَةِ وَالسَّيْفِ وَالْحَيَوَانِ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، وَإِنْ بِيعَ مُفْرَدًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» . وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنْهُ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَلِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» . وَلَنَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» . لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا لَا يَنْقَسِمُ مِنْ الْأَرْضِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ ". وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَبَاقَى عَلَى الدَّوَامِ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَصُبْرَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 الطَّعَامِ وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مُرْسَلٌ، لَمْ يَرِدْ فِي الْكُتُبِ الْمَوْثُوقِ بِهَا، وَالْحُكْمُ فِي الْغِرَافِ وَالدُّولَابِ وَالنَّاعُورَةِ، كَالْحُكْمِ فِي الْبِنَاءِ. فَأَمَّا إنْ بِيعَتْ الشَّجَرَةُ مَعَ قَرَارِهَا مِنْ الْأَرْضِ، مُفْرَدَةً عَمَّا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ الْأَرْضِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَا يَنْقَسِمُ مِنْ الْعَقَارِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الشُّفْعَةُ فِيهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ تَابِعٌ لَهَا، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِيهَا مُفْرَدَةً، لَمْ تَجِبَ فِي تَبَعِهَا. وَإِنْ بِيعَتْ حِصَّةٌ مِنْ عُلْوِ دَارٍ مُشْتَرَكٍ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ السَّقْفُ الَّذِي تَحْتَهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، فَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُلْوِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُفْرَدٌ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُنْفَرِدٌ لِكَوْنِهِ لَا أَرْضَ لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ السَّقْفُ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ قَرَارًا، فَهُوَ كَالسُّفْلِ. [فَصْلٌ مِنْ شُرُوط الشُّفْعَة أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ] فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ مِنْ الْعَقَارِ، كَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَالرَّحَى الصَّغِيرَةِ، وَالْعِضَادَةِ، وَالطَّرِيقِ الضَّيِّقَةِ، وَالْعِرَاصِ الضَّيِّقَةِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَالثَّانِيَةُ، فِيهَا الشُّفْعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ. وَعَنْ مَالِكٍ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» . وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ وَالضَّرَرُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ ضَرَرُهُ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا شُفْعَةَ فِي فِنَاءٍ، وَلَا طَرِيقٍ، وَلَا مُنَقِّبَةٍ» . وَالْمُنَقِّبَةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ. رَوَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ". وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلَا فَحْلٍ. وَلِأَنَّ إثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِي هَذَا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشَّفِيعِ، فَيَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ فَيُؤَدِّي إثْبَاتُهَا إلَى نَفْيِهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ، لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ إحْدَاثِ الْمَرَافِقِ الْخَاصَّةِ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الضَّرَرَ هَاهُنَا أَكْثَرُ لِتَأَبُّدِهِ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ الضَّرَرَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ هَذَا الضَّرَرِ، وَهُوَ ضَرَرُ الْحَاجَةِ إلَى إحْدَاثِ الْمَرَافِقِ الْخَاصَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ، وَفِي الشُّفْعَةِ هَاهُنَا ضَرَرٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، فَأَمَّا مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ مِمَّا ذَكَرْنَا، كَالْحَمَّامِ الْكَبِيرِ الْوَاسِعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 الْبُيُوتِ، بِحَيْثُ إذَا قُسِّمَ لَمْ يُسْتَضْرَ بِالْقِسْمَةِ، وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَمَّامًا، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْبِئْرُ وَالدُّورُ وَالْعَضَائِدُ، مَتَى أَمْكَنَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئَانِ، كَالْبِئْرِ يَنْقَسِمُ بِئْرَيْنِ يَرْتَقِي الْمَاءُ مِنْهُمَا، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْبِئْرِ بَيَاضُ أَرْضٍ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْبِئْرُ فِي أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تُمْكِنُ الْقِسْمَةُ. وَهَكَذَا الرَّحَى إنْ كَانَ لَهَا حِصْنٌ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْحَجَرَانِ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، أَوْ كَانَ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْجَارٍ دَائِرَةٌ، يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَجَرَيْنِ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إبْقَائِهَا رَحَى، لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ. فَأَمَّا الطَّرِيقُ، فَإِنَّ الدَّارَ إذَا بِيعَتْ وَلَهَا طَرِيقٌ فِي شَارِعٍ أَوْ دَرْبٍ نَافِذٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِي تِلْكَ الدَّارِ وَلَا فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَأَحَدٍ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، وَلَا طَرِيقَ لِلدَّارِ سِوَى تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الدَّارَ تَبْقَى لَا طَرِيقَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ بَابٌ آخَرُ، يُسْتَطْرَقُ مِنْهُ، أَوْ كَانَ لَهَا مَوْضِعٌ يُفْتَحُ مِنْهُ بَابٌ لَهَا إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ، نَظَرْنَا فِي طَرِيقِ الْمَبِيعِ مِنْ الدَّارِ، فَإِنْ كَانَ مَمَرًّا لَا تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَغَيْرِ الطَّرِيقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الشُّفْعَةُ فِيهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ بِتَحْوِيلِ الطَّرِيقِ إلَى مَكَان آخَرَ، مَعَ مَا فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ تَفْرِيقِ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَأَخْذِ بَعْضِ الْمَبِيعِ مِنْ الْعَقَارِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَمْ يَجُزْ. كَمَا لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ فِي الطَّرِيقِ شَرِيكًا فِي الدَّارِ، فَأَرَادَ أَخْذَ الطَّرِيقِ وَحْدَهَا. وَالْقَوْلُ فِي دِهْلِيزِ الْجَارِ وَصَحْنِهِ، كَالْقَوْلِ فِي الطَّرِيقِ الْمَمْلُوكِ. وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الْمُشْتَرِي مِنْ الطَّرِيقِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الزَّائِدِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، وَعَدَمِ الْمَانِعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِهَا تَبْعِيضَ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَخْلُو مِنْ الضَّرَرِ. [فَصْلٌ مِنْ شُرُوط الشُّفْعَة أَنَّ يَكُونَ الشِّقْصُ مُنْتَقِلًا بِعِوَضِ] (4015) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ الشِّقْصُ مُنْتَقِلًا بِعِوَضٍ، وَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ بِغَيْرِ ثَوَابٍ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْإِرْثِ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْمُنْتَقِلِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ، وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الشَّرِكَةِ كَيْفَمَا كَانَ، وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالْمُتَّهَبِ دُونَ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى شِرَاءِ الشِّقْصِ، وَبَذْلَهُ مَالَهُ فِيهِ، دَلِيلُ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، فَانْتِزَاعُهُ مِنْهُ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ أَخْذِهِ مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ انْتَقَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَشْبَهَ الْمِيرَاثَ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ هُوَ الْبَيْعُ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي انْتَقَلَ بِهِ إلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي غَيْرِهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ، لَا بِقِيمَتِهِ، وَفِي غَيْرِهِ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ، فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ بِعِوَضٍ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا عِوَضُهُ الْمَالُ، كَالْبَيْعِ، فَهَذَا فِيهِ الشُّفْعَةُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ جَرَى مَجْرَى الْبَيْعِ، كَالصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، وَالْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا ثَوَابٌ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ ثَبَتَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ، وَهَذَا مِنْهَا. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا ثَوَابٌ حَتَّى يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبْضِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، كَالْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالُوهُ مِنْ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ صَرَفَ اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَجَعَلَهُ عِبَارَةً عَنْ الْبَيْعِ، خَاصَّةً عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا انْتَقَلَ بِعِوَضٍ غَيْرِ الْمَالِ، نَحْوُ أَنْ يَجْعَلَ الشِّقْصَ مَهْرًا، أَوْ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ لِغَيْرِ الْبَيْعِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، حَكَاهُ عَنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَ يَأْخُذُهُ؟ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِقِيمَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، لَقَوَّمْنَا الْبُضْعَ عَلَى الْأَجَانِبِ، وَأَضْرَرْنَا بِالشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَتَفَاوَتُ مَعَ الْمُسَمَّى، لِتَسَامُحِ النَّاسِ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ الشِّقْصُ صَدَاقًا، أَوْ عِوَضًا فِي خَلَعَ، أَوْ مُتْعَةً فِي طَلَاقٍ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُكْلِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الشِّقْصَ بِبَدَلٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قِيمَةِ الْبَدَلِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِعِوَضٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ بِأَنَّهُ عَقَارٌ مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِغَيْرِ مَالٍ، أَشْبَهَ الْمَوْهُوبَ وَالْمَوْرُوثَ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَخْذُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ، وَبِالْقِيمَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِوَضَ الشِّقْصِ، فَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهَا، كَالْمَوْرُوثِ، فَيَتَعَذَّرُ أَخْذُهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَوْهُوبَ وَالْمَوْرُوثَ، وَفَارَقَ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِعِوَضِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ. فَطَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، بَعْدَ عَفْوِ الشَّفِيعِ، رَجَعَ بِنِصْفِ مَا أَصْدَقَهَا؛ لِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 مَوْجُودٌ فِي يَدِهَا بِصِفَتِهِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا زَالَ عَنْهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَتْهُ، وَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ عِلْمِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ عَلِمَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ، وَحَقُّ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ. وَالثَّانِي، حَقُّ الزَّوْجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَالشُّفْعَةُ هَاهُنَا لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ. فَأَمَّا إنْ عَفَا الشَّفِيعُ، ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجُ، فَرَجَعَ فِي نِصْفِ الشِّقْصِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إنْ جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، فَرَجَعَ الشِّقْصُ كُلُّهُ إلَى الزَّوْجِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْمَالِكِ لِزَوَالِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشَّفِيعُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ فَسْخٍ يَرْجِعُ بِهِ الشِّقْصُ إلَى الْعَاقِدِ، كَرَدِّهِ بِعَيْبٍ، أَوْ مُقَايَلَةٍ، أَوْ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، أَوْ رَدِّهِ لِغَبْنٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْإِقَالَةِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا بَيْعٌ، فَتَثْبُتُ فِيهَا الشُّفْعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّفِيعُ حَتَّى تَقَايَلَا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَإِنْ عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ تَقَايَلَا، فَلَهُ الْأَخْذُ بِهَا. [فَصْلٌ جَنَى جِنَايَتَيْنِ عَمْدًا وَخَطَأً فَصَالَحَهُ مِنْهُمَا عَلَى شِقْصٍ] (4016) فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى جِنَايَتَيْنِ، عَمْدًا وَخَطَأً، فَصَالَحَهُ مِنْهُمَا عَلَى شِقْصٍ، فَالشُّفْعَةُ فِي نِصْفِ الشِّقْصِ دُونَ بَاقِيهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي نَقُولُ فِيهَا: إنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا. وَإِنْ قُلْنَا: مُوجِبُهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ. وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْجَمِيعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا شُفْعَةَ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِهَا تَبْعِيضَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَلَنَا، أَنَّ مَا قَابَلَ الْخَطَأَ عِوَضٌ عَنْ مَالٍ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ، وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ، فَوَجَبَتْ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا. وَبِهَذَا الْأَصْلِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقَيْسُ؛ لِأَنَّ فِي الشُّفْعَةِ تَبْعِيضَ الشِّقْصِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَرُبَّمَا لَا يَبْقَى مِنْهُ إلَّا مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ أَخْذَ بَعْضِهِ مَعَ عَفْوِ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشِّقْصِ وَالسَّيْفِ. وَأَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ. فَبِاخْتِيَارِهِ الصُّلْحَ سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَتَعَيَّنَتْ الدِّيَةُ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ. [فَصْلٌ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ] (4017) فَصْلٌ: وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، أَيُّهُمَا كَانَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَتَخَرَّجُ أَنْ تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، كَمَا بَعْدَ انْقِضَائِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَهُمَا، لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ حَتَّى يَنْقَضِيَ؛ لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 إسْقَاطَ حَقِّ الْبَائِعِ مِنْ الْفَسْخِ، وَإِلْزَامَ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَقَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَالشَّفِيعُ يَمْلِكُ أَخْذَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ قَبْلَ لُزُومِهِ أَوْلَى، وَعَامَّةُ مَا يُقَدَّرُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَبِيعٌ فِيهِ الْخِيَارُ، فَلَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُلْزِمُ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَيُوجِبُ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ، وَيُفَوِّتُ حَقَّهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِ الثَّمَنِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَإِنَّنَا إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ الشُّفْعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ خِيَارِ الْبَائِعِ، وَتَفْوِيتِ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِمَا، وَهُمَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ عَلَى السَّوَاءِ. وَفَارَقَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِاسْتِدْرَاكِ الظَّلَّامَةِ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ، فَإِنْ بَاعَ الشَّفِيعُ حِصَّتَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، عَالِمًا بِبَيْعِ الْأَوَّلِ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ، وَثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ فِيمَا بَاعَهُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ، أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ، بِنَاءً عَلَى الْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِمَنْ هُوَ مِنْهُمَا. وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ قَبْلَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ. وَيَتَوَجَّهُ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي الْخَطَّابِ أَنْ لَا تَسْقُطَ شُفْعَتُهُ، فَيَكُونُ لَهُ عَلَى هَذَا أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ الَّذِي بَاعَهُ الشَّفِيعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لِلشَّفِيعِ حِينَ بَيْعِهِ. [فَصْلٌ بَيْعُ الْمَرِيضِ كَبَيْعِ الصَّحِيحِ فِي الصِّحَّةِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ] (4018) فَصْلٌ: وَبَيْعُ الْمَرِيضِ كَبَيْعِ الصَّحِيحِ، فِي الصِّحَّةِ، وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، إذَا بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ كَانَ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِوَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَالصَّبِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِي التَّبَرُّعِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ فِيمَا سِوَاهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى التَّبَرُّعِ بِالثُّلُثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِهِ، وَالْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي مَالِهِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي ذِمَّتِهِ. فَأَمَّا بَيْعُهُ بِالْمُحَابَاةِ، فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لِوَارِثٍ، بَطَلَتْ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ لَا تَجُوزُ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ مِنْ الْمَبِيعِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَلَ الثَّمَنَ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي بَعْضِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةٍ. فَقَالَ: قَبِلْت الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ. أَوْ قَالَ: قَبِلْته بِخَمْسَةٍ. أَوْ قَالَ: قَبِلْت نِصْفَهُ بِخَمْسَةٍ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَوَاجَبَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 الثَّانِي، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَيَصِحُّ فِيمَا يُقَابِلُ الثَّمَنَ الْمُسَمَّى، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ الْمُحَابَاةِ، فَاخْتَصَّ بِمَا قَابِلَهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْجَمِيعِ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَتَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَهُ، فَإِنْ أَجَازُوا الْمُحَابَاةَ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ رَدُّوا، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ، وَصَحَّ فِيمَا بَقِيَ. وَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ قَبْلَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَوْ رَدِّهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَبِيعِ، فَلَمْ يَمْلِكْ إبْطَالَهُ، وَلَهُ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَاخْتَارَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، قُدِّمَ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَجْرِي مَجْرَى الْمَعِيبِ إذَا رَضِيَهُ الشَّفِيعُ بِعَيْبِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا، وَالشَّفِيعُ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حَصَلَ بِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا كَوْنُ الْمَبِيعِ مُسْتَرْخِصًا، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ أَصْلِ الْمُحَابَاةِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ. وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ وَارِثًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ وَقَعَتْ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا تَمَكُّنُ الْوَارِثِ مِنْ أَخْذِهَا، كَمَا لَوْ وَهَبَ غَرِيمَ وَارِثِهِ مَالًا، فَأَخَذَهُ الْوَارِثُ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَثْبَتْنَاهَا جَعَلْنَا لِلْمَوْرُوثِ سَبِيلًا إلَى إثْبَاتِ حَقٍّ لِوَارِثِهِ فِي الْمُحَابَاةِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ لِغَرِيمِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ الْأَخْذَ بِدَيْنِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْهِبَةِ، وَهَذَا اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ مِنْ مَوْرُوثِهِ، فَافْتَرَقَا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَالثَّالِثُ، أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى إيصَالِ الْمُحَابَاةِ إلَى الْوَارِثِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ لِلْبَيْعِ. وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِبُطْلَانِ فَرْعٍ لَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، مَا حَصَلَتْ لِلْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ، إنَّمَا حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ، وَوَصَلَتْ إلَيْهِ بِجِهَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ هِبَةَ غَرِيمِ الْوَارِثِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ، أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرٍ مَا عَدَا الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ، بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْمُقَابِلِ لِلْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالنِّصْفِ مَثَلًا هِبَةٌ لِلنِّصْفِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ النِّصْفِ، مَا كَانَ لِلشَّفِيعِ الْأَجْنَبِيِّ أَخْذُ الْكُلِّ، لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 الْخَامِسُ، أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ لِأَجْنَبِيٍّ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ، فَلَا تَبْطُلُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الشِّقْصُ مَشْفُوعًا. [فَصْلٌ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِأَخْذِهِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِهِ] (4019) فَصْلٌ: وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِأَخْذِهِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: قَدْ أَخَذْته بِالثَّمَنِ. أَوْ تَمَلَّكْتُهُ بِالثَّمَنِ. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ وَالشِّقْصُ مَعْلُومَيْنِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يَمْلِكُهُ بِالْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ سَبَبٌ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، كَانَ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبُولُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْصُلُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ عَنْ مَالِكِهِ إلَى غَيْرِهِ قَهْرًا فَافْتَقَرَ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، كَأَخْذِ دَيْنِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حَاكِمٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَبِأَخْذِ الزَّوْجِ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَمَلَّكُهُ قَهْرًا، فَمَلَكَهُ بِالْأَخْذِ، كَالْغَنَائِمِ وَالْمُبَاحَاتِ، وَمَلَكَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَقِلُّ بِهِ، فَانْتَقَلَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: يَمْلِكُ بِالْمُطَالَبَةِ بِمُجَرَّدِهَا. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ بِهَا لَمَا سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ بِالْعَفْوِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَلَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ شَفِيعَانِ. فَطَلَبَا الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَرَكَ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ أَخْذُ قَدْرِ نَصِيبِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَخْذَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: قَدْ أَخَذْت الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَهُوَ عَالِمٌ بِقَدْرِهِ، وَبِالْمَبِيعِ، صَحَّ الْأَخْذُ، وَمَلْكُ الشِّقْصَ، وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ يُؤْخَذُ قَهْرًا، وَالْمَقْهُورُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَالْآخِذُ قَهْرًا، لَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا كَمُسْتَرْجِعِ الْمَبِيعِ لِعَيْبِ فِي ثَمَنِهِ، أَوْ الثَّمَنِ لِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعَ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا أَوْ الشِّقْصُ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِالْعِوَضَيْنِ، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ. وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ يَتَعَرَّفُ مِقْدَارَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمَبِيعَ، فَيَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الْأَخْذَ مَعَ جَهَالَةِ الشِّقْصِ، بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ. [فَصْلٌ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَ الشِّقْصِ وَكَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي] (4020) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَ الشِّقْصِ، وَكَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، أَخَذَهُ مِنْهُ وَكَانَ كَأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي. هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَيَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ، وَيُجْبِرُ الْحَاكِمُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَبْضِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَشْتَرِي الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَإِذَا فَاتَ الْقَبْضُ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَسَقَطَتْ الشُّفْعَةُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الْبَيْع فَهَلْ لِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ] (4021) فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيِّ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِهَا. وَنَصَرَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي " مَسَائِلِهِ ". وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ لِلْبَيْعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَثْبُتُ فَرْعُهُ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا أَنْكَرَ الْبَيْعَ لَمْ يُمْكِنْ الْأَخْذُ مِنْهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْبَائِعَ أَقَرَّ بِحَقَّيْنِ؛ حَقٍّ لِلشَّفِيعِ، وَحَقٍّ لِلْمُشْتَرِي، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِإِنْكَارِهِ، ثَبَتَ حَقُّ الشَّفِيعِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِرَجُلَيْنِ، فَأَنْكَرَ أَحَدُهُمَا، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ لِلشَّفِيعِ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِأَخْذِ هَذِهِ الدَّارِ، وَالشَّفِيعَ يَدَّعِي ذَلِكَ، فَوَجَبَ قَبُولَهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهَا مِلْكُهُ. فَعَلَى هَذَا يَقْبِضُ الشَّفِيعُ مِنْ الْبَائِعِ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ دَرْكُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الشِّرَاءُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي. وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ وَلَا لِلْبَائِعِ مُحَاكَمَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِيَثْبُتَ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ، وَتَكُونَ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ الثَّمَنُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الشَّفِيعِ، وَمَقْصُودَ الشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ وَضَمَانُ الْعُهْدَةِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الْبَائِعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمُحَاكَمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا، فَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك الدَّيْنَ الَّذِي تَدَّعِيهِ، وَلَا تُخَاصِمْهُ. لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، فَهَلْ لَا قُلْتُمْ هَاهُنَا كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: فِي الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِنَّةٌ فِي قَبُولِهِ مِنْ غَيْرِ غَرِيمِهِ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي عِوَضًا عَنْ هَذَا الْمَبِيعِ، فَصَارَ كَالنَّائِبِ عَنْ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الثَّمَنِ، وَالْبَائِعُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فِي دَفْعِ الشِّقْصِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مُقِرًّا بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، بَقِيَ الثَّمَنُ الَّذِي عَلَى الشَّفِيعِ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ: هُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: لَا أَسْتَحِقُّهُ. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُقَالَ لِلْمُشْتَرِي: إمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْهُ. وَالثَّانِي، يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ عِنْدَهُ. وَالثَّالِثُ، يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ. وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَتَى ادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي، دُفِعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَأَحَدِهِمَا. وَإِنْ تَدَاعَيَاهُ جَمِيعًا، فَأَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَنْكَرَ الْقَبْضَ، لَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا لِهَذَا الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الشَّفِيعِ ثَمَنًا، إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَدَّعِيهِ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ، فَوَجَبَ دَفْعُهُ إلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 [مَسْأَلَة لَمْ يُطَالِبْ بِالشُّفْعَةِ فِي وَقْتِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ] (4022) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ بِالشُّفْعَةِ فِي وَقْتِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ) الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ، إنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: الشُّفْعَةُ بِالْمُوَاثَبَةِ سَاعَةَ يَعْلَمُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالْبَتِّيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قُولِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى التَّرَاخِي لَا تَسْقُطُ، مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى، مِنْ عَفْوٍ، أَوْ مُطَالَبَةٍ بِقِسْمَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: تَنْقَطِعُ بِمُضِيِّ سَنَةٍ. وَعَنْهُ: بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ تَارِكٌ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا ضَرَرَ فِي تَرَاخِيهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّأْخِيرِ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ. وَبَيَانُ عَدَمِ الضَّرَرِ أَنَّ النَّفْعَ لِلْمُشْتَرِي بِاسْتِغْلَالِ الْمَبِيعِ وَإِنْ أَحْدَثَ فِيهِ عِمَارَةً، مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَلَهُ قِيمَتُهُ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، أَنَّ الْخِيَارَ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ حُدَّ بِهَا خِيَارُ الشَّرْطِ، فَصَلَحَتْ حَدًّا لِهَذَا الْخِيَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» . وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ: «الشُّفْعَةُ كَنَشِطَةِ الْعِقَالِ، إنْ قُيِّدَتْ ثَبَتَتْ، وَإِنْ تُرِكَتْ فَاللَّوْمُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ قَالَ: الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» . رَوَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّ إثْبَاتَهُ عَلَى التَّرَاخِي يَضُرُّ الْمُشْتَرِيَ لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَى الْمَبِيعِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِعِمَارَةٍ خَشْيَةَ أَخْذِهِ مِنْهُ، وَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ خَسَارَتَهَا فِي الْغَالِبِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا، مَعَ تَعَبِ قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فِيهَا. وَالتَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَتَقَدَّرُ الْخِيَارُ بِالْمَجْلِسِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَمَتَى طَالَبَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ، ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ وَإِنْ طَالَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ حَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لِمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ، كَالْقَبْضِ حَالَةَ الْعَقْدِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِالْمَجْلِسِ، بَلْ مَتَى بَادَرَ فَطَالَبَ عَقِيبَ عِلْمِهِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. فَعَلَى هَذَا مَتَى أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ عَنْ وَقْتِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ، مِثْلِ أَنْ يَعْلَمَ لَيْلًا فَيُؤَخِّرَهُ إلَى الصُّبْحِ، أَوْ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، أَوْ لِطَهَارَةٍ أَوْ إغْلَاقِ بَابٍ، أَوْ لِيَخْرُجَ مِنْ الْحَمَّامِ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 فَوْتَهَا، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ عَلَى غَيْرِهَا، فَلَا يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهَا رِضًى بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ، فَإِنَّ شُفْعَتَهُ تَبْطُلُ بِتَرْكِهِ الْمُطَالَبَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا، وَلَا تَشْغَلُهُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ. فَأَمَّا مَعَ غَيْبَتِهِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْخِيرُهَا، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي مَشْيِهِ، أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَمَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَوَائِجِهِ، مَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ إلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا لَقِيَهُ بَدَأَهُ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السُّنَّةُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَلَا تُجِيبُوهُ» . ثُمَّ يُطَالِبُ. وَإِنْ قَالَ بَعْدَ السَّلَامِ: بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي صَفْقَةِ يَمِينِك. أَوْ دَعَا لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَّصِلُ بِالسَّلَامِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي الصَّفْقَةِ دُعَاءٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ يَرْجِعُ إلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِضًى. وَإِنْ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ، أَوْ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِمَا قَدَّمْنَا. [فَصْلٌ أَخْبَرَهُ بِالْبَيْعِ مُخْبِرٌ فَصَدَّقَهُ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالشُّفْعَةِ] فَصْلٌ: فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِالْبَيْعِ مُخْبِرٌ، فَصَدَّقَهُ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ مِمَّنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَوْ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَحْصُلُ بِخَبَرِ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، لِقَرَائِنَ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُصَدِّقْهُ. وَكَانَ الْمُخْبِرُ مِمَّنْ يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ، كَرَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا حُجَّةٌ تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، كَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يُعْمَلُ بِهِ فِي الشَّرْعِ، فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَشِبْهِهِ، فَسَقَطَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ، كَخَبَرِ الْعَدْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَبَرٌ لَا يُقْبَلُ فِي الشَّرْعِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ عَدْلٌ، أَوْ مَسْتُورُ الْحَالِ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَبَرٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ، فَقُبِلَ مِنْ الْعَدْلِ، كَالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا وَسَائِرِ الْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ. وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ يُحْتَاطُ لَهَا بِاللَّفْظِ، وَالْمَجْلِسِ، وَحُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْكَارِهِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُعَارِضُهَا إنْكَارُ الْمُنْكِرِ، وَتُوجِبُ الْحَقَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ هَذَا الْخَبَرِ. وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ، وَالْعَبْدُ كَالْحُرِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُمَا كَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، كَالرِّوَايَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 وَالْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ. وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَهَذَا مِمَّا عَدَاهَا، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ. [فَصْلٌ أَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ أَكْثَرُ مِمَّا وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ فَتَرَكَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ] (4024) فَصْلٌ: إذَا أَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ أَكْثَرُ مِمَّا وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ، فَتَرَكَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، لَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةَ بِذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَمَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ: مَا سَلَّمْت الشُّفْعَةَ إلَّا لِمَكَانِ الثَّمَنِ الْكَثِيرِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وَرَضِيَ. وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَهَا لِلْعُذْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْضَاهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ، وَيَرْضَاهُ بِالْقَلِيلِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْكَثِيرُ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ أَنَّ الْمَبِيعَ سِهَامٌ قَلِيلَةٌ، فَبَانَتْ كَثِيرَةً، أَوْ أَظْهَرَ أَنَّهُمَا تَبَايَعَا بِدَنَانِيرَ، فَبَانَ أَنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فَبَانَتْ دَنَانِيرُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً، سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، فَأَشْبَهَا الثِّيَابَ وَالْحَيَوَانَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ بِالنَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ، فَيَتْرُكُهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَقْدٍ، فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ، أَوْ بِعَرْضٍ فَبَانَ أَنَّهُ بِنَقْدٍ، أَوْ بِنَوْعٍ مِنْ الْعَرْضِ فَبَانَ أَنَّهُ بِغَيْرِهِ، أَوْ اشْتَرَاهُ مُشْتَرٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ، أَوْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لَإِنْسَانٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى شَرِكَةَ إنْسَانٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ يُحَابِي إنْسَانًا أَوْ يَخَافُهُ، فَيَتْرُكُ لِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْكُلَّ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِنِصْفِهِ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهُ بِضِعْفِهِ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى الشِّقْصَ وَحْدَهُ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ هُوَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَحْدَهُ، لَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِيمَا أَبْطَنَهُ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ، فَيَتْرُكُ لِذَلِكَ، فَلَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ كَمَا لَوْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَقَلُّ مِنْهُ. فَأَمَّا إنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى الْكُلَّ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهِ بَعْضَهُ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِيمَا أَبْطَنَهُ أَكْثَرُ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ مَعَ قِلَّةِ ضَرَرِهِ، فَبِالْكَثِيرِ أَوْلَى. [فَصْلٌ لَقِيَهُ الشَّفِيعُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَلَمْ يُطَالِبْهُ] (4025) فَصْلٌ: وَإِنْ لَقِيَهُ الشَّفِيعُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَلَمْ يُطَالِبْهُ، وَقَالَ: إنَّمَا تَرَكْت الْمُطَالَبَةَ لِأُطَالِبَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْعُ، أَوْ الْمَبِيعُ، أَوْ لِآخُذَ الشِّقْصَ فِي مَوْضِعِ الشُّفْعَةِ. سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ فَإِنَّهَا لَا تَقِفُ عَلَى تَسْلِيمِ الشِّقْصِ، وَلَا عَلَى حُضُورِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: نَسِيت، فَلَمْ أَذْكُرْ الْمُطَالَبَةَ. أَوْ نَسِيت الْبَيْعَ. سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا خِيَارٌ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ نِسْيَانًا بَطَلَ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَكَمَا لَوْ أَمْكَنَتْ الْمُعْتَقَةُ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا نِسْيَانًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ الْمُطَالَبَةُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا لِعُذْرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا. وَإِنْ تَرَكَهَا جَهْلًا بِاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا، بَطَلَتْ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 [فَصْلٌ قَالَ الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي بِعْنِي مَا اشْتَرَيْت أَوْ قَاسِمْنِي] (4026) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْنِي مَا اشْتَرَيْت. أَوْ قَاسِمْنِي. بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِشِرَائِهِ وَتَرْكِهِ لِلشُّفْعَةِ. وَإِنْ قَالَ: صَالِحْنِي عَلَى مَالٍ. سَقَطَتْ. أَيْضًا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا، وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ الْمُعَاوَضَةُ، فَبَقِيَتْ الشُّفْعَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ رَضِيَ بِتَرْكِهَا، وَطَلَبَ عِوَضَهَا، فَثَبَتَ التَّرْكُ الْمَرْضِيُّ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ. كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي. فَلَمْ يَبِعْهُ. وَلِأَنَّ تَرْكَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا كَافٍ فِي سُقُوطِهَا، فَمَعَ طَلَبِ عِوَضِهَا أَوْلَى. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. فَإِنْ صَالَحَهُ عَنْهَا بِعِوَضٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إزَالَةِ مِلْكٍ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَتَمْلِيكِ امْرَأَةٍ أَمْرَهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ خِيَارٌ لَا يَسْقُطُ إلَى مَالٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ. وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الْخُلْعُ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ عَمَّا مَلَكَهُ بِعِوَضٍ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ قَالَ الشَّفِيع آخُذُ نِصْفَ الشِّقْصِ] (4027) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: آخُذُ نِصْفَ الشِّقْصِ. سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ طَلَبَهُ بِبَعْضِهَا طَلَبٌ بِجَمِيعِهَا، لِكَوْنِهَا لَا تَتَبَعَّضُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ بَعْضِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَارِكٌ لِطَلَبِ بَعْضِهَا، فَيَسْقُطُ، وَيَسْقُطُ بَاقِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ. وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ؛ فَإِنَّ طَلَبَ بَعْضِهَا لَيْسَ بِطَلَبٍ لِجَمِيعِهَا، وَمَا لَا يَتَبَعَّضُ لَا يَثْبُتُ حَتَّى يَثْبُتَ السَّبَبُ فِي جَمِيعِهِ، كَالنِّكَاحِ. وَيُخَالِفُ السُّقُوطَ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ يَسْقُطُ بِوُجُودِ السَّبَبِ فِي بَعْضِهِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. [فَصْلٌ أَخَذَ الشَّفِيع الشِّقْصَ بِثَمَنِ مَغْصُوبٍ] (4028) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَ الشِّقْصَ بِثَمَنٍ مَغْصُوبٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ اسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا عَيَّنَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ، سَقَطَ التَّعْيِينُ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَّرَ الثَّمَنَ، أَوْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا آخَرَ، وَنَقَدَ فِيهِ ثَمَنًا مَغْصُوبًا. وَالثَّانِي، تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ لِلشِّقْصِ بِمَا لَا يَصِحُّ أَخْذُهُ بِهِ تَرْكٌ لَهُ، وَإِعْرَاضٌ عَنْهُ، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ بِهَا. [فَصْلٌ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ فَبَاعَ نَصِيبَهُ عَالِمًا بِذَلِكَ] (4029) فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ، فَبَاعَ نَصِيبَهُ عَالِمًا بِذَلِكَ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لَهُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالشَّرِكَةِ عَنْهُ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ. وَإِنْ بَاعَ بَعْضَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 أَحَدُهُمَا، تَسْقُطُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ بِجَمِيعِهِ، فَإِذَا بَاعَ بَعْضَهُ سَقَطَ مَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، فَيَسْقُطُ بَاقِيهَا، لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، فَيَسْقُطُ جَمِيعُهَا بِسُقُوطِ بَعْضِهَا، كَالنِّكَاحِ وَالرِّقِّ، وَكَمَا لَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهَا. وَالثَّانِي، لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ نَصِيبِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ لَوْ انْفَرَدَ، فَكَذَلِكَ إذَا بَقِيَ. وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ الشُّفْعَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ إذَا قُلْنَا بِسُقُوطِ شُفْعَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمَبِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ شُفْعَةُ الْبَائِعِ. فَلَهُ أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ. وَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ شُفْعَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ، فَإِنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَيَسْتَحِقُّ نَمَاءَهُ وَفَوَائِدَهُ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِهِ مِنْ فَوَائِدِهِ. وَالثَّانِي، لَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يُوجَدُ بِهَا، فَلَا تُؤْخَذُ الشُّفْعَةُ بِهِ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَزَلْزِلٌ ضَعِيفٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهِ لِضَعْفِهِ. وَالْأَوَّلُ أَقَيْسُ؛ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ أَخْذِهِ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ، كَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالشِّقْصِ الْمَوْهُوبِ لِلْوَلَدِ. فَعَلَى هَذَا لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الشُّفْعَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي، سَوَاءٌ أَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، وَلِلْبَائِعِ الثَّانِي إذَا بَاعَ بَعْضَ الشِّقْصِ الْأَخْذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إنْ بَاعَ الشَّفِيعُ مِلْكَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ زَالَ السَّبَبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ، وَهُوَ الْمِلْكُ الَّذِي يَخَافُ الضَّرَرَ بِسَبَبِهِ، فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى مَعِيبًا، فَلَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ حَتَّى زَالَ أَوْ حَتَّى بَاعَهُ. فَعَلَى هَذَا، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ بَاعَ مَعَ عِلْمِهِ، سَوَاءٌ فِيمَا إذَا بَاعَ جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رِضًى بِتَرْكِهَا، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِهَا، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا فَتَبْقَى. وَفَارَقَ مَا إذَا عَلِمَ، فَإِنَّ بَيْعَهُ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِتَرْكِهَا، فَعَلَى هَذَا، لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ، فَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ، فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الْأَخْذُ مِنْ الثَّانِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة كَانَ الشَّفِيع غَائِبًا وَعَلِمَ بِالْبَيْعِ فِي وَقْتِ قُدُومِهِ] (4030) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ كَانَ غَائِبًا، وَعَلِمَ بِالْبَيْعِ فِي وَقْتِ قُدُومِهِ، فَلَهُ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَائِبَ لَهُ شُفْعَةٌ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ: لَيْسَ لِلْغَائِبِ شُفْعَةٌ وَبِهِ قَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، إلَّا لِلْغَائِبِ الْقَرِيبِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الشُّفْعَةِ لَهُ يَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي، وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ، خَوْفًا مِنْ أَخْذِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ كَثُبُوتِهِ لِلْحَاضِرِ عَلَى التَّرَاخِي. وَلَنَا، عُمُومُ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» . وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ وُجِدَ سَبَبُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ، كَالْإِرْثِ، وَلِأَنَّهُ شَرِيكٌ لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ عِلْمِهِ، كَالْحَاضِرِ إذَا كُتِمَ عَنْهُ الْبَيْعُ، وَالْغَائِبِ غَيْبَةً قَرِيبَةً، وَضَرَرُ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ بِإِيجَابِ الْقِيمَةِ لَهُ، كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِهِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ، فَتَرَاخِي الزَّمَانِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُسْقِطُهُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَمَتَى عَلِمَ فَحُكْمُهُ فِي الْمُطَالَبَةِ حُكْمُ الْحَاضِرِ، فِي أَنَّهُ إنْ طَالَبَ عَلَى الْفَوْرِ اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَحُكْمُ الْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ وَسَائِرِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْبَيْعَ لِعُذْرٍ حُكْمُ الْغَائِبِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ الشَّفِيع عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى مُطَالَبَتِهِ بِالشُّفْعَةِ] (4031) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ عَلِمَ وَهُوَ فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ الْغَائِبُ بِالْبَيْعِ، وَقَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ وَعَلَى الْمُطَالَبَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، أَنَّ شُفْعَتَهُ تَسْقُطُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ، أَوْ سَارَ عَقِيبَ الْعِلْمِ أَوْ أَقَامَ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي الْغَائِبِ: لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا بَلَغَهُ أَشْهَدَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ. وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عُذْرُهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَ الشُّفْعَةَ لِذَلِكَ. فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الطَّلَبَ لِلْعُذْرِ، وَقَدْ يَتْرُكُهُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ يَسِيرُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ، وَقَدْ يَسِيرُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَدَرَ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ، كَتَارِكِ الطَّلَبِ مَعَ حُضُورِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ سَارَ عَقِيبَ عِلْمِهِ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا تَبْطُلَ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ سَيْرِهِ أَنَّهُ لِلطَّلَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِي. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ مِنْ الْأَجَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ قَدْرُ السَّيْرِ، فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ أَوْ يَطْلُبَ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: لَهُ مَسَافَةُ الطَّرِيقِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ فِي تَرْكِ الطَّلَبِ ظَاهِرٌ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إلَى الشَّهَادَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْإِشْهَادِ فِي سَفَرِهِ، أَنَّ شُفْعَتَهُ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ لِعُذْرٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 أَوْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ فَأَخَّرَهُ، كَانَ كَتَأْخِيرِ الطَّلَبِ لِلشُّفْعَةِ، إنْ كَانَ لِعُذْرٍ لَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّلَبِ، وَنَائِبٌ عَنْهُ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مَا يُعْتَبَرُ لِلطَّلَبِ. وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى إشْهَادِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَاسِقِ، فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ إشْهَادُهُمْ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُشْهِدُهُ إلَّا مَنْ لَا يَقْدَمُ مَعَهُ إلَى مَوْضِعِ الْمُطَالَبَةِ، فَلَمْ يُشْهِدْ، فَالْأَوْلَى أَنَّ شُفْعَتَهُ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ إشْهَادَهُ لَا يُفِيدُ، فَأَشْبَهَ إشْهَادَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَسْتُورَيْ الْحَالِ، فَلَمْ يُشْهِدْهُمَا، احْتَمَلَ أَنْ تَبْطُلَ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالتَّزْكِيَةِ، فَأَشْبَهَا الْعَدْلَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ شَهَادَتِهِمَا إلَى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا تَقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ أَشْهَدَهُمَا لَمْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، سَوَاءٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا أَوْ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ الْإِشْهَادِ. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى إشْهَادِ وَاحِدٍ، فَأَشْهَدَهُ، أَوْ تَرَكَ إشْهَادَهُ. [فَصْلٌ أَشْهَد الشَّفِيع عَلَى الْمُطَالَبَةِ ثُمَّ أَخَّرَ الْقُدُومَ مَعَ إمْكَانِهِ] فَصْلٌ: إذَا أَشْهَدَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْقُدُومَ مَعَ إمْكَانِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الشُّفْعَةَ بِحَالِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَسِيرِ، وَقَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي طَلَبِهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلطَّلَبِ بِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَسَقَطَتْ، كَالْحَاضِرِ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يُشْهِدْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ لَهُمْ فِيمَا إذَا قَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا بِأَنْ يُطَالِبَ لِنَفْسِهِ، لِكَوْنِهِ أَقُومَ بِذَلِكَ أَوْ يَخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَةِ وَكِيلِهِ، بِأَنْ يُقِرَّ عَلَيْهِ بِرِشْوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ، فَكَانَ مَعْذُورًا. وَلَنَا، أَنَّ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ ضَرَرًا، لِالْتِزَامِهِ كُلْفَتَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَوَائِجُ وَتِجَارَةٌ يَنْقَطِعُ عَنْهَا، وَتَضِيعُ بِغَيْبَتِهِ، وَالتَّوْكِيلُ إنْ كَانَ بِجَعْلٍ لَزِمَهُ غُرْمٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جَعْلٍ لَزِمَتْهُ مِنَّةٌ. وَيَخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَتِهِ، فَاكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ. فَأَمَّا إنْ تَرَكَ السَّفَرَ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ، أَوْ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِيهِ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، فَأَشْبَهَ مِنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِشْهَادِ، وَأَمْكَنَهُ السَّفَرُ أَوْ التَّوْكِيلُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلطَّلَبِ بِهَا مَعَ إمْكَانِهِ، مِنْ غَيْرِ وُجُودِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّلَبِ، فَسَقَطَتْ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا. [فَصْلٌ كَانَ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ بِالشُّفْعَةِ] (4033) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، كَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ، وَالْأَلَمِ الْقَلِيلِ، فَهُوَ كَالصَّحِيحِ. وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، كَالْحُمَّى وَأَشْبَاهِهَا، فَهُوَ كَالْغَائِبِ فِي الْإِشْهَادِ وَالتَّوْكِيلِ. وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا ظُلْمًا أَوْ بِدَيْنٍ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْمُطْلَقِ، إنْ لَمْ يُبَادِرْ إلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ يُوَكِّلْ فِيهَا، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَة لَمْ يَعْلَم الشَّفِيع بِالْبَيْعِ حَتَّى تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ] (4034) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَإِنْ طَالَبَ الْأَوَّلَ، رَجَعَ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، أَوْ قَبْلَ عِلْمِهِ، فَتَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَصَحَّ قَبْضُهُ لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ مَعِيبًا، لَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ فِي الْآخَرِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْهِبَةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ مِمَّنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَمَتَى تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا صَحِيحًا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ، مِثْلُ أَنْ بَاعَهُ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لَهُ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى تَصَرُّفَهُ وَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ شَفِيعٌ فِي الْعَقْدَيْنِ، فَكَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَإِنْ تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدَانِ الْأَخِيرَانِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّانِي، وَيَنْفَسِخُ الثَّالِثُ وَحْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّالِثِ، وَلَا يَنْفَسِخُ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ الثَّالِثِ، دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ الثَّانِي الثَّمَنَ دَفَعَ إلَيْهِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَرَجَعَ الثَّالِثُ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْفَسَخَ عَقْدُهُ، وَأُخِذَ الشِّقْصُ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، دَفَعَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَانْفَسَخَ عَقْدُ الْآخَرَيْنِ، وَرَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي بِمَا أَعْطَاهُ، وَرَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا أَعْطَاهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الثَّانِي بِعِشْرِينَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الثَّالِثُ بِثَلَاثِينَ، فَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةً، وَأَخَذَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ عِشْرِينَ، وَأَخَذَ الثَّالِثُ مِنْ الثَّانِي ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الثَّالِثِ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَقَدْ انْفَسَخَ عَقْدُهُ، فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ الَّذِي وَرِثَهُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِمَّا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةَ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ، فِيمَا ذَكَرْنَا، وَمَا كَانَ مِمَّا لَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ، فَهُوَ كَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 [فَصْلٌ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ بِمَا لَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ] (4035) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ بِمَا لَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ، كَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَجَعْلِهِ مَسْجِدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِلشَّفِيعِ فَسْخُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، وَيَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ فَسْخَ الْبَيْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، مَعَ إمْكَانِ الْأَخْذِ بِهِمَا، فَلَأَنْ يَمْلِكَ فَسْخَ عَقْدٍ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَسْبَقُ، وَجَنْبَتُهُ أَقْوَى، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يُبْطِلُ حَقَّهُ. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَبْطُلَ الْوَقْفُ لِأَجْلِ حَقِّ الْغَيْرِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ الْمَرِيضُ أَمْلَاكَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ، رُدَّ الْوَقْفُ إلَى الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ، بَلْ لَهُمْ إبْطَالُ الْعِتْقِ، فَالْوَقْفُ أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ بِالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمَاسَرْجِسِيِّ فِي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْمَمْلُوكِ، وَقَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: مَنْ اشْتَرَى دَارًا، فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا، فَقَدْ اسْتَهْلَكَهَا، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا. وَلِأَنَّ فِي الشُّفْعَةِ هَاهُنَا إضْرَارًا بِالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ إذَا فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ هَاهُنَا يُوجِبُ رَدَّ الْعِوَضِ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ، وَسَلْبَهُ عَنْ الْمَالِكِ، فَإِذَا قُلْنَا بِسُقُوطِ الشُّفْعَةِ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْنَا بِثُبُوتِهَا، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَيَفْسَخُ عَقْدَهُ، وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِلْكَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّفِيعَ يُبْطِلُ الْهِبَةَ، وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَهَبَ، كَانَ الثَّمَنُ لَهُ، كَذَلِكَ بَعْدَ الْهِبَةِ الْمَفْسُوخَةِ. [فَصْلٌ جَعَلَ الشِّقْص صَدَاقًا أَوْ عِوَضًا فِي خَلَعَ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ] (4036) فَصْلٌ: فَإِنْ جَعَلَهُ صَدَاقًا، أَوْ عِوَضًا فِي خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ: فَإِنْ قَايَلَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ، أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَلِلشَّفِيعِ فَسْخُ الْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ سَابِقٌ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ مَعَهُمَا. وَإِنْ تَحَالَفَا عَلَى الثَّمَنِ، وَفَسَخَا الْبَيْعَ، فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ بِالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَمُقِرٌّ لِلشَّفِيعِ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِذَلِكَ، فَإِذَا بَطَلَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِإِنْكَارِهِ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ بِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ فَسْخَهُمَا وَيَأْخُذَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 [فَصْلٌ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدِ ثُمَّ وَجَدَ بَائِعُ الشِّقْصِ بِالْعَبْدِ عَيْبًا] فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ، ثُمَّ وَجَدَ بَائِعُ الشِّقْصِ بِالْعَبْدِ عَيْبًا، فَلَهُ رَدُّ الْعَبْدِ وَاسْتِرْجَاعُ الشِّقْصِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ حَقِّ الشَّفِيعِ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ، بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْفَسْخِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ، وَالشُّفْعَةُ تَثْبُتُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ، فَلَا تَثْبُتُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهَا الضَّرَرُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالشِّقْصِ عَيْبًا فَرَدَّهُ. وَلَنَا، أَنَّ فِي الشُّفْعَةِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَائِعِ، وَحَقُّهُ أَسْبَقُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إلَى وُجُودِ الْعَيْبِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ حَالَ الْبَيْعِ، وَالشُّفْعَةُ ثَبَتَتْ بِالْبَيْعِ، فَكَانَ حَقُّ الْبَائِعِ سَابِقًا، وَفِي الشُّفْعَةِ إبْطَالُهُ، فَلَمْ تَثْبُتْ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ الشِّقْصُ مَعِيبًا، فَإِنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ فِي اسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّفِيعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا حَقُّ الْبَائِعُ فِي اسْتِرْجَاعِ الشِّقْصِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الْعَبْدَ الْمَعِيبَ حَتَّى أَخَذَ الشَّفِيعُ، كَانَ لَهُ رَدُّ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَمْلِكْ اسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ إبْطَالَ مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّالِفِ، وَالْمُشْتَرِي قَدْ أَخَذَ مِنْ الشَّفِيعِ قِيمَةَ الْعَبْدِ، فَهَلْ يَتَرَجَّعَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَتَرَاجَعَانِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ صَحِيحًا لَا عَيْبَ فِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ مَلَكَ رَدَّهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ مَعِيبًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَى عَبْدًا مَعِيبًا، فَلَا يَأْخُذُ قِيمَةَ غَيْرِ مَا أَعْطَى. وَالثَّانِي، يَتَرَاجَعَانِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ قِيمَةُ الشِّقْصِ، فَإِذَا قُلْنَا: يَتَرَاجَعَانِ. فَأَيُّهُمَا كَانَ مَا دَفَعَهُ أَكْثَرَ، رَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى صَاحِبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الْعَبْدَ، وَلَكِنْ أَخَذَ أَرْشَهُ، لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ الْعَبْدِ غَيْرَ مَعِيبٍ. وَإِنْ أَدَّى قِيمَتَهُ مَعِيبًا رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، بِمَا أَدَّى مِنْ أَرْشِهِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ أَرْشًا، لَمْ يَرْجِعْ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي، لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَطَّ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ. وَإِنْ عَادَ الشِّقْصُ إلَى الْمُشْتَرِي، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَخْذُهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي زَالَ عَنْهُ، وَانْقَطَعَ حَقُّهُ مِنْهُ، وَانْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، فَأَدَّى قِيمَتَهُ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ. [فَصْلٌ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ] (4038) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، بَطَلَ الْبَيْعُ، وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ، فَتَعَذَّرَ إمْضَاءُ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَثْبُت الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ لِمُشْتَرِي الشِّقْصِ التَّصَرُّفَ فِيهِ قَبْلَ تَقْبِيضِ ثَمَنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ. [فَصْلٌ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدِ أَوْ ثَمَنٍ مُعَيَّنٍ فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا] (4039) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ أَوْ ثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ فِي عَقْدٍ يَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا الْبَاطِلُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ، لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ مِنْ الشَّفِيعِ وَالْمُتَبَايِعِينَ فَإِنْ أَقَرَّ الْمُتَبَايِعَانِ، وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَيُرَدُّ الْعَبْدُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الشِّقْصِ. وَإِنْ أَقَرَّ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، لَمْ تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَبْقَى الشِّقْصُ مَعَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ رَدِّ الْعَبْدِ، وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، فَيَشْتَرِي الشِّقْصَ مِنْهُ، وَيَتَبَارَآنِ. وَإِنْ أَقَرَّ الشَّفِيعُ وَالْبَائِعُ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي، وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْعَبْدِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَدَّى ثَمَنَهُ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَإِنْ أَقَرَّ الشَّفِيعُ وَحْدَهُ، لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْبُطْلَانِ فِي حَقِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ. فَأَمَّا إنَّ اشْتَرَى الشِّقْصَ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ نَفِدَ الثَّمَنُ فَبَانَ مُسْتَحَقًّا، كَانَتْ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِإِعْسَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَيُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهَا يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي مَا يُوفِيه ثَمَنًا، فَتَزُولُ عُسْرَتُهُ، وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَالَ الْبَائِعُ لِلشَّفِيعِ أَقِلْنِي فَأَقَالَهُ] (4040) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا، وَالشِّقْصُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْبَائِعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 لِلشَّفِيعِ: أَقِلْنِي. فَأَقَالَهُ، لَمْ تَصِحَّ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَلَيْسَ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْبَائِعِ بَيْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. [مَسْأَلَة لِلصَّغِيرِ إذَا كَبِرَ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ] (4041) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلِلصَّغِيرِ إذَا كَبِرَ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا بِيعَ فِي شَرِكَةِ الصَّغِيرِ شِقْصٌ، ثَبَتَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوَّارٌ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا شُفْعَةَ لَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ، وَلَا يُمْكِنُ انْتِظَارُهُ حَتَّى يَبْلُغَ. لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ. وَلَنَا، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ جُعِلَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ بِهَا، كَمَا يَرُدُّ الْمَعِيبَ. قَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُهُ الْعَفْوُ. يَبْطُلُ بِالْوَكِيلِ فِيهِ، وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّ وَلِيَّ الصَّبِيِّ لَا يُمْكِنُهُ الْعَفْوُ، وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ. وَلِأَنَّ فِي الْأَخْذِ تَحْصِيلًا لِلْمِلْكِ لِلصَّبِيِّ، وَنَظَرًا لَهُ، وَفِي الْعَفْوِ تَضْيِيعٌ وَتَفْرِيطٌ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ مَا فِيهِ الْحَظُّ مِلْكُ مَا فِيهِ تَضْيِيعٌ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ، وَالْأَخْذَ اسْتِيفَاءٌ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ الْوَلِيِّ اسْتِيفَاءَ حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، مِلْكُ إسْقَاطِهِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ حُقُوقِهِ وَدُيُونِهِ. وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْوَلِيُّ، اُنْتُظِرَ بُلُوغُ الصَّبِيِّ، كَمَا يُنْتَظَرُ قُدُومُ الْغَائِبِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الِانْتِظَارِ، يَبْطُلُ بِالْغَائِبِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ لِلصَّغِيرِ إذَا كَبِرَ الْأَخْذَ بِهَا، سَوَاءٌ عَفَا عَنْهَا الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَعْفُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَظُّ فِي الْأَخْذِ بِهَا، أَوْ فِي تَرْكِهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا بَلَغَ فَاخْتَارَ. وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَزُفَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلشُّفْعَةِ يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ الْحَظُّ فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَرْكِ غَيْرِهِ، كَالْغَائِبِ إذَا تَرَكَ وَكِيلُهُ الْأَخْذَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ تَرَكَهَا الْوَلِيُّ لِحَظِّ الصَّبِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّبِيِّ مَا يَأْخُذُهَا بِهِ، سَقَطَتْ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ، فَلَمْ يَجُزْ لِلصَّبِيِّ نَقْضُهُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّبِيِّ، فَصَحَّ، كَالْأَخْذِ مَعَ الْحَظِّ. وَإِنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ تَسْقُطْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْهَا فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ الْأَخْذَ بِهَا مَلَكَ الْعَفْوَ عَنْهَا، كَالْمَالِكِ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، لَا حَظَّ لَهُ فِي إسْقَاطِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْإِبْرَاءِ، وَإِسْقَاطِ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْوَلِيِّ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ التَّبَرُّعَ وَالْإِبْرَاءَ وَمَا لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْوَلِيِّ. [فَصْلٌ كَانَ لِلصَّبِيِّ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ] (4042) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَلِيُّ، فَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ رَخِيصًا، أَوْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ لِشِرَاءِ الْعَقَارِ، لَزِمَ وَلِيَّهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ لَهُ، وَالْأَخْذَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ، فَإِذَا أَخَذَ بِهَا، ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلصَّبِيِّ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَقْضَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْأَخْذُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْهَا، فَلَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِهَا، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهَا الصَّبِيُّ إذَا كَبِرَ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ جُعِلَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ، فَمَلَكَهُ الْوَلِيُّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ قِيَاسِهِ فِيمَا مَضَى. فَإِنْ تَرَكَهَا الْوَلِيُّ مَعَ الْحَظِّ فَلِلصَّبِيِّ الْأَخْذُ بِهَا إذَا كَبِرَ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ لِذَلِكَ غُرْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ تَحْصِيلَ مَالَهُ الْحَظُّ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ شِرَاءَ الْعَقَارِ لَهُ مَعَ الْحَظِّ فِي شِرَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ غِبْنَ، أَوْ كَانَ فِي الْأَخْذِ بِهَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيَرْهَنَ مَالَ الصَّبِيِّ، فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِعْلَ مَا لَا حَظَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ. فَإِنْ أَخَذَ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تُؤْخَذُ بِحَقِّ الشَّرِكَةِ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْوَلِيِّ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَصِحَّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بَاطِلًا، وَلَا يَصِحُّ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا هَاهُنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَصِحُّ الْأَخْذُ لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وَالْحَظُّ يَخْتَلِفُ وَيَخْفَى، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، لِزِيَادَةِ قِيمَةِ مِلْكِهِ وَالشِّقْصِ الَّذِي يَشْتَرِيه بِزَوَالِ الشَّرِكَةِ، أَوْ لِأَنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِأَخْذِهِ كَثِيرٌ، فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْحَظِّ بِنَفْسِهِ لِخَفَائِهِ، وَلَا بِكَثْرَةِ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ. [فَصْلٌ بَاعَ وَصِيُّ الْأَيْتَامِ فَبَاعَ لِأَحَدِهِمْ نَصِيبًا فِي شَرِكَةِ آخَرِ] (4043) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ وَصِيُّ الْأَيْتَامِ، فَبَاعَ لِأَحَدِهِمْ نَصِيبًا فِي شَرِكَةِ آخَرَ، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ لِلْآخَرِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالشِّرَاءِ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ شَرِيكًا لِمَنْ بَاعَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي بَيْعِهِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ. وَلَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ نَصِيبَهُ، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ لِلْيَتِيمِ بِالشُّفْعَةِ، إذَا كَانَ لَهُ الْحَظُّ فِيهَا؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِهِ، لِكَوْنِ الْمُشْتَرِي لَا يُوَافِقُهُ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَاصِلٌ لَهُ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 الْمُشْتَرِي، كَحُصُولِهِ مِنْ الْيَتِيمِ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مَالَ الْيَتِيمِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَقْلِيلُ الثَّمَنِ لِيَأْخُذَ الشِّقْصَ بِهِ، فَإِذَا رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ، فَبَاعَ عَلَيْهِ، فَلِلْوَصِيِّ الْأَخْذُ حِينَئِذٍ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْوَصِيِّ أَبٌ، فَبَاعَ شِقْصَ الصَّبِيِّ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ مَالَ وَلَدِهِ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ. وَإِنْ بِيعَ شِقْصٌ فِي شَرِكَةِ حَمْلٍ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ الْوَصِيَّةِ. وَإِذَا وُلِدَ الْحَمْلُ ثُمَّ كَبِرَ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، كَالصَّبِيِّ إذَا كَبِرَ. [فَصْلٌ عَفَا وَلِي الصَّبِيِّ عَنْ شُفْعَتِهِ الَّتِي لَهُ فِيهَا حَظٌّ ثُمَّ أَرَادَ الْأَخْذَ بِهَا] (4044) فَصْلٌ: وَإِذَا عَفَا وَلِي الصَّبِيِّ عَنْ شُفْعَتِهِ الَّتِي لَهُ فِيهَا حَظٌّ، ثُمَّ أَرَادَ الْأَخْذَ بِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْقَاطِهِ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ الصَّبِيُّ الْأَخْذَ بِهَا إذَا كَبِرَ، وَلَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ بِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَخْذَ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى التَّرَاخِي، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. وَيُخَالِفُ أَخْذَ الصَّبِيِّ بِهَا إذَا كَبِرَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَجَدَّدُ لَهُ عِنْدَ كِبَرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ تَأْخِيرَهُ حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْغَائِبِ بِهَا إذَا قَدِمَ. فَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ الْحَظِّ فِيهَا، ثُمَّ أَرَادَ الْأَخْذَ بِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ ابْتِدَاءً. وَإِنْ صَارَ فِيهَا حَظٌّ، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ الْبَيْعِ فَأَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِهَا بِذَلِكَ؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ، وَلِلصَّبِيِّ الْأَخْذُ بِهَا إذَا كَبِرَ. فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا فِيهِ الْحَظُّ، وَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ. فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ سَقَطَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَفَا الْكَبِيرُ عَنْ شُفْعَتِهِ. (4045) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْمَجْنُونِ الْمُطْبَقِ كَالْحُكْمِ فِي الصَّبِيِّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّهِ، وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ وَالْمَجْنُونِ يُنْتَظَرُ إفَاقَتُهُ. وَأَمَّا الْمُفْلِسُ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَالْعَفْوُ عَنْهَا، وَلَيْسَ لِغُرَمَائِهِ الْأَخْذُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ فِي أَمْلَاكِهِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا، وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَلَيْسَ لَهُمْ إجْبَارُهُ عَلَى الْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَيْسَ بِمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، لَكِنْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ فِي ثَمَنِهَا؛ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِهِمْ بِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ شِقْصًا غَيْرَ هَذَا. وَمَتَى مَلَكَ الشِّقْصَ الْمَأْخُوذَ بِالشُّفْعَةِ، تَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ بِرِضَاهُمْ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَسَبَهُ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَالتَّرْكُ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ يَقَعُ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ. فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ الْعَبِيدِ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الشِّرَاءِ، وَإِنْ عَفَا عَنْهَا لَمْ يَنْفُذْ عَفْوُهُ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 لِأَنَّ الْمِلْكَ لِسَيِّدِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي إبْطَالِ حُقُوقِهِ. وَإِنْ أَسْقَطَهَا السَّيِّدُ، سَقَطَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ، فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ. [فَصْلٌ بِيعَ شِقْصٌ فِي شَرِكَةِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ] (4046) فَصْلٌ: وَإِذَا بِيعَ شِقْصٌ فِي شَرِكَةِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلِلْعَامِلِ الْأَخْذُ بِهَا إذَا كَانَ الْحَظُّ فِيهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا فَلِرَبِّ الْمَالِ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِلْكُهُ. وَلَا يَنْفُذُ عَفْوُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ عَفْوُهُ، كَالْمَأْذُونِ لَهُ. وَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ شِقْصًا فِي شَرِكَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَهَلْ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ شُفْعَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ شَفِيعَهُ، وَلَا رِبْحَ فِي الْمَالِ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، وَقُلْنَا: لَا يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ. فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ. فَفِيهِ وَجْهَانِ كَرَبِّ الْمَالِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ بَاعَ الْمُضَارِبُ شِقْصًا فِي شَرِكَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فَأَشْبَهَ شِرَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ. [فَصْلٌ لَا شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ الْوَقْفِ] (4047) فَصْلٌ: وَلَا شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ الْوَقْفِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ؛ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَأَبُو يَعْلَى، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ، كَالْمُجَاوِرِ وَغَيْرِ الْمُنْقَسِمِ، وَلِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ. فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَالِكٍ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مَمْلُوكٌ. فَمِلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ، فَلَا يَمْلِكُ بِهِ مِلْكًا تَامًّا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنَّ قُلْنَا: هُوَ مَمْلُوكٌ. وَجَبَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِيعَ فِي شَرِكَتِهِ شِقْصٌ، فَوَجَبَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالطَّلْقِ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالشُّفْعَةِ كَالطَّلْقِ، فَوَجَبَتْ فِيهِ، كَوُجُوبِهَا فِي الطَّلْقِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بَيْعٌ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. [مَسْأَلَة بِنَاءُ الْمُشْتَرِي وَغَرْسُهُ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ] (4048) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ بِنَاءُ الْمُشْتَرِي وَغَرْسُهُ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا، أَنْ يُظْهِرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ وُهِبَ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الشَّفِيعَ مِنْ الْأَخْذِ بِهَا، فَيَتْرُكُهَا وَيُقَاسِمُهُ، ثُمَّ يَبْنِي الْمُشْتَرِي وَيَغْرِسُ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 وَمِنْهَا، أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَيُقَاسِمَهُ وَكِيلُهُ، أَوْ صَغِيرًا فَيُقَاسِمَهُ وَلِيُّهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقْدَمُ الْغَائِبُ، أَوْ يَبْلُغُ الصَّغِيرُ، فَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ صَغِيرًا، فَطَالَبَ الْمُشْتَرِي الْحَاكِمَ بِالْقِسْمَةِ، فَقَاسَمَ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ، وَبَلَغَ الصَّغِيرُ، فَأَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ غَرْسِ الْمُشْتَرِي وَبِنَائِهِ، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي قَلْعَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ، إنْ اخْتَارَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ، وَلَا نَقْصِ الْأَرْضِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ مِنْ النَّقْصِ إنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ تَخْلِيصِ مِلْكِهِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ كَسَرَ مِحْبَرَةَ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ دِينَارِهِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّقْصَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ. لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ بِالْقَلْعِ إنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ. فَأَمَّا نَقْصُ الْأَرْضِ الْحَاصِلُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يَضْمَنُهُ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ. فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ تَرْكِ الشُّفْعَةِ، وَبَيْنَ دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَسَوَّارٌ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُكَلِّفُ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بَنَى فِيمَا اسْتَحَقَّ غَيْرُهُ أَخْذَهُ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ، وَلِأَنَّهُ بَنَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَانَتْ مُسْتَحَقَّةً. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلَا يَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا إلَّا بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي تَمَلَّكَ بَيْعَهُ، فَلَمْ يُكَلَّفْ قَلْعَهُ مَعَ الْإِضْرَارِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْفُوعًا. وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ عِرْقٌ ظَالِمٌ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّهُ غَيْرُ ظَالِمٍ، فَيَكُونُ لَهُ حَقٌّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ قِيمَتِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَلَا قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا لَمَلَكَ قَلْعَهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ إذَا قَلَعَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا كَيْفِيَّةَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ تُقَوَّمُ وَفِيهَا الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ، ثُمَّ تُقَوَّمُ خَالِيَةً مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، فَيَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَحَبَّ، أَوْ مَا نَقَصَ مِنْهُ إنْ اخْتَارَ الْقَلْعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي زَادَ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَوَّمَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ مُسْتَحِقًّا لِلتَّرْكِ بِالْأُجْرَةِ أَوْ لِأَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ إذَا امْتَنَعَا مِنْ قَلْعِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْغَرْسِ وَقْتٌ يُقْلَعُ فِيهِ فَيَكُونُ لَهُ قِيمَةٌ، وَإِنْ قُلِعَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ، أَوْ تَكُونُ قِيمَتُهُ قَلِيلَةً، فَاخْتَارَ الشَّفِيعُ قَلْعَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ فَيَجْبُرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 بِهِ ضَرَرَ الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ كَثُرَ النَّقْصُ أَوْ قَلَّ، وَيَعُودُ ضَرَرُ كَثْرَةِ النَّقْصِ عَلَى الشَّفِيعِ، وَقَدْ رَضِيَ بِاحْتِمَالِهِ. وَإِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى مَعَ الشَّفِيعِ أَوْ وَكِيلِهِ فِي الْمُشَاعِ، ثُمَّ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ، فَالْحُكْمُ فِي أَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي أَخْذِ جَمِيعِهِ بَعْدَ الْمُقَاسَمَةِ. [فَصْلٌ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَة] (4049) فَصْلٌ: وَإِنْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ، فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إلَى أَوَانِ الْحَصَادِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَتَبَاقَى، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ، فَكَانَ لَهُ مُبْقًى إلَى الْحَصَادِ بِلَا أُجْرَةٍ، كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ. وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ، أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إلَى الْجُذَاذِ، كَالزَّرْعِ. [فَصْلٌ نَمَا الشِّقْص الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي الشُّفْعَة] (4050) فَصْلٌ: وَإِذَا نَمَا الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ نَمَاءً مُتَّصِلًا، كَالشَّجَرِ إذَا كَثُرَ، أَوْ ثَمَرَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ بِزِيَادَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ. فَتَبِعَتْ الْأَصْلَ، كَمَا لَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ فِي نِصْفِهِ زَائِدًا إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ بِالْقِيمَةِ، إذَا فَاتَهُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْنِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إذَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الشِّقْصِ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الْأَصْلِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِذَا أَخَذَ الْأَصْلَ تَبِعَهُ نَمَاؤُهُ الْمُتَّصِلُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفُسُوخِ كُلِّهَا. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، كَالْغَلَّةِ، وَالْأُجْرَةِ، وَالطَّلْعِ الْمُؤَبَّرِ، وَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِهِ، وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مُبَقَّاةً فِي رُءُوسِ النَّخْلِ إلَى الْجُذَاذِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءٌ ثَانٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ اشْتَرَى بِرِضَاهُ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَفِيهِ طَلْعٌ غَيْرُ مُؤَبَّرٍ، فَأَبَرَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ، أَخَذَ الْأَصْلَ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِحِصَّتِهِمَا مِنْ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا وَسَيْفًا. [فَصْلٌ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي الشُّفْعَة] (4051) فَصْلٌ: وَإِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ، أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ تَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي، كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، مِثْلُ أَنْ انْهَدَمَ. ثُمَّ إنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 كَانَتْ الْأَنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنْ الْبِنَاءِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، كَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ بِنَفْسِهِ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَرَقٍ، فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُ الْبَاقِي إلَّا بِكُلِّ الثَّمَنِ، أَوْ يَتْرُكُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّقْصُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، رَجَعَ بَدَلُهُ إلَى الْمُشْتَرِي، فَلَا يَتَضَرَّرُ، وَمَتَى كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ الْأَخْذُ مِنْهُ إضْرَارًا بِهِ، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ. وَلَنَا؛ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ، وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ سِوَاهُ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ، أَوْ نَقُولُ: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ. وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّلَفِ، وَلَا صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ، وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ، فَلَا يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: يَأْخُذُ الْأَنْقَاضَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَالَ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ مُتَّصِلًا اتِّصَالًا لَيْسَ مَآلُهُ إلَى الِانْفِصَالِ، وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ. وَيُفَارِقُ الثَّمَرَةَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ إذَا تَأَبَّرَتْ، فَإِنَّ مَآ لَهَا إلَى الِانْفِصَالِ وَالظُّهُورِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ فَقَدْ انْفَصَلَتْ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الشُّفْعَةِ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ، مِثْلُ أَنْ انْشَقَّ الْحَائِطُ، وَاسْتَهْدَمَ الْبِنَاءَ، وَشَعِثَ الشَّجَرُ، وَبَارَتْ الْأَرْضُ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ التَّرْكُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ، وَلَوْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، دَخَلَتْ فِي الشُّفْعَةِ. [مَسْأَلَة كَانَ الشِّرَاءُ وَقَعَ بِعَيْنِ أَوْ وَرِقٍ الْأَرْض فِي الشُّفْعَة] (4052) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ وَقَعَ بِعَيْنٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَرْضًا، أَعْطَاهُ قِيمَتَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هُوَ أَحَقُّ بِالثَّمَنِ» . رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي " كِتَابِهِ ". وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِالْبَيْعِ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِالثَّمَنِ، كَالْمُشْتَرِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ رِضَى مَالِكِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ، كَالْمُضْطَرِّ يَأْخُذُ طَعَامَ غَيْرِهِ. قُلْنَا: الْمُضْطَرُّ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِسَبَبِ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي بَدَلِهِ إلَى قِيمَتِهِ، وَالشَّفِيعُ اسْتَحَقَّهُ لِأَجْلِ الْبَيْعِ، وَلِهَذَا لَوْ انْتَقَلَ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْعِوَضِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّا نَنْظُرُ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشِّقْصَ بِقِيمَةِ الثَّمَنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْي، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَوَّارٍ، أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، وَهَذَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ، فَلَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ جَهِلَ الثَّمَنَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الثَّمَنِ، فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الشُّفْعَةُ فِي الْمَبِيعِ، كَالْمِثْلِيِّ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيمَةِ. كَبَدَلِ الْمُتْلِفِ، فَإِمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَهُوَ كَالْأَثْمَانِ. وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِثْلٌ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ وَالْقِيمَةِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْمُمَاثِلِ فِي إحْدَاهُمَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الثَّمَنِ، فَكَانَ مِثْلَهُ، كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَالْمُتْلَفِ. [فَصْلٌ اسْتِحْقَاق الشَّفِيع الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ] (4053) فَصْلٌ: وَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَلَوْ تَبَايَعَا بِقَدْرٍ، ثُمَّ غَيَّرَاهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ التَّغْيِيرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ حَالَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلِأَنَّ زَمَنَ الْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَالتَّغْيِيرُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا عَلَى اخْتِيَارِهِمَا فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي حَالِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا إذَا انْقَضَى الْخِيَارُ، وَانْبَرَمَ الْعَقْدُ، فَزَادَا أَوْ نَقَصَا، لَمْ يَلْحَقْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهُ هِبَةٌ يُعْتَبَرُ لَهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ، وَالنَّقْصُ إبْرَاءٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ النَّقْصُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَا عِنْدَهُ مُلْحَقَانِ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَضُرُّ الشَّفِيعَ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا، بِخِلَافِ النَّقْصِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ بَقِيَ مَا يَكُونُ ثَمَنًا أَخَذَ بِهِ، وَإِنْ حَطَّ الْأَكْثَرَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، كَالزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّغْيِيرِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ، كَالزِّيَادَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَحِقَ الْعَقْدَ لَزِمَ الشَّفِيعَ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلِأَنَّهُ حَطٌّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ حَطَّ الْجَمِيعِ أَوْ الْأَكْثَرِ عِنْدَ مَالِكٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 [فَصْلٌ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا تَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الشُّفْعَة] (4054) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا تَجِبُ قِيمَتُهُ، فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا اعْتِبَارَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ، اُعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ حِينَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ وَاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْمُحَاكَمَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ وَقْتُ الْعَقْدِ، وَمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَا يَقُومُ لِلْمُشْتَرِي، وَمَا نَقَصَ فَمِنْ مَالِ الْبَائِعِ، فَلَا يَنْقُصُ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي. [فَصْلٌ كَانَ الثَّمَنُ الْمُشْتَرَى بِهِ مُؤَجَّلًا فِي الشُّفْعَة] فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ الْأَجَلِ، إنْ كَانَ مَلِيئًا، وَإِلَّا أَقَامَ ضَمِينًا مَلِيئًا وَأَخَذَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَأْخُذُهَا إلَّا بِالنَّقْدِ حَالًّا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَأْخُذُهَا إلَّا بِثَمَنِ حَالٍ، أَوْ يَنْتَظِرُ مُضِيَّ الْأَجَلِ ثُمَّ يَأْخُذُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ بِالْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِي قَبُولَ ذِمَّةِ الشَّفِيعِ، وَالذِّمَمُ لَا تَتَمَاثَلُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِمِثْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمِثْلِهِ حَالًّا، لِئَلَّا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي، وَلَا بِسِلَعِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ إلَى الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَالسِّلْعَةُ لَيْسَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّفِيعَ تَابِعٌ لِلْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ، وَالتَّأْجِيلُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلِأَنَّ فِي الْحُلُولِ زِيَادَةً عَلَى التَّأْجِيلِ، فَلَمْ يَلْزَمْ الشَّفِيعَ، كَزِيَادَةِ الْقَدْرِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ اخْتِلَافِ الذِّمَمِ، فَإِنَّنَا لَا نُوجِبُهَا حَتَّى تُوجَدَ الْمُلَاءَةُ فِي الشَّفِيعِ، أَوْ فِي ضَمِينِهِ، بِحَيْثُ يَنْحَفِظُ الْمَالُ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الشِّقْصَ بِسِلْعَةٍ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا. وَمَتَى أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالْأَجَلِ، فَمَاتَ الشَّفِيعُ أَوْ الْمُشْتَرِي، وَقُلْنَا: يَحِلُّ الدَّيْنُ بِالْمَوْتِ. حَلَّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُلُولِهِ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَّ بِمَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ. [فَصْلٌ بَاعَ شِقْصًا مَشْفُوعًا وَمَعَهُ مَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ كَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ] (4056) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ شِقْصًا مَشْفُوعًا، وَمَعَهُ مَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ، كَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ دُونَ مَا مَعَهُ، فَيُقَوَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، فَمَا يَخُصُّ الشِّقْصَ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الشُّفْعَةُ، لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ صَفْقَةُ الْمُشْتَرِي، وَفِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَ بَعْضِ الشِّقْصِ. وَقَالَ مَالِكٌ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا؛ لِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ السَّيْفَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَلَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ، فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ، وَمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 يَلْحَقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الضَّرَرِ فَهُوَ أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ، بِجَمْعِهِ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ مَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَثْبُتُ، وَلِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكُلِّ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ غَرَضُهُ فِي إبْقَاءِ السَّيْفِ لَهُ، فَفِي أَخْذِهِ مِنْهُ إضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ. [فَصْلٌ بَاعَ شِقْصَيْنِ مِنْ أَرْضَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً لِرَجُلِ وَاحِدٍ وَالشَّرِيكُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ الشَّرِيكِ فِي الْآخَرِ] (4057) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ شِقْصَيْنِ مِنْ أَرْضَيْنِ، صَفْقَةً وَاحِدَةً، لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالشَّرِيكُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ الشَّرِيكِ فِي الْآخَرِ فَلَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ. وَإِنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، جَازَ، وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ الَّذِي فِي شَرِكَتِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ، كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُمَا مَعًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ، وَلَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ، فَجَرَى مَجْرَى الشِّقْصِ وَالسَّيْفِ. وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ فِيهِمَا وَاحِدًا، فَلَهُ أَخْذُهُمَا وَتَرْكُهُمَا؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِمَا. وَإِنْ أَحَبَّ أَخْذَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكْ ذَلِكَ، وَمَتَى اخْتَارَهُ سَقَطَتْ الشُّفْعَة فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَخْذُ الْمَبِيعِ كُلِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَخْذَ بَعْضِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ شِقْصًا وَاحِدًا. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِسَبَبِ غَيْرِ الْآخَرِ، فَجَرَى مَجْرَى الشَّرِيكَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى مَجْرَى الشِّقْصِ الْوَاحِدِ لَوَجَبَ إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فَتَرَك أَحَدُهُمَا شُفْعَتَهُ أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ أَخْذُ الْكُلِّ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الثَّمَنِ] (4058) فَصْلٌ: وَلَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِهِ بِدُونِ دَفْعِ الثَّمَنِ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ. فَإِنْ أَحْضَرَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا، لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الثَّمَنِ ضَرَرًا، فَلَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَرَادَ تَأْخِيرَ ثَمَنٍ حَالٍ. فَإِنْ بَذَلَ عِوَضًا عَنْ الثَّمَنِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ؛ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا. وَإِذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الشِّقْصِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا سَلَّمَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فِي الْحَالِ، قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُنْظَرُ الشَّفِيعُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، بِقَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُنْظَرُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهَا آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، فَإِنْ أَحْضَرَ الثَّمَنَ، وَإِلَّا فَسَخَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ، وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا بِإِحْضَارِ عِوَضِهِ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَمَلُّكٌ لِلْمَبِيعِ بِعِوَضٍ، فَلَا يَقِفُ عَلَى إحْضَارِ الْعِوَضِ، كَالْبَيْعِ، وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 ، فَالتَّسْلِيمُ فِي الشُّفْعَةِ مِثْلُهُ، وَكَوْنُ الْأَخْذِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الصِّحَّةِ، فَإِذَا أَجَّلْنَاهُ مُدَّةً، فَأَحْضَرَ الثَّمَنَ فِيهَا، وَإِلَّا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْأَخْذَ وَرَدَّهُ إلَى الْمُشْتَرِي. وَهَكَذَا لَوْ هَرَبَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْأَخْذِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الْأَخْذِ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْبَائِعِ الْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ، كَغَيْرِ مَنْ أُخِذَتْ الشُّفْعَةُ مِنْهُ، وَكَمَا لَوْ أَفْلَسَ الشَّفِيعُ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَا يَقِفُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَلَا يَقِفُ فَسْخُ الْأَخْذِ بِهَا عَلَى الْحَاكِمِ، كَفَسْخِ غَيْرِهَا مِنْ الْبُيُوعِ، وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّ وَقْفَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ، وَقَدْ يَصْعُبُ عَلَيْهِ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهَا مَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى الْحَاكِمِ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الثَّمَنِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى هَذَا الضَّرَرِ. وَإِنْ أَفْلَسَ الشَّفِيعُ، خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ، كَالْبَائِعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. [فَصْل الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ] (4059) فَصْلٌ: لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَسْقُطْ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْحِيلَةِ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنْ يَخْدَعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: أَنَّهُمْ لَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ صَبِيًّا، لَوْ كَانُوا يَأْتُونَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، كَانَ أَسْهَلَ عَلَيَّ. وَمَعْنَى الْحِيلَةِ أَنْ يُظْهِرُوا فِي الْبَيْعِ شَيْئًا لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَهُ، وَيَتَوَاطَئُونَ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَقْضِيَهُ عَنْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَقْضِيَهُ عَنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَبِيعَهُ الشِّقْصَ بِالْأَلْفِ، أَوْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ يُبْرِئَهُ الْبَائِعُ مِنْ تِسْعِمِائَةٍ، أَوْ يَشْتَرِيَ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ بِمِائَةٍ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ بَاقِيَهُ، أَوْ يَهَبَ الشِّقْصَ لِلْمُشْتَرِي، وَيَهَبَ الْمُشْتَرِي لَهُ الثَّمَنَ، أَوْ يُعْقَدَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولِ الْمِقْدَارِ، كَحَفْنَةِ قُرَاضَةٍ، أَوْ جَوْهَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ، أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلُؤْلُؤَةٍ، وَأَشْبَاهِ هَذَا. فَهَذَا كُلُّهُ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ تَحَيُّلٍ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ. وَإِنْ تَحَيَّلَا بِهِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، لَمْ تَسْقُطْ، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ. وَفِي الثَّانِيَةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتِهَا ذَهَبًا. وَفِي الثَّالِثَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ. وَفِي الرَّابِعَةِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَهُوَ الْمِائَةُ الْمَقْبُوضَةُ. وَفِي الْخَامِسَةِ يَأْخُذُ الْجُزْءَ الْمَبِيعَ مِنْ الشِّقْصِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 لِأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ بَقِيَّةَ الشِّقْصِ عِوَضًا عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ. وَفِي السَّادِسَةِ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الْمَوْهُوبِ. وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ الْمَجْهُولِ ثَمَنُهَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَيْنُهُ، دَفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ الشِّقْصِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ بِقِيمَتِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ، يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَتَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِمَا وَقَعَ الْبَيْعَ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةٌ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَإِنْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ، فَهُوَ قِمَارٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، فَجَعَلَ إدْخَالَ الْفَرَسِ الْمُحَلَّلِ قِمَارًا، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ إبَاحَةَ إخْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ جَعْلًا، مَعَ عَدَمِ مَعْنَى الْمُحَلَّلِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ سَبَقَيْهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ كُلِّ حِيلَةٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا إلَّا إبَاحَةَ الْمُحَرَّمِ. مَعَ عَدَمِ الْمَعْنَى فِيهَا. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ.» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُخَادِعِينَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] . وَالْحِيلَةُ مُخَادَعَةٌ، وَقَدْ مَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ قِرَدَةً بِحِيلَتِهِمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْصِبُونَ شِبَاكَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَحْفِرُ جِبَابًا، وَيُرْسِلُ الْمَاءَ إلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَتْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَعَتْ فِي الشِّبَاكِ وَالْجِبَابِ، فَيَدَعُونَهَا إلَى لَيْلَةِ الْأَحَدِ، فَيَأْخُذُونَهَا، وَيَقُولُونَ: مَا اصْطَدْنَا يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِحِيَلِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] قِيلَ: يَعْنِي بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَيْ لِتَتَّعِظَ بِذَلِكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجْتَنِبُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمُعْتَدُونَ. وَلِأَنَّ الْحِيلَةَ خَدِيعَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الْخَدِيعَةُ لِمُسْلِمٍ» . وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَوْ سَقَطَتْ بِالتَّحَيُّلِ، لَلَحِقَ الضَّرَرُ، فَلَمْ تَسْقُطْ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَهَا الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ. وَفَارَقَ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّحَيُّلُ، لِأَنَّهُ لَا خِدَاعَ فِيهِ، وَلَا قُصِدَ بِهِ إبْطَالُ حَقٍّ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَإِنْ اخْتَلَفَا هَلْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا حِيلَةً، أَوْ لَا؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَحَالِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْغَرَرَ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِشِرَائِهِ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً بِمِائَةٍ، وَمَا يُسَاوِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا، فَرُبَّمَا طَالَبَهُ بِذَلِكَ، فَلَزِمَهُ، فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. وَفِي الثَّالِثَةِ الْغَرَرُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ. وَفِي الرَّابِعَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شِقْصًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ بِأَلْفٍ. وَكَذَلِكَ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضَ الشِّقْصِ بِثَمَنِ جَمِيعِهِ. وَفِي السَّادِسَةِ عَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَهَبُ لَهُ الْآخَرُ شَيْئًا، فَإِنْ خَالَفَ أَحَدُهُمَا مَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ، فَطَالَبَ صَاحِبَهُ بِمَا أَظْهَرَاهُ، لَزِمَهُ، فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْبَيْعَ مَعَ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ مُخْتَارًا، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَحِلُّ لِمَنْ غَرَّ صَاحِبَهُ الْأَخْذُ بِخِلَافِ مَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ لِلتَّوَاطُؤِ، فَمَعَ فَوَاتِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّضَى بِهِ. [اخْتَلَفَ الشَّفِيعَ وَالْمُشْتَرِيَ فِي الثَّمَنِ] (4060) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ وَالْمُشْتَرِيَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْته بِمِائَةٍ. فَقَالَ الشَّفِيعُ: بَلْ بِخَمْسِينَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ، فَهُوَ أُعْرَفُ بِالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ الشِّقْصَ مِلْكُهُ، فَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ بِالدَّعْوَى بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ وَمُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ وَالْمُتْلِفِ وَالضَّامِنِ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا أَعْتَقَ؟ قُلْنَا: الشَّفِيعُ لَيْسَ بِغَارِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَمْلِكَ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمُتْلِفِ وَالْمُعْتِقِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَهِدَ لِلشَّفِيعِ كَانَ مُتَّهَمًا، لِأَنَّهُ يَطْلُبُ تَقْلِيلَ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ الدَّرْكِ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، احْتَمَلَ تَعَارُضَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَتَنَازَعَانِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَيَصِيرَانِ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ. وَيَقْتَضِيه مَذْهَبُ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عِنْدَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الْخَارِجُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَتَرَجَّحُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ الشَّفِيعِ، وَيُخَالِفُ الْخَارِجَ وَالدَّاخِلَ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَنِدَةً إلَى يَدِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْبَيِّنَةُ تَشْهَدُ عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، كَشَهَادَةِ بَيِّنَةِ الشَّفِيعِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا بَيِّنَتَانِ تَعَارَضَتَا، فَقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا، كَالدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَتَنَازَعَانِ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَدَ لَهُمَا عَلَيْهِ، فَصَارَا كَالْمُتَنَازِعِينَ عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 [فَصْلٌ قَالَ الْمُشْتَرِي لَا أَعْلَمُ مَبْلَغَ الثَّمَنِ فِي الشُّفْعَة] فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: لَا أَعْلَمُ مَبْلَغَ الثَّمَنِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مُمْكِنٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، أَوْ بِثَمَنٍ نَسِيَ مَبْلَغَهُ، وَيَحْلِفُ، فَإِذَا حَلَفَ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ بَذْلٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا لَا يَدَّعِيهِ. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّك فَعَلْت ذَلِكَ تَحَيُّلًا عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ. [فَصْل اشْتَرَى شِقْصًا بِعَرْضِ وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ] (4062) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَرْضٍ، وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عَرَضَاهُ عَلَى الْمُقَوِّمِينَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ. وَإِنْ ادَّعَى جَهْلَ قِيمَتِهِ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا ادَّعَى جَهْلَ ثَمَنِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فِي الشِّقْصِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أَحْدَثْته. وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَالشَّفِيعُ يُرِيدُ تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ. [فَصْلٌ ادَّعَى الشَّفِيعُ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنَّك اشْتَرَيْت نَصِيبَك فَلِي أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ] (4063) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى الشَّفِيعُ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنَّك اشْتَرَيْت نَصِيبَك، فَلِي أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيرِ دَعْوَاهُ، فَيُحَدِّدُ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الشِّقْصُ، وَيَذْكُرُ قَدْرَ الشِّقْصِ وَالثَّمَنَ، وَيَدَّعِي الشُّفْعَةَ فِيهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، سُئِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ، لَزِمَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ، وَقَالَ: إنَّمَا اتَّهَبْته أَوْ وَرِثْته، فَلَا شُفْعَةَ لَك فِيهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيه، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ شُفْعَةٍ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى شُفْعَةٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِ فِي الْإِنْكَارِ. وَإِذَا نَكَلَ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالشُّفْعَةِ، عَرَضَ عَلَيْهِ الثَّمَنَ. فَإِنْ أَخَذَهُ دَفَعَ إلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَسْتَحِقُّهُ. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يُقَرُّ فِي يَدِ الشَّفِيعِ إلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ الْمُشْتَرِي، فَيَدْفَعَ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ فَأَنْكَرَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَهُ الْحَاكِمُ، فَيَحْفَظَهُ لِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ الْمُشْتَرِي، وَمَتَى ادَّعَاهُ دُفِعَ إلَيْهِ. وَالثَّالِثُ، يُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْهُ، كَسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ إذَا جَاءَهُ الْمُكَاتَبُ بِمَالِ الْمُكَاتَبَةِ، فَادَّعَى أَنَّهُ حَرَامٌ. اخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي. وَهَذَا مُفَارِقٌ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ يُطَالِبُهُ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الَّذِي أَتَاهُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى سَيِّدِهِ تَحْرِيمَ مَا أَتَاهُ بِهِ، وَهَذَا لَا يَطْلُبُ الشَّفِيعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَلَّفَ إبْرَاءَ مِمَّا لَا يَدَّعِيه. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 [فَصْلٌ قَالَ اشْتَرَيْته لِفُلَانِ وَكَانَ حَاضِرًا وَقْتَ الشُّفْعَة] (4064) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ اشْتَرَيْته لِفُلَانٍ. وَكَانَ حَاضِرًا، اسْتَدْعَاهُ الْحَاكِمُ، وَسَأَلَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ، كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالشُّفْعَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا مِلْكِي، وَلَمْ أَشْتَرِهِ. انْتَقَلَتْ الْخُصُومَةُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، حَكَمَ بِالشِّرَاءِ لِمَنْ اشْتَرَاهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ غَائِبًا، أَخَذَهُ الْحَاكِمُ، وَدَفَعَهُ إلَى الشَّفِيعِ، وَكَانَ الْغَائِبُ عَلَى حُجَّتِهِ إذَا قَدِمَ؛ لِأَنَّنَا لَوْ وَقَفْنَا الْأَمْرَ فِي الشُّفْعَةِ إلَى حُضُورِ الْمُقَرِّ لَهُ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرٍ يَدَّعِي أَنَّهُ لَغَائِبٍ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْته لِابْنِي الطِّفْلِ. أَوْ لِهَذَا الطِّفْلِ. وَلَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلطِّفْلِ، وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِإِقْرَارِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ حَقٍّ فِي مَالٍ صَغِيرٍ، بِإِقْرَارِ وَلِيِّهِ. وَالثَّانِي، تَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لَهُ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ فِيهِ، كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِعَيْبٍ فِي مَبِيعِهِ. فَأَمَّا إنْ ادَّعَى عَلَيْهِ شُفْعَةً فِي شِقْصٍ، فَقَالَ: هَذَا لِفُلَانٍ الْغَائِبِ. أَوْ لِفُلَانٍ الطِّفْلِ. ثُمَّ أَقَرَّ بِشِرَائِهِ لَهُ، لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، إلَّا أَنْ تَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ يَقْدَمَ الْغَائِبُ وَيَبْلُغَ الطِّفْلُ، فَيُطَالِبَهُمَا بِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُمَا بِإِقْرَارِهِ بِهِ، فَإِقْرَارُهُ بِالشِّرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَا يُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ ابْتِدَاءً: لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُمَا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ الْمُثْبِتِ لِلشُّفْعَةِ، فَثَبَتَا جَمِيعًا. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ الْمِلْكِ، لَمْ يَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِبَيَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالشِّرَاءِ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ شُفْعَةٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا. [فَصْلٌ دَارٌ بَيْنَ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ فَادَّعَى الْحَاضِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقّهُ بِالشُّفْعَةِ فَصَدَّقَهُ] (4065) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، فَادَّعَى الْحَاضِرُ عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ نَصِيبُ الْغَائِبِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقّهُ بِالشُّفْعَةِ، فَصَدَّقَهُ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ يُصَدَّقُ فِي تَصَرُّفِهِ فِيمَا فِي يَدَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَصْلِ مِلْكِهِ، وَهَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّك بِعْت نَصِيبَ الْغَائِبِ بِإِذْنِهِ، وَأَقَرَّ لَهُ الْوَكِيلُ، كَانَ كَإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ. فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ فَأَنْكَرَ الْبَيْعَ. أَوْ الْإِذْنَ فِي الْبَيْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَنْتَزِعُ الشِّقْصَ، وَيُطَالِبُ بِأَجْرِهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ، فَإِنْ طَالَبَ الْوَكِيلَ، رَجَعَ عَلَى الشَّفِيعِ، وَإِنْ طَالَبَ الشَّفِيعَ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى الْوَكِيلِ، أَنَّك اشْتَرَيْت الشِّقْصَ الَّذِي فِي يَدِكَ. فَأَنْكَرَ، وَقَالَ: إنَّمَا أَنَا وَكِيلٌ فِيهِ، أَوْ مُسْتَوْدَعٌ لَهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 وَالشَّافِعِيُّ، مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هَاهُنَا عَلَى الْحَاضِرِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْقَاقِ انْتِزَاعِ الشِّقْصِ مِنْ يَدِهِ، وَحَصَلَ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ ضِمْنًا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَطَالَبَ الشَّفِيعُ بِيَمِينِهِ، فَنَكَلَ عَنْهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَقُضِيَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا نَكَلَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَقْضِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَا إقْرَارِ مَنْ الشِّقْصُ فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شُفْعَةً فِي شِقْصٍ اشْتَرَاهُ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ فِي شَرِكَتِي] (4066) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شُفْعَةً فِي شِقْصٍ اشْتَرَاهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ فِي شَرِكَتِي. فَعَلَى الشَّفِيعِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ شَرِيكٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ فِي يَدِهِ، اسْتَحَقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْيَدِ الْمِلْكُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ، لَمْ تَثْبُتْ، وَمُجَرَّدُ الظَّاهِرِ لَا يَكْفِي، كَمَا لَوْ ادَّعَى وَلَدَ أَمَةٍ فِي يَدِهِ. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَرِيكٌ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْيَمِينُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَكَانَ عَلَى الْعِلْمِ، كَالْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ دَيْنِ الْمَيِّتِ. فَإِذَا حَلَفَ، سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ، قُضِيَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى شَرِيكِهِ أَنَّك اشْتَرَيْت نَصِيبَك مِنْ عَمْرو فَلِي شُفْعَتُهُ] (4067) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى عَلَى شَرِيكِهِ، أَنَّك اشْتَرَيْت نَصِيبَك مِنْ عَمْرٍو، فَلِي شُفْعَتُهُ. فَصَدَّقَهُ عَمْرٌو، فَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ، وَقَالَ: بَلْ وَرِثْته مِنْ أَبِي. فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ عَمْرٍو، لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَثْبُتُ، وَيُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ وَتَأْخُذَ الثَّمَنَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ إلَى الْبَائِعِ، فَيَأْخُذَهُ الشَّفِيعُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْمِلْكِ لِعَمْرٍو، فَكَأَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِالْبَيْعِ، وَإِقْرَارُ عَمْرٍو عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْبَيْعِ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ الشُّفْعَةُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْبَائِعِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنِّي مَا اشْتَرَيْت الدَّارَ، فَقَالَ مَنْ كَانَتْ الدَّارُ مِلْكًا لَهُ: أَنَا بِعْته إيَّاهَا. لَمْ يُقْبَلْ عَلَيْهِ فِي الْحِنْثِ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّقْصُ فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ مُقِرٌّ بِهَا لِلشَّفِيعِ، وَلَا مُنَازَعَ لَهُ فِيهَا سِوَاهُ، وَهَا هُنَا مَنْ الدَّارُ فِي يَدِهِ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، وَالْمُقِرُّ بِالْبَيْعِ لَا شَيْءَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ الشِّقْصِ، فَافْتَرَقَا. [فَصْلٌ دَارٌ بَيْن رَجُلَيْنِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَدَيْهِ بِالشُّفْعَةِ] (4068) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَدَيْهِ بِالشُّفْعَةِ، سَأَلْنَاهُمَا: مَتَى مَلَكْتُمَاهَا؟ فَإِنْ قَالَا: مَلَكْنَاهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً. فَلَا شُفْعَةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِمِلْكٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 سَابِقٍ فِي مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: مِلْكِي سَابِقٌ. وَلِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ، قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، قَدَّمْنَا أَسْبَقَهُمَا تَارِيخًا، وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبْقِ مِلْكِهِ، وَتَجَدُّدِ مِلْكِ صَاحِبِهِ، تَعَارَضَتَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ نَظَرْنَا إلَى السَّابِقِ بِالدَّعْوَى، فَقَدَّمْنَا دَعْوَاهُ، وَسَأَلْنَا خَصْمَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، فَإِنْ حَلَفَ، سَقَطَتْ دَعْوَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ تُسْمَعُ دَعْوَى الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَحَلَفَ، سَقَطَتْ دَعْوَاهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ ادَّعَى الْأَوَّلُ، فَنَكَلَ الثَّانِي عَنْ الْيَمِينِ، قَضَيْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ خَصْمَهُ قَدْ اسْتَحَقَّ مِلْكَهُ. وَإِنْ حَلَفَ الثَّانِي، وَنَكَلَ الْأَوَّلُ، قَضَيْنَا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي ثَمَنِ الشُّفْعَة] (4069) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ، فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: هُوَ أَلْفٌ. فَأَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ، أَخَذَهُمَا مِنْ الْمُشْتَرِي. وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقَرٌّ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ بِأَلْفٍ، وَيَدَّعِي أَنَّ الْبَائِعَ ظَلَمَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بَطَلَ قَوْلُهُ، وَثَبَتَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ بِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ كَاذِبَةٌ، وَأَنَّهُ ظَلَمَهُ بِأَلْفٍ، فَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا حُكِمَ بِهَا لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَذِّبُهَا. فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: صَدَقَتْ الْبَيِّنَةُ، وَكُنْتُ أَنَا كَاذِبًا أَوْ نَاسِيًا. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ إقْرَارٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ. وَالثَّانِي، يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ فِي الْمُرَابَحَةِ بِثَمَنٍ، ثُمَّ قَالَ: غَلِطْت. وَالثَّمَنُ أَكْثَرُ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِكَذِبِهِ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْ الْكَذِبِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ، فَتَحَالَفَا، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَأَخْذِهِ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَقْضِي إلَى إلْزَامِ الْعَقْدِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. فَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ، جَازَ، وَمَلَكَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ مِنْ الْفَسْخِ قَدْ زَالَ. فَإِنْ عَادَ الْمُشْتَرِي فَصَدَّقَ الْبَائِعَ، وَقَالَ: الثَّمَنُ أَلْفَانِ، وَكُنْت غَالِطًا. فَهَلْ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. [فَصْلٌ اشْتَرَى شِقْصًا لَهُ شَفِيعَانِ فَادَّعَى عَلَى أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ الشَّفِيعُ الْآخَر] (4070) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى شِقْصًا لَهُ شَفِيعَانِ، فَادَّعَى عَلَى أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ الشَّفِيعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 الْآخَرُ، قَبْلَ عَفْوِهِ عَنْ شُفْعَتِهِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَهُوَ تَوَفُّرُ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ. فَإِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ زَوَالِهَا، كَشَهَادَةِ الْفَاسِقِ إذَا رُدَّتْ ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا، لَمْ تُقْبَلْ. وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ حَتَّى عَفَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي مَعَ شَهَادَتِهِ. وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى الشَّفِيعَيْنِ مَعًا، فَحَلَفَا، ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، نَظَرْنَا فِي الْحَالِفِ؛ فَإِنْ صَدَّقَ شَرِيكَهُ فِي الشُّفْعَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْفُ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى يَمِينٍ، وَكَانَتْ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ إذَا سَقَطَتْ شُفْعَةُ شَرِيكِهِ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ عَفَا، فَنَكَلَ، قُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ كُلِّهَا. وَسَوَاءٌ وَرِثَا الشُّفْعَةَ أَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ. وَإِنْ شَهِدَ أَجْنَبِيٌّ بِعَفْوِ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ، وَاحْتِيجَ إلَى يَمِينٍ مَعَهُ قَبْلَ عَفْوِ الْآخَرِ، حَلَفَ، وَأَخَذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي، وَسَقَطَتْ الشُّفْعَةُ. وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ شُفَعَاءَ، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الثَّالِثِ بِالْعَفْوِ بَعْدَ عَفْوِهِمَا، قُبِلَتْ، وَإِنْ شَهِدَا، قَبْلَهُ، رُدَّتْ. وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا وَقَبْلَ عَفْوِ الْآخَرِ، رُدَّتْ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَافِي، وَقُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَافِي. وَإِنْ شَهِدَ الْبَائِعُ بِعَفْوِ الشَّفِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَهُ. وَالثَّانِي، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ ذَلِكَ لِيُسَهِّلَ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُهُ مِنْ الشَّفِيعِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ وَفَاؤُهُ، أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْوَفَاءُ لِفَلْسِهِ، فَيَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ. وَإِنْ شَهِدَ لِمُكَاتَبِهِ بِعَفْوِ شَفِيعِهِ، أَوْ شَهِدَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لِمُكَاتَبِهِ فِيهِ شُفْعَةٌ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدُهُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، كَمُدَبَّرِهِ، وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْمُكَاتَبِ يَنْتَفِعُ بِهِ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ صَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ سَهُلَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ لَهُ. وَإِنْ شَهِدَ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى وَلَدِهِ. [مَسْأَلَة الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ إذَا أَخَذَهُ الشُّفَعَاءُ] (4071) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهَا، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ، كَانَتْ الشُّفْعَةُ بَيْنَ النَّفْسَيْنِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمَا) الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ إذَا أَخَذَهُ الشُّفَعَاءُ، قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَسَوَّارٌ، وَالْعَنْبَرِيُّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ. اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ انْفَرَدَ لَاسْتَحَقَّ الْجَمِيعَ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا تَسَاوَوْا، كَالْبَنِينَ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَالْمُعْتَقِينَ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ يُسْتَفَادُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ، فَكَانَ عَلَى قَدْرِ الْأَمْلَاكِ، كَالْغَلَّةِ، وَدَلِيلُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالِابْنِ وَالْأَبِ أَوْ الْجَدِّ، وَبِالْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ وَبِالْفُرْسَانِ مَعَ الرَّجَّالَةِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَأَصْحَابِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا، إذَا نَقَصَ مَالُهُ عَنْ دَيْنِ أَحَدِهِمْ، أَوْ الثُّلُث عَنْ وَصِيَّةِ أَحَدِهِمْ. وَفَارَقَ الْأَعْيَانَ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ، وَالْإِتْلَافُ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، كَالنَّجَاسَةِ تُلْقَى فِي مَائِعٍ. وَأَمَّا الْبَنُونَ، فَإِنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي التَّسَبُّبِ، وَهُوَ الْبُنُوَّةُ، فَتَسَاوَوْا فِي الْإِرْثِ بِهَا، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا تَسَاوِي الشُّفَعَاءِ فِي سِهَامِهِمْ، فَعَلَى هَذَا نَنْظُرُ مَخْرَجَ سِهَامِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ، فَنَأْخُذُ مِنْهَا سِهَامَ الشُّفَعَاءِ، فَإِذَا عَلِمْت عِدَّتَهَا، قَسَّمْت السَّهْمَ الْمَشْفُوعَ عَلَيْهَا، وَيَصِيرُ الْعَقَارُ بَيْنَ الشُّفَعَاءِ عَلَى تِلْكَ الْعِدَّةِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي مَسَائِلِ الرَّدِّ سَوَاءً، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، مَخْرَجُ سِهَامِ الشُّرَكَاءِ سِتَّةٌ، فَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ، فَسِهَامُ الشُّفَعَاءِ ثَلَاثَةٌ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَصِيرُ الْعَقَارُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَاهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ، كَانَتْ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ أَرْبَاعًا، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلِلْآخَرِ رُبْعُهُ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ السُّدُسِ، كَانَتْ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ أَخْمَاسًا، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، وَلِلْآخَرِ خُمُسَاهُ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يُقَسَّمُ الشِّقْصُ الْمَشْفُوعُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ، قُسِّمَ النِّصْفُ بَيْنَ شَرِيكَيْهِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ الرُّبْعُ، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ، وَلِلْآخَرِ رُبْعٌ وَسُدُسٌ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ، صَارَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ السُّدُسِ، فَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ رُبْعٌ وَسُدُسٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَرِثَ أَخَوَانِ دَارًا هِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ الشُّفْعَة] (4072) فَصْلٌ: وَلَوْ وَرِثَ أَخَوَانِ دَارًا، أَوْ اشْتَرَيَاهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَ أَخِيهِ وَعَمِّهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الْجَدِيدِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: إنَّ أَخَاهُ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ أَخَصُّ بِشَرِكَتِهِ مِنْ الْعَمِّ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ حَالَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ مَلَكُوا كُلُّهُمْ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الدَّاخِلِ عَلَى شُرَكَائِهِ بِسَبَبِ شَرِكَتِهِ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ فِي مَوْضِعٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِالشَّرِكَةِ لَا بِسَبَبِهَا. وَهَلْ تُقْسَمُ بَيْنَ الْعَمِّ وَابْنِ أَخِيهِ نِصْفَيْنِ، أَوْ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَكَذَا لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ دَارٍ، ثُمَّ اشْتَرَى ابْنَاهُ نِصْفَهَا الْآخَرَ، أَوْ وَرِثَاهُ، أَوْ اتَّهَبَاهُ، أَوْ وَصَلَ إلَيْهِمَا بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. أَوْ لَوْ وَرِثَ ثَلَاثَةٌ دَارًا، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْ اثْنَيْنِ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ نَصِيبَهُ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَأُخْتَيْنِ، فَبَاعَتْ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ نَصِيبَهَا، أَوْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَرْضًا، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُ الْعَمَّيْنِ نَصِيبَهُ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَ أَخِيهِ وَابْنَيْ أَخِيهِ. وَلَوْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لِاثْنَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ، أَوْ أَحَدُ الِابْنَيْنِ، فَالشُّفْعَةُ بَيْنَ شُرَكَائِهِ كُلِّهِمْ. وَلِمُخَالِفِينَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اخْتِلَافٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ. [فَصْلٌ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الشِّقْص] (4073) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا، فَلِلشَّفِيعِ الْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْبَتِّيِّ: لَا شُفْعَةَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الدَّاخِلِ، وَهَذَا شَرِكَتُهُ مُتَقَدِّمَةٌ، فَلَا ضَرَرَ فِي شِرَائِهِ. وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ هَؤُلَاءِ، أَنَّ الشُّفْعَةَ كُلَّهَا لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي. وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا عَلَى نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الشَّرِكَةِ، فَتَسَاوَيَا فِي الشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَجْنَبِيٌّ، بَلْ الْمُشْتَرِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَحْصُلُ بِشِرَاءِ هَذَا السَّهْمِ الْمَشْفُوعِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ حَصَلَ شِرَاؤُهُ. وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّنَا لَا نَقُولُ إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ نَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الشَّرِيكَ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ بِالشُّفْعَةِ، فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا جَنَى عَلَى عَبْدٍ آخَرَ لِسَيِّدِهِ، ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا مَا تَعَلَّقَ بِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ لِلشَّرِيكِ الْمُشْتَرِي أَخْذَ قَدْرِ نَصِيبِهِ لَا غَيْرُ أَوْ الْعَفْوَ. وَإِنْ قَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: قَدْ أَسْقَطْت شُفْعَتِي، فَخُذْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 الْكُلَّ، أَوْ اُتْرُكْ. لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ إسْقَاطُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ اسْتَقَرَّ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ، فَجَرَى مَجْرَى الشَّفِيعَيْنِ إذَا أَخَذَا بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ، فَأَخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ، فَلَهُ أَخْذُ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ الْأَوَّلُ: خُذْ الْكُلَّ أَوْ دَعْ، فَإِنِّي قَدْ أَسْقَطْت شُفْعَتِي. لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَبْعِيضٌ لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. قُلْنَا: هَذَا التَّبْعِيضُ اقْتَضَاهُ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ، فَصَارَ كَالرِّضَى مِنْهُ بِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ إذَا أَخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا. [مَسْأَلَةٌ تَرَكَ أَحَدُهُمَا شُفْعَتَهُ] (4074) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ تَرَكَ أَحَدُهُمَا شُفْعَتَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الشِّقْصُ بَيْنَ شُفَعَاءَ، فَتَرَكَ بَعْضُهُمْ، فَلَيْسَ لِلْبَاقِينَ إلَّا أَخْذُ الْجَمِيعِ أَوْ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُ الْبَعْضِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّ فِي أَخْذِ الْبَعْضِ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي، بِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِيكِ الدَّاخِلِ، خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَمُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ، فَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ الشِّقْصِ، لَمْ يَنْدَفِعْ عَنْهُ الضَّرَرُ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزُ لِمُخَالَفَةِ الْأَصْلِ، فَلَا تَثْبُتُ. وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَاحِدًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ بَعْضِ الْمَبِيعِ؛ لِذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهَا، سَقَطَ جَمِيعُهَا، كَالْقِصَاصِ. وَإِنْ وَهَبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْضَ شُرَكَائِهِ أَوْ غَيْرَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَفْوٌ، وَلَيْسَ بِهِبَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ. [فَصْلٌ كَانَ الشُّفَعَاءُ غَائِبِينَ] (4075) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الشُّفَعَاءُ غَائِبِينَ، لَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةُ؛ لِمَوْضِعِ الْعُذْرِ. فَإِذَا قَدِمَ أَحَدُهُمْ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا الْكُلَّ، أَوْ يَتْرُكَ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ الْيَوْمَ مُطَالِبًا سِوَاهُ، وَلِأَنَّ فِي أَخْذِهِ الْبَعْضَ تَبْعِيضًا لِصَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ إلَى أَنْ يَقْدَمَ شُرَكَاؤُهُ؛ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي. فَإِذَا أَخَذَ الْجَمِيعَ، ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ، قَاسَمَهُ، إنْ شَاءَ أَوْ عَفَا فَيَبْقَى لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ إنَّمَا وُجِدَتْ مِنْهُمَا. فَإِنْ قَاسَمَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الثَّالِثُ، قَاسَمَهُمَا إنْ أَحَبَّ أَوْ عَفَا فَيَبْقَى لِلْأَوَّلَيْنِ، فَإِنْ نَمَا الشِّقْصُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ نَمَاءً مُنْفَصِلًا، لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ فِي مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْفَصَلَ فِي يَدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الثَّانِي، فَنَمَا فِي يَدِهِ نَمَاءً مُنْفَصِلًا، لَمْ يُشَارِكْهُ الثَّالِثُ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 وَإِنْ خَرَجَ الشِّقْصُ مُسْتَحَقًّا، فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، يَرْجِعُ الثَّلَاثَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ؛ فَإِنَّ الْأَخْذَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِبِ عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الدَّفْعِ إلَيْهِمَا وَالنَّائِبِ عَنْهُمَا فِي دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لَهُمْ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبَاهُ، أَوْ قَالَ: آخُذُ قَدْرَ حَقِّي. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَبْطُلُ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْكُلِّ وَتَرَكَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُنْفَرِدَ. وَالثَّانِي، لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، وَهُوَ خَوْفُ قُدُومِ الْغَائِبِ، فَيَنْتَزِعُهُ مِنْهُ، وَالتَّرْكُ لِعُذْرٍ لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَظْهَرَ الْمُشْتَرِي ثَمَنًا كَثِيرًا، فَتَرَكَ لِذَلِكَ، ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ. فَإِنْ تَرَكَ الْأَوَّلُ شُفْعَته تَوَفَّرَتْ الشُّفْعَةُ عَلَى صَاحِبَيْهِ، فَإِذَا قَدِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فَلَهُ أَخْذُ الْجَمِيعِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَوَّلِ. فَإِنْ أَخَذَ الْأَوَّلُ بِهَا، ثُمَّ رَدَّ مَا أَخَذَهُ بِعَيْبِ، فَكَذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا لَا تَتَوَفَّرُ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَهُمَا أَخْذُ نَصِيبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْفُ، وَإِنَّمَا رَدَّ نَصِيبَهُ لِأَجْلِ الْعَيْبِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَ إلَى الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ. وَلَنَا أَنَّ الشَّفِيعَ فَسَخَ مِلْكَهُ، وَرَجَعَ إلَى الْمُشْتَرِي بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ لِشَرِيكِهِ أَخْذُهُ، كَمَا لَوْ عَفَا. وَيُفَارِقُ عَوْدَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ عَادَ غَيْرَ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ. [فَصْلٌ حَضَرَ الثَّانِي بَعْدَ أَخْذِ الْأَوَّلِ فَأَخَذَ نِصْفَ الشِّقْصِ مِنْهُ وَاقْتَسَمَا ثُمَّ قَدِمَ الثَّالِثُ فَطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ] (4076) فَصْلٌ: وَإِذَا حَضَرَ الثَّانِي بَعْدَ أَخْذِ الْأَوَّلِ، فَأَخَذَ نِصْفَ الشِّقْصِ مِنْهُ، وَاقْتَسَمَا، ثُمَّ قَدِمَ الثَّالِثُ، فَطَالَبَ بِالشُّفْعَةِ، وَأَخَذَ بِهَا، بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الثَّالِثَ إذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ، كَانَ كَأَنَّهُ مُشَارِكٌ فِي حَالِ الْقِسْمَةِ، لِثُبُوتِ حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ قَدِمَ الشَّفِيعُ، كَانَ لَهُ إبْطَالُ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ، وَشَرِيكُهُمَا الثَّالِثُ غَائِبٌ؟ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَ فِي الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، أَوْ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، أَوْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ، وَطَالَبَاهُ بِالْقِسْمَةِ عَنْ الْغَائِبِ، فَقَاسَمَهُمَا، وَبَقِيَ الْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُمَا لِلشِّقْصِ، وَحَقُّ الثَّالِثِ ثَابِتٌ فِيهِ؟ قُلْنَا: ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَغَيْرُهُمَا، وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ إبْطَالَهُ، كَذَا هَاهُنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الثَّالِثَ إذَا قَدِمَ فَوَجَدَ أَحَدَ شَرِيكَيْهِ غَائِبًا، أَخَذَ مِنْ الْحَاضِرِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ إنْ قَضَى لَهُ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ، أَخَذَ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ لَهُ، انْتَظَرَ الْغَائِبَ حَتَّى يَقْدَمَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ عُذْرٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 [فَصْلٌ أَخَذَ الْأُوَلُ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالشُّفْعَةِ فَقَدِمَ الثَّانِي فَقَالَ لَا آخُذُ مِنْك نِصْفَهُ بَلْ أَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِي] (4077) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ الْأَوَّلُ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالشُّفْعَةِ، فَقَدِمَ الثَّانِي، فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْك نِصْفَهُ، بَلْ أَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِي وَهُوَ الثُّلُثُ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَجَازَ، كَتَرْكِ الْكُلِّ فَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الثَّانِي ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، فَيُضِيفَهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ، وَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، فَتَصِحُّ قِسْمَةُ الشِّقْصِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ الثَّانِي ثُلُثَ الثُّلُثِ، وَمَخْرَجُهُ تِسْعَةٌ، فَضَمَّهُ إلَى الثُّلُثَيْنِ وَهِيَ سِتَّةٌ، صَارَتْ تِسْعَةً ثُمَّ قَسَمَا التِّسْعَةَ نِصْفَيْنِ، لَا تَنْقَسِمُ، فَاضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي تِسْعَةٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلثَّانِي أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَرِيكَيْهِ سَبْعَةٌ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ تَرَكَ سُدُسًا كَانَ لَهُ أَخْذُهُ، وَحَقُّهُ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، وَهُوَ التِّسْعُ، فَتَوَفَّرَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكَيْهِ فِي الشُّفْعَةِ، فَلِلْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ أَنْ يَقُولَا: نَحْنُ سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنَّا شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، فَنَجْمَعُ مَا مَعَنَا فَنَقْسِمُهُ، فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَ الثَّانِي: أَنَا آخُذُ الرُّبْعَ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ، أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ سُدُسٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، فَضَمَّهُ إلَى ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ، وَهِيَ تِسْعَةٌ، يَصِيرُ الْجَمِيعُ عَشْرَةً فَيَقْتَسِمَانِهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ، وَلِلثَّانِي سَهْمَانِ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. [فَصْلٌ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شِقْصًا فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ] (4078) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شِقْصًا، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ صَفْقَةُ الْمُشْتَرِي. وَلَنَا، أَنَّ عَقْدَ الِاثْنَيْنِ مَعَ وَاحِدٍ عَقْدَانِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكَهُ بِثَمَنٍ مُفْرَدٍ، فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ بِعَقْدٍ، وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ عَمَّا ذَكَرُوهُ. وَإِنْ اشْتَرَى اثْنَانِ نَصِيبَ وَاحِدٍ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الْأُخْرَى: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَتَبَعَّضُ صَفْقَةُ الْبَائِعِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مُشْتَرِيَانِ، فَجَازَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا نُسَلِّمُهُ، عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْآخَرَ أَخَذَ نَصِيبَهُ، فَلَا يَكُونُ تَبْعِيضًا. فَإِنْ بَاعَ اثْنَانِ مِنْ اثْنَيْنِ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ عُقُودٍ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الْكُلِّ، أَوْ مَا شَاءَ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ بَاعَ شِقْصًا لِثَلَاثَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً] (4079) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ شِقْصًا لِثَلَاثَةٍ، دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الثَّلَاثَةِ. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ كُلِّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدٌ، فَلَا يَتَوَقَّفُ الْأَخْذُ بِهِ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا فِي الْعَقْدِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 الْآخَرِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً. فَإِذَا أَخَذَ نَصِيبَ وَاحِدٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرَيْنِ مُشَارَكَتُهُ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا لَمْ يَسْبِقْ مِلْكَ مَنْ أَخَذَ نَصِيبَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ إلَّا بِمِلْكٍ سَابِقٍ. فَأَمَّا إنْ بَاعَ نَصِيبَهُ لِثَلَاثَةٍ، فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ، فَلَهُ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ الثَّلَاثَةَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا شَاءَ مِنْهَا؛ فَإِنْ أَخَذَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرَيْنِ مُشَارَكَتُهُ فِي شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِلْكٌ حِينَ بَيْعِهِ، وَإِنْ أَخَذَ نَصِيبَ الثَّانِي وَحْدَهُ، لَمْ يَمْلِكْ الثَّالِثُ مُشَارَكَتَهُ لِذَلِكَ، وَيُشَارِكُهُ الْأَوَّلُ فِي شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ سَابِقٌ لِشِرَاءِ الثَّانِي، فَهُوَ شَرِيكٌ حَالَ شِرَائِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَالَ شِرَاءِ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا فِي اسْتِحْقَاقِهَا. وَإِنْ أَخَذَ مِنْ الثَّالِثِ وَعَفَا عَنْ الْأَوَّلَيْنِ، فَفِي مُشَارَكَتِهِمَا لَهُ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْ الثَّلَاثَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَمْلَاكَهُمْ قَدْ اسْتَحَقَّهَا بِالشُّفْعَةِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِهَا شُفْعَةً. وَالثَّانِي، يُشَارِكُهُ الثَّانِي فِي شُفْعَةِ الثَّالِثِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا مِلْكًا صَحِيحًا حَالَ شِرَاءِ الثَّالِثِ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ مُشَارَكَتَهُ إذَا عَفَا عَنْ شُفْعَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ بِالْمِلْكِ الَّذِي صَارَ بِهِ شَرِيكًا، لَا بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى بَاعَ نَصِيبَهُ: فَلَهُ أَخْذُ نَصِيبِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخْذُ نَصِيبِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا يُشَارِكُهُ الْأَوَّلُ فِي شُفْعَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جَمِيعًا. فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِثَلَاثَةٍ، فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ، فِي كُلِّ عَقْدٍ سُدُسًا، فَلِلشَّفِيعِ السُّدُسُ الْأَوَّلُ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّانِي وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثَّالِثِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ رُبْعُ السُّدُسِ الثَّانِي وَخُمْسُ الثَّالِثِ، وَلِلْمُشْتَرِي الثَّانِي خُمْسُ الثَّالِثِ فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلشَّفِيعِ الْأَوَّلِ مِائَةٌ وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلثَّانِي تِسْعَةٌ، وَلِلثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ. فَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نِصْفُ السُّدُسِ الثَّانِي وَثُلُثُ الثَّالِثِ، وَلِلثَّانِي ثُلُثُ الثَّالِثِ وَهُوَ نِصْفُ التُّسْعِ، فَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، لِلشَّفِيعِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلثَّانِي خَمْسَةٌ، وَلِلثَّالِثِ سَهْمَانِ. [فَصْل دَارٌ بَيْن أَرْبَعَةٍ أَرْبَاعًا بَاعَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ شَرِيكُهُمْ وَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ] (4080) فَصْلٌ: دَارٌ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ أَرْبَاعًا، بَاعَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ شَرِيكُهُمْ، وَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلِلَّذِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 لَمْ يَبِعْ الشُّفْعَةُ فِي الْجَمِيعِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ الشُّفْعَةَ فِيمَا بَاعَهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَحِقُّ الثَّالِثُ الشُّفْعَةَ فِيمَا بَاعَهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ مُشْتَرِي الرُّبْعِ الْأَوَّلِ الشُّفْعَةَ فِيمَا بَاعَهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ؟ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الثَّانِي شُفْعَةَ الثَّالِثِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يَسْتَحِقَّانِ؛ لِأَنَّهُمَا مَالِكَانِ حَالَ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي، لَا حَقَّ لَهُمَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا مُتَزَلْزِلٌ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ. وَالثَّالِثُ إنْ عَفَا عَنْهُمَا أَخَذَا، وَإِلَّا فَلَا. فَإِذَا قُلْنَا: يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ. فَلِلَّذِي لَمْ يَبِعْ ثُلُثُ كُلِّ رُبْعٍ؛ لِأَنَّ لَهُ شَرِيكَيْنِ، فَصَارَ لَهُ الرُّبْعُ مَضْمُومًا إلَى مِلْكِهِ، فَكَمُلَ لَهُ النِّصْفُ، وَلِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الثُّلُثُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي شُفْعَةٍ. وَلِلْبَائِعِ الثَّانِي وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي السُّدُسُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي شُفْعَةِ بَيْعٍ وَاحِدٍ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. [فَصْلٌ بَاعَ الشَّرِيكُ نِصْفَ الشِّقْصِ لِرَجُلِ ثُمَّ بَاعَهُ بَقِيته فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ] (4081) فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَ الشَّرِيكُ نِصْفَ الشِّقْصِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ بَاعَهُ بَقِيَّتَهُ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ فَلَهُ أَخْذُ الْمَبِيعِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَلَهُ أَخْذُ أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ لِكُلِّ عَقْدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَخَذَ الْأَوَّلَ، لَمْ يُشَارِكْهُ فِي شُفْعَتِهِ أَحَدٌ، وَإِنْ أَخَذَ الثَّانِي، فَهَلْ يُشَارِكُهُ الْمُشْتَرِي فِي شُفْعَتِهِ بِنَصِيبِهِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يُشَارِكُهُ فِيهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَقْتَ الْبَيْعِ الثَّانِي، يَمْلِكُهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ أَوَّلًا. وَالثَّانِي، لَا يُشَارِكُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَسْتَقِرَّ، لِكَوْنِ الشَّفِيعِ يَمْلِكُ أَخْذَهُ. وَالثَّالِثُ، إنْ عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ الْأَوَّلِ شَارَكَهُ فِي الثَّانِي، وَإِنْ أَخَذَ بِهِمَا جَمِيعًا لَمْ يُشَارِكْهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَفَا عَنْهُ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ، فَشَارَكَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ. فَإِنْ قُلْنَا: يُشَارِكُ فِي الشُّفْعَةِ. فَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، ثُلُثَهُ. وَالثَّانِي، نِصْفَهُ. بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي قِسْمَةِ الشُّفْعَةِ عَلَى قَدْرِ الْأَمْلَاكِ أَوْ عَدَدِ الرُّءُوسِ. فَإِذَا قُلْنَا: يُشَارِكُهُ. فَعَفَا لَهُ عَنْ الْأَوَّلِ، صَارَ لَهُ ثُلُثُ الْعَقَارِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ، وَبَاقِيه لِشَرِيكِهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْ الْأَوَّلِ، فَلَهُ نِصْفُ سُدُسِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ ثُمْنُهُ، وَالْبَاقِي لِشَرِيكِهِ. وَإِنْ بَاعَهُ الشَّرِيكُ الشِّقْصَ فِي ثَلَاثِ صَفَقَاتٍ مُتَسَاوِيَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ بَاعَهُ لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ. وَيَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّونَ. وَلِلشَّفِيعِ هَاهُنَا مِثْلُ مَا لَهُ مَعَ الثَّلَاثَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 [فَصْلٌ دَارٌ بَيْن ثَلَاثَةٍ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمْ شَرِيكَهُ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ مَعَ نَصِيبِهِ فَبَاعِهِمَا لِرَجُلِ وَاحِدٍ] (4082) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، فَوَكَّلَ أَحَدُهُمْ شَرِيكَهُ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ مَعَ نَصِيبِهِ، فَبَاعِهِمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلِشَرِيكِهِمَا الشُّفْعَةُ فِيهِمَا. وَهَلْ لَهُ أَخْذُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ اثْنَانِ، فَهُمَا بَيْعَانِ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ تَوَلَّيَا الْعَقْدَ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، وَفِي أَخْذِ أَحَدِهِمَا تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَا لِرَجُلِ وَاحِدٍ. وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي شِرَاءِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ، فَاشْتَرَى الشِّقْصَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ، فَلِشَرِيكِهِ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُشْتَرِيَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَلِيَا الْعَقْدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ أَخْذَ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لَا يُفْضِي إلَى تَبْعِيضِ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى شَرِكَةَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ. [مَسْأَلَة عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ] (4083) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ) يَعْنِي أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا أَخَذَ الشِّقْصَ، فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ مِنْهُ، سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ الْبَائِعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ، فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ، كَالْمُشْتَرِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا أَخَذَهُ مِنْ الْبَائِعِ تَعَذَّرَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي، فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَكَانَ الشَّفِيعُ آخِذًا مِنْ الْبَائِعِ مَالِكًا مِنْ جِهَتِهِ، فَكَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَزُولُ الْمِلْكُ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ. فَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ بِبَيْعٍ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ. وَقِيَاسُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فِي جَعْلِ عُهْدَتِهِ عَلَى الْبَائِعِ، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ مِنْ الْبَائِعِ، بِخِلَافِ الشَّفِيعِ. وَأَمَّا إذَا أَخَذَهُ مِنْ الْبَائِعِ، فَالْبَائِعُ نَائِبٌ عَنْ الْمُشْتَرِي فِي التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ. وَلَوْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ، بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 [فَصْلٌ حُكْمُ الشَّفِيعِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ] (4084) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الشَّفِيعِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، حُكْمُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ عَلَمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، وَلَمْ يَعْلَمْ الشَّفِيعُ، فَلِلشَّفِيعِ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الشَّفِيعُ أَخْذَ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَإِذَا أَخَذَ الْأَرْشَ، فَمَا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ عَلِمَ الشَّفِيعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدٌّ وَلَا أَرْشٌ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ رَدٌّ وَلَا أَرْشٌ، كَالْمُشْتَرِي إذَا عَلِمَ الْعَيْبَ، وَالْمُشْتَرِي قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّدِّ، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَبِيعِ، وَحُصُولِ الثَّمَنِ لَهُ مِنْ الشَّفِيعِ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ ظَلَّامَتَهُ، وَرَجَعَ إلَيْهِ جَمِيعُ ثَمَنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ أَخْذَ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَبِيعِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَفِيزَيْنِ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، وَأَخَذَ الْآخَرَ. فَعَلَى هَذَا، مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأَرْشِ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ الْأَرْشَ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ مِنْهُ. وَإِنْ عَلِمَا جَمِيعًا، فَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدٌّ وَلَا أَرْشٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَرَضِيَ بِبَذْلِ الثَّمَنِ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا، فَلِلشَّفِيعِ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ الشَّفِيعُ، فَلَا يَرُدُّهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا. وَإِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ أَرْشَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَلِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ. وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ أَخْذَهُ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَإِذَا أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ لَمْ يُسْقِطْهُ عَنْ الْمُشْتَرِي، سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ الثَّمَنُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، وَسُكُوتُهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ، وَإِنْ أَسْقَطَهُ عَنْ الْمُشْتَرِي، تَوَفَّرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ زَادَهُ عَلَى الثَّمَنِ بِاخْتِيَارِهِ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ إلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَنَّهُ يَبْرَأُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ عَلِمَ بِالْعَيْبِ، فَدَلَّسَهُ، وَاشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِاشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى شِرَائِهِ، فَصَارَ كَمُشْتَرٍ ثَانٍ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ عَلِمَهُ الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ. [مَسْأَلَة الشُّفْعَةُ لَا تُورَثُ] (4085) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالشُّفْعَةُ لَا تُورَثُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ طَالَبَ بِهَا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الطَّلَبِ بِهَا، فَتَسْقُطُ، وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: الْمَوْتُ يَبْطُلُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ؛ الشُّفْعَةُ، وَالْحَدُّ إذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ، وَالْخِيَارُ إذَا مَاتَ الَّذِي اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ. هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا هِيَ بِالطَّلَبِ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ، فَلَيْسَ تَجِبُ، إلَّا أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي عَلَى حَقِّي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّي قَدْ طَلَبْته، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ، كَانَ لِوَارِثِهِ الطَّلَبُ بِهِ. وَرُوِيَ سُقُوطُهُ بِالْمَوْتِ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ: يُورَثُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ، فَيُورَثُ، كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقُّ فَسْخٍ ثَبَتَ لَا لِفَوَاتِ جُزْءٍ، فَلَمْ يُورَثْ، كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ خِيَارٍ جُعِلَ لِلتَّمْلِيكِ، أَشْبَهَ خِيَارَ الْقَبُولِ. فَأَمَّا خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ لِاسْتِدْرَاكِ جُزْءٍ فَاتَ مِنْ الْمَبِيعِ. الْحَالُ الثَّانِي، إذَا طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ مَاتَ. فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَقَرَّرُ بِالطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْأَخْذِ بَعْدَهُ، وَقَبْلَهُ يَسْقُطُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِيرُ الشِّقْصُ مِلْكًا لِلشَّفِيعِ بِنَفْسِ الْمُطَالَبَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ غَيْرُ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ صَارَ مِلْكًا لِلشَّفِيعِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا، كَمَا لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِلُ إلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مَوْرُوثٌ، فَيَنْتَقِلُ إلَى جَمِيعِهِمْ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: الشُّفْعَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَمْلَاكِ، أَوْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مِنْ مَوْرُوثِهِمْ. فَإِنْ تَرَكَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ حَقَّهُ، تَوَفَّرَ الْحَقُّ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا إلَّا الْكُلَّ، أَوْ يَتْرُكُوا، كَالشُّفَعَاءِ إذَا عَفَا بَعْضُهُمْ عَنْ شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَخْذَ بَعْضِ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ، تَبَعَّضَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهَذَا ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ. [فَصْلٌ أَشْهَدَ الشَّفِيعُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ بِهَا لِلْعُذْرِ ثُمَّ مَاتَ] (4086) فَصْلٌ: وَإِنْ أَشْهَدَ الشَّفِيعُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ بِهَا لِلْعُذْرِ، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ تَبْطُلْ، وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الطَّلَبِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةُ بِالْمَوْتِ بَعْدَهُ، كَنَفْسِ الطَّلَبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 [فَصْلٌ بِيعَ شِقْصٌ لَهُ شَفِيعَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهَا وَطَالَبَ الْآخَرُ بِهَا ثُمَّ مَاتَ الْمُطَالِبُ فَوَرِثَهُ الْعَافِي] (4087) فَصْلٌ: وَإِذَا بِيعَ شِقْصٌ لَهُ شَفِيعَانِ، فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهَا، وَطَالَبَ الْآخَرُ بِهَا، ثُمَّ مَاتَ الْمُطَالِبُ، فَوَرِثَهُ الْعَافِي، فَلَهُ أَخْذُ الشِّقْصِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ وَارِثٌ لِشَفِيعٍ مُطَالِبٍ بِالشُّفْعَةِ، فَمَلَكَ الْأَخْذَ بِهَا، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّهُمَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَعَفَا أَحَدُهُمَا، فَطَالَبَ الْآخَرُ، ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ، فَوَرِثَهُ الْعَافِي، ثَبَتَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالنِّيَابَةِ عَنْ أَخِيهِ الْمَيِّت، إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِقَذْفِهَا. [فَصْلٌ مَاتَ مُفْلِسٌ وَلَهُ شِقْصٌ فَبَاعَ شَرِيكُهُ] (4088) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ مُفْلِسٌ، وَلَهُ شِقْصٌ، فَبَاعَ شَرِيكُهُ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ الشُّفْعَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا شُفْعَةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ إلَى الْغُرَمَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعٌ فِي شَرِكَةِ مَا خَلَّفَهُ مَوْرُوثُهُمْ مِنْ شِقْصٍ، فَكَانَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِشُفْعَتِهِ كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّرِكَةَ انْتَقَلَتْ إلَى الْغُرَمَاءِ، بَلْ هِيَ لِلْوَرَثَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ تَمَّتْ أَوْ زَادَ ثَمَنُهَا، لَحُسِبَ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِمْ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَرَجُلٍ شِقْصٌ مَرْهُونٌ، فَبَاعَ شَرِيكُهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ دَارٌ، فَبِيعَ بَعْضُهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ لَهُمْ، فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ شَرِيكًا لِلْمَوْرُوثِ، فَبِيعَ نَصِيبُ الْمَوْرُوثِ فِي دَيْنِهِ، فَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَوْرُوثِ انْتَقَلَ بِمَوْتِهِ إلَى الْوَارِثِ، فَإِذَا بِيعَ فَقَدْ بِيعَ مِلْكُهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ عَلَى نَفْسِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى شِقْصًا مَشْفُوعًا وَوَصِيّ بِهِ ثُمَّ مَاتَ] (4089) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى شِقْصًا مَشْفُوعًا، وَوَصَى بِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ مِنْ حَقِّ الْمُوصِيَ لَهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ، دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْوَرَثَةِ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ ذَهَبَ، فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، لَهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ بَدَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصَ لَهُ إلَّا بِالشِّقْصِ، وَقَدْ فَاتَ بِأَخْذِهِ. وَلَوْ وَصَّى رَجُلٌ لَإِنْسَانٍ بِشِقْصٍ ثُمَّ مَاتَ، فَبِيعَ فِي تَرِكَتِهِ شِقْصٌ قَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَالشُّفْعَةُ لِلْوَرَثَةِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ لَا يَصِيرُ لِلْوَصِيِّ إلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ. فَإِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ، اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهُ، فَكَانَ الْمَبِيعُ فِي شَرِكَتِهِ. وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ قَبْلَ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِقَبُولِهِ، فَإِنْ قَبِلَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَهُ. وَإِنْ رَدَّ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْوَرَثَةِ. وَلَا تَسْتَحِقُّ الْوَرَثَةُ الْمُطَالَبَةَ أَيْضًا؛ لِذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمْ الْمُطَالَبَةَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبُولِ، وَبَقَاءُ الْحَقِّ لَهُمْ. وَيُفَارِقُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبُولِ مِنْهُ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبَلَ ثُمَّ يُطَالِبَ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى فِعْلِ مَا يَعْلَمُ بِهِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ. فَإِذَا طَالَبُوا، ثُمَّ قَبِلَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ، كَانَتْ الشُّفْعَةُ لَهُ، وَيَفْتَقِرُ إلَى الطَّلَبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَطَالَبَ الْوَرَثَةُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَهُمْ الْأَخْذُ بِهَا. وَإِنْ قَبِلَ الْوَصِيُّ أَخَذَ الشِّقْصَ الْمُوصَى بِهِ، دُونَ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ الْمُوصَى بِهِ إنَّمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذَ بِشُفْعَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ بِهَا الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُطَالِبُوا بِالشُّفْعَةِ حَتَّى قَبِلَ الْمُوصِي لَهُ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَحُصُولِ شَرِكَتِهِ. وَفِي ثُبُوتِهَا لِلْوَرَثَةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ نَصِيبَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِبَيْعِ شَرِيكِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى رَجُلٌ شِقْصًا ثُمَّ ارْتَدَّ فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ] (4090) فَصْلٌ: وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ شِقْصًا، ثُمَّ ارْتَدَّ فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالشِّرَاءِ، وَانْتِقَالُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِ أَوْ مَوْتِهِ لَا يَمْنَعُ الشُّفْعَةَ، كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ، أَوْ صَارَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، لِعَدَمِ وَرَثَتِهِ، وَالْمُطَالِبُ بِالشُّفْعَةِ وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ شِقْصًا] (4091) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ شِقْصًا، فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا، تَبَيَّنَّا أَنَّ شِرَاءَهُ بَاطِلٌ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ، تَبَيَّنَّا صِحَّتَهُ، وَثُبُوتَ الشُّفْعَةِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَصَرُّفُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِرِدَّتِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ عَادَ إلَيْهِ تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: تَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ. وَمَبْنَى الشُّفْعَةِ هَاهُنَا عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ، وَيُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ بِيعَ شِقْصٌ فِي شَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي كَافِرًا، فَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ، انْبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ لِلشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ شِرَاءَهُ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ ارْتَدَّ الشَّفِيعُ الْمُسْلِمُ، وَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا، انْتَقَلَ مَالُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ، انْتَقَلَتْ أَيْضًا إلَى الْمُسْلِمِينَ، يَنْظُرُ فِيهَا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ. وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ طَلَبِهَا، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى إسْلَامِهِ. وَلَوْ مَاتَ الشَّفِيعُ الْمُسْلِمُ، وَلَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا سِوَى بَيْتِ الْمَالِ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ إنْ مَاتَ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 [مَسْأَلَة أَذِنَ الشَّرِيكُ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ] (4092) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَذِنَ الشَّرِيكُ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ، فَلَهُ ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَقَالَ: قَدْ أَذِنْت فِي الْبَيْعِ، أَوْ قَدْ أَسْقَطْت شُفْعَتِي. أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَمْ تَسْقُطْ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا مَتَى وُجِدَ الْبَيْعُ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْبَتِّيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ، فَأَرَادَ بَيْعَهَا، فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ» . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: " وَلَا يَحِلُّ لَهُ إلَّا أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ ". إذَا كَانَتْ الشُّفْعَةُ ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ، فَقَالَ مَرَّةً: تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ. وَقَالَ مَرَّةً: لَا تَبْطُلُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِكَةٌ فِي أَرْضٍ؛ رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» . وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ ". فَلَا يَكُونُ لِتَرْكِهِ مَعْنَى. وَمَفْهُومِ قَوْلِهِ: " فَإِنْ بَاعَ، وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ " أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ. وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ، لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ، الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَالِهِ الضَّرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَتَرْكِهِ الْإِحْسَانَ إلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ بِبَيْعِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَبْرَأْهُ مِمَّا يَجِبُ لَهُ، أَوْ أَسْقَطَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا قَبْلَ التَّزْوِيجِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ، لِيَبْتَاعَ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ، فَتَخِفُّ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةُ، وَيَكْتَفِيَ بِأَخْذِ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ، لَا إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ شُفْعَتِهِ. [فَصْلٌ تَوَكَّلَ الشَّفِيع فِي الْبَيْعِ] (4093) فَصْلٌ: إذَا تَوَكَّلَ الشَّفِيعُ فِي الْبَيْعِ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ وَكِيلَ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي. ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 وَقَالَ الْقَاضِي، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنْ كَانَ وَكِيلَ الْبَائِعِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ، لِكَوْنِهِ يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الثَّمَنِ لِيَأْخُذَ بِهِ، بِخِلَافِ وَكِيلِ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا شُفْعَةَ لِوَكِيلِ الْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَكِيلِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَكِيلٌ، فَلَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ، كَالْآخَرِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَكِيلِ. إنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكَّلِ، ثُمَّ لَوْ انْتَقَلَ إلَى الْوَكِيلِ لِمَا ثَبَتَتْ فِي مِلْكِهِ، إنَّمَا يَنْتَقِلُ فِي الْحَالِ إلَى الْمُوَكَّلِ، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا التُّهْمَةُ فَلَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَكَّلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِثُبُوتِ شُفْعَتِهِ، رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ مَعَ ذَلِكَ، فَلَا يُؤَثِّرُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ: بِعْ نِصْفَ نَصِيبِي مَعَ نِصْفِ نَصِيبِك. فَفَعَلَ، ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَبِيعِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ. وَعِنْدَ الْقَاضِي تَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الْوَكِيلِ، دُونَ نَصِيبِ الْمُوَكَّلِ. [فَصْلٌ ضَمِنَ الشَّفِيعُ الْعُهْدَةَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ شَرَطَ لَهُ الْخِيَارَ فَاخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ] (4094) فَصْلٌ: وَإِنْ ضَمِنَ الشَّفِيعُ الْعُهْدَةَ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ شَرَطَ لَهُ الْخِيَارَ فَاخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْبَائِعَ إذَا بَاعَ بَعْضَ نَصِيبِ نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا سَبَبُ سَبْقِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ الشُّفْعَةُ، كَالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَيْعِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَقِفُ عَلَى الضَّمَانِ، وَيَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا، فَإِنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ بِهِ، وَتَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ. [فَصْلِ دَارٌ بَيْن ثَلَاثَةٍ فَقَارَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَحَدَ شَرِيكَيْهِ بِأَلْفِ فَاشْتَرَى بِهِ نِصْفَ نَصِيبِ الثَّالِثِ] (4095) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، فَقَارَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَحَدَ شَرِيكَيْهِ بِأَلْفٍ، فَاشْتَرَى بِهِ نِصْفَ نَصِيبِ الثَّالِثِ، لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ شُفْعَةٌ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ رَبُّ الْمَالِ، وَالْآخَرَ الْعَامِلُ، فَهُمَا كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَتَاعِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ شُفْعَةً. وَإِنْ بَاعَ الثَّالِثُ بَاقِي نَصِيبِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، كَانَتْ الشُّفْعَةُ مُسْتَحَقَّةً بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا، لِرَبِّ الْمَالِ خُمْسَاهَا، وَلِلْعَامِلِ خُمْسَاهَا، وَلِمَالِ الْمُضَارَبَةِ خُمْسُهَا بِالسُّدُسِ الَّذِي لَهُ، فَيُجْعَلُ مَالُ الْمُضَارَبَةِ كَشَرِيكٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ دَارٌ بَيْن ثَلَاثَةٍ فَاشْتَرَى أَجْنَبِيٌّ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ فَطَالَبَهُ أَحَدُهُمْ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ إنَّمَا اشْتَرَيْته لِشَرِيكِك] (4096) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَثْلَاثًا، فَاشْتَرَى أَجْنَبِيٌّ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، فَطَالَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالشُّفْعَةِ، فَقَالَ: إنَّمَا اشْتَرَيْته لِشَرِيكِك. لَمْ تُؤَثِّرْ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَيْنِ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهَا الْأَجْنَبِيُّ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ. وَإِنْ تَرَكَ الْمُطَالِبُ بِالشُّفْعَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 حَقَّهُ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ. وَإِنْ أَخَذَ نِصْفَ الْمَبِيعِ لِذَلِكَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذِبُ الْمُشْتَرِي، وَعَفَا الشَّرِيكُ عَنْ شُفْعَتِهِ، فَلَهُ أَخْذُ نَصِيبِهِ مِنْ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى أَخْذِ النِّصْفِ بُنِيَ عَلَى خَبَرِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَاسْتَحَقَّ أَخْذَ الْبَاقِي لِعَفْوِ شَرِيكِهِ عَنْهُ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْبَاقِي، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَبْعِيضَ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يَبْطُلَ أَخْذُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي أَقَرَّ بِمَا تَضَمَّنَ اسْتِحْقَاقَهُ لِذَلِكَ، فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الشَّرِيكُ كَوْنِ الشِّرَاءِ لَهُ وَعَفَا عَنْ شُفْعَتِهِ، وَأَصَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْإِقْرَارِ لِلشَّرِيكِ بِهِ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، وَلَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى النِّصْفِ؛ لِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ قَالَ أُحُد الشَّفِيعَيْنِ لِلْمُشْتَرِي شِرَاؤُك بَاطِلٌ] (4097) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ لِلْمُشْتَرِي: شِرَاؤُك بَاطِلٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ صَحِيحٌ. فَالشُّفْعَةُ كُلُّهَا لِلْمُعْتَرِفِ بِالصِّحَّةِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْته، إنَّمَا اتَّهَبْته. وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ، فَالشُّفْعَةُ لِلْمُصَدِّقِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ مُسْقِطُ لِحَقِّهِ بِاعْتِرَافِهِ أَنَّهُ لَا بَيْعَ صَحِيحٌ. وَلَوْ احْتَالَ الْمُشْتَرِي عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بِحِيلَةٍ لَا تُسْقِطُهَا، فَقَالَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ: قَدْ أَسْقَطْت الشُّفْعَةُ. تَوَفَّرَتْ عَلَى الْآخَرِ، لِاعْتِرَافِ صَاحِبِهِ بِسُقُوطِهَا. وَلَوْ تَوَكَّلَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ، أَوْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ، أَوْ عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَقَالَ: لَا شُفْعَةَ لِي. كَذَلِكَ تَوَفَّرَتْ عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ شُفْعَةً، وَطَالَبَ بِهَا، فَارْتَفَعَا إلَى حَاكِمٍ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ تَوَفَّرَتْ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَتْ بِإِسْقَاطِ الْمُسْتَحِقِّ. [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخِرَ ثُلُثَ دَارِهِ فَأَنْكَرَهُ ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْ دَعْوَاهُ بِثُلُثِ دَارٍ أُخْرَى] (4098) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ ثُلُثَ دَارِهِ، فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْ دَعْوَاهُ بِثُلُثِ دَارٍ أُخْرَى، صَحَّ، وَوَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي الثُّلُثِ الْمُصَالَحِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّ مَا أَخَذَهُ عِوَضٌ عَنْ الثُّلُثِ الَّذِي ادَّعَاهُ، فَلَزِمَهُ حُكْمُ دَعْوَاهُ وَوَجَبَتْ الشُّفْعَةُ، وَلَا شُفْعَةَ عَلَى الْمُنْكِرِ فِي الثُّلُثِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يَزُلْ، وَإِنَّمَا دَفَعَ ثُلُثَ دَارِهِ إلَى الْمُدَّعِي اكْتِفَاءً لِشَرِّهِ، وَدَفْعًا لِضَرَرِ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ فِيهِ شُفْعَةٌ. وَإِنْ قَالَ الْمُنْكِرُ لِلْمُدَّعِي: خُذْ الثُّلُثَ الَّذِي تَدَّعِيه بِثُلُثِ دَارِكَ. فَفَعَلَ، فَلَا شُفْعَةَ عَلَى الْمُدَّعِي فِيمَا أَخَذَهُ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الشُّفْعَةُ فِي الثُّلُثِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ الثَّابِتِ لَهُ. وَقَالَ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الثُّلُثِ الَّذِي أَخَذَهُ الْمُدَّعِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا مُعَاوَضَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِشِقْصَيْنِ، فَوَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُقِرَّيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وَلَنَا، أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ، وَإِنَّمَا اسْتَنْقَذَهُ بِصُلْحِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ شُفْعَةٌ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ. [فَصْلٌ دَارٌ بَيْن ثَلَاثَةٍ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ ثُمَّ بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ عَلِمَ شَرِيكُهُ] (4099) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَثْلَاثًا، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ نَصِيبَ أَحَدِ شَرِيكَيْهِ، ثُمَّ بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ عَلِمَ شَرِيكُهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَقْدَيْنِ، وَلَهُ الْأَخْذُ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِمَا. فَإِنْ أَخَذَ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، أَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ مُشْتَرِيه؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شُفْعَتِهِ. وَإِنْ أَخَذَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِالثَّانِي، أَخَذَ نِصْفَ الْمَبِيعِ، وَهُوَ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرِيكُهُ فِي شُفْعَتِهِ، وَيَأْخُذُ نِصْفَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَنِصْفَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ لَمَّا اشْتَرَى الثُّلُثَ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِذَا بَاعَ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ، وَفِي يَدِهِ ثُلُثَانِ، فَقَدْ بَاعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَالشَّفِيعُ يَسْتَحِقُّ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ، فَصَارَ مُنْقَسِمًا فِي يَدَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ، وَيَدْفَعُ ثَمَنَهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِرُبْعِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى أَرْبَعَةٍ، لِلشَّفِيعِ نِصْفُ الدَّارِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ الرُّبْعُ. وَإِنْ أَخَذَ بِالْعَقْدَيْنِ، أَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ الثَّانِي، وَرُبْعَ مَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ، وَلِشَرِيكِهِ الرُّبْعُ، وَيَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ نِصْفَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّانِي، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِرُبْعِ الثَّمَنِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ السُّدُسُ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الثَّمَنِ لِذَلِكَ، وَقَدْ صَارَ نِصْفُ هَذَا النِّصْفِ فِي يَدِ الثَّانِي، وَهُوَ رُبْعُ مَا فِي يَدِهِ، فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثَمَنِهِ، وَبَقِيَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا اشْتَرَاهُ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَدَفَعَ إلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي هُوَ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لَا يَخْتَلِفُ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَرْبَاعًا لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَلِلْآخَرَيْنِ نِصْفُهَا بَيْنَهُمَا، فَاشْتَرَى صَاحِبُ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِ شَرِيكَيْهِ رُبْعَهُ، ثُمَّ بَاعَ رُبْعًا مِمَّا فِي يَدِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ عَلِمَ شَرِيكُهُ فَأَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي، أَخَذَ جَمِيعَهُ، وَدَفَعَ إلَى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ. وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ، أَخَذَ ثُلُثَ الْمَبِيعِ، وَهُوَ نِصْفُ سُدُسٍ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كُلَّهُ رُبْعٌ، فَثُلُثُهُ نِصْفُ سُدُسٍ، يَأْخُذُ ثُلُثَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَثُلُثَهُ مِنْ الثَّانِي، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، النِّصْفُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةٌ، فَلَمَّا اشْتَرَى صَاحِبُ النِّصْفِ تِسْعَةً، كَانَتْ شُفْعَتُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَثْلَاثًا، لِشَرِيكِهِ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةٌ، فَلَمَّا بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، حَصَلَ فِي الْمَبِيعِ مِنْ الثَّلَاثَةِ ثُلُثُهَا، وَهُوَ سَهْمٌ بَقِيَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْهَا سَهْمَانِ، فَتُرَدُّ الثَّلَاثَةُ إلَى الشَّرِيكِ، وَيَصِيرُ فِي يَدِهِ اثْنَا عَشَرَ، وَهِيَ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ثَمَانِيَةٌ، وَهِيَ تُسْعَانِ، وَفِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 أَتْسَاعٍ، وَيَدْفَعُ الشَّرِيكُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَيْهِ بِتُسْعِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ تُسْعَ مَبِيعِهِ. وَإِنْ أَخَذَ بِالْعَقْدَيْنِ، أَخَذَ مِنْ الثَّانِي جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، وَأَخَذَ مِنْ الْأَوَّلِ نِصْفَ التُّسْعِ، وَهُوَ سَهْمَانِ، مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَيَصِيرُ فِي يَدِهِ عِشْرُونَ سَهْمًا، وَهِيَ خَمْسَةُ أَتْسَاعٍ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْأَوَّلِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ ثُلُثَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ الثَّمَنِ الثَّانِي، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِتُسْعِ الثَّمَنِ الثَّانِي. (4100) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِزَيْدٍ نِصْفُهَا، وَلِعَمْرٍو ثُلُثُهَا، وَلِبَكْرٍ سُدُسُهَا، فَاشْتَرَى بَكْرٌ مِنْ زَيْدٍ ثُلُثَ الدَّارِ، ثُمَّ بَاعَ عَمْرًا سُدُسَهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ عَمْرٌو بِشِرَاهُ لِلثُّلُثِ، ثُمَّ عَلِمَ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهِ مِنْ شُفْعَةِ الثُّلُثِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ، وَذَلِكَ تُسْعَا الدَّارِ، فَيَأْخُذُ مِنْ بَكْرٍ ثُلُثَيْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَصَلَ ثُلُثُهُ الْبَاقِي فِي يَدِهِ بِشِرَائِهِ لِلسُّدُسِ، فَيَفْسَخُ بَيْعَهُ فِيهِ، وَيَأْخُذُهُ بِشُفْعَةِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَيَبْقَى مِنْ مَبِيعِهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ، لِزَيْدٍ ثُلُثُ شُفْعَتِهِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ سَهْمًا، الثُّلُثُ الْمَبِيعُ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ سَهْمًا، لِعَمْرٍو ثُلُثَاهَا بِشُفْعَتِهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، يَأْخُذُ ثُلُثَيْهَا مِنْ بَكْرٍ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، وَثُلُثُهَا فِي يَدِهِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، وَالسُّدُسُ الَّذِي اشْتَرَاهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ بِالشُّفْعَةِ، بَقِيَ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، لَهُ ثُلُثَاهَا عَشَرَةٌ، وَيَأْخُذُ مِنْهَا زَيْدٌ خَمْسَةً، فَحَصَلَ لِزَيْدٍ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلِبَكْرٍ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلِعَمْرٍو مِائَةُ سَهْمٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّارِ وَتُسْعُهَا وَنِصْفُ تُسْعِ تُسْعِهَا، وَيَدْفَعُ عَمْرٌو إلَى بَكْرٍ ثُلُثَيْ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى زَيْدٍ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الثَّمَنِ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَإِنْ عَفَا عَمْرٌو عَنْ شُفْعَةِ الثُّلُثِ، فَشُفْعَةُ السُّدُسِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدٍ أَثْلَاثًا، وَيَحْصُلُ لِعَمْرٍو أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ الدَّارِ، وَلَزَيْدً تُسْعَاهَا، وَلِبَكْرٍ ثُلُثُهَا، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ، وَإِنْ بَاعَ بَكْرٌ السُّدُسَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَهُوَ كَبَيْعِهِ إيَّاهُ لِعَمْرٍو، إلَّا أَنَّ لِعَمْرٍو الْعَفْوَ عَنْ شُفْعَتِهِ فِي السُّدُسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْهَا. وَإِنْ بَاعَ بَكْرٌ الثُّلُثَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَلِعَمْرٍو ثُلُثَا شُفْعَةِ الْمَبِيعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ التُّسْعَانِ، يَأْخُذُ ثُلُثَهُمَا مِنْ بَكْرٍ، وَثُلُثَهُمَا مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَذَلِكَ تُسْعٌ ثُلُثُ تُسْعٍ، يَبْقَى فِي يَدِ الثَّانِي سُدُسٌ وَسُدُسُ تُسْعٍ، وَهُوَ عَشَرَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ بَيْنَ عَمْرٍو وَزَيْدٍ أَثْلَاثًا. وَتَصِحُّ أَيْضًا مِنْ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، وَيَدْفَعُ عَمْرٌو إلَى بَكْرٍ ثُلُثَيْ ثَمَنِ مَبِيعِهِ، وَيَدْفَعُ هُوَ وَزَيْدٌ إلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي ثَمَنَ خَمْسَةِ أَسْبَاعِ مَبِيعِهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى بَكْرٍ بِثَمَنِ أَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ مَبِيعِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَمْرٌو حَتَّى بَاعَ مِمَّا فِي يَدِهِ سُدْسًا، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ، فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا. الثَّانِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ كُلُّهَا. وَالثَّالِثُ، تَبْطُلُ فِي قَدْرِ مَا بَاعَ، وَتَبْقَى فِيمَا لَمْ يَبِعْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ هَذِهِ الْوُجُوهِ. فَأَمَّا شُفْعَةُ مَا بَاعَهُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا بَيْنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَزَيْدٍ وَبَكْرٍ أَرْبَاعًا، لِلْمُشْتَرِي نِصْفُهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهَا، عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ حِينَ بَيْعِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّهَا بَيْنَ زَيْدٍ وَبَكْرٍ، عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، لِزَيْدِ تِسْعَةٌ، وَلِبَكْرٍ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ لِزَيْدٍ السُّدُسَ، وَلِبَكْرٍ سُدُسٌ يَسْتَحِقُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِهِ بِالشُّفْعَةِ، فَيَبْقَى مَعَهُ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ السُّدُسِ، مِلْكُهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهَا، فَأَضَفْنَاهُ إلَى سُدُسِ زَيْدٍ، وَقَسَمْنَا الشُّفْعَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ نُعْطِ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ وَلَا بَكْرًا بِالسِّهَامِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشُّفْعَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَلَيْهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَالثَّالِثُ، إنْ عَفَا لَهُمْ عَنْ الشُّفْعَةِ، اسْتَحَقُّوا بِهَا. وَإِنْ أُخِذَتْ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَسْتَحِقُّوا بِهَا شَيْئًا. وَإِنْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، اسْتَحَقَّ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ بِسِهَامِهِ دُونَ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ. وَمَا بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِ بِبَيْعِ عَمْرٍو، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، فَيُخَرَّجُ فِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ اسْتَقْصَيْنَا فُرُوعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ، لَطَالَ، وَخَرَجَ إلَى الْإِمْلَالِ. [فَصْلٌ دَارٌ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ اشْتَرَى اثْنَانِ مِنْهُمْ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ] (4101) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ أَرْبَاعًا، فَاشْتَرَى اثْنَانِ مِنْهُمْ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، اسْتَحَقَّ الرَّابِعُ الشُّفْعَةَ عَلَيْهِمَا، وَاسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ الشُّفْعَةَ عَلَى صَاحِبِهِ. فَإِنْ طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِشُفْعَتِهِ، قُسِّمَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَصَارَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ. وَإِنْ عَفَا الرَّابِعُ وَحْدَهُ، قُسِّمَ الْمَبِيعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ نِصْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ إنْ عَفَا الْجَمِيعُ عَنْ شُفْعَتِهِمْ، فَيَصِيرُ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ، وَلِلرَّابِعِ الرُّبْعُ بِحَالِهِ وَإِنْ طَالَبَ الرَّابِعُ وَحْدَهُ، أَخَذَ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مِنْ الْمِلْكِ مِثْلُ مَا لِلْمُطَالِبِ، فَشُفْعَةُ مَبِيعِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَفِيعِهِ نِصْفَيْنِ، فَيَحْصُلُ لِلرَّابِعِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الدَّارِ، وَبَاقِيهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ. وَإِنْ طَالَبَ الرَّابِعُ وَحْدَهُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، قَاسَمَهُ الثَّمَنَ نِصْفَيْنِ، فَيَحْصُلُ لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الرَّابِعِ وَالْآخَرِ نِصْفَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وَإِنْ عَفَا أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ، وَلَمْ يَعْفُ الْآخَرُ وَلَا الرَّابِعُ، قُسِّمَ مَبِيعُ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّابِعِ نِصْفَيْنِ، وَمَبِيعُ الْآخَرِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، فَيَحْصُلُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ عَنْهُ رُبْعُ وَثُلُثُ ثُمُنٍ، وَذَلِكَ سُدُسٌ وَثُمُنٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَإِنْ عَفَا الرَّابِعُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَعْفُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، أَخَذَ مِمَّنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ ثُلُثَ الثَّمَنِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَكُونُ الرَّابِعُ كَالْعَافِي فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَتَصِحُّ أَيْضًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَإِنْ عَفَا الرَّابِعُ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَلَمْ يَعْفُ الْآخَرُ، فَلِغَيْرِ الْعَافِي رُبْعٌ وَسُدُسٌ، وَالْبَاقِي بَيْن الْعَافِيَيْنِ نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسٌ وَثُمُنٌ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَمَا يُفَرَّعُ مِنْ الْمَسَائِلِ فَهُوَ عَلَى مَسَاقِ مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَة لَا شُفْعَةَ لِكَافِرِ عَلَى مُسْلِمٍ] (4102) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا شُفْعَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا بَاعَ شَرِيكُهُ شِقْصًا لِمُسْلِمِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ عَلَيْهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّ لَهُ الشُّفْعَةَ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ، وَإِنْ بَاعَهُ، وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِالشِّرَاءِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَنَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا شُفْعَةَ لِنَصْرَانِيٍّ» . وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُمْلَكُ بِهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِ مِلْكٍ مَخْصُوصٍ، فَلَمْ يَجِبْ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، كَالزَّكَاةِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ الْعَقَارَ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِعْلَاءَ فِي الْبُنْيَانِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْمُسْلِمِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ مِلْكِهِ، فَقُدِّمَ دَفْعُ ضَرَرِهِ عَلَى دَفْعِ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيمِ دَفْعِ ضَرَرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ تَقْدِيمُ دَفْعِ ضَرَرِ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ أَرْجَحُ، وَرِعَايَتَهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ فِي مَحِلِّ الْإِجْمَاعِ، عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، رِعَايَةٌ لِحَقِّ الشَّرِيكِ الْمُسْلِمِ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ فِي مَعْنَى الْمُسْلِمِ، فَيَبْقَى فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ، وَلِأَنَّهَا إذَا ثَبَتَتْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهِ، وَرِعَايَةِ حَقِّهِ، فَلَأَنْ تَثْبُتَ عَلَى الذِّمِّيِّ مَعَ دَنَاءَتِهِ، أَوْلَى وَأَحْرَى. [فَصْل الشُّفْعَة لِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ] (4103) فَصْلٌ: وَتَثْبُتُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ، فَتَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَالْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 وَإِنْ تَبَايَعُوا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ، لَمْ يُنْقَضْ مَا فَعَلُوهُ. وَإِنْ كَانَ التَّقَابُضُ جَرَى بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ دُونَ الشَّفِيعِ، وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا، لَمْ نَحْكُمْ لَهُ بِالشُّفْعَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ تَبَايَعُوا بِخَمْرٍ، وَقُلْنَا: هِيَ مَالٌ لَهُمْ. حَكَمْنَا لَهُمْ بِالشُّفْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ إذَا كَانَ الثَّمَنُ خَمْرًا؛ لِأَنَّهَا مَالٌ لَهُمْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَايَعُوا بِدَرَاهِمَ، لَكِنْ إنْ كَانَ الشَّفِيعُ ذِمِّيًّا أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَهُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ. وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعٌ عُقِدَ بِخَمْرٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ بِثَمَنٍ مُحَرَّمٍ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ بِالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ، كَمَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ، وَاعْتِقَادُهُمْ حِلَّهُ لَا يَجْعَلُهُ مَالًا كَالْخِنْزِيرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَضْ عَقْدُهُمْ إذَا تَقَابَضُوا، لِأَنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ لِمَا فَعَلُوهُ مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ فِي دِينِهِمْ، مَا لَمْ يَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا قَبْلَ تَمَامِهِ، وَلَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا قَبْلَ التَّقَابُضِ لَفَسَخْنَاهُ. [فَصْل أَصْحَاب الْبِدَعِ هَلْ لَهُمْ شُفْعَةٌ] (4104) فَصْلٌ: فَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، فَمَنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَتَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ، كَالْفَاسِقِ بِالْأَفْعَالِ؛ وَلِأَنَّ عُمُومَ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهَا لِكُلِّ شَرِيكٍ، فَيَدْخُلُ فِيهَا. وَقَدْ رَوَى حَرْبٌ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْبِدَعِ، هَلْ لَهُمْ شُفْعَةٌ، وَيُرْوَى عَنْ إدْرِيسَ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلرَّافِضَةِ شُفْعَةٌ فَضَحِكَ، وَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمْ الشُّفْعَةَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْغُلَاةِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا مَنْ غَلَا، كَالْمُعْتَقِدِ أَنَّ جِبْرِيلَ غَلِطَ فِي الرِّسَالَةِ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أُرْسِلَ إلَى عَلِيٍّ وَنَحْوِهِ، وَمَنْ حُكِمَ بِكُفْرِهِ مِنْ الدُّعَاةِ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إذَا لَمْ تَثْبُتْ لِلذِّمِّيِّ الَّذِي يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. [فَصْل الشُّفْعَةُ لِلْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ وَلِلْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ] (4105) فَصْلٌ: وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ، وَلِلْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْبَتِّيُّ: لَا شُفْعَةَ لِمَنْ لَمْ يَسْكُنْ الْمِصْرَ. وَلَنَا عُمُومُ الْأَدِلَّةِ، وَاشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ. [فَصْلٌ الشُّفْعَة فِي أَرْضِ السَّوَادِ] (4106) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا نَرَى فِي أَرْضِ السَّوَادِ شُفْعَةً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْضَ السَّوَادِ مَوْقُوفَةٌ، وَقَفَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا، وَالشُّفْعَةُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَفَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً، فِي زَمَنِهِ، وَلَمْ يُقَسِّمْهَا، كَأَرْضِ الشَّامِ، وَأَرْضِ مِصْرَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلَمْ تُقَسَّمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِبَيْعِ ذَلِكَ حَاكِمٌ، أَوْ يَفْعَلَهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، ثَبَتَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَتَى حَكَمَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِشَيْءِ، نَفَذَ حُكْمُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 [كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ] ِ الْمُسَاقَاةُ: أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ شَجَرَهُ إلَى آخَرَ، لِيَقُومَ بِسَقْيِهِ، وَعَمَلِ سَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ لَهُ مِنْ ثَمَرِهِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُسَاقَاةً لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ مِنْ السَّقْيِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ أَكْثَرُ حَاجَةِ شَجَرِهِمْ إلَى السَّقْيِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْ الْآبَارِ، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهَا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. حَدِيثٌ صَحِيحٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ آبَائِهِ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، ثُمَّ أَهْلُوهُمْ إلَى الْيَوْمِ يُعْطُونَ الثُّلُثَ وَالرُّبْعَ. وَهَذَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فِي مُدَّةِ خِلَافَتِهِمْ» ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَاوِيَ حَدِيثِ مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ، قَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى حَدَّثَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ» وَهَذَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ، وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لِرُجُوعِهِ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ إلَى حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ حَمْلُ حَدِيثِ رَافِعٍ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، وَلَا حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُعَامِلُ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ يُخَالِفُهُ؟ أَمْ كَيْفَ يُعْمَلُ بِذَلِكَ فِي عَصْرِ الْخُلَفَاءِ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ مَنْ سَمِعَ النَّهْيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَاضِرٌ مَعَهُمْ، وَعَالِمٌ بِفِعْلِهِمْ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ، فَلَوْ صَحَّ خَبَرُ رَافِعٍ لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ خَبَرِ رَافِعٍ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ قَالَ: كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا تُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ، فَرُبَّمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ، وَرُبَّمَا تُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُهُ أَيْضًا بِشَيْءٍ غَيْرِ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، وَهُوَ مُضْطَرِبٌ جِدًّا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُزَارَعَةِ فَقَالَ: رَافِعٌ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا ضُرُوبٌ. كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ يُوهِنُ حَدِيثَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إنَّ أَعْلَمَهُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ قَالَ: «لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَنْكَرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ حَدِيثَ رَافِعٍ عَلَيْهِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَفْعَلُهُ، ثُمَّ أَجْمَعَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، بِخَبَرٍ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ، وَرُجُوعُ ابْنِ عُمَرَ إلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فَسَّرَهَا رَافِعٌ فِي حَدِيثِهِ وَأَمَّا غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى رَافِعٍ، وَلَمْ يَقْبَلْ حَدِيثَهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ غَلِطَ فِي رِوَايَتِهِ. وَالْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النَّخِيلِ وَالشَّجَرِ يَعْجِزُونَ عَنْ عِمَارَتِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا شَجَرَ لَهُمْ، وَيَحْتَاجُونَ إلَى الثَّمَرِ، فَفِي تَجْوِيزِ الْمُسَاقَاةِ دَفْعٌ لِلْحَاجَتَيْنِ، وَتَحْصِيلٌ لِمَصْلَحَةِ الْفِئَتَيْنِ، فَجَازَ ذَلِكَ، كَالْمُضَارَبَةِ بِالْأَثْمَانِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ، يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ. هَذَا قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَالِمٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ دَاوُد: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي النَّخِيلِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ بِهَا فِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي النَّخِيلِ وَالْكَرْمِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي ثَمَرَتِهِمَا، وَفِي سَائِرِ الشَّجَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي نَمَائِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَا ثَمَرَةَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ: لَا تَجُوزُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ بِثَمَرَةٍ لَمْ تُخْلَقْ، أَوْ إجَارَةٌ بِثَمَرَةٍ مَجْهُولَةٍ، أَشْبَهَ إجَارَةَ نَفْسِهِ بِثَمَرَةٍ غَيْرِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقِيه. وَلَنَا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا خَالَفَهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا إجَارَةٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا هُوَ عَقْدٌ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمَالِ بِبَعْضِ نَمَائِهِ، فَهِيَ كَالْمُضَارَبَةِ، وَيَنْكَسِرُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْمُضَارَبَةِ؛ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ فِي الْمَالِ بِنَمَائِهِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ، وَقَدْ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ قَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الْعَقْدَ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ لِلْحَاجَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ عَلَى الثَّمَرَةِ الْمَعْدُومَةِ لِلْحَاجَةِ، مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَكُونُ فِي إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، أَوْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي إبْطَالِ نَصٍّ، وَخَرْقِ إجْمَاعٍ بِقِيَاسِ نَصٍّ آخَرَ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالنَّخِيلِ، أَوْ بِهِ وَبِالْكَرْمِ، فَيُخَالِفُ عُمُومَ قَوْلِهِ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ» . وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ ثَمَرٍ، وَلَا تَكَادُ بَلْدَةٌ ذَاتُ أَشْجَارٍ تَخْلُو مِنْ شَجَرٍ غَيْرِ النَّخِيلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي لَفْظِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ» ، وَلِأَنَّهُ شَجَرٌ يُثْمِرُ كُلَّ حَوْلٍ، فَأَشْبَهَ النَّخِيلَ وَالْكَرْمَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ، كَالنَّخْلِ وَأَكْثَرِ؛ لِكَثْرَتِهِ، فَجَازَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ كَالنَّخْلِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ لَيْسَ مِنْ الْعِلَّةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْمُسَاقَاةِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 [فَصْلٌ الْمُسَاقَاة فِي مَا لَا ثَمَرَ لَهُ مِنْ الشَّجَرِ] (4108) فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا لَا ثَمَرَ لَهُ مِنْ الشَّجَرِ، كَالصَّفْصَافِ وَالْجَوْزِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَهُ ثَمَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ، كَالصَّنَوْبَرِ وَالْأَرْزِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ،، وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إنَّمَا تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَهَذَا لَا ثَمَرَةَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْصَدُ وَرَقُهُ أَوْ زَهْرُهُ كَالتُّوتِ وَالْوَرْدِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الثَّمَرِ، لِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ بِجُزْءِ مِنْهُ، فَيَثْبُتُ لَهُ مِثْلُ حُكْمِهِ. [فَصْل سَاقَاهُ عَلَى ثَمَرَةٍ مَوْجُودَةٍ] (4109) فَصْلٌ: وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى ثَمَرَةٍ مَوْجُودَةٍ، فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجُوزُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَازَتْ فِي الْمَعْدُومَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهَا، فَمَعَ وُجُودِهَا وَقِلَّةِ الْغَرَرِ فِيهَا أَوْلَى. وَإِنَّمَا تَصِحُّ إذَا بَقِيَ مِنْ الْعَمَلِ مَا يُسْتَزَادُ بِهِ الثَّمَرَةُ، كَالتَّأْبِيرِ وَالسَّقْيِ، وَإِصْلَاحِ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ بَقِيَ مَا لَا تَزِيدُ بِهِ الثَّمَرَةُ، كَالْجُذَاذِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَجُزْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَالثَّانِيَةُ لَا تَجُوزُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الشَّطْرِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ عِوَضًا مَوْجُودًا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْمُسَاقِي. فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمَالِ بِبَعْضِ نَمَائِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ ظُهُورِ النَّمَاءِ، كَالْمُضَارَبَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْعَقْدَ إجَارَةً بِمَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ أَقَلُّ غَرَّرَا قُلْنَا: قِلَّةُ الْغَرَرِ لَيْسَتْ مِنْ الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ، وَلَا كَثْرَتُهُ الْمَوْجُودَةُ فِي مَحِلِّ النَّصِّ مَانِعَةً، فَلَا تُؤَثِّرُ قِلَّتُهُ شَيْئًا، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ فِيهِ عِوَضًا مَوْجُودًا. وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ النَّمَاءُ الْمَوْجُودُ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَةُ هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَلَا إثْبَاتُ عَقْدٍ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ إلْحَاقًا بِهِ، كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ، كَالْمُضَارَبَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ. [فَصْلٌ الْمُسَاقَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الثَّمَرَةِ مُشَاعٍ] (4110) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ ". فَيَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الثَّمَرَةِ مُشَاعٍ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، لِحَدِيثِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 ابْنِ عُمَرَ: عَامَلَ أَهْلَ، خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَسَوَاءٌ قَلَّ الْجُزْءُ أَوْ كَثُرَ، فَلَوْ شَرَطَ لِلْعَامِلِ جُزْءًا مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ، وَجَعَلَ جُزْءًا مِنْهَا لِنَفْسِهِ وَالْبَاقِيَ لِلْعَامِلِ، جَازَ مَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حِيلَةً، وَكَذَلِكَ إنْ عَقَدَهُ عَلَى أَجْزَاءٍ مَعْلُومَةٍ، كَالْخَمْسِينَ وَثَلَاثَةِ أَثْمَانٍ، أَوْ سُدُسٍ وَنِصْفِ سُبْعٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ. وَإِنْ عَقَدَ عَلَى جُزْءٍ مُبْهَمٍ، كَالسَّهْمِ وَالْجُزْءِ وَالنَّصِيبِ وَالْحَظِّ وَنَحْوِهِ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَمْ تُمْكِنْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى آصُعٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ جَعَلَ مَعَ الْجُزْءِ الْمَعْلُومِ آصُعًا، لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ غَيْرُهُ، فَيَسْتَضِرُّ رَبُّ الشَّجَرِ أَوْ رُبَّمَا كَثُرَ الْحَاصِلُ فَيَسْتَضِرُّ الْعَامِلُ. وَإِنْ شَرَطَ لَهُ ثَمَرَ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ لَا تَحْمِلُ، فَتَكُونُ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ لَا تَحْمِلُ غَيْرُهَا، فَتَكُونُ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَجْعَلُ فِيهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ مَكَانًا مُعَيَّنًا، وَلِلْعَامِلِ مَكَانًا مُعَيَّنًا» . «قَالَ رَافِعٌ: كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ، عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ، وَلَهُمْ هَذِهِ. فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَتَى شَرَطَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ، وَالثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ. وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ، كَالْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ. الثَّانِي أَنَّ الشَّرْطَ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِالشَّرْطِ، فَالشَّرْطُ يُرَادُ لِأَجْلِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ بِمَالِهِ لَا بِالشَّرْطِ، فَإِذَا قَالَ: سَاقِيَّتك، عَلَى أَنَّ لَك ثُلُثَ الثَّمَرَةِ صَحَّ، وَكَانَ الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَ الثَّمَرَةِ. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَصِحُّ، وَالْبَاقِي لِلْعَامِلِ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَعْلِيلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِمَنْ هُوَ مِنْهُمَا فَهُوَ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يُرَادُ لِأَجْلِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْبُسْتَانِ شَجَرٌ مِنْ أَجْنَاسٍ كَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَالْكَرْمِ وَالرُّمَّانِ] فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْبُسْتَانِ شَجَرٌ مِنْ أَجْنَاسٍ، كَالتِّينِ، وَالزَّيْتُونِ، وَالْكَرْمِ، وَالرُّمَّانِ، فَشَرَطَ لِلْعَامِلِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ قَدْرًا، كَنِصْفِ ثَمَرِ التِّينِ، وَثُلُثِ الزَّيْتُونِ، وَرُبْعِ الْكَرْمِ، وَخُمْسِ الرُّمَّانِ، أَوْ كَانَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ جِنْسٍ، فَشَرَطَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ قَدْرًا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ قَدْرَ كُلِّ نَوْعٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَأَرْبَعَةِ بَسَاتِينَ، سَاقَاهُ عَلَى كُلِّ بُسْتَانٍ بِقَدْرٍ مُخَالِفٍ لِلْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ مِنْ الْآخَرِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا قَدْرَهُ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْقَلِيلُ. أَوْ أَكْثَرُهُ مِمَّا شُرِطَ فِيهِ الْكَثِيرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وَلَوْ قَالَ سَاقَيْتُك عَلَى هَذَيْنِ الْبُسْتَانَيْنِ بِالنِّصْفِ مِنْ هَذَا، وَالثُّلُثِ مِنْ هَذَا صَحَّ؛ لِأَنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، جَمَعَتْ عِوَضَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُك دَارَيَّ هَاتَيْنِ، هَذِهِ بِأَلْفٍ، وَهَذِهِ بِمِائَةٍ. وَإِنْ قَالَ: بِالنِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالثُّلُثِ مِنْ الْآخَرِ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ، وَلَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ ثُلُثَهُ. وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ وَاحِدٍ، نِصْفُهُ هَذَا بِالنِّصْفِ، وَنِصْفُهُ هَذَا بِالثُّلُثِ. وَهُمَا مُتَمَيِّزَانِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا كَبُسْتَانَيْنِ. (4112) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْبُسْتَانُ لِاثْنَيْنِ، فَسَاقَيَا عَامِلًا وَاحِدًا، عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَثُلُثَ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَالْعَامِلُ عَالِمٌ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، جَازَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ. وَلَوْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْرِطَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَإِنْ جَهِلَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ غَرَّرَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقِلُّ نَصِيبُ مَنْ شَرَطَ النِّصْفَ، فَيَقِلُّ حَظُّهُ، وَقَدْ يَكْثُرُ، فَيَتَوَفَّرُ حَظُّهُ فَأَمَّا إنْ شَرَطَا قَدْرًا وَاحِدًا مِنْ مَالِهِمَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمَ قَدْرُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ لَا غَرَرَ فِيهَا وَلَا ضَرَرَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَا: بِعْنَاك دَارَنَا هَذِهِ بِأَلْفٍ. وَلَمْ يَعْلَمْ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، جَازَ لِأَنَّهُ أَيَّ نَصِيبٍ كَانَ فَقَدْ عَلِمَ عِوَضَهُ، وَعَلِمَ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ، فَصَحَّ. كَذَلِكَ هَا هُنَا. وَلَوْ سَاقَى وَاحِدٌ اثْنَيْنِ، جَازَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ لَهُمَا التَّسَاوِيَ فِي النَّصِيبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ. [فَصْلٌ سَاقَاهُ ثَلَاثَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي الْأُولَى النِّصْفَ وَفِي الثَّانِيَةِ الثُّلُثَ وَفِي الثَّالِثَةِ الرُّبْعَ] (4113) فَصْلٌ: وَلَوْ سَاقَاهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، عَلَى أَنَّ لَهُ فِي الْأُولَى النِّصْفَ، وَفِي الثَّانِيَةِ الثُّلُثَ، وَفِي الثَّالِثَةِ الرُّبْعَ جَازَ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَعْلُومٌ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ لَهُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ قَدْرًا. (4114) فَصْلٌ: وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ بُسْتَانًا، فَقَالَ: مَا زَرَعْت فِيهِ مِنْ حِنْطَةٍ فَلِي رُبْعُهُ، وَمَا زَرَعْت مِنْ شَعِيرٍ فَلِي ثُلُثُهُ وَمَا زَرَعْت مِنْ بَاقِلَّا فَلِي نِصْفُهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَا يَزْرَعُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، فَجَرَى مَجْرَى مَا لَوْ شَرَطَ لَهُ فِي الْمُسَاقَاةِ ثُلُثَ هَذَا النَّوْعِ، وَنِصْفَ هَذَا النَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِمَا فِيهِ مِنْهُمَا وَإِنْ قَالَ: إنْ زَرَعْتهَا حِنْطَةً فَلِي رُبْعُهَا، وَإِنْ زَرَعْتهَا شَعِيرًا فَلِي ثُلُثُهُ، وَإِنْ زَرَعْتهَا بَاقِلَّا فَلِي نِصْفُهُ. لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَزْرَعُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك بِعَشَرَةٍ صِحَاحٍ، أَوْ أَحَدَ عَشْرَةَ مُكَسَّرَةٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَصِحُّ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ: إنْ خِطْتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته فَارِسِيًّا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، فَيَخْرُجُ هَا هُنَا مِثْلَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَا زَرَعْتهَا مِنْ شَيْءٍ فَلِي نِصْفُهُ. صَحَّ؛ «لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَى أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ» . وَلَوْ جَعَلَ لَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ ثُلُثَ الْحِنْطَةِ، وَنِصْفَ الشَّعِيرِ، وَثُلُثَيْ الْبَاقِلَّا، وَبَيَّنَا قَدْرَ مَا يُزْرَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، إمَّا بِتَقْدِيرِ الْبَذْرِ، وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ الْمَكَانِ وَتَعْيِينِهِ، أَوْ بِمِسَاحَتِهِ، مِثْلَ أَنْ قَالَ: تَزْرَعُ هَذَا الْمَكَانَ حِنْطَةً، وَهَذَا شَعِيرًا، أَوْ تَزْرَعُ مُدَّيْنِ حِنْطَةً، وَمُدَّيْنِ شَعِيرًا، أَوْ تَزْرَعُ قَفِيزًا حِنْطَةً وَقَفِيزَيْنِ شَعِيرًا. جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ، فَاكْتُفِيَ بِهِ. [فَصْل سَاقَاهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَقَى سَيَّحَا فَلَهُ الثُّلُثُ وَإِنْ سَقَى بِكُلْفَةِ فَلَهُ النِّصْفُ] (4115) فَصْلٌ: وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَقَى سَيْحًا فَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ سَقَى بِكُلْفَةٍ فَلَهُ النِّصْفُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَجْهُولٌ، وَالنَّصِيبَ مَجْهُولٌ، وَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ، قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَك الْخُمُسَانِ، إنْ كَانَتْ عَلَيْك خَسَارَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْك خَسَارَةٌ فَلَكَ الرُّبْعُ. لَمْ يَصِحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: هَذَا شَرْطَانِ فِي شَرْطٍ. وَكَرِهَهُ. وَهَذَا فِي مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيُخَرَّجُ فِيهَا مِثْلُ مَا خُرِّجَ فِيهَا وَلَوْ سَاقَاهُ فِي هَذَا الْحَائِطِ بِالثُّلُثِ، عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ فِي الْحَائِطِ الْآخَرِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ، فَصَارَ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُك ثَوْبِي، عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي ثَوْبَك. وَإِنَّمَا فَسَدَ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ عَقْدًا آخَرَ، وَالنَّفْعُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ. الثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ الْآخَرَ لَا يَلْزَمُهُ بِالشَّرْطِ، فَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَإِذَا سَقَطَ وَجَبَ رَدُّ الْجُزْءِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ الْعِوَضِ لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا. [فَصْلٌ سَاقَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكَهُ وَجَعَلَ لَهُ مِنْ الثَّمَرِ أَكْثَرِ مِنْ نَصِيبِهِ] (4116) فَصْلٌ: وَإِنْ سَاقَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ الثَّمَرِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَجَعَلَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الثَّمَرَةِ، صَحَّ، وَكَانَ السُّدُسُ حِصَّتَهُ مِنْ الْمُسَاقَاةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: سَاقَيْتُك عَلَى نَصِيبِي بِالثُّلُثِ. وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ الثُّلُثُ، فَهِيَ مُسَاقَاةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ نِصْفَهَا بِمِلْكِهِ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ شَيْئًا. وَإِذَا شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَ، فَقَدْ شَرَطَ أَنَّ غَيْرَ الْعَامِلِ يَأْخُذُ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ ثُلُثَهُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ بِلَا عِوَضٍ. فَلَا يَصِحُّ فَإِذَا عَمِلَ فِي الشَّجَرِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، كَانَتْ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ بِرِضَاهُ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَنَا أَعْمَلُ فِيهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَذَكَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 أَصْحَابُنَا وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَقْتَضِي عِوَضًا، فَلَا تَسْقُطُ بِرِضَاهُ بِإِسْقَاطِهِ، كَالنِّكَاحِ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ الْعِوَضُ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ مُتَبَرِّعًا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْقِدْ الْمُسَاقَاةَ. وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ صَحِيحٌ فَوَجَبَ بِهِ الْعِوَضُ لِصِحَّتِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لَا يُوجِبُ شَيْئًا. وَالثَّانِي أَنَّ الْأَبْضَاعَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْعَمَلُ هَا هُنَا يُسْتَبَاحُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِي النِّكَاحِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ، أَوْ بِالْإِصَابَةِ، أَوْ بِهِمَا، فَإِنْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ هَذَا عَلَيْهِ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ. وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ هَا هُنَا لَا يُوجِبُ، وَلَوْ أَوْجَبَ لَأَوْجَبَ قَبْلَ الْعَمَلِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ قَبْلَ الْعَمَلِ شَيْئًا، وَإِنْ أَوْجَبَ بِالْإِصَابَةِ، لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْإِصَابَةَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَالْبَذْلِ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ وَالثَّانِي أَنَّ الْإِصَابَةَ لَوْ خَلَتْ عَنْ الْعَقْدِ لَأَوْجَبَتْ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. وَإِنْ وَجَبَ بِهِمَا امْتَنَعَ الْقِيَاسُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا. فَأَمَّا إنْ سَاقَى أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا مَعًا، فَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ، وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا، وَيَتَقَاصَّانِ الْعَمَلَ إنْ تَسَاوَيَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ نَظَرْت فَإِنْ كَانَ قَدْ شُرِطَ لَهُ فَضْلُ مَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، اسْتَحَقَّ مَا فَضَلَ لَهُ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ لَهُ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الْبَعْلِ مِنْ الشَّجَرِ وَفِيمَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ] (4117) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الْبَعْلِ مِنْ الشَّجَرِ، كَمَا تَجُوزُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ مِنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمُعَامَلَةِ فِي ذَلِكَ، كَدُعَائِهَا إلَى الْمُعَامَلَةِ فِي غَيْرِهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُزَارَعَةِ. [فَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ إلَّا عَلَى شَجَرٍ مَعْلُومٍ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالصِّفَةِ الَّتِي لَا يُخْتَلَفُ مَعَهَا] (4118) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ إلَّا عَلَى شَجَرٍ مَعْلُومٍ بِالرُّؤْيَةِ، أَوْ بِالصِّفَةِ الَّتِي لَا يُخْتَلَفُ مَعَهَا، كَالْبَيْعِ. فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 بُسْتَانٍ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَجْهُولٍ فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، فَلَمْ يَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ الْمُسَاقَاةُ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ] (4119) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ، نَحْوِ: عَامَلْتُك، وَفَالَحْتك، وَاعْمَلْ فِي بُسْتَانِي هَذَا حَتَّى تَكْمُلَ ثَمَرَتُهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْمَعْنَى، فَإِذَا أَتَى بِهِ بِأَيِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ صَحَّ، كَالْبَيْعِ وَإِنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَعْمَلَ لِي فِي هَذَا الْحَائِطِ، حَتَّى تَكْمُلَ ثَمَرَتُهُ، بِنِصْفِ ثَمَرَتِهِ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ يُشْتَرَطُ لَهَا كَوْنُ الْعِوَضِ مَعْلُومًا، وَالْعَمَلِ مَعْلُومًا، وَتَكُونُ لَازِمَةً، وَالْمُسَاقَاةُ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي يَصِحُّ. وَهُوَ أَقِيسُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْمَعْنَى، فَصَحَّ بِهِ الْعَقْدُ، كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: تَجُوزُ إجَارَةُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا الْمُزَارَعَةُ، عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْعَامِلِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ شُرُوطِ الْإِجَارَةِ، إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، أَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْإِجَارَةِ الْمُزَارَعَةُ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا غَيْرُ شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ. [فَصْلٌ يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِإِطْلَاقِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا] (4120) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ بِإِطْلَاقِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا، مِثْلُ حَرْثِ الْأَرْضِ تَحْتَ الشَّجَرِ، وَالْبَقَرِ الَّتِي تَحْرُثُ، وَآلَةِ الْحَرْثِ، وَسَقْيِ الشَّجَرِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَإِصْلَاحِ طُرُقِ الْمَاءِ وَتَنْقِيَتِهَا، وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ وَالشَّوْكِ، وَقَطْعِ الشَّجَرِ الْيَابِسِ، وَزِبَارِ الْكَرْمِ، وَقَطْعِ مَا يُحْتَاجُ إلَى قَطْعِهِ، وَتَسْوِيَةِ الثَّمَرَةِ، وَإِصْلَاحِ الْأَجَاجِينَ، وَهِيَ الْحُفَرُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى أُصُولِ النَّخْلِ، وَإِدَارَةِ الدُّولَابِ، وَالْحِفْظِ لِلثَّمَرِ فِي الشَّجَرِ وَبَعْدَهُ حَتَّى يُقَسَّمَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَمَّسُ فَعَلَيْهِ تَشْمِيسُهُ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ مَا فِيهِ حِفْظُ الْأَصْلِ، كَسَدِّ الْحِيطَانِ، وَإِنْشَاءِ الْأَنْهَارِ، وَعَمَلِ الدُّولَابِ، وَحَفْرِ بِئْرِهِ، وَشِرَاءِ مَا يُلَقَّحُ بِهِ وَعَبَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ هَذَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: كُلُّ مَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْعَمَلِ. فَأَمَّا شِرَاءُ مَا يُلَقَّحُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ تَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْعَمَلِ. فَأَمَّا الْبَقَرَةُ الَّتِي تُدِيرُ الدُّولَابَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْعَمَلِ، فَأَشْبَهَتْ مَا يُلَقَّحُ بِهِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهَا عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلْعَمَلِ، فَأَشْبَهَتْ بَقَرَ الْحَرْثِ، وَلِأَنَّ اسْتِقَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْعَامِلِ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَهِيمَةٍ فَكَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى بَهِيمَةٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: مَا يَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ الْأُصُولِ وَالثَّمَرَةِ مَعًا، كَالْكَسْحِ لِلنَّهْرِ، وَالثَّوْرِ هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 عَلَى مَنْ شُرِطَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ أُهْمِلَ شَرْطُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا، لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْعَامِلِ. فَأَمَّا تَسْمِيدُ الْأَرْضِ بِالزِّبْلِ إنَّ احْتَاجَتْ إلَيْهِ، فَشِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَمَلِ، فَجَرَى مَجْرَى مَا يُلَقَّحُ بِهِ، وَتَفْرِيقُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ، كَالتَّلْقِيحِ. وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ، وَلَمْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ، كَانَ تَأْكِيدًا وَإِنْ شَرَطَا عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الْآخَرَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَأَفْسَدَهُ، كَالْمُضَارَبَةِ إذَا شُرِطَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ، جَازَ. وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُخِلُّ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، فَصَحَّ، كَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ، وَشَرْطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ وَالْخِيَارِ فِيهِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعْلُومًا، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى التَّنَازُعِ وَالتَّوَاكُلِ، فَيَخْتَلَّ الْعَمَلُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَكْثَرَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ أَكْثَرَ الْعَمَلِ، كَانَ وُجُودُ عَمَلِهِ كَعَدَمِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. [فَصْلٌ الْجُذَاذ وَالْحَصَادُ وَاللِّقَاطُ عَلَى عَامِلِ الْمُسَاقَاة] (4121) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجُذَاذُ وَالْحَصَادُ وَاللِّقَاطُ، فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْحَصَادِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَمَلِ، فَكَانَ عَلَى الْعَامِلِ، كَالتَّشْمِيسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْجُذَاذِ أَنَّهُ إذَا شُرِطَ عَلَى الْعَامِلِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا، وَأَجَازَ اشْتِرَاطَهُ عَلَى الْعَامِلِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ بِشَرْطِهِ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ تَكَامُلِ الثَّمَرَةِ، وَانْقِضَاءِ الْمُعَامَلَةِ، فَأَشْبَهَ نَقْلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ خَيْبَرَ إلَى يَهُودَ، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْعَمَلِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ، كَالتَّشْمِيسِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالتَّشْمِيسِ، وَيُفَارِقُ النَّقْلَ إلَى الْمَنْزِلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَزَوَالِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الْمَخْزَنَ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَامِل الْمُسَاقَاة أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غِلْمَانُ رَبِّ الْمَالِ] (4122) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غِلْمَانُ رَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ كَشَرْطِ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ كَعَمَلِهِ، فَإِنَّ يَدَ الْغُلَامِ كَيَدِ مَوْلَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وَالثَّانِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّ غِلْمَانَهُ مَالُهُ، فَجَازَ أَنْ تَعْمَلَ تَبَعًا لِمَالِهِ، كَثَوْرِ الدُّولَابِ، وَكَمَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ بَهِيمَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا وَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ تَبَعًا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. فَإِذَا شَرَطَ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ، فَنَفَقَتُهُمْ عَلَى مَا يَشْتَرِطَانِ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَطْلَقَا، وَلَمْ يَذْكُرَا نَفَقَتَهُمْ، فَهِيَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسَاقِي، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْرُطَهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْمُسَاقِي، فَمُؤْنَةُ مَنْ يَعْمَلُهُ عَلَيْهِ، كَمُؤْنَةِ غِلْمَانِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَمْلُوكُ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ فَإِنْ شَرَطَهَا عَلَى الْعَامِلِ، جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ تَقْدِيرُهَا لَوَجَبَ ذِكْرُ صِفَاتِهَا، وَلَا يَجِبُ ذِكْرُ صِفَاتِهَا. فَلَمْ يَجِبْ تَقْدِيرُهَا. وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغِلْمَانِ الْمُشْتَرَطِ عَمَلُهُمْ، بِرُؤْيَةٍ أَوْ صِفَةٍ تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَتُهُمْ كَمَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَامِل الْمُسَاقَاة أَنَّ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ مِنْ الثَّمَرَةِ وَقَدَّرَ الْأُجْرَةَ] (4123) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْعَامِلُ أَنَّ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَقَدَّرَ الْأُجْرَةَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، فَإِذَا شَرَطَ أَجْرَهُ مِنْ الْمَالِ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَجْرَ عَمَلِهِ. وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ فَسَدَ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ أَجْرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ مِنْ الْحَمَّالِينَ وَنَحْوِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ فَكَانَ عَلَى الْمَالِ، وَلَوْ شَرَطَ أَجْرَ مَا يَلْزَمُهُ عَمَلُهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَصِحَّ كَمَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ] (4124) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، أَوْمَأَ إلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَسُئِلَ عَنْ الْأَكَّارِ يُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ عَقْدٌ لَازِمٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَكَانَ لَازِمًا، كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا، جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ فَسْخُهُ إذَا أَدْرَكَتْ الثَّمَرَةُ، فَيَسْقُطُ حَقُّ الْعَامِلِ، فَيَسْتَضِرُّ. وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِرَّهُمْ بِخَيْبَرَ، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَيَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» وَلَوْ كَانَ لَازِمًا لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَ الْخِيَرَةَ إلَيْهِ فِي مُدَّةِ إقْرَارِهِمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَلَوْ قَدَّرَ لَمْ يُتْرَكْ نَقْلُهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِنَقْلِهِ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 أَجْلَاهُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ، لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهُمْ مِنْهَا. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ نَمَاءِ الْمَالِ، فَكَانَ جَائِزًا، كَالْمُضَارَبَةِ، أَوْ عَقْدٌ عَلَى الْمَالِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ، أَشْبَهَ الْمُضَارَبَةَ، وَفَارَقَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ، فَكَانَتْ لَازِمَةً، كَبَيْعِ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّ عِوَضَهَا مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ، فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمُضَارَبَةِ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِالْمُسَاقَاةِ مِنْ الْإِجَارَةِ، فَقِيَاسُهَا عَلَيْهَا أَوْلَى وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَفْسَخُ بَعْدَ إدْرَاكِ الثَّمَرَةِ. قُلْنَا: إذَا ظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ، فَهِيَ تَظْهَرُ عَلَى مِلْكِهِمَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهَا بِفَسْخٍ وَلَا غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْمُضَارَبَةَ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْرِبْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لِأَهْلِ خَيْبَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً حِينَ عَامَلُوهُمْ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ كَالْمُضَارَبَةِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ. وَمَتَى فَسَخَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَعَلَى الْعَامِلِ تَمَامُ الْعَمَلِ، كَمَا يَلْزَمُ الْمُضَارِبَ بَيْعُ الْعُرُوضِ إذَا فُسِخَتْ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وَإِنْ فَسَخَ الْعَامِلُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، فَصَارَ كَعَامِلِ الْمُضَارَبَةِ إذَا فَسَخَ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وَعَامِلِ الْجَعَالَةِ إذَا فَسَخَ قَبْلَ إتْمَامِ عَمَلِهِ وَإِنْ فَسَخَ رَبُّ الْمَالِ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ إتْمَامَ عَمَلِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَسَخَ الْجَاعِلُ قَبْلَ إتْمَامِ عَمَلِ الْجَعَالَةِ. وَفَارَقَ رَبَّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ إذَا فَسَخَهَا قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ هَذَا مُفْضٍ إلَى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ غَالِبًا، فَلَوْلَا الْفَسْخُ لَظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ، فَمَلَكَ نَصِيبَهُ مِنْهَا، وَقَدْ قَطَعَ ذَلِكَ بِفَسْخِهِ، فَأَشْبَهَ فَسْخَ الْجَعَالَة، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهَا إلَى الرِّبْحِ، وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ إذَا ظَهَرَتْ فِي الشَّجَرِ، كَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِهَا، وَالرِّبْحُ إذَا ظَهَرَ فِي الْمُضَارَبَةِ قَدْ لَا يَكُونُ لِلْعَمَلِ الْأَوَّلِ فِيهِ أَثَرٌ أَصْلًا. فَأَمَّا إنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ. فَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُدَّةٍ، وَيَقَعُ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَجَازَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ لَهُ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُدَّةً تَحْصُلُ الثَّمَرَةُ فِيهَا. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ، كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ أَشْبَهُ بِالْإِجَارَةِ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْعَمَلَ عَلَى الْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا، وَلِأَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً، لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهَا عَلَى إطْلَاقِهَا مَعَ لُزُومِهَا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَبِدُّ بِالشَّجَرِ كُلَّ مُدَّتِهِ، فَيَصِيرُ كَالْمَالِكِ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِالسَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ، وَقَدْ تَكْمُلُ الثَّمَرَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ السَّنَةِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 فَعَلَى هَذَا لَا تَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ الْمُدَّةِ، بَلْ يَجُوزُ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ الَّتِي يَبْقَى الشَّجَرُ فِيهَا وَإِنْ طَالَتْ وَقَدْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَهَذَا تَحَكُّمٌ، وَتَوْقِيتٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. فَأَمَّا أَقَلُّ الْمُدَّةِ، فَيَتَقَدَّرُ بِمُدَّةٍ تَكْمُلُ الثَّمَرَةُ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الثَّمَرَةِ، وَلَا يُوجَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُدَّةٍ لَا تَكْمُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ، فَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ. فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا، فَظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ وَلَمْ تَكْمُلْ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهُوَ كَالْمُتَبَرِّعِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَرْضَ إلَّا بِعِوَضٍ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ مَوْجُودٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ دَفْعُ الْعِوَضِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ إلَيْهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ. وَفَارَقَ الْمُتَبَرِّعَ؛ فَإِنَّهُ رَضِيَ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ الثَّمَرَةُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَإِنْ سَاقَاهُ إلَى مُدَّةٍ تَكْمُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ غَالِبًا، فَلَمْ يَحْمِلْ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ النَّمَاءُ الَّذِي اُشْتُرِطَ جُزْؤُهُ، فَأَشْبَهَ الْمُضَارَبَةَ إذَا لَمْ يَرْبَحْ فِيهَا وَإِنْ ظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ، وَلَمْ تَكْمُلْ، فَلَهُ نَصِيبُهُ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ إتْمَامُ الْعَمَلِ فِيهَا، كَمَا لَوْ انْفَسَخَتْ قَبْلَ كَمَالِهَا. وَإِنْ سَاقَاهُ إلَى مُدَّةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّجَرِ ثَمَرَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَفِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْمِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْمِلَ، وَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ فِيهِ. وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَعْدُومٍ، لَيْسَ الْغَالِبُ وُجُودَهُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَالسَّلَمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ مَعَهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ثَمَرَ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا. وَفَارَقَ مَا إذَا شَرَطَ مُدَّةً تَكْمُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الشَّجَرَ يَحْمِلُ، وَاحْتِمَالُ أَنْ لَا يَحْمِلَ نَادِرٌ، لَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِنْ قُلْنَا: الْعَقْدُ صَحِيحٌ. فَلَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَرِ. فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ فَاسِدٌ. اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ حَمَلَ أَوْ لَمْ يَحْمِلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ الْعِوَضُ، فَكَانَ لَهُ الْعِوَضُ، وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَعَلَ الْأَجَلَ إلَى مُدَّةٍ لَا يُحْمَلُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا. وَمَتَى خَرَجَتْ الثَّمَرَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، فَلَهُ حَقُّهُ مِنْهَا إذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ خَرَجَتْ بَعْدَهُ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ لَا يَثْبُتُ فِي الْمُسَاقَاةِ خِيَارُ الشَّرْطِ] (4125) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ فِي الْمُسَاقَاةِ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ جَائِزَةً. فَالْجَائِزُ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ عَنْ الْخِيَارِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً، فَإِذَا فَسَخَ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ فِيهَا. وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلَا يَثْبُتُ إنْ كَانَتْ جَائِزَةً؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً، فَعَلَى وَجْهَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الْعِوَضِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، كَالنِّكَاحِ. وَالثَّانِي يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. [فَصْلٌ إذَا جَازَتْ الْمُسَاقَاة لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ] (4126) فَصْلٌ: وَمَتَى قُلْنَا بِجَوَازِهَا، لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَهَا إلَيْهِمَا، وَفَسْخَهَا جَائِزٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَى شَاءَ، فَلَمْ تَحْتَجْ إلَى مُدَّةٍ، كَالْمُضَارَبَةِ. وَإِنْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي التَّقْدِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُسَاقَاةُ مِثْلُهَا. وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجُنُونِهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، كَقَوْلِنَا فِي الْمُضَارَبَةِ فَإِذَا مَاتَ الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ، انْفَسَخَتْ الْمُسَاقَاةُ فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِلُزُومِهَا، لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَأَشْبَهَ الْإِجَارَةَ. وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْعَامِلَ، فَأَبَى وَارِثُهُ الْقِيَامَ مَقَامَهُ، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَى مَوْرُوثِهِ إلَّا مَا أَمْكَنَ دَفْعُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْعَمَلُ لَيْسَ مِمَّا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنْ التَّرِكَةِ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، أَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِئْجَارُ مِنْهَا، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ قَدْ ظَهَرَتْ، بِيعَ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَجْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَمَلِ، وَاسْتُؤْجِرَ مِنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ. وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِ الْجَمِيعِ، بِيعَ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ قَدْ بَدَا صَلَاحُهَا أَوْ لَمْ يَبْدُ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَدَا صَلَاحُهَا، خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ الْعَامِلِ جَازَ، وَإِنْ اخْتَارَ بَيْعَ نَصِيبِهِ أَيْضًا بَاعَهُ، وَبَاعَ الْحَاكِمُ نَصِيبَ الْعَامِلِ، وَإِنْ أَبَى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، بَاعَ الْحَاكِمُ نَصِيبَ الْعَامِلِ وَحْدَهُ، وَمَا بَقِيَ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ الْعَمَلِ يَكْتَرِي عَلَيْهِ مَنْ يَعْمَلُهُ، وَمَا فَضَلَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا خُيِّرَ الْمَالِكُ أَيْضًا، فَإِنْ بِيعَ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ نَصِيبِ الْعَامِلِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ إلَّا بِقَطْعِ نَصِيبِ الْمَالِكِ، فَيَقِفُ إمْكَانُ قَطْعِهِ عَلَى قَطْعِ مِلْكِ غَيْرِهِ وَهَلْ يَجُوزُ شِرَاءُ الْمَالِكِ لَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا انْفَسَخَتْ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ الْعَامِلِ، لِقَوْلِنَا بِجَوَازِهَا وَأَبَى الْوَارِثُ الْعَمَلَ. وَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ الْبَقَاءَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ، لَمْ تَنْفَسِخْ إذَا قُلْنَا بِلُزُومِهَا، وَيَسْتَأْذِنُ الْحَاكِمَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الثَّمَرَةِ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، فَأَنْفَقَ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ، وَأَشْهَدَ عَلَى الْإِنْفَاقِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِئْذَانُ الْحَاكِمِ، فَأَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ، فَهَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 يَرْجِعُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قُضِيَ دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِالصَّدَقَةِ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ عَلَى الثَّمَرَةِ بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ إذَا تَعَذَّرَ بَيْعُهَا، كَالْحُكْمِ هَا هُنَا سَوَاءً. [فَصْلٌ هُرُوب عَامِلِ الْمُسَاقَاة] (4127) فَصْل: وَإِنْ هَرَبَ الْعَامِلُ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ مَاتَ وَأَبَى وَارِثُهُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدْ الْحَاكِمُ لَهُ مَالًا، وَأَمْكَنَهُ الِاقْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَوَجَدَ مَنْ يَعْمَلُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الثَّمَرَةِ، فَعَلَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْفَسْخُ. أَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يَقْتَرِضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذِمَّةَ لَهُ. [فَصْلٌ عَامِل الْمُسَاقَاة أَمِينٌ] (4128) فَصْلٌ: وَالْعَامِلُ أَمِينٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيه مِنْ هَلَاكٍ، وَمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ خِيَانَةٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ ائْتَمَنَهُ بِدَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْمُضَارِبِ، فَإِنْ اُتُّهِمَ حَلَفَ، فَإِنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولِهِ، ضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ، اُسْتُؤْجِرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: لَا يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، بَلْ يُحْفَظُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِسْقَهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَسَقَ بِغَيْرِ الْخِيَانَةِ وَلَنَا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَاسْتُوْفِيَتْ بِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ هَرَبَ. وَلَا نُسَلِّمُ إمْكَانَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ تَرْكُهَا، وَلَا يُوثَقُ مِنْهُ بِفِعْلِهَا، وَلَا نَقُولُ إنَّ لَهُ فَسْخَ الْمُسَاقَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهَا مِنْ خِيَانَتِك، أَقِمْ غَيْرَك يَعْمَلْ ذَلِكَ، وَارْفَعْ يَدَك عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَانَةَ قَدْ تَعَذَّرَتْ فِي حَقِّك، فَلَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ ائْتِمَانُك. وَفَارَقَ فَسْخَهُ بِغَيْرِ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَا هُنَا يَفُوتُ مَالُهُ. [فَصْلٌ عَجَزَ عَامِل الْمُسَاقَاة عَنْ الْعَمَلِ لِضَعْفِهِ] (4129) فَصْلٌ: فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْعَمَلِ، لِضَعْفِهِ مَعَ أَمَانَتِهِ، ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي بَقَاءِ يَدِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَجَزَ بِالْكُلِّيَّةِ، أَقَامَ مُقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ، وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَوْفِيَةَ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِنْ تَوْفِيَتِهِ. [فَصْل اخْتَلَفَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِعَامِلِ الْمُسَاقَاة] (4130) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، إذَا ادَّعَى مَا يُشْبِهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى سَبَبًا، لِتَسَلُّمِهِ لِلْحَائِطِ وَالْعَمَلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْمُسَاقَاةُ مِنْ الشَّجَرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 وَلَنَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْعَامِلُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . فَإِنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَفِي أَيِّهِمَا تُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ؟ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ. فَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ لِاثْنَيْنِ، فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا الْعَامِلَ، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ مَالِ الْمُصَدِّقِ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الْمُنْكِرِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ ضَرَرًا، وَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، كَانَتْ شَهَادَتُهُ كَعَدَمِهَا. وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ اثْنَيْنِ، وَرَبُّ الْمَالِ وَاحِدًا، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ عَامِل الْمُسَاقَاة يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ بِظُهُورِهَا] (4131) فَصْلٌ: وَيَمْلِكُ الْعَامِلُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ بِظُهُورِهَا، فَلَوْ تَلِفَتْ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدَةً، كَانَتْ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي يَمْلِكُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ، كَالْقِرَاضِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ، فَيَثْبُتُ مُقْتَضَاهُ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ، وَمُقْتَضَاهُ كَوْنُ الثَّمَرَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لَمَا وَجَبَتْ الْقِسْمَةُ، وَلَا مَلَكَهَا، كَالْأُصُولِ. وَأَمَّا الْقِرَاضُ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الرِّبْحَ فِيهِ بِالظُّهُورِ كَمَسْأَلَتِنَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرِّبْحَ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، فَلَمْ يَمْلِكْ حَتَّى يُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِوِقَايَةٍ لِشَيْءٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَلْفِت الْأُصُولُ كُلُّهَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا فَإِذْ ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةُ نَصِيبِهِ، إذَا بَلَغَتْ حِصَّتُهُ نِصَابًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ النِّصَابَ إلَّا بِجَمْعِهِمَا، لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَة لَا تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي فِي الصَّحِيحِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ، فَتُؤَثِّرُ هَا هُنَا، فَيُبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ ثُمَّ يَقْسِمَانِ مَا بَقِيَ. وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا دُونَ الْآخَرِ، فَعَلَى مَنْ بَلَغَتْ حِصَّتُهُ نِصَابًا الزَّكَاةُ دُونَ الْآخَرِ، يُخْرِجُهَا بَعْدَ الْمُقَاسَمَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْ حِصَّتُهُ نِصَابًا مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا الزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَمَرٌ مِنْ جِنْسِ حِصَّتِهِ، يَبْلُغَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا نِصَابًا، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي حِصَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، كَالْمُكَاتَبِ، وَالذِّمِّيِّ، فَعَلَى الْآخَرِ زَكَاةُ حِصَّتِهِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إنْ كَانَ شَرِيكُهُ نَصْرَانِيًّا، أَعْلَمَهُ أَنَّ الزَّكَاةَ مُؤَدَّاةٌ فِي الْحَائِطِ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ بَعْدَ الزَّكَاةِ مَا بَقِيَ وَلَنَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْ حِصَّتِهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " السُّنَنِ "، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِين يَطِيبُ، قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ يُخَيِّرُ يَهُودَ خَيْبَرَ، أَيَأْخُذُونَهُ بِذَلِكَ الْخَرْصِ، أَمْ يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْخَرْصِ، لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتُفَرَّقَ. قَالَ جَابِرٌ: خَرَصَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا خَيَّرَهُمْ ابْنُ رَوَاحَةَ أَخَذُوا التَّمْرَ وَعَلَيْهِمْ عِشْرُونَ أَلْفَ وَسْقٍ.» [فَصْلٌ سَاقَاهُ عَلَى أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٌ] (4132) فَصْلٌ: وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٌ، فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّقَبَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ سَوَاءٌ أَثْمَرَتْ الشَّجَرَةُ أَوْ لَمْ تُثْمِرْ. وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ أُجْرَةً لِلْأَرْضِ، فَكَانَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَزَارَعَ غَيْرَهُ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ لِيَعْمَل عَلَيْهَا، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ يَتَقَبَّلُهَا مِنْ السُّلْطَانِ، فَعَلَى مَنْ يَقْبَلُهَا أَنْ يُؤَدِّيَ وَظِيفَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُؤَدِّيَ الْعُشْرَ بَعْدَ وَظِيفَةِ عُمَرَ وَهَذَا مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا دَفَعَ السُّلْطَانُ أَرْضَ الْخَرَاجِ إلَى رَجُلٍ يَعْمَلُهَا وَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا، ثُمَّ يُزَكِّي مَا بَقِيَ. كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا هَا هُنَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِعَامِلِ الْمُسَاقَاة فَضْلَ دَرَاهِم] (4133) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فَضْلَ دَرَاهِمَ) يَعْنِي إذَا شَرَطَ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ الثَّمَرَةِ، وَدَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، كَعَشَرَةٍ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَحْدُثْ مِنْ النَّمَاءِ مَا يُسَاوِي تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، فَيَتَضَرَّرُ رَبُّ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ مَنَعْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ أَقْفِزَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَلَوْ شَرَطَ لَهُ دَرَاهِمَ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْجُزْءِ، لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ. وَلَوْ جَعَلَ لَهُ ثَمَرَةَ سَنَةٍ غَيْرِ السَّنَةِ الَّتِي سَاقَاهُ فِيهَا، أَوْ ثَمَرَ شَجَرٍ غَيْرِ الشَّجَرِ الَّذِي سَاقَاهُ عَلَيْهِ، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلًا فِي غَيْرِ الشَّجَرِ الَّذِي سَاقَاهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَمَلًا فِي غَيْرِ السَّنَةِ، فَسَدَ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّ حَقِّهِ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ جَمِيعَ الْعَمَلِ، أَوْ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ، إذْ مَوْضُوعُهَا أَنْ يَعْمَلَ فِي شَجَرٍ مُعَيَّنٍ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْ ثَمَرَتِهِ، فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَمَلَ. [فَصْل سَاقَى رَجُلًا أَوْ زَارِعه] (4134) فَصْلٌ: وَإِذَا سَاقَى رَجُلًا، أَوْ زَارَعَهُ، فَعَامَلَ الْعَامِلُ غَيْرَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَأَجَازَهُ مَالِكٌ، إذَا جَاءَ بِرَجُلٍ أَمِينٍ. وَلَنَا أَنَّهُ عَامِلٌ فِي الْمَالِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَامِلَ غَيْرَهُ فِيهِ، كَالْمُضَارِبِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ، كَالْوَكِيلِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، فَلَهُ أَنْ يُزَارِعَ غَيْرَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنَافِعُهَا مُسْتَحَقَّةً لَهُ، فَمَلَكَ الْمُزَارَعَةَ فِيهَا، كَالْمَالِكِ، وَالْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْمُزَارِعِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْخَرَاجِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ أَنْ يُزَارِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا. وَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُزَارِعَ فِي الْوَقْفِ، وَيُسَاقِيَ عَلَى شَجَرِهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَالِكٌ لِرَقَبَةِ ذَلِكَ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ أَجَازَ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ سَاقَاهُ عَلَى وُدِّيّ النَّخْلِ أَوْ صِغَارِ الشَّجَرِ إلَى مُدَّةٍ يَحْمِلُ فِيهَا غَالِبًا] (4135) فَصْلٌ: وَإِذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيِّ النَّخْلِ، أَوْ صِغَارِ الشَّجَرِ، إلَى مُدَّةٍ يَحْمِلُ فِيهَا غَالِبًا، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا جُزْءٌ مِنْ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ يَكْثُرُ، وَنَصِيبَهُ يَقِلُّ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ جَعَلَ لَهُ سَهْمًا مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ. وَفِيهِ الْأَقْسَامُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي كِبَارِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ، وَهِيَ أَنَّنَا إنْ قُلْنَا: الْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ جَائِزٌ. لَمْ نَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لَازِمٌ. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّةَ زَمَنًا يَحْمِلُ فِيهِ غَالِبًا، فَيَصِحُّ، فَإِنْ حَمَلَ فِيهَا فَلَهُ مَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَجْعَلَهَا إلَى زَمَنٍ لَا يَحْمِلُ فِيهِ غَالِبًا، فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ حَمَلَ فِي الْمُدَّةِ، لَمْ يَسْتَحِقّ مَا جَعَلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا. فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا شُرِطَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّةَ زَمَنًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْمِلَ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ. اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ. فَحَمَلَ فِي الْمُدَّةِ، اسْتَحَقَّ مَا شُرِطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فِيهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَإِنْ شَرَطَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ وَنِصْفَ الْأَصْلِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّمَاءِ وَالْفَائِدَةِ، فَإِذَا شَرَطَ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْأَصْلِ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ اشْتِرَاكَهُمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ لَهُ جُزْءًا مِنْ ثَمَرَتِهَا، مُدَّةَ بَقَائِهَا، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ جَعَلَ لَهُ ثَمَرَةَ عَامٍ بَعْدَ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ. [فَصْلٌ سَاقَاهُ عَلَى شَجَرٍ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى يَحْمِلَ وَيَكُونُ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ] (4136) فَصْل: وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى شَجَرٍ يَغْرِسُهُ، وَيَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى يَحْمِلَ، وَيَكُونُ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ، صَحَّ أَيْضًا. وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ سَاقَاهُ عَلَى صِغَارِ الشَّجَرِ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ: اغْرِسْ فِي أَرْضِي هَذِهِ شَجَرًا أَوْ نَخْلًا، فَمَا كَانَ مِنْ غَلَّةٍ فَلَكَ بِعَمَلِ كَذَا وَكَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا وَكَذَا. فَأَجَازَهُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ خَيْبَرَ فِي الزَّرْعِ وَالنَّخِيلِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَارَعَةِ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامِلِ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ مِنْ الْعَامِلِ وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُعَامَلَةُ بَاطِلَةٌ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَكْلِيفِهِ قَلْعَهَا، وَيَضْمَنُ لَهُ أَرْشَ نَقْصِهَا، وَبَيْنَ إقْرَارِهَا فِي أَرْضِهِ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَتَهَا، كَالْمُشْتَرِي إذَا غَرَسَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ فَأَخَذَهَا. وَإِنْ اخْتَارَ الْعَامِلُ قَلْعَ شَجَرِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ الْقِيمَةَ أَوْ لَمْ يَبْذُلْهَا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَلَمْ يُمْنَعْ تَحْوِيلَهُ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إبْقَاءِ الْغِرَاسِ، وَدَفْعِ أَجْرِ الْأَرْضِ، جَازَ. وَلَوْ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ يَغْرِسُهَا، عَلَى أَنَّ الشَّجَرَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَجُزْ، عَلَى مَا سَبَقَ وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ، بِنَاءً عَلَى الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّ الْمُزَارِعَ يَبْذُرُ فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونُ الزَّرْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَهَذَا نَظِيرُهُ. وَإِنْ دَفَعَهَا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بَيْنَهُمَا، فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْأَصْلِ، فَفَسَدَ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الشَّجَرَ وَالنَّخِيلَ لِيَكُونَ الْأَصْلُ وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا، أَوْ شَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ كَوْنَ الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ سَاقَاهُ عَلَى شَجَرٍ فَبَانَ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ الْعَمَلِ] (4137) فَصْلٌ: وَإِذَا سَاقَاهُ عَلَى شَجَرٍ، فَبَانَ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ الْعَمَلِ، أَخَذَهُ رَبُّهُ وَثَمَرَتَهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي ثَمَرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا، وَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَاسْتَعْمَلَهُ، فَلَزِمَهُ الْأَجْرُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ نُقْرَةً فَاسْتَأْجَرَ مَنْ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ. وَإِنْ شَمَّسَ الثَّمَرَةَ فَلَمْ تَنْقُصْ، أَخَذَهَا رَبُّهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ، فَلِرَبِّهَا أَرْشُ نَقْصِهَا، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَسْتَقِرُّ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ أَنْ اقْتَسَمَاهَا، وَأَكَلَاهَا، فَلِرَبِّهَا تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، فَلَهُ تَضْمِينُهُ الْكُلَّ، وَلَهُ تَضْمِينُهُ قَدْرَ نَصِيبِهِ، وَيُضَمِّنُ الْعَامِلَ قَدْرَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ سَبَبُ يَدِ الْعَامِلِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْجَمِيعِ. فَإِنْ ضَمَّنَهُ الْكُلَّ، رَجَعَ عَلَى الْعَامِلِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ وُجِدَ فِي يَدِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ الْغَاصِبُ عَلَى الْعَامِلِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَطْعَمَ إنْسَانًا شَيْئًا، وَقَالَ لَهُ: كُلْهُ، فَإِنَّهُ طَعَامِي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ. وَإِنْ ضَمَّنَ الْعَامِلَ، احْتَمَلَ أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ إلَّا نَصِيبَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَا قَبَضَ الثَّمَرَةَ كُلَّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاعِيًا لَهَا وَحَافِظًا، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا مَا لَمْ يَقْبِضْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ يَدَهُ ثَبَتَتْ عَلَى الْكُلِّ مُشَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ. فَإِنْ ضَمَّنَهُ الْكُلَّ، رَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِبَدَلِ نَصِيبِهِ مِنْهَا، وَأَجْرِ مِثْلِهِ. وَإِنْ ضَمَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا صَارَ إلَيْهِ، رَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ لَا غَيْرُ وَإِنْ تَلْفِت الثَّمَرَةُ فِي شَجَرِهَا، أَوْ بَعْدَ الْجُذَاذِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَمَنْ جَعَلَ الْعَامِلَ قَابِضًا لَهَا بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى حَائِطِهَا قَالَ: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا. وَمَنْ لَا يَكُونُ قَابِضًا إلَّا بِأَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْهَا قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، وَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 [بَابُ الْمُزَارَعَةِ] [مَسْأَلَة الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ] ِ (4138) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ) مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ: دَفْعُ الْأَرْضِ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا، وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتٍ إلَّا وَيَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَابْنُ سِيرِينَ وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُهُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن يَزِيدَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ، فَلَهُمْ كَذَا. وَكَرِهَهَا عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا. وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ النَّخِيلِ، إذَا كَانَ بَيَاضُ الْأَرْضِ أَقَلَّ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَمَنَعَهَا فِي الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ؛ لِمَا رَوَى «رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُ، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَعُ. قَالَ قُلْنَا: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، وَلَا يُكْرِيهَا بِثُلُثٍ وَلَا بِرُبْعٍ، وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى» وَعَنْ «ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا كُنَّا نَرَى بِالْمُزَارَعَةِ بَأْسًا حَتَّى سَمِعْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا» . وَقَالَ جَابِرٌ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُخَابَرَةِ» . وَهَذِهِ كُلّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَالْمُخَابَرَةُ: الْمُزَارَعَةُ. وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ الْخَبَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ، وَالْخَبِيرُ: الْأَكَّارُ. وَقِيلَ: الْمُخَابَرَةُ مُعَامَلَةُ أَهْلِ خَيْبَرَ. وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ جَابِرٍ مُفَسِّرًا، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ.» وَرُوِيَ تَفْسِيرُهَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 زَيْدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُخَابَرَةِ. قُلْت: وَمَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ» . وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، ثُمَّ أَهْلُوهُمْ إلَى الْيَوْمِ يُعْطُونَ الثُّلُثَ وَالرُّبْعَ» . وَهَذَا أَمْرٌ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ حَتَّى مَاتُوا، ثُمَّ أَهْلُوهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتٍ إلَّا وَعَمِلَ بِهِ، وَعَمِلَ بِهِ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدِهِ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ، ثَمَانُونَ وَسْقًا تَمْرًا، وَعِشْرُونَ وَسْقًا شَعِيرًا، فَقَسَّمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْطَعَ لَهُنَّ مِنْ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ، أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ الْأَوْسُقَ، فَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْأَوْسُقَ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتْ الْأَرْضَ.» وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا شَيْءٌ عَمِلَ بِهِ إلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ، وَعَمِلُوا بِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُهُ، وَمَتَى كَانَ نَسْخُهُ؟ فَإِنْ كَانَ نُسِخَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ عُمِلَ بِهِ بَعْدَ نَسْخِهِ، وَكَيْفَ خَفِيَ نَسْخُهُ، فَلَمْ يَبْلُغْ خُلَفَاءَهُ، مَعَ اشْتِهَارِ قِصَّةِ خَيْبَرَ، وَعَمَلِهِمْ فِيهَا؟ فَأَيْنَ كَانَ رَاوِي النَّسْخِ، حَتَّى لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِهِ؟ فَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ فَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ رَافِعٍ، مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ بِمَا لَا يُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُنَّا مِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ حَقْلًا، فَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ، وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَلَمْ يَنْهَنَا، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: فَأَمَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ، فَلَا بَأْسَ. وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ. الثَّانِي أَنَّ خَبَرَهُ وَرَدَ فِي الْكِرَاءِ بِثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ، وَالنِّزَاعُ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَلَمْ يَدُلَّ حَدِيثُهُ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَحَدِيثُهُ الَّذِي فِيهِ الْمُزَارَعَةُ يُحْمَلُ عَلَى الْكِرَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، رُوِيَتْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَجِبُ تَفْسِيرُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِمَا يُوَافِقُ الْآخَرَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 الثَّالِثُ أَنَّ أَحَادِيثَ رَافِعٍ مُضْطَرِبَةٌ جِدًّا، مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَا لَوْ انْفَرَدَتْ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى مِثْلِ حَدِيثِنَا؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدِيثُ رَافِعٍ أَلْوَانٌ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثُ رَافِعٍ ضُرُوبٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَدْ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَافِعٍ بِعِلَلٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ لِذَلِكَ، مِنْهَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهَا خَمْسٌ أُخْرَى. وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَقِيهَانِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ؛ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ قَدْ اقْتَتَلَا، فَقَالَ: " إنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ، فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قُلْت لِطَاوُسٍ: لَوْ تَرَكْت الْمُخَابَرَةَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا. قَالَ: إنَّ أَعْلَمَهُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَلَكِنْ قَالَ: " أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا " ثُمَّ إنَّ أَحَادِيثَ رَافِعٍ مِنْهَا مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا، وَتَارَةً يُحَدِّثُ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ، وَتَارَةً عَنْ سَمَاعِهِ، وَتَارَةً عَنْ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، وَإِذَا كَانَتْ أَخْبَارُ رَافِعٍ هَكَذَا، وَجَبَ إخْرَاجُهَا وَاسْتِعْمَالُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي شَأْنِ خَيْبَرَ، الْجَارِيَةِ مَجْرَى التَّوَاتُرِ، الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَبِهَا عَمِلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَلَا مَعْنَى لِتَرْكِهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ صِحَّةُ خَبَرِ رَافِعٍ، وَامْتَنَعَ تَأْوِيلُهُ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَسْخِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، وَيَسْتَحِيلُ الْقَوْلُ بِنَسْخِ حَدِيثِ خَيْبَرَ؛ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا بِهِ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى حِينِ مَوْتِهِ، ثُمَّ مِنْ بَعِدَهُ إلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ، فَمَتَى كَانَ نَسْخُهُ؟ وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُخَابَرَة، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي حُمِلَ عَلَيْهَا خَبَرُ رَافِعٍ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى حَدِيثَ خَيْبَرَ أَيْضًا، فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ، مَهْمَا أَمْكَنَ، ثُمَّ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُزَارَعَةِ، لَكَانَ مَنْسُوخًا بِقِصَّةِ خَيْبَرَ؛ لِاسْتِحَالَةِ نَسْخِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُحْمَلُ أَحَادِيثُكُمْ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَيْنَ النَّخِيلِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ الْأَرْضِ الْبَيْضَاء جَمْعًا بَيْنَهُمَا. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِوُجُوهٍ خَمْسَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ يَأْتِي مِنْهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ وَسْقٍ، لَيْسَ فِيهَا أَرْضٌ بَيْضَاءُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَامَلَهُمْ عَلَى بَعْضِ الْأَرْضِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَنْقُلُ الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ الْقِصَّةَ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 الثَّانِي أَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ التَّأْوِيلِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ، وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي لَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ سِوَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ بَعْضِهَا عَلَى مَا فَسَّرَهُ رِوَايَةً بِهِ أَوْلَى مِنْ التَّحَكُّمِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إلَى تَقْيِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ حَمْلٌ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ. الرَّابِعُ أَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مُوَافَقَةَ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَهْلَيْهِمْ، وَفُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتِهِ وَمَعَانِيهَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ. الْخَامِسُ، أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ رَوَى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ، وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلَيْهِمْ، وَفُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَاسْتِمْرَارُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ خَفَاؤُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَمَا رُوِيَ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ، فَيَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لَا يُسَوَّغُ لَأَحَدٍ خِلَافُهُ. وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيه، فَإِنَّ الْأَرْضَ عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ فِيهَا، فَجَازَتْ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا، كَالْأَثْمَانِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالنَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ، أَوْ نَقُولُ: أَرْضٌ، فَجَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهَا، كَالْأَرْضِ بَيْنَ النَّخِيلِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْضِ قَدْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى زَرْعِهَا، وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَالْأَكَرَةُ يَحْتَاجُونَ إلَى الزَّرْعِ. وَلَا أَرْضَ لَهُمْ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ بَلْ الْحَاجَةُ هَا هُنَا آكَدُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الزَّرْعِ آكَدُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ مُقْتَاتًا، وَلِكَوْنِ الْأَرْضِ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ رَاوِي حَدِيثِهِمْ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا. وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَنْ الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يَنْهَى عَنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى غَلَطِ الرَّاوِي فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا ظَنَّهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ حُكْمُ الْمُسَاقَاةِ، فِي أَنَّهَا إنَّمَا تَجُوزُ بِجُزْءٍ لِلْعَامِلِ مِنْ الزَّرْعِ، وَفِي جَوَازِهَا، وَلُزُومِهَا، وَمَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ وَبَيْنَهُ بَيَاضُ أَرْضٍ فَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ وَزَارِعه الْأَرْضَ الَّتِي بَيْن الشَّجَرِ] (4139) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ، وَبَيْنَهُ بَيَاضُ أَرْضٍ، فَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ، وَزَارَعَهُ الْأَرْضَ الَّتِي بَيْنَ الشَّجَرِ جَازَ، سَوَاءٌ قَلَّ بَيَاضُ الْأَرْضِ أَوْ كَثُرَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: قَدْ دَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى هَذَا. وَبِهَذَا قَالَ كُلُّ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ فِي الْأَرْضِ الْمُفْرَدَةِ. فَإِذَا قَالَ: سَاقَيْتُك عَلَى الشَّجَرِ، وَزَارَعْتُك عَلَى الْأَرْضِ بِالنِّصْفِ. جَازَ. وَإِنْ قَالَ: عَامَلْتُك عَلَى الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ عَلَى النِّصْفِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 الْمُعَامَلَةَ تَشْمَلُهُمَا. وَإِنْ قَالَ: زَارَعْتُك: الْأَرْضَ بِالنِّصْفِ، وَسَاقَيْتُك عَلَى الشَّجَرِ بِالرُّبْعِ. جَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الشَّجَرِ، وَيَجْعَلَ لَهُ فِي كُلِّ نَوْعٍ قَدْرًا. وَإِنْ قَالَ: سَاقَيْتُك عَلَى الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِالنِّصْفِ. جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُسَاقَاةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ فِيهَا، لِحَاجَةِ الشَّجَرِ إلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَا تَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ، وَتَصِحُّ فِي النَّخْلِ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: يَنْبَنِي عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ عَقْدٍ بِلَفْظِ عَقْدٍ يُشَارِكُهُ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ بِهِ فِي الِاشْتِقَاقِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فِي السَّلَمِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَقَدْ عُلِمَ بِقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ وَهَكَذَا إنْ قَالَ فِي الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ: سَاقَيْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِنِصْفِ مَا يُزْرَعُ فِيهَا. فَأَمَّا إنْ قَالَ: سَاقَيْتُك عَلَى الشَّجَرِ بِالنِّصْفِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَرْضَ، لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَزْرَعَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ: لِلدَّاخِلِ زَرْعُ الْبَيَاضِ، فَإِنْ تَشَارَطَا أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنَّهُ يَزْرَعُ الْبَيَاضَ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الدَّاخِلَ يَسْقِي لِرَبِّ الْأَرْضِ، فَتِلْكَ زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ أَرْضًا مُنْفَرِدَةً. [فَصْلٌ زَارِعه أَرْضًا فِيهَا شَجَرَاتٌ يَسِيرَةً] (4140) فَصْلٌ: وَإِنْ زَارَعَهُ أَرْضًا فِيهَا شَجَرَاتٌ يَسِيرَةٌ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَامِلُ ثَمَرَتَهَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ الشَّجَرُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ، فَيَدْخُلُ تَبَعًا. وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَرَطَ الثَّمَرَةَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الشَّجَرُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. [فَصْلٌ آجَرَهُ بَيَاضَ أَرْضِ وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ الَّذِي فِيهَا] (4141) فَصْلٌ: وَإِنْ آجَرَهُ بَيَاضَ أَرْضٍ، وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ الَّذِي فِيهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَجُوزُ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَفْعَلَا ذَلِكَ حِيلَةً عَلَى شِرَاءِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ وُجُودِهَا، أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَلَا يَجُوزُ، سَوَاءٌ جَمَعَا بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ، أَوْ عَقَدَا أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ. [مَسْأَلَة إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ] (4142) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْعَمَلُ مِنْ الْعَامِلِ. نَصَّ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَاخْتَارَهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ. وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سِيرِينَ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَشْتَرِكُ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي نَمَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا، كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْأَرْضُ فِيهَا نَخْلٌ وَشَجَرٌ، يَدْفَعُهَا إلَى قَوْمٍ يَزْرَعُونَ الْأَرْضَ وَيَقُومُونَ عَلَى الشَّجَرِ، عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ، وَلَهُمْ النِّصْفَ: فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَقَدْ دَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى هَذَا. فَأَجَازَ دَفْعَ الْأَرْضِ لِزَرْعِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْبَذْرِ. فَعَلَى هَذَا أَيُّهُمَا أَخْرَجَ الْبَذْرَ، جَازَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ. وَلِعَلَّهمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ عُمَرَ، وَلَا يَكُونُ قَوْلًا ثَالِثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَطْرُ ثَمَرِهَا» . وَفِي لَفْظٍ «عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.» أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ. فَجَعَلَ عَمَلَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَزَرْعَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ. وَالْأَصْلُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ قِصَّةُ خَيْبَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْبَذْرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا أَخَلَّ بِذِكْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ لَنُقِلَ، وَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِنَقْلِهِ. وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ، أَنَّهُ عَامَلَ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ اشْتَهَرَ فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِيُخَيِّرَهُمْ فِي أَيِّ الْعَقْدَيْنِ شَاءُوا، فَمَنْ اخْتَارَ عَقْدًا عَقَدَهُ مَعَهُ مُعَيَّنًا، كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْبَيْعِ: إنْ شِئْت بِعْتُكَهُ بِعَشَرَةٍ صِحَاحٍ، وَإِنْ شِئْت بِأَحَدَ عَشَرَ مَكْسُورَةٍ. فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَعَقَدَ الْبَيْعَ مَعَهُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُ بِالْبَذْرِ، أَوْ شُرُوعُهُ فِي الْعَمَلِ بِغَيْرِ بَذْرٍ، مَعَ إقْرَارِ عُمَرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعِلْمِهِ بِهِ جَرَى مَجْرَى الْعَقْدِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ خِطْتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ الْقِيَاسِ يُخَالِفُ ظَاهِرَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، فَكَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ؟ ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا اشْتَرَكَ مَالَانِ وَبَدَنُ صَاحِبِ أَحَدِهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 [فَصْلٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ وَشَرَطَا أَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ] (4143) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ، وَشَرَطَا أَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ فَسَادِهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ بَذْرِهِ، لَكِنْ إنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهَا، لَمْ يَرْجِعْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءِ. وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا إخْرَاجُ رَبِّ الْمَالِ الْبَذْرَ. فَهِيَ فَاسِدَةٌ، فَعَلَى الْعَامِلِ نِصْفُ أَجْرِ الْأَرْضِ، وَلَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُ أَجْرِ عَمَلِهِ، فَيَتَقَاصَّانِ بِقَدْرِ الْأَقَلِّ مِنْهُمَا، وَيَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْفَضْلِ وَإِنْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ فِي الزَّرْعِ، وَقُلْنَا بِصِحَّتِهَا، فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِهَا، فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَيَتَرَاجَعَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ إنْ تَفَاضَلَا فِي الْبَذْرِ، وَشَرَطَا التَّسَاوِيَ فِي الزَّرْعِ، أَوْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ بَذْرِهِ أَوْ أَقَلَّ. [فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَجَرْتُك نِصْفَ أَرْضِي هَذِهِ بِنِصْفِ بَذْرِك وَنِصْفِ مَنْفَعَتِك] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ: أَجَّرْتُك نِصْفَ أَرْضِي هَذِهِ بِنِصْفِ بَذْرِك وَنِصْفِ مَنْفَعَتِك وَمَنْفَعَةِ بَقَرِك، وَآلَتِك. وَأَخْرَجَ الْمُزَارِعُ الْبَذْرَ كُلَّهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهَا أُجْرَةً لِأَرْضٍ أُخْرَى، أَوْ دَارٍ، لَمْ يَجُزْ، وَيَكُونُ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ. وَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُ الْمَنْفَعَةِ وَضَبْطُهَا بِمَا لَا تَخْتَلِفُ مَعَهُ، وَمَعْرِفَةُ الْبَذْرِ، جَازَ، وَكَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ عِوَضٌ، فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَبِيعًا، وَمَا حَصَلَ فِيهِ قَبْضٌ. وَإِنْ قَالَ: أَجَرْتُك نِصْفَ أَرْضِي، بِنِصْفِ مَنْفَعَتِك، وَمَنْفَعَةِ بَقَرِك، وَآلَتِك، وَأَخْرَجَا الْبَذْرَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، إلَّا أَنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. [مَسْأَلَة اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ مِثْلَ بَذْرِهِ وَيَقْتَسِمَا مَا بَقِيَ] (4145) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ مِثْلَ بَذْرِهِ، وَيَقْتَسِمَا مَا بَقِيَ، لَمْ يَجُزْ) وَكَانَتْ لِلْمُزَارِعِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ إنْ أَخْرَجَ الْمُزَارِعُ الْبَذْرَ، وَيَصِيرُ الزَّرْعُ لِلْمَزَارِعِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ. أَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ مِثْلَ بَذْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ قُفْزَانًا مَعْلُومَةً، وَذَلِكَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، تَفْسُدُ بِهِ الْمُزَارَعَةُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ رُبَّمَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا تِلْكَ الْقُفْزَانُ، فَيَخْتَصُّ رَبُّ الْمَالِ بِهَا، وَرُبَّمَا لَا تُخْرِجُهَا الْأَرْضُ وَأَمَّا إذَا أَخْرَجَ الْمُزَارِعُ الْبَذْرَ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي صِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ فَاسِدٌ. فَإِذَا أَخْرَجَ الْمُزَارِعُ الْبَذْرَ فَسَدَتْ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ عِنْدِهِ. وَمَتَى فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ، فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا لَهُ، يَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَيَنْمُو، فَصَارَ كَصِغَارِ الشَّجَرِ إذَا غُرِسَ فَطَالَ، وَالْبَيْضَةِ إذَا حُضِنَتْ فَصَارَتْ فَرْخًا، وَالْبَذْرُ هَا هُنَا مِنْ الْمُزَارِعِ، فَكَانَ الزَّرْعُ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ رَبَّهَا إنَّمَا بَذَلَهَا لَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَرَجَعَ إلَى عِوَضِ مَنَافِعِهَا النَّابِتَةِ بِزَرْعِهَا عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ وَلَوْ فَسَدَتْ، وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، كَانَ الزَّرْعُ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْعَامِلِ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَرَاجَعَانِ بِمَا يَفْضُلُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا نَصِيبُ الْعَامِلِ، وَأَجْرِ الْعَامِلِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْأَرْضِ. [فَصْلٌ زَارَعَهُ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعًا بِعَيْنِهِ وَلِلْعَامِلِ زَرْعًا بِعَيْنِهِ] (4146) فَصْلٌ: وَإِنْ زَارَعَهُ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعًا بِعَيْنِهِ، وَلِلْعَامِلِ زَرْعًا بِعَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَ نَاحِيَةٍ، وَلِلْآخَرِ زَرْعَ أُخْرَى، أَوْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا مَا عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ، إمَّا مُنْفَرِدًا، أَوْ مَعَ نَصِيبِهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ صَحِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، غَيْرُ مُعَارَضٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَلَفِ مَا عُيِّنَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْغَلَّةِ دُونَ صَاحِبِهِ. [فَصْلٌ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ] (4147) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يَعُودُ بِجَهَالَةِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا هَا هُنَا، أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا نَصِيبًا مَجْهُولًا، أَوْ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، أَوْ أَقْفِزَةً مُعَيَّنَةً، أَوْ أَنَّهُ إنْ سَقَى سَيْحًا فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ سَقَى بِكُلْفَةٍ فَلَهُ كَذَا. فَهَذَا يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَالْمُضَارَبَةَ مَعَ جَهَالَةِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ شَرَطَ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فَسَادُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا فَسَدَ، لَزِمَ كَوْنُ الزَّرْعِ لِرَبِّ الْبَذْرِ، لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مَالِهِ، فَلَا يَحْصُلُ لِرَبِّ الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَهَذَا مَعْنَى الْفَسَادِ. فَأَمَّا إنْ شَرَطَ مَا لَا يُفْضِي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، كَعَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مَعَهُ، أَوْ عَمَلِ الْعَامِلِ فِي شَيْءٍ آخَرَ، فَهَلْ تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ. [فَصْلٌ دَفَعَ رَجُلٌ بَذْرَهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لِيَزْرَعهُ فِي أَرْضِهِ وَيَكُونَ مَا يَخْرُجُ بَيْنَهُمَا] (4148) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ رَجُلٌ بَذْرَهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، لِيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ، وَيَكُونُ مَا يَخْرُجُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ لَيْسَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلَا مِنْ الْعَامِلِ، وَيَكُونُ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ الْأَرْضِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 وَالْعَمَلِ. وَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِرَجُلٍ: أَنَا أَزْرَعُ الْأَرْضَ بِبَذْرِي وَعَوَامِلِي، وَيَكُونُ سَقْيُهَا مِنْ مَائِك، وَالزَّرْعُ بَيْنَنَا. فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا لَا يَصِحُّ. اخْتَارَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا الْأَرْضُ، وَمِنْ الْآخَرِ الْعَمَلُ، وَلَيْسَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ أَرْضٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا بَذْرٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُسْتَأْجَرُ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ بِهِ؟ وَالثَّانِيَةُ، يَصِحُّ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ، وَحَرْبٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ أَحَدُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الزَّرْعِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، كَالْأَرْضِ وَالْعَمَلِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَحَدِهِمْ الْأَرْضُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَذْرُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَقَرُ وَالْعَمَلُ] (4149) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ، مِنْ أَحَدِهِمْ الْأَرْضُ، وَمِنْ الْآخَرِ الْبَذْرُ، وَمِنْ الْآخَرِ الْبَقَرُ وَالْعَمَلُ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ فَعَمِلُوا، فَهَذَا عَقْدٌ فَاسِدٌ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَمُهَنَّا، وَأَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ، وَذَكَر حَدِيثَ مُجَاهِدٍ «، فِي أَرْبَعَةٍ اشْتَرَكُوا فِي زَرْعٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَلَيَّ الْفَدَّانُ. وَقَالَ الْآخَرُ: قِبَلِي الْأَرْضُ. وَقَالَ الْآخَرُ: قِبَلِي الْبَذْرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: قِبَلِي الْعَمَلُ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَأَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، وَلِصَاحِبِ الْفَدَّانِ شَيْئًا مَعْلُومًا» . فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ، وَالْعَمَلُ عَلَى غَيْرِهِ. وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَعَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَحَدَّثْت بِهِ مَكْحُولًا، فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ وَصِيفًا. وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي صَدْرِ الْفَصْلِ، وَهُمَا فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، أَوْ مِنْ الْعَامِلِ، وَلَيْسَ هُوَ هَا هُنَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَيْسَتْ شَرِكَةً؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ بِالْأَثْمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعُرُوضِ، اُعْتُبِرَ كَوْنُهَا مَعْلُومَةً، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَا هُنَا. وَلَيْسَتْ إجَارَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْتَقِرُ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَعِوَضٍ مَعْلُومٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، وَلِصَاحِبَيْهِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمَا الْمُسَمَّى، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ، عَادَ إلَى بَدَلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّمَاءَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلَا تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِهِ، كَسَائِرِ مَالِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِثَلَاثَةٍ، فَاشْتَرَكُوا عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا بِبَذْرِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ، عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَالِهِمْ، فَهُوَ جَائِزٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَفْضُلُ صَاحِبَيْهِ بِشَيْءٍ. [فَصْلٌ زَارِع رَجُلًا وَآجُرهُ أَرْضَهُ فَزَرَعَهَا وَسَقَطَ مِنْ الْحَبِّ شَيْءٌ فَنَبَتَ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ عَامًا آخَر] فَصْلٌ: وَإِذَا زَارَعَ رَجُلًا، وَآجَرَهُ أَرْضَهُ فَزَرَعَهَا، وَسَقَطَ مِنْ الْحَبِّ شَيْءٌ، فَنَبَتَ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ عَامًا آخَرَ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لِصَاحِبِ الْحَبِّ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَذَرَهُ قَصْدًا. وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْحَبِّ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَرْكُ ذَلِكَ لِمَنْ يَأْخُذُهُ، وَلِهَذَا أُبِيحَ الْتِقَاطُهُ وَرَعْيُهُ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ الْتِقَاطِ مَا خَلَّفَهُ الْحَصَّادُونَ مِنْ سُنْبُلٍ وَحَبٍّ وَغَيْرِهِمَا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى نَبْذِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْكِ لَهُ، وَصَارَ كَالشَّيْءِ التَّافِهِ يَسْقُطُ مِنْهُ، كَالثَّمَرَةِ وَاللُّقْمَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَالنَّوَى لَوْ الْتَقَطَهُ إنْسَانٌ، فَغَرَسَهُ، كَانَ لَهُ دُونَ مَنْ سَقَطَ مِنْهُ، كَذَا هَا هُنَا. [فَصْل إجَارَةِ الْأَرْضِ بِالْوَرِقِ وَالذَّهَبِ وَسَائِرِ الْعُرُوضِ سِوَى الْمَطْعُومِ] (4151) فَصْلٌ: فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ، تَجُوزُ إجَارَتُهَا بِالْوَرِقِ، وَالذَّهَبِ، وَسَائِرِ الْعُرُوضِ، سِوَى الْمَطْعُومِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعِلْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اكْتِرَاءَ الْأَرْضِ وَقْتًا مَعْلُومًا جَائِزٌ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ سَعْدٍ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى رَافِعٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَنَا «أَنَّ رَافِعًا قَالَ: أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَلَمْ يَنْهَنَا» . يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ «أَمَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فَلَا بَأْسَ» . وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّهُ «سَأَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ. قَالَ فَقُلْت: بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 قَالَ: إنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بَأْسَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَى السَّوَاقِي وَمَا صَعِدَ بِالْمَاءِ مِنْهَا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَنَا أَنْ نُكْرِيَهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا، فَجَازَتْ إجَارَتُهَا بِالْأَثْمَانِ وَنَحْوِهَا، كَالدُّورِ وَالْحُكْمُ فِي الْعُرُوضِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَثْمَانِ. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَقَدْ فَسَّرَهُ الرَّاوِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَحَدِيثُنَا مُفَسِّرٌ لِحَدِيثِهِمْ، فَإِنَّ رَاوِيهِمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ رَوَاهُ عَامًّا وَخَاصًّا، فَيُحْمَلُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، مَعَ مُوَافَقَةِ الْخَاصِّ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَالْقِيَاسِ وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَأَمَّا إجَارَتُهَا بِطَعَامٍ، فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا، أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِمَطْعُومٍ غَيْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا مَعْلُومٍ، فَيَجُوزُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ، حَتَّى مَنَعَ إجَارَتَهَا بِاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِنْ أَحْمَدَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، وَمَذْهَبُهُ الْجَوَازُ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ، مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلَا يُكْرِيهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ قَالَ: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْت: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، أَوْ عَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ أَوْ الشَّعِيرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ» وَالْمُحَاقَلَةُ: اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ. وَلَنَا قَوْلُ رَافِعٍ: فَأَمَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، لَا يُتَّخَذُ وَسِيلَةً إلَى الرِّبَا، فَجَازَتْ إجَارَتُهَا بِهِ، كَالْأَثْمَانِ. وَحَدِيثُ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْ إجَارَتِهَا بِذَلِكَ إذَا كَانَ خَارِجًا مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْهُ إذَا آجَرَهَا بِالرُّبْعِ وَالْأَوْسُقِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ مِنْ كِرَائِهَا بِالْحِنْطَةِ، إذَا اكْتَرَاهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَة. الْقِسْمُ الثَّانِي، إجَارَتُهَا بِطَعَامِ مَعْلُومٍ، مِنْ جِنْسِ مَا يُزْرَعُ فِيهَا، كَإِجَارَتِهَا بِقُفْزَانِ حِنْطَةٍ لِزَرْعِهَا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا الْمَنْعُ. وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي مَذْهَبًا، وَهِيَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُزَارَعَةِ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَكَانَ قَوْلِهِ زَارَعْتُك، آجَرْتُك، فَتَصِيرُ مُزَارَعَةً بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَالذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ. وَالثَّانِيَة جَوَازُ ذَلِكَ. اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَتْ إجَارَتُهُ بِغَيْرِ الْمَطْعُومِ، جَازَتْ بِهِ، كَالدُّورِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، إجَارَتُهَا بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، كَنِصْفٍ، وَثُلُثٍ، وَرُبْعٍ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ، مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَهَا، وَلِأَنَّهَا إجَارَةٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، فَلَمْ تَصِحَّ كَإِجَارَتِهَا بِثُلُثِ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهَا إجَارَةٌ لِعَيْنٍ بِبَعْضِ نَمَائِهَا، فَلَمْ تَجُزْ، كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي جَوَازِهَا وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّ النُّصُوصُ إنَّمَا وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ إجَارَتِهَا بِذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ فِي تَجْوِيزِهَا نَصًّا، وَالْمَنْصُوصُ عَلَى جَوَازِهِ إجَارَتُهَا بِذَهَبِ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ شَيْءٍ مَضْمُونٍ مَعْلُومٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ كَذَلِكَ. فَأَمَّا نَصُّ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ فِي جَوَازِهَا، وَلُزُومِهَا، وَفِيمَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 [كِتَاب الْإِجَارَات] ِ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ: طس حَتَّى إذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى، قَالَ: إنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آجَرَ نَفَسَهُ ثَمَانِيَ حِجَجٍ، أَوْ عَشْرًا، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ، وَطَعَامِ بَطْنِهِ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى إقَامَتِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، اسْتَأْجَرَا رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» . وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَكُلِّ مِصْرٍ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ، إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ. يَعْنِي أَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ تُخْلَقْ وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَعْصَارِ، وَسَارَ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْعِبْرَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَنَافِعِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْأَعْيَانِ، فَلَمَّا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَلَا يَخْفَى مَا بِالنَّاسِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ دَارٌ يَمْلِكُهَا، وَلَا يَقْدِرُ كُلُّ مُسَافِرٍ عَلَى بَعِيرٍ أَوْ دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا، وَلَا يَلْزَمُ أَصْحَابَ الْأَمْلَاكِ إسْكَانُهُمْ وَحَمْلُهُمْ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الصَّنَائِعِ يَعْمَلُونَ بِأَجْرٍ، وَلَا يُمْكِنُ كُلَّ أَحَدٍ عَمَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ مُتَطَوِّعًا بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِجَارَةِ لِذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقًا لِلرِّزْقِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 حَتَّى إنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ بِالصَّنَائِعِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغَرَرِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ وُجُودِهَا، لِأَنَّهَا تَتْلَفُ بِمُضِيِّ السَّاعَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ. [فَصْلٌ اشْتِقَاقُ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَجْرِ وَهُوَ الْعِوَضُ] (4152) فَصْلٌ: وَاشْتِقَاقُ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَجْرِ، وَهُوَ الْعِوَضُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] . وَمِنْهُ سُمِّيَ الثَّوَابُ أَجْرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْعَبْدَ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ، أَوْ صَبْرِهِ عَلَى مُصِيبَتِهِ. (4153) فَصْلٌ: وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَهِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُضْمَنُ بِالْيَدِ وَالْإِتْلَافِ، وَيَكُونُ عِوَضُهَا عَيْنًا وَدَيْنًا وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ كَمَا اخْتَصَّ بَعْضُ الْبُيُوعِ بِاسْمٍ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لَهَا. وَهَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، تَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ فَانْعَقَدَتْ بِلَفْظِهِ، كَالصَّرْفِ. وَالثَّانِي لَا تَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنًى خَاصًّا، فَافْتَقَرَتْ إلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُضَافُ إلَى الْعَيْنِ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الْبَيْعُ إضَافَةً وَاحِدَةً، فَاحْتِيجَ إلَى لَفْظٍ يُعْرَفُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، كَالْعُقُودِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُخَالِفُ الْبَيْعَ فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ. (4154) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. [مَسْأَلَة إذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِأُجْرَةِ مَعْلُومَةٍ] (4155) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ، وَمُلِّكَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ كَامِلَةً، فِي وَقْتِ الْعَقْدِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أَجَلًا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ سِتَّةٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّهَا الْمَوْجُودَةُ، وَالْعَقْدُ يُضَافُ إلَيْهَا، فَيَقُولُ: أَجَرْتُك دَارِي كَمَا يَقُولُ: بِعْتُكَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وَلَنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُسْتَوْفَى بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا تُضْمَنُ دُونَ الْعَيْنِ، وَمَا كَانَ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ وَمَنْشَؤُهَا، كَمَا يُضَافُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْبُسْتَانِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ. وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك مَنْفَعَةَ دَارِي. جَازَ. الثَّانِي أَنَّ الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ هِيَ الضَّابِطَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، الْمُعَرِّفَةُ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، كَعَدَدِ الْمَكِيلَاتِ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيْلِ. فَإِنْ قَدَّرَ الْمُدَّةَ بِسَنَةٍ مُطْلَقَةٍ، حُمِلَ عَلَى سَنَةِ الْأَهِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَةُ فِي الشَّرْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَإِنْ شَرَطَ هِلَالِيَّةً كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ قَالَ: عَدَدِيَّةً، أَوْ سَنَةً بِالْأَيَّامِ كَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْعَدَدِيَّ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ سَنَةً هِلَالِيَّةً أَوَّلَ الْهِلَالِ، عَدَّ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْهِلَالِيَّ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، يَنْقُصُ مَرَّةً وَيَزِيدُ أُخْرَى. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي أَثْنَاء شَهْرٍ، عَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَعَدَّ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، ثُمَّ كَمَّلَ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إتْمَامُهُ بِالْهِلَالِ، فَتَمَّمْنَاهُ بِالْعَدَدِ، وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ مَا عَدَاهُ بِالْهِلَالِ، فَوَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْتَوْفِي الْجَمِيعَ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُسْتَوْفَى بَعْضُهَا بِالْعَدَدِ، فَوَجَبَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ شَهْرًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَمَّلَ مِنْ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَحْصُلُ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي أَثْنَائِهِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ يَأْتِي بَعْدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَهَكَذَا إنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَشْهُرٍ دُونَ السَّنَةِ وَإِنْ جَعَلَا الْمُدَّةَ سَنَةً رُومِيَّةً أَوْ شَمْسِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً أَوْ قِبْطِيَّةً، وَكَانَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ، جَازَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، فَإِنَّ الشُّهُورَ الرُّومِيَّةَ مِنْهَا سَبْعَةٌ أَحَدَ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَأَرْبَعَةٌ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَشُهُورُ الْقِبْطِ كُلُّهَا ثَلَاثُونَ ثَلَاثُونَ، وَزَادُوهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ لِتُسَاوِيَ سَنَتُهُمْ السَّنَةَ الرُّومِيَّةَ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجْهَلُ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَجْهُولَةٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ أَجَرَهُ إلَى الْعِيدِ، انْصَرَفَ إلَى الَّذِي يَلِيهِ، وَتَعَلَّقَ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ غَايَةً، فَتَنْتَهِي مُدَّةُ الْإِجَارَةِ بِأَوَّلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْعِيدِ فِطْرًا أَوْ أَضْحَى، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ سَنَةِ كَذَا. وَكَذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 الْحُكْمُ إنْ عَلَّقَهُ بِشَهْرٍ يَقَعُ اسْمُهُ عَلَى شَهْرَيْنِ، كَجُمَادَى وَرَبِيعٍ، يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَذْكُرَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ، مِنْ سَنَةِ كَذَا. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَهْرٍ مُفْرَدٍ، كَرَجَبٍ وَشَعْبَانَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ مِنْ أَيِّ سَنَةٍ. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِيَوْمٍ، فَلَا بُدَّ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ مِنْ أَيِّ أُسْبُوعٍ وَإِنْ عَلَّقَهُ بَعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ، صَحَّ إذَا عَلِمَاهُ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، وَقَدْ مَضَى نَحْوٌ مِنْ هَذَا. [فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَنْ تَلِيَ الْعَقْدَ] (4156) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَنْ تَلِي الْعَقْدَ، بَلْ لَوْ أَجَرَهُ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهُمَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ، أَوْ شَهْرَ رَجَبٍ فِي الْمُحَرَّمِ. صَحَّ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا مَنْ هِيَ فِي إجَارَتِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَرِيَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ إلَّا عِنْدَ خُرُوجِهِ؛ لِذَلِكَ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ يَجُوزُ الْعَقْدُ، عَلَيْهَا مَعَ غَيْرِهَا، فَجَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مُفْرَدَةً مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، كَاَلَّتِي تَلِي الْعَقْدَ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ وَلَا الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا مَشْغُولَةً أَوْ غَيْرَ مَشْغُولَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَجَرَهَا مِنْ الْمُكْتَرِي، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ مَا ذَكَرُوهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ إنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ تَلِي الْعَقْدَ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ ابْتِدَائِهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيه، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ ابْتِدَائِهَا، لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفِي الْعَقْدِ، فَاحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، كَالِانْتِهَاءِ وَإِنْ أَطْلَقَ. فَقَالَ: أَجَرْتُك سَنَةً، أَوْ شَهْرًا. صَحَّ وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ. وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُسَمِّيَ الشَّهْرَ، وَيَذْكُرَ أَيَّ سَنَةٍ هِيَ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا شَهْرًا، فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَمِّيَ الشَّهْرَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وَلَمْ يَذْكُرْ ابْتِدَاءَهَا وَلِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ بِمُدَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قُرْبَةٌ، فَإِذَا أَطْلَقَهَا، وَجَبَ أَنْ تَلِيَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ، كَمُدَّةِ السَّلَمِ وَالْإِيلَاءِ، وَتُفَارِقُ النَّذْرَ؛ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ. [فَصْلٌ لَا تَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ] فَصْلٌ: وَلَا تَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، بَلْ تَجُوزُ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُدَّةَ الَّتِي تَبْقَى فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ. وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَبْقَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَتَتَغَيَّرُ الْأَسْعَارُ وَالْأَجْرُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنَّهُ قَالَ: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى نَسْخِهِ دَلِيلٌ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ سَنَةً، جَازَ أَكْثَرَ مِنْهَا، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ وَثَلَاثِينَ، تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّقْدِيرِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهُ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَهُ سِنِينَ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَقْسِيطِ الْأَجْرِ عَلَى كُلِّ سَنَةٍ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ سَنَةً لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى تَقْسِيطِ أَجْرِ كُلِّ شَهْرٍ، بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَهْرًا، لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى تَقْسِيطِ أَجْرِ كُلِّ يَوْمٍ وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ كَالْأَعْيَانِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ اشْتَمَلَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى أَعْيَانٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَقْدِيرُ ثَمَنِ كُلِّ عَيْنٍ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ كَقَوْلِنَا، وَفِي الْآخَرِ: يَفْتَقِرُ إلَى تَقْسِيطِ أَجْرِ كُلِّ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّنِينَ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ، فَلَا يَعْلَمُ بِمَ يَرْجِعُ. وَهَذَا يَبْطُلُ بِالشُّهُورِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَقْسِيطِ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، مَعَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. [فَصْلٌ الْإِجَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ] (4158) فَصْلٌ: وَالْإِجَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مُدَّةٍ. وَالثَّانِي أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، كَبِنَاءِ حَائِطٍ، وَخِيَاطَةِ قَمِيصٍ، وَحَمْلٍ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ. فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مِمَّا لَهُ عَمَلٌ كَالْحَيَوَانِ، جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ؛ لِأَنَّ لَهُ عَمَلًا تَتَقَدَّرُ مَنَافِعُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ، لَمْ يَجُزْ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ. وَمَتَى تَقَدَّرَتْ الْمُدَّةُ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَزِيدُهَا غَرَرًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَفْرُغُ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ تَارِكًا لِلْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ وَقَدْ لَا يَفْرُغُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَتَمَّهُ عَمِلَ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا غَرَرٌ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى مَوْضِعٍ، عَلَى أَنْ يَدْخُلَهُ فِي ثَلَاثٍ، فَدَخَلَهُ فِي سِتٍّ، فَقَالَ: قَدْ أَضَرَّ بِهِ. فَقِيلَ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ؟ قَالَ: لَا، يُصَالِحُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيرِهِمَا جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمُدَّةُ مَذْكُورَةٌ لِلتَّعْجِيلِ، فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 فَعَلَى هَذَا، إذَا فَرَغَ الْعَمَلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ فِي بَقِيَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ وَفَّى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ مُدَّتِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْعَمَلِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ. وَإِنْ رَضِيَ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَجِيرُ الْفَسْخَ، لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالشَّرْطِ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَسِيلَةً لَهُ إلَى الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ أَدَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْفَسْخَ، وَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ طَالَبَهُ بِالْعَمَلِ لَا غَيْرُ،، كَالْمُسْلِمِ إذَا صَبَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ، سَقَطَ الْأَجْرُ وَالْعَمَلُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ، فَسَقَطَ الْمُسَمَّى، وَرَجَعَ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ. [فَصْلٌ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى الْعِشَاءِ فَآخِرُ الْمُدَّةِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ] (4159) فَصْلٌ: وَمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى الْعِشَاءِ، فَآخِرُ الْمُدَّةِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: آخِرُهَا زَوَالُ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ آخِرُ النَّهَارِ، وَآخِرُ النَّهَارِ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ الزَّوَالِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ يَعْنِي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ» . هَكَذَا تَفْسِيرُهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] يَعْنِي الْعَتَمَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْت الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاة تُسَمَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُولَى الْمَغْرِبُ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا جُعِلَتْ إلَى وَقْتٍ تَعَلَّقَتْ بِأَوَّلِهِ، كَمَا لَوْ جَعَلَهَا إلَى اللَّيْلِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْعَشِيِّ غَيْرُ لَفْظِ الْعِشَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ. ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا اكْتَرَاهَا إلَى الْعَشِيِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ اكْتَرَاهَا إلَى اللَّيْلِ، فَهُوَ إلَى أَوَّلِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اكْتَرَاهَا إلَى النَّهَارِ، فَهُوَ إلَى أَوَّلِهِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَدْخُلَ اللَّيْلُ فِي الْمُدَّةِ الْأُولَى، وَالنَّهَارُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِنْ اكْتَرَاهَا نَهَارًا فَهُوَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَإِنْ اكْتَرَاهَا لَيْلَةً، فَهِيَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فِي قَوْلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] ثُمَّ قَالَ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . [فَصْلٌ اكْتَرَى فُسْطَاطًا إلَى مَكَّة وَلَمْ يَقُلْ مَتَى أَخْرُجُ] (4160) فَصْلٌ: وَإِنْ اكْتَرَى فُسْطَاطًا إلَى مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُلْ مَتَى أَخْرُجُ، فَالْكِرَاءُ فَاسِدٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَلَنَا أَنَّهَا مُدَّةٌ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الِابْتِدَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَرْتُك دَارِي مِنْ حِينِ يَخْرُجُ الْحَاجُّ إلَى آخِرِ السَّنَةِ. وَقَدْ اعْتَرَفُوا بِمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ، وَمَا ادَّعَوْهُ دَلِيلًا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ دَلِيلًا. [فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْإِجَارَةِ كَوْنُهُ مَعْلُومًا] (4161) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْإِجَارَةِ كَوْنُهُ مَعْلُومًا. لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» . وَيُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالصِّفَةِ كَالْبَيْعِ سَوَاءً. فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ دُونَ الْقَدْرِ، كَالصُّبْرَةِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ، أَشْبَهَهُمَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَعْلُومٌ يَجُوزُ بِهِ الْبَيْعُ، فَجَازَتْ بِهِ الْإِجَارَةُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ قَدْرَهُ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بَعْدَ تَلَفِ الصُّبْرَةِ، فَلَا يَدْرِي بِكَمْ يَرْجِعُ، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ كَعِوَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقَدْرِ فِي عِوَضِ السَّلَمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هَا هُنَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ، وَالسَّلَمُ يَتَعَلَّقُ بِمَعْدُومٍ، فَافْتَرَقَا، وَلِلشَّافِعِيِّ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ. [فَصْلٌ كُلُّ مَا جَازَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ] (4162) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، جَازَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ أَشْبَهَ الْبَيْعَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ عَيْنًا وَمَنْفَعَةً أُخْرَى، سَوَاءٌ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا، كَمَنْفَعَةِ دَارٍ بِمَنْفَعَةِ أُخْرَى، أَوْ مُخْتَلِفًا، كَمَنْفَعَةِ دَارٍ بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَرِيَ بِطَعَامٍ مَوْصُوفٍ مَعْلُومٍ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَجَعَلَ النِّكَاحَ عِوَضَ الْإِجَارَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ دَارٍ بِسُكْنَى أُخْرَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، كَسُكْنَى دَارٍ بِمَنْفَعَةِ بَهِيمَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ عِنْدِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ. وَكَرِهَ الثَّوْرِيُّ الْإِجَارَةَ بِطَعَامٍ مَوْصُوفٍ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، فَجَازَ فِي الْإِجَارَةِ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ لَيْسَتْ فِي تَقْدِيرِ النَّسِيئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ نَسِيئَةً مَا جَازَ فِي جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدِينٍ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَسْلُخَ لَهُ بَهِيمَةً بِجِلْدِهَا] (4163) فَصْلٌ: وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَسْلُخَ لَهُ بَهِيمَةً بِجِلْدِهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَخْرُجُ الْجِلْدُ سَلِيمًا أَوْ لَا، وَهَلْ هُوَ ثَخِينٌ أَوْ رَقِيقٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ، كَسَائِرِ الْمَجْهُولَاتِ. فَإِنْ سَلَخَهُ بِذَلِكَ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِطَرْحِ مَيْتَةٍ بِجِلْدِهَا، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَقَدْ خَرَجَ بِمَوْتِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا. وَإِنْ فَعَلَ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ أَيْضًا. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا لِغَنَمِ بِثُلُثِ دَرِّهِمَا وَنَسْلِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا] (4164) فَصْلٌ: وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا لِغَنَمٍ بِثُلُثِ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا، أَوْ نِصْفِهِ، أَوْ جَمِيعِهِ، لَمْ يَجُزْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيّ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنِ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْفَعُ الْبَقَرَةَ إلَى الرَّجُلِ، عَلَى أَنْ يَعْلِفَهَا وَيَتَحَفَّظَهَا، وَمَا وَلَدَتْ مِنْ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ مَعْدُومٌ، وَلَا يُدْرَى أَيُوجَدُ أَمْ لَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَوَّزْتُمْ دَفْعَ الدَّابَّةِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ رِبْحِهَا. قُلْنَا: إنَّمَا جَازَ ثَمَّ تَشْبِيهًا بِالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ، فَجَازَ اشْتِرَاطُ جُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ، وَالْمُسَاقَاةُ كَالْمُضَارَبَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ الْحَاصِلَ فِي الْغَنَمِ لَا يَقِفُ حُصُولُهُ عَلَى عَمَلِهِ فِيهَا، فَلَمْ يُمْكِنْ إلْحَاقُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى رِعَايَتهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، بِنِصْفِهَا، أَوْ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهَا، صَحَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالْأَجْرَ وَالْمُدَّةَ مَعْلُومٌ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ جَعَلَ الْأَجْرَ دَرَاهِمَ، وَيَكُونُ النَّمَاءُ الْحَاصِلُ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ الْجُزْءَ الْمَجْعُولَ لَهُ مِنْهَا فِي الْحَالِ، فَيَكُونُ لَهُ نَمَاؤُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ. [فَصْلٌ الْإِجَارَةَ إذَا تَمَّتْ وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ] (4165) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِجَارَةِ إذَا تَمَّتْ، وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ، مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إلَى الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ حُدُوثُهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ، وَلَا يَمْلِكُهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، فَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً، كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ. وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمٍ يَحْصُلُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَخْصُوصٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ كَانَ مَالِكُ الْعَيْنِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَتَصَرُّفِهِ فِي الْعَيْنِ، فَلَمَّا أَجَرَهَا صَارَ الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا، كَمَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمُؤَجِّرُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِ الْعَيْنِ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ قُلْنَا: هِيَ مُقَدَّرَةُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ مَوْرِدًا لِلْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ. [فَصْلٌ الْمُؤَجَّر يَمْلِكُ الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ] (4166) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الْخَامِسُ، أَنَّ الْمُؤَجِّرَ يَمْلِكُ الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، إذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْمُسْتَأْجِرُ أَجَلًا، كَمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُهَا بِالْعَقْدِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا إلَّا يَوْمًا بِيَوْمٍ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْجِيلَهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إلَّا أَنْ تَكُون مُعَيَّنَةً، كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَالدَّارِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَأَمَرَ بِإِيتَائِهِنَّ بَعْدَ الْإِرْضَاعِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» . فَتَوَعَّدَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ دَفْعِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا حَالَّةُ الْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفّ عَرَقُهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ لَمْ يَمْلِكْ مُعَوَّضَهُ، فَلَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ، كَالْعِوَضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ لَمْ تُمْلَكْ، وَلَوْ مُلِكَتْ فَلَمْ يَتَسَلَّمْهَا، لِأَنَّهُ يَتَسَلَّمُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ مَعَ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ فِي الْعَقْدِ. وَلَنَا أَنَّهُ عِوَضٌ أُطْلِقَ ذِكْرُهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَيُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، كَالثَّمَنِ وَالصَّدَاقِ. أَوْ نَقُولُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ يَتَعَجَّلُ بِالشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَجَّلَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْآيَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيتَاءَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِرْضَاعِ، أَوْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . أَيْ إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ. وَلِأَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَاءِ فِي وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وَالصَّدَاقُ يَجِبُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِ الْإِيفَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، وَقَدْ قُلْتُمْ: تَجِبُ الْأُجْرَةُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيفَاءِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ فِيهِ عَادَةً. جَوَابٌ آخَرُ، أَنَّ الْآيَةَ وَالْأَخْبَارَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ، فَأَمَّا مَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ فِيهِ عَلَى مُدَّةٍ، فَلَا تَعَرُّضَ لَهَا بِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ، فَإِنَّ الْأَجْرَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ أَيْضًا، لَكِنْ لَا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُهُ إلَّا عِنْدَ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عِنْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ، وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ فِي كُلّ يَوْمٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَلَهُ أَجْرُ كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ تَمَامِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْأَجْرُ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ، وَيُسْتَحَقُّ بِالتَّسْلِيمِ، وَيَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ اسْتِحْقَاقُ تَسْلِيمِهِ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ، فَلَا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُهُ إلَّا مَعَ تَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ، كَالصَّدَاقِ وَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ، وَفَارَقَ الْإِجَارَةَ عَلَى الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا جَرَى مَجْرَى تَسْلِيمِ نَفْعِهَا، وَمَتَى كَانَ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَحْصُلْ تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَتَوَقَّفَ اسْتِحْقَاقُ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَمَلِ وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَمْلِكْ الْمَنَافِعَ. قَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلِ: فَإِنَّ الْمُؤَجِّرَ إذَا قَبَضَ الْأَجْرَ، انْتَفَعَ بِهِ كُلِّهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ كُلِّهَا. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ هَذَا، كَمَا لَوْ شَرَطَا التَّعْجِيلَ، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا. [فَصْلٌ إذَا شَرَطَ تَأْجِيلَ الْأَجْرِ فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ] (4167) فَصْلٌ: الْحُكْمُ السَّادِسُ، أَنَّهُ إذَا شَرَطَ تَأْجِيلَ الْأَجْرِ، فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ مُنَجَّمًا يَوْمًا يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا شَهْرًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا، وَبَيْعُهَا يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ إجَارَتُهَا. [فَصْلٌ إذَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ] (4168) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ، اسْتَقَرَّ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْبَدَلُ، كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ. وَإِنْ سُلِّمَتْ إلَيْهِ الْعَيْنُ الَّتِي وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا، وَمَضَتْ الْمُدَّةُ، وَلَا حَاجِزَ لَهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ، اسْتَقَرَّ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ، وَهِيَ حَقُّهُ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بَدَلُهَا، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ، فَتَسَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَمَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا، مِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى حِمْصَ، فَقَبَضَهَا، وَمَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ رُكُوبُهَا فِيهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ فَمَضَتْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَقِرُّ الْأَجْرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مُؤَقَّتَةٍ بِزَمَنٍ، فَلَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 يَسْتَقِرَّ بَدَلُهَا قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا، كَالْأَجْرِ لِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. فَإِنْ بَذَلَ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ، فَلَمْ يَأْخُذْهَا الْمُسْتَأْجِرُ حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ اسْتَقَرَّ الْأَجْرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ بِاخْتِيَارِهِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَإِنْ بَذَلَ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ، وَكَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ فِيهَا، اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَجْرُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَجْرَ عَلَيْهِ. وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِيّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ عِوَضُهُ بِبَذْلِ التَّسْلِيمِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مُؤَقَّتَةٍ بِزَمَنٍ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ عِوَضُهَا بِالْبَذْلِ، كَالصَّدَاقِ إذَا بَذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ أَخْذِهَا وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، فَفِيمَا إذَا عَرَضَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يَأْخُذْهَا لَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ تَحْتَ يَدِهِ، وَلَا فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ قَبَضَهَا، وَمَضَتْ الْمُدَّةُ أَوْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا أَوْ لَا يُمْكِنُ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِمُدَّةِ بَقَائِهَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَرَجَعَ إلَى قِيمَتِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا شَيْءَ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهَا، كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ، مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ أَجْرِ الْمِثْلِ، بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالْعَقْدِ. وَلَنَا أَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ فِي الْفَاسِدِ، كَالْأَعْيَانِ. وَمَا ذَكَرَهُ لَا نُسَلِّمُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة إذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ بِشَيْءِ مَعْلُومٍ] (4169) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةِ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخُ، إلَّا عِنْدَ تَقَضِّي كُلِّ شَهْرٍ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَجَرْتُك هَذَا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَاخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، إلَّا أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ تَلْزَمُ الْإِجَارَةُ فِيهِ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ يَلِي الْعَقْدَ، وَلَهُ أَجْرٌ مَعْلُومٌ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الشُّهُورِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالتَّلَبُّسِ بِهِ، وَهُوَ السُّكْنَى فِي الدَّارِ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى دَارٍ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ حَالَ الْعَقْدِ. فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ، تَعَيَّنَ بِالدُّخُولِ فِيهِ، فَصَحَّ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ، أَوْ فَسَخَ الْعَقْدَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ انْفَسَخَ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ شَهْرٍ يَأْتِي. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُ هَذَا، إلَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَدِّرَةٌ بِتَقْدِيرِ الْأَجْرِ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ إلَّا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 اللُّزُومِ. وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ لِلْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ كَانَ مُبْهَمًا مَجْهُولًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَرْتُك مُدَّةً أَوْ شَهْرًا وَحَمَلَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ حَامِدٍ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْإِجَارَة وَقَعَتْ عَلَى أَشْهُرٍ مُعَيَّنَةٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ «، أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَقَى لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَجَاءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ عَلِيٌّ: كُنْت أَدْلُو الدَّلْوَ بِتَمْرَةٍ وَأَشْتَرِطُهَا جَلْدَةً» . وَعَنْ «رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ قَالَ لِيَهُودِيٍّ: أَسْقِي نَخْلَك؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ. وَاشْتَرَطَ الْأَنْصَارِيُّ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا خَدِرَةً وَلَا تَارِزَةً وَلَا حَشَفَةً، وَلَا يَأْخُذَ إلَّا جَلْدَةً. فَاسْتَقَى بِنَحْوٍ مِنْ صَاعَيْنِ، فَجَاءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ ". وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا وَلِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَقْدِ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ أَجْرِهِ وَالرِّضَى بِبَذْلِهِ بِهِ جَرَى مَجْرَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ، إذَا جَرَى مِنْ الْمُسَاوَمَةِ مَا دَلَّ عَلَى التَّرَاضِي بِهَا. فَعَلَى هَذَا، مَتِّي تُرِكَ التَّلَبُّسُ بِهِ فِي شَهْرٍ، لَمْ تَثْبُتْ الْإِجَارَةُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ الْعَقْدِ. وَإِنْ فُسِخَ، فَكَذَلِكَ، وَلَيْسَ بِفَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مَا ثَبَتَ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُمَا إذَا تَلَبَّسَا بِالشَّهْرِ الثَّانِي فَقَدْ اتَّصَلَ الْقَبْضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. وَهُوَ عُذْرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، وَلَا يُضْمَنُ بِالْمُسَمَّى، ثُمَّ لَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ هَا هُنَا إلَّا فِيمَا اسْتَوْفَاهُ وَقَوْلُ مَالِكٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَائِزَةً. [فَصْلٌ قَالَ أَجَرْتُك دَارِي عِشْرِينَ شَهْرًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمِ] (4170) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَجَّرْتُك دَارِي عِشْرِينَ شَهْرًا، كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ، وَأَجْرَهَا مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخٌ بِحَالِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: آجَرْتُك عِشْرِينَ شَهْرًا، بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَإِنْ قَالَ: أَجَرْتُكهَا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ صَحَّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ أَفْرَدَهُ بِالْعَقْدِ، وَبَطَلَ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ تَلَبَّسَ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَرْتُكهَا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ. لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُكهَا هَذَا الشَّهْرَ بِدِرْهَمٍ. وَكُلُّ شَهْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ. أَوْ قَالَ: بِدِرْهَمَيْنِ. صَحَّ فِي الْأَوَّلِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ الْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ] (4171) فَصْلٌ: وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، لَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 الرَّأْي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَكَانَ لَازِمًا، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ كَمَا اخْتَصَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ بِاسْمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ لِلْمُكْتَرِي فَسْخُهَا لِعُذْرٍ فِي نَفْسِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكْتَرِيَ جَمَلًا لِيَحُجَّ عَلَيْهِ، فَيَمْرَضَ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ، أَوْ تَضِيعَ نَفَقَتُهُ، أَوْ يَكْتَرِيَ دُكَّانًا لِلْبَزِّ، فَيَحْتَرِقَ مَتَاعُهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، فَمَلَكَ بِهِ الْفَسْخَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَأَبَقَ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَمْ يَجُزْ لِعُذْرٍ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ فَسْخُهُ لِعُذْرِ الْمُكْتَرِي، لَجَازَ لِعُذْرِ الْمُكْرِي، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ ثَمَّ، فَلَا يَجُوزُ هَا هُنَا، وَيُفَارِقُ الْإِبَاقَ، فَإِنَّهُ عُذْرٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة اسْتَأْجَرَ عَقَارًا مُدَّةً بِعَيْنِهَا] (4172) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَقَارًا مُدَّةً بِعَيْنِهَا، فَبَادَلَهُ قَبْلَ تَقَضِّيهَا، فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ كَامِلَةً) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الْمُؤَجِّرِ الْأَجْرَ، وَالْمُسْتَأْجِرِ الْمَنَافِعَ، فَإِذَا فَسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَتَرَكَ الِانْتِفَاعَ اخْتِيَارًا مِنْهُ، لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ، وَالْأَجْرُ لَازِمٌ لَهُ، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ الْمَنَافِعِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ اكْتَرَى بَعِيرًا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ لَهُ: فَاسِخْنِي. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، قَدْ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ. قُلْت: فَإِنْ مَرِضَ الْمُسْتَكْرِي بِالْمَدِينَةِ؟ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَسْخًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَهُ. وَإِنْ فَسَخَهُ، لَمْ يَسْقُطْ الْعِوَضُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ إبَاحَةِ إجَارَةِ الْعَقَار] (4173) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ إجَارَةِ الْعَقَارِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ اسْتِئْجَارَ الْمَنَازِلِ وَالدَّوَابِّ جَائِزٌ. وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا إلَّا فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَتَحْدِيدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ، وَلَا وَصْفُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا ضُبِطَ بِالصِّفَةِ، أَجْزَأَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْي: لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ، وَالْخِلَافُ هَا هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافُ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالرُّؤْيَةِ، كَمَا لَا يُعْلَمُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ دَارًا أَوْ حَمَّامًا، احْتَاجَ إلَى مُشَاهَدَةِ الْبُيُوتِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا وَمَرَافِقِهَا، وَمُشَاهَدَةِ قَدْرِ الْحَمَّامِ لِيَعْلَمَ كِبَرَهَا مِنْ صِغَرِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَاءِ الْحَمَّامِ إمَّا مِنْ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بِئْرٍ احْتَاجَ إلَى مُشَاهَدَتِهَا؛ لِيَعْلَمَ عُمْقَهَا وَمُؤْنَةَ اسْتِسْقَاءِ الْمَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 مِنْهَا، وَمُشَاهَدَةِ الْأَتُونِ، وَمَطْرَحِ الرَّمَادِ، وَمَوْضِعِ الزِّبْلِ، وَمَصْرِفِ مَاءِ الْحَمَّامِ، فَمَتَى أَخَلَّ بِهَذَا أَوْ بَعْضِهِ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِلْجَهَالَةِ بِمَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ بِهِ. [فَصْلٌ كِرَاءٍ الْحَمَّامِ] (4174) فَصْلٌ: وَكَرِهَ أَحْمَدُ كِرَاءَ الْحَمَّامِ. وَسُئِلَ عَنْ كِرَائِهِ، فَقَالَ: أَخْشَى. فَقِيلَ لَهُ: إذَا شُرِطَ عَلَى الْمُكْتَرِي أَنْ لَا يَدْخُلَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ إزَارٍ. فَقَالَ: وَمَنْ يَضْبِطُ هَذَا؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْكَرَاهَةِ تَنْزِيهًا لَا تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّهُ تَبْدُو فِيهِ عَوْرَاتُ النَّاسِ، فَتَحْصُلُ الْإِجَارَةُ عَلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ، فَكَرِهَهُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا الْعَقْدُ فَصَحِيحٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ كِرَاءَ الْحَمَّامِ جَائِزٌ، إذَا حَدَّدَهُ، وَذَكَرَ جَمِيعَ آلَتِهِ شُهُورًا مُسَمَّاةً وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي؛ لِأَنَّ الْمُكْتَرِيَ إنَّمَا يَأْخُذُ الْأَجْرَ عِوَضًا عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ وَالِاغْتِسَالِ بِمَائِهِ، وَأَحْوَالُ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّلَامَة، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِعْلُ مَا لَا يَجُوزُ، لَمْ يَحْرُمْ الْأَجْرُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ اكْتَرَى دَارًا لِيَسْكُنَهَا، فَشَرِبَ فِيهَا خَمْرًا. [مَسْأَلَة لَا يَتَصَرَّفُ مَالِكُ الْعَقَارِ فِيهِ إلَّا عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ] (4175) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يَتَصَرَّفُ مَالِكُ الْعَقَارِ فِيهِ إلَّا عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ، كَمَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْبَيْعِ، وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ عَنْهَا، كَمَا يَزُولُ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالٍ بَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ مِثْلِ أَنْ يَكْتَرِيَ دَارًا سَنَةً فَيَسْكُنَهَا شَهْرًا وَيَتْرُكَهَا، فَيَسْكُنَهَا الْمَالِكُ بَقِيَّةَ السَّنَةِ، أَوْ يُؤَجِّرَهَا لِغَيْرِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُكْتَرِي لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ الْمَكِيلُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، وَسَلَّمَ بَاقِيَهُ فَعَلَى هَذَا، إنْ تَصَرَّفَ الْمَالِكُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ دُونَ بَعْضٍ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ دُونَ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا بَقِيَ، فَلَوْ سَكَنَ الْمُسْتَأْجِرُ شَهْرًا، وَتَرَكَهَا شَهْرًا، وَسَكَنَ الْمَالِكُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ، لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ أَجْرُ شَهْرَيْنِ. وَإِنْ سَكَنَهَا شَهْرًا، وَسَكَنَ الْمَالِكُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ تَرَكَهَا، فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُسْتَأْجِرَ أَجْرُ جَمِيعِ الْمُدَّةِ، وَلَهُ عَلَى الْمَالِكِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِمَا سَكَنَ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الْأَجْرِ، وَيَلْزَمُهُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيمَا مَلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ غَيْرِ إذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ، وَقَبْضُ الدَّارِ هَا هُنَا قَامَ مَقَامَ قَبْضِ الْمَنَافِعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَنَافِعِ بِالسُّكْنَى وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَالِكِ بِقَدْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ، وَإِنْ فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ، لَزِمَ الْمَالِكَ أَدَاؤُهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمَالِكُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ قَدْ أَتْلَفَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ طَعَامًا فَأَتْلَفَهُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ. وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فِي أَثْنَاء الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ فِيمَا مَضَى، وَيَجِبُ أَجْرُ الْبَاقِي بِالْحِصَّةِ، كَالْمَبِيعِ إذَا سَلَّمَ بَعْضَهُ وَأَتْلَفَ بَعْضًا. [مَسْأَلَة إنْ حَوَّلَهُ الْمَالِكُ قَبْلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ لِمَا سَكَنَ] (4176) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ حَوَّلَهُ الْمَالِكُ قَبْلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ لِمَا سَكَنَ) يَعْنِي إذَا اسْتَأْجَرَ عَقَارًا مُدَّةً، فَسَكَنَهُ بَعْضَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْمَالِكُ، وَمَنَعَهُ تَمَامَ السُّكْنَى، فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَهُ أَجْرُ مَا سَكَنَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِلْكَ غَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَزِمَهُ عِوَضُهُ كَالْمَبِيعِ إذَا اسْتَوْفَى بَعْضَهُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكُ بَقِيَّتَهُ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْبَاقِي لِأَمْرٍ غَالِبٍ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ مَا عَقَدَ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ لَهُ كِتَابًا إلَى مَوْضِعٍ، فَحَمَلَهُ بَعْضَ الطَّرِيقِ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ عِشْرِينَ ذِرَاعًا فَحَفَرَ لَهُ عَشْرًا، وَامْتَنَعَ مِنْ حَفْرِ الْبَاقِي. وَقِيَاسُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِجَارَةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْبَيْعِ. وَيُفَارِقُ مَا إذَا امْتَنَعَ لَأَمْرٍ غَالِبٍ؛ لِأَنَّ لَهُ عُذْرًا. وَالْحُكْمُ فِي مَنْ اكْتَرَى دَابَّةً، فَامْتَنَعَ الْمُكْرِي مِنْ تَسْلِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، أَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ أَوْ عَبْدَهُ لِلْخِدْمَةِ مُدَّةً، وَامْتَنَعَ مِنْ إتْمَامِهَا، أَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ لِبِنَاءِ حَائِطٍ، أَوْ خِيَاطَةٍ، أَوْ حَفَرِ بِئْرٍ، أَوْ حَمْلِ شَيْءٍ إلَى مَكَان، وَامْتَنَعَ مِنْ إتْمَامِ الْعَمَلِ، كَالْحُكْمِ فِي الْعَقَارِ يَمْتَنِعُ مِنْ تَسْلِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ هَرَبَ الْأَجِيرُ أَوْ شَرَدَتْ الدَّابَّةُ] (4177) فَصْلٌ: إذَا هَرَبَ الْأَجِيرُ، أَوْ شَرَدَتْ الدَّابَّةُ، أَوْ أَخَذَ الْمُؤَجِّرُ الْعَيْنَ وَهَرَبَ بِهَا، أَوْ مَنَعَهُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ هَرَبٍ، لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ، لَكِنْ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ فَإِنْ فَسَخَ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ يَوْمًا فَيَوْمًا. فَإِنْ عَادَتْ الْعَيْنُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، اسْتَوْفَى مَا بَقِيَ مِنْهَا. فَإِنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ، أَوْ حَمْلٍ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، اُسْتُؤْجِرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَعْمَلُهُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ فَهَرَبَ، اُبْتِيعَ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، ثَبَتَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ. فَإِنْ فَسَخَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخَ، وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَفُوتُ بِهَرَبِهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ امْتَنَعَ الْأَجِيرُ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِ، أَوْ مَنَعَ الْمُؤَجِّرُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ إذَا كَانَ بَعْدَ عَمَلِ الْبَعْضِ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيهِ، عَلَى مَا سَبَقَ، إلَّا أَنْ يَرُدَّ الْعَيْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ يُتِمَّ الْعَمَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مُدَّةٍ قَبْلَ فَسْخِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَيَكُونَ لَهُ أَجْرُ مَا عَمِلَ. فَأَمَّا إنَّ شَرَدَتْ الدَّابَّةُ، أَوْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ فِعْلِ الْمُؤَجِّرِ، فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى بِكُلِّ حَالٍ. [مَسْأَلَة جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ يَحْجِزُ الْمُسْتَأْجِرَ عَنْ مَنْفَعَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ] (4178) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ، يَحْجِزُ الْمُسْتَأْجِرَ عَنْ مَنْفَعَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، لَزِمَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِمِقْدَارِ مُدَّةِ انْتِفَاعِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا مُدَّةً، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَتْلَفَ الْعَيْنُ، كَدَابَّةٍ تَنْفُقُ، أَوْ عَبْدٍ يَمُوتُ، فَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَتْلَفَ قَبْلَ قَبْضِهَا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ الطَّعَامُ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَالثَّانِي أَنْ تَتْلَفَ عَقِيبَ قَبْضِهَا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ أَيْضًا، وَيَسْقُطُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا أَبَا ثَوْرٍ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَسْتَقِرُّ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَشْبَهَ الْمَبِيعَ وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ، وَقَبْضُهَا بِاسْتِيفَائِهَا، أَوْ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ تَلَفَهَا قَبْلَ قَبْضِ الْعَيْنِ. الثَّالِثُ أَنْ تَتْلَفَ بَعْدَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ دُونَ مَا مَضَى، وَيَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ: إذَا اكْتَرَى بَعِيرًا بِعَيْنِهِ، فَنَفَقَ الْبَعِيرُ، يُعْطِيه بِحِسَابِ مَا رَكِبَ. وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ، وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُهَا قَبْلَ قَبْضِهِ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيمَا تَلِفَ دُونَ مَا قَبَضَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى صُبْرَتَيْنِ، فَقَبَضَ إحْدَاهُمَا، وَتَلِفَتْ الْأُخْرَى قَبْلَ قَبْضِهَا، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَ أَجْرُ الْمُدَّةِ مُتَسَاوِيًا، فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا مَضَى إنْ كَانَ قَدْ مَضَى النِّصْفُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى الثُّلُثُ، فَعَلَيْهِ الثُّلُثُ، كَمَا يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى الْمَبِيعِ الْمُتَسَاوِي. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا، كَدَارٍ أَجْرُهَا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 الشِّتَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِهَا فِي الصَّيْفِ، وَأَرْضٍ أَجْرُهَا فِي الصَّيْفِ أَكْثَرُ مِنْ الشِّتَاءِ، أَوْ دَارٍ لَهَا مَوْسِمٌ، كَدُورِ مَكَّةَ، رُجِعَ فِي تَقْوِيمِهِ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَيُقَسَّطُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى عَلَى حَسَبِ قِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ، كَقِسْمَةِ الثَّمَنِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَجْرُ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةٍ، كَبَعِيرٍ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى حَمْلِ شَيْءٍ إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ، وَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْأَجْزَاءِ أَوْ مُخْتَلِفَةً. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ أَنْ يَحْدُثَ عَلَى الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَة مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا] (4179) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَحْدُثَ عَلَى الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ، وَأَرْضٍ غَرِقَتْ، أَوْ انْقَطَعَ مَاؤُهَا، فَهَذِهِ يُنْظَرُ فِيهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ أَصْلًا، فَهِيَ كَالتَّالِفَةِ سَوَاءً، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا نَفْعٌ غَيْرُ مَا اسْتَأْجَرَهَا لَهُ، مِثْلُ أَنْ يُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِعَرْصَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ لِوَضْعِ حَطَبٍ فِيهَا، أَوْ نَصْبِ خَيْمَةٍ فِي الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ، أَوْ صَيْدِ السَّمَكِ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي غَرِقَتْ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ تَلِفَتْ، فَانْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، فَزَمِنَتْ بِحَيْثُ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِتَدُورَ فِي الرَّحَى. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَنْقَطِعُ مَاؤُهَا: لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فِيهَا وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمْ تَبْطُلْ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِعَرْصَةِ الْأَرْضِ بِنَصْبِ خَيْمَةٍ، أَوْ جَمْعِ حَطَبٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَصَ نَفْعُهَا مَعَ بَقَائِهِ. فَعَلَى هَذَا يُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ؛ فَإِنْ فَسَخَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَبْدِ إذَا مَاتَ، وَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ، فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ، سَقَطَ حُكْمُهُ. فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الْفَسْخَ وَلَا الْإِمْضَاءَ، إمَّا لِجَهْلِهِ بِأَنَّ لَهُ الْفَسْخَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ بَقَاءَ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ النَّفْعُ الْبَاقِي فِي الْأَعْيَانِ مِمَّا لَا يُبَاحُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالْعَقْدِ، كَدَابَّةٍ اسْتَأْجَرَهَا لِلرُّكُوبِ فَصَارَتْ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ. وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْبَاقِيَةَ لَا يُمْلَكُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ سَلَامَتِهَا، فَلَا يَمْلِكُهَا مَعَ تَعَيُّبِهَا كَبَيْعِهَا. وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ فِيمَا اكْتَرَاهَا لَهُ، عَلَى نَعْتٍ مِنْ الْقُصُورِ، مِثْلِ أَنْ يُمْكِنَهُ زَرْعُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ مَاءٍ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ يَنْحَسِرُ عَنْ الْأَرْضِ الَّتِي غَرِقَتْ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ بَعْضَ الزِّرَاعَةِ أَوْ يَسُوءُ الزَّرْعَ، أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ سُكْنَى سَاحَةِ الدَّارِ، إمَّا فِي خَيْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا لَمْ تَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَعَيَّبَتْ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ خِيَارُ الْفَسْخِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إلَّا فِي الدَّارِ إذَا انْهَدَمَتْ، فَإِنَّ فِيهَا وَجْهَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 أَحَدُهُمَا لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ، وَالثَّانِي تَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ اسْمُهَا بِهَدْمِهَا، وَذَهَبَتْ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُقْصَدُ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَأْجِرُ أَحَدٌ عَرْصَةَ دَارٍ لِيَسْكُنَهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَادِثُ فِي الْعَيْنِ لَا يَضُرُّهَا، كَغَرَقِ الْأَرْضِ بِمَاءٍ يَنْحَسِرُ فِي قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ الزَّرْعَ وَلَا يَضُرُّهُ، وَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا إذَا سَاقَ الْمُؤَجِّرُ إلَيْهَا مَاءً مِنْ مَكَان آخَرَ، أَوْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي زَمَنٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ. وَإِنْ حَدَثَ الْغَرَقُ الْمُضِرُّ، أَوْ انْقِطَاعُ الْمَاءِ، أَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَلِذَلِكَ الْبَعْضِ حُكْمُ نَفْسِهِ فِي الْفَسْخِ أَوْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَلِلْمُكْتَرِي الْخِيَارُ فِي تَبْقِيَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِمْسَاكَ، أَمْسَكَ بِالْحِصَّةِ مِنْ الْأَجْرِ، كَمَا إذَا تَلِفَ أَحَدُ الْقَفِيزَيْنِ مِنْ الطَّعَامِ فِي يَدِ الْبَائِعِ. [فَصْلٌ أَنْ تُغْصَبَ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ] (4180) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ تُغْصَبَ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ حَقِّهِ، فَإِنْ فَسَخَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ سَوَاءً، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَمْ يَفُتْ مُطْلَقًا، بَلْ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الْقِيمَةُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَ الثَّمَرَةَ الْمَبِيعَةَ آدَمِيٌّ قَبْلَ قَطْعِهَا، وَيَتَخَرَّجُ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ بِكُلِّ حَالٍ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ مَنَافِعَ الْغَصْبِ لَا تُضْمَنُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ. وَإِنْ رُدَّتْ الْعَيْنُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ فَسْخٌ اسْتَوْفَى مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَيَكُونُ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مُخَيَّرًا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، أَوْ حَمْلِ شَيْءٍ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، فَغُصِبَ جَمَلُهُ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ، وَعَبْدُهُ الَّذِي يَخِيطُ لَهُ، لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ مُطَالَبَةُ الْأَجِيرِ بِعِوَضِ الْمَغْصُوبِ، وَإِقَامَةِ مِنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ عَيْبًا، فَرَدَّهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْبَدَلُ، ثَبَتَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ أَوْ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، فَيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا (4181) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْعَيْنِ بِفِعْلٍ صَدَرَ مِنْهَا، مِثْلِ أَنْ يَأْبَقَ الْعَبْدُ، أَوْ تَشْرُدَ الدَّابَّةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ ذَلِكَ فِيمَا قَبْلَ هَذَا. [فَصْلٌ أَنْ يَحْدُثَ خَوْفٌ عَامٌ يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ] (4182) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الْخَامِسُ أَنْ يَحْدُثَ خَوْفٌ عَامٌّ، يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 أَوْ تُحْصَرَ الْبَلَدُ، فَيَمْتَنِعَ الْخُرُوجُ إلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلزَّرْعِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا يُثْبِتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ خِيَارَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ غَالِبٌ يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَغَصْبِ الْعَيْنِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ، فَانْقَطَعَتْ الطَّرِيقُ إلَيْهِ لِخَوْفِ حَادِثٍ، أَوْ اكْتَرَى إلَى مَكَّةَ، فَلَمْ يَحُجَّ النَّاسُ ذَلِكَ الْعَامَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْإِجَارَةِ. وَإِنْ أَحَبَّ إبْقَاءَهَا إلَى حِينِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَعْدُوهُمَا فَأَمَّا إنْ كَانَ الْخَوْفُ خَاصًّا بِالْمُسْتَأْجِرِ، مِثْلُ أَنْ يَخَافَ وَحْدَهُ لِقُرْبِ أَعْدَائِهِ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ حُلُولِهِمْ فِي طَرِيقِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ يَخْتَصُّ بِهِ، لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَرَضَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ حُبِسَ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ، أَوْ تَلِفَ مَتَاعُهُ، لَمْ يَمْلِكْ فَسْخَ الْإِجَارَةِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَ أَجْرِهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا اخْتِيَارًا. [فَصْلٌ اكْتَرَى عَيْنًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ] (4183) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى عَيْنًا، فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ، فَلَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إذَا اكْتَرَى دَابَّةً بِعَيْنِهَا، فَوَجَدَهَا جَمُوحًا، أَوْ عَضُوضًا، أَوْ نُفُورًا، أَوْ بِهَا عَيْبٌ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُ رُكُوبَهَا، فَلِلْمُكْتَرِي الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ رَدَّهَا وَفَسَخَ الْإِجَارَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالْعَيْبِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَالْعَيْبُ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ مَا تَنْقُصُ بِهِ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ كَتَعَثُّرِ الظَّهْرِ فِي الْمَشْيِ، وَالْعَرَجِ الَّذِي يَتَأَخَّرُ بِهِ عَنْ الْقَافِلَةِ، وَرَبْضِ الْبَهِيمَةِ بِالْحِمْلِ، وَكَوْنِهَا جَمُوحَةً أَوْ عَضُوضَةً، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَفِي الْمُكْتَرَى لِلْخِدْمَةِ؛ ضَعْفُ الْبَصَرِ، وَالْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَفِي الدَّارِ انْهِدَامُ الْحَائِطِ، وَالْخَوْفُ مِنْ سُقُوطِهَا، وَانْقِطَاعُ الْمَاءِ مِنْ بِئْرِهَا، أَوْ تَغَيُّرُهُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الشُّرْبُ وَالْوُضُوءُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ النَّقَائِصِ، وَمَتَى حَدَثَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ، ثَبَتَ لِلْمُكْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا يَحْصُلُ قَبْضُهَا إلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا حَدَثَ الْعَيْبُ، فَقَدْ وُجِدَ قَبْلَ قَبْضِ الْبَاقِي مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَ الْفَسْخَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، وَمَتَى فَسَخَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ. وَإِنْ رَضِيَ الْمُقَامَ وَلَمْ يَفْسَخْ، لَزِمَهُ جَمِيعُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ نَاقِصًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَضِيَ بِالْمَبِيعِ مَعِيبًا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَوْجُودِ، هَلْ هُوَ عَيْبٌ أَوْ لَا رُجِعَ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ بِعَيْبٍ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ خَشِنَةَ الْمَشْيِ، أَوْ أَنَّهَا تُتْعِبُ رَاكِبَهَا لِكَوْنِهَا لَا تُرْكَبُ كَثِيرًا، فَلَيْسَ لَهُ فَسْخٌ. وَإِنْ قَالُوا: هُوَ عَيْبٌ. فَلَهُ الْفَسْخُ. هَذَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهَا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُكْرِي إبْدَالُهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِهَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 أَشْبَهَ الْمُسْلَمَ فِيهِ إذَا سَلَّمَهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إبْدَالِهَا، أَوْ امْتَنَعَ مِنْهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ إجْبَارُهُ عَلَيْهِ، فَلِلْمُكْتَرِي الْفَسْخُ أَيْضًا. [فَصْلٌ عَلَى الْمُكْرِي مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ] (4184) فَصْلٌ: وَعَلَى الْمُكْرِي مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، كَتَسْلِيمِ مَفَاتِيحِ الدَّارِ وَالْحَمَّامِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ التَّمْكِينَ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَتَسْلِيمُ مَفَاتِيحِهَا تَمْكِينٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ. فَإِنْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُكْتَرِي، فَعَلَى الْمُكْرِي بَدَلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُكْتَرِي، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ حِيطَانَ الدَّارِ وَأَبْوَابَهَا. وَعَلَيْهِ بِنَاءُ حَائِطٍ إنْ سَقَطَ، وَإِبْدَالُ خَشَبِهِ إنْ انْكَسَرَ. وَعَلَيْهِ تَبْلِيطُ الْحَمَّامِ، وَعَمَلُ الْأَبْوَابِ وَالْبَزْلِ وَمَجْرَى الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَمَا كَانَ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، كَالْحَبْلِ وَالدَّلْوِ وَالْبَكْرَةِ، فَعَلَى الْمُكْتَرِي وَأَمَّا التَّحْسِينُ وَالتَّزْوِيقُ، فَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ. وَأَمَّا تَنْقِيَةُ الْبَالُوعَةِ وَالْكُنُفِ، فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكِرَاءِ، فَعَلَى الْمُكْرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَإِنْ امْتَلَأَتْ بِفِعْلِ الْمُكْتَرِي فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَرَى وَهِيَ مَلْأَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ عَلَى الْمُكْتَرِي، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّهُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ ذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُكْتَرِي، فَكَانَ عَلَيْهِ تَنْظِيفُهُ كَمَا لَوْ طَرَحَ فِيهَا قُمَاشًا. وَالْقَوْلُ فِي تَفْرِيغِ جية الْحَمَّامِ الَّتِي هِيَ مَصْرِفُ مَائِهِ، كَالْقَوْلِ فِي بَالُوعَةِ الدَّارِ وَإِنْ انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، وَفِي الدَّارِ زِبْلٌ أَوْ قُمَامَةٌ مِنْ فِعْلِ السَّاكِنِ، فَعَلَيْهِ نَقْلُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَلَى مُكْتَرِي الْحَمَّامِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ مُدَّةَ تَعْطِيلِهِ عَلَيْهِ] (4185) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ عَلَى مُكْتَرِي الْحَمَّامِ، أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ مُدَّةَ تَعْطِيلِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ مُدَّةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ فِي بَعْضِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ يَسْتَوْفِي بِقَدْرِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ مَجْهُولًا. فَإِنْ أَطْلَقَ، وَتَعَطَّلَ، فَهُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ، وَالْمُكْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِكُلِّ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنَّ لَهُ أَرْشَ الْعَيْبِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَرَضِيَهُ، وَيَتَخَرَّجُ أَنَّ لَهُ أَرْشَ الْعَيْبِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا، فَلَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ حَتَّى أَكَلَهُ، أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعَيْنِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْمُكْرِي] (4186) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعَيْنِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْمُكْرِي، كَعِمَارَةِ الْحَمَّامِ، إذَا شَرَطَهَا عَلَى الْمُكْتَرِي، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكٌ لِلْمُؤَجِّرِ فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ. وَإِذَا أَنْفَقَ بِنَاءً عَلَى هَذَا، احْتَسَبَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِي؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 لِأَنَّهُ أَنْفَقَهُ عَلَى مِلْكِهِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْرِي؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، لَكِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ، لِيَحْتَسِبَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْرِي أَيْضًا وَإِنْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ نَفَقَةً غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَالِكِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَمَرَ دَارًا لَهُ أُخْرَى. [مَسْأَلَة اُسْتُؤْجِرَ لِعَمَلِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَمَرِضَ] (4187) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِعَمَلِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَمَرِضَ، أُقِيمَ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُهُ، وَالْأُجْرَةُ عَلَى الْمَرِيضِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآدَمِيِّ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ آجَرَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَفْسَهُ لِرِعَايَةِ الْغَنَمِ. وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا لِيَدُلَّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ «. وَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، كُلُّ أَجِيرٍ بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، وَقَالَ: إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غَدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؟ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا فَقَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّمَا هُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» . وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ، كَالدُّورِ. ثُمَّ إجَارَتُهُ تَقَعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِئْجَارُهُ مُدَّةً بِعَيْنِهَا، لِعَمَلٍ بِعَيْنِهِ، كَإِجَارَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَفْسَهُ ثَمَانِيَ حِجَجٍ، وَاسْتِئْجَارِ الْأُجَرَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخَبَرِ وَالثَّانِي، اسْتِئْجَارُهُ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَاسْتِئْجَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ دَلِيلًا يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ لِخِيَاطَةِ قَمِيصٍ أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ، وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَقَعَ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنٍ، كَإِجَارَةِ عَبْدِهِ لِرِعَايَةِ غَنَمِهِ، أَوْ وَلَدِهِ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ. وَالثَّانِي أَنْ تَقَعَ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ قَمِيصٍ وَبِنَاءِ حَائِطٍ، فَمَتَى كَانَتْ عَلَى عَمَلٍ فِي ذِمَّتِهِ فَمَرِضَ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ إيفَاؤُهُ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إنْظَارُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ، وَفِي التَّأْخِيرِ إضْرَارٌ بِهِ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَبْدِهِ فِي مُدَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَمَرِضَ لَمْ يُقِمْ غَيْرَهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ عَلَى عَمَلِهِ بِعَيْنِهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 لَا عَلَى شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَعَمَلُ غَيْرِهِ لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مُعَيَّنًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَا يُبَدِّلْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَعَ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُ الْمَعِيبِ، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِ مَا تَسَلَّمَهُ، وَالْمَبِيعُ الْمُعَيَّنُ بِخِلَافِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ. وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، لَكِنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ الْأَجِيرِ مَقَامَهُ، كَالنَّسْخِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْقَصْدُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْخُطُوطِ، لَمْ يُكَلَّفْ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ قَبُولُ ذَلِكَ إنْ بَذَلَهُ الْأَجِيرُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ لَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ النَّاسِخِ، كَحُصُولِهِ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي نَوْعٍ، فَسَلَّمَ إلَيْهِ غَيْرَهُ وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ. [فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ لِحَفْرِ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْقُنِيِّ] (4188) فَصْلٌ: يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِحَفْرِ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْقُنِيِّ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ، يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا الرَّجُلُ عَلَى غَيْرِهِ، فَجَازَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ، كَالْخِدْمَةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْعَمَلِ بِمُدَّةٍ، أَوْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ قَيَّدَهُ بِمُدَّةٍ نَحْوِ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُك شَهْرًا، لِتَحْفِرَ لِي بِئْرًا أَوْ نَهْرًا. لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفِرَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، قَلِيلًا حَفَرَ أَوْ كَثِيرًا. وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يَحْفِرُ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تَكُونُ صُلْبَةً فَيَكُونُ الْحَفْرُ عَلَيْهِ شَاقًّا، وَقَدْ تَكُونُ سَهْلَةً، فَيَسْهُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَّرَهُ بِالْعَمَلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَوْضِعِ بِالْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ تَخْتَلِفُ بِالسُّهُولَةِ وَالصَّلَابَةِ، وَلَا يَنْضَبِطُ ذَلِكَ بِالصِّفَةِ. وَيَعْرِفُ دَوْرَ الْبِئْرِ، وَعُمْقَهَا، وَطُولَ النَّهْرِ، وَعُمْقَهُ، وَعَرْضَهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. فَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا، فَعَلَيْهِ شَيْلُ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَفْرُ إلَّا بِذَلِكَ، فَقَدْ تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ. فَإِنْ تَهَوَّرَ تُرَابٌ مِنْ جَانِبَيْهَا، أَوْ سَقَطَتْ فِيهِ بَهِيمَةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْلُهُ، وَكَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ فِيهَا مِنْ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ رَفْعَهُ. وَإِنْ وَصَلَ إلَى صَخْرَةٍ أَوْ جَمَادٍ يَمْنَعُ الْحَفْرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَفْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ مُشَاهَدَةُ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ، فَإِذَا ظَهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْمُشَاهَدَةَ، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، فَإِذَا فَسَخَ، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّةِ مَا عَمِلَ فَيُقَسَّطُ الْأَجْرُ عَلَى مَا بَقِيَ وَمَا عَمِلَ، فَيُقَالُ: كَمْ أَجْرُ مَا عَمِلَ؟ وَكَمْ أَجْرُ مَا بَقِيَ؟ ، وَيُقَسَّطُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمَا. وَلَا يَجُوزُ تَقْسِيطُهُ عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ؛ لِأَنَّ أَعْلَى الْبِئْرِ يَسْهُلُ نَقْلُ التُّرَابِ مِنْهُ، وَأَسْفَلَهُ يَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ. وَإِنْ نَبَعَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْحَفْرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّخْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ لِضَرْبِ اللَّبَن] (4189) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِضَرْبِ اللَّبِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَكُونُ عَلَى مُدَّةٍ أَوْ عَمَلٍ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِالْعَمَلِ، احْتَاجَ إلَى تَبْيِينِ عَدَدِهِ، وَذِكْرِ قَالَبِهِ، وَمَوْضِعِ الضَّرْبِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ؛ لِكَوْنِ التُّرَابِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ أَسْهَلَ، وَالْمَاءِ أَقْرَبَ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَالَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَخْتَلِفُ جَازَ، كَمَا إذَا كَانَ الْمِكْيَالُ مَعْرُوفًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 وَإِنْ قَدَّرَهُ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالسُّمْكِ جَازَ. وَلَا يَكْتَفِي بِمُشَاهَدَةِ قَالَبِ الضَّرْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا. وَقَدْ يَتْلَفُ الْقَالَبُ، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ. [فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ لِلْبِنَاءِ وَتَقْدِيرُهُ بِالزَّمَانِ أَوْ الْعَمَلِ] (4190) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْبِنَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ بِالزَّمَانِ أَوْ الْعَمَلِ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِالْعَمَلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ أَيْضًا بِقُرْبِ الْمَاءِ، وَسُهُولَةِ التُّرَابِ. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ طُولِهِ، وَعَرْضِهِ، وَسُمْكِهِ، وَآلَةِ الْبِنَاءِ مِنْ لَبِنٍ وَطِينٍ، أَوْ حَجَرٍ وَطِينٍ، أَوْ شِيدٍ وَآجُرٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَإِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِبِنَاءِ أَلْفِ لَبِنَةٍ فِي حَائِطِهِ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبْنِي لَهُ فِيهِ يَوْمًا، فَعَمِلَ مَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ، فَلَهُ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّهُ وَفَّى الْعَمَلَ وَإِنْ قَالَ: ارْفَعْ لِي هَذَا الْحَائِطَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَرَفَعَ بَعْضَهُ، ثُمَّ سَقَطَ، فَعَلَيْهِ إعَادَةُ مَا سَقَطَ وَإِتْمَامُ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ مِنْ الذَّرْعِ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ سُقُوطُهُ فِي الْأَوَّلِ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ، فَأَمَّا إنْ فَرَّطَ، أَوْ بَنَاهُ مَحْلُولًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَسَقَطَ، فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ، وَغَرَامَةُ مَا تَلِفَ مِنْهُ. [فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ لِتَطْيِينِ السُّطُوحِ وَالْحِيطَانِ وَتَجْصِيصِهَا] (4191) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِتَطْيِينِ السُّطُوحِ وَالْحِيطَانِ وَتَجْصِيصِهَا. وَلَا يَجُوزُ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ الطِّينَ يَخْتَلِفُ، فَمِنْهُ رَقِيقٌ وَثَخِينٌ، وَأَرْضُ السَّطْحِ تَخْتَلِفُ، فَمِنْهَا الْعَالِي وَمِنْهَا النَّازِلُ، وَكَذَلِكَ الْحِيطَانُ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ نَاسِخٍ لِيَنْسَخَ لَهُ كُتُبَ فِقْهٍ أَوْ حَدِيثٍ] (4192) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ نَاسِخٍ لِيَنْسَخَ لَهُ كُتُبَ فِقْهٍ أَوْ حَدِيثٍ، أَوْ شِعْرًا مُبَاحًا، أَوْ سِجِلَّاتٍ، نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ، وَسَأَلَهُ عَنْ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ بِالْأَجْرِ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمُدَّةِ أَوْ الْعَمَلِ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِالْعَمَلِ، ذَكَرَ عَدَدَ الْأَوْرَاقِ، وَقَدْرَهَا، وَعَدَدَ السُّطُورِ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ، وَقَدْرَ الْحَوَاشِي، وَدِقَّةَ الْقَلَمِ وَغِلَظَهُ. فَإِنْ عَرَفَ الْخَطَّ بِالْمُشَاهَدَةِ، جَازَ، وَإِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُهُ بِالصِّفَةِ ضَبَطَهُ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ. وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ الْأَجْرِ بِأَجْزَاءِ الْفَرْعِ، وَيَجُوزُ بِأَجْزَاءِ الْأَصْلِ الْمَنْسُوخِ مِنْهُ. وَإِنْ قَاطَعَهُ عَلَى نَسْخِ الْأَصْلِ بِأَجْرٍ وَاحِدٍ، جَازَ. وَإِذَا أَخْطَأَ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، عُفِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَإِنْ أَسْرَفَ فِي الْغَلَطِ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ، فَهُوَ عَيْبٌ يَرُدُّ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلَيْسَ لَهُ مُحَادَثَةُ غَيْرِهِ حَالَةَ النَّسْخِ، وَلَا التَّشَاغُلُ بِمَا يَشْغَلُ سِرَّهُ وَيُوجِبُ غَلَطَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ تَحْدِيثُهُ وَشَغْلُهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَخْتَلُّ بِشَغْلِ السِّرِّ وَالْقَلْبِ، كَالْقِصَارَةِ وَالنِّسَاجَةِ، وَنَحْوِهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ مُصْحَفًا] (4193) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ مُصْحَفًا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلَ شَهْرًا، ثُمَّ يَسْتَكْتِبَهُ مُصْحَفًا. وَكَرِهَ عَلْقَمَةُ كِتَابَةَ الْمُصْحَفِ بِالْأَجْرِ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَكَرِهَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ وَلَنَا أَنَّهُ فِعْلٌ مُبَاحٌ يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ الْغَيْرُ عَنْ الْغَيْرِ فَجَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، كَكِتَابَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ لِحَصَادِ زَرْعِهِ] (4194) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِحَصَادِ زَرْعِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يُؤْجِرُ نَفْسَهُ لِحَصَادِ الزَّرْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمُدَّةٍ، وَبِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلِ أَنْ يُقَاطِعَهُ عَلَى حَصَادِ زَرْعٍ مُعَيَّنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِسَقْيِ زَرْعِهِ، وَتَنْقِيَتِهِ، وَدِيَاسِهِ، وَنَقْلِهِ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَحْتَطِبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، أَشْبَهَ حَصَادَ الزَّرْعِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يَحْتَطِبَ لَهُ عَلَى حِمَارَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَنْقُلُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى حَمِيرٍ لِرَجُلٍ آخَرَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْأُجْرَةَ. فَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَجِيرِ بِقِيمَةِ مَا اسْتَضَرَّ بِاشْتِغَالِهِ عَنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. فَاعْتَبَرَ الضَّرَرَ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَضِرَّ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ اكْتَرَاهُ لِعَمَلٍ، فَوَفَّاهُ عَلَى التَّمَامِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي حَالِ عَمَلِهِ، فَإِنْ ضَرَّ الْمُسْتَأْجِرَ، يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَا فَوَّتَ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَا عَمِلَهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَنَافِعَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إلَى عَمَلِ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْآخَرِ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، فَمَا حَصَلَ فِي مُقَابَلَتِهَا يَكُونُ لِلَّذِي اسْتَأْجَرَهُ. [فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا] (4195) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الضَّرَبَاتِ تَخْتَلِفُ، وَمَوْضِعَ الضَّرَبَاتِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ وَمِمَّا يَلِي الْكَتِفَ، فَكَانَ مَجْهُولًا. وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ، لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَالْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ عَدَدَ الضَّرَبَاتِ يَخْتَلِفُ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. يَبْطُلُ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 فَإِنَّ عَدَدَ الْغُرُزَاتِ مَجْهُولٌ. وَقَوْلُهُ: إنَّ مَحَلَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ قُلْنَا: هُوَ مُتَقَارِبٌ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّتَهُ، كَمَوْضِعِ الْخِيَاطَةِ مِنْ حَاشِيَةِ الثَّوْبِ. وَالْأَجْرُ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: هُوَ عَلَى الْمُسْتَوْفِي، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ إلَّا التَّمْكِينُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ نَخْلِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَجْرٌ يَجِبُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ، فَكَانَ عَلَى الْمُوَفِّي، كَأَجْرِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَكَّنَهُ مِنْ الْقَطْعِ فَلَمْ يَقْطَعْ، وَقَطَعَهُ آخَرُ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ صَاحِبِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ كَانَ التَّمْكِينُ تَسْلِيمًا، لَسَقَطَ حَقُّهُ كَالثَّمَرَةِ. [فَصْل اسْتِئْجَار رَجُلٍ لِيَدُلّهُ عَلَى طَرِيقٍ] (4196) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ رَجُلٍ لِيَدُلَّهُ عَلَى طَرِيقٍ «؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، اسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، لِيَدُلَّهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ» . وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ كَيَّالٍ، وَوَزَّانٍ، لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ سُوَيْد بْنِ قَيْسٍ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَرَى مِنَّا رَجُلٌ سَرَاوِيلَ، وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِأَجْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زِنْ وَأَرْجِحْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ رَجُلٍ لِيُلَازِمَ غَرِيمًا يَسْتَحِقُّ مُلَازَمَتَهُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ قَدْ شَغَلَهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: غَيْرُ هَذَا أَعْجَبُ إلَيَّ. كَرِهَهُ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الْخُصُومَةِ، وَفِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا، فَيُسَاعِدَهُ عَلَى ظُلْمِهِ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُحِقٌّ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِحَقٍّ، وَلِهَذَا أَجَزْنَا لِلْمُوَكِّلِ فِعْلَهُ. [فَصْل اسْتَأْجَرَ سِمْسَارًا يَشْتَرِي لَهُ ثِيَابًا] (4197) فَصْل: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سِمْسَارًا، يَشْتَرِي لَهُ ثِيَابًا، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادٌ. وَلَنَا أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا، كَالْبِنَاءِ. وَيَجُوزُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، مِثْلِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يَشْتَرِي لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ، وَالْعَمَلَ مَعْلُومٌ، أَشْبَهَ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ. فَإِنْ عَيَّنَ الْعَمَلَ دُونَ الزَّمَانِ، فَجَعَلَ لَهُ مِنْ كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، صَحَّ أَيْضًا وَإِنْ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 كُلَّمَا اشْتَرَيْت ثَوْبًا، فَلَكَ دِرْهَمٌ أَجْرًا. وَكَانَتْ الثِّيَابُ مَعْلُومَةً بِصِفَةٍ، أَوْ مُقَدَّرَةً بِثَمَنٍ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَثْمَانِهَا، وَالْأَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا، فَإِنْ اشْتَرَى، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ لَهُ ثِيَابًا بِعَيْنِهَا] (4198) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ لَهُ ثِيَابًا بِعَيْنِهَا، صَحَّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ ضِرَابَ الْفَحْلِ، وَحَمْلَ الْحَجَرِ الْكَبِيرِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ، تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَشِرَاءِ الثِّيَابِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا بِزَمَنٍ، فَجَازَ مُقَدَّرًا بِعَمَلٍ، كَالْخِيَاطَةِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الثِّيَابَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ رَاغِبٍ فِيهَا، وَلِذَلِكَ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ، وَلَا تَكُونُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرٌ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى شِرَاءِ ثِيَابٍ مُعَيَّنَةٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ وَاحِدٍ، وَقَدْ لَا يَبِيعُ، فَيَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُ الْعَمَلِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ فِي الْبَيْعِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِشِرَاءِ ثِيَابٍ بِعَيْنِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ، وَإِلَّا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيَّنْ الْبَائِعُ وَلَا الْمُشْتَرِي. [فَصْل اسْتَأْجَرَ لِخِدْمَتِهِ مَنْ يَخْدِمُهُ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ] (4199) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِخِدْمَتِهِ مَنْ يَخْدِمُهُ كُلَّ شَهْرٍ، بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَجِيرُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَلَا يَخْتَصُّ عَامِلُهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَجِيرُ الْمُشَاهَرَةِ يَشْهَدُ الْأَعْيَادَ وَالْجُمُعَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: فَيَتَطَوَّعُ بِالرَّكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: مَا لَمْ يَضُرّ بِصَاحِبِهِ. إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْخِدْمَةِ، وَلِهَذَا وَقَعَتْ مُسْتَثْنَاةً فِي حَقِّ الْمُعْتَكِفِ بِتَرْكِ مُعْتَكَفِهِ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ الْأَجِيرُ رَكَعَاتِ السُّنَّةِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَمَةَ وَالْحُرَّةَ لِلْخِدْمَةِ وَلَكِنْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ، لَيْسَتْ الْأَمَةُ مِثْلَ الْحُرَّةِ، وَلَا يَخْلُو مَعَهَا فِي بَيْتٍ، وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً، وَلَا إلَى شَعْرِهَا. إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّظَرِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ كَحُكْمِهِ قَبْلَهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 [مَسْأَلَةٌ مَاتَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي أَوْ أَحَدُهُمَا] (4200) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا) هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالْبَتِّيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَاللَّيْثُ: تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ يَتَعَذَّرُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ اسْتِيفَاءَهَا عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِذَا مَاتَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ، فَانْتَقَلَتْ إلَى وَرَثَتِهِ، فَالْمَنَافِعُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتِيفَاءَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا عَقَدَ مَعَ الْوَارِثِ، وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ، لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُ الْأَجْرِ فِي تَرِكَتِهِ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ، مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ مَاتَ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ مَلَكَ الْمَنَافِعَ، وَمُلِكَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ كَامِلَةً فِي وَقْتِ الْعَقْدِ. ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ مَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ مَاتَ. وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ وُجُوبُ الْأَجْرِ هَاهُنَا بِسَبَبٍ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ، فَوَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا، فَوَقَعَ فِيهَا شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، ضَمِنَهُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ مَاتَ الْمُكْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ كَانَ غَائِبًا] (4201) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ الْمُكْتَرِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ كَانَ غَائِبًا، كَمَنْ يَمُوتُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَيَخْلُفُ جَمَلَهُ الَّذِي اكْتَرَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَحْمِلُهُ، وَلَا وَارِثَ لَهُ حَاضِرٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ، يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ عَنْ مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غُصِبَتْ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقْدِ ضَرَرٌ فِي حَقِّ الْمُكْتَرِي وَالْمُكْرِي؛ لِأَنَّ الْمُكْتَرِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ، وَالْمُكْرِيَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، مَعَ ظُهُورِ امْتِنَاعِ الْكِرَاءِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ اكْتَرَى بَعِيرًا، فَمَاتَ الْمُكْتَرِي فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ رَجَعَ الْبَعِيرُ خَالِيًا، فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ثِقَلُهُ وَوِطَاؤُهُ، فَلَهُ الْكِرَاءُ إلَى الْمَوْضِعِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ حَكَمَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، إذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ، وَلَمْ يَبْقَ بِهِ انْتِفَاعٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَرَى مِنْ يَقْلَعُ لَهُ ضِرْسَهُ، فَبَرَأَ، أَوْ انْقَلَعَ قَبْلَ قَلْعِهِ، أَوْ اكْتَرَى كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ، فَبَرَأَتْ، أَوْ ذَهَبَتْ. وَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ. وَتَأَوَّلَهَا الْقَاضِي عَلَى أَنَّ الْمُكْرِيَ قَبَضَ الْبَعِيرَ، وَمَنَعَ الْوَرَثَةَ الِانْتِفَاعَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِعُذْرٍ فِي الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ حُبِسَ مُسْتَأْجِرُ الدَّارِ، وَمُنِعَ مِنْ سُكْنَاهَا وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ الْوَارِثَ الِانْتِفَاعَ، لَمَا اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 وَيُفَارِقُ هَذَا مَا لَوْ حُبِسَ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ انْتِفَاعُهُ، وَهَذَا لَا يُؤْيَسُ مِنْهُ بِالْحَبْسِ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْ الْحَبْسِ وَانْتِفَاعُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ إمَّا بِأَجْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ قَدْ فَاتَ انْتِفَاعُهُ بِنَفْسِهِ وَنَائِبِهِ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصُّوَرِ. [فَصْلٌ أَجَرَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ مُدَّةً فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا وَانْتَقَلَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ] (4202) فَصْلٌ: إذَا أَجَرَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ مُدَّةً، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا، وَانْتَقَلَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ مِلْكَهُ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ أَجَرَ مِلْكَهُ الطَّلْقَ. وَالثَّانِي تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ أَجَرَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ، فَصَحَّ فِي مِلْكِهِ دُونَ مِلْكِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَجَرَ دَارَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ، وَالْأُخْرَى لِغَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْد الْمَوْتِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَنْفُذُ عَقْدُهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا وِلَايَةٍ، بِخِلَافِ الطَّلْقِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْرُوثِ، فَلَا يَمْلِكُ إلَّا مَا خَلَفَهُ، وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ، وَالْمَنَافِعُ الَّتِي أَجَرَهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالْإِجَارَةِ، فَلَا تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ وَالْبَطْنُ الثَّانِي فِي الْوَقْفِ يَمْلِكُونَ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ، فَمَا حَدَثَ فِيهَا بَعْدَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ، فَقَدْ صَادَفَ تَصَرُّفَ الْمُؤَجِّرِ فِي مِلْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَصِحَّ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَبْطُلَ الْإِجَارَةُ كُلُّهَا بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَبَضَ الْأَجْرَ كُلَّهُ، وَقُلْنَا: تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ. فَلِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ أَخْذُهُ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى وَرَثَةِ الْمُؤَجِّرِ بِحِصَّةِ الْبَاقِي مِنْ الْأَجْرِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ رَجَعَ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ عَلَى التَّرِكَةِ بِحِصَّتِهِ. [فَصْلٌ أَجَرَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ أَوْ مَالَهُ مُدَّةً فَبَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا] (4203) فَصْلٌ: وَإِنْ أَجَرَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ، أَوْ مَالِهِ مُدَّةً، فَبَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، عَقَدَهُ بِحَقِّ الْوِلَايَةِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْبُلُوغِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارِهِ أَوْ زَوَّجَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْطُلَ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَعْدَ زَوَالِ الْوِلَايَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إجَارَةِ الْوَقْفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا أَجَرَهُ مُدَّةً يَتَحَقَّقُ بُلُوغُهُ فِي أَثْنَائِهَا، مِثْلَ إنْ أَجَرَهُ عَامَيْنِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَتَبْطُلُ فِي السَّادِسَ عَشَرَ؛ لِأَنَّنَا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَجَرَهُ فِيهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَهَلْ تَصِحُّ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بُلُوغُهُ فِي أَثْنَائِهَا، كَاَلَّذِي أَجَرَهُ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ وَحْدَهُ، فَبَلَغَ فِي أَثْنَائِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْفَصْلِ؛ لِأَنَّنَا لَوْ قُلْنَا: يُلْزَمُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ مُدَّةً يَتَحَقَّقُ بُلُوغُهُ فِيهَا، أَفْضَى إلَى أَنْ يَعْقِدَ عَلَى جَمِيعِ مَنَافِعِهِ طُولَ عُمْرِهِ، وَإِلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ فِي غَيْرِ زَمَنِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْبِه النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 تَقْدِيرُ مُدَّتِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعْقَدُ لِلْأَبَدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَنَافِعِهِ فِي حَالٍ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا مَلَكَ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَالْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، عُقِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ، فَإِذَا مَلَكَهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ، كَالْأَبِ إذَا زَوَّجَ وَلَدَهُ. وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، لِأَجْلِ الْعَيْبِ، لَا لِمَا ذَكَرَهُ، وَلِهَذَا لَوْ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرٍّ، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ. وَإِنْ مَاتَ الْوَلِيُّ الْمُؤَجِّرُ لِلصَّبِيِّ أَوْ مَالِهِ، أَوْ عُزِلَ، وَانْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، فَلَمْ يَبْطُلْ تَصَرُّفُهُ بِمَوْتِهِ أَوْ عَزْلِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ نَاظِرُ الْوَقْفِ أَوْ عُزِلَ، أَوْ مَاتَ الْحَاكِمُ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ فِيمَا لَهُ النَّظَرُ فِيهِ. وَيُفَارِقُ مَا لَوْ أَجَرَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ مُدَّةً، ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَائِهَا لِأَنَّهُ أَجَرَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فِي مُدَّةٍ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِيهَا، وَهَا هُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ الثَّانِي الْوِلَايَةُ فِي التَّصَرُّفِ فِيمَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْأُوَلُ، وَهَذَا الْعَقْدُ قَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْأُوَلُ، فَلَمْ تَثْبُتْ لِلثَّانِي وِلَايَةٌ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ. [فَصْل أَجَرَ عَبْدَهُ مُدَّةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي أَثْنَائِهَا] (4204) فَصْلٌ: وَإِنْ أَجَرَ عَبْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي أَثْنَائِهَا، صَحَّ الْعِتْقُ، وَلَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ بِشَيْءٍ. وَهَذَا جَدِيدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَرْجِعُ عَلَى مَوْلَاهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُسْتَوْفَى مِنْهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ، فَرَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَلَنَا أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ اُسْتُحِقَّتْ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْعِتْقِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِبَدَلِهَا. كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا، فَإِنَّ مَا يَسْتَوْفِيه السَّيِّدُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ. وَيُخَالِفُ الْمُكْرَهَ؛ فَإِنَّهُ تَعَدَّى بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوْ الْإِمْضَاءِ، كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ، لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ثَمَّ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ عَقَدَهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِالْعِتْقِ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَهِيَ عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ، فَهِيَ عَلَى مُعْتِقِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ عِوَضَ نَفْعِهِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْإِجَارَةِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مَنْفَعَتَهُ بِعِوَضٍ غَيْرِ نَفَقَتِهِ، لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهَا عَلَى الْمَوْلَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 [فَصْلٌ أَجَرَ عَيْنًا ثُمَّ بَاعَهَا] (4205) فَصْلٌ: إذَا أَجَرَ عَيْنًا، ثُمَّ بَاعَهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، سَوَاءٌ بَاعَهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: إنْ بَاعَهَا لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَائِلَةٌ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَمَنَعَتْ الصِّحَّةَ، كَمَا فِي بَيْعِ الْمَغْصُوبِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، فَلَمْ تَمْنَعْ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ بَاعَهَا. وَقَوْلُهُمْ: يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ حَائِلَةٌ دُونَ التَّسْلِيمِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَالْبَيْعَ عَلَى الرَّقَبَةِ، فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتُ الْيَدِ عَلَى أَحَدِهِمَا تَسْلِيمَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ، وَلَئِنْ مَنَعْتَ التَّسْلِيمَ فِي الْحَالِ، فَلَا تَمْنَعْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهِ، وَهُوَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ، وَيَكْفِي الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ حِينَئِذٍ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَيْعُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَبَطَلَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ. وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ إجَازَتُهُ، كَبَيْعِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ إلَّا حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ إنَّمَا يُرَادُ لِاسْتِيفَاءِ نَفْعِهَا، وَنَفْعُهَا إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، فَيَصِيرُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى عَيْنًا فِي مَكَان بَعِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهَا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ إحْضَارُهَا فِيهَا كَالْمُسْلِمِ إلَى وَقْتٍ لَا يَسْتَحِقُّ تَسَلُّمَ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَّا فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِالْإِجَارَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَإِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ. [فَصْلٌ اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرِ الْعَيْن الْمُؤَجَّرَة] (4206) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَاهَا الْمُسْتَأْجِرُ، صَحَّ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهَا لِغَيْرِهِ، فَلَهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ. وَهَلْ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ، ثُمَّ مَلَكَ الرَّقَبَةَ الْمَسْلُوبَةَ بِعَقْدٍ آخَرَ، فَلَمْ يَتَنَافَيَا، كَمَا يَمْلِكُ الثَّمَرَةَ بِعَقْدٍ، ثُمَّ يَمْلِكُ الْأَصْلَ بِعَقْدٍ آخَرَ. وَلَوْ أَجَّرَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ مَالِكَ الرَّقَبَةِ، صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ عَلَى الرَّقَبَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْمَالِكُ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا، جَازَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَجْرُ بَاقِيًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَيَجْتَمِعَانِ لِلْبَائِعِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَهُ. وَالثَّانِي تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ، فَبَطَلَ مِلْكُ الْعَاقِدِ لِلْعَيْنِ، كَالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، بَطَلَ نِكَاحُهُ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِجَارَةِ، فَمَنَعَ اسْتَدَامَتْهَا، كَالنِّكَاحِ. فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي الْأَجْرُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، كَمَا لَوْ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَدْ قَبَضَ الْأَجْرَ كُلَّهُ، حَسَبَ عَلَيْهِ بَاقِيَ الْأَجْرِ مِنْ الثَّمَنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 [فَصْلٌ وَرِثَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ] (4207) فَصْلٌ: وَإِنْ وَرِثَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا، فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَقَائِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَبَقَائِهَا، فَلَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانٌ مِنْ أَبِيهِ دَارًا، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ، وَخَلَفَ ابْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنَّ الدَّارَ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي لِأَخِيهِ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ، وَالنِّصْفَ الَّذِي وَرِثَهُ يَسْتَحِقُّهُ، إمَّا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَإِمَّا بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ قَدْ قَبَضَ الْأَجْرَ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَخِيهِ وَلَا تَرِكَةِ أَبِيهِ، وَيَكُونُ مَا خَلَّفَهُ أَبُوهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِشَيْءٍ أَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرِثَ النِّصْفَ بِمَنْفَعَتِهِ، وَوَرِثَ أَخُوهُ نِصْفًا مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِنِصْفِ أَجْرِ النِّصْفِ الَّذِي انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ فِيهِ، لَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ أَخُوهُ بِنِصْفِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ فِيهَا إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَأَخْذِ عِوَضِهَا مِنْ غَيْرِهِ. [فَصْل اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرُ الْعَيْنَ ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبَةً فَرَدَّهَا] (4208) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرُ الْعَيْنَ، ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبَةً، فَرَدَّهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِالْبَيْعِ. فَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَإِنْ قُلْنَا: قَدْ انْفَسَخَتْ. فَالْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ انْفَسَخَتْ بِتَلَفِ الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا، فَرْد الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ لِعَيْبٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَعُودَ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عِوَضَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا سَقَطَ الْعِوَضُ، عَادَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الْعَيْنَ مَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ، مُدَّةَ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، مَا لَمْ يَمْلِكْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَرْجِعُ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّقَبَةِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِقَّتْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَإِذَا زَالَتْ عَادَتْ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقِيَاسُ؛ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ قَدْ اسْتَقَرَّ عِوَضُهَا لِلْبَائِعِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا، وَلَا يَنْقَسِمُ الْعِوَضُ عَلَى الْمُدَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ فِيمَا إذَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ أَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ؛ فَإِنَّ الْمُؤَجِّرَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ مَقْسُومًا عَلَى مُدَّتِهَا، فَإِذَا كَانَ لَهُ عِوَضُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَزَالَ بِالْفَسْخِ، رَجَعَ إلَيْهِ مُعَوَّضُهَا، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ. وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمْلَكَ بِغَيْرِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ النِّكَاحِ، فَلَوْ رَجَعَتْ إلَى الْبَائِعِ، لَمُلِكَتْ بِغَيْرِهِمَا. وَلِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ نَقْلُهَا إلَى غَيْرِهِ، وَلَا الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا، وَمَنْفَعَةُ الْبَدَنِ بِخِلَافِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 [فَصْلٌ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنٍ فَتَلِفَتْ] (4209) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةِ عَلَى عَيْنٍ، مِثْلِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ، أَوْ لِرِعَايَةِ الْغَنَمِ، أَوْ جَمَلًا لِلْحَمْلِ أَوْ لِلرُّكُوبِ، فَتَلِفَتْ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِهَا. وَإِنْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ. وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَمْ يَمْلِكْ إبْدَالَهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنًا. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، انْعَكَسَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، فَمَتَى سَلَّمَ إلَيْهِ عَيْنًا فَتَلِفَتْ، لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ، وَلَزِمَ الْمُؤَجِّرَ إبْدَالُهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مَغْصُوبَةً، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، وَلَزِمَهُ بَدَلُهَا. وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَهَذِهِ بَدَلٌ عَنْهُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ تَلَفُهَا، وَلَا غَصْبُهَا، وَلَا رَدُّهَا بِعَيْبٍ فِي إبْطَالِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، عَلَى مَا قُرِّرَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِي مَنْ اكْتَرَى جَمَلًا لِيَرْكَبَهُ جَازَ أَنْ يَرْكَبَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ. وَلَوْ اكْتَرَى أَرْضًا لِزَرْعِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، جَازَ لَهُ زَرْعُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إذَا اكْتَرَى جَمَلًا بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدِلَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ غَيْرَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهَا وَالرَّاكِبُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَوْفٍ لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ لِتُقَدَّرَ بِهِ الْمَنْفَعَةُ، لَا لِكَوْنِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّمَا يُعَيَّنُ لِيُعْرَفَ بِهِ قَدْرُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ، فَيَجُوزُ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِهَا، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمُشْتَرِي غَيْرَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَبِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْبَعِيرُ أَوْ الْأَرْضُ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَلَوْ مَاتَ الرَّاكِبُ، أَوْ تَلِفَ الْبَذْرُ، لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ، وَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فَافْتَرَقَا. [مَسْأَلَة اسْتَأْجَرَ عَقَارًا لِلسُّكْنَى] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَقَارًا، فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ غَيْرَهُ إذَا كَانَ يَقُومُ مَقَامَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَقَارًا لِلسُّكْنَى، فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهُ، وَيُسْكِنَ فِيهِ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الضَّرَرِ، أَوْ دُونَهُ، وَيَضَعُ فِيهِ مَا جَرَتْ عَادَةُ السَّاكِنِ بِهِ، مِنْ الرِّحَالِ وَالطَّعَامِ، وَيَخْزُنُ فِيهَا الثِّيَابَ وَغَيْرَهَا مِمَّا لَا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا يُسْكِنُهَا مَا يَضُرُّ بِهَا، مِثْلَ الْقَصَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهَا. وَلَا يَجْعَلُ فِيهَا الدَّوَابَّ؛ لِأَنَّهَا تَرُوثُ فِيهَا وَتُفْسِدُهَا وَلَا يَجْعَلُ فِيهَا السِّرْجِينَ، وَلَا رَحًى وَلَا شَيْئًا يَضُرُّ بِهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا شَيْئًا ثَقِيلًا فَوْقَ سَقْفٍ؛ لِأَنَّهُ يُثْقِلُهُ وَيَكْسِرُ خَشَبَهُ. وَلَا يَجْعَلُ فِيهَا شَيْئًا يَضُرُّ بِهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَإِنَّمَا كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 كَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَنَائِبِهِ، وَاَلَّذِي يَسْكُنُهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، أَوْ دَيْنٍ لَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ فِعْلَ مَا يَضُرُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الدَّارَ مَخْزَنًا لِلطَّعَامِ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا مَخْزَنًا لِغَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَحْرِيقِ النَّارِ أَرْضَهَا وَحِيطَانَهَا، وَذَلِكَ ضَرَرٌ لَا يَرْضَى بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ. [فَصْلٌ اكْتَرَى دَارًا] (4211) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى دَارًا، جَازَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ السُّكْنَى، وَلَا صِفَتِهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَجُوزُ، حَتَّى يَقُولَ: أَبِيتُ تَحْتَهَا أَنَا وَعِيَالِي؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ، وَلَوْ اكْتَرَاهَا لِيَسْكُنَهَا، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَهُ. وَلَنَا أَنَّ الدَّارَ لَا تُكْتَرَى إلَّا لِلسُّكْنَى، فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ، كَإِطْلَاقِ الثَّمَنِ فِي بَلَدٍ فِيهِ نَقْدٌ مَعْرُوفٌ بِهِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي السُّكْنَى يَسِيرٌ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ضَبْطِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ مَنْ يَسْكُنُ وَقِلَّتِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ ذَلِكَ، فَاجْتُزِئَ فِيهِ بِالْعُرْفِ، كَمَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ وَشِبْهِهِ. وَلَوْ اشْتَرَطَ مَا ذَكَرَهُ، لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَدَدَ السُّكَّانِ، وَأَنْ لَا يَبِيتَ عِنْدَهُ ضَيْفٌ، وَلَا زَائِرٌ، وَلَا غَيْرُ مَنْ ذَكَرَهُ. وَلَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ صِفَةَ السَّاكِنِ، كَمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا اكْتَرَى لِلرُّكُوبِ. [فَصْلٌ اكْتَرَى ظَهْرًا لِيَرْكَبَهُ] (4212) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى ظَهْرًا لِيَرْكَبَهُ، فَلَهُ أَنْ يُرْكِبَهُ مِثْلَهُ، وَمَنْ هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، وَلَا يُرْكِبُهُ مَنْ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ اقْتَضَى اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِذَلِكَ الرَّاكِبِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَنَائِبِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِمَّا عَقَدَ عَلَيْهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَلَا الْمَعْرِفَةُ بِالرُّكُوبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ قِلَّةَ الْمَعْرِفَةِ بِالرُّكُوبِ تُثْقِلُ عَلَى الْمَرْكُوبِ، وَتَضُرُّ بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: لَمْ يَرْكَبُوا الْخَيْلَ إلَّا بَعْدَ مَا كَبِرُوا ... فَهُمْ ثِقَالٌ عَلَى أَعْجَازِهَا عُنُفُ وَلَنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الثِّقَلِ يَسِيرٌ، فَعُفِيَ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ فِي الْإِجَارَةِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْإِجَارَةِ، كَالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 [فَصْلٌ شَرَطَ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ فِي الْمَنْفَعَةِ بِمِثْلِهِ وَلَا بِمِنْ هُوَ دُونَهُ] فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ فِي الْمَنْفَعَةِ بِمِثْلِهِ، وَلَا بِمَنْ هُوَ دُونَهُ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا صِحَّةُ الْعَقْدِ، وَبُطْلَانُ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ قَالَ فِيمَنْ شَرَطَ أَنْ يَزْرَعَ فِي الْأَرْضِ حِنْطَةً، وَلَا يَزْرَعَ غَيْرَهَا: يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ الشَّرْطُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجِّرِ، فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَخْصِيصِهِ بِاسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَالُوا فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ، إذْ مُوجَبُهُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالتَّسَلُّطُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ، وَاسْتِيفَاءُ بَعْضِهَا بِنَفْسِهِ، وَبَعْضِهَا بِنَائِبِهِ، وَالشَّرْطُ يُنَافِي ذَلِكَ، فَكَانَ بَاطِلًا. وَهَلْ يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا، لَا يُبْطِلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فَأُلْغِيَ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَالْآخَرُ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ. [فَصْلٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤْجَر الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ إذَا قَبَضَهَا] (4214) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ إذَا قَبَضَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْي. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالْمَنَافِعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ. وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَالْأُوَلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْعَيْنِ قَامَ مَقَامَ قَبْضِ الْمَنَافِعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، فَجَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، كَبَيْعِ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرَةِ. وَيَبْطُلُ قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِهَذَا الْأَصْلِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ إلَّا لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، أَوْ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. فَأَمَّا إجَارَتُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا فَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤَجِّرِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَمْلُوكَةٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَاعْتُبِرَ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا الْقَبْضُ، كَالْأَعْيَانِ. وَالْآخَرُ، يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْعَيْنِ لَا يَنْتَقِلُ بِهِ الضَّمَانُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَقِفْ جَوَازُ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إجَارَتُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْمُؤَجِّرِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤَجِّرِ كَانَ فِيهَا هَاهُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا قَبْلَ قَبْضِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وَالثَّانِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَأَصْلُهُمَا بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهَلْ يَصِحُّ مِنْ بَائِعِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا إجَارَتُهَا بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْ الْمُؤَجِّرِ، فَجَائِزَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْكِرَاءِ، فَإِذَا اكْتَرَاهَا صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا لِمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ مَعَ غَيْرِ الْعَاقِدِ جَازَ مَعَ الْعَاقِدِ، كَالْبَيْعِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ حَصَلَ، وَهَذَا الْمُسْتَحَقُّ لَهُ تَسْلِيمٌ آخَرُ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا اسْتَحَقَّ تَسْلِيمَهَا. فَإِنْ قِيلَ: التَّسْلِيمُ هَاهُنَا مُسْتَحَقٌّ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. قُلْنَا الْمُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمٌ آخَرُ، غَيْرَ أَنَّ الْعَيْنَ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْمَنَافِعُ بِتَلَفِ الدَّارِ أَوْ غَصْبِهَا، رُجِعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَعَذَّرَتْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ. [فَصْلٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ إجَارَةُ الْعَيْنِ بِمِثْلِ الْأَجْرِ وَزِيَادَة] (4215) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إجَارَةُ الْعَيْنِ، بِمِثْلِ الْأَجْرِ وَزِيَادَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إنْ أَحْدَثَ فِي الْعَيْنِ زِيَادَةً، جَازَ لَهُ أَنْ يُكْرِيَهَا بِزِيَادَةٍ، وَإِلَّا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ فَعَلَ، تَصَدَّقَ بِالزِّيَادَةِ رَوَى هَذَا الشَّعْبِيُّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَرْبَحُ بِذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلِأَنَّهُ يَرْبَحُ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ رَبِحَ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَيُخَالِفُ مَا إذَا عَمِلَ عَمَلًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إنْ أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِي الزِّيَادَةِ جَازَ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ. وَكَرِهَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، الزِّيَادَةَ مُطْلَقًا؛ لِدُخُولِهَا فِي رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَجَازَ بِزِيَادَةٍ، كَبَيْعِ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ، وَكَمَا لَوْ أَحْدَثَ عِمَارَةً لَا يُقَابِلُهَا جُزْءٌ مِنْ الْأَجْرِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهَا لَوْ فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَائِهِ، كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ. وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، سَوَاءٌ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، وَهَا هُنَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّ الرِّبْحَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ مُلْغًى بِمَا إذَا كَنَسَ الدَّارَ وَنَظَّفَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي أَجْرِهَا فِي الْعَادَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 [فَصْلٌ يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنْ الْأَعْمَالِ يُقَبِّلُهُ بِأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ أَيَجُوزُ لَهُ الْفَضْلُ] (4216) فَصْلٌ: وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَيَقْبَلُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَيَجُوزُ لَهُ الْفَضْلُ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، هِيَ مَسْأَلَةٌ فِيهَا بَعْضُ الشَّيْءِ. قُلْت: أَلَيْسَ كَانَ الْخَيَّاطُ أَسْهَلَ عِنْدَك، إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ، أَوْ غَيْرَهُ إذَا عَمِلَ فِي الْعَمَلِ شَيْئًا؟ قَالَ: إذَا عَمِلَ عَمَلًا فَهُوَ أَسْهَلُ. قَالَ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْخَيَّاطُ الثِّيَابَ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعِينَ فِيهَا، أَوْ يَقْطَعَ، أَوْ يُعْطِيَهُ سُلُوكًا أَوْ إبَرًا، أَوْ يَخِيطَ فِيهَا شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يُعِنْ فِيهَا بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذَنَّ فَضْلًا وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّخَعِيُّ قَالَهُ مَبْنِيًّا عَلَى مَذْهَبِهِ، فِي أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا لَا يُؤَجِّرُهُ بِزِيَادَةٍ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَانَ فِيهَا بِشَيْءٍ أَوْ لَمْ يُعِنْ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ بِمِثْلِ الْأَجْرِ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ، جَازَ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ، وَكَإِجَارَةِ الْعَيْنِ. [فَصْلٌ كُلّ عَيْنٍ اسْتَأْجَرَهَا لِمَنْفَعَةِ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِثْلَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَمَا دُونَهَا فِي الضَّرَرِ] (4217) فَصْلٌ: وَكُلُّ عَيْنٍ اسْتَأْجَرَهَا لِمَنْفَعَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِثْلَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَمَا دُونَهَا فِي الضَّرَرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً، لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا تَمْرًا. فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً، أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، إذَا كَانَ الْوَزْنُ وَاحِدًا. فَإِنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَسْتَوْفِيهَا أَكْثَرَ ضَرَرًا، أَوْ مُخَالِفَةً لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فِي الضَّرَرِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ غَيْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَإِذَا اكْتَرَى دَابَّةً، لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حَدِيدًا، لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهَا قُطْنًا، لِأَنَّهُ يَتَجَافَى، وَتَهُبُّ فِيهِ الرِّيحُ، فَيُتْعِبُ الظَّهْرَ وَإِنْ اكْتَرَاهَا لِحَمْلِ الْقُطْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْمِلَ الْحَدِيدَ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَالْقُطْنِ يَتَفَرَّقُ، فَيَقِلُّ ضَرَرُهُ. وَإِنْ اكْتَرَاهُ لِيَرْكَبَهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يُعِينُ الظَّهْرَ بِحَرَكَتِهِ. وَإِنْ اكْتَرَاهُ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَقْعُدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَيَشْتَدُّ عَلَى الظَّهْرِ، وَالْمَتَاعُ يَتَفَرَّقُ عَلَى جَنْبَيْهِ وَإِنْ اكْتَرَاهُ لِيَرْكَبَهُ عُرْيًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَهُ بِسَرْجٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا عَقَدَ عَلَيْهِ. وَإِنْ اكْتَرَاهُ لِيَرْكَبَهُ بِسَرْجٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَهُ عُرْيًا؛ لِأَنَّهُ إذَا رَكِبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سَرْجٍ حَمِيَ ظَهْرُهُ، فَرُبَّمَا عَقَرَهُ. وَإِنْ اكْتَرَاهُ لِيَرْكَبَهُ بِسَرْجٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. فَلَوْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَهُ بِسَرْجِ الْبِرْذَوْنِ، إذَا كَانَ أَثْقَلَ مِنْ سَرْجِهِ. وَإِنْ اكْتَرَى دَابَّةً بِسَرْجٍ، فَرَكِبَهَا بِإِكَافٍ أَثْقَلَ مِنْهُ، أَوْ أَضَرَّ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ أَخَفَّ، وَأَقَلَّ ضَرَرًا، فَلَا بَأْسَ وَمَتَى فَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ، كَانَ ضَامِنًا، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 [فَصْلٌ اكْتَرَى دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فِي مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ] (4218) فَصْلٌ: وَإِنْ اكْتَرَى دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فِي مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا فِيهَا، فَأَرَادَ الْعُدُولَ بِهَا إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا فِي الْقَدْرِ أَضَرَّ مِنْهَا، أَوْ تُخَالِفُ ضَرَرَهَا، بِأَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا أَحْسَنَ وَالْأُخْرَى أَخْوَفَ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ مِثْلَهَا فِي السُّهُولَةِ وَالْحُزُونَةِ وَالْأَمْنِ، أَوْ الَّتِي يَعْدِلُ إلَيْهَا أَقَلَّ ضَرَرًا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ عُيِّنَتْ لِيَسْتَوْفِيَ بِهَا الْمَنْفَعَةَ، وَيَعْلَمَ قَدْرَهَا بِهَا، فَلَمْ تَتَعَيَّنْ، كَنَوْعِ الْمَحْمُولِ وَالرَّاكِبِ وَيَقْوَى عِنْدِي، أَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمُكْرِي غَرَضٌ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهَا، مِثْلُ مِنْ يُكْرِي جِمَالَهُ إلَى مَكَّةَ فَيَحُجُّ مَعَهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى غَيْرِهَا. وَلَوْ أَكْرَاهَا إلَى بَغْدَادَ، لِكَوْنِ أَهْلِهِ بِهَا، أَوْ بِبَلَدِ الْعِرَاقِ لَمْ يَجُزْ الذَّهَابُ بِهَا إلَى مِصْرَ. وَلَوْ أَكْرَى جِمَالَهُ جُمْلَةً إلَى بَلَدٍ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْتَأْجِرِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا، بِالسَّفَرِ بِبَعْضِهَا إلَى جِهَةٍ، وَبِبَاقِيهَا إلَى جِهَةٍ أُخْرَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْمَسَافَةَ لِغَرَضٍ فِي فَوَاتِهِ ضَرَرٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُكْتَرِي فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ حَمْلَهُ إلَى غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي اكْتَرَى إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَمَا لَوْ عَيَّنَ طَرِيقًا سَهْلًا أَوْ آمِنًا، فَأَرَادَ سُلُوكَ مَا يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ اكْتَرِي قَمِيصًا لِيَلْبَسهُ] (4219) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتَرِيَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ، كَالْعَقَارِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ بِالْمُدَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ نَزْعَ ثِيَابِهِمْ عِنْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، فَعَلَيْهِ نَزْعُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُعْتَادِ، وَلَهُ لُبْسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. وَإِنْ نَامَ نَهَارًا، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَزْعُهُ؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ. وَيَلْبَسُ الْقَمِيصَ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فَيَشُقُّهُ، وَفِي اللُّبْسِ لَا يَعْتَمِدُ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ. وَمِنْ مَلَكَ شَيْئًا، مَلَكَ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ. وَقِيلَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ فِي الْقَمِيصِ، أَشْبَهَ الِاتِّزَارَ بِهِ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَار أَرْضِ] (4220) فَصْل: وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، صَحَّ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَرَى الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا، وَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، وَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ مَا يَكْتَرِي لَهُ مِنْ زَرْعٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَصْلُحُ لِهَذَا كُلِّهِ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْأَرْضِ يَخْتَلِفُ، فَوَجَبَ بَيَانُهُ. فَإِنْ قَالَ: أَجَرْتُكهَا لِتَزْرَعَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 أَوْ تَغْرِسَهَا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَهُمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: لِتَزْرَعَهَا مَا شِئْت، أَوْ تَغْرِسَهَا مَا شِئْت صَحَّ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ يَزْرَعُ وَيَغْرِسُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ، وَيَزْرَعُ نِصْفَهَا، وَيَغْرِسُ نِصْفَهَا. وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ اقْتَضَى إبَاحَةَ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِتَزْرَعَهَا مَا شِئْت. وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسَيْنِ كَاخْتِلَافِ النَّوْعَيْنِ، وَقَوْلُهُ: لِتَزْرَعَهَا مَا شِئْت. إذْنٌ فِي نَوْعَيْنِ وَأَنْوَاعٍ، وَقَدْ صَحَّ، فَكَذَلِكَ فِي الْجِنْسَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَهَا كُلَّهَا، وَإِنْ أَحَبَّ زَرَعَهَا، كُلَّهَا، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْوَاعِ الزَّرْعِ كُلِّهِ، كَانَ لَهُ زَرْعُ جَمِيعِهَا نَوْعًا وَاحِدًا، وَلَهُ زَرْعُهَا مِنْ نَوْعَيْنِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا وَإِنْ أَكْرَاهَا لِلزَّرْعِ وَحْدَهُ، فَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: (4221) إحْدَاهُنَّ، أَكْرَاهَا لِلزَّرْعِ مُطْلَقًا، أَوْ قَالَ: لِتَزْرَعَهَا مَا شِئْت. فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهُ زَرْعُ مَا شَاءَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الزَّرْعَ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَخْتَلِفُ، فَلَمْ يَصِحَّ بِدُونِ الْبَيَانِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَكْتَرِي لَهُ مِنْ زَرْعٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ. وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِأَكْثَرِ الزَّرْعِ ضَرَرًا، وَيُبَاحُ لَهُ جَمِيعُ الْأَنْوَاعِ؛ لِأَنَّهَا دُونَهُ، فَإِذَا عَمَّمَ أَوْ أَطْلَقَ، تَنَاوَلَ الْأَكْثَرَ، وَكَانَ لَهُ مَا دُونَهُ، وَيُخَالِفُ الْأَجْنَاسَ الْمُخْتَلِفَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ اكْتَرَى دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، لَوَجَبَ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ. قُلْنَا: لِأَنَّ إجَارَةَ الْمَرْكُوبِ لِأَكْثَرِ الرُّكَّابِ ضَرَرًا لَا تَجُوزُ، بِخِلَافِ الْمَزْرُوعِ، وَلِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ إطْلَاقُ ذَلِكَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى مُطْلَقًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْ يَضُرُّ بِهَا، كَالْقَصَّارِ وَالْحَدَّادِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا يَضُرُّ بِهَا؟ قُلْنَا السُّكْنَى لَا تَقْتَضِي ضَرَرًا، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنْ إسْكَانِ مَنْ يَضُرُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقْتَضِهِ، وَالزَّرْعُ يَقْتَضِي الضَّرَرَ، فَإِذَا أَطْلَقَ كَانَ رَاضِيًا بِأَكْثَرِهِ، فَلِهَذَا جَازَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا يَبْنِيَ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. (4222) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَكْرَاهَا لِزَرْعِ حِنْطَةٍ، أَوْ نَوْعٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ لَهُ زَرْعَ مَا يُعَيِّنُهُ وَمَا ضَرَرُهُ كَضَرَرِهِ أَوْ دُونَهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا عَيَّنَهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا دَاوُد وَأَهْلَ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لَهُ زَرْعُ غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ، حَتَّى لَوْ وَصَفَ الْحِنْطَةَ بِأَنَّهَا سَمْرَاءُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ بَيْضَاءَ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ. كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْمَرْكُوبَ، أَوْ عَيَّنَ الدَّرَاهِمَ فِي الثَّمَنِ وَلَنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ دُونَ الْقَمْحِ، وَلِهَذَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْعِوَضُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 إذَا تَسَلَّمَ الْأَرْضَ. وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَمْحَ لِتُقَدَّرَ بِهِ الْمَنْفَعَةُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا غَيْرَهُ. وَفَارَقَ الْمَرْكُوبَ وَالدَّرَاهِمَ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّهُمَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِمَا، فَتَعَيَّنَا وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هَاهُنَا مَنْفَعَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَتْ أَيْضًا، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَا قُدِّرَتْ بِهِ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. (4223) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، قَالَ: لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً، وَمَا ضَرَرُهُ كَضَرَرِهَا، أَوْ دُونَهُ فَهَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا مُخَالِفَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا اقْتَضَاهُ الْإِطْلَاقُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ تَصْرِيحُ نَصِّهِ، فَزَالَ الْإِشْكَالُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ، قَالَ: لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً، وَلَا يَزْرَعَ غَيْرَهَا. فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ كَيْفَ شَاءَ، فَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَلَا غَرَضَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ مَا ضَرَرُهُ مِثْلُهُ، لَا يَخْتَلِفُ فِي غَرَضِ الْمُؤَجِّرِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ شَرْطَ اسْتِيفَاءِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا شَرَطَ مُكْتَرِي الدَّارِ أَنَّهُ لَا يُسْكِنُهَا غَيْرَهُ، وَجْهًا فِي صِحَّةِ الشَّرْطِ، وَوَجْهًا آخَرَ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. [فَصْلٌ أَكْرَى الْأَرْض لِلْغِرَاسِ] (4225) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكْرَاهَا لِلْغِرَاسِ؛ فَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْغِرَاسِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضُرُّ بِبَاطِنِ الْأَرْضِ. وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُخَالِفٌ لِضَرَرِهِ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِظَاهِرِ الْأَرْضِ. وَإِنْ أَكْرَاهَا لِلزَّرْعِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْغَرْسُ وَلَا الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْغَرْسِ أَكْثَرُ، وَضَرَرَ الْبِنَاءِ مُخَالِفٌ لِضَرَرِهِ. وَإِنْ أَكْرَاهَا لِلْبِنَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْغَرْسُ وَلَا الزَّرْعُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا يُخَالِفُ ضَرَرَهُ. [فَصْلٌ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ الْمُؤَجَّرَة مِنْ قِسْمَيْنِ] (4226) فَصْلٌ: وَلَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَاءٌ دَائِمٌ، إمَّا مِنْ نَهْرٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِانْقِطَاعِهِ، أَوْ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا مُدَّةً لَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّرْعِ، أَوْ مِنْ عَيْنٍ نَابِعَةٍ، أَوْ بِرْكَةٍ مِنْ مِيَاهِ الْأَمْطَارِ يَجْتَمِعُ فِيهَا ثُمَّ يَسْقِي بِهِ، أَوْ مِنْ بِئْرٍ يَقُومُ بِكِفَايَتِهَا، أَوْ مَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ لِنَدَاوَةِ الْأَرْضِ، وَقُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ، فَهَذَا كُلُّهُ دَائِمٌ. وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُهَا لِلْغَرْسِ وَالزَّرْعِ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الَّتِي تَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِ الْأَمْطَارِ، وَيُكْتَفَى بِالْمُعْتَادِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ إلَّا نَادِرًا، فَهُوَ كَسَائِرِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ. الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مَاءٌ دَائِمٌ، وَهِيَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مَا يَشْرَبُ مِنْ زِيَادَةٍ مُعْتَادَةِ تَأْتِي فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَأَرْضِ مِصْرَ الشَّارِبَةِ مِنْ زِيَادَةِ النِّيلِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وَمَا يَشْرَبُ مِنْ زِيَادَةِ الْفُرَاتِ وَأَشْبَاهِهِ، وَأَرْضِ الْبَصْرَةِ الشَّارِبَةِ مِنْ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ، وَأَرْضِ دِمَشْقَ الشَّارِبَةِ مِنْ زِيَادَةِ بَرَدَى أَوْ مَا يَشْرَبُ مِنْ الْأَوْدِيَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، فَهَذِهِ تَصِحُّ إجَارَتُهَا قَبْلَ وُجُودِ الْمَاءِ الَّذِي تُسْقَى بِهِ وَبَعْدَهُ. وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُهُ: إنْ أَكْرَاهَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ، صَحَّ، وَلَا يَصِحُّ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، لَا نَعْلَمُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَمْ لَا. وَلَنَا أَنَّ هَذَا مُعْتَادٌ، الظَّاهِرُ وُجُودُهُ، فَجَازَتْ إجَارَةُ الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ بِهِ، كَالشَّارِبَةِ مِنْ مِيَاهِ الْأَمْطَارِ، وَلِأَنَّ ظَنَّ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ فِي وَقْتِهِ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، كَالسَّلَمِ فِي الْفَاكِهَةِ إلَى أَوَانِهَا. النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ الْمَاءِ نَادِرًا، أَوْ غَيْرَ ظَاهِرٍ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا يَكْفِيهَا إلَّا الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الْكَثِيرُ، الَّذِي يَنْدُرُ وُجُودُهُ. أَوْ يَكُونُ شُرْبُهَا مِنْ فَيْضِ وَادٍ مَجِيئُهُ نَادِرٌ، أَوْ مِنْ زِيَادَةٍ نَادِرَةٍ فِي نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ غَالِبَةٍ، فَهَذِهِ إنْ أَجَرَهَا بَعْدَ وُجُودِ مَاءٍ يَسْقِيَهَا بِهِ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَزَرْعُهَا، فَجَازَتْ إجَارَتُهَا، كَذَاتِ الْمَاءِ الدَّائِمِ. وَإِنْ أَجَرَهَا قَبْلَهُ لِلْغَرْسِ أَوْ الزَّرْعِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الزَّرْعُ غَالِبًا، وَيَتَعَذَّرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ تَصِحّ إجَارَتُهَا، كَالْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ. وَإِنْ اكْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا لَا مَاءَ لَهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالنُّزُولِ فِيهَا، وَوَضْعِ رَحْلِهِ، وَجَمْعِ الْحَطَبِ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا رَجَاءَ الْمَاءِ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مَاءٌ قَبْلَ زَرْعِهَا، فَلَهُ زَرْعُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمُمْكِنِ اسْتِيفَاؤُهَا. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ، وَلَا يَغْرِسَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرَادُ لِلتَّأْبِيدِ. وَتَقْدِيرُ الْإِجَارَةِ بِمُدَّةٍ تَقْتَضِي تَفْرِيغَهَا عِنْدَ انْقِضَائِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ صَحَّ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ. قُلْنَا: التَّصْرِيحُ بِالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ صَرَفَ التَّقْدِيرَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، بِظَاهِرِهِ فِي التَّفْرِيغِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ قَلْعَ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيُصْرَفُ الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ عَمَّا يُرَادُ لَهُ بِظَاهِرِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا وَإِنْ أَطْلَقَ إجَارَةَ هَذِهِ الْأَرْضِ، مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهَا، وَعَدَمِ مَائِهَا، صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهَا لَا مَاءَ لَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَمَ مَائِهَا، أَوْ ظَنَّ الْمُكْتَرِي أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَاءٍ لَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ لَهَا يُحَصِّلُ لَهَا مَاءً، وَأَنَّهُ يَكْتَرِيهَا لِلزِّرَاعَةِ مَعَ تَعَذُّرِهَا. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ عَلِمَ حَالَهَا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ كِرَاءِ الْأَرْضِ يَقْتَضِي الزِّرَاعَةَ. وَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْحَالِ يَقُومُ مَقَامَ الِاشْتِرَاطِ، كَالْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَقُومُ مَقَامَ شَرْطِهِ، وَمَتَى كَانَ لَهَا مَاءٌ غَيْرُ دَائِمٍ أَوْ الظَّاهِرُ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ الزَّرْعِ، أَوْ لَا يَكْفِي الزَّرْعَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ اكْتَرَى أَرْضًا غَارِقَةً بِالْمَاءِ] (4227) فَصْلٌ: وَإِنْ اكْتَرَى أَرْضًا غَارِقَةً بِالْمَاءِ، لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا قَبْلَ انْحِسَارِهِ عَنْهَا، وَقَدْ يَنْحَسِرُ وَلَا يَنْحَسِرُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَا يَزُولُ الْمَانِعُ غَالِبًا. وَإِنْ كَانَ يَنْحَسِرُ عَنْهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَى الزِّرَاعَةِ، كَأَرْضِ مِصْرَ فِي وَقْتِ مَدِّ النِّيلِ، صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُتَحَقِّقٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ الزِّرَاعَةُ فِيهَا مُمْكِنَةً، وَيُخَافُ غَرَقُهَا، وَالْعَادَةُ غَرَقُهَا، لَمْ يَجُزْ إجَارَتُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْغَارِقَةِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ. [فَصْلٌ غَرِقَ الزَّرْعُ أَوْ هَلَكَ بِحَرِيقِ أَوْ جَرَادٍ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ] (4228) فَصْلٌ: وَمَتَى غَرِقَ الزَّرْعُ أَوْ هَلَكَ، بِحَرِيقٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُكْتَرِي. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّالِفَ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَلِفَ مَالُ الْمُكْتَرِي فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ اشْتَرَى دُكَّانًا فَاحْتَرَقَ مَتَاعُهُ فِيهِ. ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ الْمُكْتَرِي الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ بِغَيْرِ الزَّرْعِ، أَوْ بِالزَّرْعِ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَالْأَجْرُ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَهُ لِفَوَاتِ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، لَا لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ وَإِنْ تَعَذَّرَ الزَّرْعُ بِسَبَبِ غَرَقِ الْأَرْضِ، أَوْ انْقِطَاعِ مَائِهَا، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ. وَإِنْ تَلِفَ الزَّرْعُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهُ بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا بِسَبَبٍ. وَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي الزَّرْعَ، فَلَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّرْعِ، فَلَهُ الْفَسْخُ أَيْضًا، وَيَبْقَى الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ إلَى أَنْ يَسْتَحْصِدَ، وَعَلَيْهِ مِنْ الْمُسَمَّى بِحِصَّتِهِ إلَى حِينِ الْفَسْخِ، وَأَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لَأَرْضٍ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مِنْ غَرَقٍ يُهْلِكُ بَعْضَ الزَّرْعِ، أَوْ يَسُوءُ حَالُهُ بِهِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ مُدَّةً فَانْقَضَتْ وَفِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَبْلُغْ حَصَادَهُ] (4229) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ مُدَّةً، فَانْقَضَتْ، وَفِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَبْلُغْ حَصَادُهُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ، مِثْلَ أَنْ يَزْرَعَ زَرْعًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِكَمَالِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ زَرْعِ الْغَاصِبِ، يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَعْدَ الْمُدَّةِ بَيْنَ أَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ تَرْكِهِ بِالْأَجْرِ لِمَا زَادَ عَلَى الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعُدْوَانِهِ وَإِنْ اخْتَارَ الْمُسْتَأْجِرُ قَطْعَ زَرْعِهِ فِي الْحَالِ، وَتَفْرِيغَ الْأَرْضِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الضَّرَرَ، وَيُسَلِّمُ الْأَرْضَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ نَقْلَ الزَّرْعِ وَتَفْرِيغَ الْأَرْضِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَازَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْغَاصِبِ. وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا مَا ذَكَرْنَاهُ. الْحَالُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، مِثْلِ أَنْ يَزْرَعَ زَرْعًا يَنْتَهِي فِي الْمُدَّةِ عَادَةً، فَأَبْطَأَ لِبَرْدٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ تَرْكُهُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، وَلَهُ الْمُسَمَّى وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِمَا زَادَ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْوَجْهُ الثَّانِي، قَالُوا: يَلْزَمُهُ نَقْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ لِنَقْلِ الزَّرْعِ، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي الْمُدَّةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ. وَلَنَا أَنَّهُ حَصَلَ الزَّرْعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَزِمَ تَرْكُهُ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَالِكُ قَبْلَ كَمَالِ الزَّرْعِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُفَرِّطٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةُ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِكَمَالِ الزَّرْعِ فِيهَا، وَفِي زِيَادَةِ الْمُدَّةِ تَفْوِيتُ زِيَادَةِ الْأَجْرِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَتَضْيِيعُ زِيَادَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لِتَحْصِيلِ شَيْءٍ مُتَوَهَّمٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ هُوَ التَّفْرِيطُ، فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا وَمَتَى أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ زَرْعَ شَيْءٍ لَا يُدْرِكُ مِثْلُهُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَلِلْمَالِكِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُودِ زَرْعِهِ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمَلَكَ مَنْعَهُ مِنْهُ. فَإِنْ زَرَعَ، لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَتَهُ بِقَلْعِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُ نَفْعَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَقَبْلَهَا أَوْلَى. وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَطْعَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّقْلِ، فَلْيَكُنْ عِنْدَ الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهَا إلَى الْمُؤَجِّرِ فَارِغَةً. [فَصْلٌ اكْتَرَى الْأَرْضَ لِزَرْعِ مُدَّةً لَا يَكْمُلُ فِيهَا] (4230) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى الْأَرْضَ لِزَرْعٍ مُدَّةً لَا يَكْمُلُ فِيهَا، مِثْلَ أَنْ يَكْتَرِيَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعٍ لَا يَكْمُلُ إلَّا فِي سَنَةٍ، نَظَرْنَا فَإِنْ شَرَطَ تَفْرِيغَهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَنَقْلَهُ عَنْهَا، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ، لِأَخْذِهِ إيَّاهُ قَصِيلًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالزَّرْعِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْأَرْضِ، فِي زَرْعٍ ضَرَرُهُ كَضَرَرِ الزَّرْعِ الْمَشْرُوطِ أَوْ دُونَهُ، مِثْلَ أَنْ يَزْرَعَهَا شَعِيرًا يَأْخُذُهُ قَصِيلًا، صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي بَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ مُمْكِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اكْتَرَى لِلزَّرْعِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِالزَّرْعِ فِيهِ، أَشْبَهَ إجَارَةَ السَّبْخَةِ لَهُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ. فَإِنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ زَرْعِ الْمُسْتَأْجِرِ لَمَّا لَا يَكْمُلُ فِي مُدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا مُفَرِّطٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُكْرِيَ تَرْكُهُ بِالْأَجْرِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ حَيْثُ أَكْرَاهُ مُدَّةً لِزَرْعٍ لَا يَكْمُلُ فِيهَا. وَإِنْ شَرَطَ تَبْقِيَتَهُ حَتَّى يَكْمُلَ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْمُدَّةِ يَقْتَضِي النَّقْلَ فِيهَا، وَشَرْطَ التَّبْقِيَةِ يُخَالِفُهُ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ التَّبْقِيَةِ مَجْهُولَةٌ، فَإِنْ زَرَعَ لَمْ يُطَالَبْ بِنَقْلِهِ، كَاَلَّتِي تَقَدَّمَتْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 [فَصْلٌ أَجَرَهُ لِلْغِرَاسِ سَنَةً] (4231) فَصْلٌ: إذَا أَجَرَهُ لِلْغِرَاسِ سَنَةً، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ مَنْفَعَتِهَا الْمُبَاحَةِ الْمَقْصُودَةِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْمَنَافِعِ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ قَلْعَ الْغِرَاسِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ أَطْلَقَ. وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ؛ لِزَوَالِ عَقْدِهِ. فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ، وَكَانَ قَدْ شَرَطَ الْقَلْعَ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، لَزِمَهُ ذَلِكَ وَفَاءً بِمُوجَبِ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ غَرَامَةُ نَقْصِهِ، وَلَا عَلَى الْمُكْتَرِي تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ وَإِصْلَاحُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى هَذَا، لِرِضَاهُمَا بِالْقَلْعِ، وَاشْتِرَاطِهِمَا عَلَيْهِ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إبْقَائِهِ بِأَجْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَازَ إذَا شَرَطَا مُدَّةً مَعْلُومَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ اكْتَرَى الْأَرْضَ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، كُلَّمَا انْقَضَى عَقْدٌ جَدَّدَ آخَرَ، جَازَ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ، فَلِلْمُكْتَرِي الْقَلْعُ؛ لِأَنَّ الْغَرْسَ مِلْكُهُ، فَلَهُ أَخْذُهُ، كَطَعَامِهِ مِنْ الدَّارِ الَّتِي بَاعَهَا. وَإِذَا قَلَعَ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَهَكَذَا إنْ قَلَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ هَاهُنَا، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمَالِكُ، وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْأَرْضِ تَصَرُّفًا نَقَصَهَا، لَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَإِنْ أَبَى الْقَلْعَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْمَالِكُ نَقْصَ غَرْسِهِ، فَيُجْبَرُ حِينَئِذٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَلْعُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ لَهُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي التَّفْرِيغَ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . مَفْهُومُهُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُ حَقٌّ. وَهَذَا لَيْسَ بِظَالِمٍ، وَلِأَنَّهُ غَرَسَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يَشْرُطْ قَلْعَهُ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَلْعِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ أَرْضًا لِلْغَرْسِ مُدَّةً، فَرَجَعَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَيُخَالِفُ الزَّرْعَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ فِي الْغِرَاسِ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، فَشَرْطُ الْقَلْعِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَهُ. قُلْنَا: إنَّمَا اقْتَضَى التَّأْبِيدَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَادَةَ فِي الْغِرَاسِ التَّبْقِيَةُ، فَإِذَا أَطْلَقَهُ حُمِلَ عَلَى الْعَادَةِ، وَإِذَا شَرَطَ خِلَافَهُ، جَازَ، كَمَا إذَا بَاعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ شَرْطًا يُخَالِفُ الْعَادَةَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يُخَيِّرُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، فَيَمْلِكَهُ مَعَ أَرْضِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَقْلَعَ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ، وَيَضْمَنَ أَرْشَ نَقْصِهِ. وَالثَّالِثُ، أَنْ يُقِرَّ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ أَجْرَ الْمِثْلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُخَيَّرُ بَيْنَ دَفْعِ قِيمَتِهِ فَيَمْلِكُهُ، وَبَيْنَ مُطَالَبَتِهِ بِالْقَلْعِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، وَبَيْنَ تَرْكِهِ، فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ الْغِرَاسَ مِلْكٌ لِغَارِسِهِ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ عَنْهُ عِوَضٌ، وَلَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 يَزُولُ عَنْهُ، كَسَائِرِ الْغَرْسِ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَالِكِ، جَازَ. وَإِنْ بَاعَهُمَا صَاحِبُهُمَا لِغَيْرِ مَالِكِ الْأَرْضِ، جَازَ، وَمُشْتَرِيهِمَا يَقُومُ فِيهِمَا مَقَامَ الْبَائِعِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: لَيْسَ لَهُ بَيْعُهُمَا لِغَيْرِ مَالِكِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ضَعِيفٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَلَنَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، فَجَازَ لِغَيْرِهِ، كَشِقْصٍ مَشْفُوعٍ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ؛ فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ تَمَلُّكَ الشِّقْصِ وَشِرَاءَهُ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ. فَأَمَّا إنْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَبْقِيَةَ الْغِرَاسِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ سَوَاءً. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الزَّرْعِ الَّذِي لَا يَكْمُلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ مُؤَثِّرٌ، فَأَبْطَلَهُ، كَشَرْطِ تَبْقِيَةِ الزَّرْعِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. [مَسْأَلَة اسْتِئْجَار الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ] (4232) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، أَوْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا، وَشَرَطَ طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ اسْتَأْجَرُوا الْأُجَرَاءَ بِطَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الظِّئْرِ دُونَ غَيْرِهَا. اخْتَارَهَا الْقَاضِي وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ؛ وَإِنَّمَا جَازَ فِي الظِّئْرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . فَأَوْجَبَ لَهُنَّ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ عَلَى الرَّضَاعِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا، بَلْ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تُرْضِعْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضُهَا كَذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِحَالٍ، لَا فِي الظِّئْرِ وَلَا فِي غَيْرِهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا مُتَبَايِنًا، فَيَكُونُ مَجْهُولًا، وَالْأَجْرُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. وَلَنَا: مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ طس حَتَّى بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى، قَالَ: إنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ، وَطَعَامِ بَطْنِهِ» . وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، مَا لَمْ يَثْبُتُ نَسْخُهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَجِيرًا لِابْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي، وَعُقْبَةِ رِجْلِي، أَحْطِبُ لَهُمْ إذَا نَزَلُوا، وَأَحْدُو بِهِمْ إذَا رَكِبُوا. وَلِأَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَعَلُوهُ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ نَكِيرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الظِّئْرِ بِالْآيَةِ، فَيَثْبُتُ فِي غَيْرِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَةٍ، فَقَامَ الْعُرْفُ فِيهِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَلِأَنَّ لِلْكِسْوَةِ عُرْفًا، وَهِيَ كِسْوَةُ الزَّوْجَاتِ، وَلِلْإِطْعَامِ عُرْفٌ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَجَازَ إطْلَاقُهُ، كَنَقْدِ الْبَلَدِ. وَنَخُصُّ أَبَا حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا كَانَ عِوَضًا فِي الرَّضَاعِ جَازَ فِي الْخِدْمَةِ كَالْأَثْمَانِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمَا إنْ تَشَاحَّا فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، رُجِعَ فِي الْقُوتِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَفِي الْكِسْوَةِ إلَى أَقَلِّ مَلْبُوسِ مِثْلِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا تَشَاحَّا فِي الطَّعَامِ، يُحْكَمُ لَهُ بِمُدٍّ كُلَّ يَوْمٍ. ذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، فَفَسَّرَتْ ذَلِكَ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ مُطْلَقٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَمَا فُسِّرَ بِهِ أَحَدُهُمَا يُفَسَّرُ بِهِ الْآخَرُ. وَلَيْسَ لَهُ إطْعَامُ الْأَجِيرِ إلَّا مَا يُوَافِقُهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْوَاجِبِ لَهُ مِنْهُ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْأَجِيرُ كِسْوَةً وَنَفَقَةً مَعْلُومَةً مَوْصُوفَةً] (4233) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْأَجِيرُ كِسْوَةً وَنَفَقَةً مَعْلُومَةً مَوْصُوفَةً، كَمَا يُوصَفُ فِي السَّلَمِ، جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ طَعَامًا وَلَا كِسْوَةً، فَنَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافًا فِيمَا ذَكَرْت. وَإِنْ شَرَطَ لِلْأَجِيرِ طَعَامَ غَيْرِهِ وَكِسْوَتَهُ مَوْصُوفًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْأَجِيرِ، إنْ شَاءَ أَطْعَمَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ، اُحْتُمِلَ فِيمَا إذَا شَرَطَهُ لِلْأَجِيرِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَجَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ احْتِمَالُهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَلَفِهَا، أَوْ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَعَلَفَهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَا عُرْفَ لَهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِجَوَازِهِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَوْصُوفًا، فَيَجُوزُ. [فَصْلٌ اسْتَغْنَى الْأَجِيرُ عَنْ طَعَامِ الْمُؤَجَّر بِطَعَامِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ] (4234) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَغْنَى الْأَجِيرُ عَنْ طَعَامِ الْمُؤَجِّرِ بِطَعَامِ نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ الْأَكْلِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ، وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا عِوَضٌ، فَلَا تَسْقُطُ بِالْغِنَى عَنْهُ، كَالدِّرْهَمِ. وَإِنْ احْتَاجَ لِدَوَاءٍ لِمَرَضِهِ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَأْجِرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرُطْ لَهُ الْإِطْعَامَ إلَّا صَحِيحًا، لَكِنْ يَلْزَمُهُ لَهُ بِقَدْرِ طَعَامِ الصَّحِيحِ يَشْتَرِي لَهُ الْأَجِيرُ مَا يَصْلُحُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى طَعَامِ الصَّحِيحِ لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَلَا يُلْزَمُ بِهِ، كَالزَّائِدِ فِي الْقَدْرِ. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَيْهِ طَعَامَهُ فَأَحَبَّ الْأَجِيرُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْضَهُ لِنَفْسِهِ] (4235) فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ إلَيْهِ طَعَامَهُ، فَأَحَبَّ الْأَجِيرُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْضَهُ لِنَفْسِهِ، نَظَرْت فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ دَفَعَ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ، لِيَأْكُلَ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَيَفْضُلَ الْبَاقِي، أَوْ كَانَ فِي تَرْكِهِ لِأَكْلِهِ كُلِّهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، بِأَنْ يَضْعُفَ عَنْ الْعَمَلِ، أَوْ يَقِلَّ لَبَنُ الظِّئْرِ، مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَمْ يُمَلِّكْهُ إيَّاهُ، وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ أَكْلَ قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ضَرَرٌ بِتَفْوِيتِ بَعْضِ مَالِهِ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَالْجَمَّالِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِ الْجِمَالِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ قَدْرَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَكْثَرَ، وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَفْضِيلِهِ لِبَعْضِهِ ضَرَرٌ بِالْمُؤَجَّرِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُؤَجَّرِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الدَّرَاهِمَ. [فَصْلٌ قَدَّمَ إلَيَّ الْأَجِير طَعَامًا فَنُهِبَ أَوْ تَلِفَ قَبْلَ أَكْلِهِ] (4236) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَّمَ إلَيْهِ طَعَامًا، فَنُهِبَ أَوْ تَلِفَ قَبْلَ أَكْلِهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ عَلَى مَائِدَةٍ لَا يَخُصُّهُ فِيهَا بِطَعَامِهِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ، فَكَانَ تَلَفُهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ خَصَّهُ بِذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمُ عِوَضٍ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا وَقَالَ بِعْهُ بِكَذَا فَمَا ازْدَدْت فَهُوَ لَك] فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا، وَقَالَ: بِعْهُ بِكَذَا، فَمَا ازْدَدْت فَهُوَ لَك. صَحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَإِسْحَاقُ. وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ أَجْرٌ مَجْهُولٌ، يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ. وَلَنَا مَا رَوَى عَطَاءٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثَّوْبَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَقُولَ: بِعْهُ بِكَذَا وَكَذَا، فَمَا ازْدَدْت فَهُوَ لَك وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي عَصْرِهِ مُخَالِفٌ. وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ فِيهَا، أَشْبَهَ دَفْعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ بَاعَهُ بِزِيَادَةٍ، فَهِيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا أُجْرَةً، وَإِنْ بَاعَهُ بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ الزِّيَادَةَ، وَلَا زِيَادَةَ هَاهُنَا، فَهُوَ كَالْمُضَارِبِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ. وَإِنْ بَاعَهُ بِنَقْصٍ عَنْهُ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مُخَالِفٌ. وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، ضَمِنَ النَّقْصَ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: يَضْمَنُ النُّقْصَانَ مُطْلَقًا. وَهَذَا قَدْ مَضَى مِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ وَإِنْ بَاعَهُ نَسِيئَةً، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي النَّقْدَ، لِمَا فِي النَّسِيئَةِ مِنْ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ وَالْخَطَرِ بِالْمَالِ، لِيَحْصُلَ لَهُ نَفْعُ الرِّبْحِ. وَيُفَارِقُ الْمُضَارِبَ عَلَى رِوَايَةٍ، حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لِرَبِّ الْمَالِ نَفْعٌ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ ضَرَرِهِ بِالنَّسِيئَةِ، وَهَا هُنَا لَا فَائِدَةَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ بِحَالٍ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُضَارَبَةِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ، وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ أَكْثَرُ، وَهَا هُنَا لَيْسَ مَقْصُودُ رَبِّ الْمَالِ الرِّبْحَ، وَلَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِي النَّسِيئَةِ وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ. يَعْنِي إذَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إنَّمَا اقْتَضَى بَيْعَهَا حَالًا، فَإِذَا بَاعَ نَسِيئَةً، فَلَمْ يَمْتَثِلْ الْأَمْرَ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَيَصْرُم النَّخْلَ بِسُدُسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ] (4238) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْصُدَ الزَّرْعَ، وَيَصْرِمَ النَّخْلَ، بِسُدُسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْمُقَاطَعَةِ. إنَّمَا جَازَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا شَاهَدَهُ فَقَدْ عَلِمَهُ بِالرُّؤْيَةِ، وَهِيَ أَعْلَى طُرُقِ الْعِلْمِ، وَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَلِمَ جُزْأَهُ الْمُشَاعَ، فَيَكُونُ أَجْرًا مَعْلُومًا وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ مَعَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الزَّرْعِ مِثْلُ الَّذِي قَاطَعَهُ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ ضَرُورَةً. [مَسْأَلَة اسْتِئْجَارُ الظِّئْرُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا] (4239) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ) يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِيهِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ، وَهِيَ: الْمُرْضِعَةُ. وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَاسْتَرْضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ فَوْقَ دُعَائِهَا إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ الطِّفْلَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَعِيشُ بِالرَّضَاعِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ رَضَاعُهُ مِنْ أُمِّهِ، فَجَازَ ذَلِكَ كَالْإِجَارَةِ فِي سَائِرِ الْمَنَافِعِ ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِلرَّضَاعِ دُونَ الْحَضَانَةِ، أَوْ لِلْحَضَانَةِ دُونَ الرَّضَاعِ، أَوْ لَهُمَا، جَازَ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ عَلَى الرَّضَاعِ، فَهَلْ تَدْخُلُ فِيهِ الْحَضَانَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 أَحَدُهُمَا لَا تَدْخُلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا تَنَاوَلَهَا. وَالثَّانِي: تَدْخُلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْي؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَحْضُنُ الصَّبِيَّ، فَحُمِلَ الْإِطْلَاقُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَالْحَضَانَةُ: تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ، وَحِفْظُهُ، وَجَعْلُهُ فِي سَرِيرِهِ، وَرَبْطُهُ، وَدَهْنُهُ، وَكَحْلُهُ، وَتَنْظِيفُهُ، وَغَسْلُ خِرَقِهِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْحِضْنِ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الْإِبْطِ وَمَا يَلِيهِ. وَسُمِّيَتْ التَّرْبِيَةُ حَضَانَةً تَجَوُّزًا، مِنْ حَضَانَةِ الظِّئْرِ لِبَيْضِهِ وَفِرَاخِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهِ، فَسُمِّيَتْ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ بِذَلِكَ أَخْذًا مِنْ فِعْلِ الطَّائِرِ. (4240) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِهَذَا الْعَقْدِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ إلَّا بِهَا، فَإِنَّ السَّقْيَ وَالْعَمَلَ فِيهَا يَخْتَلِفُ الثَّانِي مَعْرِفَةُ الصَّبِيِّ بِالْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّبِيِّ، فِي كِبَرِهِ وَصِغَرِهِ، وَنَهْمَتِهِ وَقَنَاعَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُعْرَفُ بِالصِّفَةِ، كَالرَّاكِبِ. الثَّالِثُ، مَوْضِعُ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ، فَيَشُقُّ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا. الرَّابِعُ، مَعْرِفَةُ الْعِوَضِ، وَكَوْنُهُ مَعْلُومًا، كَمَا سَبَقَ. [فَصْلٌ الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي الرَّضَاعِ] (4241) فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرَّضَاعِ، فَقِيلَ: هُوَ خِدْمَةُ الصَّبِيِّ وَحَمْلُهُ وَوَضْعُ الثَّدْيِ فِي فَمِهِ وَاللَّبَنُ تَبَعٌ، كَالصِّبْغِ فِي إجَارَةِ الصَّبَّاغِ، وَمَاءِ الْبِئْرِ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ مِنْ الْأَعْيَانِ، فَلَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ، كَلَبَنِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَقِيلَ: هُوَ اللَّبَنُ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ دُونَ الْخِدْمَةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ دُونَ أَنْ تَخْدُمَهُ، اسْتَحَقَّتْ الْأُجْرَةَ، وَلَوْ خَدَمَتْهُ بِدُونِ الرَّضَاعِ، لَمْ تَسْتَحِقّ شَيْئًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَجَعَلَ الْأَجْرَ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِرْضَاعِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَوْ كَانَ عَلَى الْخِدْمَةِ، لَمَا لَزِمَهَا سَقْيُهُ لَبَنَهَا. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَيْنًا، فَإِنَّمَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إلَى اسْتِيفَائِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْآدَمِيِّينَ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، لِلضَّرُورَةِ إلَى حِفْظِ الْآدَمِيِّ، وَالْحَاجَةِ إلَى إبْقَائِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 [فَصْلٌ عَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ مَا يَدِرُّ بِهِ لَبَنُهَا وَيَصْلُحُ بِهِ] (4242) فَصْلٌ: وَعَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ مَا يُدَرُّ بِهِ لَبَنُهَا، وَيَصْلُحُ بِهِ، وَلِلْمُكْتَرِي مُطَالَبَتُهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّمْكِينِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَفِي تَرْكِهِ إضْرَارٌ بِالصَّبِيِّ. وَمَتَى لَمْ تُرْضِعْهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَتْهُ لَبَنَ الْغَنَمِ، أَوْ أَطْعَمَتْهُ، فَلَا أَجْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُوَفِّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَرَاهَا لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، فَلَمْ تَخِطْهُ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى خَادِمَتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ، فَكَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْي: لَهَا أَجْرُهَا؛ لِأَنَّ رَضَاعَهُ حَصَلَ بِفِعْلِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا لَمْ تُرْضِعْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَتْهُ لَبَنَ الْغَنَمِ وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَتْ: أَرْضَعْته. فَأَنْكَرَ الْمُسْتَرْضِعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ. [فَصْلٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤْجَر أَمَتَهُ وَمُدَبَّرَتَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ وَمِنْ عَلَّقَ عِتْقَهَا بِصِفَةِ وَالْمَأْذُونَ لَهَا فِي التِّجَارَةِ لِلْإِرْضَاعِ] (4243) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَجِّرَ أَمَتَهُ، وَمُدَبَّرَتَهُ، وَأُمَّ وَلَدِهِ، وَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَهَا بِصِفَةٍ، وَالْمَأْذُونَ لَهَا فِي التِّجَارَةِ، لِلْإِرْضَاعِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، أَشْبَهَ إجَارَتَهَا لِلْخِدْمَةِ. وَلَيْسَ لَوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إجَارَةُ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا لِسَيِّدِهَا. وَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ، لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهَا لِلْإِرْضَاعِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا فَضَلَ عَنْ رَيِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِوَلَدِهَا، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً، لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهَا لِذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّ الزَّوْجِ، لِاشْتِغَالِهَا عَنْهُ بِإِرْضَاعِ الصَّبِيِّ وَحَضَانَتِهِ فَإِنْ أَجَرَهَا لِلرَّضَاعِ، ثُمَّ زَوَّجَهَا، صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِي حَالِ فَرَاغِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَالْحَضَانَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا إلَّا بِرِضَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ اللَّبَنَ، وَقَدْ يَقْطَعُهُ. وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ، فَلَا يَسْقُطُ لِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ. وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إجَارَةُ مُكَاتَبَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا إلَيْهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْ سَيِّدُهَا تَزْوِيجَهَا، وَلَا وَطْأَهَا، وَلَا إجَارَتَهَا فِي غَيْرِ الرَّضَاعِ وَلَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَاتِ الِاكْتِسَابِ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ لِرَضَاعِ وَلَدِهِ] (4244) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِئْجَارُ أُمِّهِ، وَأُخْتِهِ، وَابْنَتِهِ، لِرَضَاعِ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَقَارِبِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ لِرَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا، جَازَ. هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فَقَالَ: وَإِنْ أَرَادَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَتَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ وَتَأَوَّلَ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهَا فِي حِبَالِ زَوْجٍ آخَرَ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْي. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ حَبْسَهَا وَالِاسْتِمْتَاعَ بِهَا بِعِوَضٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ عِوَضٌ آخَرُ لِذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 وَلَنَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَصِحُّ أَنْ تَعْقِدَهُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجِ، يَصِحُّ أَنْ تَعْقِدَهُ مَعَهُ، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَهَا فِي الرَّضَاعِ وَالْحَضَانَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لِلزَّوْجِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إجْبَارَهَا عَلَى حَضَانَةِ وَلَدِهَا، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ عَلَيْهَا الْعِوَضَ مِنْ غَيْرِهِ، فَجَازَ لَهَا أَخْذُهُ مِنْهُ، كَثَمَنِ مَالِهَا وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا اسْتَحَقَّتْ عِوَضَ الْحَبْسِ وَالِاسْتِمْتَاعِ. قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ الْحَضَانَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ مَنْفَعَةٍ مِنْ وَجْهٍ، لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ مَنْفَعَةٍ سِوَاهَا بِعِوَضٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. وَتَأْوِيلُ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ، يُخَالِفُ الظَّاهِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الزَّوْجِ لِلْمَعْهُودِ، وَهُوَ زَوْجُهَا أَبُو الطِّفْلِ. وَالثَّانِي أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي حِبَالِ زَوْجٍ آخَرَ، لَا تَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، بَلْ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ، ثُمَّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُرْضِعَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَفَسَدَ التَّأْوِيلُ. [فَصْل فَسْخُ الْإِجَارَة بِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ] (4245) فَصْلٌ: وَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ بِهَلَاكِ مَحَلِّهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ، وَيَجِبُ فِي مَالِهَا أَجْرُ مَنْ تُرْضِعُهُ تَمَامَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ هَلَكَتْ الْبَهِيمَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ. وَإِنْ مَاتَ الطِّفْلُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، لِاخْتِلَافِ الصِّبْيَانِ فِي الرَّضَاعِ، وَاخْتِلَافِ اللَّبَنِ بِاخْتِلَافِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَدِرُّ عَلَى أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ عَقِيبَهُ، بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ أَصْلِهَا، وَرَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، رَجَعَ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ. [مَسْأَلَة اسْتِحْبَاب إعْطَاء الظِّئْر عِنْدَ الْفِطَامِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً كِرَاءٍ الْمُرْضِع] (4246) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُعْطَى عِنْدَ الْفِطَامِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، إذَا كَانَ الْمُسْتَرْضِعُ مُوسِرًا) يَعْنِي بِالْخَبَرِ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعِ؟ قَالَ: الْغُرَّةُ الْعَبْدُ أَوْ الْأَمَةُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَذَمَّةُ، بِكَسْرِ الذَّالِ، مِنْ الذِّمَامِ، وَبِفَتْحِهَا مِنْ الذَّمِّ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا خَصَّ الرَّقَبَةَ بِالْمُجَازَاةِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا فِي إرْضَاعِهِ وَحَضَانَتِهِ، سَبَبُ حَيَاتِهِ وَبَقَائِهِ وَحِفْظِ رَقَبَتِهِ، فَاسْتُحِبَّ جَعْلُ الْجَزَاءِ هِبَتَهَا رَقَبَةً، لِيُنَاسِبَ مَا بَيْنَ النِّعْمَةِ وَالشُّكْرِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيُعْتِقَهُ» . وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ مَمْلُوكَةً، اُسْتُحِبَّ إعْتَاقُهَا؛ لِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 يُحَصِّلُ أَخَصَّ الرِّقَابِ بِهَا، وَتَحْصُلُ بِهِ الْمُجَازَاةُ الَّتِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجَازَاةً لِلْوَالِدِ مِنْ النَّسَبِ. [مَسْأَلَة اكْتَرَى دَابَّةً إلَى مَوْضِعٍ فَجَاوَزَهُ] (4247) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى مَوْضِعٍ، فَجَاوَزَهُ، فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا جَاوَزَهُ، وَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ أَيْضًا قِيمَتُهَا) (4248) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْأَجْرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى، وَأَجْرِ الْمِثْلِ لِلزَّائِدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا خِلَافِ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، ذَكَرَ الْقَاضِي ذَلِكَ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، أَنَّهُ ذَكَرَ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَقَالَ: رُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ، فَأَخَذْنَا بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيًا، فَكَانَ الَّذِي وَعَيْت عَنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنَّ مَنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى بَلَدٍ، ثُمَّ جَاوَزَ ذَلِكَ إلَى بَلَدٍ سِوَاهُ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ إنْ سَلِمَتْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أَدَّى كِرَاءَهَا وَكِرَاءَ مَا بَعْدَهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ فِي تَعَدِّيهِ بِهَا ضَمِنَهَا، وَأَدَّى كِرَاءَهَا الَّذِي تَكَارَاهَا بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا زَادَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُمَا لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ بِهَا إلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، يُخَيَّرُ صَاحِبُهَا بَيْنَ أَجْرِ الْمِثْلِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِمْسَاكِهَا، حَابِسٌ لَهَا عَنْ أَسْوَاقِهَا، فَكَانَ لِصَاحِبِهَا تَضْمِينُهَا إيَّاهُ. وَلَنَا أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، يُمْكِنُ أَخْذُهَا، فَلَمْ تَجِبْ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ قَرِيبَةً. وَمَا ذَكَرَهُ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْغَصْبِ (4249) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الضَّمَانِ، ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وُجُوبُ قِيمَتِهَا إذَا تَلِفَتْ بِهِ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ فِي الزِّيَادَةِ، أَوْ بَعْدَ رَدِّهَا إلَى الْمَسَافَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَ الْمُكْتَرِي، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، إذَا تَلِفَتْ حَالَ التَّعَدِّي؛ لِمَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْمُكْتَرِي نَزَلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا، لِيُمْسِكهَا أَوْ يَسْقِيَهَا، فَتَلِفَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْتَرِي، وَإِنْ هَلَكَتْ وَالْمُكْتَرِي رَاكِبٌ عَلَيْهَا، أَوْ حِمْلُهُ عَلَيْهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَتْ يَدُ صَاحِبِهَا عَلَيْهَا، اُحْتُمِلَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُكْتَرِيَ جَمِيعُ قِيمَتِهَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَلْزَمَهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا مَعَهَا، لَزِمَ الْمُكْتَرِيَ قِيمَتُهَا كُلُّهَا. وَإِنْ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 مَعَهَا فَتَلِفَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعَدِّي. وَإِنْ تَلِفَتْ تَحْتَ الرَّاكِبِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَتْ بِجِرَاحَتِهِ وَجِرَاحَةِ مَالِكِهَا. وَالثَّانِي تُقَسَّطُ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَسَافَتَيْنِ، فَمَا قَابَلَ مَسَافَةَ الْإِجَارَةِ سَقَطَ، وَوَجَبَ الْبَاقِي. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ اكْتَرَى جَمَلًا لِحَمْلِ تِسْعَةٍ، فَحَمَلَ عَشَرَةً، فَتَلِفَ، فَعَلَى الْمُكْتَرِي عُشْرُ قِيمَتِهِ. وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي لُزُومِ كَمَالِ الْقِيمَةِ إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مَعَ رَاكِبِهَا، أَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا. فَأَمَّا إذَا تَلِفَتْ حَالَ التَّعَدِّي، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا مَعَ رَاكِبِهَا، فَلَا خِلَافَ فِي ضَمَانِهَا بِكَمَالِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدٍ عَادِيَةٍ، فَوَجَبَ ضَمَانُهَا كَالْمَغْصُوبَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَتْ تَحْتَ الرَّاكِبِ، أَوْ تَحْتَ حِمْلِهِ، وَصَاحِبُهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلرَّاكِبِ وَصَاحِبِ الْحِمْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا، أَوْ لَهُ عَلَيْهَا حِمْلٌ، وَالْآخَرُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، لَكَانَتْ لِلرَّاكِبِ وَلِصَاحِبِ الْحِمْلِ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ مُتَعَدٍّ بِالزِّيَادَةِ، وَسُكُوتُ صَاحِبِهَا لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ، كَمَنْ جَلَسَ إلَى إنْسَانٍ فَحَرَقَ ثِيَابَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ. وَلِأَنَّهَا إنْ تَلِفَتْ بِسَبَبِ تَعَبِهَا، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتَعَدِّي، كَمَنْ أَلْقَى حَجَرًا فِي سَفِينَةٍ مُوَقَّرَةٍ فَغَرَّقَهَا. فَأَمَّا إنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا بَعْدَ نُزُولِ الرَّاكِبِ عَنْهَا، فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِسَبَبِ تَعَبِهَا بِالْحِمْلِ وَالسَّيْرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ تَحْتَ الْحِمْلِ وَالرَّاكِبِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ افْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ سُقُوطٍ فِي هُوَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ فِي يَدٍ عَادِيَةٍ، وَلَا بِسَبَبِ عُدْوَانٍ وَقَوْلُهُمْ: تَلِفَتْ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَتْ بِجِرَاحَتَيْنِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا قُطِعَ السَّارِقُ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ عُدْوَانًا، فَمَاتَ مِنْهُمَا، وَفَارَقَ مَا إذَا جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ عُدْوَانٌ، فَقُسِّمَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا. (4250) فَصْلٌ: وَلَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا إلَى الْمَسَافَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ، كَمَا لَوْ تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ رَدَّهَا وَلَنَا أَنَّهَا يَدٌ ضَامِنَةٌ، فَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهَا إلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَدِيعَةِ لَا نُسَلِّمُهُ إلَّا أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا، أَوْ يُجَدِّدَ لَهُ إذْنًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 [مَسْأَلَة اكْتَرَى لِحُمُولَةِ شَيْءٍ فَزَادَ عَلَيْهِ] (4251) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ اكْتَرَى لِحُمُولَةِ شَيْءٍ، فَزَادَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ اكْتَرَى لِحَمْلِ شَيْءٍ، فَزَادَ عَلَيْهِ، مِثْلَ أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِحَمْلِ قَفِيزَيْنِ، فَحَمَلَ ثَلَاثَةً، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ اكْتَرَى إلَى مَوْضِعٍ فَجَاوَزَهُ، فِي وُجُوبِ الْأَجْرِ، وَأَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا زَادَ، وَلُزُومِ الضَّمَانِ إنْ تَلِفَتْ. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا شَعِيرًا، فَزَرْعَهَا حِنْطَةً، قَالَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، فَزَرَعَ أُخْرَى فَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ وَمَسْأَلَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ: يُنْقَلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَتَمَيَّزُ، فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجْهَانِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا ظَاهِرًا، فَإِنَّ الَّذِي حَصَلَ التَّعَدِّي فِيهِ فِي الْحَمْلِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَفِيزُ الزَّائِدُ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا وَزَادَ، وَفِي الزَّرْعِ لَمْ يَزْرَعْ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا عَلَّلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزَادَ عَلَيْهِ، بَلْ إلْحَاقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا اكْتَرَى مَسَافَةً فَزَادَ عَلَيْهَا أَشَدُّ، وَشَبَهُهَا بِهَا أَشَدُّ، وَلِأَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ مُتَعَدٍّ بِالزِّيَادَةِ وَحْدَهَا، وَفِي مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ مُتَعَدٍّ بِالزَّرْعِ كُلِّهِ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الزَّرْعِ فِيمَا إذَا اكْتَرَى أَرْضًا لِيَزْرَعَ الشَّعِيرَ، فَزَرَعَ حِنْطَةً، فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَنْظُرُ مَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ النُّقْصَانِ مَا بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَيُعْطِي رَبَّ الْأَرْضِ. فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَمَسْأَلَتَيْ الْخِرَقِيِّ، فِي إيجَابِ الْمُسَمَّى وَأَجْرِ الْمِثْلِ لِلزَّائِدِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ الشَّعِيرَ، لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَهُ زَرْعُ مِثْلِهِ، وَمَا هُوَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ. فَإِذَا زَرَعَ حِنْطَةً، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَزِيَادَةً، أَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَرَاهَا إلَى مَوْضِعٍ فَجَاوَزَهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ. وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ لَيْسَتْ شَعِيرًا وَزِيَادَةً. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً، غَيْرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. بِخِلَافِ مَسْأَلَتَيْ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُكْتَرِي يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الْكِرَاءِ وَمَا نَقَصَتْ الْأَرْضُ عَمَّا يَنْقُصُهَا الشَّعِيرُ، وَبَيْنَ أَخْذِ كِرَاءِ مِثْلِهَا لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَخَذَتْ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا إذَا رَكِبَ دَابَّةً فَجَازَ بِهَا الْمَسَافَةَ الْمَشْرُوطَةَ؛ لِكَوْنِهِ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً وَالثَّانِي إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ مُتَعَدِّيًا، فَلِهَذَا خَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبٌ يَقْتَضِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لَهُ أَوْفَرُهُمَا وَفُوِّضَ اخْتِيَارُهُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 كَقَتْلِ الْعَمْدِ. وَمَنْ نَصَرَ أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: هَذَا مُتَعَدٍّ بِالزَّرْعِ كُلِّهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ، كَالْغَاصِبِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ رَبُّ الْأَرْضِ مَنْعَهُ مِنْ زَرْعِهِ، وَيَمْلِكُ أَخْذَهُ بِنَفَقَتِهِ إذَا زَرَعَهُ. وَيُفَارِقُ مَنْ زَادَ عَلَى حَقِّهِ زِيَادَةً مُتَمَيِّزَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِالْجَمِيعِ، إنَّمَا تَعَدَّى بِالزِّيَادَةِ وَحْدَهَا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُكْرِي مَنْعَهُ مِنْ الْجَمِيعِ وَنَظِيرُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، مَنْ اكْتَرَى غُرْفَةً لِيَجْعَلَ فِيهَا أَقْفِزَةَ حِنْطَةٍ، فَتَرَكَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، وَمَنْ اكْتَرَاهَا لِيَجْعَلَ فِيهَا قِنْطَارًا مِنْ الْقُطْنِ، فَجَعَلَ فِيهَا قِنْطَارًا مِنْ حَدِيدٍ، فَفِي الْأُولَى، لَهُ الْمُسَمَّى وَأَجْرُ الزِّيَادَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُخَرَّجُ فِيهَا مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ. وَحُكْمُ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي يَزْرَعُ أَضَرَّ مِمَّا اكْتَرَى لَهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ، لِرَبِّ الْأَرْضِ مَنْعُهُ فِي الِابْتِدَاءِ، لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِنْ زَرَعَ فَرَبُّ الْأَرْضِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَرْكِ الزَّرْعِ بِالْأَجْرِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَدَفْعِ النَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ زَرْعَهُ، فَلَهُ الْأُجْرَةُ لَا غَيْرُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْغَصْبِ. [فَصْل اكْتَرَى دَابَّةً إلَى مَسَافَةٍ فَسَلَكَ أَشَقَّ مِنْهَا] (4252) فَصْلٌ: وَإِنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى مَسَافَةٍ، فَسَلَكَ أَشَقَّ مِنْهَا، فَهِيَ مِثْلُ مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ، يُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ، قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى وَزِيَادَةً، لِكَوْنِ الْمَسَافَةِ لَا تَتَعَيَّنُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، وَلِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْجَمِيعِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِرَبِّ الدَّابَّةِ مَنْعَهُ مِنْ سُلُوكِ تِلْكَ الطَّرِيقِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مِنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَ وَجَاوَزَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُهُ الزِّيَادَةَ لَا غَيْرُ. وَإِنْ اكْتَرَى لِحَمْلِ قُطْنٍ فَحَمَلَ بِوَزْنِهِ حَدِيدًا، أَوْ لِحَمْلِ حَدِيدٍ فَحَمَلَ قُطْنًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ أَحَدِهِمَا مُخَالِفٌ لِضَرَرِ الْآخَرِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُ الْمَحْمُولِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا مِنْ الْمَسَائِلِ. وَسَائِرُ مَسَائِلِ الْعُدْوَانِ فِي الْإِجَارَةِ يُقَاسُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ مَا كَانَ مُتَمَيِّزًا، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا فَتُلْحَقُ كُلُّ مَسْأَلَةٍ بِنَظِيرَتِهَا. [فَصْلٌ أَكْرَاهُ لِحَمْلِ قَفِيزَيْنِ فَحَمَلَهُمَا فَوَجَدَهُمَا ثَلَاثَةً] (4253) فَصْلٌ: إذَا أَكْرَاهُ لِحَمْلِ قَفِيزَيْنِ، فَحَمَلَهُمَا، فَوَجَدَهُمَا ثَلَاثَةً، فَإِنْ كَانَ الْمُكْتَرِي تَوَلَّى الْكَيْلَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكْرِي بِذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِنْ اكْتَرَى لِحُمُولَةِ شَيْءٍ فَزَادَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْرِي تَوَلَّى كَيْلَهُ وَتَعْبِئَتَهُ وَلَمْ يَعْلَم الْمُكْتَرِي، فَهُوَ غَاصِبٌ لَا أَجْرَ لَهُ فِي حَمْلِ الزَّائِدِ. وَإِنْ تَلِفَتْ دَابَّتُهُ، فَلَا ضَمَانَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِعُدْوَانِ صَاحِبِهَا، وَحُكْمُهُ فِي ضَمَانِ الطَّعَامِ، حُكْمُ مِنْ غَصَبَ طَعَامَ غَيْرِهِ وَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي، فَهُوَ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِمَا، يَلْزَمُهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ الْأَجْرُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ، وَيَلْزَمُهُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ ضَمَانُ طَعَامِهِ، وَسَوَاءٌ كَالَهُ أَحَدُهُمَا وَوَضَعَهُ الْآخَرُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَانَ الَّذِي كَالَهُ وَعَبَّأَهُ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إذَا كَالَهُ الْمُكْتَرِي وَوَضَعَهُ الْمُكْرِي عَلَى ظَهْرِ الْبَهِيمَةِ، لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُكْرِيَ مُفَرِّطٌ فِي حَمْلِهِ. وَلَنَا أَنَّ التَّدْلِيسَ مِنْ الْمُكْتَرِي، إذْ أَخْبَرَهُ بِكَيْلِهَا عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا بِتَحْمِيلِهَا فَأَمَّا إنْ كَالَهَا الْمُكْتَرِي، وَرَفَعَهَا الْمُكْرِي عَلَى الدَّابَّةِ. عَالِمًا بِكَيْلِهَا، لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْتَرِي دَابَّتَهُ إذَا تَلِفَتْ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَدْلِيسٍ وَلَا تَغْرِيرٍ. وَهَلْ لَهُ أَجْرُ الْقَفِيزِ الزَّائِدِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْتَرِيَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا. وَالثَّانِي لَهُ أَجْرُ الزَّائِدِ، لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، فَجَرَى مَجْرَى الْمُعَاطَاةِ فِي الْبَيْعِ وَدُخُولِ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أَجْرِهِ. وَإِنْ كَالَهُ الْمُكْرِي، وَحَمَلَهُ الْمُكْتَرِي عَلَى الدَّابَّةِ عَالِمًا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِحَمْلِهِ عَلَيْهَا، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْقَفِيزِ الزَّائِدِ وَإِنْ أَمَرَهُ بِحَمْلِهِ عَلَيْهَا، فَفِي وُجُوبِ الْأَجْرِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ الْمُكْرِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمَرَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ كَفِعْلِهِ، وَإِنْ كَالَهُ أَحَدُهُمَا وَحَمَلَهُ أَجْنَبِيٌّ بِأَمْرِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ الَّذِي كَالَهُ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْآخَرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ الْآخَرُ، وَإِنْ حَمَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَالَهُ ثُمَّ حَمَلَهُ. [مَسْأَلَة لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَرِيَ مُدَّةَ غُزَاته] (4254) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَرِيَ مُدَّةَ غَزَاتِهِ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ عُرِفَ وَجْهُ ذَلِكَ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَقِيقًا. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ، فِي مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ، وَعَمَلٍ مَجْهُولٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ اكْتَرَاهَا لِمُدَّةِ سَفَرِهِ فِي تِجَارَتِهِ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْغَزَاةِ تَطُولُ وَتَقْصُرُ، وَلَا حَدَّ لَهَا تُعْرَفُ بِهِ، وَالْعَمَلُ فِيهَا يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَنِهَايَةُ سَفَرِهِمْ تَقْرُبُ وَتَبْعُدُ، فَلَمْ يَجُزْ التَّقْدِيرُ بِهَا، كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْفَارِ الْمَجْهُولَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَات الْفَاسِدَةِ. [مَسْأَلَة اكْتَرَى فَرَسًا مُدَّةَ غَزْوِهِ كُلَّ يَوْم بِدِرْهَمِ] (4255) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، فَجَائِزٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اكْتَرَى فَرَسًا مُدَّةَ غَزْوِهِ، كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ صِحَّتُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ مَجْهُولَةٌ. وَلَنَا، أَنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَرَ نَفْسَهُ كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مَعْلُومٌ مُدَّتُهُ وَأُجْرَتُهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَرْتُكهَا شَهْرًا، كُلُّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ. أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك لِنَقْلِ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ، إمَّا لِرُكُوبٍ، أَوْ حَمْلٍ مَعْلُومٍ. وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى لِكُلِّ يَوْمٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُقِيمَةً أَوْ سَائِرَةً؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ ذَهَبَتْ فِي مُدَّتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَرَى دَارًا، فَأَغْلَقَهَا وَلَمْ يَسْكُنْهَا. وَإِنْ أَجَرَ نَفْسَهُ لِسَقْيِ نَخْلٍ، كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، أَوْ بِفَلْسٍ، أَوْ أَجْرٍ مَعْلُومٍ، جَازَ؛ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ مَعْلُومٍ لَهُ عِوَضٌ مَعْلُومٌ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ سَمَّى دِلَاءً مَعْرُوفَةً وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلْوِ وَالْبِئْرِ وَمَا يُسْتَسْقَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِهِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ] (4256) فَصْلٌ: وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ، عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً، فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ حَبَسَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمٌ، فَهُوَ جَائِزٌ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ، فِي مَنْ اكْتَرَى دَابَّةً مِنْ مَكَّةَ إلَى جَدَّةَ بِكَذَا، فَإِنْ ذَهَبَ إلَى عَرَفَاتٍ بِكَذَا، فَلَا بَأْسَ. وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْهُ لَوْ قَالَ: أَكْرَيْتُكَهَا بِعَشَرَةٍ. فَمَا حَبَسَهَا فَعَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ عَشَرَةٌ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ مَتَى قَدَّرَ لِكُلِّ عَمَلٍ مَعْلُومٍ أَجْرًا مَعْلُومًا، صَحَّ وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي هَذَا كُلَّهُ، عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْأَوَّلِ وَيَفْسُدُ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ مُدَّتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَحْمِلَ لِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ، وَهِيَ عَشَرَةُ. أَقْفِزَةٍ، بِدِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحُسْبَانِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ خِلَافُ هَذَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ جَائِزٌ. عَادَ إلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرَ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا بَأْسَ. وَلِأَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ عِوَضًا مَعْلُومًا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اسْتَقَى لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَمَسْأَلَةُ الصُّبْرَةِ لَا نَصَّ فِيهَا عَنْ الْإِمَامِ وَقِيَاسُ نُصُوصِهِ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَسَادُهَا، فَلِأَنَّ الْقُفْزَانَ الَّتِي شُرِطَ حَمْلُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ بِتَعْيِينٍ وَلَا صِفَةٍ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِجَهَالَتِهَا، بِخِلَافِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ خِطْت هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْم فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ] (4257) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ خِطْت هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ، وَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ. نَقَلَهَا أَبُو الْحَارِثِ، عَنْ أَحْمَدَ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعِوَضُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك نَقْدًا بِدِرْهَمٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ نَسِيئَةً. وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لِكُلِّ عَمَلٍ عِوَضًا مَعْلُومًا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجِّرَ قَدْ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ، فَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْ رَضِيَ فِي أَكْثَرِ الْعَمَلَيْنِ بِدِرْهَمِ، فَلَا يُزَادُ عَنْهُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ الْعَقْدُ فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ فَسَدَ فَوُجُودُهُ كَالْعَدَمِ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. [فَصْل قَالَ إِن خِطْته رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته فَارِسِيًّا فَلَكَ نَصْفُ دِرْهَمٍ] (4258) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ خِطْته رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته فَارِسِيًّا فَلَكَ نَصْفُ دِرْهَمٍ. فَفِيهَا وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْخِلَافُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا؛ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ صَاحِبَيْهِ فِي الصِّحَّةِ هَاهُنَا. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ الْعِوَضُ وَلَا الْمُعَوَّضُ، فَلَمْ يَصِحَّ. كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ هَذَا بِدِرْهَمَيْنِ. وَفَارَقَ هَذَا " كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ " مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْعَمَلَ الثَّانِيَ يَنْضَمُّ إلَى الْعَمَلِ الْأَوَّلِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضٌ مُقَدَّرٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَهَا هُنَا الْخِيَاطَةُ وَاحِدَةٌ شَرَطَ فِيهَا عِوَضًا إنْ وُجِدَتْ عَلَى صِفَةٍ، وَعِوَضًا آخَرَ إنْ وُجِدَتْ عَلَى أُخْرَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ صِحَاحٍ، أَوْ أَحَدَ عَشْرَ مُكَسَّرَةٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ وَقَفَ الْإِجَارَةَ عَلَى شَرْطٍ، بِقَوْلِهِ: إنْ خِطْته كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ خِطْته كَذَا فَلَكَ كَذَا. بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ حَمَّالٍ إلَى مِصْرَ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا] (4259) فَصْلٌ: وَنَقَلَ مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ مِنْ حَمَّالٍ إلَى مِصْرَ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَإِنْ نَزَلَ دِمَشْقَ فَكِرَاؤُهُ ثَلَاثُونَ، فَإِنْ نَزَلَ الرَّقَّةَ فَكِرَاؤُهُ عِشْرُونَ. فَقَالَ إذَا اكْتَرَى إلَى الرَّقَّةِ بِعِشْرِينَ، وَاكْتَرَى إلَى دِمَشْقَ بِعَشَرَةٍ، وَاكْتَرَى إلَى مِصْرَ بِعَشَرَةٍ، جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَمَّالِ أَنْ يَرْجِعَ. فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، لِكَوْنِهِ خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ عُقُودٍ. وَيُخَرَّجُ فِيهِ أَنْ يَصِحَّ بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ قَبْلَ هَذَا وَنَقَلَ الْبَرْزَاطِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ كِتَابًا إلَى الْكُوفَةِ، وَقَالَ: إنْ وَصَّلْت الْكِتَابَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ عِشْرُونَ، وَإِنْ تَأَخَّرْت بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ فَلَكَ عَشَرَةٌ. فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةُ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ، فِي مَنْ اكْتَرَى دَابَّةً، وَقَالَ: إنْ رَدَدْتهَا غَدًا فَكِرَاؤُهَا عَشَرَةٌ، وَإِنْ رَدَدْتهَا الْيَوْمَ فَكِرَاؤُهَا خَمْسَةٌ. فَلَا بَأْسَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِجَارَةِ، وَالظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، فِيمَا ذَكَرْنَا، فَسَادُ الْعَقْدِ، وَهُوَ قِيَاسُ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَسَائِل الصُّبْرَةِ] (4260) فَصْلٌ: فِي مَسَائِلِ الصُّبْرَةِ، وَفِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ، أَحَدُهَا، قَالَ اسْتَأْجَرْتُك لِتَحْمِلَ لِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ إلَى مِصْرَ بِعَشَرَةٍ. فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الصُّبْرَةَ مَعْلُومَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهَا، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ عَلِمَ كَيْلَهَا. الثَّانِيَةُ، قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَحْمِلهَا لِي كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمِ. فَيَصِحُّ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ فِي قَفِيزٍ، وَيَبْطُلُ فِيمَا زَادَ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. الثَّالِثَةُ، قَالَ: لِتَحْمِلْهَا لِي قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. فَيَجُوزُ، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ حَمْلِ جَمِيعِهَا، كَقَوْلِهِ: لِتَحْمِلْ مِنْهَا قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ، وَسَائِرَهَا أَوْ بَاقِيَهَا بِحِسَابِ ذَلِكَ. أَوْ قَالَ: وَمَا زَادَ بِحِسَابِ ذَلِكَ. يُرِيدُ بِهِ بَاقِيَهَا كُلَّهُ، إذَا فَهِمَا ذَلِكَ مِنْ اللَّفْظِ، لِدَلَالَتِهِ عِنْدَهُمَا عَلَيْهِ، أَوْ لِقَرِينَةٍ صَرَفَتْ إلَيْهِ الرَّابِعَةُ، قَالَ: لِتَحْمِلْ مِنْهَا قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. يُرِيدُ مَهْمَا حَمَلْت مِنْ بَاقِيهَا. فَلَا يَصِحُّ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ. الْخَامِسَةُ، قَالَ: لِتَنْقُلْ لِي مِنْهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ. فَهِيَ كَالرَّابِعَةِ سَوَاءً السَّادِسَةُ، قَالَ: لِتَحْمِلْ مِنْهَا قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ تَحْمِلَ الْبَاقِيَ بِحِسَابِ ذَلِكَ. فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِتَحْمِلْ لِي كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ. السَّابِعَةُ قَالَ: لِتَحْمِلْ لِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، وَتَنْقُلَ لِي صُبْرَةً أُخْرَى فِي الْبَيْتِ بِحِسَابِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ الصُّبْرَةَ الَّتِي فِي الْبَيْتِ بِالْمُشَاهَدَةِ، صَحَّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَالصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا، صَحَّ فِي الْأُولَى وَبَطَلَ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى مَعْلُومٍ، وَالثَّانِي عَلَى مَجْهُولٍ، فَصَحَّ فِي الْمَعْلُومِ، وَبَطَلَ فِي الْمَجْهُولِ. كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِعَشَرَةٍ، وَعَبْدِي الَّذِي فِي الْبَيْتِ بِعَشَرَةٍ الثَّامِنَةُ، قَالَ: لِتَحْمِلْ لِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَاَلَّتِي فِي الْبَيْتِ بِعَشَرَةٍ. فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ، صَحَّ فِيهِمَا، وَإِنْ جَهِلَاهَا، بَطَلَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ، بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، عَلَى مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ، لَكِنَّهَا مَغْصُوبَةٌ، أَوْ امْتَنَعَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِيهَا لِمَانِعٍ اخْتَصَّ بِهَا، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهَا. وَفِي صِحَّتِهِ فِي الْأُخْرَى وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيق الصَّفْقَةِ، إلَّا أَنَّهُمَا إنْ كَانَتْ قُفْزَانُهُمَا مَعْلُومَةً، أَوْ قَدْرُ أَحَدِهِمَا مَعْلُومًا مِنْ الْأُخْرَى، فَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ قِسْطَ الْأَجْرِ فِيهَا مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالْأَوْلَى بُطْلَانُهُ؛ لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ فِيهَا التَّاسِعَةُ، قَالَ: لِتَحْمِلْ لِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ، وَهِيَ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ، فَالزَّائِدُ بِحِسَابِ ذَلِكَ. صَحَّ فِي الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 الْعَاشِرَةُ، قَالَ: لِتَحْمِلَ لِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ قَدِمَ لِي طَعَامٌ فَحَمَلْته، فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. صَحَّ أَيْضًا فِي الصُّبْرَةِ، وَفَسَدَ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَة اكْتَرَى إلَى مَكَّة فَلَمْ يَرَ الْجَمَّالُ الرَّاكِبِينَ وَالْمَحَامِلَ الْأَغْطِيَةَ وَالْأَوْطِئَةَ] (4261) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ اكْتَرَى إلَى مَكَّةَ، فَلَمْ يَرَ الْجَمَّالُ الرَّاكِبِينَ، وَالْمَحَامِلَ، وَالْأَغْطِيَةَ، وَالْأَوْطِئَةَ، لَمْ يَجُزْ الْكِرَاءُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إجَازَةِ كِرَاءِ الْإِبِلِ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمُكْتَرَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] : أَنْ تَحُجَّ وَتُكْرِيَ. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى السَّفَرِ، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْحَجَّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. وَلَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ بَهِيمَةٌ يَمْلِكُهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مُعَانَاتِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَالشَّدِّ عَلَيْهَا، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِئْجَارِهَا، فَجَازَ، دَفْعًا لِلْحَاجَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعْرِفَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْمَعْرِفَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ فَأَمَّا الْجَمَّالُ فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الرَّاكِبِينَ، وَالْآلَةِ الَّتِي يَرْكَبُونَ فِيهَا، مِنْ مَحْمِلٍ أَوْ مَحَارَةٍ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ مُقَتَّبًا ذَكَرَهُ، وَهَلْ يَكُونُ مُغَطًّى أَوْ مَكْشُوفًا، فَإِنْ كَانَ مُغَطًّى اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْغِطَاءِ، وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْوِطَاءِ الَّذِي يُوطَأُ بِهِ الْمَحْمِلُ، وَالْمَعَالِيقِ الَّتِي مَعَهُ مِنْ قِرْبَةٍ وَسَطِيحَةٍ وَسُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَذِكْرِ سَائِرِ مَا يَحْمِلُ مَعَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: يَجُوزُ إطْلَاقُ غِطَاءِ الْمَحْمِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الْمَعَالِيقِ قَوْلٌ، أَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُهَا، وَتُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ الرَّاكِبِينَ؛ لِأَنَّ أَجْسَامَ النَّاسِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْغَالِبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ: فِي الْمَحْمِلِ رَجُلَانِ، وَمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ الْوِطَاءِ وَالدُّثُرِ. جَازَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَقَارَبُ فِي الْعَادَةِ، فَحُمِلَ عَلَى الْعَادَةِ، كَالْمَعَالِيقِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي غِطَاءِ الْمَحْمِلِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ وَيَتَبَايَنُ كَثِيرًا، فَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ، كَالطَّعَامِ الَّذِي يَحْمِلُ مَعَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَجْسَامَ النَّاسِ مُتَقَارِبَةٌ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَالطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ، وَالسَّمِينَ وَالْهَزِيلَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَيَخْتَلِفُونَ بِذَلِكَ، وَيَتَبَايَنُونَ كَثِيرًا، وَيَتَفَاوَتُونَ أَيْضًا فِي الْمَعَالِيقِ، فَمِنْهُمْ مِنْ يُكْثِرُ الزَّادَ وَالْحَوَائِجَ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَقْنَعُ بِالْيَسِيرِ، وَلَا عُرْفَ لَهُ يُرْجَعُ إلَيْهِ، فَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ، كَالْمَحْمِلِ وَالْأَوْطِئَةِ وَكَذَلِكَ غِطَاءُ الْمَحْمِلِ، مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ الْوَاسِعَ الثَّقِيلَ الَّذِي يَشْتَدُّ عَلَى الْحَمْلِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَقْنَعُ بِالضَّيِّقِ الْخَفِيفِ، فَتَجِبُ مَعْرِفَتُهُ، كَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ، فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي يَرْكَبُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، وَتَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا بِالرُّؤْيَةِ، فَيُكْتَفَى بِهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْلَى طُرُقِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ صِفَةِ الْمُسَمَّى فِيهِ، كَالرَّاهُولِ وَغَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُجَرِّبَهُ فَيَعْلَمَ ذَلِكَ بِرُؤْيَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَصِفَهُ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ اكْتَفِي بِهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَةِ، فَجَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بِالصِّفَةِ لِلرُّكُوبِ، احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ، فَيَقُول: إبِلٌ، أَوْ خَيْلٌ، أَوْ بِغَالٌ، أَوْ حَمِيرٌ. وَالنَّوْعِ فَيَقُولُ: بَخْتِيٌّ، أَوْ عَرَبِيٌّ. وَفِي الْخَيْلِ: عَرَبِيٌّ أَوْ بِرْذَوْنٌ. وَفِي الْحَمِيرِ: مِصْرِيٌّ أَوْ شَامِيٌّ. وَإِنْ كَانَ فِي النَّوْعِ مَا يَخْتَلِفُ، كَالْمُهَمْلَجِ مِنْ الْخَيْلِ، وَالْقُطُوفِ، اُحْتِيجَ إلَى ذِكْرِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأُنْثَى أَسْهَلُ وَالذَّكَرَ أَقْوَى وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ يَسِيرٌ، وَمَتَى كَانَ الْكِرَاءُ إلَى مَكَّةَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَلَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ إنَّمَا هُوَ الْجِمَالُ الْعِرَابُ، دُون الْبَخَاتِيِّ. [فَصْلٌ الْكِرَاءُ إلَى مَكَّة أَوْ طَرِيقٍ لَا يَكُونُ السَّيْرُ فِيهِ إلَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَارِيَيْنِ] (4262) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْكِرَاءُ إلَى مَكَّةَ، أَوْ طَرِيقٍ لَا يَكُونُ السَّيْرُ فِيهِ إلَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَارِيَيْنِ، فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِ تَقْدِيرِ السَّيْرِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمَا، وَلَا مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَهُمَا. وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقٍ السَّيْرُ فِيهِ إلَيْهِمَا، اُسْتُحِبَّ ذِكْرُ قَدْرِ السَّيْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. فَإِنْ أَطْلَقَ وَلِلطَّرِيقِ مَنَازِلُ مَعْرُوفَةٌ، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ. وَمَتَى اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، وَفِي مِيقَاتِ السَّيْرِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَنْزِلِ، إمَّا فِي دَاخِلِ الْبَلَدِ أَوْ خَارِجٍ مِنْهُ، حَمْلًا عَلَى الْعُرْفِ، كَمَا لَوْ أَطْلَقَا الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ فِيهِ نَقْدٌ مَعْرُوفٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّرِيقِ عُرْفٌ، وَأَطْلَقَا الْعَقْدَ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ أَطْلَقَا الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ لَا عُرْفَ فِيهِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا صَحَّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِتَقْدِيرِ السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ، وَمَتَى اخْتَلَفَا، رُجِعَ إلَى الْعُرْفِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الطَّرِيقِ. [فَصْلٌ اشْتَرَطَ فِي كِرَاءٍ الْإِبِل حَمْلَ زَادٍ مُقَدَّرٍ كَمِائَةِ رِطْلٍ] (4263) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَطَ حَمْلَ زَادٍ مُقَدَّرٍ، كَمِائَةِ رِطْلٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ يُبْدِلُ مِنْهَا مَا نَقَصَ بِالْأَكْلِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّ مَا نَقَصَ بِالْأَكْلِ لَا يُبْدِلُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إبْدَالُهُ. فَإِنْ ذَهَبَ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، كَسَرِقَةٍ أَوْ سُقُوطٍ، فَلَهُ إبْدَالُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَرْطِهِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ، فَلَهُ إبْدَالُ مَا ذَهَبَ بِسَرِقَةِ أَوْ سُقُوطٍ أَوْ أَكْلٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ نَقَصَ بِالْأَكْلِ الْمُعْتَادِ، فَلَهُ إبْدَالُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ حَمْلَ مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، فَمَلَكَ إبْدَالَ مَا نَقَصَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ نَقَصَ بِسَرِقَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْدَالَهُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الزَّادَ يَنْقُصُ، فَلَا يُبْدَلُ، فَحُمِلَ الْعَقْدُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْعُرْفِ، وَصَارَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِيَاسُ أَنَّ لَهُ إبْدَالَهُ. وَلَوْ قِيلَ: لَيْسَ لَهُ إبْدَالُهُ. كَانَ مَذْهَبًا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الزَّادَ لَا يَبْقَى جَمِيعَ الْمَسَافَةِ، وَلِذَلِكَ يَقِلُّ أَجْرُهُ عَنْ أَجْرِ الْمَتَاعِ. [فَصْلٌ اكْتَرَى جَمَلًا لِيَحُجّ عَلَيْهِ] (4264) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى جَمَلًا لِيَحُجَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ إلَى مَكَّةَ، وَمِنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ، وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ إلَى مِنَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ الرُّكُوبُ إلَى مِنَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْحَجِّ. وَالْأَوْلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَتَوَابِعِهِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَدَخَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَمَنْ اكْتَرَى إلَى مَكَّةَ فَقَطْ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّكُوبُ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ إلَى مَكَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكِرَاءِ لِلْحَجِّ، لِكَوْنِهَا لَا يُكْتَرَى إلَيْهَا إلَّا لِلْحَجِّ غَالِبًا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْتَرِي لِلْحَجِّ. [فَصْلٌ مَا يَلْزَمُ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي لِلرُّكُوبِ] (4265) فَصْلٌ: فِيمَا يَلْزَمُ الْمُكْرِيَ وَالْمُكْتَرِيَ لِلرُّكُوبِ، يَلْزَمُ الْمُكْرِيَ كُلُّ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يُوطَأَ بِهِ الْمَرْكُوبُ لِلرَّاكِبِ، مِنْ الْحِدَاجَةِ لِلْجَمَلِ، وَالْقَتَبِ، وَالزِّمَامِ الَّذِي يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ، وَالْبَرَّةِ الَّتِي فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ، إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بَيْنَهُمْ بِهَا. وَإِنْ كَانَ فَرَسًا، فَاللِّجَامُ وَالسَّرْجُ. وَإِنْ كَانَ بَغْلًا أَوْ حِمَارًا فَالْبَرْذَعَةُ وَالْإِكَافُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعُرْفُ، فَحُمِلَ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهِ. وَعَلَى الْمُكْتَرِي مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، كَالْمَحْمِلِ، وَالْمَحَارَةِ، وَالْحَبْلِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ بَيْنَ الْمَحْمِلَيْنِ أَوْ الْمَحَارَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَحْمِلِ، وَالْوِطَاءِ الَّذِي يُشَدُّ فَوْقَ الْحِدَاجَةِ تَحْتَ الْمَحْمِلِ وَعَلَى الْمُكْرِي رَفْعُ الْمَحْمِلِ، وَحَطُّهُ، وَشَدُّهُ عَلَى الْجَمَلِ، وَرَفْعُ الْأَحْمَالِ وَشَدُّهَا وَحَطُّهَا؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعُرْفُ، وَبِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّكُوبِ. وَيَلْزَمُهُ الْقَائِدُ وَالسَّائِقُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 هَذَا إذَا كَانَ الْكِرَاءُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ مَعَ الْمُكْتَرِي، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَتَسَلَّمَ الرَّاكِبُ الْبَهِيمَةَ يَرْكَبُهَا لِنَفْسِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَى الْمُكْرِي تَسْلِيمُ الْبَهِيمَةِ، وَقَدْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ فَهُوَ عَلَى الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْبَهِيمَةِ الْمُكْتَرَاةِ وَآلَتِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَالزَّادِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ اكْتَرَى مِنْهُ بَهِيمَةً بِعَيْنِهَا، فَأُجْرَةُ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ الظَّهْرَ، وَقَدْ سَلَّمَهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَمْلِهِ إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ عَلَى الْمُكْرِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ إيصَالِهِ إلَيْهِ، وَتَحْصِيلِهِ فِيهِ. [فَصْل كَانَ الرَّاكِبُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ وَالْبَعِيرُ قَائِمٌ فِي كِرَاءِ الْإِبِلِ] فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الرَّاكِبُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ وَالْبَعِيرُ قَائِمٌ، كَالْمَرْأَةِ وَالشَّيْخِ وَالضَّعِيفِ وَالسَّمِينِ وَشِبْهِهِمْ، فَعَلَى الْجَمَّالِ أَنْ يُبْرِكَ الْجَمَلَ لِرُكُوبِهِ وَنُزُولِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ إلَّا بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ وَالنُّزُولُ وَالْبَعِيرُ قَائِمٌ، لَمْ يَلْزَم الْجَمَّالَ أَنْ يُبْرِكَ لَهُ الْجَمَلَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدُونِ هَذِهِ الْكُلْفَةِ. وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا حَالَ الْعَقْدِ، فَضَعُفَ فِي أَثْنَائِهِ، أَوْ ضَعِيفًا فَقَوِيَ، فَالِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرُّكُوبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ اقْتَضَى رُكُوبَهُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ. وَيَلْزَمُ الْجَمَّالَ أَنْ يُوقِفَ الْبَعِيرَ لِيَنْزِلَ لِصَلَاةِ الْفَرِيضَةِ. وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَطَهَارَتِهِ، وَيَدَعُ الْبَعِيرَ وَاقِفًا حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، وَمَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ مِنْ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُبْرِكَهُ لَهُ، وَلَا يَقِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمُكْتَرِي إتْمَامَ الصَّلَاةِ، وَطَالَبَهُ الْجَمَّالُ بِقَصْرِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ بَلْ تَكُونُ خَفِيفَةً فِي تَمَامٍ. وَمِنْ اكْتَرَى بَعِيرًا لَإِنْسَانٍ يَرْكَبُهُ لِنَفْسِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَفَّى لَهُ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ سِوَاهُ. [فَصْل اكْتَرَى ظَهْرًا فِي طَرِيقٍ الْعَادَةُ فِيهِ النُّزُولُ وَالْمَشْيُ عِنْدَ اقْتِرَابِ الْمَنْزِلِ وَالْمُكْتَرِي امْرَأَةٌ أَوْ ضَعِيفٌ] (4267) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى ظَهْرًا فِي طَرِيقٍ الْعَادَةُ فِيهِ النُّزُولُ وَالْمَشْيُ عِنْدَ اقْتِرَابِ الْمَنْزِلِ، وَالْمُكْتَرِي امْرَأَةٌ أَوْ ضَعِيفٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ؛ لِأَنَّهُ اكْتَرَاهُ جَمِيعَ الطَّرِيقِ، وَلَمْ تَجْرِ لَهُ عَادَةٌ بِالْمَشْيِ، فَلَزِمَ حَمْلُهُ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ، كَالْمَتَاعِ. وَإِنْ كَانَ جَلْدًا قَوِيًّا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى جَمِيعِ الطَّرِيقِ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ فِي بَعْضِهَا كَالضَّعِيفِ. وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَالْمُتَعَارَفُ كَالْمَشْرُوطِ. [فَصْلٌ هُرُوب الْجَمَّالُ مِنْ الْمُسْتَأْجَر فِي بَعْض الطَّرِيقِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا] (4268) فَصْلٌ: وَإِنْ هَرَبَ الْجَمَّالُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 أَحَدُهُمَا، أَنْ يَهْرُبَ بِجِمَالِهِ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِد الْمُسْتَأْجِرُ حَاكِمًا، أَوْ وَجَدَ حَاكِمًا وَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحَالِ عِنْدَهُ، أَوْ أَمْكَنَ الْإِثْبَاتُ عِنْدَهُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَكْتَرِي بِهِ مَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهُ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، أَوْ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ. فَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَكَانَ الْجَمَّالُ قَدْ قَبَضَ الْأَجْرَ، كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمُقَامَ عَلَى الْعَقْدِ، وَكَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْجَمَّالِ طَالَبَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ انْقَضَتْ فِي هَرَبِهِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ الْحَالِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَكَانَ الْعَقْدُ عَلَى مَوْصُوفٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَيَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ، وَيُثْبِتُ عِنْدَهُ، فَيَنْظُرُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ وَجَدَ لِلْجَمَّالِ مَالًا اكْتَرَى بِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى الْجَمَّالِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مَا يَكْتَرِي لَهُ بِهِ، فَعَلَ، فَإِنْ دَفَعَ الْحَاكِمُ الْمَالَ إلَى الْمُكْتَرِي لِيَكْتَرِيَ لِنَفْسِهِ بِهِ، جَازَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَإِنْ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُكْتَرِي مَا يُكْرِي بِهِ، جَازَ، وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْجَمَّالِ. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مُعَيَّنٍ، لَمْ يَجُزْ إبْدَالُهُ، وَلَا اكْتِرَاءُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَيَتَخَيَّرُ الْمُكْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ أَوْ الْبَقَاءِ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَيُطَالِبَهُ بِالْعَمَلِ. الْحَالُ الثَّانِي إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ، وَتَرَكَ جِمَالَهُ، فَإِنَّ الْمُكْتَرِيَ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ وَجَدَ لِلْجَمَّالِ مَالًا، اسْتَأْجَرَ بِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمَّالِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجِمَالِ، وَالشَّدِّ عَلَيْهَا، وَحِفْظِهَا وَفِعْلِ مَا يَلْزَمُ الْجَمَّالَ فِعْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ غَيْرَ الْجِمَالِ، وَكَانَ فِيهَا فَضْلَةٌ عَنْ الْكِرَاءِ، بَاعَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ، اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، كَمَا قُلْنَا. وَإِنْ ادَّانَ مِنْ الْمُكْتَرِي وَأَنْفَقَ، جَازَ وَإِنْ أَذِنَ لِلْمُكْتَرِي فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ حَاجَةٍ. وَإِذَا رَجَعَ الْجَمَّالُ، وَاخْتَلَفَا فِيمَا أَنْفَقَ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدَّرَ لَهُ مَا يُنْفِقُ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ، وَمَا زَادَ لَا يُحْتَسَبُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَمَا زَادَ لَا يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهِ. وَإِذَا وَصَلَ الْمُكْتَرِي، رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ، فَفَعَلَ مَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ، مِنْ بَيْعِ الْجِمَالِ، فَيُوَفِّي عَنْ الْجَمَّالِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّينِ لِلْمُكْتَرِي أَوْ لِغَيْرِهِ، وَيَحْفَظُ بَاقِيَ الثَّمَنِ لَهُ وَإِنْ رَأَى بَيْعَ بَعْضِهَا، وَحِفْظَ بَاقِيهَا، وَالْإِنْفَاقَ عَلَى الْبَاقِي مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعَ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، أَوْ عَجَزَ عَنْ اسْتِدَانَةٍ، فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَيُقِيمَ مُقَامَ الْجَمَّالِ فِيمَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ. وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، رَجَعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِي. وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَنَوَى الرُّجُوعَ، فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 أَحَدُهُمَا، يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجِمَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ نَفَقَةٍ إذْنٌ فِي الْإِنْفَاقِ. وَالثَّانِي لَا يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُشْهِدُهُ فَأَنْفَقَ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ؛ لِقَوْلِنَا: يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْآبِقِ، وَعَلَى عِيَالِ الْغَائِبِ وَزَوْجَاتِهِ، وَالدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، فَأَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ أَيْضًا. وَحُكْمُ مَوْتِ الْجَمَّالِ، حُكْمُ هَرَبِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا، وَلَا يُسْرِفُ فِي عَلْفِهَا، وَلَا يُقَصِّرُ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ فِي مَالِ الْمُتَوَفَّى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ مَا يُنْفِقُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَجُوزُ مِنْ الْمَالِكِ، أَوْ مِنْ نَائِبِهِ، أَوْ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ كِرَاءٍ الْعَقَبَة] (4269) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَصِحُّ كِرَاءُ الْعَقَبَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَعْنَاهَا: الرُّكُوبُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، يَرْكَبُ شَيْئًا وَيَمْشِي شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ اكْتِرَاؤُهَا فِي الْجَمِيعِ، جَازَ اكْتِرَاؤُهَا فِي الْبَعْضِ. وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً، إمَّا أَنْ يُقَدِّرَهَا بِفَرَاسِخَ مَعْلُومَةٍ، وَإِمَّا بِالزَّمَانِ، مِثْلَ أَنْ يَرْكَبَ لَيْلًا وَيَمْشِيَ نَهَارًا، وَيُعْتَبَرُ فِي هَذَا زَمَانُ السَّيْرِ دُونَ زَمَانِ النُّزُولِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَرْكَبَ يَوْمًا وَيَمْشِيَ يَوْمًا، جَازَ. فَإِنْ اكْتَرَى عُقْبَةً، وَأَطْلَقَ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، وَلَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ، فَيَكُونُ مَجْهُولًا. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَرْكَبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيَمْشِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ مَا زَادَ وَنَقَصَ، جَازَ. وَإِنْ اخْتَلَفَا، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ الْمَاشِي لِدَوَامِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْجَمَلِ لِدَوَامِ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا رَكِبَ بَعْدَ شِدَّةِ تَعَبِهِ كَانَ أَثْقَلَ عَلَى الْبَعِيرِ. وَإِنْ اكْتَرَى اثْنَانِ جَمَلًا يَرْكَبَانِهِ عُقْبَةً وَعُقْبَةً، جَازَ، وَيَكُونُ كِرَاؤُهُمَا طُولَ الطَّرِيقِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَشَاحَّا، قُسِمَ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرَاسِخُ مَعْلُومَةٌ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا اللَّيْلُ وَلِلْآخَرِ النَّهَارُ. وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ عُرْفٌ، رُجِعَ إلَيْهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْبَادِئ مِنْهُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ كِرَاؤُهُمَا، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رُكُوبِ مَعْلُومٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَجْهُولٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَيَا عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا مُعَيَّنًا مِنْهُمَا. [مَسْأَلَة الْمَعْرِفَة بِالْوَصْفِ تَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فِي الرَّاكِبَيْنِ] (4270) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ رَأَى الرَّاكِبَيْنِ، أَوْ وُصِفَا لَهُ، وَذَكَرَ الْبَاقِيَ بِأَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ، فَجَائِزٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَصْفِ تَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فِي الرَّاكِبَيْنِ، إذَا وَصَفَهُمَا بِمَا يَخْتَلِفَانِ بِهِ، فِي الطُّولِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 وَالْقِصَرِ، وَالْهُزَالِ وَالسِّمَنِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، وَالْبَاقِي يَكْفِي فِيهِ ذِكْرُ الْوَزْنِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّاكِبَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِثِقْلِهِ وَخِفَّتِهِ، وَسُكُونِهِ وَحَرَكَتِهِ، وَلَا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُمْ فِي الْمَحْمِلِ وَجْهٌ، أَنَّهُ لَا تَكْفِي فِيهِ الصِّفَةُ، وَيَجِبُ تَعْيِينُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُضَافٌ إلَى حَيَوَانٍ، فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالصِّفَةِ، كَالْبَيْعِ، وَكَالْمَرْكُوبِ فِي الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ بِالصِّفَةِ، لَمَا جَازَ لِلرَّاكِبِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مُقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ مِثْلَهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الصِّفَاتِ، فَمَا لَا تَأْتِي عَلَيْهِ الصِّفَاتُ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي فِيهِ، وَلِأَنَّ الْوَصْفَ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْبَيْعِ، فَاكْتُفِيَ بِهِ فِي الْإِجَارَةِ، كَالرُّؤْيَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ يَسِيرٌ تَجْرِي الْمُسَامَحَةُ فِيهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ. [فَصْل اكْتِرَاءُ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ لِلْحُمُولَةِ] (4271) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اكْتِرَاءُ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ لِلْحُمُولَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} [النحل: 7] . وَالْحُمُولَةُ بِالضَّمِّ: الْأَحْمَالُ. وَالْحَمُولَةُ بِالْفَتْحِ: الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] الْحَمُولَةُ: الْكِبَارُ. وَالْفَرْشُ: الصِّغَارُ. وَقِيلَ الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ. وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُمُولَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ حَمْلُ الْمَتَاعِ، دُونَ مَا يَحْمِلُهُ، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ، فَإِنَّ لِلرَّاكِبِ غَرَضًا فِي الْمَرْكُوبِ، مِنْ سُهُولَتِهِ وَحَالِهِ وَسُرْعَتِهِ. وَإِنْ اتَّفَقَ وُجُودُ غَرَضٍ فِي الْحُمُولَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمُولُ شَيْئًا يَضُرُّهُ كَثْرَةُ الْحَرَكَةِ، كَالْفَاكِهَةِ وَالزُّجَاجِ، أَوْ كَوْنِ الطَّرِيقِ مِمَّا يَعْسُرُ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي الْإِجَارَةِ. وَأَمَّا الْأَحْمَالُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ كَثِيرًا، وَيَخْتَلِفُ الْغَرَضُ بِهِ فَإِنْ شَرَطَ أَنْ تَحْمِلَ مَا شَاءَ، بَطَلَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقْتُلُ الْبَهِيمَةَ. وَإِنْ قَالَ: احْتَمِلْ عَلَيْهَا طَاقَتَهَا. لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا ضَابِطَ لَهُ. وَتَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ بِطَرِيقَيْنِ: الْمُشَاهَدَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْلَى طُرُقِ الْعِلْمِ، وَالصِّفَةُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّفَةِ مَعْرِفَةُ شَيْئَيْنِ: الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَخْتَلِفُ تَعَبُ الْبَهِيمَةِ بِاخْتِلَافِهِ، مَعَ التَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ، فَإِنَّ الْقُطْنَ يَضُرُّ بِهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَفِخُ عَلَى الْبَهِيمَةِ. فَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّيحُ فَيَثْقُلُ، وَمِثْلُهُ مِنْ الْحَدِيدِ يُؤْذِي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْبَهِيمَةِ، فَرُبَّمَا عَقَرَهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 وَأَمَّا الظُّرُوفُ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْوَزْنِ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهَا، وَإِنْ لَمْ تُوزَنْ، فَإِنْ كَانَتْ ظُرُوفًا مَعْرُوفَةً، لَا تَخْتَلِفُ، كَغَرَائِر الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَنَحْوِهَا، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ؛ لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا كَثِيرًا فَتَسْمِيَتُهَا تَكْفِي، وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا بِالتَّعْيِينِ أَوْ الصِّفَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ، أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَكْرَيْتُكَهَا لِتَحْمِلَ عَلَيْهَا ثَلَاثَمِائَةِ رِطْلٍ مِمَّا شِئْت جَازَ، وَمَلَكَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُحَمِّلُهُ حِمْلًا يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ، مِثْلَ مَا لَوْ أَرَادَ حَمْلَ حَدِيدٍ أَوْ زِئْبَقٍ، يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ ظَهْرِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ فِي وِعَاءٍ يَتَمَوَّجُ فِيهِ، فَيَكُدُّ الْبَهِيمَةَ وَيُتْعِبُهَا. وَإِنْ اكْتَرَى ظَهْرًا لِلْحَمْلِ مَوْصُوفًا بِجِنْسٍ، فَأَرَادَ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَكَانَ الطَّالِبُ لِذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ الْمُؤَجِّرُ، وَكَانَ يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ الِاسْتِعْجَالَ فِي السَّيْرِ، أَوْ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْ الْقَافِلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْخَيْلُ أَوْ الْبِغَالُ، أَوْ يَكُونَ غَرَضُهُ سُكُونَ الْحُمُولَةِ لِكَوْنِ الْحُمُولَةِ مِمَّا يَضُرُّهَا الْهَزُّ، أَوْ قُوَّتَهَا وَصَبْرَهَا لِطُولِ الطَّرِيقِ وَثِقْلِ الْحُمُولَةِ فَيُعَيِّنُ الْإِبِلَ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ غَرَضَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْمَرْكُوبِ وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْ غَرَضًا، جَازَ، كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ اكْتَرَى عَلَى حَمْلِ شَيْءٍ حَمْلَ مِثْلِهِ، أَوْ أَقَلَّ ضَرَرًا مِنْهُ. [فَصْلٌ كِرَاءٍ الدَّابَّةِ لِلْعَمَلِ] (4272) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ كِرَاءُ الدَّابَّةِ لِلْعَمَلِ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، خُلِقَتْ الدَّابَّةُ لَهَا، فَجَازَ الْكِرَاءُ لَهَا، كَالرُّكُوبِ. وَإِنْ اكْتَرَى بَقَرًا لِلْحَرْثِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَ خُلِقَتْ لِلْحَرْثِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً، أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهَا، فَقَالَتْ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، إنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَحْتَاجُ إلَى شَرْطَيْنِ: مَعْرِفَةِ الْأَرْضِ، وَتَقْدِيرِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا الْأَرْضُ فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ، فَتَكُونُ صُلْبَةً تُتْعِبُ الْبَقَرَ وَالْحَرَّاثَ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا حِجَارَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالسِّكَّةِ، وَتَكُونُ رَخْوَةً سَهْلَةً يَسْهُلُ حَرْثُهَا، وَلَا تَأْتِي الصِّفَةُ عَلَيْهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى رُؤْيَتِهَا. وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعَمَلِ، فَيَجُوزُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ إمَّا بِالْمُدَّةِ، كَيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ، وَإِمَّا الْأَرْضِ، كَهَذِهِ الْقِطْعَةِ، أَوْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إلَى هَذَا الْمَكَانِ، أَوْ بِالْمِسَاحَةِ، كَمَدًى أَوْ مَدَيَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِهِ. فَإِنْ قَدَّرَهُ بِالْمُدَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَقَرِ الَّتِي يَعْمَلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْبَقَرَ مُفْرَدَةً لِيَتَوَلَّى رَبُّ الْأَرْضِ الْحَرْثَ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا مَعَ صَاحِبِهَا لِيَتَوَلَّى الْحَرْثَ بِهَا. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا بِآلَتِهَا مِنْ الْفَدَّانِ وَالنَّيِّرِ، وَاسْتِئْجَارُهَا بِدُونِ آلَتِهَا، وَتَكُونُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 الْآلَةُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ وَغَيْرِهَا لِدِرَاسِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الْحَرْثَ. وَيَجُوزُ عَلَى مُدَّةٍ أَوْ زَرْعٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَوْصُوفٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَرْثِ. وَمَتَى كَانَ عَلَى مُدَّةٍ، اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ قُوَّتَهُ أَوْ ضَعْفَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ مُقَدَّرٍ بِالْمُدَّةِ احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ جِنْسِ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِهِ، فَمِنْهُ مَا رَوْثُهُ طَاهِرٌ، وَمِنْهُ مَا رَوْثُهُ نَجِسٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْحَيَوَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْحَيَوَانَ بِآلَتِهِ، وَبِغَيْرِ آلَتِهِ، مَعَ صَاحِبِهِ، وَمُنْفَرِدًا عَنْهُ. كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَرْثِ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ بَهِيمَةٍ لِإِدَارَةِ الرَّحَى] (4273) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ بَهِيمَةٍ لِإِدَارَةِ الرَّحَى، وَيَفْتَقِرُ إلَى شَيْئَيْنِ؛ مَعْرِفَةِ الْحَجَرِ، إمَّا بِمُشَاهَدَةٍ، وَإِمَّا بِصِفَةٍ تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَتُهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْبَهِيمَةِ يُخْتَلَفُ فِيهِ بِثِقْلِهِ وَخِفَّتِهِ، فَيَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَتَقْدِيرِ الْعَمَلِ، إمَّا بِالزَّمَانِ، فَيَقُولُ: يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ. أَوْ بِالطَّعَامِ فَيَقُولُ: قَفِيزًا أَوْ قَفِيزَيْنِ. وَيَذْكُرُ جِنْسَ الْمَطْحُونِ إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يَسْهُلُ طَحْنُهُ، وَمِنْهُ مَا يَصْعُبُ. وَكَذَلِكَ إنْ اكْتَرَاهَا لِإِدَارَةِ دُولَابٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ، وَمُشَاهَدَةِ دُولَابِهِ، لِاخْتِلَافِهَا، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ بِالزَّمَانِ، أَوْ مَلْءِ هَذَا الْحَوْضِ، أَوْ هَذِهِ الْبِرْكَةِ وَكَذَلِكَ إنْ اكْتَرَاهَا لِلِاسْتِقَاءِ بِالْغَرْبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِكِبَرِهِ وَصِغَرِهِ، وَيُقَدَّرُ بِالزَّمَانِ، أَوْ بِعَدَدِ الْغُرُوبِ، أَوْ بِمَلْءِ بِرْكَةٍ أَوْ حَوْضٍ. وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِسَقْيِ أَرْضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ عَطْشَانَةً لَا يَرْوِيهَا الْقَلِيلُ، وَتَكُونُ قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالْمَاءِ فَيَكْفِيهَا الْقَلِيلُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَجْهُولًا. وَإِنْ قَدَّرَهُ بِسَقْيِ مَاشِيَةٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ شُرْبَهَا يَتَقَارَبُ فِي الْغَالِبِ. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ دَابَّةٍ لِيَسْتَقِيَ عَلَيْهَا مَاءً، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْآلَةِ الَّتِي يَسْتَقِي بِهَا، مِنْ رَاوِيَةٍ، أَوْ قِرَبٍ أَوْ جِرَارٍ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ إمَّا بِالرُّؤْيَةِ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ، وَيُقَدِّرُ الْعَمَلَ إمَّا بِالزَّمَانِ، وَإِمَّا بِعَدَدِ الْمَرَّاتِ، وَإِمَّا بِمَلْءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ الْمَرَّاتِ، احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَقِي مِنْهُ، وَاَلَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَالسُّهُولَةِ وَالْحُزُونَةِ، وَإِنْ قَدَّرَهُ بِمَلْءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَسْتَقِي مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتَرِيَ الْبَهِيمَةَ بِآلَتِهَا وَبِدُونِهَا، مَعَ صَاحِبِهِ وَوَحْدَهَا. وَإِنْ اكْتَرَاهَا لِبَلِّ تُرَابٍ مَعْرُوفٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الظَّهْرِ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. وَإِنْ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى ذَلِكَ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْهُ مَا رَوْثُهُ طَاهِرٌ وَجِسْمُهُ طَاهِرٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، كَالْخَيْلِ وَالْبَقَرِ وَمِنْهُ مَا رَوْثُهُ نَجِسٌ وَيُخْتَلَفُ فِي نَجَاسَةِ جِسْمِهِ، كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَرُبَّمَا نَجِسَ بِهِ الْمُسْتَقِي أَوْ دَلْوُهُ، فَيَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِهِ، فَيَخْتَلِفُ الْغَرَضُ بِذَلِكَ، فَتَجِبُ مَعْرِفَتُهُ. [فَصْلٌ اكْتَرَى حَيَوَانًا لِعَمَلِ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ] (4274) فَصْلٌ: وَإِذَا اكْتَرَى حَيَوَانًا لِعَمَلٍ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ، مِثْلُ أَنْ اكْتَرَى الْبَقَرَ لِلرُّكُوبِ أَوْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا، أَوْ اكْتَرَى الْإِبِلَ وَالْحُمُرَ لِلْحَرْثِ، جَازَ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْحَيَوَانِ، لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا، فَجَازَ، كَاَلَّذِي خُلِقَتْ لَهُ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْمِلْكِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ بِكُلِّ مَا تَصْلُحُ لَهُ الْعَيْنُ الْمَمْلُوكَةُ، وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ مِنْهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ إلَّا بِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ، إمَّا وُرُودُ نَصٍّ بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، أَوْ رُجْحَانِ مَضَرَّتِهِ عَلَى مَنْفَعَتِهِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ يَحْمِلُونَ عَلَى الْبَقَرِ وَيَرْكَبُونَهَا وَفِي بَعْض الْبُلْدَانِ يَحْرُثُونَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَيَكُونُ مَعْنَى خَلْقِهَا لِلْحَرْثِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّ الْخَيْلَ خُلِقَتْ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، وَيُبَاحُ أَكْلُهَا، وَاللُّؤْلُؤُ خُلِقَ لِلْحِلْيَةِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْأَجِير عَلَى ضَرْبَيْنِ خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ] (4275) مَسْأَلَةٌ وَقَالَ: (وَمَا حَدَثَ فِي السِّلْعَةِ مِنْ يَدِ الصَّانِعِ، ضُمِنَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَجِيرَ عَلَى ضَرْبَيْنِ خَاصٌّ، وَمُشْتَرَكٌ، فَالْخَاصُّ: هُوَ الَّذِي يَقَعُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْجِرُ نَفْعَهُ فِي جَمِيعِهَا، كَرَجُلٍ اُسْتُؤْجِرَ لَخِدْمَةٍ، أَوْ عَمَلٍ فِي بِنَاءٍ أَوْ خِيَاطَةٍ، أَوْ رِعَايَةٍ، يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، سُمِّيَ خَاصًّا لِاخْتِصَاصِ الْمُسْتَأْجِرِ بِنَفْعِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ. وَالْمُشْتَرَكُ: الَّذِي يَقَعُ الْعَقْدُ مَعَهُ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وَبِنَاءِ حَائِطٍ، وَحَمْلِ شَيْءٍ إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ فِي مُدَّةٍ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ نَفْعِهِ فِيهَا، كَالْكَحَّالِ، وَالطَّبِيبِ، سُمِّيَ مُشْتَرَكًا لِأَنَّهُ يَتَقَبَّلُ أَعْمَالًا لِاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيَعْمَلُ لَهُمْ، فَيَشْتَرِكُونَ فِي مَنْفَعَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهَا، فَسُمِّيَ مُشْتَرَكًا لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مَنْفَعَتِهِ. فَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الصَّانِعُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ، فَالْحَائِكُ إذَا أَفْسَدَ حِيَاكَتَهُ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَالْقَصَّارُ ضَامِنٌ لِمَا يَتَخَرَّقُ مِنْ دَقِّهِ أَوْ مَدِّهِ أَوْ عَصْرِهِ أَوْ بَسْطِهِ. وَالطَّبَّاخُ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ مِنْ طَبِيخِهِ. وَالْخَبَّازُ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ مِنْ خُبْزِهِ، وَالْحَمَّالُ يَضْمَنُ مَا يَسْقُطُ مِنْ حِمْلِهِ عَنْ رَأْسِهِ، أَوْ تَلِفَ مِنْ عَثْرَتِهِ. وَالْجَمَّالُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِقَوْدِهِ، وَسَوْقِهِ، وَانْقِطَاعِ حَبْلِهِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ حِمْلَهُ وَالْمَلَّاحُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنْ يَدِهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 أَوْ جَذْفِهِ، أَوْ مَا يُعَالِجُ بِهِ السَّفِينَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَشُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَضْمَنُ، مَا لَمْ يَتَعَدَّ. قَالَ الرَّبِيعُ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَبُحْ بِهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَزُفَرَ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ مَقْبُوضَةٌ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَلَمْ تَصِرْ مَضْمُونَةً، كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. وَلَنَا مَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الصَّبَّاغَ وَالصَّوَّاغَ، وَقَالَ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إلَّا ذَلِكَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأُجَرَاءَ، وَيَقُولُ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إلَّا هَذَا. وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا، كَالْعُدْوَانِ بِقَطْعِ عُضْوٍ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ الثَّوْبَ لَوْ تَلِفَ فِي حِرْزِهِ بَعْدَ عَمَلِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ، وَكَانَ ذَهَابُ عَمَلِهِ مِنْ ضَمَانِهِ، بِخِلَافِ الْخَاصِّ، فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، وَمَا عَمِلَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَتَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ، لَمْ يَسْقُطْ أَجْرُهُ بِتَلَفِهِ. [فَصْل الْأَجِير الْمُشْتَرَكَ يَضْمَنُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ] (4276) فَصْلٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، مِثْلُ الْخَبَّازِ يَخْبِزُ فِي تَنُّورِهِ وَمِلْكِهِ، وَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ فِي دُكَّانَيْهِمَا، قَالَ: وَلَوْ دَعَا الرَّجُلُ خَبَّازًا، فَخَبَزَ لَهُ فِي دَارِهِ، أَوْ خَيَّاطًا أَوْ قَصَّارًا لِيَقْصِرَ وَيَخِيطَ عِنْدَهُ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَتْلَفَ، مَا لَمْ يُفَرِّطْ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَفْسَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَيَصِيرُ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَعَ الْمَلَّاحِ فِي السَّفِينَةِ، أَوْ رَاكِبًا عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ حِمْلِهِ، فَعَطِبَ الْحِمْلُ، لَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي؛ لِأَنَّ يَدَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ لَمْ تَزُلْ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَتَاعِ وَالْجَمَّالُ رَاكِبَيْنِ عَلَى الْحِمْلِ، فَتَلِفَ حِمْلُهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ الْجَمَّالُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَتَاعِ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ نَحْوُ هَذَا. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَوْ كَانَ الْعَمَلُ فِي دُكَّانِ الْأَجِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ حَاضِرٌ، أَوْ اكْتَرَاهُ لِيَعْمَلَ لَهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَعَهُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، وَيَجِبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَكُلَّمَا عَمِلَ شَيْئًا صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ مِلْكِ مُسْتَأْجِرِهِ، أَوْ كَانَ صَاحِبُ الْعَمَلِ حَاضِرًا عِنْدَهُ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ، أَوْ كَوْنِهِ مَعَ الْمَلَّاحِ أَوْ الْجَمَّالِ أَوْ لَا وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمَلَّاحِ بِجَذْفِهِ، أَوْ بِجِنَايَةِ الْمُكَارِي بِشَدِّهِ الْمَتَاعَ، وَنَحْوِهِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَعَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِجِنَايَةِ يَدِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُضُورِ الْمَالِكِ وَغَيْبَتِهِ، كَالْعُدْوَانِ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الْجَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ، إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ رَاكِبًا مَعَهُ، يَعُمُّ الْمَتَاعَ وَصَاحِبَهُ، وَتَفْرِيطَهُ يَعُمُّهُمَا، فَلَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ الضَّمَانَ، كَمَا لَوْ رَمَى إنْسَانًا مُتَتَرِّسًا، فَكَسَرَ تُرْسَهُ وَقَتَلَهُ، وَلِأَنَّ الطَّبِيبَ وَالْخَتَّانَ إذَا جَنَتْ يَدَاهُمَا ضَمِنَا مَعَ حُضُورِ الْمُطَبَّبِ وَالْمَخْتُونِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمَّالٌ يَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهِ وَرَبُّ الْمَتَاعِ مَعَهُ، فَعَثَرَ، فَسَقَطَ الْمَتَاعُ، فَتَلِفَ، ضَمِنَ، وَإِنْ سُرِقَ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعِثَارِ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ، وَالسَّرِقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَلَفَهُ بِجِنَايَتِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ حَضَرَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ غَابَ، بَلْ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْضِعِ مَقْصُودٌ لِفَاعِلِهِ، وَالسَّقْطَةُ مِنْ الْحَمَّالِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ، فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ هَاهُنَا، فَثَمَّ أَوْلَى. [فَصْلٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى حَمْلِهِ عَبِيدًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا] (4277) فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى حَمْلِهِ عَبِيدًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَارِي فِيمَا تَلِفَ مِنْ سَوْقِهِ وَقَوْدِهِ، إذْ لَا يَضْمَنُ بَنِي آدَمَ مِنْ جِهَةِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَالْأَوْلَى وُجُوبُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هَاهُنَا مِنْ جِهَةِ الْجِنَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ بَنِي آدَمَ وَغَيْرَهُمْ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَنْتَقِضُ بِجِنَايَةِ الطَّبِيبِ وَالْخَتَّانِ. [فَصْلٌ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ] (4278) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ فَهُوَ الَّذِي يُسْتَأْجَرُ مُدَّةً، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَتَعَدَّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي رَجُلٍ أَمَرَ غُلَامَهُ يَكِيلُ لِرَجُلٍ بِزْرًا، فَسَقَطَ الرِّطْلُ مِنْ يَدِهِ، فَانْكَسَرَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَقِيلَ: أَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَّارِ؟ قَالَ: لَا، الْقَصَّارُ مُشْتَرَكٌ. قِيلَ: فَرَجُلٌ اكْتَرَى رَجُلًا يَسْتَقِي مَاءً، فَكَسَرَ الْجَرَّةَ؟ فَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اكْتَرَى رَجُلًا يَحْرُثُ لَهُ عَلَى بَقَرَةٍ، فَكَسَرَ الَّذِي يَحْرُثُ بِهِ قَالَ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأُجَرَاءِ يَضْمَنُونَ. وَرَوَى فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأُجَرَاءَ، وَيَقُولُ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إلَّا هَذَا. وَلَنَا أَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَالْقِصَاصِ وَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ. وَخَبَرُ عَلِيٍّ مُرْسَلٌ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الصَّبَّاغَ وَالصَّوَّاغَ ، وَإِنْ رُوِيَ مُطْلَقًا، حُمِلَ عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ نَائِبٌ عَنْ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ. فَأَمَّا مَا يَتْلَفُ بِتَعَدِّيهِ، فَيَجِبُ ضَمَانُهُ، مِثْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 الْخَبَّازِ الَّذِي يُسْرِفُ فِي الْوَقُودِ، أَوْ يَلْزَقُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، أَوْ يَتْرُكُهُ بَعْدَ وَقْتِهِ حَتَّى يَحْتَرِقَ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ، فَضَمِنَهُ، كَغَيْرِ الْأَجِيرِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَجِيرًا خَاصًّا] (4279) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَجِيرًا خَاصًّا، كَالْخَيَّاطِ فِي دُكَّانٍ يَسْتَأْجِرُ أَجِيرًا مُدَّةً، يَسْتَعْمِلُهُ فِيهَا، فَتَقَبَّلَ صَاحِبُ الدُّكَّانِ خِيَاطَةَ ثَوْبٍ، وَدَفَعَهُ إلَى أَجِيرِهِ، فَخَرَقَهُ أَوْ أَفْسَدَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ خَاصٌّ، وَيَضْمَنُهُ صَاحِبُ الدُّكَّانِ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ. [فَصْلٌ أَتْلَفَ الصَّانِعُ الثَّوْبَ بَعْدَ عَمَلِهِ] (4280) فَصْلٌ: إذَا أَتْلَفَ الصَّانِعُ الثَّوْبَ بَعْدَ عَمَلِهِ، فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِهِ إيَّاهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَبَيْنَ تَضْمِينِهِ إيَّاهُ مَعْمُولًا وَيَدْفَعُ إلَيْهِ أَجْرَهُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ، فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِهِ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَبَيْنَ تَضْمِينِهِ إيَّاهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَفْسَدَهُ وَيُعْطِيه الْأَجْرَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحَبَّ تَضْمِينَهُ مَعْمُولًا، أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَفْسَدَهُ فِيهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَمَلَكَ الْمُطَالَبَةَ بِعِوَضِهِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَحَبَّ تَضْمِينَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلِأَنَّ أَجْرَ الْعَمَلِ لَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، وَمَا سُلِّمَ إلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ. [فَصْل دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا فَقَالَ انْسِجْهُ لِي عَشْرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعٍ فَنَسَجَهُ زَائِدًا عَلَى مَا قَدَّرَ لَهُ] (4281) فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا، فَقَالَ: انْسِجْهُ لِي عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعٍ. فَنَسَجَهُ زَائِدًا عَلَى مَا قَدَّرَ لَهُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِ الْغَزْلِ الْمَنْسُوجِ فِيهَا، فَأَمَّا مَا عَدَا الزَّائِدَ فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ جَاءَ بِهِ زَائِدًا فِي الطُّولِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَنْقُصْ الْأَصْلُ بِالزِّيَادَةِ فَلَهُ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْأَجْرِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ لَهُ مِائَةَ لَبِنَةٍ، فَضَرَبَ لَهُ مِائَتَيْنِ، إنْ جَاءَ بِهِ زَائِدًا فِي الْعَرْضِ وَحْدَهُ، أَوْ فِيهِمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى بِنَاءِ حَائِطٍ عَرْضَ ذِرَاعٍ، فَبَنَاهُ عَرْضَ ذِرَاعَيْنِ وَالثَّانِي لَهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ زِيَادَةَ الطُّولِ. وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَرَّقَ بَيْنَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، بِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَطْعُ الزَّائِدِ فِي الطُّولِ، وَيَبْقَى الثَّوْبُ عَلَى مَا أَرَادَ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَرْضِ. وَأَمَّا إنْ جَاءَ بِهِ نَاقِصًا فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا أَجْرَ لَهُ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِ الْغَزْلِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى بِنَاءِ حَائِطٍ عَرْضَ ذِرَاعٍ، فَبَنَاهُ عَرْضَ نِصْفِ ذِرَاعٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وَالثَّانِي لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمُسَمَّى، كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى ضَرْبِ لَبِنٍ فَضَرَبَ بَعْضَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنْ جَاءَ بِهِ نَاقِصًا فِي الْعَرْضِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فِي الطُّولِ، فَلَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ. وَإِنْ جَاءَ بِهِ زَائِدًا فِي أَحَدِهِمَا، نَاقِصًا فِي الْآخَرِ، فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الزَّائِدِ، وَهُوَ فِي النَّاقِصِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: يُخَيَّرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بَيْنَ دَفْعِ الثَّوْبِ إلَى النَّسَّاجِ وَمُطَالَبَتِهِ بِثَمَنِ غَزْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ الْمُسَمَّى فِي الزَّائِدِ، أَوْ بِحِصَّةِ الْمَنْسُوجِ فِي النَّاقِصِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ، لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِالطَّوِيلِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِالْقَصِيرِ، وَيُنْتَفَعُ بِالْقَصِيرِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِالطَّوِيلِ، فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ غَزْلَهُ وَلَنَا أَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، كَمَا لَوْ جَاءَ بِهِ زَائِدًا فِي الطُّولِ وَحْدَهُ. فَأَمَّا إنْ أَثَّرَتْ الزِّيَادَةُ أَوْ النَّقْصُ فِي الْأَصْلِ، مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِنَسْجِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ لِيَكُونَ الثَّوْبُ خَفِيفًا، فَنَسَجَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَصَارَ صَفِيقًا، أَوْ أَمَرَهُ بِنَسْجِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ لِيَكُونَ صَفِيقًا، فَنَسَجَهُ عَشَرَةً، فَصَارَ خَفِيفًا، فَلَا أَجْرَ لَهُ بِحَالٍ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِ الْغَزْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِمَّا أُمِرَ بِهِ. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ إنْ كَانَ يُقْطَعُ قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ فَقَالَ هُوَ يُقْطَعُ وَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِ] (4282) فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا، فَقَالَ: إنْ كَانَ يُقْطَعُ قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ. فَقَالَ: هُوَ يُقْطَعُ. وَقَطَعَهُ، فَلَمْ يَكْفِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَإِنْ قَالَ: اُنْظُرْ هَذَا يَكْفِينِي قَمِيصًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اقْطَعْهُ. فَقَطَعَهُ، فَلَمْ يَكْفِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَرَّهُ فِي الْأُولَى، لَكَانَ قَدْ غَرَّهُ فِي الثَّانِيَةِ وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْأُولَى بِشَرْطِ كِفَايَتِهِ، فَقَطَعَهُ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَذِنَ لَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَافْتَرَقَا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الْأُولَى لِتَغْرِيرِهِ، بَلْ لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِي قَطْعِهِ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ كِفَايَتِهِ، فَلَا يَكُونُ إذْنًا فِي غَيْرِ مَا وُجِدَ فِيهِ الشَّرْطُ، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ. [فَصْلٌ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصَ رَجُلٍ فَقَطَعَهُ قَمِيصَ امْرَأَةٍ] (4283) فَصْلٌ: فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصَ رَجُلٍ، فَقَطَعَهُ قَمِيصَ امْرَأَةٍ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا؛ لِأَنَّ هَذَا قَطْعٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ. وَقِيلَ: يَغْرَمُ مَا بَيْنَ قَمِيصِ امْرَأَةٍ وَقَمِيصِ رَجُلٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي قَمِيصٍ فِي الْجُمْلَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ قَمِيصٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ، فَإِذَا قَطَعَ قَمِيصًا غَيْرَهُ، لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِمَا أُذِنَ فِيهِ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا بِابْتِدَاءِ الْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْقَطْعِ أَجْرًا، وَلَوْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، لَاسْتَحَقَّ أَجْرَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 (4284) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: أَذِنْت لِي فِي قَطْعِهِ قَمِيصَ امْرَأَةٍ. وَقَالَ: بَلْ أَذِنْت لَك فِي قَطْعِهِ قَمِيصَ رَجُلٍ. أَوْ قَالَ: أَذِنْت لِي فِي قَطْعِهِ قَمِيصًا. قَالَ: بَلْ قَبَاءً. أَوْ قَالَ الصَّبَّاغُ: أَمَرْتنِي بِصَبْغِهِ أَحْمَرَ. قَالَ: بَلْ أَسْوَدَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، كَالْمُتَبَايِعِينَ يَخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ إذْنِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيه. وَلَنَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَأْذُونِ لَهُ، كَالْمُضَارِبِ إذَا قَالَ: أَذِنْت لِي فِي الْبَيْعِ نَسَاءً. وَلِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى مِلْكِ الْخَيَّاطِ الْقَطْعَ، وَالصَّبَّاغِ الصَّبْغَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا مَلَكَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي لُزُومِ الْغُرْمِ لَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْخَيَّاطُ وَالصَّبَّاغُ بِاَللَّهِ لَقَدْ أَذِنْت لِي فِي قَطْعِهِ قَبَاءً، وَصَبْغِهِ أَحْمَرَ. وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْغُرْمُ، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُجُودُ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِعِوَضٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى ثَبَتَ بِقَوْلِهِ وَدَعْوَاهُ، فَلَا يَحْنَثُ بِيَمِينِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَأَمَّا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يَعْتَرِفُ رَبُّ الثَّوْبِ بِتَسْمِيَتِهِ أَجْرًا، وَقَطْعِهِ قَمِيصًا، وَصَبْغِهِ أَسْوَدِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ. فَإِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ: مَا أَذِنْت فِي قَطْعِهِ قَبَاءً، وَلَا صَبْغِهِ أَحْمَرَ. وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْمُسَمَّى. وَلَا يَجِبُ لِلْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا غَيْرَ مَا أَذِنَ لَهُمَا فِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَلْبَسُ الْأَقْبِيَةَ وَالسَّوَادَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَعَلَى الصَّانِعِ غُرْمُ مَا نَقَصَ بِالْقَطْعِ، وَضَمَانُ مَا أَفْسَدَ، وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِ رَبِّ الثَّوْبِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، فَتَتَرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِهِمَا، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي حَائِطٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عِقْدٌ أَوْ أَزَجٌ، رَجَّحْنَا دَعْوَاهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، رَجَّحْنَا دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ. وَلَوْ اخْتَلَفَ صَانِعَانِ فِي الْآلَةِ الَّتِي فِي دُكَّانِهِمَا، رَجَّحْنَا قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي آلَةِ صِنَاعَتِهِ. فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ رَبُّ الثَّوْبِ: مَا أَذِنْت لَك فِي قَطْعِهِ قَبَاءً وَيَكْفِي هَذَا لِأَنَّهُ يَنْتَفِي بِهِ الْإِذْنُ، فَيَصِيرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 قَاطِعًا لِغَيْرِ مَا أُذِنَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ الْقَبَاءُ مَخِيطًا بِخُيُوطٍ لِمَالِكِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْخَيَّاطُ فَتْقَهُ، وَكَانَ لِمَالِكِهِ أَخْذُهُ مَخِيطًا بِلَا عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عَمَلًا مُجَرَّدًا عَنْ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إزَالَتُهُ، كَمَا لَوْ نَقَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إذَا رَضِيَ صَاحِبُهُ بِتَرْكِهِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْخُيُوطُ لِلْخَيَّاطِ، فَلَهُ نَزْعُهَا؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَلَا يَتْلَفُ بِأَخْذِهَا مَا لَهُ حُرْمَةٌ. فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: أَنَا أَشُدُّ فِي كُلِّ خَيْطٍ خَيْطًا. حَتَّى إذَا سَلَّهُ عَادَ خَيْطُ رَبِّ الثَّوْبِ فِي مَكَانِهِ، لَمْ يَلْزَمْ الْخَيَّاطَ الْإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِهِ. وَحُكْمُ الصَّبَّاغِ فِي قَلْعِ الصَّبْغِ إنْ أَحَبَّهُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ حُكْمُ صَبْغِ الْغَاصِبِ عَلَى مَا مَضَى فِي بَابِهِ. وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي دَلِيلِهِمْ. [فَصْلٌ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ فِي عَيْنٍ] (4285) فَصْلٌ: وَكُلُّ مِنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ فِي عَيْنٍ، فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يُوقِعَهُ وَهِيَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ، كَالصَّبَّاغِ يَصْبُغُ فِي حَانُوتِهِ، وَالْخَيَّاطِ فِي دُكَّانِهِ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ حَتَّى يُسَلِّمَهُ مَفْرُوغًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى الْعَاقِدِ، كَالْمَبِيعِ مِنْ الطَّعَامِ، لَا يَبْرَأُ مِنْهُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا إنْ كَانَ يُوقِعُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ، مِثْلُ أَنْ يُحْضِرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ إلَى دَارِهِ لِيَخِيطَ فِيهَا، أَوْ يَصْبُغَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الْعَمَلِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَيَصِيرُ مُسَلِّمًا لِلْعَمَلِ حَالًا فَحَالًا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَبْنِي لَهُ حَائِطًا فِي دَارِهِ، أَوْ يَحْفِرُ فِيهَا بِئْرًا، لَبَرِئَ مِنْ الْعَمَلِ، وَاسْتَحَقَّ أَجْرَهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْبِئْرُ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوْ الْحَائِطُ، لَمْ يَبْرَأْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ. وَلَوْ انْهَارَتْ عَقِيبَ الْحَفْرِ، أَوْ الْحَائِطُ بَعْدَ بِنَائِهِ وَقَبْلَ تَسْلِيمِهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْعَمَلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: اسْتَعْمِلْ أَلْفَ لَبِنَةٍ فِي كَذَا وَكَذَا. فَعَمِلَ، ثُمَّ سَقَطَ، فَلَهُ الْكِرَاءُ وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ فَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، سَوَاءٌ تَلِفَ مَا عَمِلَهُ أَوْ لَمْ يَتْلَفْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إذَا اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا، فَعَمِلَ، وَسَقَطَ عِنْدَ اللَّيْلِ مَا عَمِلَ، فَلَهُ الْكِرَاءُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ، وَعَمَلُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا طُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَبَنَى بَعْضَهُ، فَسَقَطَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا حَتَّى يُتَمِّمَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مَشْرُوطٌ بِإِتْمَامِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قِيلَ لَهُ: ارْفَعْ حَائِطًا كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا. فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ، فَإِنْ سَقَطَ، فَعَلَيْهِ التَّمَامُ. وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا عُمْقُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَحَفَرَ مِنْهَا خَمْسَةً، وَانْهَارَ فِيهَا تُرَابٌ مِنْ جَوَانِبِهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا حَتَّى يُتَمِّمَ حَفْرَهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 [مَسْأَلَة الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا تَلْفِت الْعَيْنُ مِنْ حِرْزِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ] (4286) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ حِرْزٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا عَمِلَ فِيهَا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا تَلْفِت الْعَيْنُ مِنْ حِرْزِهِ، مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا تَفْرِيطٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا يَضْمَنُ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، إنْ كَانَ هَلَاكُهُ بِمَا اسْتَطَاعَ، ضَمِنَهُ، وَإِنْ كَانَ غَرَقًا أَوْ عَدُوًّا غَالِبًا، فَلَا ضَمَانَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا جَنَتْ يَدُهُ، أَوْ ضَاعَ مِنْ بَيْنِ مَتَاعِهِ، ضَمِنَهُ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا أَوْ غَرَقًا، فَلَا ضَمَانَ وَنَحْوُ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إذَا تَلِفَ مِنْ بَيْنِ مَتَاعِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي الْوَدِيعَةِ، فِي رِوَايَةٍ: إنَّهَا تُضْمَنُ إذَا ذَهَبَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ التَّضْمِينَ بِمَا إذَا تَلِفَ مِنْ بَيْنِ مَتَاعِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا تَلِفَ مَعَ مَتَاعِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ غَالِبٍ وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَضْمَنُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . وَلِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَالْمُسْتَعِيرِ. وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ مَقْبُوضَةٌ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، لَمْ يُتْلِفْهَا بِفِعْلِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا لِنَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِمَا، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَكَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ غَالِبٍ. وَيُخَالِفُ الْعَارِيَّةُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِنَفْعِهَا. وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ، فَيَخُصُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا عَمِلَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ عَمَلَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضَهُ، كَالْمَبِيعِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ. [فَصْل حَبَسَ الصَّانِعُ الثَّوْبَ بَعْدَ عَمَلِهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْأَجْرِ فَتَلِفَ] (4287) فَصْلٌ: وَإِذَا حَبَسَ الصَّانِعُ الثَّوْبَ بَعْدَ عَمَلِهِ، عَلَى اسْتِيفَاءِ الْأَجْرِ، فَتَلِفَ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْهَنْهُ عِنْدَهُ، وَلَا أَذِنَ لَهُ فِي إمْسَاكِهِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَالْغَاصِبِ. [فَصْل أَخْطَأَ الْقَصَّارُ فَدَفَعَ الثَّوْبَ إلَى غَيْرِ مَالِكِهِ] فَصْلٌ: إذَا أَخْطَأَ الْقَصَّارُ، فَدَفَعَ الثَّوْبَ إلَى غَيْرِ مَالِكِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَى مَالِكِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَغْرَمُ الْقَصَّارُ، وَلَا يَسَعُ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ لُبْسُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ ثَوْبَهُ، وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى الْقَصَّارِ، وَيُطَالِبُهُ بِثَوْبِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 فَإِنْ لَمْ يَعْلَم الْقَابِضُ حَتَّى قَطَعَهُ وَلَبِسَهُ، ثُمَّ عَلِمَ، رَدَّهُ مَقْطُوعًا، وَضَمِنَ أَرْشَ الْقَطْعِ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِثَوْبِهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا. وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَ الْقَصَّارِ، فَهَلْ يَضْمَنُهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ طَلَبِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ لِمَرَضٍ. [فَصْلٌ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ] (4289) فَصْلٌ: وَالْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَضْمَنْهَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الَّذِينَ يُكْرُونَ الْمُظِلَّ أَوْ الْخَيْمَةَ إلَى مَكَّةَ، فَيَذْهَبُ مِنْ الْمُكْتَرِي بِسُرُقٍ أَوْ بِذَهَابٍ، هَلْ يَضْمَنُ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَضْمَنَ، وَكَيْفَ يَضْمَنُ؟ إذَا ذَهَبَ لَا يَضْمَنُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهَا، فَكَانَتْ أَمَانَةً، كَمَا لَوْ قَبَضَ الْعَبْدَ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ سَنَةً، أَوْ قَبَضَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ الْأَمَةَ وَيُخَالِفُ الْعَارِيَّةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَتَهَا، وَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، فَعَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الرَّدُّ. أَوْمَأَ إلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، فَقِيلَ لَهُ: إذَا اكْتَرَى دَابَّةً، أَوْ اسْتَعَارَ، أَوْ اسْتَوْدَعَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: مَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذَهُ. فَأَوْجَبَ الرَّدَّ فِي الْعَارِيَّةُ، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْإِجَارَةِ الْوَدِيعَةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ، فَلَا يَقْتَضِي رَدَّهُ وَمُؤْنَتَهُ، كَالْوَدِيعَةِ. وَفَارَقَ الْعَارِيَّةُ؛ فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَجِبُ، فَكَذَلِكَ رَدُّهَا. وَعَلَى هَذَا مَتَى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، كَالْوَدِيعَةِ، إنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي إمْسَاكِهَا، أَشْبَهَ الْعَارِيَّةُ الْمُؤَقَّتَةَ بَعْدَ وَقْتِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا أَمَانَةٌ أَشْبَهَتْ الْوَدِيعَةَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ ضَمَانُهَا لَوَجَبَ رَدُّهَا. وَأَمَّا الْعَارِيَّةُ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، مَتَى طَلَبَهَا صَاحِبُهَا وَجَبَ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، صَارَتْ مَضْمُونَةً، كَالْمَغْصُوبَةِ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْمُؤْجِرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ] (4290) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ الْمُؤْجِرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَهَلْ تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَة فِي الْبَيْعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 قَالَ أَحْمَدُ، فِيمَا إذَا شَرَطَ ضَمَانَ الْعَيْنِ: الْكِرَاءُ وَالضَّمَانُ مَكْرُوهٌ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْكِرَاءُ بِالضَّمَانِ. وَعَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَا نَكْتَرِي بِضَمَانٍ، إلَّا أَنَّهُ مَنْ شَرَطَ عَلَى كَرِيٍّ أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ مَتَاعَهُ بَطْنَ وَادٍ، أَوْ لَا يَسِيرُ بِهِ لَيْلًا، مَعَ أَشْبَاهِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، فَتَعَدَّى ذَلِكَ، فَتَلِفَ شَيْءٌ مِمَّا حَمَلَ فِي ذَلِكَ التَّعَدِّي، فَهُوَ ضَامِنٌ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الضَّمَانِ فِيهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ لَا يُصَيِّرُهُ الشَّرْطُ مَضْمُونًا، وَمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ لَا يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِ نَفْيِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَوُجُوبِهِ بِشَرْطِهِ؛ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . فَأَمَّا إنْ أَكْرَاهُ عَيْنًا، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسِيرَ بِهَا فِي اللَّيْلِ، أَوْ وَقْتَ الْقَائِلَةِ، أَوْ لَا يَتَأَخَّرَ بِهَا عَنْ الْقَافِلَةِ. أَوْ لَا يَجْعَلَ سَيْرَهُ فِي آخِرِهَا، أَوْ لَا يَسْلُكَ بِهَا الطَّرِيقَ الْفُلَانِيَّةَ، وَأَشْبَاهَ هَذَا مِمَّا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ مُخَالِفٌ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لِشَرْطِ كَرْيِهِ، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْمِلَ عَلَيْهَا إلَّا قَفِيزًا، فَحَمَلَ اثْنَيْنِ. [فَصْلٌ الْعَيْنُ إذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَعَدٍّ لَا تَضَمُّنُ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً] (4291) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةِ فَاسِدَةً، لَمْ يَضْمَنْ الْعَيْنَ أَيْضًا إذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ صَحِيحُهُ، فَلَا يَقْتَضِيه فَاسِدُهُ، كَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَحُكْمُ كُلِّ عَقْدٍ فَاسِدٍ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، حُكْمُ صَحِيحِهِ، فَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي صَحِيحِهِ وَجَبَ فِي فَاسِدِهِ، وَمَا لَمْ يَجِبْ فِي صَحِيحِهِ لَمْ يَجِبْ فِي فَاسِدِهِ. [فَصْلٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ ضَرْبُ الدَّابَّةِ] (4292) فَصْلٌ: وَلِلْمُسْتَأْجِرِ ضَرْبُ الدَّابَّةِ بِقَدْرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَيَكْبَحُهَا بِاللِّجَامِ لِلِاسْتِصْلَاحِ، وَيَحُثُّهَا عَلَى السَّيْرِ لِيَلْحَقَ الْقَافِلَةَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَخَسَ بَعِيرَ جَابِرٍ، وَضَرَبَهُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْرِشُ بَعِيرَهُ بِمِحْجَنِهِ. وَلِلرَّائِضِ ضَرْبُ الدَّابَّةِ لِلتَّأْدِيبِ، وَتَرْتِيبِ الْمَشْيِ، وَالْعَدْوِ، وَالسَّيْرِ. وَلِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصِّبْيَانِ لِلتَّأْدِيبِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ قَالَ: عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَتَوَقَّى بِجُهْدِهِ الضَّرْبَ، وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبْهُ. وَمَنْ ضَرَبَ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ الضَّرْبَ الْمَأْذُونَ فِيهِ، لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ. وَبِهَذَا فِي الدَّابَّةِ، قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ، فَضَمِنَهُ، كَغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُعَلِّمِ يَضْرِبُ الصَّبِيَّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَأَدَّبِيهِ بِغَيْرِ الضَّرْبِ وَلَنَا أَنَّهُ تَلِفَ مِنْ فِعْلٍ مُسْتَحَقٍّ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ تَلِفَ تَحْتَ الْحِمْلِ، وَلِأَنَّ الضَّرْبَ مَعْنًى تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، فَإِذَا تَلِفَ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ، كَالرُّكُوبِ. وَفَارَقَ غَيْرَ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: يُمْكِنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 التَّأْدِيبُ بِغَيْرِ الضَّرْبِ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ خِلَافُهُ، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّأْدِيبُ بِدُونِ الضَّرْبِ، لَمَا جَازَ الضَّرْبُ، إذْ فِيهِ ضَرَرٌ وَإِيلَامٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. وَإِنْ أَسْرَفَ فِي هَذَا كُلِّهِ، أَوْ زَادَ عَلَى مَا يَحْصُلُ الْغِنَى بِهِ، أَوْ ضَرَبَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنْ الصِّبْيَانِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ حَصَلَ التَّلَفُ بِعُدْوَانِهِ. [مَسْأَلَة لَا ضَمَانَ عَلَى حَجَّامٍ وَلَا خَتَّانٍ وَلَا مُتَطَبِّبٍ] (4293) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى حَجَّامٍ، وَلَا خَتَّانٍ، وَلَا مُتَطَبِّبٍ، إذَا عُرِفَ مِنْهُمْ حِذْقُ الصَّنْعَةِ، وَلَمْ تَجْنِ أَيْدِيهمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، لَمْ يَضْمَنُوا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ، وَلَهُمْ بِهَا بِصَارَةٌ وَمَعْرِفَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، وَإِذَا قَطَعَ مَعَ هَذَا كَانَ فِعْلًا مُحَرَّمًا، فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ، كَالْقَطْعِ ابْتِدَاءً. الثَّانِي أَنْ لَا تَجْنِيَ أَيْدِيهِمْ، فَيَتَجَاوَزُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ فَإِذَا وُجِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ. لَمْ يَضْمَنُوا؛ لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا قَطْعًا مَأْذُونًا فِيهِ، فَلَمْ يَضْمَنُوا؛ سِرَايَتَهُ، كَقَطْعِ الْإِمَامِ يَدَ السَّارِقِ، أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مُبَاحًا مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ، أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ حَاذِقًا وَجَنَتْ يَدُهُ، مِثْلُ أَنْ تَجَاوَزَ قَطْعَ الْخِتَانِ إلَى الْحَشَفَةِ، أَوْ إلَى بَعْضِهَا، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، أَوْ يَقْطَعُ الطَّبِيبُ سِلْعَةً مِنْ إنْسَانٍ، فَيَتَجَاوَزُهَا، أَوْ يَقْطَعُ بِآلَةٍ كَالَّةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، ضَمِنَ فِيهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لَا يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ إتْلَافَ الْمَالِ، وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ، كَالْقَطْعِ ابْتِدَاءً وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي النِّزَاعِ، وَالْقَاطِعِ فِي الْقِصَاصِ، وَقَاطِعِ يَدِ السَّارِقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ خَتَنَ صَبِيًّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ أَوْ قَطَعَ سِلْعَةً مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (4294) فَصْلٌ: وَإِنْ خَتَنَ صَبِيًّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ قَطَعَ سِلْعَةً مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ مِنْ صَبِيٍّ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، فَسَرَتْ جِنَايَتُهُ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ، أَوْ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ فَعَلَهُ مَنْ أَذِنَا لَهُ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا. [فَصْلٌ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْخِتَانِ وَالْمُدَاوَاةِ وَقَطْعِ السِّلْعَةِ] (4295) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْخِتَانِ، وَالْمُدَاوَاةِ، وَقَطْعِ السِّلْعَةِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ حَجَّامًا لِيُحَجِّمهُ] (4296) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ حَجَّامًا لِيَحْجُمَهُ، وَأَجْرُهُ مُبَاحٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 قَالَ: أَنَا آكُلُهُ. وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَرَبِيعَةُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُبَاحُ أَجْرُ الْحَجَّامِ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَقَالَ: وَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ، فَلَهُ أَخْذُهُ، وَيَصْرِفُهُ فِي عَلْفِ دَوَابِّهِ، وَطُعْمَةِ عَبِيدِهِ، وَمُؤْنَةِ صِنَاعَتِهِ، وَلَا يَحِلُّ، لَهُ أَكْلُهُ. وَمِمَّنْ كَرِهَ كَسْبَ الْحَجَّامِ عُثْمَانُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: أَطْعِمْهُ نَاضِحَك وَرَقِيقَك ". وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَهُ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: لَوْ عَلِمَهُ خَبِيثًا لَمْ يُعْطِهِ وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا، كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهَا، وَلَا نَجِدُ كُلَّ أَحَدٍ مُتَبَرِّعًا بِهَا، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا، كَالرَّضَاعِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ: أَطْعِمْهُ رَقِيقَك. دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ كَسْبِهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُطْعِمَ رَقِيقَهُ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، فَإِنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيُّونَ، يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَسْمِيَتُهُ كَسْبًا خَبِيثًا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ، فَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثُّومَ وَالْبَصَلَ خَبِيثَيْنِ، مَعَ إبَاحَتِهِمَا وَإِنَّمَا كَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْحُرِّ تَنْزِيهًا لَهُ؛ لِدَنَاءَةِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ. وَلَيْسَ عَنْ أَحْمَدَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَلَا الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: نَحْنُ نُعْطِيه كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَكْلِهِ نَهَاهُ، وَقَالَ: " اعْلِفْهُ النَّاضِحَ وَالرَّقِيقَ ". وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِهِ، بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّ إعْطَاءَهُ لِلْحَجَّامِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَتِهِ إذْ لَا يُعْطِيه مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُعَلِّمُ النَّاسَ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ، فَكَيْفَ يُعْطِيهِمْ إيَّاهَا، وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْهَا، وَأَمْرُهُ بِإِطْعَامِ الرَّقِيقِ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ نَهْيِهِ عَنْ أَكْلِهَا عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ سَائِرُ مِنْ كَرِهَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَائِلٌ بِالتَّحْرِيمِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْحُرِّ أَكْلُ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَيُكْرَهُ تَعَلُّمُ صِنَاعَةِ الْحِجَامَةِ، وَإِجَارَةُ نَفْسِهِ لَهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ فِيهَا دَنَاءَةً، فَكُرِهَ الدُّخُولُ فِيهَا، كَالْكَسْحِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 ذَكَرْنَا عَنْهُمْ كَرَاهَتَهَا، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ الْحَجَّامِ لِغَيْرِ الْحِجَامَةِ] (4297) فَصْلٌ: فَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الْحَجَّامِ لِغَيْرِ الْحِجَامَةِ، كَالْفَصْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْصِيرِهِ، وَالْخِتَانِ، وَقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ الْجَسَدِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» . يَعْنِي بِالْحِجَامَةِ، كَمَا نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، أَيْ فِي الْبِغَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَبَ بِصِنَاعَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَكُنْ خَبِيثًا بِغَيْرِ خِلَافٍ وَهَذَا النَّهْيُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا، وَلَا تَحْرِيمَ فِيهَا، فَجَازَتْ الْإِجَارَةُ فِيهَا، وَأَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ] (4298) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ جَائِزٌ، وَيُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَيُقَدَّرُ بِهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ قَدْرِ مَا يُكَحِّلهُ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ قَدَّرَهَا بِالْبُرْءِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا بَأْسَ بِمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حِينَ رَقَى الرَّجُلَ، شَارَطَهُ عَلَى الْبُرْءِ وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا يَجُوزُ، لَكِنْ يَكُونُ جَعَالَةً لَا إجَارَةً، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُدَّةٍ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْجَعَالَةُ، فَتَجُوزُ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، كَرَدِّ اللُّقَطَةِ وَالْآبِقِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الرُّقْيَةِ إنَّمَا كَانَ جَعَالَةً، فَيَجُوزُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْكُحْلَ إنْ كَانَ مِنْ الْعَلِيلِ جَازَ؛ لِأَنَّ آلَاتِ الْعَمَلِ تَكُونُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ، كَاللَّبِنِ فِي الْبِنَاءِ وَالطِّينِ وَالْآجُرِّ وَنَحْوهَا. وَإِنْ شَارَطَهُ عَلَى الْكُحْلِ، جَازَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، كَلَبِنِ الْحَائِطِ وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، وَيَشُقُّ عَلَى الْعَلِيلِ تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَجَازَ ذَلِكَ، كَالصِّبْغِ مِنْ الصَّبَّاغِ، وَاللَّبَنِ فِي الرَّضَاعِ، وَالْحِبْرِ وَالْأَقْلَامِ مِنْ الْوَرَّاقِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ. وَفَارَقَ لَبِنَ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَحْصِيلُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ، وَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا وَالْآجُرُّ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا تَتِمُّ بِهِ الصَّنْعَةُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ مُبَاحًا مَعْرُوفًا، جَازَ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَصْبُغ ثَوْبًا، وَالصِّبْغُ مِنْ عِنْدِهِ وَلَنَا أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ بَيْعَ الْعَيْنِ، صَارَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَيُفَارِقُ الصِّبْغَ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصُّورَةِ الَّتِي جَازَ فِيهَا ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الصِّبْغِ يَشُقُّ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 صَاحِبِ الثَّوْبِ، وَقَدْ يَكُونُ الصِّبْغُ لَا يَحْصُلُ إلَّا فِي حَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي صَبْغِ هَذَا الثَّوْبِ، فَجَازَ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً فَكُحْله فِيهَا فَلَمْ تَبْرَأْ عَيْنُهُ] (4299) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً، فَكَحَلَهُ فِيهَا، فَلَمْ تَبْرَأْ عَيْنُهُ، اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ. وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَجْرًا حَتَّى تَبْرَأَ عَيْنُهُ، وَلَمْ يَحْكِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ وَفَّى الْعَمَلَ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْغَرَضُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِبِنَاءِ حَائِطٍ يَوْمًا، أَوْ لِخِيَاطَةِ قَمِيصٍ، فَلَمْ يُتِمَّهُ فِيهِ. وَإِنْ بَرِئَتْ عَيْنُهُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَجَزَ عَنْهُ أَمْرٌ غَالِبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الِاكْتِحَالِ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ، اسْتَحَقَّ الْكَحَّالُ الْأَجْرَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْبِنَاءِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فِيهِ. فَأَمَّا إنْ شَارَطَهُ عَلَى الْبُرْءِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ جَعَالَةً، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا حَتَّى يُوجَدَ الْبُرْءُ، سَوَاءٌ وُجِدَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، فَإِنْ بَرِئَ بِغَيْرِ كَحْلِهِ، أَوْ تَعَذَّرَ الْكَحْلُ لِمَوْتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، كَمَا لَوْ عَمِلَ الْعَامِلُ فِي الْجَعَالَةِ، ثُمَّ فَسَخَ الْعَقْدَ. وَإِنْ امْتَنَعَ لَأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْكَحَّالِ أَوْ غَيْرِ الْجَاعِلِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ فَسَخَ الْجَاعِلُ الْجَعَالَةَ بَعْدَ عَمَلِ الْكَحَّالِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ عَمَلِهِ، فَإِنْ فَسَخَ الْكَحَّالُ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا جَعَالَةٌ؛ فَثَبَتَ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ طَبِيبًا لِيُدَاوِيه] (4300) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَبِيبًا لِيُدَاوِيَهُ. وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْكَحَّالِ، سَوَاءً، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الدَّوَاءِ عَلَى الطَّبِيبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَازَ فِي الْكَحَّالِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَجَرْيِ الْعَادَةِ بِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى هَاهُنَا، فَثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل اسْتَأْجَرَ مِنْ يَقْلَعُ ضِرْسَهُ] (4301) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ يَقْلَعُ ضِرْسَهُ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى فِعْلِهَا، كَالْخِتَانِ. فَإِنْ أَخْطَأَ فَقَلَعَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِقَلْعِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ بَرَأَ الضِّرْسُ قَبْلَ قَلْعِهِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ قَلْعَهُ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، لَكِنْ امْتَنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ قَلْعِهِ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ مُحَرَّمٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ إذَا صَارَ بَقَاؤُهُ ضَرَرًا، وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى كُلِّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ، إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَصَاحِبُ الضِّرْسِ أَعْلَمُ بِمَضَرَّتِهِ، وَمَنْفَعَتِهِ، وَقَدْرِ أَلَمِهِ. [فَصْلٌ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ] (4302) فَصْلٌ: وَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةٍ، أَوْ بِنَاءٍ أَوْ قَلْعِ ضِرْسٍ، فَبَذَلَ الْأَجِيرُ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الْمُسْتَأْجِرُ، لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَدَلُهَا بِالْبَذْلِ، كَالصَّدَاقِ لَا يَسْتَقِرُّ بِبَذْلِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا. وَيُفَارِقُ حَبْسَ الدَّابَّةِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَة اسْتِئْجَارُ الرَّاعِي] (4303) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي إذَا لَمْ يَتَعَدَّ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنَّمَا آجَرَ نَفْسَهُ لِرِعَايَةِ الْغَنَمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْمَاشِيَةِ، مَا لَمْ يَتَعَدَّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّاعِيَ وَلَنَا أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حِفْظِهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، كَالْمُودَعِ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ قَبَضَهَا بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَأَمَّا مَا تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ، فَيَضْمَنُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، مِثْلُ أَنْ يَنَامَ عَنْ السَّائِمَةِ، أَوْ يَغْفُلَ عَنْهَا، أَوْ يَتْرُكَهَا تَتَبَاعَدُ مِنْهُ، أَوْ تَغِيبُ عَنْ نَظَرِهِ وَحِفْظِهِ، أَوْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا يُسْرِفُ فِيهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرْبِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ، أَوْ سَلَكَ بِهَا مَوْضِعًا تَتَعَرَّضُ فِيهِ لِلتَّلَفِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُعَدُّ تَفْرِيطًا وَتَعَدِّيًا، فَتَتْلَفُ بِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِعُدْوَانِهِ، فَضَمِنَهَا كَالْمُودِعِ إذَا تَعَدَّى، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاعِي لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَإِنْ فَعَلَ فِعْلًا اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ تَعَدِّيًا، رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. وَلَوْ جَاءَ بِجِلْدِ شَاةٍ، وَقَالَ: مَاتَتْ. قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَضْمَنُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأُمَنَاءَ تُقْبَلُ أَقْوَالُهُمْ، كَالْمُودَعِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِي الْغَالِبِ، فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى مَوْتَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِجِلْدِهَا. [فَصْل الْعَقْدُ فِي الرَّعْيِ] (4304) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الرَّعْيِ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْحَصِرُ. وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى رَعْيِ مَاشِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلَى جِنْسٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى مَاشِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهَا. وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا، بَطَلَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهِ، وَلَهُ أَجْرُ مَا بَقِيَ مِنْهَا بِالْحِصَّةِ. وَإِنْ وَلَدَتْ سِخَالًا، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رَعْيُهَا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرًا لِيَرْكَبهُ، جَازَ أَنْ يَرْكَبَ غَيْرَهُ مَكَانَهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنهَا، جَازَ أَنْ يُسْكِنَهَا مِثْلَهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً، جَازَ أَنْ يَزْرَعَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 مَا هُوَ مِثْلُهَا فِي الضَّرَرِ، أَوْ أَدْنَى مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الرَّاعِي، وَلِهَذَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ إذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْعَ. وَيُفَارِقُ الثَّوْبَ فِي الْخِيَاطَةِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ فِي مَظِنَّةِ الِاخْتِلَافِ، فِي سُهُولَةِ خِيَاطَتِهَا وَمَشَقَّتِهَا، بِخِلَافِ الرَّعْيِ فَعَلَى هَذَا، لَهُ إبْدَالُهَا بِمِثْلِهَا. وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا، لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِيهِ، وَكَانَ لَهُ إبْدَالُهُ. وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّة، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِ الْحَيَوَانِ وَنَوْعِهِ، إبِلًا، أَوْ بَقَرًا، أَوْ غَنَمًا، أَوْ ضَأْنًا، أَوْ مَعْزًا. وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ، لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجَوَامِيسَ وَالْبَخَاتِيَّ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُهَا عُرْفًا. وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي مَكَان يَتَنَاوَلُهَا إطْلَاقُ الِاسْمِ، احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ نَوْعِ مَا يَرَاهُ مِنْهَا، كَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ لَهُ أَثَرٌ فِي إتْعَابِ الرَّاعِي، وَيَذْكُرُ الْكِبَرَ وَالصِّغَرَ، فَيَقُولُ: كِبَارًا أَوْ سِخَالًا، أَوْ عَجَاجِيلَ أَوْ فِصْلَانًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ قَرِينَةٌ، أَوْ عُرْفٌ صَارِفٌ إلَى بَعْضِهَا، فَيُغْنِي عَنْ الذِّكْرِ وَإِذَا عَقَدَ عَلَى عَدَدٍ مَوْصُوفٍ كَالْمِائَةِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَعْيُ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، لَا مِنْ سِخَالِهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، كَالْمِائَةِ مِنْ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ وَتَتَبَايَنُ كَثِيرًا، إذْ الْعَمَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ. [فَصْل مَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ] (4305) فَصْلٌ: فِيمَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، تَجُوزُ إجَارَةُ كُلِّ عَيْنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً، مَعَ بَقَائِهَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، كَالْأَرْضِ، وَالدَّارِ، وَالْعَبْدِ، وَالْبَهِيمَةِ، وَالثِّيَابِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَالْحِبَالِ، وَالْخِيَامِ، وَالْمَحَامِلِ، وَالسَّرْجِ، وَاللِّجَامِ، وَالسَّيْفِ، وَالرُّمْحِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِمَّا تَجُوزُ إجَارَتُهُ فِي مَوَاضِعِهِ. وَتَجُوزُ إجَارَةُ الْحُلِيِّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ فِي إجَارَةِ الْحُلِيِّ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى إجَارَتِهِ بِأُجْرَةٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَمَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِتَصْرِيحِ أَحْمَدَ بِجَوَازِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، فِي إجَارَةِ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ: هُوَ مِنْ الْمُشْتَبِهَاتِ. وَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ الزِّينَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ. وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِأَجْرٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَدْ احْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهَا تَحْتَكُّ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَيَذْهَبُ مِنْهَا أَجْزَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً، فَيَحْصُلُ الْأَجْرُ فِي مُقَابَلَتِهَا، وَمُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، فَيُفْضِي إلَى بَيْعِ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ وَشَيْءٍ آخَرَ. وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَقْصُودَةً، مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ مَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، وَالزِّينَةُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] وَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ التَّحَلِّي وَاللِّبَاسِ لِلنِّسَاءِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى الرِّجَالِ، لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّن لِلْأَزْوَاجِ، وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْ حُلِيِّهِنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 مَعُونَةً لَهُنَّ عَلَى اقْتِنَائِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ نَقْصِهَا بِالِاحْتِكَاكِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ، لَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ، وَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ فِي وَزْنٍ، وَلَوْ ظَهَرَ فَالْأَجْرُ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ، لَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَجْزَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي الْإِجَارَةِ، إنَّمَا هُوَ عِوَضُ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَلَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الذَّاهِبِ، لَمَا جَازَ إجَارَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْفَرْقِ فِي مُعَاوَضَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ] (4306) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لِلْوَزْنِ وَالتَّحَلِّي، فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ الْمَقْصُودَةَ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَا تُضْمَنُ مَنْفَعَتُهَا بِغَصْبِهَا، فَأَشْبَهَتْ الشَّمْعَ. وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً، فَأَشْبَهَتْ الْحُلِيَّ، وَفَارَقَتْ الشَّمْعَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِمَا أَتْلَفَ عَيْنَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ ذَكَرَ مَا يَسْتَأْجِرُهُ لَهُ، وَعَيَّنَهُ، فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِجَارَةَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِيمَا شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُمَا فِي الْإِجَارَةِ مُتَعَيِّنَةٌ فِي التَّحَلِّي وَالْوَزْنِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ الْإِجَارَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِمَا، كَاسْتِئْجَارِ الدَّارِ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ السُّكْنَى، وَوَضْعَ الْمَتَاعِ فِيهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَتَكُونُ قَرْضًا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَقْتَضِي الِانْتِفَاعَ، وَالِانْتِفَاعُ الْمُعْتَادُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إنَّمَا هُوَ بِأَعْيَانِهَا، فَإِذَا أُطْلِقَ الِانْتِفَاعُ، حُمِلَ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَلَا تَكُونُ قَرْضًا؛ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ يَنْقُصُهَا، وَالْوَزْنَ لَا يَنْقُصُهَا، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الِانْتِفَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهَا عَنْ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَمْلِيكٌ لِلْغَيْرِ، وَالْإِجَارَةُ تَقْتَضِي الِانْتِفَاعَ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ. وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَالْأَلْفَاظَ تُؤْخَذُ نَقْلًا، وَلَمْ يُعْهَدْ فِي اللِّسَانِ التَّعْبِيرُ بِالْإِجَارَةِ عَنْ الْقَرْضِ. وَقَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ، كَانَ أَوْلَى مِنْ إفْسَادِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى إجَارَتِهَا لِلْجِهَةِ الَّتِي تَجُوزُ إجَارَتُهَا فِيهَا وَقَوْلُ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي انْتِفَاعًا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَلَا تُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرَ الْآخَرُونَ مِنْ نَقْصِ الْعَيْنِ بِالِاسْتِعْمَالِ فِي التَّحَلِّي فَبَعِيدٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ لَا أَثَرَ لَهُ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا وَنَخِيلًا لِيُجَفِّفَ عَلَيْهَا الثِّيَابَ أَوْ يَبْسُطَهَا عَلَيْهَا لِيَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا] (4307) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ شَجَرًا وَنَخِيلًا، لِيُجَفِّفَ عَلَيْهَا الثِّيَابَ، أَوْ يَبْسُطَهَا عَلَيْهَا لِيَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْأَثْمَانِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 وَلَنَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً، لَجَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ يَحْصُلُ بِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَمَا جَازَ فِي إحْدَاهُمَا يَجُوزُ فِي الْأُخْرَى، وَلِأَنَّهَا شَجَرَةٌ، فَجَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِذَلِكَ كَالْمَقْطُوعَةِ، وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَجَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا، فَجَازَ اسْتِئْجَارُهَا لَهَا، كَالْحِبَالِ وَالْخَشَبِ وَالشَّجَرِ الْمَقْطُوعِ. [فَصْل اسْتِئْجَارُ غَنَمٍ لِتَدْرُسَ لَهُ طِينًا أَوْ زَرْعًا] (4308) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ غَنَمٍ لِتَدْرُسَ لَهُ طِينًا أَوْ زَرْعًا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ، فَأَشْبَهَتْ النَّخِيلَ. وَلَنَا أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ، مُبَاحَةٌ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا، فَأَشْبَهَتْ اسْتِئْجَارَ الْبَقَرِ لِدِيَاسِ الزَّرْعِ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ مَا يَبْقَى مِنْ الطِّيبِ وَالصَّنْدَلِ وَأَقْطَاعِ الْكَافُورِ وَالنِّدّ لِتَشُمّهُ الْمَرْضَى وَغَيْرُهُمْ مُدَّةً ثُمَّ يَرُدُّهُ] فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ مَا يَبْقَى مِنْ الطِّيبِ وَالصَّنْدَلِ وَأَقْطَاعِ الْكَافُورِ وَالنِّدّ، لِتَشُمَّهُ الْمَرْضَى وَغَيْرُهُمْ مُدَّةً، ثُمَّ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، فَأَشْبَهْت الْوَزْنَ وَالتَّحَلِّيَ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ إخْلَاقٍ وَبِلًى. [فَصْلٌ إجَارَةُ الْحَائِطِ لِيَضَعَ عَلَيْهَا خَشَبًا مَعْلُومًا مُدَّةً مَعْلُومَةً] (4310) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ إجَارَةُ الْحَائِطِ، لِيَضَعَ عَلَيْهَا خَشَبًا مَعْلُومًا، مُدَّةً مَعْلُومَةً. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا وَاسْتِيفَائِهَا، فَجَازَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا، كَاسْتِئْجَارِ السَّطْحِ لِلنَّوْمِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ دَارٍ يَتَّخِذُهَا مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ] (4311) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ دَارٍ يَتَّخِذُهَا مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ إجَارَةٍ بِحَالٍ، فَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا، فَجَازَ اسْتِئْجَارُ الْعَيْنِ لَهَا، كَالسُّكْنَى، وَيُفَارِقُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ. [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً] (4312) فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْبِئْرِ، لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبِئْرِ وَعُمْقَهَا فِيهِ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِمُرُورِ الدَّلْوِ فِيهِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 [فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ الْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ لِلصَّيْدِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ] (4313) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ لِلصَّيْدِ، فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا تَجُوزُ إعَارَتُهُ لَهُ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ لَهُ، كَالدَّابَّةِ. وَتَجُوزُ إجَارَةُ كُتُبِ الْعِلْمِ، الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَالنَّسْخِ مِنْهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَتَجُوزُ إجَارَةُ دَرَجٍ فِيهِ خَطٌّ حَسَنٌ، يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَيُتَمَثَّلُ مِنْهُ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ مَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ] (4314) فَصْلٌ: وَمَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهَذِهِ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِإِتْلَافِ عَيْنِهَا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ شَمْعَةً يُسْرِجُهَا، وَيَرُدُّ بَقِيَّتَهَا، وَثَمَنَ مَا ذَهَبَ، وَأَجَّرَ الْبَاقِي، كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ بَيْعًا وَإِجَارَةً، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مَجْهُولٌ، وَإِذَا جُهِلَ الْمَبِيعُ جُهِلَ الْمُسْتَأْجِرُ أَيْضًا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدَانِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَمْعًا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ، وَيَرُدَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْعِلَ مِنْهُ شَيْئًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَرْعِيَّةٍ فِي الشَّرْعِ، فَبَذْلُ الْمَالِ فِيهِ سَفَهٌ، وَأَخْذُهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خُبْزًا لِيَنْظُرَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ طَعَامًا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ عَلَى مَائِدَتِهِ، ثُمَّ يَرُدَّهُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مَا لَا يَبْقَى مِنْ الرَّيَاحِينِ، كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالرِّيحَانِ الْفَارِسِيِّ، وَأَشْبَاهِهِ، لِشَمِّهَا؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَنْ قُرْبٍ، فَأَشْبَهَتْ الْمَطْعُومَاتِ. وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْغَنَمِ، وَلَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، لِيَأْخُذَ لَبَنَهَا، وَلَا لِيَسْتَرْضِعَهَا لِسُخَالَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَا اسْتِئْجَارُهَا لِيَأْخُذَ صُوفَهَا، وَلَا شَعْرَهَا، وَلَا وَبَرَهَا، وَلَا اسْتِئْجَارُ شَجَرَةٍ، لِيَأْخُذَ ثَمَرَتَهَا، أَوْ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا. [فَصْلٌ إجَارَةُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ] (4315) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ، فَجَازَ، كَإِجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ، وَالْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا الْمَاءَ؛ وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَبَاحُ بِالْإِعَارَةِ، فَتُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ. وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: «نَهَى عَنْ ضِرَابِ الْجَمَلِ» . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ الَّذِي يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، فَيَكُونُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لِاسْتِيفَاءِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَإِجَارَةِ الْغَنَمِ لِأَخْذِ لَبَنِهَا، وَهَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ مُحَرَّمٌ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، فَأَشْبَهَ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ. فَأَمَّا مَنْ أَجَازَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَى الْعَمَلِ، وَيُقَدِّرَهُ بِمَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَقِيلَ: يَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرَادَ إطْرَاقَ فَرَسِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 مَرَّةً، فَقَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْفِعْلِ، لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيعَابُهَا بِهِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مِقْدَارِهِ، فَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ فِيهِ، وَيَتَعَذَّرُ أَيْضًا ضَبْطُ مِقْدَارِ الْفِعْلِ، فَيَتَعَيَّنُ التَّقْدِيرُ بِالْفِعْلِ، إلَّا أَنْ يَكْتَرِيَ فَحْلًا لِإِطْرَاقِ مَاشِيَةٍ كَثِيرَةٍ، كَفَحْلٍ يَتْرُكُهُ فِي إبِلِهِ، أَوْ تَيْسٍ فِي غَنَمِهِ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكْتَرِي مُدَّةً مَعْلُومَةً. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إجَارَتُهُ، فَإِنْ احْتَاجَ إنْسَانٌ إلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ الْكِرَاءَ، وَلَيْسَ لِلْمُطْرِقِ أَخْذُهُ قَالَ عَطَاءٌ: لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ بَذْلُ مَالٍ لِتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا، فَجَازَ، كَشِرَاءِ الْأَسِيرِ، وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ. وَإِنْ أَطْرَقَ إنْسَانٌ فَحْلَهُ بِغَيْرِ إجَارَةٍ وَلَا شَرْطٍ، فَأُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ، أَوْ أُكْرِمَ بِكَرَامَةٍ لِذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَعْرُوفًا، فَجَازَتْ مُجَازَاتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أُهْدِيَ هَدِيَّةً. [فَصْلٌ مَا مَنْفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِفِعْلِهِ] (4316) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا مَنْفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ، كَالزِّنَى وَالزَّمْرِ وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِفِعْلِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَرِهَ ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ، فَلَمْ يَجُزْ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَإِجَارَةِ أَمَتِهِ لِلزِّنَى. وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ كَاتِبٍ لِيَكْتُبَ لَهُ غِنَاءً وَنَوْحًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمُحَرَّمٍ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى كِتَابَةِ شِعْرٍ مُحَرَّمٍ، وَلَا بِدْعَةٍ، وَلَا شَيْءٍ مُحَرَّمٍ لِذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ لِمَنْ يَشْرَبُهَا، وَلَا عَلَى حَمْلِ خِنْزِيرٍ وَلَا مَيْتَةٍ؛ لِذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ مِثْلُهُ جَازَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ إرَاقَتَهُ أَوْ طَرْحَ الْمَيْتَةِ، جَازَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ حَمَلَ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً أَوْ خَمْرًا لِنَصْرَانِيٍّ: أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ، وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْحَمَّالِ بِالْكِرَاءِ، فَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ أَشَدُّ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيُرِيقَهَا، فَأَمَّا لِلشُّرْبِ فَمَحْظُورٌ، وَلَا يَحِلُّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ؛ لِقَوْلِهِ: أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ، وَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ أَشَدُّ. وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ خِلَافُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالزِّنَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَتَعَيَّنُ يَبْطُلُ بِاسْتِئْجَارِ أَرْضٍ لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا. وَأَمَّا حَمْلُ هَذِهِ لِإِرَاقَتِهَا، وَالْمَيْتَةِ لِطَرْحِهَا، وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْكَنَفِ، فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُبَاحٌ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا طَيْبَةَ فَحَجَمَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، فِي الرَّجُلِ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِنِظَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْخَمْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 [فَصْل تَأْجِير الرَّجُلُ نَفْسَهُ لِكَسْحِ الْكَنَفِ] (4317) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤْجِرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ لِكَسْحِ الْكَنَفِ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَكْلُ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» . وَنَهَى الْحُرَّ عَنْ أَكْلِهِ، فَهَذَا أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا حَجَّ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَجُلٌ أَكْنُسُ، فَمَا تَرَى فِي مَكْسَبِي؟ قَالَ: أَيَّ شَيْءٍ تَكْنُسُ؟ قَالَ: الْعَذِرَةَ، قَالَ: وَمِنْهُ حَجَجْت، وَمِنْهُ تَزَوَّجْت؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ خَبِيثٌ، وَحَجُّك خَبِيثٌ، وَمَا تَزَوَّجْت خَبِيثٌ. أَوْ نَحْوَ هَذَا، ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ " بِمَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ دَنَاءَةً، فَكُرِهَ، كَالْحِجَامَةِ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ فِي الْجُمْلَةِ، فَجَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا، فَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ إبَاحَةِ الْإِجَارَةِ، فَوَجَبَ إبَاحَتُهَا، كَالْحِجَامَةِ. [فَصْلٌ إجَارَةُ دَارِهِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً] (4318) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إجَارَةُ دَارِهِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً، أَوْ بِيعَةً أَوْ يَتَّخِذُهَا لِبَيْعِ الْخَمْرِ، أَوْ الْقِمَارِ. وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ بَيْتُك فِي السَّوَادِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تُؤْجِرَهُ لِذَلِكَ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، فَلَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، كَإِجَارَةِ عَبْدِهِ لِلْفُجُورِ. وَلَوْ اكْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ دَارِهِ، فَأَرَادَ بَيْعَ الْخَمْرِ فِيهَا، فَلِصَاحِبِ الدَّارِ مَنْعُهُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْي: إنْ كَانَ بَيْتُهُ فِي السَّوَادِ وَالْجَبَلِ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ. وَلَنَا أَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، جَازَ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي الْمِصْرِ، فَجَازَ فِي السَّوَادِ، كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ. [فَصْلٌ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ إجَارَتُهُ] (4319) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ، إلَّا الْحُرَّ وَالْوَقْفَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجَارَتُهَا، وَإِنْ حَرُمَ بَيْعُهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَمَلِ النَّادِّ، وَالْبَهِيمَةِ الشَّارِدَةِ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ غَاصِبِهِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا تُجْهَلُ صِفَتُهُ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا نَفْعَ فِيهِ، كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، أَوْ الطَّيْرِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْكَلْبِ، وَلَا الْخِنْزِيرِ، بِحَالٍ. وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ إجَارَةِ الْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا تَجُوزُ لَهُ إعَارَتُهُ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ لَهُ كَغَيْرِهِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ، سَوَاءٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 جَازَ بَيْعُهُ أَوْ لَمْ يَجُزْ، مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مَنْفَعَتَهُ، بِأَنْ يَدَّعِيَ إنْسَانٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ فِي إجَارَتِهِ عَامًا، وَيَغْلِبَ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا فِي هَذَا الْعَامِ إلَّا مِنْ غَاصِبِهَا، أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ، إلَّا أَنْ يُؤْجِرَ الشَّرِيكَانِ مَعًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ إجَارَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالِ شَرِيكِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ كَالْمُفْرَدِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فِي مِلْكِهِ، يَجُوزُ مَعَ شَرِيكِهِ، فَجَازَ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إذَا فَعَلَهُ الشَّرِيكَانِ مَعًا، فَجَازَ لِأَحَدِهِمَا فِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ مُفْرَدًا، كَالْبَيْعِ وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ فَرَّقَ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيْنَ مَا إذَا آجَرَهُ الشَّرِيكَانِ، أَوْ آجَرَهُ لِشَرِيكِهِ، بِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ لِوَاحِدٍ، فَآجَرَ نِصْفَهَا، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ، ثُمَّ إنْ آجَرَ نِصْفَهَا الْآخَرَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ صَحَّ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، وَإِنْ آجَرَهُ لِغَيْرِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ مَا آجَرَهُ إلَيْهِ وَإِنْ آجَرَ الدَّارَ لِاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ. [فَصْل إجَارَةِ الْمُصْحَفِ] (4320) فَصْلٌ: وَفِي إجَارَةِ الْمُصْحَفِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ، مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ إجْلَالُ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ بِهِ، وَابْتِذَالِهِ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي، تَجُوزُ إجَارَتُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ، تَجُوزُ الْإِعَارَةُ مِنْ أَجْلِهِ، فَجَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ، كَسَائِرِ الْكُتُبِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْكُتُبِ الْجَائِزِ بَيْعُهَا، فَتَجُوزُ إجَارَتُهَا وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ مَنْعَ إجَارَةِ الْمُصْحَفِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إلَى عَمَلِهِ وَتَصَاوِيرِهِ، أَوْ شَمْعًا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَتَجُوزُ الْإِعَارَةُ لَهُ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ. وَفَارَقَ النَّظَرَ إلَى السَّقْفِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَلَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْإِعَارَةِ مِنْ أَجْلِهِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُحْتَاجُ إلَى الْقِرَاءَةِ فِي الْكُتُبِ، وَالتَّحَفُّظِ مِنْهَا، وَالنَّسْخِ وَالسَّمَاعِ مِنْهَا وَالرِّوَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 [فَصْل إجَارَةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ لِخِدْمَتِهِ] (4321) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ لِخِدْمَتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَقَالَ: إنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ فِي خِدْمَتِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِ شَيْءٍ، جَازَ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَجُوزُ لَهُ إجَارَةُ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ الْخِدْمَةِ، فَجَازَ فِيهَا، كَإِجَارَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ، وَإِذْلَالَهُ لَهُ، وَاسْتِخْدَامَهُ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْخِدْمَةِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ حَبْسُهُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ وَاسْتِخْدَامُهُ، وَالْبَيْعُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ ذَلِكَ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْإِجَارَةِ أَوْلَى فَأَمَّا إنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وَقِصَارَتِهِ، جَازَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَكَذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَتَضَمَّنُ إذْلَالَ الْمُسْلِمِ، وَلَا اسْتِخْدَامَهُ، أَشْبَهَ مُبَايَعَتَهُ. وَإِنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ لِعَمَلِ غَيْرِ الْخِدْمَةِ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، جَازَ أَيْضًا، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِهِ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِ شَيْءٍ، جَازَ وَنَقَلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ. وَهَذَا مُطْلَقٌ فِي نَوْعَيْ الْإِجَارَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ مَنْعُ ذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْمَنْعَ بِالْإِجَارَةِ لِلْخِدْمَةِ، وَأَجَازَ إجَارَتَهُ لِلْعَمَلِ. وَهَذَا إجَارَةٌ لِلْعَمَلِ. وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ، فَإِنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُفَارِقُ إجَارَتَهُ لِلْخِدْمَةِ، لِتَضَمُّنِهَا الْإِذْلَالَ. [فَصْلٌ الرَّجُلِ يَكْتَرِي الدِّيكَ يُوقِظُهُ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ] فَصْلٌ (4322) : نَقَلَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَكْتَرِي الدِّيكَ يُوقِظُهُ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ: لَا يَجُوزُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الدِّيكِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْهُ بِضَرْبٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَدْ يَصِيحُ، وَقَدْ لَا يَصِيحُ، وَرُبَّمَا صَاحَ بَعْد الْوَقْتِ. [فَصْل حُكْم الْإِجَارَة فِي الْقُرْب الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ] (4323) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ، الْقُرَبُ الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا، كَالْإِمَامَةِ، وَالْأَذَانِ، وَالْحَجِّ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالزُّهْرِيُّ. وَكَرِهَ الزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ بِأَجْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: هَذِهِ الرُّغُفُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُعَلِّمُونَ مِنْ السُّحْتِ. وَمِمَّنْ كَرِهَ أُجْرَةَ التَّعْلِيمِ مَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 الشَّرْطِ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، يَجُوزُ ذَلِكَ. حَكَاهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ، لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ، فَيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِأَمَانَاتِ النَّاسِ، التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَهُ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ مَنْعِهِ لِلْكَرَاهَةِ، لَا لِلتَّحْرِيمِ. وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَخَّصَ فِي أُجُورِ الْمُعَلِّمِينَ أَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ رَجُلًا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا جَازَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ عِوَضًا فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَقَامَ مَقَامَ الْمَهْرِ، جَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَثَبَتَ «أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَقَى رَجُلًا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى جُعْلٍ فَبَرَأَ، وَأَخَذَ أَصْحَابُهُ الْجُعْلَ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ، كُلُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» وَلِذَا جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَجَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي الْحَجِّ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مُتَبَرِّعٌ بِذَلِكَ، فَيُحْتَاجُ إلَى بَذْلِ الْأَجْرِ فِيهِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: «إنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، قَالَ: قُلْت: قَوْسٌ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ. قَالَ: قُلْت أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، قَالَ: «إنْ سَرَّك أَنْ يُقَلِّدَك اللَّهُ قَوْسًا مِنْ نَارٍ، فَاقْبَلْهَا» . وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ «عَلَّمَ رَجُلًا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ، فَأَهْدَى إلَيْهِ خَمِيصَةً أَوْ ثَوْبًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَوْ أَنَّك لَبِسْتهَا، أَوْ أَخَذَتْهَا، أَلْبَسَك اللَّهُ مَكَانَهَا ثَوْبًا مِنْ نَارٍ» وَعَنْ أُبَيٍّ، قَالَ: «كُنْت أَخْتَلِفُ إلَى رَجُلٍ مُسِنٍّ، قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ، قَدْ احْتَبَسَ فِي بَيْتِهِ أُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِمَّا أُقْرِئُهُ يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ: هَلُمِّي بِطَعَامِ أَخِي. فَيُؤْتَى بِطَعَامٍ لَا آكُلُ مِثْلَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَحَاكَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ طَعَامَهُ وَطَعَامَ أَهْلِهِ، فَكُلْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يُتْحِفُك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 بِهِ، فَلَا تَأْكُلْهُ» . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ» رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا الْأَثْرَمُ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، كَوْنَهَا قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ أَوْ التَّرَاوِيحَ. فَأَمَّا الْأَخْذُ عَلَى الرُّقْيَةِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ اخْتَارَ جَوَازَهُ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، أَنَّ الرُّقْيَةَ نَوْعُ مُدَاوَاةٍ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهَا جُعْلٌ، وَالْمُدَاوَاةُ يُبَاحُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، وَالْجَعَالَةُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . يَعْنِي بِهِ الْجُعْلَ أَيْضًا فِي الرُّقْيَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ خَبَرِ الرُّقْيَةِ. وَأَمَّا جَعْلُ التَّعْلِيمِ صَدَاقًا فَعَنْهُ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ التَّعْلِيمَ صَدَاقٌ، إنَّمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» . فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ زَوَّجَهُ إيَّاهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، إكْرَامًا لَهُ، كَمَا زَوَّجَ أَبَا طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَى إسْلَامِهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ جَوَازُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَهْرِ وَالْأَجْرِ، أَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ بِعِوَضٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ نِحْلَةً وَوَصْلَةً، وَلِهَذَا جَازَ خُلُوُّ الْعَقْدِ عَنْ تَسْمِيَتِهِ، وَصَحَّ مَعَ فَسَادِهِ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ فِي غَيْرِهِ، فَأَمَّا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَيَجُوزُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ بَذْلُهُ لِمَنْ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، كَانَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَكَانَ لِلْآخِذِ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَجَرَى مَجْرَى الْوَقْفِ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْمَصَالِحِ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ. [فَصْلٌ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ] (4324) فَصْلٌ: فَإِنْ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ. وَقَالَ، فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَيُّوبُ بْنُ سَافِرِي: لَا يَطْلُبُ، وَلَا يُشَارِطُ، فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أَخَذَهُ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ: أَكْرَهُ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ إذَا شَرَطَ. وَقَالَ: إذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ لَا يُشَارِطُ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، إنْ أَتَاهُ شَيْءٌ قَبِلَهُ. كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَهْوَنَ. وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْقَوْسِ وَالْخَمِيصَةِ اللَّتَيْنِ أُعْطِيَهُمَا أُبَيٌّ وَعُبَادَةُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، لَا بِشَرْطٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ، فَخُذْهُ، وَتَمَوَّلْهُ؛ فَإِنَّهُ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك» . وَقَدْ أَرْخَصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيٍّ فِي أَكْلِ طَعَامِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ، إذَا كَانَ طَعَامَهُ وَطَعَامَ أَهْلِهِ. وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، كَانَ هِبَةً مُجَرَّدَةً، فَجَازَ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَلِّمْهُ شَيْئًا. فَأَمَّا حَدِيثُ الْقَوْسِ وَالْخَمِيصَةِ، فَقَضِيَّتَانِ فِي عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِلَّهِ خَالِصًا، فَكَرِهَ أَخَذَ الْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 وَإِنْ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ الْخَطَّ وَحِفْظِهِ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمُعْطِي يَنْوِي أَنْ يُعْطِيَهُ لِحِفْظِ الصَّبِيِّ وَتَعْلِيمِهِ، فَأَرْجُو إذَا كَانَ كَذَا. وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ مُفْرَدًا، فَجَازَ مَعَ غَيْرِهِ، كَسَائِرِ مَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ قَيِّمًا لَهُ، يُسْرِجُ قَنَادِيلَهُ، وَيَكْنُسُهُ، وَيُغْلِقُ بَابَهُ وَيَفْتَحُهُ، فَأَخَذَ أَجْرًا عَلَى خِدْمَتِهِ، أَوْ كَانَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ يَخْدِمُ الْمُسْتَنِيبَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَيَشُدُّ لَهُ، وَيَرْفَعُ حِمْلَهُ، وَيَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ، فَدَفَعَ لَهُ أَجْرًا لِخِدْمَتِهِ، لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ حُكْم إجَارَة مَا لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ كَتَعْلِيمِ وَغَيْرِهِ] (4325) فَصْلٌ: وَمَا لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، كَتَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِسَابِ وَالشِّعْرِ الْمُبَاحِ، وَأَشْبَاهِهِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً قُرْبَةً، وَتَارَةً غَيْرَ قُرْبَةٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ لِفِعْلِهِ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ. وَكَذَلِكَ فِي تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ. وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فَاعِلَهُ مِنْ الْعِبَادَات الْمَحْضَةِ، كَالصِّيَامِ، وَصَلَاةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، وَحَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَدَاءِ زَكَاةِ نَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الِانْتِفَاعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ هَاهُنَا انْتِفَاعٌ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأَجْرِ] (4326) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأَجْرِ، فَقَالَ: آجَرْتَنِيهَا سَنَةً بِدِينَارٍ. قَالَ: بَلْ بِدِينَارَيْنِ. تَحَالَفَا، وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْآجِرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، فَإِذَا تَحَالَفَا قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ فَسَخَا الْعَقْدَ، وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِهِ. وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْآخَرُ، قَرَّ الْعَقْدُ. وَإِنْ فَسَخَا الْعَقْدَ بَعْدَ الْمُدَّةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا، سَقَطَ الْمُسَمَّى وَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ تَلَفِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ الْعَمَلَ، وَإِنْ كَانَ عَمِلَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَجْرِ مِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَجْرِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، فَيَتَحَالَفَانِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي عِوَضِهَا، كَالْبَيْعِ، وَكَمَا قَبِلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ» . وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُدَّةِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ] (4327) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُدَّةِ، فَقَالَ: أَجَرْتُكهَا سَنَةً بِدِينَارٍ. قَالَ: بَلْ سَنَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا أَنْكَرَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِمِائَةٍ. قَالَ: بَلْ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَجَرْتُكهَا سَنَةً بِدِينَارٍ. قَالَ: بَلْ سَنَتَيْنِ بِدِينَارٍ. فَهَاهُنَا قَدْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ وَالْمُدَّةِ جَمِيعًا، فَيَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمَا عَلَى مُدَّةٍ بِعِوَضٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ: أَجَرْتُكَهَا سَنَةً بِدِينَارٍ. فَقَالَ السَّاكِنُ: بَلْ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى حِفْظِهَا بِدِينَارٍ. فَقَالَ أَحْمَدُ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلسَّاكِنِ بَيِّنَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ قَدْ وُجِدَ مِنْ السَّاكِنِ، وَاسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهَا وَهِيَ مِلْكُ صَاحِبِهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ اسْتِئْجَارِ السَّاكِنِ فِي الْحِفْظِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيه. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ] (4328) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعُدْوَانِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الضَّمَانِ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ أَبَقَ مِنْ يَدِهِ، وَأَنَّ الدَّابَّةَ شَرَدَتْ أَوْ نَفَقَتْ، وَأَنْكَرَ الْمُؤْجِرُ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَا انْتَفَعَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ. وَالثَّانِيَةُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤْجِرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ. فَأَمَّا إنْ ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ مَرِضَ فِي يَدِهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ جَاءَ بِهِ صَحِيحًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، سَوَاءٌ وَافَقَهُ الْعَبْدُ أَوْ خَالَفَهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَإِنْ جَاءَ بِهِ مَرِيضًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهِ صَحِيحًا فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، وَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ مَرِيضًا، فَقَدْ وُجِدَ مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ يَقِينًا، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مُدَّةِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى إبَاقَهُ فِي حَالِ إبَاقِهِ، أَوْ جَاءَ بِهِ غَيْرَ آبِقٍ. وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبَاقِ الْعَبْدِ، دُونَ مَرَضِهِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ، فَكَانَا سَوَاءً فِي دَعْوَى ذَلِكَ. وَإِنْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ، فَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ هَلَاكِهَا، أَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ، أَوْ مَرِضَ فَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَمَلِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ فِي يَدِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 [فَصْل دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ لِيَخِيطَهُ أَوْ يَقْصِرُهُ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا تَعْوِيضٍ بِأَجْرِ] (4329) فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ، لِيَخِيطَهُ أَوْ يَقْصُرَهُ، مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ، وَلَا تَعْوِيضٍ بِأَجْرٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا فَاعْمَلْهُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّك إنَّمَا تَعْمَلُ بِأَجْرٍ. وَكَانَ الْخَيَّاطُ وَالْقَصَّارُ مُنْتَصِبَيْنِ لِذَلِكَ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَلَهُمَا الْأَجْرُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا أَجْرَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جُعِلَ لَهُمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّعَا بِعَمَلِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْعُرْفَ الْجَارِيَ بِذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ، فَصَارَ كَنَقْدِ الْبَلَدِ، وَكَمَا لَوْ دَخَلَ حَمَّامًا، أَوْ جَلَسَ فِي سَفِينَةٍ مَعَ مَلَّاحٍ، وَلِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَقْتَضِيه، فَصَارَ كَالتَّعْوِيضِ فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُونَا مُنْتَصِبَيْنِ لِذَلِكَ، لَمْ يَسْتَحِقَّا أَجْرًا إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ شَرْطِ الْعِوَضِ، أَوْ تَعْوِيضٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ يَقُومُ مَقَامَ الْعَقْدِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ، أَوْ عَمِلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ. وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى رَجُلٍ لِيَبِيعَهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ، إنْ كَانَ مُنْتَصِبًا يَبِيعُ لِلنَّاسِ بِأَجْرٍ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَمَتَى دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى أَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُقَاطِعْهُ عَلَى أَجْرٍ، فَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ أُجْرَتُهَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا، فَجَرَى مَجْرَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّوْبُ مِنْ حِرْزِهِ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، لَا يُضْمَنُ فِي فَاسِدِهِ. وَإِنْ تَلِفَ مِنْ فِعْلِهِ، بِتَخْرِيقِهِ أَوْ دَقِّهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَمِنَهُ بِذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَفِي الْفَاسِدِ أَوْلَى. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَيَّ قَصَّارٍ لِيَقْصُرَهُ، وَلَمْ يَقْطَعْ لَهُ أَجْرًا، بَلْ قَالَ: أَنَا أُعْطِيك كَمَا تُعْطَى. وَهَلَكَ الثَّوْبُ، فَإِنْ كَانَ بِخَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا لَا تَجْنِيه يَدُهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، بَيَّنَ الْكِرَاءَ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ لَهُ كِتَابًا إلَى مَكَّة أَوْ غَيْرهَا إلَى صَاحِبٍ لَهُ فَحَمَلَهُ فَوَجَدَ صَاحِبَهُ غَائِبًا فَرَدَّهُ] (4330) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ لَهُ كِتَابًا إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، إلَى صَاحِبٍ لَهُ، فَحَمَلَهُ، فَوَجَدَ صَاحِبَهُ غَائِبًا، فَرَدَّهُ، اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِحَمْلِهِ فِي الذَّهَابِ وَالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ فِي الذَّهَابِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ صَرِيحًا، وَفِي الرَّدِّ تَضْمِينًا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ: وَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَاحِبَهُ فَرُدَّهُ. إذْ لَيْسَ سِوَى رَدِّهِ إلَّا تَضْيِيعَهُ. فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى تَضْيِيعَهُ، فَتَعَيَّنَ رَدُّهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 [كِتَاب إحْيَاء الْمَوَاتِ] ِ الْمَوَاتُ: هُوَ الْأَرْضُ الْخَرَابُ الدَّارِسَةُ، تُسَمَّى مَيْتَةً وَمَوَاتًا وَمَوَتَانًا، بِفَتْحِ الْمِيم وَالْوَاوِ، وَالْمَوْتَانُ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ: الْمَوْتُ الذَّرِيعُ. وَرَجُلٌ مَوْتَانُ الْقَلْبِ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، يَعْنِي: أَعْمَى الْقَلْبِ، لَا يَفْهَمُ. وَالْأَصْلُ فِي إحْيَاءِ الْأَرْضِ، مَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَأَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ، مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ " عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» . قَالَ عُرْوَةُ: وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ. [مَسْأَلَة مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَمْ تُمْلَكْ] (4331) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَمْ تُمْلَكْ، فَهِيَ لَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَوَاتَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ، فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِحْيَاءِ. وَالْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا مُتَنَاوِلَةٌ لَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ مَالِكٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَا لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا، مَا مُلِكَ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، فَهَذَا لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُرِفَ بِمِلْكِ مَالِكٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِ أَرْبَابِهِ. الثَّانِي مَا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى دَثَرَ وَعَادَ مَوَاتًا، فَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءً. وَقَالَ مَالِكٌ: يُمْلَكُ هَذَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» . وَلِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْأَرْضِ مُبَاحٌ، فَإِذَا تُرِكَتْ حَتَّى تَصِيرَ مَوَاتًا عَادَتْ إلَى الْإِبَاحَةِ، كَمَنْ أَخَذَ مَاءً مِنْ نَهْرٍ ثُمَّ رَدَّهُ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ يُعْرَفُ مَالِكُهَا، فَلَمْ تُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ، كَاَلَّتِي مُلِكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ، بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ ". وَقَوْلِهِ: " فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ " وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مُطْلَقِ حَدِيثِهِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» : الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ لِغَيْرِهِ، فَيَغْرِسَ فِيهَا. ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ ". ثُمَّ الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِمَا مُلِكَ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهَا بِالتَّرْكِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذَا تُرِكَتْ حَتَّى تَشَعَّثَتْ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْمَوَاتِ إذَا أَحْيَاهُ إنْسَانٌ ثُمَّ بَاعَهُ، فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى عَادَ مَوَاتًا، وَبِاللُّقَطَةِ إذَا مَلَكَهَا ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهُ، وَيُخَالِفُ مَاءَ النَّهْرِ، فَإِنَّهُ اُسْتُهْلِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي مَا يُوجَدُ فِيهِ آثَارُ مِلْكٍ قَدِيمٍ جَاهِلِيٍّ، كَآثَارِ الرُّومِ، وَمَسَاكِنِ ثَمُودَ، وَنَحْوِهَا، فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَا حُرْمَةَ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدُ لَكُمْ» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ "، وَأَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ ". وَقَالَ: عَادِيُّ الْأَرْضِ: الَّتِي كَانَ بِهَا سَاكِنٌ فِي آبَادِ الدَّهْرِ، فَانْقَرَضُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَنِيسٌ، وَإِنَّمَا نَسَبَهَا إلَى عَادٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ تَقَدُّمِهِمْ ذَوِي قُوَّةٍ وَبَطْشٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ، فَنُسِبَ كُلُّ أَثَرٍ قَدِيمٍ إلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ أَثَرُ الْمِلْكِ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ لَا يُمْلَكْ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوهُ عَامِرًا، فَاسْتَحَقُّوهُ، فَصَارَ مَوْقُوفًا بِوَقْفِ عُمَرَ لَهُ، فَلَمْ يُمْلَكْ، كَمَا لَوْ عُلِمَ مَالِكُهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ، مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمِلْكُ فِي الْإِسْلَامِ لِمُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، نَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو دَاوُد، وَأَبُو الْحَارِثِ، وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى؛ لِمَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا، فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ» . فَقَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَهَا مَالِكٌ، فَلَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنَّ مَالِكَهَا إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ فَهِيَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ، وَرِثَهَا الْمُسْلِمُونَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. نَقَلَهَا صَالِحٌ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ مَوَاتٌ، لَا حَقَّ فِيهَا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، أَشْبَهَتْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ كَلُقَطَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَهِيَ كَالرِّكَازِ. (4332) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ عَامِرَ دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، فَأَمَّا مَا عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِلْكُ كَافِرٍ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، فَأَشْبَهَ دِيَارَ عَادٍ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» وَلِأَنَّ الرِّكَازَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ، فَهَذَا أَوْلَى. قُلْنَا: قَوْلُهُ: " عَادِيُّ الْأَرْضِ ". يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِلْكُهُ، وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمَانُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا حُكْمَ لِمَالِكِهِ. فَأَمَّا مَا قَرُبَ مِلْكُهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ مَالِكًا بَاقِيًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يُمْلَكُ. عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَمَّا الرِّكَازُ، فَإِنَّهُ يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لُقَطَةَ دَارِ الْإِسْلَامِ تُمْلَكُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ. [فَصْل لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْإِحْيَاءِ] (4333) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْإِحْيَاءِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي» . فَجَمَعَ الْمَوَتَانَ، وَجَعَلَهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ مَوَتَانَ الدَّارِ مِنْ حُقُوقِهَا، وَالدَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ مَوَاتُهَا لَهُمْ، كَمَرَافِقِ الْمَمْلُوكِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» . وَلِأَنَّ هَذِهِ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ التَّمْلِيكِ، فَاشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، كَسَائِرِ جِهَاتِهِ. وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ، إنَّمَا نَعْرِفُ قَوْلَهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هُوَ لَكُمْ بَعْدُ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنْ الْأَرْضِ، فَلَهُ دَفِينُهَا» . هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، رَوَاهُ طَاوُسٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: " هِيَ لَكُمْ ". أَيْ لِأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا مِنْ حُقُوقِ دَارِ الْإِسْلَامِ. قُلْنَا: وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، فَيَمْلِكُهَا، كَمَا يَمْلِكُهَا بِالشِّرَاءِ، وَيَمْلِكُ مُبَاحَاتِهَا، مِنْ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصُّيُودِ وَالرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ وَاللُّقَطَةِ، وَهِيَ مِنْ مَرَافِقِ دَارِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ مِنْ طُرُقِهِ وَمَسِيلِ مَائِهِ وَمَطْرَح قُمَامَتِهِ وَمُلْقَى تُرَابِهِ وَآلَاته] (4334) فَصْلٌ: وَمَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ، وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ، مِنْ طُرُقِهِ، وَمَسِيلِ مَائِهِ، وَمَطْرَحِ قُمَامَتِهِ، وَمُلْقَى تُرَابِهِ وَآلَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِ الْقَرْيَةِ، كَفِنَائِهَا، وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا، وَمُحْتَطَبِهَا، وَطُرُقِهَا، وَمَسِيلِ مَائِهَا، لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ» . مَفْهُومُهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُسْلِمٍ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَمْلُوكِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا إحْيَاءَهُ، لَبَطَلَ الْمِلْكُ فِي الْعَامِرِ عَلَى أَهْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرَافِقَ لَا يَمْلِكُهَا الْمُحْيِي بِالْإِحْيَاءِ، لَكِنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكُ بِذَلِكَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّهُ مَكَانٌ اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْيَاءِ، فَمَلَكَهُ، كَالْمُحْيِي، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الدَّارِ فِي الْبَيْعِ، وَيَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهَا. فَأَمَّا مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصَالِحِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّقْرِ، فِي رَجُلَيْنِ أَحْيِيَا قِطْعَتَيْنِ مِنْ مَوَاتٍ، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا رُقْعَةٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ لِيُحْيِيَهَا، فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ وَقَالَ فِي جَبَّانَةٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ: مَنْ أَحْيَاهَا، فَهِيَ لَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» «. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْعَقِيقَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَيْنَ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ» . وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَامِرِ، فَجَازَ إحْيَاؤُهُ، كَالْبَعِيدِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَظِنَّةِ تَعَلُّقِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي حَائِطِهِ إلَى فِنَائِهِ، وَيَجْعَلَهُ طَرِيقًا، أَوْ يَخْرُبَ حَائِطُهُ، فَيَضَعَ آلَاتِ الْبِنَاءِ فِي فِنَائِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَعِيدِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ سِوَى الْعُرْفِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدُّهُ غَلْوَةٌ، وَهِيَ خُمْسُ الْفَرْسَخِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدُّ الْبَعِيدِ هُوَ الَّذِي إذَا وَقَفَ الرَّجُلُ فِي أَدْنَاهُ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، لَمْ يَسْمَعْ أَدْنَى أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّحْدِيدَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ، كَالْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ. وَقَوْلُ مَنْ حَدَّدَ هَذَا تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَمِيلٍ وَنِصْفِ مِيلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّحْدِيدُ الَّذِي ذَكَرَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُخْتَصٌّ بِمَا قَرُبَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِكُلِّ مَا قَرُبَ مِنْ عَامِرٍ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فِي مَوَاتٍ، حَرُمَ إحْيَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَوَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ. (4335) فَصْلٌ: وَجَمِيعُ الْبِلَادِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءٌ، الْمَفْتُوحُ عَنْوَةً كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَالْمَدِينَةِ، وَمَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ كَأَرْضِ خَيْبَرَ، إلَّا الَّذِي صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَوْ دَخَلَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَأَحْيَا فِيهَا مَوَاتًا، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُمْ صُولِحُوا فِي بِلَادِهِمْ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَشَيْءٍ مِنْهَا، عَامِرًا كَانَ أَوْ مَوَاتًا، لِأَنَّ الْمَوَاتَ تَابِعٌ لِلْبَلَدِ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهِمْ الْبَلَدَ لَمْ يَمْلِكْ مَوَاتَهُ. وَيُفَارِقُ دَارَ الْحَرْبِ، حَيْثُ يَمْلِكُ مَوَاتَهَا؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَهَذِهِ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لَهُمْ، فَحُرِّمَتْ عَلَيْنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ أَحْيَاهَا؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ مُبَاحَاتِ دَارِهِمْ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ تَمَلُّكِهَا، كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّوَادِ مَوَاتٌ. يَعْنِي سَوَادَ الْعِرَاقِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَامِرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ لِكَوْنِ السَّوَادِ كَانَ مَعْمُورًا كُلُّهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَحِينَ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكُفَّارِ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ سَأَلَ أَنْ يُعْطَى خَرِبَةً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ خَرِبَةً. فَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أُعْلِمَكُمْ كَيْف أَخَذْتُمُوهَا مِنَّا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَوَاتٌ حِينَ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَصِرْ فِيهَا مَوَاتٌ بَعْدَهُ، لِأَنَّ مَا دَثَرَ مِنْ أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِرْ مَوَاتًا، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ إنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا] (4336) فَصْلٌ: وَإِنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا، وَهُوَ أَنْ يَشْرَعَ فِي إحْيَائِهِ، مِثْلُ إنْ أَدَارَ حَوْلَ الْأَرْضِ تُرَابًا أَوْ أَحْجَارًا، أَوْ حَاطَهَا بِحَائِطٍ صَغِيرٍ، لَمْ يَمْلِكْهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِحْيَاءٍ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَإِنْ نَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ، صَارَ الثَّانِي بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَقَامَهُ مَقَامَهُ. وَإِنْ مَاتَ فَوَارِثُهُ أَحَقُّ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» . فَإِنْ بَاعَهُ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهِ، وَكَمَنْ سَبَقَ إلَى مَعْدِنٍ أَوْ مُبَاحٍ قَبْلَ أَخْذِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ، فَإِنْ سَبَقَ غَيْرَهُ فَأَحْيَاهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يُمْلَكُ بِهِ، وَالتَّحَجُّرَ لَا يُمْلَكُ بِهِ، فَثَبَتَ الْمِلْكُ بِمَا يُمْلَكُ بِهِ دُونَ مَا لَمْ يُمْلَكْ بِهِ، كَمَنْ سَبَقَ إلَى مَعْدِنٍ أَوْ مَشْرَعَةِ مَاءٍ، فَجَاءَ غَيْرُهُ، فَأَزَالَهُ وَأَخَذَهُ. وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ " وَقَوْلِهِ: " فِي حَقِّ غَيْرِ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ ". أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فِيهَا حَقٌّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ " أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمَرَهَا قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَمْلِكُهَا؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَ أَحْيَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ مِلْكِ غَيْره، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُتَحَجِّرِ أَسْبَقُ، فَكَانَ أَوْلَى، كَحَقِّ الشَّفِيعِ يُقَدَّمُ عَلَى شِرَاءِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ السُّلْطَانُ: إمَّا أَنْ تُحْيِيَهُ، أَوْ تَتْرُكَهُ لِيُحْيِيَهُ غَيْرُك لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، أَوْ مَشْرَعَةِ مَاءٍ، أَوْ مَعْدِنٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَنْتَفِعُ فَإِنْ سَأَلَ الْإِمْهَالَ لِعُذْرِ لَهُ، أُمْهِلَ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ؛ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَإِنْ تَقَضَّتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَعْمُرْ، فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمُرَهُ وَيَمْلِكَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ بِمُضِيِّهَا، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ السُّلْطَانُ فِي عِمَارَتِهَا، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَحَجِّرِ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْعِمَارَةِ، قِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ تَعْمُرَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَك، فَإِنْ لَمْ يَعْمُرْهَا، كَانَ لِغَيْرِهِ عِمَارَتُهَا، فَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْتَمَرَّ تَعْطِيلُهَا فَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْل لِلْإِمَامِ إقْطَاعُ الْمَوَاتِ لِمَنْ يُحْيِيه] (4337) فَصْلٌ: وَلِلْإِمَامِ إقْطَاعُ الْمَوَاتِ لِمَنْ يُحْيِيه، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ» ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ قَالَ لِبِلَالٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقْطِعْكَ لِتَحِيزَهُ عَنْ النَّاسِ، إنَّمَا أَقْطَعَكَ لِتَعْمُرَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْتَ عَلَى عِمَارَتِهِ، وَرُدَّ الْبَاقِيَ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ ". وَذَكَرَ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْت الْحَارِثَ بْنَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، يَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: مَا أَقْطَعَك لِتَحْتَجِنَهُ، فَأَقْطَعَهُ النَّاسَ» وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ أَرْضًا، فَعَطَّلُوهَا، فَجَاءَ قَوْمٌ فَأَحْيَوْهَا، فَخَاصَمَهُمْ الَّذِينَ أَقْطَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كَانَتْ قَطِيعَةً مِنِّي أَوْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، لَمْ أَرُدَّهَا، وَلَكِنَّهَا قَطِيعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَا أَرُدُّهَا» ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ فِي إقْطَاع الْمَوَات] (4338) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إلَّا أَنْ تَكُونَ أَرْضَ مِلْحٍ أَوْ مَاءٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا الْإِنْسَانُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ الَّتِي يُوصَلُ إلَى مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ، يَنْتَابُهَا النَّاسُ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 كَالْمِلْحِ، وَالْمَاءِ، وَالْكِبْرِيتِ، وَالْقِيرِ، وَالْمُومْيَاءِ، وَالنِّفْطِ، وَالْكُحْلِ، وَالْبِرَامِ، وَالْيَاقُوتِ، وَمَقَاطِعِ الطِّينِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُهَا لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَا احْتِجَازُهَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْطَعَ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ مَعْدِنَ الْمِلْحِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ رَدَّهُ» . كَذَا قَالَ أَحْمَدُ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادِهِمْ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ، «أَنَّهُ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِلْحَ الَّذِي بِمَأْرِبَ، فَلَمَّا وَلَّى، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْت لَهُ؟ إنَّمَا أَقْطَعْت الْمَاءَ الْعِدَّ. فَرَجَعَهُ مِنْهُ. قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُحْمَى مِنْ الْأَرَاكِ؟ قَالَ: مَا لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الْإِبِلِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ فِي لَفْظٍ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ» وَرَوَاهُ سَعِيدٌ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمَأْرِبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ الْمَأْرِبِيِّ قَالَ: «اسْتَقْطَعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْدِنَ الْمِلْحِ بِمَأْرِبَ، فَأَقْطَعَنِيهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا إذَنْ» . وَلِأَنَّ هَذَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ، فَلَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ، وَلَا إقْطَاعُهُ، كَمَشَارِعِ الْمَاءِ، وَطُرُقَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هَذَا مِنْ مَوَادِّ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَفَيْضِ جُودِهِ الَّذِي لَا غَنَاءَ عَنْهُ، فَلَوْ مَلَكَهُ أَحَدٌ بِالِاحْتِجَازِ، مَلَكَ مَنْعَهُ، فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهُ أَغْلَاهُ، فَخَرَجَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ مِنْ تَعْمِيمِ ذَوِي الْحَوَائِجِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. [فَصْلٌ الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ فِي إقْطَاع الْمَوَات] (4339) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا يُوصَلُ إلَيْهَا إلَّا بِالْعَمَلِ وَالْمُؤْنَةِ، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالْبِلَّوْرِ، وَالْفَيْرُوزَجِ، فَإِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً، لَمْ تُمْلَكْ أَيْضًا بِالْإِحْيَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً، فَحَفَرَهَا إنْسَانٌ وَأَظْهَرَهَا، لَمْ يَمْلِكْهَا بِذَلِكَ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْعَمَلِ وَالْمُؤْنَةِ، فَمُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ، كَالْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ بِإِظْهَارِهِ تَهَيَّأَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَكْرَارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 ذَلِكَ الْعَمَلِ فَأَشْبَهَ الْأَرْضَ إذَا جَاءَهَا بِمَاءٍ أَوْ حَاطَهَا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ هُوَ الْعِمَارَةُ الَّتِي تَهَيَّأَ بِهَا الْمُحْيِي لِلِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ عَمَلٍ، وَهَذَا حَفْرٌ وَتَخْرِيبٌ، يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارٍ عِنْدَ كُلّ انْتِفَاعٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ احْتَفَرَ بِئْرًا مَلَكَهَا، وَمَلَكَ حَرِيمَهَا. قُلْنَا: الْبِئْرُ تَهَيَّأَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ حَفْرٍ وَلَا عِمَارَةٍ، وَهَذِهِ الْمَعَادِنُ تَحْتَاجُ عِنْدَ كُلِّ انْتِفَاعٍ إلَى عَمَلٍ وَعِمَارَةٍ، فَافْتَرَقَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْطَعَ لِبَلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ، جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. [فَصْلٌ أَحْيَا أَرْضًا فَمَلَكَهَا بِذَلِكَ فَظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ] (4340) فَصْلٌ: وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا، فَمَلَكَهَا بِذَلِكَ، فَظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ، مَلَكَهُ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، إذَا كَانَ مِنْ الْمَعَادِنِ الْجَامِدَةِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَطَبَقَاتِهَا، وَهَذَا مِنْهَا. وَيُفَارِقُ الْكَنْزَ؛ فَإِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا. وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ ظَاهِرًا قَبْلَ إحْيَائِهَا؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ نَفْعًا كَانَ وَاصِلًا إلَيْهِمْ، وَمَنَعَهُمْ انْتِفَاعًا كَانَ لَهُمْ، وَهَاهُنَا لَمْ يَقْطَعْ عَنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ظَهَرَ بِإِظْهَارِهِ لَهُ. وَلَوْ تَحَجَّرَ الْأَرْضَ، أَوْ أَقْطَعَهَا، فَظَهَرَ فِيهَا الْمَعْدِنُ قَبْلَ إحْيَائِهَا، لَكَانَ لَهُ إحْيَاؤُهَا، وَيَمْلِكُهَا بِمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ بِتَحَجُّرِهِ وَإِقْطَاعِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إتْمَامِ حَقِّهِ. وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ، كَالْقَارِ، وَالنِّفْطِ، وَالْمَاءِ، فَهَلْ يَمْلِكُهَا مَنْ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا، لَا يَمْلِكُهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ، وَالْكَلَأِ، وَالنَّارِ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا بِمِلْكِ الْأَرْضِ، كَالْكَنْزِ. وَالثَّانِيَةُ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، فَأَشْبَهَتْ الزَّرْعَ وَالْمَعَادِنَ الْجَامِدَةَ. [فَصْلٌ شَرَعَ إنْسَانٌ فِي حَفْرِ مَعْدِنٍ وَلَمْ يَصِلْ إلَى النِّيلِ] (4341) فَصْلٌ: وَلَوْ شَرَعَ إنْسَانٌ فِي حَفْرِ مَعْدِنٍ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى النِّيلِ، صَارَ أَحَقَّ بِهِ، كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى النَّيْلِ صَارَ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ مِنْهُ، مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ، وَهَلْ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ؟ فِيهِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ حَفَرَ آخَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ. وَإِذَا وَصَلَ إلَى ذَلِكَ الْعِرْقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 مَنْعُهُ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْمَعْدِنَ يُمْلَكُ بِحَفْرِهِ. أَوْ لَمْ نَقُلْ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَلَكَهُ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَكَانَ الَّذِي حَفَرَهُ، وَأَمَّا الْعِرْقُ الَّذِي فِي الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ. وَمَنْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَهُ أَخْذُهُ. وَلَوْ ظَهَرَ فِي مِلْكِهِ مَعْدِنٌ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ النِّيلُ عَنْ أَرْضِهِ، فَحَفَرَ إنْسَانٌ مِنْ خَارِجِ أَرْضِهِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا خَرَجَ عَنْ أَرْضِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، إنَّمَا مَلَكَ مَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَا كَانَ دَاخِلًا فِي أَرْضِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ الْبَاطِنَةِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ أَخْذَ أَجْزَائِهَا الظَّاهِرَةِ. وَلَوْ حَفَرَ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعْدِنًا، فَوَصَلَ إلَى النِّيلِ، ثُمَّ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، لَمْ تَصِرْ غَنِيمَةً، وَكَانَ وُجُودُ عَمَلِهِ وَعَدَمُهُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ عَامِرَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ مَلَكَهُ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلّهَا تَصِيرُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، فَتُعَيَّنُ لَهَا، كَمَا لَوْ ظَهَرَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. [فَصْل كَانَ فِي الْمَوَاتِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ مَعْدِنًا ظَاهِرًا] (4342) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ فِي الْمَوَاتِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ مَعْدِنٌ ظَاهِرٌ، كَمَوْضِعٍ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، إذَا صَارَ فِيهِ مَاءُ الْبَحْرِ صَارَ مِلْحَا، مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ، وَجَازَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِحْدَاثِهِ، بَلْ يَحْدُثُ نَفْعُهُ بِفِعْلِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَبَقِيَّةِ الْمَوَاتِ، وَإِحْيَاءُ هَذَا بِتَهْيِئَتِهِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ حَفْرِ تُرَابِهِ، وَتَمْهِيدِهِ، وَفَتْحِ قَنَاةٍ إلَيْهِ تَصُبُّ الْمَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ بِهَذَا الِانْتِفَاعُ بِهِ. [فَصْل مَلَكَ مَعْدِنًا فَعَمِلَ فِيهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (4343) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ مَعْدِنًا، فَعَمِلَ فِيهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَمَا حَصَلَ مِنْهُ فَهُوَ لِمَالِكِهِ، وَلَا أَجْرَ لِلْغَاصِبِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ حَصَدَ زَرْعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ قَالَ مَالِكُهُ: اعْمَلْ فِيهِ، وَلَك مَا يَخْرُجُ مِنْهُ. فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْمَعْدِنِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةٌ مِنْ مَالِكِهِ، فَمَلَكَ مَا أَخَذَهُ، كَمَا لَوْ أَبَاحَهُ الْأَخْذَ مِنْ دَارِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ. وَإِنْ قَالَ: اعْمَلْ فِيهِ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ نَيْلٍ كَانَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ. فَعَمِلَ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ، وَمَا يَأْخُذُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: اُحْصُدْ هَذَا الزَّرْعَ بِنِصْفِهِ أَوْ ثُلُثِهِ. وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَصَحَّ الْعَمَلُ فِيهَا بِبَعْضِهِ، كَالْمُضَارَبَةِ فِي الْأَثْمَانِ. وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إجَارَةً؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ، وَالْعَمَلَ مَجْهُولٌ، وَلَا جَعَالَةً؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ، وَلَا مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِالْأَثْمَانِ، عَلَى أَنْ يَرُدّ رَأْسَ الْمَالِ، وَتَكُونَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هَاهُنَا. وَفَارَقَ حَصَادَ الزَّرْعِ بِنِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَمَا عُلِمَ جَمِيعُهُ عُلِمَ جُزْؤُهُ، بِخِلَافِ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: اعْمَلْ فِيهِ كَذَا، وَلَك مَا يَحْصُلُ مِنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا. أَوْ شَيْئًا مَعْلُومًا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِمَجْهُولِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 مُعَامَلَةً كَالْمُضَارَبَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ، لَا دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَخَذَ مَعْدِنًا مِنْ قَوْمٍ، عَلَى أَنْ يَعْمُرَهُ، وَيَعْمَلَ فِيهِ، وَيُعْطِيَهُمْ أَلْفَيْ مَنٍّ أَوْ أَلْفَ مَنٍّ صُفْرًا. فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ فِي دُورِ كَذَا بِدِينَارِ] (4344) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِر لَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فِي دُورِ كَذَا، بِدِينَارٍ صَحَّ؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَإِنْ ظَهَرَ عِرْقُ ذَهَبٍ، فَقَالَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتُخْرِجَهُ بِدِينَارٍ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَجْهُولٌ. وَإِنْ قَالَ: إنْ اسْتَخْرَجْته فَلَكَ دِينَارٌ. صَحَّ، وَيَكُونُ جَعَالَةً؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ تَصِحُّ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا. [فَصْلٌ سَبَقَ فِي الْمَوَاتِ إلَى مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ] (4345) فَصْلٌ: وَمَنْ سَبَقَ فِي الْمَوَاتِ إلَى مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِمَا يَنَالُ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ لَهُ» . فَإِنْ أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَأَرَادَ الْإِقَامَةَ فِيهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ، مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ فِي مَشْرَعَةِ الْمَاءِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامَ وَالْأَخْذَ، احْتَمَلَ أَنْ يُمْنَعَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ لَهُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُمْنَعَ؛ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَإِنْ اسْتَبَقَ إلَيْهِ اثْنَانِ، وَضَاقَ الْمَكَانُ عَنْهُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي أَيْدِيهِمَا وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا بِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْصِبُ مَنْ يَأْخُذُ لَهُمَا، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنْ الْجَزَائِرِ لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ] (4346) فَصْلٌ: وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنْ الْجَزَائِرِ، لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ إلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ. يَعْنِي أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا، رَجَعَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ. وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبِتُ الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ» . وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنْ النَّبَاتِ، وَقَالَ: إذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى مِلْكِ إنْسَانٍ، ثُمَّ عَادَ فَنَضَبَ عَنْهُ، فَلَهُ أَخْذُهُ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 أَحَدٌ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لَا تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمِ فِيهِ حَقٌّ، فَأَشْبَهَ التَّحَجُّرَ فِي الْمَوَاتِ. [فَصْلٌ حُكْم إحْيَاء مَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ] (4347) فَصْلٌ: وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ، سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا، وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ، فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ. وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مِنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ؛ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَالِاجْتِيَازِ، قَالَ أَحْمَدُ، فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ غَدْوَةً: فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ. وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنًى مَنَاخُ مَنْ سَبَقَ» . وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ، بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، مِنْ بَارِيَّةٍ، وَتَابُوتٍ، وَكِسَاءٍ، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ. وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لَا دَكَّةً وَلَا غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَيَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ بِاللَّيْلِ، وَالضَّرِيرُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ، فَإِنْ قَامَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إزَالَتُهُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ، كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ زَالَتْ وَإِنْ قَعَدَ وَأَطَالَ، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، وَيَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيه غَيْرُهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُزَالَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ. وَإِنْ اسْتَبَقَ اثْنَانِ إلَيْهِ، احْتَمَلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْجَالِسُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ، لَمْ يَحِلّ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ تَمْكِينُهُ بِعِوَضٍ، وَلَا غَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبِيعُونَ عَلَى الطَّرِيقِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ ضَيِّقٌ، أَوْ يَكُونُ يُؤْذِي الْمَارَّةَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ وَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي الطَّحْنُ فِي الْعُرُوبِ إذَا كَانَتْ فِي طَرِيقِ النَّاسِ. وَهُوَ السُّفُنُ الَّتِي يُطْحَنُ فِيهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي. إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ، لِتَضْيِيقِهَا طَرِيقَ السُّفُنِ الْمَارَّةِ فِي الْمَاءِ. قَالَ أَحْمَدُ: رُبَّمَا غَرِقَتْ السُّفُنُ، فَأَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَوَقَّى الشِّرَاءَ مِمَّا يُطْحَنُ بِهَا. [فَصْلٌ فِي الْقَطَائِعِ] (4348) فَصْلٌ: فِي الْقَطَائِعِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا إقْطَاعُ إرْفَاقٍ، وَذَلِكَ إقْطَاعُ مَقَاعِدِ السُّوقِ، وَالطُّرُقِ الْوَاسِعَةِ، وَرِحَابِ الْمَسَاجِدِ، الَّتِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 ذَكَرْنَا أَنَّ لِلسَّابِقِ إلَيْهَا الْجُلُوسَ فِيهَا، فَلِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا؛ لِأَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ إلَّا فِيمَا لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجْلِسَ فِيهَا مَنْ لَا يَرَى أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِجُلُوسِهِ. وَلَا يَمْلِكُهَا الْمُقْطَعُ بِذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إقْطَاعٍ سَوَاءً، إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ السَّابِقَ إذَا نَقَلَ مَتَاعَهُ عَنْهَا، فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا بِسَبْقِهِ إلَيْهَا، وَمُقَامِهِ فِيهَا، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْهَا، زَالَ اسْتِحْقَاقُهُ، لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ، وَهَذَا اسْتَحَقَّ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ، فَلَا يَزُولُ حَقُّهُ بِنَقْلِ مَتَاعِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَحُكْمُهُ فِي التَّظْلِيلِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَيْسَ بِنَاءً، وَمَنْعِهِ مِنْ الْبِنَاءِ، وَمَنْعِهِ إذَا طَالَ مُقَامُهُ، حُكْمُ السَّابِقِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. الثَّانِي إقْطَاعُ مَوَاتٍ مِنْ الْأَرْضِ لِمَنْ يُحْيِيهَا ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَهُ أَرْضًا، فَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةَ أَنْ أَعْطِهِ إيَّاهُ، أَوْ أَعْلِمْهُ إيَّاهُ.» حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَأَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، وَأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ الْمَأْرِبِيَّ، وَأَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى فَرَسَهُ حَتَّى قَامَ وَرَمَى بِسَوْطِهِ، فَقَالَ: " أَعْطُوهُ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ السَّوْطُ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَنْصَارَ لِيَقْطَعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنْ فَعَلْت، فَاكْتُبْ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا» . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْضًا، وَأَنَّ عُثْمَانَ أَقْطَعَ خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ الزُّبَيْرَ، وَسَعْدًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَأُسَامَةَ بْن زَيْدٍ، وَخَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ. وَيُرْوَى عَنْ نَافِعٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّ قِبَلَنَا أَرْضًا بِالْبَصْرَةِ، لَيْسَتْ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، وَلَا تَضُرُّ بِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُقْطِعَنِيهَا أَتَّخِذُ فِيهَا قَصِيلًا لِخَيْلِي، فَافْعَلْ. قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى: إنْ كَانَتْ كَمَا يَقُولُ، فَأَقْطِعْهَا إيَّاهُ رَوَى هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ ". وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ أَرْضًا» . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ الْمَوَاتِ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ، كَالْمُتَحَجِّرِ لِلشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، حَيْثُ اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْهُ مَا عَجَزَ عَنْ إحْيَائِهِ مِنْ الْعَقِيقِ، الَّذِي أَقْطَعَهُ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهُ. وَرَدَّ عُمَرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 أَيْضًا قَطِيعَةَ أَبِي بَكْرٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، فَسَأَلَ عُيَيْنَةُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ كِتَابًا فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُجَدِّدُ شَيْئًا رَدَّهُ عُمَرُ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. لَكِنَّ الْمُقْطَعَ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَوْلَى بِإِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ، وَإِلَّا قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: إنْ أَحْيَيْته، وَإِلَّا فَارْفَعْ يَدَك عَنْهُ. كَمَا قَالَ عُمَرُ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقْطِعْك لِتَحْجُبَهُ دُونَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أَقْطَعَك لِتَعْمُرَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْت عَلَى عِمَارَتِهِ، وَرُدَّ الْبَاقِيَ. وَإِنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِعُذْرٍ، أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَإِنْ طَلَبَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، لَمْ يُمْهَلْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَحَجِّرِ وَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ فَأَحْيَاهُ قَبْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ أَرْضًا، فَعَطَّلُوهَا، فَجَاءَ قَوْمٌ فَأَحْيَوْهَا، فَخَاصَمَهُمْ الَّذِينَ أَقْطَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كَانَتْ قَطِيعَةً مِنِّي، أَوْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، لَمْ أَرُدَّهَا، وَلَكِنَّهَا قَطِيعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَا أَرُدُّهَا» ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَطِيعَةً مِنْ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا. وَالثَّانِي، لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقْطَعِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ» أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ مُسْلِمٍ، لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُتَحَجِّرِ، وَهَذَا مِثْلُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُ مَا لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ مِنْ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ] (4349) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُ مَا لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ مِنْ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا اسْتَقْطَعَهُ أَبْيَضُ بْنُ حَمَّالٍ الْمِلْحَ الَّذِي بِمَأْرِبَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّمَا أَقْطَعْتَهُ الْمَاءَ الْعِدَّ. رَجَعَهُ مِنْهُ» . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِي إقْطَاعِ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ وَجْهَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ لَا يَقْطَع الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْ الْمَوَاتِ إلَّا مَا يُمْكِنُهُ إحْيَاؤُهُ] (4350) فَصْلٌ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَع الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْ الْمَوَاتِ، إلَّا مَا يُمْكِنُهُ إحْيَاؤُهُ؛ لِأَنَّ فِي إقْطَاعِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَإِنْ فَعَلَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ عَجْزُهُ عَنْ إحْيَائِهِ، اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُ، كَمَا اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ عِمَارَتِهِ مِنْ الْعَقِيقِ، الَّذِي أَقْطَعَهُ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ فِي الْحِمَى] (4351) فَصْلٌ: فِي الْحِمَى، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْمِيَ أَرْضًا مِنْ الْمَوَاتِ، يَمْنَعُ النَّاسَ رَعْيَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَلَأِ، لِيَخْتَصّ بِهَا دُونَهُمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 وَكَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْرِفُ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا انْتَجَعَ بَلَدًا أَوْفَى بِكَلْبٍ عَلَى نَشَزَ، ثُمَّ اسْتَعْوَاهُ. وَوَقَفَ لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ بِالْعُوَاءِ، فَحَيْثُمَا انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِنَفْسِهِ، وَيَرْعَى مَعَ الْعَامَّةِ فِيمَا سِوَاهُ. فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ. وَرَوَى الصَّعْبُ بْن جَثَّامَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلَأِ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ سِوَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحْمِيَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: «لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . لَكِنَّهُ لَمْ يَحْمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا حَمَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «حَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَالنَّقِيعُ، بِالنُّونِ: مَوْضِعٌ يُنْتَقَعُ فِيهِ الْمَاءُ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْخِصْبُ، لِمَكَانِ مَا يَصِيرُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَأَمَّا سَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ، وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ وَضَوَالُّ النَّاسِ الَّتِي يَقُومُ الْإِمَامُ بِحِفْظِهَا، وَمَاشِيَةُ الضَّعِيفِ مِنْ النَّاسِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ مَنْ سِوَاهُ مِنْ النَّاسِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَيْسَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِيَ؛ لِقَوْلِهِ: «لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ حَمَيَا، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ إجْمَاعًا وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِلَادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، عَلَامَ تَحْمِيهَا؟ فَأَطْرَقَ عُمَرُ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ، وَيَفْتِلُ شَارِبَهُ، وَكَانَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ فَتَلَ شَارِبَهُ، وَنَفَخَ فَلَمَّا رَأَى الْأَعْرَابِيُّ مَا بِهِ جَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَوْلَا مَا أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ فِي شِبْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ فِي كُلِّ عَامٍ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ الظَّهْرِ. وَعَنْ أَسْلَمَ، قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ لِهُنَيٍّ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ: يَا هُنَيُّ، اُضْمُمْ جَنَاحَك عَنْ النَّاسِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ. وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ، وَدَعْنِي مِنْ نَعَمِ ابْن عَوْفٍ وَنَعَمِ ابْن عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُمَا رَجَعَا إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ هَذَا الْمِسْكِينَ إنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ، جَاءَ يَصْرُخُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ أَمْ غُرْمُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، إنَّهَا أَرْضُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنَّا نَظْلِمُهُمْ، وَلَوْلَا النَّعَمُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا حَمَيْت عَلَى النَّاسِ مِنْ بِلَادِهِمْ شَيْئًا أَبَدًا. وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّ مَا كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، قَامَتْ الْأَئِمَّةُ فِيهِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَطْعَمَ اللَّهُ لِنَبِيٍّ طُعْمَةً إلَّا جَعَلَهَا طُعْمَةً لِمَنْ بَعْدَهُ» وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَخْصُوصٌ، وَأَمَّا حِمَاهُ لِنَفْسِهِ، فَيُفَارِقُ حِمَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ صَلَاحَهُ يَعُودُ إلَى صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا لَهُ كَانَ يَرُدُّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَفَارَقَ الْأَئِمَّةَ فِي ذَلِكَ، وَسَاوَوْهُ فِيمَا كَانَ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا إلَّا قَدْرًا لَا يُضَيَّقُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَضُرُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِمَا يَحْمَى، وَلَيْسَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ إدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. [فَصْلٌ حُكْم مَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ] (4352) فَصْلٌ: وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، وَلَا تَغْيِيرُهُ، مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَمَنْ أَحْيَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ. وَإِنْ زَالَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَمَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَغَيَّرَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، جَازَ. وَإِنْ أَحْيَاهُ إنْسَانٌ، مَلَكَهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ حِمَى الْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ، وَمِلْكُ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ، وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الِاجْتِهَادِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا. [فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ] (4353) فَصْلٌ: فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ، قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ حُكْمَ مِلْكِهَا وَبَيْعِهَا، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا حُكْمَ السَّقْيِ بِهَا. فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو الْمَاءُ مِنْ حَالَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا، أَوْ وَاقِفًا، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا عَظِيمًا، كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِسَقْيِهِ مِنْهَا، فَهَذَا لَا تَزَاحُمَ فِيهِ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا مَا شَاءَ، مَتَى شَاءَ، وَكَيْف شَاءَ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهِ، وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ، أَوْ سَيْلًا يَتَشَاحُّ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 أَهْلُ الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ، فَيَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْكَعْبِ، ثُمَّ يُرْسِلُ إلَى الَّذِي يَلِيهِ فَيَصْنَعُ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، أَوْ عَنْ الثَّانِي، أَوْ عَمَّنْ يَلِيهِمْ فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِينَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا مَا فَضَلَ، فَهُمْ كَالْعُصْبَةِ فِي الْمِيرَاثِ. وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا، إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك. فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ. وَذَكَرَ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْجَدْرِ» . فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الشِّرَاجُ: جَمْعُ شَرْجٍ، وَالشَّرْجُ: نَهْرٌ صَغِيرٌ، وَالْحَرَّةُ: أَرْضٌ مُلْتَبِسَةٌ بِحِجَارَةٍ سُودٍ، وَالْجَدْرُ: الْجِدَارُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرَ أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ، تَسْهِيلًا عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ مَا قَالَ، اسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرَ حَقَّهُ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أَبِي بَكْرِ بْن حَزْمٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ: يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ، مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: مَهْزُورٌ وَمُذَيْنِيبٌ: وَادِيَانِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ، يَسِيلَانِ بِالْمَطَرِ، وَتَتَنَافَسُ أَهْلُ الْحَوَائِطِ فِي سَيْلِهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، أَنَّهُ «سَمِعَ كُبَرَاءَهُمْ يَذْكُرُونَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَخَاصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَالسَّيْلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَاءَ إلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا يَحْبِسُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ» وَلِأَنَّ مَنْ أَرْضُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ أَسْبَقُ إلَى الْمَاءِ، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ، كَمَنْ سَبَقَ إلَى الْمُشَرَّعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مُخْتَلِفَةً، مِنْهَا مُسْتَعْلِيَةٌ وَمِنْهَا مُسْتَفِلَةٌ، سَقَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهَا، وَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا، إنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا، سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِجَمِيعِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُسَاوِيه فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، لَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَسْفَلِ حَقٌّ إلَّا فِيمَا فَضَلَ عَنْ الْأَعْلَى فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الْآخَرِ، قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ، فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْ الْمَاءِ، كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ. وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ رَسْمُ شُرْبٍ، مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، أَوْ سَيْلٍ، وَجَاءَ إنْسَانٌ لِيُحْيِيَ مَوَاتًا أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَسْبَقُ إلَى النَّهْرِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا، وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ إبْطَالَ حُقُوقِهَا، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهَا. وَهَلْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوَاتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي النَّهْرِ لَا فِي الْمَوَاتِ. وَالثَّانِي لَهُمْ مَنْعُهُ، لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِهِمْ حَقَّهُمْ مِنْ السَّقْيِ، لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْبِ إذَا طَالَ الزَّمَانُ وَجُهِلَ الْحَالُ فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ. فَسَبَقَ إنْسَانٌ إلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَأَحْيَا فِي أَسْفَلِهِ مَوَاتًا، ثُمَّ أَحْيَا آخَرُ فَوْقَهُ، ثُمَّ أَحْيَا ثَالِثٌ فَوْقَ الثَّانِي، كَانَ لِلْأَسْفَلِ السَّقْيُ أَوَّلًا، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثِ، وَيُقَدَّمُ السَّبْقُ إلَى الْإِحْيَاءِ عَلَى السَّبْقِ إلَى أَوَّلِ النَّهْرِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ الْمَاءُ الْجَارِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ] (4354) فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِي الْمَاءُ الْجَارِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ، وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مُبَاحَ الْأَصْلِ، مِثْلَ أَنْ يَحْفِرَ إنْسَانٌ نَهْرًا صَغِيرًا، يَتَّصِلُ بِنَهْرٍ كَبِيرٍ مُبَاحٍ، فَمَا لَمْ يَتَّصِلْ الْحَفْرُ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحَجُّرٌ وَشُرُوعٌ فِي الْإِحْيَاءِ، فَإِذَا اتَّصَلَ الْحَفْرُ، كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَمَلَكَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِمَارَةُ إلَى قَصْدِهَا، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى صُورَتِهَا، وَهَذَا كَذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 وَسَوَاءٌ أَجْرَى فِيهِ الْمَاءَ أَوْ لَمْ يُجْرِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُهَيِّئَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ دُونَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِقَرَارِ النَّهْرِ وَحَافَّتَيْهِ، وَهَوَاؤُهُ حَقٌّ لَهُ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُهُ، وَهُوَ مُلْقَى الطِّينِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَعِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ النَّهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَمْ تُمْلَكْ، فَهِيَ لَهُ» . وَإِحْيَاؤُهَا أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا، أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا حَوَالَيْهَا، وَحَرِيمُ النَّهْرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَانَ النَّهْرُ لِجَمَاعَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مُلِكَ بِالْعِمَارَةِ، وَالْعِمَارَةُ بِالنَّفَقَةِ، فَإِنْ كَفَى جَمِيعَهُمْ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ، وَتَرَاضَوْا عَلَى قِسْمَتِهِ بِالْمُهَايَأَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ. وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي قِسْمَتِهِ، قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ مِنْ النَّهْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، فَتُؤْخَذُ خَشَبَةٌ صُلْبَةٌ، أَوْ حَجَرٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، فَيُوضَعُ عَلَى مَوْضِعٍ مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ، فِي مُقَدَّمِ الْمَاءِ، فِيهِ حُزُوزٌ، أَوْ ثُقُوبٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي السَّعَةِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ أَوْ ثُقْبٍ إلَى سَاقِيَةٍ مُفْرَدَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَاءُ فِي سَاقِيَتِهِ انْفَرَدَ بِهِ فَإِنْ كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قُسِّمَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ، جُعِلَ فِيهِ سِتَّةُ ثُقُوبٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ لَوَاحِدٍ الْخُمْسَانِ، وَالْبَاقِي لِاثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، جُعِلَ عَشَرَةُ ثُقُوبٍ لِصَاحِبِ الْخُمْسَيْنِ أَرْبَعَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَةٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ، جُعِلَ لِأَصْحَابِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةُ ثُقُوبٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبٌ، وَجُعِلَ لِلْبَاقِينَ خَمْسَةٌ، تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِلَ إلَى أَرْضِهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي سَاقِيَةِ غَيْرِهِ، لِيُقَاسِمَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي سَاقِيَتِهِ، وَيُخَرِّبُ حَافَّتَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَخْلِطُ حَقَّهُ بِحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِنَا " إنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ " أَنَّ حُكْمَ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ حُكْمُهُ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَأَنَّ الْأَسْبَقَ أَحَقُّ بِالسَّقْيِ مِنْهُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَكَانَ الْأَسْبَقُ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 [فَصْلٌ حَصَلَ نَصِيبُ إنْسَانٍ فِي سَاقِيَهُ] (4355) فَصْلٌ: وَإِذَا حَصَلَ نَصِيبُ إنْسَانٍ فِي سَاقِيَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يَسْقِي بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ سَقْيُ أَرْضٍ لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ فِي هَذَا الْمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَالٌ عَلَى أَنَّ لَهَا قِسْمًا مِنْ هَذَا الْمَاءِ، فَرُبَّمَا جُعِلَ سَقْيُهَا مِنْهُ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِذَلِكَ، فَيَسْتَضِرُّ الشُّرَكَاءُ، وَيَصِيرُ هَذَا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ بَابُهَا فِي دَرْبٍ لَا يَنْفُذُ، وَدَارٌ بَابُهَا فِي دَرْبٍ آخَرَ، ظَهْرُهَا مُلَاصِقٌ لِظَهْرِ دَارِهِ الْأُولَى، فَأَرَادَ تَنْفِيذَ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ اسْتِطْرَاقًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا مَاءٌ انْفَرَدَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ مَا شَاءَ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الدَّارَيْنِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ دَارٍ يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى دَرْبٍ آخَرَ مُشْتَرَكٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ لِكُلِّ دَارٍ سُكَّانًا، فَيَجْعَلُ لِسُكَّانِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اسْتِطْرَاقًا إلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي اسْتِطْرَاقِهِ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَسْقِي مِنْ سَاقِيَتِهِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا، فَلَوْ صَارَ لِتِلْكَ الْأَرْضِ رَسْمٌ مِنْ الشُّرْبِ مِنْ سَاقِيَتِهِ، لَمْ يَتَضَرَّرْ بِذَلِكَ أَحَدٌ وَلَوْ كَانَ يَسْقِي مِنْ هَذَا النَّهْرِ بِدُولَابِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَرْضًا لَا رَسْمَ لَهَا فِي الشُّرْبِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَ الدُّولَابُ يَغْرِفُ مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، جَازَ أَنْ يَسْقِيَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمَاءِ أَرْضًا لَا رَسْمَ لَهَا فِي الشُّرْبِ مِنْهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ فَإِنْ ضَاقَ الْمَاءُ، قُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ، عَلَى مَا مَضَى. (4356) فَصْلٌ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي سَاقِيَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِمَا أَحَبَّ، مِنْ إجْرَاءِ غَيْرِ هَذَا الْمَاءِ فِيهَا، أَوْ عَمَلِ رَحًى عَلَيْهَا، أَوْ دُولَابٍ، أَوْ عَبَّارَةٍ، وَهِيَ خَشَبَةٌ تُمَدُّ عَلَى طَرَفَيْ النَّهْرِ، أَوْ قَنْطَرَةٍ يَعْبُرُ الْمَاءُ فِيهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا. فَأَمَّا النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ، فَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَفِي حَرِيمِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شُرَكَائِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْعَبَّارَةِ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي مَنْ أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يَنْفَعُ صَاحِبَهَا، لِأَنَّهُ يَسْقِي عُرُوقَ شَجَرِهِ، وَيَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَهَذَا لَا يَنْفَعُ النَّهْرَ، بَلْ رُبَّمَا أَفْسَدَ حَافَّتَيْهِ، وَلَمْ يَسْقِ لَهُ شَيْئًا. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ قَبْلَ قَسْمِهِ شَيْئًا يَسْقِي بِهِ أَرْضًا فِي أَوَّلِ النَّهْرِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَرَادَ إنْسَانٌ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَحَقَّ بِالْمَاءِ الْجَارِي فِي نَهْرِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْمَاءِ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى تَصَرُّفٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 فِي حَافَّةِ النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ، أَوْ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَوْ فَاضَ مَاءُ هَذَا النَّهْرِ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ، فَهُوَ مُبَاحٌ، كَالطَّائِرِ يُعَشِّشُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ قَسَّمُوا مَاءَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْمُهَايَأَةِ] (4357) فَصْلٌ: وَإِنْ قَسَّمُوا مَاءَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْمُهَايَأَةِ، جَازَ، إذَا تَرَاضَوْا بِهِ، وَكَانَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلُوا لِكُلِّ حِصَّةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ. وَإِنْ قَسَّمُوا النَّهَارَ، فَجَعَلُوا لِوَاحِدٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَلِلْآخَرِ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، جَازَ. وَإِنْ قَسَّمُوهُ سَاعَاتٍ، وَأَمْكَنَ ضَبْطُ ذَلِكَ بِشَيْءِ مَعْلُومٍ، كَطَاسَةِ مَثْقُوبَةٍ تُتْرَكُ فِي الْمَاءِ، وَفِيهَا عَلَامَاتٌ إذَا انْتَهَى الْمَاءُ إلَى عَلَامَةٍ كَانَتْ سَاعَةً، وَإِذَا انْتَهَى إلَى الْأُخْرَى كَانَتْ سَاعَتَيْنِ، أَوْ زُجَاجَةٍ فِيهَا رَمْلٌ، يَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا إلَى أَسْفَلِهَا فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقْلِبُهَا فَيَعُودُ الرَّمْلُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، أَوْ بِمِيزَانِ الشَّمْسِ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ سَاعَاتُ النَّهَارِ، أَوْ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، جَازَ. فَإِذَا حَصَلَ الْمَاءُ لِأَحَدِهِمْ فِي نَوْبَتِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا، أَوْ يُؤْثِرَ بِهِ إنْسَانًا، أَوْ يُقْرِضَهُ إيَّاهُ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِي حَافَّةِ النَّهْرِ، جَازَ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ النَّوْبَةِ أَنْ يُجْرِيَ مَعَ مَائِهِ مَاءً لَهُ آخَرَ، يَسْقِي بِهِ أَرْضَهُ الَّتِي لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، أَوْ أَرْضًا لَهُ أُخْرَى. أَوْ سَأَلَهُ إنْسَانٌ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً لَهُ مَعَ مَائِهِ فِي هَذَا النَّهْرِ، لِيُقَاسِمهُ إيَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَلَا بِأَحَدٍ، جَازَ ذَلِكَ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا: جَازَ أَنْ يُجْرِيَ فِيهَا مَاءً فِي نَهْرٍ مَحْفُورٍ، إذَا كَانَ فِيهَا. وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِنَفْعِ النَّهْرِ فِي نَوْبَتِهِ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِذَلِكَ. [فَصْلٌ كَوْن مَنْبَعُ الْمَاءِ مَمْلُوكًا] (4358) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مَنْبَعُ الْمَاءِ مَمْلُوكًا، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ فِي اسْتِنْبَاطِ عَيْنٍ وَإِجْرَائِهَا، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إحْيَاءٌ لَهَا، وَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَفِي سَاقِيَتِهَا، عَلَى حَسَبِ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا، وَعَمِلُوا فِيهَا، كَمَا ذَكَرْنَا، فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، إلَّا أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ثَمَّ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ دَخَلَ مِلْكَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ صَيْدٌ بُسْتَانَه، وَهَاهُنَا يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَوُضُوئِهِ وَغُسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، إذَا لَمْ يَدْخُلْ إلَيْهِ فِي مَكَان مُحَوَّطٍ عَلَيْهِ. وَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ كَانَ بِفَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ ابْنَ السَّبِيلِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ بُهَيْسَة، عَنْ أَبِيهَا، أَنَّهُ قَالَ: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَك.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِ النَّهْرِ. فَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ الْمَاءُ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ، لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ، لَمْ يَلْزَمْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [فَصْلٌ كَانَ النَّهْرُ أَوْ السَّاقِيَةُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ] (4359) فَصْلٌ: إذَا كَانَ النَّهْرُ أَوْ السَّاقِيَةُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ، فَإِنْ أَرَادُوا إكْرَاءَهُ أَوْ سَدَّ بَثْقٍ فِيهِ، أَوْ إصْلَاحَ حَائِطِهِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مِلْكِهِمْ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَدْنَى إلَى أَوَّلِهِ مِنْ بَعْضٍ، اشْتَرَكَ الْكُلُّ فِي إكْرَائِهِ وَإِصْلَاحِهِ، إلَى أَنْ يَصِلُوا إلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَشْتَرِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَصِلُوا إلَى الثَّانِي، ثُمَّ يَشْتَرِكُ مَنْ بَعْدَهُ كَذَلِكَ، كُلَّمَا انْتَهَى الْعَمَلُ إلَى مَوْضِعِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَشْتَرِكُ جَمِيعُهُمْ فِي إكْرَائِهِ كُلِّهِ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِجَمِيعِهِ، فَإِنَّ مَا جَاوَزَ الْأَوَّلَ مَصَبٌّ لِمَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْقِ أَرْضَهُ. وَلَنَا أَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ شُرْبِهِ، وَمَا بَعْدَهُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مَنْ دُونَهُ، فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِي مُؤْنَتِهِ، كَمَا لَا يُشَارِكُهُمْ فِي نَفْعِهِ، فَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَصْرِفٍ، فَمُؤْنَةُ ذَلِكَ الْمَصْرِفِ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، كَأَوَّلِهِ. [مَسْأَلَة إحْيَاءُ الْأَرْضِ أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا] (4360) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ تَحْوِيطَ الْأَرْضِ إحْيَاءٌ لَهَا، سَوَاءٌ أَرَادَهَا لِلْبِنَاءِ، أَوْ لِلزَّرْعِ، أَوْ حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ، أَوْ الْخَشَبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ: الْإِحْيَاءُ أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا، أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ نَهْرًا. وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ تَسْقِيفٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ، فَهِيَ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ ". وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ الْحَائِطَ حَاجِزٌ مَنِيعٌ، فَكَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 إحْيَاءً، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَعَلَهَا حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ. وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْقَصْدَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَرَادَهَا حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ، فَبَنَاهَا بِجِصٍّ وَآجُرٍّ، وَقَسَمَهَا بُيُوتًا، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا، وَهَذَا لَا يُصْنَعُ لِلْغَنَمِ مِثْلُهُ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ مَنِيعًا يَمْنَعُ مَا وَرَاءَهُ، وَيَكُونَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَحْدَهَا، كَأَهْلِ حَوْرَانَ وَفِلَسْطِينَ، أَوْ بِالطِّينِ، كَالْفَطَائِرِ لِأَهْلِ غُوطَةِ دِمَشْقَ، أَوْ بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْقَصَبِ، كَأَهْلِ الْغَوْرِ، كَانَ ذَلِكَ إحْيَاءً. وَإِنْ بَنَاهُ بِأَرْفَعَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ، كَانَ أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي صِفَةِ الْإِحْيَاءِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ الْإِحْيَاءُ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ إحْيَاءً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَعْلِيقِ الْمِلْكِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَلَا ذَكَرَ كَيْفِيَّتَهُ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى مَا كَانَ إحْيَاءً فِي الْعُرْفِ. كَمَا أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالْحِرْزِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمًّى بِاسْمِ، لَتَعَلَّقَ بِمُسَمَّاهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى إحْيَاءً عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعَلِّقُ حُكْمًا عَلَى مَا لَيْسَ إلَى مَعْرِفَتِهِ طَرِيقٌ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ، تَعَيَّنَ الْعُرْفُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِهِ، إذْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُحْيِي دَارًا لِلسُّكْنَى، وَحَظِيرَةً، وَمَزْرَعَةً، فَإِحْيَاءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ بِتَهْيِئَتِهَا لِلِانْتِفَاعِ الَّذِي أُرِيدَتْ لَهُ، فَأَمَّا الدَّارُ، فَبِأَنْ يَبْنِيَ حِيطَانَهَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَيَسْقُفَهَا، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلسُّكْنَى إلَّا بِذَلِكَ وَأَمَّا الْحَظِيرَةُ فَإِحْيَاؤُهَا بِحَائِطٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْقِيفُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَسْقِيفٍ؛ وَسَوَاءٌ أَرَادَهَا حَظِيرَةً لِلْمَاشِيَةِ، أَوْ لِلْخَشَبِ، أَوْ لِلْحَطَبِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَوْ خَنْدَقَ عَلَيْهَا خَنْدَقًا، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَائِطٍ وَلَا عِمَارَةٍ، إنَّمَا هُوَ حَفْرٌ وَتَخْرِيبٌ. وَإِنْ خَاطَهَا بِشَوْكٍ وَشِبْهِهِ، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً، وَكَانَ تَحَجُّرًا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ يَنْزِلُ مَنْزِلًا، وَيُحَوِّطُ عَلَى رَحْلِهِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَنَصَبَ بِهِ بَيْتَ شَعْرٍ أَوْ خَيْمَةً، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً. وَإِنْ أَرَادَهَا لِلزِّرَاعَةِ، فَبِأَنْ يُهَيِّئَهَا لِإِمْكَانِ الزَّرْعِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَا تُزْرَعُ إلَّا بِالْمَاءِ، فَبِأَنْ يَسُوقَ إلَيْهَا مَاءً مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا لِكَثْرَةِ أَحْجَارِهَا، كَأَرْضِ الْحِجَازِ، فَبِأَنْ يَقْلَعَ أَحْجَارَهَا وَيُنَقِّيَهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلزَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ غِيَاضًا وَأَشْجَارًا، كَأَرْضِ الشِّعْرَى، فَبِأَنْ يَقْلَعَ أَشْجَارَهَا، وَيُزِيلَ عُرُوقَهَا الَّتِي تَمْنَعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 الزَّرْعَ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ إلَّا بِحَبْسِ الْمَاءِ عَنْهَا، كَأَرْضِ الْبَطَائِحِ الَّتِي يُفْسِدُهَا غَرَقُهَا بِالْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ، فَإِحْيَاؤُهَا بِسَدِّ الْمَاءِ عَنْهَا، وَجَعْلِهَا بِحَالٍ يُمْكِنُ زَرْعُهَا؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِيمَا أَرَادَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَكْرَارِ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَكَانَ إحْيَاءً، كَسَوْقِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْيَاءِ الْأَرْضِ حَرْثُهَا وَلَا زَرْعُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كُلَّمَا أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِهَا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِحْيَاءِ، كَسَقْيِهَا، وَكَالسُّكْنَى فِي الْبُيُوتِ، وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْيَاءِ الْأَرْضِ لِلسُّكْنَى نَصْبُ الْأَبْوَابِ عَلَى الْبُيُوتِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، إلَّا أَنَّ لَهُ وَجْهًا فِي أَنَّ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا إحْيَاءٌ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي إحْيَائِهَا، وَلَا يَتِمُّ بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ نَصْبُ الْأَبْوَابِ عَلَى الْبُيُوتِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، فَأَشْبَهَ التَّسْقِيفَ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ السُّكْنَى مُمْكِنَةٌ بِدُونِ نَصْبِ الْأَبْوَابِ، فَأَشْبَهَ تَطْيِينَ سُطُوحِهَا وَتَبْيِيضَهَا. [مَسْأَلَة حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ لِلتَّمْلِيكِ] (4361) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا حَوَالَيْهَا، وَإِنْ سَبَقَ إلَى بِئْرٍ عَادِيَّةٍ، فَحَرِيمُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا) الْبِئْرُ الْعَادِيَّةُ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ: الْقَدِيمَةُ، مَنْسُوبَةٌ إلَى عَادٍ، وَلَمْ يُرِدْ عَادًا بِعَيْنِهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَادٌ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ لَهَا آثَارٌ فِي الْأَرْضِ، نُسِبَ إلَيْهَا كُلُّ قَدِيمٍ، فَكُلُّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ لِلتَّمْلِيكِ، فَلَهُ حَرِيمُهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ سَبَقَ إلَى بِئْرٍ عَادِيَّةٍ، كَانَ أَحَقَّ بِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ لَهُ. وَلَهُ حَرِيمُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ» . نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ. وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ، بَلْ حَرِيمُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَرْقِيَةِ مَائِهَا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ بِدُولَابٍ فَقَدْرُ مَدَارِ الثَّوْرِ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ بِسَاقِيَةٍ فَبِقَدْرِ طُولِ الْبِئْرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَرِيمُ الْبِئْرِ مَدُّ رِشَائِهَا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلِأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي تَمْشِي إلَيْهِ الْبَهِيمَةُ. وَإِنْ كَانَ يَسْتَقِي مِنْهَا بِيَدِهِ، فَبِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوَاقِفُ عِنْدَهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ عَيْنًا، فَحَرِيمُهَا الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا يَسْتَضِرُّ بِأَخْذِهِ مِنْهَا وَلَوْ عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ. وَحَرِيمُ النَّهْرِ مِنْ جَانِبَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِطَرْحِ كِرَايَتِهِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا ثَبَتَ لِلْحَاجَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَيْ فِيهِ الْحَاجَةُ دُونَ غَيْرِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا لِأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ» وَعَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَلَنَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا» وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَلِيبِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَالْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُمْلَكُ بِهِ الْمَوَاتُ، فَلَا يَقِفُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، كَالْحَائِطِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبِئْرِ لَا تَنْحَصِرُ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَا حَوْلَهَا عَطَنًا لَإِبِلِهِ، وَمَوْقِفًا لِدَوَابِّهِ وَغَنَمِهِ، وَمَوْضِعًا يَجْعَلُ فِيهِ أَحْوَاضًا يَسْقِي مِنْهَا مَاشِيَتَهُ، وَمَوْقِفًا لِدَابَّتِهِ الَّتِي يَسْتَقِي عَلَيْهَا وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْتَصُّ الْحَرِيمُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَرْقِيَةِ الْمَاءِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَحَدِيثُنَا أَصَحُّ مِنْهُ، وَرَوَاهُمَا أَبُو هُرَيْرَة، فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَرِيمَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَاضِي، لَيْسَ بِمَمْلُوكِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا. (4362) فَصْلٌ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ فِيهَا مَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَاءِ، فَهُوَ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي انطمت وَذَهَبَ مَاؤُهَا، فَجَدَّدَ حَفْرَهَا وَعِمَارَتَهَا، أَوْ انْقَطَعَ مَاؤُهَا، فَاسْتَخْرَجَهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ إحْيَاءً لَهَا. وَأَمَّا الْبِئْرُ الَّتِي لَهَا مَاءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ احْتِجَارُهُ وَمَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا النَّاسُ، وَهَكَذَا الْعُيُونُ النَّابِعَةُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا. وَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، أَوْ لِيَنْتَفِعَ هُوَ بِهَا مُدَّةَ إقَامَتِهِ عِنْدَهَا ثُمَّ يَتْرُكَهَا، لَمْ يَمْلِكْهَا، وَكَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا. فَإِذَا تَرَكَهَا صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَمَا دَامَ مُقِيمًا عِنْدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ إلَيْهَا، فَهُوَ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 [فَصْلٌ كَانَ لَإِنْسَانٍ شَجَرَةٌ فِي مَوَاتٍ] (4363) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَإِنْسَانٍ شَجَرَةٌ فِي مَوَاتٍ، فَلَهُ حَرِيمُهَا قَدْرَ مَا تَمُدُّ إلَيْهِ أَغْصَانُهَا حَوَالَيْهَا، وَفِي النَّخْلَةِ مَدُّ جَرِيدِهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «اُخْتُصِمَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ، فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا فَذُرِعَتْ، فَكَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ أَوْ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، فَقَضَى بِذَلِكَ» . وَإِنْ غَرَسَ شَجَرَةً فِي مَوَاتٍ، فَهِيَ لَهُ وَحَرِيمُهَا. وَإِنْ سَبَقَ إلَى شَجَرٍ مُبَاحٍ، كَالزَّيْتُونِ وَالْخَرُّوبِ، فَسَقَاهُ وَأَصْلَحَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ، فَإِنْ طَعِمَهُ مَلَكَهُ بِذَلِكَ وَحَرِيمَهُ؛ لِأَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَا يُرَادُ مِنْهُ، فَهُوَ كَسَوْقِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ. وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . [فَصْلٌ لَهُ بِئْرٌ فِيهَا مَاءٌ فَحَفَرَ آخَرُ قَرِيبًا مِنْهَا بِئْرًا يَنْسَرِقُ إلَيْهَا مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى] (4364) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ بِئْرٌ فِيهَا مَاءٌ، فَحَفَرَ آخَرُ قَرِيبًا مِنْهَا بِئْرًا يَنْسَرِقُ إلَيْهَا مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَفِرُ الثَّانِيَةِ فِي مِلْكِهِ، مِثْلُ رَجُلَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فِي دَارَيْنِ، حَفَرَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِهِ بِئْرًا، ثُمَّ حَفَرَ الْآخَرُ بِئْرًا أَعْمَقَ مِنْهَا، فَسَرَى إلَيْهَا مَاءُ الْأُولَى، أَوْ كَانَتَا فِي مَوَاتٍ، فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا، فَحَفَرَ بِئْرًا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَحَفَرَ قَرِيبًا مِنْهَا بِئْرًا تَجْتَذِبُ مَاءَ الْأُولَى. وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِلْكَهُ عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِالْمَالِكِ قَبْلَهُ. وَقَالَ فِي الْأُولَى: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ فِي مِلْكِهِ، فَجَازَ لَهُ فِعْلُهُ، كَتَعْلِيَةِ دَارِهِ وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ مَا يُحْدِثُهُ الْجَارُ مِمَّا يَضُرُّ بِجَارِهِ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ مَدْبَغَةً، أَوْ حَمَّامًا يَضُرُّ بِعَقَارِ جَارِهِ بِحَمْيِ نَارِهِ وَرَمَادِهِ وَدُخَانِهِ، أَوْ يَحْفِرَ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ حَشًّا يَتَأَذَّى جَارُهُ بِرَائِحَتِهِ وَغَيْرِهَا، أَوْ يَجْعَلَ دَارِهِ مَخْبِزًا فِي وَسَطِ الْعَطَّارِينَ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يُؤْذِي جِيرَانَهُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ فِي مِلْكِهِ، أَشْبَهَ بِنَاءَهُ وَنَقْضَهُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِأَنَّهُ إحْدَاثُ ضَرَرٍ بِجَارِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالدَّقِّ الَّذِي يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيُخَرِّبُهَا، وَكَإِلْقَاءِ السَّمَادِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مَصْنَعُ مَاءٍ، فَأَرَادَ جَارُهُ غَرْسَ شَجَرَةِ تِينٍ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا تَسْرِي عُرُوقُهُ فَتَشُقُّ حَائِطَ مَصْنَعِ جَارِهِ، وَيُتْلِفُهُ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، وَكَانَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَقَلْعُهَا إنْ غَرَسَهَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَحْصُلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 مِنْهُ الضَّرَرُ سَابِقًا، مِثْلُ مَنْ لَهُ فِي مِلْكِهِ مَدْبَغَةٌ أَوْ مُقَصِّرَة، فَأَحْيَا إنْسَانٌ إلَى جَانِبِهِ مَوَاتًا، وَبَنَاهُ دَارًا، يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْ إزَالَةُ الضَّرَرِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ ضَرَرًا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ] (4365) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَحْيَاهُ، أَوْ سَبَقَ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا فَلَمْ يُحْيِهِ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ التَّرْكِ، فَافْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ، كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً، فَهِيَ لَهُ» . وَلِأَنَّ هَذَا عَيْنٌ مُبَاحَةٌ، فَلَا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُهَا إلَى إذْنِ الْإِمَامِ، كَأَخْذِ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي مُشَرَّعَةٍ، طَالَبَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَ حَاجَتَهُ وَيَنْصَرِفَ، وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَيَّ إذْنِهِ. وَأَمَّا مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِلْإِمَامِ تَرْتِيبُ مَصَارِفِهِ فَافْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ هَذَا مُبَاحٌ، فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ، كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصُّيُودِ وَالثِّمَارِ الْمُبَاحَةِ فِي الْجِبَالِ. [فَصْلٌ أَمَّا مَا سَبَقَ إلَيْهِ فَهُوَ الْمَوَاتُ] (4366) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا سَبَقَ إلَيْهِ، فَهُوَ الْمَوَاتُ إذَا سَبَقَ إلَيْهِ فَتَحَجَّرَهُ كَانَ أَحَقَّ، وَإِنْ سَبَقَ إلَى بِئْرٍ عَادِيَّةٍ، فَشَرَعَ فِيهَا يُعَمِّرُهَا، كَانَ أَحَقَّ بِهَا. وَمَنْ سَبَقَ إلَى مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ، أَوْ مَشَارِعِ الْمِيَاهِ وَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَكُلِّ مُبَاحٍ مِثْلِ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْجِبَالِ، وَمَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَوْ يَضِيعُ مِنْهُمْ مِمَّا لَا تَتْبَعُهُ النَّفْسُ، وَاللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ الثَّلْجِ وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، مَنْ سَبَقَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ، وَلَا إذْنِ غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 [كِتَابُ الْوُقُوفِ وَالْعَطَايَا] الْوُقُوفُ: جَمْعُ وَقْفٍ، يُقَالُ مِنْهُ: وَقَفْت وَقْفًا. وَلَا يُقَالُ: أَوْقَفْت. إلَّا فِي شَاذِّ اللُّغَةِ، وَيُقَالُ: حَبَسْت وَأَحْبَسْت. وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ: «إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا» . وَالْعَطَايَا: جَمْعُ عَطِيَّةٍ، مِثْلُ خَلِيَّةٍ وَخَلَايَا، وَبَلِيَّةٍ وَبَلَايَا. وَالْوَقْفُ مُسْتَحَبٌّ. وَمَعْنَاهُ: تَحْبِيسُ الْأَصْلِ، وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ فَقَالَ: إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْت بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَذَوِي الْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا بِالْمَعْرُوفِ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ فِيهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ قَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ. وَلَمْ يَرَ شُرَيْحٌ الْوَقْفَ، وَقَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَلْزَمُ، أَوْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ حَاكِمٌ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاه، فَقَالَا كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ، صَاحِبَ الْأَذَانِ، جَعَلَ حَائِطَهُ صَدَقَةً، وَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَبَوَاهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا عَيْشٌ إلَّا هَذَا الْحَائِطَ. فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَاتَا، فَوَرِثَهُمَا» . رَوَاهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي " أَمَالِيهِ "، وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ مِنْ مِلْكِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَالصَّدَقَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ فِي وَقْفِهِ: لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: تَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِدَارِهِ عَلَى وَلَدِهِ، وَعُمَرُ بِرَبْعِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عَلَى وَلَدِهِ وَعُثْمَانُ بِرُومَةَ، وَتَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِأَرْضِهِ بِيَنْبُعَ، وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ وَدَارِهِ بِمِصْرَ وَأَمْوَالِهِ بِالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَصَدَّقَ سَعْدٌ بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوَهْطِ وَدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْيَوْمِ. وَقَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ. وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَقْفِ وَقَفَ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا نَجَزَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، كَالْعِتْقِ. وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ إنْ ثَبَتَ، فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ صَدَقَةً غَيْرَ مَوْقُوفٍ، اسْتَنَابَ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى وَالِدَيْهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِصَرْفِهَا إلَيْهِمَا، وَلِهَذَا لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، إنَّمَا دَفَعَهَا إلَيْهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْحَائِطَ كَانَ لَهُمَا، وَكَانَ هُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُمَا، فَتَصَرَّفَ بِهَذَا التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، فَلَمْ يُنَفِّذَاهُ، وَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّهُ إلَيْهِمَا. وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّدَقَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَإِنَّمَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، وَالْوَقْفُ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، فَافْتَرَقَا. [مَسْأَلَة مَنْ وَقَفَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ ثُمَّ آخِرُهُ لِلْمَسَاكِينِ] [الْفَصْل الْأَوَّل الْوَقْفَ إذَا صَحَّ زَالَ بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ] (4367) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ ثُمَّ آخِرُهُ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ) . (4368) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَقْفَ إذَا صَحَّ، زَالَ بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَحُكِيَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْبِسْ الْأَصْلَ، وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ» . وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يُزِيلُ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَأَزَالَ الْمِلْكَ، كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكَهُ لَرَجَعَتْ إلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّا إذَا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ، لَزِمَتْهُ مُرَاعَاتُهُ، وَالْخُصُومَةُ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، كَمَا يَفْدِي أُمَّ الْوَلَدِ سَيِّدُهَا لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَالِكِ. [الْفَصْل الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ وَيَلْزَمُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ] (4369) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّهُ يَزُولُ الْمِلْكُ، وَيَلْزَمُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ. وَقَالَ: الْوَقْفُ الْمَعْرُوفُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَيُوَكِّلَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ بِهِ. اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الْمَالِيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِهِ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ، كَالْعِتْقِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ؛ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ، وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ الْوَقْف لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ] (4370) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْمَسَاكِينِ، أَوْ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَبُولُ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا اشْتِرَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِآدَمِي مُعَيَّنٍ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْ كَانَتْ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، وُقِفَتْ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ لِمَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ، لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ، كَذَا هَاهُنَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْوَقْفِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْقَبُولُ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ، كَالْعِتْقِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَخْتَصُّ الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ مِنْ يَأْتِي مِنْ الْبُطُونِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِي لَا يَبْطُلُ بِرَدِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْمُعَيَّنِ بِخِلَافِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ. لَمْ يَبْطُلْ بِرَدِّهِ، وَكَانَ رَدُّهُ وَقَبُولُهُ وَعَدَمُهُمَا وَاحِدًا، كَالْعِتْقِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ. فَرَدَّهُ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ، بَطَلَ فِي حَقِّهِ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ. يُخَرَّجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ وَبُطْلَانِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، فَهَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَصْرِفٍ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ] (4371) فَصْلٌ: وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا وَقَفَ دَارِهِ عَلَى وَلَدِ أَخِيهِ، صَارَتْ لَهُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ، فَإِنَّ جَمَاعَةً نَقَلُوا عَنْهُ، فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي مَرَضِهِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا يَمْلِكُونَ، أَنْ لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْمِلْكِ وَآثَارَهُ ثَابِتَةٌ فِي الْوَقْفِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ الِاخْتِلَافِ نَحْوُ مَا حَكَيْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْوَقْفِ اللَّازِمِ، بَلْ يَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ، فَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَالْعِتْقِ. وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يُزِيلُ مِلْكَ الْوَاقِفِ، وُجِدَ إلَى مَنْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُخْرِجْ الْمَالَ عَنْ مَالِيَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، كَالْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ الْمُجَرَّدَةِ لَمْ يَلْزَمْ كَالْعَارِيَّةِ وَالسُّكْنَى، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ كَالْعَارِيَّةِ، وَيُفَارِقُ الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ الْمَالِيَّةِ، وَامْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ، كَأُمِّ الْوَلَدِ. [فَصْلٌ أَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ] (4372) فَصْلٌ: وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ صَرِيحَةٌ، وَثَلَاثَةٌ كِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحَةُ: وَقَفْت، وَحَبَسْت، وَسَبَّلْت. مَتَى أَتَى بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا، وَسَبَّلْت ثَمَرَتَهَا» . فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ: تَصَدَّقْت، وَحَرَّمْت، وَأَبَّدْت. فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّكَاةِ وَالْهِبَاتِ، وَالتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّأْبِيدُ يَحْتَمِلُ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ، وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَحْصُلُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِهَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فِيهِ. فَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، حَصَلَ الْوَقْفُ بِهَا أَحَدُهَا أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا لَفْظَةٌ أُخْرَى تُخَلِّصُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ، فَيَقُولُ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ، أَوْ مُسَبَّلَةٌ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ أَوْ يَقُولُ: هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ مَوْقُوفَةٌ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ، أَوْ مُسَبَّلَةٌ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 الثَّانِي أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، فَيَقُولَ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ. الثَّالِثُ، أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ، فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى، إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ، لَزِمَ فِي الْحُكْمِ؛ لِظُهُورِهِ، وَإِنْ قَالَ: مَا أَرَدْت الْوَقْفَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى. [فَصْلٌ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ] (4373) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا، وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ مَقْبَرَةً، وَيَأْذَنَ فِي الدَّفْنِ فِيهَا، أَوْ سِقَايَةً، وَيَأْذَنَ فِي دُخُولِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَأَبِي طَالِبٍ، فِي مَنْ أَدْخَلَ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ وَأَذِنَ فِيهِ، لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اتَّخَذَ الْمَقَابِرَ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ، وَالسِّقَايَةَ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا إلَّا بِالْقَوْلِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَخَذَهُ الْقَاضِي مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ، إذْ سَأَلَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ رَجُلٍ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ، لِيَجْعَلَهَا مَقْبَرَةً، وَنَوَى بِقَلْبِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ الْعَوْدُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَعَلَهَا لِلَّهِ، فَلَا يَرْجِعْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ جَعَلَهَا لِلَّهِ أَيْ نَوَى بِتَحْوِيطِهَا جَعْلَهَا لِلَّهِ. فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا، إذْ مَنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ مَعَ النِّيَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَهَا لِلَّهِ أَيْ: اقْتَرَنَتْ بِفِعْلِهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ، مِنْ إذْنِهِ لِلنَّاسِ فِي الدَّفْنِ فِيهَا، فَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى بِعَيْنِهَا، وَإِنْ أَرَادَ وَقْفًا بِلِسَانِهِ، فَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ وَالنِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى انْضَمَّ إلَى فِعْلِهِ إذْنُهُ لِلنَّاسِ فِي الدَّفْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَانْتَفَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَصَارَ الْمَذْهَبُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا تَحْبِيسُ أَصْلٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَنَا أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَقْفِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ، كَالْقَوْلِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ قَدَّمَ إلَى ضَيْفِهِ طَعَامًا، كَانَ إذْنًا فِي أَكْلِهِ، وَمَنْ مَلَأَ خَابِيَةَ مَاءٍ عَلَى الطَّرِيقِ، كَانَ تَسْبِيلًا لَهُ، وَمَنْ نَثَرَ عَلَى النَّاسِ نِثَارًا، كَانَ إذْنًا فِي الْتِقَاطِهِ، وَأُبِيحَ أَخْذُهُ. وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَاسْتِعْمَالُ مَائِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مُبَاحٌ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالْهَدِيَّةُ، لِدَلَالَةِ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ بِغَيْرِ لَفْظٍ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، أَوْ دَلَّتْ الْحَالُ عَلَيْهِ، كَانَ كَمَسْأَلَتِنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 [مَسْأَلَة مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَقْفًا صَحِيحًا صَارَتْ مَنَافِعُهُ جَمِيعُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ] (4374) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَقْفًا صَحِيحًا، فَقَدْ صَارَتْ مَنَافِعُهُ جَمِيعُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَزَالَ عَنْ الْوَاقِفِ مِلْكُهُ، وَمِلْكُ مَنَافِعِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ شَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِمْ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ مَسْجِدًا، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، أَوْ مَقْبَرَةً فَلَهُ الدَّفْنُ فِيهَا، أَوْ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا، أَوْ سِقَايَةً، أَوْ شَيْئًا يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَبَّلَ بِئْرَ رُومَةَ، وَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَة الْوَاقِفَ إذَا اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ] (4375) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، فَيَكُونَ لَهُ مِقْدَارُ مَا يَشْتَرِطُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، صَحَّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَشْتَرِطُ فِي الْوَقْفِ أَنِّي أُنْفِقُ عَلَى نَفْسِي وَأَهْلِي مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاحْتَجَّ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُجْرٌ الْمَدَرِيِّ، أَنَّ «فِي صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا أَهْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ» وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ الْوَقْفُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالزُّبَيْرُ، وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُ نَفْعِهِ لِنَفْسِهِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يَخْدِمَهُ، وَلِأَنَّ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَلَنَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَقَفَ قَالَ: وَلَا بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ مَاتَ. وَلِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا، كَالْمَسَاجِدِ، وَالسِّقَايَاتِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْمَقَابِرِ، كَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، وَسَوَاءٌ قَدَّرَ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ، أَوْ أَطْلَقَهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُقَدِّرْ مَا يَأْكُلُ الْوَالِي وَيُطْعِمُ إلَّا بِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ. وَفِي حَدِيثِ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ إلَّا أَنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنَّ يَنْتَفِعَ بِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً. فَمَاتَ فِيهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 [فَصْلٌ شَرَطَ الْوَاقِف أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْ الْوَقْفِ] (4376) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهُ، صَحَّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَدَقَتِهِ. وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا جَازَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَدَقَتِهِ، الَّتِي اسْتَشَارَ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَلِيَهَا الْوَاقِفُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ صَدِيقًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَلِي صَدَقَتَهُ وَإِنْ وَلِيَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ كَانَتْ تَلِي صَدَقَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْوَاقِف أَنَّ يَبِيعَ الْوَقْف مَتَى شَاءَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ] (4377) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ مَتَى شَاءَ، أَوْ يَهَبَهُ، أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَلَا الْوَقْفُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ، وَيَصِحَّ الْوَقْفُ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْوَقْفِ، فَسَدَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، فَجَازَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ، كَالْإِجَارَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَتَى شَاءَ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، كَالْهِبَةِ. وَيُفَارِقُ الْإِجَارَةَ، فَإِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ، مَنَعَ ثُبُوتَ حُكْمِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ أَوْ التَّصَرُّفِ، وَهَاهُنَا لَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ، لَثَبَتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ، فَافْتَرَقَا. [فَصْل شَرَطَ الْوَاقِف فِي الْوَقْفِ أَنَّ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ] (4378) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، فَأَفْسَدَهُ. كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِهِ. وَإِنْ شَرَطَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَيَحْرِمَ مَنْ يَشَاءُ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ الْوَقْفِ بِصِفَةٍ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حَقًّا فِي الْوَقْفِ، إذَا اتَّصَفَ بِإِرَادَةِ الْوَالِي لِعَطِيَّتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقًّا إذَا انْتَفَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ وَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُشْتَغِلُ الِاشْتِغَالَ زَالَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَإِذَا عَادَ إلَيْهِ عَادَ اسْتِحْقَاقُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ جَعَلَ عُلْوَ دَارِهِ مَسْجِدًا دُونَ سُفْلِهَا أَوْ سُفْلَهَا دُون عُلْوِهَا] (4379) فَصْلٌ: إذَا جَعَلَ عُلْوَ دَارِهِ مَسْجِدًا دُونَ سُفْلِهَا، أَوْ سُفْلَهَا دُونَ عُلْوِهَا، صَحَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَتْبَعُهُ هَوَاؤُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وَلَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهَا، كَذَلِكَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، كَالدَّارِ جَمِيعِهَا، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّصَرُّفِ، فَجَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَلَمْ يَذْكُر الِاسْتِطْرَاقَ] (4380) فَصْلٌ: وَإِنْ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِطْرَاقَ، صَحَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ الِاسْتِطْرَاقَ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ يُبِيحُ الِانْتِفَاعَ، مِنْ ضَرُورَتِهِ الِاسْتِطْرَاقُ، فَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِطْرَاقَ، كَمَا لَوْ أَجَرَ بَيْتًا مِنْ دَارِهِ. [فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى وَلَدِهِ] (4381) فَصْلٌ: إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى وَلَدِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ الْوَقْفَ إلَّا مَا أَخْرَجَهُ لِلَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِذَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَا أَعْرِفُهُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ بَاطِلًا. وَهَلْ يَبْطُلُ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلِّكَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ مَالَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا حَاصِلُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَةِ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَبِيعُ هَذَا وَلَا أَهَبُهُ وَلَا أُوَرِّثُهُ وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْوَقْفَ صَحِيحٌ، اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَهِيَ أَصَحُّ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ سُرَيْجٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقِفَ وَقْفًا عَامًّا فَيَنْتَفِعَ بِهِ، كَذَلِكَ إذَا خَصَّ نَفْسَهُ بِانْتِفَاعِهِ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. [مَسْأَلَة وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ وَنَسْلِهِمْ] (4382) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْبَاقِي عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ وَأَوْلَادُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ: (4383) الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ وَنَسْلِهِمْ، كَانَ الْوَقْفُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَأَوْلَادِهِمْ، وَمَنْ حَدَثَ مِنْ نَسْلِهِمْ، عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، إنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَرْتِيبًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا اشْتَرَكُوا، وَلَمْ يُقَدَّمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُشَارِكُ الْآخَرُ الْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَطْنِ الْعَاشِرِ، وَإِذَا حَدَثَ حَمْلٌ لَمْ يُشَارِكْ حَتَّى يَنْفَصِلَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ حَمْلًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 [فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ] (4384) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. أَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. أَوْ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، مِنْ الْأَوْلَادِ الْبَنِينَ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى وَلَدِهِ، فَمَاتَ الْأَوْلَادُ، وَتَرَكُوا النُّسْوَةَ حَوَامِلَ؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الذُّكُورِ، بَنَاتٍ كُنَّ أَوْ بَنِينَ، فَالضَّيْعَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَقَالَ أَيْضًا فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ مَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، فَمَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ: دُفِعَ إلَى وَلَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْن إسْمَاعِيلَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا. وَلَمَّا قَالَ: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] فَتَنَاوَلَ وَلَدَ الْبَنِينَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَلَدَ دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ، فَالْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ إذَا خَلَا عَنْ قَرِينَةٍ، يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُفَسَّرُ بِمَا يُفَسَّرُ بِهِ. وَلِأَنَّ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَدٌ لَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ وَيَا بَنِي إسْرَائِيلَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» . وَقَالَ: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ» . وَالْقَبَائِلُ كُلّهَا تُنْسَبُ إلَى جُدُودِهَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُونُوا قَبِيلَةً وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ: لَا يَدْخُل فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حَقِيقَةً وَعُرْفًا إنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدًا مَجَازًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَيُقَالُ: مَا هَذَا وَلَدِي، إنَّمَا هُوَ وَلَدُ وَلَدِي. وَإِنْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي. فَهُوَ آكَدُ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. دَخَلَ فِيهِ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْبَطْنُ الثَّالِثُ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي. دَخَلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ بُطُونٍ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ دَلَالَةٍ تَصْرِفُ إلَى أَحَدِ الْمَحْمَلَيْنِ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ. وَهُمْ قَبِيلَةٌ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، أَوْ وَلَدِي. وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ. أَوْ قَالَ: وَيُفَضَّلُ وَلَدُ الْأَكْبَرِ أَوْ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِهِمْ. أَوْ قَالَ: فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ عَقِبِي عَادَ إلَى الْمَسَاكِينِ. أَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي غَيْرِ وَلَدِ الْبَنَاتِ. أَوْ غَيْرِ وَلَدِ فُلَانٍ. أَوْ قَالَ: يُفَضَّلُ الْبَطْنُ الْأَعْلَى عَلَى الثَّانِي أَوْ قَالَ: الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى. وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَهَذَا يُصْرَفُ لَفْظُهُ إلَى جَمِيعِ نَسْلِهِ وَعَاقِبَته. وَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَقْضِي تَخْصِيصَ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ بِالْوَقْفِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي. أَوْ الَّذِينَ يَلُونَنِي. وَنَحْوَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبَطْنِ الْأَوَّلِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّعْمِيمِ فِيهِمْ، إمَّا لِلْقَرِينَةِ، وَإِمَّا لِقَوْلِنَا بِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي تَشْرِيكًا وَلَا تَرْتِيبًا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ عَلَى التَّشْرِيكِ، لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي اللَّفْظِ دُخُولًا وَاحِدًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِدَيْنٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ، عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ مَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ. فَمَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَتَرَكَ وَلَدًا، فَقَالَ: إنْ مَاتَ بَعْضُ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ. فَجَعَلَهُ لِوَلَدِ مَنْ مَاتَ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ الْبَنِينَ لَمَّا دَخَلُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَلَمْ يَسْتَحِقَّ وَلَدُ الْبَنِينَ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ آبَائِهِمْ، وَاسْتَحَقُّوا عِنْدَ فَقْدِهِمْ، كَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا إنْ وَصَّى لِوَلَدِ فُلَانٍ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ، فَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. [فَصْلٌ رَتَّبَ فَقَالَ وَقَفْت هَذَا عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى] (4385) فَصْلٌ: وَإِنْ رَتَّبَ فَقَالَ: وَقَفْت هَذَا عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا، الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، أَوْ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، أَوْ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، أَوْ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ ثُمَّ الْبَطْنَ الثَّانِيَ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي، فَإِنْ انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي فَكُلُّ هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا شَرَطَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي شَيْئًا حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ كُلُّهُ. وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، كَانَ الْجَمِيعُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ، فَيَتْبَعُ فِيهِ مُقْتَضَى كَلَامِهِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِهِمْ مَا تَعَاقَبُوا وَتَنَاسَلُوا، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى وَلَدٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى وَلَدِهِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى التَّشْرِيكَ لَاقْتَضَى التَّسْوِيَةَ، وَلَوْ جَعَلْنَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ سَهْمًا مِثْلَ سَهْمِ أَبِيهِ، ثُمَّ دَفَعْنَا إلَيْهِ سَهْمَ أَبِيهِ، صَارَ لَهُ سَهْمَانِ، وَلِغَيْرِهِ سَهْمٌ، وَهَذَا يُنَافِي التَّسْوِيَةَ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ وَلَدِ الِابْنِ عَلَى الِابْنِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إرَادَةِ الْوَاقِفِ خِلَافُ هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 فَإِذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ بَيْنَ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ، فَإِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ إلَى وَلَدِهِ سَهْمُهُ، سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ. (4386) فَصْلٌ: وَإِنْ رَتَّبَ بَعْضَهُمْ دُونِ بَعْضٍ، فَقَالَ: وَقَفْت عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. أَوْ عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ، مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا. أَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، مَا تَنَاسَلُوا. فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، يَشْتَرِكُ مَنْ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ وَتَرْتِيبِ مَنْ رَتَّبَهُ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ. فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَشْتَرِكُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ، ثُمَّ إذَا انْقَرَضُوا صَارَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَفِي الثَّانِيَةِ يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ، فَإِذَا انْقَرَضُوا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَفِي الثَّالِثَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَطْنَانِ الْأَوَّلَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا اشْتَرَكَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ. [فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِي عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ] (4387) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِي عَنْ وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، أَوْ فَنَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ، أَوْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ، أَوْ لِوَلَدِ أَخِيهِ، أَوْ لِأَخَوَاتِهِ، أَوْ لِوَلَدِ أَخَوَاتِهِ. فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ. وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنَيْنِ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِمَا، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِأَخِيهِ وَابْنَيْ أَخِيهِ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْوَقْفِ ثُمَّ إنْ مَاتَ أَحَدُ ابْنَيْ الِابْنِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلُ الْوَقْفِ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، وَخَلَّفَ أَخَوَيْهِ وَابْنَيْ أَخٍ لَهُ، فَنَصِيبُهُ لِأَخَوَيْهِ دُونَ ابْنَيْ أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ مَا دَامَ أَبُوهُمَا حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا، صَارَ نَصِيبُهُ لَهُمَا. فَإِذَا مَاتَ الثَّالِثُ، كَانَ نَصِيبُهُ لِابْنَيْ أَخِيهِ بِالسَّوِيَّةِ، إنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا، وَإِنْ خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا، فَلَهُ نَصِيبُ أَبِيهِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَلِابْنَيْ عَمِّهِ النِّصْفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الرُّبْعُ وَإِنْ قَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُرَتَّبًا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، كَانَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِأَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبُطُونِ كُلِّهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ سَوَاءٌ، فَكَانُوا فِي دَرَجَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ صَرَفْنَا نَصِيبَهُ إلَى بَعْضِهِمْ، أَفْضَى إلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ، وَالتَّشْرِيكُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْهُ، كَانَ الْحُكْمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 فِيهِ كَذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ نَصِيبُهُ إلَى سَائِرِ أَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْقُرْبِ إلَى الْجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إخْوَتُهُ وَبَنُو عَمِّهِ وَبَنُو بَنِي عَمِّ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقُرْبِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ شَرَّكْنَا بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ فِي نَصِيبِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ شَيْئًا يُفِيدُ. فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِ أَحَدٌ، بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ، يَتَسَاوُونَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ بُطُونٍ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ فِي الْوَقْفِ، أَوْ اخْتَلَفَتْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَطْنٍ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْبَطْنُ الْأُوَلُ ثَلَاثَةً، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ ابْنَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ، وَتَرَكَ أَخَاهُ وَعَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَابْنًا لِعَمِّهِ الْحَيِّ، فَيَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَخِيهِ وَابْنَيْ عَمِّهِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَطْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، فَيَكُونَ نَصِيبُهُ عَلَى هَذَا لِأَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ. فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ فِي النَّسَبِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِحَالٍ، كَرَجُلِ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَتَرَكَ الرَّابِعَ، فَمَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، لَمْ يَكُنْ لِلرَّابِعِ فِيهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَأَشْبَهَ ابْنَ عَمِّهِمْ. (4388) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَوْلَادِهِمْ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ. فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ الذُّكُورِ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْبَنَاتِ فَنَصِيبُهَا لِأَهْلِ الْوَقْفِ. فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، عَلَى أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْبَنَاتِ مِنْهُ أَلْفٌ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَنُونَ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الْبَنَاتُ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْبَنَاتِ مُسَمًّى، وَجَعَلَ لِلْبَنِينَ الْفَاضِلَ عَنْهُ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَ، فَجَعَلَ الْبَنَاتِ كَذَوِي الْفُرُوضِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ لَهُمْ فَرْضًا، وَجَعَلَ الْبَنِينَ كَالْعَصَبَاتِ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ. [فَصْلٌ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ فَقَالَ وَقَفْت عَلَى وَلَدَيَّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي] (4389) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ فَقَالَ: وَقَفْت عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي. كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنَيْنِ الْمُسَمَّيَيْنِ، وَعَلَى أَوْلَادِهِمَا، وَأَوْلَادِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ لِلثَّالِثِ شَيْءٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَدْخُلُ الثَّالِثُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 فِي الْوَقْفِ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: وَقَفْت هَذِهِ الضَّيْعَةَ، عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي. وَلَهُ وَلَدٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، قَالَ: يَشْتَرِكُونَ فِي الْوَقْفِ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَدِي. يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ، فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَقَوْلَهُ: فُلَانٍ وَفُلَانٍ. تَأْكِيدٌ لِبَعْضِهِمْ، فَلَا يُوجِبُ إخْرَاجَ بَقِيَّتِهِمْ، كَالْعَطْفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وَلَنَا أَنَّهُ أَبْدَلَ بَعْضَ الْوَلَدِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْجَمِيعِ، فَاخْتَصَّ بِالْبَعْضِ الْمُبْدَلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ بَدَلَ الْبَعْضِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِهِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] لَمَّا خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالذِّكْرِ، اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: ضَرَبْت زَيْدًا رَأْسَهُ. وَرَأَيْت زَيْدًا وَجْهَهُ. اخْتَصَّ الضَّرْبُ بِالرَّأْسِ، وَالرُّؤْيَةُ بِالْوَجْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37] . وَقَوْلُ الْقَائِلِ: طَرَحْت الثِّيَابَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ. فَإِنَّ الْفَوْقِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَذَا هَاهُنَا. وَفَارَقَ الْعَطْفَ، فَإِنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ يَقْتَضِي تَأْكِيدَهُ، لَا تَخْصِيصَهُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: هُمْ شُرَكَاءُ. يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، أَيْ يَشْتَرِكُ أَوْلَادُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمَا وَأَوْلَادُ غَيْرِهِمْ؛ لِعُمُومِ لَفْظِ الْوَاقِفِ فِيهِمْ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. خَرَجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا. وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْوَقْفِ وَلَدُ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَفْت عَلَى وَلَدِي. يَتَنَاوَلُ نَسْلَهُ وَعَاقِبَتَهُ كُلَّهَا. [فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ غَيْرِهِ وَفِيهِمْ حَمْلٌ] (4390) فَصْلٌ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ غَيْرِهِ، وَفِيهِمْ حَمْلٌ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا قَبْلَ انْفِصَالِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فِي مَنْ وَقَفَ نَخْلًا عَلَى قَوْمٍ، وَمَا تَوَالَدُوا، ثُمَّ وُلِدَ مَوْلُودٌ: فَإِنْ كَانَتْ النَّخْلُ قَدْ أُبِّرَتْ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُبِّرَتْ، فَهُوَ مَعَهُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّأْبِيرِ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ، وَهَذَا الْمَوْلُودُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَتْبَعُهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَرَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ذَلِكَ النَّصِيبَ مِنْ الْأَصْلِ. وَبَعْدَ التَّأْبِيرِ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ كَانَ لَهُ الْأَصْلُ، فَكَانَتْ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ ثَمَرَتَهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذَا النَّصِيبَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 مِنْهَا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلُودُ مِنْهَا شَيْئًا كَالْمُشْتَرِي. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ ثَمَرِ الشَّجَرِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَسْتَحِقُّ مِمَّا ظَهَرَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي، فَلِلْمَوْلُودِ حِصَّتُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَوْلُودَ يَتَجَدَّدُ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْأَصْلِ، كَتَجَدُّدِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِيهِ. (4391) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَعَاقِبَتِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ. دَخَلَ فِي الْوَقْفِ وَلَدُ الْبَنِينَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ فَأَمَّا وَلَدُ الْبَنَاتِ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ: مَا كَانَ مِنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ فَهَذَا النَّصُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَدَّى إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَدَ وَلَدِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ الَّذِي عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَهَكَذَا إذَا قَالَ: عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ وَنَسْلِهِمْ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَوْلَادُهُ، فَأَوْلَادُهُنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَقْفِ، لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] . وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بِنْتِهِ، فَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ عِيسَى وَإِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ، ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} [مريم: 58] وَعِيسَى مَعَهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . وَهُوَ وَلَدُ بِنْتِهِ. وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] . دَخَلَ فِي التَّحْرِيمِ حَلَائِلُ أَبْنَاءِ الْبَنَاتِ، وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَنَاتِ، دَخَلَ فِي التَّحْرِيمِ بَنَاتُهُنَّ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْوَلَدُ فِي الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ رَجُلٍ، وَقَدْ صَارُوا قَبِيلَةً، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا قَبِيلَةً. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ فِي عَصْرِنَا، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ بَنَاتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ مَنْسُوبُونَ إلَى آبَائِهِمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادٍ حَقِيقَةً. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَى الْوَاقِفِ عُرْفًا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَوْلَادُ أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ. لَمْ يَدْخُلْ هَؤُلَاءِ فِي الْوَقْفِ وَلِأَنَّ وَلَدَ الْهَاشِمِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْهَاشِمِيِّ لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهَا. وَأَمَّا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَنُسِبَ إلَى أُمِّهِ لِعَدَمِ أَبِيهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ، كَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . تَجَوُّزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] . وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا إنْ وُجِدَ مَا يَصْرِفُ اللَّفْظَ إلَى أَحَدِهِمَا، انْصَرَفَ إلَيْهِ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، عَلَى أَنَّ لِوَلَدِ الْبَنَاتِ سَهْمًا، وَلِوَلَدِ الْبَنِينَ سَهْمَيْنِ. أَوْ: فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِمَّنْ يَرْجِعُ نَسَبُهُ إلَيَّ مِنْ قِبَلِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، كَانَ لِلْمَسَاكِينِ. أَوْ كَانَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْلَادِهِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بَنَاتٍ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ وَلَدِ الْبَنَاتِ بِالْوَقْفِ، دَخَلُوا فِي الْوَقْفِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ، أَوْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ، وَأَوْلَادِهِمْ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدِهِ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ. وَإِنْ قَالَ الْهَاشِمِيُّ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْهَاشِمِيِّينَ. لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَقْفِ مِنْ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ مَنْ كَانَ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ هَاشِمِيًّا مِنْ غَيْرِ أَوْلَادِ بَنِيهِ، فَهَلْ يَدْخُلُونَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أُولَاهُمَا، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ الصِّفَتَانِ جَمِيعًا، كَوْنُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، وَكَوْنُهُمْ هَاشِمِيِّينَ. وَالثَّانِي، لَا يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مُطْلَقِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقُلْ الْهَاشِمِيِّينَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، مِمَّا يُنْسَبُ إلَى قَبِيلَتِي. فَكَذَلِكَ. (4392) الْفَصْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ رَجُلٍ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيكٌ بَيْنَهُمْ، وَإِطْلَاقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَكَوَلَدِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ حِينَ شَرَّكَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 فِيهِ، فَقَالَ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . تَسَاوَوْا فِيهِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدِ الْأَبِ، فَإِنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. (4393) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْأُنْثَى سَهْمًا، أَوْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَوْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ، أَوْ عَلَى حَسَبِ فَرَائِضِهِمْ، أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ هَذَا، أَوْ عَلَى أَنَّ لِلْكَبِيرِ ضِعْفَ مَا لِلصَّغِيرِ، أَوْ لِلْعَالِمِ ضِعْفَ مَا لِلْجَاهِلِ، أَوْ لِلْعَائِلِ ضِعْفَ مَا لِلْغَنِيِّ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ، أَوْ عَيَّنَ بِالتَّفْضِيلِ وَاحِدًا مُعَيَّنًا، أَوْ وَلَدَهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَفْضِيلُهُ وَتَرْتِيبُهُ وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ إخْرَاجَ بَعْضِهِمْ بِصِفَةٍ وَرَدَّهُ بِصِفَةٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ فَلَهُ، وَمَنْ فَارَقَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَلَهُ، وَمَنْ نَسِيَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ فَلَهُ، وَمَنْ تَرَكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ كَذَا فَلَهُ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. فَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا شَرَطَ. وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَنَّ الزُّبَيْرَ جَعَلَ دُورَهُ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ، وَأَنَّ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَقْفِ. وَلَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا لِلْوَقْفِ بِصِفَةٍ، بَلْ الْوَقْفُ مُطْلَقٌ وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ بِصِفَةٍ. وَكُلُّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ] (4394) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ إيصَالٌ لِلْمَالِ إلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ، كَالْعَطِيَّةِ، وَلِأَنَّ الذَّكَرَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَادَةِ يَتَزَوَّجُ، وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَدُ، فَالذَّكَرُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَالْمَرْأَةُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَا يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ أَوْلَادِهَا، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الذَّكَرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِهِ وَيَتَعَدَّى إلَى الْوَقْفِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعَطَايَا وَالصِّلَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْمِيرَاثِ وَالْعَطِيَّةِ. فَإِنْ خَالَفَ فَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ، فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ. يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّبَيْرَ خَصَّ الْمَرْدُودَةَ مِنْ بَنَاتِهِ دُونَ الْمُسْتَغْنِيَةِ مِنْهُنَّ بِصَدَقَتِهِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ، لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِهِ، تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوْ الْمَرِيضَ أَوْ مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْلِ فَضِيلَتِهِ، فَلَا بَأْسَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحَلَ عَائِشَةَ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ، أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي بِخَيْبَرَ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ، الَّذِي أَطْعَمَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَادِي، تَلِيه حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أَنْ لَا يُبَاعَ وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنْ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى، لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إنْ أَكَلَ أَوْ آكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ حَفْصَةَ دُونَ إخْوَتِهَا وَأَخَوَاتهَا. [مَسْأَلَة وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَنَسْلِهِمْ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ] (4395) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، رَجَعَ إلَى الْمَسَاكِينِ) يَعْنِي إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَنَسْلِهِمْ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَانْقَرَضَ الْقَوْمُ وَنَسْلُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، رَجَعَ إلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مَا دَامَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ أَوْ مِنْ نَسْلِهِمْ بَاقِيًا؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَهُ لِلْمَسَاكِينِ بَعْدَهُمْ. وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسَاكِينُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا. وَالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّيَانِ بِهِ شَامِلٌ لَهُمَا، وَهُوَ الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ، وَلِهَذَا لَمَّا سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسَاكِينَ، فِي مَصْرِفِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى، تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا، وَجَازَ الصَّرْفُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمَّا ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] . وَفِي قَوْلِهِ: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] . تَنَاوَلَ الْقِسْمَيْنِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 فِيهِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ تَنَاوَلَ الْقِسْمَيْنِ، إلَّا فِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَمَيَّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ، فَاحْتَجْنَا إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، وَفِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ يُسَمَّى الْكُلُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ بِالْوَقْفِ أَيْضًا، فَقَالَ: وَقَفْت هَذَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، نِصْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا وَجَبَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، فَنَزَّلْنَاهُمَا مَنْزِلَتَهُمَا مِنْ سِهَامِ الصَّدَقَاتِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَإِبَاحَةُ الدَّفْعِ إلَى وَاحِدٍ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجُوزَ الدَّفْعُ إلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ، كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُمْ بِالزَّكَاةِ، وَلَا فِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّفْضِيلُ بَيْنَ مِنْ يُعْطِيه مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا، أَوْ كَانَ الْوَقْفُ ابْتِدَاءً، أَوْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ وَضَابِطُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، وَجَبَ اسْتِيعَابُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، إذَا لَمْ يُفَضِّلْ الْوَاقِفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، كَالْمَسَاكِينِ، أَوْ قَبِيلَةٍ كَبِيرَةٍ كَبَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي هَاشِمٍ، جَازَ الدَّفْعُ إلَى وَاحِدٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، وَجَازَ التَّفْضِيلُ وَالتَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ وَقْفَهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اسْتِيعَابِهِمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، وَمَنْ جَازَ حِرْمَانُهُ، جَازَ تَفْضِيلُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي ابْتِدَائِهِ عَلَى مَنْ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ، فَصَارَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ، كَرَجُلٍ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، فَصَارُوا قَبِيلَةً كَبِيرَةً تَخْرُجُ عَنْ الْحَصْرِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلِيٌّ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ. لِأَنَّ التَّعْمِيمَ كَانَ وَاجِبًا، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ، وَجَبَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، كَالْوَاجِبِ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ بَعْضِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ أَرَادَ التَّعْمِيمَ وَالتَّسْوِيَةَ، لِإِمْكَانِهِ وَصَلَاحِ لَفْظِهِ لِذَلِكَ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا حَالَ الْوَقْفِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِمْ. [فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّه أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ الرِّقَابِ أَوْ الْغَارِمِينَ] (4396) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ الرِّقَابِ أَوْ الْغَارِمِينَ، فَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، لَا يَعْدُوهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، فَيُنْظَرُ؛ مَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، فَالْوَقْفُ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ، وَشَرْحُهُمْ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الصَّدَقَاتِ، صُرِفَ إلَيْهِمْ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْوَقْفِ مِثْلَ الْقَدْرِ الَّذِي يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، فَيُعْطَى الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مَا يَتِمُّ بِهِ غَنَاؤُهُ، وَالْغَارِمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 قَدْرَ مَا يَقْضِي غُرْمَهُ، وَالْمُكَاتَبُ قَدْرَ مَا يُؤَدِّي بِهِ كِتَابَتَهُ وَابْنُ السَّبِيلِ مَا يُبَلِّغُهُ، وَالْغَازِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِغَزْوِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، فِي الرَّجُلِ يُعْطَى مِنْ الْوَقْفِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: إنْ كَانَ الْوَاقِفُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمَسَاكِينَ، فَهُوَ مِثْلُ الزَّكَاةِ. وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا أَعْطَى مَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ. فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالزَّكَاةِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الزَّكَاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، أَوْ عَلَى صِنْفَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَجِبُ إعْطَاءُ بَعْضِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الزَّكَاةِ. [فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الثَّوَابِ وَسَبِيلِ الْخَيْرِ] (4397) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَبِيلِ الثَّوَابِ، وَسَبِيلِ الْخَيْرِ، فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْغَزْوُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُصْرَفُ ثُلُثُ الْوَقْفِ إلَى مِنْ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ السَّهْمُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَسَائِرُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ أَجْرٌ وَمَثُوبَةٌ وَخَيْرٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُجَزَّأُ الْوَقْفُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجُزْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْغُزَاةِ، وَجُزْءٌ يُصْرَفُ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْجِهَاتِ ثَوَابًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَدَقَتُك عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» . وَالثَّالِثُ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ لِحَاجَتِهِ، وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ؛ الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالرِّقَابُ وَالْغَارِمُونَ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَابْنُ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ حَاجَةٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ مَنْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ سَاوَاهُ فِي الْحَاجَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌ، فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِالْبَعْضِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فِي الزَّكَاةِ، لَا يَجِبُ تَخْصِيصُ أَقَارِبِهِ مِنْهُمْ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ. وَإِنْ أَوْصَى فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ، صُرِفَ فِي كُلِّ مَا فِيهِ بِرٌّ وَقُرْبَةٌ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُصْرَفُ فِي أَرْبَعِ جِهَاتٍ؛ أَقَارِبِهِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَجِّ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَعَنْهُ فِدَاءُ الْأَسْرَى مَكَانَ الْحَجِّ. وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. (4398) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ عَصَبَةٍ الْوَاقِفِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِي صِحَّتِهِ، مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، مِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الِانْتِهَاءِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَوْمٍ يَجُوزُ انْقِرَاضُهُمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا لِجِهَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ. فَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا صَارَ وَقْفًا عَلَى مَجْهُولٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَجْهُولٍ فِي الِابْتِدَاءِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَعْلُومُ الْمَصْرِفِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِمَصْرِفِهِ الْمُتَّصِلِ، وَلِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إذَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ، حُمِلَ عَلَيْهِ، كَنَقْدِ الْبَلَدِ وَعُرْفِ الْمَصْرِفِ، وَهَاهُنَا هُمْ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ عِنْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَسَاكِينِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّهُ مَصْرِفُ الصَّدَقَاتِ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا وُجِدَتْ صَدَقَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةِ الْمَصْرِفِ، انْصَرَفَتْ إلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ وَإِلَى وَرَثَتِهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ وَعَلَى فُلَانٍ. فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. لِأَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً عَلَى مُسَمًّى، فَلَا تَكُونُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا قَالَ: يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَإِنَّهُ جَعَلَ الصَّدَقَةَ مُطْلَقَةً. وَلَنَا أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ، أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقَتُك عَلَى غَيْرِ رَحِمِك صَدَقَةٌ، وَصَدَقَتُك عَلَى رَحِمِك صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَلِأَنَّ فِيهِ إغْنَاءَهُمْ وَصِلَةَ أَرْحَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَاتِهِ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ، كَذَلِكَ صَدَقَتُهُ الْمَنْقُولَةُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَخْتَصُّ الْفُقَرَاءَ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، تَنَاوَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْأَغْنِيَاءَ، كَذَا هَاهُنَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرِ، أَنَّهُ يَخْتَصُّ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّا خَصَصْنَاهُمْ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، يَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ صَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمْ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ مِنْ صَدَقَتِهِ مَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَصْرِفًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَإِنَّمَا صَرَفْنَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ مَعَ بَقَائِهِ صَدَقَةً. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، وَيَبْطُلَ الْوَقْفُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَة يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ عَصَبَةِ الْوَاقِفِ، دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَدُونَ الْبَعِيدِ مِنْ الْعَصَبَاتِ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِوَلَاءِ الْمَوَالِي، لِأَنَّهُمْ خُصُّوا بِالْعَقْلِ عَنْهُ، وَبِمِيرَاثِ مَوَالِيه، فَخُصُّوا بِهَذَا أَيْضًا. وَهَذَا لَا يَقْوَى عِنْدِي، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِهَذَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا، وَلَا إجْمَاعًا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مِيرَاثِ وَلَاءِ الْمَوَالِي؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ لَا تَتَحَقَّقُ هَاهُنَا وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِيهِ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَقَارِبِ الْوَاقِفِ مَسَاكِينُ، كَانُوا أُولَى بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ وَصَلَاتِهِ مَعَ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّنَا إذَا صَرَفْنَاهُ إلَى أَقَارِبِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، فَهِيَ أَيْضًا جِهَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اتِّصَالُهُ إلَّا بِصَرْفِهِ إلَى الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ. (4399) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ أَقَارِبُ، أَوْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ فَانْقَرَضُوا، صُرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ الثَّوَابُ الْجَارِي عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْأَقَارِبَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِكَوْنِهِمْ أُولَى، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا، فَالْمَسَاكِينُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُصْرَفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ مِلْكًا لَهُمْ. فَإِنَّهُ يُصْرَفُ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بِانْقِطَاعِهِ، وَصَارَ مِيرَاثًا لَا وَارِثَ لَهُ، فَكَانَ بَيْتُ الْمَالِ بِهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت هَذَا وَسَكَتَ أَوْ قَالَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ] (4400) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَقَفْت هَذَا. وَسَكَتَ، أَوْ قَالَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ. فَلَا نَصَّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَصِحُّ الْوَقْفُ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ: يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِكَفَّارَةِ يَمِينٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقُهُ، كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ: وَصَّيْت بِثُلُثِ مَالِي. صَحَّ، وَإِذَا صَحَّ صُرِفَ إلَى مَصَارِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 [فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ] (4401) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى الْبِيَعِ. صَحَّ الْوَقْفُ أَيْضًا، وَيُصْرَفُ بَعْدَ انْقِرَاضِ مَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ إلَى مَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ الْوَقْفُ الْمُنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِمَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَأَشْبَهَ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ] فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَنَفْسِهِ، أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ كَنِيسَةٍ، أَوْ مَجْهُولٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَالًا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ مَالَهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِأَحَدِ شَرْطَيْ الْوَقْفِ فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ وَقَفَ مَا لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ. وَإِنْ جَعَلَ لَهُ مَالًا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى عَبْدِهِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا: يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَكَانَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ، كَالْمَيِّتِ وَالْمَجْهُولِ وَالْكَنَائِسِ، صُرِفَ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا صَحَّحْنَا الْوَقْفَ مَعَ ذِكْرِ مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَلْغَيْنَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّصْحِيحُ مَعَ اعْتِبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ، كَأُمِّ وَلَدِهِ، وَعَبْدٍ مُعَيَّنٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَالَّتِي قَبْلَهَا. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ، إلَى أَنْ يَنْقَرِضَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْقَرَضَ صُرِفَ إلَى مَنْ يَجُوزُ. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا جَعَلَهُ وَقْفًا عَلَى مَنْ يَجُوزُ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ هَذَا، فَلَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. وَفَارَقَ مَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ، فَإِنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحَ الطَّرَفَيْنِ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ] (4403) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحَ الطَّرَفَيْنِ، مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ عَلَى عَبِيدِهِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. خُرِّجَ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ، كَمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ أَلْغَيْنَاهُ إذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ أَوْ يُلْغَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعَ الطَّرَفَيْنِ، صَحِيحَ الْوَسَطِ كَرَجُلٍ وَقَفَ عَلَى عَبِيدِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ، خُرِّجَ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا وَجْهَانِ، وَمَصْرِفُهُ بَعْدَ مَنْ يَجُوزُ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 [مَسْأَلَةٌ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَوْ قَالَ هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي] (4404) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنْ الثُّلُثِ، كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ وَلَزِمَ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ، وَتَعْلِيقُ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرُ جَائِزٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ فِي حَيَاتِهِ، وَحُمِلَ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ: قِفُوا بَعْدَ مَوْتِي. فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْوَقْفِ لَا إيقَافًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ. وَلَنَا عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ بِالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ، مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ وَصَّى، فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ: هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ، أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ. وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخَبَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ، فَصَحَّ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَوْ نَقُولُ: صَدَقَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَ الْوَقْفِ. وَيُفَارِقُ هَذَا التَّعْلِيقَ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ، بِدَلِيلِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ أَوْسَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْحَيَاةِ، بِدَلِيلِ جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ، وَلِلْمَجْهُولِ، وَلِلْحَمْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَقِيَّةَ الشُّرُوطِ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ] (4405) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَدَارِي وَقْفٌ، أَوْ فَرَسِي حَبِيسٌ، أَوْ إذَا وُلِدَ لِي وَلَدٌ، أَوْ إذَا قَدِمَ لِي غَائِبِي. وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيمَا لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْهِبَةِ وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ، وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 (4406) فَصْلٌ: وَإِنْ عَلَّقَ انْتِهَاءَهُ عَلَى شَرْطٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: دَارِي وَقْفٌ إلَى سَنَةٍ، أَوْ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْحَاجُّ. لَمْ يَصِحَّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ. وَفِي الْآخَرِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى مُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ هَاهُنَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ. (4407) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي سَنَةً، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. صَحَّ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي مُدَّةَ حَيَاتِي، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ مَوْتِي لِلْمَسَاكِينِ. صَحَّ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ مُتَّصِلُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَإِنْ قَالَ: وَقْفٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِي صَحَّ، وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَيُلْغَى قَوْلُهُ: عَلَى أَوْلَادِي. لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ لَا انْقِرَاضَ لَهُمْ. [فَصْلٌ الْوَقْف فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَته] (4408) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَقْفِ فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، قَالَ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، فِي مَنْ أَوْصَى، لِأَوْلَادِ بَنِيهِ بِأَرْضٍ تُوقَفُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَرِثُوهُ فَجَائِزٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَضِ. اخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ ثُلُثَهُ، كَالْأَجَانِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْمَيْمُونِيُّ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ تَذْهَبُ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَالْوَقْفُ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِوَقْفِ ثُلُثِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ: جَائِزٌ قَالَ الْخَبَرِيُّ: وَأَجَازَ هَذَا الْأَكْثَرُونَ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ، بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ، وَالسَّهْمَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَةَ وَسْقٍ الَّذِي أَطْعَمَنِي مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلِيه حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقُهُ حَيْثُ يَرَى مِنْ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى، وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إنْ أَكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا فَالْحُجَّةُ أَنَّهُ جَعَلَ لِحَفْصَةَ أَنْ تَلِيَ وَقْفَهُ، وَتَأْكُلَ مِنْهُ، وَتَشْتَرِيَ رَقِيقًا. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدْ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ بِالْإِيقَافِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِثُ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ وَهُوَ ذَا قَدْ وَقَفَهَا عَلَى وَرَثَتِهِ، وَحَبَسَ الْأَصْلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَهُوَ كَعِتْقِ الْوَارِثِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَالْهِبَاتِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ، لَا تَجُوزُ بِالْمَنْفَعَةِ، كَالْأَجْنَبِيِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِوَقْفِهِ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ. وَأَمَّا جَعْلُ الْوِلَايَةِ لِحَفْصَةَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَارِدًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَكَوْنُهُ انْتِفَاعًا بِالْغَلَّةِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّخْصِيصِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَوْصَى لِوَرَثَتِهِ بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ، لَمْ يَجُزْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، عَلَى أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، لِيَكُونَ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِ عُمَرَ، وَعَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ وَقَفَ دَارِهِ بَيْنَ ابْنه وَبِنْتِهِ نِصْفَيْنِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ] (4409) فَصْلٌ: فَإِنْ وَقَفَ دَارِهِ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، بَيْنَ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ نِصْفَيْنِ، فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَيَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ لَهُ تَخْصِيصُ الْبِنْتِ بِوَقْفِ الدَّارِ كُلِّهَا، فَبِنِصْفِهَا أَوْلَى. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي نَصَرْنَاهَا، إنْ أَجَازَ الِابْنُ ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الْبِنْتِ، وَهُوَ السُّدُسُ، وَيَرْجِعُ إلَى الِابْنِ مِلْكًا، فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا، وَالسُّدُسُ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَالثُّلُثُ لِلْبِنْتِ جَمِيعُهُ وَقْفًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَبْطُلَ الْوَقْفُ فِي نِصْفِ مَا وَقَفَ عَلَى الْبِنْتِ، وَهُوَ الرُّبْعُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَقْفًا، نِصْفُهَا لِلِابْنِ، وَرُبْعُهَا لِلْبِنْتِ، وَالرُّبْعُ الَّذِي بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، لِلِابْنِ ثُلُثَاهُ، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُهُ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِلِابْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمَانِ مِلْكًا، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمٌ مِلْكًا. وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى ابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ نِصْفَيْنِ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَرَدَّ الِابْنُ، صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنِ فِي نِصْفِهَا، وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي ثُمْنِهَا، وَلِلِابْنِ إبْطَالُ الْوَقْفِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهَا، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مِلْكًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنِ فِي نِصْفِهَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ نَصِيبِهِ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَاقِي نَصِيبِهِ مِلْكًا، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الثُّمْنِ الَّذِي لِلْمَرْأَةِ، وَبَاقِيه يَكُونُ لَهَا مِلْكًا، فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُونُ سِتَّةً وَخَمْسِينَ، لِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَقْفًا، وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِلْكًا، وَلِلْمَرْأَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا، وَثَلَاثَةٌ مِلْكًا. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الدَّارُ جَمِيعَ مِلْكِهِ، فَوَقَفَهَا كُلَّهَا، فَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ. الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ، وَفِيمَا زَادَ فَلَهُمَا إبْطَالُ الْوَقْفِ فِيهِ، وَلِلِابْنِ إبْطَالُ التَّسْوِيَةِ، فَإِنْ اخْتَارَ إبْطَالَ التَّسْوِيَةِ دُونَ إبْطَالِ الْوَقْفِ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْوَقْفُ فِي التُّسْعِ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ مِلْكًا، فَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا، وَالتُّسْعُ مِلْكًا، وَيَكُونُ لِلْبِنْتِ السُّدُسُ وَالتُّسْعَانِ وَقْفًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ إنَّمَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْوَقْفِ فِي مَا لَهُ دُونَ مَا لِغَيْرِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ إبْطَالَ الْوَقْفِ فِي السُّدُسِ، وَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا، وَالتُّسْعُ مِلْكًا، وَلِلْبِنْتِ الثُّلُثُ وَقْفًا، وَنِصْفُ التُّسْعِ مِلْكًا؛ لِئَلَّا تَزْدَادَ الْبِنْتُ عَلَى الِابْنِ فِي الْوَقْفِ. وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الْوَجْه مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلِابْنِ تِسْعَةٌ وَقْفًا وَسَهْمَانِ مِلْكًا، وَلِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمٌ مِلْكًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ إبْطَالُ الْوَقْفِ فِي الرُّبْعِ كُلِّهِ، وَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا وَالسُّدُسُ مِلْكًا، وَيَكُونُ لِلْبِنْتِ الرُّبْعُ وَقْفًا وَنِصْفُ السُّدُسِ مِلْكًا، كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّارُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. [مَسْأَلَةٌ خَرَابُ الْوَقْفِ] (4410) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا، بِيعَ، وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ، وَجُعِلَ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، بِيعَ، وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا خَرِبَ، وَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ، أَوْ أَرْضٍ خَرِبَتْ، وَعَادَتْ مَوَاتًا، وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهَا، أَوْ مَسْجِدٍ انْتَقَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَنْهُ، وَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ، أَوْ ضَاقَ بِأَهْلِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ تَوْسِيعُهُ فِي مَوْضِعِهِ. أَوْ تَشَعَّبَ جَمِيعُهُ فَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ وَلَا عِمَارَةُ بَعْضِهِ إلَّا بِبَيْعِ بَعْضِهِ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ لِتُعَمَّرَ بِهِ بَقِيَّتُهُ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، بِيعَ جَمِيعُهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَتَانِ، لَهُمَا قِيمَةٌ، جَازَ بَيْعُهُمَا وَصَرْفُ ثَمَنِهِمَا عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنْ اللُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا. قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ عَرْصَتِهِ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ، وَإِنَّمَا تُنْقَلُ آلَتُهَا. قَالَ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ يَعْنِي الْمَوْقُوفَةَ عَلَى الْغَزْوِ إذَا كَبِرَتْ، فَلَمْ تَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ تَدُورَ فِي الرَّحَى، أَوْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا تُرَابٌ، أَوْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِي نِتَاجِهَا، أَوْ حِصَانًا يُتَّخَذُ لِلطِّرَاقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ أَوْ الْوَقْفُ، عَادَ إلَى مِلْكِ وَاقِفِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا هُوَ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا زَالَتْ مَنْفَعَتُهُ، زَالَ حَقُّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا تُبْتَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ ". وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ تَعَطُّلِهَا، كَالْمُعْتَقِ، وَالْمَسْجِدُ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِالْمُعْتَقِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى سَعْدٍ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ نَقَّبَ بَيْتَ الْمَالِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ، أَنْ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَارِينِ، وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ. وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِبْقَاءَ الْوَقْفِ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ، بِصُورَتِهِ، فَوَجَبَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمَوْقُوفَةَ، أَوْ قَبَّلَهَا غَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْوَقْفُ مُؤَبَّدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ عَلَى وَجْهٍ، يُخَصِّصُهُ اسْتِبْقَاءُ الْغَرَضِ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ فِي عَيْنٍ أُخْرَى، وَإِيصَالُ الْأَبْدَالِ جَرَى مَجْرَى الْأَعْيَانِ، وَجُمُودُنَا عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ. وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يُذْبَحُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ بِالْكُلِّيَّةِ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَتُرِكَ مُرَاعَاةُ الْمَحَلِّ الْخَاصِّ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاتَهُ مَعَ تَعَذُّرِهِ تُفْضِي إلَى فَوَاتِ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَكَذَا الْوَقْفُ الْمُعَطَّلُ الْمَنَافِعِ وَلَنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَلَا يَعُودُ إلَى مَالِكِهِ بِاخْتِلَالِهِ، وَذَهَابِ مَنَافِعِهِ كَالْعِتْقِ. [فَصْل الْوَقْفَ إذَا بِيعَ] (4411) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْوَقْفَ إذَا بِيعَ، فَأَيُّ شَيْءٍ اُشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مِمَّا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ؛ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنْفَعَةُ، لَا الْجِنْسُ، لَكِنْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَصْرُوفَةً إلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي كَانَتْ الْأُولَى تُصْرَفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَصْرِفِ مَعَ إمْكَانِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْوَقْفِ بِالْبَيْعِ مَعَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. (4412) فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِشِرَاءِ فَرَسٍ أُخْرَى، أُعِينَ بِهِ فِي شِرَاءِ فَرَسٍ حَبِيسٍ يَكُونُ بَعْضَ الثَّمَنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِبْقَاءُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ الْمُمْكِنِ اسْتِبْقَاؤُهَا، وَصِيَانَتُهَا عَنْ الضَّيَاعِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ. (4413) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ قَلَّتْ، وَكَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ رُدَّ عَلَى أَهْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 الْوَقْفِ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ، الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِمَقْصُودِ الْوَقْفِ عَنْ الضَّيَاعِ، مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ، وَمَعَ الِانْتِفَاعِ، وَإِنْ قَلَّ مَا يَضِيعُ الْمَقْصُودُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ فِي قِلَّةِ النَّفْعِ إلَى حَدٍّ لَا يُعَدُّ نَفْعًا، فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ. [فَصْلٌ فِي جَعْلِ مَسْجِدٍ سِقَايَةً وَحَوَانِيت] (4414) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَيُجْعَلُ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ وَحَوَانِيتُ، فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ: فَيُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَذَهَبَ ابْنُ حَامِدٍ إلَى أَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ إنْشَاءَهُ ابْتِدَاءً، وَاخْتَلَفُوا كَيْفَ يُعْمَلُ؟ وَسَمَّاهُ مَسْجِدًا قَبْلَ بِنَائِهِ تَجَوُّزًا؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَيْهِ، أَمَّا بَعْدَ كَوْنِهِ مَسْجِدًا لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ سِقَايَةً وَلَا حَوَانِيتَ وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى ظَاهِر اللَّفْظِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَسْجِدًا، فَأَرَادَ أَهْلُهُ رَفْعَهُ، وَجَعْلَ مَا تَحْتَهُ سِقَايَةً لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَوْلَى، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ، وَإِبْدَالُهُ، وَبَيْعُ سَاحَتِهِ، وَجَعْلُهَا سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ، إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْحَاجَةُ إلَى سِقَايَةٍ وَحَوَانِيتَ لَا تُعَطِّلُ نَفْعَ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ جَعْلُ أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فِي مَسْجِدٍ لَيْسَ بِحَصِينٍ مِنْ الْكِلَابِ، وَلَهُ مَنَارَةٌ، فَرَخَّصَ فِي نَقْضِهَا، وَبِنَاءِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ بِهَا لِلْمَصْلَحَةِ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ] (4415) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إنْ كَانَتْ غُرِسَتْ النَّخْلَةُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجِدًا، فَهَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَلَوْ قَلَعَهَا الْإِمَامُ لَجَازَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذَكَرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ، وَلِأَنَّ الشَّجَرَةَ تُؤْذِي الْمَسْجِدَ وَتَمْنَعُ الْمُصَلَّيْنَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعِهَا، وَيَسْقُطُ وَرَقُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَثَمَرُهَا، وَتَسْقُطُ عَلَيْهَا الْعَصَافِيرُ وَالطَّيْرُ فَتَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَجْلِهَا، وَرَمَوْهَا بِالْحِجَارَةِ لِيَسْقُطَ ثَمَرُهَا فَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّخْلَةُ فِي أَرْضٍ، فَجَعَلَهَا صَاحِبُهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ: لَا بَأْسَ. يَعْنِي أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الْجِيرَانِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي النَّبْقَةِ: لَا تُبَاعُ، وَتُجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الدَّرْبِ يَأْكُلُونَهَا. وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمَّا جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا، فَقَدْ وَقَفَ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَةَ مَعَهَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهَا، فَصَارَتْ كَالْوَقْفِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ مَصْرِفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ، أَنَّهُ لِلْمَسَاكِينِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ صَاحِبُهَا: هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُهَا، وَيُصْرَفَ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا احْتَاجَ إلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 ثَمَنِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، بِيعَتْ، وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهِ. قَالَ: وَقَوْلُ أَحْمَدَ يَأْكُلُهَا الْجِيرَانُ. مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَمِّرُونَهُ. [فَصْلٌ مَا فَضَلَ مِنْ حُصِرَ الْمَسْجِدِ وَزَيْتِهِ وَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ] (4416) فَصْلٌ: وَمَا فَضَلَ مِنْ حُصِرَ الْمَسْجِدِ وَزَيْتِهِ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ، جَازَ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، أَوْ يُتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ فَضَلَ مِنْ قَصَبِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَقْضِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَسْجِدٍ بُنِيَ، فَبَقِيَ مِنْ خَشَبِهِ أَوْ قَصَبِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَقْضِهِ، فَقَالَ: يُعَانُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بَوَارِي الْمَسْجِدِ، إذَا فَضَلَ مِنْهُ الشَّيْءُ، أَوْ الْخَشَبَةُ. قَالَ: يُتَصَدَّقُ بِهِ وَأَرَى أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بِكُسْوَةِ الْبَيْتِ إذَا تَحَرَّقَتْ تُصُدِّقَ بِهَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَدْ كَانَ شَيْبَةُ يَتَصَدَّقُ بِخُلْقَانِ الْكَعْبَةِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ. أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ، جَاءَ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ تَكْثُرُ عَلَيْهَا، فَنَنْزِعُهَا، فَنَحْفِرُ لَهَا آبَارًا فَنَدْفِنُهَا فِيهَا، حَتَّى لَا تَلْبَسَهَا الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، وَلَمْ تُصِبْ، إنَّ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إذَا نُزِعَتْ لَمْ يَضُرَّهَا مَنْ لَبِسَهَا مِنْ حَائِضٍ أَوْ جُنُبٍ، وَلَكِنْ لَوْ بِعْتَهَا، وَجَعَلْت ثَمَنَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ. فَكَانَ شَيْبَةُ يَبْعَثُ بِهَا إلَى الْيَمَنِ، فَتُبَاعُ، فَيَضَعُ ثَمَنَهَا حَيْثُ أَمَرَتْهُ عَائِشَةُ وَهَذِهِ قِصَّةٌ مِثْلُهَا يَنْتَشِرُ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَبْقَ لَهُ مَصْرِفٌ، فَصُرِفَ إلَى الْمَسَاكِينِ، كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ. [فَصْلٌ جنى الْوَقْفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ] (4417) فَصْلٌ: إذَا جَنَى الْوَقْفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَجَبَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قُتِلَ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيه وَقْفًا، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا، وَيَجِبُ أَرْشُهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَعَلَّقَ أَرْشُهُ بِرَقَبَتِهِ، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهِ، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَقْفُ لَا يُمْلَكُ. فَالْأَرْشُ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَعَلُّقُهُ بِرَقَبَتِهِ لِكَوْنِهَا لَا تُبَاعُ، وَبِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، فَكَانَ فِي كَسْبِهِ، كَالْحُرِّ يَكُونُ فِي مَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَأَرْشِ جِنَايَةِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ. وَهَذَا احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فِي صُورَةٍ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَرْشِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِرَقَبَتِهِ، لِتَعَذُّرِ بَيْعِهَا فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. (4418) فَصْلٌ: وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْوَقْفِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْمَالِ، وَجَبَ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لَمْ تَبْطُلْ، وَلَوْ بَطَلَتْ مَالِيَّتُهُ لَمْ يَبْطُلْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُرَّ يَجِبُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِلَ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْعَفْوُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا وَيُشْتَرَى بِهَا مِثْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَكُونُ وَقْفًا وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُ الْمَوْقُوفَ، لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِلْكُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِبَدَلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَرْهُونِ، وَبَيَانُ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَطْنِ الثَّانِي، فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ. وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا مِنْهُ فَنَعْفُوَ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ رَجُلُ رَهْنًا، أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَتُهُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا مَحْضًا مِنْ مُكَافِئٍ لَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَك. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَكُونُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ أَوْ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهِ، فَالْقِصَاصُ لَهُ، وَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، أَوْ يُوجِبُهُ فَعُفِيَ عَنْهُ، وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ كَامِلٌ، وَإِلَّا اُشْتُرِيَ بِهَا شِقْصٌ مِنْ عَبْدٍ. [فَصْلٌ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ] (4419) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ، وَلِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَمْلِيكِ غَيْرِهِ إيَّاهَا، وَوَلِيُّهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَالْمَهْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْعِهَا، أَشْبَهَ الْأَجْرَ فِي الْإِجَارَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْعِهَا فِي الْعُمُرِ، فَيُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ نَفْعِهَا فِي حَقِّ الْبَطْنِ الثَّانِي. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقٌ؛ مِنْ وُجُوبِ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا، وَمَبِيتِهَا عِنْدَهُ، فَتَفُوتُ خِدْمَتُهَا فِي اللَّيْلِ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، إلَّا أَنْ تَطْلُبَ التَّزْوِيجَ، فَيَتَعَيَّنَ تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا طَلَبَتْهُ، فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ، وَمَا فَاتَ مِنْ الْحَقِّ بِهِ، فَاتَ تَبَعًا لِإِيفَائِهَا حَقَّهَا، فَوَجَبَ ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمَوْقُوفَةِ وَإِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ. وَإِذَا زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ، فَوَلَدُهَا وَقْفٌ مَعَهَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَةٌ حُكْمُهُ حُكْمُهَا، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَإِنْ أَكْرَهَهَا أَجْنَبِيُّ، فَوَطِئَهَا، أَوْ طَاوَعَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، أَشْبَهَ الْأَمَةَ الْمُطَلَّقَةَ، وَوَلَدُهَا يَكُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وَقْفًا مَعَهَا. وَإِنْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَلَوْ كَانَ الْوَاطِئُ عَبْدًا، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ سَبِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، فَمَنَعَهُ اعْتِقَادُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ الرِّقِّ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَكُونُ وَقْفًا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَضَعُهُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ تَقْوِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ] (4420) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ؛ لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ حَبَلَهَا، فَتَنْقُصُ أَوْ تَتْلَفُ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ الْوَقْفِ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، فَإِنْ وَطِئَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِلشُّبْهَةِ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ، وَلَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ، يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ مَكَانَهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. فَإِذَا مَاتَ عَتَقَتْ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهَا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْبُطُونِ، فَيُشْتَرَى بِهَا جَارِيَةٌ تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُهَا. لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ. [فَصْل عِتْقُ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ] (4421) فَصْلٌ: وَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَازِمٌ، فَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَقْفًا، وَنِصْفُهُ طَلْقًا، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الطَّلْقِ، لَمْ يَسْرِ عِتْقُهُ إلَى الْوَقْفِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتِقْ بِالْمُبَاشَرَةِ فَبِالسَّرَايَةِ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْفِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ] (4422) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْفِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَإِذَا صَارَ الْوَقْفُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ، أَوْ أَرْضًا فَزُرِعَتْ، وَكَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، فَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ الثَّمَرَةِ أَوْ الْحَبِّ نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَكْحُولٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا كَالْمَسَاكِينِ. وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَغَلَّ مِنْ أَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ نِصَابًا، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ، كَغَيْرِ الْوَقْفِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَقْفَ الْأَصْلُ، وَالثَّمَرَةَ طَلْقٌ، وَالْمِلْكُ فِيهَا تَامٌّ، لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَتُورَثُ عَنْهُ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، كَالْحَاصِلَةِ مِنْ أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُ وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ. مَمْنُوعٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَهُوَ مَالِكٌ لِمَنْفَعَتِهَا؛ وَيَكْفِي ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، بِدَلِيلِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. أَمَّا الْمَسَاكِينُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ، سَوَاءٌ حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَفْرِيقِهَا، وَإِنْ بَلَغَتْ نُصُبًا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَا يَتَعَيَّنُ لَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِدَلِيلِ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ، لِمَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَلَّتِهِ مِلْكًا مُسْتَأْنَفًا، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ، كَاَلَّذِي يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَكَمَا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ وَفَارَقَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ. فَإِنَّهُ يُعَيَّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِي نَفْعِ الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا، وَلِهَذَا يَجِبُ إعْطَاؤُهُ، وَلَا يَجُوزُ حِرْمَانُهُ. [فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ] (4423) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ، كَقُرَيْشٍ، وَبَنَى هَاشِمٍ، وَبَنِي تَمِيمٍ، وَبَنِي وَائِلٍ. وَنَحْوِهِمْ. وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ إقْلِيمٍ وَمَدِينَةٍ، كَالشَّامِ وَدِمَشْقَ وَنَحْوِهِمْ. وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ عَلَى عَشِيرَتِهِ، وَأَهْلِ مَدِينَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُمْ وَحَصْرُهُمْ، فِي غَيْرِ الْمَسَاكِينِ وَأَشْبَاهِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى قَوْمٍ وَلَنَا أَنَّ مَنْ صَحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ عَدَدُهُ مَحْصِيًّا صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصِيًّا، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَمَتَى كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَاكِينِ، وَلَا فِي جُمْلَةِ الْوَقْفِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. [مَسْأَلَةٌ حُكْم وَقَفَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ] (4424) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ، مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَوَقْفُهُ غَيْرُ جَائِزٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالشَّمْعِ، وَأَشْبَاهِهِ، لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، فِي وَقْفِ الطَّعَامِ، أَنَّهُ يَجُوزُ. وَلَمْ يَحْكِهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ: يَصِحُّ وَقْفُهَا، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إجَارَتَهُمَا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ الْمَقْصُودَ الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ الْأَثْمَانُ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ، فَلَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ لَهُ، كَوَقْفِ الشَّجَرِ عَلَى نَشْرِ الثِّيَابِ وَالْغَنَمِ عَلَى دَوْسِ الطِّينِ، وَالشَّمْعِ لِيَتَجَمَّلَ بِهِ. (4425) فَصْلٌ: وَالْمُرَادُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هَاهُنَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَمَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتْلَفُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 بِالِانْتِفَاعِ بِهِ أَمَّا الْحُلِيُّ، فَيَصِحُّ وَقْفُهُ لِلُّبْسِ وَالْعَارِيَّةُ؛ لِمَا رَوَى نَافِعٌ، قَالَ: ابْتَاعَتْ حَفْصَةُ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا، فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ، فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، مَعَ بَقَائِهَا دَائِمًا، فَصَحَّ وَقْفُهَا، كَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ تَحْبِيسُ أَصْلِهَا وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ، فَصَحَّ وَقْفُهَا، كَالْعَقَارِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهَا. وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ حَفْصَةَ فِي وَقْفِهِ. وَذَكَرِهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَدِيثُ فِيهِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّحَلِّيَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الْأَثْمَانِ، فَلَمْ يَصِحَّ وَقْفُهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. وَالْأُوَلُ هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالتَّحَلِّي مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْ مُتَّخِذِهِ، وَجَوَّزَ إجَارَتَهُ لِذَلِكَ وَيُفَارِقُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، فَإِنْ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِالتَّحَلِّي بِهِ، وَلَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِ زَكَاتِهِ، وَلَا ضَمَانِ مَنْفَعَتِهِ فِي الْغَصْبِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ وَقْفُ الشَّمْعِ] (4426) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الشَّمْعِ؛ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَهُوَ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَلَا مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، مِنْ الْمَشْمُومَاتِ وَالرَّيَاحِينِ وَأَشْبَاهِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَأَشْبَهَتْ الْمَطْعُومَ، وَلَا وَقْفُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمَرْهُونِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ الَّتِي لَا يُصَادُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْكَلْبُ أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلضَّرُورَةِ. فَلَمْ يَجُزْ التَّوَسُّعُ فِيهَا، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ. وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، كَعَبْدٍ فِي الذِّمَّةِ، وَدَارٍ، وَسِلَاحٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إبْطَالٌ لِمَعْنَى الْمِلْكِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي عَبْدٍ مُطْلَقٍ، كَالْعِتْقِ. [فَصْلٌ وَصَّى بِفَرَسِ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ مُفَضَّضٍ يُوقَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (4427) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ وَصَّى بِفَرَسٍ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ مُفَضَّضٍ، يُوقَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فَهُوَ عَلَى مَا وَقَفَ وَوَصَّى، وَإِنْ بِيعَ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ، وَاللِّجَامِ، وَجُعِلَ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ، فَهُوَ أَحَبُّ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَعَلَّهُ يَشْتَرِي بِتِلْكَ الْفِضَّةِ سَرْجًا وَلِجَامًا، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فَقِيلَ لَهُ: تُبَاعُ الْفِضَّةُ، وَتُجْعَلُ فِي نَفَقَتِهِ؟ قَالَ: لَا. فَأَبَاحَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِفِضَّةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ سَرْجًا وَلِجَامًا؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهُمَا فِي جِنْسِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، حِينَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِمَا فِيهِ. فَأَشْبَهَ الْفَرَسَ الْحَبِيسَ إذَا عَطِبَ فَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْجِهَادِ، جَازَ بَيْعُهُ، وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ إيقَافُهَا عَلَى الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهَا إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 [مَسْأَلَةٌ مَا جَازَ بَيْعُهُ وَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ جَازَ وَقْفُهُ] (4428) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ وَقْفُهُ، مَا جَازَ بَيْعُهُ، وَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَكَانَ أَصْلًا يَبْقَى بَقَاءً مُتَّصِلًا، كَالْعَقَارِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْأَثَاثِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: إنَّمَا الْوَقْفُ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، عَلَى مَا وَقَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ فِي مَنْ وَقَفَ خَمْسَ نَخَلَاتٍ عَلَى مَسْجِدٍ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْحَيَوَانِ، وَلَا الرَّقِيقِ، وَلَا الْكُرَاعِ، وَلَا الْعُرُوضِ، وَلَا السِّلَاحِ، وَالْغِلْمَانِ، وَالْبَقَرِ، وَالْآلَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ تَبَعًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُقَاتَلُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ وَقْفُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَقْفُ إلَى مُدَّةٍ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ رِوَايَتَانِ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَعْتُدَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْأَعْتَادُ مَا يُعِدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ الْمَرْكُوبِ وَالسِّلَاحِ وَأْلَةِ الْجِهَادِ. وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ، «جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، أَفَأَرْكَبُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْكَبِيهِ، فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَصَحَّ وَقْفُهُ، كَالْعَقَارِ وَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَصَحَّ وَقْفُهُ وَحْدَهُ، كَالْعَقَارِ. (4429) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رَجُلٍ لَهُ دَارٌ فِي الرَّبَضِ، أَوْ قَطِيعَةٌ، فَأَرَادَ التَّنَزُّهَ مِنْهَا. قَالَ: يَقِفُهَا. قَالَ: الْقَطَائِعُ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ إذَا جَعَلَهَا لِلْمَسَاكِينِ. فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ وَقْفِ السَّوَادِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَقْفٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ وَقْفَهَا يُطَابِقُ الْأَصْلَ لَا أَنَّهَا تَصِيرُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقْفًا. [مَسْأَلَةٌ وَقْفُ الْمَشَاعِ] (4430) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَصِحُّ وَقْفُ الْمَشَاعِ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ، وَأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ. وَلَنَا ، أَنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ «أَنَّهُ أَصَابَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، فَأَمَرَهُ بِوَقْفِهَا.» وَهَذَا صِفَةُ الْمَشَاعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرَزًا فَجَازَ عَلَيْهِ مَشَاعًا، كَالْبَيْعِ، أَوْ عَرْصَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَجَازَ وَقْفُهَا، كَالْمُفْرَزَةِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْمَشَاعِ، كَحُصُولِهِ فِي الْمُفْرَزِ، وَلَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الْقَبْضِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَإِذَا صَحَّ فِي الْبَيْعِ صَحَّ فِي الْوَقْفِ. [فَصْلٌ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ] (4431) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ، نِصْفَيْنِ، أَوْ أَثْلَاثًا، أَوْ كَيْفَمَا كَانَ جَازَ. وَسَوَاءٌ جَعَلَ مَآلَ الْمَوْقُوفِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى سِوَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ وَقْفُ الْجُزْءِ مُفْرَدًا، جَازَ وَقْفُ الْجُزْأَيْنِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ، فَقَالَ: أَوْقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى أَوْلَادِي، وَعَلَى الْمَسَاكِينِ. فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ إلَّا بِالتَّنْصِيفِ وَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى زَيْدٍ وَعُمَرَ وَالْمَسَاكِينِ. فَهِيَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. (4432) فَصْلٌ: فَإِنْ أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْوَقْفِ عَنْ الطَّلْقِ بِالْقِسْمَةِ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِسْمَةِ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ إفْرَازُ حَقٍّ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ جَازَتْ الْقِسْمَةُ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ مِنْ جَانِبِ أَصْحَابِ الْوَقْفِ، جَازَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ لِشَيْءٍ مِنْ الطَّلْق. وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الطَّلْقِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءُ بَعْضِ الْوَقْفِ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَشَاعُ وَقْفًا عَلَى جِهَتَيْنِ، فَأَرَادَ أَهْلُهُ قِسْمَتَهُ، انْبَنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا رَدٌّ بِحَالٍ. وَمَتَى جَازَتْ الْقِسْمَةُ فِي الْوَقْفِ، وَطَلَبَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ وَلِيُّ الْوَقْفِ، أُجْبِرَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ جَازَتْ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَلَا ضَرَرٍ، فَهِيَ وَاجِبَةُ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى مَعْرُوفٍ أَوْ بِرٍّ] (4433) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى مَعْرُوفٍ أَوْ بِرٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى مَنْ يُعْرَفُ، كَوَلَدِهِ، وَأَقَارِبِهِ، وَرَجُلٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ عَلَى بِرٍّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَالْمَقَابِرِ، وَالسِّقَايَاتِ وَسَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَرَجُلِ وَامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ أَوْ لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَا عَلَى مَعْصِيَةٍ كَبَيْتِ النَّارِ، وَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ بُنِيَتْ لِلْكُفْرِ. وَهَذِهِ الْكُتُبُ مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أَلَمِ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟ لَوْ كَانَ مُوسَى أَخِي حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» . وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ مِنْهُ. وَالْوَقْفُ عَلَى قَنَادِيلِ الْبِيعَةِ وَفَرْشِهَا وَمَنْ يَخْدِمُهَا وَيُعَمِّرُهَا، كَالْوَقْفِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِتَعْظِيمِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا قَالَ أَحْمَدُ فِي نَصَارَى وَقَفُوا عَلَى الْبِيعَةِ ضِيَاعًا كَثِيرَةً، وَمَاتُوا وَلَهُمْ أَبْنَاءُ نَصَارَى، فَأَسْلَمُوا وَالضَّيَاعُ بِيَدِ النَّصَارَى: فَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَوْنُهُمْ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، لَا يَصِحُّ مِنْ الذِّمِّيِّ، كَالْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا عَقَدُوا عُقُودًا فَاسِدَةً، وَتَقَابَضُوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا، لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوهُ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمْ الرُّجُوعَ فِيمَا وَقَفُوهُ عَلَى كَنَائِسِهِمْ؟ قُلْنَا: الْوَقْفُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إزَالَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا، لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ كَالْعِتْقِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي نَصْرَانِيٍّ أَشْهَدَ فِي وَصِيَّتِهِ، أَنَّ غُلَامَهُ فُلَانًا يَخْدِمُ الْبِيعَةَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ. ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ، وَخَدَمَ سَنَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ، مَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: هُوَ حُرٌّ. وَيَرْجِعُ عَلَى الْغُلَامِ بِأُجْرَةِ خِدْمَةِ مَبْلَغِ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ، قَالَ: هُوَ حُرٌّ سَاعَةَ مَاتَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ وَأَوْفَقُ لِأُصُولِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. لَمْ يَكُنْ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، بَلْ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ يَعْتَقِدَانِ صِحَّتَهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعِوَضُ بِإِسْلَامِهِ، كَانَ عَلَيْهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، كَذَا هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ] (4434) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمَيِّتِ، وَالْحَمْلِ، وَالْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى مَمَالِيكِهِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ حَتَّى يَعْتِقَهُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَوَّزْتُمْ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَات وَأَشْبَاهِهَا، وَهِيَ لَا تُمْلَكُ قُلْنَا: الْوَقْفُ هُنَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ عُيِّنَ فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. قُلْنَا: الْجِهَةُ الَّتِي عُيِّنَ صَرْفُ الْوَقْفِ فِيهَا لَيْسَتْ نَفْعًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 بَلْ هِيَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، يُزَادُونَ بِهَا عِقَابًا وَإِثْمًا، بِخِلَافِ الْمَسَاجِد. وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الْأَصْلِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ مِلْكًا لَازِمًا وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَلَا عَلَى مُرْتَدٍّ، وَلَا عَلَى حَرْبِيٍّ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ فِي الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ أَوْلَى، وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ. [فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ] (4435) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مِلْكًا مُحْتَرَمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ، فَجَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ، كَالْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَقِفَ الذِّمِّيُّ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ كَالْمُسْلِمِ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مِنْ يَنْزِلُ كَنَائِسَهُمْ وَبِيعَهُمْ مِنْ الْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمَوْضِعِ. [فَصْلٌ يَنْظُرُ فِي الْوَقْفِ مَنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ] (4436) فَصْلٌ: وَيَنْظُرُ فِي الْوَقْفِ مَنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ وَقْفَهُ إلَى حَفْصَةَ تَلِيه مَا عَاشَتْ، ثُمَّ إلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا. وَلِأَنَّ مَصْرِفَ الْوَقْفِ يُتْبَعُ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِيهِ. فَإِنْ جَعَلَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ جَازَ، وَإِنْ جَعَلَهُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ لِأَحَدٍ، أَوْ جَعَلَهُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ نَظَرَ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَنَفْعُهُ لَهُ، فَكَانَ نَظَرَهُ إلَيْهِ كَمِلْكِهِ الْمُطْلَقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْحَاكِمُ. اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَنْتَقِلُ فِيهِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، عَيْنُهُ وَنَفْعُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلَّهِ. فَالْحَاكِمُ يَنُوبُ فِيهِ، وَيَصْرِفُهُ إلَى مَصَارِفِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ، فَكَانَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُتَعَيِّنٌ يَنْظُرُ فِيهِ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي النَّظَرَ بِنَفْسِهِ. وَمَتَى كَانَ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، إمَّا بِجَعْلِ الْوَاقِفِ ذَلِكَ لَهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ نَاظِرٍ سِوَاهُ، وَكَانَ وَاحِدًا مُكَلَّفًا رَشِيدًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، كَالطَّلْقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُضَمَّ إلَى الْفَاسِقِ أَمِينٌ، حِفْظًا لِأَصْلِ الْوَقْفِ عَنْ الْبَيْعِ أَوْ التَّضْيِيعِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِجَمَاعَةٍ رَشِيدِينَ، فَالنَّظَرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 لِلْجَمِيعِ، لِكُلِّ إنْسَانٍ فِي نَصِيبِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ رَشِيدٍ، إمَّا لِصِغَرٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ، قَامَ وَلِيُّهُ فِي النَّظَرِ مَقَامَهُ، كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ الْمُطْلَقِ. وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ لِبَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بِتَوْلِيَةِ الْوَاقِفِ أَوْ الْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إلَّا أَمِينًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا، وَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ مِنْ الْحَاكِمِ، لَمْ تَصِحَّ. وَأُزِيلَتْ يَدُهُ. وَإِنْ وَلَّاهُ الْوَاقِفُ وَهُوَ فَاسِقٌ، أَوْ وَلَّاهُ وَهُوَ عَدْلٌ وَصَارَ فَاسِقًا، ضُمَّ إلَيْهِ أَمِينٌ يَنْحَفِظُ بِهِ الْوَقْفُ، وَلَمْ تَزُلْ يَدُهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ، وَأَنَّهُ يَنْعَزِلُ إذَا فَسَقَ فِي أَثْنَاء وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ، فَنَافَاهَا الْفِسْقُ، كَمَا لَوْ وَلَّاهُ الْحَاكِمُ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْوَقْفِ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ مِنْهُ أُزِيلَتْ وِلَايَتُهُ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إبْقَاءِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ نَفَقَةُ الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ] (4437) فَصْلٌ: وَنَفَقَةُ الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُتُّبِعَ شَرْطُهُ فِي تَسْبِيلِهِ، وَجَبَ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ فِي نَفَقَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَمِنْ غَلَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ اقْتَضَى تَحْبِيسَ أَصْلِهِ وَتَسْبِيلَ نَفْعِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَتِهِ. وَإِنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْحَيَوَانِ الْمَوْقُوفِ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَيَحْتَمِلُ وُجُوبَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، عَلَى مَا سَلَفَ بَيَانُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 [كِتَابُ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ] [مَسْأَلَةٌ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إلَّا بِقَبْضِهِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إلَّا بِقَبْضِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْهَدِيَّةَ وَالْعَطِيَّةَ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ. وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ مُتَغَايِرَانِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ. وَقَالَ فِي اللَّحْمِ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى شَيْئًا يَنْوِي بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُحْتَاجِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ. وَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لِلتَّقَرُّبِ إلَيْهِ، وَالْمَحَبَّةِ لَهُ، فَهُوَ هَدِيَّةٌ. وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» . وَأَمَّا الصَّدَقَةُ، فَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَنَا حَصْرُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ؛ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَلْزَمُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» . وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَرُبَّمَا قَالُوا: تَبَرُّعٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ يَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَقِفْ لُزُومُهُ عَلَى الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ مَا قُلْنَاهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَرَوَى عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أَنْ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ فَلَمَّا مَرِضَ، قَالَ: يَا بُنَيَّةُ، مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْك، وَلَا أَحَدٌ أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا مِنْك وَكُنْت نَحَلْتُك جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَوَدِدْت أَنَّك حُزْتِيهِ أَوْ قَبْضَتَيْهِ، وَهُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ أَخَوَاك وَأُخْتَاك، فَاقْتَسِمُوا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَنْحَلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ، قَالَ: مَالِي وَفِي يَدِي. وَإِذَا مَاتَ هُوَ، قَالَ: كُنْت نَحَلْتُهُ وَلَدِي؟ لَا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةٌ يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَالِدِ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَوَى عُثْمَانُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 أَنَّ الْوَالِدَ يَحُوزُ لِوَلَدِهِ إذَا كَانُوا صِغَارًا. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ، فَلَمْ تَلْزَمْ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ، فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ: لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ التَّسْلِيمُ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَقْبُوضِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ. لِأَنَّ الْوَقْفَ إخْرَاجُ مِلْكٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَخَالَفَ التَّمْلِيكَاتِ، وَالْوَصِيَّةُ تَلْزَمُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَالْعِتْقُ إسْقَاطُ حَقٍّ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ وَالْعِتْقَ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. (4439) فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ (لَا يَصِحُّ) . يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَلْزَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ حُكْمُ الْهِبَةِ، وَالصِّحَّةُ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ فِي حَقِّ حُكْمِهِ. وَأَمَّا الصِّحَّةُ بِمَعْنَى انْعِقَادِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبْضُ اُعْتُبِرَ وَثَبَتَ حُكْمُهُ، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ لَفْظِهِ عَلَى نَفْيِهِ، لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاقِ الْمَسْأَلَةِ: " كَمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ " وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ صَحِيحٌ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الضَّمَانُ وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ. وَقَوْلُهُ: " مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ " ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَوْزُونٍ وَمَكِيلٍ، وَخَصَّهُ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ فِيهِ، كَالْقَفِيزِ مِنْ صُبْرَةٍ، وَالرِّطْلِ مِنْ زُبْدَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَرَجَّحْنَا الْعُمُومَ. [فَصْلٌ الْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ] (4440) فَصْلٌ: وَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، إنْ شَاءَ أَقْبَضَهَا وَأَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهَا وَمَنَعَهَا. وَلَا يَصِحُّ قَبْضُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ، لِكَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى رِضَاهُ بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَلَنَا أَنَّهُ قَبَضَ الْهِبَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، أَوْ كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا، وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْوَاهِبِ. فَلَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ ثَمَنِهِ. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ الْهِبَةِ إذْنًا فِي الْقَبْضِ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ. وَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ، أَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ، صَحَّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَبْضٍ وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَنْفَعْ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمَّتْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 [فَصْلٌ مَوْت الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ] (4441) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَتْ الْهِبَةُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي مَوْتِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي الْحَارِثِ، فِي رَجُلٍ أَهْدَى هَدِيَّةً فَلَمْ تَصِلْ إلَى الْمُهْدَيْ إلَيْهِ، حَتَّى مَاتَ؛ فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى صَاحِبِهَا مَا لَمْ يَقْبِضْهَا. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: «لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَ لَهَا: إنِّي قَدْ أَهْدَيْت إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِسْكٍ، وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى هَدِيَّتِي إلَّا مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ فَهِيَ لَك. قَالَتْ: فَكَانَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتُهُ، فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً مِنْ مِسْكٍ، وَأَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ» . وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ، رَجَعَتْ إلَى وَرَثَةِ الْمُهْدِي، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ حَمْلُهَا إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَارِثُ وَلَوْ رَجَعَ الْمُهْدِي فِي هَدِيَّتِهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ، صَحَّ رُجُوعُهُ فِيهَا، وَالْهِبَةُ كَالْهَدِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَالْفَسْخِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ قَبُولِهِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبُولِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، بَطَلَتْ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتِمَّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبُولِ مِنْ الْمُشْتَرِي. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ، بَطَلَ الْإِذْنُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كَانَ هُوَ الْوَاهِبَ فَقَدْ انْتَقَلَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ إلَى وَارِثِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبَ لَهُ، فَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ، لِوَارِثِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْقَبْضَ بِغَيْرِ إذْنٍ. [فَصْلٌ وَهَبَهُ شَيْئًا فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ كَوَدِيعَةِ أَوْ مَغْصُوبٍ] (4442) فَصْلٌ: وَإِنْ وَهَبَهُ شَيْئًا فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، كَوَدِيعَةٍ، أَوْ مَغْصُوبٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَلَا مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا وَلَمْ تَقْبِضْهُ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا خِيَارٌ، هِيَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ قَبْضًا، وَلَا مُضِيَّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فِيهَا، لِكَوْنِهَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، فَيَدُهَا عَلَى مَا فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فِيهَا الْقَبْضُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنٍ فِي الْقَبْضِ. وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فِي الرَّهْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا، فِي الِاخْتِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الْإِذْنِ، وَاعْتِبَارِ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 [مَسْأَلَةٌ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ] (4443) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَصِحُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَبْضٍ إذَا قَبِلَ، كَمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ) يَعْنِي أَنَّ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: الْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِي الْجَمِيعِ إلَّا بِالْقَبْضِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْهِبَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّمْلِيكِ، فَكَانَ مِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِنْهَا مَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، كَالْبَيْعِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ الصَّرْفُ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيَّاتِ، وَمِنْهُ مَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، فَلَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْذُوذَةً، فَيَكُون مَكِيلًا، غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَبْضِ. وَإِنْ أَرَادَ نَخْلًا يَجُذُّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ قَبْلَ تَعْيِينِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَعَدْتُك بِالنِّحْلَةِ. وَقَوْلُ عُمَرَ أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ التَّحَيُّلِ بِنِحْلَةِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ نِحْلَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَوْتِ، فَيُظْهِرُ: إنِّي نَحَلْت وَلَدِي شَيْئًا وَيُمْسِكُهُ فِي يَدِهِ وَيَسْتَغِلُّهُ، فَإِذَا مَاتَ أَخَذَهُ وَلَدُهُ بِحُكْمِ النِّحْلَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا، وَإِنْ مَاتَ وَلَدُهُ أَمْسَكَهُ، وَلَمْ يُعْطِ وَرَثَةَ وَلَدِهِ شَيْئًا. وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُحَرَّمٌ، فَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا حَتَّى يَحُوزَهَا الْوَلَدُ دُونَ وَالِدِهِ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهَا وَرَثَتُهُ، كَسَائِرِ مَالِهِ. وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هَذَا اخْتَصَّ بِهِبَةِ الْوَلَدِ دُونَ وَالِدِهِ، وَشِبْهِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُ ذَلِكَ، فَتَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ. [فَصْلٌ يُسْتَغْنَى عَنْ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ] (4444) فَصْلٌ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (إذَا قَبِلَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْقَبْضِ فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. وَالْإِيجَابُ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُك، أَوْ أَهْدَيْت إلَيْك، أَوْ أَعْطَيْتُك، أَوْ هَذَا لَك. وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَالْقَبُولُ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْت، أَوْ رَضِيت، أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ الْهِبَةَ وَالْعَطِيَّةَ لَا تَصِحُّ كُلُّهَا إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَبْضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ، فَافْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، كَالنِّكَاحِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُعَاطَاةَ وَالْأَفْعَالَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَافِيَةٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى لَفْظٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى إلَيْهِ، وَيُعْطِي وَيُعْطَى، وَيُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ، وَيَأْمُرُ سُعَاتَهُ بِتَفْرِيقِهَا وَأَخْذِهَا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ، وَلَا أَمْرٌ بِهِ وَلَا تَعْلِيمُهُ لِأَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 ذَلِكَ شَرْطًا لَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا مَشْهُورًا، «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى بَعِيرٍ لِعُمَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. فَقَالَ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت» . وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُمَرَ، وَلَا قَبُولُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِمَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَهُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قَالُوا: صَدَقَةً. قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قَالُوا: هَدِيَّةً. ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ» . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ، فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْ الضَّيْفَانِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ بِقَوْلِهِ. وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي بِنَقْلِ الْمِلْكِ، فَاكْتُفِيَ بِهِ، كَمَا لَوْ وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إنَّمَا يُشْتَرَطُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَعَدَمِ الْعُرْفِ الْقَائِمِ بَيْنَ الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، فَلَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ دَالٍ عَلَيْهِ، أَمَّا مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالدَّلَائِلِ، فَلَا وَجْهَ لِتَوْقِيفِهِ عَلَى اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِالْمُعَاطَاةِ فِي الْبَيْعِ، وَاكْتَفَيْنَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَهُوَ إجَارَةٌ وَبَيْعُ أَعْيَانٍ، فَإِذَا اكْتَفَيْنَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعَ تَأَكُّدِهَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَأَنَّهَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَأَنْ نَكْتَفِيَ بِهِ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى. [فَصْلٌ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ فِيمَا لَا يُنْقَلُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ] (4445) فَصْلٌ: وَالْقَبْضُ فِيمَا لَا يُنْقَلُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لَا حَائِلَ دُونَهُ، وَفِيمَا يُنْقَلُ بِالنَّقْلِ، وَفِي الْمَشَاعِ بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ إلَيْهِ. فَإِنْ أَبَى الشَّرِيكُ أَنْ يُسَلِّمَ نَصِيبَهُ، قِيلَ لِلْمُتَّهِبِ: وَكِّلْ الشَّرِيكَ فِي قَبْضِهِ لَك وَنَقْلِهِ. فَإِنْ أَبَى، نَصَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا، فَيَنْقُلُهُ، لِيَحْصُلَ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ وَيَتِمُّ بِهِ عَقْدُ شَرِيكِهِ. [فَصْلٌ هِبَةُ الْمَشَاعِ] (4446) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَشَاعِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ؛ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَشَاعِ الَّذِي يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ، وَوُجُوبُ الْقِسْمَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَتَمَامَهُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، صَحَّتْ هِبَتُهُ؛ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ. وَإِنْ وَهَبَ وَاحِدٌ اثْنَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يَنْقَسِمُ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ. وَإِنْ وَهَبَ اثْنَانِ اثْنَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يَنْقَسِمُ، لَمْ يَصِحَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَّهَبَيْنِ قَدْ وُهِبَ لَهُ جُزْءٌ مَشَاعٌ. وَلَنَا أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا غَنِمَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 مِنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا هِبَةُ مَشَاعٍ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْت «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ جَاءَهُ رَجُلٌ وَمَعَهُ كُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: أَخَذْت هَذِهِ مِنْ الْمَغْنَمِ لِأُصْلِحَ بَرْدَعَةً لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَك» . وَرَوَى عُمَيْرُ بْنُ سَلَمَةَ الضَّمْرِيُّ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْحَاءَ، فَرَأَيْنَا حِمَارَ وَحْشٍ مَعْقُورًا، فَأَرَدْنَا أَخْذَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ، وَهُوَ الَّذِي عَقَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: شَأْنَكُمْ الْحِمَارُ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَجَازَتْ هِبَتُهُ، كَاَلَّذِي لَا يَنْقَسِمُ، وَلِأَنَّهُ مَشَاعٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَا يَنْقَسِمُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ وُجُوبَ الْقِسْمَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ فِي الْبَيْعِ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَمَتَى كَانَتْ الْهِبَةُ لِاثْنَيْنِ، فَقَبَضَاهُ بِإِذْنِهِ، ثَبَتَ مِلْكُهُمَا فِيهِ، وَإِنْ قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا، ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ. [فَصْلٌ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي هِبَةُ الْمُشَاعِ] (4447) فَصْلٌ: وَمَتَى قُلْنَا: إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ. لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ. كَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْمَغْصُوبِ لِغَيْرِ غَاصِبِهِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ غَاصِبِهِ. وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ لِغَاصِبِهِ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ قَبْضُهُ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ الْقَبْضُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فَإِنْ وَكَّلَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ فِي تَقْبِيضِهِ، صَحَّ. وَإِنْ وَكَّلَ الْمُتَّهِبُ الْغَاصِبَ فِي الْقَبْضِ لَهُ، فَقَبِلَ، وَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِيهِ، صَارَ مَقْبُوضًا، وَمَلَكَهُ الْمُتَّهِبُ، وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْهِبَةِ. فَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ ذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي صِحَّةِ هِبَتِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ هِبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَلَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ، كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ. وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ فِي هِبَةِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، إذَا كَانَ مَمْلُوكًا. [فَصْلٌ هِبَةُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ] (4448) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ. وَفِي الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّة بَيْعِهِ. وَمَتَى أَذِنَ لَهُ فِي جَزِّ الصُّوفِ، وَحَلْبِ الشَّاةِ، كَانَ إبَاحَةً وَإِنْ وَهَبَ دُهْنَ سِمْسِمِهِ قَبْلَ عَصْرِهِ، أَوْ زَيْتَ زَيْتُونِهِ، أَوْ جفته، لَمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 يَصِحَّ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا. وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَعْدُومِ، كَاَلَّذِي تُثْمِرُ شَجَرَتُهُ، أَوْ تَحْمِلُ أَمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فِي الْحَيَاةِ، فَلَمْ تَصِحَّ فِي هَذَا كُلِّهِ، كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ هِبَةُ الْمَجْهُول] (4449) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَحَرْبٍ: لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إذَا قَالَ: شَاةً مِنْ غَنَمِي. يَعْنِي: وَهَبْتهَا لَك. لَمْ يَجُزْ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْجَهْلَ إذَا كَانَ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ، مَنَعَ الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ، لَمْ يَمْنَعْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّهِ الْعِلْمُ بِمَا يُوهَبُ لَهُ، كَالْمُوصَى لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالنَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشُّرُوطِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الْهِبَةِ بِشَرْطِ] (4450) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْهِبَةِ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمُعَيَّنٍ فِي الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ، كَالْبَيْعِ. فَإِنْ عَلَّقَهَا عَلَى شَرْطٍ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ سَلَمَةَ: «إنْ رَجَعَتْ هَدِيَّتُنَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَهِيَ لَك» . كَانَ وَعْدًا. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ شُرُوطًا تُنَافِي مُقْتَضَاهَا، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُك هَذَا، بِشَرْطِ أَنْ لَا تَهَبَهُ، أَوْ لَا تَبِيعَهُ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ تَهَبَهُ أَوْ تَبِيعَهُ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ تَهَبَ فُلَانًا شَيْئًا يَصِحُّ. الشَّرْطُ وَفِي صِحَّةِ الْهِبَةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ وَقَّتَ الْهِبَةَ، فَقَالَ: وَهَبْتُك هَذَا سَنَةً، ثُمَّ يَعُودُ إلَيَّ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لِعَيْنٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مُؤَقَّتًا، كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ وَهَبَ أَمَةً وَاسْتُثْنِيَ مَا فِي بَطْنِهَا] (4451) فَصْلٌ: وَإِنْ وَهَبَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، صَحَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ، فِي مَنْ أَعْتَقَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْأُمِّ دُونَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ. وَبِهِ يَقُولُ فِي الْعِتْقِ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَصِحُّ الْهِبَةُ، وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَهَبْ الْوَلَدَ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمَوْهُوبَ لَهُ، كَالْمُنْفَصِلِ، وَكَالْمُوصَى بِهِ. [فَصْلٌ لَهُ فِي ذِمَّةِ إنْسَانٍ دَيْنٌ فَوَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأْهُ مِنْهُ أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ] (4452) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ إنْسَانٍ دَيْنٌ، فَوَهَبَهُ لَهُ، أَوْ أَبْرَأْهُ مِنْهُ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ، صَحَّ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْغَرِيمِ مِنْهُ، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبُولِ، كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَكَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. وَإِنْ قَالَ: تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك. صَحَّ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ فِي الْإِبْرَاءِ بِلَفْظِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 الصَّدَقَةِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وَإِنْ قَالَ: عَفَوْت لَك عَنْهُ. صَحَّ؛ لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] . يَعْنِي بِهِ الْإِبْرَاءَ مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنْ قَالَ: أَسْقَطْتُهُ عَنْك. صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَلَّكْتُك إيَّاهُ. صَحَّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هِبَتِهِ إيَّاهُ. [فَصْلٌ وَهَبَ الدَّيْنَ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ] (4453) فَصْلٌ: وَإِنْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِهِ قَالَ فِي الْبَيْعِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ قَرْضًا، فَبِعْهُ مِنْ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بِنَقْدٍ، وَلَا تَبِعْهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ وَلَا نَسِيئَةٍ، وَإِذَا أَقْرَضْت رَجُلًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَلَا تَأْخُذْ مِنْ غَيْرِهِ عَرْضًا بِمَا لَك عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ مُمَاطِلٍ، أَوْ جَاحِدٍ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ لَهُ. فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ ابْتَاعَ بِمَالٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنٍ، أَوْ يَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ، لِئَلَّا يَكُونَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِ الْآبِقِ. فَأَمَّا هِبَتُهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَصِحَّ، كَالْبَيْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهَا عَلَى الْمُتَّهَبِ، وَلَا الْوَاهِبِ، فَتَصِحُّ، كَهِبَةِ الْأَعْيَانِ. [فَصْلٌ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ فِي هِبَةُ الْمُشَاعِ] (4454) فَصْلٌ: تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَصِحُّ مُطْلَقًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ قَالَ: أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ. لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا مُنِعَتْ لِأَجْلِ الْغَرَرِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْجُمْلَةِ، فَقَدْ زَالَ الْغَرَرُ، وَصَحَّتْ الْبَرَاءَةُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ: «اقْتَسِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتِهِمَا، ثُمَّ تَحَالَّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ إسْقَاطٌ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى تَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 فِيهَا، فَلَوْ وَقَفَ صِحَّةَ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعِلْمِ، لَكَانَ سَدًّا لِبَابِ عَفْوِ الْإِنْسَانِ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَالْمَنْعِ مِنْ الْعِتْقِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يَعْلَمُهُ، وَيَكْتُمُهُ الْمُسْتَحِقَّ، خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ لَمْ يَسْمَحْ بِإِبْرَائِهِ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِالْمُشْتَرِي، وَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَبْرَأهُ مِنْ مِائَةٍ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةٌ، فَفِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، صِحَّتُهَا؛ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مِلْكَهُ، فَأَسْقَطَتْهُ، كَمَا لَوْ عَلِمَهَا. وَالثَّانِي، لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأْهُ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ مَا لَوْ بَاعَ مَالًا كَانَ لِمَوْرُوثِهِ، يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَاقٍ لِمُوَرِّثِهِ، وَكَانَ مُوَرِّثُهُ قَدْ مَاتَ، وَانْتَقَلَ مِلْكُهُ إلَيْهِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي الْبَيْعِ، وَفِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ وَجْهَانِ. [مَسْأَلَة يَقْبِضُ الْهِبَة لِلطِّفْلِ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ الْحَاكِمُ أَوْ أَمِينُهُ بِأَمْرِهِ] (4455) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ أَبُوهُ، أَوْ وَصِيُّهُ، أَوْ الْحَاكِمُ، أَوْ أَمِينُهُ بِأَمْرِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطِّفْلَ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَوَلِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَمِينٌ، فَهُوَ وَلِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَقْرَبُ إلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ الْأَمِينُ، وَلَهُ وَصِيٌّ، فَوَلِيُّهُ وَصِيُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ، فَجَرَى مَجْرَى وَكِيلِهِ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَيْرَ مَأْمُونٍ، لِفِسْقِ أَوْ جُنُونٍ، أَوْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيٍّ، فَأَمِينُهُ الْحَاكِمُ. وَلَا يَلِي مَالَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمِينُ الْحَاكِمِ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْأَبِ وَالْوَصِيُّ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقَامَ الصَّبِيِّ فِي الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبُولٌ لِمَا لِلصَّبِيِّ فِيهِ حَظٌّ، فَكَانَ إلَى الْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ. قَالَ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فِي صَبِيٍّ وُهِبَتْ لَهُ هِبَةٌ، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ، فَقَبَضَتْ الْأُمُّ ذَلِكَ وَأَبُوهُ حَاضِرٌ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ لِلْأُمِّ قَبْضًا، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِلْأَبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَقُّ مَنْ يَحُوزُ عَلَى الصَّبِيِّ أَبُوهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَّهَبِ أَوْ نَائِبِهِ، وَالْوَالِي نَائِبٌ بِالشَّرْعِ، فَصَحَّ قَبْضُهُ لَهُ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا نِيَابَةَ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ الْقَبْضُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ، وَيَكُونُ فَقِيرًا لَا غِنَى بِهِ عَنْ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ غَيْرِهِمْ لَهُ، انْسَدَّ بَابُ وُصُولِهَا إلَيْهِ، فَيَضِيعُ وَيَهْلَكُ، وَمُرَاعَاةُ حِفْظِهِ عَنْ الْهَلَاكِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْوِلَايَةِ. فَعَلَى هَذَا، لِلْأُمِّ الْقَبْضُ لَهُ، وَكُلِّ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيَّزًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 الطِّفْلِ، فِي قِيَامِ وَلِيِّهِ مَقَامَهُ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَزُولُ عَنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبِلَ لِنَفْسِهِ، وَقَبَضَ لَهَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، كَوَصِيَّتِهِ، وَكَسْبِ الْمُبَاحَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقِفَ صِحَّةُ الْقَبْضِ مِنْهُ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ، دُونَ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَحْصُلُ بِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْمَالِ، فَلَا يُؤْمَنُ تَضْيِيعُهُ لَهُ وَتَفْرِيطُهُ فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ حِفْظُهُ عَنْ ذَلِكَ بِوَقْفِهِ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ، كَقَبْضِهِ لِوَدِيعَتِهِ. وَأَمَّا الْقَبُولُ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَجَازَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، كَاحْتِشَاشِهِ وَاصْطِيَادِهِ. [فَصْلٌ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ شَيْئًا] (4456) فَصْلٌ: فَإِنْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ شَيْئًا، قَامَ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ وَالْقَبُولِ، إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ الطِّفْلِ دَارًا بِعَيْنِهَا، أَوْ عَبْدًا بِعَيْنِهِ، وَقَبَضَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، أَنَّ الْهِبَةَ تَامَّةٌ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرَوَيْنَا مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَى قَبْضٍ، اُكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ: قَدْ وَهَبْت هَذَا لِابْنِي، وَقَبَضْته لَهُ لِأَنَّهُ يُغْنِي عَنْ الْقَبُولِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يُغْنِي قَوْلُهُ: قَدْ قَبِلْته. لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ اُكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ: قَدْ وَهَبْت هَذَا لِابْنِي. وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ قَبْضٍ وَلَا قَبُولٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي حِجْرِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهَا يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ، وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ؛ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا، لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نِحْلَةً، فَأَعْلَنَ ذَلِكَ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا بُدَّ فِي هِبَةِ الْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَبِلْته. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَصِحُّ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ وَدَلَالَتَهَا تُغْنِي عَنْ لَفْظِ الْقَبُولِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْقَبُولِ مِنْ كَوْنِ الْقَابِلِ هُوَ الْوَاهِبُ، فَاعْتِبَارُ لَفْظٍ لَا يُفِيدُ مَعْنًى مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ تَحَكُّمٌ لَا مَعْنَى لَهُ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتِهِ. وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ، فَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، فِي رَجُلٍ أَشْهَدَ بِسَهْمٍ مِنْ ضَيْعَتِهِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ لِابْنِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْإِشْهَادِ: قَدْ قَبَضْته لَهُ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ سَهَا؟ قَالَ: إذَا كَانَ مُفْرَزًا رَجَوْت. فَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: قَدْ قَبَضْته. وَأَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يُكْتَفَى مَعَ التَّمْيِيزِ بِالْإِشْهَادِ فَحَسْبُ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ عَنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْتَفَى بِأَحَدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 لَفْظَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَبِلْته، أَوْ قَبَضْته. لِأَنَّ الْقَبُولَ يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ وَهَبَ لَهُ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالْأَثْمَانِ، لَمْ يَجُزْ، إلَّا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ يُتْلِفُ ذَلِكَ، وَيَتْلَفُ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَنْفَعُ الْقَبْضُ شَيْئًا. وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَقَبَضَهُ لَهُ، وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ كَالْعُرُوضِ. [فَصْلٌ كَانَ الْوَاهِبُ لِلصَّبِيِّ غَيْرَ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ] (4457) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ لِلصَّبِيِّ غَيْرَ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لِلصَّبِيِّ، وَيَقْبِضُ لَهُ، لِيَكُونَ الْإِيجَابُ مِنْهُ، وَالْقَبُولُ، وَالْقَبْضُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ. بِخِلَافِ الْأَبِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ وَيَقْبَلَ وَيَقْبِضَ، لِكَوْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْأَبَ وَغَيْرَهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ وَمِنْ وَكِيلِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ، كَالْأَبِ وَفَارَقَ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمُرَابَحَةٍ، فَيُتَّهَمُ فِي عَقْدِهِ لِنَفْسِهِ، وَالْهِبَةُ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ لَا تُهْمَةَ فِيهَا، وَهُوَ وَلِيٌّ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ، كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعِوَضِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ هَاهُنَا يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَتَوْقِيفِهِ عَلَى تَوْكِيلِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِالْإِيجَابِ وَالْإِشْهَادِ عَنْ الْقَبْضِ وَالْقَبُولِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِمَا مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمَا. [فَصْلٌ الْهِبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ لِغَيْرِهِ] (4458) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْهِبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ لِغَيْرِهِ، فَلَا تَصِحُّ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهَا الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَبَرُّعُهُ، كَالسَّفِيهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَمَالُهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إزَالَةُ مِلْكِ سَيِّدِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْمَالِ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهُ فِيهِ، كَالِالْتِقَاطِ، وَمَا وُهِبَهُ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِهِ، فَأَشْبَهَ اصْطِيَادَهُ. [مَسْأَلَة فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ] (4459) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، أُمِرَ بِرَدِّهِ، كَأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمْ بِمَعْنًى يُبِيحُ التَّفْضِيلَ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّتِهِ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ. قَالَ طَاوُسٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا رَغِيفٌ مُحْتَرِقٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعُرْوَةَ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُهُ، وَيُجِيزُهُ فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: ذَلِكَ جَائِزٌ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحَلَ عَائِشَةَ ابْنَتَهُ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بُقُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» فَأَمَرَهُ بِتَأْكِيدِهَا دُونَ الرُّجُوعِ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ تَلْزَمُ بِمَوْتِ الْأَبِ، فَكَانَتْ جَائِزَةً، كَمَا لَوْ سَوَّى بَيْنَهُمْ. وَلَنَا مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: «تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَجَاءَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ، فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِك أَعْطَيْت مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: " فَارْدُدْهُ ". وَفِي لَفْظٍ قَالَ: " فَأَرْجِعْهُ ". وَفِي لَفْظٍ: " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وَفِي لَفْظٍ: " فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ". وَفِي لَفْظٍ: " سَوِّ بَيْنَهُمْ ". وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جَوْرًا، وَأَمَرَ بِرَدِّهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَالْجَوْرُ حَرَامٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاءَ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَصَّهَا بِعَطِيَّتِهِ لِحَاجَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالتَّسَبُّبِ فِيهِ، مَعَ اخْتِصَاصِهَا بِفَضْلِهَا، وَكَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ زَوْجَ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَحَلَهَا وَنَحَلَ غَيْرَهَا مِنْ وَلَدِهِ، أَوْ نَحَلَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْحَلَ غَيْرَهَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ حَدِيثِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى مِثْلِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ اجْتِنَابُ الْمَكْرُوهَاتِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» . لَيْسَ بِأَمْرٍ؛ لِأَنَّ أَدْنَى أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ وَالنَّدْبُ، وَلَا خِلَافَ فِي كَرَاهَةِ هَذَا. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِتَأْكِيدِهِ، مَعَ أَمْرِهِ بِرَدِّهِ، وَتَسْمِيَتِهِ إيَّاهُ جَوْرًا، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا حَمْلٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ. وَلَوْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِشْهَادِ غَيْرِهِ، لَامْتَثَلَ بَشِيرٌ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَرُدَّ، وَإِنَّمَا هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُ عَلَى هَذَا، فَيُفِيدُ مَا أَفَادَهُ النَّهْيُ عَنْ إتْمَامِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 [فَصْلٌ خَصَّ بَعْضَ وَلَدِهِ بِهِبَةِ لِمَعْنِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصه] (4460) فَصْلٌ: فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ لِمَعْنًى يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ، مِثْلَ اخْتِصَاصِهِ بِحَاجَةٍ، أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ عَمَى، أَوْ كَثْرَةِ عَائِلَةٍ، أَوْ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ، أَوْ صَرَفَ عَطِيَّتَهُ عَنْ بَعْضِ وَلَدِهِ لِفِسْقِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ يَسْتَعِينُ بِمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَوْ يُنْفِقُهُ فِيهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِالْوَقْفِ: لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ لَحَاجَةٍ، وَأَكْرَهُهُ إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَثَرَةِ. وَالْعَطِيَّةُ فِي مَعْنَاهُ. وَيَحْتَمِلُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْمَنْعَ مِنْ التَّفْضِيلِ أَوْ التَّخْصِيصِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ بَشِيرًا فِي عَطِيَّتِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ اخْتَصَّ بِمَعْنًى يَقْتَضِي الْعَطِيَّةَ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا، كَمَا لَوْ اخْتَصَّ بِالْقَرَابَةِ. وَحَدِيثُ بَشِيرٍ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَتَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِفْصَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ عَلِمَ بِالْحَالِ لَمَا قَالَ: " أَلَك وَلَدٌ غَيْرُهُ؟ ". قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ هَاهُنَا لِبَيَانِ الْعِلَّةِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: فَلَا إذًا» وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُضُ، لَكِنْ نَبَّهَ السَّائِلَ بِهَذَا عَلَى عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ وَكَرَاهَة التَّفْضِيلِ فِي الْهِبَة] (4461) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّسْوِيَةِ، وَكَرَاهَةِ التَّفْضِيلِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُسَوُّوا بَيْنَهُمْ حَتَّى فِي الْقُبَلِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ أَنْ يُقَسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ، فَيَجْعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. قَالَ شُرَيْحٌ لِرَجُلٍ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَلَدِهِ: اُرْدُدْهُمْ إلَى سِهَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَائِضِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانُوا يُقَسِّمُونَ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ: تُعْطَى الْأُنْثَى مِثْلُ مَا يُعْطَى الذَّكَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ: " سَوِّ بَيْنَهُمْ ". وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : «أَيَسُرُّك أَنْ يَسْتَوُوا فِي بِرِّك؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَسَوِّ بَيْنَهُمْ» . وَالْبِنْتُ كَالِابْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ بِرِّهَا، وَكَذَلِكَ فِي عَطِيَّتِهَا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْت مُؤْثِرًا لِأَحَدٍ لَآثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَاسْتَوَى فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، كَالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ. وَلَنَا أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَأَوْلَى مَا اقْتَدَى بِقِسْمَةِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْعَطِيَّةَ فِي الْحَيَاةِ أَحَدُ حَالَيْ الْعَطِيَّةِ، فَيُجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِنْهَا مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَحَالَةِ الْمَوْتِ. يَعْنِي الْمِيرَاثَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعَطِيَّةَ اسْتِعْجَالٌ لِمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى حَسَبِهِ، كَمَا أَنَّ مُعَجِّلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا يُؤَدِّيهَا عَلَى صِفَةِ أَدَائِهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ الْمُعَجَّلَةُ، وَلِأَنَّ الذَّكَرَ أَحْوَجُ مِنْ الْأُنْثَى، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا إذَا تَزَوَّجَا جَمِيعًا فَالصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى لَهَا ذَلِكَ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّفْضِيلِ؛ لِزِيَادَةِ حَاجَتِهِ، وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِيرَاثَ، فَفَضَّلَ الذَّكَرَ مَقْرُونًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَتُعَلَّلُ بِهِ، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْعَطِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ. وَحَدِيثُ بَشِيرٍ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، وَحِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا مَاثَلَهَا، وَلَا نَعْلَمُ حَالَ أَوْلَادِ بَشِيرٍ، هَلْ كَانَ فِيهِمْ أُنْثَى أَوْ لَا؟ وَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا وَلَدٌ ذَكَرٌ. ثُمَّ تُحْمَلُ التَّسْوِيَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّسْوِيَةَ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ، لَا فِي صِفَتِهِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ عَطَاءٍ: مَا كَانُوا يُقَسِّمُونَ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِهِمْ، عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مُرْسَلٌ. [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَائِرِ أَقَارِبِهِ فِي الْهِبَةُ] (4462) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَائِرِ أَقَارِبِهِ، وَلَا إعْطَاؤُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، كَإِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ، وَأَعْمَامٍ وَبَنِي عَمٍّ، أَوْ مِنْ جِهَاتٍ، كَبَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْمَشْرُوعُ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ، أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ، فَإِنْ خَالَفَ وَفَعَلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ وَيَعُمَّهُمْ بِالنِّحْلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْأَوْلَادِ، فَثَبَتَ فِيهِمْ مِثْلُ حُكْمِهِمْ. وَلَنَا أَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِغَيْرِ الْأَوْلَادِ فِي صِحَّتِهِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ، كَمَا لَوْ كَانُوا غَيْرَ وَارِثِينَ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ بِالْخَبَرِ، وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي وُجُوبِ بِرِّ وَالِدِهِمْ، فَاسْتَوَوْا فِي عَطِيَّتِهِ. وَبِهَذَا عَلَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ: «أَيَسُرُّك أَنْ يَسْتَوُوا فِي بِرِّك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَسَوِّ بَيْنَهُمْ» . وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ لِلْوَالِدِ الرُّجُوعَ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ بِاسْتِرْجَاعِ مَا أَعْطَاهُ لِبَعْضِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْأَوْلَادَ لِشِدَّةِ مَحَبَّةِ الْوَالِدِ لَهُمْ، وَصَرْفِ مَالِهِ إلَيْهِمْ عَادَةً. يَتَنَافَسُونَ فِي ذَلِكَ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ، وَلَا يُبَارِيهِمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَصَّ فِي غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلِمَ لِبَشِيرٍ زَوْجَةً، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْطَائِهَا شَيْئًا حِينَ أَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ لَك وَارِثٌ غَيْرُ وَلَدِك؟ . [فَصْلٌ الْأُمُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ فِي الْهِبَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ كَالْأَبِ] (4463) فَصْلٌ: وَالْأُمُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ كَالْأَبِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا اللَّهِ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَمُنِعَتْ التَّفْضِيلَ كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِتَخْصِيصِ الْأَبِ بَعْضَ وَلَدِهِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي تَخْصِيصِ الْأُمِّ بَعْضَ وَلَدِهَا، فَثَبَتَ لَهَا مِثْلُ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ] (4464) فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " أُمِرَ بِرَدِّهِ ". يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، سَوَاءٌ قَصَدَ بِرُجُوعِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا. وَبِهَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا صِلَةَ رَحِمٍ، أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا. رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ ". وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْأَجْرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ: " فَارْدُدْهُ ". وَرُوِيَ: " فَأَرْجِعْهُ ". رَوَاهُ كَذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ النُّعْمَانِ فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ وَقَدْ امْتَثَلَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ فِي ذَلِكَ، فَرَجَعَ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ، أَلَّا تَرَاهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا، يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ؛ لِقَوْلِهِ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِصَدَقَةٍ. وَقَوْلُ بَشِيرٍ: إنِّي نَحَلْت ابْنِي غُلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَارْدُدْهُ ". وَقَوْلُهُ: " فَأَرْجِعْهُ ". وَرَوَى طَاوُسٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، يَرْفَعَانِ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ مَا رَوَوْهُ وَيُفَسِّرُهُ. وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِهِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ فَإِنَّ فِيهَا أَجْرًا وَثَوَابًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَدَبَ إلَيْهَا. وَعِنْدَهُمْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ كَمَسْأَلَتِنَا، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ؛ لِقَوْلِهِ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِصَدَقَةٍ. [فَصْلٌ الْأُمُّ كَالْأَبِ، فِي الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ] (4465) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْأُمَّ كَالْأَبِ، فِي الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " وَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ " يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَالِدٍ، ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِهِ: " أُمِرَ بِرَدِّهِ ". فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأُمُّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: " إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ ". وَلِأَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَكَّنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 مِنْ التَّسْوِيَةِ، وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ طَرِيقٌ فِي التَّسْوِيَةِ، وَرُبَّمَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا فِيهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ إعْطَاءُ الْآخَرِ مِثْلَ عَطِيَّةِ الْأَوَّلِ. وَلِأَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ فِي الْمَعْنَى فِي حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ فِي جَمِيعِ مَدْلُولِهِ؛ لِقَوْلِهِ: " فَارْدُدْهُ ". وَقَوْلِهِ: " فَأَرْجِعْهُ ". وَلِأَنَّهَا لَمَّا سَاوَتْ الْأَبَ فِي تَحْرِيمِ تَفْضِيلِ بَعْضِ وَلَدِهَا، يَنْبَغِي أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الرُّجُوعِ فِيمَا فَضَّلَهُ بِهِ، تَخْلِيصًا لَهَا مِنْ الْإِثْمِ، وَإِزَالَةً لِلتَّفْضِيلِ الْمُحَرَّمِ، كَالْأَبِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرُّجُوعُ لِلْمَرْأَةِ فِيمَا أَعْطَتْهُ وَلَدَهَا كَالرَّجُلِ؟ قَالَ: لَيْسَ هِيَ عِنْدِي فِي هَذَا كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَالْأُمُّ لَا تَأْخُذُ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ: «أَطْيَبُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» . أَيْ كَأَنَّهُ الرَّجُلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ خَصَّ الْوَالِدَ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَبَ دُونَ الْأُمِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهِ، وَيَحُوزُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي الْمِيرَاثِ، وَالْأُمُّ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْأُمِّ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهَا مَا كَانَ أَبُوهُ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَلَا رُجُوعَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لِيَتِيمٍ وَهِبَةُ الْيَتِيمِ، لَازِمَةٌ، كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. [فَصْلٌ الْفَرْق بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ] (4466) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَفَرَّقَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يُجِيزُوا الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ بِحَالٍ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً، وَأَرَادَ بِهَا صِلَةَ رَحِمٍ، أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ. وَلَنَا، حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِصَدَقَةٍ. وَقَالَ: فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ وَأَيْضًا عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» . وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ فِي الْوَالِدِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ عَامٌّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ. [فَصْلٌ لِلرُّجُوعِ فِي هِبَةِ الْوَلَدِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ] (4467) فَصْلٌ: وَلِلرُّجُوعِ فِي هِبَةِ الْوَلَدِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي مِلْكِ الِابْنِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِمِلْكِ غَيْرِ الْوَالِدِ. وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ إرْثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ وَإِزَالَتَهُ، كَاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ مَوْهُوبًا لَهُ وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ، لِعَيْبٍ، أَوْ إقَالَةٍ أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ وَجْهَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُزِيلَ ارْتَفَعَ، وَعَادَ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَادَ إلَيْهِ بِهِبَةٍ. فَأَمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ لِلْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، أَوْ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ. (4468) فَصْلٌ: الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ بَاقِيَةً فِي تَصَرُّفِ الْوَلَدِ، بِحَيْثُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهَا، فَإِنْ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِ سَيِّدِهَا. وَإِنْ رَهَنَ الْعَيْنَ، أَوْ أَفْلَسَ وَحُجِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِحَقِّ غَيْرِ الْوَلَدِ فَإِنْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الِابْنِ لَمْ يَزُلْ، وَإِنَّمَا طَرَأَ مَعْنًى قَطَعَ التَّصَرُّفَ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، فَمَنَعَ الرُّجُوعَ، فَإِذَا زَالَ زَالَ الْمَنْعُ، وَالْكِتَابَةُ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْعَ الْمُكَاتَبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ سِوَاهُ. فَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْمُكَاتَبِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُزَوِّجِ. وَأَمَّا التَّدْبِيرُ، فَالصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْنَعُ الْبَيْعَ. مَنَعَ الرُّجُوعَ. وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَمْنَعُ الِابْنَ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، إنْ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ، وَالْمُزَارَعَةَ عَلَيْهَا، وَجَعْلَهَا مُضَارَبَةً، أَوْ فِي عَقْدِ شَرِكَةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الِابْنِ فِي رَقَبَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى صِفَةٍ. وَإِذَا رَجَعَ وَكَانَ التَّصَرُّفُ لَازِمًا، كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْكِتَابَةِ، فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ الِابْنِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَمْلِكُ إبْطَالَهُ. وَأَمَّا التَّدْبِيرُ وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةٍ، فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُمَا فِي حَقِّ الْأَبِ، وَمَتَى عَادَ إلَى الِابْنِ، عَادَ حُكْمُهُمَا. فَأَمَّا الْبَيْعُ الَّذِي لِلِابْنِ فِيهِ خِيَارٌ، إمَّا لِشَرْطٍ، أَوْ عَيْبٍ فِي الثَّمَنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يَتَضَمَّنُ فَسْخَ مِلْكِ الِابْنِ فِي عِوَضِ الْمَبِيعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ. وَإِنْ وَهَبَهُ الِابْنُ لِابْنِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ إبْطَالٌ لِمُلْكِ غَيْرِ ابْنِهِ. فَإِنْ رَجَعَ الِابْنُ فِي هِبَتِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَمْلِكَ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِي هِبَتِهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ فَسَخَ هِبَتَهُ بِرُجُوعِهِ، فَعَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَبُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى ابْنِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ ابْنُ الِابْنِ لِأَبِيهِ. فَصْلٌ: الثَّالِثُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا رَغْبَةٌ لِغَيْرِ الْوَلَدِ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهَا رَغْبَةٌ لِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يَهَبَ وَلَدَهُ شَيْئًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 فَيَرْغَبَ النَّاسُ فِي مُعَامَلَتِهِ، وَأَدَانُوهُ دُيُونًا، أَوْ رَغِبُوا فِي مُنَاكَحَتِهِ، فَزَوَّجُوهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا، أَوْ تَزَوَّجَتْ الْأُنْثَى لِذَلِكَ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ أُولَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِابْنِهِ مَالًا: فَلَهُ الرُّجُوعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرَّ بِهِ قَوْمًا، فَإِنْ غَرَّ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الِابْنِ، فَفِي الرُّجُوعِ إبْطَالُ حَقِّهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَفِي الرُّجُوعِ ضَرَرٌ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَحَيُّلًا عَلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ، لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُتَزَوِّجِ وَالْغَرِيمِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ هَذَا الْمَالِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ فِيهِ. (4470) فَصْلٌ: الرَّابِعُ أَنْ لَا تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ. فَإِنْ زَادَتْ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَوْهُوبِ، فَلَمْ تَمْنَعْ الرُّجُوعَ، كَالزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ. وَالثَّانِيَةُ، تَمْنَعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ مِلْكِهِ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهَا، كَالْمُنْفَصِلَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِيهَا، امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ. لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَضَرَرِ التَّشْقِيصِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِرْجَاعٌ لِلْمَالِ بِفَسْخِ عَقْدٍ لِغَيْرِ عَيْبٍ فِي عِوَضِهِ، فَمَنْعُهُ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ، كَاسْتِرْجَاعِ الصَّدَاقِ بِفَسْخِ النِّكَاحِ، أَوْ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ، أَوْ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لِفَلَسِ الْمُشْتَرِي. وَيُفَارِقُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّدَّ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ رَضِيَ بِبَدَلِ الزِّيَادَةِ. وَإِنْ فَرَضَ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا بَاعَ عَرْضًا بِعَرْضِ، فَزَادَ أَحَدُهُمَا، وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي الْآخَرَ بِهِ عَيْبًا، قُلْنَا: بَائِعُ الْمَعِيبِ سَلَّطَ مُشْتَرِيَهُ عَلَى الْفَسْخِ، بِبَيْعِهِ الْمَعِيبَ، فَكَأَنَّ الْفَسْخَ وُجِدَ مِنْهُ. وَلِهَذَا قُلْنَا، فِيمَا إذَا فَسَخَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ لِعَيْبِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ: لَا صَدَاقَ لَهَا، كَمَا لَوْ فَسَخَتْهُ. وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَيْنِ، كَالسِّمَنِ وَالطُّولِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ فِي الْمَعَانِي، كَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ، أَوْ إسْلَامٍ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الزِّيَادَةُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وَلَنَا أَنَّهَا زِيَادَةٌ لَهَا مُقَابِلٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَمَنَعَتْ الرُّجُوعَ، كَالسِّمَنِ وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ. وَإِنْ زَادَ بِبُرْئِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ صَمَمٍ، مَنَعَ الرُّجُوعَ، كَسَائِرِ الزِّيَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْعَيْنِ أَوْ التَّعَلُّمِ لَا تَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ شَيْئًا، أَوْ يَنْقُصُ مِنْهَا، لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْمَالِيَّةِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، كَوَلَدِ الْبَهِيمَةِ، وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَسْبِ الْعَبْدِ، فَلَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ نَعْلَمُهُ وَالزِّيَادَةُ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ فِي مِلْكِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وَلَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ، فَلَا تَتْبَعُ هَاهُنَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهَا لِلْأَبِ. وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ وَلَدَ أَمَةٍ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، مُنِعَ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، إلَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ لِلْأَبِ، فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ، وَيَتَمَلَّكُ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ. [فَصْلٌ إنْ قَصَرَ الْعَيْنَ أَوْ فَصَّلَهَا فَلَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا لَمْ تَمْنَعْ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ] (4471) فَصْلٌ: وَإِنْ قَصَّرَ الْعَيْنَ أَوْ فَصَّلَهَا، فَلَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا، لَمْ تَمْنَع الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَزِدْ وَلَا الْقِيمَةُ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، هَلْ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ أَوْ لَا؟ يُبْنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي السِّمْنَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَمْنَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الرُّجُوعَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِفِعْلِ الِابْنِ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْعَيْنِ الْحَاصِلَةِ بِفِعْلِهِ، بِخِلَافِ السِّمَنِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ تَابِعًا لَهَا وَإِنْ وَهَبَهُ حَامِلًا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الِابْنِ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ فِي الْوَلَدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً إذَا قُلْنَا: الْحَمْلُ لَا حُكْمَ لَهُ. وَإِنْ وَهَبَهُ حَامِلًا، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا حَامِلًا، جَازَ إذَا لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ. وَإِنْ وَهَبْتَهُ حَائِلًا فَحَمَلَتْ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا دُونَ حَمْلِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ، فَزَادَتْ بِهِ قِيمَتُهَا، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا، جَازَ الرُّجُوعُ فِيهَا. وَإِنْ وَهَبَهُ نَخْلًا فَحَمَلَتْ، فَهِيَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَبَعْدَهُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ. [فَصْلٌ تَلِفَ بَعْضُ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا] (4472) فَصْلٌ: وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْعَيْنِ، أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا، لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الِابْنِ فِيمَا تَلِفَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى مِلْكِهِ. وَسَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِ الِابْنِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ، فَهُوَ كَنُقْصَانِهِ بِذَهَابِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَإِنْ رَجَعَ فِيهِ، ضَمِنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ. وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْعَبْدِ، فَرَجَعَ الْأَبُ فَيَرْجِعُ الْأَبُ فِيهِ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِلِابْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَرَادَ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِي الرَّهْنِ، وَعَلَيْهِ فِكَاكُهُ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ مَلَكَ الرُّجُوعَ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي إذَا أَدَّى أَرْشَ جِنَايَتِهِ؟ قُلْنَا: الرَّهْنُ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ فَكَّ الرَّهْنِ فَسْخٌ لِعَقْدٍ عَقَدَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَهَا هُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْحَقُّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ، فَافْتَرَقَا. [فَصْلٌ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ] (4473) فَصْلٌ: وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ أَنْ يَقُولَ قَدْ رَجَعْت فِيهَا، أَوْ ارْتَجَعْتهَا، أَوْ ارْتَدَدْتَهَا. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُسْتَقِرٌّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 وَلَنَا أَنَّهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ عَقْدٍ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَضَاءٍ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. فَأَمَّا إنْ أَخَذَ مَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الرُّجُوعَ، كَانَ رُجُوعًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ نَوَى الرُّجُوعَ أَوْ لَا، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ. لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَغَيْرَهُ، فَلَا نُزِيلُ حُكْمًا يَقِينِيًّا بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ. وَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، يَكُونُ رُجُوعًا. اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّنَا اكْتَفَيْنَا فِي الْعَقْدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، فَفِي الْفَسْخِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ إنَّمَا كَانَ رُجُوعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ. وَالْآخَرُ، لَا يَكُونُ رُجُوعًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ يَقِينًا، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالصَّرِيحِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى هَذَا عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ فِيهِ، لَمْ يَكْتَفِ هَاهُنَا إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي زَوَالَهُ، وَمَنْ اكْتَفَى فِي الْعَقْدِ بِالْمُعَاطَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّضَا بِهِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، لَمْ يَحْصُلْ الرُّجُوعُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْمِلِكِ عَلَى مَالٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَإِنْ عَلَّقَ الرُّجُوعَ بِشَرْطٍ، فَقَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ رَجَعْت فِي الْهِبَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لِلْعَقْدِ لَا يَقِفُ عَلَى شَرْطٍ، كَمَا لَا يَقِفُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطَايَا أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدّهُ] (4474) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَرْدُدْهُ، فَقَدْ ثَبَتَ لِمَنْ وَهَبَ لَهُ، إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ) يَعْنِي إذَا فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطَايَا، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَزِمَ، وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ. هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَالْمَيْمُونِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ، وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَرْتَجِعُوا مَا وَهَبَهُ. اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيَّانِ. وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: عُرْوَةُ قَدْ رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ؛ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَحَدِيثَ عُمَرَ، وَحَدِيثَ عُثْمَانَ، وَتَرَكَهَا وَذَهَبَ إلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَرُدُّ فِي حَيَاةِ الرَّجُلِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ» وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَهُوَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ، لَا يَسَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ أَحَدٌ مِمَّا أُعْطِيَ دُونَ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى ذَلِكَ جَوْرًا بِقَوْلِهِ: «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» . وَالْجَوْرُ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ لِلْفَاعِلِ فِعْلُهُ، وَلَا لِلْمُعْطَى تَنَاوُلُهُ. وَالْمَوْتُ لَا يُغَيِّرُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَوْرًا حَرَامًا، فَيَجِبُ رَدَّهُ، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَمَرَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، أَنْ يَرُدَّ قِسْمَةَ أَبِيهِ حِينَ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ، وَلَا أَعْطَاهُ شَيْئًا، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدٍ، فَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ. أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَخَرَجَ إلَى الشَّامِ، فَمَاتَ بِهَا، ثُمَّ وُلِدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 بَعْدَ ذَلِكَ وَلَدٌ فَمَشَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَا: إنَّ سَعْدًا قَسَّمَ مَالَهُ، وَلَمْ يَدْرِ مَا يَكُونُ، وَإِنَّا نَرَى أَنْ تَرُدَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ. فَقَالَ قَيْسٌ: لَمْ أَكُنْ لِأُغَيِّرَ شَيْئًا صَنَعَهُ سَعْدٌ، وَلَكِنْ نَصِيبِي لَهُ. وَهَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِعَائِشَةَ، لَمَّا نَحَلَهَا نِحَلًا: وَدِدْت لَوْ أَنَّك كُنْت حُزْتِيهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَازَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: لَا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةً يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَالِدِ وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِوَلَدِهِ فَلَزِمَتْ بِالْمَوْتِ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ. وَقَوْلُهُ: " إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا تَنْفُذُ؛ لِأَنَّ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ إذَا كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ إجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ لَا تَنْفُذُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ حُكْمَ الْهِبَاتِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْوَاهِبُ، حُكْمُ الْوَصَايَا، هَذَا مَذْهَبُ الْمَدِينِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْكُوفِيِّ فَإِنْ أَعْطَى أَحَدَ بَنِيهِ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ أَعْطَى الْآخَرَ فِي مَرَضِهِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ زَوَّجَ ابْنَهُ، فَأَعْطَى عَنْهُ الصَّدَاقَ، ثُمَّ مَرِضَ الْأَبُ، وَلَهُ ابْنٌ آخَرَ، هَلْ يُعْطِيه فِي مَرَضِهِ كَمَا أَعْطَى الْآخَرَ فِي صِحَّتِهِ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ أَعْطَاهُ فِي صِحَّتِهِ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِهِ كَوَصِيَّتِهِ، وَلَوْ وَصَّى لَهُ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ إذَا أَعْطَاهُ. وَالثَّانِي يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وَاجِبَةٌ، وَلَا طَرِيقَ لَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا بِعَطِيَّةِ الْآخَرِ، فَتَكُونُ وَاجِبَةً، فَتَصِحُّ، كَقَضَاءِ دَيْنِهِ (4475) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: أُحِبُّ أَنْ لَا يُقَسِّمَ مَالَهُ، وَيَدَعَهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، لَعَلَّهُ أَنْ يُولَدَ لَهُ، فَإِنْ أَعْطَى وَلَدَهُ مَالَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَرْجِعَ فَيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ. يَعْنِي يَرْجِعُ فِي الْجَمِيعِ، أَوْ يَرْجِعُ فِي بَعْضِ مَا أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَدْفَعُوهُ إلَى هَذَا الْوَلَدِ الْحَادِثِ، لِيُسَاوِيَ إخْوَتَهُ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ لَزِمَتْ بِمَوْتِ أَبِيهِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أُعْطِيَ أَنْ يُسَاوِيَ أَخَاهُ فِي عَطِيَّتِهِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، بِرَدِّ قِسْمَةِ أَبِيهِ لِيُسَاوُوا الْمَوْلُودَ الْحَادِثَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. [فَصْل لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ وَيَتَمَلَّكَهُ بِشَرْطَيْنِ] فَصْلٌ: وَلِأَبٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَيَتَمَلَّكَهُ، مَعَ حَاجَةِ الْأَبِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ، وَمَعَ عَدَمِهَا، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا، بِشَرْطَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُجْحِفَ بِالِابْنِ، وَلَا يَضُرَّ بِهِ، وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ. الثَّانِي أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَيُعْطِيَهُ الْآخَرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ وَلَدِهِ بِالْعَطِيَّةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الْآخَرِ أَوْلَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِصَدَاقٍ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَخَذَهَا، وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ لِلزَّوْجِ: جَهِّزْ امْرَأَتَك. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَهَذَا نَصٌّ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ مِلْكَ الِابْنِ تَامٌّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ، كَاَلَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبِ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أَبِي احْتَاجَ مَالِي. فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، فِي " مُعْجَمِهِ " مُطَوَّلًا، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، وَزَادَ: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَالْمُطْلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي مَالًا وَعِيَالًا، وَلِأَبِي مَالٌ وَعِيَالٌ، وَأَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . أَخْرُجَهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدَ مَوْهُوبًا لِأَبِيهِ، فَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] . وَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90] . وَقَالَ زَكَرِيَّا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] . وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ، كَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ، كَعَبْدِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] ثُمَّ ذَكَرَ بُيُوتَ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ إلَّا الْأَوْلَادَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: {بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] . فَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ أَوْلَادِهِمْ كَبُيُوتِهِمْ، لَمْ يَذْكُرْ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ. وَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَلِي مَالَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ، فَكَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَمَالِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ، فَأَحَادِيثُنَا تَخُصُّهَا وَتُفَسِّرُهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ مَالَ الِابْنِ مَالًا لِأَبِيهِ، بِقَوْلِهِ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُ: «أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» مُرْسَلٌ، ثُمَّ هُوَ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ حَقِّهِ عَلَى حَقِّهِ، لَا عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْوَلَدُ أَحَقُّ مِنْ الْوَالِدِ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْوَلَدِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنِ عَلَيْهِ] (4477) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ. وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ، فَجَازَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، كَغَيْرِهِ. وَلَنَا «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِيهِ يَقْتَضِيهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ، فِي كِتَابِ " الْمُوَفَّقِيَّاتِ "، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ رَجُلًا اسْتَقْرَضَ مِنْ ابْنِهِ مَالًا، فَحَبَسَهُ، فَأَطَالَ حَبْسَهُ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الِابْنُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي شِعْرٍ، فَأَجَابَهُ أَبُوهُ بِشَعْرٍ أَيْضًا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ سَمِعَ الْقَاضِي وَمِنْ رَبِّي الْفَهْم ... الْمَالُ لِلشَّيْخِ جَزَاءً بِالنِّعَمْ يَأْكُلُهُ بِرَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغَمْ ... مَنْ قَالَ قَوْلًا غَيْرَ ذَا فَقَدْ ظَلَمْ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ وَبِئْسَ مَا جَرَمْ قَالَ الزُّبَيْرُ: إلَى هَذَا نَذْهَبُ. وَلِأَنَّ الْمَالَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُقُوقِ، فَلَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ أَبِيهِ بِهَا، كَحُقُوقِ الْأَبْدَانِ. وَيُفَارِقُ الْأَبُ غَيْرَهُ، بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ عَلَى وَلَدِهِ. وَإِنْ مَاتَ الِابْنُ، فَانْتَقَلَ الدَّيْنُ إلَى وَرَثَتِهِ، لَمْ يَمْلِكُوا مُطَالَبَةَ الْأَبِ بِهِ؛ لِأَنَّ مَوْرُوثَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ، فَهُمْ أَوْلَى. وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ، رَجَعَ الِابْنُ فِي تَرِكَتِهِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْأَبِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ الْأَبُ، بَطَلَ دَيْنُ الِابْنِ. وَقَالَ فِي مَنْ أَخَذَ مِنْ مَهْرِ ابْنَتِهِ شَيْئًا فَأَنْفَقَهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا أَصَابَتْ مِنْ الْمَهْرِ مِنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخَذَتْهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ لَهُ، وَإِنْفَاقُهُ إيَّاهُ، دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ الْأَخْذِ. وَاَللَّهُ أَعْلَم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 [فَصْلٌ تَصَرَّفَ الْأَبُ فِي مَالِ الِابْنِ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ] (4478) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الْأَبُ فِي مَالِ الِابْنِ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عِتْقُ الْأَبِ لِعَبْدِ ابْنِهِ، مَا لَمْ يَقْبِضْهُ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَلَا هِبَتُهُ لِمَالِهِ، وَلَا بَيْعُهُ لَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَ الِابْنِ تَامٌّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْءُ جَوَارِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ مُشْتَرَكًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ، كَمَا لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَإِنَّمَا لِلْأَبِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ، كَالْعَيْنِ الَّتِي وَهَبَهَا إيَّاهُ، فَقَبْلَ انْتِزَاعِهَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ وَإِنْ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِمَا لَا حَظَّ لِلصَّغِيرِ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ الْحَظِّ إسْقَاطُ دَيْنِهِ، وَعِتْقُ عَبْدِهِ، وَهِبَةُ مَالِهِ. (4479) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ وَلَدِهِ رِبًا. لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مِلْكَ الِابْنِ عَلَى مَالِهِ تَامٌّ. وَقَالَ: لَا يَطَأُ جَارِيَةَ الِابْنِ، إلَّا أَنْ يَقْبِضَهَا. يَعْنِي يَتَمَلَّكُهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا، فَقَدْ وَطِئَهَا وَلَيْسَتْ زَوْجَةً وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ، وَإِنْ تَمَلَّكَهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ مِلْكٍ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا وَإِنْ كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِحَالٍ وَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا، كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ مِلْكِهَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا. وَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا، حُرِّمَتْ بِوَجْهِ ثَالِثٍ وَهِيَ أَنَّهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَلِيلَةِ ابْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضَافَ مَالَ الْوَلَدِ إلَى أَبِيهِ، فَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ انْتَفَى عَنْهُ الْحَدُّ لِلشَّبَهِ. وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ مُطَالَبَتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهَا، وَلَا قِيمَةِ وَلَدِهَا وَلَا مَهْرِهَا. وَهَلْ يُعَزَّرُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا، يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْئًا مُحَرَّمًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي، لَا يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَلَا يُعَزَّرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (4480) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْأَبِ بِقَوْلِهِ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ الْأَبِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِهِ إذَا كَانَ صَغِيرًا، وَلَهُ شَفَقَةٌ تَامَّةٌ، وَحَقٌّ مُتَأَكِّدٌ، وَلَا يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ بِحَالٍ. وَالْأُمُّ لَا تَأْخُذُ؛ لِأَنَّهَا لَا وِلَايَةَ لَهَا. وَالْجَدُّ أَيْضًا لَا يَلِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 عَلَى مَالِ وَلَدِ ابْنِهِ، وَشَفَقَتُهُ قَاصِرَةٌ عَنْ شَفَقَةِ الْأَبِ، وَيُحْجَبُ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ، وَفِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ لَيْسَ لَهُمْ الْأَخْذُ بِطَرِيقِ التَّنْبِيه؛ لِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْأَخْذُ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَالْجَدِّ، مَعَ مُشَارَكَتِهِمَا لِلْأَبِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، فَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي ذَلِكَ أَوْلَى. [مَسْأَلَة لَا يَحِلُّ لِوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَلَا لِمُهْدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَدِيَّتِهِ] (4481) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَلَا لِمُهْدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَدِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهَا. وَأَرَادَ مَنْ عَدَا الْأَبَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ، بِقَوْلِهِ: " أُمِرَ بِرَدِّهِ ". فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ وَلَا هَدِيَّتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا، وَمِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ، مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ " وَبِقَوْلِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عَنْهَا عِوَضٌ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَالْعَارِيَّةِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. وَفِي لَفْظٍ: كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ إنَّهُ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَرْجِعُ وَاهِبٌ فِي هِبَتِهِ، إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» . وَلِأَنَّهُ وَاهِبٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْمَالِ، فَلَمْ يَرْجِعْ فِي هِبَتِهِ، كَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. وَأَحَادِيثُنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَأَوْلَى. وَقَوْلُ عُمَرَ، قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ. وَأَمَّا الْعَارِيَّةُ فَإِنَّمَا هِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ فِيهَا فَإِنَّ قَبَضَهَا بِاسْتِيفَائِهَا، فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا اسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْعَارِيَّةُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا. (4482) فَصْلٌ: فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مَا وَهَبَهُ الْإِنْسَانُ لِذَوِي رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ غَيْرِ وَلَدِهِ، لَا رُجُوعَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ. وَالْخِلَافُ فِيمَا عَدَا هَؤُلَاءِ، فَعِنْدنَا لَا يَرْجِعُ إلَّا الْوَالِدُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَرْجِعُ إلَّا الْأَجْنَبِيُّ. فَأَمَّا هِبَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا رُجُوعَ لَهَا فِيهَا. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 وَالثَّانِيَةُ، لَهَا الرُّجُوعُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَرْأَةِ تَهَبُ، ثُمَّ تَرْجِعُ، فَرَأَيْته يَجْعَلُ النِّسَاءَ غَيْرَ الرِّجَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ: «إنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْمَوَاهِبِ النِّسَاءُ وَشِرَارُ الْأَقْوَامِ» . وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ: إنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ أَزْوَاجَهُنَّ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا شَيْئًا، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَعْتَصِرَهُ، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ الْقُضَاةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ، نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ، إذَا وَهَبَتْ لَهُ مَهْرَهَا، فَإِنْ كَانَ سَأَلَهَا ذَلِكَ، رَدَّهُ إلَيْهَا، رَضِيَتْ أَوْ كَرِهَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَهَبُ إلَّا مَخَافَةَ غَضَبِهِ، أَوْ إضْرَارٍ بِهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَأَلَهَا، وَتَبَرَّعَتْ بِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ. فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّهُ مَتَى كَانَتْ مَعَ الْهِبَةِ قَرِينَةٌ، مِنْ مَسْأَلَتِهِ لَهَا، أَوْ غَضَبِهِ عَلَيْهَا، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى خَوْفِهَا مِنْهُ، فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَطِبْ بِهَا نَفْسُهَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ الرِّوَايَةُ الْأُولَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . وَعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا. (4483) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَصَدِّقِ الرُّجُوعُ فِي صَدَقَتِهِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا مَعَ عُمُومِ أَحَادِيثِنَا، فَاتَّفَقَ دَلِيلُهُمْ وَدَلِيلُنَا، فَلِذَلِكَ اتَّفَقَ قَوْلُهُمْ وَقَوْلُنَا. [فَصْلٌ الْهِبَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا] (4484) فَصْلٌ: وَالْهِبَةُ الْمُطْلَقَةُ، لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْإِنْسَانِ لِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْهِبَةِ لِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ كَقَوْلِنَا. فَإِنْ كَانَتْ لِأَعْلَى مِنْهُ، فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَقْتَضِي الثَّوَابَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا وَلَنَا أَنَّهَا عَطِيَّةٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ، فَلَمْ تَقْتَضِ ثَوَابًا، كَهِبَةِ الْمِثْلِ وَالْوَصِيَّةِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ قَدْ خَالَفَهُ ابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنْ عَوَّضَهُ عَنْ الْهِبَةِ، كَانَتْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَا عِوَضًا، أَيُّهُمَا أَصَابَ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 وَإِنْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، أَخَذَهَا صَاحِبُهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِبَدَلِهَا. فَإِنْ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ ثَوَابًا مَعْلُومًا، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضِ مَعْلُومٍ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ، فِي ضَمَانِ الدَّرْكِ، وَثُبُوتِ الْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا. وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، فَصَحَّ مَا لَوْ قَالَ: مَلَّكْتُك هَذَا بِدِرْهَمٍ. فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ التَّمْلِيكَ كَانَ هِبَةً، وَإِذَا ذَكَرَ الْعِوَضَ صَارَ بَيْعًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِي هَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ، فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ فَأَمَّا إنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَجْهُولًا، لَمْ يَصِحَّ، وَفَسَدَتْ الْهِبَةُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، يَرُدُّهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ. وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، رَدَّ قِيمَتَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهَا تَصِحُّ، فَإِذَا أَعْطَاهُ عَنْهَا عِوَضًا رَضِيَهُ، لَزِمَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا قَالَ الْوَاهِبُ: هَذَا لَك عَلَى أَنْ تُثِيبَنِي. فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا لَمْ يُثِبْهُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: إذَا وَهَبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِثَابَةِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُثِيبَهُ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يُرْضِيَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَدْرَ قِيمَتِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي، إلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ بِالْمُعَاطَاةِ، فَإِذَا عَوَّضَهُ عِوَضًا رَضِيَهُ، حَصَلَ الْبَيْعُ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُعَاطَاةِ مَعَ التَّرَاضِي بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ التَّرَاضِي، لَمْ تَصِحَّ؛ لِعَدَمِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَلَا الْمُعَاطَاةُ مَعَ التَّرَاضِي وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَمَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي ثَوَابًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَهَبَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةً، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثًا فَأَبَى، فَزَادَهُ ثَلَاثًا، فَأَبَى، فَزَادَهُ ثَلَاثًا، فَلَمَّا كَمُلَتْ تِسْعًا، قَالَ: رَضِيت: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَتَّهِبَ إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» . مِنْ " الْمُسْنَدِ " قَالَ أَحْمَدُ: إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَمْ يُثِبْهُ مِنْهَا، فَلَا أَرَى عَلَيْهِ نُقْصَانَ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ إذَا رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لَبِسَهُ، أَوْ غُلَامًا اسْتَعْمَلَهُ، أَوْ جَارِيَةً اسْتَخْدَمَهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ إذَا نَقَصَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَكَانَ عِنْدِي مِثْلَ الرَّهْنِ، الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لِصَاحِبِهِ. [مَسْأَلَة قَالَ دَارِي لَك عُمُرِي أَوْ هِيَ لَك عُمُرَك] (4485) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: دَارِي لَك عُمُرِي. أَوْ هِيَ لَك عُمُرَك. فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى: نَوْعَانِ مِنْ الْهِبَةِ، يَفْتَقِرَانِ إلَى مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهِبَاتِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ مِنْ اعْتَبَرَهُ. وَصُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَعْمَرْتُك دَارِي هَذِهِ، أَوْ هِيَ لَك عُمُرِي، أَوْ مَا عَاشَتْ، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِك، أَوْ مَا حَيِيت، أَوْ نَحْوَ هَذَا. سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَقْيِيدِهَا بِالْعُمُرِ. وَالرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ: أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك، عَلَى أَنَّك إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك فَهِيَ لَك وَلِعَقِبِك. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا. وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ رُقْبَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَعْمُرُوا وَلَا تَرْقُبُوا» . وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَأَمَّا النَّهْيُ، فَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ لَهُمْ إنَّكُمْ إنْ أَعَمَرْتُمْ أَوْ أَرْقَبْتُمْ يَعُدْ لِلْمُعْمِرِ وَالْمُرْقِبِ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَعَقِبِهِ» . وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ النَّهْيِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّتَهَا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا يُفِيدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَائِدَةً، أَمَّا إذَا كَانَ صِحَّةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ضَرَرًا عَلَى مُرْتَكِبَهُ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ، كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ. وَصِحَّةُ الْعُمْرَى ضَرَرٌ عَلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعُمْرَى تَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُعْمَرِ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، لَا تُمْلَكُ بِهَا رَقَبَةُ الْمُعْمَرِ بِحَالٍ، وَيَكُونُ لِلْمُعْمَرِ السُّكْنَى، فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ وَلِعَقِبِهِ. كَانَ سُكْنَاهَا لَهُمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْت مَكْحُولًا يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعُمْرَى، مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَعْطَوْا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَرَبُ فِي الْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَالْإِفْقَارِ، وَالْإِخْبَالِ، وَالْمِنْحَةِ، وَالْعَرِيَّةِ. وَالْعَارِيَّةِ، وَالسُّكْنَى، وَالْإِطْرَاقِ، أَنَّهَا عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 مِلْكِ أَرْبَابِهَا، وَمَنَافِعُهَا لِمَنْ جُعِلَتْ لَهُ. وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتَأَقَّت، كَمَا لَوْ بَاعَهُ إلَى مُدَّةٍ، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَأَقَّت، حُمِلَ قَوْلُهُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رُقْبَى، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ» . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ» . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ حَدِيثَ الْعُمْرَى، فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَوْلُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ فِي مُخَالَفَةِ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ فِي مُخَالَفَةِ قَوْلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُدَّعَى إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهَا مِنْهُمْ، وَقَضَى بِهَا طَارِقٌ بِالْمَدِينَةِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَقَوْلُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: إنَّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ. لَا يَضُرُّ إذَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ إلَى تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ، كَمَا نَقَلَ الصَّلَاةَ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَنْظُومَةِ، وَنَقَلَ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةِ. قَوْلُهُمْ: إنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتَأَقَّتُ. قُلْنَا: فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ الشَّرْعُ تَأْقِيتَهَا، وَجَعَلَهَا تَمْلِيكًا مُطْلَقًا. (4486) فَصْلٌ: إذَا شَرَطَ فِي الْعُمْرَى أَنَّهَا لِلْمُعْمَرِ وَعَقِبِهِ، فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَوَرَثَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِهَا وَإِذَا أَطْلَقَهَا فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ وَوَرَثَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ، فَأَشْبَهَتْ الْهِبَةَ. فَإِنْ شَرَطَ أَنَّك إذَا مِتَّ فَهِيَ لِي. فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، صِحَّةُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَمَتَى مَاتَ الْمُعْمَرُ رَجَعَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَزَيْدُ بْنُ قُسَيْطٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك. فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت. فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ "، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ، وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا» . لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ، وَقَوْلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ؛ لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رُقْبَى، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ هِيَ لِلْآخِرِ مِنِّي وَمِنْك مَوْتًا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «لَا عُمْرَى، وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا، أَوْ أُرْقِبَهُ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الرُّقْبَى يُشْتَرَطُ فِيهَا عَوْدُهَا إلَى الْمُرْقِبِ إنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَمِنْ قَوْلِ جَابِرٍ نَفْسِهِ، وَأَمَّا نَقْلُ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ» . وَلِأَنَّا لَوْ أَجَزْنَا هَذَا الشَّرْطَ، كَانَتْ هِبَةً مُؤَقَّتَةً، وَالْهِبَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّأْقِيتُ، وَلَمْ يُفْسِدْهَا الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْمُعْمَرِ، وَإِنَّمَا شَرْطُ ذَلِكَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ مَعَ الْمَعْقُودِ مَعَهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ قَضَى فِي مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَهِيَ لَهُ بَتْلَةً، لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي فِيهَا شَرْطٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ. (4487) فَصْلٌ: وَالرُّقْبَى هِيَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَك عُمُرَك، فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَ إلَيَّ، وَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَهُوَ لَك وَمَعْنَاهُ هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا. وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ. سُمِّيَتْ رُقْبَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك حَيَاتَك، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِفُلَانٍ، أَوْ هِيَ رَاجِعَةٌ إلَيَّ. وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَنَّهَا كَالْعُمْرَى إذَا شَرَطَ عَوْدَهَا إلَى الْمُعْمَرِ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ: مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الرُّقْبَى وَصِيَّةٌ. يَعْنِي أَنَّ مَعْنَاهَا إذَا مِتُّ فَهَذَا لَك. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الرُّقْبَى بَاطِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى، وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى. وَلِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهَا لِلْآخِرِ مِنَّا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مُعَلَّقٌ بِخَطَرٍ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 لَك حَيَاتَك، فَإِنْ مِتَّ رَجَعَتْ إلَيَّ فَتَكُونُ كَالْعُمْرَى سَوَاءً، إلَّا أَنَّهُ زَادَ شَرْطَهَا لِوَرَثَةِ الْمُرْقَبِ، إنْ مَاتَ الْمُرْقَبُ قَبْلَهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ تَأْكِيدَهَا عَلَى الْعُمْرَى. (4488) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْعُمْرَى فِي غَيْرِ الْعَقَارِ، مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالنَّبَاتِ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ هِبَةٍ، فَصَحَّتْ فِي ذَلِكَ، كَسَائِرِ الْهِبَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُلِ يَعْمُرُ الْجَارِيَةَ: فَلَا أَرَى لَهُ وَطْأَهَا. قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يَتَوَقَّفْ أَحْمَدُ عَنْ وَطْءِ الْجَارِيَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا، لَكِنْ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْعُمْرَى، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، فَلَمْ يَرَ لَهُ وَطْأَهَا لِهَذَا، وَلَوْ وَطِئَهَا كَانَ جَائِزًا. (4489) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَّتَ الْهِبَةَ إلَى غَيْرِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى، فَقَالَ: وَهَبْتُك هَذَا لِسَنَةٍ، أَوْ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْحَاجُّ، أَوْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ وَلَدِي، أَوْ مُدَّةَ حَيَاةِ فُلَانٍ. وَنَحْوَ هَذَا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ، فَلَمْ تَصِحَّ مُؤَقَّتَةً، كَالْبَيْعِ، وَتُفَارِقُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَمْلِكُ الشَّيْءَ عُمُرَهُ، فَإِذَا مَلَكَهُ عُمُرَهُ فَقَدْ وَقَّتَهُ بِمَا هُوَ مُؤَقَّتٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمُطْلَقِ. وَإِنْ شَرَطَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ شَرْطًا عَلَى غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة قَالَ سُكْنَاهَا لَك عُمُرَك] (4490) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: سُكْنَاهَا لَك عُمُرَك. كَانَ لَهُ أَخْذُهَا أَيَّ وَقْتٍ أَحَبَّ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لَيْسَتْ كَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى) أَمَّا إذَا قَالَ: سُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ لَك عُمُرَك، أَوْ اُسْكُنْهَا عُمُرَك. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ إنَّمَا تُسْتَوْفَى بِمُضِيِّ الزَّمَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا تَلْزَمُ إلَّا فِي قَدْرِ مَا قَبَضَهُ مِنْهَا وَاسْتَوْفَاهُ بِالسُّكْنَى. وَلِلْمُسْكِنِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ، وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَتْ الْإِبَاحَةُ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْفَتْوَى، مِنْهُمْ؛ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ حَفْصَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: هِيَ كَالْعُمْرَى، تَكُونُ لَهُ وَلِعَقِبِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعُمْرَى، فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهَا. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ إذَا قَالَ: هِيَ لَك، اُسْكُنْ حَتَّى تَمُوتَ. فَهِيَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ. وَإِنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ اُسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوتَ. فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: هِيَ لَك. فَقَدْ جَعَلَ لَهُ رَقَبَتَهَا، فَتَكُونُ عُمْرَى. فَإِذَا قَالَ: اُسْكُنْ دَارِي هَذِهِ. فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ نَفْعَهَا دُونَ رَقَبَتِهَا، فَتَكُونُ عَارِيَّةً. وَلَنَا أَنَّ هَذَا إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ، فَلَمْ يَقَعْ لَازِمًا كَالْعَارِيَّةِ. وَفَارَقَ الْعُمْرَى فَإِنَّهَا هِبَةٌ لِلرَّقَبَةِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: هَذِهِ لَك، اُسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوتَ. فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ لَك سُكْنَاهَا حَتَّى تَمُوتَ. وَتَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 السُّكْنَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ لَك سُكْنَاهَا. وَإِذَا احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الرَّقَبَةَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ السُّكْنَى، فَلَا نُزِيلُ مِلْكَهُ بِالِاحْتِمَالِ. [فَصْلٌ فِي هِبَة أَوْ بَيْع الْهِبَة الْفَاسِدَة أَوْ الْبَيْع الْفَاسِد] (4491) فَصْلٌ: إذَا وَهَبَ هِبَةً فَاسِدَةً، أَوْ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا، ثُمَّ وَهَبَ تِلْكَ الْعَيْنَ، أَوْ بَاعَهَا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ الْأَوَّلِ، صَحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ، عَالِمًا بِأَنَّهُ مِلْكُهُ. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَفِي صِحَّةِ الثَّانِي وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَ فَسَادَ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَعْتَقِدُ فَسَادَهُ، فَفَسَدَ، كَمَا لَوْ صَلَّى يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَبَانَ مُتَطَهِّرًا وَهَكَذَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي عَيْنٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لِأَبِيهِ، فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَمَلَكَهَا بِالْمِيرَاثِ، أَوْ غَصَبَ عَيْنَهَا فَبَاعَهَا يَعْتَقِدُهَا مَغْصُوبَةً، فَبَانَ أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: أَصْلُ الْوَجْهَيْنِ مَنْ بَاشَرَ امْرَأَةً بِطَلَاقٍ يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً، فَبَانَتْ امْرَأَتَهُ، أَوْ وَاجَهَ بِالْعِتْقِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً، فَبَانَتْ أَمَتُهُ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْحُرِّيَّةِ رِوَايَتَانِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَجْهَانِ، كَمَا حَكَيْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 [كِتَابُ اللُّقَطَةِ] ِ وَهِيَ الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ، يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّقَطَةُ، بِفَتْحِ الْقَافِ: اسْمٌ لِلْمُلْتَقِطِ، لِأَنَّ مَا جَاءَ عَلَى فُعَّلَةٌ فَهُوَ اسْمٌ لِلْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِمْ: هُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ وَضُحَكَةٌ وَهُزَأَةٌ، وَاللُّقْطَةُ، بِسُكُونِ الْقَافِ: الْمَالُ الْمَلْقُوطُ، مِثْلُ الضُّحْكَةِ الَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ، وَالْهُزْأَةُ الَّذِي يُهْزَأُ بِهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ، اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَلْقُوطِ أَيْضًا وَالْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَك، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ. وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: مَالَك وَلَهَا، دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسَقَاهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ، فَقَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَك، أَوْ لِأَخِيك، أَوْ لِلذِّئْبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْوِكَاءُ: الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَالُ فِي الْخِرْقَةِ وَالْعِفَاصُ: الْوِعَاءَ الَّذِي هِيَ فِيهِ، مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَصْلُ فِي الْعِفَاصِ أَنَّهُ الْجِلْدُ الَّذِي يُلْبِسُهُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ قَوْلُهُ: (مَعَهَا حِذَاءَهَا) يَعْنِي خُفَّهَا، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْحِذَاءِ، وَسِقَاؤُهَا: بَطْنُهَا لِأَنَّهَا تَأْخُذُ فِيهِ مَاءً كَثِيرًا، فَيَبْقَى مَعَهَا يَمْنَعُهَا الْعَطَشَ. وَالضَّالَّةُ: اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ خَاصَّةً، دُونَ سَائِرِ اللُّقَطَةِ، وَالْجَمْعُ ضَوَالُّ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْهَوَامِي وَالْهَوَافِي وَالْهَوَامِلُ (4492) فَصْلٌ: قَالَ إمَامُنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَفْضَلُ تَرْكُ الِالْتِقَاطِ وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَعَطَاءٌ، وَمَرَّ شُرَيْحٌ بِدِرْهَمِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَهَا بِمَضْيَعَةٍ وَأَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَجِبُ أَخْذُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فَإِذَا كَانَ وَلِيَّهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ وَمِمَّنْ رَأَى أَخْذَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَخَذَهَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ بَالٌ يَأْخُذُهُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَيُعَرِّفُهُ، لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ مَالِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْغَرَقِ. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِنَفْسِهِ لِأَكْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 الْحَرَامِ، وَتَضْيِيعِ الْوَاجِبِ مِنْ تَعْرِيفهَا، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى وَأَسْلَمَ، كَوِلَايَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَتَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالضَّوَالِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهَا مَعَ مَا ذَكَرُوهُ، وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ مَالِ الْأَيْتَامِ. [مَسْأَلَة مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً عَرَّفَهَا سَنَةُ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ الْفَصْل الْأَوَّل فِي وُجُوبِ تَّعْرِيفِ اللُّقَطَة] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَجَدَ لُقَطَةً، عَرَّفَهَا سَنَةً فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ فِي التَّعْرِيفِ سِتَّةَ فُصُولٍ فِي وُجُوبِهِ، وَقَدْرِهِ وَزَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَمَنْ يَتَوَلَّاهُ (4494) أَمَّا وُجُوبُهُ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُلْتَقِطٍ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا إنَّمَا يُقَيَّدُ بِإِيصَالِهَا إلَيْهِ وَطَرِيقُهُ التَّعْرِيفُ، أَمَّا بَقَاؤُهَا فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِهَا إلَى صَاحِبِهَا، فَهُوَ وَهَلَاكُهَا سِيَّانِ، وَلِأَنَّ إمْسَاكَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ، تَضْيِيعٌ لَهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَلَمْ يَجُزْ، كَرَدِّهَا إلَى مَوْضِعِهَا، أَوْ إلْقَائِهَا فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ التَّعْرِيفُ، لَمَا جَازَ الِالْتِقَاطُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا فِي مَكَانِهَا إذًا أَقْرَبُ إلَى وُصُولِهَا إلَى صَاحِبِهَا، إمَّا بِأَنْ يَطْلُبَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ضَاعَتْ فِيهِ فَيَجِدَهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَجِدَهَا مَنْ يَعْرِفُهَا، وَأَخْذُهُ لَهَا يُفَوِّتُ الْأَمْرَيْنِ، فَيَحْرُمُ، فَلَمَّا جَازَ الِالْتِقَاطُ وَجَبَ التَّعْرِيفُ، كَيْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الضَّرَرُ وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا، فَإِنَّ التَّمَلُّكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلَا تَجِبُ الْوَسِيلَةُ إلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ فِي الْمَحَلِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، لِصِيَانَتِهَا عَنْ الضَّيَاعِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي قَدْرِ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ] (4495) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَدْرِ التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ سَنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. وَعَنْهُ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ؛ لِأَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِ مِائَةِ الدِّينَارِ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْهَاشِمِيُّ مَا دُونَ الْخَمْسِينَ دِرْهَمًا يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: مَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الدِّرْهَمِ: يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: مَا دُونَ الدِّينَارِ يُعَرِّفُهُ جُمُعَةً أَوْ نَحْوَهَا. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ الْتَقَطَ دِرْهَمًا، أَوْ حَبْلًا، أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ، فَلْيُعَرِّفْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَلْيُعَرِّفْهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ.» وَلَنَا: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِعَامٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ السَّنَةَ لَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْقَوَافِلُ، وَيَمْضِي فِيهَا الزَّمَانُ الَّذِي تُقْصَدُ فِيهِ الْبِلَادُ، مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالِاعْتِدَالِ، فَصَلُحَتْ قَدْرًا كَمُدَّةِ أَجَلِ الْعَيْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيٍّ، فَقَدْ قَالَ الرَّاوِي: لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَعْوَام أَوْ عَامًا وَاحِدًا قَالَ أَبُو دَاوُد: شَكَّ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ. وَحَدِيثُ يَعْلَى لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ عَلَى وَجْهِهِ، وَحَدِيثُ زَيْدٍ وَأُبَيُّ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّنَةُ تَلِي الِالْتِقَاطَ، وَتَكُونَ مُتَوَالِيَةً فِي نَفْسِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا حِينَ سُئِلَ عَنْهَا، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّعْرِيفِ وُصُولُ الْخَبَرِ إلَى صَاحِبِهَا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ عَقِيبَ ضَيَاعِهَا مُتَوَالِيًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَتَوَقَّعُهَا وَيَطْلُبُهَا عَقِيبَ ضَيَاعِهَا، فَيَجِبُ تَخْصِيصُ التَّعْرِيفِ بِهِ. [الْفَصْلُ الثَّالِث زَمَان تَعْرِيف اللُّقَطَةِ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي زَمَانِهِ وَهُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ مَجْمَعُ النَّاسِ وَمُلْتَقَاهُمْ دُونَ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَجَدَهَا، وَالْأُسْبُوعُ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا. وَقَدْ رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: نَزَلْنَا مُنَاخَ رَكْبٍ، فَوَجَدْت خِرْقَةً فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ، فَجِئْت بِهَا إلَى عُمَرَ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَمْسِكْهَا حَتَّى قَرْنِ السَّنَةِ، وَلَا يَفِدُ مِنْ رَكْبٍ إلَّا نَشَدْتهَا، وَقُلْت: الذَّهَبُ بِطَرِيقِ الشَّامِ ثُمَّ شَأْنَك بِهَا. [الْفَصْلُ الرَّابِع مَكَان تَعْرِيف اللُّقَطَةِ] (4497) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي مَكَانِهِ، وَهُوَ الْأَسْوَاقُ، وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَذَلِكَ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إشَاعَةُ ذِكْرِهَا، وَإِظْهَارُهَا، لِيَظْهَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، فَيَجِبُ تَحَرِّي مَجَامِعِ النَّاسِ، وَلَا يَنْشُدُهَا فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ إلَيْك، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . وَأَمَرَ عُمَرُ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ. [الْفَصْلُ الْخَامِس فِيمَنْ يَتَوَلَّاهُ تَعْرِيف اللُّقَطَةِ] (4498) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَنْ يَتَوَلَّاهُ، وَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَإِنْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ، وَإِلَّا إنْ احْتَاجَ إلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 أَجْرٍ، فَهُوَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ الْحِفْظَ لِصَاحِبِهَا دُونَ تَمَلُّكِهَا، رَجَعَ بِالْأَجْرِ عَلَى مَالِكِهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ، فِيمَا لَا يُمْلَكُ بِالتَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ إيصَالِهَا إلَى صَاحِبِهَا، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهَا، كَأَجْرِ مَخْزَنِهَا وَرَعْيِهَا وَتَجْفِيفِهَا وَلَنَا أَنَّ هَذَا أَجْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُعَرِّفِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ تَمَلُّكَهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ عَلَى صَاحِبِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهَا شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهَا، فَكَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ تَمَلُّكَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَعْطَى مِنْهَا شَيْئًا لِمَنْ عَرَّفَهَا، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ مِنْهَا شَيْئًا لِمَنْ حَفِظَهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ. [الْفَصْلُ السَّادِس كَيْفِيَّةِ تَعْرِيف اللُّقَطَةِ] (4499) الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْرِيفِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهَا لَا غَيْرُ، فَيَقُولَ: مَنْ ضَاعَ مِنْهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ ثِيَابٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِوَاجِدِ الذَّهَبِ قُلْ: الذَّهَبُ بِطَرِيقِ الشَّامِ وَلَا تَصِفْهَا لِأَنَّهُ لَوْ وَصَفَهَا لَعَلِمَ صِفَتَهَا مَنْ يَسْمَعُهَا، فَلَا تَبْقَى صِفَتُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهَا، لِمُشَارَكَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا بَعْضُ مِنْ سَمِعَ صِفَتَهَا، وَيَذْكُرَ صِفَتَهَا الَّتِي يَجِبُ دَفْعُهَا بِهَا، فَيَأْخُذَهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا، فَتَضِيعَ عَلَى مَالِكِهَا. [فَصْلٌ يَسِيرِ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرهَا] (4500) فَصْلٌ: لَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ يَسِيرِ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرِهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، إلَّا فِي الْيَسِيرِ الَّذِي لَا تَتْبَعُهُ النَّفْسُ، كَالتَّمْرَةِ وَالْكِسْرَةِ وَالْخِرْقَةِ، وَمَا لَا خَطَرَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى وَاجِدِ التَّمْرَةِ حَيْثُ أَكَلَهَا، بَلْ «قَالَ لَهُ: لَوْ لَمْ تَأْتِهَا لَأَتَتْك» . «وَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرَةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ، لَأَكَلْتُهَا» وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ أَخْذِ الْيَسِيرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَيْسَ عَنْ أَحْمَدَ وَأَكْثَرَ مَنْ ذَكَرْنَا تَحْدِيدُ الْيَسِيرِ الَّذِي يُبَاحُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ تَعْرِيفُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ، وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ، فَلَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ، كَالْكِسْرَةِ وَالتَّمْرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَافِهٌ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَتَصَرَّفَ فِيهِ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، عَنْ سَلْمَى بِنْتِ كَعْبٍ، قَالَتْ: وَجَدْت خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَأَلْت عَائِشَةَ عَنْهُ، فَقَالَتْ: تَمَتَّعِي بِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ، يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ» . وَالْحَبْلُ قَدْ يَكُونُ قِيمَتُهُ دَرَاهِم وَعَنْ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: خَرَجْت مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْعُذَيْبِ، الْتَقَطْت سَوْطًا، فَقَالَا لِي: أَلْقِهِ. فَأَبَيْت، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، أَتَيْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَصَبْت. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَالْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ. وَلَنَا عَلَى إبْطَالِ تَحْدِيدِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ، أَنَّ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَامٌّ فِي كُلِّ لُقَطَةٍ، فَيَجِبُ إبْقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ بِالدَّلِيلِ، وَلَمْ يَرِدْ بِمَا ذَكَرُوهُ نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ وَلِأَنَّ التَّحْدِيدَ وَالتَّقْدِيرَ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: طُرُقُهُ كُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ. ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِمْ وَلِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ غَيْرِ اللُّقَطَةِ، إمَّا لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا إلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، لَا يُدْرَى كَمْ قَدْرُ الْخَاتَمِ، ثُمَّ هُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ حُجَّةً، وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ، لَكِنْ يُبَاحُ أَخْذُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَصَّ فِي أَخْذِهِ مِنْ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَبْلِ، وَمَا قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِهِ بِمَا دُونَ الْقِيرَاطِ، وَلَا يَصِحُّ تَحْدِيدُهُ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ أَخَّرَ تَعْرِيفَ اللُّقَطَةِ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ مَعَ إمْكَانِهِ] (4501) فَصْلٌ: إذَا أَخَّرَ التَّعْرِيفَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، مَعَ إمْكَانِهِ أَثِمَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فِيهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: «لَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْ لَا يَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَيْأَسُ مِنْهَا، وَيَسْلُو عَنْهَا، وَيَتْرُكُ طَلَبِهَا. وَيَسْقُطُ التَّعْرِيفُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ التَّعْرِيفِ لَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَرَكَهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، عَرَّفَ بَقِيَّتَهُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَسْقُطَ التَّعْرِيفُ بِتَأَخُّرِهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ، كَالْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْقُصُورِ، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فَعَلَى هَذَا إنْ أَخَّرَ التَّعْرِيفَ بَعْضَ الْحَوْلِ، أَتَى بِالتَّعْرِيفِ فِي بَقِيَّتِهِ، وَأَتَمَّهُ مِنْ الْحَوْلِ الثَّانِي. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، لَا يَمْلِكُهَا بِالتَّعْرِيفِ فِيمَا عَدَا الْحَوْلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمِلْكِ التَّعْرِيفُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا أَوْ يَحْبِسَهَا عِنْدَهُ أَبَدًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَفْعُهَا إلَى الْحَاكِمِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 كَقَوْلِنَا فِيمَا إذَا الْتَقَطَ مَا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ. وَلَوْ تَرَكَ التَّعْرِيفَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَمْلِكْهَا أَيْضًا بِالتَّعْرِيفِ فِيمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكْمُلْ، وَعَدَمُ بَعْضِ الشَّرْطِ كَعَدَمِ جَمِيعِهِ، كَمَا لَوْ أَخَلَّ بِبَعْضِ الطَّهَارَةِ، أَوْ بِبَعْضِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ تَرَكَ تَعْرِيفَ اللُّقَطَةِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ] (4502) فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ التَّعْرِيفَ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نِسْيَانٍ وَنَحْوِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ تَرَكَهُ مَعَ إمْكَانِهِ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَهُ فِي الْحَوْلِ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، سَوَاءٌ انْتَفَى لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ يُعَرِّفُهُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَيَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ التَّعْرِيفَ عَنْ وَقْتِ إمْكَانِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَرَّفَهُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ. [مَسْأَلَة عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا فَلَمْ تُعْرَفْ] (4503) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، وَإِلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا، فَلَمْ تُعْرَفْ، مَلَكَهَا مُلْتَقِطُهَا، وَصَارَتْ مِنْ مَالِهِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، غَنِيًّا كَانَ الْمُلْتَقِطُ أَوْ فَقِيرًا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْغُرْمِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا. وَرُوِيَ: ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّهَا، فَرَضِيَ بِالْأَجْرِ، وَإِلَّا غَرِمَهَا» . وَلِأَنَّهَا مَالٌ لِمَعْصُومٍ، لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا، وَلَا وُجِدَ مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، كَغَيْرِهَا قَالُوا: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ فَقِيرًا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِمَا رَوَى عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ، وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرْدُدْهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالُوا: وَمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، إنَّمَا يَتَمَلَّكُهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنْكَرَهُ الْخَلَّالُ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: «فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا» . وَفِي لَفْظٍ: " وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ ". وَفِي لَفْظٍ: " ثُمَّ كُلْهَا ". وَفِي لَفْظٍ: " فَانْتَفِعْ بِهَا ". وَفِي لَفْظٍ: " فَشَأْنَك بِهَا ". وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " فَاسْتَنْفِقْهَا ". وَفِي لَفْظٍ: " فَاسْتَمْتِعْ بِهَا ". وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بِالْقَرْضِ مَلَكَ بِاللُّقَطَةِ كَالْفَقِيرِ، وَمَنْ جَازَ لَهُ الِالْتِقَاطُ مَلَكَ بِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، كَالْفَقِيرِ. وَحَدِيثُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَثْبُتْ، وَلَا نُقِلَ فِي كِتَابٍ يُوثَقُ بِهِ وَدَعْوَاهُمْ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ أَنَّ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ لَا يَتَمَلَّكُهُ إلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ. لَا بُرْهَانَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَبُطْلَانُهَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا وَمِلْكًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . [فَصْلٌ تَدْخُلُ اللُّقَطَةُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ حُكْمًا] (4504) فَصْلٌ: وَتَدْخُلُ اللُّقَطَةُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ حُكْمًا، كَالْمِيرَاثِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: " وَإِلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ ". وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَخْتَارَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَقَوْلِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْلِكُهَا بِالنِّيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْلِكُهَا بِقَوْلِهِ: اخْتَرْت تَمَلُّكَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِقَوْلِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا تَمَلُّكٌ بِعِوَضِ؛ فَلَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُتَمَلِّكِ، كَالشِّرَاءِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ» . وَقَوْلُهُ: " فَاسْتَنْفِقْهَا ". وَلَوْ وَقَفَ مِلْكُهَا عَلَى تَمَلُّكِهَا لَبَيَّنَهُ لَهُ، وَلَمْ يُجَوِّزْ لَهُ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ. وَفِي لَفْظٍ: " فَهِيَ لَك ". وَفِي لَفْظٍ: " كُلْهَا ". وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ وَالتَّعْرِيفَ سَبَبٌ لِلتَّمَلُّكِ، فَإِذَا تَمَّ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ حُكْمًا، كَالْإِحْيَاءِ وَالِاصْطِيَادِ. وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُمْلَكُ بِهِ، فَلَمْ يَقِفْ الْمِلْكُ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا اخْتِيَارِهِ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَيْسَ إلَيْهِ إلَّا مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ، فَإِذَا أَتَى بِهَا، ثَبَتَ الْحُكْمُ قَهْرًا وَجَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ. وَأَمَّا الِاقْتِرَاضُ فَهُوَ السَّبَبُ فِي نَفْسِهِ، فَلَمْ يَثْبُت الْمِلْكُ بِدُونِهِ. [فَصْلٌ الْتَقَطَهَا اثْنَانِ فَعَرَّفَاهَا حَوْلًا] (4505) فَصْلٌ: فَإِنْ الْتَقَطَهَا اثْنَانِ، فَعَرَّفَاهَا حَوْلًا، مَلَكَاهَا جَمِيعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوفِ الْمِلْكِ عَلَى الِاخْتِيَارِ، فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، مَلَكَ الْمُخْتَارُ نِصْفَهَا دُونَ الْآخَر. وَإِنْ رَأَيَاهَا مَعًا، فَبَادَرَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَهَا، أَوْ رَآهَا أَحَدُهُمَا، فَأَعْلَمَ بِهَا صَاحِبَهُ، فَأَخَذَهَا، فَهِيَ لِآخِذِهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ اللُّقَطَةِ بِالْأَخْذِ لَا بِالرُّؤْيَةِ، كَالِاصْطِيَادِ. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هَاتِهَا. فَأَخَذَهَا، نَظَرْت فِي نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، فَهِيَ لَهُ دُونَ الْآمِرِ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِلْآمِرِ، فَهِيَ لَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الِاصْطِيَادِ لَهُ. [فَصْلٌ تُمْلَكُ اللُّقَطَةُ مِلْكًا مُرَاعَى يَزُولُ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا] (4506) فَصْلٌ: وَتُمْلَكُ اللُّقَطَةُ مِلْكًا مُرَاعًى، يَزُولُ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا، وَيَضْمَنُ لَهُ بَدَلَهَا إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ الْعِوَضِ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا، كَمَا يَتَجَدَّدُ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْهَا بِمَجِيئِهِ، وَكَمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ نِصْفِ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجِ، أَوْ بَدَلِهِ إنْ تَعَذَّرَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهِ بِالطَّلَاقِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِعِوَضٍ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لِصَاحِبِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . فَجَعَلَهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ يُعْزَلْ مِنْ تَرِكَتِهِ بَدَلُهَا، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ بِسَبَبِ الْغُرْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدَّيْنِ فِي حَقِّهِ، وَانْتِفَاءُ أَحْكَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَائِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهَا بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا وَلَوْ وَقَفَ مِلْكُهُ لَهَا عَلَى رِضَاهُ بِالْمُعَاوَضَةِ وَاخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا كَالْقَرْضِ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ مَجِيئِهِ، بِشَرْطِ تَلَفِهَا، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَأَخَذَهَا، وَلَمْ يَسْتَحِقّ لَهَا بَدَلًا. وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً تَجَدَّدَ لَهُ مِلْكُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهَا، كَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ الْمِلْكُ فِيهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَكَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ الْمِلْكُ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفِي بَدَلِهِ إنْ كَانَ مَعْدُومًا. وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَسْأَلَتِنَا، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ. وَأَمَّا الْقَرْضُ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بَدَلُهُ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَعُدْ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمُقْرِضِ إلَّا بِرِضَاءِ الْمُقْرِضِ وَاخْتِيَارِهِ. [فَصْلٌ كُلُّ مَا جَازَ الْتِقَاطُهُ مُلِكَ بِالتَّعْرِيفِ عِنْدَ تَمَامِهِ] (4507) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ الْتِقَاطُهُ، مُلِكَ بِالتَّعْرِيفِ عِنْدَ تَمَامِهِ، أَثْمَانًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا هَذَا كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ لَفْظِهِ. وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَكَمِ، رَوَى عَنْهُ فِي الصَّيَّادِ يَقَعُ فِي شِصِّهِ الْكِيسُ أَوْ النُّحَاسُ: يُعَرِّفُهُ سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَائِرِ مَالِهِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي النُّحَاسِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ بْنُ أَبِي مُوسَى: هَلْ حُكْمُ الْعُرُوضِ فِي التَّعْرِيفِ، وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، حُكْمُ الْأَثْمَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهَا كَالْأَثْمَانِ، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرْقًا بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْعُرُوضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَا تُمْلَكُ الْعُرُوض بِالتَّعْرِيفِ. قَالَ الْقَاضِي: نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ عَقِيلٍ: يُعَرِّفُهَا أَبَدًا. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى تَعْرِيفهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَبَيْنَ دَفْعِهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَرَى رَأْيَهُ فِيهَا. وَهَلْ لَهُ بَيْعُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَقَالَ الْخَلَّالُ: كُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُعَرِّفُهُ سَنَةً، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَاَلَّذِي نُقِلَ أَنَّهُ يُعَرِّفُ أَبَدًا قَوْلٌ قَدِيمٌ، رَجَعَ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ فِي الْحَرَمِ، فَلَا تُمْلَكُ فِي غَيْرِهِ كَالْإِبِلِ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْأَثْمَانِ، وَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا؛ لِعَدَمِ الْغَرَضِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنِهَا، فَمِثْلُهَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَلَنَا عُمُومُ الْأَحَادِيثِ فِي اللُّقَطَةِ جَمِيعهَا «؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَانْتَفِعْ بِهَا، أَوْ فَشَأْنَك بِهَا» وَفِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: " مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً " وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، وَالْأَثْرَمُ فِي " كِتَابَيْهِمَا "، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثِنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي مَتَاعٍ يُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ الْمَيْتَاءِ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ؟ فَقَالَ: عَرِّفْهُ سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ، وَإِلَّا فَشَأْنَك بِهِ» . وَرَوَيَا أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَدَ عَيْبَةً فَأَتَى بِهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ عُرِفَتْ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك. زَادَ الْجُوزَجَانِيُّ: فَلَمْ تُعْرَفْ، فَلَقِيَهُ بِهَا الْعَامَ الْمُقْبِلَ، فَذَكَرَهَا لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: هِيَ لَك، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ كَذَلِكَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّبَّاحِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ. فَقَالَ: إنِّي وَجَدْت هَذَا الْبُرْدَ، وَقَدْ نَشَدْته وَعَرَّفْته فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، وَهَذَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ يَتَفَرَّقُ النَّاسُ. فَقَالَ: إنْ شِئْت قَوَّمْته قِيمَةَ عَدْلٍ، وَلَبِسْته، وَكُنْت لَهُ ضَامِنًا، مَتَى جَاءَك صَاحِبُهُ دَفَعْت إلَيْهِ ثَمَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ لَهُ طَالِبٌ فَهُوَ لَك إنْ شِئْت وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْتِقَاطُهُ مُلِكَ بِالتَّعْرِيفِ، كَالْأَثْمَانِ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ إنْ صَحَّ، فَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ خِلَافَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ فِي الْحَرَمِ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْأَثْمَانِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا، فَلَا تُمْلَكُ بِهِ، وَهَاهُنَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا، فَتُمْلَكُ بِهِ، كَالْأَثْمَانِ. ثُمَّ إذَا لَمْ تُمْلَكْ فِي الْحَرَمِ، لَا تُمْلَكُ فِي الْحِلِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرَمَ مُيِّزَ بِكَوْنِ لُقَطَتِهِ لَا يَلْتَقِطُهَا إلَّا مُنْشِدٌ، وَلِهَذَا لَمْ تُمْلَكْ الْأَثْمَانُ بِالْتِقَاطِهَا فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا تُمْلَكَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ فِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّصَّ خَاصٌّ فِي الْأَثْمَانِ. قُلْنَا: بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ لُقَطَةٍ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ، وَإِنْ وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ، فَقَدْ رُوِيَ خَبَرٌ عَامٌ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا، ثُمَّ قَدْ رَوَيْنَا نَصًّا خَاصًّا فِي الْعُرُوضِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، كَمَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْخَاصِّ فِي الْأَثْمَانِ، ثُمَّ لَوْ اخْتَصَّ الْخَبَرُ بِالْأَثْمَانِ، لَوَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، كَسَائِرِ النُّصُوصِ الَّتِي عُقِلَ مَعْنَاهَا وَوُجِدَ فِي غَيْرِهَا، وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَ الْمَعْنَى، فَيَجِبُ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، أَوْ نَقُولُ: إنَّ الْمَعْنَى هَاهُنَا آكَدُ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيه وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتْلَفُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ عَلَيْهَا، وَانْتِظَارِ صَاحِبِهَا بِهَا أَبَدًا، وَالْعُرُوضُ تَتْلَفُ بِذَلِكَ، فَفِي النِّدَاءِ عَلَيْهَا دَائِمًا هَلَاكُهَا، وَضَيَاعُ مَالِيَّتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَمُلْتَقِطِهَا، وَسَائِرِ النَّاسِ، فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَمِلْكِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ، حِفْظًا لِمَالِيَّتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا بِدَفْعِ قِيمَتِهَا إلَيْهِ، وَتَقَعُ لِغَيْرِهِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِفْظِ لِمَالِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ، وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهَا حَثًّا عَلَى الْتِقَاطِهَا وَحِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا، لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْمِلْكِ الْمَقْصُودِ لِلْآدَمِيِّ، وَفِي نَفْيِ مِلْكِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا، لِمَا فِي الْتِقَاطِهَا مِنْ الْخَطَرِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَيْهِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا أَحَدٌ لِتَعْرِيفِهَا فَتَضِيعَ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْفَرْقِ مُلْغًى بِالشَّاةِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهَا مَعَ هَذَا الْفَرْقِ، ثُمَّ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقِيسَ عَلَى الشَّاةِ، فَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ نَقْلِبُ دَلِيلَهُمْ، فَنَقُولُ: لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ فِي الْحَرَمِ، فَمَا أُبِيحَ الْتِقَاطُهُ مِنْهَا مُلِكَ إذَا كَانَ فِي الْحِلِّ، كَالْإِبِلِ. [فَصْلٌ لُقَطَةَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ] (4508) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّ لُقَطَةَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُ لُقَطَةُ الْحَرَمِ لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ حِفْظُهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنْ الْتَقَطَهَا عَرَّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَّةَ: «لَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُنْشِدُ الْمُعَرِّفُ، وَالنَّاشِدُ الطَّالِبُ. وَيُنْشَدُ: إصَاخَةُ النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكَّةَ إلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُهَا؛ لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِهَذَا مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ» . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتَّى يَجِدَهَا صَاحِبُهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عُمُومُ الْأَحَادِيثِ، وَأَنَّهُ أَحَدُ الْحَرَمَيْنِ، فَأَشْبَهَ حَرَمَ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا بِالْحِلِّ وَالْحَرَمِ، كَالْوَدِيعَةِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا لِمُنْشِدٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إلَّا لِمَنْ عَرَّفَهَا عَامًا، وَتَخْصِيصُهَا بِذَلِكَ لِتَأْكِيدِهَا، لَا لِتَخْصِيصِهَا كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ» . وَضَالَّةُ الذِّمِّيِّ مَقِيسَةٌ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ إذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً عَازِمًا عَلَى تَمَلُّكِهَا بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ] (4509) فَصْلٌ: إذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً، عَازِمًا عَلَى تَمَلُّكِهَا بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ عَرَّفَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا بِالتَّعْرِيفِ وَالِالْتِقَاطِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَيَمْلِكُهَا بِهِ، كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ حَائِطًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَاحْتَشَّ أَوْ اصْطَادَ مِنْهُ صَيْدًا، مَلَكَهُ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ مُحَرَّمًا، كَذَا هَاهُنَا وَلِأَنَّ عُمُومَ النَّصِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُلْتَقَطَ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِيهِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا نِيَّةَ التَّعْرِيفِ وَقْتَ الِالْتِقَاطِ، لَافْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيه؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الِالْتِقَاطُ لِلتَّمَلُّكِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ. [مَسْأَلَة حُفِّظَ وِكَاء اللُّقَطَة وَعِفَاصَهَا وَحَفِظَ عَدَدَهَا وَصِفَتَهَا] (4510) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَحَفِظَ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، وَحَفِظَ عَدَدَهَا وَصِفَتَهَا) الْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: «اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا» . وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» . وَفِي لَفْظٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: «وَجَدْت مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْت بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا. فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا فَلَمْ تُعْرَفْ، فَرَجَعْت إلَيْهِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا، وَاخْلِطْهَا بِمَالِك، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَفِي غَيْرِهِ أَمَرَهُ بِمَعْرِفَتِهَا حِينَ الْتِقَاطِهَا قَبْلَ تَعْرِيفِهَا وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِيَحْصُلَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَنَعَتَهَا، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَإِنْ أَخَّرَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ إلَى حِينِ مَجِيءِ بَاغِيهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِمَعْرِفَتِهَا حِينَئِذٍ. وَإِنْ لَمْ يَجِئْ طَالِبُهَا، فَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ حَتَّى يَعْرِفَ صِفَاتهَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا تَنْعَدِمُ بِالتَّصَرُّفِ، فَلَا يَبْقَى لَهُ سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَةِ صِفَاتهَا إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا. وَكَذَلِكَ إنْ خَلَطَهَا بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ، فَيَكُونُ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيٍّ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِهَا عِنْدَ خَلْطِهَا بِمَالِهِ أَمْرَ إيجَابٍ مُضَيِّقٍ، وَأَمْرُهُ لِزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ حِينَ الِالْتِقَاطِ وَاجِبًا مُوَسِّعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 قَالَ الْقَاضِي: يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ جِنْسَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَنَوْعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثِيَابًا عَرَّفَ لِفَافَتَهَا وَجِنْسَهَا، وَيُعَرِّفُ قَدْرَهَا بِالْكَيْلِ، وَبِالْوَزْنِ أَوْ بِالْعَدَدِ، أَوْ الذَّرْعِ، وَيُعَرِّفُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا، هَلْ هُوَ عَقْدٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، أُنْشُوطَةٌ أَوْ غَيْرُهَا، وَيُعَرِّفُ صِمَامَ الْقَارُورَةِ الَّذِي تَدْخُلُ رَأْسَهَا، وَعِفَاصَهَا الَّذِي تَلْبَسُهُ. [فَصْلٌ يُشْهِدُ عَلَى اللُّقَطَةِ حِين يَجِدُهَا] (4511) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا حِينَ يَجِدُهَا. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أُحِبُّ أَنْ يَمَسّهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَيْهَا. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا ضَمِنَهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً، فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ، أَوْ ذَوِي عَدْلٍ» . وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْهِدْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ. وَلَنَا خَبَرُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُمَا بِالتَّعْرِيفِ دُونَ الْإِشْهَادِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِيَّمَا وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حُكْمِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَكَرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَلِأَنَّهُ أَخْذُ أَمَانَةٍ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْإِشْهَادِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إذَا حَفِظَهَا وَعَرَّفَهَا فَلَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ، وَفَائِدَةُ الْإِشْهَادِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الطَّمَعِ فِيهَا، وَكَتْمُهَا وَحِفْظُهَا مِنْ وَرَثَتِهِ إنْ مَاتَ، وَمِنْ غُرَمَائِهِ إنْ أَفْلَسَ. وَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، لَمْ يَذْكُرْ لِلشُّهُودِ صِفَاتِهَا، لِئَلَّا يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فَيَدَّعِيَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَيَذْكُرَ صِفَاتِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي التَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ لِلشُّهُودِ مَا يَذْكُرُهُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ: إذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا هَلْ يُبَيِّنُ كَمْ هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يَقُولُ: قَدْ أَصَبْت لُقَطَةً. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ صِفَاتِهَا؛ لِيَكُونَ أَثْبَتَ لَهَا مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا إنْ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِهَا بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَةُ النِّسْيَانِ. [مَسْأَلَة جَاءَ رَبُّ اللُّقَطَةِ فَوَصَفَهَا لَهُ] (4512) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَوَصَفَهَا لَهُ، دُفِعَتْ إلَيْهِ بِلَا بَيِّنَةٍ) يَعْنِي إذَا وَصَفَهَا بِصِفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ، دَفَعَهَا إلَيْهِ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ أَوْ لَمْ يَغْلِبْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ. قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ شَاءَ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَأَخَذَ كَفِيلًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا كَالْمَغْصُوبِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ جَاءَك أَحَدٌ يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِ أَقُولُ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ: " فَإِنْ جَاءَ بَاغِيَهَا، وَوَصَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ ". وَفِي حَدِيثِ زَيْدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ «اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا، وَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ» . يَعْنِي إذَا ذَكَرَ صِفَاتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيِّنَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلدَّفْعِ، لَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ، وَلَا أَمَرَ بِالدَّفْعِ بِدُونِهِ، وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ تَتَعَذَّرُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا سَقَطَتْ حَالَ الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ، فَتَوْقِيفُ دَفْعِهَا مَنْعٌ لِوُصُولِهَا إلَى صَاحِبِهَا أَبَدًا، وَهَذَا يُفَوِّتُ مَقْصُودَ الِالْتِقَاطِ، وَيُفْضِي إلَى تَضْيِيعِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ، كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ الِالْتِقَاطِ عَلَى تَرْكِهِ مُتَنَاقِضٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَضْيِيعًا لِمَالِ الْمُسْلِمِ يَقِينًا، وَإِتْعَابًا لِنَفْسِهِ بِالتَّعْرِيفِ الَّذِي لَا يُفِيدُ، وَالْمُخَاطَرَةِ بِدِينِهِ بِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ مِنْ تَعْرِيفهَا، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاضِلًا. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: لَوْ لَمْ يَجِبْ دَفْعُهَا بِالصِّفَةِ، لَمْ يَجُزْ الْتِقَاطُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» . يَعْنِي إذَا كَانَ ثَمَّ مُنْكِرٌ؛ لِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِهِ: «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَلَا مُنْكِرَ هَاهُنَا، عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ تَخْتَلِفُ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيِّنَةَ مُدَّعِي اللُّقَطَةِ وَصْفَهَا، فَإِذَا وَصَفَهَا فَقَدْ أَقَامَ بَيِّنَتَهُ. وَقِيَاسُ اللُّقَطَةِ عَلَى الْمَغْصُوبِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النِّزَاعَ ثَمَّ فِي كَوْنِهِ مَغْصُوبًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَقَوْلُ الْمُنْكِرِ يُعَارِضُ دَعْوَاهُ، فَاحْتِيجَ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَهَا هُنَا قَدْ ثَبَتَ كَوْنُ هَذَا الْمَالِ لُقَطَةً، وَأَنَّ لَهُ صَاحِبًا غَيْرَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَلَا مُدَّعِيَ لَهُ إلَّا الْوَاصِفُ، وَقَدْ تَرَجَّحَ صِدْقُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ. (4513) فَصْلٌ: فَإِنْ وَصَفَهَا اثْنَانِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ. وَهَكَذَا إنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ، وَدُفِعَتْ إلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الدَّفْعُ، فَتَسَاوَيَا فِيهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا. وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَصَحُّ وَأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا، فِيمَا إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِي الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي عَدَمِهَا، فَتَكُونُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا وَدِيعَةً فِي يَدِ إنْسَانٍ، فَقَالَ: هِيَ لِأَحَدِكُمَا، لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا. وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهِ فَرَجَحَ قَوْلُهُ فِيهِ. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 وَصَفَهَا إنْسَانٌ، فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاصِفُ قَدْ أَخَذَهَا، اُنْتُزِعَتْ مِنْهُ، وَرُدَّتْ إلَى صَاحِبِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ هَلَكَتْ، فَلِصَاحِبِهَا تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْوَاصِفِ أَوْ الدَّافِعِ إلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُلْتَقِطَ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ غَيْرُ مُفَرِّطٍ وَلَا مُقَصِّرٍ، فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، وَلِأَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَصَارَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ أَخَذَهَا كَرْهًا. وَلَنَا أَنَّهُ دَفَعَ مَالَ غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا، إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَالِكُهَا. فَأَمَّا إنْ دَفَعَهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، لَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُهَا مُطَالَبَةَ الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ. وَمَتَى ضَمِنَ الْوَاصِفُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ مِنْهُ وَالتَّلَفَ عِنْدَهُ. فَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ تَغْرِيمِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ أَقَرَّ لِلْوَاصِفِ أَنَّهُ صَاحِبُهَا وَمَالِكُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ أَنَّهُ صَاحِبُهَا وَمُسْتَحِقُّهَا، وَأَنَّ صَاحِبَ الْبَيِّنَةِ ظَلَمَهُ بِتَضْمِينِهِ، فَلَا يَرْجِعُ، بِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ. وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ قَدْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ، فَضَمَّنَهُ إيَّاهَا، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ بِمَا غَرِمَهُ، وَلَيْسَ لِمَالِكِهَا تَضْمِينُ الْوَاصِفِ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبَضَهُ إنَّمَا هُوَ مَالُ الْمُلْتَقِطِ، لَا مَالُ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ. فَأَمَّا إنْ وَصَفَهَا إنْسَانٌ، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَوَصَفَهَا وَادَّعَاهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّهَا لِوَصْفِهِ إيَّاهَا، وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِيهَا، وَثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي انْتِزَاعَهَا مِنْهُ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهَا لَهُ، كَسَائِرِ مَالِهِ. [فَصْلٌ جَاءَ مُدَّعٍ لِلْقِطَّةِ فَلَمْ يَصِفْهَا وَلَا أَقَامَ بَيِّنَةً] (4514) فَصْلٌ: وَلَوْ جَاءَ مُدَّعٍ لِلُقَطَةٍ، فَلَمْ يَصِفْهَا، وَلَا أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهِ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى مَنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ صَاحِبُهَا، كَالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا، فَجَاءَ آخَرُ فَوَصَفَهَا، أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَزِمَ الْوَاصِفَ غَرَامَتُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَى مَالِكِهَا بِتَفْرِيطِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مُدَّعِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ، وَلِصَاحِبِهَا تَضْمِينُ آخِذِهَا، فَإِذَا ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَدَّعِيهَا فَلِلْمُلْتَقِطِ مُطَالَبَةُ آخِذِهَا بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَجِيءَ صَاحِبِهَا، فَيُغَرِّمُهُ إيَّاهَا، وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَمَلَكَ أَخْذَهَا مِنْ غَاصِبِهَا، كَالْوَدِيعَةِ. [مَسْأَلَة اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ] (4515) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (أَوْ مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ أَوْ نَقَصَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَالْوَدِيعَةِ. وَمَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا، فَوَجَدَهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلِكِهِ. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 أَتْلَفَهَا الْمُلْتَقِطُ، أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَبِقِيمَتِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ. لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا أَوْ قِيمَتُهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلِكِهِ، وَتَلِفَتْ مِنْ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ. وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ نَاقِصَةً، وَكَانَ نَقْصُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، أَخَذَ الْعَيْنَ وَأَرْشَ نَقْصِهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا مَضْمُونٌ إذَا تَلِفَتْ، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَتْ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ حَكَمُوا بِمِلْكِهِ لَهَا بِمُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُهَا حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا. لَمْ يُضَمِّنْهُ إيَّاهَا حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا، وَحُكْمُهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهِ إيَّاهَا حُكْمُهَا قَبْلَ مُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ. وَمَنْ قَالَ: لَا تُمْلَكُ اللُّقَطَةُ بِحَالٍ لَمْ يُضَمِّنْهُ إيَّاهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، قَالُوا: لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ ضَاعَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ دَلِيلَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ. وَقَالَ دَاوُد: إذَا تَمَلَّكَ الْعَيْنَ وَأَتْلَفَهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَوَّحَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» فَجَعَلَهُ مُبَاحًا. وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك» . وَفِي حَدِيثِ زَيْدٍ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَشَأْنَك بِهَا» . وَرُوِيَ: " فَهِيَ لَك ". وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِرَدِّ بَدَلَهَا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَك، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» . وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَحْمَدُ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ. جَوَّدَهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِثْلَ مَا رَوَاهُ: «إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ سَنَةٍ، وَقَدْ أَنْفَقَهَا، رَدَّهَا إلَيْهِ» لِأَنَّهَا عَيْنٌ يَلْزَمُ رَدُّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا إذَا أَتْلَفَهَا، كَمَا قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ، فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ حَقِّهِ مِنْهُ مُطْلَقًا، كَمَا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ غَيْرِهِ، وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ زَائِدَةً بَعْدَ الْحَوْلِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْإِقَالَةِ، فَتَبِعَتْ هَاهُنَا. وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ، فَهُوَ لِلْمُلْتَقِطِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ مُتَمَيِّزٌ لَا يَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ، فَكَانَ لَهُ، كَنَمَاءِ الْمَبِيعِ إذَا رُدَّ بِعَيْبٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، بِنَاءً عَلَى الْمُفْلِسِ إذَا اُسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ الْعَيْنُ بَعْدَ أَنْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَمَيِّزَةً، وَالْوَلَدِ إذَا اسْتَرْجَعَ أَبُوهُ مَا وَهَبَهُ لَهُ بَعْدَ زِيَادَتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُلْتَقِطِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ لِمَنْ حَدَثَتْ فِي مِلِكِهِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي مَسْأَلَتِنَا يَضْمَنُ النَّقْصَ، فَتَكُونُ لَهُ الزِّيَادَةُ، لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، وَثَمَّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَرَاجُ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَتَى اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 [فَصْلٌ وَجَدَ الْعَيْنَ بَعْدَ خُرُوجهَا مِنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا] (4516) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَهُ أَخْذُ بَدَلِهَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُلْتَقِطِ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِكَوْنِهَا صَارَتْ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ صَادَفَهَا قَدْ رَجَعَتْ إلَى الْمُلْتَقِطِ بِفَسْخٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ كَالزَّوْجِ إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَوَجَدَ الصَّدَاقَ قَدْ رَجَعَ إلَى الْمَرْأَةِ. وَسَائِرُ أَحْكَامِ الرُّجُوعِ هَاهُنَا كَحُكْمِ رُجُوعِ الزَّوْجِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا] (4517) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا، ضَمِنَهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَجَدَ بَعِيرًا: أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدَتْهُ. وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ رَأَى فِي بَقَرِهِ بَقَرَةً قَدْ لَحِقَتْ بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَطُرِدَتْ حَتَّى تَوَارَتْ وَلَنَا: أَنَّهَا أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا، فَإِذَا ضَيَّعَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ. وَلِأَنَّهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ حِفْظُهَا، وَتَرْكُهَا تَضْيِيعُهَا. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ فِي الضَّالَّةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ. فَأَمَّا مَا لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهُ إذَا أَخَذَهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ رَدَّهُ إلَى مَكَانِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْآثَارِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي مَكَانِهِ ابْتِدَاءٍ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَخْذِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِهِ بِرَدِّهِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ بِرَدِّهِ إلَى مَكَانِهِ، كَالْمَسْرُوقِ وَمَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْرَأُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. وَأَمَّا عُمَرُ فَهُوَ كَانَ الْإِمَامَ، فَإِذَا أَمَرَ بِرَدِّهِ كَانَ كَأَخْذِهِ مِنْهُ. وَحَدِيثُ جَرِيرٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْبَقَرَةَ، وَلَا أَخَذَهَا غُلَامُهُ، إنَّمَا لَحِقَتْ بِالْبَقَرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَلَا اخْتِيَارِهِ. [فَصْلٌ ضَاعَتْ اللُّقَطَةُ مِنْ مُلْتَقِطِهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ] (4518) فَصْلٌ: وَإِنْ ضَاعَتْ اللُّقَطَةُ مِنْ مُلْتَقِطِهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَأَشْبَهَتْ الْوَدِيعَةَ. فَإِنْ الْتَقَطَهَا آخَرُ، فَعَرَفَ أَنَّهَا ضَاعَتْ مِنْ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَوُّلِ وَوِلَايَةُ التَّعْرِيفِ وَالْحِفْظِ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالضَّيَاعِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي بِالْحَالِ حَتَّى عَرَّفَهَا حَوْلًا، مَلَكَهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ كَالْأَوَّلِ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ انْتِزَاعَهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ أَخْذُهَا مِنْ الثَّانِي، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، وَإِنْ عَلِمَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، فَرَدَّهَا إلَيْهِ، فَأَبَى أَخْذَهَا، وَقَالَ: عَرِّفْهَا أَنْتَ فَعَرَّفَهَا، مَلَكَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَكَ حَقَّهُ فَسَقَطَ. وَإِنْ قَالَ: عَرِّفْهَا، وَيَكُونُ مِلْكُهَا لِي. فَفَعَلَ، فَهُوَ مُسْتَنِيبٌ لَهُ فِي التَّعْرِيفِ، وَيَمْلِكُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي التَّعْرِيفِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قَالَ: عَرِّفْهَا، وَتَكُونُ بَيْنَنَا. فَفَعَلَ، صَحَّ أَيْضًا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ نِصْفِهَا، وَوَكَّلَهُ فِي الْبَاقِي. وَإِنْ قَصَدَ الثَّانِي بِالتَّعْرِيفِ تَمَلُّكَهَا لِنَفْسِهِ دُونِ الْأَوَّلِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ، فَمَلَكَهَا، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِهَا لِنَفْسِهِ وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّعْرِيفِ لِلْأَوَّلِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَهَا مِنْ الْمُلْتَقِطِ غَاصِبٌ فَعَرَّفَهَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا عَلِمَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ فَعَرَّفَهَا، وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا. وَيُشْبِهُ هَذَا الْمُتَحَجِّرَ فِي الْمَوَاتِ إذَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إلَى مَا حَجَرَهُ، فَأَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَأَمَّا إنْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ الْمُلْتَقِطِ، فَعَرَّفَهَا، لَمْ يَمْلِكْهَا، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مُعْتَدٍ بِأَخْذِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ تَمَلُّكِهَا، فَإِنَّ الِالْتِقَاطَ مِنْ جُمْلَةِ السَّبَبِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا الْتَقَطَهَا ثَانٍ، فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ وَالتَّعْرِيفُ. [فَصْلٌ اصْطَادَ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِيهَا دُرَّةً] (4519) فَصْلٌ: وَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً، فَوَجَدَ فِيهَا دُرَّةً، فَهِيَ لِلصَّيَّادِ؛ لِأَنَّ الدُّرَّ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] . فَتَكُونُ لِآخِذِهَا، فَإِنْ بَاعَهَا الصَّيَّادُ وَلَمْ يَعْلَمْ، فَوَجَدَهَا الْمُشْتَرِي فِي بَطْنِهَا، فَهِيَ لِلصَّيَّادِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا فِي بَطْنِهَا فَلَمْ يَبِعْهُ، وَلَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، كَمَنْ بَاعَ دَارًا لَهُ مَالٌ مَدْفُونٌ فِيهَا. وَإِنْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا عَنْبَرَةً أَوْ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ، فَهُوَ لِلصَّيَّادِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَوْهَرَةِ وَإِنْ وَجَدَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَهِيَ لُقَطَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْلَقُ فِي الْبَحْرِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِآدَمِيٍّ، فَيَكُونُ لُقَطَةً، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي الْبَحْرِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّرَّةِ إذَا كَانَ فِيهَا أَثَرٌ لِآدَمِيٍّ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَثْقُوبَةً أَوْ مُتَّصِلَةً بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ لُقَطَةً لَا يَمْلِكُهَا الصَّيَّادُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى تَثْبُتَ الْيَدُ عَلَيْهَا، فَهِيَ كَالدِّينَارِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعَنْبَرَةِ إذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ مَصْنُوعَةً، كَالتُّفَّاحَةِ مَثْقُوبَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخْلَقُ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ، فَهِيَ لُقَطَةٌ وَإِنْ وَجَدَهَا الصَّيَّادُ فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا؛ لِأَنَّهُ مُلْتَقِطُهَا، وَإِنْ وَجَدَهَا الْمُشْتَرِي، فَالتَّعْرِيفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدُهَا، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبِدَايَةِ بِالْبَائِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ السَّمَكَةُ ابْتَلَعَتْ ذَلِكَ بَعْدَ اصْطِيَادِهَا وَمِلْكِ الصَّيَّادِ لَهَا، فَاسْتَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى شَاةً، وَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا دُرَّةً أَوْ عَنْبَرَةً أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا، وَيَبْدَأُ بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ابْتَلَعَتْهَا مِنْ مِلْكِهِ فَيَبْدَأُ بِهِ، كَقَوْلِنَا فِي مُشْتَرِي الدَّارِ إذَا وَجَدَ فِيهَا مَالًا مَدْفُونًا وَإِنْ اصْطَادَ السَّمَكَةَ مِنْ غَيْرِ الْبَحْرِ، كَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الشَّاةِ، فِي أَنَّ مَا وُجِدَ فِي بَطْنِهَا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لُقَطَةٌ، دُرَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَحْرِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ. وَيَحْتَمِلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 أَنْ تَكُونَ الدُّرَّةُ لِلصَّيَّادِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] . [فَصْلٌ وَجَدَ عَنْبَرَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ] (4520) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ عَنْبَرَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَهِيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ أَلْقَاهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمِلْكِ فِيهَا، فَكَانَتْ مُبَاحَةً لِآخِذِهَا، كَالصَّيْدِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو الْعَبْدِيِّ، قَالَ: أَلْقَى بَحْرُ عَدَنَ عَنْبَرَةً مِثْلَ الْبَعِيرِ، فَأَخَذَهَا نَاسٌ بِعَدَنَ. فَكُتِبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَكَتَبَ إلَيْنَا، أَنْ خُذُوا مِنْهَا الْخُمُسَ، وَادْفَعُوا إلَيْهِمْ سَائِرَهَا، وَإِنْ بَاعُوكُمُوهَا فَاشْتَرُوهَا. فَأَرَدْنَا أَنْ نَزِنَهَا فَلَمْ نَجِدْ مِيزَانًا يُخْرِجُهَا، فَقَطَعْنَاهَا اثْنَيْنِ، وَوَزَنَّاهَا، فَوَجَدْنَاهَا سِتَّمِائَةِ رِطْلٍ، فَأَخَذْنَا خُمُسَهَا، وَدَفَعْنَا سَائِرَهَا إلَيْهِمْ، ثُمَّ اشْتَرَيْنَاهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَبَعَثْنَا بِهَا إلَى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى بَاعَهَا بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. [فَصْلٌ صَادَ غَزَالًا فَوَجَدَهُ مَخْضُوبًا أَوْ فِي عُنُقِهِ حِرْزٌ أَوْ فِي أُذُنِهِ قُرْطٌ] (4521) فَصْلٌ: وَإِنْ صَادَ غَزَالًا، فَوَجَدَهُ مَخْضُوبًا، أَوْ فِي عُنُقِهِ حِرْزٌ، أَوْ فِي أُذُنِهِ قُرْطٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، فَهُوَ لُقَطَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ أَلْقَى شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا سَمَكَةٌ، فَجَذَبَتْ الشَّبَكَةَ، فَمَرَّتْ بِهَا فِي الْبَحْرِ، فَصَادَهَا رَجُلٌ، فَإِنَّ السَّمَكَةَ لِلَّذِي حَازَهَا، وَالشَّبَكَةُ يُعَرِّفُهَا وَيَدْفَعُهَا إلَى صَاحِبِهَا. فَجَعَلَ الشَّبَكَةَ لُقَطَةً؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِآدَمِيٍّ، وَالسَّمَكَةَ لِمَنْ صَادَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً وَلَمْ يَمْلِكْهَا صَاحِبُ الشَّبَكَةِ، لِكَوْنِ شَبَكَتِهِ لَمْ تُثْبِتْهَا، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَهَكَذَا لَوْ نَصَبَ فَخًّا أَوْ شَرَكًا، فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدٌ مِنْ صَيُودِ الْبَرِّ، فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ بِهِ، وَصَادَهُ آخَرُ، فَهُوَ لِمَنْ صَادَهُ، وَيَرُدُّ الْآلَةَ إلَى صَاحِبِهَا، فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ انْتَهَى إلَى شَرَكٍ فِيهِ حِمَارُ وَحْشٍ، أَوْ ظَبْيَةٌ، قَدْ شَارَفَ الْمَوْتَ، فَخَلَّصَهُ وَذَبَحَهُ: هُوَ لِصَاحِبِ الْأُحْبُولَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الصَّيْدِ فِي الْأُحْبُولَةِ فَهُوَ لِمَنْ نَصَبَهَا، وَإِنْ كَانَ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا أَوْ عُقَابًا. وَسُئِلَ عَنْ بَازِي أَوْ صَقْرٍ أَوْ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ أَوْ فَهْدٍ، ذَهَبَ عَنْ صَاحِبِهِ، فَدَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَمَرَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى أَتَى لِذَلِكَ أَيَّامٌ، فَأَتَى قَرْيَةً، فَسَقَطَ عَلَى حَائِطٍ، فَدَعَاهُ رَجُلٌ فَأَجَابَهُ؟ قَالَ: يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَنَصَبَ لَهُ شَرَكًا فَصَادَهُ بِهِ؟ قَالَ: يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَجَعَلَ هَذَا لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ بِذَهَابِهِ عَنْهُ، وَالسَّمَكَةِ فِي الشَّبَكَةِ لَمْ يَكُنْ مَلَكَهَا وَلَا حَازَهَا، وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَا وَقَعَ فِي الْأُحْبُولَةِ مِنْ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْعُقَابِ لِصَاحِبِ الْأُحْبُولَةِ. وَلَمْ يَجْعَلُهُ هَاهُنَا لِمَنْ وَقَعَ فِي شَرَكِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَمْلُوكًا لَإِنْسَانٍ فَذَهَبَ، وَإِنَّمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 يُعْلَمُ هَذَا بِالْخَبَرِ، أَوْ بِوُجُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فِيهِ، مِثْلَ وُجُودِ السَّيْرِ فِي رِجْلِهِ، أَوْ آثَارِ التَّعَلُّمِ، مِثْلَ اسْتِجَابَتِهِ لِلَّذِي يَدْعُوهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَهُوَ لِمَنْ اصْطَادَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمِلْكِ فِيهِ وَإِبَاحَتُهُ. [فَصْلٌ أُخِذَتْ ثِيَابُهُ مِنْ الْحَمَّامِ وَوَجَدَ بَدَلَهَا] (4522) فَصْلٌ: وَمَنْ أُخِذَتْ ثِيَابُهُ مِنْ الْحَمَّامِ، وَوَجَدَ بَدَلَهَا، وَأُخِذَ مَدَاسُهُ، وَتُرِكَ لَهُ بَدَلُهُ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فِي مَنْ سُرِقَتْ ثِيَابُهُ وَوَجَدَ غَيْرَهَا: لَمْ يَأْخُذْهَا، فَإِنْ أَخَذَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا. إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَارِقَ الثِّيَابِ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهَا مُعَاوَضَةٌ تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ ثِيَابِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا فَقَدْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ، فَيُعَرِّفُهُ كَاللُّقَطَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ فِي هَذَا، فَإِنْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى السَّرِقَةِ، بِأَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُ أَوْ مَدَاسُهُ خَيْرًا مِنْ الْمَتْرُوكَةِ، وَكَانَتْ مِمَّا لَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْآخِذِ بِثِيَابِهِ وَمَدَاسِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْرِيفِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا جُعِلَ فِي الْمَالِ الضَّائِعِ عَنْ رَبِّهِ، لِيَعْلَمَ بِهِ وَيَأْخُذَهُ، وَتَارِكُ هَذَا عَالِمٌ بِهِ رَاضٍ بِبَدَلِهِ عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ، وَلَا يَعْتَرِفُ أَنَّهُ لَهُ، فَلَا يَحْصُلُ فِي تَعْرِيفِهِ فَائِدَةٌ، فَإِذًا لَيْسَ هُوَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَفِيمَا يَصْنَعُ بِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الظَّاهِرِ تَرَكَهَا لَهُ بَاذِلًا إيَّاهَا لَهُ عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ، فَصَارَ كَالْمُبِيحِ لَهُ أَخْذَهَا بِلِسَانِهِ، فَصَارَ كَمَنْ قَهَرَ إنْسَانًا عَلَى أَخْذِ ثَوْبِهِ، وَدَفَعَ إلَيْهِ دِرْهَمًا. الثَّالِثُ أَنَّهُ يَرْفَعُهَا إلَى الْحَاكِمِ، لِيَبِيعَهَا، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ ثَمَنَهَا عِوَضًا عَنْ مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَقْرَبُ إلَى الرِّفْقِ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِمَنْ سُرِقَتْ ثِيَابُهُ، بِحُصُولِ عِوَضٍ عَنْهَا، وَنَفْعًا لِلسَّارِقِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ مِنْ الْإِثْمِ، وَحِفْظًا لِهَذِهِ الثِّيَابِ الْمَتْرُوكَةِ مِنْ الضَّيَاعِ، وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَنْ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ حَقٌّ مِنْ دَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُنَا مَعَ رِضَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِأَخْذِهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ لِلثِّيَابِ إنَّمَا أَخَذَهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا ثِيَابُهُ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَتْرُوكَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَأْخُوذَةِ أَوْ مَثَلَهَا، وَهِيَ مِمَّا تَشْتَبِهُ بِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَتْرُكْهَا عَمْدًا، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الضَّائِعَةِ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهَا، أَخَذَهَا وَرَدَّ مَا كَانَ أَخَذَهُ فَتَصِيرُ كَاللُّقَطَةِ فِي الْمَعْنَى، وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ تُعْرَفْ، فَفِيهَا الْأَوْجُهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إلَّا أَنَّنَا إذَا قُلْنَا يَأْخُذُهَا أَوْ يَبِيعُهَا الْحَاكِمُ وَيَدْفَعُ إلَيْهِ ثَمَنَهَا، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِقَدْرِ قِيمَةِ ثِيَابِهِ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ فَاضِلٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَمْ يَرْضَ صَاحِبُهَا بِتَرْكِهَا عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ غَيْرَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ لِتَرْكِهَا، وَلَا رِضًى بِالْمُعَاوَضَةِ بِهَا. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَدْفَعُهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَهَا، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ ثَمَنَهَا. فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ مِنْ ثَمَنِهَا مَا قَابَلَ ثِيَابَهُ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 [فَصْلٌ عِنْدَهُ رُهُونٌ أَتَى عَلَيْهَا زَمَانٌ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا] (4523) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ عِنْدَهُ رُهُونٌ، قَدْ أَتَى عَلَيْهَا زَمَانٌ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا: يَبِيعُهَا، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا لَهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اسْتَوْفَى دُيُونَهُ الَّتِي رَهَنَ الرَّهْنَ بِهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَوْفِ دَيْنَهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهَا، بَاعَهَا، وَاسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهَا، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهَا، رَفَعَهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَهَا، وَيُقْبِضَهُ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهَا، وَيَتَصَدَّقَ بِبَاقِيهِ. [فَصْلٌ تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالسَّاكِنُ فِي دَفْنٍ فِي الدَّارِ] (4524) فَصْلٌ: نَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ، إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالسَّاكِنُ فِي دَفْنٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا دَفَنْته. بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا الَّذِي دَفَنَ، فَكُلُّ مَنْ أَصَابَ الْوَصْفَ فَهُوَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يُوجَد فِي الْأَرْضِ مِنْ الدَّفْنِ مِمَّا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ لُقَطَةٌ، وَاللُّقَطَةُ تُسْتَحَقُّ بِوَصْفِهَا، وَلِأَنَّ الْمُصِيبَ لِلْوَصْفِ فِي الظَّاهِرِ هُوَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَهُ أَجْنَبِيَّانِ، فَوَصَفَهُ أَحَدُهُمَا. [فَصْلٌ وَجَدَ لُقَطَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ] (4525) فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَيْشِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعَرِّفُهَا سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَطْرَحُهَا فِي الْمَقْسِمِ. إنَّمَا عَرَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُسْلِمٍ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَعْرِيفِهَا. وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - يُتَمِّمُ التَّعْرِيفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا ابْتِدَاءُ التَّعْرِيفِ فَيَكُونُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمْ، فَإِذَا قَفَلَ أَتَمَّ التَّعْرِيفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي دَارِهِمْ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ تُعْرَفْ، مَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَيْشِ، طَرَحَهَا فِي الْمَقْسِمِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، فَأَشْبَهَتْ مُبَاحَاتِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا. وَإِنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُتَلَصِّصًا، فَوَجَدَ لُقَطَةً، عَرَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةٌ لَهُ، ثُمَّ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ غَنِيمَتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً لَهُ، لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةٌ. [مَسْأَلَة مَوْتِ الْمُلْتَقِطُ] (4526) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ مَاتَ، فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ بِهَا) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا مَاتَ، وَاللُّقَطَةُ مَوْجُودَةٌ بِعَيْنِهَا، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي إتْمَامِ تَعْرِيفِهَا إنْ مَاتَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 قَبْلَ الْحَوْلِ، وَيَمْلِكُهَا بَعْدَ إتْمَامِ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ، وِرْثَهَا الْوَارِثُ، كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ، وَمَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا، أَخَذَهَا مِنْ الْوَارِثِ، كَمَا يَأْخُذُهَا مِنْ الْمَوْرُوثِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةَ الْعَيْنِ، فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ لِلْمَيِّتِ بِمِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَوْ بِقِيمَتِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ إنْ اتَّسَعَتْ لِذَلِكَ، وَإِنْ ضَاقَتْ التَّرِكَةُ زَاحَمَ الْغُرَمَاءُ بِبَدَلِهَا، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحُلُولِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْحَوْلِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَالْوَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، عَلَى رَأْيِ مِنْ رَأَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ تَلَفَهَا، وَلَمْ يَجِدْهَا فِي تَرِكَتِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا غَرِيمٌ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُلْتَقَطِ شَيْءٌ، وَيَسْقُطَ حَقُّ صَاحِبِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُلْتَقِطِ مِنْهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَلَا تُشْغَلُ ذِمَّتُهُ بِالشَّكِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمَانَةً عِنْدَهُ، وَلَمْ تُعْلَمْ جِنَايَتُهُ فِيهَا، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهَا. وَإِنْ مَاتَ بَعْد الْحَوْلِ، فَهِيَ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا إلَى مَا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَدُخُولُهَا فِي مِلْكِهِ، وَوُجُوبُ بَدَلِهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ صَاحِبَهَا لَوْ جَاءَ بَعْدَ بَيْعِ الْمُلْتَقِطِ لَهَا، أَوْ هِبَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَدَلُهَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى الْوَارِثِ يَمْلِكُ صَاحِبُهَا أَخْذَهَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَوْرُوثِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِمَوْرُوثِهِ، وَمِلْكُ مَوْرُوثِهِ فِيهَا كَانَ مُرَاعَاةً مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مَجِيءِ صَاحِبِهَا، فَكَذَلِكَ مِلْكُ وَارِثِهِ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهَبِ، فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا. [مَسْأَلَة كَانَ صَاحِبُ اللُّقَطَة جَعَلَ لِمَنْ وَجَدَهَا شَيْئًا مَعْلُومًا] (4527) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا جَعَلَ لِمَنْ وَجَدَهَا شَيْئًا مَعْلُومًا، فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الْتَقَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَعَالَةَ فِي رَدِّ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ وَغَيْرِهِمَا جَائِزَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَوْا حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يُقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: لَمْ تُقْرُونَا، فَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعَ شِيَاهٍ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فَأَتَوْهُمْ بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهَا حَتَّى نَسْأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَأَلُوا النَّبِيَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا، كَرَدِّ الْآبِقِ وَالضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ فِيهِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى رَدِّهِمَا، وَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إبَاحَةِ بَذْلِ الْجُعْلِ فِيهِ، مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ لَازِمَةً، افْتَقَرَتْ إلَى تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُ مُدَّتِهَا، وَلِأَنَّ الْجَائِزَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكُهَا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ اللَّازِمَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا قَالَ: مَنْ رَدَّ عَلَيَّ ضَالَّتِي أَوْ عَبْدِي الْآبِقَ، أَوْ خَاطَ لِي هَذَا الْقَمِيصَ، أَوْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. صَحَّ، وَكَانَ عَقْدًا جَائِزًا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْلَ حُصُولِ الْعَمَلِ. لَكِنْ إنْ رَجَعَ الْجَاعِلُ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالْعَمَلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، فَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَإِنْ فَسَخَ الْعَامِلُ قَبْلَ إتْمَامِ الْعَمَلِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، حَيْثُ لَمْ يَأْتِ بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ، وَيَصِيرُ كَعَامِلِ الْمُضَارَبَةِ إذَا فَسَخَ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَمَلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كَوْنِ الْعَمَلِ مَجْهُولًا، بِأَنْ لَا يَعْلَمَ مَوْضِعَ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ لَازِمًا، فَلَمْ يَجِبْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا، وَالْعِوَضُ يَصِيرُ لَازِمًا بِإِتْمَامِ الْعَمَلِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَعْلُومًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجُوزَ الْجَعَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ إذَا كَانَتْ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ نِصْفُهُ، وَمَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ ثُلُثُهَا. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ. جَازَ وَقَالُوا: إذَا جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى قَلْعَةٍ، أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ، وَكَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، كَجَارِيَةٍ يُعَيِّنُهَا الْعَامِلُ فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، لَمْ تَصِحَّ الْجَعَالَةُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي مِنْ الْبَصْرَةِ، أَوْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ، أَوْ خَاطَ قَمِيصِي هَذَا، فَلَهُ كَذَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ فَمَعَ الْعِلْمِ أَوْلَى. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَقَالَ: مَنْ رَدَّ لِي عَبْدِي مِنْ الْعِرَاقِ فِي شَهْرٍ، فَلَهُ دِينَارٌ. أَوْ مَنْ خَاطَ قَمِيصِي هَذَا فِي الْيَوْمِ، فَلَهُ دِرْهَمٌ. صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا جَازَتْ مَجْهُولَةً، فَمَعَ التَّقْدِيرِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمُوهُ فِي الْجَعَالَةِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا أَنَّ الْجَعَالَةَ يُحْتَمَلُ فِيهَا الْغَرَرُ، وَتَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 الثَّانِي أَنَّ الْجَعَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا مَعَ الْغَرَرِ ضَرَرٌ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا مَعَ الْغَرَرِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ أَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ، لَزِمَهُ الْعَمَلُ فِي جَمِيعِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بَعْدَهَا، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، فَرُبَّمَا عَمِلَهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَقَدْ لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ. فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الْمُدَّةِ مِنْ الْعَمَلِ، إنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ عَمَلِهِ، فَأَلْزَمْنَاهُ إتْمَامَ الْعَمَلِ، فَقَدْ لَزِمَهُ الْعَمَلُ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ. فَمَا أَتَى بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجُعْلَ هُوَ عَمَلٌ مُقَيَّدٌ بِمُدَّةٍ، إنْ أَتَى بِهِ فِيهَا اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فِيهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ مَنْ عَمِلَ الْعَمَلَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ يُسْتَحَقُّ بِعَمَلٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ، كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ جَعَلَ الْجَعْلَ فِي الْجَعَالَةِ لَوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ] (4528) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْجُعْلَ فِي الْجَعَالَةِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَقُولَ لَهُ: إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ. فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ مَنْ يَرُدُّهُ سِوَاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَيَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ. فَمَنْ رَدَّهُ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِوَاحِدٍ فِي رَدِّهِ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَلِآخَرَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْمُعَيَّنِ عِوَضًا، وَلِسَائِرِ النَّاسِ عِوَضًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ فِي الْإِجَارَةِ مُخْتَلِفًا مَعَ التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى فَإِنْ قَالَ: مَنْ رَدَّ لُقَطَتِي فَلَهُ دِينَارٌ. فَرَدَّهَا ثَلَاثَةٌ، فَلَهُمْ الدِّينَارُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْعَمَلِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِوَضُ، فَاشْتَرَكُوا فِي الْعِوَضِ، كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ هَذَا النَّقْبَ فَلَهُ دِينَارٌ. فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ، اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا كَامِلًا، فَلِمَ لَا يَكُونُ هَاهُنَا كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ دَخَلَ دُخُولًا كَامِلًا، كَدُخُولِ الْمُنْفَرِدِ، فَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ كَامِلًا، وَهَا هُنَا لَمْ يَرُدُّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَامِلًا، إنَّمَا اشْتَرَكُوا فِيهِ، فَاشْتَرَكُوا فِي عِوَضِهِ. فَنَظِيرُ مَسْأَلَةِ الدُّخُولِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي فَلَهُ دِينَارٌ فَرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدًا. وَنَظِيرُ مَسْأَلَةِ الرَّدِّ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ نَقَبَ السُّورَ فَلَهُ دِينَارٌ. فَنَقَبَ ثَلَاثَةٌ نَقْبًا وَاحِدًا. فَإِنْ جَعَلَ لِوَاحِدٍ فِي رَدِّهَا دِينَارًا، وَلِآخَرَ دِينَارَيْنِ، وَلِثَالِثٍ ثَلَاثَةً، فَرَدَّهُ الثَّلَاثَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلَ ثُلُثَ الْعَمَلِ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْمُسَمَّى. فَإِنْ جَعَلَ لِوَاحِدٍ دِينَارًا، وَلِآخَرَيْنِ عِوَضًا مَجْهُولًا، فَرَدُّوهُ مَعًا، فَلِصَاحِبِ الدِّينَارِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْآخَرَيْنِ أَجْرُ عَمَلِهِمَا وَإِنْ جَعَلَ لِوَاحِدٍ شَيْئًا فِي رَدِّهَا، فَرَدَّهَا هُوَ وَآخَرَانِ مَعَهُ، وَقَالَا: رَدَدْنَا مُعَاوَنَةً لَهُ. اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْجُعْلِ، وَلَا شَيْءَ لَهُمَا، وَإِنْ قَالَا: رَدَدْنَاهُ لِنَأْخُذَ الْعِوَضَ لِأَنْفُسِنَا. فَلَا شَيْءَ لَهُمَا، وَلَهُ ثُلُثُ الْجُعْلِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 لِأَنَّهُ عَمِلَ ثُلُثَ الْعَمَلِ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْجُعْلِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْآخَرَانِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا مِنْ غَيْرِ جُعْلٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ قَالَ مَنْ رَدَّ عَبْدِي مِنْ بَلَدِ كَذَا فَلَهُ دِينَارٌ] فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي مِنْ بَلَدِ كَذَا فَلَهُ دِينَارٌ. فَرَدَّهُ إنْسَانٌ مِنْ نِصْفِ طَرِيقِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ نِصْفَ الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدَيَّ فَلَهُ دِينَارٌ. فَرَدَّ أَحَدَهُمَا، فَلَهُ نِصْفُ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ نِصْفَ الْعَبْدَيْنِ، وَإِنْ رَدَّ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ الْبَلَدِ الْمُسَمَّى، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلَ فِي رَدِّهِ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَعَلَ فِي رَدِّ أَحَدِ عَبْدَيْهِ شَيْئًا فَرَدَّ الْآخَرَ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ. فَرَدَّهُ إنْسَانٌ إلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ، فَهَرَبَ مِنْهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْجُعْلَ بِرَدِّهِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، فَخَاطَهُ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى تَلِفَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْجَاعِلُ قَالَ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَتِي فَلَهُ دِينَارٌ فَقَدْ وُجِدَ الْوِجْدَانُ؟ قُلْنَا: قَرِينَةُ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الرَّدِّ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الرَّدُّ لَا الْوِجْدَانُ الْمُجَرَّدُ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْوِجْدَانِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَتِي فَرَدَّهَا عَلَيَّ. [فَصْل الْجَعَالَة تُسَاوِي الْإِجَارَةَ فِي اعْتِبَارِ الْعِلْمِ بِالْعِوَضِ] (4530) فَصْلٌ: وَالْجَعَالَةُ تُسَاوِي الْإِجَارَةِ فِي اعْتِبَارِ الْعِلْمِ بِالْعِوَضِ، وَمَا كَانَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْجَعَالَةِ، وَمَا لَا فَلَا، وَفِي أَنَّ مَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ، جَازَ أَخْذُهُ عَلَيْهِ فِي الْجَعَالَةِ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ، مِثْلُ الْغِنَاءِ وَالزَّمْرِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهِ، وَمَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، مِمَّا لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فَاعِلَهُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْحَجِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْإِجَارَةَ وَيُفَارِقُ الْإِجَارَةَ فِي أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِالْمُدَّةِ، وَلَا بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ الْعَقْدِ مَعَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ. فَعَلَى هَذَا مَتَى شَرَطَ عِوَضًا مَجْهُولًا، كَقَوْلِهِ: إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَلَكَ ثَوْبٌ، أَوْ فَلَكَ سَلَبُهُ. أَوْ شَرَطَ عِوَضًا مُحَرَّمًا، كَالْخَمْرِ وَالْحُرِّ، أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ ثُلُثُهُ، أَوْ مَنْ رَدَّ عَبْدَيَّ فَلَهُ أَحَدُهُمَا. فَرَدَّهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ أَجْرَهُ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ رَدَّ لُقَطَةً أَوْ ضَالَّةً أَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلًا غَيْرَ رَدِّ الْآبِقِ بِغَيْرِ جَعَلَ] (4531) فَصْلٌ: وَمَنْ رَدَّ لُقَطَةً أَوْ ضَالَّةً، أَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلًا غَيْرَ رَدِّ الْآبِقِ، بِغَيْرِ جُعْلٍ، لَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضًا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مَعَ عَدَمِهَا، كَالْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجُعْلِ، فَقَالَ: جَعَلْت لِي فِي رَدِّ لُقَطَتِي كَذَا. فَأَنْكَرَ الْمَالِكُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْعِوَضِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزَّائِدِ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْعِوَضِ، فَكَذَلِكَ فِي قَدْرِهِ، كَرَبِّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا، كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَالْأَجِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأَجْرِ. فَعَلَى هَذَا إنْ تَحَالَفَا فُسِخَ الْعَقْدُ، وَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَسَافَةِ، فَقَالَ: جَعَلْت لَك الْجُعْلَ عَلَى رَدِّهَا مِنْ حَلَبَ فَقَالَ: بَلْ عَلَى رَدِّهَا مِنْ حِمْصَ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ الَّذِي جُعِلَ الْجُعْلُ فِي رَدِّهِ، فَقَالَ: رَدَدْت الْعَبْدَ الَّذِي شَرَطْت لِي الْجُعْلَ فِيهِ. قَالَ: بَلْ شَرَطْت لَك الْجُعْلَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ تَرُدَّهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِشَرْطِهِ، وَلِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ شَرْطًا فِي هَذَا الْعَقْدِ فَأَنْكَرَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ. [فَصْلٌ رَدُّ الْعَبْدِ الْآبِقِ] (4532) فَصْلٌ: أَمَّا رَدُّ الْعَبْدِ الْآبِقِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِرَدِّهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ لَهُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجِبُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ جُعْلِ الْآبِقِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا جُعْلَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: " وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ فَلِمَنْ جَاءَ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ ". وَلَمْ يَذْكُرْ جُعْلًا. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ عِوَضًا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، كَمَا لَوْ رَدَّ جَمَلَهُ الشَّارِدَ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ، إذَا جَاءَ بِهِ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ، دِينَارًا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي زَمَنِهِمْ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ فِي شَرْطِ الْجُعْلِ فِي رَدِّهِمْ حَثًّا عَلَى رَدِّ الْإِبَاقِ، وَصِيَانَةً لَهُمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَرِدَّتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَتَقْوِيَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. وَبِهَذَا فَارَقَ رَدَّ الشَّارِدِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَقْرَبُ إلَى الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي هَذَا مُرْسَلٌ، وَفِيهِ مَقَالٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ فِيهِ وَلَا الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَلَا تَحَقَّقَتْ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ الظَّاهِرُ هَرَبَهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إلَّا فِي الْمَجْلُوبِ مِنْهَا، إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ فِيهِمْ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قَدْرِ الْجُعْلِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ دِينَارٌ، إنْ رَدَّهُ مِنْ الْمِصْرِ، وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ خَارِجِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 إحْدَاهُمَا يَلْزَمُهُ دِينَارٌ، أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَالثَّانِيَةُ، لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا إنْ رَدَّهُ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٍ. فَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إنِّي أَصَبْت عَبِيدًا إبَاقًا. فَقَالَ: لَك أَجْرٌ وَغَنِيمَةٌ. فَقُلْت: هَذَا الْأَجْرُ، فَمَا الْغَنِيمَةُ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَعْطَيْت الْجُعْلَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْخَلَّالُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ إسْنَادًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا وَجَدَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، يُرْضَخُ لَهُ عَلَى قَدْرِ الْمَكَانِ الَّذِي تَعْنِي إلَيْهِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ إمَامِنَا بَيْنَ أَنْ يَزِيدَ الْجُعْلَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ لَا يَزِيدَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ نَقَصَ الْجُعْلُ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمًا، لِئَلَّا يَفُوتَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ جَمِيعُهُ. وَلَنَا عُمُومُ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّهُ جُعْلٌ يُسْتَحَقُّ فِي رَدِّ الْآبِقِ، فَاسْتَحَقَّهُ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ، وَيَسْتَحِقُّهُ إنْ مَاتَ سَيِّدُهُ فِي تَرِكَتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الَّذِي رَدَّهُ مِنْ وَرَثَةِ الْمَوْلَى، سَقَطَ الْجُعْلُ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ وَرَثَةِ الْمَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَنْ رَدَّهُ مَعْرُوفًا بِرَدِّ الْإِبَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَنَا الْخَبَرُ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَلِأَنَّهُ رَدَّ آبِقًا، فَاسْتَحَقَّ الْجُعْلَ، كَالْمَعْرُوفِ بِرَدِّهِمْ. [فَصْلٌ أَخْذُ الْآبِقِ لِمَنْ وَجَدَهُ] (4533) فَصْل: وَيَجُوزُ أَخْذُ الْآبِقِ لِمَنْ وَجَدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُؤْمَنُ لَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَارْتِدَادُهُ، وَاشْتِغَالُهُ بِالْفَسَادِ فِي سَائِر الْبِلَادِ، بِخِلَافِ الضَّوَالِّ الَّتِي تَحْفَظُ نَفْسَهَا. فَإِذَا أَخَذَهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهُ، دَفَعَهُ إلَيْهِ إذَا أَقَامَ بِهِ الْبَيِّنَةَ، أَوْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّهُ سَيِّدُهُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَيِّدَهُ، دَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 فَيَحْفَظُهُ لِصَاحِبِهِ، أَوْ يَبِيعُهُ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا وَلَيْسَ لِمُلْتَقِطِهِ بَيْعُهُ وَلَا تَمَلُّكُهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْحَفِظُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَضَوَالِّ الْإِبِلِ. فَإِنْ بَاعَهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنْ بَاعَهُ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا فِي بَيْعِهِ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ فَاعْتَرَفَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بِهَذَا نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ ثُمَّ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَخْذُ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ حُرٌّ وَلَا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَهُ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَهُوَ كَتَرِكَةِ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ. فَإِنْ عَادَ السَّيِّدُ فَأَنْكَرَ الْعِتْقَ، وَطَلَبَ الْمَالَ، دُفِعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ. [فَصْلٌ أَبَقَ الْعَبْدُ فَحَصَلَ فِي يَدِ حَاكِمٍ فَأَقَامَ سَيِّدُهُ بَيِّنَةً عِنْدَ حَاكِمِ بَلَدٍ آخَرَ] (4534) فَصْلٌ: وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ، فَحَصَلَ فِي يَدِ حَاكِمٍ، فَأَقَامَ سَيِّدُهُ بَيِّنَةً عِنْدَ حَاكِمِ بَلَدٍ آخَرَ أَنَّ فُلَانًا الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، وَاسْتَقْصَى صِفَاتِهِ، عَبْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَبَقَ مِنْهُ، فَقَبِلَ الْحَاكِمُ بَيِّنَتَهُ، وَكَتَبَ الْحَاكِمُ إلَى الْحَاكِمِ الَّذِي عِنْدَهُ الْعَبْدُ: ثَبَتَ عِنْدِي إبَاقُ فُلَانٍ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا. قَبِلَ كِتَابَهُ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْعَبْدَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: يَأْخُذُ بِهِ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَثْبَتَتْهُ بِصِفَاتِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِوَصْفِهِ فِي السَّلَمِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ بِالصِّفَاتِ، وَقَدْ تَتَّفِقُ الصِّفَاتُ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَيُفَارِقُ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مِنْهُ الصِّفَةُ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيِّنٍ. وَلَنَا أَنَّهُ يُقْبَلُ كِتَابُ الْحَاكِمِ إلَى الْحَاكِمِ عَلَى شَخْصٍ غَائِبٍ، وَيُؤْخَذُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، وَلَيْسَ ثَمَّ شَهَادَةٌ عَلَى عَيْنٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَصِفَتِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ تَسْلِيمِهِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ يَخْتِمُ فِي عُنُقِهِ خَيْطًا ضَيِّقًا لَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ، وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلِهِ، لِيَحْمِلَهُ إلَى الْحَاكِمِ الْكَاتِبِ، لِيُشْهِدَ الشُّهُودَ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِنْ شَهِدُوا بِعَيْنِهِ، سُلِّمَ إلَى مُدَّعِيه، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. [مَسْأَلَة كَانَ الْتَقَطَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْتَقَطَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَرَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ) . إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا الْتَقَطَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ الْجُعْلُ، فَقَدْ الْتَقَطَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَعَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ جُعْلٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، كَمَا لَوْ الْتَقَطَهَا وَلَمْ يَجْعَلْ رَبُّهَا فِيهَا شَيْئًا. وَفَارَقَ الْمُلْتَقِطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْجُعْلَ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ مَنَافِعَهُ بِعِوَضٍ جُعِلَ لَهُ، فَاسْتَحَقَّهُ، كَالْأَجِيرِ إذَا عَمِلَ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْتِقَاطُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 لَهَا بَعْدَ الْجُعْلِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الْجُعْلِ بِرَدِّهَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ الْوَاجِبِ، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الْمُلْتَقِطُ، فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ عِوَضًا عَنْ الِالْتِقَاطِ الْمُبَاحِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مُلْتَقِطَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ الْجُعْلُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، سَوَاءٌ رَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ أَوْ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ مَعَ قَصْدِهِ إيَّاهُ، وَعَمَلِهِ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ رَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا إذَا رَدَّهَا لِغَيْرِ عِلَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي مِنْ يُرِيدُ الْجُعْلَ، أَمَّا مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يُرِيدُهُ، فَلَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهِ غَالِبًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالسَّفِيهَ إذَا الْتَقَطَ أَحَدُهُمْ لُقَطَةً ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا] (4536) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَ اللُّقَطَةَ سَفِيهًا أَوْ طِفْلًا، قَامَ وَلِيُّهُ بِتَعْرِيفِهَا، فَإِنْ تَمَّتْ السَّنَةُ، ضَمَّهَا إلَى مَالِ وَاجِدِهَا) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالسَّفِيهَ، إذَا الْتَقَطَ أَحَدُهُمْ لُقَطَةً، ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ، فَصَحَّ مِنْهُ، كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ. وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ أَخْذُهُ. وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، ضَمِنَهَا فِي مَالِهِ. وَإِذَا عَلِمَ بِهَا وَلِيُّهُ، لَزِمَهُ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْأَمَانَةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الصَّبِيِّ. وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي يَدِهِ كَانَ مُضَيِّعًا لَهَا، وَإِذَا أَخَذَهَا الْوَلِيُّ، عَرَّفَهَا؛ لِأَنَّ وَاجِدَهَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ، دَخَلَتْ فِي مِلْكِ وَاجِدِهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ تَمَّ شَرْطُهُ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ، كَمَا لَوْ اصْطَادَ صَيْدًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا: إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ، فَكَأَنَّ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِحَيْثُ يُسْتَقْرَضُ لَهُمَا، يَتَمَلَّكُهُ لَهُمَا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَمَلَّكُهُ لَهُمَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ ظُهُورِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهُ مَصْلَحَةً لَهُ وَلَنَا عُمُومُ الْأَخْبَارِ، وَلَوْ جَرَى هَذَا مَجْرَى الِاقْتِرَاضِ لَمَا صَحَّ الْتِقَاطُ صَبِيٍّ لَا يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَرُّعًا بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. (4537) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى، فِي غُلَامٍ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ، الْتَقَطَ لُقَطَةً، ثُمَّ كَبِرَ: فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا. قَدْ مَضَى أَجَلُ التَّعْرِيفِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ السِّنِينَ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ أَجَلِ التَّعْرِيفِ. قَالَ: وَقَدْ كُنْت سَمِعْته قَبْلَ هَذَا أَوْ بَعْدَهُ يَقُولُ فِي انْقِضَاءِ أَجَلِ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 أَيَتَصَدَّقُ بِمَالِ الْغَيْر؟ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَى نَحْوُهَا فِيمَا إذَا لَمْ يُعَرِّفْ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ فِي حَوْلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ عَرَّفَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بَعْدَهُ لَا يُفِيدُ ظَاهِرًا، لِكَوْنِ صَاحِبِهَا يَئِسَ مِنْهَا، وَتَرَكَ طَلَبَهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّعْرِيفَ لِعُذْرٍ، كَانَ كَتَرْكِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِكَوْنِ الصَّبِيِّ مِنْ أَهْلِ الْعُذْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا وَجْهَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ، أَصَابَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَذَهَبَ بِهَا إلَى مَنْزِلِهِ، فَضَاعَتْ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرَادَ رَدَّهَا، فَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهَا: تَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَشَرَةً، وَكَانَ يُجْحِفُ بِهِ، تَصَدَّقَ قَلِيلًا قَلِيلًا قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْلِمْ وَلِيَّهُ حَتَّى يَقُومَ بِتَعْرِيفِهَا. [فَصْلٌ وَجَدَ الْعَبْدُ لُقَطَةً] (4538) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدُ لُقَطَةً، فَلَهُ أَخْذُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَيَصِحُّ الْتِقَاطُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ؛ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ أَمَانَةُ وِلَايَةٍ، فِي الثَّانِي تَمَلُّكٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ وَلَا الْمِلْكِ. وَلَنَا عُمُومُ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الصَّبِيُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ، فَصَحَّ مِنْ الْعَبْدِ، كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ، صَحَّ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ، كَالْحُرِّ وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمَانَاتِ. يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّهُمَا أَدْنَى حَالًا مِنْهُ فِي هَذَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ لِسَيِّدِهِ، كَمَا يَحْصُلُ بِسَائِرِ الِاكْتِسَابِ، وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ تَخْلِيصُ مَالٍ مِنْ الْهَلَاكِ، فَجَازَ مِنْ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، كَإِنْقَاذِ الْمَالِ الْغَرِيقِ وَالْمَغْصُوبِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ الْتَقَطَ الْعَبْدُ لُقَطَةً كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي حَوْلِ التَّعْرِيفِ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ إتْلَافٍ، وَجَبَ ضَمَانُهَا فِي رَقَبَتِهِ، كَسَائِرِ جِنَايَاتِهِ، وَإِنْ عَرَّفَهَا، صَحَّ تَعْرِيفُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا صَحِيحًا، فَصَحَّ تَعْرِيفُهُ، كَالْحُرِّ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ التَّعْرِيفِ، مَلَكَهَا سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَكَسْبُهُ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ عَلِمَ السَّيِّدُ بِلُقَطَةِ عَبْدِهِ، كَانَ لَهُ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ، وَلِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ كَسْبِهِ مِنْ يَدِهِ، فَإِذَا انْتَزَعَهَا بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهَا الْعَبْدُ مَلَكَهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعَرِّفْهَا، عَرَّفَهَا سَيِّدُهُ حَوْلًا كَامِلًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ عَرَّفَهَا بَعْضَ الْحَوْلِ، عَرَّفَهَا السَّيِّدُ تَمَامَهُ. فَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ إقْرَارَهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَمِينًا جَازَ، وَكَانَ السَّيِّدُ مُسْتَعِينًا بِعَبْدِهِ فِي حِفْظِهَا، كَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي حِفْظِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ أَمِينٍ، كَانَ السَّيِّدُ مُفَرِّطًا بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِهِ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهَا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ، فَلَهُ انْتِزَاعُ اللُّقَطَةِ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ، وَأَكْسَابُهُ لِسَيِّدِهِ. وَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا، لَزِمَهُ سَتْرُهَا عَنْهُ، وَتَسْلِيمُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 إلَى الْحَاكِمِ، لِيُعَرِّفهَا، ثُمَّ يَدْفَعَهَا إلَى سَيِّدِهِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ. فَإِنْ أَعْلَمَ سَيِّدَهُ بِهَا، فَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ، أَوْ أَخَذَهَا فَعَرَّفَهَا وَأَدَّى الْأَمَانَةَ فِيهَا فَتَلِفَتْ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطَهُ، فَلَا ضَمَانَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ بِتَفْرِيطٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْأَمَانَةَ فِيهَا، وَجَبَ ضَمَانُهَا، وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَذِمَّةِ السَّيِّدِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ حَصَلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا. [فَصْلٌ الْمَكَاتِب كَالْحُرِّ فِي اللُّقَطَةِ] (4539) فَصْلٌ: وَالْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ فِي اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَهُ فِي الْحَالِ، وَأَكْسَابُهُ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ، وَاللُّقَطَةُ مِنْ أَكْسَابِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَادَ عَبْدًا، وَصَارَ حُكْمُهُ فِي اللُّقَطَةِ حُكْمَ الْعَبْدِ، عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَالْمُدَبَّرُ كَالْقِنِّ. وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ إذَا الْتَقَطَ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ نِصْفَيْنِ، كَسَائِرِ أَكْسَابِهِ، وَهِيَ بَيْنَهُمَا فِي حَوْلِ التَّعْرِيفِ كَالْحُرَّيْنِ إذَا الْتَقَطَا لُقَطَةً، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ، فَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؛ لِأَنَّهَا كَسْبٌ نَادِرٌ، لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَلَا يُظَنُّ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْمُهَايَأَةِ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا وَالثَّانِي: تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَكْسَابِهِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِهِ فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلُقَطَتُهُ بَيْنَهُمَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ. [فَصْلٌ الذِّمِّيُّ فِي الِالْتِقَاطِ كَالْمُسْلِمِ] (4540) فَصْلٌ: وَالذِّمِّيُّ فِي الِالْتِقَاطِ كَالْمُسْلِمِ. وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ الِالْتِقَاطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ. وَلَنَا أَنَّهَا نَوْعُ اكْتِسَابٍ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا، كَالْحَشِّ وَالِاحْتِطَابِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُمَا، مَعَ عَدَمِ الْأَمَانَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا كَامِلًا، مَلَكَهَا كَالْمُسْلِمِ، وَإِنْ عَلِمَ بِهَا الْحَاكِمُ أَوْ السُّلْطَانُ، أَقَرَّهَا فِي يَدِهِ. وَضَمَّ إلَيْهِ مُشْرِفًا عَدْلًا يُشْرِفُ عَلَيْهِ، وَيُعَرِّفُهَا؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ الْكَافِرَ عَلَى تَعْرِيفِهَا، وَلَا نَأْمَنُهُ أَنْ يُخِلَّ فِي التَّعْرِيفِ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَجْرُ الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ التَّعْرِيفِ مَلَكَهَا الْمُلْتَقِطُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُنْزَعَ مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ، وَتُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 [فَصْلٌ غَيْر الْأَمِينِ لَا يَأْخُذ اللُّقَطَةَ] (4541) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَيْسَ بِأَمِينٍ أَنْ لَا يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْأَمَانَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ الْتَقَطَ صَحَّ الْتِقَاطُهُ؛ لِأَنَّهَا جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ الْكَسْبِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَسْبِ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الْتِقَاطُ الْكَافِرِ، فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى، فَإِذَا الْتَقَطَهَا فَعَرَّفَهَا حَوْلًا، مَلَكَهَا كَالْعَدْلِ. وَإِنْ عَلِمَ الْحَاكِمُ أَوْ السُّلْطَانُ بِهَا، أَقَرَّهَا فِي يَدِهِ، وَضَمَّ إلَيْهِ مُشْرِفًا يُشْرِفُ عَلَيْهِ، وَيَتَوَلَّى تَعْرِيفَهَا كَمَا قُلْنَا فِي الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا نَأْمَنُهُ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَنْزِعُهَا مِنْ يَدِهِ، وَيَضَعُهَا فِي يَدِ عَدْلٍ وَلَنَا أَنَّ مَنْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَدِيعَةِ، لَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْ اللُّقَطَةِ، كَالْعَدْلِ، وَالْحِفْظُ يَحْصُلُ بِضَمِّ الْمُشْرِفِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْمُشْرِفَ حِفْظُهَا مِنْهُ، اُنْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ، وَتُرِكَتْ فِي يَدِ عَدْلٍ، فَإِذَا عَرَّفَهَا وَتَمَّتْ السَّنَةُ، مَلَكَهَا مُلْتَقِطُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ. [مَسْأَلَة وَجَدَ الشَّاةَ بِمِصْرَ أَوْ بِمُهْلِكَةِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا وَجَدَ الشَّاةَ بِمِصْرٍ، أَوْ بِمَهْلَكَةٍ، فَهِيَ لُقَطَةٌ) يَعْنِي أَنَّهُ يُبَاحُ أَخْذُهَا وَالْتِقَاطُهَا، وَحُكْمُهَا إذَا أَخَذَهَا حُكْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فِي التَّعْرِيفِ وَالْمِلْكِ بَعْدَهُ. هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا لَهُ أَكْلُهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ لَا يَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، وَهِيَ الثَّعْلَبُ، وَابْنُ آوَى، وَالذِّئْبُ، وَوَلَدُ الْأَسَدِ وَنَحْوُهَا فَمَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا، كَفُصْلَانِ الْإِبِلِ، وَعُجُولِ الْبَقَرِ، وَأَفْلَاءِ الْخَيْلِ، وَالدَّجَاجِ، وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِهَا، يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ. وَيُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَيْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ الْتِقَاطُهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَقْرَبَهَا، إلَّا أَنْ يَحُوزَهَا لِصَاحِبِهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ» . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ أَشْبَهَ الْإِبِلَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سُئِلَ عَنْ الشَّاةِ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ وَالضَّيَاعُ، فَأَشْبَهَ لُقَطَةَ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَحَدِيثُنَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَنَخُصُّهُ بِهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْإِبِلِ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ مَنْعَ الْتِقَاطِهَا بِأَنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْغَنَمِ، ثُمَّ قَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا قِيَاسُ مَا أَمَرَ بِالْتِقَاطِهِ عَلَى مَا مَنَعَ ذَلِكَ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِدَهَا بِمِصْرٍ أَوْ بِمَهْلَكَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 فِي الشَّاةِ تُوجَدُ فِي الصَّحْرَاءِ: اذْبَحْهَا، وَكُلْهَا. وَفِي الْمِصْرِ: ضُمَّهَا حَتَّى يَجِدَهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» . وَالذِّئْبُ لَا يَكُونُ فِي الْمِصْرِ وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خُذْهَا ". وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، وَلَوْ افْتَرَقَ الْحَالُ لَسَأَلَ وَاسْتَفْصَلَ، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْمِصْرُ وَالصَّحْرَاءُ، كَسَائِرِ اللُّقَطَاتِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الذِّئْبَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الصَّحْرَاءِ. قُلْنَا: كَوْنُهَا لِلذِّئْبِ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا لِغَيْرِهِ فِي الْمِصْرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى عَرَّفَهَا حَوْلًا كَامِلًا، مَلَكَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا. وَلَعَلَّهَا الرِّوَايَةُ الَّتِي مَنَعَ مِنْ الْتِقَاطِهَا فِيهَا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ» ، فَأَضَافَهَا إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّهَا يُبَاحُ الْتِقَاطُهَا، فَمُلِكَتْ بِالتَّعْرِيفِ، كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. [فَصْلٌ يَتَخَيَّرُ مُلْتَقِطُ ضَالَّةِ الْغَنَمِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ] (4543) فَصْلٌ: وَيَتَخَيَّرُ مُلْتَقِطُهَا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ أَكْلُهَا فِي الْحَالِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ، فِي الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا، لَهُ أَكْلُهَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» . فَجَعَلَهَا لَهُ فِي الْحَالِ، وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّئْبِ، وَالذِّئْبُ لَا يَسْتَأْنِي بِأَكْلِهَا، وَلِأَنَّ فِي أَكْلِهَا فِي الْحَالِ إغْنَاءً عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَحِرَاسَةً لِمَالِيَّتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا إذَا جَاءَ. فَإِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا بِكَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَفِي إبْقَائِهَا تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْغَرَامَةِ فِي عَلَفِهَا، فَكَانَ أَكْلُهَا أَوْلَى. وَمَتَى أَرَادَ أَكْلَهَا حَفِظَ صِفَتَهَا، فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا لَهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَالِكًا، فَإِنَّهُ قَالَ: كُلْهَا، وَلَا غُرْمَ عَلَيْك لِصَاحِبِهَا وَلَا تَعْرِيفَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هِيَ لَك ". وَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا تَعْرِيفًا وَلَا غُرْمًا، وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّئْبِ، وَالذِّئْبُ لَا يُعَرِّفُ وَلَا يَغْرَمُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُوَافِقْ مَالِكًا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «رُدَّ عَلَى أَخِيك ضَالَّتَهُ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهَا قِيمَةٌ، وَتَتْبَعُهَا النَّفْسُ، فَتَجِبُ غَرَامَتُهَا لِصَاحِبِهَا إذَا جَاءَ كَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّهَا مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَمَلُّكُهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ الْبُنْيَانِ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ رَدُّهَا مَعَ بَقَائِهَا، فَوَجَبَ غُرْمُهَا إذَا أَتْلَفَهَا، كَلُقَطَةِ الذَّهَبِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هِيَ لَك ". لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ غَرَامَتِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ أَذِنَ فِي لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا، فِي أَكْلِهَا وَإِنْفَاقِهَا، وَقَالَ: " هِيَ كَسَائِرِ مَالِك ". ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ غَرَامَتِهَا، كَذَلِكَ الشَّاةُ، وَلَا فَرْقَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهَا بَيْنَ وِجْدَانِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ لَهُ أَكْلُهَا فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهَا، بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ. وَلَنَا أَنَّ مَا جَازَ أَكْلُهُ فِي الصَّحْرَاءِ، أُبِيحَ فِي الْمِصْرِ، كَسَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " هِيَ لَك ". وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ أَكْلَهَا مُعَلَّلٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَهَذَا فِي الْمِصْرِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ. الثَّانِي، أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَتَمَلَّكهَا. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مُحْتَسِبًا بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَالِكِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَرْجِعُ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، فِي طِيَرَةٍ أَفْرَخَتْ عِنْدَ قَوْمٍ، فَقَضَى أَنَّ الْفِرَاخَ لِصَاحِبِ الطِّيَرَةِ، وَيَرْجِعُ بِالْعَلَفِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا. وَقَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَنْ وَجَدَ ضَالَّةً، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَجَاءَ رَبُّهَا، بِأَنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ مَا أَنْفَقَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ لِحِفْظِهَا، فَكَانَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا، كَمُؤْنَةِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَمْ يُعْجِبْ الشَّعْبِيَّ قَضَاءُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ. كَمَا لَوْ بَنِي دَارِهِ، وَيُفَارِقُ الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ تَجْفِيفُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَحْظَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَتَكَرَّرُ، وَالْحَيَوَانُ يَتَكَرَّرُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا اسْتَغْرَقَ قِيمَتَهُ، فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْ أَكْلُهُ أَحْظَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ الْمُنْفِقُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ. الثَّالِثُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَبِيعُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ أَكْلُهَا بِغَيْرِ إذْنٍ، فَبَيْعُهَا أَوْلَى. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا لَهَا تَعْرِيفًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» . وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَعْرِيفِهَا، كَمَا أَمَرَ فِي لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهَا خَطَرٌ، فَوَجَبَ تَعْرِيفُهَا، كَالْمَطْعُومِ الْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ تَعْرِيفِهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بَعْدَ بَيَانِهِ التَّعْرِيفَ فِيمَا سِوَاهَا، فَاسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي الْحَوْلِ سُقُوطُ التَّعْرِيفِ، كَالْمَطْعُومِ. (4544) فَصْلٌ: إذَا أَكَلَهَا ثَبَتَتْ قِيمَتُهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَزْلُهَا؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَى الْمَالِ الْمَعْزُولِ. وَلَوْ عَزَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَفْلَسَ، كَانَ صَاحِبُ اللَّقَطِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْمَالِ الْمَعْزُولِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 وَإِنْ بَاعَهَا، وَحَفِظَ ثَمَنَهَا، وَجَاءَ صَاحِبُهَا، أَخَذَهُ، وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، لَا شَيْءَ لِلْمُفْلِسِ فِيهِ. [فَصْلٌ الْتِقَاط مَا لَا يَبْقَى عَامًا] (4545) فَصْلٌ: وَإِذَا الْتَقَطَ مَا لَا يَبْقَى عَامًا، فَذَلِكَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَبْقَى بِعِلَاجٍ وَلَا غَيْرِهِ، كَالطَّبِيخِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْفَاكِهَةِ الَّتِي لَا تُجَفَّفُ، وَالْخَضْرَاوَاتِ. فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ، وَبَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ. فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَلِفَ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَالْوَدِيعَةِ. فَإِنْ أَكَلَهُ ثَبَتَتْ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي لُقَطَةِ الْغَنَمِ. وَإِنْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، جَازَ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْيَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا دَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ، جَازَ الْبَيْعُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ، فَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ، لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْحَاكِمِ بَيْعُهُ، كَغَيْرِ اللُّقَطَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ أُبِيحَ لِلْمُلْتَقِطِ أَكْلُهُ، فَأُبِيحَ لَهُ بَيْعُهُ، كَمَالِهِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ أُبِيحَ لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْحَاكِمِ، فَجَازَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَالِهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَكْلَهُ أَوْ بَيْعَهُ، حَفِظَ صِفَاتِهِ، ثُمَّ عَرَّفَهُ عَامًا، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَهُ أَوْ أَكَلَ ثَمَنَهُ، غَرِمَهُ لَهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ أَكَلَهُ. وَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ، أَوْ نَقَصَ أَوْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ، أَوْ نَقَصَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ. وَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ نَقَصَتْ أَوْ نَقَصَ الثَّمَنُ لِتَفْرِيطِهِ، فَعَلَى الْمُلْتَقِطِ ضَمَانُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ تَلِفَ الثَّمَنُ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ، أَوْ نَقَصَ، ضَمِنَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي مَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ بِالْعِلَاجِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ. فَإِنْ كَانَ فِي التَّجْفِيفِ جَفَّفَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي التَّجْفِيفِ إلَى غَرَامَةٍ، بَاعَ بَعْضَهُ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ، بَاعَهُ، وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، كَالطَّعَامِ وَالرُّطَبِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ، تَعَيَّنَ أَكْلُهُ، كَالْبِطِّيخِ. وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ. فَلَهُ أَكْلُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِيهِ. وَيَقْتَضِي قَوْلُ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْعُرُوضَ لَا تُمْلَكُ بِالتَّعْرِيفِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ، لَكِنْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ بِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ يَجِدُ فِي مَنْزِلِهِ طَعَامًا لَا يَعْرِفُهُ: يُعَرِّفُهُ مَا لَمْ يَخْشَ فَسَادَهُ، فَإِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ، تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ غَرِمَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ. وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، فِي لُقَطَةِ مَا لَا يَبْقَى سَنَةً: يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَبِيعُهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وَلَنَا عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ: «خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ» وَهَذَا تَجْوِيزٌ لِلْأَكْلِ، فَإِذَا جَازَ فِيمَا هُوَ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ، فَفِيمَا يَفْسُدُ بِبَقَائِهِ أَوْلَى. [مَسْأَلَة لَا يَتَعَرَّضُ لِبَعِيرِ وَلَا لِمَا فِيهِ قُوَّةٌ يَمْنَعُ عَنْ نَفْسِهِ] (4546) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يَتَعَرَّضُ لِبَعِيرٍ، وَلَا لِمَا فِيهِ قُوَّةٌ يَمْنَعُ عَنْ نَفْسِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَقْوَى عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، وَوُرُودِ الْمَاءِ، لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، وَلَا التَّعَرُّضُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ لِكِبَرِ جُثَّتِهِ، كَالْإِبِلِ، وَالْخَيْلِ، وَالْبَقَرِ، أَوْ لِطَيَرَانِهِ كَالطُّيُورِ كُلِّهَا، أَوْ لِسُرْعَتِهِ، كَالظِّبَاءِ وَالصَّيُودِ، أَوْ بِنَابِهِ كَالْكِلَابِ وَالْفُهُودِ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً، فَهُوَ ضَالٌّ. أَيْ مُخْطِئٌ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ: مَنْ وَجَدَهَا فِي الْقُرَى عَرَّفَهَا، وَمَنْ وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَقْرَبُهَا. وَرَوَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: مَنْ وَجَدَ بَدَنَةً فَلْيُعَرِّفْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا فَلْيَنْحَرْهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي لَفْظٍ يُبَاحُ الْتِقَاطُهَا؛ لِأَنَّهَا لُقَطَةٌ أَشْبَهَتْ الْغَنَمَ. وَلَنَا «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا: مَا لَك وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نُصِيبُ هَوَامَّ الْإِبِلِ. قَالَ: ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ» . وَرُوِيَ عَنْ «جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَمَرَ بِطَرْدِ بَقَرَةٍ لَحِقَتْ بِبَقَرِهِ حَتَّى تَوَارَتْ، وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يُؤْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. وَقِيَاسُهُمْ يُعَارِضُ صَرِيحَ النَّصِّ، وَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ نَصَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَرِيحِ قَوْلِهِ بِقِيَاسِ نَصِّهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرِ، عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ تُفَارِقُ الْغَنَمَ، لِضَعْفِهَا، وَقِلَّةِ صَبْرِهَا عَنْ الْمَاءِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الصَّيُودُ مُسْتَوْحِشَةً إذَا تُرِكَتْ رَجَعَتْ إلَى الصَّحْرَاءِ وَعَجَزَ عَنْهَا صَاحِبُهَا جَازَ الْتِقَاطُهَا] (4547) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الصَّيُودُ مُسْتَوْحِشَةً، إذَا تُرِكَتْ رَجَعَتْ إلَى الصَّحْرَاءِ، وَعَجَزَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، جَازَ الْتِقَاطُهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا أَضْيَعُ لَهَا مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالْمَقْصُودُ حِفْظُهَا لِصَاحِبِهَا، لَا حِفْظُهَا فِي نَفْسِهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ حِفْظَهَا فِي أَنْفُسِهَا لَمَا جَازَ الْتِقَاطُ الْأَثْمَانِ، فَإِنَّ الدِّينَارَ دِينَارٌ حَيْثُمَا كَانَ. [فَصْلٌ الْبَقَرَةُ كَالْإِبِلِ فِي اللُّقَطَة] (4548) فَصْلٌ: وَالْبَقَرَةُ كَالْإِبِلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْبَقَرَةَ كَالشَّاةِ وَلَنَا، خَبَرُ جَرِيرٍ فَإِنَّهُ طَرَدَ الْبَقَرَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا، وَلِأَنَّهَا تَمْتَنِعُ عَنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، وَتُجْزِئُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ عَنْ سَبْعَةٍ، فَأَشْبَهَتْ الْإِبِلَ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ. فَأَمَّا الْحُمُرُ، فَجَعَلَهَا أَصْحَابُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ؛ لِأَنَّ لَهَا أَجْسَامًا عَظِيمَةً، فَأَشْبَهَتْ الْبِغَالَ وَالْخَيْلَ، وَلِأَنَّهَا مِنْ الدَّوَابِّ، فَأَشْبَهَتْ الْبِغَالَ. وَالْأَوْلَى إلْحَاقُهَا بِالشَّاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ الْإِبِلَ بِأَنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا. يُرِيدُ شِدَّةَ صَبْرِهَا عَنْ الْمَاءِ؛ لِكَثْرَةِ مَا تُوعِي فِي بُطُونِهَا مِنْهُ، وَقُوَّتِهَا عَلَى وُرُودِهِ. وَفِي إبَاحَةِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ بِأَنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِأَخْذِ الذِّئْبِ إيَّاهَا، بِقَوْلِهِ: " هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ ". وَالْحُمُرُ مُسَاوِيَةٌ لِلشَّاةِ فِي عِلَّتِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِنْ الذِّئْبِ، وَمُفَارِقَةٌ لِلْإِبِلِ فِي عِلَّتِهَا، فَإِنَّهَا لَا صَبْرَ لَهَا عَنْ الْمَاءِ، وَلِهَذَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِقِلَّةِ صَبْرِهَا عَنْهُ، فَيُقَالُ: مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِ إلَّا ظَمَأُ حِمَارٍ. وَإِلْحَاقُ الشَّيْءِ بِمَا سَاوَاهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَفَارَقَهُ فِي الصُّورَةِ، أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِمَا قَارَبَهُ فِي الصُّورَةِ وَفَارَقَهُ فِي الْعِلَّةِ. فَأَمَّا غَيْرُ الْحَيَوَانِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ يَنْحَفِظُ بِنَفْسِهِ، كَأَحْجَارِ الطَّوَاحِينِ، وَالْكَبِيرِ مِنْ الْخَشَبِ، وَقُدُورِ النُّحَاسِ، فَهُوَ كَالْإِبِلِ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِهِ، بَلْ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَتَعَرَّضُ فِي الْجُمْلَةِ لِلتَّلَفِ. إمَّا بِالْأَسَدِ، وَإِمَّا بِالْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَا تَكَادُ تَضِيعُ عَنْ صَاحِبِهَا وَلَا تَبْرَحُ مِنْ مَكَانِهَا بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا حُرِّمَ أَخْذُ الْحَيَوَانِ، فَهَذِهِ أَوْلَى. [فَصْل أَخَذَ هَذَا الْحَيَوَانَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِقَاطِ] (4549) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَذَ هَذَا الْحَيَوَانَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِقَاطِ، ضَمِنَهُ، إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَا أَذِنَ الشَّارِعُ لَهُ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ. فَإِنْ رَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَرْسِلْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَبْته فِيهِ. وَجَرِيرٌ طَرَدَ الْبَقَرَةَ الَّتِي لَحِقَتْ بِبَقَرِهِ وَلَنَا أَنَّ مَا لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ نَائِبِهِ، كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَرِيرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْبَقَرَةَ، وَلَا أَخَذَهَا رَاعِيهِ، إنَّمَا لَحِقَتْ بِالْبَقَرِ، فَطَرَدَهَا عَنْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَتْ دَارِهِ فَأَخْرَجَهَا. فَعَلَى هَذَا، مَتَى لَمْ يَأْخُذْهَا بِحَيْثُ ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا، لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، سَوَاءٌ طَرَدَهَا أَوْ لَمْ يَطْرُدْهَا. وَإِنْ أَخَذَهَا فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، فَدَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا فِي ضَوَالِّ النَّاسِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا، فَكَانَ نَائِبًا عَنْ أَصْحَابِهَا فِيهَا. [فَصْلٌ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَخْذُ الضَّالَّةِ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ لِصَاحِبِهَا] (4550) فَصْلٌ: وَلِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَخْذُ الضَّالَّةِ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَى مَوْضِعًا يُقَالُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 لَهُ النَّقِيعُ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَالضَّوَالِّ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي حِفْظِ مَالِ الْغَائِبِ، وَفِي أَخْذِ هَذِهِ حِفْظٌ لَهَا عَنْ الْهَلَاكِ. وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ يُعَرِّفُ الضَّوَالَّ. وَلِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَالَّةٌ فَإِنَّهُ يَجِيءُ إلَى مَوْضِعِ الضَّوَالِّ، فَإِذَا عَرَفَ ضَالَّتَهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَأَخَذَهَا، وَلَا يَكْتَفِي فِيهَا بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَعْرِفُ صِفَاتِهَا مَنْ رَآهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَلَا تَكُونُ الصِّفَةُ لَهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ لَهَا وَلِأَنَّ الضَّالَّةَ قَدْ كَانَتْ ظَاهِرَةً بَيْن النَّاسِ حِينَ كَانَتْ فِي يَدِ مَالِكِهَا، فَلَا يَخْتَصُّ هُوَ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتهَا دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا، وَيُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا لِظُهُورِهَا لِلنَّاسِ، وَمَعْرِفَةِ خُلَطَائِهِ وَجِيرَانِهِ بِمِلْكِهِ إيَّاهَا. [فَصْلٌ أَخَذَ اللُّقَطَة غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِيَحْفَظهَا لِصَاحِبِهَا] (4551) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِيَحْفَظهَا لِصَاحِبِهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهَا. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَصْحَابِهِ وَجْهٌ، أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا لِحِفْظِهَا، قِيَاسًا عَلَى الْإِمَامِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ قَاصِدِ الْحِفْظِ وَقَاصِدِ الِالْتِقَاطِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً، وَهَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ. وَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَوْضِعٍ يَخَافُ عَلَيْهَا بِهِ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَهَا بِأَرْضِ مَسْبَعَةٍ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْأَسَدَ يَفْتَرِسُهَا إنْ تُرِكَتْ بِهِ، أَوْ فَرَسًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، يَخَافُ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ بِمَوْضِعٍ يَسْتَحِلُّ أَهْلُهُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، كَوَادِي التَّيْمِ، أَوْ فِي بَرِّيَّةٍ لَا مَاءَ بِهَا وَلَا مَرْعًى، فَالْأَوْلَى جَوَازُ أَخْذِهَا لِلْحِفْظِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى آخِذِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إنْقَاذَهَا مِنْ الْهَلَاكِ، فَأَشْبَهَ تَخْلِيصَهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ فَإِذَا حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، سَلَّمَهَا إلَى نَائِبِ الْإِمَامِ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا، وَلَا يَمْلِكُهَا بِالتَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ فِيهَا. [فَصْلٌ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْإِمَامِ مِنْ الضَّوَالِّ فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَيْهَا وَيَسِمُهَا بِأَنَّهَا ضَالَّةٌ] (4552) فَصْلٌ: وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْإِمَامِ مِنْ الضَّوَالِّ، فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَيْهَا، وَيَسِمُهَا بِأَنَّهَا ضَالَّةٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ حِمًى تَرْعَى فِيهِ، تَرَكَهَا فِيهِ، إنْ رَأَى ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمًى، بَاعَهَا بَعْدَ أَنْ يُحَلِّيَهَا، وَيَحْفَظَ صِفَاتِهَا، وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا يُفْضِي إلَى أَنْ تَأْكُلَ جَمِيعَ ثَمَنِهَا. [فَصْلٌ تَرَكَ دَابَّةً بِمُهْلِكَةِ فَأَخَذَهَا إنْسَانٌ فَأَطْعَمَهَا وَسَقَاهَا وَخَلَّصَهَا] (4553) فَصْلٌ: وَمَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمَهْلَكَةٍ، فَأَخَذَهَا إنْسَانٌ، فَأَطْعَمَهَا وَسَقَاهَا وَخَلَّصَهَا، مَلَكَهَا. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَإِسْحَاقُ. إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا لِيَرْجِعَ إلَيْهَا، أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ لِمَالِكِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 الْأَوَّلِ، وَيَغْرَمُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هِيَ لِمَالِكِهَا، وَالْآخَرُ مُتَبَرِّعٌ بِالنَّفَقَةِ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَهْلَكَةٍ، وَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ بَنَى دَارِهِ وَلَنَا مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ عَجَزَ عَنْهَا أَهْلُهَا، فَسَيَّبُوهَا، فَأَخَذَهَا، فَأَحْيَاهَا، فَهِيَ لَهُ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَقُلْت - يَعْنِي لِلشَّعْبِيِّ -: مَنْ حَدَّثَك بِهَذَا؟ قَالَ: غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمَهْلَكَةٍ، فَأَحْيَاهَا رَجُلٌ، فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا» وَلِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِمِلْكِهَا إحْيَاءَهَا وَإِنْقَاذَهَا مِنْ الْهَلَاكِ، وَحِفْظًا لِلْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ، وَمُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ، وَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ تَضْيِيعٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ تَحْصُلُ، وَلِأَنَّهُ نُبِذَ رَغْبَةً عَنْهُ وَعَجْزًا عَنْ أَخْذِهِ، فَمَلَكَهُ آخِذُهُ، كَالسَّاقِطِ مِنْ السُّنْبُلِ، وَسَائِرِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ. [فَصْل تَرَكَ مَتَاعًا فَخَلَّصَهُ إنْسَانٌ] (4554) فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ مَتَاعًا، فَخَلَّصَهُ إنْسَانٌ، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، كَالْخَشْيَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَمُوتُ إذَا لَمْ يُطْعَمْ وَيُسْقَى، وَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ، وَالْمَتَاعُ يَبْقَى حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ عَبْدًا، لَمْ يُمْلَكْ بِأَخْذِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْعَادَةِ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ إلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا، بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ. وَلَهُ أَخْذُ الْعَبْدِ وَالْمَتَاعِ لِيُخَلِّصَهُ لِصَاحِبِهِ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَخْلِيصِ الْمَتَاعِ. نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ عَلَى قِيَاسِهِ قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَجْرِ، عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ أَمَرَهُ بِهِ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ جُعْلٍ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، كَالْمُلْتَقِطِ. وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَ لَهُ جُعْلًا لَاسْتَحَقَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَيُفَارِقُ هَذَا الْمُلْتَقِطَ، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَمْ يُخَلِّصْ اللُّقَطَةَ مِنْ الْهَلَاكِ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَمْكَنَ أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُهَا فَيَطْلُبَهَا مِنْ مَكَانِهَا فَيَجِدَهَا، وَهَا هُنَا إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا ضَاعَ وَهَلَكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ صَاحِبُهُ، فَفِي جَعْلِ الْأَجْرِ فِيهِ حِفْظٌ لِلْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، فَجَازَ ذَلِكَ كَالْجُعْلِ فِي الْآبِقِ. وَلِأَنَّ اللُّقَطَةَ جَعَلَ فِيهَا الشَّارِعُ مَا يَحُثُّ عَلَى أَخْذِهَا، وَهُوَ مِلْكُهَا إنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا، فَاكْتُفِيَ بِهِ عَنْ الْأَجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ فِي هَذَا مَا يَحُثُّ عَلَى تَخْلِيصِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَيْسَ إلَّا الْأَجْرُ. فَأَمَّا مَا أَلْقَاهُ رُكَّابُ الْبَحْرِ فِيهِ، خَوْفًا مِنْ الْغَرَقِ، فَلَمْ أَعْلَمْ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا، سِوَى عُمُومِ قَوْلِهِمْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ هَذَا مَنْ أَخَذَهُ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، فِي مَنْ أَخْرَجَهُ، قَالَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَهُوَ لِأَهْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَرُدُّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَلَا جُعَلَ لَهُ. وَيَقْتَضِيه قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ لِمَنْ أَنْقَذَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا مَالٌ أَلْقَاهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَتْلَفُ بِتَرْكِهِ فِيهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، فَمَلَكَهُ مَنْ أَخَذَهُ، كَاَلَّذِي أَلْقَوْهُ رَغْبَةً عَنْهُ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرُوهُ تَحْقِيقًا لِإِتْلَافِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمُبَاشَرَتِهِ بِالْإِتْلَافِ. فَأَمَّا إنْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ، فَأَخْرَجَهُ قَوْمٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُ أَصْحَابُ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُمْ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي أَصَابُوهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالْقَاضِي. وَعَلَى قِيَاسِ نَصِّ أَحْمَدَ يَكُونُ لِمُسْتَخْرِجِهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى تَخْلِيصِهِ، وَحِفْظِهِ لِصَاحِبِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْغَرَقِ. فَإِنَّ الْغَوَّاصَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ الْأَجْرُ، بَادَرَ إلَى التَّخْلِيصِ لِيُخَلِّصَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، لَمْ يُخَاطِرْ بِنَفْسِهِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْأَجْرِ، كَجُعْلِ رَدِّ الْآبِقِ. [فَصْلٌ الْتَقَطَ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ جَارِيَةً] (4555) فَصْلٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا الْتَقَطَ عَبْدًا صَغِيرًا، أَوْ جَارِيَةً، أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِالتَّعْرِيفِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُمْلَكُ الْعَبْدُ دُونَ الْجَارِيَةِ، لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بِالتَّعْرِيفِ عِنْدَهُ اقْتِرَاضٌ، وَالْجَارِيَةُ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالْقَرْضِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نَظَرٌ؛ فَإِنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ لَا قَوْلَ لَهُ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، لَاعْتُبِرَ فِي تَعْرِيفِهِ سَيِّدَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 [كِتَاب اللَّقِيطِ] [مَسْأَلَة اللَّقِيطُ حُرٌّ] ِ وَهُوَ الطِّفْلُ الْمَنْبُوذُ. وَاللَّقِيطُ بِمَعْنَى الْمَلْقُوطِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِمْ: قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ وَطَرِيحٌ. وَالْتِقَاطُهُ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَلِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا، كَإِطْعَامِهِ إذَا اُضْطُرَّ، وَإِنْجَائِهِ مِنْ الْغَرَقِ. وَوُجُوبُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمَاعَةُ، أَثِمُوا كُلُّهُمْ، إذَا عَلِمُوا فَتَرَكُوهُ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ وَرُوِيَ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ، قَالَ: وَجَدْت مَلْفُوفًا، فَأَتَيْت بِهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عَرِيفِي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ. فَقَالَ عُمَرُ: أَكَذَلِكَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَاذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَك وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، سَمِعَ سُنَيْنًا أَبَا جَمِيلَةَ بِهَذَا، وَقَالَ: عَلَيْنَا رَضَاعُهُ. (4556) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَاللَّقِيطُ حُرٌّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا النَّخَعِيّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ. رُوِينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ الْتَقَطَهُ لِلْحِسْبَةِ، فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ، فَذَلِكَ لَهُ. وَذَلِكَ قَوْلٌ شَذَّ فِيهِ عَنْ الْخُلَفَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَلَا يَصِحُّ فِي النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا، وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ، فَلَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ. [فَصْلٌ لَا يَخْلُو اللَّقِيطُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْكُفْرِ] (4557) فَصْلٌ: وَلَا يَخْلُو اللَّقِيطُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَأَمَّا دَارُ الْإِسْلَامِ فَضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، دَارٌ اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ، كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَلَقِيطُ هَذِهِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ وَلِظَاهِرِ الدَّارِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 الثَّانِي دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، كَمَدَائِنِ الشَّامِ، فَهَذِهِ إنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ، تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ، بَلْ كُلُّ أَهْلِهَا ذِمَّةٌ حُكِمَ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّ تَغْلِيبَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا بَلَدُ الْكُفَّارِ فَضَرْبَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا بَلَدٌ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَغَلَبَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ، كَالسَّاحِلِ، فَهَذَا كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، إنْ كَانَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إيمَانَهُ، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى كَتْمِ إيمَانِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَقَرُّوا فِيهِ أَهْلَهُ بِالْجِزْيَةِ، فَهَذَا كَالْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي دَارٌ لَمْ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ أَصْلًا. كَبِلَادِ الْهِنْدِ وَالرُّومِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَلَقِيطُهَا كَافِرٌ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ وَأَهْلُهَا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ كَالتُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ، احْتَمَلَ أَنْ يُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ، تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ، تَغْلِيبًا لِلدَّارِ وَالْأَكْثَرِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إذَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، مَيِّتًا فِي أَيِّ مَكَان وُجِدَ، أَنَّ غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ، وَقَدْ مَنَعُوا أَنْ يُدْفَنَ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَإِذَا وُجِدَ لَقِيطٌ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُشْرِكٌ، فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ مَا حَكَمُوا بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. [فَصْلٌ بَلَغَ اللَّقِيطُ حَدًّا يَصِحُّ فِيهِ إسْلَامُهُ وَرِدَّتُهُ] (4558) فَصْلٌ: وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ، إنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ ظَاهِرًا لَا يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ كَافِرٍ، فَلَوْ أَقَامَ كَافِرٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، حَكَمْنَا لَهُ بِهِ. وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ حَدًّا يَصِحُّ فِيهِ إسْلَامُهُ وَرِدَّتُهُ، فَوَصَفَ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُسْلِمٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ أَوْ كُفْرِهِ. وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ، وَهُوَ مِمَّنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا، أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقْوَى مِنْ ظَاهِرِ الدَّارِ. وَهَذَا وَجْهٌ مُظْلِمٌ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ وُجِدَ عَرِيًّا عَنْ الْمُعَارِضِ، وَثَبَتَ حُكْمُهُ، وَاسْتَقَرَّ، فَلَمْ يَجُزْ إزَالَةُ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ مُسْلِمٍ. وَقَوْلُهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْحَالِ مَنْ كَانَ أَبُوهُ. وَلَا مَا كَانَ دِينُهُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا بَلَغَ اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمْ. فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ وَصَفَ كُفْرًا، يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ، عُقِدَتْ لَهُ الذِّمَّةُ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْتِزَامِهَا، أَوْ وَصَفَ كُفْرًا لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّقِيطَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 وَثَنِيٍّ حَرْبِيٍّ، فَهُوَ حَاصِلٌ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ عُهْدَةٍ وَلَا عَقْدٍ، فَيَكُونُ لِوَاجِدِهِ، وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيه، أَوْ يَكُونَ ابْنَ ذِمِّيَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا ذِمِّيٌّ، فَلَا يُقَرُّ عَلَى الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ يَكُونَ ابْنَ مُسْلِمٍ أَوْ ابْنَ مُسْلِمَيْنِ، فَيَكُونَ مُسْلِمًا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي أَمَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ، وَلَدَتْ مِنْ فُجُورٍ: وَلَدُهَا مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ أَبَوَيْهِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، وَهَذَا لَيْسَ مَعَهُ إلَّا أُمُّهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَلَدِ حَالٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَرَّ فِيهَا عَلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. [فَصْلٌ جِنَايَة اللَّقِيطُ] (4559) فَصْلٌ: إذَا جَنَى اللَّقِيطُ جِنَايَةً تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَالْعَقْلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُ، وَنَفَقَتَهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَحُكْمُهُ فِيهَا غَيْرُ حُكْمِ اللَّقِيطِ؛ إنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، اُقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ وَلَهُ مَالٌ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ. وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ جِنَايَةً تُوجِبُ الدِّيَةَ، فَهِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُهُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إنْ رَآهُ أَحْظَ لِلْمَلَاقِيطِ، وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّهُ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْمُصَالَحَةِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْأَرْشَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَلِوَلِيِّهِ أَخْذُ الْأَرْشِ. وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، وَلِلَّقِيطِ مَالٌ يَكْفِيه، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى بُلُوغِهِ لِيَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ، سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ مَعْتُوهًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَكَانَ عَاقِلًا، اُنْتُظِرَ بُلُوغُهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مَعْتُوهًا فَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْتُوهَ لَيْسَ لَهُ حَالٌ مَعْلُومَةٌ مُنْتَظَرَةٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدُومُ بِهِ، وَالْعَاقِلُ لَهُ حَالٌ مُنْتَظَرَةٌ، فَافْتَرَقَا. وَفِي الْحَالِ الَّتِي يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ، فَإِنَّ الْجَانِيَ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّقِيطُ، فَيَسْتَوْفِيَ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ لِلْإِمَامِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ فَكَانَ لِلْإِمَامِ اسْتِيفَاؤُهُ عَنْ اللَّقِيطِ، كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. وَلَنَا أَنَّهُ قِصَاصٌ لَمْ يَتَحَتَّمْ اسْتِيفَاؤُهُ، فَوَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَالِغًا غَائِبًا، وَفَارَقَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ هُوَ لَهُ، إنَّمَا هُوَ لِوَارِثِهِ، وَالْإِمَامُ الْمُتَوَلِّي لَهُ. [فَصْلٌ قَذَفَ اللَّقِيطُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا] (4560) فَصْلٌ: وَإِنْ قَذَفَ اللَّقِيطُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا، حُدَّ ثَمَانِينَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ. وَإِنْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ، وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ. فَإِنْ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ، فَصَدَّقَهُ اللَّقِيطُ، سَقَطَ الْحَدُّ؛ لِإِقْرَارِ الْمُسْتَحِقِّ بِسُقُوطِ الْحَدِّ، وَيَجِبُ التَّعْزِيرُ؛ لِقَذْفِهِ مَنْ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ. وَإِنْ كَذَّبَهُ اللَّقِيطُ، وَقَالَ: إنِّي حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِلظَّاهِرِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ حَدَّ الْحُرِّ إذَا كَانَ قَاذِفًا، وَأَوْجَبْنَا لَهُ الْقِصَاصَ، وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ صِحَّةَ مَا قَالَهُ، بِأَنْ يَكُونَ ابْنَ أَمَةٍ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئ بِالشُّبُهَاتِ. وَفَارَقَ الْقِصَاصَ لَهُ إذَا ادَّعَى الْجَانِي عَلَيْهِ أَنَّهُ عَبْدٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِحَدٍّ، وَإِنَّمَا: وَجَبَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، وَلِذَلِكَ جَازَتْ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ، وَأَخْذُ بَدَلِهِ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ. وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّقِيطَ إذَا كَانَ قَاذِفًا، فَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدٌ لِيَجِب عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبْدِ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ مِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِحُرِّيَّتِهِ، لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ بِاحْتِمَالِ رِقِّهِ، بِدَلِيلِ مَجْهُولِ النَّسَبِ، وَلَوْ سَقَطَ الْحَدُّ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، لَسَقَطَ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْقَاذِفُ رِقَّهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ. [مَسْأَلَة يُنْفِقُ عَلَيَّ اللَّقِيط مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ شَيْءٌ يُنْفَقُ عَلَيْهِ] (4561) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ شَيْءٌ يُنْفَقُ عَلَيْهِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ اللَّقِيطَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ شَيْءٌ، لَمْ يُلْزَمْ الْمُلْتَقِطُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمُلْتَقِطِ، كَوُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، مِنْ الْقَرَابَةِ، وَالزَّوْجِيَّةِ، وَالْمِلْكِ، وَالْوَلَاءِ، مُنْتَفِيَةٌ، وَالِالْتِقَاطُ إنَّمَا هُوَ تَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ الْهَلَاكِ، وَتَبَرُّعٌ بِحِفْظِهِ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ النَّفَقَةَ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ اللَّقِيطِ. وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ أَبِي جَمِيلَةَ: اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَك وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ وَارِثُهُ، وَمَالُهُ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، كَقَرَابَتِهِ وَمَوْلَاهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِكَوْنِهِ لَا مَالَ فِيهِ، أَوْ كَانَ فِي مَكَان لَا إمَامَ فِيهِ، أَوْ لَمْ يُعْطَ شَيْئًا، فَعَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ هَلَاكَهُ، وَحِفْظُهُ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ، كَإِنْقَاذِهِ مِنْ الْغَرَقِ. وَهَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، إذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْكُلُّ أَثِمُوا. وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ. وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، لَزِمَ اللَّقِيطَ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ، مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: تُؤَدَّى النَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ إذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَحْلِفُ مَا أَنْفَقَ احْتِسَابًا، فَإِنْ حَلَفَ اُسْتُسْعِيَ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ مُتَبَرِّعٌ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَنْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ، كَالضَّامِنِ إذَا قَضَى عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ شَيْءٌ] (4562) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ شَيْءٌ، فَهُوَ لَهُ، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطِّفْلَ يَمْلِكُ، وَلَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ، وَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ وَلِيُّهُ وَيَبِيعَ، وَمَنْ لَهُ مِلْكٌ صَحِيحٌ فَلَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، كَالْبَالِغِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِمَنْفَعَتِهِ، فَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ، وَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مِلْكًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ لَابِسًا لَهُ، أَوْ مَشْدُودًا فِي مَلْبُوسِهِ، أَوْ فِي يَدَيْهِ، أَوْ مَجْعُولًا فِيهِ، كَالسَّرِيرِ وَالسَّفَطِ، وَمَا فِيهِ مِنْ فَرْشٍ أَوْ دَرَاهِمَ، وَالثِّيَابُ الَّتِي تَحْتَهُ وَاَلَّتِي عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ كَانَتْ مَشْدُودَةً فِي ثِيَابِهِ، أَوْ كَانَ فِي خَيْمَةٍ، أَوْ فِي دَارٍ، فَهِيَ لَهُ. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ، فَلَيْسَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، كَثَوْبٍ مَوْضُوعٍ إلَى جَانِبِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، لَيْسَ هُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ. وَالثَّانِي، هُوَ لَهُ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تُرِكَ لَهُ، فَهُوَ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ تَحْتَهُ، وَلِأَنَّ الْقَرِيبَ مِنْ الْبَالِغِ يَكُونُ فِي يَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقْعُدُ فِي السُّوقِ وَمَتَاعُهُ بِقُرْبِهِ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَالْحَمَّالُ إذَا جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، تَرَكَ حِمْلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ فَأَمَّا الْمَدْفُونُ تَحْتَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ الْحَفْرُ طَرِيًّا، فَهُوَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ طَرِيًّا فَوَاضِعُ اللَّقِيطِ حَفَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيًّا، كَانَ مَدْفُونًا قَبْلَ وَضْعِهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ لَهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَفْرُ طَرِيًّا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إذَا كَانَ الْحَفْرُ طَرِيًّا، كَالْبَعِيدِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ، لَشَدَّهُ وَاضِعُهُ فِي ثِيَابِهِ، لِيُعْلَمَ بِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ فِي مَكَان لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَمَا هُوَ لَهُ أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ كِفَايَتُهُ، لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ ذُو مَالٍ، فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِمُلْتَقِطِهِ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ وَلِيٌّ لَهُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ إذْنُ الْحَاكِمِ، كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، كَتَبْدِيدِ الْخَمْرِ. وَرَوَى أَبُو الْحَارِثِ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا مَالًا، وَغَابَ، وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ، وَلَهُ وَلَدٌ وَلَا نَفَقَةَ لَهُ، هَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ؟ فَقَالَ: تَقُومُ امْرَأَتُهُ إلَى الْحَاكِمِ، حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْإِنْفَاقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا مِثْلُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى اللَّقِيطِ، وَعَلَى مَالِهِ؛ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِهِ وَحِفْظِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ مَالِ أَبِيهِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الصَّبِيِّ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ، لِعَدَمِ مَالِهِ، وَعَدَمِ نَفَقَةٍ تَرَكَهَا أَبُوهُ بِرَسْمِهِ، وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُودَعِ، فَاحْتِيجَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَلَا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ ثَمَّ وُجُوبُهُ فِي اللَّقِيطِ. وَمَتَى لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، فَلَهُ الْإِنْفَاقُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فِي مَوْضِعٍ يَجِدُ حَاكِمًا، وَإِنْ أَنْفَقَ ضَمِنَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ لِأَبِي الصَّغِيرِ وَدَائِعُ عِنْدَ إنْسَانٍ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، فَفِي جَوَازِ الْإِنْفَاقِ وَجْهَانِ؛ وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ ابْتِدَاءً، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالٍ. فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَخْذَهُ وَحِفْظَهُ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَبَيْنَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْحَاكِمَ فِي مَوْضِعٍ يَجِدُ حَاكِمًا؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ، وَأَقْطَعُ لِلظِّنَّةِ، وَفِيهِ خُرُوجٌ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ، وَحِفْظٌ لِمَالِهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ، فَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، وَفِي التَّفْرِيطِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْفِقِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ. [مَسْأَلَة وَلَاء اللَّقِيط] (4563) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَوَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ) يَعْنِي مِيرَاثَهُ لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّقِيطَ حُرُّ الْأَصْلِ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ خُوِّلُوا كُلَّ مَالٍ لَا مَالِك لَهُ، وَلِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَ اللَّقِيطِ، فَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَوَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ". تَجَوُّزٌ فِي اللَّفْظِ، لِاشْتِرَاكِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَهُ الْوَلَاءُ فِي أَخْذِ الْمِيرَاثِ، وَحِيَازَتِهِ كُلِّهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمُلْتَقِطِهِ؛ لِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ؛ عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي جَمِيلَةَ فِي لُقَطَتِهِ: هُوَ حُرٌّ، وَلَك وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا عَلَى آبَائِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، كَالْمَعْرُوفِ نَسَبُهُ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ ابْنَ حُرَّيْنِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ مُعْتَقَيْنِ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِغَيْرِ مُعْتِقِهِمَا. وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ لَا يَثْبُتُ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَخَبَرُ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَبُو جَمِيلَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، لَا تَقُومُ بِحَدِيثِهِ حُجَّةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنَى بِقَوْلِهِ: وَلَك وَلَاؤُهُ. أَيْ لَك وِلَايَتُهُ، وَالْقِيَامُ بِهِ وَحِفْظُهُ. لِذَلِكَ ذَكَرَهُ عَقِيبَ قَوْلِ عَرِيفِهِ: إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَفْوِيضَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مَأْمُونًا عَلَيْهِ دُونَ الْمِيرَاثِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ مِنْ عُرِفَ نَسَبُهُ، وَانْقَرَضَ أَهْلُهُ، يُدْفَعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ. فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ فَلَهَا الرُّبْعُ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ، فَلَهُ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ، أَوْ ذُو رَحِمٍ، كَبِنْتِ بِنْتٍ، أَخَذَتْ جَمِيعَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَذَا الرَّحِمِ مُقَدَّمٌ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة لَمْ يَكُنْ مَنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ أَمِينًا] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ أَمِينًا، مُنِعَ مِنْ السَّفَرِ بِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إنْ كَانَ أَمِينًا أُقِرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقَرَّ اللَّقِيطَ فِي يَدِ أَبِي جَمِيلَةَ، حِينَ قَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ. وَلِأَنَّهُ سَبَقَ إلَيْهِ، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَهَلْ يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ، كَمَا لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ فِي اللُّقَطَةِ وَالثَّانِي يَجِبُ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْإِشْهَادِ حِفْظُ النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَاخْتُصَّ بِوُجُوبِ الشَّهَادَةِ، كَالنِّكَاحِ، وَفَارَقَ اللُّقَطَةَ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا حِفْظُ الْمَالِ، فَلَمْ يَجِبْ الْإِشْهَادُ فِيهَا، كَالْبَيْعِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ، وَيُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ بِهِ، لِئَلَّا يَدَّعِيَ رِقَّهُ وَيَبِيعَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، وَيُضَمَّ إلَيْهِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا إذَا ضَمَمْنَا إلَيْهِ فِي اللُّقَطَةِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ يَدَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حِفْظِ اللَّقِيطِ إلَّا الْوِلَايَةُ، وَلَا وِلَايَةَ لِفَاسِقٍ. وَفَارَقَ اللُّقَطَةَ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ فِي اللُّقَطَةِ مَعْنَى الْكَسْبِ، وَلَيْسَ هَا هُنَا إلَّا الْوِلَايَةُ. وَالثَّانِي أَنَّ اللُّقَطَةَ لَوْ انْتَزَعْنَاهَا مِنْهُ رَدَدْنَاهَا إلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَاحْتَطْنَا عَلَيْهَا مَعَ بَقَائِهَا فِي يَدَيْهِ، وَهَا هُنَا لَا تُرَدُّ إلَيْهِ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ مِنْهُ بِحَالٍ، فَكَانَ الِانْتِزَاعُ أَحْوَطَ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّ حِفْظُ الْمَالِ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِ فِي التَّعْرِيفِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 أَوْ يَنْصِبَ الْحَاكِمُ مَنْ يُعَرِّفُهَا، وَهَا هُنَا الْمَقْصُودُ حِفْظُ الْحُرِّيَّةِ وَالنَّسَبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي رِقَّهُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، أَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، وَلِأَنَّ اللُّقَطَةَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى حِفْظِهَا وَالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهَا عَامًا وَاحِدًا، وَهَذَا يُحْتَاجُ إلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ زَمَانِهِ وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، فَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ بِالْتِقَاطِهِ إيَّاهُ، وَسَبْقِهِ إلَيْهِ، وَأَمْكَنَ حِفْظُ اللَّقِيطِ فِي يَدَيْهِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَضَمِّ أَمِينٍ يُشَارِفُهُ إلَيْهِ، وَيُشِيعُ أَمْرَهُ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ لَقِيطٌ، فَيُحْفَظُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ وِلَايَتِهِ. جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، كَمَا فِي اللُّقَطَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ خَائِنًا. وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْجِيحِ لِلُّقَطَةِ فَيُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِأَنَّ اللَّقِيطَ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ لَا تَخْفَى الْخِيَانَةُ فِيهِ، وَاللُّقَطَةُ مَسْتُورَةٌ خَفِيَّةٌ تَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخِيَانَةُ، وَلَا يُعْلَمُ بِهَا، وَلِأَنَّ اللُّقَطَةَ يُمْكِنُ أَخْذُ بَعْضِهَا وَتَنْقِيصُهَا وَإِبْدَالُهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي اللَّقِيطِ وَلِأَنَّ الْمَالَ مَحَلُّ الْخِيَانَةِ، وَالنُّفُوسُ إلَى تَنَاوُلِهِ وَأَخْذِهِ دَاعِيَةٌ، بِخِلَافِ اللَّقِيطِ. فَعَلَى هَذَا، مَتَى أَرَادَ الْمُلْتَقِطُ السَّفَرَ بِاللَّقِيطِ مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُبْعِدُهُ مِمَّنْ عَرَفَ؛ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدَّعِيَ رِقَّهُ وَيَبِيعَهُ. [فَصْلٌ الْتَقَطَ اللَّقِيطَ مَسْتُورُ الْحَالِ] (4565) فَصْلٌ: وَإِذَا الْتَقَطَ اللَّقِيطَ مَنْ هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ، لَمْ تُعْرَفُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلَا الْخِيَانَةِ، أُقِرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَدْلِ فِي لُقَطَةِ الْمَالِ وَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةِ فِيهِ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. فَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِلُقَطَتِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَمَانَتَهُ، فَلَمْ تُؤْمَنْ الْخِيَانَةُ مِنْهُ وَالثَّانِي يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ مُشْرِفٍ يُضَمُّ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ السَّتْرُ وَالصِّيَانَةُ. فَأَمَّا مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ، وَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ، فَيُقَرُّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ سَفَرُهُ لِغَيْرِ النَّقْلَةِ. [فَصْلٌ سَفَرِ الْأَمِينِ بِاللَّقِيطِ] (4566) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ سَفَرُ الْأَمِينِ بِاللَّقِيطِ إلَى مَكَان يُقِيمُ بِهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْتَقَطَهُ مِنْ الْحَضَرِ، فَأَرَادَ النَّقْلَةَ بِهِ إلَى الْبَادِيَةِ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا، أَنَّ مُقَامَهُ فِي الْحَضَرِ أَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَأَرْفَهُ لَهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ فِي الْحَضَرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُلِدَ فِيهِ، فَبَقَاؤُهُ فِيهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ أَهْلِهِ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ. وَإِنْ أَرَادَ النَّقْلَةَ بِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ مِنْ الْحَضَرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 أَحَدُهُمَا لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي بَلَدِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ الْمُنْتَقِلُ عَنْهُ، قِيَاسًا عَلَى الْمُنْتَقِلِ بِهِ إلَى الْبَادِيَةِ. وَالثَّانِي، يُقَرُّ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ، وَالْبَلَدُ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِي الرَّفَاهِيَةِ، فَيُقَرُّ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْ الْبَلَدِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَفَارَقَ الْمُنْتَقِلَ بِهِ إلَى الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِهِ بِتَفْوِيتِ الرَّفَاهِيَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ الْتَقَطَهُ مِنْ الْبَادِيَةِ فَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْحَضَرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْ أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ إلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ وَالدِّينِ. وَإِنْ أَقَامَ بِهِ فِي حِلَّةٍ يَسْتَوْطِنُهَا، فَلَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ بِهِ فِي الْمَوَاضِعِ، احْتَمَلَ أَنْ يُقَرَّ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ابْنُ بَدَوِيَّيْنِ، وَإِقْرَارُهُ فِي يَدَيْ مُلْتَقِطِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ، فَيُدْفَعَ إلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَهُ لَهُ، وَأَخَفُّ عَلَيْهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يُنْزَعُ مِنْ مُلْتَقِطِهِ. فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ مَنْ يُدْفَعُ إلَيْهِ، مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ بِهِ، أُقِرَّ فِي يَدَيْ مُلْتَقِطِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي يَدَيْهِ مَعَ قُصُورِهِ، أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا مِثْلُ مُلْتَقِطِهِ، فَمُلْتَقِطُهُ أَوْلَى بِهِ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي نَزْعِهِ مِنْ يَدِهِ، وَدَفْعِهِ إلَى مِثْلِهِ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْعَبْدِ الْتِقَاطُ الطِّفْلِ الْمَنْبُوذِ إذَا وُجِدَ مِنْ يَلْتَقِطُهُ سِوَاهُ] (4567) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْتِقَاطُ الطِّفْلِ الْمَنْبُوذِ، إذَا وُجِدَ مَنْ يَلْتَقِطُهُ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِسَيِّدِهِ؛ فَلَا يُذْهِبُهَا فِي غَيْرِ نَفْعِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى اللَّقِيطِ إلَّا الْوِلَايَةُ، وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ. فَإِنْ الْتَقَطَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدَيْهِ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ، أُقِرَّ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ الْتَقَطَهُ بِيَدِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ الْتَقَطَهُ. وَالْحُكْمُ فِي الْأَمَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُكَاتَبِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَلْتَقِطُهُ سِوَاهُ، وَجَبَ الْتِقَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ تَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ الْهَلَاكِ، فَأَشْبَهَ تَخْلِيصَهُ مِنْ الْغَرَقِ وَالْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، كَالْقِنِّ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ، وَلَا بِمَنَافِعِهِ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْكَافِرِ الْتِقَاطُ مُسْلِمٍ] (4568) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْكَافِرِ الْتِقَاطُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهُ وَيُعَلِّمَهُ الْكُفْرَ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَبِّيه عَلَى دِينِهِ، وَيَنْشَأُ عَلَى ذَلِكَ، كَوَلَدِهِ. فَإِنْ الْتَقَطَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ، فَلَهُ الْتِقَاطُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. [فَصْلٌ الْتَقَطَهُ اثْنَانِ وَتَنَاوَلَاهُ تَنَاوُلًا وَاحِدًا] (4569) فَصْلٌ: وَإِنْ الْتَقَطَهُ اثْنَانِ، وَتَنَاوَلَاهُ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ الْعَدْلِ الْحُرِّ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ، كَالْكَافِرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 إذَا كَانَ اللَّقِيطُ مُسْلِمًا، وَالْفَاسِقِ، وَالْعَبْدِ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ، وَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى مَنْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ، وَتَكُونُ مُشَارَكَةُ هَؤُلَاءِ لَهُ كَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ الْتَقَطَهُ وَحْدَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ، فَإِذَا شَارَكَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِقَاطِ أَوْلَى. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِمَّنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُمَا، وَيُسَلَّمُ إلَى غَيْرِهِمَا. الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّنْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ لَوْ انْفَرَدَ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْظُ لِلَّقِيطِ مِنْ الْآخَرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، فَالْمُوسِرُ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْظُ لِلطِّفْلِ، وَإِنْ الْتَقَطَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ طِفْلًا مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ، فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ وِلَايَةً عَلَى الْكَافِرِ، وَيُقَرُّ فِي يَدِهِ إذَا انْفَرَدَ بِالْتِقَاطِهِ، فَسَاوَى الْمُسْلِمَ فِي ذَلِكَ وَلَنَا أَنَّ دَفْعَهُ إلَى الْمُسْلِمِ أَحْظُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا، فَيَسْعَدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَنْجُو مِنْ النَّارِ، وَيَتَخَلَّصُ مِنْ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ، فَالتَّرْجِيحُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْيَسَارِ الَّذِي إنَّمَا يُتَعَلَّقُ بِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُوسِرُ بَخِيلًا، فَلَا تَحْصُلُ التَّوْسِعَةُ. فَإِنْ تَعَارَضَ التَّرْجِيحَانِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ فَقِيرًا وَالْكَافِرُ مُوسِرًا، فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ الْحَاصِلِ بِيَسَارِهِ مَعَ كُفْرِهِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْمُوسِرِ، يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْجَوَادُ عَلَى الْبَخِيلِ؛ لِأَنَّ حَظَّ الطِّفْلِ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ الْحَظُّ فِيهَا بِالْيَسَارِ، وَرُبَّمَا تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ، وَتَعَلَّمَ مِنْ جُودِهِ. الرَّابِعُ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ حُرَّيْنِ مُقِيمَيْنِ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ، فَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْإِيثَارِ بِهِ. وَإِنْ تَشَاحَّا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] . وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ تَهَايَآهُ، فَجُعِلَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، أَضَرَّ بِالطِّفْلِ؛ لِأَنَّهُ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَغْذِيَةُ وَالْأُنْسُ وَالْإِلْفُ. وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا مُتَسَاوٍ، فَتَعْيِينُ أَحَدِهِمَا بِالتَّحَكُّمِ لَا يَجُوزُ، فَتَعَيَّنَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُقْرَعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي تَعْيِينِ السِّهَامِ فِي الْقِسْمَةِ، وَبَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِسْمَةِ، وَبَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الْإِعْتَاقِ. وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ، وَلَا تُرَجَّحُ الْمَرْأَةُ هَا هُنَا، كَمَا تُرَجَّحُ فِي حَضَانَةِ وَلَدِهَا عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا رُجِّحَتْ ثَمَّ لِشَفَقَتِهَا عَلَى وَلَدِهَا، وَتَوَلِّيهَا لِحَضَانَتِهِ بِنَفْسِهَا، وَالْأَبُ يَحْضُنُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، فَكَانَتْ أُمُّهُ أَحْظَ لَهُ وَأَرْفَقَ بِهِ، أَمَّا هَا هُنَا، فَإِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ اللَّقِيطِ، وَالرَّجُلُ يَحْضُنُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَاسْتَوَيَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَسْتُورَ الْحَالِ، وَالْآخَرُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ، احْتَمَلَ أَنْ يُرَجَّحَ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 الِالْتِقَاطِ مُنْتَفٍ فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَالْأَمْرُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَيَكُونُ الْحَظُّ لِلطِّفْلِ فِي تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أَتَمَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَسَاوَيَا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ وُجُودِ الْمَانِعِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ، فَلَا يُؤَثِّرُ التَّرْجِيحُ. [فَصْلٌ رَأَيَا اللَّقِيط جَمِيعًا فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَهُ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ] (4570) فَصْلٌ: وَإِنْ رَأَيَاهُ جَمِيعًا، فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَهُ، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَإِنْ رَآهُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، فَسَبَقَ إلَى أَخْذِهِ الْآخَرُ، فَالسَّابِقُ إلَى أَخْذِهِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ هُوَ الْأَخْذُ لَا الرُّؤْيَةَ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: نَاوِلْنِيهِ. فَأَخَذَهُ الْآخَرُ، نَظَرْنَا إلَى نِيَّتِهِ، فَإِنْ نَوَى أَخْذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ أَحَقُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْآخَرُ بِمُنَاوَلَتِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ نَوَى مُنَاوَلَتَهُ فَهُوَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِنِيَّةِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَكَّلَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ مُبَاحٍ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا الْتَقَطْته] (4571) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا الْتَقَطْته. وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا، وَكَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ الْتَقَطَهُ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ، كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ وَسُلِّمَ إلَيْهِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: لَا تُشْرَعُ الْيَمِينُ هَا هُنَا، وَيُسَلَّمُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْقُرْعَةِ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُسَلِّمُهُ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ يَرَى مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَنَازَعَا حَقًّا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَنَازَعَا وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِمَا. فَإِنْ وَصَفَهُ أَحَدُهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: فِي ظَهْرِهِ شَامَةٌ، أَوْ بِجَسَدِهِ عَلَامَةٌ. وَذَكَرَ شَيْئًا فِي جَسَدِهِ مَسْتُورًا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُقَدَّمُ بِالصِّفَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقَدَّمُ بِالصِّفَةِ، كَمَا لَوْ وَصَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ لَا تُقَدَّمُ بِهِ دَعْوَاهُ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ اللُّقَطَةِ، فَقُدِّمَ بِوَصْفِهَا، كَلُقَطَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَدِهِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا بِهَا. وَقِيَاسُ اللَّقِيطِ عَلَى اللُّقَطَةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللَّقِيطَ لُقَطَةٌ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ بِهَا. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ إنَّمَا أَخَذَ مِمَّنْ قَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ اسْتَوَى تَارِيخُهُمَا، أَوْ أُطْلِقَتَا مَعًا، أَوْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى، فَقَدْ تَعَارَضَتَا. وَهَلْ يَسْقُطَانِ أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَسْقُطَانِ، فَيَصِيرَانِ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَالثَّانِي، يُسْتَعْمَلَانِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ كَانَ أَوْلَى. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَهَلْ تُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ عَلَى بَيِّنَةِ الْآخَرِ، أَوْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي دَعْوَى الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ مِمَّنْ لَا تُقَرُّ يَدُهُ عَلَى اللَّقِيطِ، أُقِرَّ فِي يَدِ الْآخَرِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَى مِنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ بِحَالٍ. [مَسْأَلَة ادَّعَى نَسُبّ اللَّقِيط مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ] (4572) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ، أُرِيَ الْقَافَةَ، فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ لَحِقَ) يَعْنِي إذَا اُدُّعِيَ نَسَبُهُ، فَلَا تَخْلُو دَعْوَى نَسَبِ اللَّقِيطِ مِنْ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَاحِدٌ يَنْفَرِدُ بِدَعْوَاهُ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا، لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مُلْتَقِطَهُ، أُقِرَّ فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَبُوهُ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِوَلَدِهِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لَهُ عَبْدًا، لَحِقَ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لِمَائِهِ حُرْمَةً، فَلَحِقَ بِهِ نَسَبُهُ كَالْحُرِّ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهُ حَضَانَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا، لَحِقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ الْفِرَاشِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَالْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَجْهُولِ النَّسَبِ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي إقْرَارِهِ إضْرَارٌ بِغَيْرِهِ، فَيَثْبُتُ إقْرَارُهُ، كَالْمُسْلِمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ مِنْ النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي حَضَانَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَتْبَعُهُ فِي دِينِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَحِقَهُ فِي نَسَبِهِ يَلْحَقُ بِهِ فِي دِينِهِ، كَالْبَيِّنَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الذِّمِّيِّ فِي كُفْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، فَلَمْ تُقْبَلْ بِمُجَرَّدِهَا، كَدَعْوَى رِقِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَبِعَهُ فِي دِينِهِ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِنَسَبِهِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 لِأَنَّهُ يَكُونُ إضْرَارًا بِهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ، كَدَعْوَى الرِّقِّ. أَمَّا مُجَرَّدُ النَّسَبِ بِدُونِ اتِّبَاعِهِ فِي الدِّينِ، فَمَصْلَحَةٌ عَارِيَّةٌ عَنْ الضَّرَرِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ قَبُولُهُ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ الضَّرَرِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً، فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَرُوِيَ أَنَّ دَعْوَاهَا تُقْبَلُ، وَيَلْحَقُهَا نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا، كَالْأَبِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ الرَّجُلِ، بَلْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِهِ مِنْ زَوْجٍ، وَوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، وَيَلْحَقُهَا وَلَدُهَا مِنْ الزِّنَى دُونَ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، حِينَ تَحَاكَمَ إلَيْهِمَا امْرَأَتَانِ كَانَ لَهُمَا ابْنَانِ، فَذَهَبَ الذِّئْبُ بِأَحَدِهِمَا، فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْبَاقِيَ ابْنُهَا، وَأَنَّ الَّذِي أَخَذَهُ الذِّئْبُ ابْنُ الْأُخْرَى، فَحَكَمَ بِهِ دَاوُد لِلْكُبْرَى، وَحَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ لِلْأُخْرَى، بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَلْحَقُ بِهَا دُونَ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ نَسَبُ وَلَدٍ لَمْ يُقِرَّ بِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الرَّجُلُ نَسَبَهُ، لَمْ يَلْحَقْ بِزَوْجَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّجُلُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى، أَوْ مِنْ أَمَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا يَحِلُّ لَهَا نِكَاحُ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِغَيْرِهِ. قُلْنَا: يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا هَذَا الزَّوْجُ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا قُبِلَ الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، بِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الصَّبِيِّ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ النِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ وَلَدَ زِنًا، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِإِلْحَاقِ نَسَبِهِ بِالْمَرْأَةِ، بَلْ إلْحَاقُهُ بِهَا دُونَ زَوْجِهَا تَطَرُّقٌ لِلْعَارِ إلَيْهِ وَإِلَيْهَا. قُلْنَا: بَلْ قَبِلْنَا دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقًّا لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى أَحَدٍ فِيهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَدَعْوَى الْمَالِ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا، لِإِفْضَائِهِ إلَى إلْحَاقِ النَّسَبِ بِزَوْجِهَا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ وَلَا رِضَاهُ، أَوْ إلَى أَنَّ امْرَأَتَهُ وُطِئَتْ بِزِنًا أَوْ شُبْهَةٍ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيمَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، قُبِلَتْ دَعْوَاهَا لِعَدَمِ هَذَا الضَّرَرِ. وَهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، نَقَلَهَا الْكَوْسَجُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا: إنْ كَانَ لَهَا إخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ، لَمْ يُحَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَنَسَبٌ مَعْرُوفٌ، لَمْ تُخْفِ وِلَادَتَهَا عَلَيْهِمْ، وَيَتَضَرَّرُونَ بِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِوِلَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا بِحَالٍ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِمُجَرَّدِهِ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ زَوْجُهَا طَلَاقَهَا بِوِلَادَتِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَبَ، وَإِمْكَانُ الْبَيِّنَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْقَوْلِ، كَالرَّجُلِ، فَإِنَّهُ تُمْكِنُهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَمَةً، فَهِيَ كَالْحُرَّةِ، إلَّا أَنَّنَا إذَا قَبِلْنَا دَعْوَاهَا فِي نَسَبِهِ، لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهَا فِي رِقِّهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَقْبَلُ الدَّعْوَى فِيمَا يَضُرُّهُ، كَمَا لَمْ نَقْبَلْ الدَّعْوَى فِي كُفْرِهِ إذَا ادَّعَى نَسَبَهُ كَافِرٌ. (4573) الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبَهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ، أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ عَلَى اللَّقِيطِ ضَرَرًا فِي إلْحَاقِهِ بِالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ أَوْلَى، كَمَا لَوْ تَنَازَعُوا فِي الْحَضَانَةِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا انْفَرَدَ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، فَإِذَا تَنَازَعُوا، تَسَاوَوْا فِي الدَّعْوَى، كَالْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّنَا لَا نَحْكُمُ بِرِقِّهِ وَلَا كُفْرِهِ. وَلَا يُشْبِهُ النَّسَبُ الْحَضَانَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّنَا نُقَدِّمُ فِي الْحَضَانَةِ الْمُوسِرَ وَالْحَضَرِيَّ، وَلَا نُقَدِّمُهُمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إذَا كَانَ عَبْدٌ، امْرَأَتُهُ أَمَةٌ، فِي أَيْدِيهِمَا صَبِيٌّ، فَادَّعَى رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ امْرَأَتُهُ عَرَبِيَّةٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُقْضَى بِهِ لِلْعَرَبِيِّ، لِلْعِتْقِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي مِنْ الْمَوَالِي عَبْدَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ بِهِمْ سَوَاءٌ. [فَصْلٌ ادَّعَى نَسُبّ اللَّقِيط اثْنَانِ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ] (4574) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ، فَهُوَ ابْنُهُ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا، وَسَقَطَتَا، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا هَا هُنَا؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا فِي الْمَالِ إمَّا بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ هَا هُنَا، وَإِمَّا بِالْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا، وَالْقُرْعَةُ لَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ ثُبُوتَهُ هَا هُنَا يَكُونُ بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْقُرْعَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ مُرَجَّحَةٌ. قُلْنَا: فَيَلْزَمُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ لُحُوقُهُ بِالْوَطْءِ لَا بِالْقُرْعَةِ. [فَصْلُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِنَسَبِ اللَّقِيط بَيِّنَةٌ أَوْ تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا] (4575) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ، وَسَقَطَتَا، فَإِنَّا نُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَهُمَا، أَوْ مَعَ عَصَبَتِهِمَا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، فَنُلْحِقُهُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا. هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ، وَعَطَاءٍ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حُكْمَ لِلْقَافَةِ، وَيُلْحَقُ بِالْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ تَعْوِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، فَإِنَّ الشَّبَهَ يُوجَدُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَيَنْتَفِي بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ . قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ. قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ كَافِيًا لَاكْتُفِيَ بِهِ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَفِيمَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ: «اُنْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، جُمَالِيًّا، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ. فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . فَقَدْ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَشْبَهَهُ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ إلَّا الْأَيْمَانُ، فَإِذَا انْتَفَى الْمَانِعُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لِوُجُودِ مُقْتَضِيه. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، حِينَ رَأَى بِهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» . فَعَمِلَ بِالشَّبَهِ فِي حَجْبِ سَوْدَةَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، إذْ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّبَهِ فِيهِمَا، بَلْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزَمْعَةَ، «وَقَالَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . وَلَمْ يَعْمَلْ بِشَبَهِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، لِشَبَهِهِ بِالْمَقْذُوفِ. قُلْنَا: إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمَعَةَ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ أَقْوَى، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، لَا يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ أَيْمَانِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 عَلَى أَنَّ ضَعْفَ الشَّبَهِ عَنْ إقَامَةِ الْحَدِّ لَا يُوجِبُ ضَعْفَهُ عَنْ إلْحَاقِ النَّسَبِ، فَإِنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَقْوَى الْبَيِّنَاتِ، وَأَكْثَرِهَا عَدَدًا، وَأَقْوَى الْإِقْرَارِ، حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِ تَكْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَيَثْبُتُ مَعَ ظُهُورِ انْتِفَائِهِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ بِوَلَدٍ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ عَنْهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، لَحِقَهُ وَلَدُهَا، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى نَفْيِهِ بِعَدَمِ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ بِظَنٍّ غَالِبٍ، وَرَأْيٍ رَاجِحٍ، مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَجَازَ، كَقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّبَهَ يَجُوزُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ. قُلْنَا: الظَّاهِرُ وُجُودُهُ، وَلِهَذَا «قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟» . وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الرَّجُلِ وَلَدَهُ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى نَفْيِهِ لِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ خِلَافُهُ، وَأَنَّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ إنْكَارَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُوجَدُ نَادِرًا، وَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ لِوُجُودِ الْفِرَاشِ، وَتَجُوزُ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ لِدَلِيلٍ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ ضَعْفَ الشَّبَهِ عَنْ نَفْيِ النَّسَبِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ضَعْفُهُ عَنْ إثْبَاتِهِ، فَإِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ، وَيَثْبُتُ بِأَدْنَى دَلِيلٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّشْدِيدُ فِي نَفْيِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِأَقْوَى الْأَدِلَّةِ، كَمَا أَنَّ الْحَدَّ لَمَّا انْتَفَى بِالشَّبَهِ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِأَقْوَى دَلِيلٍ، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ نَفْيِهِ بِالشَّبَهِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ النَّسَبُ فِي مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَاهُنَا إنْ عَمِلْتُمْ بِالْقَافَةِ فَقَدْ نَفَيْتُمْ النَّسَبَ عَمَّنْ لَمْ تُلْحِقْهُ الْقَافَةُ بِهِ. قُلْنَا: إنَّمَا انْتَفَى النَّسَبُ هَا هُنَا لِعَدَمِ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، وَقَدْ عَارَضَهَا مِثْلُهَا، فَسَقَطَ حُكْمُهَا، وَكَانَ الشَّبَهُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِهِمَا، فَانْتَفَتْ دَلَالَةٌ أُخْرَى، فَلَزِمَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ، وَتَقْدِيمُ اللِّعَانِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ، كَالْيَدِ تُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ، وَيُعْمَلُ بِهَا. [فَصْلٌ الْقَافَةُ] (4576) فَصْلٌ: وَالْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الْإِنْسَانَ بِالشَّبَهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْإِصَابَةُ، فَهُوَ قَائِفٌ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ رَهْطِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِي الَّذِي رَأَى أُسَامَةَ وَأَبَاهُ زَيْدًا قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: " إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ". وَكَانَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيّ قَائِفًا، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي شُرَيْحٍ. وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، عَدْلًا، مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ، حُرًّا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُكْمٌ، وَالْحَكَمُ تُعْتَبَرُ لَهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ. قَالَ الْقَاضِي: وَتُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَائِفِ بِالتَّجْرِبَةِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الصَّبِيُّ مَعَ عَشَرَةٍ مِنْ الرِّجَالِ غَيْرِ مَنْ يَدَّعِيه، وَيُرَى إيَّاهُمْ، فَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّا نَتَبَيَّنُ خَطَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَرَيْنَاهُ إيَّاهُ مَعَ عِشْرِينَ فِيهِمْ مُدَّعِيه، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ بِأَنْ يَرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مَعَ قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِقَرِيبِهِ، عُلِمَتْ إصَابَتُهُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ، جَازَ. وَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِنْدَ عَرْضِهِ عَلَى الْقَائِفِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي مَعْرِفَةِ إصَابَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تُجَرِّبْهُ فِي الْحَالِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْإِصَابَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ فِي مَرَّاتٍ كَبِيرَةٍ، جَازَ. وَقَدْ رَوَيْنَا أَنْ رَجُلًا شَرِيفًا شَكَّ فِي وَلَدٍ لَهُ مِنْ جَارِيَتِهِ، وَأَبَى أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ، فَمَرَّ بِهِ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي الْمَكْتَبِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: اُدْعُ لِي أَبَاك. فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: وَمَنْ أَبُو هَذَا؟ قَالَ: فُلَانٌ. قَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّهُ أَبُوهُ؟ قَالَ: هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ. فَقَامَ الْمُعَلِّمُ مَسْرُورًا إلَى أَبِيهِ، فَأَعْلَمَهُ بُقُولِ إيَاسٍ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ وَسَأَلَ إيَاسًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا وَلَدِي؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهَلْ يَخْفَى وَلَدُك عَلَى أَحَدٍ، إنَّهُ لَأَشْبَهُ بِك مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ. فَسُرَّ الرَّجُلُ، وَاسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ. وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ، أَوْ لَا يُقْبَلُ إلَّا قَوْلُ اثْنَيْنِ؟ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا قَوْلُ اثْنَيْنِ، فَإِنَّ الْأَثْرَمَ رَوَى عَنْهُ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إذَا قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا. وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ وَاحِدٌ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، فَيَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ. فَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْقَافَةِ أَنَّهُ لِهَذَا، فَهُوَ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ، وَيُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ قَوْلُ وَاحِدٍ. وَحُمِلَ كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى مَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلُ الْقَائِفِينَ، فَقَالَ: إذَا خَالَفَ الْقَائِفُ غَيْرَهُ، تَعَارَضَا وَسَقَطَا. وَإِنْ قَالَ اثْنَانِ قَوْلًا، وَخَالَفَهُمَا وَاحِدٌ، فَقَوْلُهُمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ، فَقَوْلُهُمَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ وَاحِدٍ. وَإِنْ عَارَضَ قَوْلُ اثْنَيْنِ قَوْلَ اثْنَيْنِ، سَقَطَ قَوْلُ الْجَمِيعِ. وَإِنْ عَارَضَ قَوْلُ الِاثْنَيْنِ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ، لَمْ يُرَجَّحْ، وَسَقَطَ الْجَمِيعُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالْأُخْرَى ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ. فَأَمَّا إنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِوَاحِدٍ، ثُمَّ جَاءَتْ قَافَةٌ أُخْرَى فَأَلْحَقَتْهُ بِآخَرَ، كَانَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَائِفَ جَرَى مَجْرَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَمَتَى حَكَمَ الْحَاكِمُ حُكْمًا لَمْ يَنْتَقِضْ بِمُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَلْحَقَتْهُ بِوَاحِدٍ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَلْحَقَتْهُ بِغَيْرِهِ؛ لِذَلِكَ. فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ. حُكِمَ لَهُ بِهِ، وَسَقَطَ قَوْلُ الْقَائِفِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ، فَيَسْقُطُ بِوُجُودِ الْأَصْلِ، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ. [فَصْلٌ الْحَاقّ الْقَافَة اللَّقِيط بِكَافِرِ أَوْ رَقِيقٍ] (4577) فَصْلٌ: وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِكَافِرٍ أَوْ رَقِيقٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ وَلَا رِقِّهِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ ثَبَتَا لَهُ بِظَاهِرِ الدَّارِ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ، كَمَا لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْمُنْفَرِدِ. وَإِنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْقَائِفِ فِي النَّسَبِ، لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِهِ، وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ، وَلِهَذَا اكْتَفَيْنَا فِيهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْمُنْفَرِدِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ رِقِّهِ وَكُفْرِهِ، وَإِثْبَاتُهُمَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ إنْسَانٌ، فَأُلْحِقَ نَسَبُهُ بِهِ، لِانْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَادَّعَاهُ، لَمْ يَزُلْ نَسَبُهُ عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِهِ، فَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ الْقَافَةُ، لَحِقَ بِهِ، وَانْقَطَعَ عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي إلْحَاقِ النَّسَبِ، وَيَزُولُ بِهَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، كَالشَّهَادَةِ. [فَصْلٌ ادَّعَى نَسُبّ اللَّقِيط اثْنَانِ فَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا] (4578) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ، فَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، لَحِقَ بِهِمَا، وَكَانَ ابْنَهُمَا، يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ، وَيَرِثَانِهِ جَمِيعًا مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَالِدٍ، فَإِذَا أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا سَقَطَ قَوْلُهُمَا، وَلَمْ يُحْكَمْ لَهُمَا. وَاحْتَجَّ بِرِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْقَافَةَ قَالَتْ: قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْت. وَلِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَإِذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، تَبَيَّنَّا كَذِبَهُمَا، فَسَقَطَ قَوْلُهُمَا، كَمَا لَوْ أَلْحَقَتْهُ بِأُمَّيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَقَامَ بَيِّنَةً، سَقَطَتَا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا، لَثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَأُلْحِقَ بِهِمَا عِنْدَ تَعَارُضِ بَيِّنَتِهِمَا. وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ": ثنا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُمَرَ، فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا. فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: وَعَلِيٌّ يَقُولُ: هُوَ ابْنُهُمَا، وَهُمَا أَبَوَاهُ، يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ. وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثُ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ، جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا، وَقَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ، جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ، فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوهُ، فَقَالُوا: نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا. فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا، وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ. قَالَ سَعِيدٌ: عَصَبَتُهُ الْبَاقِي مِنْهُمَا. وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ عُمَرَ لَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَإِنْ صَحَّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَرَكَ قَوْلَ الْقَافَةِ لَأَمْرٍ آخَرَ، إمَّا لِعَدَمِ ثِقَتِهِمَا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِمَا وَاخْتِلَافِهِمَا مَا يُوجِبُ تَرَكَهُ، فَلَا يَنْحَصِرُ الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِمَا فِي أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، وَرِثَهُمَا وَوَرِثَاهُ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَنَسَبُهُ مِنْ الْأَوَّلِ قَائِمٌ، لَا يُزِيلُهُ شَيْءٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " هُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ يَرِثُهُ مِيرَاثَ أَبٍ كَامِلٍ، كَمَا أَنَّ الْجَدَّةَ إذَا انْفَرَدَتْ أَخَذَتْ مَا يَأْخُذُهُ الْجَدَّاتُ، وَالزَّوْجَةُ تَأْخُذُ وَحْدَهَا مَا يَأْخُذُهُ جَمِيعُ الزَّوْجَاتِ. [فَصْلٌ ادَّعَى نَسُبّ اللَّقِيط أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَلْحَقَتْهُ بِهِمْ الْقَافَةُ] (4579) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ، فَأَلْحَقَتْهُ بِهِمْ الْقَافَةُ، فَنَصَّ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، أَنَّهُ يُلْحَقُ بِثَلَاثَةٍ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يُلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ وَإِنْ كَثُرُوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّا صِرْنَا إلَى ذَلِكَ لِلْأَثَرِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. وَلَنَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَحِقَ بِاثْنَيْنِ، مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُلْحَقَ مِنْ اثْنَيْنِ، جَازَ أَنْ يُلْحَقَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ إلْحَاقَهُ بِالِاثْنَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِي غَيْرِهِ، فَيَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهِ، كَمَا أَنَّ إبَاحَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ أُبِيحَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُقَاسَ عَلَى ذَلِكَ مَالُ غَيْرِهِ، وَالصَّيْدُ الْحَرَمِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، لِوُجُودِ الْمَعْنَى، وَهُوَ إبْقَاءُ النَّفْسِ، وَتَخْلِيصُهَا مِنْ الْهَلَاكِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِثَلَاثَةِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، فَتَحَكُّمٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَا عَدَّى الْحُكْمَ إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى، وَلَا نَعْلَمُ فِي الثَّلَاثَةِ مَعْنًى خَاصًّا يَقْتَضِي إلْحَاقَ النَّسَبِ بِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ. [فَصْلٌ لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ أَوْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا أَوْ وُجِدَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ فِي نَسَبِ اللَّقِيطِ] (4580) فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ، أَوْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا، أَوْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهَا، أَوْ وُجِدَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ، لَمْ يُرَجَّحْ أَحَدُهُمَا بِذِكْرِ عَلَامَةٍ فِي جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُرَجَّحُ بِهِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، سِوَى الِالْتِقَاطِ فِي الْمَالِ وَاللَّقِيطِ، وَيَضِيعُ نَسَبُهُ. هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رَجُلَيْنِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، إلَى أَنَّ الِابْنَ يُخَيَّرُ أَيَّهُمَا أَحَبَّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، قَالَ: يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَنْتَسِبُ إلَى مَنْ أَحَبَّ مِنْهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: حَتَّى يُمَيِّزَ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ: وَالِ أَيَّهمَا شِئْت. وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمِيلُ بِطَبْعِهِ إلَى قَرِيبِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ نَسَبُهُ، أَقَرَّ بِهِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُلْحَقُ بِالْمُدَّعِيَيْنِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَجَبَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ. وَلَنَا أَنَّ دَعْوَاهُمَا تَعَارَضَتَا، وَلَا حُجَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمْ تَثْبُتْ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا رِقَّهُ. وَقَوْلُهُمْ: يَمِيلُ بِطَبْعِهِ إلَى قَرَابَتِهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَمِيلُ إلَى قَرَابَتِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهَا قَرَابَتُهُ، فَالْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ سَبَبُ الْمَيْلِ، وَلَا سَبَبَ قَبْلَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى قَرَابَتِهِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَمِيلُ إلَى مَنْ أَحْسَنِ إلَيْهِ، فَإِنْ الْقُلُوبَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنِ إلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهَا، وَقَدْ يَمِيلُ إلَيْهِ لِإِسَاءَةِ الْآخَرِ إلَيْهِ، وَقَدْ يَمِيلُ إلَى أَحْسَنِهِمَا خُلُقًا أَوْ أَعْظَمِهِمَا قَدْرًا أَوْ جَاهًا أَوْ مَالًا، فَلَا يَبْقَى لِلْمَيْلِ أَثَرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى النَّسَبِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ صَدَّقَ الْمُقِرَّ بِنَسَبِهِ. قُلْنَا: لَا يَحِلُّ لَهُ تَصْدِيقُهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيه. وَهَذَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبُوهُ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا بِتَصْدِيقِهِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا انْفَرَدَ، فَإِنَّ الْمُنْفَرِدَ يَثْبُتُ النَّسَبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: وَالِ مِنْ شِئْت. فَلَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمُوَلَّاةِ، لَا بِالِانْتِسَابِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَهُ الِانْتِسَابَ إلَى أَحَدِهِمَا، لَوْ انْتَسَبَ إلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ عَادَ وَانْتَسَبَ إلَى الْآخَرِ، وَنَفَى نَسَبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، أَوْ لَمْ يَنْتَسِبْ إلَى وَاحِدٍ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى مُنْفَرِدٌ نَسَبَهُ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، وَيُفَارِقُ الصَّبِيَّ الَّذِي يُخَيَّرُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَيَخْتَارُ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ يَرُدُّ الْآخَرَ، إذَا اخْتَارَهُ، فَإِنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِ الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا تَبِعَ اخْتِيَارَهُ وَشَهْوَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَهَى طَعَامًا فِي يَوْمٍ، ثُمَّ اشْتَهَى غَيْرَهُ فِي يَوْمٍ آخَر. وَإِنْ قَامَتْ لِلْآخَرِ بِنَسَبِهِ بَيِّنَةٌ، عُمِلَ بِهَا، وَبَطَلَ انْتِسَابُهُ؛ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ الْقَافَةِ، الَّذِي هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِانْتِسَابِ، فَلَأَنْ تُبْطِلَ الِانْتِسَابَ أَوْلَى. وَإِنْ وُجِدَتْ قَافَةٌ بَعْدَ انْتِسَابِهِ، فَأَلْحَقَتْهُ بِغَيْرِ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ، بَطَلَ انْتِسَابُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى، فَبَطَلَ بِهِ الِانْتِسَابُ كَالْبَيِّنَةِ مَعَ قَوْلِ الْقَافَةِ. [فَصْلٌ ادَّعَتْ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ لَقِيطًا] (4581) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبُولِ دَعْوَاهُمَا، فَإِنْ كَانَتَا مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُمَا. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مِمَّنْ تُسْمَعُ دَعْوَاهَا دُونَ الْأُخْرَى، فَهُوَ ابْنُهَا، كَالْمُنْفَرِدَةِ بِهِ. وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مِمَّنْ تُسْمَعُ دَعْوَتُهُمَا، فَهُمَا فِي إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ كَوْنِهِ يَرَى الْقَافَةَ مَعَ عَدَمِهَا كَالرَّجُلَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فِي يَهُودِيَّةٍ وَمُسْلِمَةٍ وَلَدَتَا، فَادَّعَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ، فَتَوَقَّفَ، فَقِيلَ: يُرَى الْقَافَة؟ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَهُ. وَلِأَنَّ الشَّبَه يُوجَدُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهَا، كَوُجُودِهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَابْنِهِ، بَلْ أَكْثَرَ، لِاخْتِصَاصِهَا بِحَمْلِهِ وَتَغْذِيَتِهِ، وَالْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ، وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، فِي الدَّعْوَى وَاحِدَةٌ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّجُلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ بِقَبُولِ دَعْوَاهَا. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأُمَّيْنِ، لَمْ يُلْحَقْ بِهِمَا، وَبَطَلَ قَوْلُ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ خَطَأَهُ يَقِينًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَجَازَ أَنْ يُلْحَقَ بِاثْنَيْنِ، كَالْآبَاءِ. وَلَنَا أَنْ كَوْنَهُ مِنْهُمَا مُحَالٌ يَقِينًا. فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُمَا أَوْ مِثْلَهُمَا، وَفَارَقَ الرَّجُلَيْنِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ النُّطْفَتَيْنِ لِرَجُلَيْنِ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخْلَقَ مِنْهُمَا وَلَدٌ، كَمَا يُخْلَقُ مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْقَائِفُ لِعُمَرَ: قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِمَنْ يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مِنْهُ، إلْحَاقُهُ بِمَنْ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ مِنْهُ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إلْحَاقِهِ بِمَنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ إلْحَاقُهُ بِأَصْغَرَ مِنْهُ. [فَصْلٌ ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيط رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ] فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى نَسَبَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَيُلْحَقَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَيَكُونَ ابْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمَا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَى. وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ: هَذَا ابْنِي مِنْ زَوْجَتِي. وَادَّعَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ، وَادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى، فَهُوَ ابْنُ الرَّجُلِ، وَهَلْ تُرَجَّحُ زَوْجَتُهُ عَلَى الْأُخْرَى؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تُرَجَّحُ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا أَبُوهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أُمُّهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَسَاوَيَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَتْ، لَأُلْحِقَ بِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا تَسَاوَتَا. [فَصْل وَلَدَتْ امْرَأَتَانِ ابْنًا وَبِنْتًا فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ الِابْنَ وَلَدُهَا دُونَ الْبِنْتِ] (4583) فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَتَانِ ابْنًا وَبِنْتًا، فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ الِابْنَ وَلَدُهَا دُونَ الْبِنْتِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَرَى الْمَرْأَتَيْنِ الْقَافَةُ مَعَ الْوَلَدَيْنِ، فَيُلْحَقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ آخَرُ. وَالثَّانِي أَنْ نَعْرِضَ لِبَنِيهِمَا عَلَى أَهْلِ الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ لَبَنَ الذَّكَرِ يُخَالِفُ لَبَنَ الْأُنْثَى فِي طَبْعِهِ وَزِنَتِهِ، وَقَدْ قِيلَ: لَبَنُ الِابْنِ ثَقِيلٌ، وَلَبَنُ الْبِنْتِ خَفِيفٌ، فَيُعْتَبَرَانِ بِطَابَعِهِمَا وَوَزْنِهِمَا، وَمَا يَخْتَلِفَانِ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، فَمَنْ كَانَ لَبَنُهَا لَبَنَ الِابْنِ، فَهُوَ وَلَدُهَا، وَالْبِنْتُ لِلْأُخْرَى. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَافَةٌ، اعْتَبَرْنَا اللَّبَنَ خَاصَّةً. وَإِنْ تَنَازَعَا أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ، وَهُمَا جَمِيعًا ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ، عُرِضُوا عَلَى الْقَافَةِ. كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ ابْنَتِي] (4584) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنِي. وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ ابْنَتِي. نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ ابْنًا فَهُوَ لِمُدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا فَهِيَ لِمُدَّعِيهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ. وَإِنْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا، أُرِيَ الْقَافَةَ مَعَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَى؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْكَاذِبِ مِنْهُمَا كَاذِبَةٌ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَالْأُخْرَى صَادِقَةٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ بِهَا. [فَصْلٌ وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَطْئًا يَلْحَقُ النَّسَبُ بِمِثْلِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدِ] (4585) فَصْلٌ: وَإِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَطْئًا يَلْحَقُ النَّسَبُ بِمِثْلِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، مِثْلَ أَنْ يَطَآ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فِي طُهْرٍ، أَوْ يَطَأَ رَجُلٌ امْرَأَةَ آخَرَ أَوْ أَمَتَهُ بِشُبْهَةٍ، فِي الطُّهْرِ الَّذِي وَطِئَهَا زَوْجُهَا أَوْ سَيِّدُهَا فِيهِ، بِأَنْ يَجِدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَظُنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، أَوْ يَدْعُوَ زَوْجَتَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَتُجِيبَهُ زَوْجَةُ آخَرَ أَوْ جَارِيَتُهُ، أَوْ يَتَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجًا فَاسِدًا، أَوْ يَكُونَ نِكَاحُ أَحَدِهِمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ فَاسِدًا، مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَيَنْكِحَهَا آخَرُ فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا، أَوْ يَبِيعَ جَارِيَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 فَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُرَى الْقَافَةَ مَعَهُمَا، فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ لَحِقَ. وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي اللَّقِيطِ. [فَصْلٌ ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ مُدَّعٍ] (4586) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ مُدَّعٍ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ الدَّارِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَيُفَارِقُ دَعْوَى النَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ لَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَدَعْوَى الرِّقِّ مُخَالِفَةٌ لَهُ. وَالثَّانِي، أَنْ دَعْوَى النَّسَبِ نُثْبِتُ بِهَا حَقًّا لِلَّقِيطِ، وَدَعْوَى الرِّقِّ تُثْبِتُ حَقًّا عَلَيْهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بِمُجَرَّدِهَا، كَمَا لَوْ ادَّعَى رِقَّ غَيْرِ اللَّقِيطِ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، سَقَطَتْ الدَّعْوَى. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، لَمْ تَخْلُ إمَّا أَنْ تَشْهَدَ بِالْيَدِ أَوْ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْيَدِ، لَمْ تُقْبَلْ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ، قُبِلَ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْيَدِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُلْتَقِطِ، لَمْ يَثْبُتْ بِهَا مِلْكٌ؛ لِأَنَّنَا عَرَفْنَا سَبَبَ يَدِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ، حُكِمَ لَهُ بِالْيَدِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْمِلْكِ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ، فَقَالَتْ: نَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مَمْلُوكُهُ. حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ سَبَبَ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بِمِلْكِ دَارٍ أَوْ ثَوْبٍ. فَإِنْ شَهِدَتْ بِأَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ، حُكِمَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ لَا تَلِدُ فِي مِلْكِهِ إلَّا مُلْكَهُ. وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ ابْنُ أَمَتِهِ، أَوْ أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ، وَلَمْ تَقُلْ: فِي مِلْكِهِ. احْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهَا فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ مِلْكُهُ، فَنَمَاؤُهَا مِلْكُهُ، كَسِمَنِهَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهَا، فَلَا تَكُونُ لَهُ وَهُوَ ابْنُ أَمَتِهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ بَعْدَ بُلُوغِهِ] (4587) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُدَّعٍ، كُلِّفَ إجَابَتَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ قَدْ تَصَرَّفَ قِبَلِ ذَلِكَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، نُقِضَتْ تَصَرُّفَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ اعْتَرَفَ لِنَفْسِهِ بِالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ، لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ، وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِي إبْطَالِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقْبَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْحَالِ، أَقَرَّ بِالرِّقِّ، فَيُقْبَلُ، كَمَا لَوْ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِالرِّقِّ. وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ فَوَاتَ نَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحُرِّيَّةِ الْمَحْكُومِ بِهَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الطِّفْلَ الْمَنْبُوذَ لَا يَعْلَمُ رِقَّ نَفْسِهِ، وَلَا حُرِّيَّتَهَا، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ حَالٌ يَعْرِفُ بِهِ رِقَّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ رِقٌّ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ، فَكَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلِلشَّافِعِي وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قُلْنَا: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ. صَارَتْ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ الْعَبِيدِ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَالَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ مَا عَلَيْهِ دُونَ مَا لَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلِي عِنْدَهُ رَهْنٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ فِي الْجَمِيعِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَا عَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ مَا لَهُ، كَالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَبَعٌ لِلرِّقِّ، فَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ، ثَبَتَ التَّبَعُ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ بِالْوِلَادَةِ، تَثْبُتُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ تَبَعًا لَهَا. وَأَمَّا إنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ابْتِدَاءً لِرَجُلٍ، فَصَدَّقَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ جَوَابًا. وَإِنْ كَذَّبَهُ؛ بَطَلَ إقْرَارُهُ. ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ آخَرَ، جَازَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يُسْمَعَ إقْرَارُهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ تَضَمَّنَ الِاعْتِرَافَ بِنَفْيِ مَالِكٍ لَهُ سِوَى هَذَا الْمُقِرِّ، فَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ بِرَدِّ الْمُقِرِّ لَهُ، بَقِيَ الِاعْتِرَافُ بِنَفْيِ مَالِكٍ لَهُ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِمَا نَفَاهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْحُرِّيَّةِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرِّقِّ. وَلَنَا أَنَّهُ إقْرَارٌ لَمْ يَقْبَلْهُ الْمُقِرُّ لَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ إقْرَارَهُ ثَانِيًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِثَوْبٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِآخَرَ بَعْدَ رَدِّ الْأَوَّلِ. وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِهَا لَمْ يَبْطُلْ وَلَمْ يُرَدَّ. [فَصْلٌ إقْرَارُ اللَّقِيط بِالرِّقِّ بَعْدَ نِكَاحِهِ] (4588) فَصْلٌ: إذَا قَبِلْنَا إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ بَعْدَ نِكَاحِهِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَسَدَ نِكَاحُهُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَبْدٌ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَسَدَ نِكَاحُهُ أَيْضًا، وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ جَمِيعُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ. فَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، لَزِمَتْهُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ تَابِعٌ لِأُمِّهِ. وَإِنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِأَمَةٍ، فَوَلَدُهُ لِسَيِّدِهَا، وَيَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنَايَاتِهِ، وَيَفْدِيه سَيِّدُهُ أَوْ يُسَلِّمُهُ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ كَسْبٌ، اسْتَوْفَى الْمَهْرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إقْرَارُهُ بِهِ لِسَيِّدِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى امْرَأَتِهِ، فَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّهَا مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِكَوْنِهِ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى جَمِيعُهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى خُمُسَاهُ. وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ أُنْثَى، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِإِقْرَارِهَا بِفَسَادِ نِكَاحِهَا، وَأَنَّهَا أَمَةٌ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، وَالنِّكَاحُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 الْفَاسِدُ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ فِيهِ إلَّا بِالدُّخُولِ. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا، وَلِسَيِّدِهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ أَقَلَّ، فَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَهِيَ وَسَيِّدُهَا يُقِرَّانِ بِفَسَادِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْهُ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَيَجِبُ هَا هُنَا الْمُسَمَّى، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لِاعْتِرَافِ الزَّوْجِ بِوُجُوبِهِ. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ، فَأَحْرَارٌ، وَلَا تَجِبُ قِيمَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ بِقَوْلِهَا، وَلَا يَجِبُ بِقَوْلِهَا حَقٌّ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَثْبُتُ الرِّقُّ فِي حَقِّ أَوْلَادِهَا بِإِقْرَارِهَا. فَأَمَّا بَقَاءُ النِّكَاحِ، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَمَةٌ، وَلَدُهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا، فَإِنْ اخْتَرْت الْمُقَامَ عَلَى ذَلِكَ فَأَقِمْ، وَإِنْ شِئْت فَفَارِقْهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ، وَأَفْسَدْنَا نِكَاحَهُ، لَكَانَ إفْسَادًا لِلْعَقْدِ جَمِيعِهِ بِقَوْلِهَا؛ لِأَنَّ شُرُوطَ نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِي اسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ، إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي ابْتِدَائِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَبِلْتُمْ قَوْلَهَا فِي أَنَّهَا أَمَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الزَّوْجِ. قُلْنَا: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إيجَابِ حَقٍّ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيُمْكِنُ إيفَاءُ حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الرِّقُّ عَلَيْهَا، بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ، أَوْ يُقِيمُ عَلَى نِكَاحِهَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ سَيِّدِهَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ حَقٌّ لِلزَّوْجِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالدُّخُولِ، وَسَبَبُهَا النِّكَاحُ السَّابِقُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَنْقِيصِهَا. وَإِنْ مَاتَ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهَا. وَمَنْ قَالَ بِقَبُولِ قَوْلِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَهَذِهِ أَمَةٌ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَجَبَ لَهَا مَهْرُ أَمَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَلْ ذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ الْمُسَمَّى؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَتَعْتَدُّ حَيْضَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَأَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ؛ لِاعْتِقَادِهِ حُرِّيَّتَهَا، فَإِنَّهُ مَغْرُورٌ بِحُرِّيَّتِهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ الْوَضْعِ. وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا، لَمْ تَجِبْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ. [فَصْلٌ تَصَرُّفِ اللَّقِيط بِبَيْعِ أَوْ شِرَاءِ] (4589) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، فَتَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْأَثْمَانِ يُؤَدَّى مِمَّا فِي يَدَيْهِ، وَمَا فَضَلَ عَلَيْهِ فَفِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ مُعَامِلَهُ لَا يَعْتَرِفُ بِرِقِّهِ. وَمَنْ قَالَ بِقَبُولِ إقْرَارِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، قَالَ بِفَسَادِ عُقُودِهِ كُلِّهَا، وَأَوْجَبَ رَدَّ الْأَعْيَانِ إلَى أَرْبَابِهَا إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، وَجَبَتْ قِيمَتُهَا فِي رَقَبَتِهِ، إنْ قُلْنَا: إنَّ مَا اسْتَدَانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ اسْتِدَانَةَ الْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ، فَهَذَا كَذَلِكَ، وَيَتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رِضَى صَاحِبِهِ. [فَصْلٌ جَنَى اللَّقِيط جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ] (4590) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ قَدْ جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، حُرًّا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 بِالرِّقِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَوَدِ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا أَوْ حُرًّا، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً، تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِرٌّ بِهِ. فَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ. وَقِيلَ: تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِهِ. وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ، وَكَانَ الْجَانِي حُرًّا، سَقَطَ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقَادُ مِنْهُ لِلْعَبْدِ، وَقَدْ أَقَرَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِمَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ. وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِمَالٍ يَقِلُّ بِالرِّقِّ، وَجَبَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ، وَجَبَ، وَيَدْفَعُ الْوَاجِبَ إلَى سَيِّدِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ يَكْثُرُ لِكَوْنِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ حُرًّا، لَمْ يَجِبْ إلَّا أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ. وَمَنْ قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، أَوْجَبَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ إذَا كَانَ حُرًّا، سَقَطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِالسُّقُوطِ عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي إيجَابِهِ عَلَى الْجَانِي، فَسَقَطَ. وَقِيلَ: لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ الْعَاقِلَةِ. وَمَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا. أَوْجَبَ الْأَرْشَ عَلَى الْجَانِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 [كِتَابُ الْوَصَايَا] الْوَصَايَا جَمْعُ وَصِيَّةٍ، مِثْلُ الْعَطَايَا جَمْعُ عَطِيَّةٍ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ هِيَ التَّبَرُّعُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: «جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَبِالشَّطْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَبِالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ. [فَصَلِّ عَلَى مِنْ تجب الْوَصِيَّة] (4591) فَصْل: وَلَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ يُوصِي بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ، وَطَرِيقُهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَصِيَّةُ، فَتَكُونُ مَفْرُوضَةً عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى أَحَدٍ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، إلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَأَمَانَةٌ بِغَيْرِ إشْهَادٍ، إلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ فَأَوْجَبَتْهَا. رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ حَقًّا مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَقِيلَ لِأَبِي مِجْلَزٍ: عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ وَصِيَّةٌ؟ قَالَ: إنْ تَرَكَ خَيْرًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: هِيَ وَاجِبَةٌ لِلْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد. وَحُكِيَ ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 عَنْ مَسْرُوقٍ، وَطَاوُسٍ، وَإِيَاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ جَرِيرٍ. وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالُوا: نَسَخَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ، وَبَقِيَتْ فِيمَنْ لَا يَرِثُ مِنْ الْأَقْرَبِينَ. وَلَنَا، أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ وَصِيَّةٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ لِذَلِكَ نَكِيرٌ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُخِلُّوا بِذَلِكَ، وَلَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا ظَاهِرًا، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَا تَجِبُ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَعَطِيَّةِ الْأَجَانِبِ. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] (4) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ. وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَرَى نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، إلَى أَنَّهَا نُسِخَتْ بُقُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا] (4592) فَصْلٌ: وَتُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . فَنُسِخَ الْوُجُوبُ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا ابْنَ آدَمَ، جَعَلْت لَكَ نَصِيبًا مِنْ مَالِكِ حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِك، لِأُطَهِّركَ وَأُزَكِّيَكَ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، فَلَمْ يَجُرْ، وَلَمْ يَحُفَّ، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا لَوْ أَعْطَاهَا وَهُوَ صَحِيحٌ. وَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ مُحْتَاجُونَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] «. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ: إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَقَالَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ: إنَّك لَنْ تَدَعَ طَائِلًا، إنَّمَا تَرَكْت شَيْئًا يَسِيرًا، فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ. وَعَنْهُ: أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لَيْسَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ الْوَرَثَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهَا: لِي ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ، أَفَأُوصِي؟ فَقَالَتْ: اجْعَلْ الثَّلَاثَةَ لِلْأَرْبَعَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ تَرَكَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وَصِيَّةٌ. وَقَالَ عُرْوَةُ: دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى صَدِيقٍ لَهُ يَعُودُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] ، وَإِنَّك إنَّمَا تَدَعُ شَيْئًا يَسِيرًا، فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا تُسْتَحَبُّ لِمَالِكِهِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: إذَا تَرَكَ دُونَ الْأَلْفِ لَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَرْبَعمِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَا يُوصِي. وَقَالَ: مَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 تَرَكَ سِتِّينَ دِينَارًا، مَا تَرَكَ خَيْرًا. وَقَالَ طَاوُسٌ: الْخَيْرُ ثَمَانُونَ دِينَارًا. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَلِيلُ أَنْ يُصِيبَ أَقَلُّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي، أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَتْرُوكُ لَا يَفْضُلُ عَنْ غِنَى الْوَرَثَةِ، فَلَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً» . وَلِأَنَّ إعْطَاءَ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ خَيْرٌ مِنْ إعْطَاءِ الْأَجْنَبِيِّ، فَمَتَى لَمْ يَبْلُغْ الْمِيرَاثُ غِنَاهُمْ، كَانَ تَرْكُهُ لَهُمْ كَعَطِيَّتِهِمْ إيَّاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْوَرَثَةِ فِي كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، وَغِنَاهُمْ وَحَاجَتِهِمْ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا مِنْ مَالٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ مَالٍ يَتْرُكُهُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ، يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْ النَّاسِ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ] (4593) فَصْلٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَ غَنِيًّا اُسْتُحِبَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسَعْدٍ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . مَعَ إخْبَارِهِ إيَّاهُ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَقِلَّةِ عِيَالِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: " إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَتِي ". وَرَوَى سَعِيدٌ ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «مَرِضْت مَرَضًا، فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: أَوْصَيْت؟ . فَقُلْت: نَعَمْ. أَوْصَيْت بِمَالِي كُلِّهِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْصِ بِالْعُشْرِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مَالِيَ كَثِيرٌ. وَوَرَثَتِي أَغْنِيَاءُ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَاقِصُنِي وَأُنَاقِصُهُ، حَتَّى قَالَ: أَوْصِ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا يَبْلُغُ فِي وَصِيَّتِهِ الثُّلُثَ حَتَّى يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَفْضَلُ لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ. وَنَحْوَ هَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ السَّلَفِ، وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَاءَهُ شَيْخٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَمَالِي كَثِيرٌ، وَيَرِثُنِي أَعْرَابٌ مَوَالِي كَلَالَةً، مَنْزُوحٌ نَسَبُهُمْ، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحُطُّ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: السُّنَّةُ الرُّبُعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يَعْرِفُ فِي مَالِهِ حُرْمَةَ شُبُهَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُ اسْتِيعَابُ الثُّلُثِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 وَلَنَا، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى بِالْخُمُسِ. وَقَالَ: رَضِيت بِمَا رَضِيَ اللَّهُ بِهِ لِنَفْسِهِ. يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَوْصَيَا بِالْخُمُسِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّبُعِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: صَاحِبُ الرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَصَاحِبُ الْخُمْسِ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِ الرُّبُعِ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ الْخُمْسُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الثُّلُثِ، فَهُوَ مُنْتَهَى الْجَامِحِ. وَعَنْ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: أَوْصَى أَبِي أَنْ أَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ، أَيُّ الْوَصِيَّةِ أَعْدَلُ؟ فَمَا تَتَابَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ وَصِيَّتُهُ، فَتَتَابَعُوا عَلَى الْخُمُسِ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] (4594) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَ وَصِيَّتَهُ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلِمْت فِي ذَلِكَ، إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْوَارِثُونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَبَقِيَ سَائِرُ الْأَقَارِبِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لَهُمْ. وَأَقَلُّ ذَلِكَ الِاسْتِحْبَابُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] . وَقَالَ تَعَالَى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] فَبَدَأَ بِهِمْ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ أَفْضَلُ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَإِنْ أَوْصَى لَغَيْرِهِمْ وَتَرَكَهُمْ، صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ سَالِمٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى، أَنَّهُمْ قَالُوا: يُنْزَعُ عَنْهُمْ، وَيُرَدُّ إلَى قَرَابَتِهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: لِلَّذِي أَوْصَى لَهُ ثُلُثَ الثُّلُثِ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ إلَى قَرَابَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لَجَازَ مِنْهُ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي رُدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ كَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ كُلِّهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «، أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. فَأَجَازَ» الْعِتْقَ فِي ثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ، فَجَازَتْ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ، كَالْعَطِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 [مَسْأَلَةٌ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ] (4595) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا وَصَّى لِوَارِثِهِ بِوَصِيَّةٍ، فَلَمْ يُجِزْهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، لَمْ تَصِحَّ. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا. وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ مِنْ عَطِيَّةِ بَعْضِ وَلَدِهِ، وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَقُوَّةِ الْمِلْكِ، وَإِمْكَانِ تَلَافِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ بِإِعْطَاءِ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ بَيْنَهُمْ، فَفِي حَالِ مَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَضَعْفِ مِلْكِهِ، وَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ، وَتَعَذُّرِ تَلَافِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، أَوْلَى وَأَحْرَى. وَإِنْ أَجَازَهَا، جَازَتْ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، إلَّا أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً. أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ، وَالْخَبَرُ قَدْ رُوِيَ فِيهِ «إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ» . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَوْ خَلَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا وَصِيَّةَ نَافِذَةَ أَوْ لَازِمَةَ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، أَوْ يُقَدَّرُ فِيهِ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، فَإِجَازَةُ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِجَازَةٌ مَحْضَةٌ، يَكْفِي فِيهَا قَوْلُ الْوَارِثِ: أَجَزْت، أَوْ أَمْضَيْت، أَوْ نَفَّذْت. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، لَزِمَتْ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً، كَانَتْ الْإِجَازَةُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ، مِنْ اللَّفْظِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، كَالْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ. وَلَوْ رَجَعَ الْمُجِيزُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ، صَحَّ رُجُوعُهُ. [فَصْلٌ أَسْقَطَ عَنْ وَارِثِهِ دَيْنًا أَوْ أَوْصَى بِقَضَاءِ دَيْنِهِ] (4596) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْقَطَ عَنْ وَارِثِهِ دَيْنًا، أَوْ أَوْصَى بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، أَوْ أَسْقَطَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا عَنْ زَوْجِهَا، أَوْ عَفَا عَنْ جِنَايَةٍ مُوجِبُهَا الْمَالُ، فَهُوَ كَالْوَصِيَّةِ. وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَقُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا. سَقَطَ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ. سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَوَجَبَ الْمَالُ. وَإِنْ عَفَا عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، سَقَطَ مُطْلَقًا. وَإِنْ وَصَّى لِغَرِيمِ وَارِثِهِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ. وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ وَصِيَّةٌ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَتُسْتَوْفَى دُيُونُهُ مِنْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ وَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِمَنْ عَادَتُهُ الْإِحْسَانُ إلَى وَارِثِهِ. وَإِنْ وَصَّى لِوَلَدِ وَارِثِهِ، صَحَّ، فَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ نَفْعَ الْوَارِثِ، لَمْ يَجُزْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ طَاوُسٌ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] قَالَ: أَنْ يُوصِيَ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ ابْنَتَهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَنَفُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِضْرَارُ فِيهَا مِنْ الْكَبَائِرِ. [فَصْلٌ وَصَّى لِكُلِّ وَارِثٍ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ] فَصْلٌ (4597) : وَإِنْ وَصَّى لِكُلِّ وَارِثٍ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، كَرَجُلٍ خَلَّفَ ابْنًا وَبِنْتًا، وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَجَارِيَةً قِيمَتُهَا خَمْسُونَ، فَوَصَّى لِابْنِهِ بِعَبْدِهِ، وَلِابْنَتِهِ بِأَمَتِهِ، احْتَمَلَ أَنْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الْعَيْنِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَاوَضَ الْمَرِيضُ بَعْضَ وَرَثَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيًّا بِجَمِيعِ مَالِهِ، صَحَّ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَإِنْ تَضَمَّنَ فَوَاتَ عَيْنِ الْمَالِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَعْيَانِ غَرَضًا صَحِيحًا، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْوَارِثِ فِي قَدْرِ حَقِّهِ، لَا يَجُوزُ مِنْ عَيْنِهِ. [فَصْل مَلَكَ الْمَرِيضُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ] (4598) فَصْلٌ: وَإِذَا مَلَكَ الْمَرِيضُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، عَتَقَ وَوَرِثَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَاهُ الْخَبْرِيُّ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ فِي أَنَّهُ إذَا مَلَكَهُ بِالْمِيرَاثِ، أَنَّهُ يَعْتِقُ وَيَرِثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ، عَتَقَ وَوَرِثَ، وَإِلَّا سَعَى فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرِثْ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُف، وَمُحَمَّدٌ: يُحْتَسَبُ مِيرَاثُهُمْ مِنْ قِيمَتِهِمْ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَهُ، وَإِنْ فَضَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ سَعَوْا فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَضَعْ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا تَعَاطَى سَبَبَ مِلْكِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ، وَزَالَ بِغَيْرِ إزَالَتِهِ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثِهِ، كَمَا لَوْ اتَّهَبَ شَيْئًا فَرَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فِيهِ غِبْطَةٌ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَفَسَخَ الْبَائِعُ، أَوْ وَجَدَ بِالثَّمَنِ عَيْبًا فَفَسَخَ الْبَيْعَ، أَوْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فَطَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ مِنْ الثُّلُثِ، لَمْ يُمْنَعْ الْمِيرَاثُ، كَمَا لَوْ مَلَكِهِ بِالْمِيرَاثِ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَهُ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ مَلَكَهُ بِعِوَضٍ، كَالشِّرَاءِ، فَحَكَى الْخَبْرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَعْتِقُ وَيَرِثُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ": إنْ مَلَكَهُ بِعِوَضٍ، وَخَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ وَوَرِثَ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الْخَبْرِيُّ: وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى غَيْرَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَلَا يَرِثُ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَكَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 إعْتَاقُهُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ، وَيَبْطُلُ مِيرَاثُهُ، لِبُطْلَانِ عِتْقِهِ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ، فَصَحَّحْنَا عِتْقَهُ وَلَمْ نُوَرِّثْهُ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي هَذَا، كَمَذْهَبِهِمْ فِيمَا إذَا مَلَكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلَنَا، عَلَى إعْتَاقِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ» . وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ وُجِدَ مَعَهُ مَا يُنَافِيهِ، فَبَطَلَ، كَمِلْكِ النِّكَاحِ مَعَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، أَعْنِي فِيمَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ. وَإِذَا عَتَقَ وَرِثَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْمِيرَاثِ عَرِيًّا عَنْ الْمَوَانِعَ، فَوَرِثَ، كَمَا لَوْ وَرِثَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِعْلُهُ، وَالْعِتْقُ هَاهُنَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا إرَادَتِهِ، وَلِأَنَّ رَقَبَةَ الْمُعْتَقِ لَا تَحْصُلُ لَهُ، وَإِنَّمَا تَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ وَتَزُولُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ كَتَلَفِهِ بِقَتْلِ بَعْضِ رَقِيقِهِ، أَوْ كَإِتْلَافِ بَعْضِ مَالِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، مِثَالُ ذَلِكَ: مَرِيضٌ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ، فَقَبِلَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَخَلَفَ ابْنًا آخَرِ وَمِائَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ، وَيُقَاسِمُ أَخَاهُ الْمِائَتَيْنِ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ غَيْرُ الْخَبْرِيِّ، يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ شَيْئًا. وَعِنْد صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، يُعْتَقُ وَلَهُ نِصْفُ التَّرِكَةِ، فَيُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَيَبْقَى لَهُ خَمْسُونَ. وَإِنْ كَانَ بَاقِي التَّرِكَةِ خَمْسِينَ، فَعِنْدَنَا يُعْتَقُ، وَلَهُ نِصْفُ الْخَمْسِينَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، يُعْتَقُ نِصْفُهُ، وَيَسْعَى فِي بَاقِيهِ، وَالْخَمْسُونَ كُلُّهَا لِأَخِيهِ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: يُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فِي قَوْلِ غَيْرِ الْخَبْرِيِّ، يُعْتَقُ نِصْفُهُ، وَيُرَقُّ نِصْفُهُ، وَنِصْفُهُ الرَّقِيقُ وَالْخَمْسُونَ كُلُّهَا لِأَخِيهِ. وَإِنْ كَانَ بَاقِي التَّرِكَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ، فَعِنْدَنَا يُعْتَقُ وَلَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ شَيْئًا. وَعِنْد صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، يُعْتَقُ وَلَهُ مِائَةٌ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى ابْنَهُ بِمِائَةٍ، وَمَاتَ، وَخَلَّفَ ابْنًا آخَرَ وَمِائَةً أُخْرَى، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، يُعْتَقُ وَيُقَاسِمُ أَخَاهُ الْمِائَةَ الْبَاقِيَةَ. وَعَلَى مَا حَكَاهُ الْقَاضِي، يُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، وَيَرِثُ أَرْبَعِينَ، وَيُعْتَقُ بَاقِيهِ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا يَرِثُ بِذَلِكَ الْجُزْءِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْتَقُ ثُلُثَاهُ، وَلَا يَرِثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ ثُلُثَاهُ، وَيَسْعَى فِي بَاقِيهِ، وَلَا يَرِثُ. وَعِنْد صَاحِبَيْهِ، يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَلَا يَرِثُ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثُلُثِهِ، أَوْ حَابَى بِهِ، لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ قَدْ ذَهَبَ. [فَصْلٌ مَلَكَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ كَبَنِي عَمِّهِ فَأَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِهِ] (4599) فَصْلٌ: وَإِنْ مَلَكَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، كَبَنِي عَمِّهِ، فَأَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِهِ، فَعِتْقُهُمْ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَحُكْمُهُمْ فِي الْعِتْقِ حُكْمُ الْأَجَانِبِ، إنْ خَرَجُوا مِنْ الثُّلُثِ عَتَقُوا، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقُوا وَلَا يَرِثُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ وَرِثُوا لَكَانَتْ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُمْ، ثُمَّ يَبْطُلُ مِيرَاثُهُمْ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي رَجُلٍ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ، فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ: عَتَقَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 وَلَمْ يَرِثْ. وَهَذَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَوَارِثٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَمَنَعْنَا مِيرَاثَهُ لِيُقْبَلَ إقْرَارُهُ لَهُ بِالْإِعْتَاقِ. [فَصْلٌ مَرِيضٌ اشْتَرَى أَبَاهُ بِأَلْفٍ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ] (4600) فَصْلٌ: مَرِيضٌ اشْتَرَى أَبَاهُ بِأَلْفٍ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْخَبْرِيِّ، يُعْتَقُ كُلُّهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَيُعْتَقُ بَاقِيهِ عَلَى ابْنِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى لِلِابْنِ فِي ثُلُثَيْهِ. وَعَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، يُعْتَقُ سُدُسُهُ، وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ. وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: يُفْسَخُ الشِّرَاءُ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الِابْنُ عِتْقَهُ. وَقِيلَ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُ. وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ. وَإِنْ خَلَّفَ أَلْفَيْنِ سِوَاهُ، عَتَقَ، وَوَرِثَ سُدُسَهُمَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، يُعْتَقُ نِصْفُهُ، وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ نِصْفِهِ. [فَصْل وَهَبَ الْإِنْسَانَ أَبُوهُ أَوْ وُصِّيَ لَهُ بِهِ] (4601) فَصْل: وَإِذَا وَهَبَ الْإِنْسَانَ أَبُوهُ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَلَمْ يَجِبْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعْتَاقًا لِأَبِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَالٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ اسْتِجْلَابُ مِلْكٍ عَلَى الْأَبِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ بُذِلَ لَهُ بِعِوَضٍ، أَوْ كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ ابْنُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ بِلُحُوقِ الْمِنَّةِ بِهِ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ. [فَصْلٌ وَصَّى لِوَارِثِهِ وَأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِهِ فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ] (4602) فَصْلٌ: إذَا وَصَّى لِوَارِثِهِ وَأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِهِ، فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ وَصَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُعَيَّنٍ قِيمَتُهُمَا الثُّلُثُ، فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ، جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا. وَإِنْ رَدُّوا بَطَلَتْ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ فِي الْأُولَى، وَالْمُعَيَّنُ الْمُوصَى لَهُ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّتَانِ بِثُلُثَيْ مَالِهِ، فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ لَهُمَا. جَازَتْ لَهُمَا. وَإِنْ عَيَّنُوا نَصِيبَ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ وَحْدَهُ، فَلِلْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْوَارِثَ بِالْإِبْطَالِ، فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَسَقَطَتْ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوصِ لَهُ. وَإِنْ أَبْطَلُوا الزَّائِدَ عَنْ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ يُزَاحِمُ الْأَجْنَبِيَّ، إذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ، فَإِذَا أَبْطَلُوا نِصْفَهُمَا بِالرَّدِّ، كَانَ الْبُطْلَانُ رَاجِعًا إلَيْهِمَا، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ تَلِفَ ذَلِكَ بِغَيْرِ الرَّدِّ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الثُّلُثَ جَمِيعَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ. وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إبْطَالِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ إذَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ جَعَلْنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 الْوَصِيَّةَ بَيْنَهُمَا لَمَلَكُوا إبْطَالَ مَا زَادَ عَلَى السُّدُسِ، فَإِنْ صَرَّحَ الْوَرَثَةُ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: أَجَزْنَا الثُّلُثَ لَكُمَا، وَرَدَدْنَا مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي وَصِيَّتِكُمَا. أَوْ قَالُوا: رَدَدْنَا مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نِصْفَهَا، وَبَقِينَا لَهُ نِصْفَهَا. كَانَ ذَلِكَ آكَدَ فِي جَعْلِ السُّدُسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِتَصْرِيحِهِمْ بِهِ، وَإِنْ قَالُوا: أَجَزْنَا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ كُلَّهَا، وَرَدَدْنَا نِصْفَ وَصِيَّةِ الْأَجْنَبِيِّ. فَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لَهُمَا وَيَرُدُّوا عَلَيْهِمَا، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لِأَحَدِهِمَا وَيَرُدُّوا عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ أَجَازُوا لِلْأَجْنَبِيِّ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ، وَرَدُّوا عَلَى الْوَارِثِ نِصْفَ وَصِيَّتِهِ جَازَ، كَمَا قُلْنَا. وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَنْقُصُوا الْأَجْنَبِيَّ عَنْ نِصْفِ وَصِيَّتِهِ، لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَجَازُوا لِلْوَارِثِ أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ. فَإِنْ رَدُّوا جَمِيعَ وَصِيَّةِ الْوَارِثِ، وَنِصْفَ وَصِيَّةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا الثُّلُثَ لَهُمَا، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، ثُمَّ إذَا رَجَعُوا فِيمَا لِلْوَارِثِ، لَمْ يُرَدَّ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مَا كَانَ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِجَازَةِ لِلْوَارِثِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ، يَتَوَفَّرُ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنْتَقَصُ مِنْهُ بِمُزَاحَمَةِ الْوَارِثِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ، وَجَبَ تَوْفِيرُ الثُّلُثِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِهِ. وَلَوْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَوَصَّى لَهُمَا بِثُلُثَيْ مَالِهِ، وَلِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ، فَرَدَّا الْوَصِيَّةَ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي لِلْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثُ كَامِلًا. وَعِنْدَ الْقَاضِي، لَهُ التُّسْعُ. وَيَجِيءُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ وَصَّى بِثُلُثِهِ لَوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ وَقَالَ إنْ رَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ] (4603) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لَوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، وَقَالَ: إنْ رَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ.، كَمَا وَصَّى. وَإِنْ أَجَازُوا لِلْوَارِثِ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لَفُلَانٍ بِثُلُثِي، فَإِنْ مَاتَ قَبْلِي فَهُوَ لِفُلَانٍ. صَحَّ. وَإِنْ قَالَ: وَصَّيْت بِثُلُثِي لَفُلَانٍ، فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَهُوَ لَهُ. صَحَّ، فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، صَارَ هُوَ الْوَصِيَّ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ عَادَ إلَى الْغَيْبَةِ أَوْ لَمْ يَعُدْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ شَرْطُ انْتِقَالِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ، فَالْوَصِيَّةُ لِلْحَاضِرِ، سَوَاءٌ قَدِمَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْدَمْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَبَتَتْ لِوُجُودِ شَرْطِهَا، فَلَمْ تُنْقَلْ عَنْهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْدُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْغَائِبَ إنْ قَدِمَ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لَهُ بِشَرْطِ قُدُومِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ وَصَّى لَوَارِثٍ فَأَجَازَ بَعْضُ بَاقِي الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ دُونَ الْبَعْضِ] (4604) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَوَارِثٍ، فَأَجَازَ بَعْضُ بَاقِي الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ دُونَ الْبَعْضِ، نَفَذَ فِي نَصِيبِ مَنْ أَجَازَ، دُونَ مَنْ لَمْ يُجِزْ. وَإِنْ أَجَازُوا بَعْضَ الْوَصِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ، نَفَذَتْ فِيمَا أَجَازُوا دُونَ مَا لَمْ يُجِيزُوا. فَإِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَهَا، أَوْ رَدَّهَا، فَهُوَ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ. فَلَوْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَعَبْدًا، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَوَصَّى بِهِ لِأَحَدِهِمْ، أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَأَجَازَهُ لَهُ أَخَوَاهُ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ، فَلَهُ ثُلُثَاهُ، وَإِنْ أَجَازَا لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ، فَلَهُ نِصْفُهُ، وَلَهُمَا نِصْفُهُ، وَإِنْ أَجَازَا أَحَدُهُمَا لَهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ، وَرَدَّ الْآخَرُ، فَلَهُ النِّصْفُ كَامِلًا؛ الثُّلُثُ نَصِيبُهُ، وَالسُّدُسُ مِنْ نَصِيبِ الْمُجِيزِ، وَإِنْ أَجَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ، كَمَّلَ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا نِصْفَ نَصِيبِهِ، وَالْآخَرُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبِهِ، كَمَّلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ. وَإِنْ وَصَّى بِالْعَبْدِ لِاثْنَيْنِ مِنْهُمَا، فَلِلثَّالِثِ أَنْ يُجِيزَ لَهُمَا، أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِمَا، أَوْ يُجِيزَ لَهُمَا بَعْضَ وَصِيَّتِهِمَا، إنْ شَاءَ مُتَسَاوِيًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَفَاضِلًا، أَوْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَيُجِيزَ لِلْآخَرِ وَصِيَّتَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ يُجِيزَ لِأَحَدِهِمَا جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ، وَلِلْآخَرِ بَعْضَهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَكَيْفَمَا شَاءَ فَعَلَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ] (4605) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا، رُدَّ إلَى الثُّلُثِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ تَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِمْ، فَإِنْ أَجَازُوهُ جَازَ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَلَ. فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ حِينَ قَالَ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَبِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَبِالنِّصْفِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَبِالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ مَمَاتِكُمْ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْمَمْلُوكِينَ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ الْمَرِيضُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا، يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيمَا عَدَا الثُّلُثَ، إذَا لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ، وَيَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ، كَالْقَوْلِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَهَلْ إجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ أَوْ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهِ، أَوْ الْعَطِيَّةَ لَهُ، فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ، صَحِيحَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ، أَوْ بَاطِلَةٌ؟ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَأَنَّ الْإِجَازَةَ تَنْفِيذٌ مُجَرَّدٌ، لَا يَكْفِي فِيهِ قَوْلُ الْمُجِيزِ: أَجَزْت ذَلِكَ. أَوْ أَنْفَذْتُهُ. أَوْ نَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ. وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ سِوَاهُ فِي مَرَضِهِ، أَوْ وَصَّى بِإِعْتَاقِهِ، فَأَعْتَقُوهُ بِوَصِيَّتِهِ، فَقَدْ نَفَذَ الْعِتْقُ فِي ثُلُثِهِ وَوَقَفَ عِتْقُ بَاقِيهِ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ، عَتَقَ جَمِيعُهُ، وَاخْتَصَّ عُصُبَاتُ الْمَيِّتِ بِوَلَائِهِ كُلِّهِ، إذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ إعْتَاقِهِ وَوَصِيَّتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ بَاطِلَةٌ، وَالْإِجَازَةُ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ. اخْتَصَّ عُصُبَاتُ الْمَيِّتِ بِثُلُثِ وَلَائِهِ، وَكَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 ثُلُثَاهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوهُ بِالْإِعْتَاقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَرَّعَ بِثُلُثِ مَالِهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ، أَوْ وَصَّى بِالْإِعْتَاقِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَوْصَى لِابْنِ وَارِثِهِ بَعْدَ تَبَرُّعِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ، أَوْ أَعْطَاهُ عَطِيَّةً فِي مَرَضِهِ، فَأَجَازَ أَبُوهُ وَصِيَّتَهُ وَعَطِيَّتَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيمَا أَجَازَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إنْ قُلْنَا: هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ. وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا إجَازَةٌ مُجَرَّدَةٌ. وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ ابْنَةَ عَمِّهِ، فَأَوْصَتْ لَهُ بِوَصِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْهُ وَأَبَاهُ، فَأَجَازَ أَبُوهُ وَصِيَّتَهُ وَعَطِيَّتَهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَأَجَازُوا الْوَقْفَ، صَحَّ إنْ قُلْنَا: إجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ. وَلَمْ يَصِحَّ إنْ قُلْنَا: هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ. وَلِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ وَاقِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَلَا فَرْقَ فِي الْوَصِيَّةِ بَيْن الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ، وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَوْصَى فِي الْمَرَضِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا شَاءَ. يَعْنِي بِهِ الْعَطِيَّةَ. قَالَهُ الْقَاضِي. أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَإِنَّهَا عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهَا إلَّا الثُّلُثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. [فَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ رَدُّ الْوَصِيَّةِ وَإِجَازَتُهَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي] (4606) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ الرَّدُّ وَالْإِجَازَةُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَوْ أَجَازُوا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ رَدُّوا، أَوْ أَذِنُوا لِمَوْرُوثِهِمْ فِي حَيَاتِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فَرَدُّوا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَهُمْ الرَّدُّ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي صِحَّةِ الْمُوصِي أَوْ مَرَضِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْوَرَثَةِ، فَإِذَا رَضُوا بِتَرْكِهِ سَقَطَ حَقُّهُمْ، كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَذِنُوا لَهُ فِي صِحَّتِهِ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ، وَحِينَ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حُقُوقَهُمْ فِيمَا لَمْ يَمْلِكُوهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ، كَالْمَرْأَةِ إذَا أَسْقَطَتْ صَدَاقَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، أَوْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ حَقَّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَصِحُّ فِيهَا رَدُّهُمْ لِلْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا إجَازَتُهُمْ، كَمَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. [فَصْلٌ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازَ الْوَارِثُ] (4607) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَأَجَازَ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ، وَقَالَ: إنَّمَا أَجَزْتهَا ظَنًّا أَنَّ الْمَالَ قَلِيلٌ، فَبَانَ كَثِيرًا. فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُوصِي بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِاعْتِرَافِهِ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْإِجَازَةُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ. فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فِي مِثْلِهِ. وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بَيِّنَةٌ بِاعْتِرَافِهِ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الْإِبْرَاءِ، فَلَا يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْجَهْلِ بِهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ عَقْدًا لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ، فَبَطَلِ خِيَارُهُ، كَمَا لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ. وَإِنْ أَوْصَى بِمُعَيَّنٍ، كَعَبْدٍ أَوْ فَرَسٍ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ، فَأَجَازَ الْوَصِيَّةَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: ظَنَنْت الْمَالَ كَثِيرًا تَخْرُجُ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَبَانَ قَلِيلًا، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ أَعْلَمْهُ. لَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَحُ بِذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ، فَإِذَا بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ، لَحِقَهُ الضَّرَرُ فِي الْإِجَازَةِ فَمَلَكَ الرُّجُوعَ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ لَا تَصِحُّ إجَازَةُ الْوَصِيَّةِ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ] (4608) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ، فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ، كَالْهِبَةِ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلْسِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِجَازَةُ هِبَةٌ. لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هِبَةُ مَالِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ تَنْفِيذٌ صَحَّتْ. [مَسْأَلَةٌ أُوصِيَ لَهُ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ وَارِثٌ فَلَمْ يَمُتْ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ] (4609) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ أُوصِيَ لَهُ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ وَارِثٌ، فَلَمْ يَمُتْ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، فَلَوْ أَوْصَى لِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ لَهُ مُتَفَرِّقِينَ، وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ وَلَدٌ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ، إلَّا بِالْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ، إذَا لَمْ تَتَجَاوَزْ الْوَصِيَّةُ الثُّلُثَ. وَإِنْ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ، جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ مِنْ أُمِّهِ، فَيَكُونُ لَهُمَا ثُلُثَا الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَارِثٌ. وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَغَيْرُهُمْ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُمْ، وَلَهُ ابْنٌ، فَمَاتَ ابْنُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَلَا لِأَخِيهِ مِنْ أُمِّهِ، وَجَازَتْ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ. فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ مَوْتِهِ، لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَارِثًا. [فَصْلٌ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ أَوْصَتْ لَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا] (4610) فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى لِامْرَأَةِ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ أَوْصَتْ لَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُمَا إلَّا بِالْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ أَوْصَى أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ، إلَّا أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَا تُعْطَى أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهَا؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا لِيُوصِلَ إلَيْهَا مَالَهُ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يُنَفَّذْ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَرِثُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 [فَصْلٌ أَعْتَقَ أَمَتَهُ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ] (4611) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ، صَحَّ، وَوَرِثَتْهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تُعْتَقُ وَتَرِثُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ نِكَاحُهَا صَحِيحٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ، وَهِيَ الرِّقُّ وَالْقَتْلُ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ، فَتَرِثُ، كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا فِي صِحَّتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُعْتَقُ وَلَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَكَانَ إعْتَاقُهَا وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهَا إلَى إسْقَاطِ تَوْرِيثِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إبْطَالَ عِتْقِهَا، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهَا ثُمَّ يَبْطُلُ إرْثُهَا، فَكَانَ إبْطَالُ الْإِرْثِ وَحْدَهُ وَتَصْحِيحُ الْعِتْقِ وَالنِّكَاحِ أَوْلَى. [فَصْل أَعْتَقَ أَمَةً لَا يَمْلِكْ غَيْرهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا] (4612) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ أَمَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ. فَإِنْ مَاتَ، وَلَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ، تَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا بَاطِلٌ، وَيَسْقُطُ مَهْرُهَا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيُعْتَقُ مِنْهَا ثُلُثُهَا، وَيُرَقُّ ثُلُثَاهَا. فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَمَهْرُهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا، عَتَقَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا، وَيَرِقُّ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا. وَحِسَابُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: عَتَقَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَهَا بِصَدَاقِهَا نِصْفُ شَيْءٍ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَيُجْمَعُ ذَلِكَ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفًا، نَبْسُطُهَا فَتَكُونُ سَبْعَةً، لَهَا مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهَا، فَنَجْعَلُ لِنَفْسِهَا مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهَا يَكُونُ حُرًّا وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهَا حِصَّتَهَا مِنْ مَهْرِهَا، وَهُوَ سُبْعَاهُ، وَيُعْتَقُ مِنْهَا سُبْعَاهَا وَيَسْتَرِقُّوا خَمْسَةَ أَسْبَاعِهَا، فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْسَبُ مَهْرُهَا مِنْ قِيمَتِهَا، وَلَهَا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَتَسْعَى فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا. فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَعَ الْجَارِيَةِ قَدْرَ نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، عَتَقَ مِنْهَا نِصْفُهَا، وَرَقَّ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا هُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، عَتَقَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا، وَإِنَّمَا قَلَّ الْعِتْقُ فِيهَا لِأَنَّهَا لَمَّا أَخَذَتْ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا، نَقَصَ الْمَالُ بِهِ، فَيُعْتَقُ مِنْهَا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا. وَحِسَابُهَا أَنْ تَقُولَ: عَتَقَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَهَا بِمَهْرِهَا نِصْفُ شَيْءٍ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، يَعْدِلُ ذَلِكَ الْجَارِيَةَ وَنِصْفَ قِيمَتِهَا، فَالشَّيْءُ سُبْعَاهَا وَسُبْعَا نِصْفِ قِيمَتِهَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ، فَهُوَ الَّذِي عَتَقَ مِنْهَا، وَتَأْخُذْ نِصْفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ بِمَهْرِهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ. فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَعَهَا مِثْلَ قِيمَتِهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، عَتَقَ ثُلُثَاهَا، وَرَقَّ ثُلُثُهَا، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا عَتَقَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ قِيمَتِهَا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ مِثْلَيْ مَا عَتَقَ مِنْهَا. وَحِسَابُهَا أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 تَجْعَلَ السَّبْعَةَ الْأَشْيَاءِ مُعَادِلَةً لَهَا وَلِقِيمَتِهَا، فَيُعْتَقَ مِنْهَا بِقَدْرِ سُبْعَيْ الْجَمِيعِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا، وَتَسْتَحِقُّ سُبُعَ الْجَمِيعِ بِمَهْرِهَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا. وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَعَهَا مِثْلَيْ قِيمَتِهَا، عَتَقَتْ كُلُّهَا، وَصَحَّ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَسْقَطَتْ مَهْرَهَا، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تُسْقِطَهُ، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهَا، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِعِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ يُفْضِي إلَى إسْقَاطِهِ وَإِسْقَاطِ عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا، فَإِسْقَاطُهُ وَحْدَهُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، عَمِلْنَا فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَيُعْتَقُ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا، وَلَهَا سِتَّةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا، وَيَبْطُلُ عِتْقُ سُبُعِهَا وَنِكَاحُهَا. وَلَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا، وَوَطِئَهَا، كَانَ الْعَمَلُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ الْأَخِيرَةِ، مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا، مَعَ وُجُوبِ مَهْرِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً قِيمَتُهَا مِائَةٌ، وَأَصْدَقَهَا مِائَتَيْنِ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا: يَصِحُّ الْعِتْقُ وَالصَّدَاقُ وَالنِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَتَزْوِيجُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَحِيحٌ نَافِذٌ. وَهَذَا غَيْرُ جَيِّدٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا أَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا. وَلَوْ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمِائَتَيْنِ، أَوْ أَصْدَقَهُمَا لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، وَمَاتَ، وَلَمْ يَخْلُفْ شَيْئًا، لَبَطَلَ عِتْقُ ثُلُثَيْ الْأَمَةِ، فَإِذَا أَخَذَتْهُمَا هِيَ، كَانَ أَوْلَى فِي بُطْلَانِهِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا تَرَكَ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا، وَكَانَ مَهْرُهَا نِصْفَ قِيمَتِهَا: تُعْطَى مَهْرَهَا وَثُلُثَ الْبَاقِي، بِحَسَبِ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهَا، وَهُوَ نِصْفُهَا وَثُلُثُهَا، فَيُعْتَقُ ذَلِكَ، وَتَسْعَى فِي سُدُسِهَا الْبَاقِي، وَيَبْطُلُ نِكَاحُهَا. فَأَمَّا إنْ خَلَفَ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِ قِيمَتِهَا، صَحَّ عِتْقُهَا وَنِكَاحُهَا وَصَدَاقُهَا، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَتَرِثُ مِنْ الْبَاقِي فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَرِثُ. وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَكَانَ عِتْقُهَا وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، وَاعْتِبَارُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ. [فَصْل مَرِيضَة أَعْتَقَتْ عَبْدًا قِيمَته عَشْرَةٌ وَتَزَوَّجَهَا بِعَشْرَةِ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مِائَةً] (4613) فَصْلٌ: وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مَرِيضَةً أَعْتَقَتْ عَبْدًا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، وَتَزَوَّجَهَا بِعَشْرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَتْ، وَخَلَفَتْ مِائَةً. اقْتَضَى قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنْ تُضَمَّ الْعَشَرَةُ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ إلَى الْمِائَةِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ هُوَ التَّرِكَةُ، وَيَرِثَ نِصْفَ ذَلِكَ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: تُحْسَبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَيْضًا، وَتُضَمُّ إلَى التَّرِكَةِ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سِتُّونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَرِثُ شَيْئًا، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إعْتَاقُهُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْل تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً صَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ فَأَصْدَقَهَا عَشْرَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا ثُمَّ مَاتَ وَوَرِثَتْهُ] (4614) فَصْلٌ: وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً صَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ، فَأَصْدَقَهَا عَشْرَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، ثُمَّ مَاتَ، وَوَرِثَتْهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 بَطَلَتْ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَلَهَا صَدَاقُهَا وَرُبُعُ الْبَاقِي بِالْمِيرَاثِ. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ، صَحَّتْ الْمُحَابَاةُ، وَيَدْخُلُهَا الدَّوْرُ، فَنَقُولُ: لَهَا مَهْرُهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ يَبْقَى لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ نِصْفُ مَالِهَا، وَهُوَ دِينَارَانِ، وَنِصْفُ شَيْءٍ، صَارَ لَهُمْ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ، يَتَبَيَّنْ أَنَّ الشَّيْءَ ثَلَاثَةٌ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ، وَلِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ. وَإِنْ خَلَفَتْ مَعَ ذَلِكَ دِينَارَيْنِ، عَادَ إلَى الزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهَا ثَلَاثَةٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ، صَارَ لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفُ شَيْءٍ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ، يَخْرُجْ الشَّيْءُ ثَلَاثَةً وَخُمُسَيْنِ، فَصَارَ لِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَلِوَرَثَتِهَا خَمْسَةٌ وَخُمُسٌ. [فَصْل أَوْصَى بِجَارِيَةِ لِزَوْجِهَا الْحُرِّ فَقَبِلَهَا] (4615) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِزَوْجِهَا الْحُرِّ، فَقَبِلَهَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ إذَا قَبِلَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي، فَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَوْصَى، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ مُوصًى بِهِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَلَهُ، وَإِذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مُنْفَرِدًا، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مَعَ أُمِّهِ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا فَأَوْصَى بِهِمَا جَمِيعًا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا حُكْمَ لِلْحَمْلِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْحُكْمُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ، كَأَنَّهُ حَدَثَ حِينَئِذٍ. فَعَلَى هَذَا إنْ انْفَصَلَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ لَهُ، كَسَائِرِ كَسْبِهَا، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْد مَوْتِهِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ، عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْدَهُ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ تَحْمِلَ بِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَضَعَهُ بَعْد سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ أَوْصَى؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا حَمَلَتْهُ بَعْدَهَا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَمْلِ حَالَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا نُثْبِتُهُ بِالشَّكِّ، فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي إنْ وَلَدَتْهُ فِي حَيَاتِهِ. وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَهُ، وَقُلْنَا: لِلْحَمْلِ حُكْمٌ. فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا حُكْمَ لَهُ. فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ إنْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَلَا بَيِّنَةَ إنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَهُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ، وَعَلَيْهِ وَلَاءٌ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِالْمِلْكِ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ تَحْمِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ الْقَبُولِ أَيْضًا، فَهُوَ لِلْوَارِثِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا ثَبَتَ لِلْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 الظَّاهِرَ أَنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا، فَيَكُونُ حَادِثًا عَنْ مِلْكِ الْوَارِثِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُون حُرًّا لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، لِكَوْنِهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ الْقَبُولِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ وَتَلْزَمُ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ، كَالِاسْتِيلَادِ. وَلَنَا، أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِيهَا، كَالْكَسْبِ، وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ جَارِيَةٍ فَوَلَدَتْ. وَتُفَارِقُ الِاسْتِيلَادَ؛ لِأَنَّ لَهُ تَغْلِيبًا وَسِرَايَةً. وَهَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا خَرَجَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، مَلَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ بَعْضِهَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ، كَمِلْكِ جَمِيعهَا. وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْوَلَدُ فِيهِ لِأَبِيهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مِنْهُ هَا هُنَا بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْ أُمِّهِ، وَيَسْرِي الْعِتْقُ إلَى بَاقِيهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا مَلَكَ وَحْدَهُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ. فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ هَا هُنَا. سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ. قَالَ الْقَاضِي: تَصِيرُ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَة مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي] (4616) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَكُونُ لِوَلَدِ الْمُوصَى لَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إذَا عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَمْ يَحْدُثْ فِيمَا أَوْصَى بِهِ شَيْئًا، فَهُوَ لِوَارِثِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ، فَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَطِيَّةٌ صَادَفَتْ الْمُعْطِي مَيِّتًا، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَهَبَ مَيِّتًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهَا، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ صَادَفَتْ حَيًّا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْل الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتِ] (4617) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَهِيَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ قَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ نَفْعُهُ بِهَا، وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُ النَّفْعُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ حَيًّا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْصَى لِمَنْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ، فَلَمْ تَصِحَّ إذَا عَلِمَ، كَالْبَهِيمَةِ. وَفَارَقَ الْحَيَّ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ يَصِحّ لِلْمَيِّتِ، كَالْهِبَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ، أَوْ بِمِائَةٍ لِاثْنَيْنِ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، فَلِلْحَيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَوْتَ الْمَيِّتِ أَوْ جَهِلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَالْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَالَ: هَذِهِ الْمِائَةُ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَهِيَ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَوَافَقْنَا الثَّوْرِيَّ فِي أَنَّ نِصْفَهَا لِلْحَيِّ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ مَيِّتًا، فَالْجَمِيعُ لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ مَيِّتًا، فَلِلْحَيِّ النِّصْفُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إذَا أَوْصَى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِمِائَةٍ، فَبَانَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا، فَلِلْحَيِّ خَمْسُونَ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ إذَا قَالَ: ثُلُثِي لِفُلَانٍ وَلِلْحَائِطِ، أَنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ لِفُلَانٍ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُشْبِهُ هَذَا، الْحَائِطَ لَهُ مِلْكٌ، فَعَلَى هَذَا إذَا شَرَكَ بَيْنَ مَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَمَنْ لَا تَصِحُّ، مِثْل أَنْ يُوصِيَ لِفُلَانٍ وَلِلْمِلْكِ وَلِلْحَائِطِ، أَوْ لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ، فَالْمُوصَى بِهِ كُلُّهُ لِمَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَكَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْوَصِيَّةِ كُلِّهَا مَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ، فَلِمَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إيصَالَ نِصْفِهَا إلَيْهِ، وَإِلَى الْآخَرِ النِّصْفَ الْآخَرَ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، صَحَّتْ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِقِسْطِهِ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِاثْنَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا، كَمَا لَوْ كَانَا مِمَّنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ. فَأَمَّا إنْ وَصَّى لِاثْنَيْنِ حَيَّيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا؛ لِرَدِّهِ لَهَا. أَوْ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِنِصْفِ الثُّلُثِ، أَوْ بِنِصْفِ الْمِائَةِ، أَوْ بِخَمْسِينَ. لَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْوَصِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ وَصِيَّتَهُ فِي النِّصْفِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِيمَا سِوَاهُ. [مَسْأَلَة رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي] (4618) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ) لَا يَخْلُو إذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَرُدَّهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ، فَأَشْبَهَ رَدَّ الْمَبِيعِ قَبْلَ إيجَابِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلْقَبُولِ، فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّدِّ، كَمَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 وَالثَّانِيَةُ، أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَيَصِحُّ الرَّدُّ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي حَالٍ يَمْلِكُ قَبُولَهُ وَأَخْذَهُ، فَأَشْبَهَ عَفْوَ الشَّفِيعِ عَنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَالثَّالِثَةُ، أَنْ يَرُدَّ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ رَدَّهُ لِسَائِرِ مِلْكِهِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْوَرَثَةُ بِذَلِكَ، فَتَكُونَ هِبَةً مِنْهُ لَهُمْ تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ. وَالرَّابِعَةُ، أَنْ يَرُدَّ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، صَحَّ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَأَشْبَهَ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْمَقْبُوضِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ الرَّدُّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ الرَّدُّ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا مَلَكُوا الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، مَلَكُوا الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْوَصِيِّ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَصَحَّ رَدُّهُ، كَمَا قَبْلَ الْقَبُولِ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ. [فَصْل الْوَصِيَّة تَبْطُلُ بِالرَّدِّ وَتَرْجِعُ إلَى التَّرِكَة] (4619) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ صَحَّ الرَّدُّ فِيهِ، فَإِنْ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِالرَّدِّ، وَتَرْجِعُ إلَى التَّرِكَةِ، فَتَكُونُ لِلْوُرَّاثِ جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، رَجَعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تُوجَدْ. وَلَوْ عَيَّنَ بِالرَّدِّ وَاحِدًا، وَقَصَدَ تَخْصِيصَهُ بِالْمَرْدُودِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ لِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ تَمَلُّكِهِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ دَفْعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ، فَلَمْ يَمْلِكْ دَفْعَهُ إلَى وَارِثٍ يَخُصُّهُ بِهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ امْتَنَعَ الرَّدُّ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ وَاحِدًا مِنْ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ، وَيَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ، فَمَلَكَ دَفْعَهُ إلَى وَارِثٍ. فَلَوْ قَالَ: رَدَدْت هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لِفُلَانٍ. قِيلَ لَهُ: مَا أَرَدْت بِقَوْلِكَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت تَمْلِيكَهُ إيَّاهَا، وَتَخْصِيصَهُ بِهَا. فَقَبِلَهَا، اخْتَصَّ بِهَا، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت رَدَّهَا إلَى جَمِيعِهِمْ، لِيَرْضَى فُلَانٌ. عَادَتْ إلَى جَمِيعِهِمْ إذَا قَبِلُوهَا، فَإِنْ قَبِلَهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَلِمَنْ قَبِلَ حِصَّتُهُ مِنْهَا. [فَصْل يَحْصُلُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ رَدَدْت الْوَصِيَّةَ] (4620) فَصْلٌ: وَيَحْصُلُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ: رَدَدْت الْوَصِيَّةَ. وَقَوْلِهِ: لَا أَقْبَلُهَا. وَمَا أَدَّى هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ أَوْصَيْت لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: لَا أَقْبَلُهَا. فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ. يَعْنِي لِوَرَثَةِ الْمُوصِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 [مَسْأَلَة مَوْت الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي] (4621) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ، قَامَ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، إذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَذَهَبَ الْخِرَقِيِّ إلَى أَنَّ وَارِثَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْمَوْرُوثِ فَثَبَتَ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» . وَكَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ إلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْقَبُولُ قَبْلَهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ، كَالْهِبَةِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، فَبَطَلَ بِالْمَوْتِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَخِيَارِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَلْزَمُ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حُكْمًا بِغَيْرِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ لَزِمَتْ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا مَاتَ، بَطَلَ خِيَارُهُ، وَدَخَلَ فِي مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَهُ، فَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَائِهِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، أَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، كَعَقْدِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ إذَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوجِبِ لَهُ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْآخَرِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا. وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ وَالْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبُولِ، مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوجِبِ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْخِيَارَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَنَا، عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِ الْمُتَمَلِّكِ، فَلَمْ يَلْزَمْ قَبْلَ الْقَبُولِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ مَاتَ عَنْهُ الْمُسْتَحِقُّ فَلَمْ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، قَامَ الْوَارِثُ فِيهِ مَقَامَهُ. فَعَلَى هَذَا، إنْ رَدَّ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ بَطَلَتْ، وَإِنْ قَبِلَهَا صَحَّتْ، وَثَبَتَ الْمِلْكُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ جَمَاعَةً، اُعْتُبِرَ الْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَإِنْ رَدَّ بَعْضُهُمْ وَقَبِلَ بَعْضٌ، ثَبَتَ لِلْقَابِلِ حِصَّتُهُ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ رَدَّ. فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، قَامَ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ الْحَظُّ فِيهِ، فَإِنْ فَعَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي قَبُولِهَا فَرَدَّهَا، لَمْ يَصِحَّ رَدُّهُ، وَكَانَ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي رَدَّهَا فَقَبِلَهَا، لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَا لَهُ الْحَظُّ فِيهِ. فَلَوْ أَوْصَى لِصَبِيٍّ بِذِي رَحِمٍ لَهُ يُعْتَقُ بِمِلْكِهِ لَهُ، وَكَانَ عَلَى الصَّبِيِّ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ تَلْزَمَهُ نَفَقَةُ الْمُوصَى بِهِ، لِكَوْنِهِ فَقِيرًا لَا كَسْبَ لَهُ، وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ مُوسِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ لِكَوْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 الْمُوصَى بِهِ ذَا كَسْبٍ، أَوْ كَوْنِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَقِيرًا لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، تَعَيَّنَ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، لِعِتْقِ قَرَابَتِهِ، وَتَحْرِيرِهِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل لَا يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ إلَّا بِالْقَبُولِ] (4622) فَصْلٌ: وَلَا يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ إلَّا بِالْقَبُولِ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إذَا كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ يُمْكِنُ الْقَبُولُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ مَالٍ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ مُتَعَيِّنٍ، فَاعْتُبِرَ قَبُولُهُ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. قَالَ أَحْمَدُ: الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَاحِدٌ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، كَبَنِي هَاشِمٍ وَتَمِيمٍ، أَوْ عَلَى مَصْلَحَةٍ كَمَسْجِدٍ أَوْ حَجٍّ، لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ، وَلَزِمَتْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِهِمْ مُتَعَذِّرٌ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ، كَالْوَقْفِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيُكْتَفَى بِقَبُولِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مِنْ الْمُوصَى بِهِ، مِثْلَ أَنْ يُوصِيَ بِعَبْدٍ لِلْفُقَرَاءِ وَأَبُوهُ فَقِيرٌ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمُوصَى لَهُمْ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَبْضِ، فَيَقُومُ قَبْضُهُ مَقَامَ قَبُولِهِ. أَمَّا الْآدَمِيُّ الْمُعَيَّنُ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ، فَيُعْتَبَرُ قَبُولُهُ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْقَبُولُ بِاللَّفْظِ، بَلْ يُجْزِئُ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْأَخْذِ وَالْفِعْلِ الدَّالِ عَلَى الرِّضَى، كَقَوْلِنَا فِي الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. وَيَجُوزُ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي. وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ رَدُّهُ. فَإِذَا قَبِلَ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ إذَا قَبِلَ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ حِينَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ انْتِقَالُهُ بِالْقَبُولِ، وَجَبَ انْتِقَالُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُوجِبِ عِنْدَ الْإِيجَابِ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . (1) وَلِأَنَّ الْإِرْثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَبْقَى لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، وَيُحْكَمُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَبُولِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَمَلُّكُ عَيْنٍ لِمُعَيَّنٍ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ يَسْبِقْ الْمِلْكُ الْقَبُولَ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ مِنْ تَمَامِ السَّبَبِ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا أَوْ جُزْءًا مِنْ السَّبَبِ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ وَلَا شَرْطَهُ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ. ثُمَّ مَاتَ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَقَع فِيهِ الطَّلَاقُ. وَلَوْ قَالَ إذَا مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ. لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا انْتِقَالُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُوجِبِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا، غَيْرَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ثَمَّ يَسِيرٌ، لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوُرَّاثِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ وَصِيَّةٌ مَقْبُولَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْ لَكَانَ مِلْكًا لِلْوَارِثِ، وَقَبْلَ قَبُولِهَا فَلَيْسَتْ مَقْبُولَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 12] . أَيْ لَكُمْ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ. فَلَا يَمْنَعُ هَذَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي التَّرِكَةِ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مِلْكًا لِلْمَيِّتِ، كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى مِلْكُهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِلْكٌ فِي دَيْنِهِ إذَا قَبِلَ، وَفِيمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِحَيْثُ تُقْضَى دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ، وَيُجَهَّزُ إنْ كَانَ قَبْلَ تَجْهِيزِهِ، فَهَذَا يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، لِتَعَذُّرِ انْتِقَالِهِ إلَى الْوَارِثِ مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ، وَامْتِنَاعِ انْتِقَالِهِ إلَى الْوَصِيِّ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ، فَإِنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ، أَوْ قَبِلَ، انْتَقَلَ حِينَئِذٍ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ التَّصَرُّفِ، كَثُبُوتِهِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، فَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ، أَوْ رَهَنَهُ، أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ ابْنًا لِلْمُوصَى بِهِ، مِثْلَ أَنْ تَمْلِكَ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ ابْنٌ، فَتُوصِي بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، فَإِذَا مَاتَتْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى ابْنِهِ إلَى حِينِ الْقَبُولِ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 [فَصْل حَدَثَ لِلْمُوصَى بِهِ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ] (4623) فَصْلٌ: فِيمَا يَخْتَلِفُ مِنْ الْفُرُوعِ بِاخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ لِلْمُوصَى بِهِ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، كَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَالْكَسْبِ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا، فَأَوْلَدَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِلْوَارِثِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَكُونُ حُرَّ الْأَصْلِ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، فَلِوَارِثِهِ قَبُولُهَا، فَإِنْ قَبِلَهَا، مَلَكَ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتِقُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ عَتَقَ، وَلَمْ يَرِثْ مِنْ ابْنِهِ شَيْئًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ، وَيَرِثُ الْوَلَدُ أَبَاهُ، فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُ الْوَارِثَ الْقَابِلَ حَجَبَهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَرِثُ الْوَلَدُ هَا هُنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يَمْنَعُ قَوْلَ الْقَابِلِ وَارِثًا، فَيَبْطُلُ قَبُولُهُ، فَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ، وَإِلَى إبْطَالِ مِيرَاثِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ الْمِيرَاثِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْإِقْرَارِ مَا يَدْفَعُ هَذَا، وَأَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ يَرِثُ، فَكَذَا هَا هُنَا. وَيُعْتَبَرُ قَبُولُ مَنْ هُوَ وَارِثٌ فِي حَالِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ إقْرَارُ مَنْ هُوَ وَارِثٌ حَالَ الْإِقْرَارِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ، لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَبِيهِ، فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَقَبِلَ ابْنُهُ، صَحَّ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْجَدُّ، وَلَمْ يَرِثْ مِنْ ابْنِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ إنَّمَا حَدَثَتْ حِينَ الْقَبُولِ بَعْدَ أَنْ صَارَ الْمِيرَاثُ لِغَيْرِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، تَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي، فَيَرِثُ مِنْ ابْنِهِ السُّدُسَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَرِثُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَاعْتُبِرَ قَبُولُهُ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ قَبُولِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُهُ، لَمْ يُعْتَقْ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِمُشَارِكٍ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَوَرِثَ، مَعَ أَنَّهُ يَخْرُجُ الْمُقِرُّونَ بِهِ عَنْ كَوْنِهِمْ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ، أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، فَقَبِلَ وَارِثُهُ، لَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ الْقَابِلِ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ الْمُوصِيَةُ، لَا مِنْ جِهَةِ مَوْرُوثِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لَهُ شَيْءٌ، فَحِينَئِذٍ لَا تُقْضَى دُيُونُهُ، وَلَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ، وَلَا يُعْتَقُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى الْوَارِثِ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ دُونَ الْمُوصَى لَهُ. وَعَلَى، الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصَى لَهُ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى وَارِثِهِ، فَتَنْعَكِسُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، فَتُقْضَى دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ، وَيُعْتَقُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، يَخْتَصُّ بِهِ الذُّكُورُ مِنْ وَرَثَتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ، أَنَّ الْمُوصَى بِهِ لَوْ كَانَ أَمَةً، فَوَطِئَهَا الْوَارِثُ، فَأَوْلَدَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَوَلَدُهَا حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا فِي مِلْكِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْمُوصَى لَهُ إذَا قَبِلَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَضَيْتُمْ بِعِتْقِهَا هَا هُنَا، وَهِيَ لَا تُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا؟ قُلْنَا: الِاسْتِيلَادُ أَقْوَى، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالرَّاهِنِ، وَالْأَبِ، وَالشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَكُونُ وَلَدُهُ رَقِيقًا، وَالْأَمَةُ بَاقِيَةً عَلَى الرِّقِّ. وَإِنْ وَطِئَهَا الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهَا، كَانَ ذَلِكَ قَبُولًا لَهَا، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْمِلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ مَنْ لَهُ الرَّجْعَةُ الرَّجْعِيَّةَ، أَوْ وَطِئَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ، أَوْ وَطِئَ مَنْ لَهُ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ امْرَأَتَهُ. [فَصْل الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَة وَمُقَيَّدَة] (4624) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً، فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتّ فَثُلُثِي لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ لِزَيْدٍ. وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَوْ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا، فَثُلُثِي لِلْمَسَاكِينِ. فَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ، أَوْ خَرَجَ مِنْ الْبَلْدَةِ، ثُمَّ مَاتَ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ، وَبَقِيَتْ الْمُطْلَقَةُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ وَصَّى وَصِيَّةً إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِهِ هَذَا، وَلَمْ يُغَيِّرْ وَصِيَّتَهُ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَيْسَ لَهُ وَصِيَّةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ قَالَ قَوْلًا، وَلَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا، فَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَتَبَ كِتَابًا، ثُمَّ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَأَقَرَّ الْكِتَابَ، فَوَصِيَّتُهُ بِحَالِهَا، مَا لَمْ يَنْقُضْهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا، فَبَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا، أَوْ كَمَا لَوْ وَصَّى لِقَوْمٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 فَمَاتُوا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ قَيَّدَ وَصِيَّتَهُ بِقَيْدٍ، فَلَا يَتَعَدَّاهُ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَ لِأَحَدِ عَبْدَيْهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ فِي مَرَضِي هَذَا. فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ، فَالْعَبْدَانِ سَوَاءٌ فِي التَّدْبِيرِ. وَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، بَطَلَ تَدْبِيرُ الْمُقَيَّدِ، وَبَقِيَ تَدْبِيرُ الْمُطْلَقِ بِحَالِهِ. وَلَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِ، وَقَالَ: إنْ مِتّ قَبْلِي فَهُوَ لِعَمْرٍو. صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَهُ لَهُ. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.» [مَسْأَلَة الْوَصِيَّة بِسَهْمِ] (4625) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، أُعْطِيَ السُّدُسَ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، يُعْطَى سَهْمًا مِمَّا تَصِحُّ مِنْهُ الْفَرِيضَةُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسَ. وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يُعْطَى سَهْمًا مِمَّا تَصِحُّ مِنْهُ الْفَرِيضَةُ، فَيُنْظَرُ؛ كَمْ سَهْمًا صَحَّتْ مِنْهُ الْفَرِيضَةُ، فَيُزَادُ عَلَيْهَا مِثْلُ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِهَا لِلْمُوصَى لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ قَالَ: تُرْفَعُ السِّهَامُ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ فَإِنْ زَادَ السَّهْمُ عَلَى السُّدُسِ، فَلَهُ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَهْمًا. يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى سِهَامِ فَرِيضَتِهِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ مِنْهَا، فَيَنْصَرِفُ السَّهْمُ إلَيْهَا، فَكَانَ وَاحِدًا مِنْ سِهَامِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: فَرِيضَتِي كَذَا وَكَذَا سَهْمًا، لَك مِنْهَا سَهْمٌ. وَقَالَ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ: لَهُ أَقَلُّ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَثْرَمِ: إذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، يُعْطَى سَهْمًا مِنْ الْفَرِيضَةِ. قِيلَ: لَهُ نَصِيبُ رَجُلٍ، أَوْ نَصِيبُ امْرَأَةٍ؟ قَالَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّهَامِ. قَالَ الْقَاضِي: مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ، فَيَكُونَ لَهُ الثُّلُثُ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّ سِهَامَ الْوَرَثَةِ أَنْصِبَاؤُهُمْ، فَيَكُونُ لَهُ أَقَلُّهَا؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى السُّدُسِ دُفِعَ إلَيْهِ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ سَهْمٍ يَرِثُهُ ذُو قَرَابَةٍ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُعْطَى سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ، فَالسَّهْمُ مِنْهَا أَقَلُّ السِّهَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُعْطِيهِ الْوَرَثَةَ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّهْمِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ: لَا شَيْءَ لَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ الْمَالِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ» . وَلِأَنَّ السَّهْمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 السُّدُسُ، قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّهْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السُّدُسُ. فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَفِظَ بِهِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ السُّدُسَ أَقَلُّ سَهْمٍ مَفْرُوضٍ يَرِثُهُ ذُو قَرَابَةٍ، فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ السُّدُسَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سُدُسٍ مَفْرُوضٍ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ كَامِلَةَ الْفُرُوضِ، أُعِيلَتْ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، زَادَ عَوْلُهَا بِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ أَوْ كَانُوا عَصَبَةً، أُعْطِيَ سُدُسًا كَامِلًا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَحَرْبٍ: إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، يُعْطَى السُّدُسَ، إلَّا أَنْ تَعُولَ الْفَرِيضَةُ، فَيُعْطَى سَهْمًا مَعَ الْعَوْلِ. فَكَأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، أَوْصَيْت لَك بِسَهْمِ مَنْ يَرِثُ السُّدُسَ. فَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُخْتٌ، كَانَ لَهُ السَّبُعُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُمَا جَدَّةٌ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أُمٌّ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ زَوْجٌ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ تِسْعَةٍ، وَلِلْمُوصَى لَهُ الْعُشْرُ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. وَإِنْ كَانُوا زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَعُولُ بِسُدُسٍ آخَرَ، فَتَصِيرُ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ. وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْخَلَّالِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ سُدُسٌ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ لِلْوَصِيِّ سَهْمٌ وَاحِدٌ، يُزَادُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانُوا زَوْجَةً وَأَبَوَيْنِ وَابْنًا، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَعُولُ بِالسُّدُسِ الْمُوصَى بِهِ إلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، يُزَادُ عَلَيْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ لِلْمُوصَى لَهُ، فَتَكُونُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ. وَعَلَى قَوْلِ الْخَلَّالِ: يُزَادُ عَلَيْهَا مِثْلُ سَهْمِ الزَّوْجَةِ، فَتَكُونُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَإِنْ كَانُوا خَمْسَةَ بَنِينَ فَلِلْوَصِيِّ السُّدُسُ كَامِلًا، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ زَوْجَةٌ، صَحَّتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعِينَ، فَتَزِيدُ عَلَيْهَا سَهْمًا لِلْوَصِيِّ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ، تَصِيرُ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ. وَعَلَى قَوْلِ الْخَلَّالِ، تَزِيدُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ، فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، نَزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلُ سُدُسِهَا، وَلَا سُدُسَ لَهَا، فَنَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ، ثُمَّ نَزِيدُ عَلَيْهَا سُدُسَهَا، تَكُونُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، لِلْوَصِيِّ أَرْبَعُونَ، وَلِلزَّوْجَةِ ثَلَاثُونَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ. وَلَوْ خَلَّفَ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِسَهْمٍ، جَعَلْت ذَا السَّهْمِ كَالْأُمِّ، وَأَعْطَيْت صَاحِبَ السُّدُسِ سُدُسًا كَامِلًا، وَقَسَمْت الْبَاقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى سَبْعَةٍ فَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَبْعَةٌ، وَلِصَاحِبِ السَّهْمِ خَمْسَةٌ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْطَى ذُو السَّهْمِ السُّبُعَ كَامِلًا، كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ لَهُ سِتَّةٌ وَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ عَلَى سِتَّةٍ لَا تَنْقَسِمُ، فَنَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، تَكُونُ مِائَتَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ. [فَصْل أَوْصَى بِجُزْءِ أَوْ حَظٍّ أَوْ نَصِيبٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ] (4626) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ أَوْ نَصِيبٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا. لَا أَعْلَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 فِيهِ خِلَافًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جُزْءٌ وَنَصِيبٌ وَحَظٌّ وَشَيْءٌ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَعْطُوا فُلَانًا مِنْ مَالِي، أَوْ اُرْزُقُوهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ، فَكَانَ عَلَى إطْلَاقِهِ. [مَسْأَلَة أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ] (4627) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ مَا لِأَقَلِّهِمْ نَصِيبًا كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ. وَهُمْ ابْنٌ وَأَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، فَتَكُونُ صَحِيحَةً مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَمَا بَقِيَ فَلِلِابْنِ، فَزِدْ فِي سِهَامِ الْفَرِيضَةِ مِثْلَ حَظِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فَتَصِيرُ الْفَرِيضَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ، وَمَا بَقِيَ فَلِلِابْنِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ، غَيْرَ مُسَمًّى، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْمِيرَاثِ كَالْبَنِينَ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، مُزَادًا عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَيُجْعَلُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ زَادَ فِيهِمْ. وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ، كَمَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ مِيرَاثًا، يُزَادُ عَلَى فَرِيضَتِهِمْ. وَإِنْ أَوْصَى بِنَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِهِ مُزَادًا عَلَى الْفَرِيضَةِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَزُفَرُ، وَدَاوُد: يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِ الْمُعَيَّنِ، وَمِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، إذَا كَانُوا يَتَسَاوَوْنَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، غَيْرَ مَزِيدٍ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْوَارِثِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ فَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ، فَالْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ، فَالْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ. وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ، نُظِرَ إلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، فَأُعْطِيَ سَهْمًا مِنْ عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ أَنْصِبَائِهِمْ لِتَفَاضُلٍ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ جَعَلَ وَارِثَهُ أَصْلًا وَقَاعِدَةً حَمَلَ عَلَيْهِ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ وَجَعَلَهُ مِثْلًا لَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَمَتَى أَعْطَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، فَمَا أَعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ وَلَا حَصَلَتْ التَّسْوِيَةُ، وَالْعِبَارَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَقَوْلُهُ: " يُعْطَى سَهْمًا مِنْ عَدَدِهِمْ ". خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْمُوصِي؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَصِيبٍ لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ وَلَفْظُهُ إنَّمَا اقْتَضَى نَصِيبَ أَحَدِهِمْ وَتَفَاضُلُهُمْ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ نَصِيبِ الْأَقَلِّ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ فَيَصْرِفُهُ إلَى الْوَصِيِّ، لِقَوْلِ الْمُوصِي، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى وَصِيَّتِهِ. وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اخْتِرَاعِ شَيْءٍ لَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُوصِي أَصْلًا. وَقَوْلُهُ: تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بُقُولِ الْمُوصِي. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ بِمَا قُلْنَاهُ، ثُمَّ لَوْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ، لَمَا جَازَ أَنْ يُوجِبَ فِي مَالِهِ حَقًّا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ. وَقَدْ مَثَّلَ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ تَمْثِيلِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت بِمِثْلِ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ مِيرَاثًا. كَانَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ، وَكَانَ ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 تَأْكِيدًا وَإِنْ قَالَ: أَوْصَيْت بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ مِيرَاثًا. فَلَهُ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، تُضَمُّ إلَى الْفَرِيضَةِ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ سِتِّينَ سَهْمًا. (4628) فَصْلٌ وَإِنْ أَوْصَى بِنَصِيبِ وَارِثٍ، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزُفَرَ، وَدَاوُد. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرِهِ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا هُوَ حَقٌّ لِلِابْنِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ: بِدَارِ ابْنِي، أَوْ بِمَا يَأْخُذُهُ ابْنِي. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ وَصِيَّتِهِ يُحْتَمَلُ لَفْظُهُ عَلَى مَجَازِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ، أَوْ أَعْتَقَ. وَبَيَانُ إمْكَانِ التَّصْحِيحِ، أَنَّهُ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ، أَيْ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثِي. وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ، صَحَّ، وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوَصِيَّةَ بِنَصِيبِ وُرَّاثِهِ كُلِّهِمْ. [فَصْل قَالَ أَوْصَيْت لَك بِضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِي] (4629) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِي. فَلَهُ مِثْلَا نَصِيبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: الضِّعْفُ الْمِثْلُ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] أَيْ مِثْلَيْنِ، وَقَوْلِهِ: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] . أَيْ مِثْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الضِّعْفَانِ مِثْلَيْنِ، فَالْوَاحِدُ مِثْلٌ. وَلَنَا، أَنَّ الضِّعْفَ مِثْلَانِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75] . وَقَالَ: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ: 37] . وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] . وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ أَضْعَفَ الزَّكَاةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ عَشَرَةً. وَقَالَ لِحُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَوْ أَضْعَفْت عَلَيْهَا لَاحْتَمَلَتْ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الضِّعْفُ الْمِثْلُ فَمَا فَوْقَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الضِّعْفَيْنِ الْمِثْلَانِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّحْوِيِّ قَالَ: الْعَرَبُ تَتَكَلَّمُ بِالضِّعْفِ مُثَنَّى، فَتَقُولُ: إنْ أَعْطَيْتنِي دِرْهَمًا فَلَكَ ضِعْفَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 أَيْ مِثْلَاهُ. وَإِفْرَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنَّ التَّثْنِيَةَ أَحْسَنُ. يَعْنِي أَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْمُثَنَّى فِي هَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا يُرَادُ بِهِ الْمِثْلَانِ، وَإِذَا اسْتَعْمَلُوهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّيْ: ضِعْفُ الشَّيْءِ هُوَ مِثْلُهُ، وَضِعْفَاهُ هُوَ مِثْلَاهُ، وَثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ، وَعَلَى هَذَا. [فَصْل قَالَ أَوْصَيْت لَك بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِي] (4630) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِي. فَلَهُ مِثْلَا نَصِيبِهِ. وَإِنْ قَالَ ثَلَاثَةِ أَضْعَافِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ. هَذَا الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ أَوْصَى بِضِعْفَيْهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ. وَإِنْ أَوْصَى بِثَلَاثَةِ أَضْعَافِهِ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَهُ ضِعْفًا زَادَ مَرَّةً. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بُقُولِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: ضِعْفَاهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ، وَثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِ سِتَّةُ أَمْثَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ، فَتَثْنِيَتُهُ مِثْلَا مُفْرَدِهِ، كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] . قَالَ عِكْرِمَةُ: تَحْمِلُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ عَطَاءٌ: أَثْمَرَتْ فِي سَنَةٍ مِثْلَ ثَمَرَةِ غَيْرِهَا سَنَتَيْنِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا عَلِمْت فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] . أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] . وَمُحَالٌ أَنْ يَجْعَلَ أَجْرَهَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَرَّتَيْنِ وَعَذَابَهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يُرِيدُ تَضْعِيفَ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا الْمَعْهُودُ مِنْ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، وَأَنْكَرُوا قَوْلَهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لَا أُحِبُّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] . لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] . فَأَعْلَمَ أَنَّ لَهَا مِنْ هَذَا حَظَّيْنِ، وَمِنْ هَذَا حَظَّيْنِ. وَقَدْ نَقَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ النَّحْوِيُّ، عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِالضِّعْفِ مُثَنًّى وَمُفْرَدًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمُوَافَقَةُ الْعَرَبِ عَلَى لِسَانِهِمْ، مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَزِيزِ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، مَعَ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ وَنِسْبَةُ الْخَطَأِ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، فَظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ وَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلنَّقْلِ، فَقَدْ يَشِذُّ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ كَلِمَاتٌ تُؤْخَذُ نَقْلًا بِغَيْرِ قِيَاسٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ] فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ بِنَصِيبِ ابْنِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ لِكَوْنِهِ رَقِيقًا أَوْ مُخَالِفًا لِدِينِهِ، أَوْ بِنَصِيبِ أَخِيهِ وَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ، فَمِثْلُهُ لَا شَيْءَ لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 [فَصْل أَوْصَى لِرَجُلِ بِثُلُثِ وَلِآخَرَ بِرُبْعِ وَلِآخَرَ بِخَمْسِ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ وَصِيَّةِ أَحَدِهِمْ] (4632) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثٍ، وَلِآخَرَ بِرُبُعٍ، وَلِآخَرَ بِخُمُسٍ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ وَصِيَّةِ أَحَدِهِمْ، فَلَهُ الْخُمُسُ. وَإِنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِعَشْرَةٍ وَلِآخَرَ بِسِتَّةٍ وَلِآخَرَ بِأَرْبَعَةٍ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ وَصِيَّةِ أَحَدِهِمْ، فَلَهُ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ. وَإِنْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكُهُمْ. فَلَهُ خُمُسُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ وَصَّى لِأَحَدِهِمْ بِمِائَةٍ، وَلِآخَرَ بِدَارٍ، وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ، ثُمَّ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكُهُمْ. فَلَهُ نِصْفُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. ذَكَرَهَا الْخَبْرِيُّ؛ لِأَنَّهُ هَا هُنَا يُشَارِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا، وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ النِّصْفُ، بِخِلَافِ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ الرُّبُعُ فِي الْجَمِيعِ. [فَصْل أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ] (4633) فَصْلٌ وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ لَوْ كَانَ، فَقَدِّرْ الْوَارِثَ مَوْجُودًا، وَانْظُرْ مَا لِلْمُوصَى لَهُ مَعَ وُجُودِهِ، فَهُوَ لَهُ مَعَ عَدَمِهِ. فَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ثَالِثٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الرُّبْعُ. وَلَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ لَوْ كَانَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسُ. وَعَلَى هَذَا أَبَدًا. وَلَوْ خَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا، وَأَوْصَتْ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُمٍّ لَوْ كَانَتْ. فَلِلْمُوصَى لَهُ الْخُمُسُ؛ لِأَنَّ لِلْأُمِّ الرُّبُعَ لَوْ كَانَتْ، فَيَجْعَلُ لَهَا سَهْمًا مُضَافًا إلَى أَرْبَعَةٍ، يَكُنْ خُمْسًا، فَقِسْ عَلَى هَذَا. [مَسْأَلَة خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ] (4634) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الرُّبُعُ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ، لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ. وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِهِ. وَلَوْ خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، وَالثُّلُثُ فِي حَالِ الرَّدِّ. وَعِنْدَ مَالِكٍ، لِلْمُوصَى لَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ جَمِيعُ الْمَالِ. [فَصْل خَلَّفَ بِنْتًا وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا] (4635) فَصْلٌ: فَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ كَانَ ابْنًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الرَّدَّ؛ لِأَنَّهَا تَأْخُذُ الْمَالَ كُلَّهُ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، وَمَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ يَقْتَضِي قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثُ، وَلَهَا نِصْفُ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ وَلَهَا نِصْفُ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَاهُمَا، فَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَنَا. وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ أَنَّهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ لِبَيْتِ الْمَالِ الرُّبُعُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبُعُهُ. وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ الثُّلُثَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ ثُلُثَا مَا بَقِيَ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. فَإِنْ خَلَّفَ جَدَّةً وَحْدَهَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا، فَقِيَاسُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ أَنَّهَا مِنْ سَبْعَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّبُعُ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسَ، وَلِلْجَدَّةِ سُدُسُ مَا بَقِيَ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. [فَصْل خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأُوصِي لِثَلَاثَةِ بِمِثْلِ أَنْصِبَائِهِمْ] فَصْلٌ وَإِذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِثَلَاثَةٍ بِمِثْلِ أَنْصِبَائِهِمْ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ إنْ أَجَازُوا، وَإِنْ رَدُّوا فَمِنْ تِسْعَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُمْ الثُّلُثُ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَإِنْ أَجَازُوا لَوَاحِدٍ وَرَدُّوا عَلَى اثْنَيْنِ، فَلِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِمَا التُّسْعَانِ اللَّذَانِ كَانَا لَهُمَا فِي حَالِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْمُجَازِ لَهُ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ السُّدُسُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ لِلْجَمِيعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ شُرَيْحٍ، فَيَأْخُذُ السُّدُسَ وَالتُّسْعَيْنِ مِنْ مَخْرَجِهِمَا، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ بَيْنَ الْبَنِينَ، عَلَى ثَلَاثَةٍ لَا يَصِحُّ، فَيُضْرَبُ عَدَدُهُمْ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ، لِلْمُجَازِ لَهُ السُّدُسُ تِسْعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنْ يُضَمَّ الْمُجَازُ لَهُ إلَى الْبَنِينَ، وَيُقْسَمَ الْبَاقِي بَعْدَ التُّسْعَيْنِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ، لَا تَنْقَسِمُ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي تِسْعَةٍ، تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْآخَرِينَ، أَتَمُّوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَمَامَ سُدُسِ الْمَالِ، فَيَصِيرَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَضُمُّونَ مَا حَصَلَ لَهُمْ، وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، إلَى مَا حَصَلَ لَهُمَا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، وَلَا يَصِحُّ، فَتَضْرِبُ خَمْسَةً فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ. وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُ الْبَنِينَ لَهُمْ، وَرَدَّ الْآخَرَانِ عَلَيْهِمْ، فَلِلْمُجِيزِ السُّدُسُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِلَّذَيْنِ لَمْ يُجِيزَا أَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ، ثَمَانِيَةٌ، تَبْقَى سَبْعَةٌ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، اضْرِبْهَا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ. وَإِنْ أَجَازَ وَاحِدٌ لَوَاحِدٍ، دَفَعَ إلَيْهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْفَضْلِ، وَهُوَ ثُلُثُ سَهْمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [فَصْل وَصَّى لِرَجُلِ بِجُزْءِ مُقَدَّرٍ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ] (4637) فَصْلٌ وَإِذَا وَصَّى لِرَجُلٍ بِجُزْءٍ مُقَدَّرٍ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُعْطَى الْجُزْءُ لِصَاحِبِهِ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ، كَأَنَّهُ ذَلِكَ الْوَارِثَ إنْ أَجَازُوا. وَإِنْ رَدُّوا، قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ لَهُمَا فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ النَّصِيبِ مِثْلَ نَصِيبِ الْوَارِثِ، كَأَنْ لَا وَصِيَّةَ سِوَاهَا. وَهَذَا قَوْلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 يَحْيَى بْنِ آدَمَ مِثَالُهُ: رَجُلٌ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الثُّلُثُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْوَصِيِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ، فَإِنْ رَدُّوا فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ الثُّلُثُ، وَلِلْآخَرِ الرُّبْعُ إنْ أُجِيزَ لَهُمَا، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِمَا، قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ. وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ، مِثْلُ إنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالنِّصْفِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ، فَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ نَصِيبَهُ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ رُبُعُهَا؛ لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا شَيْءٌ إلَّا بِإِجَازَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ، فَيَكُونُ صَاحِبُ النَّصِيبِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، لَا تَنْقُصُ مِنْ السُّدُسِ شَيْئًا إلَّا بِإِجَازَتِهِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِصَاحِبِ الْجُزْءِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرِ وَالْبَنِينَ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ إنْ أَجَازُوا، وَإِنْ رَدُّوا قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، لِصَاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ، وَلِلْآخَرِ الرُّبُعُ وَيَبْقَى الرُّبُعُ بَيْنَ الْبَنِينَ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنْ رَدُّوا فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ، وَلِلْآخَرِ السُّدُسُ، وَيَبْقَى الثُّلُثُ بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ رَدُّوا، فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ. وَإِنْ أَوْصَى لِصَاحِبِ الْجُزْءِ بِالثُّلُثَيْنِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبُعُ الثُّلُثِ، سَهْمٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرِ إنْ أَجَازُوا، وَإِنْ رَدُّوا قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، وَفِي حَالِ الرَّدِّ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ، يَكُونُ لَهُ السُّدُسُ فِي الْإِجَازَةِ، وَفِي الرَّدِّ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ. وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لَا يَصِحُّ لِلْوَصِيِّ الْآخَرِ شَيْءٌ فِي إجَازَةٍ وَلَا رَدٍّ. وَعَلَى الثَّانِي، يَقْسِمُ الْوَصِيَّانِ الْمَالَ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ فِي الْإِجَازَةِ، وَالثُّلُثَ عَلَى خَمْسَةٍ فِي الرَّدِّ. وَعَلَى الثَّالِثِ، يَقْتَسِمَانِ الْمَالَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي الْإِجَازَةِ، وَالثُّلُثَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي الرَّدِّ. [فَصْل أَوْصَى لِرَجُلِ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ وَلَلْآخَرَ بِجُزْءِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ] (4638) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ، وَلَلْآخَرَ بِجُزْءٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَفِيهَا أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ النِّصْفِ مِثْلَ نَصِيبِ الْوَارِثِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَصِيَّةٌ أُخْرَى. وَالثَّانِي أَنْ يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ مِنْ ثُلُثَيْ الْمَالِ. وَالثَّالِثُ، أَنْ يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ بَعْدَ أَخْذِ صَاحِبِ الْجُزْءِ وَصِيَّتَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَدْخُلُهَا الدُّورُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ. وَمِثَالُهُ، رَجُلٌ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِنِصْفِ بَاقِي الْمَالِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ الرُّبُعُ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ لِلْبَنِينَ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. وَعَلَى الثَّانِي لَهُ السُّدُسُ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ. وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِوُضُوحِهِمَا. وَأَمَّا عَلَى الثَّالِثِ فَيَدْخُلُهَا الدُّورُ، وَلِعَمَلِهَا طُرُقٌ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَأْخُذَ مَخْرَجَ النِّصْفِ، فَتُسْقِطَ مِنْهُ سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمٌ، فَهُوَ النَّصِيبُ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا، تَصِيرُ أَرْبَعَةً، فَتَضْرِبُهَا فِي الْمَخْرَجِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، تَنْقُصُهَا سَهْمًا، يَبْقَى سَبْعَةٌ، فَهِيَ الْمَالُ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمٌ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ. طَرِيقٌ آخَرُ، أَنْ تَزِيدَ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ نِصْفَ سَهْمٍ، وَتَضْرِبَهَا فِي الْمَخْرَجِ، تَكُنْ سَبْعَةً. طَرِيقٌ ثَالِثٌ، وَيُسَمَّى الْمَنْكُوسَ، أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الْبَنِينَ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَقُولُ: هَذِهِ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ نِصْفُهُ، فَإِذَا أَرَدْت تَكْمِيلَهُ فَزِدْ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا مِثْلَ سَهْمِ ابْنٍ، تَكُنْ سَبْعَةً. طَرِيقٌ رَابِعٌ، أَنْ تَجْعَلَ الْمَالَ سَهْمَيْنِ وَنَصِيبًا، وَتَدْفَعَ النَّصِيبَ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِلَى الْآخَرِ سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمٌ لِلْبَنِينَ يَعْدِلُ ثُلُثَهُ، فَالْمَالُ كُلُّهُ سَبْعَةٌ. وَبِالْجَبْرِ تَأْخُذُ مَالًا فَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ إلَّا نَصِيبًا، وَتَدْفَعُ نِصْفَ الْبَاقِي إلَى الْوَصِيِّ الْآخَرِ، يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَاجْبُرْهُ بِنِصْفِ نَصِيبٍ، وَزِدْهُ عَلَى الثَّلَاثَةِ، يَبْقَى نِصْفًا كَامِلًا، يَعْدِلُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا، فَالْمَالُ كُلُّهُ سَبْعَةٌ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِنِصْفِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُث] (4639) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِنِصْفِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، أَخَذْت مَخْرَجَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ، وَهُوَ سِتَّةٌ، نَقَصْت مِنْهَا وَاحِدًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ، فَهِيَ النَّصِيبُ ثُمَّ تَزِيدُ وَاحِدًا عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ، وَتَضْرِبُهَا فِي الْمَخْرَجِ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تَنْقُصُهَا ثَلَاثَةً، يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، فَهُوَ الْمَالُ فَتَدْفَعُ إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ خَمْسَةً، يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ اثْنَانِ، تَدْفَعُ مِنْهُمَا سَهْمًا إلَى الْوَصِيِّ الْآخَرِ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَبِالطَّرِيقِ الثَّانِي، تَزِيدُ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ نِصْفًا، وَتَضْرِبُهَا فِي الْمَخْرَجِ، تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ. وَبِالثَّالِثِ، تَعْمَلُ كَمَا عَمِلْت فِي الْأُولَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعَةً ضَرَبْتهَا فِي ثَلَاثَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ بِنِصْفِ الثُّلُثِ. وَبِالرَّابِعِ، تَجْعَلُ الثُّلُثَ سَهْمَيْنِ وَنَصِيبًا، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِلَى الْآخَرِ سَهْمًا، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَنَصِيبَانِ، تَدْفَعُ نَصِيبَيْنِ إلَى ابْنَيْنِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ لِلثَّالِثِ، فَهِيَ النَّصِيبُ، فَإِذَا بَسَطْتهَا كَانَتْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَبِالْجَبْرِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 تَأْخُذُ مَالًا فَتُلْقِي مِنْهُ ثُلُثَهُ نَصِيبًا، وَتَدْفَعُ إلَى الْآخَرِ نِصْفَ بَاقِي الثُّلُثِ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، اُجْبُرْهُ بِنِصْفِ نَصِيبٍ، وَزِدْهُ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ، يَصِيرُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا، تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ، أَقْلِبْ وَحَوِّلْ، يَصِيرُ النَّصِيبُ خَمْسَةً، وَكُلُّ سَهْمٍ سِتَّةً تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ. [فَصْلٌ أَوْصَى لِثَالِثِ بِرُبْعِ الْمَال الْمُوصِي] (4640) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْصَى لِثَالِثٍ بِرُبُعِ الْمَالِ، فَخُذْ الْمَخَارِجَ، وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، وَاضْرِبْ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا، تَصِرْ أَرْبَعَةً، وَاضْرِبْهَا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ سِتَّةً وَتِسْعِينَ، اُنْقُصْ مِنْهَا ضَرْبَ نِصْفِ سَهْمٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ، فَهِيَ الْمَالُ، ثُمَّ اُنْظُرْ الْأَرْبَعَةَ وَعِشْرِينَ، فَانْقُصْ مِنْهَا سُدُسَهَا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَرُبُعَهَا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ، يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَهِيَ النَّصِيبُ، فَادْفَعْهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، ثُمَّ ادْفَعْ إلَى الثَّانِي نِصْفَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ، وَإِلَى الثَّالِثِ رُبُعَ الْمَالِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، يَبْقَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَبِالطَّرِيقِ الثَّانِي، تَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ نِصْفَ سَهْمٍ، وَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ. وَبِالطَّرِيقِ الثَّالِثِ، تَعْمَلُ فِي هَذِهِ كَمَا عَمِلْت فِي الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، ضَرَبْتهَا فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ أَجْلِ الرُّبُعِ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ. وَبِطَرِيقِ النَّصِيبِ تَفْرِضُ الْمَالَ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، وَثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، تَدْفَعُ نَصِيبًا إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ، وَإِلَى الْآخَرِ سَهْمًا، وَإِلَى صَاحِبِ الرُّبُعِ سَهْمًا وَنِصْفًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، وَيَبْقَى مِنْ الْمَالِيَّةِ نَصِيبٌ وَرُبُعٌ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ لِلْوَرَثَةِ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَأَسْقِطْ نَصِيبًا وَرُبْعًا بِمِثْلِهَا، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، يَعْدِلُ نَصِيبًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، فَالنَّصِيبُ إذًا سَهْمَانِ، فَابْسُطْ الثَّلَاثَةَ الْأَنْصِبَاءَ، تَكُنْ سِتَّةً، فَصَارَ الْمَالُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَمِنْهَا يَصِحُّ، لِصَاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ بَاقِي الثُّلُثِ سَهْمٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ، تَبْقَى سِتَّةٌ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ. وَهَذَا أَخْصَرُ وَأَحْسَنُ. وَبِالْجَبْرِ، تَأْخُذُ مَالًا تَدْفَعُ مِنْهُ نَصِيبًا، يَبْقَى مَالٌ إلَّا نَصِيبًا، تَدْفَعُ نِصْفَ بَاقِي ثُلُثِهِ، وَهُوَ سُدُسٌ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، تَدْفَعُ مِنْهَا رُبُعَ الْمَالِ، يَبْقَى ثُلُثُ الْمَالِ وَرُبُعُهُ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَقَلِّبْ وَحَوِّلْ، يَكُنْ النَّصِيبُ سَبْعَةً، وَالْمَالُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ، لِيَزُولَ الْكَسْرُ، يَرْجِعُ إلَى أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ بِرُبْعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ] (4641) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ بِرُبُعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَاعْمَلْهَا بِطَرِيقِ النَّصِيبِ، كَمَا ذَكَرْنَا، يَبْقَى مَعَك ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ تَعْدِلُ نَصِيبًا وَنِصْفًا، اُبْسُطْهُمَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ السِّهَامُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْأَنْصِبَاءُ سِتَّةً، تُوَافِقُهُمَا وَتَرُدُّهُمَا إلَى وَفْقَيْهِمَا، تَصِيرُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، تَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ، اقْلِبْ وَاجْعَلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 النَّصِيبَ خَمْسَةً وَالسَّهْمَ اثْنَيْنِ، وَابْسُطْ مَا مَعَك، يَصِرْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، فَادْفَعْ خَمْسَةً إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ، وَإِلَى الْآخَرِ نِصْفَ بَاقِي الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ، وَإِلَى الْآخَرِ رُبُعَ الْبَاقِي خَمْسَةً، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَهَذَا الطَّرِيقُ أَخْصَرُ. وَإِنْ عَمِلْت بِالطَّرِيقِ الثَّانِي، أَخَذَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، فَنَقَصْت سُدُسَهَا وَرُبُعَ الْبَاقِي، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهِيَ النَّصِيبُ، ثُمَّ زِدْت عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَنَقَصْت نِصْفَهُ وَرُبُعَ الْبَاقِي مِنْهُ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، رُدَّهَا عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ، تَكُنْ ثَلَاثَةً، وَثَلَاثَةَ أَثْمَانِ، تَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ أَحَدًا وَثَمَانِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ، وَبِالْجَبْرِ تُفْضِي إلَى ذَلِكَ أَيْضًا. [فَصْلٌ خَلَف أَمَّا وَأُخْتًا وَعَمًّا وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْعَمّ وَسُدُسِ مَا يَبْقَى] (4642) فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَّفَ أُمًّا وَأُخْتًا وَعَمًّا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْعَمِّ، وَسُدُسِ مَا يَبْقَى، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأُمِّ وَرُبْعِ مَا يَبْقَى، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأُخْتِ وَثُلُثِ مَا يَبْقَى، فَاعْمَلْهَا بِالْمَنْكُوسِ، وَقُلْ: أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ، فَابْدَأْ بِآخِرِ الْوَصَايَا، فَقُلْ: هَذَا مَالٌ ذَهَبَ ثُلُثُهُ، فَزِدْ عَلَيْهِ نِصْفَهُ ثَلَاثَةً، وَمِثْلَ نَصِيبِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةً، صَارَتْ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ قُلْ: هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ رُبُعُهُ، فَزِدْ عَلَيْهِ ثُلُثَهُ، وَمِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ سِتَّةً، صَارَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ قُلْ: هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ سُبُعُهُ، فَزِدْ عَلَيْهِ سُدُسَهُ، وَنَصِيبَ الْعَمِّ، صَارَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ. [فَصْلٌ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا رُبْعَ الْمَالِ] (4643) فَصْلٌ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ، إذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا رُبُعَ الْمَالِ، فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرِ أَرْبَعَةً، وَزِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا، تَكُنْ خَمْسَةً، فَهَذَا النَّصِيبُ، وَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا، وَاضْرِبْهُ فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، تَدْفَعُ إلَى الْوَصِيِّ خَمْسَةً، وَتَسْتَثْنِي مِنْهُ أَرْبَعَةً يَبْقَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَإِنْ شِئْت خَصَصْت كُلَّ ابْنٍ بِرُبُعٍ، وَقَسَمْت الرُّبُعَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ. فَإِنْ قَالَ: إلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ. فَزِدْ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَرُبْعًا، وَاضْرِبْهُ فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ سَبْعَةَ عَشَرَ، لِلْوَصِيِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَبِالْجَبْرِ، تَأْخُذُ مَالًا، وَتَدْفَعُ مِنْهُ نَصِيبًا إلَى الْمُوصَى لَهُ، وَتَسْتَثْنِي مِنْهُ رُبْعَ الْبَاقِي، وَهُوَ رُبْعُ مَالٍ إلَّا رُبْعَ نَصِيبٍ، صَارَ مَعَك مَالٌ وَرُبْعٌ إلَّا نَصِيبًا وَرُبْعًا، يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْبَنِينَ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ، يَخْرُجْ النَّصِيبُ خَمْسَةً، وَالْمَالُ سَبْعَةَ عَشَرَ. فَإِنْ قَالَ: إلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. جَعَلْت الْمَخْرَجَ ثَلَاثَةً، وَزِدْت عَلَيْهِ ثُلُثَهُ، صَارَ أَرْبَعَةً، فَهُوَ النَّصِيبُ، وَتَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ نَصِيبًا وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَهُوَ الْمَالُ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: الْمَالُ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ وَوَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ هِيَ نَصِيبٌ إلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ، فَيَبْقَى رُبُعُ نَصِيبٍ، فَهُوَ الْوَصِيَّةُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ ثَلَاثَةٌ وَرُبُعٌ، اُبْسُطْهَا، تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَلِهَذِهِ الْمَسَائِلِ طُرُقٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 [فَصْلٌ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِي إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ] (4644) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ. فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرِ ثُلُثَ الثُّلُثِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ وَزِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا، تَكُنْ عَشَرَةً، فَهِيَ النَّصِيبُ، وَزِدْ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَثُلُثًا، وَاضْرِبْ ذَلِكَ فِي تِسْعَةٍ، تَكُنْ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، ادْفَعْ عَشَرَةً إلَى الْوَصِيِّ، وَاسْتَثْنِ مِنْهُ ثُلُثَ بَقِيَّةِ الثُّلُثِ سَهْمًا، يَبْقَى لَهُ تِسْعَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشْرَةٌ. وَإِنْ قَالَ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. جَعَلْت الْمَالَ سِتَّةً، وَزِدْت عَلَيْهَا سَهْمًا، صَارَتْ سَبْعَةً، فَهَذَا هُوَ النَّصِيبُ، وَزِدْت عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَنِصْفًا، وَضَرَبْته فِي سِتَّةٍ، صَارَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، وَدَفَعْت إلَى الْوَصِيِّ سَبْعَةً، وَأَخَذْت مِنْهُ نِصْفَ بَقِيَّةِ الثُّلُثِ، بَقِيَ مَعَهُ سِتَّةٌ، وَبَقِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الثُّلُثَ بَعْد الْوَصِيَّةِ هُوَ النِّصْفُ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَمَتَى أَطْلَقَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَلَمْ يَقُلْ: بَعْدَ النَّصِيبِ وَلَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ النَّصِيبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. [فَصْل الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْوَصِيَّة] (4645) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إلَّا خُمُسَ مَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْأَوَّلِ، فَخُذْ الْجَمِيعَ خَمْسَةً، وَزِدْ عَلَيْهَا خُمْسَهَا، تَكُنْ سِتَّةً، اُنْقُصْ ثُلُثَهَا مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، فَهِيَ النَّصِيبُ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا، وَزِدْ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَانْقُصْ مِنْ ذَلِكَ ثُلُثَهُ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، زِدْهَا عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ، وَاضْرِبْهَا فِي خَمْسَةٍ، تَصِرْ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَهِيَ الْمَالُ، ادْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ أَرْبَعَةً، وَاسْتَثْنِ مِنْهُ خُمُسَ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ، يَبْقَ مَعَهُ سَهْمٌ، فَادْفَعْ إلَى الْآخَرِ ثُلُثَ الْبَاقِي سِتَّةً، يَبْقَ اثْنَا عَشَرَ، لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ. وَبِالْجَبْرِ خُذْ مَالًا، وَأَلْقِ مِنْهُ نَصِيبًا، وَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ خُمُسَ الْبَاقِي، يَصِرْ مَعَك مَالٌ وَخُمُسٌ إلَّا نَصِيبًا وَخُمُسًا، أَلْقِ مِنْهُ ثُلُثَ ذَلِكَ، يَبْقَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَالٍ إلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَابْسُطْ، يَكُنْ الْمَالُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةً. وَإِنْ شِئْت قُلْت: أَنْصِبَاءُ الْبَنِينَ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ ثُلُثُهُ، فَزِدْ عَلَيْهِ نِصْفَهُ، يَصِرْ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَنِصْفًا وَوَصِيَّةً، وَالْوَصِيَّةُ هِيَ نَصِيبٌ إلَّا خُمُسَ الْبَاقِي، وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبٍ وَخُمُسُ نَصِيبٍ، وَخُمُسُ وَصِيَّةٍ، أُسْقِطْهُ مِنْ النَّصِيبِ، يَبْقَ خُمُسُ نَصِيبٍ وَعُشْرُ نَصِيبٍ إلَّا خُمُسَ وَصِيَّةٍ، تَعْدِلُ وَصِيَّةً، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَابْسُطْ، تَصِرْ ثَلَاثَةً مِنْ النَّصِيبِ، تَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ تَتَّفِقُ بِالْأَثْلَاثِ، فَرُدَّهَا عَلَى وَفْقِهَا، تَصِرْ سَهْمًا، يَعْدِلُ أَرْبَعَةً، فَالْوَصِيَّةُ سَهْمٌ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ، فَابْسُطْهَا، تَكُنْ تِسْعَةَ عَشَرَ. فَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، قُلْت: الْمَالُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفُ وَصِيَّةٍ، وَهِيَ نَصِيبٌ إلَّا خُمُسَ الْبَاقِي، وَهُوَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ نَصِيبٍ، يَبْقَى عُشْرُ نَصِيبٍ، فَهُوَ الْوَصِيَّةُ. فَابْسُطْ الْكُلَّ أَعْشَارًا تَكُنْ الْأَنْصِبَاءُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَالْوَصِيَّةُ سَهْمٌ. وَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى خُمُسَ الْمَالِ كُلَّهُ، فَالْوَصِيَّةُ عُشْرُ نَصِيبٍ إلَّا خُمُسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 وَصِيَّةٍ، اُجْبُرْ يَصِرْ الْعُشْرُ يَعْدِلُ وَصِيَّةً وَخُمْسًا، اُبْسُطْ يَصِيرُ النَّصِيبُ سِتِّينَ، وَالْوَصِيَّةُ خَمْسَةً، وَالْمَالُ كُلُّهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، أَلْقِ مِنْهَا سِتِّينَ، وَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ خُمُسَ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ، يَبْقَ لَهُ خَمْسَةٌ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَا الْبَاقِي تِسْعُونَ، وَيَبْقَى مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ سِتُّونَ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى خُمُسِهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ، لِلْوَصِيِّ الْأَوَّلِ سَهْمٌ، وَلِلثَّانِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ. وَبِالْجَبْرِ، تَأْخُذُ مَالًا تُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا، وَتَزِيدُ عَلَى الْمَالِ خَمْسَةً، يَصِرْ مَالًا وَخُمْسًا إلَّا نَصِيبًا، أَلْقِ ثُلُثَ ذَلِكَ، يَبْقَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَالٍ إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةً، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَابْسُطْ، يَكُنْ الْمَالُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ، لِيَزُولَ الْكَسْرُ، يَصِرْ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ. وَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى الْخُمُسَ كُلَّهُ، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ كُلِّهِ، فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَزِدْ عَلَيْهَا خُمُسَهَا، ثُمَّ اُنْقُصْ ثُلُثَ الْمَالِ كُلَّهُ، يَبْقَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَهِيَ النَّصِيبُ، وَزِدْ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ سَهْمًا، وَاضْرِبْهُ فِي الْمَالِ، يَكُنْ سِتِّينَ، وَهُوَ الْمَالُ. وَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى خُمُسَ الْبَاقِي، وَأَوْصَى بِثُلُثِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَالْعَمَلُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّك تَزِيدُ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَخُمْسًا، وَتَضْرِبُهَا، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ، فَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى خُمُسَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، زِدْت عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَاحِدًا، فَصَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ نَقَصْت ثُلُثَ الْمَالِ كُلَّهُ، بَقِيَ أَحَدَ عَشَرَ، فَهِيَ النَّصِيبُ، ثُمَّ زِدْت عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَخُمْسًا، وَضَرَبْتهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ، تَدْفَعُ إلَى الْوَصِيِّ الْأَوَّلِ أَحَدَ عَشَرَ، وَتَسْتَثْنِي مِنْهُ خُمُسَ بَقِيَّةِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ، يَبْقَى مَعَهُ تِسْعَةٌ، وَتَدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِثُلُثِ بَاقِي الْمَالِ، زِدْت عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَاحِدًا ثُمَّ نَقَصْت ثُلُثَ السِّتَّةَ عَشَرَ، وَلَا ثُلُثَ لَهَا فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، اُنْقُصْ ثُلُثَهَا، يَبْقَى اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، فَهِيَ النَّصِيبُ، وَخُذْ سَهْمًا، وَزِدْ عَلَيْهِ خَمْسَةً، ثُمَّ اُنْقُصْ ثُلُثَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْبَاقِي، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، زِدْهَا عَلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَاضْرِبْهَا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، تَكُنْ مِائَةً وَإِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَمِنْهَا تَصِحُّ. [فَصْل خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ إلَّا نَصِيبَ أَحَدِهِمْ] (4646) فَصْلٌ: فَإِنْ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ إلَّا نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَلَهُ التُّسْعُ. وَحِسَابُهَا أَنْ تَدْفَعَ إلَى الْوَصِيِّ وَابْنٍ ثُلُثَ الْمَالِ، يَبْقَى ثُلُثَاهُ لِثَلَاثَةِ بَنِينَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ تُسْعَانِ، فَعَلِمْت أَنْ نَصِيبَ الِابْنِ مِنْ الثُّلُثِ تُسْعَانِ، يَبْقَى تُسْعٌ لِلْوَصِيِّ. وَإِنْ وَصَّى لِآخَرَ بِخُمُسِ مَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، عَزَلْت ثُلُثَ الْمَالِ، ثُمَّ أَخَذْت مِنْهُ نَصِيبًا، وَرَدَدْته عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَدَفَعْت إلَى الْوَصِيِّ الثَّانِي خُمُسَ ذَلِكَ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ ثُلُثُهُ وَخُمُسُهُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ لِلْوَرَثَةِ، فَأَسْقِطْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ بِمِثْلِهَا، يَبْقَى لَهُ ثَلَاثَةٌ وَخُمُسٌ، تَعْدِلُ ثُلُثًا وَخُمُسًا، فَنِصْفُ الْمَالِ إذَا يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 أَنْصِبَاءَ، وَالْمَالُ كُلُّهُ سِتَّةٌ لِلْوَصِيَّيْنِ وَالْبَنِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ. (طَرِيقٌ آخَرُ) سِهَامُ الْبَنِينَ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ خُمُسُهُ، فَزِدْ عَلَيْهِ رُبُعَهُ لِلْوَصِيِّ الثَّانِي، صَارَتْ خَمْسَةً، ثُمَّ زِدْ عَلَى سَهْمِ ابْنٍ مَا يَكْمُلُ بِهِ الثُّلُثُ، وَهُوَ سَهْمٌ آخَرُ فَصَارَتْ سِتَّةً. وَإِنْ شِئْت فَرَضْت الْمَالَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَتَكْمِلَةً، وَدَفَعْت التَّكْمِلَةَ إلَى صَاحِبِهَا، وَخُمُسَ الْبَاقِي إلَى صَاحِبِهِ، وَيَبْقَى لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ سَهْمَ ابْنٍ مَعَ التَّكْمِلَةِ ثُلُثُ الْمَالِ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَقَابِلْ بِهِمَا نِصْفَ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ سَهْمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْمِلَةَ سَهْمٌ. [فَصْل أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَلِآخَر بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِدِرْهَمِ] (4647) فَصْلٌ وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، وَلِآخَرَ بِدِرْهَمٍ، فَاجْعَلْ الْمَالَ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةَ أَيْضًا، فَادْفَعْ إلَى الْوَصِيِّ الْأَوَّلِ نَصِيبًا، وَإِلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ دِرْهَمَيْنِ، بَقِيَ سَبْعَةٌ وَنَصِيبَانِ، ادْفَعْ نَصِيبَيْنِ إلَى ابْنَيْنِ، يَبْقَى سَبْعَةٌ لِلِابْنِ الثَّالِثِ، فَالنَّصِيبُ سَبْعَةٌ، وَالْمَالُ ثَلَاثُونَ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ بِدِرْهَمَيْنِ، فَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ وَالْمَالُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ. [فَصْلٌ تَرَكَ سِتّمِائَةِ وَوَصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِمِائَةِ وَلِآخِرِ بِتَمَامِ الثُّلُث] (4648) فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ سِتَّمِائَةٍ، وَوَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ بِمِائَةٍ، وَلِآخَرَ بِتَمَامِ الثُّلُثِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ، فَإِنْ رَدَّ الْأَوَّلُ وَصِيَّتَهُ فَلِلْآخَرِ مِائَةٌ. وَإِنْ وَصَّى لِلْأَوَّلِ بِمِائَتَيْنِ، وَلِلْآخَرِ بِبَاقِي الثُّلُثِ، فَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ رَدَّ الْأَوَّلُ وَصِيَّتَهُ أَوْ أَجَازَهَا. وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: إنْ رَدَّ الْأَوَّلُ، فَلِلثَّانِي مِائَتَانِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمِائَتَيْنِ لَيْسَتْ بَاقِيَ الثُّلُثِ، وَلَا تَتِمَّتَهُ، فَلَا يَكُونُ مُوصًى بِهَا لِلثَّانِي، كَمَا لَوْ قَبِلَ الْأَوَّلُ. وَلَوْ وَصَّى لِوَارِثٍ بِثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بِتَمَامِ الثُّلُثِ، فَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي. وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، لَهُ الثُّلُثُ كَامِلًا. [فَصْل أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِمِائَةِ وَلَثَالِث بِتَمَامِ الثُّلُثِ عَلَى الْمِائَةِ] (4649) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ، وَلَثَالِثً بِتَمَامِ الثُّلُثِ عَلَى الْمِائَةِ، وَلَمْ يَزِدْ الثُّلُثُ عَلَى مِائَةٍ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ التَّمَامِ. وَإِنْ زَادَ عَلَى مِائَةٍ، وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ، أُمْضِيَتْ وَصَايَاهُمْ عَلَى مَا أَوْصَى لَهُمْ بِهِ. وَإِنْ رَدُّوا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُرَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى نِصْفِ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا رَجَعَتْ إلَى نِصْفِهَا، فَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَالِهِ فِي الْوَصِيَّةِ، كَسَائِرِ الْوَصَايَا. وَالثَّانِي، لَا شَيْءَ لِصَاحِبِ التَّمَامِ حَتَّى تَكْمُلَ الْمِائَةُ لِصَاحِبِهَا، ثُمَّ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ الْآخَرَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 نِصْفَيْنِ، وَيُزَاحِمُ صَاحِبُ الْمِائَةِ صَاحِبَ التَّمَامِ، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بَعْدَ تَمَامِ الْمِائَةِ لِصَاحِبِهَا، وَمَا تَمَّتْ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُزَاحِمَ بِهِ وَلَا يُعْطِيهِ، كَالْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، يُزَاحِمُ الْجَدَّ بِالْأَخِ مِنْ الْأَبِ، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا. [مَسْأَلَة أَوْصَى لِزَيْدِ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِعَمْرِو بِرُبُعِ مَالِهِ وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ] (4650) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِرُبُعِ مَالِهِ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِعَمْرِو سَهْمٌ؛ وَلِزَيْدٍ سَهْمَانِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِأَجْزَاءَ مِنْ الْمَالِ، أَخَذْتهَا مِنْ مَخْرَجِهَا، وَقَسَمْت الْبَاقِيَ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا، قَسَمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ، فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، وَقَسَمْت الثُّلُثَيْنِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُمْ مَنْ تُجَاوِزُ وَصِيَّتُهُ الثُّلُثَ أَوْ لَا. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ؛ الْحَسَنُ؛ وَالنَّخَعِيُّ؛ وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ فِي حَالِ الرَّدِّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ بَاطِلٌ، فَكَيْفَ يَضْرِبُ بِهِ؟ وَلَنَا، أَنَّهُ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ فَلَمْ تَجُزْ التَّسْوِيَةُ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِثُلُثٍ وَرُبُعٍ، أَوْ بِمِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ، وَمَالُهُ أَرْبَعُمِائَةٍ. وَهَذَا يُبْطِلُ مَا ذَكَرُوهُ، وَلِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ، فَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْوَصَايَا، كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. فَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِعَمْرٍو بِرُبُعِهِ، فَلِلْمُوصَى لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، إنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ، وَيَبْقَى لَهُمْ الرُّبُعُ. وَإِنْ رَدُّوا، فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ كُلُّهَا مِنْ تِسْعَةٍ. وَإِنْ أَجَازُوا لِأَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ، ضَرَبْت مَسْأَلَةَ الرَّدِّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ، وَأَعْطَيْت الْمُجَازَ لَهُ سَهْمَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ، وَالْمَرْدُودَ عَلَيْهِ سَهْمَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الرَّدِّ مَضْرُوبًا فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ. وَإِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ لَهُمَا، وَرَدَّ الْبَاقُونَ عَلَيْهِمَا، أَعْطَيْت الْمُجِيزَ سَهْمَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ سَهْمَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الرَّدِّ مَضْرُوبًا فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ، وَقَسَمْت الْبَاقِيَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ اتَّفَقَتْ الْمَسْأَلَتَانِ، ضَرَبْت وَفْقَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، وَمَنْ لَهُ سَهْمٌ مِنْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ الْأُخْرَى. وَإِنْ دَخَلَتْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى، اجْتَزَأْت بِأَكْثَرِهِمَا، فَفِي مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ هَذِهِ، إذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أُمًّا وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَأَجَازُوا، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، لِلْوَصِيَّيْنِ ثَلَاثَةٌ، يَبْقَى سَهْمٌ عَلَى سِتَّةٍ، تَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ. وَإِنْ رَدُّوا فَلِلْوَصِيَّيْنِ الثُّلُثُ ثَلَاثَةٌ، وَيَبْقَى، سِتَّةٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ سِتَّةٌ؛ فَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَإِنْ أَجَازُوا لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ، ضَرَبْت وَفْقَ التِّسْعَةِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ اثْنَا عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ فِي ثَمَانِيَةٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ أَجَازَتْ الْأُمُّ لَهُمَا وَرَدَّ الْبَاقُونَ عَلَيْهِمَا، أَعْطَيْت الْأُمَّ سَهْمًا فِي ثَلَاثَةٍ، وَالْبَاقِينَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ فِي ثَمَانِيَةٍ، صَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ، يَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ أَجَازَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَحْدَهَا، فَلَهَا تِسْعَةٌ وَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. [فَصْلٌ جَاوَزَتْ الْوَصَايَا الْمَالَ] (4651) فَصْلٌ إذَا جَاوَزَتْ الْوَصَايَا الْمَالَ، فَاقْسِمْ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، مِثْلُ الْعَوْلِ، وَاجْعَلْ وَصَايَاهُمْ كَالْفُرُوضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَرَثَةِ، إذَا زَادَتْ عَلَى الْمَالِ. وَإِنْ رَدُّوا، قَسَمْت الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ عَلَى تِلْكَ السِّهَامِ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: قَالَ لِي إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ، وَثُلُثِ مَالِهِ، وَرُبُعِ مَالِهِ؟ قُلْت: لَا يَجُوزُ. قَالَ: فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجَازُوا. قُلْت: لَا أَدْرِي؟ قَالَ: أَمْسِكْ اثْنَيْ عَشَرَ فَأَخْرِجْ نِصْفَهَا سِتَّةً، وَثُلُثَهَا أَرْبَعَةً، وَرُبُعَهَا ثَلَاثَةً، فَاقْسِمْ الْمَالَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُول: يَأْخُذُ أَكْثَرُهُمْ وَصِيَّةً مِمَّا يَفْضُلُ بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ إنْ أَجَازُوا، وَفِي الرَّدِّ لَا يُضْرَبُ لَأَحَدِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ نَقَصَ بَعْضُهُمْ عَنْ الثُّلُثِ، أَخَذَ أَكْثَرُهُمْ مَا يَفْضُلُ بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ. وَمِثَالُ ذَلِكَ، رَجُلٌ أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَالِهِ وَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ فِي الْإِجَازَةِ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي الرَّدِّ، كَمَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَفْضُلُهُمَا بِسُدُسٍ، فَيَأْخُذُهُ، وَهُوَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَفْضُلَانِ صَاحِبَ الثُّلُثِ بِسُدُسٍ، فَيَأْخُذَانِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ. وَإِنْ رَدُّوا قَسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ إنْ أَجَازُوا، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ فِي حَالِ الرَّدِّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ أَجَازُوا فَلِصَاحِبِ الْمَالِ الثُّلُثَانِ، يَتَفَرَّدُ بِهِمَا، وَيُقَاسِمُ صَاحِبَ الثُّلُثِ، فَيَحْصُلُ لَهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ السُّدُسُ، وَإِنْ رَدُّوا، اقْتَسَمَا الثُّلُثَ نِصْفَيْنِ، فَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ إلَّا السُّدُسُ فِي الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ جَمِيعًا. وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَ الثُّلُثِ سُدُسًا، لَكَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ فِي الْإِجَازَةِ، وَيُقَاسِمُ صَاحِبَ السُّدُسِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَهُ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفُهُ سَهْمٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. وَفِي الرَّدِّ، يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، فَيَجْعَلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ التُّسْعَ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، لِزِيَادَةِ سَهْمِ الْمُوصَى لَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى حَالَةِ الْإِجَازَةِ، وَمَتَى كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ حَقٌّ فِي حَالِ الرَّدِّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَكَّنَ الْوَارِثُ مِنْ تَغْيِيرِهِ، وَلَا تَنْقِيصِهِ، وَلَا أَخْذِهِ مِنْهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وَلَا صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ نَظِيرُهُ مَسَائِلُ الْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالدُّيُونِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا نَظِيرَ لَهُ، مَعَ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْوَارِثِ آكَدُ مِنْ فَرْضِ الْمُوصِي وَوَصِيَّتِهِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْفَضْلِ فِي الْفَرْضِ الْمَفْرُوضِ، لَا يَنْفَرِدُ بِفَضْلِهِ، فَكَذَا فِي الْوَصَايَا. [فَصْلٌ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَلِلْآخَرِ بِنِصْفِهِ] (4652) فَصْلٌ: وَإِذَا خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَلِلْآخَرِ بِنِصْفِهِ، فَالْمَالُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ إنْ أَجَازَا؛ لِأَنَّك إذَا بَسَطْت الْمَالَ مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ، كَانَ نِصْفَيْنِ، فَإِذَا ضَمَمْت النِّصْفَ الْآخَرَ، صَارَتْ ثَلَاثَةً، فَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَصِيرُ النِّصْفُ ثُلُثًا، كَمَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَإِنْ رَدُّوا، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ أَجَازُوا لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ، فَلِصَاحِبِ الْمَالِ التُّسْعَانِ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَخْذَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ لَهُمَا، مُزَاحَمَةُ صَاحِبِهِ، فَإِذَا زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ، أَخَذَ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ حَقًّا لِصَاحِبِ الْمَالِ، أَخَذَهُ الْوَرَثَةُ مِنْهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ الْوَارِثَانِ. وَإِنْ أَجَازَا لِصَاحِبِ الْكُلِّ وَحْدَهُ، فَلَهُ ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالتُّسْعُ لِلْآخَرِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، لَيْسَ لَهُ إلَّا الثُّلُثَانِ اللَّذَانِ كَانَا لَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ لَهُمَا، وَالتُّسْعَانِ لِلْوَرَثَةِ. فَإِنْ أَجَازَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ لَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُجِيزِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ. وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِ الْمَالِ وَحْدَهُ، فَلِلْآخَرِ التُّسْعُ، وَلِلِابْنِ الْآخَرِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ الْمَالِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ، وَالتُّسْعُ الْبَاقِي لِلْمُجِيزِ. وَإِنْ أَجَازَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ، دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصْفُ، وَهُوَ تُسْعٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِي أَحَدِ الْوَجْهِيِّينَ. وَفِي الْآخَرِ يَدْفَعُ إلَيْهِ التُّسْعَ، فَيَصِيرُ لَهُ تُسْعَانِ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ تُسْعَانِ، وَلِلْمُجِيزِ تُسْعَانِ، وَالثُّلُثُ لِلَّذِي لَمْ يُجِزْ. وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، لِلَّذِي لَمْ يُجِزْ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْمُجِيزِ خَمْسَةٌ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ ثَمَانِيَةٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الرَّدِّ مِنْ تِسْعَةٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ مِنْهَا سَهْمٌ، فَلَوْ أَجَازَ لَهُ الِابْنَانِ، كَانَ لَهُ تَمَامُ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ. فَإِذَا أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا، لَزِمَهُ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ، فَيُضْرَبُ مَخْرَجُ الرُّبُعِ فِي تِسْعَةٍ، يَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ. [مَسْأَلَة أَوْصَى لِوَلَدِهِ أَوْ لِوَلَدِ فُلَانٍ] (4653) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ، فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ قَالَ: لِبَنِيهِ. فَهُوَ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ) أَمَّا إذَا أَوْصَى لِوَلَدِهِ أَوْ لِوَلَدِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالْخَنَاثَى. لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 يَشْمَلُ الْجَمِيعَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] . نَفَى الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: لِبَنِيَّ، أَوْ بَنِي فُلَانٍ. فَهُوَ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَالْخَنَاثَى. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: هُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ قَبِيلَةٌ، دَخَلَ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَهُوَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كُنَّ بَنَاتٍ لَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ، فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ غَلَبَ لَفْظُ التَّذْكِيرِ، وَدَخَلَ فِيهِ الْإِنَاثُ، كَلَفْظِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَلَنَا، أَنَّ لَفْظَ الْبَنِينَ يَخْتَصُّ الذُّكُورَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] . وَقَالَ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] . وَقَالَ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَهُونَ الْبَنَاتِ. فَقَالَ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى} [النحل: 58] . الْآيَةَ. وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي الِاسْمِ إذَا صَارُوا قَبِيلَةً؛ لِأَنَّ الِاسْمَ نُقِلَ فِيهِمْ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْعُرْفِ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ. إذَا انْتَسَبَتْ إلَى الْقَبِيلَةِ، وَلَا تَقُولُ ذَلِكَ إذَا انْتَسَبَتْ إلَى أَبِيهَا. [فَصْلٌ أَوْصَى لِبَنَاتِ فُلَانٍ] (4654) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِبَنَاتِ فُلَانٍ، دَخَلَ فِيهِ الْإِنَاثُ دُونَ غَيْرِهِنَّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ كَوْنَهُ أُنْثَى. [فَصْل أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ أَوْ لِبَنِيَّ فُلَانٍ وَلَمْ يَكُونُوا قَبِيلَةً] (4655) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ، أَوْ لِبَنِي فُلَانٍ. وَلَمْ يَكُونُوا قَبِيلَةً، فَهُوَ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ، وَأَمَّا أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِمْ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ، أَوْ قَالَ: وَلَا يُعْطَى وَلَدُ الْبَنَاتِ شَيْئًا. أَوْ قَالَ: إلَّا وَلَدَ فُلَانٍ. أَوْ فَضَّلُوا وَلَدَ فُلَانٍ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَنَحْوَ ذَلِكَ، دَخَلُوا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمْ، وَالْقَرِينَةَ صَارِفَةٌ لَهُ إلَيْهِمْ، فَصَارَ كَالتَّصْرِيحِ بِهِمْ. وَإِنْ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَى إخْرَاجِهِمْ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 انْتَفَتْ الْقَرَائِنُ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ حَقِيقَةً عِبَارَةٌ عَنْ وَلَدِ الصُّلْبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ دَخَلُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . قُلْنَا: إنَّمَا دَخَلُوا فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ ابْنٌ مِنْ وَلَدِ الصُّلْبِ، وَدَخَلُوا مَعَ الْإِنَاثِ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا يَرِثُونَ مَا فَضَلَ عَنْ الْبَنَاتِ، عَلَى مَا ذُكِرَ تَفْصِيلُهُ فِي الْفَرَائِضِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هَا هُنَا، فَانْتَفَى دُخُولُهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ وَلَدُ الْبَنِينَ فِي الْوَصِيَّةِ، إذَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تُخْرِجُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي اسْمِ الْوَلَدِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ وَغَيْرِهِ. [فَصْلٌ وَصَّى لِوَلَدِ فُلَانٍ أَوْ بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ قَبِيلَةٌ] (4656) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِوَلَدِ فُلَانٍ، أَوْ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ، كَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، دَخَلَ فِيهِمْ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْخُنْثَى وَيَدْخُلُ وَلَدُ الرَّجُلِ مَعَهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ بَنَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] . {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] . يُرِيدُ الْجَمِيعَ. وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [الجاثية: 16] . وَرُوِيَ أَنَّ جَوَارِيَ مِنْ الْأَنْصَارِ قُلْنَ: نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ ... يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ وَيُقَال: امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقَبِيلَةِ. [فَصْلٌ أَوْصَى لِأَخَوَاتِهِ خَاصَّةً] (4657) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِأَخَوَاتِهِ، فَهُوَ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً، وَإِنْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ، دَخَلَ فِيهِ الذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً} [النساء: 176] . وَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حَجْبِهَا بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَإِنْ قَالَ لِعُمُومَتِهِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِثْلُ الْإِخْوَةِ، يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَةُ أَبِيهِ. وَإِنْ قَالَ: لِبَنِي إخْوَتِهِ. أَوْ لِبَنِي عَمِّهِ. فَهُوَ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، إذَا لَمْ يَكُونُوا قَبِيلَةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْعُمُومَةَ لَيْسَ لَهُمَا لَفْظٌ مَوْضُوعٌ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى سِوَى هَذَا اللَّفْظِ، وَبَنُو الْإِخْوَةِ وَالْعَمِّ لَهُمْ لَفْظٌ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ وَهُوَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ اللَّفْظِ الْعَامِّ إلَى لَفْظِ الْبَنِينَ، دَلَّ عَلَى إرَادَةِ الذُّكُورِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومَةِ أَشْبَهُ بِلَفْظِ الْإِخْوَةِ، وَلَفْظَ بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْعَمِّ يُشْبِهُ بَنِي فُلَانٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِمَا. وَالْحُكْمُ فِي تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لِلْبَعِيدِ مِنْ الْعُمُومَةِ وَبَنِي الْعَمِّ وَالْإِخْوَةِ، حُكْمُ مَا ذَكَرْنَا فِي وَلَدِ الْوَلَدِ، مَعَ الْقَرِينَةِ وَعَدَمِهَا. [فَصْل أَلْفَاظ الْجُمُوع فِي الْوَصِيَّة عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرِب] (4658) فَصْلٌ: وَأَلْفَاظُ الْجُمُوعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى بِوَضْعِهِ، كَالْأَوْلَادِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْعَالَمِينَ وَشِبْهِهِ. وَالثَّانِيَةُ، مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِنَاثُ إذَا اجْتَمَعُوا، كَلَفْظِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالذِّمِّيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، كَالْوَاوِ فِي قَامُوا، وَالتَّاءِ وَالْمِيمِ فِي قُمْتُمْ، وَهُمْ مُفْرَدَةً وَمَوْصُولَةً، وَالْكَافِ وَالْمِيمِ فِي لَكُمْ وَعَلَيْكُمْ، وَنَحْوَهُ. فَهَذَا مَتَى اجْتَمَعَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَغُلِّبَ لَفْظُ التَّذْكِيرِ فِيهِ، وَدَخَلَ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَالثَّالِثُ، ضَرْبٌ يَخْتَصُّ الذُّكُورَ كَالْبَنِينَ وَالذُّكُورِ وَالرِّجَالِ وَالْغِلْمَانِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الذُّكُورُ. وَالرَّابِعُ، لَفْظٌ يَخْتَصُّ النِّسَاءَ، كَالنِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالصَّادِقَاتِ، وَالضَّمَائِرِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُنَّ، فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْإِنَاثِ. [فَصْلٌ وَصَّى لِلْأَرَامِلِ اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ] (4659) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِلْأَرَامِلِ، فَهُوَ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَرَامِلَ بَنِي فُلَانٍ. فَقَالَ: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَاَلَّذِي يُعْرَفُ فِي كَلَامِ النَّاسِ أَنَّ الْأَرَامِلَ النِّسَاءُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَنْشَدَ أَحَدُهُمَا: هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْت حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ وَقَالَ الْآخَرُ: أُحِبُّ أَنْ أَصْطَادَ ضَبْيًا سَحْبَلَا ... رَعَى الرَّبِيعَ وَالشِّتَاءَ أَرْمَلَا وَلَنَا، أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ النِّسَاءُ، فَلَا يُحْمَلُ لَفْظُ الْمُوصِي إلَّا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْأَرَامِلَ جَمْعُ أَرْمَلَةٍ، فَلَا يَكُونُ جَمْعًا لِلْمُذَكَّرِ؛ لِأَنَّ مَا يَخْتَلِفُ لَفْظُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي وَاحِدِهِ يَخْتَلِفُ فِي جَمْعِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَلَى قَائِلِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَخَطَّأَهُ فِيهِ، وَالشِّعْرُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْأَرَامِلِ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، لَقَالَ: " حَاجَتَهُمْ " إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ فِي أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى كَانَ لِلذَّكَرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 وَالْأُنْثَى، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ ضَمِيرٌ، غُلِّبَ فِيهِ لَفْظُ التَّذْكِيرِ وَضَمِيرُهُ، فَلَمَّا رُدَّ الضَّمِيرُ عَلَى الْإِنَاثِ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَسَمَّى نَفْسَهُ أَرْمَلَا تَجَوُّزًا تَشْبِيهًا بِهِنَّ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْمَجَازِ أَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا النِّسَاءُ، وَلَا يُسَمَّى بِهِ فِي الْعُرْفِ غَيْرُهُنَّ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِهِنَّ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَكَانَ قَدْ خَصَّ بِهِ أَهْلُ الْعُرْفِ النِّسَاءَ، وَهُجِرَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ حَتَّى صَارَتْ مَغْمُورَةً، لَا تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّة لِلْأَيَامَى] (4660) فَصْلٌ: فَأَمَّا لَفْظُ الْأَيَامَى، فَهُوَ كَالْأَرَامِلِ، إلَّا أَنَّهُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ بَوَارِ الْأَيِّمِ» . وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: آمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ زَوْجِهَا، وَأُمُّ عُثْمَانَ مِنْ رُقَيَّةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ وَلَنَا، أَنَّ الْعُرْفَ يَخُصُّ النِّسَاءَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ الْعُرْفِيِّ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ بَوَارِ الْأَيِّمِ» . إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا الَّتِي تُوصَفُ بِهَذَا، وَيَضُرُّ بَوَارُهَا. [فَصْلٌ الْوَصِيَّة لِلْعُزَّابِ] (4661) فَصْلٌ: وَالْعُزَّابُ هُمْ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ، وَامْرَأَةٌ عَزَبَةٌ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَزَبًا لِانْفِرَادِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ انْفَرَدَ فَهُوَ عَزَبٌ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ ثَوْرًا مِنْ الْوَحْشِ انْفَرَدَ: يَجْلُو الْبَوَارِقُ عَنْ مجلمز لَهَقٍ ... كَأَنَّهُ مُتَقَبِّي يُلْمَقُ عَزَبُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ الْعَزَبُ بِالرِّجَالِ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ، وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» . وَالْعَانِسُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: الَّذِي كَبِرَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ. قَالَ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ الْوَاقِفِيُّ: فِينَا الَّذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ ... وَالْعَانِسُونَ وَفِينَا الْمُرْدُ وَالشَّيْبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 وَالْكُهُولُ: الَّذِينَ جَازُوا الثَّلَاثِينَ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا} [آل عمران: 46] . (1) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ابْنُ ثَلَاثِينَ. مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: اكْتَهَلَ النَّبَاتُ، إذَا تَمَّ وَقَوِيَ. ثُمَّ لَا يَزَالُ كَهْلًا حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسِينَ، ثُمَّ يَشِيخُ، ثُمَّ لَا يُزَالُ شَيْخًا حَتَّى يَمُوتَ. [فَصْلٌ أَوْصَى لَجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ] (4662) فَصْلٌ وَإِذَا أَوْصَى لَجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، كَالْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، صَحَّ، وَأَجْزَأَ الدَّفْعُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يُدْفَعُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَبِيلَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا؛ لِأَنَّهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَإِذَا وَقَعَتْ لِلْأَغْنِيَاءِ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ إذَا دَخَلَتْ فِيهَا الْجَهَالَةُ لَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِمَجْهُولٍ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ صَحَّتْ لَجَمَاعَةٍ مَحْصُورِينَ، صَحَّتْ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ كَالْفُقَرَاءِ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَغْنِيَاءِ قُرْبَةٌ، وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْهَدِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لِغَنِيٍّ. وَأَمَّا جَوَازُ الدَّفْعِ إلَى وَاحِدٍ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى الدَّفْعِ فِي الزَّكَاةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ هُنَاكَ. [مَسْأَلَة الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ] (4663) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ وَلِلْحَمْلِ جَائِزَةٌ، إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَكَلَّمَ بِالْوَصِيَّةِ) أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ فَتَصِحُّ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا، بِأَنْ يَكُونَ رَقِيقًا، أَوْ حَمْلَ بَهِيمَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ، فَجَرَى مَجْرَى إعْتَاقِ الْحَمْلِ، فَإِنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ انْفَصَلَ حَيًّا، وَعَلِمْنَا وُجُودَهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ، أَوْ حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِمَا تَحْمِلُ جَارِيَتِي هَذِهِ، أَوْ نَاقَتِي هَذِهِ، أَوْ نَخْلَتِي هَذِهِ. جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ صِحَّتِهَا مَعَ الْغَرَرِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ، فَصَحِيحَةٌ أَيْضًا، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ جَرَتْ مَجْرَى الْمِيرَاثِ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا انْتِقَالَ الْمَالِ مِنْ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ، إلَى الْمُوصَى لَهُ، بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَانْتِقَالِهِ إلَى وَارِثِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمِيرَاثَ وَصِيَّةً، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] . وَالْحَمْلُ يَرِثُ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَوْسَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ لِلْمُخَالِفِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 فِي الدِّينِ وَالْعَبْدِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ، فَإِذَا وَرِثَ الْحَمْلُ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِخَطَرٍ وَغَرَرٍ، فَتَصِحُّ لِلْحَمْلِ، كَالْعِتْقِ. فَإِنْ انْفَصَلَ الْحَمْلُ مَيِّتًا، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ حَيًّا حِينَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ بِالشَّكِّ. وَسَوَاءٌ مَاتَ لِعَارِضٍ، مِنْ ضَرْبِ الْبَطْنِ، أَوْ ضَرْبِ دَوَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا يَرِثُ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، لَهُ إذَا حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ حَالَ الْوَصِيَّةِ. نَقَلَ الْخِرَقِيِّ، إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي كُلِّ حَالٍ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِزَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَطَؤُهَا، فَأَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ، عَلِمْنَا وُجُودَهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا فَأَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْفُرْقَةِ، وَأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ إذَا كَانَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَيُحْكَمُ بِوُجُودِهِ إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْفُرْقَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ وَصَّى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ سَيِّدِهَا، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، مَعَ اشْتِرَاطِ إلْحَاقِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَفِيًا بِاللِّعَانِ، أَوْ دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِعَدَمِ نَسَبِهِ الْمَشْرُوطِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِزَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا؛ لِكَوْنِهِ غَائِبًا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، أَوْ مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْوَطْءَ، أَوْ كَانَ أَسِيرًا أَوْ مَحْبُوسًا، أَوْ عَلِمَ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا وَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ يَطَؤُهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ بِالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، فَكَانَتْ فِي حُكْمِ مَنْ يَطَؤُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَتَى أَتَتْ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِوَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلُ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ غَالِبِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، أَوْ تَكُونَ أَمَارَاتُ الْحَمْلِ ظَاهِرَةً، أَوْ أَتَتْ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا بِأَمَارَاتِ الْحَمْلِ، بِحَيْثُ يُحْكَمُ لَهَا بِكَوْنِهَا حَامِلًا، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْحُكْمِ، وَقَدْ انْتَفَتْ أَسْبَابُ حُدُوثِهِ ظَاهِرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ نُثْبِتَ لَهُ الْوَصِيَّةَ، وَالْحُكْمُ بِإِلْحَاقِهِ بِالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إنَّمَا كَانَ احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ النَّسَبِ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَاطُ لِإِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ، كَمَا يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ، فَلَا يَلْزَمُ إلْحَاقُ مَا لَا يُحْتَاطُ لَهُ بِمَا يُحْتَاطُ لَهُ مَعَ ظُهُورِ مَا يُثْبِتُهُ وَيُصَحِّحُهُ. [فَصْلٌ وَصَّى بِالْحَمْلِ الْمَوْجُودِ] (4664) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِأَصْلِ الْمَوْجُودِ، اُعْتُبِرَ وُجُودُهُ كَمَا فِي حَمْلِ الْأَمَةِ بِمَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَمْلِ الْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ كَانَ حَمْلَ بَهِيمَةٍ، اُعْتُبِرَ وُجُودُهُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُودُهُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 [فَصْلٌ أَوْصَى لَمَا تَحْمِلُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ] (4665) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِمَا تَحْمِلُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ، لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَصِحُّ، كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا تَحْمِلُ هَذِهِ الْجَارِيَةُ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ، فَلَا تَصِحُّ لِلْمَعْدُومِ، بِخِلَافِ الْمُوصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يُمْلَكُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ وُجُودُهُ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ، وَلَوْ مَاتَ إنْسَانٌ لَمْ يَرِثْهُ مِنْ الْحَمْلِ إلَّا مَنْ كَانَ مَوْجُودًا، كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ تَجَدَّدَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ بَعْد مَوْتِهِ، بِأَنْ يَسْقُطَ فِي شَبَكَتِهِ صَيْدٌ، لَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ، وَلِذَلِكَ قَضَيْنَا بِثُبُوتِ الْإِرْثِ فِي دِيَتِهِ، وَهِيَ تَتَحَدَّدُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَجَازَ أَنْ تُمْلَكَ بِالْوَصِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَحْدُثُ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ فُلَانٍ صَحَّ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُولِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ. قُلْنَا: الْوَصِيَّةُ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمِيرَاثُ إلَّا لِمَوْجُودٍ، فَكَذَا الْوَصِيَّةُ، وَالْوَقْفُ يُرَادُ لِلدَّوَامِ، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ إثْبَاتُهُ لِلْمَعْدُومِ. [فَصْلٌ أَوْصَى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى] (4666) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَالْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُمَا شَيْئًا بَعْدَ وِلَادَتِهِمَا. وَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، كَالْوَقْفِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ فَلَهُ دِينَارَانِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَارِيَةٌ فَلَهَا دِينَارٌ. فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا وَصَّى لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِيهِ. وَإِنْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا مُنْفَرِدًا، فَلَهُ وَصِيَّتُهُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُهَا، أَوْ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِهَا غُلَامًا. فَلَهُ دِينَارَانِ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَلَهَا دِينَارٌ. فَوَلَدَتْ أَحَدَهُمَا مُنْفَرِدًا، فَلَهُ وَصِيَّتُهُ. وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ هُوَ جَمِيعَ الْحَمْلِ. وَلَا كُلَّ مَا فِي الْبَطْنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. [فَصْل أَوْصَى بِثَمَرَةِ شَجَرَةٍ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ غَلَّةِ دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ] (4667) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ شَجَرَةٍ، أَوْ بُسْتَانٍ، أَوْ غَلَّةِ دَارٍ، أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ، صَحَّ، سَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ؛ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، كَالْأَعْيَانِ. وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي سُكْنَى الدَّارِ. وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِهَا. فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، أُجِيزَ مِنْهَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِ خِدْمَتِهِ سَنَةً، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ ثُلُثِ الْمَالِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً فَإِنْ، أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَيْعَ الْعَبْدِ، بِيعَ عَلَى هَذَا. وَلَنَا، أَنَّهَا وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، فَوَجَبَ تَنْفِيذُهَا عَلَى صِفَتِهَا إنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ مِنْهَا، كَسَائِرِ الْوَصَايَا، أَوْ كَالْأَعْيَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى أُرِيدَ تَقْوِيمُهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ، قُوِّمَ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ تُقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ؛ كَمْ قِيمَتُهَا. وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ، فَقَدْ قِيلَ: تُقَوَّمُ الرَّقَبَةُ بِمَنْفَعَتِهَا جَمِيعًا، وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ عَبْدًا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ، وَشَجَرًا لَا ثَمَرَ لَهُ، لَا قِيمَةَ لَهُ غَالِبًا. وَقِيلَ: تُقَوَّمُ الرَّقَبَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ. وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ بِمَنْفَعَتِهِ، فَإِذَا قِيلَ: قِيمَتُهُ مِائَةٌ. قِيلَ: كَمْ قِيمَتُهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ؟ فَإِذَا قِيلَ: عَشَرَةٌ. عَلِمْنَا أَنَّ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ تِسْعُونَ. [فَصْلٌ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ إجَارَةَ الْعَبْدِ أَوْ الدَّارِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي أَوْصَى لَهُ بِنَفْعِهَا] (4668) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ إجَارَةَ الْعَبْدِ أَوْ الدَّارِ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي أَوْصَى لَهُ بِنَفْعِهَا، جَازَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِاسْتِيفَائِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا، فَمَلَكَ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْهَا بِالْأَعْيَانِ، كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالْإِجَارَةِ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ إخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنْ الْبَلَدِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُخْرِجُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ، فَيُخْرِجَهُ إلَى أَهْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالِكٌ لِنَفْعِهِ، فَمَلَكَ إخْرَاجَهُ، كَالْمُسْتَأْجِرِ. [فَصْلٌ أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مُدَّةً أَوْ بِمَا يُثْمِرُ أَبَدًا] (4669) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مُدَّةً، أَوْ بِمَا يُثْمِرُ أَبَدًا، لَمْ يَمْلِكْ وَاحِدٌ مِنْ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثُ إجْبَارَ الْآخَرِ عَلَى سَقْيِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى سَقْيِ مِلْكِهِ، وَلَا سَقْيِ مِلْكِ غَيْرِهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا سَقْيَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْآخَرُ مَنْعَهُ. وَإِذَا يَبِسَتْ الشَّجَرَةُ، كَانَ حَطَبُهَا لِلْوَارِثِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِثَمَرَتِهَا سَنَةً بِعَيْنِهَا، فَلَمْ تَحْمِلْ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَك ثَمَرَتُهَا أُولَ عَامٍ تُثْمِرُ. صَحَّ، وَلَهُ ثَمَرَتُهَا أُولَ عَامٍ تُثْمِرُ. وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لَهُ بِمَا تَحْمِلُ جَارِيَتُهُ أَوْ شَاتُهُ. وَإِنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِشَجَرَةٍ، وَلِآخَرَ بِثَمَرَتِهَا، صَحَّ، وَكَانَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ قَائِمًا مَقَامَ الْوَارِثِ، وَلَهُ مَالَهُ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِلَبَنِ شَاةٍ وَصُوفِهَا، صَحَّ، كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ. وَإِنْ وَصَّى بِلَبَنِهَا خَاصَّةً، أَوْ صُوفِهَا خَاصَّةً، صَحَّ، وَيُقَوَّمُ الْمُوصَى بِهِ دُونَ الْعَيْنِ. [فَصْل نَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَات الْمُوصَى بِنَفْعِهَا] (4670) فَصْلٌ: فَأَمَّا نَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُوصَى بِنَفْعِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَجِبَ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 النَّفَقَةَ عَلَى الرَّقَبَةِ، فَكَانَتْ عَلَى صَاحِبِهَا، كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْفَعَةٌ. قَالَ الشَّرِيفُ: وَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَلْزَمُهُ، وَالْفِطْرَةُ تَتْبَعُ النَّفَقَةَ، وَوُجُوبُ التَّابِعِ عَلَى إنْسَانٍ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَتْبُوعِ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَهُوَ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْعَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُ لَهُ، فَكَانَ عَلَيْهِ ضُرُّهُ، كَالْمَالِكِ لَهُمَا جَمِيعًا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ عَلَى مَنْ لَا نَفْعَ لَهُ ضَرَرٌ مُجَرَّدٌ، فَيَصِيرُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ: أَوْصَيْت لَك بِنَفْعِ عَبْدِي، وَأَبْقَيْت عَلَى وَرَثَتِي ضُرَّهُ. وَإِنْ وَصَّى بِنَفْعِهِ لَإِنْسَانٍ، وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ، كَانَ مَعْنَاهُ: أَوْصَيْت لِهَذَا بِنَفْعِهِ، وَلِهَذَا بِضُرِّهِ. وَالشَّرْعُ يَنْفِي هَذَا بِقَوْلِهِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، لِيَكُونَ ضُرُّهُ عَلَى مَنْ لَهُ نَفْعُهُ. وَفَارَقَ الْمُسْتَأْجَرَ، فَإِنَّ نَفْعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُؤَجَّرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَجْرَ عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِهِ. وَقِيلَ: تَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ. وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى إيجَابِهَا عَلَى صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِنْ مَنَافِعِهِ، فَإِذَا صُرِفَ فِي نَفَقَتِهِ، فَقَدْ صُرِفَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمُوصَى بِهَا إلَى النَّفَقَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ صُرِفَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ سِوَاهُ. (4671) فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْتَقَ الْوَرَثَةُ الْعَبْدَ، عَتَقَ، وَمَنْفَعَتُهُ بَاقِيَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِشَيْءٍ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ صَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ، لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لِلرَّقَبَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا. وَإِنْ وَهَبَ صَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ مَنَافِعَهُ لِلْعَبْدِ، وَأَسْقَطَهَا عَنْهُ، فَلِلْوَرَثَةِ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُوهَبُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ. وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ بَيْعَ الْعَبْدِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُبَاعُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، وَيَقُومُ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ، فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَالْحَشَرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ مَنْفَعَتِهِ يَجْتَمِعُ لَهُ الرَّقَبَةُ وَالْمَنْفَعَةُ، فَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إعْتَاقُهُ وَتَحْصِيلُ وَلَائِهِ، وَجَرُّ وَلَاءِ مَنْ يَنْجَرُّ وَلَاؤُهُ بِعِتْقِهِ، بِخِلَافِ الْحَشَرَاتِ. وَإِنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ، وَلِآخَرَ بِنَفْعِهِ، صَحَّ، وَقَامَ الْمُوصِيَةُ لَهُ بِالرَّقَبَةِ مَقَامَ الْوَارِثِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. [فَصْلٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَنْفَعَةِ أُمَّته فَأَتَتْ بِوَلَدِ مِنْ زَوْج أَوْ زَنَى] (4672) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَنْفَعَةِ أَمَتِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، فَهُوَ مَمْلُوكٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي حُكْمِهَا، كَوَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ النَّفْعِ الْمُوصَى بِهِ. وَلَا هُوَ مِنْ الرَّقَبَةِ الْمُوصَى بِنَفْعِهَا. وَإِنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَجَبَ الْمَهْرُ عَلَى الْوَاطِئِ لِصَاحِبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أَنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبِضْعِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا مُنْفَرِدَةً، وَلَا مَعَ غَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مُفْرَدَةً عَنْ الرَّقَبَةِ بِغَيْرِ التَّزْوِيجِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلرَّقَبَةِ، فَتَكُونُ لِصَاحِبِهَا، وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ أَخْذَ بَدَلِهَا، وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَهُوَ حُرٌّ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ وَضْعِهِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ وَلَا لِصَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا، وَلَا هُوَ زَوْجٌ لَهَا، وَلَا يُبَاحُ الْوَطْءُ بِغَيْرِهِمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . وَصَاحِبُ الرَّقَبَةِ لَا يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا. وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَحْبَلَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى إهْلَاكِهَا، وَأَيُّهُمَا وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ؛ لِوُجُودِ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا، وَوَلَدُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مَالِكَ الْمَنْفَعَةِ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ وَلَدِهَا يَوْمَ وَضَعَهُ، وَحُكْمُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا وَطِئَهَا غَيْرُهُمَا بِشُبْهَةٍ. وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مَالِكَ الرَّقَبَةِ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ، وَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ عَلَيْهِ الْوَجْهَانِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاطِئُ مَالِكًا الرَّقَبَةَ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْمَهْرُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ، إذَا كَانَ هُوَ الْوَاطِئَ. وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، بِعَكْسِ ذَلِكَ فِيهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيلُ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ إذَا وَطِئَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، كَالْمُسْتَأْجِرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا. (4673) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتِهَا، وَمَالِكَ الرَّقَبَةِ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ بِتَزْوِيجِهَا. فَإِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ، لَزِمَ تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهُ لَحِقَهَا، وَحَقُّهَا فِي ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ طَلَبَتْهُ مِنْ سَيِّدِهَا الَّذِي يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَنَفْعَهَا، أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَقُدِّمَ حَقُّهَا عَلَى حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اتَّفَقَا عَلَى تَزْوِيجِهَا قَبْلَ طَلَبِهَا، جَازَ، وَوَلِيُّهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَالِكٌ رَقَبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهَا. وَالْكَلَامُ فِي مَهْرِهَا وَوَلَدِهَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. [فَصْلٌ قَتَلَ الْعَبْد الْمُوصَى بِنَفْعِهِ] فَصْلٌ: وَإِنْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، يُشْتَرَى بِهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُوصَى بِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ تَعَلَّقَ بِبَدَلِهَا، إذَا لَمْ يَبْطُلْ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهَا. وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ وَالْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ يَبْطُلُ بِتَلَفِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَجِبَ الْقِيمَةُ لِلْوَارِثِ، أَوْ مَالِكِ الرَّقَبَةِ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ، فَتَكُونُ لِصَاحِبِهَا، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ، كَمَا تَبْطُلُ بِالْإِجَارَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 [فَصْلٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِحَبِّ زَرْعِهِ وَلِآخَر بِنَبْتِهِ] (4675) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِحَبِّ زَرْعِهِ، وَلِآخَرَ بِنَبْتِهِ، صَحَّ، وَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالزَّرْعِ. فَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْإِنْفَاقِ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي أَصْلِ الزَّرْعِ إذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ سَقْيِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ. هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ ضَرَرًا عَلَيْهِمَا، وَإِضَاعَةً الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَنَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا مَالِ غَيْرِهِ، إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ إذَا اسْتُهْدِمَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ، فَدَعَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَ إلَى مُبَانَاتِهِ، فَامْتَنَعَ. يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي أَصْلِ الزَّرْعِ. [فَصْل أَوْصَى لَرَجُلٍ بِخَاتَمِ وَلِآخَر بِفَصِّهِ] (4676) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لَرَجُلٍ بِخَاتَمٍ، وَلِآخَرَ بِفَصِّهِ، صَحَّ، وَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَأَيُّهُمَا طَلَبَ قَلْعَ الْفَصِّ مِنْ الْخَاتَمِ أُجِيبَ إلَيْهِ، وَأُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهِ، أَوْ اصْطَلَحَا عَلَى لُبْسِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا. [فَصْلٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدِينَارِ مِنْ غَلَّةِ دَارِهِ وَغَلَّتُهَا دِينَارَانِ] (4677) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدِينَارٍ مِنْ غَلَّةِ دَارِهِ، وَغَلَّتُهَا دِينَارَانِ، صَحَّ. فَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَيْعَ نِصْفِهَا وَتَرْكَ النِّصْفِ الَّذِي أَجْرُهُ دِينَارٌ، فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ أَجْرُهُ عَنْ الدِّينَارِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَلَهُمْ بَيْعُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِمْ تَرْكُ الثُّلُثِ. فَإِنْ كَانَتْ غَلَّتُهُ دِينَارًا، أَوْ أَقَلَّ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرِ، فَلَهُ دِينَارٌ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. [فَصْل الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ] (4678) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إذَا صَحَّتْ بِالْمَعْدُومِ فَبِذَلِكَ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ، وَهَذَا يُورَثُ، فَيُوصَى بِهِ؛ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ، وَسَلَّمَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، وَلِلْوَصِيِّ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمُعِينِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ وَصَّى بِهِ لِآخَرَ] (4679) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِبِشْرٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِبَكْرٍ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ لِآخَرَ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِهِ، ثُمَّ وَصَّى لِآخَرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 بِثُلُثِهِ، أَوْ وَصَّى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ لِآخَرَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ الْأُولَى. وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَدَاوُد: وَصِيَّتُهُ لِلْآخَرِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ وَصَّى لِلثَّانِي بِمَا وَصَّى بِهِ لِلْأَوَّلِ، فَكَانَ رُجُوعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: مَا وَصَّيْت بِهِ لِبِشْرٍ فَهُوَ لِبَكْرٍ. وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُنَافِي الْأُولَى، فَإِذَا أَتَى بِهَا كَانَ رُجُوعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا لِوَرَثَتِي. وَلَنَا، أَنَّهُ وَصَّى لَهُمَا بِهَا، فَاسْتَوَيَا فِيهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمَا: وَصَّيْت لَكُمَا بِالْجَارِيَةِ. وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ صَرَّحَ فِيهِ بِالرُّجُوعِ عَنْ وَصِيَّتِهِ لِبِشْرٍ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ التَّشْرِيكَ، فَلَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّةُ الْآخَرِ بِالشَّكِّ. [فَصْلٌ وَصَّى بِعَبْدِ لِرَجُلٍ ثُمَّ وَصَّى لِآخَرَ بِثُلُثِهِ] (4680) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ، ثُمَّ وَصَّى لِآخَرَ بِثُلُثِهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلثَّانِي ثُلُثُهُ كَامِلًا. وَإِنْ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِاثْنَيْنِ، فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَصِيَّتَهُ، فَلِلْآخَرِ نِصْفُهُ. وَإِنْ وَصَّى لِاثْنَيْنِ بِثُلُثَيْ مَالِهِ، فَرَدَّ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، وَرَدَّ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ وَصِيَّتَهُ، فَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِهِ مُنْفَرِدًا، وَزَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ، فَكَمُلَ لَهُ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ. [فَصْل أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ وَصَّى بِالثُّلُثِ لِبِشْرِ وَأَقَامَ آخَرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِالثُّلُثِ] (4681) فَصْلٌ: إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ وَصَّى بِالثُّلُثِ لِبِشْرٍ، وَأَقَامَ آخَرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِالثُّلُثِ، فَرَدَّ الْوَارِثُ الْوَصِيَّتَيْنِ، وَكَانَ الْوَارِثُ رَجُلًا عَاقِلًا عَدْلًا، وَشَهِدَ بِالْوَصِيَّةِ، حَلَفَ مَعَهُ الْمُوصَى لَهُ، وَاشْتَرَكَا فِي الثُّلُثِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُشَارِكُهُ الْمُقَرُّ لَهُ. بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ لَيْسَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ لَيْسَ بِعَدْلٍ، أَوْ كَانَ امْرَأَةً، فَالثُّلُثُ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ ثَابِتَةٌ، وَلَمْ تَثْبُتْ وَصِيَّةُ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَأَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالثُّلُثِ، أَوْ بِهَذَا الْعَبْدِ، وَأَقَرَّ لِفُلَانٍ بِهِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ، فَالْمُقَرُّ بِهِ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِوَاحِدٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِآخَرَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَنْقُصُ بِهِ حَقُّ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَيَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَيَحْلِفَ مَعَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَيُشَارِكَهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ أَقَرَّ لِلثَّانِي فِي الْمَجْلِسِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ. وَالثَّانِي، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ كَالْحَالِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ قَالَ: وَإِذَا خَلَّفَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لِآخَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ، فَهِيَ لِلْأَوَّلِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ ثَبَتَ فِي الثُّلُثِ كَامِلًا، لِإِقْرَارِهِ بِهِ مُنْفَرِدًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفًا، أَوْ صِغَارًا، أَوْ إلَى شَهْرٍ أَوْ كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ فِي الْمَجْلِس. [مَسْأَلَةٌ قَالَ مَا أَوْصَيْت بِهِ لِبِشْرِ فَهُوَ لِبَكْرِ] (4682) مَسْأَلَةٌ؛ (وَإِنْ قَالَ: مَا أَوْصَيْت بِهِ لِبِشْرٍ فَهُوَ لِبَكْرٍ. كَانَتْ لِبَكْرٍ) هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ؛ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ بِذِكْرِهِ أَنَّ مَا أَوْصَى بِهِ مَرْدُودٌ إلَى الثَّانِي، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: رَجَعْت عَنْ وَصِيَّتِي لِبِشْرٍ وَأَوْصَيْت بِهَا لِبَكْرٍ بِخِلَافِ مَا إذَا وَصَّى بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لِرَجُلَيْنِ، أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ التَّشْرِيكَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَتْ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ يَقِينًا، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. [فَصْلٌ قَالَ مَا أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانِ فَنِصْفُهُ لِفُلَانِ أَوْ ثُلُثُهُ] (4683) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: مَا أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ فَنِصْفُهُ لِفُلَانٍ، أَوْ ثُلُثُهُ. كَانَ رُجُوعًا فِي الْقَدْرِ الَّذِي وَصَّى بِهِ لِلثَّانِي خَاصَّةً، وَبَاقِيهِ لِلْأَوَّلِ. [فَصْلٌ الرُّجُوعِ فِي الْوَصِيَّةِ] (4684) فَصْلٌ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ فِي جَمِيعِ مَا أَوْصَى بِهِ، وَفِي بَعْضِهِ، إلَّا الْوَصِيَّةَ بِالْإِعْتَاقِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْوَصِيَّةِ بِهِ أَيْضًا. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يُغَيِّرُ الرَّجُلُ مَا شَاءَ مِنْ وَصِيَّتِهِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالنَّخَعِيُّ: يُغَيِّرُ مِنْهَا مَا شَاءَ إلَّا الْعِتْقَ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَغْيِيرَهُ، كَالتَّدْبِيرِ وَلَنَا، أَنَّهَا وَصِيَّةٌ، فَمَلَكَ الرُّجُوعَ عَنْهَا، كَغَيْرِ الْعِتْقِ، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ تُنْجَزُ بِالْمَوْتِ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا قَبْلَ تَنْجِيزِهَا، كَهِبَةِ مَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَفَارَقَ التَّدْبِيرَ، فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَغْيِيرَهُ، كَتَعْلِيقِهِ عَلَى صِفَةٍ فِي الْحَيَاةِ. [فَصْلٌ يَحْصُل الرُّجُوع بِقَوْلِهِ رَجَعَتْ فِي وَصِيَّتِي أَوْ أَبْطَلَتْهَا أَوْ غَيْرَتهَا] (4685) فَصْلٌ: وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِقَوْلِهِ: رَجَعْت فِي وَصِيَّتِي. أَوْ أَبْطَلْتهَا، أَوْ غَيَّرْتهَا. أَوْ مَا أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ. أَوْ فَهُوَ لِوَرَثَتِي. أَوْ فِي مِيرَاثِي. وَإِنْ أَكَلَهُ، أَوْ أَطْعَمَهُ، أَوْ أَتْلَفَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ كَانَ ثَوْبًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ فَفَصَّلَهُ وَلَبِسَهُ، أَوْ جَارِيَةً فَأَحْبَلَهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهُوَ رُجُوعٌ. قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِطَعَامٍ فَأَكَلَهُ، أَوْ بِشَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ بِجَارِيَةٍ فَأَحْبَلَهَا، أَوْ أَوْلَدَهَا، أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّ بَيْعَهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَهُ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ، فَكَانَ رُجُوعًا، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ. وَإِنْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، أَوْ وَصَّى بِبَيْعِهِ، أَوْ أَوْجَبَ الْهِبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ وَصَّى بِإِعْتَاقِهِ، أَوْ دَبَّرَهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ لِلرُّجُوعِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِيجَابِهِ لِلْهِبَةِ، وَوَصِيَّتِهِ بِبَيْعِهِ أَوْ إعْتَاقِهِ، لِكَوْنِهِ وَصَّى بِمَا يُنَافِي الْوَصِيَّةَ الْأُولَى، وَالْكِتَابَةُ بَيْعٌ، وَالتَّدْبِيرُ أَقْوَى مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُنْجَزُ بِالْمَوْتِ، فَيَسْبِقُ أَخْذَ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ رَهَنَهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِهِ حَقًّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْضِهِ عَلَى الْبَيْعِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَأَشْبَهَ إجَارَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْكِتَابَةِ. [فَصْلٌ وَصَى بِحُبِّ ثُمَّ طَحَنَهُ أَوْ بِدَقِيقِ فَعَجَنَهُ فِي الْوَصِيَّة بِشَيْءِ مَعِين ثُمَّ خَلِّطْهُ بِغَيْرِهِ] (4686) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِحَبٍّ ثُمَّ طَحَنَهُ، أَوْ بِدَقِيقٍ فَعَجَنَهُ، أَوْ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ، أَوْ بِخُبْزٍ فَفَتَّهُ، أَوْ جَعَلَهُ فَتِيتًا. كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ اسْمَهُ وَعَرَّضَهُ لِلِاسْتِعْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى رُجُوعِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَإِنْ وَصَّى بِكَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ فَغَزَلَهُ، أَوْ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ، أَوْ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ، أَوْ بِنَقْرَةٍ فَضَرَبَهَا، أَوْ شَاةٍ فَذَبَحَهَا، كَانَ رُجُوعًا. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الِاسْمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلِاسْتِعْمَالِ، فَكَانَ رُجُوعًا، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يُزِيلُ الِاسْمَ. فَإِنَّ الثَّوْبَ لَا يُسَمَّى غَزْلًا، وَالْغَزْلَ لَا يُسَمَّى كَتَّانًا. [فَصْلٌ وَصَى بِشَيْءِ مَعِين ثُمَّ خَلِّطْهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْه لَا يَتَمَيَّز مِنْهُ] (4687) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِذَلِكَ تَسْلِيمُهُ، فَيَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ. فَإِنْ خَلَطَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ. وَإِنْ وَصَّى بِقَفِيزِ قَمْحٍ مِنْ صُبْرَةٍ، ثُمَّ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَوْ دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشَاعًا. وَبَقِيَ مُشَاعًا. وَقِيلَ: إنْ خَلَطَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ خَيْرٍ مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ تَسْلِيمُ خَيْرٍ مِنْهُ، فَصَارَ مُتَعَذِّرَ التَّسْلِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ دُونَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 [فَصْلٌ حَدَثَ بِالْمُوصَى بِهِ مَا يُزِيلُ اسْمَهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْمُوصِي] (4688) فَصْلٌ: وَإِذَا حَدَثَ بِالْمُوصَى بِهِ مَا يُزِيلُ اسْمَهُ، مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْمُوصِي، مِثْلُ إنْ سَقَطَ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ فَصَارَ زَرْعًا، أَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ فَصَارَتْ فَضَاءً، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ. وَإِنْ كَانَ انْهِدَامُ الدَّارِ لَا يُزِيلُ اسْمَهَا، سُلِّمَتْ إلَيْهِ دُونَ مَا انْفَصَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ حِينَ الِاسْتِحْقَاقِ يَقَعُ عَلَى الْمُتَّصِلِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ. وَيَتْبَعُ الدَّارَ فِي الْوَصِيَّةِ مَا يَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ جُحُود الْوَصِيَّة] (4689) فَصْلٌ: وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْجُحُودِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَالثَّانِي، يَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إيصَالَهُ إلَى الْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ غَسَلَ الثَّوْبَ، أَوْ لَبِسَهُ، أَوْ جَصَّصَ الدَّارَ، أَوْ سَكَنَهَا، أَوْ أَجَّرَ الْأَمَةَ، أَوْ زَوَّجَهَا، أَوْ عَلَّمَهَا، أَوْ وَطِئَهَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَلَا الِاسْمَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ رُجُوعٌ. لِأَنَّهُ يُعَرِّضُهَا لِلْخُرُوجِ عَنْ جَوَازِ النَّقْلِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ يَقِينًا، فَأَشْبَهَ لُبْسَ الثَّوْبِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَتْلَفَهُ، وَلَيْسَ بِرُجُوعٍ. [فَصْل قَالَ هَذَا ثُلُثِي لِفُلَانِ وَيُعْطَى فُلَانٌ مِنْهُ مِائَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ] (4690) فَصْلٌ: نَقَلَ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ قَالَ: هَذَا ثُلُثِي لِفُلَانٍ، وَيُعْطَى فُلَانٌ مِنْهُ مِائَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ. فَهُوَ لِلْآخَرِ مِنْهُمَا، وَيُعْطَى هَذَا مِائَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَ وَفَضَلَ شَيْءٌ، رُدَّ إلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ. فَحُكِمَ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَإِنْفَاذِهَا، عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ الْمُوصِي. [مَسْأَلَةٌ كَتَبَ وَصِيَّةً وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا] (4691) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ كَتَبَ وَصِيَّةً، وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا، حُكِمَ بِهَا، مَا لَمْ يُعْلَمْ رُجُوعُهُ عَنْهَا) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ، فَوُجِدَتْ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَ رَأْسِهِ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا، وَعُرِفَ خَطُّهُ، وَكَانَ مَشْهُورَ الْخَطِّ، يُقْبَلُ مَا فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْخَطُّ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُشْهِدُ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَخْتُومَةِ حَتَّى يَسْمَعَهَا الشُّهُودُ مِنْهُ، أَوْ تُقْرَأَ عَلَيْهِ، فَيُقِرَّ بِمَا فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ بِرُؤْيَةِ خَطِّ الشَّاهِدِ بِالشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ رَأَى حُكْمَهُ بِخَطِّهِ تَحْتَهُ خَتْمُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ، أَوْ رَأَى الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ بِخَطِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ إنْفَاذُ الْحُكْمِ بِمَا وَجَدَهُ، وَلَا لِلشَّاهِدِ الشَّهَادَةُ بِمَا رَأَى خَطَّهُ بِهِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي الشَّهَادَةِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ.» وَلَمْ يَذْكُرْ شَهَادَتَهُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَتَسَامَحُ فِيهَا، وَلِهَذَا صَحَّ تَعْلِيقُهَا عَلَى الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ، وَصَحَّتْ لِلْحَمْلِ، بِهِ، وَبِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَبِالْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُولِ، فَجَازَ أَنْ يَتَسَامَحَ فِيهَا بِقَبُولِ الْخَطِّ، كَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ. [فَصْلٌ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ] (4692) فَصْلٌ: وَإِنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ. أَوْ قَالَ: هَذِهِ وَصِيَّتِي، فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَا. فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَقَالَ لِلشُّهُودِ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. لَا يَجُوزُ حَتَّى يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا فِيهِ، أَوْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ فَيُقِرَّ بِمَا فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ جَوَازَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُبِلَ خَطُّهُ الْمُجَرَّدُ، فَهَذَا أَوْلَى وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى، وَمَكْحُولٌ، وَنُمَيْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ. وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُمَّالِهِ وَأُمَرَائِهِ، فِي أَمْرِ وِلَايَتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، ثُمَّ مَا عَمِلَتْ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ بَعْدَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ إلَى وُلَاتِهِمْ، بِالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا الدِّمَاءُ وَالْفُرُوجُ وَالْأَمْوَالُ، يَبْعَثُونَ بِهَا مَخْتُومَةً، لَا يَعْلَمُ حَامِلُهَا مَا فِيهَا، وَأَمْضُوهَا عَلَى وُجُوهِهَا، وَذَكَرَ اسْتِخْلَافَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بِكِتَابٍ، كَتَبَهُ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي عُلَمَاءِ الْعَصْرِ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كِتَابٌ لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، كَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ مِنْ الْوَصِيَّةِ، بِشَهَادَةِ أَوْ إقْرَارِ الْوَرَثَةِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَيُعْمَلُ بِهِ، مَا لَمْ يُعْلَمْ رُجُوعُهُ عَنْهُ، وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ الْمُوصَى بِهِ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ فِي مَرَضٍ فَيَبْرَأَ مِنْهُ، ثُمَّ يَمُوتَ بَعْدُ أَوْ يُقْتَلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. (4693) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ الْمُوصِي وَصِيَّتَهُ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا وَأَحْوَطُ لِمَا فِيهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلَانٌ، أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ، وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَوْصَاهُمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ، عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا ذِكْرُ مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، إنْ حَدَثَ بِي حَادِثُ الْمَوْتِ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَنَّ مَرْجِعَ وَصِيَّتِي إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ إلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمَا فِي حِلٍّ وَبَلٍّ فِيمَا وَلِيَا وَقَضَيَا، وَأَنَّهُ لَا تُزَوَّجُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ عَبْدِ اللَّهِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: كَانَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ، عَلَى ذَلِكَ يَحْيَا وَيَمُوتُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَوْصَى فِيمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِكَذَا وَكَذَا، وَأَنَّ هَذِهِ وَصِيتُهُ إنْ لَمْ يُغَيِّرْهَا. [مَسْأَلَةٌ مَا أَعْطَى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ] (4694) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا أَعْطَى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنَجَّزَةَ، كَالْعِتْقِ، وَالْمُحَابَاةِ، وَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، إذَا كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ كَانَتْ فِي مَرَضٍ مَخُوفٍ اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَهِيَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ فِي الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَاسْتَدْعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ الْعِتْقُ مَعَ سِرَايَتِهِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. وَلِأَنَّ. هَذِهِ الْحَالَ الظَّاهِرُ مِنْهَا الْمَوْتُ، فَكَانَتْ عَطِيَّةً فِيهَا فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ لَا تَتَجَاوَزُ الثُّلُثَ، كَالْوَصِيَّةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 [فَصْلٌ حُكْمُ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاء] (4695) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ، حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَقِفَ نُفُوذُهَا عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ الثُّلُثِ أَوْ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. الثَّانِي، أَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ إلَّا بِإِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ. الثَّالِثُ، أَنَّ فَضِيلَتَهَا نَاقِصَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُهُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ ". الرَّابِعُ، أَنَّهُ يُزَاحِمُ بِهَا الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ. الْخَامِسُ، أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الثُّلُثِ مُعْتَبَرٌ حَالَ الْمَوْتِ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهَا لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْمُعْطِي لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا. وَإِنْ كَثُرَتْ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ الثُّلُثِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، لَا لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ إجَازَتَهَا وَلَا رَدَّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ. لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِهَا مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ، فَفِيمَا قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدْ التَّبَرُّعُ وَلَا الْعَطِيَّةُ، بِخِلَافِ الْعَطِيَّةِ فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ الْعَطِيَّةُ مِنْهُ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُعْطِي، وَالْقَبْضُ، فَلَزِمَتْ كَالْوَصِيَّةِ إذَا قُبِلَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقُبِضَتْ. الثَّانِي، أَنَّ قَبُولَهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُعْطِي وَكَذَلِكَ رَدُّهَا، وَالْوَصَايَا لَا حُكْمَ لِقَبُولِهَا وَلَا رَدِّهَا إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَطِيَّةَ تُصْرَفُ فِي الْحَالِ، فَتُعْتَبَرُ شُرُوطُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَاعْتُبِرَ شُرُوطُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ الثَّالِثُ، أَنَّ الْعَطِيَّةَ تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِهَا الْمَشْرُوطَةِ لَهَا فِي الصِّحَّةِ؛ مِنْ الْعِلْمِ، وَكَوْنُهَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ وَغَرَّرَ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِخِلَافِهِ. الرَّابِعُ، أَنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، إلَّا فِي الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُمْ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْرِي وَقْفُهُ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَطِيَّةَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصِيَّةِ، كَعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ. وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ بِثَمَرَةٍ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْعِتْقِ، كَعَطِيَّةِ الصَّدَقَةِ، وَكَمَا لَوْ تَسَاوَى الْحَقَّانِ. الْخَامِسُ، أَنَّ الْعَطَايَا إذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ جَمِيعِهَا، بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ عِتْقًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 أَوْ غَيْرَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْجَمِيعُ سَوَاءٌ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَجْنَاسٍ، وَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ مُتَقَدِّمَةً قُدِّمَتْ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ سُوِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ حَقٌّ آدَمِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، فَقُدِّمَتْ، إذَا تَقَدَّمَتْ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِذَا تَسَاوَى جِنْسُهَا سُوِّيَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّهَا عَطَايَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، فَسُوِّيَ بَيْنَهَا، كَالْوَصِيَّةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُقَدَّمُ الْعِتْقُ، تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا عَطِيَّتَانِ مُنَجَّزَتَانِ، فَكَانَتْ أُولَاهُمَا أَوْلَى، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُولَى مُحَابَاةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عِتْقًا عِنْدَ صَاحِبَيْهِ. وَلِأَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمُنَجَّزَةَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْمُعْطِي، فَإِذَا كَانَتْ خَارِجَةً مِنْ الثُّلُثِ، لَزِمَتْ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَلَوْ شَارَكَتْهَا الثَّانِيَةُ، لَمَنَعَ ذَلِكَ لُزُومَهَا فِي حَقِّ الْمُعْطِي؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ بَعْضِهَا بِعَطِيَّةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْوَصَايَا، فَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمَوْتِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَاسْتَوَيَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالِ لُزُومِهِمَا، بِخِلَافِ الْمُنَجَّزَتَيْنِ وَمَا قَالَهُ فِي الْمُحَابَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْ الدَّيْنِ لَمَا كَانَتْ مِنْ الثُّلُثِ. فَأَمَّا إنْ وَقَعَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، كَأَنْ وَكَّلَ جَمَاعَةً فِي هَذِهِ التَّبَرُّعَاتِ، فَأَوْقَعُوهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عِتْقًا أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَكَمَّلْنَا الْعِتْقَ كُلَّهُ فِي بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مِنْ غَيْرِ الْعِتْقِ، قَسَمْنَا الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ عَطَايَاهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَقُسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِي الْعِتْقِ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْعِتْقِ يُكْمِلُ الْأَحْكَامَ، وَلَا تَكْمُلُ الْأَحْكَامُ إلَّا بِتَكْمِيلِ الْعِتْقِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الْعِتْقِ عَلَيْهِمْ إضْرَارًا بِالْوَرَثَةِ وَالْمَيِّتِ وَالْعَبِيدِ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ وَقَعَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَفِيهَا عِتْقٌ وَغَيْرُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُقَدَّمَ الْعِتْقُ لِتَأْكِيدِهِ. وَالثَّانِيَةُ، يُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَسَاوَتْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا، فَتَسَاوَتْ فِي تَنْفِيذِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا حَصَلَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ السَّادِسُ، أَنَّ الْوَاهِبَ إذَا مَاتَ قَبْلَ تَقْبِيضِهِ الْهِبَةَ الْمُنَجَّزَةَ، كَانَتْ الْخِيرَةُ لِلْوَرَثَةِ، إنْ شَاءُوا قَبَّضُوا، وَإِنْ شَاءُوا مَنَعُوا، وَالْوَصِيَّةُ تَلْزَمُ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. [فَصْلٌ قَالَ الْمَرِيض إذَا أَعْتَقَتْ سَعْدًا فَسَعِيد حُرّ ثُمَّ أَعْتَقَ سَعْدًا] (4696) فَصْلٌ: إذَا قَالَ الْمَرِيضُ: إذَا أَعْتَقْت سَعْدًا، فَسَعِيدٌ حُرٌّ. ثُمَّ أَعْتَقَ سَعْدًا، عَتَقَ سَعِيدٌ أَيْضًا إنَّ خَرَجَا مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَحَدُهُمَا عَتَقَ سَعْدٌ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ سَعْدًا سَبَقَ بِالْعِتْقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 وَالثَّانِي، أَنَّ عِتْقَهُ شَرْطٌ لِعِتْقِ سَعِيدٍ، فَلَوْ رَقَّ بَعْضُهُ لَفَاتَ إعْتَاقُ سَعِيدٍ أَيْضًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ مَا يُعْتَقُ بِهِ بَعْضُ سَعِيدٍ، عَتَقَ تَمَامُ الثُّلُثِ مِنْهُ وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْتَقْت سَعْدًا فَسَعِيدٌ وَعَمْرٌو حُرَّانِ. ثُمَّ أَعْتَقَ سَعْدًا، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَحَدُهُمْ، عَتَقَ سَعْدٌ وَحْدَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ اثْنَانِ، أَوْ وَاحِدٌ وَبَعْضُ آخَرَ، عَتَقَ سَعْدٌ وَأُقْرِعَ بَيْنَ سَعِيدٍ وَعَمْرٍو فِيمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ عِتْقُ أَحَدِهِمَا شَرْطًا فِي عِتْقِ الْآخَرِ. وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ اثْنَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا، وَحُصُولِ التَّشْقِيصِ فِي الْآخَرِ وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْتَقْت سَعْدًا فَسَعِيدٌ حُرٌّ، أَوْ فَسَعِيدٌ وَعَمْرٌو حُرَّانِ فِي حَالِ إعْتَاقِي سَعْدًا. فَالْحُكْمُ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ سَعْدٍ شَرْطٌ لِعِتْقِهِمَا، فَلَوْ رَقَّ بَعْضُهُ لَفَاتَ شَرْطُ عِتْقِهِمَا، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ قَالَ إنَّ تَزَوَّجَتْ فَعَبْدِي حُرّ فَتَزَوَّجَ فِي مَرَضه بِأَكْثَر مِنْ مَهْر الْمِثْل] (4697) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فَعَبْدِي حُرٌّ. فَتَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالزِّيَادَةُ مُحَابَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا الْمُحَابَاةُ أَوْ الْعَبْدُ، فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ قَبْلَ الْعِتْقِ، لِكَوْنِ التَّزْوِيجِ شَرْطًا فِي عِتْقِهِ، فَقَدْ سَبَقَتْ عِتْقَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَسَاوَيَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمُحَابَاةِ، وَشَرْطٌ لِلْعِتْقِ، فَلَا يَسْبِقُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ، فَيَكُونَانِ سَوَاءً. ثُمَّ هَلْ يُقَدَّمُ الْعِتْقُ عَلَى الْمُحَابَاةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا فِيمَا إذَا ثَبَتَتْ الْمُحَابَاةُ بِأَنْ لَا تَرِثَ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ؛ إمَّا لِوُجُودِ مَانِعٍ مِنْ الْإِرْثِ، أَوْ لِمُفَارَقَتِهِ إيَّاهَا فِي حَيَاتِهِ، إمَّا بِمَوْتِهَا أَوْ طَلَاقِهَا أَوْ نَحْوِهِ. فَأَمَّا إنْ وَرَثَتْهُ، تَبَيَّنَّا أَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَهَا إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى الْإِجَازَةِ، فَيَكُونُ مُتَقَدِّمًا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ فِي حَالِ تَزْوِيجِي. فَتَزَوَّجَ وَأَصْدَقَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَسَاوَيَانِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ جُعِلَ جَعَالَةً لِإِيقَاعِ الْعِتْقِ، كَمَا فِي عِتْقِ سَعْدٍ وَسَعِيدٍ، وَبُطْلَانُ الْمُحَابَاةِ لَا يُبْطِلُ التَّزْوِيجَ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْته، يَكُونُ الْعِتْقُ سَابِقًا، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ، إنَّمَا ثَبَتَتْ بِتَمَامِ التَّزْوِيجِ، وَالْعِتْقُ قَبْلَ تَمَامِهِ، فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْمُحَابَاةِ، فَيَتَقَدَّمُ لِهَذَا الْمَعْنَى، لَا سِيَّمَا إذَا تَأَكَّدَ بِقُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ لِغَيْرِ وَارِثٍ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ الْمَرِيض شِقْصًا مِنْ عَبْد ثُمَّ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ آخَر وَلَمْ يَخْرُج مِنْ الثُّلُث إلَّا الْعَبْد الْأَوَّل] (4698) فَصْلٌ: إذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ آخَرَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا الْعَبْدُ الْأَوَّلُ، عَتَقَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ حِينَ يَلْفِظُ بِإِعْتَاقِ شِقْصِهِ وَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ وَبَعْضُ الثَّانِي، عَتَقَ ذَلِكَ. وَإِنْ أَعْتَقَ الشِّقْصَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا الشِّقْصَانِ، عَتَقَا وَرَقَّ بَاقِي الْعَبْدَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا أَحَدُهُمَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ عَتَقَ الشِّقْصَانِ وَبَاقِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 أَحَدُهُمَا، يُكْمَلُ الْعِتْقُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَحَدُهُمَا وَالثَّانِي، يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ عِتْقًا مُشَقَّصًا فَلَمْ يُكْمِلْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ، وَلِهَذَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا الشِّقْصَانِ أَعْتَقْنَاهُمَا، وَلَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُكْمِلْهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ النَّصِيبَيْنِ، وَأَنْ يُكْمَلَ عِتْقُهُمَا مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا النَّصِيبَانِ وَقِيمَةُ بَاقِي أَحَدِهِمَا، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ كَمُلَ الْعِتْقُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْصَى بِتَكْمِيلِ الْعِتْقِ، فَجَرَى مَجْرَى إعْتَاقِهِمَا، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ مِلْك الْمَرِيض مِنْ يُعْتِق عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَض] (4699) فَصْلٌ: وَإِذَا مَلَكَ الْمَرِيضُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ، عَتَقَ، وَوَرِثَ الْمَرِيضَ إذَا مَاتَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَقُ، وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ، فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْمِيرَاثِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَصِيَّةً لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ. وَجَعَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ وَصِيَّةً، يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَوَرِثَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ سَعَى فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ، وَلَمْ يَرِثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُحْتَسَبُ بِقِيمَتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ سَعَى فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَصِيَّةَ هِيَ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ بِعَطِيَّةٍ أَوْ إتْلَافٍ، أَوْ التَّسَبُّبُ إلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَبُولُ الْهِبَةِ لَيْسَ بِعَطِيَّةٍ وَلَا إتْلَافٍ لِمَالِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْصِيلُ شَيْءٍ يَتْلَفُ بِتَحْصِيلِهِ فَأَشْبَهَ قَبُولَهُ لِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ، أَوْ لِمَا يَتْلَفُ بِبَقَائِهِ. فِي وَقْتٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَفَارَقَ الشِّرَاءَ؛ فَإِنَّهُ تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ فِي ثَمَنِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَوَاضِعَ: إذَا وَقَفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ صَحَّ، وَلَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ. قَالَ الْخَبْرِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافًا فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ عَتَقَ وَوَرِثَهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَرِثُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَبَاقِيهِ عَلَى الرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ إذَا وَرِثَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَيُحْتَسَبُ بِقِيمَتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ سَعَى فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: يُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَرِثُ كَالْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ وَهُوَ قِيَاسُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 قَوْلِهِ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَجْعَلْ الْوَقْفَ وَصِيَّةً وَإِجَازَةً لِلْوَارِثِ، فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ وَصِيَّةً لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الثَّمَنُ وَصِيَّةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَاوَضَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَقَنْطَرَةٍ، فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا حَمَّلَهُ الثُّلُثَ عَتَقَ وَوَرِثَ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ لَهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقِيلَ: يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَصَارَتْ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، فَتَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ، وَيَبْطُلُ عِتْقُهُ وَإِرْثُهُ، فَيُفْضِي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ، فَكَانَ إبْطَالُ تَوْرِيثِهِ أَوْلَى. وَقِيلَ عَلَى مَذْهَبِهِ: شِرَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ تَقِفُ عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَالْبَيْعُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا. وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ: مَرِيضٌ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ، فَقَبِلَهُ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَخَلَّفَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَابْنًا آخَرَ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ، وَلَهُ مِائَةٌ وَلِأَخِيهِ مِائَةٌ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ، عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَرِثُ، وَالْمِائَتَانِ كُلُّهَا لِلِابْنِ الْحُرِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَرِثُ نِصْفَ نَفْسِهِ، وَنِصْفَ الْمِائَتَيْنِ، وَيَحْتَسِبُ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْبَاقِي مِنْ مِيرَاثِهِ. إنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْنِ، وَبَقِيَّةُ التَّرِكَةِ مِائَةً، عَتَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمِائَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُهُ، لِأَنَّهُ قَدْرُ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ، وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُ كَالْعَبْدِ لَا يَرِثُ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: الرَّجُلُ يُعْتِقُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ. وَالْمَرْأَةُ تُعْتِقُ عَبْدَهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَيَأْبَيَانِ ذَلِكَ. وَالْعَبْدُ الْمَوْهُوبُ يُعْتِقُهُ سَيِّدُهُ. وَالْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ يُعْتِقُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَهُمَا مُعْسِرَانِ. فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي قِيمَتِهِ، وَهُوَ حُرٌّ يَرِثُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَرِثُ نِصْفَ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ رَقَبَتِهِ، وَيَسْعَى فِي رُبْعِ قِيمَتِهِ لِأَخِيهِ. وَإِنْ وُهِبَ لَهُ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُنَّ، وَلَا وَارِثَ، عَتَقْنَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُنَّ فَكَذَلِكَ، فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَبْرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يُعْتَقُ ثُلُثُهُنَّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَفِي الْآخَرِ يُعْتَقْنَ كُلُّهُنَّ؛ لِكَوْنِ وَصِيَّةِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ جَائِزَةً فِي جَمِيعِ مَالِهِ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ تَرَكَ مَالًا يَخْرُجْنَ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقْنَ وَوَرِثْنَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا اشْتَرَاهُنَّ أَوْ وُهِبْنَ لَهُ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُنَّ، وَلَا وَارِثَ، عَتَقْنَ، وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُخْتِ لِلْأُمِّ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرِثَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ وَرِثَا لَكَانَ لَهُمَا خُمُسَا الرِّقَابِ، وَذَلِكَ رَقَبَةٌ وَخُمْسٌ، بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَكَانَ يَبْقَى عَلَيْهِمَا سِعَايَةٌ، إذَا بَقِيَتْ عَلَيْهِمَا سِعَايَةٌ لَمْ يَرِثَا، وَكَانَتْ لَهُمَا الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ رَقَبَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَمَّا الْأُخْتُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 لِلْأَبَوَيْنِ، فَإِذَا وَرِثَتْ، عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ لَهَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الرِّقَابِ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا، فَوَرِثَتْ وَبَطَلَتْ وَصِيَّتُهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: تُبْغِضُ، وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُخْتِ لِلْأَبِ، وَالْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ، لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فِي خُمْسَيْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَرِثُ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ رَقَبَةٍ. عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُعْتَقْنَ. [فَصْلٌ اشْتَرَى الْمَرِيضُ أَبَاهُ بِأَلْفٍ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ ثُمَّ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنًا] (4700) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْمَرِيضُ أَبَاهُ بِأَلْفٍ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، ثُمَّ مَاتَ، وَخَلَّفَ ابْنًا، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي حَكَاهُ الْخَبْرِيُّ يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يُعْتَقُ ثُلُثُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَيُعْتَقُ بَاقِيهِ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ جَدُّهُ، وَيَكُونُ ثُلُثُ وَلَائِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَثُلُثَاهُ لِابْنِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ ثُلْثُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَيَسْعَى لِلِابْنِ فِي قِيمَةِ ثُلُثَيْهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ سُدُسُهُ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَهُ، وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ لِلِابْنِ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ. وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: يُفْسَخُ الْبَيْعُ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الِابْنُ عِتْقَهُ. وَقِيلَ: يُفْسَخُ فِي ثُلُثَيْهِ، وَيُعْتَقُ فِي ثُلُثِهِ، وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ، فَإِنْ تَرَكَ أَلْفَيْنِ سِوَاهُ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَوَرِثَ سُدُسَ الْأَلْفَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلِابْنِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقِيلَ نَحْوُهُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِ: يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ. وَقِيلَ: شِرَاؤُهُ مَفْسُوخٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَرِثُ الْأَبُ سُدُسَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، يَحْتَسِبُ بِهَا مِنْ رَقَبَتِهِ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ. وَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ بِأَلْفٍ، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَمَاتَ، وَخَلَّفَ أَبَاهُ، عَتَقَ كُلُّهُ بِالشِّرَاءِ، فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَفِي الثَّانِي، يُعْتَقُ ثُلُثُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَثُلُثَاهُ عَلَى جَدِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ ثُلُثَيْهِ لِلْأَبِ، وَلَا يَرِثْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَرِثُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ، وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ سُدُسِهِ. وَإِنْ تَرَكَ أَلْفَيْنِ سِوَاهُ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَوَرِثَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْأَلْفَيْنِ، وَلِلْأَبِ السُّدُسُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ لِلْأَبِ سُدُسُ التَّرِكَةِ خَمْسُمِائَةٍ، وَبَاقِيهَا لِلِابْنِ يُعْتَقُ مِنْهَا، وَيَأْخُذُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَإِنْ خَلَّفَ مَالًا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَيَرِثُ مِنْهُ. كَأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَيَرِثُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ الْمُشْتَرِي أَبًا حُرًّا، وَلَكِنْ خَلَّفَ أَخًا حُرًّا، وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا، عَتَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ عَلَى الثَّانِي، وَيَرِثُ الْأَخُ ثُلُثَيْهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى لِعَمِّهِ فِي قِيمَةِ ثُلُثَيْهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ كُلُّهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 وَلَا سِعَايَةَ. وَإِنْ خَلَّفَ أَلْفَيْنِ سِوَاهُ عَتَقَ، وَوَرِثَ الْأَلْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ، فِي الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. إلَّا مَا قِيلَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، إنَّهُ يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ. وَقِيلَ: شِرَاؤُهُ بَاطِلٌ، فَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ بِأَلْفٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَقِيمَتُهُ ثُلُثَا أَلْفٍ، وَخَلَّفَ ابْنًا آخَرَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْبَائِعِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ حَابَاهُ بِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ التَّرِكَةِ سِوَاهُ، فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُهُ، وَهُوَ تُسْعُ أَلْفٍ، وَيَرُدُّ التُّسْعَيْنِ، فَتَكُونُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَرِثُ أَخُوهُ ثُلُثَيْهِ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلِلْبَائِعِ ثُلُثُ الْمُحَابَاةِ، وَيَرُدُّ ثُلُثَيْهَا، فَيَكُونُ مِيرَاثًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الثُّلُثُ لِلْبَائِعِ، وَيَسْعَى الْمُشْتَرِي فِي قِيمَتِهِ لِأَخِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي نِصْفِ رَقَبَتِهِ، وَيَرِثُ نِصْفَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُحَابَاةُ مُقَدَّمَةٌ لِتَقْدِيمِهَا، وَيَرِثُ الِابْنُ الْحُرُّ أَخَاهُ فَيَمْلِكُهُ. وَقِيلَ: يُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ، وَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهَا تَقْرِيرَ مِلْكِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ وَقِيلَ: يُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثُلُثَ الْأَلْفِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَتَنْفُذُ الْمُحَابَاةُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي، وَهُوَ تُسْعَا أَلْفٍ، وَيَرُدُّ الْبَائِعُ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ أَلْفٍ، فَتَكُونُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، تَقْدِيمُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُحَابَاةِ، فَيُعْتَقُ جَمِيعُهُ، وَيَرُدُّ الْبَائِعُ ثُلُثَيْ الْأَلْفِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي، أَنْ يُعْتَقَ ثُلُثُهُ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ تُسْعَا أَلْفٍ، وَيَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْبَائِعِ بِالْمُحَابَاةِ الثُّلُثُ، وَيَرُدُّ الثُّلُثَ، وَيَسْعَى الِابْنُ فِي قِيمَتِهِ لِأَخِيهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: يَرُدُّ الْبَائِعُ ثُلُثَ الْأَلْفِ، فَيَكُونُ لِلِابْنِ الْحُرِّ، وَيُعْتَقُ الْآخَرُ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: يَرُدُّ الْبَائِعُ ثُلُثَ الْأَلْفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الِابْنِ الْمُشْتَرِي لِلْحُرِّ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَقِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَمَنْ أَعْتَقَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَعَلَهُ حُرًّا، وَمِنْ جَعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً لَهُ، أَعْتَقَ ثُلُثَهُ بِالشِّرَاءِ، وَيُعْتَقُ بَاقِيهِ عَلَى أَخِيهِ، إلَّا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ بَقِيَّةَ أَخِيهِ، فَيَمْلِكُ مِنْ رَقَبَتِهِ قَدْرَ ثُلُثَيْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ تُسْعَا رَقَبَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ ثَمَنَهُ مِنْ الثُّلُثِ دُونَ قِيمَتِهِ وَقِيلَ: يُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْعَى لِأَخِيهِ فِي قِيمَةِ ثُلُثَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَسْعَى لَهُ فِي نِصْف قِيمَتِهِ. فَإِنْ تَرَكَ أَلْفَيْنِ سِوَاهُ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ هِيَ الثَّمَنُ مَعَ الْأَلْفَيْنِ، وَالثَّمَنُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَيُعْتَقُ وَيَرِثُ نِصْفَ الْأَلْفَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: يُعْتَقُ، وَلَا يَرِثُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: التَّرِكَةُ قِيمَتُهُ مَعَ الْأَلْفَيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَقُ مِنْهُ قَدْرُ ثُلُثِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَلْفٌ وَثُلُثَا أَلْفٍ، وَيَسْعَى لِأَخِيهِ فِي أَلْفٍ وَثُلُثِ أَلْفٍ. وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ: يُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ، وَيَسْعَى لِأَخِيهِ فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَالْأَلْفَانِ لِأَخِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وَلَوْ اشْتَرَى الْمَرِيضُ ابْنَيْ عَمٍّ لَهُ بِأَلْفٍ، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ وَهَبَهُ أَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ وَخَلَّفَهُمَا وَخَلَّفَ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ قِيَاسَ قَوْلِ الْقَاضِي، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنْ يُعْتَقَ ثُلُثَا الْمُعْتَقِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْمَوْلَى عِتْقَ جَمِيعِهِ، ثُمَّ يَرِثُ بِثُلُثَيْهِ ثُلُثَيْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ، وَيَبْقَى تُسْعُهُ وَثُلُثُ أَخِيهِ لِلْمَوْلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْتَقَ كُلُّهُ، وَيَرِثَ أَخَاهُ، فَيُعْتَقَانِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْإِعْتَاقِ وَارِثًا لِثُلُثَيْ التَّرِكَةِ، فَتَنْفُذُ إجَازَتُهُ فِي إعْتَاقِ بَاقِيهِ، فَتَكْمُلُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ، ثُمَّ يَكْمُلُ الْمِيرَاثُ لَهُ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ: يُعْتَقُ ثُلُثَاهُ، وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَكَانَ إعْتَاقَ وَصِيَّةٍ لَهُ، فَيَبْطُلُ إعْتَاقُهُ، ثُمَّ يَبْطُلُ إرْثُهُ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِي، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ وَابْنُ الْعَمِّ الْآخَرُ لِلْمَوْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ ثُلُثَا الْمُعْتَقِ، وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ ثُلُثِهِ، وَلَا يَرِثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُف، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ أَخُوهُ بِالْهِبَةِ، وَيَكُونَانِ أَحَقَّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَاهُمَا، أَخَذَ ذَلِكَ الْمَالَ بِالْمِيرَاثِ، وَيَغْرَمُ الْمُعْتِقُ لِأَخِيهِ الْمَوْهُوبِ نِصْفَ قِيمَةِ نَفْسِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ أَخِيهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْأَوَّلِ وَصِيَّةٌ لَهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَقَدْ صَارَ وَارِثًا مَعَ أَخِيهِ، فَوَرِثَ نِصْفَ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ، وَنِصْفَ قِيمَةِ أَخِيهِ، وَوَرِثَ أَخُوهُ الْبَاقِيَ، وَكَانَ أَخُوهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ هِبَةً مِنْ الْمَرِيضِ لَهُ، فَعَتَقَ بِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْتَقْ مِنْ الْمَرِيضِ، فَلَمْ يَكُنْ عِتْقُهُ وَصِيَّةً، بَلْ اسْتَهْلَكَهَا بِالْعِتْقِ الَّذِي جَرَى فِيهَا، فَيَغْرَمُ الْأَوَّلُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ أَخِيهِ لِأَخِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يَدَعْ وَارِثًا غَيْرَهُمَا عَتَقَا، وَغَرِمَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ نِصْفَ قِيمَةِ أَخِيهِ، وَلَمْ يَغْرَمْ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَدَعْ وَارِثًا، جَازَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ، وَلَا يُعْتَقَانِ حَتَّى تَجُوزَ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مَتَى بَقِيَتْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ، لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُعْتَقْ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْفُذَ لِلْمُعْتَقِ وَصِيَّةً لِيَصِيرَ حُرًّا فَيُعْتَقَ أَخُوهُ بِعِتْقِهِ، وَقَدْ جَازَتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِ رَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يَدَعْ وَارِثًا، جَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَيَرِثَانِ جَمِيعًا، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُول: قَدْ صِرْت أَنَا وَأَنْتَ وَارِثَيْنِ، فَلَا تَأْخُذْ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْئًا دُونِي، وَقَدْ كَانَتْ رَقَبَتِي لَك وَصِيَّةً وَعَتَقَتْ مِنْ قِبَلِك، فَاضْمَنْ لِي نِصْفَ رَقَبَتِي. فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَهُنَاكَ مَالٌ غَيْرُهُمَا، أَخَذَ الثَّانِي نِصْفَهُ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ النِّصْفِ الثَّانِي نِصْفَ قِيمَةِ نَفْسِهِ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِأَخِيهِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ كَانَ لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَة آلَاف فَتَبَرُّع بِأَلْفِ ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ مِمَّا بَقِيَ وَلَهُ ابْن] (4701) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَتَبَرَّعَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ مِمَّا بَقِيَ وَلَهُ ابْنٌ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ الشِّرَاءُ وَصِيَّةً: يُعْتَقُ الْأَبُ وَيَنْفُذُ مِنْ التَّبَرُّعِ قَدْرُ ثُلُثِ الْمَالِ حَالَ الْمَوْتِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ سُدُسُهُ، وَبَاقِيهِ لِلِابْنِ. عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَمَنْ جَعَلَهُ وَصِيَّةً: لَا يُعْتَقُ أَبٌ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَ الْمَرِيضِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِي الثُّلُثِ، وَيُقَدَّمُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَإِذَا قُدِّمَ التَّبَرُّعُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ، وَيَرِثُهُ الِابْنُ، فَيُعْتَقُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَبُوهُ، عَتَقَ، وَوَرِثَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَيْسَتْ بِوَصِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ وَرِثَهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتَقْ بِالْمِلْكِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْإِعْتَاقِ بِالْقَوْلِ، بِدَلِيلِ نُفُوذِهِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْفُذَ بِالْقَوْلِ. [فَصْلٌ مِلْك الْمَرِيض مَنْ يَرِثُهُ مِمَّنْ لَا يُعْتِق عَلَيْهِ كَابْنِ عَمّه فَأَعْتَقَهُ فِي مَرَضه] (4702) فَصْلٌ: وَإِنْ مَلَكَ الْمَرِيضُ مَنْ يَرِثُهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، كَابْنِ عَمِّهِ، فَأَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ، كَانَ إعْتَاقُهُ وَصِيَّةً مُعْتَبَرَةً مِنْ الثُّلُثِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ مَالِكُهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ، فَاعْتُبِرَ عِتْقُهُمْ مِنْ الثُّلُثِ. فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْمُعْتَقِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَرِيضٍ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ فِي مَرَضِهِ، فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ، عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ. لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَكَانَ إقْرَارُهُ لِوَارِثٍ، فَلَا يُقْبَلُ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ عِتْقِهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ مِيرَاثُهُ، فَكَانَ إعْتَاقُهُ مِنْ غَيْرِ تَوْرِيثٍ أَوْلَى. وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْقَاضِي، أَنَّهُ يُعْتَقُ وَيَرِثُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، لَيْسَ بِقَاتِلٍ، وَلَا مُخَالِفٍ لِدِينِهِ، وَيَرِثُ، كَمَا لَوْ وَرِثَهُ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَلَا يَرِثُ، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ. [فَصْلٌ مَا لَزِمَ الْمَرِيضَ فِي مَرَضِهِ مِنْ حَقٍّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ وَإِسْقَاطُهُ] (4703) فَصْلٌ: وَمَا لَزِمَ الْمَرِيضَ فِي مَرَضِهِ مِنْ حَقٍّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ وَإِسْقَاطُهُ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَجِنَايَةِ عَبْدِهِ، وَمَا عَاوَضَ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَائِزٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لِمَالِهِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ، فَيُقَدَّمُ بِذَلِكَ عَلَى وَارِثِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً يَسْتَمْتِعُ بِهَا، كَثِيرَةَ الثَّمَنِ، بِثَمَنِ مِثْلِهَا، أَوْ اشْتَرَى مِنْ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي لَا يَأْكُلُ مِثْلُهُ مِنْهَا جَازَ، وَصَحَّ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لِمَالِهِ فِي حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، قُدِّمَ بِذَلِكَ عَلَى وَارِثِهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . [فَصْلٌ قَضَى الْمَرِيض بَعْض غُرَمَائِهِ وَوَفَتْ تَرَكَتْهُ بِسَائِرِ الدُّيُون] (4704) فَصْلٌ فَأَمَّا إنْ قَضَى الْمَرِيضُ بَعْضَ غُرَمَائِهِ، وَوَفَّتْ تَرِكَتُهُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ صَحَّ قَضَاؤُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَمُشَارَكَتَهُ فِيمَا أَخَذَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ، فَمَنَعَتْ تَصَرُّفَهُ فِيهِ بِمَا يَنْقُصُ دُيُونَهُمْ، كَتَبَرُّعِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى بِقَضَاءِ بَعْضِ دُيُونِهِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَلِكَ إذَا قَضَاهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 وَالثَّانِي، أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَلَا مُشَارَكَتَهُ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. لِأَنَّهُ أَدَّى وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَدَّى ثَمَنَهُ، أَوْ بَاعَ بَعْضَ مَالِهِ وَسَلَّمَهُ، وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثِيَابًا مُثَمَّنَةً صَحَّ، وَلَوْ وَصَّى بِتَكْفِينِهِ فِي ثِيَابٍ مُثَمَّنَةٍ لَمْ يَصِحَّ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ إيفَاءَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ قَضَاءٌ لِبَعْضِ غُرَمَائِهِ، وَقَدْ صَحَّ عَقِيبَ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَرَاخَى، إذْ لَا أَثَرَ لِتَرَاخِيهِ. [فَصْلٌ تَبَرُّع الْمَرِيض أَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ أَقَرَّ بِدِينِ] (4705) فَصْلٌ: وَإِذَا تَبَرَّعَ الْمَرِيضُ، أَوْ أَعْتَقَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، لَمْ يَبْطُلْ تَبَرُّعُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ. عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَمْ يُرَدَّ إلَى الرِّقِّ. وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالتَّبَرُّعِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ فِيمَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ. [فَصْل الْأَمْرَاض عَلَى أَرْبَعَة أَقْسَام فِي تَصْرِف الْمَرِيض فِي الْوَصِيَّة] (4706) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي هَذِهِ أَحْكَامُهُ شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَتَّصِلَ بِمَرَضِهِ الْمَوْتُ، وَلَوْ صَحَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي أَعْطَى فِيهِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحُكْمُ عَطِيَّتِهِ حُكْمُ عَطِيَّةِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا، وَالْأَمْرَاضُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ غَيْرُ مَخُوفٍ، مِثْل وَجَعِ الْعَيْنِ، وَالضِّرْسِ، وَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ، وَحُمَّى سَاعَةٍ، فَهَذَا حُكْمُ صَاحِبِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ الضَّرْبُ الثَّانِي، الْأَمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ؛ كَالْجُذَامِ، وَحُمَّى الرُّبْعِ، وَالْفَالِجِ فِي انْتِهَائِهِ، وَالسُّلِّ فِي ابْتِدَائِهِ، وَالْحُمَّى الْغِبِّ، فَهَذَا الضَّرْبُ إنْ أُضْنِيَ صَاحِبُهَا عَلَى فِرَاشِهِ، فَهِيَ مَخُوفَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، بَلْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، فَعَطَايَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا تَحْقِيقُ الْمَذْهَبِ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى حَرْبٌ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي وَصِيَّةِ الْمَجْذُومِ وَالْمَفْلُوجِ: مِنْ الثُّلُثِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا صَارَا صَاحِبَيْ فِرَاشٍ. وَبِهِ يَقُولُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ وَجْهًا فِي صَاحِبِ الْأَمْرَاضِ الْمُمْتَدَّةِ، أَنَّ عَطِيَّتَهُ مِنْ صُلْبِ الْمَالِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْرَأُ فَهُوَ كَالْهَرِمِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَرِيضٌ صَاحِبُ فِرَاشٍ يَخْشَى التَّلَفَ، فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الْحُمَّى الدَّائِمَةِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَإِنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 الضَّرْبُ الثَّالِثُ، مَنْ تَحَقَّقَ تَعْجِيلُ مَوْتِهِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ اخْتَلَّ، مِثْلَ مَنْ ذُبِحَ، أَوْ أُبِينَتْ حَشْوَتُهُ، فَهَذَا لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ وَلَا لِعَطِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ، كَمَنْ خُرِقَتْ حَشْوَتُهُ، أَوْ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَقْلُهُ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ وَتَبَرُّعُهُ، وَكَانَ تَبَرُّعُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَتْ حَشْوَتُهُ، فَقُبِلَتْ وَصِيَّتُهُ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي ذَلِكَ. وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ ضَرْبِ ابْنِ مُلْجَمٍ أَوْصَى وَأَمَرَ وَنَهَى، فَلَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ، مَرَضٌ مَخُوفٌ، لَا يَتَعَجَّلُ مَوْتُ صَاحِبِهِ يَقِينًا، لَكِنَّهُ يَخَافُ ذَلِكَ، كَالْبِرْسَامِ، وَهُوَ بُخَارٌ يَرْقَى إلَى الرَّأْسِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الدِّمَاغِ، فَيَخْتَلُّ الْعَقْلُ، وَالْحُمَّى الصَّالِبُ، وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ؛ لِأَنَّهُ يُصَفِّي الدَّمَ، فَيُذْهِبُ الْقُوَّةَ، وَذَاتَ الْجَنْبِ وَهُوَ قُرْحٌ بِبَاطِنِ الْجَنْبِ، وَوَجَعِ الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهَا، فَلَا يَنْدَمِلُ جُرْحُهَا، وَالْقُولَنْجِ، وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ الطَّعَامُ فِي بَعْضِ الْأَمْعَاءِ، وَلَا يَنْزِلُ عَنْهُ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَخُوفَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا حُمَّى أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهِيَ مَعَ الْحُمَّى أَشَدُّ خَوْفًا. فَإِنْ ثَاوَرَهُ الدَّمُ، وَاجْتَمَعَ فِي عُضْوٍ، كَانَ مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحَرَارَةِ الْمُفْرِطَةِ. وَإِنْ هَاجَتْ بِهِ الصَّفْرَاءُ، فَهِيَ مَخُوفَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُورِثُ يُبُوسَةً، وَكَذَلِكَ الْبَلْغَمُ إذَا هَاجَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْبُرُودَةِ، وَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فَتُطْفِئُهَا. وَالطَّاعُونُ مَخُوفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ. وَأَمَّا الْإِسْهَالُ، فَإِنْ كَانَ مُنْخَرِقًا لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُهُ وَلَا إمْسَاكُهُ، فَهُوَ مَخُوفٌ، وَإِنْ كَانَ سَاعَةً؛ لِأَنَّ مَنْ لَحِقَهُ ذَلِكَ أَسْرَعَ فِي هَلَاكِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْخَرِقًا، لَكِنَّهُ يَكُونُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضْلَةِ الطَّعَامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ زَحِيرٌ وَتَقْطِيعٌ كَأَنْ يَخْرُجَ مُتَقَطِّعًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَخُوفًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُ. وَإِنْ دَامَ الْإِسْهَالُ، فَهُوَ مَخُوفٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ زَحِيرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ، رُجِعَ فِيهِ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمْ الْأَطِبَّاءُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إلَّا قَوْلُ طَبِيبَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ثِقَتَيْنِ بَالِغَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَأَهْلُ الْعَطَايَا، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ. وَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ، إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى طَبِيبَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الدَّعَاوَى. فَهَذَا الضَّرْبُ وَمَا أَشْبَهِهِ، عَطَايَاهُ صَحِيحَةٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا جُرِحَ سَقَاهُ الطَّبِيبُ لَبَنًا، فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: اعْهَدْ إلَى النَّاسِ. فَعَهِدَ إلَيْهِمْ وَوَصَّى، فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَبُولِ عَهْدِهِ وَوَصِيَّتِهِ. وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ، عَهِدَ إلَى عُمَرَ، فَنَفَّذَ عَهْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ عَطِيَّةُ الْحَامِلِ] (4707) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إذَا صَارَ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 يَعْنِي عَطِيَّتَهَا مِنْ الثُّلُثِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إذَا أَثْقَلَتْ لَا يَجُوزُ لَهَا إلَّا الثُّلُثُ. وَلَمْ يَحِدْ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: عَطِيَّةُ الْحَامِلِ مِنْ الثُّلُثِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عَطِيَّةُ الْحَامِلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، مَا لَمْ يَضْرِبْهَا الْمَخَاضُ، فَإِذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، فَعَطِيَّتُهَا مِنْ الثُّلُثِ وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ضَرْبِ الْمَخَاضِ لَا تَخَافُ الْمَوْتَ، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَخَافُ الْمَوْتَ إذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَأَشْبَهَتْ صَاحِبَ الْأَمْرَاضِ الْمُمْتَدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ صَاحِبَ فِرَاشٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: عَطِيَّتُهَا كَعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ سَلَامَتُهَا. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ سِتَّةَ الْأَشْهُرِ وَقْتٌ يُمْكِنُ الْوِلَادَةُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهَا إذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ، كَانَ مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، فَأَشْبَهَتْ صَاحِبَ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ. وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا أَلَمَ بِهَا، وَاحْتِمَالُ وُجُودِهِ خِلَافُ الْعَادَةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِاحْتِمَالِهِ الْبَعِيدِ مَعَ عَدَمِهِ، كَالصَّحِيحِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ بَقِيَتْ الْمَشِيمَةُ مَعَهَا، فَهُوَ مَخُوفٌ، وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ مَعَهَا، فَهُوَ مَخُوفٌ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ خُرُوجُهُ، وَإِنْ وَضَعَتْ الْوَلَدَ، وَخَرَجَتْ الْمَشِيمَةُ، وَحَصَلَ ثَمَّ وَرَمٌ أَوْ ضَرْبَانِ شَدِيدٌ، فَهُوَ مَخُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي النُّفَسَاءِ: إنْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ، فَعَطِيَّتُهَا مِنْ الثُّلُثِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ أَلَمٌ لِلُزُومِهِ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ، كَانَتْ كَالْمَرِيضِ، وَحُكْمُهَا بَعْدَ السَّقْطِ كَحُكْمِهَا بَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ التَّامِّ. وَإِنْ أَسْقَطَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً، فَلَا حُكْمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَرَضٌ أَوْ أَلَمٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ. [فَصْلٌ يُحَصِّل الْخَوْف فِي مَوَاضِع خَمْسَة تَقُوم مَقَام الْمَرَض فِي تَصْرِف الْمَرِيض الْمُوصِي] (4708) فَصْلٌ: وَيَحْصُلُ الْخَوْفُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فِي مَوَاضِعَ خَمْسَةٍ، تَقُومُ مَقَامَ الْمَرَضِ؛ أَحَدُهَا، إذَا الْتَحَمَ الْحَرْبُ، وَاخْتَلَطَتْ الطَّائِفَتَانِ لِلْقِتَالِ، وَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مُكَافِئَةً لِلْأُخْرَى أَوْ مَقْهُورَةً. فَأَمَّا الْقَاهِرَةُ مِنْهُمَا بَعْدَ ظُهُورِهَا، فَلَيْسَتْ خَائِفَةً. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَخْتَلِطُوا، بَلْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزَةً، سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا رَمْيٌ بِالسِّهَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَتْ حَالَةَ خَوْفٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّائِفَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ فِي الدِّينِ أَوْ مُفْتَرِقَتَيْنِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَنَحْوُهُ عَنْ مَكْحُولٍ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي، لَيْسَ بِمَخُوفٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرِيضٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 وَلَنَا، أَنَّ تَوَقُّعَ التَّلَفِ هَاهُنَا كَتَوَقُّعِ الْمَرَضِ أَوْ أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ إنَّمَا جُعِلَ مَخُوفًا لِخَوْفِ صَاحِبِهِ التَّلَفَ، وَهَذَا كَذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ، كَانَ عِتْقُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَعَنْهُ: إذَا الْتَحَمَ الْحَرْبُ، فَوَصِيَّتُهُ مِنْ الْمَالِ كُلِّهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً، وَتُسَمَّى الْعَطِيَّةُ وَصِيَّةً تَجَوُّزًا؛ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَلِكَوْنِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمَالِ كُلِّهِ. لَكِنْ يَقِفُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ وَصِيَّةِ الصَّحِيحِ وَخَائِفِ التَّلَفِ وَاحِدٌ. الثَّانِيَةُ، إذَا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ، فَهِيَ حَالَةُ خَوْفٍ، سَوَاءٌ أُرِيدَ قَتْلُهُ لِلْقِصَاصِ، أَوْ لِغَيْرِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَخُوفٌ. وَالثَّانِي: إنْ جُرِحَ فَهُوَ مَخُوفٌ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ صَحِيحُ الْبَدَنِ، وَالظَّاهِرُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَنَا، أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْقَتْلِ جُعِلَ إكْرَاهًا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَصِحَّةَ الْبَيْعِ، وَيُبِيحُ كَثِيرًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَوْلَا الْخَوْفُ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَإِذَا حُكِمَ لِلْمَرِيضِ وَحَاضِرِ الْحَرْبِ بِالْخَوْفِ مَعَ ظُهُورِ السَّلَامَةِ، وَبَعْدَ وُجُودِ التَّلَفِ، فَمَعَ ظُهُورِ التَّلَفِ وَقُرْبِهِ أَوْلَى، وَلَا عِبْرَةَ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ فَإِنَّ الْمَرَضَ لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا لِهَذَا الْحُكْمِ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِخَوْفِ إفْضَائِهِ إلَى التَّلَفِ، فَثَبَتَ الْحُكْمُ هَاهُنَا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ، لِظُهُورِ التَّلَفِ. الثَّالِثَةُ، إذَا رَكِبَ الْبَحْرَ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنًا فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ، وَإِنْ تَمَوَّجَ وَاضْطَرَبَ وَهَبَّتْ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، فَهُوَ مَخُوفٌ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] . الرَّابِعَةُ، الْأَسِيرُ وَالْمَحْبُوسُ، إذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْقَتْلُ، فَهُوَ خَائِفٌ، عَطِيَّتُهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ لَمَّا حَبَسَ الْحَجَّاجُ إيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ: لَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ إلَّا الثُّلُثُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَطِيَّةُ الْأَسِيرِ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ. وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ ابْتِدَاءً. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ: الْغَازِي عَطِيَّتُهُ مِنْ الثُّلُثِ. وَقَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 مَسْرُوقٌ: إذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْمَحْصُورُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَحْبُوسُ يَنْتَظِرُ الْقَتْلَ أَوْ تُفْقَأُ عَيْنَاهُ، هُوَ فِي ثُلُثِهِ وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَبْسِ وَالْأَسْرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْقَتْلِ لَيْسَ بِمَرَضٍ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ فِي الْخَوْفِ، فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَخَافُ التَّلَفَ عَطِيَّتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. الْخَامِسَةُ، إذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلْدَةٍ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَخُوفٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضٍ، وَإِنَّمَا يُخَافُ الْمَرَضُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ خُرُوج الْعَطِيَّة مِنْ الثُّلُث حَالَ الْمَوْت] (4709) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَطِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ حَالَ الْمَوْتِ، فَمَهْمَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَطِيَّةَ صَحَّتْ فِيهِ حَالَ الْعَطِيَّةِ، فَإِنْ نَمَا الْمُعْطَى أَوْ كَسَبَ شَيْئًا، قُسِمَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ، عَلَى قَدْرِ مَا لَهُمَا فِيهِ، فَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى الدَّوْرِ. فَمِنْ ذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، فَكَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ، فَلِلْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَبَاقِيهِ لِسَيِّدِهِ، فَيَزْدَادُ بِهِ مَالُ السَّيِّدِ، وَتَزْدَادُ الْحُرِّيَّةُ لِذَلِكَ، وَيَزْدَادُ حَقُّهُ مِنْ كَسْبِهِ، فَيَنْقُصُ بِهِ حَقُّ السَّيِّدِ، مِنْ الْكَسْبِ، وَيَنْقُصُ بِذَلِكَ قَدْرُ الْمُعْتَقِ مِنْهُ، فَيُسْتَخْرَجُ ذَلِكَ بِالْجَبْرِ. فَيُقَالُ: عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِثْلُهُ، وَلِلْوَرَثَةِ مِنْ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ شَيْئَانِ، لِأَنَّ لَهُمْ مِثْلَيْ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَى الْعَبْدِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ لَا مِنْ جِهَةِ سَيِّدِهِ، فَصَارَ لِلْعَبْدِ شَيْئَانِ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ مِنْ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ، فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ وَكَسْبُهُ نِصْفَيْنِ، يُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُهُ، وَلَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُمَا. وَإِنْ كَسَبَ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ، فَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْئَانِ، صَارَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَلَهُمْ شَيْئَانِ، فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ وَكَسْبُهُ أَخْمَاسًا، يُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ خُمُسَاهُ وَخُمُسَا كَسْبِهِ. وَإِنْ كَسَبَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ قِيمَتِهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مِنْ كَسْبِهِ مَعَ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَلَهُمْ شَيْئَانِ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، وَلَهُ ثُلُثَا كَسْبِهِ، وَلَهُمْ الثُّلُثُ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ نِصْفُ شَيْءٍ، وَلَهُمْ شَيْئَانِ، فَالْجَمِيعُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَنِصْفٌ، إذَا بَسَطْتهَا أَنْصَافًا صَارَتْ سَبْعَةً، لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا، فَيُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً، فَكَسَبَ تِسْعَةً، فَاجْعَلْ لَهُ مِنْ كُلِّ دِينَارٍ شَيْئًا، فَقُلْ: عَتَقَ مِنْهُ مِائَةُ شَيْءٍ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ تِسْعَةُ، أَشْيَاءَ، وَلَهُمْ مِائَتَا شَيْءٍ. وَيُعْتَقُ مِنْهُ مِائَةُ جُزْءٍ وَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَهُمْ مِائَتَا جُزْءٍ مِنْ نَفْسِهِ وَمِائَتَانِ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ كَسْبِهِ، صُرِفَا فِي الدَّيْنِ وَلَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ كَسْبِهِ، صُرِفَ مِنْ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ. مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي الْعَبْدِ الْكَامِلِ وَكَسْبِهِ. فَلَوْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ كَقِيمَتِهِ، صُرِفَ فِيهِ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَنِصْفُ كَسْبِهِ، وَقُسِمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْعِتْقِ نِصْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْكَسْبِ وَإِنْ كَسَبَ الْعَبْدُ مِثْلَ قِيمَتِهِ، وَلِلسَّيِّدِ مَالٌ مِثْلُ قِيمَتِهِ، قَسَمْت الْعَبْدَ وَمِثْلَيْ قِيمَتِهِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَلِكُلِّ شَيْءٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، فَيُعْتَقُ مِنْ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، فَكَسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ قِيمَتِهِ، لَكَمُلَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، وَيُقْسَمُ الْعَبْدَانِ وَكَسْبُهُمَا عَلَى الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ شَيْءٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. وَإِنْ بَدَأَ بِعِتْقِ الْأَدْنَى عَتَقَ كُلُّهُ، وَأَخَذَ كَسْبَهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَرَثَةُ مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ وَكَسْبِهِ مِثْلَيْ الْعَبْدِ الَّذِي عَتَقَ، وَهُوَ نِصْفُهُ وَنِصْفُ كَسْبِهِ، وَيَبْقَى نِصْفُهُ وَنِصْفُ كَسْبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيُعْتَقُ رُبُعُهُ، وَلَهُ رُبُعُ كَسْبِهِ، وَيَرِقُّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَيَتْبَعُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ. وَذَلِكَ مِثْلَا مَا انْعَتَقَ مِنْهُمَا. وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، قَرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ بَدَأَ بِإِعْتَاقِهِ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ ثَلَاثَة أَعْبُد قِيمَتهمْ سَوَاء وَعَلَيْهِ دَيْن بِقَدْرِ قِيمَة أَحَدهمْ وَكَسْب أَحَدهمْ مِثْل قِيمَته] فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ قِيمَةِ أَحَدِهِمْ، وَكَسَبَ أَحَدُهُمْ مِثْلَ قِيمَتِهِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمْ لِإِخْرَاجِ الدَّيْنِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْمُكْتَسِبِ وَالْآخَرِ، لِأَجْلِ، الْحُرِّيَّةِ فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالْمُكْتَسِبُ وَمَالُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْمُكْتَسِبِ عَتَقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ، وَبَاقِيهِ وَبَاقِي كَسْبِهِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ لِلْوَرَثَةِ، كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ مَالٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَلَوْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُكْتَسِبِ، لَقَضَيْنَا الدَّيْنَ بِنِصْفِهِ وَنِصْفِ كَسْبِهِ، ثُمَّ أَقْرَعْنَا بَيْنَ بَاقِيهِ وَبَيْنَ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِهِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَلِلْوَرَثَةِ مَا بَقِيَ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمُكْتَسِبِ، عَتَقَ بَاقِيهِ، وَأَخَذَ بَاقِيَ كَسْبِهِ، ثُمَّ نَقْرَعُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ لِإِتْمَامِ الثُّلُثِ، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ، وَالْعَبْدُ الْآخَرُ لِلْوَرَثَةِ. لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَوْهُوبًا لَإِنْسَانٍ، كَانَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ مِثْلُ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ وَنَفْسِهِ، فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا. [فَصْلٌ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيِي الْقِيمَة بِكَلِمَةِ وَاحِدَة وَلَا مَال لَهُ غَيْرهمَا فَمَاتَ أَحَدهمَا] (4711) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْ الْقِيمَةِ، بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، أَقْرَعَ بَيْنَ الْحَيِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وَالْمَيِّتِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَيِّتِ فَالْحَيُّ رَقِيقٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَ نِصْفُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ مَعَ الْوَرَثَةِ مِثْلَيْ نِصْفِهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْحَيِّ عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَلَا يُحْسَبُ الْمَيِّتُ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَال لَهُ سِوَاهُ قِيمَته عَشْرَة فَمَاتَ قَبْل سَيِّده وَخَلَف عِشْرِينَ] (4712) فَصْلٌ: رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَمَاتَ قَبْلَ سَيِّدِهِ، وَخَلَّفَ عِشْرِينَ، فَهِيَ لِسَيِّدِهِ بِالْوَلَاءِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا، وَكَذَلِكَ إنْ خَلَّفَ أَرْبَعِينَ وَبِنْتًا. وَإِنْ خَلَّفَ عَشْرَةً، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ، وَلِسَيِّدِهِ شَيْئَانِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي يَدِ سَيِّدِهِ عَشْرَةٌ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ نِصْفَهُ حُرٌّ، وَبَاقِيَهُ رَقِيقٌ، وَالْعَشَرَةُ يَسْتَحِقُّهَا السَّيِّدُ، نِصْفُهَا بِحُكْمِ الرِّقِّ، وَنِصْفُهَا بِالْوَلَاءِ. فَإِنْ خَلَّفَ الْعَبْدُ ابْنًا، فَلَهُ مِنْ رَقَبَتِهِ شَيْءٌ، وَمِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ، يَكُونُ لِأَبِيهِ بِالْمِيرَاثِ، وَلِسَيِّدِهِ شَيْئَانِ، فَتُقْسَمُ الْعَشَرَةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِلِابْنِ ثُلُثُهَا، وَلِلسَّيِّدِ ثُلُثَاهَا، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ ثُلُثُهُ وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا، فَلَهَا نِصْفُ شَيْءٍ، وَلِلسَّيِّدِ شَيْئَانِ، فَصَارَتْ الْعَشَرَةُ عَلَى خَمْسَةٍ، لِلْبِنْتِ خُمُسُهَا، وَلِلسَّيِّدِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا، تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ خُمُسَيْ الْعَبْدِ مَاتَ حُرًّا. وَإِنْ خَلَّفَ الْعَبْدُ عِشْرِينَ وَابْنًا، فَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْئَانِ، يَكُونَانِ لِابْنِهِ، وَلِسَيِّدِهِ شَيْئَانِ، فَصَارَتْ الْعِشْرُونَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَ ابْنِهِ نِصْفَيْنِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْهُ نِصْفُهُ. فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، وَكَانَ ابْنَ مُعْتَقِهِ، وَرِثَهُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ حُرًّا، لِكَوْنِ السَّيِّدِ مَلَكَ عِشْرِينَ، وَهِيَ مِثْلَا قِيمَتِهِ، فَعَتَقَ، وَجَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى سَيِّدِهِ، فَوَرِثَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ابْنَ مُعْتَقِهِ، لَمْ يَنْجَرَّ وَلَاؤُهُ، وَلَمْ يَرِثْهُ سَيِّدُ أَبِيهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ خَلَّفَ هَذَا الِابْنُ عِشْرِينَ، وَلَمْ يُخَلِّفْ أَبُوهُ شَيْئًا، أَوْ مَلَكَ السَّيِّدُ عِشْرِينَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ عِشْرِينَ، لَمْ يَنْجَرَّ وَلَاءُ الِابْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ عَتَقَ بَعْضُهُ، جَرَّ مِنْ وَلَاءِ ابْنِهِ بِقَدْرِهِ، فَلَوْ خَلَّفَ الِابْنُ عَشَرَةً، وَمَلَكَ السَّيِّدُ خَمْسَةً، فَإِنَّك تَقُولُ: عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَيَجُرُّ مِنْ وَلَاءِ أَبِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ مَعَ خَمْسَتِهِ، وَهُمَا يَعْدِلَانِ شَيْئَيْنِ، وَبَاقِي الْعَشَرَةِ لِمَوْلَى أُمِّهِ. فَيُقْسَمُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَمَوْلَى الْأُمِّ نِصْفَيْنِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ نِصْفُهُ، وَحَصَلَ لِلسَّيِّدِ خُمُسُهُ مِنْ مِيرَاثِ ابْنِهِ، وَكَانَتْ لَهُ خَمْسَةٌ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ. فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، وَخَلَّفَ مَالًا، وَحَكَمْنَا بِعِتْقِ الْأَبِ أَوْ عِتْقِ بَعْضِهِ، وَرِثَ مَالَ ابْنِهِ إنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ إنْ كَانَ بَعْضُهُ حُرًّا، وَلَمْ يَرِثْ سَيِّدُهُ مِنْهُ شَيْئًا. وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ تَرَكْت ذِكْرَهُ كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ. [فَصْل فِي الْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ] (4713) فَصْلٌ: فِي الْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ، وَهِيَ أَنْ يُعَاوِضَ بِمَالِهِ، وَيَسْمَحَ لِمَنْ عَاوَضَهُ بِبَعْضِ عِوَضِهِ، وَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 الْقِسَمُ الْأَوَّلُ الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْعَقْدِ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَصَحَّ، كَغَيْرِ الْمَرِيضِ. فَلَوْ بَاعَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ بِعَشَرَةٍ، فَقَدْ حَابَى الْمُشْتَرِيَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَزِمَ الْبَيْعُ. وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْبَيْعِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ، الثُّلُثَ بِالْمُحَابَاةِ، وَالثُّلُثَ الْآخَرَ بِالثَّمَنِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: يُقَال لَهُ: إنْ شِئْت أَدَّيْت عَشَرَةً أُخْرَى وَأَخَذْت الْمَبِيعَ، وَإِنْ شِئْت فَسَخْت وَلَا شَيْءَ لَك وَعِنْدَ مَالِكٍ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَأْخُذَ ثُلُثَ الْمَبِيعِ بِالْمُحَابَاةِ، وَيُسَمِّيَهُ أَصْحَابُهُ خَلْعَ الثُّلُثِ. وَلَنَا أَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مُقَابَلَةَ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِ جَمْعَيْهِ بِجَمِيعِهِ، فَصَحَّ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَتَيْنِ بِثَمَنٍ، فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي إحْدَاهُمَا لِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا، فَأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، أَوْ كَالشُّفَعَاءِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، بِقَفِيزٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ الْمَبِيعَ بِثَمَنٍ، فَيَأْخُذُ بَعْضَهُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا بِمِائَةٍ. فَقَالَ: قَبِلْت نِصْفَهُ بِهَا. وَلِأَنَّهُ إذَا فَسَخَ الْبَيْعَ فِي بَعْضِهِ، وَجَبَ أَنْ يَفْسَخَهُ فِي قَدْرِهِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ ثَمَنِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ مَعَ بَقَاءِ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ فِيهِ إجْبَارَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي عَاوَضَ مُوَرِّثُهُمْ، وَإِذَا فَسَخَ الْبَيْعَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ. فَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ زَالَتْ الْوَصِيَّةُ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ خَمْسُونَ، فَطَلَبَ الْخَمْسِينَ الْفَاضِلَةَ بِدُونِ الْحَجِّ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِثَلَاثِينَ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ الَّذِي يُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، جَازَ وَالْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، لِلْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَطَرِيقُ هَذَا أَنْ تَنْسُبَ الثَّمَنَ وَثُلُثَ الْمَبِيعِ إلَى قِيمَتِهِ، فَيَصِحَّ الْبَيْعُ فِي مِقْدَارِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَيُنْسَبُ الثُّلُثُ إلَى الْبَاقِي، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ. فَإِنْ خَلَّفَ الْبَائِعُ عَشَرَةً أُخْرَى، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِهِ بِثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ الثَّمَنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي نِصْفَهُ وَأَرْبَعَةَ أَتْسَاعِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيَرُدُّ نِصْفَ تُسْعِهِ. وَإِنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، بِقَفِيزٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، أَوْ بِقَفِيزٍ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ، تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ هَاهُنَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَطَرِيقُ حِسَابِهَا بِالْجَبْرِ فِيمَا إذَا بَاعَهُ بِمَا يُسَاوِي ثُلُثَ قِيمَتِهِ، أَنْ نَقُولَ: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَرْفَعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَدْوَنِ، وَقِيمَتُهُ ثُلُثُ شَيْءٍ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثَيْ شَيْءٍ، أُلْقِهِمَا مِنْ الْأَرْفَعِ، يَبْقَ قَفِيزٌ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ مِثْلَيْ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ، وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَإِذَا جَبَرَ بِهِ عَدَلَ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ نِصْفُ الْقَفِيزِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ امْرَأَةً صَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ فَأَصْدَقَهَا عَشْرَةً لَا يَمْلِكُ سِوَاهَا ثُمَّ مَاتَ] (4714) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي الْمُحَابَاةُ فِي التَّزْوِيجِ. إذَا تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ امْرَأَةً، صَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ، فَأَصْدَقَهَا عَشْرَةً لَا يَمْلِكُ سِوَاهَا، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ وَرِثَتْهُ بَطَلَتْ الْمُحَابَاةُ، إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ تَرِثْهُ لِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لَهُ فِي الدِّينِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهَا مَهْرُهَا وَثُلُثُ مَا حَابَاهَا بِهِ. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ، فَوَرِثَهَا وَلَمْ تُخَلِّفْ مَالًا سِوَى مَا أَصْدَقَهَا، دَخَلَهَا الدَّوْرُ، فَتَصِحُّ الْمُحَابَاةُ فِي شَيْءٍ، فَيَكُونُ لَهُ خَمْسَةٌ بِالصَّدَاقِ، وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، وَيَبْقَى لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ بِالْمِيرَاثِ نِصْفُ مَالِهَا. وَهُوَ اثْنَانِ وَنِصْفٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ، صَارَ لَهُمْ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ، يَخْرُجْ الشَّيْءُ ثَلَاثَةً، فَكَانَ لَهَا ثَمَانِيَةٌ، رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةٌ، صَارَ لَهُمْ سِتَّةٌ، وَلِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ. فَإِنْ تَرَكَ الزَّوْجُ خَمْسَةً أُخْرَى، قُلْت: يَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ خَمْسَةٌ، فَجَازَتْ لَهَا الْمُحَابَاةُ جَمِيعُهَا، وَرَجَعَ جَمِيعُ مَا حَابَاهَا بِهِ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ، وَبَقِيَ لِوَرَثَتِهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ خَمْسَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ، قُلْت: يَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عَشْرَةٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ لَهَا بِالصَّدَاقِ تِسْعَةٌ مَعَ خُمُسِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ نِصْفُهَا مَعَ الدِّينَارِ الَّذِي بَقِيَ لَهُمْ، صَارَ لَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَلِوَرَثَتِهَا سَبْعَةٌ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ ثَلَاثَةٌ، قُلْت: يَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ سِتَّةٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ دِينَارَانِ وَخُمُسَانِ. وَالْبَابُ فِي هَذَا أَنْ نَنْظُرَ مَا يَبْقَى فِي يَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، فَخُمْسَاهُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي صَحَّتْ الْمُحَابَاةُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْجَبْرِ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفًا، وَالشَّيْءُ هُوَ خُمُسَا شَيْئَيْنِ وَنِصْفٍ، وَإِنْ شِئْت أَسْقَطْت خَمْسَةً، وَأَخَذْت نِصْفَ مَا بَقِيَ. [فَصْلٌ خَالِعهَا فِي مَرَضهَا بِأَكْثَر مِنْ مَهْرهَا الزَّوْج] (4715) فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يُخَالِعَهَا فِي مَرَضِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِهَا، فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ لِوَرَثَتِهَا أَنْ لَا يُعْطُوهُ أَكْثَرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا، يَكُونُ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْعِوَضِ أَوْ مِيرَاثُهُ مِنْهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ خَالَعَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، وَمَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي أَنَّهَا قَصَدَتْ إيصَالَ أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهِ إلَيْهِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: إنْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالزِّيَادَةُ مَرْدُودَةٌ وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّ خُلْعَ الْمَرِيضَةِ بَاطِلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةٌ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ خَالَعَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، أَوْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَالْعِوَضُ مِنْ الثُّلُثِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: امْرَأَةٌ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِثَلَاثِينَ، لَا مَالَ لَهَا سِوَاهَا، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا اثْنَا عَشَرَ، فَلَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، سَوَاءٌ قَلَّ صَدَاقُهَا أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهَا قَدْرُ مِيرَاثِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، اثْنَا عَشَرَ لِأَنَّهَا قَدْرُ صَدَاقِهَا، وَثُلُثُ بَاقِي الْمَالِ بِالْمُحَابَاةِ وَهُوَ سِتَّةٌ. وَإِنْ كَانَ صَدَاقُهَا سِتَّةً، فَلَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْبَاقِي ثَمَانِيَةٌ مَرِيضٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مِائَةٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشْرَةٌ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِالْمِائَةِ، وَلَا مَالَ لَهَا سِوَاهَا، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَهَا شَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، وَالْبَاقِي لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ نِصْفُ مَالِهَا بِالْمُحَابَاةِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ، فَصَارَ مَعَ وَرَثَتِهِ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ يَخْرُجُ الشَّيْءُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ، فَقَدْ صَحَّ لَهَا بِالصَّدَاقِ وَالْمُحَابَاةِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَبَقِيَ مَعَ وَرَثَتِهِ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ، وَرَجَعَ إلَيْهِمْ بِالْخُلْعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَصَارَ مَعَهُمْ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ، وَبَقِيَ لِلْمَرْأَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ صَدَاقُ الْمِثْلِ وَثُلُثُ شَيْءٍ بِالْمُحَابَاةِ، فَصَارَ بِأَيْدِيهِمْ مِائَةٌ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهَا، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ، فَصَارَ لَهَا ذَلِكَ وَمَهْرُ الْمِثْلِ، رَجَعَ إلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَثُلُثُ الْبَاقِي اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ، فَيَصِيرُ بِأَيْدِي وَرَثَتِهِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَهُوَ مِثْلَا مُحَابَاتِهَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَرْجِعُ إلَيْهِمْ ثُلُثُ الْعُشْرِ وَثُلُثُ الشَّيْءِ، فَصَارَ مَعَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ وَثُلُثٌ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهَا، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ مَعَ الْعَشَرَةِ، صَارَ لَهَا خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، رَجَعَ إلَى الزَّوْجِ ثُلُثُهَا، صَارَ لِوَرَثَتِهَا ثَلَاثُونَ وَلِوَرَثَتِهِ سَبْعُونَ، هَذَا إذَا مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَإِنْ تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ مِائَةً أُخْرَى، فَعَلَى قَوْلِنَا يَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ خُمُسَا ذَلِكَ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّتْ الْمُحَابَاةُ فِيهِ، فَلَهَا ذَلِكَ وَعَشَرَةٌ بِالْمِثْلِ، صَارَ لَهَا مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ، رَجَعَ إلَى الزَّوْجِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَكَانَ الْبَاقِي مَعَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، صَارَ لَهُ مِائَةٌ وَسِتَّةَ عَشَرَ، وَلِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ. [فَصْلٌ وَهَبَ أَخَاهُ مِائَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا فَقَبَضَهَا ثُمَّ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا] (4716) فَصْلٌ: فِي الْهِبَةِ؛ رَجُلٌ وَهَبَ أَخَاهُ مِائَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَقَبَضَهَا، ثُمَّ مَاتَ، وَخَلَّفَ بِنْتًا، فَقَدْ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَالْبَاقِي لِلْوَاهِبِ، وَرَجَعَ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ نِصْفُ الشَّيْءِ الَّذِي جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ، صَارَ مَعَهُ مِائَةٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ خُمُسَا ذَلِكَ أَرْبَعُونَ، رَجَعَ إلَى الْوَاهِبِ نِصْفُهَا عِشْرُونَ، صَارَ مَعَهُ ثَمَانُونَ، وَبَقِيَ لِوَرَثَةِ أَخِي الْوَاهِبِ عِشْرُونَ. وَطَرِيقُهَا بِالْبَابِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدًا لِثُلُثِهِ نِصْفٌ، وَهُوَ سِتَّةٌ، فَتَأْخُذَ ثُلُثَهُ اثْنَيْنِ، وَتُلْقِيَ نِصْفَهُ سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمٌ، فَهُوَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَيَبْقَى لِلْوَاهِبِ أَرْبَعَةٌ، فَتَقْسِمَ الْمِائَةَ سَهْمٍ، عَلَى خَمْسَةٍ، وَالسَّهْمُ الَّذِي أَسْقَطْته لَا يُذْكَرُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى جَمِيعِ السِّهَامِ الْبَاقِيَةِ بِالسَّوِيَّةِ، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهُ، كَالسِّهَامِ الْفَاضِلَةِ عَنْ الْفُرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ. وَشَبَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَسَائِلِ الرَّدِّ، أُمٌّ وَأُخْتَانِ، فَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ، يَسْقُطُ ذِكْرُ السَّهْمِ السَّادِسِ. وَلَوْ كَانَ تَرَكَ اثْنَتَيْنِ، ضَرَبْت ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ، صَارَتْ تِسْعَةً، وَأَسْقَطْت مِنْهَا سَهْمًا يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، فَهِيَ الْمَالُ، وَخُذْ الثُّلُثَ ثَلَاثَةً، أَسْقِطْ مِنْهُمَا سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمَانِ، فَهِيَ الَّتِي تَبْقَى لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَيَبْقَى سِتَّةٌ لِلْوَاهِبِ، وَهِيَ مِثْلَا مَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ وَإِنْ خَلَّفَ امْرَأَةً وَبِنْتًا، فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ، تَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ تَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تُسْقِطُ مِنْهَا الثَّلَاثَةَ الَّتِي وَرِثَهَا الْوَاهِبُ، يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، فَهِيَ الْمَالُ، وَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْأَرْبَعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، تُلْقِي مِنْهَا الثَّلَاثَةَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، فَهِيَ الْبَاقِيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَاهِبِ، فَتَقْسِمُ الْمِائَةَ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ. [فَصْل وَهَبَ مَرِيضٌ مَرِيضًا مِائَةً لَا يَمْلِكُ سِوَاهَا ثُمَّ عَادَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَوَهَبَهَا لِلْأَوَّلِ وَلَا يَمْلِكُ سِوَاهَا] (4717) فَصْلٌ: فَإِنْ وَهَبَ مَرِيضٌ مَرِيضًا مِائَةً، لَا يَمْلِكُ سِوَاهَا، ثُمَّ عَادَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَوَهَبَهَا لِلْأَوَّلِ، وَلَا يَمْلِكُ سِوَاهَا، فَبِالْبَابِ نَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ، وَنُسْقِطُ مِنْهَا سَهْمًا، يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، فَاقْسِمْ الْمِائَةَ عَلَيْهَا لِكُلِّ سَهْمَيْنِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ خُذْ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةً، أَسْقِطْ مِنْهَا سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمَانِ، فَهُوَ لِلْمَوْهُوبِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ هُوَ الرُّبُعُ. وَبِالْجَبْرِ قَدْ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ صَحَّتْ الْهِبَةُ الثَّانِيَةُ فِي ثُلُثِهِ، بَقِيَ لِلْمَوْهُوبِ الْأَوَّلِ ثُلُثَا شَيْءٍ وَلِلْوَاهِبِ مِائَةٌ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ، يَخْرُجْ الشَّيْءُ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ وَنِصْفًا، رَجَعَ إلَى الْوَاهِبِ ثُلُثُهَا اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَبَقِيَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِنْ خَلَّفَ الْوَاهِبُ مِائَةً أُخْرَى، فَقَدْ بَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ مِائَتَانِ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، الشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، رَجَعَ إلَى الْوَاهِبِ ثُلُثُهَا، بَقِيَ مَعَ وَرَثَتِهِ خَمْسُونَ. [فَصْلٌ وَهَبَ رَجُلًا جَارِيَةً فَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَوَطِئَهَا] (4718) فَصْلٌ: فَإِنْ وَهَبَ رَجُلٌ رَجُلًا جَارِيَةً، فَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَوَطِئَهَا، وَمَهْرُهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهَا، وَقِيمَتُهَا ثَلَاثُونَ، وَمَهْرُهَا عَشَرَةٌ، فَقَدْ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَسَقَطَ عَنْهُ مِنْ مَهْرِهَا ثُلُثُ شَيْءٍ، وَبَقِيَ لِلْوَاهِبِ أَرْبَعُونَ إلَّا شَيْئًا وَثُلُثًا يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ، يَخْرُجْ الشَّيْءُ، خُمْسَ ذَلِكَ وَعُشْرَهُ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ وَذَلِكَ خُمْسَا الْجَارِيَةِ. فَقَدْ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِيهِ، وَيَبْقَى لِلْوَاهِبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا، وَلَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ مَهْرِهَا سِتَّةٌ وَلَوْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ فَكَذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَهْرُهَا، ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 لِلْوَاهِبِ، وَخُمْسَاهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، إلَّا أَنَّ نُفُوذَ الْهِبَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْهَا مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ الْمَهْرِ مِنْ الْوَاطِئِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ تَزِدْ الْهِبَةُ عَلَى ثُلُثِهَا. وَكُلَّمَا حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ نَفَذَتْ الْهِبَةُ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ. وَإِنْ وَطِئَهَا الْوَاهِبُ، فَعَلَيْهِ مِنْ عُقْرِهَا بِقَدْرِ مَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ، وَهُوَ ثُلُثُ شَيْءٍ، يَبْقَى مَعَهُ ثَلَاثُونَ إلَّا شَيْئًا، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ تِسْعَةٌ، وَهُوَ خُمْسُ الْجَارِيَةِ، وَعُشْرُهَا وَسَبْعَةُ أَعْشَارِهَا لِوَرَثَةِ الْوَاطِئِ، وَعَلَيْهِمْ عُقْرُ الَّذِي جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْجَارِيَةِ بِقَدْرِهَا، صَارَ لَهُ خُمْسَاهَا. [فَصْلٌ وَهَبَ مَرِيضٌ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَقَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ] (4719) فَصْلٌ: وَإِنْ وَهَبَ مَرِيضٌ رَجُلًا عَبْدًا، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَقَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ، قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: إمَّا أَنْ تَفْدِيَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُسَلِّمَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ تَسْلِيمَهُ سَلَّمَهُ كُلَّهُ، نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَنِصْفَهُ لِانْتِقَاضِ الْهِبَةِ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ قَدْ صَارَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ، وَهُوَ مِثْلَا نِصْفِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَةَ جَازَتْ فِي نِصْفِهِ. وَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا؛ يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْهُ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ. وَالْأُخْرَى، يَفْدِيهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِيَةً، فَإِنَّك تَقُولُ: صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَتَدْفَعُ إلَيْهِمْ نِصْفَ الْعَبْدِ وَقِيمَةَ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْءَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِيَتَيْنِ، وَاخْتَارَ دَفْعَهُ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي شَيْءٍ، وَتَدْفَعُ إلَيْهِمْ نِصْفَهُ، يَبْقَى مَعَهُمْ عَبْدٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ خُمْسَاهُ، وَيَرُدُّ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ؛ لِانْتِقَاصِ الْهِبَةِ، وَخُمْسًا مِنْ أَجْلِ جِنَايَتِهِ، فَيَصِيرُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ. وَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَدَاهُ بِخُمُسَيْ الدِّيَةِ، وَيَبْقَى لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ وَخُمْسَا الدِّيَةِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ خُمْسٍ مِنْهُ، وَيَبْقَى لَهُ خُمْسَاهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَقُلْنَا: نَفْدِيهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ. نَفَذَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ أَرْشُهَا أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ أَوْ مِثْلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، فَاخْتَارَ فِدَاءَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَدْ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، وَيَفْدِيهِ بِشَيْءٍ وَثُلُثَيْنِ، فَصَارَ مَعَ الْوَرَثَةِ عَبْدٌ وَثُلُثَا شَيْءٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ رُبْعُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، صَارَ الْجَمِيعُ تِسْعَمِائَةٍ، وَهُوَ مِثْلَا مَا صَحَّتْ الْهِبَةُ فِيهِ فَإِنْ تَرَكَ الْوَاهِبُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَاضْمُمْهَا إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْعَبْدِ، دَفَعَ ثُلُثَهُ وَرُبْعَهُ، وَذَلِكَ قَدْرُ نِصْفِ جَمِيعِ الْمَالِ بِالْجِنَايَةِ وَبَاقِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 لِانْتِقَاصِ الْهِبَةِ، فَيَصِيرَ الْعَبْدُ وَالْمِائَةُ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ يَفْدِي ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ إذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، فَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمِائَةِ، يَصِيرُ ذَلِكَ سَبْعَةَ أَثْمَانِ الْعَبْدِ، فَيَفْدِيهِ بِسَبْعَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ. [فَصْلٌ مَرِيضٌ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَقَطَعَ إصْبَعَ سَيِّدِهِ خَطَأِ] (4720) فَصْلٌ: مَرِيضٌ أَعْتَقَ عَبْدًا، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَقَطَعَ إصْبَعَ سَيِّدِهِ خَطَأً، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ نِصْفُهُ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَيَصِيرُ لِلسَّيِّدِ نِصْفُهُ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَأَوْجَبْنَا نِصْفَ قِيمَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ. وَحِسَابُهَا أَنْ تَقُولَ: عَتَقَ مِنْهُ، شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ شَيْءٌ لِلسَّيِّدِ فَصَارَ مَعَ السَّيِّدِ عَبْدٌ إلَّا شَيْئًا، وَشَيْءٌ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَأَسْقِطْ شَيْئًا بِشَيْءٍ، بَقِيَ مَا مَعَهُ مِنْ الْعَبْدِ يَعْدِلُ شَيْئًا مِثْلَ مَا عَتَقَ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَتَيْنِ، عَتَقَ خُمْسَاهُ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَعَلَيْهِ نِصْفُ شَيْءٍ لِلسَّيِّدِ، فَصَارَ لِلسَّيِّدِ نِصْفُ شَيْءٍ، وَبَقِيَّةُ الْعَبْدِ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَيَكُونُ بَقِيَّةُ الْعَبْدِ يَعْدِلُ شَيْئًا وَنِصْفًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي عَتَقَ خُمْسَاهُ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسِينَ أَوْ أَقَلَّ، عَتَقَ كُلُّهُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِائَةٌ، وَهِيَ مِثْلَاهُ أَوْ أَكْثَرُ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ سِتِّينَ، قُلْنَا: عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ شَيْءٌ وَثُلُثَا شَيْءٍ لِلسَّيِّدِ، مَعَ بَقِيَّةِ الْعَبْدِ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَبَقِيَّةُ الْعَبْدِ إذًا ثُلُثُ شَيْءٍ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ إلَّا أَنَّ مَا زَادَ فِي الْعِتْقِ عَلَى الثُّلُثِ، يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عَلَى أَدَاءِ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْقِيمَةِ كَمَا إذَا دَبَّرَ عَبْدًا وَلَهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ غَرِيمٍ لَهُ، فَكُلَّمَا اقْتَضَى مِنْ الْقِيمَةِ شَيْئًا، عَتَقَ مِنْ الْمَوْقُوفِ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ. [فَصْل أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةٌ وَالْآخَرِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَجَنَى الْأَدْنَى عَلَى الْأَرْفَعِ] (4721) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ، دَفْعَةً وَاحِدَةً، قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةٌ وَالْآخَرِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، فَجَنَى الْأَدْنَى عَلَى الْأَرْفَعِ جِنَايَةً نَقَصَتْهُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ، وَأَرْشُهَا كَذَلِكَ، فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِمَا، ثُمَّ مَاتَ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْجَانِي عَتَقَ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَبَقِيَ لِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ خُمْسُهُ وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، وَهُوَ مِثْلَا مَا عَتَقَ مِنْهُ وَحِسَابُهَا أَنْ تَقُولَ: عَبْدٌ عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بِقَدْرِ نِصْفِ قِيمَتِهِ، بَقِيَ لِلسَّيِّدِ نِصْفُ شَيْءٍ وَبَقِيَّةُ الْعَبْدَيْنِ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَعَلِمْت أَنَّ بَقِيَّةَ الْعَبْدَيْنِ شَيْءٌ وَنِصْفٌ، فَإِذَا أَضَفْت إلَى ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي عَتَقَ، صَارَا جَمِيعًا يَعْدِلَانِ شَيْئَيْنِ وَنِصْفًا، فَالشَّيْءُ الْكَامِلُ خُمْسَاهُمَا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَلَهُ ثُلُثُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، وَذَلِكَ تُسْعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَنْ ثُلُثُهُ حُرٌّ تُضْمَنُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَالْوَاجِبُ لَهُ مِنْ الْأَرْشِ يَسْتَغْرِقُ قِيمَةَ الْجَانِي، فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَا، وَلَا يَبْقَى لِسَيِّدِهِ مَالٌ سِوَاهُ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَرِقُّ ثُلُثَاهُ. وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ، قِيمَةُ أَحَدِهِمَا خَمْسُونَ. وَقِيمَةُ الْآخَرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 ثَلَاثُونَ، فَجَنَى الْأَدْنَى عَلَى الْأَرْفَعِ، فَنَقَصَهُ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِلْأَدْنَى، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ شَيْءٍ، فَبَعْدَ الْجَبْرِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَيْنِ شَيْئَانِ وَثُلُثَانِ، فَالشَّيْءُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِمَا، وَقِيمَتُهَا سَبْعُونَ، فَثَلَاثَةُ أَثْمَانِهَا سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَرُبْعٌ وَهِيَ مِنْ الْأَدْنَى نِصْفُهُ وَخُمْسَاهُ وَنِصْفُ سُدُسِ عُشْرِهِ. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْآخَرِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَحَقُّهُ مِنْ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي، فَيَأْخُذُهُ بِهَا، أَوْ يَفْدِيهِ الْمُعْتِقُ وَقَدْ بَقِيَتْ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكُلُّ مَوْضِعٍ زَادَ الْعِتْقُ عَلَى ثُلُثِ الْعَبْدَيْنِ مِنْ أَجْلِ وُجُوبِ الْأَرْشِ لِلسَّيِّدِ، تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى أَدَاءِ الْأَرْشِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ إذَا عَقْلَ] (4722) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ جَاوَزَ الْعَشْرَ سِنِينَ؛ فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ) هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَحَنْبَلٍ: تَحُوزُ وَصِيتُهُ إذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ، تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، وَمَنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، وَمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالْعَشْرِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْغُلَامِ لِدُونِ الْعَشْرِ وَلَا الْجَارِيَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشْرِ فَتَصِحُّ، عَلَى الْمَنْصُوصِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا تَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ إذَا عَقَلَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَشُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِيَاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. قَالَ إِسْحَاقُ: إذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ حَتَّى يَبْلُغَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْمَالِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، كَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، كَالطِّفْلِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، أَنَّ صَبِيًّا مِنْ غَسَّانَ، لَهُ عَشْرُ سِنِينَ، أَوْصَى لَأَخْوَالٍ لَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَ وَصِيَّتَهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ هَاهُنَا غُلَامًا يَفَاعًا لَمْ يَحْتَلِمْ، وَوَرَثَتُهُ بِالشَّامِ، وَهُوَ ذُو مَالٍ، وَلَيْسَ لَهُ هَاهُنَا إلَّا ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ ": فَلْيُوصِ لَهَا. فَأَوْصَى لَهَا بِمَالٍ يُقَالُ لَهُ بِئْرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 جُشَمَ. قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ: فَبَعَثَ ذَلِكَ الْمَالَ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَابْنَةُ عَمِّهِ الَّتِي أَوْصَى لَهَا هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ الْغُلَامُ ابْنَ عَشْرٍ أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذِهِ قِصَّةٌ انْتَشَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لِلصَّبِيِّ، فَصَحَّ مِنْهُ، كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُلُ ثَوَابُهَا لَهُ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْ مِلْكِهِ وَمَالِهِ، فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ وَلَا أُخْرَاهُ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ، فَإِنَّهُ يَفُوتُ مِنْ مَالِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِذَا رُدَّتْ رَجَعَتْ إلَيْهِ، وَهَا هُنَا لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَالطِّفْلُ لَا عَقْلَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا عِبَادَاتُهُ. وَقَوْله: " إذَا وَافَقَ الْحَقَّ ". يَعْنِي إذَا وَصَّى بِوَصِيَّةٍ يَصِحُّ مِثْلُهَا مِنْ الْبَالِغِ، صَحَّتْ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَهُمَا قَاضِيَانِ: مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ أَجَزْنَا وَصِيَّتَهُ. [فَصْل الطِّفْلُ وَهُوَ مَنْ لَهُ دُون السَّبْعِ وَالْمَجْنُونُ والمبرسم لَا وَصِيَّةَ لَهُمْ] (4723) فَصْلٌ: فَأَمَّا الطِّفْلُ، وَهُوَ مَنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ، وَالْمَجْنُونُ، والمبرسم، فَلَا وَصِيَّةَ لَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ إلَّا إيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، قَالَ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ: إذَا وَافَقَتْ وَصِيَّتُهُمْ الْحَقَّ جَازَتْ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِمَا، وَلَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُمَا، وَلَا شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمَا، فَكَذَا الْوَصِيَّةُ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ وَصَلَاتُهُ الَّتِي هِيَ مَحْضُ نَفْعٍ لَا ضَرَرَ فِيهَا، فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ بَذْلُهُ الْمَالَ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَارِثُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ يَفْتَقِرُ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. [فَصْلٌ الْمَحْجُور عَلَيْهِ لَسَفَّهُ فِي الْوَصِيَّة] (4724) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ تَصِحُّ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ. قَالَ الْخَبْرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي وَصِيَّتِهِ وَجْهَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَاقِلٌ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَلِأَنَّ وَصِيَّتَهُ تَمَحَّضَتْ نَفْعًا لَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَصَحَّتْ كَعِبَادَاتِهِ. وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ أَحْيَانًا، وَيُفِيقُ أَحْيَانًا، فَإِنْ وَصَّى حَالِ جُنُونِهِ لَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ وَصَّى فِي حَالِ عَقْلِهِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقَلَاءِ فِي شَهَادَتِهِ، وَوُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي وَصِيَّتِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ السَّكْرَانِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ قَوْلَانِ. يَعْنِي وَجْهَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ كَالْمَجْنُونِ. وَأَمَّا إيقَاعُ طَلَاقِهِ، فَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ مَنْ أَوْقَعَهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ، فَلَا يَتَعَدَّى هَذَا إلَى وَصِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهَا، إنَّمَا الضَّرَرُ عَلَى وَارِثِهِ. وَأَمَّا الضَّعِيفُ فِي عَقْلِهِ، فَإِنْ مَنَعَ ذَلِكَ رُشْدَهُ فِي مَالِهِ، فَهُوَ كَالسَّفِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْعَاقِلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 [فَصْلٌ وَصِيَّةُ الْأَخْرَسِ] (4725) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الْأَخْرَسِ إذَا فُهِمَتْ إشَارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مُقَامَ نُطْقِهِ فِي طَلَاقِهِ وَلِعَانِهِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ، فَلَا حُكْمَ لَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. فَأَمَّا النَّاطِقُ إذَا اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ، فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ وَصِيَّتَهُ، فَأَشَارَ بِهَا، وَفُهِمَتْ إشَارَتُهُ، لَمْ تَصِحَّ وَصِيتُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ، أَشْبَهَ الْأَخْرَسَ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى وَهُوَ قَاعِدٌ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ، فَقَعَدُوا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا إذَا اتَّصَلَ بِاعْتِقَالِ لِسَانِهِ الْمَوْتُ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْ نُطْقِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ بِإِشَارَتِهِ، كَالْقَادِرِ عَلَى الْكَلَامِ وَالْخَبَرُ لَا يُلْزِمُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ إشَارَةَ الْقَادِرِ لَا تَصِحُّ بِهَا وَصِيَّةٌ وَلَا إقْرَارٌ، فَفَارَقَ الْأَخْرَسَ، لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ نُطْقِهِ. [فَصْلٌ وَصَّى عَبْدٌ أَوْ مَكَاتِب أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ وَصِيَّةً ثُمَّ مَاتُوا عَلَى الرِّقِّ] (4726) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى عَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ وَصِيَّةً، ثُمَّ مَاتُوا عَلَى الرِّقِّ، فَلَا وَصِيَّةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُمْ. وَإِنْ أَعْتَقُوهُمْ ثُمَّ مَاتُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَصِيَّتَهُمْ، صَحَّتْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ قَوْلًا صَحِيحًا وَأَهْلِيَّةً تَامَّةً، وَإِنَّمَا فَارَقُوا الْحُرَّ بِأَنَّهُمْ لَا مَالَ لَهُمْ، وَالْوَصِيَّةُ تَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ وَصَّى الْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ اسْتَغْنَى. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: مَتَى عَتَقْت ثُمَّ مِتّ، فَثُلُثِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً، فَعَتَقَ وَمَاتَ، صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. [فَصْلٌ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِلذِّمِّيِّ] (4727) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَالذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ لِلذِّمِّيِّ. رُوِيَ إجَازَةُ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] هُوَ وَصِيَّة الْمُسْلِمِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بَاعَتْ حُجْرَتَهَا مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ لَهَا أَخٌ يَهُودِيٌّ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَ فَيَرِثَ، فَأَبَى، فَأَوْصَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْمِائَةِ. وَلِأَنَّهُ تَصِحُّ لَهُ الْهِبَةُ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَالْمُسْلِمِ، وَإِذَا صَحَّتْ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، فَوَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِلذِّمِّيِّ أَوْلَى. وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِمَا تَصِحُّ بِهِ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ وَلَوْ أَوْصَى لِوَارِثِهِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ، بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، كَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ] (4728) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] الْآيَةَ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَاتَلَنَا لَا يَحِلُّ بِرُّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَصِحُّ هِبَتُهُ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَالذِّمِّيِّ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى عُمَرَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْت فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ مَا قُلْت، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا. فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا مُشْرِكًا لَهُ بِمَكَّةَ.» وَعَنْ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ - تَعْنِي الْإِسْلَامَ - فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَتْنِي أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.» وَهَذَانِ فِيهِمَا صِلَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ. وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا فِي مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَأَمَّا الْمُقَاتِلُ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ تَوَلِّيهِ لَا عَنْ بِرِّهِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَإِنْ احْتَجَّ بِالْمَفْهُومِ، فَهُوَ لَا يَرَاهُ حُجَّةً. ثُمَّ قَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَاهَا. فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَمَا تَصِحُّ هِبَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ. وَلِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِرِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْوَصِيَّةِ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِكَافِرِ بِمُصْحَفِ أَوْ بِعَبْدِ مُسْلِمٍ] (4729) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَافِرٍ بِمُصْحَفٍ وَلَا عَبْدٍ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هِبَتُهُمَا لَهُ، وَلَا بَيْعُهُمَا مِنْهُ. وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ كَافِرٍ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، بَطَلَتْ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمِلْكُ عَلَى مُسْلِمٍ، وَمِنْ قَالَ: يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبُولِ. قَالَ: الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّنَا نَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِسَبَبٍ لَوْلَاهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ، فَمَنَعَ مِنْهُ، كَابْتِدَاءِ الْمِلْكِ. [فَصْل الْوَصِيَّةُ بِمَعْصِيَةِ وَفِعْلٍ مُحَرَّمٍ] (4730) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَعْصِيَةٍ وَفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، مُسْلِمًا كَانَ الْمُوصِي أَوْ ذِمِّيًّا، فَلَوْ وَصَّى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ، أَوْ عِمَارَتِهِمَا، أَوْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، كَانَ بَاطِلًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةَ بِأَرْضِهِ تُبْنَى كَنِيسَةً. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. وَأَجَازَ أَصْحَابُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 الرَّأْيِ أَنْ يُوصِيَ بِشِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خَنَازِيرَ. وَيَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَهَذِهِ وَصَايَا بَاطِلَةٌ، وَأَفْعَالٌ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ لِلْفُجُورِ وَإِنْ وَصَّى لِكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا كُتُبٌ مَنْسُوخَةٌ، وَفِيهَا تَبْدِيلٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ شَيْئًا مَكْتُوبًا مِنْ التَّوْرَاةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَحُصِرَ الْبَيْعُ وَقَنَادِيلُهَا، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدْ إعْظَامَهَا بِذَلِكَ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ النَّفْعَ يَعُودُ إلَيْهِمْ، وَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ صَحِيحَةٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ، وَتَعْظِيمٌ لِكَنَائِسِهِمْ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ بِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَصَحُّ. وَإِنْ وَصَّى بِبِنَاءِ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ الْمُجْتَازُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ مَسَاكِنِهِمْ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِأَهْلِ قَرْيَتِهِ أَوْ لِقَرَابَتِهِ بِلَفْظِ عَامٍ يَدْخُلُ فِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ] (4731) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ قَرْيَةٍ، لَمْ يُعْطَ مَنْ فِيهَا مِنْ الْكُفَّارِ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَهُمْ) يَعْنِي بِهِ الْمُسْلِمَ، إذَا أَوْصَى لِأَهْلِ قَرْيَتِهِ أَوْ لِقَرَابَتِهِ بِلَفْظٍ عَامٍّ، يَدْخُلُ فِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، فَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، وَلَا شَيْءَ لِلْكُفَّارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَدْخُلُ فِيهِ الْكُفَّارُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُمْ بِعُمُومِهِ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ قَرْيَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ، دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْكُفَّارُ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي وَصِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ، فَكَذَلِكَ فِي وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْكُفَّارَ، لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَدَاوَةِ الدِّينِ، وَعَدَمِ الْوَصْلَةِ، الْمَانِعِ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى فَقِيرِهِمْ، وَلِذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَزْوَاجِ، وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَذَا هَاهُنَا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ. وَإِنْ صَرَّحَ بِهِمْ، دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ الْمَقَالِ لَا يُعَارَضُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُمْ وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ، أَوْ وَصَّى لِقَرَابَتِهِ، وَكُلُّهُمْ كُفَّارٌ، دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُمْ إذْ فِي إخْرَاجِهِمْ رَفْعُ اللَّفْظِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ، وَالْبَاقِي كُفَّارٌ، دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهُمْ بِالتَّخْصِيصِ هَاهُنَا بَعِيدٌ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مُخَالَفَةُ لَفْظِ الْعُمُومِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 وَالثَّانِي، حَمْلُ اللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْجَمْعِ عَلَى الْمُفْرَدِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا كُفَّارًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ، وَصَرْفُهُ إلَيْهِمْ وَالتَّخْصِيصُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِإِخْرَاجِ الْأَكْثَرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ الْكُفَّارُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِي مِثْلِ هَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ قَرِيبٌ، وَتَخْصِيصَ الْأَكْثَرِ بَعِيدٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، مِثْلَ أَنْ يُوصِيَ لِإِخْوَتِهِ، أَوْ عُمُومَتِهِ، أَوْ بَنِي عَمِّهِ، أَوْ لِلْيَتَامَى، أَوْ لِلْمَسَاكِينِ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِأَهْلِ قَرْيَتِهِ. فَأَمَّا إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ كَافِرٌ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ تَتَنَاوَلُ أَهْلَ دِينِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ إرَادَتُهُمْ، فَأَشْبَهَ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا أَهْلُ دِينِهِ. وَهَلْ يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ الْمُسْلِمُونَ؟ نَظَرْنَا، فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى دُخُولِهِمْ، مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا مُسْلِمُونَ، دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا كَافِرٌ وَاحِدٌ، وَسَائِرُ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ، وَإِنْ انْتَفَتْ الْقَرَائِنُ، فَفِي دُخُولِهِمْ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَدْخُلُونَ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ الْكُفَّارُ فِي وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَالثَّانِي، يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُمْ، هُمْ أَحَقُّ بِوَصِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِحُكْمِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ كَافِرٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِ الْمُوصِي، لَمْ يَدْخُلْ فِي وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِ الْمُوصِي تُخْرِجُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا وُجِدَ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَبَقِيَ خَارِجًا بِحَالِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَخْرُجَ، بِنَاءً عَلَى تَوْرِيثِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ دِينِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ وَلَا عُصْبَة لَهُ وَلَا مَوْلَى لَهُ] (4732) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ، وَلَا عَصَبَةَ لَهُ، وَلَا مَوْلَى لَهُ، فَجَائِزٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَجُوزُ إلَّا الثُّلُثُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَنْ لَمْ يَخْلُفْ مِنْ وُرَّاثِهِ عَصَبَةً، وَلَا ذَا فَرْضٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ جَائِزَةٌ بِكُلِّ مَالِهِ. ثَبَتَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَا يَجُوزُ إلَّا الثُّلُثُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْ يَعْقِلُ عَنْهُ، فَلَمْ تَنْفُذْ وَصِيَّتُهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ وَارِثًا. وَلَنَا، أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ إنَّمَا كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَهَا هُنَا لَا وَارِثَ لَهُ يَتَعَلَّقُ حَقٌّ بِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ حَالَ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ حَقُّ وَارِثٍ وَلَا غَرِيمٍ، أَشْبَهَ حَالَ الصِّحَّةِ أَوْ أَشْبَهَ الثُّلُثَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 [فَصْلٌ خَلَّفَ ذَا فَرَضَ لَا يَرِث الْمَال كُلّه] (4733) فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَّفَ ذَا فَرْضٍ، لَا يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ، كَبِنْتٍ، أَوْ أُمٍّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ سَعْدًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَتِي. فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ. وَلِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، فَأَشْبَهَتْ الْعَصَبَةَ. وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْقُصُ حَقَّهُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ فَرْضَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِقَوْلِهِ: " وَلَا عَصَبَةَ لَهُ وَلَا مَوْلَى لَهُ ". وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الرَّحِمِ إرْثُهُ كَالْفَضْلَةِ وَالصِّلَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يُصْرَفُ إلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الرَّدِّ وَالْمَوْلَى، لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَنْفُذَ وَصِيَّتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ وَارِثًا، فَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّك أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَلِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَصِلَتَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَأَشْبَهُوا ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعُصُبَاتِ، وَتَقْدِيمُ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ لَا يَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُمْ لَهُمْ فِي مَسْأَلَتِنَا، كَذَوِي الْفُرُوضِ الَّذِينَ يَحْجُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْعُصُبَاتِ. [فَصْل خَلَّفَ امْرَأَةً وَقَالَ أَوْصَيْت لَك بِمَا فَضَلَ مِنْ الْمَالِ عَنْ فَرْضِهَا] (4734) فَصْلٌ: فَإِنْ خَلَّفَ ذَا فَرْضٍ لَا يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ، وَقَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثَيْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ ذَا الْفَرْضِ شَيْئًا مِنْ فَرْضِهِ. أَوْ خَلَّفَ امْرَأَةً، وَقَالَ: أَوْصَيْت لَك بِمَا فَضَلَ مِنْ الْمَالِ عَنْ فَرْضِهَا. صَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ ذَا الْفَرْضِ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ، لَوْلَا الْوَصِيَّةُ، فَلَا فَرْقَ فِي الْوَصِيَّةِ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى الْفَرْضِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، فَتَنْبَنِي عَلَى الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَصِحُّ ثَمَّ. صَحَّتْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَنْ فَرْضِ الزَّوْجَةِ مَالٌ لَا وَارِثَ لَهُ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ ثَمَّ. فَهَاهُنَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ جُعِلَ كَالْوَارِثِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ ذُو وَرَثَةٍ يَسْتَغْرِقُونَ الْمَالَ إذَا عَيَّنَ الْوَصِيَّةَ مِنْ نَصِيبِ الْعَصَبَةِ مِنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَسْقُطُ تَخْصِيصُهُ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ] (4735) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ، وَمَا فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ مَالِهِ، كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ سُدُسٍ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْوَصِيَّةِ، عَتَقَ، وَاسْتَحَقَّ بَاقِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْوَصِيَّةِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، سَعَى فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 : الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَمَالٍ يَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمُعَيَّنٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ يَتَنَاوَلُ نَفْسَهُ أَوْ بَعْضَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الثُّلُثِ الشَّائِعِ، وَالْوَصِيَّةُ لَهُ بِنَفْسِهِ تَصِحُّ وَيُعْتَقُ، وَمَا فَضَلَ يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا، فَيَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: اعْتِقُوا عَبْدِي مِنْ ثُلُثَيْ، وَأَعْطُوهُ مَا فَضَلَ مِنْهُ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَوْصَى بِمُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْهُ. (4736) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ، كَثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ: إنْ شَاءَ الْوَرَثَةُ أَجَازُوا، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا. وَلَنَا، أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، فَمَا وَصَّى بِهِ لَهُ فَهُوَ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لِوَرَثَتِهِ بِمَا يَرِثُونَهُ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَفَارَقَ مَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِمُشَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. (4737) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِرَقَبَتِهِ، فَهُوَ تَدْبِيرٌ، يُعْتَقُ إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِمَنْ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الدَّوَامِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِأَبِيهِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لَهُ بِرَقَبَتِهِ عِتْقُهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ، فَصَارَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ كِنَايَةً عَنْ إعْتَاقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ رَقَبَتِهِ، فَهُوَ تَدْبِيرٌ لِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَهَلْ يُعْتَقُ جَمِيعُهُ إذَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْخِرَقِيِّ فِيمَا إذَا دَبَّرَ بَعْضَ عَبْدِهِ وَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَسْعَى فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ. وَهَذَا شَيْءٌ يَأْتِي فِي بَابِ الْعِتْقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَوْصَى لِمَكَاتِبِهِ أَوْ مَكَاتِب وَارِثِهِ أَوْ مَكَاتِب أَجْنَبِيٍّ] (4738) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِمُكَاتَبِهِ، أَوْ مُكَاتَبِ وَارِثِهِ، أَوْ مُكَاتَبِ أَجْنَبِيٍّ، صَحَّ، سَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ أَوْ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمُكَاتَبَ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَالَهُ. وَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ حِينَ لُزُومِ الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ. وَبِهِ قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَإِنْ وَصَّى لِمُدَبَّرِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 حِينَ لُزُومِ الْوَصِيَّةِ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَأُمِّ الْوَلَدِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ هُوَ وَالْوَصِيَّةُ جَمِيعًا، قُدِّمَ عِتْقُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُعْتَقُ بَعْضُهُ، وَيَمْلِكُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَصَّى لِعَبْدِهِ وَصِيَّةً صَحِيحَةً، فَيُقَدَّمُ عِتْقُهُ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَالِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِعَبْدِهِ الْقِنِّ بِمُشَاعٍ مِنْ مَالِهِ. [فَصْلٌ أَوْصَى لِعَبْدِ غَيْرِهِ] (4739) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِعَبْدِ غَيْرِهِ، صَحَّ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِسَيِّدِهِ، وَالْقَبُولُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُضَافٌ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ شَيْئًا، فَإِذَا قَبِلَ ثَبَتَ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا تَفْتَقِرُ فِي الْقَبُولِ إلَى إذْنِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، كَالِاحْتِطَابِ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلِأَصْحَابِهِ وَجْهٌ أُخَرُ، أَنَّ الْقَبُولَ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَهُ وَشِرَاءَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَحْصِيلُ مَالٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إذْنِهِ، كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَتَحْصِيلِ الْمُبَاحِ. وَإِنْ وَصَّى لِعَبْدِ وَارِثِهِ، فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ لِوَارِثِهِ، يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ يَسِيرًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ، وَإِنَّمَا لِسَيِّدِهِ أَخْذُهُ مِنْ يَدِهِ، فَإِذَا وَصَّى لَهُ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْعَبْدَ، دُونَ سَيِّدِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِعَبْدِ وَارِثِهِ، فَأَشْبَهَتْ الْوَصِيَّةَ بِالْكَثِيرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مِلْكِ الْعَبْدِ مَمْنُوعٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَإِنَّهُ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ أَخْذَهُ، فَهُوَ كَالْكَثِيرِ. [فَصْلٌ أَوْصَى بِعِتْقِ أُمَّته عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَتْ لَا أَتَزَوَّجُ] (4740) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَتِهِ عَلَى، أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ. ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُ عَتَقَتْ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَبْطُلْ عِتْقُهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا وَقَعَ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ. وَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفٍ، عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ، أَوْ عَلَى أَنْ تَثْبُتَ مَعَ وَلَدِهِ، فَفَعَلَتْ وَأَخَذَتْ الْأَلْفَ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَتَرَكَتْ وَلَدَهُ، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَبْطُلُ وَصِيَّتُهَا؛ لِأَنَّهُ فَاتَ الشَّرْطُ، فَفَاتَتْ الْوَصِيَّةُ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ. وَالثَّانِي، لَا تَبْطُلُ وَصِيَّتُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهَا صَحَّتْ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِمُخَالَفَةِ مَا شُرِطَ عَلَيْهَا كَالْأُولَى. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ] (4741) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 أَحْمَدَ، فِي مَنْ جَرَحَ رَجُلًا خَطَأً فَعَفَا الْمَجْرُوحُ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ. قَالَ: وَهَذِهِ وَصِيَّةٌ لَقَاتِلٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَهُ تَصِحُّ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَالذِّمِّيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ، وَالتَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ الْوَصِيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ، فَيَمْنَعُهَا مَا يَمْنَعُهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ وَصَّى لَهُ بَعْدَ جَرْحِهِ، صَحَّ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ قَبْلَهُ، ثُمَّ طَرَأَ الْقَتْلُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، أَبْطَلَهَا جَمْعًا بَيْنَ نَصَّيْ أَحْمَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْجَرْحِ صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحِلِّهَا، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا مَا يُبْطِلُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّ الْقَتْلَ طَرَأَ عَلَيْهَا فَأَبْطَلَهَا، لِأَنَّهُ يُبْطِلُ مَا هُوَ آكَدُ مِنْهَا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا مَنَعَ الْمِيرَاثَ، لِكَوْنِهِ بِالْقَتْلِ اسْتَعْجَلَ الْمِيرَاثَ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ فَعُورِضَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَهُوَ مَنْعُ الْمِيرَاثِ، دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ قَتْلِ الْمَوْرُوثِينَ، وَلِذَلِكَ بَطَلَ التَّدْبِيرُ بِالْقَتْلِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْقَتْلِ الطَّارِئِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اسْتَعْجَلَهَا بِقَتْلِهِ. وَفَارَقَ الْقَتْلَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْجَالَ مَالٍ، لِعَدَمِ انْعِقَادِ سَبَبِهِ، وَالْمُوصِي رَاضٍ بِالْوَصِيَّةِ لَهُ بَعْدَ صُدُورِ مَا صَدَرَ مِنْهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي هَذَا، كَمَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بِذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ، وَعَلَى هَذَا مَتَى دَبَّرَ عَبْدَهُ بَعْدَ جَرْحِهِ إيَّاهُ، صَحَّ تَدْبِيرُهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، فَهُوَ حُرٌّ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَيَخْرُجُ الْحُرُّ بِالْقُرْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَى الْمُعْتِقِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: أَعْتِقُوا عَنِّي عَبْدًا. وَلَنَا، أَنَّهُ عِتْقٌ اسْتَحَقَّهُ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَكَانَ إخْرَاجُهُ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُمَا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ إلَّا أَحَدُهُمَا، وَدَلِيلُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. فَأَمَّا الْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ، إنَّمَا اُسْتُحِقَّ عَلَى الْمُكَفِّرِ التَّكْفِيرُ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَعْتِقُوا عَنِّي عَبْدًا. فَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى عَبِيدِهِ، وَلَا إلَى جَمَاعَةٍ سِوَاهُمْ، فَهُوَ كَالْمُعْتَقِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَعْتِقُوا أَحَدَ عَبِيدِي. احْتَمَلَ أَنْ نَقُولَ بِإِخْرَاجِهِ بِالْقُرْعَةِ كَمَسْأَلَتِنَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إلَى اخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ مَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، هَلْ يُعْطَى أَحَدَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، أَوْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ؟ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا. وَالْفَرْقُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ إلَى الْوَرَثَةِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ فَكَانَتْ الْخِيرَةُ إلَيْهِمْ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ خِيرَةٌ. (4743) فَصْلٌ: وَنَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ، فِي مَنْ لَهُ غُلَامَانِ اسْمُهُمَا وَاحِدٌ، فَقَالَ: فُلَانٌ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ. وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَيُعْتَقُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمِائَتَيْنِ وَقَعَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَّا لِمُعَيَّنٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ تَصِحَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّهَا حُرٌّ فِي حَالِ اسْتِحْقَاقِهَا. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ قَالَ: أَعْتِقُوا رَقَبَةً عَنِّي. فَلَا يُعْتَقُ عَنْهُ إلَّا مُسْلِمٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْمُسْلِمَ، فَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدُ زَيْدٍ بِخَمْسِمِائَةِ فَيُعْتَقَ فَلَمْ يَبِعْهُ سَيِّدُهُ] (4744) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدُ زَيْدٌ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَيُعْتَقُ، فَلَمْ يَبِعْهُ سَيِّدُهُ، فَالْخَمْسُمِائَةِ لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ اشْتَرَوْهُ بِأَقَلَّ، فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ) أَمَّا إذَا تَعَذَّرَ شِرَاؤُهُ، إمَّا لِامْتِنَاعِ سَيِّدِهِ مِنْ بَيْعِهِ، أَوْ مِنْ بَيْعِهِ بِالْخَمْسِمِائَةِ، وَإِمَّا لِمَوْتِهِ، أَوْ لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ ثَمَنِهِ، فَالثَّمَنُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بَطَلَتْ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ فَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا. وَلَا يَلْزَمُهُمْ شِرَاءُ عَبْدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِمُعَيَّنٍ، فَلَا تُصْرَفُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا إنْ اشْتَرَوْهُ بِأَقَلَّ، فَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُدْفَعُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إرْفَاقَهُ بِالثَّمَنِ وَمُحَابَاتَهُ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِيعُوهُ عَبْدِي بِخَمْسِمِائَةٍ. وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَكَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ حِجَّةً بِخَمْسِمِائَةٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُجْعَلُ بَقِيَّةُ الثَّمَنِ فِي الْعِتْقِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، رُدَّ مَا فَضَلَ فِي الْحَجِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمَرَ بِشِرَائِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَكَانَ مَا فَضَلَ مِنْ الثَّمَنِ رَاجِعًا إلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي شِرَائِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ ثَمَّ إرْفَاقُ الَّذِي يَحُجُّ بِالْفَضْلَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْمَقْصُودُ الْعِتْقُ. وَيُفَارِقُ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَمَّ لِلْحَجِّ مُطْلَقًا، فَصُرِفَ جَمِيعُهَا فِيهِ، وَهَا هُنَا لِمُعَيَّنٍ، فَلَا تَتَعَدَّاهُ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ قَصَدَ إرْفَاقَ زَيْدٍ بِالثَّمَنِ وَمُحَابَاتَهُ بِهِ. فَنَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا لِكَوْنِ الْبَائِعِ صَدِيقًا لَهُ، أَوْ ذَا حَاجَةٍ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ يُقْصَدُونَ بِهَذَا، أَوْ عَيَّنَ هَذَا الثَّمَنَ وَهُوَ يَعْلَمُ حُصُولَ الْعَبْدِ بِدُونِهِ؛ لِقِلَّةِ قِيمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إلَى زَيْدٍ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: وَادْفَعُوا إلَيْهِ جَمِيعَهَا، وَإِنْ بَذَلَهُ بِدُونِهَا. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْقَرَائِنُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الْعِتْقَ، وَقَدْ حَصَلَ، فَكَانَ الْفَاضِلُ عَائِدًا إلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ فِي حَيَاتِهِ. [فَصْل وَصَّى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدٌ بِأَلْفِ فَيُعْتَقَ عَنْهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ] (4745) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدٌ بِأَلْفٍ، فَيُعْتَقُ عَنْهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ، اُشْتُرِيَ عَبْدٌ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُورِ الشِّرَاءُ بِدُونِهِ، كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّهَا وَصِيَّةٌ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا إذَا احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهَا وَجَبَ تَنْفِيذُهَا فِيمَا حَمَلَهُ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَلَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، وَفَارَقَ الْوَكَالَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ فِي إعْتَاقِ عَبْدٍ لَمْ يَمْلِكْ إعْتَاقَ بَعْضِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ، لَأَعْتَقَ مِنْهُ مَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ. فَأَمَّا إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ، فَاشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ الْمَالَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَيُرَدُّ الْعَبْدُ إلَى الرِّقِّ إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ بِكَوْنِهِ اشْتَرَى بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ لِلْغُرَمَاءِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَنَفَذَ الْعِتْقُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي غَرَامَةُ ثَمَنِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَا غَرَّهُ، إنَّمَا غَرَّهُ الْمُوصِي، وَلَا تَرِكَةَ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشَارِكَ الْغُرَمَاءَ فِي التَّرِكَةِ، وَيَضْرِبَ مَعَهُمْ بِقَدْرِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَزِمَهُ بِتَغْرِيرِ الْمُوصِي، فَيَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا لَزِمَهُ فِي تَرِكَتِهِ، كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ. [فَصْلٌ وَصَّى بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَأَطْلَقَ أَوْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَأَطْلَقَ] (4746) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَأَطْلَقَ، أَوْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَأَطْلَقَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُسْتَحِقٍّ، وَلَا مُسْتَحِقَّ، هَاهُنَا. وَإِنْ وَصَّى بِبَيْعِهِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَبِيعَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ هَاهُنَا نَفْعًا لِلْعَبْدِ بِالْعِتْقِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ يَشْتَرِيهِ كَذَلِكَ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِتَعَذُّرِهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى بِشِرَاءِ عَبْدٍ لِيُعْتَقْ، فَلَمْ يَبِعْهُ سَيِّدُهُ. وَإِنْ وَصَّى بِبَيْعِهِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، بِيعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَصَدَ إرْفَاقَهُ بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا، بِيعَ بِقِيمَتِهِ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ إيصَالَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ إلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْغَرَضُ بِإِرْفَاقِ الْعَبْدِ بِإِيصَالِهِ إلَى مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِحُسْنِ الْمَلَكَةِ، وَإِعْتَاقِ الرِّقَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إرْفَاقَ الْمُشْتَرِي لِمَعْنًى يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، أَوْ أَبَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِالثَّمَنِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ الثَّمَنَ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ] (4747) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَمَلَكَهُ غَيْرُ الْعَبْدِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، فَلِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ وَرُبْعُ الْعَبْدِ، وَلِمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 أَرْبَاعِهِ. وَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، فَلِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سُدُسُ الْمِائَتَيْنِ وَسُدُسُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَلِمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِالْعَبْدِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ، فِي الْعَبْدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لَرَجُلٍ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْهُ، كَثُلُثِ الْمَالِ وَرُبُعِهِ، فَأُجِيزَ لَهُمَا، انْفَرَدَ صَاحِبُ الْمُشَاعِ بِوَصِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ شَارَكَ صَاحِبَ الْمُعَيَّنِ فِيهِ، فَيَقْتَسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا فِيهِ، وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، كَمَسَائِلِ الْعَوْلِ، وَكَمَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ، وَلِآخَرَ بِجُزْءٍ مِنْهُ. فَأَمَّا فِي حَالَ الرَّدِّ، فَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُمَا لَا تُجَاوِزُ الثُّلُثَ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ لَرَجُلٍ بِسُدُسِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمُعَيَّنٍ قِيمَتُهُ سُدُسُ الْمَالِ، فَهِيَ كَحَالِ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ، إذْ لَا أَثَرَ لِلرَّدِّ. وَإِنْ جَاوَزَتْ ثُلُثَهُ، رَدَدْنَا وَصِيَّتَهُمَا إلَى الثُّلُثِ، وَقَسَمْنَاهُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتِهِمَا، إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْمُعَيَّنِ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعَيَّنِ، وَالْآخَرَ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. هَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ، وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُمَا فِي حَالِ الرَّدِّ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ، عَلَى حَسَبِ مَا لَهُمَا فِي الْإِجَازَةِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ فِي الرَّدِّ: يَأْخُذُ صَاحِبُ الْمُعَيَّنِ نَصِيبَهُ مِنْهُ، وَيَضُمُّ الْآخَرُ سِهَامَهُ إلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَيَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، فِي مِثْل مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ لَهُ السُّدُسَ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَسْدَاسٍ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، إلَّا أَنَّ الْخِرَقِيِّ يُعْطِيهِ السُّدُسَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ يَأْخُذُ خُمُسَ الْمِائَتَيْنِ وَعُشْرَ الْعَبْدِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ يَرْجِعُ إلَى نِصْفِ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَقَدْ رَجَعَتْ الْوَصِيَّتَانِ إلَى الثُّلُثِ، وَهُوَ نِصْفُ الْوَصِيَّتَيْنِ، فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى نِصْفِ وَصِيَّتِهِ، وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَفِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ وَصِيَّتِهِ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي وَصَّى لَهُ مِنْهُ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَأْخُذُ سُدُسَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ الْجَمِيعِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا، فَإِنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْعَبْدِ دُونَ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِشَيْءٍ أَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِيهِ كُلِّهِ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَفْرَدَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمَا الثُّلُثُ حَالَةَ الرَّدَّ عَلَى حَسَبِ مَا لَهُمَا فِي حَالِ الْإِجَازَةِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْوَصَايَا، فَفِي مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ هَذِهِ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، لَا يُزَاحِمُهُ الْآخَرُ فِيهَا، وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْعَبْدِ، لِهَذَا ثُلُثُهُ، وَلِلْآخَرِ جَمِيعُهُ، فَابْسُطْهُ مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ، وَهُوَ الثُّلُثُ، يَصِيرُ الْعَبْدُ ثَلَاثَةً، وَاضْمُمْ إلَيْهَا الثُّلُثَ الَّذِي لِلْآخَرِ، يَصِيرُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ اقْسِمْ الْعَبْدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، يَصِيرُ الثُّلُثُ رُبُعًا، كَمَا فِي مَسَائِلِ الْعَوْلِ. وَفِي حَالِ الرَّدِّ تُرَدُّ وَصِيَّتُهُمَا إلَى ثُلُثِ الْمَالِ، وَهُوَ نِصْفُ وَصِيَّتِهِمَا، فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى نِصْفِ وَصِيَّتِهِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ إلَى سُدُسِ الْجَمِيعِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْعَبْدِ إلَى نِصْفِهِ. وَفِي قَوْلِنَا يُضْرَبُ مَخْرَجُ الثُّلُثِ فِي مَخْرَجِ الرُّبُعِ، يَكُنْ اثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَرُبُعُ الْعَبْدِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 أَسْهُمٍ، صَارَ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، فَيَضُمُّهَا إلَى سِهَامِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، صَارَ الْجَمِيعُ عِشْرِينَ سَهْمًا، فَفِي حَالِ الرَّدِّ تَجْعَلُ الثُّلُثَ عِشْرِينَ سَهْمًا، وَالْمَالُ كُلُّهُ سِتُّونَ، فَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ تِسْعَةٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ رُبْعُهُ وَخُمْسُهُ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ، وَهِيَ خُمْسُهَا، وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ عُشْرُهُ وَنِصْفُ عُشْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْمُشَاعِ بِالنِّصْفِ، فَلَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ مِائَةٌ وَثُلُثُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَاهُ، وَفِي الرَّدِّ لِصَاحِبِ الْمُشَاعِ خُمْسُ الْمِائَتَيْنِ وَخُمْسُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ خُمْسَاهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، لِصَاحِبِ الْمُشَاعِ رُبْعُ الْمِائَتَيْنِ وَسُدُسُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثُهُ، وَطَرِيقُهَا أَنْ تَنْسُبَ الثُّلُثَ إلَى مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي الْإِجَازَةِ، ثُمَّ تُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا حَصَلَ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ مِثْلَ تِلْكَ النِّسْبَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَنْسُبُ الثُّلُثَ إلَى وَصِيَّتِهِمَا، ثُمَّ تُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ فِي الرَّدِّ مِثْلَ الْخَارِجِ بِالنِّسْبَةِ، وَبَيَانُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ نِسْبَةَ الثُّلُثِ إلَى وَصِيَّتِهِمَا بِالْخُمْسَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ وَالثُّلُثَ خَمْسَةٌ مِنْ سِتَّةٍ، فَالثُّلُثُ خُمْسَاهَا، فَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ خُمْسَا الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّتُهُ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّهُ خُمْسَا وَصِيَّتِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، قَدْ حَصَلَ لَهُمَا فِي الْإِجَازَةِ الثُّلُثَانِ، وَنِسْبَةُ الثُّلُثِ إلَيْهِمَا بِالنِّصْفِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا حَصَلَ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ نِصْفُهُ، وَقَدْ كَانَ لِصَاحِبِ الْمُشَاعِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ نِصْفُهَا، فَلَهُ رُبْعُهَا، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ ثُلُثُهُ، فَصَارَ لَهُ سُدُسَهُ، وَكَانَ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَاهُ، فَصَارَ لَهُ ثُلُثُهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَمِلْكُهُ غَيْرُ الْعَبْدِ ثَلَاثُمِائَةٍ، فَفِي الْإِجَازَةِ لِصَاحِبِ الْمُشَاعِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَاهُ. وَفِي الرَّدِّ، لِصَاحِبِ الْمُشَاعِ تُسْعَا الْمَالِ كُلِّهِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، لِصَاحِبِ الْعَبْدِ رُبُعُهُ وَسُدُسُهُ، وَلِلْآخَرِ ثُمْنُهُ وَنِصْفُ سُدُسِهِ، وَمِنْ الْمَالِ ثَمَانُونَ، وَهِيَ رُبُعُهَا وَسُدُسُ عُشْرِهَا. وَإِنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِالْعَبْدِ، فَفِي الْإِجَازَةِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ نِصْفُهُ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِلْآخَرِ. وَفِي الرَّدِّ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ خُمُسُهُ، وَهُوَ رُبْعُ الْعَبْدِ وَسُدْسُ عُشْرِهِ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، فَلَهُ مِنْ الْعَبْدِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِهِ، وَمِنْ كُلِّ مِائَةٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَمَانُونَ دِينَارًا. وَلَوْ خَلَّفَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَمِائَتَيْنِ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ وَبِالْعَبْدِ كُلِّهِ. وَوَصَّى بِالْعَبْدِ لِآخَرَ، فَفِي حَالِ الْإِجَازَةِ يُقَسَّمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَنْفَرِدُ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ الْبَاقِي. وَفِي الرَّدِّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ ثُلُثُهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ وَثُلُثُ الْمِائَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، لِصَاحِبِ الْعَبْدِ رُبْعُهُ، وَلِلْآخَرِ رُبْعُهُ وَنِصْفُ الْمِائَةِ، يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى نِصْفِ وَصِيَّتِهِ. فَإِنْ لَمْ تَزِدْ الْوَصِيَّتَانِ عَلَى الثُّلُثِ، كَرَجُلٍ خَلَّفَ خَمْسَمِائَةٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِالْعَبْدِ، فَلَا أَثَرَ لِلرَّدِّ هَاهُنَا، وَيَأْخُذُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 صَاحِبُ الْمُشَاعِ سُدُسَ الْمَالِ وَسُبْعَ الْعَبْدِ، وَالْآخَرُ سِتَّةَ أَسْبَاعِهِ. وَإِنْ وَصَّى لِصَاحِبِ الْمُشَاعِ بِخُمْسِ الْمَالِ، فَلَهُ مِائَةٌ وَسُدُسُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ. وَلَا أَثَرَ لِلرَّدِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ لَمْ يَخْرُجْ بِهِمَا مِنْ الْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالسَّوِيَّةِ] (4748) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ، فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهَا أَرْبَعَةَ آبَاءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ، أَوْ لِقَرَابَةِ فُلَانٍ، كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَوْلَادِهِ، وَلِأَوْلَادِ أَبِيهِ، وَأَوْلَادِ جَدِّهِ، وَأَوْلَادِ جَدِّ أَبِيهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَلَا يُعْطِي مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَلَوْ وَصَّى لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَعْطَى أَوْلَادَهُ وَأَوْلَادَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَوْلَادَ هَاشِمٍ، وَلَمْ يُعْطِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا بَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] . يَعْنِي أَقْرِبَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ، كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ شَيْئًا، إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ، وَعَلَّلَ عَطِيَّتَهُمْ بِأَنَّهُمْ " لَمْ يُفَارِقُوا بَنِي هَاشِمٍ، فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ ". وَلَمْ يُعْطِ قَرَابَةَ أُمِّهِ، وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهُمْ إلَّا مُسْلِمًا، فَحُمِلَ مُطْلَقُ كَلَامِ الْمُوصِي عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفُسِّرَ بِمَا فُسِّرَ بِهِ. وَيُسَوِّي بَيْنَ قَرِيبِهِمْ وَبَعِيدِهِمْ، وَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ سَوَاءٌ، وَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَلَا يَدْخُلُ الْكُفَّارُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ قُرْبَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَصَالِحٌ، عَنْ أَبِيهِمَا رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى قَرَابَةِ أُمِّهِ، إنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ، كَأَخْوَالِهِ، وَخَالَاتِهِ، وَإِخْوَتِهِ مِنْ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُهُمْ، لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَطِيَّتَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِلَتِهِ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجَاوِزُ بِهَا أَرْبَعَةَ آبَاءٍ. ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ ". وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَعَلَى هَذَا يُعْطَى كُلُّ مَنْ يُعْرَفُ بِقَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ قَرَابَةٌ، فَيَتَنَاوَلُهُمْ الِاسْمُ، وَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِهِ. وَإِعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ قَرَابَتِهِ، تَخْصِيصٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَرَابَتُهُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَيُعْطَى مَنْ أَدْنَاهُمْ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، فَإِذَا كَانَ لَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ، فَالْوَصِيَّةُ لِعَمَّيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالَانِ، فَلِعَمِّهِ النِّصْفُ وَلِخَالَيْهِ النِّصْفُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 لِلْأَعْمَامِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأَخْوَالِ الثُّلُثُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، قَالَ: وَيُزَادُ الْأَقْرَبُ بَعْضَ الزِّيَادَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقَسَّمُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ بِالِاجْتِهَادِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ عُرْفٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَإِنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ يَقَعُ عَلَى غَيْرِهِمْ عُرْفًا وَشَرْعًا، وَقَدْ تَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ رَبِيبَتُهُ، وَأُمَّهَاتُ نِسَائِهِ، وَحَلَائِلُ آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ، وَلَا قَرَابَةَ لَهُمْ، وَتَحِلُّ لَهُ ابْنَةُ عَمِّهِ، وَعَمَّتِهِ، وَابْنَةُ خَالِهِ وَخَالَتِهِ، وَهُنَّ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّفْصِيلِ لَا يَقْتَضِيه اللَّفْظُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ تَحَكُّمٌ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ قَرَابَةِ أُمِّهِ، كَقَوْلِهِ: وَتُفَضَّلُ قَرَابَتِي مِنْ جِهَةِ أَبِي عَلَى قَرَابَتِي مِنْ جِهَةِ أُمِّيِّ. أَوْ قَوْلُهُ: إلَّا ابْنَ خَالَتِي فُلَانًا. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِينَةٌ تُخْرِجُ بَعْضَهُمْ، عُمِلَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ؛ لِأَنَّهَا تَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى غَيْرِهِ. [فَصْلٌ وَصَّى لِأَقْرَبِ أَقَارِبِهِ أَوْ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ أَوْ أَقْرَبِهِمْ بِهِ رَحِمًا] (4749) فَصْلٌ: فَإِنْ وَصَّى لِأَقْرَبِ أَقَارِبِهِ، أَوْ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، أَوْ أَقْرَبِهِمْ بِهِ رَحِمًا، لَمْ يُدْفَعْ إلَى الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ، فَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْلَى بِهِ مِنْ الْأَجْدَادِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ، وَالِابْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَدْلَى بِهِ. وَيَسْتَوِي الْأَبُ وَالِابْنُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّمَ الِابْنُ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ تَعْصِيبَ الْأَبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ تَعْصِيبِهِ لَا يَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ فِي الْقُرْبِ، وَلَا كَوْنَهُ أَقْرَبَ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ يُسْقِطُ تَعْصِيبَهُ مَعَ بُعْدِهِ، وَيُقَدَّمُ الِابْنُ عَلَى الْجَدِّ، وَالْأَبُ عَلَى ابْنِ الِابْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُقَدَّمُ ابْنُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ تَعْصِيبَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَبَ يُدْلِي بِنَفْسِهِ، وَيَلِي ابْنَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِزٍ، وَلَا يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ بِحَالٍ، بِخِلَافِ ابْنِ الِابْنِ. وَالْأَبُ وَالْأُمُّ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ، وَالْبِنْتُ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، وَأَبُو الْأُمِّ، وَأُمُّ الْأَبِ، وَأُمُّ الْأُمِّ، كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْأَوْلَادِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَفِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى دُخُولِهِمْ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْوَلَدِ الْأَجْدَادُ، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُمْ الْعَمُودُ الثَّانِي، ثُمَّ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ؛ لِأَنَّهُمْ وَلَدُ الْأَبِ، أَوْ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، ثُمَّ وَلَدُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلَا شَيْءَ لِوَلَدِ الْأَخَوَاتِ، إذَا قُلْنَا: لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَإِذَا تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمْ فَأُولَاهُمْ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَوَلَدِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمَا عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ وَلَدَاهُمَا. وَالْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا فِي الْمِيرَاثِ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ الْأَعْمَامُ، ثُمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا. وَيَسْتَوِي الْعَمُّ مِنْ الْأَبِ وَالْعَمُّ مِنْ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ أَبْنَاؤُهُمَا، ثُمَّ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنَّهُ يَرَى دُخُولَ وَلَدِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ إنَّمَا يُخَرَّجُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ، الَّتِي تَجْعَلُ الْقَرَابَةَ فِيهَا كُلَّ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْقَرَابَةِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ، وَأَنَّ الْقَرَابَةَ اسْمٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْآبَاءِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ بَنُو الْأُمِّ، وَلَا أَقَارِبُهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقَرَابَةِ، لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ الْقَرَابَةِ، فَعَلَى هَذَا تَتَنَاوَلُ الْوَصِيَّةُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُوصِي، وَأَوْلَادِ آبَائِهِ، إلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ، وَلَا يَعْدُوهُمْ ذَلِكَ. وَإِنْ وَصَّى لِجَمَاعَةِ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، أُعْطِيَ لِثَلَاثَةِ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ. وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْإِخْوَةِ، فَالْوَصِيَّةُ لِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَالِاسْمُ يَشْمَلُهُمْ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ثَلَاثَةٌ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، كُمِّلَتْ مِنْ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ جَمَاعَةٌ، سُوِّيَ بَيْنَهُمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى. وَإِنْ لَمْ يُكَمِّلْ مِنْ الثَّانِيَةِ، فَمِنْ الثَّالِثَةِ، فَإِذَا وُجِدَ ابْنٌ وَأَخٌ وَعَمٌّ، فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ابْنٌ وَأَخَوَانِ، وَإِنْ كَانَ ابْنٌ وَثَلَاثَةُ إخْوَةٍ، دَخَلَ جَمِيعُهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ وَلَهُمْ ثُلُثَاهَا. فَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَارِثًا، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ إنْ لَمْ يُجَزْ لَهُ، وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ. وَإِنْ وَصَّى لِعُصْبَتِهِ، فَهُوَ لِمَنْ يَرِثُهُ بِالتَّعْصِيبِ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِمَّنْ يَرِثُ فِي الْحَالِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَيُسَوَّى بَيْنَ قَرِيبِهِمْ وَبَعِيدِهِمْ؛ لِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهُمْ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ بِحَالٍ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ] (4750) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: لِأَهْلِ بَيْتِي. أُعْطِيَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ) يَعْنِي تُعْطَى أُمُّهُ وَأَقَارِبُهَا، الْأَخْوَالُ، وَالْخَالَاتُ، وَآبَاءُ أُمِّهِ، وَأَوْلَادُهُمْ، وَكُلُّ مَنْ يُعْرَفُ بِقَرَابَتِهِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَلَفْظِ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ، هُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ لِقَرَابَتِي. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ: وَقَالَ أَحْمَدُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِي وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِي» . فَجَعَلَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَوُو الْقُرْبَى الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» . قَالَ قُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ، نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا، أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ؛ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ الْعَبَّاسِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ ثَعْلَبٌ: أَهْلُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْعَرَبِ آبَاءُ الرَّجُلِ وَأَوْلَادُهُمْ، كَالْأَجْدَادِ وَالْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِهِمْ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَوْلَادَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 الرَّجُلِ لَا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ، وَلَا أَهْلُ بَيْتِهِ. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ وَلَدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ، وَأُعْطُوا مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَهُمْ مِنْ أَقْرَبِ أَقَارِبِهِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُونَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهَا وَزَوْجِهَا: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا؟» وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَقَارِبِ رَجُلٍ، أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْته. وَالْخِرَقِيُّ قَدْ عَدَّهُمْ فِي الْقَرَابَةِ بِقَوْلِهِ: " لَا يُجَاوِزُ بِهَا أَرْبَعَةَ آبَاءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى ". فَجَعَلَ هَاشِمًا الْأَبَ الرَّابِعَ، وَلَا يَكُونُ رَابِعًا إلَّا أَنْ يَعُدَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبًا؛ لِأَنَّ هَاشِمًا إنَّمَا هُوَ رَابِعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ وَصَّى لِآلِهِ] (4751) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِآلِهِ، فَهُوَ مِثْلُ قَرَابَتِهِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَصْلُهُ، وَعَشِيرَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ؛ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ.، وَالْأَصْلُ فِي آلِ أَهْلٌ، فَقُلِبَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا: هَرَقْت الْمَاءَ وَأَرَقْته. وَمُدَّتْ لِئَلَّا تَجْتَمِعَ هَمْزَتَانِ. وَإِنْ وَصَّى لِعِتْرَتِهِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَشِيرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَوَلَدُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَإِنْ سَفَلُوا فَتُصْرَفُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَحْنُ عِتْرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْضَتُهُ الَّتِي تَفَقَّأَتْ عَنْهُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعِتْرَةُ الْأَوْلَادُ، وَأَوْلَادُ الْأَوْلَادِ. . وَلَمْ يُدْخِلَا فِي ذَلِكَ الْعَشِيرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ فِي عُرْفِ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَحْفِلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَهُمْ أَهْل اللِّسَانِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. وَإِنْ وَصَّى لِقَوْمِهِ، أَوْ لِنُسَبَائِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا بِمَثَابَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا قَالَ: لِرَحِمِي، أَوْ لِأَرْحَامِي، أَوْ لِأَنْسَابِي، أَوْ لِمُنَاسِبِي. صُرِفَ إلَى قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَيَتَعَدَّى وَلَدَ الْأَبِ الْخَامِسِ. فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ إلَى كُلِّ مَنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ أَوْ بِالرَّحِمِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْمُنَاسِبِينَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ الْعَشِيرَةِ الَّتِي يَنْتَسِبَانِ إلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَسِبُ إلَى قَبِيلَةٍ غَيْرِ قَبِيلَةِ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَهُ. [فَصْلٌ وَصَّى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقَ وَهُمْ مُعْتِقُوهُ] (4752) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِمَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقُ، وَهُمْ مُعْتِقُوهُ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَقَدْ تَعَيَّنُوا بِوُجُودِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مَوَالٍ مِنْ أَسْفَلَ فَهِيَ لَهُمْ كَذَلِكَ. وَإِنْ اجْتَمَعُوا، فَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 جَمِيعًا، يَسْتَوُونَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ جَمِيعَهُمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ لِلْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، كَقَوْلِنَا، وَقَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالثَّالِثُ، هِيَ لِلْمَوَالِي مِنْ فَوْقُ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ عَصَبَةٌ وَيَرِثُونَهُ، بِخِلَافِ عُتَقَائِهِ. وَالرَّابِعُ، يَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحُوا. وَلَنَا، أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، فَدَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِإِخْوَتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: غَيْرُ مُعَيَّنٍ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنْ مَعَ التَّعْمِيمِ يَحْصُلُ التَّعْيِينُ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ: لَا كَلَّمْت مَوَالِي. حَنِثَ بِكَلَامِ أَيِّهِمْ كَانَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَوْلَى مِنْ فَوْقُ أَقْوَى. قُلْنَا: مَعَ شُمُولِ الِاسْمِ لَهُمْ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَقْوَى وَالْأَضْعَفُ. كَإِخْوَتِهِ، وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْعَمِّ، وَلَا لِلنَّاصِرِ، وَلَا لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ حَقِيقَةً، لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ عُرْفًا، وَالْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَا يَسْتَحِقُّ مَوْلَى ابْنِهِ مَعَ وُجُودِ مَوَالِيهِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَسْتَحِقُّ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَوْلَى ابْنِهِ لَيْسَ بِمَوْلًى لَهُ حَقِيقَةً، إذَا كَانَ لَهُ مَوْلًى سِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْلًى، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: يَكُونُ لِمَوَالِي أَبِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْلًى لَهُ. وَاحْتَجَّ الشَّرِيفُ بِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ مَوَالِيَ أَبِيهِ مَجَازًا، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ، وَجَبَ صَرْفُ الِاسْمِ إلَى مَجَازِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَتُهُ الْمَجَازَ، لِكَوْنِهِ مَحْمَلًا صَحِيحًا، وَإِرَادَةُ الصَّحِيحِ أُغْلَبُ مِنْ إرَادَةِ الْفَاسِدِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ وَمَوَالِي أَبٍ حِينَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ انْقَرَضَ مَوَالِيهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، لَمْ يَكُنْ لِمَوَالِي الْأَبِ شَيْءٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ لِغَيْرِهِمْ، فَلَا تَعُودُ إلَيْهِمْ إلَّا بِعَقْدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَلَا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ: أَوْصَيْت لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيَّ. وَلَهُ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ، فَمَاتَ الِابْنُ، حَيْثُ يَسْتَحِقُّ ابْنُ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ حَيَاةِ الِابْنِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هَاهُنَا لِمَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وُجِدَتْ فِي ابْنِ الِابْنِ، كَوُجُودِهَا فِي الِابْنِ حَقِيقَةً، وَفِي الْمَوْلَى يَقَعُ الِاسْمُ عَلَى مَوْلَى نَفْسِهِ حَقِيقَةً، وَعَلَى مَوْلَى أَبِيهِ مَجَازًا، فَمَعَ وُجُودِهِمْ جَمِيعًا، لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ إلَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ فِي مَوْلَى أَبِيهِ. قَالَ الشَّرِيفُ: وَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْمَوَالِي مُدَبَّرُهُ، وَأُمُّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُمْ حِينَئِذٍ مَوَالٍ فِي الْحَقِيقَةِ. [فَصْل وَصَّى لِجِيرَانِهِ] (4753) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِجِيرَانِهِ، فَهُمْ أَهْلُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْجَارُ الْمُلَاصِقُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» . يَعْنِي الشُّفْعَةَ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْمُلَاصِقِ، وَلِأَنَّ الْجَارَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَارُ الدَّارُ وَالدَّارَانِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» . قَالَ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَعْدَةَ: مَنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْجِيرَانُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ إنْ جَمَعَهُمْ مَسْجِدٌ، فَإِنْ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فِي مَسْجِدَيْنِ صَغِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَالْجَمِيعُ جِيرَانٌ، وَإِنْ كَانَا عَظِيمَيْنِ، فَكُلُّ أَهْلِ مَسْجِدٍ جِيرَانٌ، وَأَمَّا الْأَمْصَارُ الَّتِي فِيهَا الْقَبَائِلُ، فَالْجِوَارُ عَلَى الْأَفْخَاذِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجَارُ أَرْبَعُونَ دَارًا، هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إنْ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُت الْخَبَرُ، فَالْجَارُ هُوَ الْمُقَارِبُ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ. (4754) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِأَهْلِ دَرْبِهِ أَوْ سِكَّتِهِ، فَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ طَرِيقُهُمْ فِي دَرْبِهِ. [فَصْلٌ وَصَّى لِأَصْنَافِ الزَّكَاةِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ] (4755) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لِأَصْنَافِ الزَّكَاةِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ، فَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ صِنْفٍ ثُمُنُ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِثَمَانِ قَبَائِلَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ، حَيْثُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَنَّ آيَةَ الزَّكَاةِ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَالْوَصِيَّةُ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ الدَّفْعُ إلَيْهِ. وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُمْ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَّا إلَى الْمُسْتَحِقِّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ. وَإِنْ وَصَّى لِلْفُقَرَاءِ وَحْدَهُمْ، دَخَلَ فِيهِ الْمَسَاكِينُ. وَإِنْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ دَخَلَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ فِيمَا عَدَا الزَّكَاةِ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا. وَيُسْتَحَبُّ تَعْمِيمُ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَالدَّفْعُ إلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْبِدَايَةُ بِأَقَارِبِ الْمُوصِي، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ. [فَصْلٌ أَوْصَى بِشَيْءِ لِزَيْدِ وَلِلْمَسَاكِينِ] (4756) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِزَيْدٍ وَلِلْمَسَاكِينِ، فَلِزَيْدٍ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لِزَيْدٍ ثُلُثُهُ، وَلِلْمَسَاكِينِ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ كَأَحَدِهِمْ، إنْ عَمَّهُمْ أَعْطَاهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ قَسَمَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ جَعَلَهُ كَأَحَدِهِمْ. وَحَكَى أَصْحَابُهُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا كَمَذْهَبِنَا. وَالثَّانِي لَهُ رُبُعُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِمْ صَارُوا أَرْبَعَةً. وَلَنَا، أَنَّهُ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِجِهَتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى لِقُرَيْشٍ وَتَمِيمٍ، لَمْ يُشْرَكْ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ عَدَدِهِمْ، وَلَا عَلَى قَدْرِ مِنْ يُعْطَى مِنْهُمْ، بَلْ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مِسْكِينًا، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ عَطْفَهُمْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا، إذْ الظَّاهِرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَجْوِيزِ دَفْعِ الْجَمِيعِ إلَيْهِ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُمْ وَحَصْرُهُمْ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لِزَيْدٍ وَإِخْوَتِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَكُونُ كَأَحَدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ شَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِبَعْضِهِمْ، فَتَسَاوَوْا فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا لَكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ وَصِيّ وَقَالَ اشْتَرُوا بِثُلُثِي رِقَابًا فَأَعْتِقُوهُمْ] (4757) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ اشْتَرُوا بِثُلُثِي رِقَابًا، فَأَعْتِقُوهُمْ. لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إلَى الْمُكَاتَبِينَ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى بِالشِّرَاءِ، لَا بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ. فَإِنْ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَى أَقَلُّ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَإِنْ قَدَرْت عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ بِثَمَنِ ثَلَاثَةٍ غَالِيَةٍ، كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» . وَلِأَنَّهُ يُفَرِّجُ عَنْ نَفْسٍ زَائِدَةٍ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ. وَإِنْ أَمْكَنَ شِرَاءُ ثَلَاثَةٍ رَخِيصَةٍ، وَحِصَّةٍ مِنْ الرَّابِعَةِ، بِثَمَنِ ثَلَاثَةٍ غَالِيَةٍ، فَالثَّلَاثَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ، قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» . وَالْقَصْدُ مِنْ الْعِتْقِ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، مِنْ الْوِلَايَةِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، الَّتِي تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِعْتَاقِ جَمِيعِهِ. وَهَذَا التَّفْضِيلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْغَالِيَةِ، إنَّمَا يَكُون مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَصْلَحَةِ، فَأَمَّا إنْ تَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ بِدِينٍ، وَعِفَّةٍ، وَصَلَاحٍ، وَمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي الْعِتْقِ، بِأَنْ يَكُونَ مَضْرُورًا بِالرِّقِّ، وَلَهُ صَلَاحٌ فِي الْعِتْقِ، وَغَيْرُهُ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي الرِّقِّ، وَلَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي الْعِتْقِ، وَرُبَّمَا تَضَرَّرَ بِهِ، مِنْ فَوَاتِ نَفَقَتِهِ، وَكَفَالَتِهِ، وَمَصَالِحِهِ، وَعَجْزِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ عَنْ الْكَسْبِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنَّ إعْتَاقَ مَنْ كَثُرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي إعْتَاقِهِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى، وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ، وَلَا يَسُوغُ إعْتَاقُ مَنْ فِي إعْتَاقِهِ مَفْسَدَةٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي تَحْصِيلُ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَلَا أَجْرَ فِي إعْتَاقِ هَذَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ إلَّا رَقَبَةٌ مُسْلِمَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْمُسْلِمَةَ، وَمُطْلَقُ كَلَامِ الْآدَمِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مُطْلَقِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ مَعِيبَةٍ عَيْبًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ] (4758) فَصْلٌ: وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ، يُجَزَّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ؛ جُزْءٌ فِي الْجِهَادِ، وَجُزْءٌ يَتَصَدَّق بِهِ فِي قَرَابَتِهِ، وَجُزْءٌ فِي الْحَجِّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: الْغَزْوُ يُبْدَأُ بِهِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ جُزْءًا فِي فِدَاءِ الْأَسْرَى. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَالتَّحْدِيدِ، بَلْ يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي جِهَاتِ الْبِرِّ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْعُمُومِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَرُبَّمَا كَانَ غَيْرُ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَحْوَجَ مِنْ بَعْضِهَا وَأَحَقَّ، وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى تَكْفِينِ مَيِّتٍ، وَإِصْلَاحِ طَرِيقٍ، وَفَكِّ أَسْرٍ، وَإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ، أَكْثَرَ مِنْ دُعَائِهَا إلَى حَجِّ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَيُكَلَّفُ وُجُوبَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبًا وَتَعَبًا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَرَاحَهُ مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، فَتَقْدِيمُ هَذَا عَلَى مَا مَصْلَحَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ دَاعِيَةٌ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ، تَحَكُّمٌ لَا مَعْنَى لَهُ. وَإِذَا قَالَ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ يُرِيكَ اللَّهُ. فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَات الْقُرَبِ، رَأَى وَضْعَهُ فِيهَا، عَمَلًا بِمُقْتَضَى وَصِيَّتِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْأَفْضَلُ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِلَى مَحَارِمِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى جِيرَانِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ إلَى اجْتِهَادِهِ فِيمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَهَذَا أَحَظُّ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ يَرَى غَيْرَ هَذَا أَهَمَّ مِنْهُ وَأَصْلَحَ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالتَّحَكُّمِ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الْمَسَاكِينِ، وَلَهُ أَقَارِبُ مَحَاوِيجُ لَمْ يُوصِ لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَرِثُوا، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ. قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ النَّصْرَانِيِّ يُوصِي بِثُلُثِهِ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَيُعْطَى إخْوَتُهُ وَهُمْ فُقَرَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُمْ أَحَقُّ، يُعْطَوْنَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا يُزَادُونَ عَلَى ذَلِكَ. يَعْنِي لَا يُزَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى أَنْ يُحَجّ عَنْهُ بِقَدْرِ مِنْ الْمَالِ] (4759) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا وَصَّى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ. فَمَا فَضَلَ رُدَّ فِي الْحَجِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ، وَجَبَ صَرْفُ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ إذَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى بِجَمِيعِهِ فِي جِهَةِ قُرْبَةٍ، فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِيهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 لِلْوَلِيِّ أَنْ يَصْرِفَ إلَى مَنْ يَحُجُّ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ التَّصَرُّفَ فِي الْمُعَاوَضَةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِوَضَ الْمِثْلِ، كَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ نَفَقَةِ الْمِثْلِ لِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُصْرَفَ فِيهَا. أَوْ نَاقِصًا عَنْهَا، فَيُحَجَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، فِي ظَاهِرِ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِي رَجُلٍ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، وَلَا تَبْلُغُ النَّفَقَةُ، فَقَالَ: يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ النَّفَقَةُ لِلرَّاكِبِ مِنْ أَهْلِ مَدِينَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْعَنْبَرِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُعَنْ بِهِ فِي الْحَجِّ. وَهُوَ قَوْلُ سَوَّارٍ الْقَاضِي، حَكَاهُ عَنْهُ الْعَنْبَرِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ. قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي امْرَأَةٍ أَوْصَتْ بِحَجٍّ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا: أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ ثُلُثُ مَالِهَا، فَيُعَانَ بِهِ فِي الْحَجِّ، أَوْ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يَفْضُلَ عَنْ الْحَجَّةِ، فَيُدْفَعَ فِي حِجَّةٍ ثَانِيَةٍ، ثُمَّ فِي ثَالِثَةٍ، إلَى أَنْ يَنْفَدَ، أَوْ يَبْقَى مَا لَا يَبْلُغُ حِجَّةً، فَيُحَجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. وَلَا يَسْتَنِيبُ فِي الْحَجِّ مَعَ الْإِمْكَانِ إلَّا مِنْ بَلَدِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ، وَقَائِمٌ مَقَامَهُ، فَيَنُوبُ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ لَوْ حَجَّ الْمَنُوبُ عَنْهُ لَحَجَّ. مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ لَا يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا أُخِذَ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ الْقَدْرِ الْكَافِي لِحَجِّ الْفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ، أُخِذَ، ثُمَّ يُصْرَفُ مِنْهُ فِي الْفَرْضِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يُحَجُّ بِالْبَاقِي تَطَوُّعًا حَتَّى يَنْفُذَ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَقَلَّ، تُمِّمَ قَدْرُ مَا يَكْفِي الْحَجَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ: كُلٌّ وَاجِبٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ: إنْ وَصَّى بِالْحَجِّ، فَمِنْ ثُلُثِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَى وَرَثَتِهِ شَيْءٌ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ، إنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْمُوصَى بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ فَلَا تَلْزَمُ الْوَارِثَ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ، أَكُنْت تَقْضِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» . وَالدَّيْنُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَمَا هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، أُخِذَ الثُّلُثُ لَا غَيْرُ، إذَا لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ، وَيُحَجَّ بِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ أَوْصَى بِحَجِّ وَاجِبٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَات] (4760) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِحَجٍّ وَاجِبٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، كَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَزَكَاةٍ، وَإِخْرَاجِ كَفَّارَةٍ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 أَحَدُهَا، أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ، فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ، وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ بِذَلِكَ، أُخِذَ مَالُهُ كُلُّهُ يُدْفَعُ فِي الْوَاجِبِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ. الثَّانِي، أَنْ يُوصِيَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ ثُلُثُ مَالِهِ، فَيَصِحُّ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وَصِيَّةٌ غَيْرَ هَذِهِ، لَمْ تُفِدْ شَيْئًا، وَيُؤَدَّى مِنْ الْمَالِ كُلِّهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِتَبَرُّعٍ لَجِهَةٍ أُخْرَى، قُدِّمَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلتَّبَرُّعِ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ سَقَطَتْ، وَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْوَاجِبِ أُتِمَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. هَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُزَاحَمُ بِالْوَاجِبِ أَصْحَابُ الْوَصَايَا. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْوَصَايَا كُلِّهَا، الْوَاجِبُ وَالتَّبَرُّعُ بِالْحِصَصِ، فَمَا حُصِلَ لِلْوَاجِبِ أُتِمَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيَدْخُلُهُ الدَّوْرُ، وَتَعْمَلُ بِالْجَبْرِ، فَتَقُولُ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِحِجَّةٍ وَاجِبَةٍ، كِفَايَتُهَا عَشْرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، وَوَصَّى بِصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ عَشْرَةٌ، وَمَاتَ فَلَمْ يَخْلُفْ إلَّا ثَلَاثِينَ، فَاعْزِلْ تَتِمَّةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَالِ، وَهِيَ شَيْءٌ مَجْهُولٌ، وَخُذْ ثُلُثَ الْبَاقِي عَشْرَةً إلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، وَاقْسِمْهُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ إلَّا سُدُسَ شَيْءٍ، اُضْمُمْ الشَّيْءَ الَّذِي عَزَلْته إلَى مَا حَصَلَ لِلْحِجَّةِ، فَصَارَ شَيْئًا وَخَمْسَةً إلَّا سُدُسَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ عَشْرَةً، وَخُذْ مِنْ الشَّيْءِ سُدُسَهُ، فَاجْبُرْ بِهِ بَعْضَ الْخَمْسَةِ، يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَيْءٍ، يَعْدِلُ خُمُسَهُ، فَالشَّيْءُ إذًا سِتَّةٌ، وَمَتَى أَخَذْت سِتَّةً مِنْ ثَلَاثِينَ، بَقِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُلُثُهَا ثَمَانِيَةٌ، لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْوَاجِبِ أَرْبَعَةٌ مَعَ السِّتَّةَ، صَارَ الْجَمِيعُ عَشْرَةً، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا دَيْنٌ خَمْسَةٌ، عَزَلْت تَتِمَّةَ الْحَجِّ شَيْئًا، وَتَتِمَّةَ الدَّيْنِ نِصْفَ شَيْءٍ، بَقِيَ ثُلُثُ الْمَالِ عَشْرَةٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَاقْسِمْهُ بَيْنَ الْوَصَايَا، فَيَحْصُلُ لِلْحَجِّ أَرْبَعَةٌ إلَّا خُمُسَ شَيْءٍ، اُضْمُمْ إلَيْهَا تَتِمَّتَهُ، يَصِيرُ شَيْئًا وَأَرْبَعَةً إلَّا خُمْسَ شَيْءٍ، يَعْدِلُ عَشْرَةً، وَبَعْدَ الْجَبْرِ يَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ شَيْءٍ، تَعْدِلُ سِتَّةً، فَرُدَّ عَلَى السِّتَّةِ رُبْعَهَا، تَصِرْ سَبْعَةً وَنِصْفًا، يَعْدِلُ شَيْئًا، فَالشَّيْءُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَنِصْفُ الشَّيْءِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ وَرُبْعٌ وَبَقِيَّةُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، ثُلُثُهَا سِتَّةٌ وَرُبْعٌ، لِلدَّيْنِ خُمُسُهَا وَاحِدٌ وَرُبْعٌ، إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ تَتِمَّتَهُ، كَمَّلَ خَمْسَةً، وَلِلْحَجِّ اثْنَانِ وَنِصْفٌ تَكْمُلُ تَتِمَّتُهُ، وَلِلصَّدَقَةِ اثْنَانِ وَنِصْفٌ. وَفِي عَمَلِهَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقْسَمَ الثُّلُثُ بِكَمَالِهِ بَيْنَ الْوَصَايَا بِالْقِسْطِ، ثُمَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَاجِبِ خُذْهُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَصَاحِبِ التَّبَرُّعِ بِالْقِسْطِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَحْصُلُ لِلْوَاجِبِ خَمْسَةٌ، يَبْقَى لَهُ خَمْسَةٌ، يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِ التَّبَرُّعِ دِينَارًا، وَمِنْ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةً. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، حَصَلَ لِلْحَجِّ أَرْبَعَةٌ، وَبَقِيَ لَهُ سِتَّةٌ، وَحَصَلَ لِلدَّيْنِ دِينَارَانِ، وَبَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةٌ، فَيَأْخُذَانِ مَا بَقِيَ لَهُمَا مِنْ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةً، وَمِنْ صَاحِبِ التَّبَرُّعِ ثَلَاثَةً فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الْحِجَّةِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةً، وَمِنْ صَاحِبِ التَّبَرُّعِ دِينَارَيْنِ، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ دِينَارَيْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَدِينَارًا مِنْ صَاحِبِ التَّبَرُّعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 الثَّالِثُ، أَنْ يُوصِيَ بِالْوَاجِبِ، وَيُطْلِقَ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيُبْدَأُ بِإِخْرَاجِهِ قَبْلَ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ وَصِيَّةُ تَبَرُّعٍ، فَلِصَاحِبِهَا ثُلُثُ الْبَاقِي. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الثُّلُثِ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَجَّ كَانَ وَاجِبًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِي وَصِيَّتِهِ مَا يَقْتَضِي تَغْيِيرَهُ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ إلَّا بِالثُّلُثِ. قُلْنَا: فِي التَّبَرُّعِ، فَأَمَّا فِي الْوَاجِبَاتِ فَلَا تَنْحَصِرُ فِي الثُّلُثِ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِهِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يُوصِيَ بِالْوَاجِبِ وَيَقْرِنَ الْوَصِيَّةَ بِالتَّبَرُّعِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: حُجُّوا عَنِّي، وَأَدُّوا دَيْنِي، وَتَصَدَّقُوا عَنِّي. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا، أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ فِي اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِرَانِ فِي الْحُكْمِ، وَلَا فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وَالْأَكْلُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ هَاهُنَا قَدْ عَطَفَ غَيْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَكَمَا لَمْ يَسْتَوِيَا فِي الْوُجُوبِ لَا يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي مَحَلِّ الْإِخْرَاجِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ بِهِ مَا مَخْرَجُهُ مِنْ الثُّلُثِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى أَنْ يُحَجّ عَنْهُ بِقَدْرِ مِنْ الْمَال حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَكَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ قَدْرِ مَا يُحَجُّ بِهِ] (4761) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: حِجَّةٌ بِخَمْسِمِائَةٍ. فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِمَنْ يَحُجُّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ حِجَّةً وَاحِدَةً، وَكَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ قَدْرِ مَا يُحَجُّ بِهِ، فَهُوَ لِمَنْ يَحُجُّ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إرْفَاقَهُ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ، بِأَنْ قَالَ: حُجُّوا عَنِّي حِجَّةً وَاحِدَةً بِخَمْسِمِائَةٍ، وَمَا فَضَلَ مِنْهَا فَهُوَ لِمَنْ يَحُجُّ. ثُمَّ إنْ عَيَّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَقَالَ: يَحُجُّ عَنِّي فُلَانٌ بِخَمْسِمِائَةٍ. صُرِفَ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا، فَلِلْوَصِيِّ صَرْفُهَا إلَى مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ الِاجْتِهَادَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ صَرْفَهَا إلَى وَارِثٍ، إذَا كَانَ فِيهَا فَضْلٌ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ، جَازَ؛ لِأَنَّهَا لَا مُحَابَاةَ فِيهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الْمُوصَى بِهِ تَطَوُّعًا، فَجَمِيعُ الْقَدْرِ الْمُوصَى بِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَالزَّائِدُ عَنْ نَفَقَةِ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِنْ لَمْ يَفِ الْمُوصَى بِهِ بِالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أُتِمَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَإِنَّهُ يُحَجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلٌ عَيَّنَ رَجُلًا فِي وَصِيَّته أَنْ يُحَجّ فَأَبَى أَنْ يَحُجّ] (4762) فَصْلٌ: وَإِنْ عَيَّنَ رَجُلًا أَنْ يَحُجَّ، فَأَبَى أَنْ يَحُجَّ، بَطَلَ التَّعْيِينُ، وَيَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ إنْسَانٌ ثِقَةٌ سِوَاهُ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إلَى الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ الْمُعَيَّنُ: اصْرِفُوا الْحِجَّةَ إلَى مَنْ يَحُجُّ، وَادْفَعُوا الْفَضْلَ إلَيَّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لِي. لَمْ يُصْرَفْ إلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُوصِيَ لَهُ بِالزِّيَادَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَحُجَّ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِحَجَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرًا مِنْ الْمَالِ] (4763) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: حُجُّوا عَنِّي حِجَّةً. فَمَا فَضَلَ رُدَّ إلَى الْوَرَثَةِ) أَمَّا إذَا أَوْصَى بِحِجَّةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرًا مِنْ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ يَحُجُّ إلَّا قَدْرُ نَفَقَةِ الْمِثْلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، إنَّمَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ نَائِبٌ فَمَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُوصِي، وَمَا بَقِيَ رَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي الطَّرِيقِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُوصِي، وَلَيْسَ عَلَى النَّائِبِ إتْمَامُ الْمُضِيِّ إلَى الْحَجِّ عَنْهُ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَأْجِرُ إلَّا ثِقَةً بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِمَنْ يَحُجُّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا أُعْطِيَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ قَبْضِ الْأَجِيرِ لَهُ، فَهُوَ مِنْ مَالِهِ، وَيَلْزَمُهُ إتْمَامُ الْحَجِّ. وَإِنْ قَالَ: حُجُّوا عَنِّي. وَلَمْ يَقُلْ: حِجَّةً وَاحِدَةً. لَمْ يُحَجَّ عَنْهُ إلَّا حِجَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. فَإِنْ عَيَّنَ مَعَ هَذَا مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَقَالَ: يَحُجُّ عَنِّي فُلَانٌ. فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرُ نَفَقَتِهِ مِنْ بَلَدِهِ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ. فَإِنْ أَبَى الْحَجَّ إلَّا بِزِيَادَةٍ تُصْرَفُ إلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ أَقَلُّ قَدْرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ غَيْرُهُ. وَإِنْ أَبَى الْحَجَّ، وَكَانَ وَاجِبًا، اُسْتُنِيبَ غَيْرُهُ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ اسْتِنَابَتُهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا احْتَمَلَ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ لَهَا جِهَةً، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِيعُوا عَبْدِي لَفُلَانٍ بِمِائَةٍ. فَأَبَى شِرَاءَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ، وَيُسْتَنَابَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ وَالتَّعْيِينَ، فَإِذَا بَطَلَ التَّعْيِينُ، لَمْ تَبْطُلْ الْقُرْبَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِيعُوا عَبْدِي لَفُلَانٍ، وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فُلَانٌ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِهِ، وَيُتَصَدَّقُ بِهِ. [فَصْلٌ أُوصَى وَقَالَ حُجَّ عَنِّي بِمَا شِئْت] (4764) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ حِجَّةً، لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. كَمَا لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ. لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنْ قَالَ: حُجَّ عَنِّي بِمَا شِئْت. صَحَّ، وَلَهُ مَا شَاءَ، إلَّا أَنْ لَا يُجِيزَ الْوَرَثَةُ، فَلَهُ الثُّلُثُ. [فَصْلٌ أُوصَى أَنْ يَحُجّ عَنْهُ زَيْدٌ بِمِائَةِ وَلِعَمْرٍو بِتَمَامِ الثُّلُثِ وَلَسَعْد بِثُلُثِ مَالِهِ فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ] (4765) فَصْلٌ: إذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ زَيْدٌ بِمِائَةٍ، وَلِعَمْرٍو بِتَمَامِ الثُّلُثِ، وَلَسَعْدً بِثُلُثِ مَالِهِ. فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ، أُمْضِيَتْ عَلَى مَا قَالَ الْمُوصِي. وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْمِائَةِ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِالْفَضْلِ، وَلَا فَضْلَ. وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ، قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ؛ لَسَعْدٍ السُّدُسُ، وَلِزَيْدٍ مِائَةٌ، وَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ فَلِعَمْرٍو، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِالزِّيَادَةِ، وَلَا زِيَادَةَ. وَلَا تُمْنَعُ الْمُزَاحَمَةُ بِهِ، وَلَا يُعْطَى شَيْئًا، كَوَلَدِ الْأَبِ مَعَ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فِي مُزَاحَمَةِ الْجَدِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي الثُّلُثِ فَضْلٌ عَنْ الْمِائَةِ، أَنْ يُرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى نِصْفِ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ بِالْإِجَازَةِ، فَمَعَ الرَّدِّ يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنْ النَّقْصِ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ، كَسَائِرِ الْوَصَايَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ امْتَنَعَ زَيْدٌ مِنْ الْحَجِّ، وَكَانَتْ الْحِجَّةُ وَاجِبَةً، اُسْتُنِيبَ ثِقَةٌ غَيْرُهُ فِي الْحَجِّ بِأَقَلَّ مَا يُمْكِنُ، وَتَمَامُ الْمِائَةِ لِلْوَرَثَةِ، وَلِعَمْرٍو مَا فَضَلَ. وَإِنْ كَانَتْ الْحِجَّةُ تَطَوُّعًا، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَجْهَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى. [فَصْل أُوصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدِ بِعَيْنِهِ وَلِعَمْرٍو بِبَقِيَّةِ الثُّلُثِ] فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَلِعَمْرٍو بِبَقِيَّةِ الثُّلُثِ، قُوِّمَ الْعَبْدُ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ حَالُ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ، وَدُفِعَ إلَى زَيْدٍ، وَدُفِعَ بَقِيَّةُ الثُّلُثِ إلَى عَمْرٍو. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ رَدَّ زَيْدٌ وَصِيَّتَهُ، بَطَلَتْ وَلَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو. وَهَكَذَا إنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، قَوَّمْنَا التَّرِكَةَ حَالَ مَوْتِ الْمُوصِي بِدُونِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ لَوْ كَانَ حَيًّا، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ قِيمَتِهِ شَيْءٌ، فَهُوَ لِعَمْرٍو، وَإِلَّا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ. وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِ عَبْدَيْهِ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ. ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ فِي زِيَادَةِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَةِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ بَطَلَ تَدْبِيرُ الْأَوَّلِ لِرُجُوعِهِ فِيهِ، أَوْ خُرُوجِهِ مُسْتَحَقًّا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَقُتِلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَأُخِذَتْ الدِّيَةُ] (4767) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، فَقُتِلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَأُخِذَتْ الدِّيَةُ، فَلِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى لَيْسَ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ مُشَاعٌ، فَقُتِلَ الْمُوصِي، وَأُخِذَتْ دِيَتُهُ، هَلْ لِلْوَصِيِّ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ لَا؟ فَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي دِيَةِ الْخَطَأِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، لَا يُدْخِلُ الدِّيَةَ فِي وَصِيَّتِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَكْحُولٍ، وَشَرِيكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي دِيَةِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، بِدَلِيلِ أَنَّ سَبَبَهَا الْمَوْتُ، فَلَا يَجُوزُ وُجُوبُهَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَقَدَّمُ سَبَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجِبَ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُهُ الثَّابِتَةُ لَهُ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ مِلْكٌ؟ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَ إنَّمَا يُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، لَا بِمَالِ وَرَثَتِهِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، وَنَفْسِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا، وَلِأَنَّ بَدَلَ أَطْرَافِهِ فِي حَالَ حَيَاتِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِهَذَا نَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَيُجَهَّزُ مِنْهَا إنْ كَانَ قَبْلَ تَجْهِيزِهِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ مِنْ أَمْلَاكِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 مَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ فَلَا. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِلْكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَسَقَطَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ يُمْلَكُ بِحَيْثُ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهُ، وَيُجَهَّزُ، فَكَذَلِكَ دِينُهُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ وَصِيَّتِهِ مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَشْبَهَتْ قَضَاءَ دِينِهِ. (4768) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِمُعَيَّنٍ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَدِيَتِهِ، وَعَلَى الْأُخْرَى، يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ دُونَ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَالِهِ. [فَصْلٌ أُوصَى ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ] (4769) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى، ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّ الْوَصِيَّةَ تُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا يُخْلِفُهُ مِنْ التِّلَادِ وَالْمُسْتَفَادِ وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْجَمِيعِ. هَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَحُكِيَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ لَا يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ إلَّا مَا عَلِمَ، إلَّا الْمُدَبَّرَ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ مَالِهِ، فَدَخَلَ فِي وَصِيَّتِهِ كَالْمَعْلُومِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَهُ إلَى آخِرَ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى إلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَهُ إلَى آخَرَ، فَهُمَا وَصِيَّانِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَخْرَجْت الْأَوَّلَ) مَعْنَى أَوْصَى إلَى رَجُلٍ. أَيْ جَعَلَ لَهُ التَّصَرُّفَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فِيمَا كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ، وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ، وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ، وَالْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَمَنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ، وَالنَّظَرُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِحِفْظِهَا، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا لَهُمْ الْحَظُّ فِيهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، كَالْعُقَلَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَغَيْرِ أَوْلَادِهِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَسَائِرِ مَنْ عَدَا الْأَوْلَادَ، فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمُوصِي عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِنَائِبِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: لِلْجَدِّ وِلَايَةٌ عَلَى ابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَادَةً وَتَعْصِيبًا، فَأَشْبَهَ الْأَبَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ لَهَا وِلَايَةً؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَبَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 وَلَنَا، أَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِوَاسِطَةٍ، فَأَشْبَهَ الْأَخَ وَالْعَمَّ وَفَارَقَ الْأَبَ، فَإِنَّهُ يُدْلِي بِنَفْسِهِ، وَيَحْجُبُ الْجَدَّ، وَيُخَالِفُهُ فِي مِيرَاثِهِ وَحَجْبِهِ، فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِ، وَلَا قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَلِي؛ لِأَنَّهَا قَاصِرَةٌ لَا تَلِي النِّكَاحَ بِحَالٍ، فَلَا تَلِي مَالَ غَيْرِهَا، كَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَلِي بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ بِالنَّسَبِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى إلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى إلَى آخَرَ، فَهُمَا وَصِيَّانِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَخْرَجْت الْأَوَّلَ أَوْ قَدْ عَزَلْته؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِبِشْرٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لَبَكْرٍ. وَلِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ عَزْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَانَا وَصِيَّيْنِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى إلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً. فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَ الْأَوَّلَ انْعَزَلَ، وَكَانَ الثَّانِي هُوَ الْوَصِيَّ، كَمَا لَوْ عَزَلَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ إلَى الثَّانِي. [فَصْلٌ يُوصِي إلَى رَجُلٍ بِشَيْءِ دُونَ شَيْءٍ] (4771) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ إلَى إنْسَانٍ بِتَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ دُونَ غَيْرِهَا، أَوْ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ، أَوْ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ أَطْفَالِهِ حَسْبُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُ مَا جَعَلَ إلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إلَى إنْسَانٍ بِتَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ، وَإِلَى آخَرَ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ، وَإِلَى آخَرَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ أَطْفَالِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا جَعَلَ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَمَتَى أَوْصَى إلَيْهِ بِشَيْءٍ، لَمْ يَصِرْ وَصِيًّا فِي غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِيرُ وَصِيًّا فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ تَنْتَقِلُ مِنْ الْأَبِ بِمَوْتِهِ، فَلَا تَتَبَعَّضُ، كَوِلَايَةِ الْجَدِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ اسْتَفَادَ التَّصَرُّفَ بِالْإِذْنِ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّ، فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا أُذِنَ فِيهِ، كَالْوَكِيلِ، وَوِلَايَةُ الْجَدِّ مَمْنُوعَةٌ. ثُمَّ تِلْكَ وِلَايَةٌ اسْتَفَادَهَا بِقَرَابَتِهِ، وَهِيَ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْإِذْنُ يَتَبَعَّضُ، فَافْتَرَقَا. [فَصْل يُوصِيَ إلَى رَجُلَيْنِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَيَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ مُنْفَرِدًا] (4772) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إلَى رَجُلَيْنِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ مُنْفَرِدًا، فَيَقُولَ: أَوْصَيْت إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيًّا مُنْفَرِدًا، وَهَذَا يَقْتَضِي تَصَرُّفَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَلَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَيْهِمَا لِيَتَصَرَّفَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِنَظَرِهِ وَحْدَهُ. وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ لَا أَعْلَمُ فِيهِمَا خِلَافًا. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ: أَوْصَيْت إلَيْكُمَا فِي كَذَا. فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ. وَبِهِ قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَالْوِلَايَةَ لَا تَتَبَعَّضُ، فَمَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادَ بِهَا كَالْأَخَوَيْنِ فِي تَزْوِيجِ أُخْتِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ يُسْتَحْسَنُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَيُبِيحُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ: كَفَنِ الْمَيِّتِ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ، وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا، وَشِرَاءِ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ مِنْ الْكُسْوَةِ وَالطَّعَامِ، وَقَبُولِ الْهِبَةِ لَهُ، وَالْخُصُومَةِ عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدَّعَى لَهُ أَوْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يَشُقُّ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهَا وَيَضُرُّ تَأْخِيرُهَا، فَجَازَ الِانْفِرَادُ بِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ شَرَكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ، فَلَمْ يَكُنْ لَأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ، كَالْوَكِيلَيْنِ. وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ نَقُولُ بِهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِمَا بِاجْتِمَاعِهِمَا، فَلَيْسَتْ مُتَبَعِّضَةً، كَمَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ، أَوْ صَرَّحَ لِلْوَصِيَّيْنِ بِأَنْ لَا يَتَصَرَّفَا إلَّا مُجْتَمِعَيْنِ. ثُمَّ يَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِهَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ، وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة بِهِمَا أَيْضًا، وَإِذَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا، أَقَامَ الْحَاكِمُ أَمِينًا مُقَامَ الْغَائِبِ. [فَصْلٌ فِي مَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ وَمَنْ لَا تَصِحُّ] (4773) فَصْلٌ: فِي مَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، وَمَنْ لَا تَصِحُّ، تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْعَدْلِ إجْمَاعًا. وَلَا تَصِحُّ إلَى مَجْنُونٍ، وَلَا طِفْلٍ، وَلَا وَصِيَّةُ مُسْلِمٍ إلَى كَافِرٍ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ وَالطِّفْلَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمَا، فَلَا يَلِيَانِ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَالْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى مُسْلِمٍ. وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَمْ يُجِزْهُ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ قَاضِيَةً، فَلَا تَكُونُ وَصِيَّةً، كَالْمَجْنُونِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى إلَى حَفْصَةَ. وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ، وَتُخَالِفُ الْقَضَاءَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ لَهُ الْكَمَالُ فِي الْخِلْقَةِ وَالِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ. وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى الْأَعْمَى. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ. وَهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ، وَالْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ كَالْبَصِيرِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ إلَّا بِإِذْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلِأَنَّهُ مَوْلًى عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ وَالِيًا، كَالطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ وَكَالَتِهِ. وَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ الْعَشْرَ. وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ مُسْلِمٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 عَلَى مُسْلِمٍ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَلَا الْعَدَالَةِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، كَالْمَجْنُونِ وَالْفَاسِقِ. وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فِي دِينِهِ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ. فَمَعَ الْكُفْرِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فِي دِينِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِالنَّسَبِ، فَيَلِي الْوَصِيَّةَ، كَالْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي، لَا تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، كَفَاسِقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إلَى الْمُسْلِمِ، فَتَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ تَرِكَتُهُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا. وَأَمَّا الْعَبْدُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَبْدَ نَفْسِهِ أَوْ عَبْدَ غَيْرِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ، وَلَا تَصِحُّ إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَصِحُّ إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي وَرَثَتِهِ رَشِيدٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى عَبْدٍ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا عَلَى ابْنِهِ بِالنَّسَبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ الْوَصِيَّةَ، كَالْمَجْنُونِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِنَابَتُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَصَحَّ أَنْ يُوصَى إلَيْهِ كَالْحُرِّ. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالْمَرْأَةِ. وَالْخِلَافُ فِي الْمَكَاتِبِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ بَعْضُهُ كَالْخِلَافِ فِي الْعَبْدِ الْقِنِّ. وَقَدْ نَصَّ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إلَى أُمِّ وَلَدِهِ جَائِزَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ حُرَّةً عِنْدَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْفَاسِقُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إلَيْهِ لَا تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا كَانَ مُتَّهَمًا، لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا كَانَ الْوَصِيُّ خَائِنًا ضُمَّ إلَيْهِ أَمِينٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ، وَيَضُمُّ الْحَاكِمُ إلَيْهِ أَمِينًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، وَعَلَى الْحَاكِمِ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، كَالْعَدْلِ، وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، كَالْمَجْنُونِ. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. (4774) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْوَصِيِّ حَالَ الْعَقْدِ وَالْمَوْتِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ يُعْتَبَرُ حَالَ الْمَوْتِ حَسْبُ، كَالْوَصِيَّةِ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهَا شُرُوطٌ لِعَقْدٍ، فَتُعْتَبَرُ حَالَ وُجُودِهِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لَهُ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الْإِرْثِ، وَخُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ لِلنُّفُوذِ وَاللُّزُومِ، فَاعْتُبِرَتْ حَالَةَ اللُّزُومِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّهَا شُرُوطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، فَاعْتُبِرَتْ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَلَا يَنْفَعُ وُجُودُهَا بَعْدَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 الثَّانِي، لَوْ كَانَتْ الشُّرُوطُ كُلُّهَا مُنْتَفِيَةً، أَوْ بَعْضُهَا حَالَ الْعَقْدِ، ثُمَّ وُجِدَتْ حَالَةَ الْمَوْتِ لَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ. [فَصْلٌ قَالَ أَوْصَيْت إلَى زَيْدٍ فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْت إلَى عَمْرو] (4775) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: أَوْصَيْت إلَى زَيْدٍ، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْت إلَى عَمْرٍو صَحَّ ذَلِكَ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيًّا، إلَّا أَنَّ عَمْرًا وَصِيٌّ بَعْدَ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ: «أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَى التَّأْمِيرِ. وَإِنْ قَالَ: أَوْصَيْت إلَيْك، فَإِذَا كَبِرَ ابْنِي كَانَ وَصِيِّي. صَحَّ؛ لِذَلِكَ، فَإِذَا كَبِرَ ابْنُهُ صَارَ وَصِيَّهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَصَّيْت لَك فَانٍ تَابَ ابْنِي عَنْ فِسْقِهِ، أَوْ قَدِمَ مِنْ غَيْبَتِهِ، أَوْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، أَوْ صَالَحَ أُمَّهُ، أَوْ رَشَدَ، فَهُوَ وَصِيِّي. صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، وَيَصِيرُ وَصِيًّا عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الشُّرُوطِ. [مَسْأَلَةٌ الْوَصِيَّةِ إلَى الْفَاسِقِ] (4776) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ خَائِنًا، جُعِلَ مَعَهُ أَمِينٌ) ظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْفَاسِقِ، وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَمِينٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَدْلًا فَتَغَيَّرَتْ حَالُهُ إلَى الْخِيَانَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَمِينٌ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ: إذَا كَانَ الْوَصِيُّ مُتَّهَمًا، لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِمَوْضِعٍ لِلْوَصِيَّةِ، فَقَالَ لِلْآخَرِ: أَعْطِنِي. لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا، لَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعٍ لِلْوَصِيَّةِ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ الْمَرِيضُ قَدْ رَضِيَ بِهِ؟ فَقَالَ: وَإِنْ رَضِيَ بِهِ. فَظَاهِرُ هَذَا إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ وَكَلَامَ أَحْمَدَ فِي إبْقَائِهِ فِي الْوَصِيَّةِ، عَلَى أَنَّ خِيَانَتَهُ طَرَأَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ خِيَانَتُهُ مَوْجُودَةً حَالَ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ عَلَى يَتِيمٍ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وِلَايَةٌ وَأَمَانَةٌ، وَالْفَاسِقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِمَا. فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ فَاسِقًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَا وَصِيَّ لَهُ، وَيَنْظُرُ فِي مَالِهِ الْحَاكِمُ. وَإِنْ طَرَأَ فِسْقُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، زَالَتْ وِلَايَتُهُ وَأَقَامَ الْحَاكِمُ مُقَامَهُ أَمِينًا. هَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: لَا تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَمِينٌ يَنْظُرُ مَعَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ حِفْظُ الْمَالِ بِالْأَمِينِ، وَتَحْصِيلُ نَظَرِ الْوَصِيِّ بِإِبْقَائِهِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْمَالِ بِالْأَمِينِ، تَعَيَّنَ إزَالَةُ يَدِ الْفَاسِقِ الْخَائِنِ وَقَطْعُ تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ عَلَى الْيَتِيمِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ قَوْلِ الْمُوصِي الْفَاسِدِ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْفِسْقِ الطَّارِئِ وَبَيْنَ الْمُقَارِنِ، فَبَعِيدٌ؛ فَإِنَّ الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ، كَاعْتِبَارِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 فِي الِابْتِدَاءِ، سِيَّمَا إذَا كَانَتْ لِمَعْنًى يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الدَّوَامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّفْرِيقِ، لَكَانَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الدَّوَامِ أَوْلَى، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفِسْقَ إذَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَصِيَّةِ، فَقَدْ رَضِيَ بِهِ الْمُوصِي، مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ، وَأَوْصَى إلَيْهِ رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ مَعَ فِسْقِهِ، فَيُشْعِرُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى الْيَتِيمِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّفْرِيطِ فِيهِ وَخِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَرَأَ الْفِسْقُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَالِاعْتِبَارُ بِرِضَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى إلَى وَاحِدٍ، جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ وَحْدَهُ، وَلَوْ وَصَّى إلَى اثْنَيْنِ، لَمْ يَجُزْ لِلْوَاحِدِ التَّصَرُّفُ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةَ لَلْعَدْلُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ النَّظَرِ لِعِلَّةِ أَوْ ضَعْفٍ] (4777) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْعَدْلُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ النَّظَرِ، لِعِلَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، فَإِنْ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ إلَيْهِ، وَيَضُمُّ إلَيْهِ الْحَاكِمُ أَمِينًا، وَلَا يُزِيلُ يَدَهُ عَنْ الْمَالِ، وَلَا نَظَرَهُ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ وَالْأَمَانَةِ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ. وَهَكَذَا إنْ كَانَ قَوِيًّا، فَحَدَثَ فِيهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ، ضَمَّ الْحَاكِمُ إلَيْهِ يَدًا أُخْرَى، وَيَكُون الْأَوَّلُ هُوَ الْوَصِيُّ دُونَ الثَّانِي، وَهَذَا مُعَاوِنٌ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَلَا أَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا. [فَصْل تَغَيَّرَتْ حَالُ الْوَصِيِّ بِجُنُونِ أَوْ كُفْرٍ أَوْ سَفَهٍ] (4778) فَصْلٌ: وَإِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ الْوَصِيِّ بِجُنُونٍ، أَوْ كُفْرٍ، أَوْ سَفَهٍ، زَالَتْ وِلَايَتُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوصَ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ، فَيُقِيمُ أَمِينًا نَاظِرًا لِلْمَيِّتِ فِي أَمْرِهِ وَأَمَرَ أَوْلَادَهُ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُخْلِفْ وَصِيًّا. وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ، ثُمَّ عَادَ فَكَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ جَامِعًا لِشُرُوطِ الْوَصِيَّةِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ مَوْجُودَةٌ حَالَ الْعَقْدِ وَالْمَوْتِ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَتَغَيَّرْ حَالُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْطُلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ مِنْهَا حَالَةٌ لِلْقَبُولِ وَالرَّدِّ، فَاعْتُبِرَتْ الشُّرُوطُ فِيهَا. فَأَمَّا إنْ زَالَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَانْعَزَلَ، ثُمَّ عَادَ، فَكَمَّلَ الشُّرُوطَ، لَمْ تَعُدْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهَا زَالَتْ، فَلَا تَعُودُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. [فَصْلٌ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي] (4779) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهَا إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَصَحَّ قَبُولُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَالتَّوْكِيلِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي وَقْتٍ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَبُولِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ وَصِيَّةٍ، فَصَحَّ قَبُولُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَمَتَى قَبِلَ صَارَ وَصِيًّا، وَلَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ مَتَى شَاءَ، مَعَ الْقُدْرَة وَالْعَجْزِ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي وَبَعْدَ مَوْتِهِ، بِمَشْهَدٍ مِنْهُ وَفِي غَيْبَتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِحَالٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَيَاتِهِ إلَّا بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 الْتِزَامِ وَصِيَّتِهِ، وَمَنَعَهُ بِذَلِكَ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ " رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، لَيْسَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَكَانَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ، كَالْوَكِيلِ. [فَصْلٌ الرَّجُلِ يُوصِي إلَى الرَّجُلِ وَيَجْعَلُ لَهُ دَرَاهِم مُسَمَّاةً] (4780) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْوَصِيِّ جُعْلًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَجُوزُ بِجُعْلٍ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ. وَقَدْ نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، فِي الرَّجُلِ يُوصِي إلَى الرَّجُلِ، وَيَجْعَلُ لَهُ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً، فَلَا بَأْسَ. وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ جَائِزَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُمْ، وَمُقَاسَمَتُهُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ. [فَصْلٌ أُوصَى إلَى رَجُلٍ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ يَشَاءُ] (4781) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى إلَى رَجُلٍ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ يَشَاءُ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَذِنْت لَك أَنْ تُوصِيَ إلَى مَنْ شِئْت، أَوْ كُلُّ مَنْ أَوْصَيْت إلَيْهِ فَقَدْ أَوْصَيْت إلَيْهِ، أَوْ فَهُوَ وَصِيٌّ صَحَّ، وَلَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ مَنْ يَرَاهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى إلَيْهِمَا مَعًا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِتَوْلِيَةٍ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصِيَ، كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ، كَالْوَكِيلِ إذَا أُمِرَ بِالتَّوْكِيلِ، وَالْوَكِيلُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ أَوْصَى إلَيْهِ، وَأَطْلَقَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْإِيصَاءِ وَلَا نَهَاهُ عَنْهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ الْوَصِيَّةُ، كَالْأَبِ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ فِي الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَوْلِيَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفْوِيضُ، كَالْوَكِيلِ، وَيُخَالِفُ الْأَبَ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِغَيْرِ تَوْلِيَةٍ. [مَسْأَلَةٌ كَانَا وَصِيَّيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا] (4782) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَا وَصِيَّيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، أُقِيمَ مُقَامَ الْمَيِّتِ أَمِينٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْوَصِيَّةُ إلَى اثْنَيْنِ، فَمَتَى أَوْصَى إلَيْهِمَا مُطْلَقًا، لَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ جُنَّ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ عَزْلَهُ، أَقَامَ الْحَاكِمُ مُقَامَهُ أَمِينًا؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 لَمْ يَرْضَ بِنَظَرِ هَذَا الْبَاقِي مِنْهُمَا وَحْدَهُ. فَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ رَدَّ النَّظَرِ إلَى الْبَاقِي مِنْهُمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا فِي جَوَازِهِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَوْ كَانَ لَهُ لِمَوْتِ الْمُوصِي عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، كَانَ لَهُ رَدُّهُ إلَى وَاحِدٍ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَيَكُونُ نَاظِرًا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ الْمُوصِي، وَالْأَمَانَةِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِم. وَلَنَا، أَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ هَذَا وَحْدَهُ، فَوَجَبَ ضَمُّ غَيْرِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ. وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُمَا جَمِيعًا بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَنْصِبَ مَكَانَهُمَا. وَهَلْ لَهُ نَصْبُ وَاحِدٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عُدِمَ الْوَصِيَّانِ، صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوصِ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ لَاكْتُفِيَ بِوَاحِدٍ، كَذَا هَاهُنَا. وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حَيًّا؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهَا وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَا مَعًا. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ إلَّا اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ بِوَاحِدٍ، فَلَمْ يَقْتَنِعْ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَيًّا. فَأَمَّا إنْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ مُنْفَرِدًا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْوَصِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ مُقَامَهُ أَمِينًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا لَهُ النَّظَرُ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ مَاتَا مَعًا، أَوْ خَرَجَا عَنْ الْوَصِيَّةِ، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ وَاحِدًا يَتَصَرَّفُ. وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ تَغْيِيرًا لَا يُزِيلُهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ، كَالْعَجْزِ عَنْهَا لِضَعْفٍ أَوْ عِلَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَا مِمَّنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفُ مُنْفَرِدًا، فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا أَمِينًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا يَكْفِي، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُمَا يَعْجِزُ عَنْ التَّصَرُّفِ وَحْدَهُ؛ لِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَنَحْوِهِ، فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ أَمِينًا. وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ لَيْسَ لَأَحَدِهِمَا التَّصَرُّفُ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ مُقَامَ مَنْ ضَعُفَ عَنْهَا أَمِينًا، يَتَصَرَّفُ مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيَصِيرُونَ ثَلَاثَةً؛ الْوَصِيَّانِ وَالْأَمِينُ مَعَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ التَّصَرُّفُ وَحْدَهُ. [فَصْل اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ عِنْدَ مَنْ يُجْعَلُ الْمَالُ مِنْهُمَا] (4783) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ عِنْدَ مَنْ يُجْعَلُ الْمَالُ مِنْهُمَا، لَمْ يُجْعَلْ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُقْسَمْ بَيْنَهُمَا، وَجُعِلَ فِي مَكَان تَحْتَ أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَأْمَنْ أَحَدَهُمَا عَلَى حِفْظِهِ، وَلَا التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْعَلُ عِنْدَ أَعْدَلِهِمَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ اخْتَلَفُوا فِي مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا أَرَادَ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوصًى إلَيْهِ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ عَامٌّ فِيهِمَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 وَلَنَا، أَنَّ حِفْظَ الْمَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوصَى بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِهِ، كَالتَّصَرُّفِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِحِفْظِ بَعْضِهِ، لَجَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ فِي بَعْضِهِ. [فَصْلٌ الدُّخُولِ فِي الْوَصِيَّةِ] (4784) فَصْلٌ: لَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، كَانَ بَعْضُهُمْ يُوصِي إلَى بَعْضٍ، فَيَقْبَلُونَ الْوَصِيَّةَ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَنَّهُ لَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ أَوْصَى إلَى عُمَرَ. وَأَوْصَى إلَى الزُّبَيْرِ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَمُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَآخَرُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ وَصِيًّا لَرَجُلٍ. وَفِي وَصِيَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنْ حَدَثَ بِي حَادِثُ الْمَوْتِ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَنَّ مَرْجِعَ وَصِيَّتِي إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ثُمَّ إلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. وَلِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَأَمَانَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الْوَدِيعَةَ وَالْوَكَالَةَ فِي الْحَيَاةِ. وَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ تَرْكَ الدُّخُولِ فِيهَا أَوْلَى؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ، وَهُوَ لَا يَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ كَانَ يَرَى تَرْكَ الِالْتِقَاطِ، وَتَرْكُ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، تَحَرِّيًا لِلسَّلَامَةِ، وَاجْتِنَابًا لِلْخَطَرِ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، فَلَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ مَاتَ رَجُلٌ لَا وَصِيَّ لَهُ وَلَا حَاكِمَ فِي بَلَدِهِ] (4785) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ لَا وَصِيَّ لَهُ، وَلَا حَاكِمَ فِي بَلَدِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ لَرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ، وَيَبِيعَ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ، فَإِنَّ صَالِحًا نَقَلَ عَنْهُ، فِي رَجُلٍ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ، لَا قَاضِيَ بِهَا، مَاتَ وَخَلَّفَ جَوَارِيَ وَمَالًا أَتَرَى لَرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَيْعَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَمَّا الْمَنَافِعُ وَالْحَيَوَانُ، فَإِنْ اُضْطُرُّوا إلَى بَيْعِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَاضٍ، فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا الْجَوَارِي فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَلَّى بِيعَهُنَّ حَاكِمٌ مِنْ الْحُكَّامِ. وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْ بَيْعِ الْإِمَاءِ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ بَيْعَهُنَّ يَتَضَمَّنُ إبَاحَةَ فَرْجٍ، وَأَجَازَ بَيْعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَة. [فَصْلٌ أُوصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ مَالٍ] (4786) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ مَالٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَأَبْوَابِ الْبِرِّ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا، إنَّمَا أُمِرَ بِتَنْفِيذِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا قَالَ الْمُوصِي: جَعَلْت لَك أَنْ تَضَعَ ثُلُثِي حَيْثُ شِئْت، أَوْ حَيْثُ رَأَيْت. فَلَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمُوصِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَخْذَهُ مِنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ الَّذِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 يُصْرَفُ إلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَوْ عَادَتُهُ الْأَخْذُ مِنْ مِثْلِهِ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ إعْطَاءَ وَلَدِهِ وَسَائِرِ أَقَارِبِهِ إذَا كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ دُونَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّفْرِيقِ، وَقَدْ فَرَّقَ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَلَكَهُ بِالْإِذْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا مِنْ نَفْسِهِ. [فَصْلٌ وَصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ فَأَبَى الْوَرَثَةُ إخْرَاجَ ثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهمْ] (4787) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ، فَأَبَى الْوَرَثَةُ إخْرَاجَ ثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُخْرِجُ الثُّلُثَ كُلَّهُ مِمَّا فِي يَدِهِ. نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَجْزَاءِ التَّرِكَةِ، فَجَازَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، كَمَا يَدْفَعُ إلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ. وَالْأُخْرَى، يَدْفَعُ إلَيْهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَا يُعْطِيهِمْ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ حَتَّى يُخْرِجُوا ثُلْثَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. نَقَلَهَا أَبُو الْحَارِثِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا كَانَ لِلْمَدِينِ فِي يَدَيْهِ مَالٌ، لَمْ يَمْلِكْ اسْتِيفَاءَهُ مِمَّا فِي يَدَيْهِ، كَذَا هَاهُنَا. وَيُمْكِنُ حَمْلُ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَالُ جِنْسًا وَاحِدًا، فَلِلْمُوصِي أَنْ يُخْرِجَ الثُّلُثَ كُلَّهُ مِمَّا فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْتِظَارِ إخْرَاجِهِمْ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَالُ أَجْنَاسًا، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِثُلُثِ كُلِّ جِنْسٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ عِوَضًا عَنْ ثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ لَا تَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَلِمَ الْوَصِيُّ أَنَّ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا] (4788) فَصْلٌ: إذَا عَلِمَ الْوَصِيُّ أَنَّ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا، إمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَقْضِيهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ ابْنُ الْمَيِّتِ يُصَدِّقُهُ؟ قَالَ: يَكُونُ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ مَنْ أَقَرَّ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ. وَقَالَ فِي مَنْ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: إنْ أَنَا مِتّ، فَادْفَعْهَا إلَى ابْنِي الْكَبِيرِ. وَلَهُ ابْنَانِ، أَوْ قَالَ: ادْفَعْهَا إلَى أَجْنَبِيٍّ. فَقَالَ: إنْ دَفَعَهَا إلَى أَحَدِ الِابْنَيْنِ، ضَمِنَ لِلْآخَرِ قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْآخَرِ، ضَمِنَ. وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّ، وَلَمْ يُقِرُّوا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَأَذِنَ لِي، إثْبَاتُ وِلَايَةٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، وَلَا شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْوِلَايَةِ. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو دَاوُد، فِي رَجُلٍ أَوْصَى أَنَّ لَفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، يَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يُنْفِذَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ إنْ لَمْ يُنْفِذْهُ. فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ يُصَدِّقُونَ الْوَصِيَّ أَوْ الْمُدَّعِيَ، أَوْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَمُوَافِقَةً لِلدَّلِيلِ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ عِلْمَ الْمُوصَى إلَيْهِ لَرَجُلٍ حَقًّا عَلَى الْمَيِّتِ، فَجَاءَ الْغَرِيمُ يُطَالِبُ الْوَصِيَّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 وَقَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي لِيَسْتَحْلِفَهُ أَنَّ مَالِي فِي يَدَيْك حَقٌّ. فَقَالَ: لَا يَحْلِفُ. وَيُعْلِمُ الْقَاضِيَ بِالْقَضِيَّةِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ الْقَاضِي فَهُوَ أَعْلَمُ. فَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ قَبُولُهَا، وَقَضَاءُ، الدَّيْنِ بِهَا، مِنْ غَيْرِ حُضُورِ حَاكِمٍ؟ فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، قَالَ: لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ بِدَعْوَاهُ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ جَوَّزَ الدَّفْعَ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَهُ حُجَّةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ أُخَرَ: إلَّا أَنْ يُثْبِتَ بَيِّنَةً عِنْدَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا إنْ صَدَّقَهُمْ الْوَرَثَةُ عَلَى ذَلِكَ. قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَبْدَيْنِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا] (4789) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، عَبْدَيْنِ، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَتَانِ، وَالْآخَرِ ثَلَاثُمِائَةٍ، فَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَتَانِ، عَتَقَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْجَمِيعِ. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْآخَرِ، عَتَقَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مِلْكِ الْمَيِّتِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ، فَضُرِبَ فِي ثَلَاثَةٍ، فَأُخِذَ ثُلُثُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَأَمَّا إنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَتَانِ، ضَرَبْنَاهُ فِي ثَلَاثَةٍ، فَصَيَّرْنَاهُ سِتَّمِائَةٍ، فَصَارَ الْعِتْقُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ. وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ فِي الْآخَرِ إذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ. وَكُلُّ شَيْءٍ يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُضْرَبَ فِي ثَلَاثَةٍ، لِيَخْرُجَ بِلَا كَسْرٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَحْكَامٍ أَرْبَعَةٍ؛ مِنْهَا أَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ، لَا يَجُوزُ مِنْهُ إلَّا ثُلُثُ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.، وَحُكِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ، فِي مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ: أُجِيزُهُ بِرُمَّتِهِ، شَيْءٌ جَعَلَهُ لِلَّهِ لَا أَرُدُّهُ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ يُخَالِفُ الْأَثَرَ وَالنَّظَرَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ. الثَّانِي، أَنَّ الْعِتْقَ إذَا كَانَ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ، كَمَّلْنَا الثُّلُثَ فِي وَاحِدٍ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَمَّلْنَا الْعِتْقَ فِي بَعْضِهِمْ بِالْقُرْعَةِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَذْكُورِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا جُزْءٌ مِنْ عَبْدٍ، عَتَقَ ذَلِكَ الْجُزْءُ خَاصَّةً، وَرُقَّ بَاقِيهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْعِتْقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعُ، إثْبَاتُ الْقُرْعَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عِمْرَانَ، وَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَعْبُدِ الَّذِينَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ، فَإِنَّ الْعَبِيدَ إنْ تَسَاوَتْ قِيمَتُهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ ثُلْثٌ صَحِيحٌ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 كَسِتَّةِ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْمَالِ، جَعَلْنَا كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثًا، وَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ، وَسَهْمَيْ رِقٍّ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاَللَّذَانِ يَقَعُ لَهُمَا سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ يُعْتَقَانِ، وَيُرَقُّ الْآخَرُونَ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَسْرٌ، كَمَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ، أَقْرَعْت بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، فَأَيُّهُمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ، ضَرَبْت قِيمَتَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، فَمَهْمَا بَلَغَ نَسَبْت إلَيْهِ قِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا، فَمَهْمَا خَرَجَ بِالنِّسْبَةِ، فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْتَقُ مِنْهُ. فَقِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إذَا وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَتَانِ، ضَرَبْتهمَا فِي ثَلَاثَةٍ، صَارَتْ سِتَّمِائَةٍ، وَنَسَبْت مِنْهَا قِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ مَعًا، وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، تَجِدُهَا خَمْسَةَ أَسْدَاسِهَا، فَيُعْتَقُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْآخَرِ، عَتَقَ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ. وَتَمَامُ شَرْحِ ذَلِكَ يَأْتِي فِي بَابِ الْعِتْقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ الْوَصِيَّةَ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ] (4790) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ لِرَجُلٍ، وَلَمْ يُسَمِّ الْعَبْدَ، كَانَ لَهُ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ، إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِلَّا مَلَكَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، وَشَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ، تَصِحُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُولِ تَصِحُّ فِيمَا مَضَى. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَحَدَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ إِسْحَاقَ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، أَنَّهُ يُعْطَى أَحْسَنَهُمْ. يَعْنِي يُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا أَحَبُّوا مِنْ الْعَبِيدِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ قَوْلًا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدْ، فَلَهُ ثُلُثُهُمْ. وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَلَهُ رُبْعُهُمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَوْصَى بِعَشْرٍ مِنْ إبِلِهِ، وَهِيَ مِائَةٌ، يُعْطَى عُشْرَهَا، وَالنَّخْلُ، وَالرَّقِيقُ، وَالدَّوَابُّ عَلَى ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْطَى عَشْرَةً بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ، وَلَفْظُهُ هُوَ الْمُقْتَضِي، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُعْطَى وَاحِدًا بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَلَيْسَ وَاحِدٌ بِأَوْلَى مِنْ وَاحِدٍ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَعَلَى مَا نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، يُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مِنْ عَبِيدِهِ مَا شَاءُوا، مِنْ صَحِيحٍ أَوْ مَعِيبٍ جَيِّدٍ أَوْ رَدِيءٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَبْدِ فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِعَبْدٍ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى عَبِيدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ. تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ فَمَاتُوا كُلُّهُمْ إلَّا وَاحِدًا، تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْبَاقِي. وَإِنْ تَلِفَ رَقِيقُهُ جَمِيعُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ قُتِلُوا، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمَوْتِ، وَلَا رَقِيقَ لَهُ حِينَئِذٍ. وَإِنْ تَلِفُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ عِنْدَ الْوَرَثَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ فِعْلِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَهُمْ قَاتِلٌ، فَلِلْمُوصَى لَهُ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ، مَبْنِيًّا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي. وَلَا عَبِيدَ لَهُ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِلَا شَيْءٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِمَا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 كِيسِي. وَلَا شَيْءَ فِيهِ، أَوْ بِدَارِي. وَلَا دَارَ لَهُ، فَإِنْ اشْتَرَى قَبْلَ مَوْتِهِ عَبِيدًا، احْتَمَلَ أَنْ لَا تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَاطِلَةً، فَلَمْ تَصِحَّ. كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِمَا فِي كِيسِي. وَلَا شَيْءَ فِيهِ، ثُمَّ جَعَلَ فِي كِيسِهِ شَيْئًا. وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَقْتَضِي عَبْدًا مِنْ الْمَوْجُودِينَ لَهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِأَلْفٍ لَا يَمْلِكُهُ، ثُمَّ مَلَكَهُ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ عَبِيدِهِ، ثُمَّ مَلَكَ عَبِيدًا آخَرِينَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ: اُعْطُوا فُلَانًا مِنْ كِيسِي مِائَةَ دِرْهَمٍ. فَلَمْ يُوجَدْ فِي كِيسِهِ شَيْءٌ. يُعْطَى مِائَةَ دِرْهَمٍ. فَلَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إعْطَاءَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَظَنَّهَا فِي الْكِيسِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْكِيسِ، أُعْطِيَ مِنْ غَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي الْوَصِيَّةِ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَبِيدٌ، أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ عَبْدٌ، وَيُعْطَى إيَّاهُ. [فَصْلٌ وَصَّى الرَّجُلُ بِعَبْدِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَيُشْتَرَى لَهُ عَبْدٌ] (4791) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى الرَّجُلُ بِعَبْدٍ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَيُشْتَرَى لَهُ عَبْدٌ أَيُّ عَبْدٍ كَانَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ، أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا، وَلَا قُرْعَةَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الرَّقِيقَ إلَى نَفْسِهِ، وَلَا جَعَلَهُ وَاحِدًا مِنْ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُوصَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَقَلِّ مَنْ يُسَمَّى عَبْدًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِعَبْدٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ مَا شَاءُوا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا ذَكَرًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . وَالْمَعْطُوفُ يُغَايِرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ ظَاهِرًا. وَلِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ إلَّا الذَّكَرُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرَاءُ أَمَةٍ، فَلَا تَنْصَرِفُ وَصِيَّتُهُ إلَّا إلَى الذَّكَرِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِأَمَةٍ أَوْ جَارِيَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أُنْثَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ خُنْثَى مُشْكِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ رَقِيقِهِ، أَوْ بِرَأْسٍ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، دَخَلَ فِي وَصِيَّتِهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْخُنْثَى. [فَصْلٌ وَصَّى لَهُ بِشَاةِ مِنْ غَنَمِهِ] (4792) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الْوَصِيَّةِ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، وَيَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الشَّاةَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ.» يُرِيدُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَالصِّغَارَ وَالْكِبَارَ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا أُنْثَى كَبِيرَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَتَنَاوَلُ عُرْفُهُمْ إلَّا الْإِنَاثَ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ إرَادَةُ مَا يَتَعَارَفُونَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 وَإِنْ وَصَّى بِكَبْشٍ، لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الذَّكَرَ الْكَبِيرَ مِنْ الضَّأْنِ. وَالتَّيْسُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى الذَّكَرِ الْكَبِيرِ مِنْ الْمَعْزِ. وَإِنْ وَصَّى بِعَشْرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ، يَتَنَاوَلُ عَشْرَةً مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ. [فَصْلٌ إنَّ وَصَّى بِجَمَلِ لَمْ يَكُنْ إلَّا ذَكَرًا] (4793) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِجَمَلٍ، لَمْ يَكُنْ إلَّا ذَكَرًا. وَإِنْ وَصَّى بِنَاقَةٍ، لَمْ تَكُنْ إلَّا أُنْثَى. وَإِنْ قَالَ: عَشْرَةً مِنْ إبِلٍ، وَقَعَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنْ قَالَ: عَشْرَةً بِالْهَاءِ، فَهُوَ لِلذُّكُورِ، وَإِنْ قَالَ عَشْرٌ، فَهُوَ لِلْإِنَاثِ، وَكَذَلِكَ فِي الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ فِي الْعَشَرَةِ إلَى الثَّلَاثَةِ لِلْمُذَكَّرِ بِالْهَاءِ، وَلِلْمُؤَنَّثِ بِغَيْرِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] . وَإِنْ قَالَ: أَعْطُوهُ بَعِيرًا. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هُوَ لِلذَّكَرِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لَهُ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي، هُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا. تَقُولُ الْعَرَبُ: حَلَبْت الْبَعِيرَ. تُرِيدُ النَّاقَةَ، فَالْجَمَلُ فِي لِسَانِهِمْ كَالرَّجُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَالنَّاقَةُ كَالْمَرْأَةِ، وَالْبَكْرَةُ كَالْفَتَاةِ. وَكَذَلِكَ الْقَلُوصُ وَالْبَعِيرُ كَالْإِنْسَانِ. [فَصْلٌ وَصَّى بِدَابَّةِ فَمَاذَا تَكُون] (4794) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِثَوْرٍ فَهُوَ ذَكَرٌ. وَإِنْ وَصَّى بِبَقَرَةٍ، فَهِيَ أُنْثَى. وَإِنْ وَصَّى بِدَابَّةٍ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي الْعُرْفِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. وَإِنْ قَرَنَ بِهِ مَا يَصْرِفُهُ إلَى أَحَدِهِمَا، مِثْلُ إنْ قَالَ: دَابَّةٌ يُقَاتِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يُسْهَمُ لَهَا. انْصَرَفَ إلَى الْخَيْلِ. وَإِنْ قَالَ: دَابَّةٌ يَنْتَفِعُ بِظَهْرِهَا وَنَسْلِهَا، خَرَجَ مِنْهُ الْبِغَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسْلَ لَهَا، وَخَرَجَ مِنْهُ الذُّكُورُ كَذَلِكَ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِحِمَارٍ، فَهُوَ ذَكَرٌ. وَإِنْ وَصَّى بِأَتَانٍ، فَهِيَ أُنْثَى. وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ، إذَا كَانَ لَهُ أَعْدَادٌ مِنْ جِنْسِ مَا وَصَّى لَهُ بِهِ، فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، يُعْطِهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا، وَلَا يَسْتَحِقُّ، لِلدَّابَّةِ سَرْجًا، وَلَا لِلْبَعِيرِ رَحْلًا، إلَّا أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْوَصِيَّةِ. [فَصْلٌ أَوْصَى بِكَلْبِ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ] (4795) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى بِكَلْبٍ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا، وَتُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ، فَتَصِحُّ فِي الْمَالِ، وَفِي غَيْرِ الْمَالِ، مِنْ الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّهُ تَصِحُّ هِبَتُهُ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، كَالْمَالِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، سَوَاءٌ قَالَ: كَلْبًا مِنْ كِلَابِي، أَوْ قَالَ مِنْ مَالِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 ابْتِيَاعُ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ الشَّاةِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، فَلَهُ ثُلُثُهُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، فَقَدْ قِيلَ: لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ الْكَلْبِ وَإِنْ قَلَّ الْمَالُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ؛ لِكَوْنِهِ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقِيلَ: لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ ثُلُثُهُ. وَإِنْ كَثُرَ الْمَالُ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْوَصِيَّةِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ ثُلُثَا التَّرِكَةِ لِلْوَرَثَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْمُوصَى بِهِ. وَإِنْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِكِلَابِهِ، وَلَآخِرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الثُّلُثُ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْكِلَابِ ثُلُثُهَا، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ ثُلُثَيْ الْمَالِ قَدْ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ الثُّلُثُ، فَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِمْ فِي حَقِّ الْكِلَابِ. وَلَوْ وَصَّى بِثُلْثِ مَالِهِ، وَلَمْ يُوصِي بِالْكِلَابِ، دُفِعَ إلَيْهِ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلَمْ يَحْتَسِبْ بِالْكِلَابِ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ. وَإِذَا قَسَمَتْ الْكِلَابُ بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ، أَوْ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُوصًى لَهُمَا بِهَا، قُسِمَتْ عَلَى عَدَدِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا، فَإِنْ تَشَاحُّوا فِي بَعْضِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِكَلْبٍ، وَلِلْمُوصِي كِلَابٌ يُبَاحُ اتِّخَاذُهَا، كَكِلَابِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ، فَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا بِالْقُرْعَةِ، أَوْ مَا أَحَبَّ الْوَرَثَةُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ يُبَاحُ اتِّخَاذُهُ، وَكَلْبٌ لِلْهِرَاشِ، فَلَهُ الْكَلْبُ الْمُبَاحُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَنَحْوِ مِمَّا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِكَلْبٍ مَا أَحَبَّ الْوَرَثَةُ دَفْعَهُ إلَيْهِ. وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِكَلْبِ الْهِرَاشِ، وَلَا كَلْبٍ غَيْرِ الْكِلَابِ الثَّلَاثَةِ. وَفِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَرْوِ الصَّغِيرِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَرْبِيَتِهِ لِلصَّيْدِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِخِنْزِيرٍ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ كَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالذِّئْبِ؛ لِأَنَّهَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا، وَلَا تَصِحُّ بِشَيْءٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا. [فَصْل وَصَّى لَهُ بِطَبْلِ حَرْبٍ] (4796) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِطَبْلِ حَرْبٍ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مُبَاحَةً. وَإِنْ كَانَ بِطَبْلِ لَهْوٍ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ إذَا فُصِلَ صَلَحَ لِلْحَرْبِ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الْحَالِ مَعْدُومَةٌ. فَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ قَائِمَةٌ بِهِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِطَبْلٍ، وَأَطْلَقَ، وَلَهُ طَبْلَانِ، تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، انْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى مَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ طُبُولٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِهَا، فَلَهُ أَخْذُهَا بِالْقُرْعَةِ، أَوْ مَا شَاءَ الْوَرَثَةُ، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ وَصَّى بِدُفٍّ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ.» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمِزْمَارٍ، وَلَا طُنْبُورٍ، وَلَا عُودٍ مِنْ عِيدَانِ اللَّهْوِ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَوْتَارُ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُهَيَّأٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ الْأَوْتَارُ. [فَصْلٌ أَوْصَى لَهُ بِقَوْسِ] (4797) فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِقَوْسٍ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَإِنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مُبَاحَةً، سَوَاءٌ كَانَ قَوْسَ نَشَّابٍ، وَهُوَ الْفَارِسِيُّ، أَوْ نَبْلٍ وَهُوَ الْعَرَبِيُّ، أَوْ قَوْسٍ يَمَجْرَى، أَوْ قَوْسَ زُنْبُورٍ، أَوْ جُوخٍ، أَوْ نَدْفٍ أَوْ بُنْدُقٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قَوْسٌ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْقِسِيِّ، تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ جَمِيعُهَا، وَكَانَ فِي لَفْظِهِ أَوْ حَالِهِ قَرِينَةٌ تُصْرَفُ إلَى أَحَدِهَا، انْصَرَفَ إلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَوْسًا يَنْدِفُ بِهِ، أَوْ يَتَعَيَّشُ بِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَصْرِفُهُ إلَى قَوْسِ النَّدْفِ. وَإِنْ قَالَ: يَغْزُو بِهِ. خَرَجَ مِنْهُ قَوْسُ النَّدْفِ، وَالْبُنْدُقِ. وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ نَدَّافًا لَا عَادَةَ لَهُ بِالرَّمْيِ، أَوْ بُنْدُقَانِيًّا لَا عَادَةَ لَهُ بِالرَّمْيِ بِشَيْءٍ سِوَاهُ، أَوْ يَرْمِي بِقَوْسٍ غَيْرِهِ لَا يَرْمِي بِسِوَاهُ، انْصَرَفْت الْوَصِيَّةُ إلَى الْقَوْسِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ عَادَةً؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُوصِي أَنَّهُ قَصَدَ نَفْعَهُ بِمَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَإِنْ انْتَفَتْ الْقَرَائِنُ، فَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ لَهُ وَاحِدًا مِنْ جَمِيعِهَا بِالْقُرْعَةِ، أَوْ مَا يَخْتَارُهُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ لَا تَتَنَاوَلُ قَوْسَ النَّدْفِ، وَلَا الْبُنْدُقِ، وَلَا الْعَرَبِيَّةَ فِي بَلَدٍ لَا عَادَةَ لَهُمْ بِالرَّمْيِ بِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْعَرَبِيَّةَ، وَيَكُونُ لَهُ وَاحِدٌ مِمَّا عَدَا هَذِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْقَوْسِ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ غَيْرِ أَهْلِهَا حَتَّى يَصِفَهَا، فَيَقُولَ: قَوْسُ الْقُطْنِ، أَوْ النَّدْفِ، أَوْ قَوْسُ الْبُنْدُقِ. وَأَمَّا الْعَرَبِيَّةُ فَلَا يَتَعَارَفُهَا غَيْرُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُوصِي غَالِبًا. وَيُعْطَى الْقَوْسَ مَعْمُولَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى قَوْسًا إلَّا كَذَلِكَ. وَلَا يَسْتَحِقُّ وَتَرَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهَا دُونَهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُعْطَاهَا بِوَتَرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِهِ، فَكَانَ كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا. [فَصْلٌ وَصَّى لَهُ بِعُودِ وَلَهُ عُودُ لَهْوٍ وَغَيْرِهِ] (4798) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِعُودٍ، وَلَهُ عُودُ لَهْوٍ وَغَيْرِهِ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَنْصَرِفُ إلَى عُودِ اللَّهْوِ، وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِعَدَمِ النَّفْعِ الْمُبَاحِ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا عِيدَانُ قِسِيٍّ، أَوْ عُودٌ يَتَبَحَّرُ بِهِ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعِيدَانِ الْمُبَاحَةِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَانْصَرَفَتْ إلَيْهَا؛ لِعَدَمِ غَيْرِهَا، وَتَعَيُّنِهَا مَعَ إبَاحَتِهَا. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِجَرَّةِ فِيهَا خَمْرٌ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِالْجَرَّةِ، وَبَطَلَتْ فِي الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ فِي الْجَرَّةِ نَفْعًا مُبَاحًا، وَالْخَمْرُ لَا نَفْعَ فِيهِ مُبَاحٌ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِمَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ الْمُبَاحَةُ، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِخَمْرٍ وَخَلٍّ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِخَمْرٍ فِي جَرَّةٍ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَيْهِ الْخَمْرُ، وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُوصَى بِهِ إذَا تَلِفَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ] (4799) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَتَلِفَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ شَيْءٌ. وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ كُلُّهُ إلَّا الْمُوصَى بِهِ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِمَّنْ عَلِمْنَا قَوْلَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُوصَى بِهِ إذَا تَلِفَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ. كَذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: أَجْمَعَ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أُوصِيَ لَهُ بِشَيْءٍ، فَهَلَكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فِي سَائِرِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْوَصِيَّةِ لَا غَيْرُ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِمُعَيَّنٍ، وَقَدْ ذَهَبَ، فَذَهَبَ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، وَالتَّرِكَةُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ فِعْلِهِمْ، وَلَا تَفْرِيطِهِمْ، فَلَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا. وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ كُلُّهُ سِوَاهُ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِتَعْيِينِهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ يَمْلِكُ أَخْذَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَإِذْنِهِمْ، فَكَانَ حَقُّهُ فِيهِ دُونَ سَائِرِ الْمَالِ، وَحُقُوقُهُمْ فِي سَائِرِ الْمَالِ دُونَهُ، فَأَيُّهُمَا تَلِفَ حَقُّهُ لَمْ يُشَارِكْ الْآخَرَ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ كَانَ التَّلَفُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ وَقَبَضَهُ، وَكَالْوَرَثَةِ إذَا اقْتَسَمُوا، ثُمَّ تَلِفَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ خَلَّفَ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَوَصَّى لَرَجُلٍ بِالْعَبْدِ، فَسُرِقَتْ الدَّنَانِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ: فَالْعَبْدُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ. [فَصْلٌ وَصَّى لَهُ بِمُعِينِ فَاسْتُحِقَّ بَعْضُهُ أَوْ هَلَكَ] فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمُعَيَّنٍ، فَاسْتُحِقَّ بَعْضُهُ أَوْ هَلَكَ، فَلَهُ مَا بَقِيَ مِنْهُ، إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ عَبْدٍ أَوْ ثُلُثِ دَارٍ، فَاسْتُحِقَّ الثُّلُثَانِ مِنْهُ، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْمُوصَى لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ مُوصًى بِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، فَاسْتَحَقَّهُ الْمُوصَى لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ شَيْئًا مُعَيَّنًا. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ ثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ، فَهَلَكَ عَبْدَانِ، أَوْ اُسْتُحِقَّا، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصِ لَهُ مِنْ الْبَاقِي بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ شَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ زَمَانًا] (4801) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَأْخُذْهُ زَمَانًا، قُوِّمَ وَقْتَ الْمَوْتِ، لَا وَقْتَ الْأَخْذِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قِيمَةِ الْمُوصَى بِهِ وَخُرُوجِهَا مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ عَدَمِ خُرُوجِهَا، بِحَالَةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ لُزُومِ الْوَصِيَّةِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَالِ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، أَوْ دُونَهُ، نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ، وَاسْتَحَقَّهُ الْمُوصَى لَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 كُلَّهُ. فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَ مُعَادِلًا لِسَائِرِ الْمَالِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ هَلَكَ الْمَالُ كُلُّهُ سِوَاهُ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، لَا شَيْءَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ حِينَ الْمَوْتِ زَائِدًا عَنْ الثُّلُثِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ مِنْهُ قَدْرُ ثُلُثِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ نِصْفَ الْمَالِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَاهُ. وَإِنْ كَانَ ثُلُثَيْهِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ نِصْفُهُ. وَإِنْ كَانَ نِصْفَ الْمَالِ وَثُلُثَهُ، فَلِلْمُوصَى لَهُ خُمُسَاهُ. فَإِنْ نَقَصَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ سَائِرُ الْمَالِ أَوْ زَادَ، فَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ سِوَى مَا كَانَ لَهُ حِينَ الْمَوْتِ. فَلَوْ وَصَّى بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلَهُ مِائَتَانِ، فَزَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ كُلُّهُ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ حِينَ الْمَوْتِ مِائَتَيْنِ، لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا ثُلُثُ الْمَالِ. فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَزِدْ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ ثُلُثِهِ شَيْئًا، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ نِصْفُهُ، لَا يُزَادُ حَقُّهُ عَنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ نَقَصَ الْعَبْدُ أَوْ زَادَ. أَوْ نَقَصَ الْمَالُ أَوْ زَادَ. [فَصْل الْعَطَايَا فِي مَرَضِهِ هَلْ تَأْخُذ حُكْم الْوَصِيَّة] (4802) فَصْلٌ: وَالْعَطَايَا فِي مَرَضِهِ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ حِينَ الْمَوْتِ. نَقَلَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ، فِي مَنْ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَعَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَأَنْفَقَ الدَّرَاهِمَ: عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ ثُلُثُهُ. فَاعْتَبَرَ مَالَهُ حِينَ الْمَوْتِ مِنْ الْعَبْدِ لَا فِيمَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِينَ الْمَوْتِ إلَّا الْعَبْدُ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ، وَلَوْ لَمْ يَتْلَفْ الْأَلْفُ، لَعَتَقَ مِنْهُ ثُلُثَاهُ. وَلَوْ زَادَ مَالُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى بَلَغَ أَلْفَيْنِ، لَعَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَسَبَ الْعَبْدُ شَيْئًا، كَانَ كَسْبُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ، عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَيَدْخُلُهُ الدَّوْرُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَإِنْ تَلَفَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْوَرَثَةِ، حُسِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّرِكَةِ. [فَصْلٌ وَصَّى بِمُعِينِ حَاضِرٍ وَسَائِرُ مَالِهِ دِينٌ أَوْ غَائِبٌ] (4803) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِمُعَيَّنٍ حَاضِرٍ، وَسَائِرِ مَالِهِ دِينٌ أَوْ غَائِبٌ، فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَخْذُ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ أَوْ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ، فَلَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي الْمُعَيَّنِ كُلِّهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ لِلْوَصِيِّ ثُلُثَ الْمُعَيَّنِ. ذَكَرَهُ فِي الْمُدَبَّرِ. وَقِيلَ: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ شُرَكَاؤُهُ فِي التَّرِكَةِ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ. وَهَذَا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ مُسْتَقِرٌّ، فَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي وَقْفِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُخْلِفْ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ سَائِرُ الْمَالِ، لَوَجَبَ تَسْلِيمُ ثُلُثِ الْمُعَيَّنِ إلَى الْوَصِيِّ، وَلَيْسَ تَلَفُ الْمَالِ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ وَتَسْلِيمِهَا، وَلَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ الْمُسْتَقِرِّ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ الْوَرَثَةُ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ مُعْسِرًا مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُخَيَّرُ الْوَرَثَةُ بَيْنَ دَفْعِ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا، وَبَيْنَ جَعْلِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَعَدَلَ إلَى الْمُعَيَّنِ. وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ، فَيَنْفَرِدَ بِالتَّرِكَةِ عَلَى تَقْدِيرِ تَلَفِ الْبَاقِي قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى الْوَرَثَة، فَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ: إنْ رَضِيتُمْ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَعُودُوا إلَى مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْصَى بِمَا لَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ لِأَجْنَبِيٍّ، فَوَقَعَ لَازِمًا، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِمُشَاعٍ. وَمَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ جَعْلَ حَقِّهِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ إشَاعَةٌ، وَإِبْطَالٌ لِمَا عَيَّنَهُ، فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ مَا عَيَّنَهُ الْمُوصِي لِلْمُوصَى لَهُ، وَنَقْلُ حَقِّهِ إلَى مَا لَمْ يُوصِ بِهِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِمُشَاعٍ، لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إلَى مُعَيَّنٍ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ، وَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ أَوْ حَضَرَ مِنْ الْغَائِبِ شَيْءٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ مِنْ الْمُوصَى بِهِ، كَذَلِكَ حَتَّى يَكْمُلَ لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ، أَوْ يَأْخُذَ الْمُعَيَّنَ كُلَّهُ. فَلَوْ خَلَّفَ تِسْعَةً عَيْنًا، وَعِشْرِينَ دَيْنًا وَابْنًا، وَوَصَّى بِالتِّسْعَةِ لَرَجُلٍ، فَلِلْوَصِيِّ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةٌ، وَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَلِلْوَصِيِّ ثُلُثُهُ، فَإِذَا اُقْتُضِيَ ثُلُثُهُ فَلَهُ مِنْ التِّسْعَةِ وَاحِدٌ، حَتَّى يَقْتَضِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَيَكْمُلُ لَهُ التِّسْعَةُ. وَإِنْ جَحَدَ الْغَرِيمُ، أَوْ مَاتَ، أَوْ يَئِسَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الدِّينِ، أَخَذَ الْوَرَثَةُ السِّتَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ الْعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ تِسْعَةً، فَإِنَّ الِابْنَ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَيْنِ، وَيَأْخُذُ الْوَصِيُّ ثُلُثَهَا، وَيَبْقَى ثُلُثُهَا مَوْقُوفًا، كُلَّمَا اُسْتُوْفِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَلِلْوَصِيِّ مِنْ الْعَيْنِ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ، كُمِّلَ لِلْمُوصَى لَهُ سِتَّةٌ، وَهِيَ ثُلُثُ الْجَمِيعِ. وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِنِصْفِ الْعَيْنِ، أَخَذَ الْوَصِيُّ ثُلُثَهَا، وَأَخَذَ الِابْنُ نِصْفَهَا، وَبَقِيَ سُدُسُهَا مَوْقُوفًا، فَمَتَى اقْتَضَى مِنْ الدَّيْنِ مِثْلَيْهِ، كَمُلَتْ الْوَصِيَّةُ. [فَصْلٌ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فَوَصَّى لَرَجُلٍ بِثُلُثِهِ] (4804) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ، فَوَصَّى لَرَجُلٍ بِثُلُثِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْوَصِيَّةِ، فَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَهُ ثُلُثُهُ، وَلِلِابْنِ ثُلُثَاهُ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: هُوَ أَحَقُّ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ وَصِيَّتَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ الْحَاضِرِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَرَثَةَ شُرَكَاؤُهُ فِي الدَّيْنِ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْعَيْنِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَا خَرَجَ مِنْهُ دُونَهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكُهُ فِي الدَّيْنِ وَصِيًّا آخَرَ، أَوْ كَمَا لَوْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِالْعَيْنِ، وَلَهُ وَلِآخَرَ بِالدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمُنْفَرِدَ بِوَصِيَّةِ الدَّيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا خَرَجَ مِنْهُ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل وَصَّى لَرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ مِائَتَانِ دَيْنًا وَعَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةً وَوَصَّى لِآخَرَ بِثُلُثِ الْعَبْدِ] (4805) فَصْلٌ: وَلَوْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ مِائَتَانِ دَيْنًا، وَعَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةً، وَوَصَّى لِآخَرَ بِثُلُثِ الْعَبْدِ، اقْتَسَمَا ثُلُثَ الْعَبْدِ نِصْفَيْنِ، وَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ رُبْعُهُ، وَلَهُ وَلِلْآخَرِ مِنْ الْعَبْدِ بِقَدْرِ رُبُعِ مَا اُسْتُوْفِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ كُمِّلَ لِلْوَصِيَّيْنِ نِصْفُ الْعَبْدِ. وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ رُبُعُ الْمِائَتَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 وَذَلِكَ هُوَ ثُلُثُ الْمَالِ. وَإِنْ اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ قُسِمَا بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ رُبُعُ الْمِائَتَيْنِ وَرُبُعُ الْعَبْدِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَبْدِ، رُبْعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ الْمَالِ، وَالْجَائِزُ مِنْهُمَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَتْسَاعٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِمَا، فَرَدَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ، وَهِيَ رُبُعُ الْمَالِ كُلِّهِ لِصَاحِبِ ثُلُثِهِ، وَرُبْعُ الْعَبْدِ لِصَاحِبِ ثُلُثِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ سِوَى مَا قُلْنَاهُ، تَرَكْنَاهَا لِطُولِهَا، وَهَذَا أَسَدُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ أَلَا أَنَّنَا أَدْخَلْنَا النَّقْصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَمَّلْنَا لَهُمَا الثُّلُثَ، وَإِنْ أُجِيزَ لَهُمَا أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَقِيَ مِنْ وَصِيَّتِهِ، وَهُوَ رُبُعُهَا، فَيُكَمَّلُ ثُلُثُ الْمَالِ لِصَاحِبِهِ، وَثُلُثُ الْعَبْدِ لِلْآخِرِ. [فَصْلٌ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وِتْرِك عَشْرَةً عَيْنًا وَعَشْرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ وَهُوَ مُعَسِّر وَوَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِ مَالِهِ] (4806) فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَتَرَكَ عَشْرَةً عَيْنًا، وَعَشْرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَوَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ وَالِابْنَ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَقْتَسِمَانِ الْعَشَرَةَ الْعَيْنَ نِصْفَيْنِ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمَدِينِ ثُلُثَا دَيْنِهِ، وَيَبْقَى لَهُمَا عَلَيْهِ ثُلُثُهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ، قَسَمَتْ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، لِلْمُوصِي خُمُسَاهَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلِابْنِ سِتَّةٌ، وَسَقَطَ عَنْ الْمَدِينِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَيْنِهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ رُبُعُهُ، فَإِذَا اسْتَوْفَى قُسِمَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، كَمَا قُسِمَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالرُّبُعِ، وَهُوَ ثُمُنَانِ، وَيَبْقَى سِتَّةُ أَثْمَانٍ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، فَصَارَ نَصِيبُ الْوَصِيِّ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ أَثْمَانٍ، لِلِابْنِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْوَصِيِّ سَهْمَانِ، فَلِذَلِكَ قَسَمْنَا الْعَيْنَ وَمَا حُصِلَ لَهُمَا مِنْ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، وَسَقَطَ عَنْ الْمَدِينِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَثْمَانٍ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ النِّصْفِ الَّذِي عَلَيْهِ. [فَصْلٌ نَمَاءُ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا] (4807) فَصْلٌ: وَنَمَاءُ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا إنْ كَانَ مُتَّصِلًا كَالسَّمْنِ، وَتَعْلِيمِ صَنْعِهِ، فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعَيْنِ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ إذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ لَهُ، يَصِيرُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ. وَمَا حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَيَنْبَنِي عَلَى الْمَلِكِ فِي الْمُوصَى لَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ. وَالْآخَرُ هُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، فَيَكُونُ النَّمَاءُ لِمَنْ الْمِلْكُ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِوَصَايَا فِيهَا عَتَاقَةٌ فَلَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْكُلِّ] (4808) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى بِوَصَايَا فِيهَا عَتَاقَةٌ، فَلَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْكُلِّ، تُحَاصُوا فِي الثُّلُثِ، وَأُدْخِلَ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ) أَمَّا إذَا خَلَتْ الْوَصَايَا مِنْ الْعِتْقِ، وَتَجَاوَزَتْ الثُّلُثَ، وَرَدَّ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ، فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى مِثَالِ مَسَائِلِ الْعَوْلِ إذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 زَادَتْ الْفُرُوضُ عَنْ الْمَالِ. فَلَوْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ، وَلِآخَرَ بِمُعَيَّنٍ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ، وَوَصَّى بِفِدَاءِ أَسِيرٍ بِثَلَاثِينَ، وَلِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ بِعِشْرِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ مِائَةٌ، جَمَعْت الْوَصَايَا كُلَّهَا فَوَجَدْتهَا ثَلَاثَمِائَةٍ، وَنَسَبْت مِنْهَا الثُّلُثَ، فَتَجِدُهُ ثُلُثَهَا، فَتُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ وَصِيَّتِهِ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الْمِائَةِ، وَكَذَلِكَ لِصَاحِبِ الْمِائَةِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْخَمْسِينَ إلَى ثُلُثِهَا، وَلِفِدَاءِ الْأَسِيرِ عَشْرَةٌ، وَلِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ سِتَّةٌ، وَثُلُثَانِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهَا عِتْقٌ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنْ يُقَسَّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَصَايَا بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَتُسَاوَوْا فِيهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُقَدَّمُ الْعِتْقُ وَيُبْدَأُ بِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، قُسِّمَ بَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَصَايَا عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَمَسْرُوقٌ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقًّا لِآدَمِيٍّ، فَكَانَ آكَدَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ فَسْخٌ، وَيَلْحَقُ غَيْرَهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ أَقْوَى بِدَلِيلِ سِرَايَتِهِ وَنُفُوذِهِ مِنْ الرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ كَالرِّوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ الْعَطَايَا الْمُعَلَّقَةُ بِالْمَوْتِ] (4809) فَصْلٌ: وَالْعَطَايَا الْمُعَلَّقَةُ بِالْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: إذَا مِتّ فَأَعْطُوا فُلَانًا كَذَا. أَوْ أَعْتِقُوا فُلَانًا. وَنَحْوَهُ، وَصَايَا حُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ الْوَصَايَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مُقَدَّمِهَا وَمُؤَخَّرِهَا. وَالْخِلَافُ فِي تَقْدِيمِ الْعِتْقِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْعَطَايَا الْمُنَجَّزَةِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا فَالْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ بِالْفِعْلِ، وَالْمُؤَخَّرَةُ تَلْزَمُ بِالْمَوْتِ، فَتَتَسَاوَى كُلُّهَا. [فَصْلٌ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَأَبَى الْوَارِث] (4810) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ، لَزِمَ الْوَارِثَ إعْتَاقُهُ، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ بِالْعَطِيَّةِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ أَوْ الْحَاكِمُ، فَهُوَ حُرٌّ مِنْ حِينَ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَتَقَ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَهَؤُلَاءِ نُوَّابٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَزِمَهُمْ إعْتَاقُهُ كُرْهًا. وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِ إلَى غَيْرِ الْوَارِثِ، كَانَ الْإِعْتَاقُ، إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُوصِي فِي إعْتَاقِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ غَيْرُهُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهُ، كَالْوَكِيلِ فِي الْحَيَاةِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِفَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ تُنْفَقُ عَلَيْهِ فَمَاتَ الْفَرَسُ] (4811) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ تُنْفَقُ عَلَيْهِ، فَمَاتَ الْفَرَسُ، كَانَتْ الْأَلْفُ لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ أُنْفِقَ بَعْضُهَا، رُدَّ الْبَاقِي إلَى الْوَرَثَةِ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ لِلْوَصِيَّةِ جِهَةً، فَإِذَا فَاتَتْ، عَادَ الْمُوصَى لَهُ إلَى الْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشِرَاءِ عَبْدِ زَيْدٍ يُعْتَقُ، فَمَاتَ الْعَبْدُ، أَوْ لَمْ يَبِعْهُ سَيِّدُهُ. وَإِنْ أُنْفِقَ بَعْضُ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ مَاتَ الْفَرَسُ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الْبَاقِي، كَمَا لَوْ وَصَّى بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ شِرَائِهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي السَّبِيلِ، أَيُجْعَلُ فِي الْحَجِّ مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا إنَّمَا يَعْرِفُ النَّاسُ السَّبِيلَ الْغَزْوَ. [فَصْلٌ أَوْصَى فَقَالَ يَخْدِمُ عَبْدِي فُلَانًا سَنَةٌ ثُمَّ هُوَ حُرٌّ] (4812) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: يَخْدِمُ عَبْدِي فُلَانًا سَنَةٌ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ. صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ قَالَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ: لَا أَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ. أَوْ قَالَ: قَدْ وَهَبْت الْخِدْمَةَ لَهُ. لَمْ يُعْتَقْ فِي الْحَالِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ وَهَبَ الْخِدْمَةَ لِلْعَبْدِ، عَتَقَ فِي الْحَالِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْقَعِ الْعِتْقَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، فَلَمْ يَقَعْ قَبْلَهُ، كَمَا لَوْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ. [فَصْل أَوْصَى لِعَمِّهِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِخَالِهِ بِعُشْرِهِ فَرُدَّتْ وَصِيَّتُهُمَا] (4813) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِعَمِّهِ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِخَالِهِ بِعُشْرِهِ، فَرُدَّتْ وَصِيَّتَهُمَا، فَتَحَاصَّا فِي الثُّلُثِ، فَأَصَابَ الْخَالَ سِتَّةٌ، فَاضْرِبْ الَّذِي أَصَابَهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فِي عَشْرَةٍ، تَكُنْ سِتِّينَ، وَاقْسِمْهُ عَلَى الْفَاضِلِ بَيْنَهُمَا، يَخْرُجْ بِالْقَسْمِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهِيَ الثُّلُثُ. وَإِنْ شِئْت قُلْت قَدْ أَصَابَ الْخَالَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ وَصِيَّتِهِ، يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ خُمُسَاهُ، وَهِيَ تَعْدِلُ مَا أَصَابَ الْخَالَ، فَزِدْ عَلَى مَا أَصَابَ الْخَالَ مِثْلَ نِصْفِهِ، وَهُوَ ثُلُثُهُ، يَصِرْ تِسْعَةً، فَهِيَ لِلَّذِي أَصَابَ الْعَمَّ. وَإِنْ قَالَ: أَصَابَ الْعَمَّ الرُّبُعُ، فَقَدْ أَصَابَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ، وَبَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ نِصْفُ سُدُسٍ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ وَصِيَّةِ الْخَالِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَلِلْعَمِّ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا، اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ، وَالْمَالُ كُلُّهُ تِسْعُونَ. وَإِنْ قَالَ: أَصَابَ الْخَالَ خُمُسُ الْمَالِ، فَقَدْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ خُمُسَاهُ لِلْعَمِّ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ لِلْخَالِ خُمُسَا وَصِيَّتِهِ أَيْضًا. وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَوَصِيَّةُ الْعَمِّ مِثْلُ ثُلُثَيْهَا، دِينَارَانِ وَثُلُثَانِ، وَالثُّلُثُ كُلُّهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَالْمَالُ كُلُّهُ عِشْرُونَ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا وَصِيَّةٌ بِسُدُسِ الْمَالِ، وَأَصَابَ الْخَالَ سِتَّةٌ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ وَصِيَّتِهِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الثُّلُثِ، يَبْقَى مِنْهُ عُشْرٌ تَعْدِلُ مَا حُصِلَ لِلْعَمِّ وَهُوَ سِتَّةٌ، وَالثُّلُثُ سِتُّونَ. وَإِنْ أَصَابَ صَاحِبَ السُّدُسِ عُشْرُ الْمَالِ، فَقَدْ أَصَابَ صَاحِبَ الثُّلُثِ خُمْسُهُ، يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ أَيْضًا عُشْرُهُ، فَهُوَ وَصِيَّةُ الْخَالِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ وَصِيَّتِهِ سِتَّةٌ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ سِتِّينَ كَمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 نَوْعٌ آخَرُ، خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِعَمِّهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ وَصِيَّةِ خَالِهِ، وَلِخَالِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا رُبْعَ وَصِيَّةِ عَمِّهِ، فَاضْرِبْ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي مَخْرَجِ الرُّبُعِ، يَكُنْ اثْنَيْ عَشَرَ، اُنْقُصْهَا سَهْمًا، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ، فَهِيَ نَصِيبُ ابْنٍ، اُنْقُصْهَا سَهْمَيْنِ، يَبْقَى تِسْعَةٌ، فَهِيَ وَصِيَّةُ الْخَالِ. وَإِنْ نَقَصْتهَا ثَلَاثَةً، بَقِيَ ثَمَانِيَةٌ، فَهِيَ وَصِيَّةُ الْعَمِّ. وَبِالْجَبْرِ تَحْمِلُ مَعَ الْعَمِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَمَعَ الْخَالِ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَى الدَّرَاهِمِ دِينَارًا، وَعَلَى الدَّنَانِيرِ دِرْهَمًا، يَبْلُغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبًا، اُجْبُرْ، وَقَابِلْ، وَأَسْقِطْ الْمُشْتَرَكَ، يَبْقَى مَعَك دِينَارَانِ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَاقْلِبْ وَحَوِّلْ، تَصِرْ الدَّرَاهِمُ ثَمَانِيَةً، وَالدَّنَانِيرُ تِسْعَةً، كَمَا قُلْنَا. وَإِنْ أَوْصَى لِعَمِّهِ بِعَشْرَةٍ إلَّا رُبُعَ وَصِيَّةِ خَالِهِ، وَلِخَالِهِ بِعَشْرَةٍ إلَّا خُمْسَ وَصِيَّةِ عَمِّهِ، فَاضْرِبْ مَخْرَجَ الرُّبْعِ فِي مَخْرَجِ الْخُمُسِ، يَكُنْ عِشْرِينَ، اُنْقُصْهَا سَهْمًا، تَكُنْ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَهِيَ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْخَالِ أَرْبَعَةً، وَانْقُصْهَا سَهْمًا، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، اضْرِبْهَا فِي الْعَشَرَةِ، ثُمَّ فِيمَا مَعَ الْعَمِّ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، يَكُنْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، اقْسِمْهَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ، يَخْرُجْ سَبْعَةٌ وَسَبْعَةَ عَشَرَ، جُزْءًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَهِيَ وَصِيَّةُ عَمِّهِ، وَاجْعَلْ مَعَ الْعَمِّ خَمْسَةً، وَانْقُصْهَا سَهْمًا، وَاضْرِبْهَا فِي عَشَرَةٍ، ثُمَّ فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ مِائَةٍ وَسِتِّينَ، وَاقْسِمْهَا، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَهِيَ وَصِيَّةُ خَالِهِ. طَرِيقٌ آخَرُ، تَنْقُصُ مِنْ الْعَشَرَةِ رُبْعَهَا، وَتَضْرِبُ الْبَاقِيَ فِي الْعِشْرِينَ، ثُمَّ تَقْسِمُهَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ، وَتَنْقُصُ مِنْهَا خُمُسَهَا، وَتَضْرِبُ الْبَاقِيَ فِي عِشْرِينَ، وَتَقْسِمُهَا، وَبِالْجَبْرِ، تَجْعَلُ، وَصِيَّةَ الْخَالِ سِتًّا، وَوَصِيَّةَ الْعَمِّ عَشْرَةً إلَّا رُبْعَ شَيْءٍ، فَخُذْ خُمُسَهَا، فَزِدْهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ سَهْمَانِ إلَّا نِصْفَ عُشْرِ شَيْءٍ، يَعْدِلُ عَشْرَةً، فَأَسْقِطْ الْمُشْتَرَكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، تَصِرْ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ، إذَا أَسْقَطْت رُبْعَهَا مِنْ الْعَشَرَةِ، بَقِيَتْ سَبْعَةٌ وَسَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا. وَإِنْ وَصَّى لِعَمِّهِ بِعَشْرَةٍ إلَّا نِصْفَ وَصِيَّةِ خَالِهِ، وَلِخَالِهِ بِعَشْرَةٍ إلَّا ثُلُثَ وَصِيَّةِ جَدِّهِ، وَلِجَدِّهِ بِعَشْرَةٍ إلَّا رُبْعَ وَصِيَّةِ عَمِّهِ، فَوَصِيَّةُ عَمِّهِ سِتَّةٌ وَخُمُسَانِ، وَوَصِيَّةُ خَالِهِ سَبْعَةٌ وَخُمُسٌ، وَوَصِيَّةُ جَدِّهِ ثَمَانِيَةٌ وَخُمُسَانِ، وَبَابُهَا أَنْ تَضْرِبَ الْمَخَارِجَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، فَتَضْرِبَ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ، فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، تَزِيدُهَا وَاحِدًا تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَنْقُصُ مِنْ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُ وَاحِدًا فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَزِيدُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي عَشْرَةٍ، تَكُنْ مِائَةً وَسِتِّينَ، وَاقْسِمْهَا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَخْرُجْ بِالْقَسْمِ سِتَّةٌ وَخُمُسَانِ، فَهِيَ وَصِيَّةُ الْعَمِّ وَانْقُصْ الثَّلَاثَةَ وَاحِدًا يَبْقَى اثْنَانِ، وَاضْرِبْهَا فِي الْأَرْبَعَةِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، زِدْهَا وَاحِدًا، وَاضْرِبْهَا فِي اثْنَيْنِ، ثُمَّ فِي عَشْرَةٍ تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ، وَاقْسِمْهَا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اُنْقُصْ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدًا، وَاضْرِبْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْنِ، ثُمَّ زِدْهَا وَاحِدًا تَكُنْ سَبْعَةً، اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ فِي عَشْرَةٍ، تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشْرَةً، مَقْسُومَةً عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ. طَرِيقٌ آخَرُ، تَجْعَلُ مَعَ الْعَمِّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَمَعَ الْخَالِ دِينَارَيْنِ، وَمَعَ الْجَدِّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ تَضُمُّ إلَى مَا مَعَ الْعَمِّ دِينَارًا، وَإِلَى مَا مَعَ الْخَالِ دِرْهَمًا، وَتُقَابِلُ مَا مَعَ أَحَدِهِمَا بِمَا مَعَ الْآخَرِ، وَتُسْقِطُ الْمُشْتَرَكَ، فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، تَعْدِلُ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، فَأَسْقِطْ لَفْظَةَ الْأَشْيَاءِ، وَاجْعَلْ مَكَانَهَا دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا، ثُمَّ قَابِلْ مَا مَعَ الْخَالِ بِمَا مَعَ الْجَدِّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ دِينَارَانِ، وَدِرْهَمٌ مَعَ الْخَالِ، لِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَرُبْعِ دِرْهَمٍ، وَرُبْعُ دِينَارٍ مَعَ الْجَدِّ، فَإِذَا أَسْقَطْت الْمُشْتَرَكَ بَقِيَ دِرْهَمَانِ وَرُبْعٌ مُعَادِلَةٌ لِلدِّينَارِ؛ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ، فَابْسُطْ الْكُلَّ أَرْبَاعًا، تَصِرْ سَبْعَةَ أَرْبَاعٍ مِنْ الدِّينَارِ، تَعْدِلُ تِسْعَةً مِنْ الدَّرَاهِمِ، فَاقْلِبْ، وَاجْعَلْ الدَّرَاهِمَ سَبْعَةً، وَالدِّينَارَ تِسْعَةً، ثُمَّ ارْجِعْ إلَى مَا فَرَضْت، فَتَجِدُ مَعَ الْعَمِّ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِسِتَّةَ عَشَرَ، وَمَعَ الْخَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَمَعَ الْجَدِّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَالْعَشَرَةُ الْكَامِلَةُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَالسِّتَّةَ عَشَرَ مِنْهَا سِتَّةٌ وَخُمُسَانِ، وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ سَبْعَةٌ وَخُمُسٌ، وَالْأَحَدُ وَعِشْرُونَ ثَمَانِيَةٌ وَخُمُسَانِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَخٌ، وَوَصِيَّةُ الْجَدِّ عَشَرَةٌ إلَّا رُبْعَ مَا مَعَ الْأَخِ، وَوَصِيَّةُ الْأَخِ عَشْرَةٌ إلَّا خُمُسَ مَا مَعَ الْعَمِّ، فَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ تَجْعَلُ مَعَ الْعَمِّ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، وَمَعَ الْخَالِ دِينَارَيْنِ، وَمَعَ الْجَدِّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَمَعَ الْأَخِ أَرْبَعَةَ أَفْلُسٍ، ثُمَّ تُقَابِلُ مَا مَعَ الْعَمِّ بِمَا مَعَ الْخَالِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَجْعَلُ الْأَشْيَاءَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، ثُمَّ تُقَابِلُ مَا مَعَ الْخَالِ بِمَا مَعَ الْجَدِّ، فَتَجْعَلُ الدِّينَارَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَفَلْسًا، ثُمَّ تُقَابِلُ مَا مَعَ الْجَدِّ بِمَا مَعَ الْأَخِ، فَتُخْرِجُ الْفَلْسَ سِتَّةً وَعِشْرِينَ، وَالدَّرَاهِمَ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ، وَالدِّينَارَ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا مَعَ الْعَمِّ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، وَمَعَ الْخَالِ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ، وَمَعَ الْجَدِّ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعِينَ، وَمَعَ الْأَخِ مِائَةً وَأَرْبَعَةً، إذَا زِدْت عَلَى مَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا اسْتَثْنَيْته مِنْهُ، صَارَ مَعَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ الْعَشَرَةُ الْكَامِلَةُ، فَصَارَتْ وَصِيَّةُ الْعَمِّ سِتَّةً وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ جُزْءًا، وَوَصِيَّةُ الْخَالِ سَبْعَةً وَسَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَوَصِيَّةُ الْجَدِّ سَبْعَةً وَسَبْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا. وَوَصِيَّةُ الْأَخِ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ جُزْءًا، وَبِطَرِيقِ الْبَابِ، تَضْرِبُ الْمَخَارِجَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ، تَنْقُصُهَا وَاحِدًا، يَبْقَى مِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ، فَهَذَا الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَنْقُصُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَزِيدُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، تَنْقُصُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، فَهَذِهِ وَصِيَّةُ الْعَمِّ تَضْرِبُهَا فِي عَشْرَةٍ، ثُمَّ تَقْسِمُهَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ، تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ جُزْءًا، ثُمَّ تَنْقُصُ الثَّلَاثَةَ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، وَتَزِيدُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، تَنْقُصُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ، فَهَذِهِ وَصِيَّةُ الْخَالِ، ثُمَّ تَنْقُصُ الْأَرْبَعَةَ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَزِيدُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 تَنْقُصُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ، فَهَذِهِ وَصِيَّةُ الْجَدِّ ثُمَّ تَنْقُصُ الْخَمْسَةَ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، تَزِيدُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ. تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، تَنْقُصُهَا وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعَةً، فَهِيَ وَصِيَّةُ الْأَخِ. وَفِي ذَلِكَ تَضْرِبُ الْعَدَدَ الَّذِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَقْسِمُهُ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ، فَالْخَارِجُ بِالْقَسْمِ هُوَ وَصِيَّتُهُ، وَلَوْ وَصَّى لِعَمِّهِ بِعَشْرَةٍ وَنِصْفِ وَصِيَّةِ خَالِهِ، وَلِخَالِهِ بِعَشْرَةٍ وَثُلُثِ وَصِيَّة، عَمِّهِ، كَانَتْ وَصِيَّةُ الْعَمِّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَوَصِيَّةُ الْخَالِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَبَابُهَا أَنْ تَضْرِبَ أَحَدَ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَتَنْقُصَهُ وَاحِدًا، فَهُوَ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَزِيدَ مَخْرَجَ النِّصْفِ وَاحِدًا، وَتَضْرِبَهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ، ثُمَّ فِي عَشْرَةٍ، تَكُنْ تِسْعِينَ، مَقْسُومَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدُ مَخْرَجَ الثُّلُثِ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ النِّصْفِ، ثُمَّ فِي عَشْرَةٍ، تَكُنْ ثَمَانِينَ، مَقْسُومَةً عَلَى خَمْسَةٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا آخَرُ، وَوَصَّى لِلْخَالِ بِعَشْرَةٍ وَرُبْعِ وَصِيَّتِهِ وَوَصَّى لَهُ بِعَشْرَةٍ وَرُبْعِ وَصِيَّةِ الْعَمِّ، ضَرَبْت الْمَخَارِجَ، وَنَقَصْتهَا وَاحِدًا، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، فَهِيَ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَزِيدُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَتَضْرِبُهَا فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ تِسْعَةً، فَزِدْهَا وَاحِدًا، وَاضْرِبْهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ فِي عَشْرَةٍ، ثُمَّ اقْسِمْهَا تَخْرُجْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَتِسْعَةَ أَجْزَاءٍ، فَهِيَ وَصِيَّةُ الْعَمِّ، ثُمَّ تَصْنَعُ فِي الْبَاقِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَتَكُونُ وَصِيَّةُ الْخَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا، وَوَصِيَّةُ الثَّالِثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، وَإِنْ شِئْت بَعْدَ مَا عَمِلْت وَصِيَّةَ الْعَمِّ، فَاضْرِبْ الزَّائِدَ مِنْ وَصِيَّتِهِ فِي اثْنَيْنِ، فَهُوَ وَصِيَّةُ الْخَالِ، وَاضْرِبْ الزَّائِدَ عَنْ الْعَشَرَةِ مِنْ وَصِيَّةِ الْخَالِ فِي ثَلَاثَةٍ، فَهِيَ وَصِيَّةُ الْعَمِّ، وَمَتَى عَرَفْت مَا مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَمْكَنَك مَعْرِفَةُ مَا مَعَ الْآخَرِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذَا الْفَنِّ يَكْفِي، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ، قَلِيلَةٌ، وَفُرُوعَهُ كَثِيرَةٌ طَوِيلَةٌ، وَغَيْرُهَا أَهَمُّ مِنْهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا لِمَا يُرْضِيهِ، إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 [كِتَاب الْفَرَائِض] ِ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ؛ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَفَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهُ، فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّجُلَانِ فِي الْفَرِيضَةِ، فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا.» وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ. وَعَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَاللَّحْنَ، وَالسُّنَّةَ، كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَلْيَتَعَلَّمْ الْفَرَائِضَ. وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَك فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، وَلَا يُنْكَحَانِ إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. قَالَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَك.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ " (4814) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَلَا يَرِثُ أَخٌ، وَلَا أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، مَعَ ابْنٍ، وَلَا مَعَ ابْنِ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا مَعَ أَبٍ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا، بِحَمْدِ اللَّهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 الْأَبِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} . وَهَذَا حُكْمُ الْعَصَبَةِ، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ؛ لِأَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْبَنَاتُ، وَالْأُمُّ؛ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى مِيرَاثِهِمْ مَعَهُمَا، بَقِيَ مَا عَدَاهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَسْقُطُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ بِثَلَاثَةٍ؛ بِالِابْنِ، وَابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَبِالْأَبِ. وَيَسْقُطُ وَلَدُ الْأَبِ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَبِالْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» وَلِأَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. [مَسْأَلَةٌ مِيرَاثُ أَخٍ وَأُخْتٍ لِأُمِّ مَعَ وَلَدٍ] (4815) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَرِثُ أَخٌ وَلَا أُخْتٌ لِأُمٍّ، مَعَ وَلَدٍ، ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى، وَلَا مَعَ وَلَدِ الِابْنِ، وَلَا مَعَ أَبٍ، وَلَا مَعَ جَدٍّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، يَسْقُطُونَ بِأَرْبَعَةٍ؛ بِالْوَلَدِ، وَوَلَدِ الِابْنِ، وَالْأَبِ، وَالْجَدِّ أَبِ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، أَجْمَعَ عَلَى هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ هَذَا، إلَّا رِوَايَةً شَذَّتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ، فِي أَبَوَيْنِ، وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأَخَوَيْنِ الثُّلُثُ، وَقِيلَ عَنْهُ: لَهُمَا ثُلُثُ الْبَاقِي. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ كُلَّهُمْ بِالْجَدِّ، فَكَيْفَ يُوَرِّثُ وَلَدَ الْأُمِّ مَعَ الْأَبِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ يَسْقُطُونَ بِالْجَدِّ، فَكَيْفَ يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِي قِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ "، وَالْكَلَالَةُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَا وَالِدٌ، فَشَرَطَ فِي تَوْرِيثِهِمْ عَدَمَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْوَالِدُ يَشْمَلُ الْأَبَ وَالْجَدَّ. [فَصْل رَأْي أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكَلَالَةِ] (4816) فَصْلٌ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكَلَالَةِ، فَقِيلَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ، مَا عَدَا الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ. نَصَّ أَحْمَدُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 عَلَى هَذَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنْ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْإِكْلِيلِ الَّذِي يُحِيطُ بِالرَّأْسِ وَلَا يَعْلُو عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْوَرَثَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ قَدْ أَحَاطُوا بِالْمَيِّتِ مِنْ حَوْلِهِ، لَا مِنْ طَرَفَيْهِ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلَهُ، كَإِحَاطَةِ الْإِكْلِيلِ بِالرَّأْسِ. فَأَمَّا الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ فَهُمَا طَرَفَا الرَّجُلِ، فَإِذَا ذَهَبَا كَانَ بَقِيَّةُ النَّسَبِ كَلَالَةً. قَالَ الشَّاعِرُ: فَكَيْفَ بِأَطْرَافِي إذَا مَا شَتَمْتنِي ... وَمَا بَعْدَ شَتْمِ الْوَالِدَيْنِ صُلُوحُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ نَفْسِهِ، الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: الْكَلَالَةُ قَرَابَةُ الْأُمِّ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ، عَنَى أَنَّكُمْ وَرِثْتُمْ الْمُلْكَ عَنْ آبَائِكُمْ لَا عَنْ أُمَّهَاتِكُمْ. وَيُرْوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: الْمَيِّتُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ كَلَالَةٌ، وَيُسَمَّى وَارِثُهُ كَلَالَةً. وَالْآيَتَانِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَالَةِ فِيهِمَا الْمَيِّتُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اسْمَ الْكَلَالَةِ يَقَعُ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْجِهَاتِ كُلِّهَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُ جَابِرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْف الْمِيرَاثُ؟ إنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ. فَجَعَلَ الْوَارِثَ هُوَ الْكَلَالَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لَجَابِرٍ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكَلَالَةِ عَدَمُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ زَيْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَالصَّحِيحُ عَنْهُمَا كَقَوْلِ الْجَمَاعَةَ. [مَسْأَلَةٌ الْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ عُصْبَة] (4817) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ، لَهُنًّ مَا فَضَلَ، وَلَيْسَتْ لَهُنًّ مَعَهُنَّ فَرِيضَةٌ مُسَمَّاةٌ) الْعَصَبَةَ هُوَ الْوَارِثُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُ ذُو فَرْضٍ أَخَذَ مَا فَضَلَ عَنْهُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَإِنْ انْفَرَدَ أَخَذَ الْكُلَّ. وَإِنْ اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ الْمَالَ، سَقَطَ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخَوَاتِ هَاهُنَا الْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ مَعَ الْوَلَدِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَنْ تَابَعَهُ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً، فَقَالَ فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ. فَقِيلَ لَهُ: إنَّ عُمَرَ قَضَى بِخِلَافِ ذَلِكَ، جَعَلَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ؟ يُرِيدُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهَا الْمِيرَاثَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ. وَالْحَقُّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بِنْتٍ، وَبِنْتِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ: لَأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَاحْتِجَاجُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَلَدِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ مَا تَأْخُذُ مَعَ الْبِنْتِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّعْصِيبِ، كَمِيرَاثِ الْأَخِ. وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْأَخِ مَعَ الْوَلَدِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] . وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُط الْأَخُ؛ لِاشْتِرَاطِهِ فِي تَوْرِيثِهِ مِنْهَا عَدَمَ وَلَدِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْمُبِينُ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِلْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ، وَبِنْتِ الِابْنِ الْبَاقِيَ عَنْ فَرْضِهِمَا، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَلَوْ كَانَتْ ابْنَتَانِ وَبِنْتُ ابْنٍ، لَسَقَطَتْ بِنْتُ الِابْنِ، وَكَانَ لِلْأُخْتِ الْبَاقِي، وَهُوَ الثُّلُثُ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُمٌّ فَلَهَا السُّدُسُ، وَيَبْقَى لِلْأُخْتِ السُّدُسُ. فَإِنْ كَانَ بَدَلُ الْأُمِّ زَوْجٌ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَبَقِيَ لِلْأُخْتِ نِصْفُ السُّدُسِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُمٌّ، عَالَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَسَقَطَتْ الْأُخْتُ. [مَسْأَلَةٌ مِيرَاث بَنَاتُ الِابْن] (4818) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبَنَاتُ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَنَاتٌ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَنَاتِ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ عِنْدَ عَدَمِهِنَّ فِي إرْثِهِنَّ، وَحَجْبِهِنَّ لِمَنْ يَحْجُبُهُ الْبَنَاتُ، وَفِي جَعْلِ الْأَخَوَاتِ مَعَهُنَّ عُصُبَاتٌ، وَفِي أَنَّهُنَّ إذَا اسْتَكْمَلْنَ الثُّلُثَيْنِ سَقَطَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بَنَاتُ الِابْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] . وَوَلَدُ الْبَنِينَ أَوْلَادٌ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] يُخَاطِبُ بِذَلِكَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] يُخَاطِبُ بِذَلِكَ مَنْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ. [مَسْأَلَةٌ فَرْضَ الِابْنَتَيْنِ] (4819) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كُنَّ بَنَاتٌ وَبَنَاتُ ابْنٍ، فَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ، وَلَيْسَ لِبَنَاتِ الِابْنِ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيَعْصِبهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ، إلَّا رِوَايَةً شَاذَّةً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ فَرْضَهُمَا النِّصْفُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] . فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَيْسَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَخِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ: " أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ " وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَخَوَاتِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] . وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرِثُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ النِّصْفَ فَلِلِاثْنَتَيْنِ مِنْهُمْ الثُّلُثَانِ، كَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ، وَكُلُّ عَدَدٍ يَخْتَلِفُ فَرْضُ وَاحِدِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ فَلِلِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ مِثْلُ فَرْضِ الْجَمَاعَةِ، كَوَلَدِ الْأُمِّ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ الْأَبِ، فَأَمَّا الثَّلَاثُ مِنْ الْبَنَاتِ فَمَا زَادَ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ فَرَضَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَأَنَّهُ ثَابِتٌ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] . وَاخْتُلِفَ فِيمَا ثَبَتَ بِهِ فَرْضُ الِابْنَتَيْنِ، فَقِيلَ: ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ، فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ، وَفَوْقَ صِلَةٌ، كَقَوْلِهِ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] . أَيْ اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِين نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَرْسَلَ إلَى أَخِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ: " أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ ". وَهَذَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ، وَبَيَانٌ لِمَعْنَاهَا، وَاللَّفْظُ إذَا فُسِّرَ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْمُفَسَّرِ لَا بِالتَّفْسِيرِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةُ بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَسُؤَالُ أُمِّهِمَا عَنْ شَأْنِهِمَا فِي مِيرَاثِ أَبِيهِمَا. وَقِيلَ: بَلْ ثَبَتَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ. وَقِيلَ: بَلْ ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ: بَلْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: بِالْقِيَاسِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا حُكْمٌ قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، وَتَوَارَدَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كُلُّهَا، فَلَا يَضُرُّنَا أَيُّهَا أَثْبَتَهُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَنَاتِ الصُّلْبِ مَتَى اسْتَكْمَلْنَ الثُّلُثَيْنِ، سَقَطَ بَنَاتُ الِابْنِ، مَا لَمْ يَكُنْ بِإِزَائِهِنَّ، أَوْ أَسْفَلِ مِنْهُنَّ ذَكَرٌ يَعْصِبُهُنَّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ لِلْأَوْلَادِ إذَا كَانُوا نِسَاءً إلَّا الثُّلُثَيْنِ، قَلِيلَاتٍ كُنَّ أَوْ كَثِيرَاتٍ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجْنَ عَنْ كَوْنِهِنَّ نِسَاءً مِنْ الْأَوْلَادِ، وَقَدْ ذَهَبَ الثُّلُثَانِ لِوَلَدِ الصُّلْبِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ شَيْءٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارِكْنَ بَنَاتِ الصُّلْبِ؛ لِأَنَّهُنَّ دُونَ دَرَجَتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ مَعَ بَنَاتِ الِابْنِ ابْنٌ فِي دَرَجَتِهِنَّ، كَأَخِيهِنَّ، أَوْ ابْنِ عَمِّهِنَّ، أَوْ أَنْزَلَ مِنْهُنَّ كَابْنِ أَخِيهِنَّ، أَوْ ابْنِ ابْنِ عَمِّهِنَّ، أَوْ ابْنِ ابْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 ابْنِ عَمِّهِنَّ، عَصَبَهُنَّ فِي الْبَاقِي، فَجُعِلَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ إلَّا ابْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَبِعَهُ؛ فَإِنَّهُ خَالَفَ الصَّحَابَةَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ مِنْ الْفَرَائِضِ، هَذِهِ إحْدَاهُنَّ، فَجَعَلَ الْبَاقِيَ لِلذَّكَرِ دُونَ أَخَوَاتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ مِنْ الْأَوْلَادِ لَا يَرِثْنَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْفَرَدْنَ، وَتَوْرِيثُهُنَّ هَاهُنَا يُفْضِي إلَى تَوْرِيثِهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ؛ بِدَلِيلِ تَنَاوُلِهِ لَهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَنَاتٌ. وَعَدَمُ الْبَنَاتِ لَا يُوجِبُ لَهُمْ هَذَا الِاسْمَ. وَلِأَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَقْتَسِمُونَ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ، يَجِبُ أَنْ يَقْتَسِمَا الْفَاضِلَ عَنْهُ، كَأَوْلَادِ الصُّلْبِ، وَالْإِخْوَةِ مَعَ الْأَخَوَاتِ وَمَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِلْفَرْضِ. فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ بِالتَّعْصِيبِ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِأَوْلَادِ الصُّلْبِ، وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ثَمَّ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِمَا إذَا خَلَّفَ ابْنًا وَسِتَّ بَنَاتٍ، فَإِنَّهُنَّ يَأْخُذْنَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَالِ. وَإِنْ كُنَّ ثَمَانِيًا، أَخَذْنَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ. وَإِنْ كُنَّ عَشْرًا، أَخَذْنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ. وَكُلَّمَا زِدْنَ فِي الْعَدَدِ، زَادَ اسْتِحْقَاقُهُنَّ. [فَصْلٌ ابْنُ ابْنِ الِابْنِ يَعْصِب مَنْ فِي دَرَجَتِهِ] (4820) فَصْلٌ: وَابْنُ ابْنِ الِابْنِ يَعْصِبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ أَخَوَاتِهِ، وَبَنَاتِ عَمِّهِ، وَبَنَاتِ ابْنِ عَمِّ أَبِيهِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَيَعْصِبُ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مِنْ عَمَّاتِهِ، وَبَنَاتِ عَمِّ أَبِيهِ، وَمَنْ فَوْقَهُنَّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُنَّ ذَوَاتَ فَرْضٍ، وَيُسْقِطُ مَنْ هُوَ أُنْزَلُ مِنْهُ، كَبَنَاتِهِ، وَبَنَاتِ أَخِيهِ، وَبَنَاتِ ابْنِ عَمِّهِ. فَلَوْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ خَمْسَ بَنَاتِ ابْنٍ. بَعْضُهُنَّ أَنْزَلُ مِنْ بَعْضٍ، لَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ، وَعَصَبَةٌ، كَانَ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ، وَسَقَطَ سَائِرُهُنَّ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا أَخُوهَا، أَوْ ابْنُ عَمِّهَا، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَسَقَطَ سَائِرُهُنَّ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الثَّانِيَةِ عَصَبهَا، وَكَانَ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الثَّالِثَةِ، فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الرَّابِعَةِ فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخَامِسَةِ، فَالْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ عَلَى خَمْسَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ. وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ الْخَامِسَةِ، فَكَذَلِكَ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ بَنِي الِابْنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ وَبَنَاتُ ابْنٍ فَمَا مِيرَاثهَا] (4821) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَنَاتُ ابْنٍ، فَلِابْنَةِ الصُّلْبِ النِّصْفُ، وَلِبَنَاتِ الِابْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسِ، تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيَعْصِبُهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ لِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ بِنْتُ ابْنٍ، أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبَنَاتِ الِابْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسُ، تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ. وَهَذَا أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] . فَفَرَضَ لِلْبَنَاتِ كُلِّهِنَّ الثُّلُثَيْنِ. وَبَنَاتُ الصُّلْبِ، وَبَنَاتُ الِابْنِ كُلُّهُنَّ نِسَاءٌ مِنْ الْأَوْلَادِ، فَكَانَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ بِفَرْضِ الْكِتَابِ، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ. وَاخْتُصَّتْ بِنْتُ الصُّلْبِ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ لَهَا، وَالِاسْمُ مُتَنَاوِلٌ لَهَا حَقِيقَةً، فَيَبْقَى لِلْبَقِيَّةِ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَهُنَّ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ. وَقَدْ رَوَى هُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيُّ قَالَ: «سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ابْنَةٍ، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ. فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ، وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] ، وَلَكِنْ أَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِابْنِهِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ، تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ. فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ الْحَبْرُ فِيكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِنَحْوِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. الْحُكْمُ الثَّالِثُ، إذَا كَانَ مَعَ بَنَاتِ الِابْنِ ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهِنَّ فَإِنَّهُ يَعْصِبهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلَّا ابْنَ مَسْعُودٍ فِي مَنْ تَابَعَهُ، فَإِنَّهُ خَالَفَ الصَّحَابَةَ فِيهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي انْفَرَدَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: لِبَنَاتِ الِابْنِ الْأَضَرُّ بِهِنَّ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ السُّدُسُ، فَإِنْ كَانَ السُّدُسُ أَقَلَّ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُنَّ بِالْمُقَاسَمَةِ، فَرَضَهُ لَهُنَّ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِلذَّكَرِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ لَهُنَّ بِالْمُقَاسَمَةِ أَقَلَّ، قَاسَمَ بِهِنَّ. وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ بِنْتَ الِابْنِ لَا يَعْصِبُهَا أَخُوهَا إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ فِي الْمُقَاسَمَةِ إذَا كَانَ أَضَرَّ بِهِنَّ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُنَّ السُّدُسَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . وَلِأَنَّهُ يُقَاسِمُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُمَا، فَقَاسَمَهَا مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ أَضَرَّ بِهِنَّ. وَأَصِلُهُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ فَاسِدٌ، كَمَا قَدَّمْنَا. [فَصْلٌ حُكْمُ بَنَاتِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الِابْنِ فِي الْمِيرَاث] (4822) فَصْلٌ: وَحُكْمُ بَنَاتِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الِابْنِ، حُكْمُ بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الصُّلْبِ، فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَفِي أَنَّهُ مَتَى اسْتَكْمَلَ مَنْ فَوْقَ السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ، سَقَطَتْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَعْصِبُهَا، سَوَاءٌ كَمَّلَ الثُّلُثَانِ لِمَنْ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ لِلْعُلْيَا، أَوْ الَّتِي تَلِيهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَقَدْ مَثَّلْنَا ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي أُخَرِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. [مَسْأَلَةٌ مِيرَاث وَلَدِ الْأَبِ إذَا اسْتَكْمَلَ الْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَيْنِ] (4823) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، إذَا لَمْ يَكُنْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَإِنْ كَانَ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ، فَلِلْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ، وَلَيْسَ لِلْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيَعْصِبُهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ، فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ، وَلِلْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسُ، تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيَعْصِبُهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ خِلَافِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ فِي وَلَدِ الْأَبِ إذَا اسْتَكْمَلَ الْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْبَاقِيَ لِلذَّكَرِ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ دُونَ الْإِنَاثِ. فَإِنْ كَانَتْ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَإِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ مِنْ أَبٍ، جَعَلَ لِلْإِنَاثِ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ الْأَضَرَّ بِهِنَّ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ السُّدُسِ، وَجَعَلَ الْبَاقِيَ لِلذُّكُورِ. كَفِعْلِهِ فِي وَلَدِ الِابْنِ مَعَ الْبَنَاتِ، عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ وَشَرْحُهُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ حُجَّتِهِ وَجَوَابِهَا، بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. فَأَمَّا فَرْضُ الثُّلُثَيْنِ لِلْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالنِّصْفِ لِلْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ، فَثَابِتٌ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] . وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 وَوَلَدُ الْأَبِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرَوَى جَابِرٌ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي وَلِي أَخَوَاتٌ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّ جَابِرًا اشْتَكَى وَعِنْدَهُ سَبْعُ أَخَوَاتٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَخَوَاتِك» . فَبَيَّنَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ. وَمَا زَادَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي حُكْمِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، فَالثَّلَاثُ أُخْتَانِ فَصَاعِدًا. وَأَمَّا سُقُوطُ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ، بِاسْتِكْمَالِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَيْنِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَ لِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا أَخَذَهُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، لَمْ يَبْقَ مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَخَوَاتِ شَيْءٌ يَسْتَحِقُّهُ وَلَدُ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَلَهَا النِّصْفُ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَبَقِيَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ الْمَفْرُوضَةِ لِلْأَخَوَاتِ سُدُسٌ، يُكَمَّلُ بِهِ الثُّلُثَانِ، فَيَكُونُ لِلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَهُنَّ السُّدُسُ، تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْأَبِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . وَلَا يُفَارِقُ وَلَدُ الْأَبِ مَعَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَلَدَ الِابْنِ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ، إلَّا فِي أَنَّ بِنْتَ الِابْنِ يَعْصِبُهَا ابْنُ أَخِيهَا وَمَنْ هُوَ أَنْزَلُ مِنْهَا، وَالْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ لَا يَعْصِبُهَا إلَّا أَخُوهَا، فَلَوْ اسْتَكْمَلَ الْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَثَمَّ أَخَوَاتٌ مِنْ أَبٍ وَابْنِ أَخٍ لَهُنَّ، لَمْ يَكُنْ لِلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ شَيْءٌ، وَكَانَ الْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ ابْنٌ، وَابْنَ الْأَخِ لَيْسَ بِأَخٍ. [فَصْل أَرْبَعَةٌ مِنْ الذُّكُورِ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ فَيَمْنَعُونَهُنَّ الْفَرْضَ] (4824) فَصْلٌ: أَرْبَعَةٌ مِنْ الذُّكُورِ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ، فَيَمْنَعُونَهُنَّ الْفَرْضَ، وَيَقْتَسِمُونَ مَا وَرِثُوا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَهُمْ الِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ، وَالْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَخُ مِنْ الْأَبِ. وَسَائِرُ الْعُصُبَاتِ يَنْفَرِدُ الذُّكُورُ بِالْمِيرَاثِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَهُمْ بَنُو الْأَخِ وَالْأَعْمَامِ، وَبَنُوهُمْ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنَاوَلَتْ الْأَوْلَادَ، وَأَوْلَادَ الِابْنِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . فَتَنَاوَلَتْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَوَلَدَ الْأَبِ. وَإِنَّمَا اشْتَرَكُوا؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كُلَّهُمْ وُرَّاثٌ، فَلَوْ فُرِضَ لِلنِّسَاءِ فَرْضٌ أَفْضَى إلَى تَفْضِيلِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، أَوْ مُسَاوَاتِهَا إيَّاهُ، أَوْ إسْقَاطِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ أَعْدَلَ وَأَوْلَى. وَسَائِرُ الْعُصُبَاتِ لَيْسَ أَخَوَاتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُنَّ لَسْنَ بِذَوَاتِ فَرْضٍ، وَلَا يَرِثْنَ مُنْفَرِدَاتٍ، فَلَا يَرِثْنَ مَعَ إخْوَتِهِنَّ شَيْئًا. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، بِحَمْدِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَحْوَالُ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاث] (4825) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ أَوْ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَلَا وَلَدُ ابْنٍ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ أَخَوَانِ، أَوْ أُخْتَانِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا السُّدُسُ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: حَالٌ تَرِثُ فِيهَا الثُّلُثَ بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، عَدَمُ الْوَلَدِ، وَوَلَدِ الِابْنِ، مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَالثَّانِي، عَدَمُ الِابْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ كَانُوا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَوْ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا، فَلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ الثُّلُثُ. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْحَالُ الثَّانِي، لَهَا السُّدُسُ، إذَا لَمْ يَجْتَمِعْ الشَّرْطَانِ، بَلْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، أَوْ وَلَدُ ابْنٍ، أَوْ اثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَحْجُبُ الْأُمَّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ إلَّا ثَلَاثَةٌ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ الْأَخَوَانِ إخْوَةً فِي لِسَانِ قَوْمِكَ، فَلَمْ تَحْجُبُ بِهِمَا الْأُمَّ؟ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا كَانَ قَبْلِي، وَمَضَى فِي الْبُلْدَانِ، وَتَوَارَثَ النَّاسُ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُثْمَانَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ تَمَّ قَبْلَ مُخَالِفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِأَنَّ كُلَّ حَجْبٍ تَعَلَّقَ بِعَدَدٍ كَانَ أَوَّلُهُ اثْنَيْنِ، كَحَجْبِ الْبَنَاتِ بَنَاتِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ، وَالْإِخْوَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الِاثْنَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي أَخٍ وَأُخْتٍ. وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ يَجْعَلُ الِاثْنَيْنِ جَمْعًا حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ مَجَازًا، فَيَصْرِفُ إلَيْهِ بِالدَّلِيلِ. وَلَا فَرْقَ فِي حَجْبِهَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِخْوَةً} [النساء: 176] . وَهَذَا يَقَعُ عَلَى الْجَمِيعِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً} [النساء: 176] . فَفَسَّرَهُمْ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، إذَا كَانَ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أَوْ امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ، فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي، بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ. وَهَذِهِ يَأْتِي ذِكْرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْأَبِ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ إلَّا السُّدُسُ] (4826) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْأَبِ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ، أَوْ وَلَدِ الِابْنِ، إلَّا السُّدُسُ، فَإِنْ كُنَّ بَنَاتٍ كَانَ لَهُ مَا فَضَلَ. يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَ لَهُ مَا فَضَلَ بَعْدَ أَنْ يُفْرَضَ لَهُ السُّدُسُ، فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ حَالٌ يَرِثُ فِيهَا بِالْفَرْضِ، وَهِيَ مَعَ الِابْنِ أَوْ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَمَنْ مَعَهُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] . الْحَالُ الثَّانِيَةُ، يَرِثُ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ الْمُجَرَّدِ، وَهِيَ مَعَ غَيْرِ الْوَلَدِ، فَيَأْخُذُ الْمَالَ إنْ انْفَرَدَ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 ذُو فَرْضٍ غَيْرُ الْوَلَدِ، كَزَوْجٍ، أَوْ أُمٍّ، أَوْ جَدَّةٍ، فَلِذِي الْفَرْضِ فَرْضُهُ، وَبَاقِي الْمَالِ لَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . فَأَضَافَ الْمِيرَاثَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ جَعَلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، فَكَانَ الْبَاقِي لِلْأَبِ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . فَجَعَلَ لِلْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ السُّدُسَ، وَلَمْ يَقْطَعْ إضَافَةَ الْمِيرَاثِ إلَى الْأَبَوَيْنِ، وَلَا ذَكَرَ لِلْإِخْوَةِ مِيرَاثًا، فَكَانَ الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْأَبِ. الْحَالُ الثَّالِثَةُ، يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ؛ الْفَرْضُ وَالتَّعْصِيبُ، وَهِيَ مَعَ إنَاثِ الْوَلَدِ، أَوْ وَلَدِ الِابْنِ، فَلَهُ السُّدُسُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] . وَلِهَذَا كَانَ لِلْأَبِ السُّدُسُ مَعَ الْبِنْتِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ بِالتَّعْصِيبِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَبُ أَوْلَى رَجُلٍ بَعْدَ الِابْنِ وَابْنِهِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، فَلَيْسَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ اخْتِلَافٌ نَعْلَمُهُ. [فَصْلٌ الْجَدُّ كَالْأَبِ فِي أَحْوَالِهِ] (4827) فَصْلٌ: وَالْجَدُّ كَالْأَبِ فِي أَحْوَالِهِ الثَّلَاثِ، وَلَهُ حَالٌ رَابِعٌ مَعَ الْإِخْوَةِ يُذْكَرُ فِي بَابِهِ، وَيَسْقُطُ بِالْأَبِ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِهِ، فَيَسْقُطُ بِهِ، كَالْإِخْوَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَدٍّ يَسْقُطُ بِابْنِهِ؛ لِكَوْنِهِ يُدْلِي بِهِ. وَيَنْقُصُ الْجَدُّ عَنْ رُتْبَةِ الْأَبِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، أَوْ امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ، فَيُفْرَضُ لِلْأُمِّ فِيهِمَا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَبَاقِيهِ لِلْجَدِّ، بِخِلَافِ الْأَبِ. [مَسْأَلَةٌ فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ] (4828) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ، فَلَهُ الرُّبُعُ، وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَرْبَعًا، إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ ذُو فَرْضٍ، لَا يَرِثَانِ بِغَيْرِهِ. وَفَرْضُ الزَّوْجِ النِّصْفُ مَعَ عَدَمِ وَلَدِ الْمَيِّتَةِ وَوَلَدِ ابْنِهَا، وَالرُّبُعُ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ. وَفَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ الرُّبُعُ مَعَ عَدَمِ وَلَدِ الزَّوْجِ وَوَلَدِ ابْنِهِ، وَالثُّمُنُ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ الْوَاحِدُ وَالْأَرْبَعُ سَوَاءٌ. بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وَإِنَّمَا جَعَلَ لِلْجَمَاعَةِ مِثْلَ مَا لِلْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ الرُّبُعُ، وَهُنَّ أَرْبَعٌ، لَأَخَذْنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 جَمِيعَ الْمَالِ، وَزَادَ فَرْضُهُنَّ عَلَى فَرْضِ الزَّوْجِ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْجَدَّاتِ لِلْجَمَاعَةِ مِثْلُ مَا لِلْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّاتِ لَوْ أَخَذَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ السُّدُسَ، لَأَخَذْنَ النِّصْفَ، فَزِدْنَ عَلَى مِيرَاثِ الْجَدِّ. فَأَمَّا سَائِرُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، كَالْبَنَاتِ، وَبَنَاتِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ كُلِّهِنَّ، فَإِنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُنَّ مِثْلَ مَا لِلِاثْنَتَيْنِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَزِدْنَ عَلَى فَرْضِ؛ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ الَّذِي يَرِثُ فِي دَرَجَتِهِنَّ لَا فَرْضَ لَهُ، إلَّا وَلَدَ الْأُمِّ، فَإِنَّ ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ، وَقَرَابَةِ الْأُمِّ الْمُجَرَّدَةِ. [مَسْأَلَةٌ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ] (4829) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ. وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. وَابْنُ الْأَخِ وَإِنْ سَفَلَ إذَا كَانَ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ. وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. وَابْنُ الْعَمِّ وَإِنْ سَفَلَ أَوْلَى مِنْ عَمِّ الْأَبِ هَذَا فِي مِيرَاثِ الْعَصَبَةِ، وَهُمْ الذُّكُورُ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ، وَآبَائِهِ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَلَيْسَ مِيرَاثُهُمْ مُقَدَّرًا، بَلْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ كُلَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ لَا يَسْقُطُ بِهِمْ أَخَذُوا الْفَاضِلَ عَنْ مِيرَاثِهِ كُلِّهِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَنْ بَعُدَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَأَقْرَبُهُمْ الْبَنُونَ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، يُسْقِطُ قَرِيبُهُمْ بَعِيدَهُمْ، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ آبَاؤُهُ وَإِنْ عَلَوْا، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ بَنُو الْأَبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ. وَيَسْقُطُ الْبَعِيدُ بِالْقَرِيبِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَرِيبُ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ وَحْدَهُ. فَإِنْ اجْتَمَعُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أَوْلَى؛ لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ بِالْأُمِّ، فَلِهَذَا قَالَ: ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ. لِأَنَّهُمَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ. وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْأَخِ لِلْأَبِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا، وَمَهْمَا بَقِيَ مِنْ بَنِي الْأَخِ أَحَدٌ، وَإِنْ سَفَلَ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ، وَالْعَمُّ مِنْ وَلَدِ الْجَدِّ. فَإِذَا انْقَرَضَ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ، فَالْمِيرَاثُ لِلْأَعْمَامِ ثُمَّ بَنِيهِمْ، عَلَى هَذَا النَّسَقِ، إنْ اسْتَوَتْ دَرَجَتُهُمْ قُدِّمَ مَنْ هُوَ لِأَبَوَيْنِ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ قُدِّمَ الْأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ، وَمَهْمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَإِنْ سَفَلَ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ عَمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَامَ مِنْ وَلَدِ الْجَدِّ، وَأَعْمَامَ الْأَبِ مِنْ وَلَدِ أَبِ الْجَدِّ، فَإِذَا انْقَرَضُوا، فَالْمِيرَاثُ لِأَعْمَامِ الْأَبِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ، ثُمَّ لِأَعْمَامِ الْجَدِّ، ثُمَّ بَنِيهِمْ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا، لَا يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى مَعَ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ] (4830) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أُعْطِيَ الزَّوْجُ النِّصْفَ، وَالْأُمُّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ. وَإِذَا كَانَتْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، أُعْطِيت الزَّوْجَةُ الرُّبُعَ، وَالْأُمُّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ. هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ تُسَمَّيَانِ الْعُمَرِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِيهِمَا بِهَذَا الْقَضَاءِ، فَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُلُثَ الْمَالِ كُلَّهُ لِلْأُمِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا الثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَالْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَلَدٌ وَلَا إخْوَةٌ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٌ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّنَا لَوْ فَرَضْنَا لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْمَالِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، لَفَضَّلْنَاهَا عَلَى الْأَبِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَرْأَةِ، لَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَالْأَبُ هَاهُنَا عَصَبَةٌ؛ فَيَكُونُ لَهُ مَا فَضَلَ عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَكَانَهُ جَدٌّ، وَالْحُجَّةُ مَعَهُ لَوْلَا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرِيضَةَ إذَا جَمَعَتْ أَبَوَيْنِ وَذَا فَرْضٍ، كَانَ لِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُمْ بِنْتٌ وَيُخَالِفُ الْأَبُ الْجَدَّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ فِي دَرَجَتِهَا، وَالْجَدَّ أَعْلَى مِنْهَا. وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ سِيرِينَ تَفْرِيقٌ فِي مَوْضِعٍ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِيهِ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الزَّوْجِ يَأْخُذُ مِثْلَيْ مَا أَخَذَتْ الْأُمُّ، كَذَلِكَ مَعَ الْمَرْأَةِ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَإِخْوَةً مِنْ أُمٍّ وَإِخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ] قَالَ: (4831) مَسْأَلَةٌ (وَإِذَا كَانَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَإِخْوَةٌ مِنْ أُمٍّ وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخُوَّةِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 وَسَقَطَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ) . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى الْمُشْرَكَةَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَسْأَلَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَاثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ وَعَصَبَةٌ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ الْمُشْرَكَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ شَرَكَ فِيهَا بَيْنَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ فِي فَرْضِ وَلَدِ الْأُمِّ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَتُسَمَّى الْحِمَارِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْقَطَ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَيْسَتْ أُمُّنَا وَاحِدَةً؟ فَشَرَكَ بَيْنَهُمْ. وَيُقَالُ: إنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ ذَلِكَ فَسُمِّيَتْ الْحِمَارِيَّةَ لِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَذَهَبَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهَا إلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثَ، وَسَقَطَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ وَقَدْ تَمَّ الْمَالُ بِالْفُرُوضِ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَشَرِيكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ شَرَكُوا بَيْنَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ، فَقَسَّمُوهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّهُمْ سَاوَوْا وَلَدَ الْأُمِّ فِي الْقَرَابَةِ الَّتِي يَرِثُونَ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْمِيرَاثِ؛ فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَقَرَابَتُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ إنْ لَمْ تَزِدْهُمْ قُرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْقِطَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ لِعُمَرَ وَقَدْ أَسْقَطَهُمْ: هَبْ أَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ حِمَارًا، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إلَّا قُرْبًا فَشَرَكَ بَيْنَهُمْ. وَحَرَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا قِيَاسًا، فَقَالَ: فَرِيضَتُهُ جَمَعَتْ وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَوَلَدَ الْأُمِّ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ فَإِذَا وَرِثَ وَلَدُ الْأُمِّ، وَجَبَ أَنْ يَرِثَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَدُ الْأُمِّ عَلَى الْخُصُوصِ، فَمَنْ شَرَكَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُعْطِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . يُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ سَائِرُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ، بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَمَنْ شَرَكَ فَلَمْ يُلْحِقْ الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ عَصَبَةٌ لَا فَرْضَ لَهُمْ، وَقَدْ تَمَّ الْمَالُ بِالْفُرُوضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطُوا، كَمَا لَوْ كَانَ مَكَانَ وَلَدِ الْأُمِّ ابْنَتَانِ. وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَمِائَةٌ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، لَكَانَ لِلْوَاحِدِ السُّدُسُ، وَلِلْمِائَةِ السُّدُسُ الْبَاقِي، لِكُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ عُشْرِهِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَفْضُلَهُمْ الْوَاحِدُ هَذَا الْفَضْلَ كُلَّهُ، لِمَ لَا يَجُوزُ لِاثْنَيْنِ إسْقَاطُهُمْ؟ وَقَوْلُهُمْ: تَسَاوَوْا فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ. قُلْنَا: فَلِمَ لَمْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ وَعَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنْ سَاوَوْهُمْ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ فَقَدْ فَارَقُوهُمْ فِي كَوْنِهِمْ عَصَبَةً مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْفُرُوضِ. وَهَذَا الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِتَقْدِيمِ وَلَدِ الْأُمِّ، وَتَأْخِيرِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ ذَوِي الْفُرُوضِ، وَتَأْخِيرِ الْعَصَبَةِ، وَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ وَلَدُ الْأُمِّ عَلَى وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ فِي الْقَدْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَشِبْهِهَا، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ وَإِنْ سَقَطَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَغَيْرِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي زَوْجٍ وَأُخْتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأُخْتٍ مِنْ أَبٍ مَعَهَا أَخُوهَا، إنَّ الْأَخَ يَسْقُطُ وَحْدَهُ، فَتَرِثُ أُخْتُهُ السُّبْعَ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهَا مَعَ وُجُودِهِ كَقَرَابَتِهَا مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ لَمْ يَحْجُبْهَا، فَهَلَّا عَدُّوهُ حِمَارًا، وَوَرَّثُوهَا مَعَ وُجُودِهِ كَمِيرَاثِهَا مَعَ عَدَمِهِ؟ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ طَرْدِيٌّ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، قَالَ الْعَنْبَرِيُّ: الْقِيَاسُ مَا قَالَ عَلِيٌّ، وَالِاسْتِحْسَانُ مَا قَالَ عُمَرُ. قَالَ الْخَبْرِيُّ: وَهَذِهِ وَسَاطَةٌ مَلِيحَةٌ، وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ وَضْعٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيل، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْمُعَارِضِ، فَكَيْفَ وَهُوَ فِي مَسْأَلَتِنَا يُخَالِفُ ظَاهَرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَمِنْ الْعَجَبِ ذَهَابُ الشَّافِعِيِّ إلَيْهِ هَاهُنَا، مَعَ تَخْطِئَتِهِ الذَّاهِبِينَ إلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُهُ: مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَعَ. وَمُوَافَقَتُهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْلَى. [فَصْلٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَإِخْوَة مِنْ أُمٍّ وَعُصْبَة مِنْ وَلَد الْأَب] (4832) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ مَكَان وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ عَصَبَةٌ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ سَقَطَ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَمْ يُوَرِّثْهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْنَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسَاوُوا وَلَدَ الْأُمِّ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَهُمْ أَخَوَاتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَبٍ، فُرِضَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَعَالَتْ الْمَسْأَلَةُ إلَى عَشْرَةٍ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، مِمَّنْ لَا يَرَى الْعَوْلَ، فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ النَّقْصَ عَلَى الْأَخَوَاتِ غَيْرِ وَلَدِ الْأُمِّ، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِ سُقُوطُ الْأَخَوَاتِ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانُوا إخْوَةً، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أُمًّا وَابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ وَالْآخَرُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ] (4833) فَصْلٌ: إذَا قِيلَ امْرَأَةٌ خَلَّفَتْ أُمًّا، وَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ وَالْآخَرُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَقُلْ: هَذِهِ الْمُشْرَكَةُ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ الْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَبِ. وَمَنْ شَرَكَ جَعَلَ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ التُّسْعَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ تُسْعًا. [مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَإِخْوَة وَأَخَوَات لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَات لِأَبٍ] (4834) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَإِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ لِأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْإِخْوَةِ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ، وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ، وَلِلْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ السُّدُسُ) أَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ، فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا رِوَايَةً شَذَّتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ فَضَّلَ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] . فَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقَوْلُهُ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] . مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ لَبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُمْ بِشَيْءٍ أَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَالْمُرَادُ بِهَا وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَوَلَدُ الْأَبِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفَ وَلِلِاثْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَجَعَلَ الْأَخَ يَرِثُ أُخْتَهُ الْكَلَّ ثُمَّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلٍ شَاذٍّ، وَتَوْرِيثُ وَلَدِ الْأُمِّ هَاهُنَا الثُّلُثَ وَالْأُمِّ السُّدُسَ وَالزَّوْجِ النِّصْفَ، تَسْمِيَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا أَيْضًا. وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُرُوضٌ يَضِيقُ الْمَالُ عَنْهَا، فَإِنَّ النِّصْفَ لِلزَّوْجِ، وَالنِّصْفَ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، يَكْمُلُ الْمَالُ بِهِمَا، وَيَزِيدُ ثُلُثُ وَلَدِ الْأُمِّ، وَسُدُسُ الْأُمِّ، وَسُدُسُ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ، فَتَعُولُ الْمَسْأَلَةُ بِثُلُثَيْهَا، وَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ، فَتَعُولُ إلَى عَشْرَةٍ، وَتُسَمَّى أُمَّ الْفُرُوخِ؛ لِكَثْرَةِ عَوْلِهَا، شَبَّهُوا أَصْلَهَا بِالْأُمِّ، وَعَوْلَهَا بِفُرُوخِهَا، وَلَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ مَسْأَلَةٌ تَعُولُ بِثُلُثَيْهَا سِوَى هَذِهِ وَشِبْهِهَا، وَلَا بُدَّ فِي أَمِّ الْفُرُوخِ مِنْ زَوْجٍ وَاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ، وَاثْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ الْأَبِ، أَوْ إحْدَاهُمَا مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَالْأُخْرَى مِنْ وَلَدِ الْأَبِ، فَمَتَى اجْتَمَعَ فِيهَا هَذَا، عَالَتْ إلَى عَشْرَةٍ، وَمَعْنَى الْعَوْلِ أَنْ تَزْدَحِمَ فُرُوضٌ لَا يَتَّسِعُ الْمَالُ لَهَا، كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ فُرُوضِهِمْ، كَمَا يُقَسَّمُ مَالُ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ؛ لِضِيقِ مَالِهِ عَنْ وَفَائِهِمْ، وَمَالُ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ إذَا لَمْ يَفِ لَهَا، وَالثُّلُثُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْوَصَايَا إذَا عَجَزَ عَنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَطَائِفَةً شَذَّتْ يَقِلُّ عَدَدُهَا. نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءٍ، وَدَاوُد، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَعُولُ الْمَسَائِلُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ، فِي زَوْجٍ، وَأُخْتٍ، وَأُمٍّ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ الْمَسَائِلَ لَا تَعُولُ، إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجَ عَدَدًا أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي مَالٍ نِصْفًا، وَنِصْفًا، وَثُلُثًا، هَذَانِ نِصْفَانِ ذَهَبَا بِالْمَالِ، فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ؟ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ الْمُبَاهَلَةِ لِذَلِكَ، وَهِيَ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ عَائِلَةٍ حَدَثَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ لِلْمَشُورَةِ فِيهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ أَرَى أَنْ تَقْسِمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ. فَأَخَذَ بِهِ عُمَرُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى خَالَفَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَقِيت زُفَرَ بْنَ أَوْسٍ الْبَصْرِيَّ، فَقَالَ: نَمْضِي إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ نَتَحَدَّثُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 عِنْدَهُ، فَأَتَيْنَاهُ، فَتَحَدَّثْنَا عِنْدَهُ، فَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ، أَنَّهُ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجَ عَدَدًا، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي مَالٍ نِصْفًا، وَنِصْفًا، وَثُلُثًا، ذَهَبَ النِّصْفَانِ بِالْمَالِ، فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ، وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ، وَأَخَّرُوا مَنْ أَخَّرَ اللَّهُ، مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ أَبَدًا، فَقَالَ زُفَرُ: فَمَنْ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ، وَمِنْ الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: الَّذِي أَهْبَطَهُ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ، فَذَلِكَ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ، وَاَلَّذِي أَهْبَطَهُ مِنْ فَرْضٍ إلَى مَا بَقِيَ، فَذَلِكَ الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ. فَقَالَ زُفَرُ: فَمَنْ أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقُلْت: أَلَا أَشَرْت عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: هِبْتُهُ، وَكَانَ امْرَأً مَهِيبًا. قَوْلُهُ: مَنْ أَهْبَطَهُ مِنْ فَرِيضَةٍ إلَى فَرِيضَةٍ، فَذَلِكَ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ. يُرِيدُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ وَالْأُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرْضٌ، ثُمَّ يُحْجَبُ إلَى فَرْضٍ آخَرَ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ أَهْبَطَهُ مِنْ فَرْضٍ إلَى مَا بَقِيَ، يُرِيدُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتَ، فَإِنَّهُنَّ يُفْرَضُ لَهُنَّ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُنَّ إخْوَتُهُنَّ، وَرِثُوا بِالتَّعْصِيبِ، فَكَانَ لَهُمْ مَا بَقِيَ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَكَانَ مَذْهَبُهُ، أَنَّ الْفُرُوضَ إذَا ازْدَحَمَتْ رُدَّ النَّقْصُ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ انْفَرَدَ أَخَذَ فَرْضَهُ، فَإِذَا ازْدَحَمُوا وَجَبَ أَنْ يَقْتَسِمُوا عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ، كَأَصْحَابِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ، كَمَا فَرَضَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَفَرَضَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ،. كَمَا فَرَضَ الثُّلُثَ لِلْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ، فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ فَرْضِ بَعْضِهِمْ، مَعَ نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْوَفَاءُ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي النَّقْصِ عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ، كَالْوَصَايَا، وَالدُّيُونِ، وَقَدْ يَلْزَمُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى قَوْلِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، فَإِنْ حَجَبَ الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ خَالَفَ مَذْهَبَهُ فِي حَجْبِ الْأُمِّ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ، وَإِنْ نَقَصَ الْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ، رَدَّ النَّقْصَ عَلَى مَنْ لَمْ يُهْبِطْهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضٍ إلَى مَا بَقِيَ، وَإِنْ أَعَالَ الْمَسْأَلَةَ، رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ، وَلَا نَعْلَمُ الْيَوْمَ قَائِلًا بِمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقَوْلِ بِالْعَوْلِ، بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ. [فَصْلٌ فِي مَسْأَلَتَيْنِ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَالثَّانِيَةُ امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ] (4835) فَصْلٌ: حَصَلَ خِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلصَّحَابَةِ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ، اشْتَهَرَ قَوْلُهُ فِيهَا؛ أَحَدُهَا، زَوْجٌ وَأَبَوَانِ. وَالثَّانِيَةُ، امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ، لِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَهُمْ، وَجَعَلَ هُوَ لَهَا ثُلُثَ الْمَالِ فِيهَا. وَالثَّالِثَةُ، أَنَّهُ لَا يَحْجُبُ الْأُمَّ إلَّا بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ. وَالرَّابِعَةُ، لَمْ يَجْعَلْ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً. وَالْخَامِسَةُ، أَنَّهُ لَا يُعِيلُ الْمَسَائِلَ. فَهَذِهِ الْخَمْسُ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهَا، وَاشْتَهَرَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهَا، وَشَذَّتْ عَنْهُ رِوَايَاتٌ سِوَى هَذِهِ، ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِيمَا مَضَى. [مَاتَ وَتَرَك ابْنِي عَمٍّ أَحَدِهِمَا أَخٍ لِأُمٍّ] (4836) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا كَانَا ابْنَا عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْمَالُ لِلَّذِي هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي قَرَابَةٍ لِأَبٍ وَفَضَلَهُ هَذَا بِأُمٍّ، فَصَارَ كَأَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ، أَحَدُهُمَا لِأَبَوَيْنِ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ابْنُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، وَابْنُ عَمٍّ لِأَبٍ، كَانَ ابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى، فَإِذَا كَانَ قُرْبُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ وَلَدِ الْجَدَّةِ قَدَّمَهُ، فَكَوْنُهُ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ أَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ يُفْرَضُ لَهُ بِهَا، إذَا لَمْ يَرِثْ بِالتَّعْصِيبِ، وَهُوَ إذَا كَانَ مَعَهُ أَخٌ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَبٍ أَوْ عَمٍّ، وَمَا يُفْرَضُ لَهُ بِهِ، لَا يُرَجَّحُ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجًا، وَيُفَارِقُ الْأَخَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَالْعَمَّ وَابْنِ الْعَمَّ، إذَا كَانَا مِنْ أَبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْرَضُ لَهُ بِقَرَابَةِ أُمِّهِ شَيْءٌ، فَرَجَحَ بِهِ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِي إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ تَرْجِيحٌ وَفَرْضٌ. (4837) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَخٌ لِأَبٍ، فَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَخٌ مِنْ أَبَوَيْنِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، وَابْنُ عَمٍّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لِلْأَخِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك ابْنِي عَمٍّ أَحَدهمَا أَخٌ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتًا أَوْ بِنْتِ ابْنٍ] (4838) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ مِنْ أُمٍّ، وَبِنْتٌ أَوْ بِنْتُ ابْنٍ، فَلِلْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الِابْنِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَسَقَطَتْ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ بِالْبِنْتِ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ ابْنَ عَمٍّ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَخَذَ الْبَاقِي كُلَّهُ كَذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي لِلْأَخِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَخَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، فَإِنْ كَانَ فِي الْفَرِيضَةِ بِنْتٌ تَحْجُبُ قَرَابَةَ الْأُمِّ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ الْبَاقِيَ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَبٍ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ بِالْقَرَابَتَيْنِ مِيرَاثًا وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ فِي الْفَرِيضَةِ مَنْ يَحْجُبُ إحْدَاهُمَا، سَقَطَ مِيرَاثُهُ. كَمَا لَوْ اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ الْمَالَ، سَقَطَ الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَلَمْ يَرِثْ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْمُشْرَكَةِ. وَلَنَا، عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ الْبِنْتَ تُسْقِطُ الْمِيرَاثَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، فَيَبْقَى التَّعْصِيبُ مُنْفَرِدًا، فَيَرِثُ بِهِ، وَفَارَقَ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ؛ فَإِنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ لَمْ يُرَجَّحْ بِهَا، وَلَا يُفْرَضُ لَهَا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مَا يَحْجُبُهَا. وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُفْرَضُ لَهُ بِهَا فَإِذَا كَانَ فِي الْفَرِيضَةِ مَنْ يَحْجُبُهَا، سَقَطَتْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 أَخٌ، أَخٌ مِنْ أَبٍ، وَبِنْتٌ، لَحَجَبَتْ الْبِنْتُ قَرَابَةَ الْأُمِّ، وَلَمْ تَرِثْ بِهَا شَيْئًا، فَكَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ، وَلَوْلَا الْبِنْتُ لَوَرِثَ لِكَوْنِهِ أَخًا مِنْ أُمٍّ السُّدُسَ، فَإِذَا حَجَبَتْهُ الْبِنْتُ مَعَ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ، وَجَبَ أَنْ تَحْجُبَهُ فِي كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّ الْحَجْبَ بِهَا لَا بِالْأَخِ مِنْ الْأَبِ. مَا ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُنْتَقَضُ بِالْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، مَعَ الْبِنْتِ، وَبِابْنِ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا وَمَعَهُ مَنْ يَحْجُبُ بَنِي الْعَمِّ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَرِثُ مِيرَاثًا وَاحِدًا، بَلْ يَرِثُ بِقَرَابَتِهِ مِيرَاثَيْنِ كَشَخْصَيْنِ، فَصَارَ كَابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ زَوْجٌ، وَفَارَقَ الْأَخَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ إلَّا مِيرَاثًا وَاحِدًا، فَإِنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ لَا تَرِثُ بِهَا مُفْرَدَةً. (4839) فَصْلٌ: فَحَصَلَ خِلَافُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَسَائِلَ سِتٍّ، هَذِهِ إحْدَاهُنَّ، وَالثَّانِيَةُ، فِي بِنْتٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ، الْبَاقِي عِنْدَهُ لِلِابْنِ دُونَ أَخَوَاتِهِ. الثَّالِثَةُ، فِي أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ، الْبَاقِي عِنْدَهُ لِلْأَخِ دُونَ أَخَوَاتِهِ. الرَّابِعَةُ، بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ وَبَنَاتُ ابْنٍ، عِنْدَهُ لِبَنَاتِ الِابْنِ الْأَضَرُّ بِهِنَّ مِنْ السُّدُسِ أَوْ الْمُقَاسَمَةِ. الْخَامِسَةُ، أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ، لِلْأَخَوَاتِ عِنْدَهُ الْأَضَرُّ بِهِنَّ مِنْ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ، كَانَ يَحْجُبُ الزَّوْجَيْنِ وَالْأُمَّ بِالْكُفَّارِ وَالْعَبِيدِ وَالْقَاتِلِينَ، وَلَا يُوَرِّثُهُمْ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك ابْن ابْنِ عَمٍّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَابْن ابْنِ عَمٍّ آخَر] (4840) فَصْلٌ: ابْنُ ابْنِ عَمٍّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، وَابْنُ ابْنِ عَمٍّ آخَرُ، لِلْأَخِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، الْكُلُّ لِلْأَخِ، وَسَقَطَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ أَخٍ لِأُمٍّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ بِقَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْأَخِ لِلْأُمِّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَإِنْ كَانَ عَمَّانِ؛ أَحَدُهُمَا خَالٌ لِأُمٍّ، لَمْ يُرَجَّحْ بِخُؤُولَتِهِ. وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُود وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُرَجَّحُ بِهَا. وَالثَّانِي، يُرَجَّحُ بِهَا عَلَى الْعَمِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَبٍ، فَيَأْخُذُ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، وَالْآخَرُ ابْنُ الْجَدِّ لَا غَيْرُ. وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ الْآخَرُ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِجَدَّةٍ، وَهُمَا ابْنَا الْجَدِّ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا خَالٌ أَوْ ابْنَيْ ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا خَالٌ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، فَلَا أَثَرَ لِهَذَا عِنْدَهُمْ. [مَاتَ وَتَرَك ابْنِي عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ] (4841) فَصْلٌ: ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ. فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ. فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَخًا مِنْ أُمٍّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُمِّ اثْنَانِ، وَتُرَجَّحُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 بِالِاخْتِصَارِ إلَى ثَلَاثَةٍ. وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، الْبَاقِي لِلْأَخِ، فَتَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ. ثَلَاثَةُ بَنِي عَمٍّ، أَحَدُهُمْ زَوْجٌ، وَالْآخَرُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، يُضْرَبُ فِيهَا الثَّلَاثَةُ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ تِسْعَةٌ، وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى سِتَّةُ بَيْنَهُمْ، عَلَى ثَلَاثَةٍ فَيَحْصُلُ لِلزَّوْجِ أَحَدَ عَشَرَ، وَهِيَ النِّصْفُ وَالتُّسْعُ، وَلِلْأَخِ خَمْسَةٌ، وَهِيَ السُّدُسُ وَالتُّسْعُ، وَلِلثَّالِثِ التُّسْعُ سَهْمَانِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، فَالْبَاقِي كُلُّهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ وَالثَّالِثُ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ الثُّلُثَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ سُدُسٌ. وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَجْعَلُ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ لِلَّذِي هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك أَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ أَحَدهمَا ابْنُ عَمٍّ] (4842) فَصْلٌ: أَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ. فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ. وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لِابْنِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ. وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ، أَحَدُهُمْ ابْنُ عَمٍّ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَإِنْ كَانَ اثْنَانِ مِنْهُمْ ابْنَيْ عَمٍّ، فَالْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك ثَلَاثَة إخْوَةٍ لِأُمٍّ أَحَدهمْ ابْنُ عَمٍّ وَثَلَاثَةُ بَنِي عَمٍّ أَحَدُهُمْ أَخٌ لِأُمٍّ] (4843) فَصْلٌ: ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ لِأُمٍّ، أَحَدُهُمْ ابْنُ عَمٍّ، وَثَلَاثَةُ بَنِي عَمٍّ، أَحَدُهُمْ أَخٌ لِأُمٍّ، فَاضْمُمْ وَاحِدًا مِنْ كُلِّ عَدَدٍ إلَى الْعَدَدِ الْآخَرِ، يَصِيرُ مَعَك أَرْبَعَةُ بَنِي عَمٍّ، وَأَرْبَعَةُ إخْوَةٍ، فَهُمْ سِتَّةٌ فِي الْعَدَدِ، وَفِي الْأَحْوَالِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ اجْعَلْ الثُّلُثَ لِلْإِخْوَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالثُّلُثَيْنِ عَلَى بَنِي الْعَمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لَكُلِّ أَخٍ مُفْرَدٍ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ ابْنِ عَمٍّ مُفْرَدٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنِ عَمٍّ هُوَ أَخٌ ثَلَاثَةٌ، فَيَحْصُلُ لَهُمَا النِّصْفُ، وَلِلْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ النِّصْفُ وَعَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ لِلْإِخْوَةِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِابْنَيْ الْعَمِّ اللَّذَيْنِ هُمَا أَخَوَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ أُصُولِ سِهَامِ الْفَرَائِضِ الَّتِي تَعُولُ] ُ مَعْنَى أُصُولِ الْمَسَائِلِ الْمَخَارِجُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا فُرُوضُهَا، وَأُصُولُ الْمَسَائِلِ كُلُّهَا سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْفُرُوضَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ؛ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ. وَمَخَارِجُ هَذِهِ الْفُرُوضِ مُفْرَدَةٌ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ مَخْرَجُهُمَا وَاحِدٌ، وَالنِّصْفُ مِنْ اثْنَيْنِ، وَالثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالسُّدُسُ مِنْ سِتَّةٍ، وَالثُّمُنُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالرُّبُعُ مَعَ السُّدُسِ أَوْ الثُّلُثِ أَوْ الثُّلُثَيْنِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَالثُّمُنُ مَعَ السُّدُسِ أَوْ الثُّلُثَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَصَارَتْ سَبْعَةً. وَهَذِهِ الْفُرُوضُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، النِّصْفُ وَنِصْفُهُ وَنِصْفُ نِصْفِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 وَالثَّانِي، الثُّلُثَانِ وَنِصْفُهُمَا وَنِصْفُ نِصْفِهِمَا. وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا فَرْضٌ مُفْرَدٌ فَأَصْلُهَا مِنْ مَخْرَجِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْضَانِ يُؤْخَذُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَخْرَجِ الْآخَرِ فَأَصْلُهَا مِنْ مَخْرَجِ أَقَلِّهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْضَانِ مِنْ نَوْعَيْنِ لَا يُؤْخَذُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَخْرَجِ الْآخَرِ، فَاضْرِبْ أَحَدَ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الْآخَرِ، أَوْ وَفِّقْهُ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيهَا يَكُونُ الْعَوْلُ؛ لِأَنَّ الْعَوْلَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَسْأَلَةٍ تَزْدَحِمُ فِيهَا الْفُرُوضُ، وَلَا يَتَّسِعُ الْمَالُ لَهَا فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِصْفٌ وَفَرْضٌ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ النِّصْفِ اثْنَانِ، وَمَخْرَجَ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ ثَلَاثَةٌ، فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ سِتَّةً، وَهَكَذَا سَائِرُهَا. وَالْمَسَائِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ عَادِلَةٌ، وَعَائِلَةٍ، وَرَدٌّ. فَالْعَادِلَةُ، الَّتِي يَسْتَوِي مَالُهَا وَفُرُوضُهَا. وَالْعَائِلَةُ الَّتِي تَزِيدُ فُرُوضُهَا عَنْ مَالِهَا. وَالرَّدُّ الَّتِي يَفْضُلُ مَالُهَا عَنْ فُرُوضِهَا وَلَا عَصَبَةَ فِيهَا. وَسَنَذْكُرُ أَمْثِلَةَ هَذِهِ الْأَضْرُبِ فِي هَذَا الْبَابِ، بِعَوْنِ اللَّهِ. [مَسْأَلَةٌ مَا فِيهِ نِصْفٌ وَسُدُسٌ أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثٌ أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثَانِ فِي الْعَوْل] (4844) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَمَا فِيهِ نِصْفٌ وَسُدُسٌ، أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثٌ، أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثَانِ، فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ وَإِلَى تِسْعَةٍ وَإِلَى عَشْرَةٍ، وَلَا تَعُولُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ نِصْفٌ وَسُدُسٌ. فَإِنَّ مَخْرَجَ النِّصْفِ اثْنَانِ، وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَخْرَجِ السُّدُسِ وَهُوَ السِّتَّةُ، فَكَانَ أَصْلُهُمَا جَمِيعًا سِتَّةً، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ سُدُسٌ وَثُلُثٌ أَوْ ثُلُثَانِ، فَأَصْلُهُمَا مِنْ مَخْرَجِ السُّدُسِ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ النِّصْفُ وَالثُّلُثَانِ أَوْ الثُّلُثُ، فَإِنَّ مَخْرَجَ النِّصْفِ اثْنَانِ، وَمَخْرَجَ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ ثَلَاثَةٌ. وَلَا وَفْقَ بَيْنَهُمَا، فَاضْرِبْ أَحَدَ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الْآخَرِ، تَكُنْ سِتَّةً، وَيَصِيرُ كُلُّ كَسْرٍ بِعَدَدِ مَخْرَجِ الْآخَرِ وَيَدْخُلُ الْعَوْلُ هَذَا الْأَصْلَ، لِازْدِحَامِ الْفُرُوضِ فِيهِ، وَهُوَ أَكْثُرهَا عَوْلًا. وَالْعَوْلُ زِيَادَةٌ فِي السِّهَامِ، وَنُقْصَانٌ فِي أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ؛ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخٌ مِنْ أُمٍّ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَمِنْهَا تَصِحُّ، زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، بِنْتٌ وَأُمٌّ وَعَمٌّ، أَوْ عَصَبَةٌ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَأَخٌ مِنْ أُمٍّ أَوْ أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ، أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ وَبِنْتٌ وَأَبَوَانِ، بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَأَبَوَانِ أَوْ جَدٌّ وَجَدَّةٌ، الْعَوْلُ زَوْجٌ وَأُخْتَانِ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَبٍ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَبَوَيْنِ وَالْأُخْرَى مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، أَوْ أُخْتٌ مِنْ أَبٍ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ، زَوْجٌ وَأُخْتٌ وَجَدَّةٌ أَوْ أَخٌ لِأُمٍّ، سِتُّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَأُمُّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ. عَوْلُ ثَمَانِيَةٍ: زَوْجٌ وَأُخْتٌ وَأُمٌّ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ، تَعُولُ إلَى ثَمَانِيَةٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُبَاهَلَةِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُخْتٌ أُخْرَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، أَوْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ فَهِيَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ أَيْضًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 عَوْلُ تِسْعَةٍ: زَوْجٌ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، تَعُولُ إلَى تِسْعَةٍ، وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ، زَوْجٌ وَأُمٌّ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ. كَذَلِكَ. عَوْلُ عَشْرَةٍ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ تَعُولُ إلَى عَشَرَةٍ، وَتُسَمَّى أُمَّ الْفُرُوخِ، لِكَثْرَةِ عَوْلِهَا، لِأَنَّهَا عَالَتْ بِثُلُثَيْهَا، فَشَبَّهُوا الْأَصْلَ بِالْأُمِّ، وَالْعَوْلَ بِالْفَرْخِ. وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ، وَلَمْ تَتْرُكْ وَلَدًا، فَكَمْ لِي مِنْ مِيرَاثِهَا؟ قَالَ: لَكَ النِّصْفُ، فَمَنْ خَلَّفَتْ؟ قَالَ: خَلَّفَتْ أُمَّهَا وَأُخْتَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُخْتَيْهَا مِنْ أُمِّهَا وَأَبًا. قَالَ: لَك ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ عَشَرَةٍ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ قَاضِيكُمْ؟ قَالَ: لِي النِّصْفُ فَوَاَللَّهِ مَا أَعْطَانِي نِصْفًا وَلَا ثُلُثًا. فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَلَا إنَّك تَرَانِي قَاضِيًا ظَالِمًا، وَأَنَا أَرَاك رَجُلًا فَاجِرًا، تَكْتُمُ الْقِصَّةَ وَتُذِيعُ الْفَاحِشَةَ. وَمَتَى عَالَتْ الْمَسْأَلَةُ إلَى تِسْعَةٍ أَوْ إلَى عَشَرَةٍ، لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ إلَّا امْرَأَةً؛ لِأَنَّهَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ زَوْجٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَعُولَ الْمَسْأَلَةُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فُرُوضٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِي الْعَوْلِ، أَنْ تَأْخُذَ الْفُرُوضَ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، فَمَا بَلَغَتْ السِّهَامُ فَإِلَيْهِ يَنْتَهِي، فَنَقُولُ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَسِتِّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ، صَارَتْ عَشَرَةً. [مَسْأَلَةٌ مَا فِيهِ رُبْعٌ وَسُدُسٌ أَوْ رُبْعٌ وَثُلُثٌ أَوْ رُبْعٌ وَثُلُثَانِ فِي الْعَوْل] (4845) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَا فِيهِ رُبُعٌ وَسُدُسٌ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثٌ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثَانِ، فَأَصْلُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَإِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَلَا تَعُولُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ أَصْلُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ الرُّبُعِ أَرْبَعَةٌ، وَمَخْرَجَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَلَا وَفْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا ضَرَبْت أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الرُّبُعِ سُدُسٌ فَبَيْنَ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعَةِ مُوَافَقَةٌ، فَإِذَا ضَرَبْت وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ صَارَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَلَا بُدَّ فِي هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رُبُعٍ، وَلَا يَكُونُ فَرْضًا لَغَيْرِهِمَا. وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ؛ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَخَمْسَةُ بَنِينَ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ. زَوْجٌ وَابْنَتَانِ وَأُخْتٌ وَعَصَبَةٌ. امْرَأَةٌ وَأُخْتَانِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أَوْ أُخْتَانِ لِأُمٍّ وَعَصَبَةٌ. امْرَأَةٌ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَسَبْعَةُ إخْوَةٍ لِأَبٍ. الْعَوْلُ زَوْجٌ وَابْنَتَانِ وَأُمٌّ تَعُولُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ. امْرَأَةٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ. زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَابْنَتَانِ. تَعُولُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. امْرَأَةٌ وَأُخْتَانِ مِنْ أَبٍ وَأُخْتَانِ مِنْ أُمٍّ. امْرَأَةٌ وَأُمٌّ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ. تَعُولُ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ. ثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَجَدَّتَانِ وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَثَمَانٍ لِأَبٍ. تَعُولُ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَيَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ، وَتُسَمَّى أُمَّ الْأَرَامِلِ، وَيُعَايَلُ بِهَا، فَيُقَال: سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، اقْتَسَمْنَ مَالَ مَيِّتٍ بِالسَّوِيَّةِ لِكُلِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 امْرَأَةٍ سَهْمٌ. وَهِيَ هَذِهِ، وَلَا يَعُولُ هَذَا الْأَصْلُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكْمُلَ هَذَا الْأَصْلُ بِفُرُوضٍ مِنْ غَيْرِ عُصْبَةٍ وَلَا عَوْلٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَعُولَ إلَّا عَلَى الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّ فِيهَا فَرْضًا يُبَايِنُ سَائِرَ فُرُوضِهَا، وَهُوَ الرُّبْعُ، فَإِنَّهُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ فَرْدٌ، وَسَائِرُ فُرُوضِهَا يَكُونُ زَوْجًا فَالسُّدُسُ اثْنَانِ، وَالثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ، وَالنِّصْفُ سِتَّةٌ. وَمَتَى عَالَتْ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ فِيهَا إلَّا رَجُلًا. [مَسْأَلَةٌ مَا كَانَ فِيهِ ثُمُنٌ وَسُدُسٌ أَوْ ثُمُنٌ وَسُدُسَانِ أَوْ ثُمُنٌ وَثُلُثَانِ فِي الْعَوْل] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهِ ثُمُنٌ وَسُدُسٌ، أَوْ ثُمُنٌ وَسُدُسَانِ، أَوْ ثُمُنٌ وَثُلُثَانِ، فَأَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَا تَعُولُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّك تَضْرِبُ مَخْرَجَ الثُّمُنِ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثَيْنِ، أَوْ فِي وَفْقِ مَخْرَجِ السُّدُسِ، فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَلَمْ نَقُلْ: وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الثُّمُنِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلزَّوْجَةِ مَعَ الْوَلَدِ، وَلَا يَكُونُ الثُّلُثُ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا وَلَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِوَلَدِ الْأُمِّ، وَالْوَلَدُ يُسْقِطُهُمْ، أَوْ الْأُمِّ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ. وَمَسَائِلُ ذَلِكَ: امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَابْنٌ أَوْ ابْنَانِ، أَوْ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. امْرَأَةٌ وَابْنَتَانِ وَأَمٌّ وَعَصَبَةٌ. ثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَأَرْبَعُ جَدَّاتٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ بِنْتًا وَأُخْتٌ. امْرَأَةٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَجَدَّةٌ، وَعَصَبَةٌ. الْعَوْلُ: امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَابْنَتَانِ. تَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتُسَمَّى الْبَخِيلَةَ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْأُصُولِ عَوْلًا، لَمْ تَعُلْ إلَّا بِثُمُنِهَا، وَتُسَمَّى الْمِنْبَرِيَّةَ، لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْهَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعًا. وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ. يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَ لَهَا الثَّمَنُ، ثَلَاثَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، صَارَ لَهَا بِالْعَوْلِ ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ التُّسْعُ. وَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ فِي هَذَا الْأَصْلِ إلَّا رَجُلًا؛ لِأَنَّ فِيهَا ثُمُنًا، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْوَلَدِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُولَ هَذَا الْأَصْلُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ يَحْجُبُ الزَّوْجَيْنِ وَالْأُمَّ بِالْوَلَدِ، وَالْكَافِرِ، وَالْقَاتِلِ، وَالرَّقِيقِ، وَلَا يُوَرِّثُهُ. فَعَلَى قَوْلِهِ، إذَا كَانَتْ امْرَأَةٌ وَأُمٌّ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَوَلَدٌ كَافِرٌ، فَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْأُمِّ وَالْمَرْأَةِ السُّدُسُ، وَالثُّمُنُ سَبْعَةٌ، فَتَعُولُ إلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ. [فَصَلِّ إذَا لَمْ تَنْقَسِمْ سِهَامُ فَرِيقٍ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِمْ قِسْمَةً صَحِيحَةً] (4847) فُصُولٌ: وَإِذَا لَمْ تَنْقَسِمْ سِهَامُ فَرِيقٍ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِمْ قِسْمَةً صَحِيحَةً، فَاضْرِبْ عَدَدَهُمْ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً، إلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَدَدُهُمْ سِهَامَهُمْ بِنِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ، ف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 يُجْزِئُكَ ضَرْبُ وَفْقِ عَدَدِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ، فَإِذَا أَرَدْت الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مَنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَضْرُوبٌ فِي الْعَدَدِ الَّذِي ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى جُزْءَ السَّهْمِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ لَهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً قَسَّمْته عَلَيْهِمْ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: إذَا كَانَ الْكَسْرُ عَلَى فَرِيقٍ وَاحِدٍ فَلِوَاحِدِهِمْ بَعْدَ التَّصْحِيحِ مِثْلُ مَا كَانَ لِجَمَاعَتِهِمْ قَبْلَ التَّصْحِيحِ، أَوْ وَفْقَهُ إنْ كَانَ وَافَقَ، مِثَالُ ذَلِكَ، زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَثَلَاثَةُ إخْوَةٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، بَقِيَ لِلْإِخْوَةِ سَهْمَانِ، لَا تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُوَافِقُهُمْ، فَاضْرِبْ عَدَدَهُمْ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ تِسْعَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ فِي ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْإِخْوَةِ سَهْمَانِ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ سِتَّةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ. وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ سِتَّةً، وَافَقَتْهُمْ سِهَامُهُمْ بِالنِّصْفِ، فَرَدُّهُمْ إلَى نِصْفِهِمْ ثَلَاثَةٌ، وَتَعْمَلُ فِيهَا كَعَمَلِكِ فِي الْأُولَى سَوَاءً، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِخْوَةِ سَهْمٌ، وَهُوَ وَفْقُ سِهَامِ جَمَاعَتِهِمْ. [فَصْلٌ كَانَ الْكَسْرُ عَلَى فَرِيقَيْنِ فِي الْمِيرَاث] (4848) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ عَلَى فَرِيقَيْنِ، لَمْ تَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْعَدَدَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَيُجْزِئُكَ ضَرْبُ أَحَدِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ، زَوْجٌ، وَثَلَاثُ جَدَّاتٍ، وَثَلَاثَةُ إخْوَةٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ، وَلِلْإِخْوَةِ سَهْمَانِ، فَتَضْرِبُ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَطَرِيقُ الْقِسْمَةِ فِيهَا مِثْلُ طَرِيقِهَا إذَا كَانَ الْكَسْرُ عَلَى فَرِيقٍ وَاحِدٍ سَوَاءً. وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ سِتَّةً، وَافَقُوا سَهْمَهُمْ بِالنِّصْفِ، رَجَعُوا إلَى ثَلَاثَةٍ. وَكَانَ الْعَمَلُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءً الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْعَدَدَانِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَنْتَسِبُ إلَى الْآخَرِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، كَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ، فَيُجْزِئُكَ ضَرْبُ الْعَدَدِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ كَانَ الْجَدَّاتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِتًّا، فَإِنَّ عَدَدَ الْأَخَوَاتِ نِصْفُ عَدَدِ الْجَدَّاتِ، فَاجْتَزِئْ بِعَدَدِهِنَّ، وَاضْرِبْهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ. وَلَوْ كَانَ عَدَدُ الْإِخْوَةِ سِتَّةً، وَافَقَتْهُمْ سِهَامُهُمْ بِالنِّصْفِ، وَرَجَعُوا إلَى ثَلَاثَةٍ، وَعَمِلْت عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ الْعَدَدَانِ مُتَبَايِنَيْنِ، لَا يُمَاثِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا يُوَافِقُهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْجَدَّاتِ أَرْبَعًا وَالْإِخْوَةِ ثَلَاثَةً، فَإِنَّك تَضْرِبُ عَدَدَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَتَى ضَرَبْته هَاهُنَا كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَإِذَا ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ كَانَتْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَإِنْ وَافَقَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ سِهَامَهُ دُونَ الْآخَرِ، أَخَذْت وَفْقَ الْمُوَافِقِ وَضَرَبْته فِيمَا لَمْ يُوَافِقْ، وَعَمِلْت عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ وَافَقَا جَمِيعًا سِهَامَهُمَا، رَدَدْتهمَا إلَى وَفْقِهِمَا، وَعَمِلْت فِي الْوَقْفَيْنِ عَمَلَك فِي الْعَدَدَيْنِ الْأَصْلِيَّيْنِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ الْعَدَدَانِ مُتَّفِقَيْنِ بِنِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 فَإِنَّك تَرُدُّ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ إلَى وَفْقِهِ، ثُمَّ تَضْرِبُهُ فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهُ، أَنْ تَكُونَ الْإِخْوَةُ تِسْعَةً، وَالْجَدَّاتُ سِتًّا، فَيَتَّفِقَانِ بِالثُّلُثِ، فَتَرُدَّ الْجَدَّاتِ إلَى ثُلُثِهِنَّ اثْنَيْنِ، وَتَضْرِبَهُمَا فِي عَدَدِ الْإِخْوَةِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِيَةً، وَمِنْهَا تَصِحُّ. [كَانَ الْكَسْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أحياز فِي الْمِيرَاث] (4849) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْيَازٍ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَاثِلَةً كَثَلَاثِ جَدَّاتٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ وَثَلَاثَةِ أَعْمَامٍ، ضَرَبْت أَحَدَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ التَّصْحِيحِ مِثْلُ مَا كَانَ لِجَمَاعَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً، كَجَدَّتَيْنِ وَخَمْسِ بَنَاتٍ وَعَشْرَةِ أَعْمَامٍ، اجْتَزَأْت بِأَكْثَرِهَا، وَهِيَ الْعَشَرَةُ، فَضَرَبْتهَا فِي الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ سِتِّينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَبَايِنَةً، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةً، ضَرَبْت بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، تَكُنْ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ ضَرَبْتهَا فِي الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَافِقَةً، كَسِتِّ جَدَّاتٍ وَتِسْعِ بَنَاتٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ عَمًّا، ضَرَبْت وَفْقَ عَدَدٍ مِنْهَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، فَمَا بَلَغَ وَافَقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثِ، وَضَرَبْت وَفْقَهُ فِي جَمِيعِ الثَّالِثِ ثُمَّ اضْرِبْ مَا مَعَك فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ. وَإِنْ تَمَاثَلَ اثْنَانِ مِنْهَا وَبَايَنَهُمَا الثَّالِثُ، أَوْ وَافَقَهُمَا، ضَرَبْت أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي جَمِيعِ الثَّالِثِ، أَوْ فِي وَفْقِهِ إنْ كَانَ مُوَافِقًا، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ تَنَاسَبَ اثْنَانِ، وَبَايَنَهُمَا الثَّالِثُ، ضَرَبْت أَكْثَرَهُمَا فِي جَمِيعِ الثَّالِثِ، أَوْ فِي وَفْقِهِ إنْ كَانَ مُوَافِقًا، ثُمَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ تَوَافَقَ اثْنَانِ، وَبَايَنَهُمَا الثَّالِثُ، ضَرَبْت وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ فِي الثَّالِثِ، وَإِنْ تَبَايَنَ اثْنَانِ، وَوَافَقَهُمَا الثَّالِثُ، كَأَرْبَعَةِ أَعْمَامٍ، وَسِتِّ جَدَّاتٍ، وَتِسْعِ بَنَاتٍ، أَجْزَأَكَ ضَرْبُ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنِ فِي الْآخِرِ، ثُمَّ تَضْرِبُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَوْقُوفَ الْمُقَيَّدَ؛ لِأَنَّك إذَا أَرَدْت وَقْفَ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَقِفْ إلَّا السِّتَّةُ، وَلَوْ وَقَفْت غَيْرَهَا، مِثْلُ أَنْ تَقِفَ التِّسْعَةَ. وَتَرُدَّ السِّتَّةَ إلَى الِاثْنَيْنِ لَدَخَلَا فِي الْأَرْبَعَةِ، وَأَجْزَأَك ضَرْبُ الْأَرْبَعَةِ فِي التِّسْعَةِ، وَلَوْ وَقَفْت الْأَرْبَعَةَ، رَدَدْت السِّتَّةَ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَدَخَلْت فِي التِّسْعَةِ وَأَجْزَأَك ضَرْبُ الْأَرْبَعَةِ فِي التِّسْعَةِ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْأَعْدَادُ الثَّلَاثَةُ مُتَوَافِقَةً، فَإِنَّهُ يُسَمَّى الْمَوْقُوفَ الْمُطْلَقَ، وَفِي عَمَلِهَا طَرِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ طَرِيقُ الْكُوفِيِّينَ. وَالثَّانِي، طَرِيقُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ أَنْ تَقِفَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، وَتُوَافِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرَيْنِ، وَتَرُدَّهُمَا إلَى وَفْقِهِمَا، ثُمَّ تَنْظُرَ فِي الْوَقْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ ضَرَبْت أَحَدَهُمَا فِي الْمَوْقُوفِ. وَإِنْ كَانَا مُتَنَاسِبَيْنِ، ضَرَبْت أَكْثَرَهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُتَبَايِنَيْنِ، ضَرَبْت أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، ثُمَّ فِي الْمَوْقُوفِ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ، ضَرَبْت وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ فِي الْمَوْقُوفِ، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ وَمِثَالُ ذَلِكَ: عَشْرُ جَدَّاتٍ وَاثْنَا عَشَرَ عَمًّا وَخَمْسَ عَشْرَةَ بِنْتًا، فَقِفْ الْعَشَرَةَ، تُوَافِقُهَا الِاثْنَا عَشَرَ بِالنِّصْفِ، فَتَرْجِعُ إلَى سِتَّةٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 وَتُوَافِقُهَا الْخَمْسَ عَشْرَةَ بِالْأَخْمَاسِ، فَتَرْجِعُ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي السِّتَّةِ، فَتَضْرِبُ السِّتَّةَ فِي الْعَشَرَةِ، تَكُنْ سِتِّينَ، ثُمَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ. وَإِنْ وَقَفْت الِاثْنَا عَشَرَ، رَجَعَتْ الْعَشَرَةُ إلَى نِصْفِهَا خَمْسَةً، وَالْخَمْسَ عَشْرَةَ إلَى ثُلُثِهَا خَمْسَةً، وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ، فَتَضْرِبُ خَمْسَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ تَكُنْ سِتِّينَ، وَإِنْ وَقَفْت الْخَمْسَ عَشْرَةَ، رَجَعَتْ الْعَشَرَةُ إلَى اثْنَيْنِ، وَاَلْاِثْنَا عَشَرَ إلَى أَرْبَعَةٍ، وَدَخَلَ الِاثْنَانِ فِي الْأَرْبَعَةِ، فَتَضْرِبُهَا فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ، تَكُنْ سِتِّينَ فِي الْمَسْأَلَةِ. [فَصْلٌ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَالْمُبَايَنَةِ] (4850) فَصْلٌ مَعْرِفَةُ الْمُوَافَقَةِ، وَالْمُنَاسَبَةِ، وَالْمُبَايَنَةِ. الطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُلْقِيَ أَقَلَّ الْعَدَدَيْنِ مِنْ أَكْثَرِهِمَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنْ فَنِيَ بِهِ فَالْعَدَدَانِ مُتَنَاسِبَانِ، وَإِنْ لَمْ يَفْنَ بِهِ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، أَلْقَيْتهَا مِنْ الْعَدَدِ الْأَقَلِّ، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ أَلْقَيْتهَا مِنْ الْبَقِيَّةِ الْأُولَى، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ تُلْقِي كُلَّ بَقِيَّةٍ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى يَصِلَ إلَى عَدَدٍ يُفْنِي الْمُلْقَى مِنْهُ، غَيْرَ الْوَاحِدِ، فَأَيُّ بَقِيَّةٍ فَنِيَ بِهَا غَيْرُ الْوَاحِدِ، فَالْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ بِجُزْءٍ، وَتِلْكَ الْبَقِيَّةُ إنْ كَانَتْ اثْنَيْنِ فَبِالْأَنْصَافِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً فَبِالْأَثْلَاثِ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةً فَبِالْأَرْبَاعِ، فَإِنْ كَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ، أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَيُجْزِئُ ذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ، فَالْعَدَدَانِ مُتَبَايِنَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى تَنَاسُبِ الْعَدَدَيْنِ، أَنَّك مَتَى زِدْت عَلَى الْأَقَلِّ مِثْلَهُ أَبَدًا، سَاوَى الْأَكْثَرَ، وَمَتَى قَسَمْت الْأَكْثَرَ عَلَى الْأَقَلِّ، انْقَسَمَ قِسْمَةً صَحِيحَةً، وَمَتَى نَسَبْت الْأَقَلَّ إلَى الْأَكْثَرِ، انْتَسَبَ إلَيْهِ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي النِّصْفِ فَمَا دُونَهُ. [فَصْلٌ مَسَائِلِ الْمُنَاسَخَات] (4851) فَصْلٌ: فِي مَسَائِلِ الْمُنَاسَخَاتِ، وَمَعْنَاهَا أَنْ يَمُوتَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ إنْسَانٌ قَبْلَ قَسْمِ تَرِكَةِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ وَرَثَةُ الْأَوَّلِ يَرِثُونَ الثَّانِيَ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا عَصَبَةً لَهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ، كَرَجُلٍ مَاتَ عَنْ امْرَأَةٍ وَثَلَاثَةِ بَنِينَ وَبِنْتٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْأُوَلِ سَهْمًا مِثْلَ سَهْمِ الْبِنْتِ، وَكَنِصْفِ سَهْمِ ابْنٍ، وَكَذَلِكَ لَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاقْسِمْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَرَثَةِ الثَّانِي، وَلَا تَنْظُرْ إلَى الْأَوَّلِ، فَلَوْ، خَلَّفَ رَجُلٌ خَمْسَةَ بَنِينَ وَخَمْسَ بَنَاتٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ ابْنٌ، ثُمَّ بِنْتٌ، ثُمَّ ابْنٌ، ثُمَّ بِنْتٌ، ثُمَّ ابْنٌ، ثُمَّ بِنْتٌ، قَسَّمْت الْمِيرَاثَ عَلَى الِابْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، وَالْبِنْتَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَمْ يُنْظَرْ فِي بَقِيَّةِ الْمَسَائِلِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَنْ يَرِثُ مِنْ الْأُولَى دُونَ مَا بَقِيَ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ هَؤُلَاءِ امْرَأَةٌ لِلْمَيِّتِ لَيْسَتْ أُمًّا لَهُمْ، فَإِنَّك تَعْزِلُ لَهَا الثُّمُنَ، وَتَقْسِمُ الْبَاقِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ أُمًّا لَهُمْ إلَّا أَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَهُمْ، أَوْ بَعْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَمْ تُخَلِّفْ وَارِثًا غَيْرَهُمْ، قَسَّمْت الْمِيرَاثَ كُلَّهُ عَلَى الْبَاقِينَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَلَمْ يُنْظَرْ فِي مِيرَاثِهَا؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَإِنَّك تَقْسِمُ مَسْأَلَةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَنْظُرُ مَا صَارَ لِلْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْهَا، فَإِنْ انْقَسَمَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ فَقَدْ صَحَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَى، وَمِثَالُ ذَلِكَ، امْرَأَةٌ وَبِنْتٌ مِنْ غَيْرِهَا وَأَخٌ، مَاتَتْ الْبِنْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَعَمًّا. فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ، لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ، وَيَبْقَى لِلْأَخِ ثَلَاثَةٌ، وَمَسْأَلَةُ الْمَيِّتَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِزَوْجِهَا سَهْمٌ، وَلِابْنَتِهَا سَهْمَانِ، وَيَبْقَى سَهْمٌ لِلْأَخِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ لَهُ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَصَحَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ سِهَامُ الْمَيِّتِ الثَّانِي عَلَى مَسْأَلَتِهِ، وَافَقْت بَيْنَ سِهَامِهِ وَمَسْأَلَتِهِ. فَإِنْ اتَّفَقَا، رَدَدْت مَسْأَلَتَهُ إلَى وَفْقِهَا، ثُمَّ ضَرَبْته فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي. مِثَالُ ذَلِكَ، إذَا خَلَفَتْ الْبِنْتُ زَوْجًا وَابْنَتَيْنِ، فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، تُوَافِقُهَا سِهَامُهَا بِالرُّبُعِ، فَتَرْجِعُ إلَى ثَلَاثَةٍ، تُضْرَبُ فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ مِنْ الْأُولَى فِي ثَلَاثَةٍ بِثَلَاثَةٍ وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ بِتِسْعَةٍ، وَلَهُ مِنْ الثَّانِيَةِ سَهْمٌ فِي سَهْمٍ، تَكُنْ عَشْرَةً، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فِي سَهْمٍ، وَلِلِابْنَتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ. وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ سِهَامُهُ مَسْأَلَتَهُ، ضَرَبْت الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْأُولَى، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَضْرُوبٌ فِي الثَّانِيَةِ. وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي، فَإِنْ مَاتَ ثَالِثٌ، عَمِلْت مَسْأَلَتَهُ، وَنَظَرْت سِهَامَهُ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ، فَإِنْ انْقَسَمَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ، صَحَّتْ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَيَانِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ، وَافَقْت بَيْنَ مَسْأَلَتِهِ وَسِهَامِهِ، وَضَرَبْت وَفْقَ سِهَامِ مَسْأَلَتِهِ إنْ وَافَقَتْ، أَوْ جَمِيعِهَا، إنْ لَمْ تُوَافِقْ، فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَيَانِ، وَعَمِلَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَذَلِكَ تَصْنَعُ فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَمَا بَعْدَهُ. [فَصْلٌ كَانَتْ سِهَامُ التَّرِكَة كَثِيرَةً] (4852) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرَدْت قَسَمْت الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَرَارِيطِ الدِّينَارِ، فَإِنَّهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ بَلَدِنَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، فَإِنْ كَانَتْ السِّهَامُ كَثِيرَةً فَلَكَ فِي قَسْمِهَا طَرِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَنْظُرَ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُ الْعَدَدُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْ ضَرْبِ عَدَدٍ فِي عَدَدٍ، فَانْسُبْ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، إنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهَا، وَخُذْ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ مِثْلَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، فَمَا كَانَ فَهُوَ لِكُلِّ قِيرَاطٍ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ قَسَمْته عَلَيْهَا، فَمَا خَرَجَ بِالْقَسْمِ فَاضْرِبْهُ فِي الْعَدَدِ الْآخَرِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ. مِثَالُ ذَلِكَ، سِتُّمِائَةِ أَرَدْت قِسْمَتَهَا، فَإِنَّك تَعْلَمُ أَنَّهَا مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ ضَرْبِ عِشْرِينَ فِي ثَلَاثِينَ، فَانْسُبْ الْعِشْرِينَ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ تَكُنْ نِصْفَهَا، وَثُلُثَهَا، فَخُذْ نِصْفَ الثَّلَاثِينَ، وَثُلُثَهَا، خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 فَهُوَ سَهْمُ الْقِيرَاطِ. وَإِنْ قَسَّمْت الثَّلَاثِينَ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، خَرَجَ بِالْقَسَمِ سَهْمٌ وَرُبُعٌ، فَاضْرِبْهَا تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، كَمَا قُلْنَا. وَالثَّانِي، أَنْ تَنْظُرَ عَدَدًا إذَا ضَرَبْته فِي الْأَرْبَعَةِ وَالْعِشْرِينَ سَاوَى الْمَقْسُومَ أَوْ قَارَبَهُ، فَإِذَا بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ ضَرَبْتهَا فِي عَدَدٍ آخَرَ، حَتَّى يَبْقَى أَقَلُّ مِنْ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجْمَعُ الْعَدَدَ الَّذِي ضَرَبْته إلَيْهِ، وَتُنْسَبُ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ مِنْ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، فَتَضُمُّهَا إلَى الْعَدَدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَهْمَ الْقِيرَاطِ. مِثَالُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا، أَنْ تَضْرِبَ عِشْرِينَ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ تَضْرِبَ خَمْسَةً فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ، وَتَضُمَّ الْخَمْسَةَ إلَى الْعِشْرِينَ، فَيَكُونَ ذَلِكَ سِهَامَ الْقِيرَاطِ. فَإِذَا عَرَفْت سِهَامَ الْقِيرَاطِ فَانْظُرْ كُلَّ مَنْ لَهُ سِهَامٌ، فَأَعْطِهِ بِكُلِّ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِ الْقِيرَاطِ قِيرَاطًا، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ مِنْ السِّهَامِ مَا لَا يَبْلُغُ قِيرَاطًا، فَانْسُبْهُ إلَى سِهَامِ الْقِيرَاطِ، وَأَعْطِهِ مِنْهُ مِثْلَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي سِهَامِ الْقِيرَاطِ كَسْرٌ، بَسَطْتهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ سِهَامٌ بِعَدَدِ مَبْلَغِ السِّهَامِ، فَلَهُ بِعَدَدِ مَخْرَجِ الْكَسْرِ قَرَارِيطُ، وَتَضْرِبُ بَقِيَّةَ سِهَامِهِ فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ، وَتَنْسُبهَا مِنْهَا. مِثَالُ ذَلِكَ، زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَابْنَتَانِ، مَاتَتْ الْأُمُّ، وَخَلَّفَتْ أُمًّا، وَزَوْجًا، وَأُخْتًا مِنْ أَبَوَيْنِ، وَأُخْتَيْنِ مِنْ أَبٍ، وَأُخْتَيْنِ مِنْ أُمٍّ. فَالْأُولَى مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ عِشْرِينَ، فَتَضْرِبُ وَفْقَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَكُنْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، وَسَهْمُ الْقِيرَاطِ سِتَّةٌ وَرُبْعٌ، فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَهَذِهِ سِهَامُ الْقِيرَاطِ، فَلِلْبِنْتِ مِنْ الْأُولَى أَرْبَعَةٌ فِي عَشَرَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعِينَ، فَلَهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَرْبَعَةٌ، تَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، اضْرِبْهَا فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ تَكُنْ سِتِّينَ، وَاقْسِمْهَا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ، فَصَارَ لَهَا سِتَّةٌ وَخُمُسَانِ، وَلِلْأَبِ مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، فَلَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَرْبَعَةُ قَرَارِيطَ، وَابْسُطْ السَّهْمَ الْبَاقِيَ أَرْبَاعًا، تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ خُمُسٍ، وَلِزَوْجِ الْأُولَى ثَلَاثُونَ، فَلَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ قَرَارِيطَ، وَابْسُطْ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ. تَكُنْ عِشْرِينَ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ قِيرَاطٍ، وَلِأُمِّ الثَّانِيَةِ سَهْمَانِ، اُبْسُطْهُمَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ خُمُسَ قِيرَاطٍ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ خُمُسِ قِيرَاطٍ، وَكَذَلِكَ لِكُلِّ أُخْتٍ مِنْ أُمٍّ، وَلِلْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأَبِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ سِتَّةٌ، اُبْسُطْهَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ قِيرَاطٍ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ خُمُسٍ. [فَصْلٌ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَات] (4853) فَصْلٌ: فِي قِسْمَةِ التَّرِكَات، إنْ أَمْكَنَ أَنْ تُنْسَبَ سِهَامُ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ تُعْطِيهِ مِنْ التَّرِكَةِ مِثْلَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، فَحَسَنٌ. وَمِثَالُ ذَلِكَ، زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَابْنَتَانِ، وَالتَّرِكَةُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا، فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ خُمُسُ الْمَسْأَلَةِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 فَلَهُ خُمُسُ التَّرِكَةِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثُلُثَا خُمُسِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَهُ ثُلُثَا الثَّمَانِيَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبِنْتَيْنِ مِثْلُ مَا لِلْأَبَوَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَإِنْ شِئْت ضَرَبْت سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ فِي التَّرِكَةِ، وَقَسَمْت ذَلِكَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ نَصِيبُهُ، وَإِنْ شِئْت قَسَمْت التَّرِكَةَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ ضَرَبْت الْخَارِجَ بِالْقَسْمِ فِي سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ لَهُ. وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَدَدًا أَصَمَّ، عَمِلْت بِإِحْدَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي السِّهَامِ كَسْرٌ، بَسَطْتهَا مِنْ جِنْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقَسْمِ عَلَى قَرَارِيطِ الدِّينَارِ. وَلَك فِي قَسْمِ التَّرِكَةِ فِي مَسَائِلِ الْمُنَاسَخَاتِ، أَنْ تَقْسِمَ التَّرِكَةَ أَوْ الْقَرَارِيطَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَمَا حَصَلَ لِلْمَيِّتِ الثَّانِي، قَسَمْته عَلَى مَسْأَلَتِهِ، ثُمَّ تَفْعَلُ بِالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُمَا كَذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّرِكَةِ مُوَافَقَةٌ، فَخُذْ وَفْقَيْهِمَا، وَاعْمَلْ بِهِمَا مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ كَانَتْ التَّرِكَة سِهَامًا مِنْ عَقَارٍ] (4854) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ سِهَامًا مِنْ عَقَارٍ، فَاضْرِبْ أَصْلَ سِهَامِ الْعَقَارِ فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ سِهَامُ الْعَقَارِ، وَاضْرِبْ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي السِّهَامِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ الْعَقَارِ، وَاضْرِبْ سِهَامَ الشُّرَكَاءِ فِي أَصْلِ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ، وَالتَّرِكَةُ رُبُعٌ، وَسُدُسُ دَارٍ، الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَأَصْلُ سِهَامِ الْعَقَارِ اثْنَا عَشَرَ، فَاضْرِبْهَا فِي الثَّمَانِيَةِ، تَكُنْ سِتَّةً وَتِسْعِينَ، فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ مَسْأَلَةٍ مَضْرُوبَةٌ فِي السِّهَامِ الْمَوْرُوثَةِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ، تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْأُخْتِ كَذَلِكَ، فَانْسُبْهَا مِنْ الدَّارِ. تَكُنْ ثُمُنَهَا وَرُبُعَ ثُمُنِهَا، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ عَشَرَةً، وَهِيَ نِصْفُ سُدُسِ الدَّارِ، وَثُمُنُ سُدُسِهَا. وَإِنْ شِئْت قُلْت: هِيَ نِصْفُ ثُمُنِهَا، وَثُلُثُ ثُمُنِهَا. وَإِنْ شِئْت بَسَطْت الرُّبُعَ وَالسُّدُسَ مِنْ قَرَارِيطِ الدِّينَارِ، وَهِيَ عَشْرَةٌ، وَقَسَمْتهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَلِلْأُمِّ رُبُعُهَا، وَهُوَ قِيرَاطَانِ وَنِصْفٌ، وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيرَاطٍ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ. [مَسْأَلَةٌ يُرَدُّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ] (4855) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَيُرَدُّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ، إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا إلَّا ذَوِي فُرُوضٍ، وَلَا يَسْتَوْعِبُ الْمَالَ، كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْجَدَّاتِ، فَإِنَّ الْفَاضِلَ عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ فُرُوضِهِمْ، إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَشُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ، إلَّا أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى بِنْتِ ابْنٍ مَعَ بِنْتٍ، وَلَا عَلَى أُخْتٍ مِنْ أَبٍ مَعَ أُخْتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَلَا عَلَى جَدَّةٍ مَعَ ذِي سَهْمٍ وَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى وَلَدٍ مَعَ الْأُمِّ، وَلَا عَلَى الْجَدِّ مَعَ ذِي سَهْمٍ. وَاَلَّذِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ أَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي السِّهَامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِيمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْفَرِيضَةَ لَوْ عَالَتْ، لَدَخَلَ النَّقْصُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَالرَّدُّ يَنْبَغِي أَنْ يَنَالَهُمْ أَيْضًا. فَأَمَّا الزَّوْجَانِ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّ عَلَى زَوْجٍ. وَلَعَلَّهُ كَانَ عَصَبَةً، أَوْ ذَا رَحِمٍ، فَأَعْطَاهُ لِذَلِكَ، أَوْ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ أَهْلَ الرَّدِّ كُلَّهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَالزَّوْجَانِ خَارِجَانِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَى أَنَّ الْفَاضِلَ عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى أَحَدٍ فَوْقَ فَرْضِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي الْأُخْتِ: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] . وَمَنْ رَدَّ عَلَيْهَا جَعَلَ لَهَا الْكُلَّ، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْضٍ مُسَمًّى. فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهَا، كَالزَّوْجِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَهَؤُلَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَدْ تَرَجَّحُوا بِالْقُرْبِ إلَى الْمَيِّتِ، فَيَكُونُونَ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَذُو الرَّحِمِ أَحَقُّ مِنْ الْأَجَانِبِ، عَمَلًا بِالنَّصِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيَّ» . وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَارِثِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا عَامٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تُحْرِزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ، لَقِيطَهَا، وَعَتِيقَهَا، وَالْوَلَدَ الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. فَجَعَلَ لَهَا مِيرَاثَ وَلَدِهَا الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ كُلَّهُ، خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ مِيرَاثُ غَيْرِهَا مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ بِالْإِجْمَاعِ، بَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ وُرَّاثِهِ بِالرَّحِمِ، فَكَانَتْ أَحَقَّ بِالْمَالِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَعَصَبَاتِهِ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] . فَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لَهَا زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] . لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ السُّدُسُ، وَمَا فَضَلَ عَنْ الْبِنْتِ بِجِهَةِ التَّعْصِيبِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] . لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ مَا فَضَلَ إذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ أَوْ مَوْلًى، وَكَذَلِكَ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ إذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ، وَالْبِنْتُ وَغَيْرُهَا مِنْ ذَوِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 الْفُرُوضِ إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً، كَذَا هَاهُنَا تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ بِالْفَرْضِ، وَالْبَاقِيَ بِالرَّدِّ، وَأَمَّا الزَّوْجَانِ فَلَيْسَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُخْتًا لِأُمٍّ] (4856) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ، وَأُخْتٌ لِأُمٍّ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ يُرَدُّ عَلَيْهِنَّ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِنَّ. فَصَارَ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْمَالِ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ الْخُمُسُ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ الْخُمُسُ. طَرِيقُ الْعَمَلِ فِي الرَّدِّ أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ أَهْلِ الرَّدِّ مِنْ أَصْلِ مَسْأَلَتِهِمْ، وَهِيَ أَبَدًا تَخْرُجُ مِنْ سِتَّةٍ، إذْ لَيْسَ فِي الْفُرُوضِ كُلِّهَا مَا لَا يُؤْخَذُ فِي السِّتَّةِ إلَّا الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ. وَلَيْسَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَيْسَا مِنْ أَهْلِ الرَّدِّ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَدَدَ سِهَامِهِمْ أَصْلَ مَسْأَلَتِهِمْ، كَمَا صَارَتْ السِّهَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَائِلَةِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَضْرِبُ فِيهَا الْعَدَد الَّذِي انْكَسَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُهُ، فَكَذَا هَاهُنَا إذَا انْكَسَرَ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ ضَرَبْته فِي عَدَدِ سِهَامِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ أَصْلَ مَسْأَلَتِهِمْ. وَيَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أُصُولٍ؛ أَوَّلُهَا: أَصْلُ اثْنَيْنِ؛ كَجَدَّةٍ، وَأَخٍ مِنْ أُمٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، أَصْلُهَا اثْنَانِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْمَالَ عَلَيْهِمَا، فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْجَدَّاتُ ثَلَاثًا فَلَهُنَّ سَهْمٌ لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِنَّ. اضْرِبْ عَدَدَهُنَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ اثْنَانِ، تَصِيرُ سِتَّةً؛ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، أَصْلُ ثَلَاثَةٍ: أُمٌّ وَأَخٌ مِنْ أُمٍّ، وَأُمٍّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً ضَرَبْت عَدَدَهُمْ فِي أَصْلِ مَسْأَلَتِهِمْ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، صَارَتْ تِسْعَةً، وَمِنْهَا تَصِحُّ، ثَلَاثُ جَدَّاتٍ، وَأَرْبَعَةُ إخْوَةٍ مِنْ أُمٍّ، لِلْإِخْوَةِ سَهْمَانِ، يُوَافِقُهُمْ بِالنِّصْفِ، يَرْجِعُ عَدَدُهُمْ إلَى اثْنَيْنِ، تَضْرِبُهُمَا فِي عَدَدِ الْجَدَّاتِ، ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، صَارَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ. أَصْلُ أَرْبَعَةٍ: أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ أَوْ أُمٍّ، أَوْ أَخٌ لِأُمٍّ، أَوْ جَدَّةٌ. بِنْتٌ، وَأُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ. بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ. فَإِنْ كَانَ بَنَاتُ الِابْنِ أَرْبَعًا ضَرَبْتهنَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ. أَصْلُ خَمْسَةٍ: ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ. أُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ. أُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ. وَلَا تَزِيدُ مَسَائِلُ الرَّدِّ أَبَدًا عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ زَادَتْ سَهْمًا لَكَمُلَ الْمَالُ، وَلَمْ يَبْقَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 شَيْءٌ مِنْهُ يُرَدُّ. ثَلَاثُ جَدَّاتٍ وَبِنْتٌ وَأَرْبَعُ بَنَاتِ ابْنٍ. أَصْلُهَا مِنْ خَمْسَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتِّينَ. وَمَتَى كَانَ الرَّدُّ عَلَى حَيِّزٍ وَاحِدٍ، فَلَهُ جَمِيعُ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، كَأَنَّهُ عَصَبَةٌ، فَإِنْ كَانَ شَخْصًا وَاحِدًا، فَالْمَالُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً، قَسَّمْته عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، كَالْبَنِينَ، وَالْإِخْوَةِ. (4857) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، أَعْطَيْته فَرْضَهُ مِنْ أَصْلِ مَسْأَلَتِهِ، وَقَسَّمْت الْبَاقِيَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَلَى فَرِيضَةِ أَهْلِ الرَّدِّ، فَإِنْ انْقَسَمَ صَحَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ. وَلَا يَتَّفِقُ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ امْرَأَةٌ لَهَا الرُّبُعُ، وَمَسْأَلَةُ أَهْلِ الرَّدِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ كَامْرَأَةٍ وَأُمٍّ وَأَخٍ لِأُمٍّ. أَوْ أَمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ. أَوْ جَدَّةٍ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ. فَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ عَلَى فَرِيضَةِ أَهْلِ الرَّدِّ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَتَصِحُّ عَلَيْهَا، وَيَصِحُّ الْجَمِيعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَإِنْ انْكَسَرَ عَلَى عَدَدٍ مِنْهُ، ضَرَبْته فِي أَرْبَعَةٍ كَأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَأُمٍّ وَأَخٍ لِأُمٍّ، تَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ فَأَصْلُ مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ عَلَى فَرِيضَةِ أَهْلِ الرَّدِّ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوَافِقَهَا أَيْضًا. فَاضْرِبْ فَرِيضَةَ الرَّدِّ فِي فَرِيضَةِ الزَّوْجِ، فَمَا بَلَغَ فَإِلَيْهِ تَنْتَقِلُ الْمَسْأَلَةُ، فَإِذَا أَرَدْت الْقِسْمَةَ فَلِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَرِيضَةُ الرَّدِّ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الرَّدِّ سِهَامُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِ مَضْرُوبَةٌ فِي فَاضِلِ فَرِيضَةِ الزَّوْجِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ لَهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً قَسَّمْته عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ ضَرَبْته، أَوْ وَفْقَهُ فِيمَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ، وَتَصِحُّ عَلَى مَا مَضَى فِي بَابِ التَّصْحِيحِ. وَهَذَا يَنْحَصِرُ فِي أُصُولٍ خَمْسَةٍ؛ أَحَدُهَا، زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَأَخٌ لِأُمٍّ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَأَصْلُ مَسْأَلَتِهِ مِنْ اثْنَيْنِ، لَهُ سَهْمٌ يَبْقَى سَهْمٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الرَّدِّ. وَهِيَ اثْنَانِ، فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْنِ يَكُنْ أَرْبَعَةً، وَلَا يَقَعُ الْكَسْرُ فِي هَذَا الْأَصْلِ إلَّا عَلَى فَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْجَدَّاتُ، فَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَاضْرِبْ عَدَدَهُنَّ فِي أَرْبَعَةٍ، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ. الْأَصْلُ الثَّانِي، زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَأَخٌ لِأُمٍّ مَسْأَلَةُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى ثَمَانِيَة، وَلَا يَكُونُ الْكَسْرُ إلَّا عَلَى الْجَدَّاتِ أَيْضًا. الْأَصْلُ الثَّالِثُ، زَوْجٌ وَبِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ، مَسْأَلَةُ الزَّوْجِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى سِتَّةَ عَشَرَ، وَكَذَلِكَ زَوْجَةٌ، وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ، أَوْ أُخْتٌ لِأُمٍّ أَوْ جَدَّةٌ أَوْ جَدَّاتٌ، وَمِثْلُهَا زَوْجَةٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ، أَوْ جَدَّةٌ الْأَصْلُ الرَّابِعُ، زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ، أَوْ أُمٌّ، أَوْ جَدَّةٌ مَسْأَلَةُ الزَّوْجَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ. الْأَصْلُ الْخَامِسُ، زَوْجَةٌ وَبِنْتَانِ وَأُمٌّ، مَسْأَلَةُ الزَّوْجَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى أَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَأُمٌّ، أَوْ جَدَّةٌ. أُخْتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ، أَوْ أَخَوَاتٌ مِنْ أَبٍ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، أَوْ أُمٌّ، أَوْ جَدَّةٌ أُخْتَانِ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ جَدَّةٌ وَأَخٌ مِنْ أُمٍّ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا انْكَسَرَتْ سِهَامُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ ضَرَبْته فِيمَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ، وَمِثَالُ ذَلِكَ، أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ بِنْتًا وَأَرْبَعُ عَشْرَةَ جَدَّةً، مَسْأَلَةُ الزَّوْجَاتِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَتَضْرِبُ فِيهَا فَرِيضَةَ الرَّدِّ وَهِيَ خَمْسَةٌ، تَكُنْ أَرْبَعِينَ، لِلزَّوْجَاتِ فَرِيضَةُ أَهْلِ الرَّدِّ خَمْسَةٌ، عَلَى أَرْبَعَةٍ، لَا تَصِحُّ. وَلَا تُوَافِقُ، وَيَبْقَى خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ، لِلْجَدَّاتِ خُمُسُهَا سَبْعَةٌ، عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، تُوَافِقُ بِالْأَسْبَاعِ، فَيَرْجِعْنَ إلَى اثْنَيْنِ، وَيَبْقَى لِلْبَنَاتِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، تُوَافِقُهُنَّ بِالْأَسْبَاعِ، فَيَرْجِعْنَ إلَى ثَلَاثٍ، وَالِاثْنَانِ ثُمَّ تَدْخُلَانِ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثًا فِي أَرْبَعٍ، تَكُنْ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ، تَكُنْ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، وَمَتَى كَانَ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الرَّدِّ، أَخَذَ الْفَاضِلَ كُلَّهُ، كَأَنَّهُ عَصَبَةٌ، وَلَا تَنْتَقِلُ الْمَسْأَلَةُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فَرِيقٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الرَّدِّ، كَالْبَنَاتِ، أَوْ الْأَخَوَاتِ، قَسَّمْت الْفَاضِلَ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ. فَإِنْ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ، ضَرَبْت عَدَدَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ. [مَسْأَلَةٌ لِلْجَدَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ أُمُّ السُّدُسُ] بَابُ الْجَدَّاتِ (4858) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلِلْجَدَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ السُّدُسُ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ. وَحَكَى غَيْرُهُ رِوَايَةً شَاذَّةً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِهَا، فَقَامَتْ مَقَامَهَا، كَالْجَدِّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ. وَلَنَا، مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: «جَاءَتْ الْجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ، تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ، وَمَا أَعْلَمُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، وَلَكِنْ ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ: هَلْ مَعَك غَيْرُك؟ فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَأَمْضَاهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، جَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، فَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إلَّا فِي غَيْرِك، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا، وَلَكِنْ هُوَ ذَاكَ السُّدُسُ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ لَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا.» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا الْجَدُّ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُبُ الْجَدَّاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ.» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ مَعَهَا شَيْئًا. وَلِأَنَّ الْجَدَّةَ تُدْلِي بِالْأُمِّ، فَسَقَطَتْ بِهَا، كَسُقُوطِ الْجَدَّ بِالْأَبِ، وَابْنُ الِابْنِ بِهِ. فَأَمَّا أُمُّ الْأَبِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا إنَّمَا تَرِثُ مِيرَاثَ أُمٍّ؛ لِأَنَّهَا أُمٌّ، وَلِذَلِكَ تَرِثُ وَابْنُهَا حَيٌّ، وَلَوْ كَانَ مِيرَاثُهَا مِنْ جِهَتِهِ مَا وَرِثَتْ مَعَ وُجُودِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْجَدَّات إنْ كَثُرْنَ لَمْ يَزِدْنَ عَلَى السُّدُسِ فَرْضًا] (4859) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَثُرْنَ، لَمْ يَزِدْنَ عَلَى السُّدُسِ فَرْضًا) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَإِنْ كَثُرْنَ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَأَنَّ عُمَرَ شَرَكَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَى سَعِيدٌ، ثنا سُفْيَانُ، وَهُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّتَانِ إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَعْطَى أُمَّ الْأُمِّ الْمِيرَاثَ دُونَ أُمِّ الْأَبِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، أَعْطَيْت الَّتِي إنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا، وَمَنَعْت الَّتِي لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ السُّدُسَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّهُنَّ ذَوَاتُ عَدَدٍ لَا يُشْرِكُهُنَّ ذَكَرٌ، فَاسْتَوَى كَثِيرُهُنَّ وَوَاحِدَتُهُنَّ، كَالزَّوْجَاتِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ لَمْ يَزِدْنَ عَلَى السُّدُسِ فَرْضًا. يُرِيدُ بِهِ التَّحَرُّزَ مِنْ زِيَادَتِهِنَّ بِالرَّدِّ، فَإِنَّهُنَّ يَأْخُذْنَ فِي الرَّدِّ زِيَادَةً عَلَى السُّدُسِ، عَلَى مَا قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ. [فَصْلٌ تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ] (4860) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ؛ أُمِّ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلَتَا وَكَانَتَا فِي الْقُرْبِ سَوَاءً، كَأُمِّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمِّ أُمِّ أَبٍ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ لَا يُوَرِّثُ أُمَّ أُمِّ الْأَبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهَا فَلَا تَرِثُهُ، وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْخَبَرَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى ثَلَاثَ جَدَّاتٍ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ أُمُّ أُمِّ الْأَبِ، أَوْ مَنْ هِيَ أَعْلَى مِنْهَا. وَمَا ذَكَرَهُ دَاوُد فَهُوَ قِيَاسٌ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِأُمِّ الْأُمِّ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا. وَقَوْلُهُ: لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي الْخَبَرِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا؛ فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى تَوْرِيثِ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِنَّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ أَكْثَرُ مِنْ جَدَّتَيْنِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَوْفٍ، وَرَبِيعَةَ وَابْنِ هُرْمُزٍ، وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُد وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَعْلَمُ وَرِثَ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا جَدَّتَيْنِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، فَعَابَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ سَعْدٌ أَتَعِيبُنِي وَأَنْتَ تُوَرِّثُ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ؟ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ، إذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، إلَّا مَنْ أَدْلَتْ بِأَبٍ غَيْرِ وَارِثٍ، كَأُمِّ أَبِ الْأُمِّ. قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ إلَّا شَاذًّا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ سَمَّى ثَلَاثَ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ. ثُمَّ قَالَ: " وَإِنْ كَثُرْنَ فَعَلَى ذَلِكَ ". وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الزَّائِدَةَ جَدَّةٌ أَدْلَتْ بِوَارِثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَرِثَ، كَإِحْدَى الثَّلَاثِ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَوَاحِدَةً مِنْ قِبَلِ الْأُمَّ.» وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يُوَرِّثُونَ مِنْ الْجَدَّاتِ ثَلَاثًا، ثِنْتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَوَاحِدَةً مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْدِيدِ بِثَلَاثٍ، وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَكْثَرَ مِنْهُنَّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَارِثَاتِ هِيَ أُمُّ الْأُمَّ وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهَا، وَأُمُّ الْأَبِ وَأُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُنَّ، وَأُمُّ الْجَدِّ وَأُمَّهَاتُهَا. وَلَا تَرِثُ أُمُّ أَبِ الْجَدِّ، وَلَا كُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آبَاءٍ. وَهَؤُلَاءِ الْجَدَّاتُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِنَّ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ الْمُدْلِيَةَ بِأَبٍ غَيْرِ وَارِثٍ لَا تَرِثُ، وَهِيَ كُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ، كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَرِثُ. وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، لَا نَعْلَمُ الْيَوْمَ بِهِ قَائِلًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهَا تُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ، فَلَمْ تَرِثْ، كَالْأَجَانِبِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ، أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ، السُّدُسُ بَيْنَهُمَا إجْمَاعًا، أُمُّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أُمٍّ، السُّدُسُ لِلثَّلَاثِ الْأُوَلِ، إلَّا عِنْدَ مَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ، فَإِنَّهُ لِلْأُولَيَيْنِ. وَعِنْدَ دَاوُد هُوَ لِلْأُولَى وَحْدَهَا. وَلَا تَرِثُ الرَّابِعَةُ إلَّا فِي قَوْلٍ شَاذٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَافِقِيهِ، أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أُمِّ أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أُمِّ أَبِي أُمٍّ، وَأُمُّ أَبِي أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أَبِي أَبِي أُمٍّ، وَأُمُّ أَبِي أُمِّ أَبٍ. السُّدُسُ لِلْأُولَى عِنْدَ دَاوُد وَلِلْأُولَيَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ. وَلِلثَّلَاثِ الْأُوَلِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُوَافِقِيهِ. وَلِلْأَرْبَعِ الْأُوَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِ. وَتَسْقُطُ الْأَرْبَعُ الْبَاقِيَاتُ إلَّا فِي الرِّوَايَةِ الشَّاذَّةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَرِثُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَلَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إلَّا اثْنَتَانِ، وَهُمَا اللَّتَانِ جَاءَ ذِكْرُهُمَا فِي الْخَبَرِ، إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا عَلَوْنَ دَرَجَةً، زَادَ فِي عَدَدِهِنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَاحِدَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 [مَسْأَلَةٌ كَانَ بَعْضُ الْجَدَّات أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ] (4861) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُنَّ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِهِنَّ) أَمَّا إذَا كَانَتْ إحْدَى الْجَدَّتَيْنِ أُمَّ الْأُخْرَى، فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْقُرْبَى وَتَسْقُطُ الْبُعْدَى بِهَا، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِهَتَيْنِ وَالْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَالْمِيرَاثُ لَهَا، وَتَحْجُبُ الْبَعْدِي فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَشَرِيكٍ أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْ كَانَتَا مِنْ جِهَتَيْنِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ لِلْقُرْبَى. يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْجَدَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أُمَّ الْأَبِ وَالْأُخْرَى أُمَّ الْجَدِّ، سَقَطَتْ أُمُّ الْجَدِّ بِأُمِّ الْأَبِ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ. فَأَمَّا الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَهَلْ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ؟ فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا تَحْجُبُهَا، وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِلْقُرْبَى. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زَيْدٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ هُوَ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّابِتَةُ عَنْ زَيْدٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْأَبَ الَّذِي تُدْلِي بِهِ الْجَدَّةُ لَا يَحْجُبُ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فَالَّتِي تُدْلِي بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْجُبَهَا، وَبِهَذَا فَارَقَتْهَا الْقُرْبَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فَإِنَّهَا تُدْلِي بِالْأُمِّ. وَهِيَ تَحْجُبُ جَمِيعَ الْجَدَّاتِ. وَلَنَا، أَنَّهَا جَدَّةُ قُرْبَى، فَتَحْجُبُ الْبُعْدَى، كَاَلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ يَرِثْنَ مِيرَاثًا وَاحِدًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا اجْتَمَعْنَ فَالْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِهِنَّ، كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَةِ وَالْبَنَاتِ. وَكُلُّ قَبِيلٍ إذَا اجْتَمَعُوا فَالْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِهِمْ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَبَ لَا يُسْقِطُهَا. قُلْنَا: لِأَنَّهُنَّ لَا يَرِثْنَ مِيرَاثَهُ، إنَّمَا يَرِثْنَ مِيرَاثَ الْأُمَّهَاتِ، لِكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتٍ. وَلِذَلِكَ أَسْقَطَتْهُنَّ الْأُمُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَسَائِلُ: مِنْ ذَلِكَ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِلْأُولَى، إلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ بَيْنَهُمَا. أُمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمِّ أُمٍّ، الْمَالُ لِلْأُولَى فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُوَ بَيْنَهُمَا. أُمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ جَدٍّ، الْمَالُ لِلْأُولَيَيْنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إلَّا فِي قَوْلِ شَرِيكٍ وَمُوَافِقِيهِ هُوَ بَيْنَهُنَّ. أُمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبِي أَبٍ، هُوَ لِلْأُولَيَيْنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ جَدَّة ذَاتُ قَرَابَتَيْنِ مَعَ أُخْرَى] (4862) فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَتْ جَدَّةٌ ذَاتُ قَرَابَتَيْنِ مَعَ أُخْرَى، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ السُّدُسَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، لِذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ ثُلُثَاهُ، وَلِلْأُخْرَى ثُلُثُهُ. كَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُرَنِيُّ، وَلَعَلَّهُمَا أَخَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي تَوْرِيثِ الْمَجُوسِ بِجَمِيعِ قَرَابَاتِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَزُفَرَ وَشَرِيكٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ: السُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ لِأَنَّ الْقَرَابَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَرِثْ بِهِمَا جَمِيعًا، كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ. وَلَنَا، أَنَّهَا شَخْصٌ ذُو قَرَابَتَيْنِ، تَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً، وَلَا يُرَجَّحُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يَرِثَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، كَابْنِ الْعَمِّ إذَا كَانَ أَخًا أَوْ زَوْجًا، وَفَارَقَ الْأَخَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ رَجَحَ بِقَرَابَتَيْهِ عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ التَّرْجِيحِ بِالْقَرَابَةِ الزَّائِدَةِ وَالتَّوْرِيثِ بِهَا؛ فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْآخَرُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِهِمَا جَمِيعًا، بَلْ إذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا وُجِدَ الْآخَرُ، وَهَا هُنَا قَدْ انْتَفَى التَّرْجِيحُ فَيَثْبُتُ التَّوْرِيثُ. وَصُورَةُ ذَلِكَ، أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنُ ابْنِ الْمَرْأَةِ بِنْتَ بِنْتِهَا، فَيُولَدَ لَهُمَا وَلَدٌ، فَتَكُونَ الْمَرْأَةُ أُمَّ أُمِّ أُمِّهِ، وَهِيَ مِنْ أُمِّ أَبِي أَبِيهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ ابْنُ بِنْتِهَا بِنْتَ بِنْتِهَا، فَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّهِ وَأُمُّ أُمِّ أَبِيهِ. وَإِنْ أَدْلَتْ الْجَدَّةُ بِثَلَاثِ جِهَاتٍ، تَرِثُ بِهِنَّ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى وَارِثَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ. [مَسْأَلَةٌ الْجَدَّةُ تَرِثُ وَابْنُهَا حَيُّ] (4863) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالْجَدَّةُ تَرِثُ وَابْنُهَا حَيُّ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إذَا كَانَ ابْنُهَا حَيًّا وَارِثًا، فَإِنَّ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا مُوسَى وَعِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَأَبَا الطُّفَيْلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرَّثُوهَا مَعَ ابْنِهَا. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَا تَرِثُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ جَابِرٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي تَوْرِيثِهَا مَعَ ابْنِهَا إذَا كَانَ عَمًّا أَوْ عَمَّ أَبٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُدْلِي بِهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَسْقَطَهَا بِابْنِهَا بِأَنَّهَا تُدْلِي بِهِ، فَلَا تَرِثُ مَعَهُ، كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ، وَأُمِّ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ، أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا، وَابْنُهَا حَيٌّ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، إلَّا أَنَّ لَفْظَهُ: (أَوَّلُ جَدَّةٍ أُطْعِمَتْ السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا) وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا. وَلِأَنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ يَرِثْنَ مِيرَاثَ الْأُمِّ، لَا مِيرَاثَ الْأَبِ، فَلَا يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الْأُمِّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 مَسَائِلُ ذَلِكَ: أُمُّ أَبٍ وَأَبٍ، لَهَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لَهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، الْكُلُّ لَهُ دُونَهَا. أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ وَأَبٍ، السُّدُسُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي السُّدُسُ لِأُمِّ الْأُمِّ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. وَقِيلَ: لِأُمِّ الْأُمِّ نِصْفُ السُّدُسِ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَدَمَ لَمْ يَكُنْ لِأُمِّ الْأُمِّ إلَّا نِصْفُ السُّدُسِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَعَ وُجُودِهِ إلَّا مَا كَانَ لَهَا مَعَ عَدَمِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنْ نِصْف مِيرَاثِهَا، وَلَا يَأْخُذُونَ مَا حَجَبُوهَا عَنْهُ، بَلْ يَتَوَفَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ، كَذَا هَاهُنَا. ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ وَأَبٍ، السُّدُسُ بَيْنَهُنَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلِأُمِّ الْأُمِّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَعَلَى الثَّالِثِ لِأُمِّ الْأُمِّ ثُلُثُ السُّدُسِ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُتَحَاذِيَاتِ جَدَّاتٌ، لَمْ يَحْجُب إلَّا أُمَّهُ. أَبٌ وَأَمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمِّ أُمٍّ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ السُّدُسُ لِأُمِّ الْأَبِ. وَمَنْ حَجَبَ الْجَدَّةَ بِابْنِهَا أَسْقَطَ أُمَّ الْأَبِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: السُّدُسُ كُلُّهُ لِأُمِّ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الَّتِي تَحْجُبُهَا أَوْ تُزَاحِمُهَا قَدْ سَقَطَ حُكْمُهَا، فَصَارَتْ كَالْمَعْدُومَةِ. وَقِيلَ: بَلْ لَهَا نِصْفُ السُّدُسِ عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ لِأَنَّهُ يُوَرِّثُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ مَعَ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، فَكَانَ لَهَا نِصْفُ السُّدُسِ. وَقِيلَ: لَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا انْحَجَبَتْ بِأُمِّ الْأَبِ، ثُمَّ انْحَجَبَتْ أُمُّ الْأَبِ بِالْأَبِ، فَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْأَبِ. [مَسْأَلَةٌ الْجَدَّاتُ الْمُتَحَاذِيَاتُ] (4864) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالْجَدَّاتُ الْمُتَحَاذِيَاتُ أَنْ تَكُنَّ أُمَّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمَّ أُمِّ أَبٍ وَأُمَّ أَبِي أَبٍ، وَإِنْ كَثُرْنَ فَعَلَى ذَلِكَ) يَعْنِي بِالْمُتَحَاذِيَاتِ الْمُتَسَاوِيَاتِ فِي الدَّرَجَةِ، بِحَيْثُ لَا تَكُونُ وَاحِدَةٌ أَعْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَلَا أَنْزَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْجَدَّاتِ إنَّمَا يَرِثْنَ كُلُّهُنَّ إذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَتَى كَانَ بَعْضُهُنَّ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ، فَالْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِهِنَّ، فَإِذَا قِيلَ: تَرَكَ جَدَّتَيْنِ وَارِثَتَيْنِ عَلَى أَقْرَبِ الْمَنَازِلِ. فَهُمَا أُمُّ أُمِّهِ وَأُمُّ أَبِيهِ. وَإِنْ قِيلَ: تَرَكَ ثَلَاثًا. فَهُنَّ كَمَا قَالَ الْخِرَقِيِّ أُمُّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ وَأُمُّ أَبِي أَبٍ، وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، وَاثْنَتَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَهُمَا أُمُّ أُمِّهِ وَأُمُّ أَبِيهِ، كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ، وَفِي دَرَجَتِهِنَّ أُخْرَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ غَيْرِ وَارِثَةٍ، وَهِيَ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ، وَلَا يَرْتُ أَبَدًا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي كُلُّ نَسَبِهَا أُمَّهَاتٌ لَا أَبَ فِيهِنَّ. فَاحْفَظْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: تَرَكَ أَرْبَعًا. فَهُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أُمِّ أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أَبِي أَبٍ. وَفِي دَرَجَتِهِنَّ أَرْبَعٌ غَيْرُ وَارِثَاتٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ لَا يُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ، وَهُنَّ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ تَوْرِيثَهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلَّمَا زَادَ دَرَجَةً زَادَتْ جَدَّةٌ، وَيَرِثُ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ خَمْسٌ، وَفِي السَّادِسَةِ سِتٌّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 وَفِي السَّابِعَةِ سَبْعٌ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " وَإِنْ كَثُرْنَ فَعَلَى ذَلِكَ ". يُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَثُرْنَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَا يَرِثُ إلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَرِثُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ؛ وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، وَاثْنَتَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَهُمَا أُمُّ أُمِّهِ وَأُمُّ أَبِيهِ وَأُمَّهَاتُهُمَا. وَلَا تَرِثُ جَدَّةٌ فِي نَسَبِهَا أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ، وَلَا ثَلَاثَةُ آبَاءٍ. وَإِنْ أَرَدْت تَنْزِيلَ الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى جَدَّتَيْنِ، أُمَّ أُمِّهِ وَأُمَّ أَبِيهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ جَدَّتَيْنِ فَهُمَا أَرْبَعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ ثَمَانٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ أَرْبَعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ لِوَلَدِهِمَا ثَمَانٍ. وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا عَلَوْنَ دَرَجَةً تَضَاعَفَ عَدَدُهُنَّ، وَلَا يَرِثُ مِنْهُنَّ إلَّا ثَلَاثٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَنْ يَرِثُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ] مَنْ يَرِثُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (4865) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَرِثُ مِنْ الرِّجَال الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ، وَالْعَمُّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ، وَالزَّوْجُ، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ. وَمِنْ النِّسَاءِ الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ، وَالْأُخْتُ، وَالزَّوْجَةُ، وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ) فَهَؤُلَاءِ مُجْمَعٌ عَلَى تَوْرِيثِهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ ثَبَتَ تَوْرِيثُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَالِابْنُ ثَبَتَ مِيرَاثُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . وَابْنُ الِابْنِ ابْنٌ. وَالْأَبَوَانِ ثَبَتَ مِيرَاثُهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَالْجَدُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ} [النساء: 11] كَمَا دَخَلَ ابْنُ الِابْنِ فِي عُمُومِ: (أَوْلَادِكُمْ) . وَالْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ ثَبَتَ مِيرَاثُهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] . وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَبُ، ثَبَتَ إرْثُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] . وَأَمَّا ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، وَالْعَمُّ وَابْنُهُ، وَعَمُّ الْأَبِ وَابْنُهُ، فَثَبَتَ مِيرَاثُهُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا أَبْقَتْ الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ.» وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ وَلَدُ الْأُمِّ، وَلَا الْعَمُّ لِلْأُمِّ، وَلَا ابْنُهُ، وَلَا الْخَالُ، وَلَا أَبُو الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْعُصُبَاتِ، وَأَمَّا الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ وَالْمَوْلَاةُ، فَثَبَتَ إرْثُهُمَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَالْجَدَّةُ أَطْعَمَهَا، النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ. وَالزَّوْجُ ثَبَتَ إرْثُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] . وَالزَّوْجَةُ ثَبَتَ إرْثُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] . (4866) فَصْلٌ: وَجَمِيعُهُمْ ضَرْبَانِ؛ ذُو فَرْضٍ، وَعَصَبَةٌ. فَالذُّكُورُ كُلُّهُمْ عَصَبَاتٌ إلَّا الزَّوْجَ، وَالْأَخَ مِنْ الْأُمِّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 وَإِلَّا الْأَبَ، وَالْجَدَّ مَعَ الِابْنِ. وَالْإِنَاثُ كُلُّهُنَّ إذَا انْفَرَدْنَ عَنْ إخْوَتِهِنَّ ذَوَاتُ فَرْضٍ، إلَّا الْمَوْلَاةَ الْمُعْتِقَةَ، وَإِلَّا الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ. وَعَدَدُ الْعَصَبَاتِ؛ الِابْنُ، وَابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، وَالْأَبُ، وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَابْنَاهُمَا وَإِنْ نَزَلَا، وَالْعَمَّانِ كَذَلِكَ، وَابْنَاهُمَا وَإِنْ نَزَلَا، وَعَمَّا الْأَبِ، وَابْنَاهُمَا كَذَلِكَ أَبَدًا، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ. وَعَدَدُ الْإِنَاثِ؛ الْبَنَاتُ، وَبَنَاتُ الِابْنِ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَإِنْ عَلَتْ، وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْجِهَات الثَّلَاثِ. وَالْأَخُ مِنْ الْأُمَّ، وَالزَّوْجُ، وَالزَّوْجَةُ. وَمَنْ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ خَمْسَةٌ؛ الزَّوْجَانِ، وَالْأَبَوَانِ، وَوَلَدُ الصُّلْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمُتُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ يَحْجُبُهُمْ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْوَارِثِ إنَّمَا يَمُتُّ بِوَاسِطَةٍ سِوَاهُ، فَيَسْقُطُ بِمَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَيِّتِ مِنْهُ. [بَابُ مِيرَاثِ الْجَدِّ] مِيرَاثِ الْجَدِّ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ ابْنَ ابْنِ ابْنِي مَاتَ، فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟ قَالَ: لَك السُّدُسُ. فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ، فَقَالَ: إنَّ لَك سُدُسًا آخَرَ. فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ، فَقَالَ: إنَّ لَك السُّدُسَ الْآخَرَ طُعْمَةً.» قَالَ قَتَادَةُ: فَلَا نَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ وَرَّثَهُ. قَالَ قَتَادَةُ أَقَلُّ شَيْءٍ وَرِثَ الْجَدُّ السُّدُسَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَيُّكُمْ يَعْلَمُ مَا وَرَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَدَّ؟ فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَا، وَرَّثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ. قَالَ: مَعَ مَنْ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: لَا دَرَيْت. قَالَ: فَمَا يُغْنِي إذًا» رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأَبِ، لَا يَحْجُبُهُ عَنْ الْمِيرَاثِ غَيْرُ الْأَبِ، وَأَنْزَلُوا الْجَدَّ فِي الْحَجْبِ وَالْمِيرَاثِ مَنْزِلَةَ الْأَبِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا، زَوْجٌ وَأَبَوَانِ. وَالثَّانِيَةُ، زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، لِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي فِيهِمَا مَعَ الْأَبِ، وَثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ جَدٌّ. وَالثَّالِثَةُ، اخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي إسْقَاطِهِ بَنِي الْإِخْوَةِ وَوَلَدَ الْأُمِّ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ. وَذَهَبَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، كَمَا يُسْقِطُهُمْ الْأَبُ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَعَطَاءٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 وَطَاوُسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ شُرَيْحٍ، وَابْنُ اللَّبَّانِ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُوَرَّثُونَهُمْ مَعَهُ، وَلَا يَحْجُبُونَهُمْ بِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْأَخَ ذَكَرٌ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ، فَلَمْ يُسْقِطْهُ الْجَدُّ، كَالِابْنِ. وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُمْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ، فَلَا يُحْجَبُونَ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَمَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُحْجَبُونَ؛ وَلِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَتَسَاوُونَ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَخَ وَالْجَدَّ يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ، الْجَدُّ أَبُوهُ، وَالْأَخُ ابْنُهُ، وَقَرَابَةُ الْبُنُوَّةِ لَا تَنْقُصُ عَنْ قَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ أَقْوَى؛ فَإِنَّ الِابْنَ يُسْقِطُ تَعْصِيبَ الْأَبِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِشَجَرَةٍ أَنْبَتَتْ غُصْنًا، فَانْفَرَقَ مِنْهُ غُصْنَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ، وَمَثَّلَهُ زَيْدٌ بِوَادٍ خَرَجَ مِنْهُ نَهْرٌ، انْفَرَقَ مِنْهُ جَدْوَلَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْوَادِي. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، وَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» . وَالْجَدُّ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ، بِدَلِيلِ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ؛ أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَهُ قَرَابَةُ إيلَادٍ وَبَعْضِيَّةٍ كَالْأَبِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّ الْفُرُوضَ إذَا ازْدَحَمَتْ سَقَطَ الْأَخُ دُونَهُ، وَلَا يُسْقِطُهُ أَحَدٌ إلَّا الْأَبُ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ يَسْقُطُونَ بِثَلَاثَةٍ، وَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ، كَالْأَبِ، وَهُمْ يَنْفَرِدُونَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُسْقِطُ وَلَدَ الْأُمِّ، وَوَلَدُ الْأَبِ يَسْقُطُونَ بِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ الْمَالَ، وَكَانُوا عَصَبَةً. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي الْمُشْرَكَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِ ابْنِ ابْنِهِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَيُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، كَالْأَبِ سَوَاءً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي تَقْدِيمِ الْأَخَوَاتِ؛ لِأَنَّ فُرُوضَهُنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَجِبُ أَنْ تَلْحَقَ بِهِنَّ فُرُوضُهُنَّ، وَيَكُونُ لِلْجَدِّ مَا بَقِيَ. فَالْجَوَابُ، أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حُجَّةُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدِينَ، وَفِي الذُّكُورِ مَعَ الْإِنَاثِ. أَوْ نَقُولُ: هُوَ حُجَّةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا فَرْضَ لِوَلَدِ الْأَبِ مَعَ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُمْ كَلَالَةٌ، وَالْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْوَارِثِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مَعَهُ إذًا فَرْضٌ. حُجَّةٌ أُخْرَى، قَالُوا: الْجَدُّ أَبٌ، فَيَحْجُبُ وَلَدَ الْأَبِ، كَالْأَبِ الْحَقِيقِيِّ. وَدَلِيلُ كَوْنِهِ أَبًا قَوْله تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَقَوْلُ يُوسُفَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] . وَقَوْلُهُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 6] وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» . وَقَالَ: «سَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامُ أَبُو الْحَبَشِ» . وَقَالَ: «نَحْنُ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقَفُوا أُمَّنَا، وَلَا نَنْفِي مِنْ أَبِينَا» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبٍ عَنْهُ ... وَلَا هُوَ بِالْأَبْنَاءِ يَشْرِينَا فَوَجَبَ أَنْ يَحْجُبَ الْإِخْوَةَ، كَالْأَبِ الْحَقِيقِيِّ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ يَقُومُ مَقَامَ أَبِيهِ فِي الْحَجْبِ، وَكَذَلِكَ أَبُو الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَ ابْنِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا. وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا إيلَادًا وَبَعْضِيَّةً وَجُزْئِيَّةً، وَهُوَ يُسَاوِي الْأَبَ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهِ، فَيُسَاوِيهِ فِي هَذَا الْحَجْبِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ أَبَا الْأَبِ وَإِنْ عَلَا يُسْقِطُ بَنِي الْإِخْوَةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَرَابَةُ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَاحِدَةً، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْجَدِّ مُسَاوِيًا لِبَنِي الْأَخِ، لِتَسَاوِي دَرَجَةِ مَنْ أَدْلَيَا بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِوُضُوحِهِ. (4867) فَصْلٌ: اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ، فَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَفْرِضُ لِلْأَخَوَاتِ فُرُوضَهُنَّ، وَالْبَاقِيَ لِلْجَدِّ، إلَّا أَنْ يَنْقُصَهُ ذَلِكَ مِنْ السُّدُسِ، فَيَفْرِضَهُ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ، وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ، فَرَضَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَقَاسَمَ الْجَدُّ الْإِخْوَةَ فِيمَا بَقِيَ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ السُّدُسِ، فَنَفْرِضَهُ لَهُ. فَإِنْ كَانَ الْإِخْوَةُ كُلُّهُمْ عَصَبَةً، قَاسَمَهُمْ الْجَدُّ إلَى السُّدُسِ. فَإِنْ اجْتَمَعَ وَلَدُ الْأَبِ وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْجَدِّ، سَقَطَ وَلَدُ الْأَبِ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُقَاسَمَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمْ. وَإِنْ انْفَرَدَ وَلَدُ الْأَبِ، قَامُوا مَقَامَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْجَدِّ. وَصَنَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأَخَوَاتِ كَصُنْعِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَاسَمَ بِهِ الْإِخْوَةَ إلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَصْحَابُ فَرَائِضَ، أَعْطَى أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ صَنَعَ صَنِيعَ زَيْدٍ فِي إعْطَاءِ الْجَدِّ الْأَحَظَّ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي أَوْ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَعَلِيٌّ يُقَاسِمُ بِهِ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ بِنْتًا أَوْ بَنَاتٍ فَلَا يَزِيدُ الْجَدُّ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا يُقَاسِمُ بِهِ. وَقَالَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ، الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْمِقْسَمِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَسْرُوقٌ، وَعَلْقَمَةُ، وَشُرَيْحٌ. وَأَمَّا مَذْهَبُ زَيْدٍ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَسَنَشْرَحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 ذَهَبَ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. [مَسْأَلَةٌ إخْوَة وَأَخَوَات وَجَدِّ قَاسِمهمْ الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ أَخ] (4868) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (وَمَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي الْجَدَّ، قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَانَ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ وَجَدٌّ، قَاسَمَهُمْ الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ أَخٍ، حَتَّى يَكُونَ الثُّلُثُ خَيْرًا، فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ، أُعْطِيَ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ زَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِلْأَبِ، أَنَّهُ يُعْطِيهِ الْأَحَظَّ مِنْ شَيْئَيْنِ؛ إمَّا الْمُقَاسَمَةُ، كَأَنَّهُ أَخٌ، وَإِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْإِخْوَةُ اثْنَيْنِ، أَوْ أَرْبَعَ أَخَوَاتٍ، أَوْ أَخًا وَأُخْتَيْنِ، فَالثُّلُثُ وَالْمُقَاسَمَةُ سَوَاءٌ، فَأَعْطِهِ مَا شِئْت مِنْهُمَا. وَإِنْ نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ، فَالْمُقَاسَمَةُ أَحَظُّ لَهُ، فَقَاسِمْ بِهِ لَا غَيْرُ. وَإِنْ زَادُوا، فَالثُّلُثُ خَيْرٌ لَهُ، فَأَعْطِهِ إيَّاهُ. وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَبٍ أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَإِنْ اجْتَمَعَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَوَلَدُ الْأَبِ، فَإِنَّ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ يُعَادُونَ الْجَدَّ بِوَلَدِ الْأَبِ، وَيَحْتَسِبُونَ بِهِمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أُخْتًا وَاحِدَةً، فَتَأْخُذَ مِنْهُمْ تَمَامَ نِصْفِ الْمَالِ، ثُمَّ مَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُمْ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْضُلَ عَنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ السُّدُسِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى مَا لِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَعْدَهُمَا هُوَ السُّدُسُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ مَعَ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَات أَصْحَابُ فَرَائِضَ] (4869) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ أَصْحَابُ فَرَائِضَ، أُعْطِيَ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ نُظِرَ فِيمَا بَقِيَ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ، خَيْرًا لِلْجَدِّ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَمِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ، أُعْطِيَ الْمُقَاسَمَةَ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَا بَقِيَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ، وَمِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ، أُعْطِيَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، فَإِنْ كَانَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ أَحَظَّ لَهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ، وَمِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، أُعْطِيَ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ) أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى، فَمَعَ غَيْرِهِمْ أَوْلَى. وَأَمَّا إعْطَاؤُهُ ثُلُثَ الْبَاقِي إذَا كَانَ أَحَظَّ لَهُ، فَلِأَنَّ لَهُ الثُّلُثَ مَعَ عَدَمِ الْفُرُوضِ، فَمَا أُخِذَ بِالْفَرْضِ، فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ الْمَالِ، فَصَارَ ثُلُثُ الْبَاقِي بِمَنْزِلَةِ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْمُقَاسَمَةُ فَهِيَ لَهُ مَعَ عَدَمِ الْفُرُوضِ، فَكَذَلِكَ مَعَ وُجُودِهَا، فَعَلَى هَذَا مَتَى زَادَ الْإِخْوَةُ عَنْ اثْنَيْنِ، أَوْ مَنْ يَعْدِلُهُمْ مِنْ الْإِنَاثِ، فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ، وَمَتَى نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي، وَمَتَى زَادَتْ الْفُرُوضُ عَلَى النِّصْفِ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ النِّصْفِ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ النِّصْفَ فَحَسْبُ اسْتَوَى السُّدُسُ وَثُلُثُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ الْإِخْوَةُ اثْنَيْنِ اسْتَوَى ثُلُثُ الْبَاقِي وَالْمُقَاسَمَةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 [مَسْأَلَةٌ لَا يَنْقُصُ الْجَدُّ أَبَدًا مِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يَنْقُصُ الْجَدُّ أَبَدًا مِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ، أَوْ تَسْمِيَتُهُ إذَا زَادَتْ السِّهَامُ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إلَى عَلِيٍّ فِي سِتَّةِ إخْوَةٍ وَجَدٍّ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: اجْعَلْ الْجَدَّ سَابِعَهُمْ، وَامْحُ كِتَابِي هَذَا. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي سَبْعَةِ إخْوَةٍ وَجَدٍّ، أَنَّ الْجَدَّ ثَامِنُهُمْ. وَحُكِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالشَّعْبِيِّ الْمُقَاسَمَةُ إلَى نِصْفِ سُدُسِ الْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَدَّ لَا يَنْقُصُ عَنْ السُّدُسِ مَعَ الْبَنِينَ، وَهُمْ أَقْوَى مِيرَاثًا مِنْ الْإِخْوَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يُسْقِطُونَهُمْ، فَلَأَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْهُ مَعَ الْإِخْوَةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعَمَ الْجَدَّ السُّدُسَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَوْ تَسْمِيَتُهُ إذَا زَادَتْ السِّهَام ". فَإِنَّهُ يَعْنِي إذَا عَالَتْ الْمَسْأَلَةُ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى لَهُ السُّدُسُ، وَهُوَ نَاقِصٌ عَنْ السُّدُسِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَابْنَتَيْنِ وَجَدٍّ: لَهُ السُّدُسُ. وَنُعْطِيهِ سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَهُمَا ثُلُثَا الْخُمُسِ. وَمَتَى أَفَضْت الْمَسْأَلَةُ إلَى الْعَوْلِ، سَقَطَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ. وَلَا يَنْقُصُ الْجَدُّ عَنْ السُّدُسِ الْكَامِلِ فِي مَسْأَلَةٍ يَرِثُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أَخَا لِأَبٍ وَأُمًّا وَأَخَا لِأَبٍ وَجَدِّ] (4871) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخٌ لِأَبٍ، وَجَدٌّ، قَاسَمَ الْجَدُّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْأَخَ لِلْأَبِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى مَا فِي يَدِ أَخِيهِ لِأَبِيهِ، فَأَخَذَهُ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ كَأَخٍ، مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ عَنْ الثُّلُثِ، وَأَنَّ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ يُعَادُونَ الْجَدَّ بِوَلَدِ الْأَبِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ مَا حَصَلَ لَهُمْ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ اثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَجَدٌّ، اسْتَوَى الثُّلُثُ وَالْمُقَاسَمَةُ. فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ اسْتَوَى الثُّلُثُ وَالْمُقَاسَمَةُ، وَلِذَلِكَ اقْتَسَمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ، ثُمَّ أَخَذَ الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ مَا حَصَلَ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ. وَإِنْ شِئْت فَرَضْت لِلْجَدِّ الثُّلُثَ، وَالْبَاقِي لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْإِخْوَةِ عَلَى اثْنَيْنِ أَوْ مَنْ يَعْدِلُهُمَا مِنْ الْأَخَوَاتِ، فَافْرِضْ لِلْجَدِّ الثُّلُثَ، وَالْبَاقِيَ لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. هَذَا مَذْهَبُ زَيْدٍ وَأَمَّا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُمَا يُقَاسِمَانِ بِهِ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَيُسْقِطَانِ وَلَدَ الْأَبِ، وَلَا يَعْتَدَّانِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ كَوَلَدِ الْأُمِّ، وَقَسَمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَأَسْقَطَا الْأَخَ مِنْ الْأَبِ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَدَّ وَالِدٌ، فَإِذَا حَجَبَهُ أَخَوَانِ وَارِثَانِ، جَازَ أَنْ يَحْجُبَهُ أَخٌ وَارِثٌ، وَأَخٌ غَيْرُ وَارِثٍ، كَالْأُمِّ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْأَبِ يَحْجُبُونَهُ إذَا انْفَرَدُوا، فَيَحْجُبُونَهُ مَعَ غَيْرِهِمْ، كَالْأُمِّ، وَيُفَارِقُ وَلَدَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُهُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْجُبُوهُ بِخِلَافِ وَلَدِ الْأَبِ؛ فَإِنَّ الْجَدَّ لَا يَحْجُبُهُمْ، فَجَازَ أَنْ يَحْجُبُوهُ إذَا حَجَبَهُمْ غَيْرُهُ، كَمَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، وَإِنْ كَانُوا مَحْجُوبِينَ بِالْأَبِ. وَأَمَّا الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَهُوَ أَقْوَى تَعْصِيبًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 مِنْ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ، فَلَا يَرِثُ مَعَهُ شَيْئًا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَا عَنْ الْجَدِّ، فَيَأْخُذُ مِيرَاثَهُ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ ابْنٌ، وَابْنُ ابْنٍ، حَجَبَهُ وَأَخَذَ مِيرَاثَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْجَدُّ يَحْجُبُ وَلَدَ الْأُمِّ، وَلَا يَأْخُذُ مِيرَاثَهُ، وَالْإِخْوَةُ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا مِيرَاثَهَا. قُلْنَا: الْجَدُّ وَوَلَدُ الْأُمِّ يَخْتَلِفُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمَا لِلْمِيرَاثِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ يَحْجُبُ وَلَا يَأْخُذُ مِيرَاثَ الْمَحْجُوبِ، وَهَا هُنَا سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْإِخْوَةِ لِلْمِيرَاثِ الْأُخُوَّةُ وَالْعُصُوبَةُ، فَأَيُّهُمَا قَوِيَ حَجَبَ الْآخَرَ، وَأَخَذَ مِيرَاثَهُ. وَقَدْ مُثِّلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةٍ فِي الْوَصَايَا، وَهِيَ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ، وَلِثَالِثٍ بِتَمَامِ الثُّلُثِ عَلَى الْمِائَةِ، وَكَانَ ثُلُثُ الْمَالِ مِائَتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ يُزَاحِمُ صَاحِبَ الثُّلُثِ بِصَاحِبِ التَّمَامِ، فَيُقَاسِمُهُ الثُّلُثَ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَصُّ صَاحِبُ الْمِائَةِ بِهَا، وَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِ التَّمَامِ شَيْءٌ. " [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك أَخًا لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَجَدِّ] (4872) فَصْلٌ: أَخٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتَانِ لِأَبٍ وَجَدٍّ، لِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ. وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَدِّ نِصْفَيْنِ. أَخٌ وَأُخْتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ مِنْ أَبٍ وَجَدٍّ، فَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ بَيْنَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَالْجَدِّ عَلَى خَمْسَةٍ. أَخٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَجَدٌّ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ. وَعِنْدَهُمَا الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك أَخَوَيْنِ لِأَبَوَيْنِ وَأَخَا لِأَبٍ وَجِدًّا] (4873) فَصْلٌ: أَخَوَانِ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ لِأَبٍ، وَجَدٌّ، لِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخَوَيْنِ لِلْأَبَوَيْنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةً، فَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ أَيْضًا عِنْدَ زَيْدٍ وَعِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ لَهُ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّهُمَا يُقَاسِمَانِ بِهِ إلَى السُّدُسِ. أَخٌ وَأُخْتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأَخٌ مِنْ أَبٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَعِنْدَهُمَا لِلْجَدِّ الْخُمُسَانِ، وَلِلْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ الْخُمُسَانِ، وَلِلْأُخْتِ الْخُمُسُ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أَخَا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمِّ أَوْ لِأَبٍ وَجَدًّا] (4874) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٌّ، أَوْ لِأَبٍ، وَجَدٌّ، كَانَ الْمَالُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ) الْمُقَاسَمَةُ هَاهُنَا خَيْرٌ لِلْجَدِّ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا خُمُسَا الْمَالِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ. وَكَذَلِكَ كُلَّمَا نَقَصَ الْإِخْوَةُ عَنْ اثْنَيْنِ، أَوْ مَنْ يَعْدِلُهُمْ مِنْ الْإِنَاثِ، كَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ، أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ أَخٍ وَاحِدٍ، أَوْ أُخْتٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْمُقَاسَمَةُ بِهِ كَأَخٍ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، إذَا كَانُوا عَصَبَةً، فَأَمَّا إنْ كُنَّ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ يَفْرِضَانِ لَهُنَّ فُرُوضَهُنَّ، ثُمَّ يُعْطِيَانِ الْجَدَّ مَا بَقِيَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا] (4875) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتٌ لِأَبٍ، وَجَدٌّ، كَانَتْ الْفَرِيضَةُ لِلْجَدِّ وَالْأُخْتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، ثُمَّ رَجَعَتْ الْأُخْتُ لِلْأُمِّ وَالْأَبِ، فَأَخَذَتْ مِمَّا فِي يَدِ أُخْتِهَا لِتَسْتَكْمِلَ النِّصْفَ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 الْمُقَاسَمَةُ هَاهُنَا أَحَظُّ لِلْجَدِّ، وَتَعْتَدُّ الْأُخْتُ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الْجَدِّ بِأُخْتِهَا مِنْ أَبِيهَا، فَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ، وَلَهُمَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ، ثُمَّ تَأْخُذُ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ مَا بَقِيَ فِي يَدِ أُخْتِهَا، لِتَسْتَكْمِلَ تَمَامَ فَرْضِهَا. وَهُوَ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا شَيْءٌ، وَتَصِيرُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُمَا بِنْتٌ، فَأَخَذَتْ الْبِنْتُ النِّصْفَ، وَبَقِيَ النِّصْفُ، فَإِنَّ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ تَأْخُذُهُ جَمِيعَهُ، فَلَا يَبْقَى لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ شَيْءٌ. فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أُخْتَانِ مِنْ أَبٍ، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْجَدِّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ؛ لِلْجَدِّ اثْنَانِ، وَلَهُنَّ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَأْخُذُ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ مِنْ أُخْتِهَا تَمَامَ النِّصْفِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، يَبْقَى لَهُمَا نِصْفُ سَهْمٍ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعُ سَهْمٍ، فَتَضْرِبُ مَخْرَجَ الرُّبُعِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ عِشْرِينَ؛ لِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ عَشْرَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُخْتَيْهَا سَهْمٌ. فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلْجَدِّ إلَّا الثُّلُثُ، وَلَهَا النِّصْفُ، وَيَبْقَى السُّدُسُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَإِنْ كَثُرْنَ. وَإِنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ أُخْتَانِ أَوْ أَكْثَرُ، فَلَيْسَ لِلْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ شَيْءٌ وَإِنْ كَثُرْنَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَالْجَدُّ لَا يَنْقُصُ عَنْ الثُّلُثِ، فَلَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ يُسْقِطْنَ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ بِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ جَدٌّ، فَمَعَ الْجَدِّ أَوْلَى. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ فَإِنَّ عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ يَفْرِضَانِ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفَ، وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ السُّدُسَ، وَالْبَاقِيَ لِلْجَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهَا أُخْتَانِ أَوْ أَخَوَاتُ مِنْ أَبٍ. (4877) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مَعَ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَخُوهَا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتَيْنِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، ثُمَّ رَجَعَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمُّ عَلَى الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ، فَأَخَذَتْ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِتَسْتَكْمِلَ النِّصْفَ، فَتَصِحَّ الْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِلْجَدِّ سِتَّةُ أَسْهُمٍ. وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ) الْمُقَاسَمَةُ هَاهُنَا وَالثُّلُثُ سَوَاءٌ، فَإِنْ قَاسَمْت بِهِ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، يَأْخُذُ الْجَدُّ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَكْمُلُ لِلْأُخْتِ تَمَامُ النِّصْفِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، يَبْقَى لَهُمَا سَهْمٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ لَا يَصِحُّ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، كَمَا قَالَ الْخِرَقِيِّ وَإِنْ زَادَ وَلَدُ الْأَبِ عَلَى هَذَا لَمْ يُزَادُوا عَلَى السُّدُسِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَنْقُصُ عَنْ الثُّلُثِ، وَالْأُخْتَ لَا تَنْقُصُ عَنْ النِّصْفِ، فَلَا يَبْقَى إلَّا السُّدُسُ. [مَسْأَلَةٌ الْأَكْدَرِيَّة] (4878) مَسْأَلَةٌ الْأَكْدَرِيَّةُ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ) ثُمَّ يُقَسَّمُ سُدُسُ الْجَدِّ وَنِصْفُ الْأُخْتِ بَيْنَهُمَا، عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، فَتَصِحُّ الْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلزَّوْجِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ، وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةَ. وَلَا يُفْرَضُ لِلْجَدِّ مَعَ الْأَخَوَاتِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةَ، لِتَكْدِيرِهَا لِأُصُولِ زَيْدٍ فِي الْجَدِّ؛ فَإِنَّهُ أَعَالَهَا، وَلَا عَوْلَ عِنْدَهُ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ، وَفَرَضَ لِلْأُخْتِ مَعَهُ، وَلَا يُفْرَضُ لَأُخْتٍ مَعَ جَدٍّ، وَجَمَعَ سِهَامَهُ وَسِهَامَهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمَا، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ الْأَكْدَرِيَّةَ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَأَلَ عَنْهَا رَجُلًا اسْمُهُ الْأَكْدَرُ، فَأَفْتَى فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ وَأَخْطَأَ فِيهَا، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا؛ فَمَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُوَافِقِيهِ، إسْقَاطُ الْأُخْتِ، وَيَجْعَلُ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَمَا بَقِيَ لِلْجَدِّ. وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَعَالَتْ إلَى ثَمَانِيَةٍ. وَجَعَلُوا لِلْأُمِّ السُّدُسَ كَيْ لَا يُفَضِّلُوهَا عَلَى الْجَدِّ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَعَوَّلَاهَا إلَى تِسْعَةٍ، وَلَمْ يَحْجُبَا الْأُمَّ عَنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا حَجَبَهَا بِالْوَلَدِ وَالْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَلَدٌ وَلَا إخْوَةٌ. ثُمَّ إنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ أَبْقَوْا النِّصْفَ لِلْأُخْتِ، وَالسُّدُسَ لِلْجَدِّ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَإِنَّهُ ضَمَّ نِصْفَهَا إلَى سُدُسِ الْجَدِّ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ مَعَهُ إلَّا بِحُكْمِ الْمُقَاسَمَةِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ زَيْدٌ عَلَى إعَالَةِ الْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْرِضْ لِلْأُخْتِ لَسَقَطَتْ، وَلَيْسَ فِي الْفَرِيضَةِ مَنْ يُسْقِطُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا قَالَ ذَلِكَ زَيْدٌ وَإِنَّمَا قَاسَ أَصْحَابُهُ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُوَ شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأُخْتُ مَعَ الْجَدِّ عَصَبَةٌ، وَالْعَصَبَةُ تَسْقُطُ بِاسْتِكْمَالِ الْفُرُوضِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَعْصِبُهَا الْجَدُّ، وَلَيْسَ بِعَصَبَةٍ مَعَ هَؤُلَاءِ، بَلْ يُفْرَضُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخٌ لَسَقَطَ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ فِي نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 مَعَ الْأُخْتِ أُخْرَى، أَوْ أَخٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لَانْحَجَبَتْ الْأُمُّ إلَى السُّدُسِ، وَبَقِيَ لَهُمَا السُّدُسُ، فَأَخَذُوهُ، وَلَمْ تَعُلْ الْمَسْأَلَةُ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَكْدَرِيَّةِ سِتَّةٌ، وَعَالَتْ إلَى تِسْعَةٍ، وَسِهَامُ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ أَرْبَعَةٌ بَيْنَهُمَا، عَلَى ثَلَاثَةٍ لَا تَصِحُّ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي تِسْعَةٍ، تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَضْرُوبٌ فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي ضَرَبْتهَا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ: تِسْعَةٌ، وَلِلْأُمِّ اثْنَانِ فِي ثَلَاثَةٍ: سِتَّةٌ، وَيَبْقَى اثْنَا عَشَرَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لَهُ ثَمَانِيَةٌ، وَلَهَا أَرْبَعَةٌ. وَيُعَايَلُ بِهَا، فَيُقَالُ: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا مَالَ مَيِّتٍ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَهُ، وَالثَّانِي ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَالثَّالِثُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَالرَّابِعُ مَا بَقِيَ. وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ جَاءَتْ قَوْمًا، فَقَالَتْ: إنِّي حَامِلٌ، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَلَهَا تُسْعُ الْمَالِ وَثُلُثُ تُسْعِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَلَهُمَا السُّدُسُ. وَيُقَال أَيْضًا: إنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَلِي ثُلُثُ الْمَالِ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَلِي تُسْعَاهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَلِي سُدُسُهُ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك زَوْجَة وَأُمًّا وَأُخْتًا وَجَدًّا] (4879) فَصْلٌ: زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ أَصْلُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخٌ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ، قَاسَمَهَا، وَصَحَّتْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. فَإِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ، حَجَبُوا الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ، وَقَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، وَصَحَّتْ مِنْ سِتِّينَ. فَإِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ، اسْتَوَى ثُلُثُ الْبَاقِي وَالْمُقَاسَمَةُ، فَافْرِضْ لَهُ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَاضْرِبْ الْمَسْأَلَةَ فِي ثَلَاثَةٍ، تَصِيرُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَيَبْقَى لَهُ وَلَهُمْ أَحَدُ وَعِشْرُونَ، يَأْخُذُ ثُلُثَهَا سَبْعَةً، وَالْبَاقِي لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَصِحَّ عَلَيْهِمْ، ضَرَبْتَهُمْ أَوْ وَفْقَهُمْ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ. فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْجِهَتَيْنِ لَمْ يَبْقَ لِوَلَدِ الْأَبِ شَيْءٌ، وَاسْتَأْثَرَ بِهِ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ دُونَهُمْ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك زَوْجَة وَأُخْتًا وَجَدًّا وَجَدَّة] (4880) فَصْلٌ: زَوْجَةٌ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ وَجَدَّةٌ؛ فَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي فُرُوعِهَا، إلَّا فِي أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ مَعَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ، وَالْأَخِ الْوَاحِدِ. وَمَتَى كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، كَانَ حُكْمُ الْجَدَّةِ وَالْأُمِّ وَاحِدًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ جَدَّةٌ، فَهِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ، لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ. فَإِنْ كَانَ مَعَهَا أُخْتٌ أُخْرَى، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَهُمَا أَخٌ، صَحَّتْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ عِشْرِينَ. وَإِنْ زَادُوا عَلَى هَذَا، فَأَعْطِهِ ثُلُثَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَاقْسِمْ الْبَاقِيَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْجِهَتَيْنِ، فَلَا شَيْءَ لِوَلَدِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الْجَدِّ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ، وَهُوَ أَقَلُّ فَرْضٍ لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أُمًّا وَأُخْتًا وَجَدًّا] (4881) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ أُمُّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ؛ فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى الْخَرْقَاءَ، إنَّمَا سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا، فَكَأَنَّ الْأَقْوَالَ خَرَقَتْهَا. قِيلَ فِيهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ الصِّدِّيقِ وَمُوَافِقِيهِ، لِلْأُمِّ ثُلُثٌ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَقَوْلُ زَيْدٍ وَمُوَافِقِيهِ، لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، أَصْلُهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَيَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ، عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ، لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ. وَعَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْجَدِّ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَهِيَ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَانِ، فَتَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَهِيَ إحْدَى مُرَبَّعَاتِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ عُثْمَانُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثٌ. وَهِيَ مُثَلَّثَةُ عُثْمَانَ وَتُسَمَّى الْمُسَبَّعَةَ، فِيهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ. وَالْمُسَدَّسَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَقْوَالِ يَرْجِعُ إلَى سِتَّةٍ. وَسَأَلَ الْحُجَّاجُ عَنْهَا الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ لَهُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدًا وَابْنَ عَبَّاسٍ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك أُمًّا أَوْ جَدَّة وَأُخْتَيْنِ وَجَدًّا] (4882) فَصْلٌ: أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَأُخْتَانِ وَجَدٌّ، الْمُقَاسَمَةُ خَيْرٌ لِلْجَدِّ، وَيَبْقَى خَمْسَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. أُمٌّ وَأَخٌ وَأُخْتٌ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ وَجَدٌّ، تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. أُمٌّ وَأَخَوَانِ، أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ وَجَدٌّ؛ ثُلُثُ الْبَاقِي وَالْمُقَاسَمَةُ سَوَاءٌ، فَإِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ فُرِضَ لِلْجَدِّ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَانْتَقَلْت الْمَسْأَلَةُ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةٌ، يَبْقَى عَشْرَةٌ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَتُصَحَّحُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، فَالْبَاقِي كُلُّهُ لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أُخْتًا وَاحِدَةً، فَلَهَا قَدْرُ فَرْضِهَا، وَالْبَاقِي لَهُمْ. أُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَجَدٌّ؛ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ الْبَاقِي، يَنْتَقِلُ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ، فَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ تِسْعَةٌ، يَبْقَى سَهْمٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَتُسَمَّى مُخْتَصَرَةَ زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَاسَمَ بِالْجَدِّ لَانْتَقَلَتْ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَبْقَى سَهْمَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ تَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمُخْتَصَرَةَ. أُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخَوَانِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَجَدٌّ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَيَفْضُلُ لِوَلَدِ الْأَبِ سَهْمٌ عَلَى خَمْسَةٍ، تَضْرِبُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تَكُنْ تِسْعِينَ، وَتُسَمَّى تِسْعِينِيَّةَ زَيْدٍ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ؛ الْجَدَّةُ كَالْأُمِّ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك بِنْتًا وَأُخْتًا وَجَدًّا] (4883) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ بِنْتٌ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ، عَلَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ هَاهُنَا أَحَظُّ لِلْجَدِّ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ. وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْبِنْتِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ أَخَذَ الْمَالَ بِالتَّعْصِيبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا اقْتَسَمَا، كَمَا لَوْ كَانَ مَكَانَهَا أَخٌ. فَأَمَّا عَلِيٌّ فَبَنَى عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْأَخَوَاتِ لَا يُقَاسِمْنَ الْجَدَّ، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ لَهُنَّ، فَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ عَصَبَةٌ، وَأَعْطَى الْجَدَّ السُّدُسَ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ مَعَهَا، وَجَعَلَ لَهَا الْبَاقِيَ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْأُخْتَ، فَيَأْخُذُ مِثْلَهَا إذَا كَانَ مَعَهَا أَخٌ، فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَتْ. وَهَذِهِ إحْدَى مُرَبَّعَاتِ ابْنِ مَسْعُودٍ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك بِنْتًا وَأَخَا وَجَدًّا] (4884) فَصْلٌ: بِنْتٌ وَأَخٌ وَجَدٌّ؛ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْبِنْتِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أُخْتُهُ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ. وَإِنْ كَانَ أَخَوَانِ، أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ، اسْتَوَى ثُلُثُ الْبَاقِي وَالسُّدُسُ وَالْمُقَاسَمَةُ، فَإِنْ زَادُوا فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ، وَيَأْخُذُ السُّدُسَ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَلَيْسَ لِوَلَدِ الْأَبِ شَيْءٌ، وَيَأْخُذُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ جَمِيعَ الْبَاقِي. بِنْتٌ وَأُخْتَانِ وَجَدٌّ، الْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ. فَإِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَلَهُ السُّدُسُ، أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَالْبَاقِي لَهُنَّ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك بِنْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرِ أَوْ بِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتًا وَجَدًّا] (4885) فَصْلٌ: بِنْتَانِ، أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ بِنْتُ ابْنٍ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَهَا أَخٌ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَهُ أُخْتَانِ، صَحَّتْ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. وَيَسْتَوِي فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ السُّدُسُ وَالْمُقَاسَمَةُ. فَإِنْ زَادُوا عَنْ أَخٍ أَوْ عَنْ أُخْتَيْنِ، فَرَضْت لِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَكَانَ الْبَاقِي لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ، فَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 [فَصْلٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا وَجَدًّا] (4886) فَصْلٌ: زَوْجٌ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَعِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَعَالَتْ إلَى سَبْعَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُخْتِ أُخْرَى، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ. وَعِنْدَهُمَا، لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَتَعُولُ إلَى ثَمَانِيَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَهُمَا أَخٌ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَإِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ، قَاسَمَهُمْ الْجَدُّ. وَإِنْ كَانَ أَخَوَانِ، أَوْ مَنْ يَعْدِلُهُمَا، اسْتَوَى السُّدُسُ وَثُلُثُ الْبَاقِي وَالْمُقَاسَمَةُ. فَإِنْ زَادُوا، فَرَضْت لَهُ السُّدُسَ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. وَإِنْ كَانَ زَوْجٌ وَبِنْتٌ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، فَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَيَسْتَوِي السُّدُسُ هَاهُنَا وَالْمُقَاسَمَةُ. فَإِنْ زَادُوا عَلَى أُخْتٍ وَاحِدَةٍ، فَرَضْت لِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الزَّوْجِ ابْنَتَانِ، أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ، أَوْ بِنْتٌ وَأَمٌّ أَوْ جَدَّةٌ، سَقَطَتْ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَفَرَضْت لِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَعَالَتْ الْمَسْأَلَةُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك زَوْجَة وَبِنْتًا وَأُخْتًا وَجَدًّا] (4887) فَصْلٌ: زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، الْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخٌ، أَوْ أُخْتَانِ، فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ. وَتَصِحُّ مَعَ الْأَخِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَمَعَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ. وَإِنْ زَادُوا فَرَضْت لِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَانْتَقَلَتْ الْمَسْأَلَةُ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تُصَحَّحُ عَلَى الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ مَعَ الزَّوْجَةِ ابْنَتَانِ، أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ، وَبِنْتٌ وَأُمٌّ، أَوْ جَدَّةٌ، فَرَضْت لِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَيَبْقَى لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. [بَابُ ذَوِي الْأَرْحَام] ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُمْ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَهُمْ وَلَا تَعْصِيبَ، وَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ حَيْزًا؛ وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَوَلَدُ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَالْعَمَّاتُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْعَمُّ مِنْ الْأُمِّ، وَالْأَخْوَالُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأُمِّ، وَكُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ، أَوْ بِأَبٍ أَعْلَى مِنْ الْجَدِّ. فَهَؤُلَاءِ، وَمَنْ أَدْلَى بِهِمْ، يُسَمَّوْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُوَرِّثُهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذُو فَرْضٍ، وَلَا عَصَبَةٍ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْوَارِثِ، إلَّا الزَّوْجَ، وَالزَّوْجَةَ. رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَلْقَمَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ. وَكَانَ زَيْدٌ لَا يُوَرِّثُهُمْ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ جَرِيرٍ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 رَوَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ إلَى قُبَاءَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَنْ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا.» رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ "؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ، وَابْنَةَ الْأَخِ لَا تَرِثَانِ مَعَ أَخَوَيْهِمَا، فَلَا تَرِثَانِ مُنْفَرِدَتَيْنِ، كَالْأَجْنَبِيَّاتِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ انْضِمَامَ الْأَخِ إلَيْهِمَا يُؤَكِّدُهُمَا وَيُقَوِّيهُمَا، بِدَلِيلِ أَنَّ بَنَاتِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ، يَعْصِبُهُنَّ أَخُوهُنَّ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مِيرَاثِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَلَا يَرِثْنَ مُنْفَرِدَاتٍ، فَإِذَا لَمْ يَرِثْ هَاتَانِ مَعَ أَخِيهِمَا، فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الْمَوَارِيثَ إنَّمَا تَثْبُتُ نَصًّا، وَلَا نَصَّ فِي هَؤُلَاءِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . أَيْ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كَانَ التَّوَارُثُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِالْحَلِفِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُك، وَمَالِي مَالُكَ، تَنْصُرُنِي وَأَنْصُرُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك. فَيَتَعَاقَدَانِ الْحَلِفَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَوَارَثَانِ بِهِ دُونَ الْقَرَابَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] . ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَصَارَ التَّوَارُثُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَرِثَهُ الْمُهَاجِرُونَ دُونَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ، فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا خَالًا، فَكَتَبَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ؛ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى الْمِقْدَادُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَرِثُهُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَفُكُّ عَانِيَهُ» . فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا خَالٌ فَلَا وَرَاثَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالْمَاءُ طِيبُ مَنْ لَا طِيبَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ. أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخَالِ السُّلْطَانَ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ قَالَ: " يَرِثُ مَالَهُ "، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: " يَرِثُهُ ". وَالثَّانِي، أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ بِهَذَا جَوَابًا لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ مِيرَاثِ الْخَالِ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالْفَهْمِ وَالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ سَمَّاهُ وَارِثًا، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ لِلنَّفْيِ. قُلْنَا: وَالْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِمْ: يَا عِمَادَ مَنْ لَا عِمَادَ لَهُ. يَا سَنَدَ مَنْ لَا سَنَدَ لَهُ. يَا ذُخْرَ مَنْ لَا ذُخْرَ لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، قَالَ: «تُوُفِّيَ ثَابِتُ ابْنُ الدَّحْدَاحَةِ، وَلَمْ يَدَعُ وَارِثًا وَلَا عَصَبَةً، فَرُفِعَ شَأْنُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ إلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.» وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ "، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلَمْ يَخْلُفْ إلَّا ابْنَةَ أَخٍ لَهُ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِيرَاثِهِ لِابْنَةِ أَخِيهِ. وَلِأَنَّهُ ذُو قَرَابَةٍ، فَيَرِثُ، كَذَوِي الْفُرُوضِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَاوَى النَّاسَ فِي الْإِسْلَامِ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِمَالِهِ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا كَانَ أَحَقَّ فِي الْحَيَاةِ بِصَدَقَتِهِ وَصِلَتِهِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِوَصِيَّتِهِ، فَأَشْبَهَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ الْمَحْجُوبِينَ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَحْجُبُهُمْ. وَحَدِيثُهُمْ مُرْسَلٌ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْخَالُ " وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ". أَيْ لَا يَرِثُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَرِثَانِ مَعَ أَخِيهِمَا. قُلْنَا: لِأَنَّهُمَا أَقْوَى مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا ثَبَتَ نَصًّا. قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا نُصُوصًا. ثُمَّ التَّعْلِيلُ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا، فَلَا يُصَارُ إلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ. [مَسْأَلَةٌ إرْثُ ذَوَى الْأَرْحَامِ] (4888) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيُوَرَّثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ فَيُجْعَلُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهُ فَرِيضَةٌ عَلَى مَنْزِلَةِ مَنْ سُمِّيَتْ لَهُ، مِمَّنْ هُوَ نَحْوُهُ، فَيُجْعَلُ الْخَالُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَالْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ. وَبِنْتُ الْأَخِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ، وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ لَمْ يُسَمَّ لَهُ فَرِيضَةً فَهُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، وَهُوَ أَنْ يَنْزِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَمُتُّ بِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَيُجْعَلُ لَهُ نُصِيبُهُ. فَإِنْ بَعُدُوا نَزَلُوا دَرَجَةً دَرَجَةً إلَى أَنْ يَصِلُوا إلَى مَنْ يَمُتُّونَ بِهِ، فَيَأْخُذُونَ مِيرَاثَهُ. فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الْمَالَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً قَسَمْت الْمَالَ بَيْنَ مَنْ يَمُتُّونَ بِهِ، فَمَا حَصَلَ لِكُلِّ وَارِثٍ جُعِلَ لِمَنْ يَمُتُّ بِهِ. فَإِنْ بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ، رُدَّ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَنُعَيْمٍ، وَشَرِيكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَسَائِرِ مَنْ وَرَّثَهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا نَزَّلَا بِنْتَ الْبِنْتِ مَنْزِلَةَ الْبِنْتِ، وَبِنْتَ الْأَخِ مَنْزِلَةَ الْأَخِ، وَبِنْتَ الْأُخْتِ مَنْزِلَةَ الْأُخْتِ، وَالْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ، وَالْخَالَةَ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، أَنَّهُ نَزَّلَ الْعَمَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ. وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّهُمَا نَزَّلَاهَا مَنْزِلَةَ الْجَدِّ مَعَ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَنَزَّلَهَا آخَرُونَ مَنْزِلَةَ الْجَدَّةِ. وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْعَمَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَدْلَتْ بِأَرْبَعِ جِهَاتٍ وَارِثَاتٍ؛ فَالْأَبُ وَالْعَمُّ أَخَوَاهَا، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ أَبَوَاهَا. وَنَزَّلَ قَوْمٌ الْخَالَةَ جَدَّةً؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 لِأَنَّ الْجَدَّةَ أُمُّهَا. وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيلُ الْعَمَّةِ أَبًا، وَالْخَالَةِ أُمًّا، لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَبٌ، وَالْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أُمٌّ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. الثَّانِي، أَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْأَبَ أَقْوَى جِهَاتِ الْعَمَّةِ، وَالْأُمَّ أَقْوَى جِهَاتِ الْخَالَةِ، فَتَعَيَّنَ تَنْزِيلُهُمَا بِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا، كَبِنْتِ الْأَخِ، وَبِنْتِ الْعَمِّ، فَإِنَّهُمَا يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ أَبَوَيْهِمَا دُونَ أَخَوَيْهِمَا. وَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُمَا قَرَابَاتٌ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَوْرِيثُهُمَا بِجَمِيعِهِمَا، وَرِثَتَا بِأَقْوَاهُمَا، كَالْمَجُوسِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُوَرِّثْهُمْ بِجَمِيعِ قَرَابَاتِهِمْ، وَكَالْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّا نُوَرِّثُهُ بِالتَّعْصِيبِ، وَهِيَ جِهَةُ أَبِيهِ، دُونَ قَرَابَةِ أُمِّهِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنَّهُمْ وَرَّثُوهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، فَجَعَلُوا أَوْلَاهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ وَلَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ وَلَدِ أَبَوَيْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ سَفَلُوا كَذَلِكَ أَبَدًا، لَا يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى، وَهُنَاكَ بَنُو أَبٍ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا الْأُمِّ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَيُسَمَّى مَذْهَبُهُمْ مَذْهَبَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ فَرْعٌ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَوَجَبَ إلْحَاقُهُمْ بِمَنْ هُمْ فَرْعٌ لَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْمَيِّتِ مِنْ الْإِنَاثِ لَا يُسْقِطُ وَلَدَ أَبِيهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُسْقِطَهُمْ وَلَدُهُ. مَسَائِلُ: مِنْ ذَلِكَ؛ بِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا بِنْتُ أَخٍ، فَالْبَاقِي لَهَا، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا خَالَةٌ، فَلِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْخَالَةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْخَالَةِ عَمَّةٌ، حَجَبَتْ بِنْتَ الْأَخِ، وَأَخَذَتْ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ كَالْأَبِ، فَتُسْقِطُ مَنْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ، وَمَنْ نَزَّلَهَا عَمًّا جَعَلَ الْبَاقِيَ لِبِنْتِ الْأَخِ، وَأَسْقَطَ الْعَمَّةَ، وَمَنْ نَزَّلَهَا جَدًّا قَاسَمَ بِنْتَ الْأَخِ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَمَنْ نَزَّلَهَا جَدَّةً جَعَلَ لَهَا السُّدُسَ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ الْبَاقِيَ. وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ، أَنَّهُ لَا تَرِث بِنْتُ الْأَخِ مَعَ بِنْتِ الْبِنْتِ، وَلَا مَعَ بِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ شَيْئًا. [فَصْلٌ انْفِرَاد أُحُد مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام] (4889) فَصْلٌ: إذَا انْفَرَدَ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، أَخَذَ الْمَالَ كُلَّهُ، فِي قَوْلِ جَمِيعِ مَنْ وَرَّثَهُمْ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يُدْلُوا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنْ أَدْلَوْا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَكَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهُ. فَإِنْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَأَبِي الْأُمِّ، وَالْأَخْوَالِ، فَأَسْقِطْ الْأَخْوَالَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ، فَالْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِهِمْ، كَخَالَةٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 وَأُمِّ أَبِي أُمٍّ، أَوْ ابْنِ خَالٍ، فَالْمِيرَاثُ لِلْخَالَةِ؛ لِأَنَّهَا تَلْقَى الْأُمَّ بِأَوَّلِ دَرَجَةٍ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُنَزِّلِينَ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَشَرِيكٍ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ خَاصَّةً، أَنَّهُمْ أَمَاتُوا الْأُمَّ، وَجَعَلُوا نَصِيبَهَا لِوَرَثَتِهَا. وَيُسَمَّى قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ. وَاسْتَعْمَلَهُ بَعْضُ الْفَرْضِيِّينَ فِي جَمِيعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ، يَكُونُ لِلْخَالَةِ نِصْفُ مِيرَاثِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أُخْتٌ، وَلِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهَا جَدَّةٌ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْخَالِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ الْمَيِّتِ، لَا مِنْ سَبَبِهِ؛ وَلِذَلِكَ وَرَّثْنَا أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ، دُونَ ابْنِ عَمِّ الْأُمِّ، بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا فِي أَبِي أُمِّ أُمٍّ، وَابْنِ عَمِّ أَبِي أُمٍّ، أَنَّ الْمَالَ لِلْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ. وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ الْمَيِّتَةَ، كَانَ وَارِثُهَا ابْنَ عَمِّ أَبِيهَا، دُونَ أَبِي أُمِّهَا. خَالَةٌ وَأُمُّ أَبِي أُمٍّ وَعَمُّ أُمٍّ، الْمَالُ لِلْخَالَةِ، وَعِنْدَهُمْ لِلْخَالَةِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَمُّ أُمٍّ، فَالْمَالُ بَيْنَ الْخَالَةِ وَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَدَّةٌ، فَالْمَالُ بَيْنَ الْخَالَةِ وَعَمِّهَا نِصْفَيْنِ. ابْنُ خَالَةٍ وَابْنُ عَمِّ أُمٍّ، الْمَالُ لِابْنِ الْخَالَةِ. وَعِنْدَهُمْ لِابْنِ عَمِّ الْأُمِّ. فَأَمَّا إنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ بِجَمَاعَةٍ، جَعَلْت الْمَالَ لِلْمُدْلَى بِهِمْ، كَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فَقَسَّمْت الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْفَرِيضَةُ، فَمَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَهُوَ لِمَنْ أَدْلَى بِهِ، إذَا لَمْ يَسْبِقْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنْ سَبَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالسَّابِقُ إلَى الْوَارِثِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانُوا مِنْ وِجْهَتَيْنِ، نَزَلَ الْبَعِيدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ أَدْلَى بِهِ، فَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ، سَوَاءٌ سَقَطَ بِهِ الْقَرِيبُ أَوْ لَمْ يَسْقُطْ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَنَقَلَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي خَالَةٍ وَبِنْتِ خَالَةٍ وَبِنْتِ ابْنِ عَمٍّ، لِلْخَالَةِ الثُّلُثُ، وَلِابْنَةِ ابْنِ الْعَمِّ الثُّلُثَانِ، وَلَا تُعْطَى بِنْتُ الْخَالَةِ شَيْئًا. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ قَوْلًا حَسَنًا: إذَا كَانَتْ خَالَةٌ وَبِنْتُ ابْنِ الْعَمِّ، تُعْطَى الْخَالَةُ الثُّلُثَ، وَتُعْطَى بِنْتُ ابْنِ الْعَمِّ الثُّلُثَيْنِ. وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ: إنْ كَانَ الْبَعِيدُ إذَا نُزِّلَ أَسْقَطَ الْقَرِيبَ، فَالْقَرِيبُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُسْقِطُهُ نُزِّلَ الْبَعِيدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِالْوَارِثِ. وَقَالَ سَائِرُ الْمُنَزِّلِينَ: الْأَسْبَقُ إلَى الْوَارِثِ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَا عَلِمْت فِي تَقْدِيمِ الْأَسْبَقِ، إذَا كَانَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، إلَّا نُعَيْمًا، وَمُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ، فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي عَمَّةٍ وَبِنْتِ عَمَّةٍ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، عَدَّ الْجِهَاتِ، وَبَيَّنَهَا، إلَّا أَبَا الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ عَدَّهَا خَمْسَ جِهَاتٍ، الْأُبُوَّةَ، وَالْأُمُومَةَ، وَالْبُنُوَّةَ، وَالْأُخُوَّةَ، وَالْعُمُومَةَ. وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّ ابْنَةَ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ، أَوْ بِنْتَ الْعَمَّةِ مِنْ الْأُمِّ، مُسْقِطَةٌ لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي ثَلَاثِ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُفْتَرِقِينَ، أَنَّ الْمَالَ لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَبَيَانُ إفْضَائِهِ إلَى ذَلِكَ، أَنَّ بِنْتَ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ أَبُوهَا يُدْلِي بِالْأَبِ، وَبِنْتَ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ تُدْلِي بِأَبِيهَا، وَالْأَبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 يُسْقِطُ الْعَمَّ، وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْعَمَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَبِنْتُ الْعَمِّ مِنْ جِهَةِ الْعَمِّ. فَالصَّوَابُ إذًا أَنْ تَكُونَ الْجِهَاتُ أَرْبَعًا؛ الْأُبُوَّةَ، وَالْبُنُوَّةَ، وَالْأُخُوَّةَ، وَالْأُمُومَةَ. [مَسْأَلَةٌ بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ أَخ] مَسَائِلُ فِي هَذَا الْبَابِ: بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ أَخٍ، الْمَالُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ، وَسَقَطَتْ الثَّانِيَةُ، إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، وَنُعَيْمٍ، فَإِنَّهَا تُشَارِكُهُمَا. وَمَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ، جَعَلَهُ لِبِنْتِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ هُوَ لِلْأُولَى وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ، وَهِيَ أَقْرَبُ مِنْ الثَّانِيَةِ ابْنُ خَالٍ وَبِنْتُ عَمٍّ، ثُلُثٌ، وَثُلُثَانِ. وَمَنْ وَرَّثَ الْأَسْبَقَ جَعَلَهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا بِنْتُ عَمَّةٍ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّ بِنْتَ الْعَمِّ أَسْبِقُ إلَى الْوَارِثِ مِنْهُمَا، وَهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ عَمَّةٌ، سَقَطَتْ بِنْتُ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَبِنْتَ الْعَمِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتٍ ابْنٍ، الْمَالُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، إلَّا عِنْدَ ابْنِ سَالِمٍ، وَنُعَيْمٍ بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَابْنُ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، الْمَالُ لِلْأُولَى، وَمَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ جَعَلَهُ لِابْنِ الْأَخِ، وَهُوَ قَوْلُ ضِرَارٍ؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ إذَا نُزِّلَ أَسْقَطَ الْقَرِيبَ. بِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُنَزِّلِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ، هُوَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. ابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ أَخٍ، هُوَ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ جَعَلَهُ لِبِنْتِ الْأَخِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ هُوَ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ. ابْنُ بِنْتٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنِ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ؛ الْمَالُ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ مَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ، وَأَهْلِ الْقَرَابَةِ، هُوَ لِلْأَوَّلِ. بِنْتُ أَخٍ وَبِنْتُ عَمٍّ، أَوْ بِنْتُ عَمَّةٍ. الْمَالُ لِبِنْتِ الْأَخِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَوْرِيثِ الْبَعِيدِ مِنْ الْقَرِيبِ إنْ كَانَ مِنْ جِهَتَيْنِ؛ أَنْ يَكُونَ لِبِنْتِ الْعَمِّ، وَالْعَمَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَذَلِكَ قَوْلُ ضِرَارٍ أَيْضًا. ابْنُ أُخْتٍ وَابْنُ عَمٍّ لِأُمٍّ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ جَعَلَهُ لِابْنِ الْأُخْتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِ أَبَوَيْ الْمَيِّتِ، وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأُمِّ مِنْ وَلَدِ أَبَوَيْ أَبَوَيْهِ. بِنْتُ عَمٍّ وَبِنْتُ عَمِّ أَبٍ؛ هُوَ لِلْأُولَى عِنْدَ الْجَمِيعِ، إلَّا عِنْدَ ابْنِ سَالِمٍ، وَنُعَيْمٍ. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَأُمُّ أَبِ أُمٍّ. الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، مِثْلُهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ جَعَلَهُ لِلثَّانِي. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتِ ابْنٍ وَعَمَّةٌ، أَوْ خَالَةٍ، لِلْأُولَى النِّصْفُ فِي الْأُولَى، وَمَعَ الْخَالَةِ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَعِنْدَ مَنْ وَرَّثَ الْأَقْرَبَ؛ الْكُلُّ لِلْعَمَّةِ وَلِلْخَالَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجِهَاتُ ثَلَاثًا؛ الْأُبُوَّةَ، وَالْبُنُوَّةَ، وَالْأُمُومَةَ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْعُمُومَةِ جِهَةً خَامِسَةً يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ بِنْتِ الْعَمِّ بِبِنْتِ الْعَمَّةِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ جَعَلْنَا الْأُخُوَّةَ جِهَةً رَابِعَةً، مَعَ نَفْيِ جِهَةِ الْعُمُومَةِ، أَفْضَى إلَى إسْقَاطِ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بِبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ. وَإِذَا جَعَلْنَا جَمِيعَهُمْ جِهَةً وَاحِدَةً، وَوَرَّثْنَا أَسْبَقَهُمْ إلَى الْوَارِثِ، كَانَ أَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 [مَسْأَلَةٌ كَانَ وَارِثٌ غَيْرَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ مَوْلَى نِعْمَةٍ] (4890) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ وَارِثٌ غَيْرَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، أَوْ مَوْلَى نِعْمَةٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: (4891) أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّدَّ يُقَدَّمُ عَلَى مِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَمَتَى خَلَّفَ الْمَيِّتُ عَصَبَةً، أَوْ ذَا فَرْضٍ مِنْ أَقَارِبِهِ، أَخَذَ الْمَالَ كُلَّهُ، وَلَا شَيْءَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ مَنْ وَرَّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَقَالَ الْخَبْرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الرَّدَّ أَوْلَى مِنْهُمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُمَا وَرَّثَا الْخَالَ مَعَ الْبِنْتِ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا وَرِثَاهُ لِكَوْنِهِ عَصَبَةً، أَوْ مَوْلَى؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْإِجْمَاعَ، وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ أَبُو أُمٍّ وَجَدَّةٌ؛ الْمَالُ لِلْجَدَّةِ بِنْتُ ابْنٍ وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنِ ابْنِ أَخٍ، وَابْنُ أُخْتِ عَمٍّ وَعَمَّةٌ، ثَلَاثَةُ بَنِي إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ؛ لَا شَيْءَ لِذِي الرَّحِمِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (4892) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْلَى الْمُعْتِقَ وَعَصَبَاتِهِ أَحَقُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُ مَنْ لَا يَرَى تَوْرِيثَهُمْ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ تَقْدِيمُهُمْ عَلَى الْمَوْلَى، وَبِهِ قَالَ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَعُبَيْدَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ. وَالْمَوْلَى وَارِثٌ» . وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَعْقِلُ، وَيَنْصُرُ، فَأَشْبَهَ الْعَصَبَةَ مِنْ النَّسَبِ. (4893) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَوْرِيثِهِمْ مَعَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ مَنْ وَرَّثَهُمْ أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَا فَضَلَ عَنْ مِيرَاثِهِ، مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ لَهُ، وَلَا مُعَاوَلَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ، فَرُوِيَ عَنْ إمَامِنَا أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا فَضَلَ كَمَا يَرِثُونَ الْمَالَ إذَا انْفَرَدُوا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ، وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَضِرَارٌ: يُقَسَّمُ الْمَالُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، عَلَى الْحَجْبِ وَالْعَوْلِ، ثُمَّ نَفْرِضُ لِلزَّوْجِ فَرَضَهُ كَامِلًا، مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ وَلَا عَوْلٍ، يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ. فَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا مَنْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ، وَمَنْ يُدْلِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 بِعَصَبَةٍ، فَأَمَّا إنْ أَدْلَى جَمِيعُهُمْ بِذِي فَرْضٍ، أَوْ عَصَبَةٍ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ؛ زَوْجٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ أُخْتٍ، أَوْ ابْنُ أُخْتٍ، أَوْ أَوْلَادُ أُخْتٍ، أَوْ بِنْتُ أَخٍ، أَوْ بَنَاتُ أَخٍ؛ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ بِنْتِ الْبِنْتِ وَمَنْ مَعَهَا نِصْفَيْنِ. وَقَالَ يَحْيَى وَضِرَارٌ: الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، سَهْمَانِ، يَبْقَى سَهْمٌ لِمَنْ مَعَهَا، ثُمَّ يُفْرَضُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِبِنْتِ الْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَلِمَنْ مَعَهَا سَهْمٌ فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الزَّوْجِ زَوْجَةٌ، فَرَضَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِمَنْ بَقِيَ، ثُمَّ يُفْرَضُ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ، تَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ، لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ سَبْعَةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْبَاقِي اثْنَا عَشَرَ، وَيَبْقَى تِسْعَةٌ لِمَنْ مَعَهَا. زَوْجٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ وَخَالَةٍ وَبِنْتُ عَمٍّ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِبِنْتِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ سَهْمٌ، وَيَبْقَى لِبِنْتِ الْعَمِّ سَهْمَانِ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا وَفِي قَوْلِ يَحْيَى وَضِرَارٍ؛ تُفْرَضُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَيَبْقَى لِلْعَمِّ سَهْمٌ، ثُمَّ يُعْطَى الزَّوْجُ النِّصْفَ، وَتُجْمَعُ سِهَامُ الْبَاقِينَ، وَهِيَ تِسْعَةٌ، فَيُقَسَّمُ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى تِسْعَةٍ، فَلَا تَصِحُّ، فَتَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الزَّوْجِ امْرَأَةٌ، فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى سِتَّةٍ وَهِيَ تُوَافِقُ بَاقِيَ مَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ بِالْأَثْلَاثِ، فَرَدَّهَا إلَى اثْنَيْنِ، وَتَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ سَهْمٌ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ سَهْمَانِ. وَعَلَى قَوْلِ يَحْيَى، تَفْرِضُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ تَفْرِضُ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، لَهَا سَهْمٌ، وَلَهُمْ ثَلَاثَةٌ، تُوَافِقُ سِهَامَهُمْ بِالثُّلُثِ، فَتَضْرِبُ ثُلُثَهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ. امْرَأَةٌ، وَثَلَاثُ بَنَاتٍ، ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ. امْرَأَةٌ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَثَلَاثُ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، امْرَأَةٌ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَثَلَاثُ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، وَثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ. [فَصْلٌ لَا يَعُول مِنْ مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ إلَّا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ] (4894) فَصْلٌ: وَلَا يَعُولُ مِنْ مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ إلَّا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَشِبْهُهَا، وَهِيَ، خَالَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ أَوْ الْجَدَّةِ، وَسِتُّ بَنَاتٍ، سِتُّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُنَّ مِمَّنْ يَأْخُذُ الْمَالَ بِالْفُرُوضِ، فَإِنَّ لِلْخَالَةِ السُّدُسَ، وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِبَنَاتِ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَعَالَتْ إلَى سَبْعَةٍ. [مَسْأَلَةٌ يُوَرَّثُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالسَّوِيَّةِ] (4895) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُوَرَّثُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالسَّوِيَّةِ، إذَا كَانَ أَبُوهُمْ وَاحِدًا، وَأُمُّهُمْ وَاحِدَةً، إلَّا الْخَالَ، وَالْخَالَةَ، فَلِلْخَالِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي تَوْرِيثِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، إذَا كَانُوا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، وَحَنْبَلٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، فِي الْخَالِ، وَالْخَالَةِ: يُعْطُونَ بِالسَّوِيَّةِ. فَظَاهِرُ هَذَا التَّسْوِيَةُ فِي جَمِيعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَاسْتَوَى ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، كَوَلَدِ الْأُمِّ. وَنَقَلَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ: إذَا تَرَكَ وَلَدَ خَالِهِ. وَخَالَتِهِ، اجْعَلْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ. وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ، فِي مَنْ تَرَكَ خَالَهُ وَخَالَتِهِ: لِلْخَالِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ، فَظَاهِرُ هَذَا التَّفْضِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَعَامَّةِ الْمُنَزِّلِينَ. لِأَنَّ مِيرَاثَهُمْ مُعْتَبَرٌ بِغَيْرِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ كُلَّهُ، وَلَا عَلَى الْعَصَبَةِ الْبَعِيدِ؛ لِأَنَّ ذَكَرَهُمْ يَنْفَرِدُ بِالْمِيرَاثِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْعَصَبَاتِ، وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ مُعْتَبَرُونَ بِوَلَدِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ كُلَّ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ يَسْتَوِي ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، إلَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ، فَإِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَاَلَّذِي نَقَلَ الْخِرَقِيِّ؛ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَمِيعِ، إلَّا فِي الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَلَمْ أَعْلَمْ لَهُ مُوَافِقًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا عَلِمْت وَجْهَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إذَا كَانَ أَبُوهُمْ وَاحِدًا، وَأُمُّهُمْ وَاحِدَةً ". فَلِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي ذَكَرٍ وَأُنْثَى، أَبُوهُمَا وَأُمُّهُمَا وَاحِدٌ، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ، كَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ الْمُفْتَرِقِينَ، وَالْعَمَّاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ، أَوْ إذَا أَدْلَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ مَنْ أَدْلَى بِهِ الْآخَرُ، كَابْنِ بِنْتٍ وَبِنْتِ بِنْتٍ أُخْرَى، فَلِذَلِكَ مَوْضِعٌ آخَرُ يُذْكَرُ فِيهِ غَيْرُ هَذَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ؛ ابْنُ أُخْتٍ مَعَهُ أُخْتُهُ، أَوْ ابْنُ بِنْتٍ مَعَهُ أُخْتُهُ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ، وَسَائِرِ الْمُنَزِّلِينَ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ. ابْنَا وَابْنَتَا أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ وَثَلَاثُ بَنَاتِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأَرْبَعَةُ بَنِي وَلَدٍ وَأَرْبَعُ بَنَاتِ أُخْتٍ لِأُمٍّ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ خَمْسَةٍ؛ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ وَلَدِهَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ سَهْمٌ بَيْنَ وَلَدِهَا عَلَى سِتَّةٍ، وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ سَهْمٌ بَيْنَ وَلَدِهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ. وَالْأَرْبَعَةُ دَاخِلَةٌ فِيهَا، وَالسِّتَّةُ تُوَافِقُهَا بِالنِّصْفِ، فَتَضْرِبُ نِصْفَهَا فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ، وَمَنْ فَضَّلَ أَبْقَى وَلَدَ الْأُمِّ بِحَالِهِمْ، وَجَعَلَ وَلَدَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ سِتَّةً، تُوَافِقُهُمْ سِهَامُهُمْ بِالثُّلُثِ، فَيَرْجِعُونَ إلَى اثْنَيْنِ، فَيَدْخُلَانِ فِي الثَّمَانِيَةِ، وَوَلَدُ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ تِسْعَةٌ، تَضْرِبُهَا فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ. وَإِنْ كَانُوا أَوْلَادَ عَمَّاتٍ أَوْ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا أَوْلَادَ بَنَاتٍ، أَوْ أَوْلَادَ أَخَوَاتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَبٍ، فَهِيَ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، عِنْدَ مَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 سَوَّى وَمِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ عِنْدَ مَنْ فَضَّلَ. وَقَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هِيَ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ كَأَوْلَادِ الْبَنِينَ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ مَعَك أَوْلَادُ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَات قَسَّمْت الْمَالَ بَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ عَلَى عَدَدِهِنَّ] (4896) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ مَعَك أَوْلَادُ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٌ، قَسَّمْت الْمَالَ بَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ عَلَى عَدَدِهِنَّ فَمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَهُوَ لِوَلَدِهَا بِالسَّوِيَّةِ عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَعِنْدَ مَنْ فَضَّلَ جَعْلَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَسْمِ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ دُونَ مُرَاعَاةِ أُمَّهَاتِهِمْ إذَا اسْتَوَوْا، أَوْ مِمَّنْ يُدْلُونَ بِهِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إلَى بَنَاتِ الْمَيِّتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ كَأَوْلَادِ الْبَنِينَ وَجَعَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَنْ أَدْلَى بِابْنٍ ابْنًا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، وَمِنْ أَدْلَى بِالْأُنْثَى أُنْثَى وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَجَعَلَ الْمُدْلَى بِهِمْ بِعَدَدِ الْمُدْلِينَ، ثُمَّ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، فَمَا أَصَابَ وَلَدَ الِابْنِ قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمَا أَصَابَ وَلَدَ الْأُنْثَى قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ. [مَسَائِل بِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ] مَسَائِلُ: مِنْ ذَلِكَ؛ بِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، قَوْلُ مَنْ سَوَّى، الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَوْلُ مَنْ فَضَّلَ، إنْ كَانَا مِنْ وَلَدِ بَنِينَ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا مِنْ وَلَدِ بِنْتٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمَالُ بَيْنَ ابْنِهَا وَبِنْتِهَا، لِابْنِهَا ثُلُثَاهُ، وَلِبِنْتِهَا ثُلُثُهُ، فَمَا أَصَابَ ابْنَهَا فَهُوَ لِبِنْتِهِ، وَمَا أَصَابَ بِنْتَهَا فَهُوَ لِابْنِهَا، فَيَصِيرُ لِلْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَلِلِابْنِ سَهْمٌ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِلِابْنِ سَهْمَانِ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ، كَابْنِ الْمَيِّتِ وَبِنْتِهِ ابْنَا بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنُ ابْنِ بِنْتٍ، قَوْلُ مَنْ سَوَّى لِابْنِ ابْنِ الْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَاقِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ وَلَدِ بِنْتٍ، أَوْ مِنْ وَلَدِ بَنِينَ، وَقَوْلُ الْمُفَضِّلِينَ إنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ بَنِينَ فَلِابْنِ ابْنِ الْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْبَاقِينَ عَلَى خَمْسَةٍ. وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ بِنْتٍ، فَلِابْنِ ابْنِ الْبِنْتِ الثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْبَاقِينَ، عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كَانَ لِلْبِنْتِ الْأُولَى، فَقُسِّمَ بَيْنَ ابْنِهَا وَبِنْتِهَا أَثْلَاثًا، لِلِابْنِ سَهْمَانِ، فَهُمَا لِابْنِهِ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمَانِ، فَهُوَ لِوَلَدِهَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، لِابْنِ الِابْنِ سَهْمَانِ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِابْنٍ، وَلِلْبَاقِينَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِأُنْثَى. قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ. ابْنَا بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتَا ابْنِ بِنْتٍ، قَوْلُ مَنْ سَوَّى، الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ بِكُلِّ حَالٍ. قَوْلُ الْمُفَضِّلِينَ إنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ بِنْتَيْنِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ وَاحِدَةٍ فَلِابْنِهَا الثُّلُثَانِ بَيْنَ ابْنَتَيْهِ، وَلِابْنَتِهَا الثُّلُثُ بَيْنَ ابْنَيْهَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، لِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ. قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمٌ وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمَانِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 ابْنٌ وَابْنَتَا ابْنِ أُخْتٍ، وَثَلَاثَةُ بَنِينَ وَثَلَاثُ بَنَاتِ بِنْتِ أُخْتٍ. قَوْلُ مَنْ سَوَّى النِّصْفُ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ قَوْلُ مَنْ فَضَّلَ، إنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ وَاحِدَةٍ، فَلِلْأَوَّلَيْنِ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، وَلِلْآخَرَيْنِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ اثْنَتَيْنِ صَحَّتْ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ. قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَلَدُ ابْنِ الْأُخْتِ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعَةِ ذُكُورٍ، وَوَلَدُ بِنْتِ الْأُخْتِ كَسِتِّ إنَاثٍ، فَيُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَلِوَلَدِ ابْنِ الْأُخْتِ مِنْهَا ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، وَلِلْآخَرَيْنِ سِتَّةٌ، بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ. ابْنَتَا أَخٍ وَابْنٌ وَابْنَةُ أُخْتٍ. لِابْنَتَيْ الْأَخِ الثُّلُثَانِ، فِي قَوْلِ الْمُنَزِّلِينَ جَمِيعِهِمْ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ الثُّلُثُ لِوَلَدَيْ الْأُخْتِ، بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، عِنْدَ مَنْ سَوَّى. وَمَنْ فَضَّلَ جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِابْنِ الْأُخْتِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاقِينَ سَهْمٌ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةٍ. [فَصْلٌ بِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ] (4897) فَصْلٌ: بِنْتُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ جَمِيعِهِمْ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ هُوَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا بِنْتَا بِنْتِ ابْنٍ أُخْرَى، فَكَأَنَّهُمْ بِنْتٌ. وَابْنَتَا ابْنٍ، فَمَسْأَلَتُهُمْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ. ابْنُ بِنْتِ ابْنٍ وَبِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، الْمَالُ لِلِابْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَارِثِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سَالِمٍ فِي أَنَّهُ يَنْزِلُ الْبَعِيدُ حَتَّى يُلْحَقَ بِوَارِثِهِ، فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ؛ لِلْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنِ سَهْمٌ، كَبِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنِ بِنْتِ بِنْتِ ابْنٍ وَبِنْتِ بِنْتِ ابْنِ ابْنٍ، وَابْنَتَا بِنْتِ ابْنٍ آخَرَ، لِلْأُولَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَالرُّبُعُ الْبَاقِي بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَضْرِبُهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ. ابْنٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَثَلَاثُ بَنَاتٍ. بِنْتٌ وَابْنَا بِنْتِ ابْنٍ، لَا شَيْءَ لِهَذَيْنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا تَسْقُطُ بِاسْتِكْمَالِ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ بَيْنَ الِابْنِ وَأُخْتِهِ عَلَى اثْنَيْنِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَمَنْ فَضَّلَ جَعَلَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ أَيْضًا. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ أُخْرَى وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنِ ابْنٍ. الْمَالُ لِهَذِهِ، إلَّا فِي قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّهُ لِلْأُولَيَيْنِ. وَقَوْلُ مَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ، وَوَرَّثَ الْبَعِيدَ مَعَ الْقَرِيبِ، الْمَالُ بَيْنَ بِنْتِ ابْنِ بِنْتٍ، وَبِنْتِ بِنْتِ ابْنِ ابْنٍ، عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَسْقُطُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَارِثَةُ الْبِنْتِ فِي أَوَّلِ دَرَجَةٍ. بِنْتُ بِنْتٍ وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ أُخْرَى وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ بَيْنَ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ، عَلَى الْمُنَزِّلِينَ وَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: هُوَ لِلْأُولَى. قَوْلُ ابْنِ سَالِمٍ: هُوَ لِلْأُولَيَيْنِ، وَتَسْقُطُ الثَّالِثَةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 [مَسْأَلَةٌ ابْنُ أُخْتٍ وَبِنْتُ أُخْتٍ أُخْرَى] (4898) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ ابْنُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ أُخْرَى، أُعْطِيَ ابْنُ الْأُخْتِ حَقَّ أُمِّهِ النِّصْفَ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ الْأُخْرَى حَقَّ أُمِّهَا النِّصْفَ. وَإِنْ كَانَ ابْنٌ، وَبِنْتُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ أُخْرَى؛ فَلِلِابْنِ، وَبِنْتِ الْأُخْتِ، النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ الْأُخْرَى النِّصْفُ) أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، فَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُنَزِّلِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مِيرَاثُ مَنْ أَدْلَى بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ لِابْنِ الْأُخْتِ الثُّلُثَانِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ الثُّلُثُ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُنَزِّلِينَ فِي أَنَّ لِوَلَدِ كُلِّ أُخْتٍ مِيرَاثَهَا، وَهُوَ النِّصْفُ. وَمَنْ سَوَّى جَعَلَ النِّصْفَ بَيْنَ ابْنِ الْأُخْتِ وَأُخْتِهِ نِصْفَيْنِ، وَالنِّصْفَ الْآخِرَ لِبِنْتِ الْأُخْتِ الْأُخْرَى، فَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ. وَمَنْ فَضَّلَ جَعَلَ النِّصْفَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلِابْنِ النِّصْفُ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ الرُّبُعُ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لِوَلَدِ الْأُخْتِ الْأُولَى الثُّلُثَانِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلِلْأُخْرَى الثُّلُثُ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَإِذَا انْفَرَدَ وَلَدُ كُلِّ أَخٍ، أَوْ أُخْتٍ، فَالْعَمَلُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. وَمَتَى كَانَ الْأَخَوَاتُ، أَوْ الْإِخْوَةُ، مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، فَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، إلَّا الثَّوْرِيَّ، وَمَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ. ثَلَاثُ بَنَاتِ أَخٍ وَثَلَاثُ بَنِي أُخْتٍ. إنْ كَانَا مِنْ أُمٍّ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَبٍ، أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَلِبَنَاتِ الْأَخِ الثُّلُثَانِ، وَلِبَنِي الْأُخْتِ الثُّلُثُ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِثْلُهُ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُجْعَلُ لِبَنِي الْأُخْتِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِبَنَاتِ الْأَخِ الثُّلُثَ. ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ أُخْتٍ لِأُمٍّ، هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ مَنْ فَضَّلَ. وَعِنْدَ مِنْ سَوَّى تَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. قَوْلُ مُحَمَّدٍ كَأَنَّهُمَا أُخْتَانِ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، فَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ أَيْضًا ابْنًا، وَابْنَةً، صَحَّتْ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، إلَّا الثَّوْرِيَّ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَتَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. ابْنَا أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ، وَابْنُ وَابْنَةُ أُخْتٍ لِأَبٍ، وَابْنَا أُخْتٍ أُخْرَى لِأَبٍ، فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَعِنْدَ مَنْ فَضَّلَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ، يَسْقُطُ وَلَدُ الْأَبِ وَيَتَّفِقُ قَوْلُهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، فِي أَنَّ الْمَالَ لِوَلَدِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. ابْنُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ. وَابْنُ وَابْنَةُ أُخْتٍ لِأُمٍّ وَابْنَا وَابْنَتَا أُخْتٍ أُخْرَى لِأُمٍّ. قَوْلُ الْمُنَزِّلِينَ مِنْ عِشْرِينَ، الثَّوْرِيِّ مِنْ ثَلَاثِينَ، مُحَمَّدٍ مِنْ سِتِّينَ. [مَسْأَلَةٌ إنْ كُنَّ ثَلَاث بَنَاتٍ أَخَوَات مُفْتَرِقَات] (4899) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثَ بَنَاتٍ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْمَالِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ الْخُمُسُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ الْخُمُسُ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 جَعَلَهُنَّ مَكَانَ أُمَّهَاتِهِنَّ وَكَذَلِكَ إنْ كُنَّ ثَلَاثَ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ. مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَسَائِرِ الْمُنَزِّلِينَ فِي وَلَدِ الْأَخَوَاتِ، أَنَّ الْمَالَ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِنَّ، فَمَا أَصَابَ كُلَّ أُخْتٍ فَهُوَ لِوَلَدِهَا. وَالْمَالُ فِي مَسْأَلَتِنَا بَيْنَ الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَ أَوْلَادِهِنَّ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ كُنَّ ثَلَاثَ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ الْأَبِ، فَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُنَّ كَمِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ مِنْ أَخِيهِنَّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي ثَلَاثِ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ الْأُمِّ، فَمِيرَاثُهَا بَيْنَهُنَّ كَذَلِكَ وَقَدَّمَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْ جَمِيعِهِمْ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأُمٍّ، إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ قَسَّمَ مِيرَاثَ أَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ عَلَى أَعْدَادِهِمْ، وَأَقَامَهُمْ مُقَامَ أُمَّهَاتِهِنَّ، كَأَنَّهُمْ أَخَوَاتٌ. وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ؛ سِتُّ بَنَاتٍ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، الْمَالُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، فَمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ فَهُوَ لِبِنْتَيْهَا، وَتَصِحُّ مِنْ عَشَرَةٍ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، الْمَالُ كُلُّهُ لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. سِتُّ بَنَاتٍ سِتُّ أَخَوَاتٍ مُقْتَرِفَاتٍ، لِبِنْتَيْ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ. ابْنُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ وَابْنَةُ أُخْتٍ لِأَبٍ، وَابْنَا وَابْنَتَا أُخْتٍ أُخْرَى لِأَبٍ، وَثَلَاثَةُ بَنِينَ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ أُخْتٍ لِأُمٍّ، هِيَ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَمِنْ سِتِّينَ عِنْدَ مَنْ فَضَّلَ، وَمِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَرْبَعُ بَنَاتٍ أُخْرَى لِأُمٍّ، صَحَّتْ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ كُلِّهِمْ. قَوْلُ مُحَمَّدٍ، كَأَنَّهُمْ أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ، وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، وَأَرْبَعَ عَشَرَةَ أُخْتًا لِأُمٍّ، وَسَهْمُ وَلَدِ الْأَبِ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ. فَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ ابْنًا وَبِنْتًا، صَحَّتْ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَأَنَّهُمَا أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، فَيَسْقُطُ وَلَدُ الْأَبِ، وَتَصِحُّ مِنْ مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَالْقَوْلُ فِي الْعَمَّاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ، وَالْخَالَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ، وَأَوْلَادِهِنَّ، كَالْقَوْلِ فِي وَلَدِ الْأَخَوَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ. [مَسْأَلَةٌ ثَلَاث بَنَات ثَلَاثَة إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ] (4900) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إذَا كُنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ) هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُنَزِّلِينَ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ الْمُفْتَرِقِينَ يَسْقُطُ وَلَدُ الْأَبِ مِنْهُمْ بِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِلْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ مَا صَارَ لِكُلِّ أَخٍ فَهُوَ لِوَلَدِهِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْأَخْوَالِ الْمُفْتَرِقِينَ وَأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَخْوَالَ إخْوَةُ الْأُمِّ. مَسَائِلُ مِنْ ذَلِكَ؛ سِتُّ بَنَاتِ سِتَّةِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، لِوَلَدِ الْأَمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، سِتُّ بَنَاتٍ مُفْتَرِقِينَ لِوَلَدِ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ. بِنْتُ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ أَخٍ لِأُمٍّ، وَبِنْتُ أَخٍ آخَرَ لِأُمٍّ. ابْنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 وبِنْتِ بِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ وَابْنَا وَابْنَتَا ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ، وَثَلَاثَةُ بَنِينَ وَثَلَاثُ بَنَاتِ بِنْتِ أُخْتٍ لِأُمٍّ، تَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ أُخْتٌ، كَانَتْ مِنْ سِتِّينَ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ابْنُ بِنْتِ أُخْتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، عَادَتْ إلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. [فَصْلٌ بِنْتُ أَخ لِأُمٍّ وَبِنْتُ ابْنِ أَخ لِأَبٍ] (4901) فَصْلٌ: بِنْتُ أَخٍ لِأُمٍّ وَبِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ، لِلْأُولَى السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلثَّانِيَةِ عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ. وَفِي الْقَرَابَةِ هُوَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ. بِنْتُ بِنْتِ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ وَبِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ، الْمَالُ لِهَذِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. بِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ وَبِنْتُ بِنْتِ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ بِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ، لِلْأُولَى السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْكُلُّ لِلثَّانِيَةِ بِنْتُ أَخٍ لِأُمٍّ وَبِنْتُ بِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ، الْمَالُ لِلْأُولَى، إلَّا فِي قَوْلِ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ سَالِمٍ، وَضِرَارٍ: لِلْأُولَى السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ الْبَعِيدَ مَعَ الْقَرِيبِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. [فَصْلٌ مَاتَ وَتَرَك ابْن وَبِنْت أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَبِنْتَا أَخ لِأَبٍ وَثَلَاثَة بَنِي أُخْتٍ لِأَبٍ وَخَمْسَةُ بَنِي أُخْتٍ لِأُمٍّ وَعَشْرُ بَنَاتِ أَخ لِأُمٍّ] فَصْلٌ: ابْنُ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَبِنْتَا أَخٍ لِأَبٍ وَثَلَاثَةُ بَنِي أُخْتٍ لِأَبٍ وَخَمْسَةُ بَنِي أُخْتٍ لِأُمٍّ وَعَشْرُ بَنَاتِ أَخٍ لِأُمٍّ، أَصِلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ؛ فِي قَوْلِ الْمُنَزِّلِينَ، النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ وَلَدَيْ الْأُخْتِ لِلْأَبَوَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَأَثْلَاثًا عِنْدَ مَنْ فَضَّلَ، وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَهُوَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، وَلِوَلَدِ الْأَخِ تِسْعُونَ، وَلِوَلَدِ الْأُخْتِ تِسْعُونَ، وَلِوَلَدِ الْأَبِ تِسْعُونَ، وَلِوَلَدِ الْأَخِ سِتُّونَ، وَلِوَلَدِ الْأُخْتِ ثَلَاثُونَ. ثَلَاثُ بَنَاتِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ وَثَلَاثُ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، لِوَلَدَيْ الْأُمِّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَالْبَاقِي لِوَلَدَيْ الْأَبَوَيْنِ، لِبِنْتِ الْأَخِ ثُلُثَاهُ، وَلِبِنْتِ أُخْتٍ ثُلُثُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ثَلَاثَةُ بَنِي أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ، فَلَهُمْ السُّدُسُ، لِابْنِ الْخَالِ مِنْ الْأُمِّ سُدُسُهُ، وَبَاقِيهِ لِابْنِ الْخَالِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَيَبْقَى النِّصْفُ، لِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثُلُثَاهُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ ثُلُثُهُ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ. وَالْحُكْمُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ فِي قِسْمَةِ مِيرَاثِ الْأُمِّ بَيْنَهُمْ، كَالْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ فِي قَسْمِ مِيرَاثِهِمْ بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ، مَعَ ثَلَاثَةِ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، كَثَلَاثِ بَنَاتِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ مَعَ ثَلَاثِ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ ثَلَاثُ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُفْتَرِقِينَ] (4903) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ ثَلَاثُ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَالْمَالُ لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، لِأَنَّهُنَّ أُقِمْنَ مَقَامَ آبَائِهِنَّ) أَكْثَرُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْمَالُ بَيْنَ بِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 وَبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ آبَائِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُنَّ أَحْيَاءً لَكَانَ الْمَالُ لِلْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَفَارَقَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّ آبَاءَهُنَّ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، وَيَرِثُ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ مَعَ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، بِخِلَافِ الْعُمُومَةِ. وَقِيلَ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ: الْمَالُ لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، فَيَسْقُطُ بِهِ الْعَمُّ. قَالَ الْخَبْرِيُّ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ " الْهِدَايَةِ " قَوْلًا مِنْ رَأْيِهِ يُفْضِي إلَى هَذَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْأُبُوَّةَ جِهَةٌ، وَالْعُمُومَةَ جِهَةٌ أُخْرَى. وَأَنَّ الْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إذَا كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ، نُزِّلَ الْبَعِيدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِوَارِثِهِ، سَوَاءٌ سَقَطَ بِهِ الْقَرِيبُ، أَوْ لَمْ يَسْقُطْ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تَنْزِلَ بِنْتُ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ حَتَّى تَلْحَقَ بِالْأَبِ، فَيَسْقُطَ بِهَا ابْنَتَا الْعَمَّيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَأَظُنُّ أَبَا الْخَطَّابِ لَوْ عَلِمَ إفْضَاءَ هَذَا الْقَوْلِ إلَى هَذَا لَمْ يَقُلْهُ، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَاسِقَاطِ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، وَالْقَرِيبِ بِالْبَعِيدِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا قَالَ الْخِرَقِيِّ وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ؛ بِنْتُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَبِنْتُ عَمٍّ لِأَبٍ، الْمَالُ لِلْأُولَى. بِنْتُ عَمٍّ لِأَبٍ وَبِنْتُ عَمٍّ لِأُمٍّ، كَذَلِكَ. بِنْتُ عَمٍّ لِأَبٍ وَبِنْتُ ابْنِ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، كَذَلِكَ. بِنْتُ ابْنِ عَمٍّ لِأَبٍ وَبِنْتُ عَمٍّ لِأُمٍّ، الْمَالُ لِلْأُولَى عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ، وَهُوَ لِلثَّانِيَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. بِنْتُ عَمٍّ لِأُمٍّ، وَبِنْتُ بِنْتِ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، الْمَالُ لِلْأُولَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. بِنْتُ عَمٍّ وَابْنُ عَمَّةٍ. الْمَالُ لِبِنْتِ الْعَمِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَحُكِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّ لِبِنْتِ الْعَمِّ سَهْمَيْنِ، وَلِابْنِ الْعَمَّةِ سَهْمٌ. بِنْتُ بِنْتِ عَمٍّ وَبِنْتُ ابْنِ عَمٍّ، الْمَالُ لِهَذِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَوْلُ ابْنِ سَالِمٍ: هُوَ لِلْأُولَى. بِنْتُ عَمَّةٍ مِنْ أَبَوَيْنِ وَبِنْتُ عَمٍّ مِنْ أُمٍّ، لِبِنْتِ الْعَمِّ السُّدُسُ، وَلِبِنْتِ الْعَمَّةِ النِّصْفُ، ثُمَّ يُرَدُّ عَلَيْهِمَا الْبَاقِي، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَبِنْتُ عَمٍّ مِنْ أُمٍّ، الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى سِتَّةٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ بِنْتُ عَمٍّ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ أَبٌ، وَرِثَتْ الْمَالَ دُونَهُنَّ. [مَسْأَلَةٌ ثَلَاث خَالَات مُفْتَرِقَات وَثَلَاثَ عَمَّات مُفْتَرِقَات] (4904) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثَ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، وَثَلَاثَ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَالثُّلُثُ بَيْنَ الثَّلَاثِ خَالَاتٍ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الثَّلَاثِ عَمَّاتٍ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ) فَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِلْخَالَةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْخَالَةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ سَهْمٌ، وَلِلْخَالَةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ سَهْمٌ، وَلِلْعَمَّةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْعَمَّةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ سَهْمَانِ، وَلِلْعَمَّةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ سَهْمَانِ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَالَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 وَالْعَمَّاتِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، فَكَأَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ أَبَاهُ، وَأُمَّهُ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِأَبِيهِ، ثُمَّ مَا صَارَ لِلْأُمِّ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ لَهَا مُفْتَرِقَاتٌ، فَيُقَسَّمُ نَصِيبُهَا بَيْنَهُنَّ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، عَلَى خَمْسَةٍ، كَمَا يُقَسَّمُ مَالُ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَخَوَاتِهِ الْمُفْتَرِقَاتِ. وَمَا صَارَ لِلْأَبِ قُسِّمَ بَيْنَ أَخَوَاتِهِ عَلَى خَمْسَةٍ، فَصَارَ الْكَسْرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَإِحْدَاهُمَا تُجْزِئُ عَنْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُمَا عَدَدَانِ مُتَمَاثِلَانِ، فَنَضْرِبُ خَمْسَةً فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، فَصَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ. كَمَا ذُكِرَ، لِلْخَالَاتِ سَهْمٌ فِي خَمْسَةٍ، مَقْسُومَةٍ بَيْنَهُنَّ، كَمَا ذُكِرَ، وَلِلْعَمَّاتِ سَهْمَانِ فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ عَشْرَةً بَيْنَهُنَّ، عَلَى خَمْسَةٍ، كَمَا ذُكِرَ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُنَزِّلِينَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ؛ لِلْعَمَّةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْخَالَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ سَائِرُهُنَّ. وَقَالَ نُعَيْمٌ، وَإِسْحَاقُ: الْخَالَاتُ كُلُّهُنَّ سَوَاءٌ، فَيَكُونُ نَصِيبُهُنَّ بَيْنَهُنَّ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْعَمَّاتِ بَيْنَهُنَّ عَلَى ثَلَاثَةٍ يَتَسَاوَيْنَ فِيهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمَا مِنْ تِسْعَةٍ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْخَالَاتِ خَالٌ مِنْ أُمٍّ، وَمَعَ الْعَمَّاتِ عَمٌّ مِنْ أُمٍّ، فَسَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا عِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ. ثَلَاثَةُ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ مَعَهُمْ أَخَوَاتُهُمْ، وَعَمٌّ وَعَمَّةٌ مِنْ أُمٍّ، الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ عَلَى سِتَّةٍ، لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ مِنْ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَاهُ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ عِنْدَ مَنْ فَضَّلَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُنَزِّلِينَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي الْخَالِ وَالْخَالَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، هُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ بِالسَّوِيَّةِ. ثَلَاثُ عَمَّاتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتِ عَمٍّ، وَثَلَاثُ خَالَاتٍ وَثَلَاثَةُ بَنِي خَالٍ، الْمِيرَاثُ لِلْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَيَسْقُطُ الْبَاقُونَ، فَيَكُونُ لِلْخَالَاتِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمَّاتِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ثَلَاثُ بَنَاتِ إخْوَةٍ، فَلِلْخَالَاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمَّاتِ؛ لِأَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فَيَسْقُطُ بِهِنَّ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الْأُبُوَّةِ، فَيُقَدَّمُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَوَلَدُ الْأَبِ عَلَى الْعَمَّاتِ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ بَنِيهِ، وَالْعَمَّاتُ أَخَوَاتُهُ. وَوَجْهُ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّنَا إذَا جَعَلْنَا الْأُخُوَّةَ جِهَةً. وَالْأُبُوَّةَ جِهَةً أُخْرَى، مَعَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ إذَا كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ، نُزِّلَ الْبَعِيدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِوَارِثِهِ، سَوَاءٌ سَقَطَ بِهِ الْقَرِيبُ، أَوْ لَمْ يَسْقُطْ، لَزِمَ مِنْهُ سُقُوطُ وَلَدِ الْإِخْوَةِ بِبَنَاتِ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ. وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَسْقُطْنَ بِبَنَاتِ الْعَمَّاتِ، وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ كُلِّهِمْ فَأَمَّا إنْ كَانَ مَكَانَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ بَنَاتُهُنَّ، فَلِلْخَالَاتِ السُّدُسُ بَيْنَ بَنَاتِهِنَّ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالْبَاقِي لِبَنَاتِ الْإِخْوَةِ، لِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَلَاثِينَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَنَاتُ إخْوَةٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَلَا مِنْ أَبٍ، فَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. [فَصْلٌ خَالَةٌ وَابْنُ عَمَّةٍ] (4905) فَصْلٌ: خَالَةٌ وَابْنُ عَمَّةٍ، لِلْخَالَةِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَنْ وَرَّثَ الْبَعِيدَ مَعَ الْقَرِيبِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 وَفِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُنَزِّلِينَ، وَأَهْلِ الْقَرَابَةِ، الْمَالُ لِلْخَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكَانَ الْخَالَةِ خَالٌ. عَمَّةٌ وَابْنُ خَالٍ مَعَهُ أُخْتُهُ، الثُّلُثُ بَيْنَ ابْنِ الْخَالِ وَأُخْتِهِ بِالسَّوِيَّةِ، إنْ كَانَ أَبُوهُمَا خَالًا مِنْ أُمٍّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَبٍ، أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ أَيْضًا. وَالثَّانِيَة، عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْبَاقِي لِلْعَمَّةِ. وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفَرْضِيِّينَ، الْمَالُ لِلْعَمَّةِ. بِنْتُ عَمٍّ وَابْنُ عَمَّةٍ وَبِنْتُ خَالٍ وَابْنُ خَالَةٍ، الثُّلُثُ بَيْنَ بِنْتِ الْخَالِ، وَابْنِ الْخَالَةِ بِالسَّوِيَّةِ، إنْ كَانَا مِنْ أُمٍّ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَبٍ، فَهَلْ هُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، أَوْ عَلَى ثَلَاثَةٍ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْخَالَةِ مِنْ أُمٍّ، وَالْخَالُ مِنْ أَبٍ، فَلِابْنِ الْخَالَةِ سُدُسُ الثُّلُثِ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْخَالِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتُ الْخَالِ مِنْ أُمٍّ، وَابْنُ الْخَالَةِ مِنْ أَبٍ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُنَزِّلِينَ، الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ إلَى الْوَارِثِ. خَالَةٌ وَبِنْتُ عَمٍّ، ثُلُثٌ، وَثُلُثَانِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ، هُوَ لِلْخَالَةِ. عَمَّةٌ وَبِنْتُ عَمٍّ، مَنْ نَزَّلَ الْعَمَّةَ أَبًا جَعَلَ الْمَالَ لَهَا، وَمَنْ نَزَّلَهَا عَمًّا جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ. بِنْتُ ابْنِ عَمٍّ لِأَبٍ وَبِنْتُ عَمَّةٍ لِأَبَوَيْنِ، الْمَالُ لِبِنْتِ ابْنِ الْعَمِّ. ابْنُ خَالَةٍ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ خَالَةٍ مِنْ أَبٍ وَبِنْتُ عَمٍّ مِنْ أُمٍّ وَابْنُ عَمَّةٍ مِنْ أَبٍ، الثُّلُثُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالثُّلُثَانِ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَيْضًا، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَفِي الْقَرَابَةِ، الثُّلُثُ لِبِنْتِ الْخَالَةِ، وَالثُّلُثَانِ لِابْنِ الْعَمَّةِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. [فَصْلٌ خَالٌ وَخَالَةٌ وَأَبُو أُمٍّ] (4906) فَصْلٌ: خَالٌ وَخَالَةٍ وَأَبُو أُمٍّ، الْمَالُ لِأَبِي الْأُمِّ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ابْنَةُ عَمٍّ، أَوْ عَمَّةٍ، فَالثُّلُثُ لِأَبِي الْأُمِّ، وَالْبَاقِي لِابْنَةِ الْعَمِّ، أَوْ الْعَمَّةِ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَ أَبِي الْأُمِّ أُمُّهُ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْخَالَةَ أَسْبَقُ إلَى الْوَارِثِ، وَالْجِهَةُ وَاحِدَةٌ. خَالَةٌ وَأَبُو أُمِّ أُمٍّ، الْمَالُ لِلْخَالَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَهِيَ تُسْقِطُ أُمَّ الْأُمِّ. ابْنُ خَالٍ وَابْنُ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، كَأَنَّهُمَا أُمٌّ وَأَخٌ مِنْ أُمٍّ وَعِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ هُوَ لِابْنِ الْأَخِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ابْنُ أُخْتٍ مِنْ أَبٍ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِابْنِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخُمُسُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ بِنْتُ أَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَلَهَا النِّصْفُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاقِينَ السُّدُسُ. وَعِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ، لَا شَيْءَ لِابْنِ الْخَالِ، وَالْمَالُ بَيْنَ الْبَاقِينَ عَلَى خَمْسَةٍ خَالٌ وَابْنُ ابْنِ أُخْتٍ لِأُمٍّ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَعِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ، هُوَ لِلْخَالِ. بِنْتُ بِنْتِ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ، وَبِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ وَبِنْتُ خَالَةٍ، لِهَذِهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ. وَعِنْدَ الْمُنَزِّلِينَ، الْمَالُ كُلُّهُ لَهُ. [فَصْلٌ عَمَّةٌ وَابْنَةُ أَخ] (4907) فَصْلٌ: عَمَّةٌ وَابْنَةُ أَخٍ، الْمَالُ لِلْعَمَّةِ عِنْدَ مَنْ نَزَّلَهَا أَبًا، وَلِابْنَةِ الْأَخِ عِنْدَ مَنْ نَزَّلَهَا عَمًّا، وَبَيْنَهُمَا عِنْدَ مَنْ نَزَّلَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 جَدًّا. بِنْتُ عَمٍّ وَبِنْتُ عَمَّةٍ وَبِنْتُ أَخٍ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ أَخٍ مِنْ أَبٍ، لِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنْتُ أَخٍ مِنْ أَبٍ، فَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ الْبَعِيدَ حَتَّى يُلْحِقَهُ بِوَارِثِهِ، وَجَعَلَ الْأُبُوَّةَ جِهَةً، وَالْأُخُوَّةَ جِهَةً، أَنْ يَسْقُطَ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ. فَإِنْ جَعَلَ الْأُبُوَّةَ جِهَةً، وَالْعُمُومَةَ جِهَةً أُخْرَى، أَسْقُطَ بِنْتَ الْعَمِّ بِبِنْتِ الْعَمَّةِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ سَالِمٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. بِنْتُ عَمٍّ وَبِنْتُ خَالٍ وَبِنْتُ أَخٍ مِنْ أَبٍ. لِبِنْتِ الْخَالِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُنَزِّلِينَ، الْكُلُّ لِبِنْتِ الْأَخِ. ثَلَاثُ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتِ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، السُّدُسُ الْبَاقِي بَيْنَ بَنَاتِ الْعَمَّاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ خَالٌ، أَوْ خَالَةٌ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِمَا، فَلَهُ السُّدُسُ، وَلَا شَيْءَ لِوَلَدِ الْعَمَّاتِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سَالِمٍ، وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ يُوَرِّثُهُمْ، وَيُسْقِطُ وَلَدَ الْأَخَوَاتِ. وَيَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ. خَالَةٌ، وَعَمَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، لِلْخَالَةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمَّةِ وَمَنْ نَزَّلَهَا عَمًّا فَلِبِنْتَيْ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتَيْ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ السُّدُسُ، وَلِبِنْتَيْ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ. فَإِنْ كُنَّ بَنَاتِ سِتِّ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، عَالَتْ عَلَى هَذَا إلَى سَبْعَةٍ. [فَصْلٌ عَمَّات الْأَبَوَيْنِ وَأَخْوَالِهِمَا وَخَالَاتهمَا] (4908) فَصْلٌ: فِي عَمَّاتِ الْأَبَوَيْنِ وَأَخْوَالِهِمَا وَخَالَاتِهِمَا؛ مَذْهَبُنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَسْبَقِ إلَى الْوَارِثِ إنْ كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَنْزِيلِ الْبَعِيدِ حَتَّى يَلْحَقَ بِوَارِثِهِ إنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ، ثُمَّ يُجْعَلُ لِمَنْ يُدْلِي بِهِ مَا كَانَ لَهُ. وَأَكْثَرُ الْمُنَزِّلِينَ يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ لِلْأَسْبَقِ بِكُلِّ حَالٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ نَصِيبَ الْأُمِّ بَيْنَ خَالِهَا وَخَالَتِهَا، وَعَمِّهَا وَعَمَّتِهَا، عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَنَصِيبَ الْأَبِ بَيْنَ عَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ كَذَلِكَ وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ؛ ثَلَاثُ خَالَاتِ أُمٍّ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثَةُ أَعْمَامِ أُمٍّ مُفْتَرِقِينَ وَثَلَاثُ خَالَاتِ أَب مُفْتَرِقَاتٍ، فَخَالَاتُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ، وَخَالَاتُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأَبِ، فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجَدَّتَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيْنَ أَخَوَاتِهَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَتَسْقُطُ عَمَّاتُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ عَمَّاتُ أَبٍ، فَلِخَالَاتِ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا، وَالْبَاقِي لِعَمَّاتِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ. عَمَّةُ أَبٍ وَعَمَّةُ أُمٍّ، لِعَمَّةِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِعَمَّةِ الْأَبِ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَالُ لِعَمَّةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا أَسْبِقُ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْجَدِّ، وَهُوَ وَارِثٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُنَزِّلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ الْأَسْبَقَ بِكُلِّ حَالٍ. خَالَةُ أُمٍّ وَعَمَّةُ أَبٍ، لِلْخَالَةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا كَجَدٍّ وَجَدَّةٍ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي خَالَةِ أَبٍ وَعَمَّتِهِ خَالَةِ أُمٍّ وَخَالَةِ أَبٍ، الْمَالُ لِلْخَالَةِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمِّ أُمِّ أَبٍ. خَالِ أَبٍ وَعَمُّ أُمٍّ، الْمَالُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ جَدَّةٍ، وَالْجَدَّاتُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ. بِنْتُ خَالِ أُمٍّ، وَبِنْتُ عَمِّ أَبٍ، لِبِنْتِ الْخَالِ السُّدُسُ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ مَا بَقِيَ. وَمَنْ وَرَّثَ الْأَسْبَقَ جَعَلَ الْكُلَّ لِبِنْتِ الْعَمِّ. أَبُو أَبِي أُمٍّ وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِأَبِي أُمِّ الْأَبِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 أَبُو أُمِّ أُمٍّ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَدَّتَيْنِ مُتَحَاذِيَتَيْنِ أَبُو أُمِّ أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أُمِّ أُمٍّ، الْمَالُ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَبُو أُمِّ أَبِي أَبٍ، فَالْمَالُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ دَرَجَةٍ يَلْقَى الْوَارِثَ. أَبٌ وَأُمُّ أَبِي أُمٍّ، لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَبُو أُمِّ أُمٍّ، فَالْمَالُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَبُو أُمِّ أَبٍ، فَالْمَالُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ نِصْفَيْنِ. [فَصْلٌ كَانَ لِذِي الرَّحِمِ قَرَابَتَانِ] (4909) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِذِي الرَّحِمِ قَرَابَتَانِ، وَرِثَ بِهِمَا، بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُوَرِّثِينَ لَهُمْ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ إلَّا بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْهُ، وَلَا صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ شَخْصٌ لَهُ جِهَتَانِ لَا يُرَجَّحُ بِهِمَا، فَوَرِثَ بِهِمَا، كَالزَّوْجِ إذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ، وَابْنِ الْعَمِّ إذَا كَانَ أَخًا مِنْ أُمٍّ، وَحِسَابُ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ ذَا الْقَرَابَتَيْنِ كَشَخْصٍ، فَتَقُولَ فِي ابْنِ بِنْتِ بِنْتٍ، هُوَ ابْنُ ابْنِ بِنْتٍ أُخْرَى، وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ أُخْرَى، لِلِابْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْبِنْتِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمَا وَاحِدَةً، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عِنْدَ مَنْ سَوَّى، وَلِأُخْتِهِ الرُّبُعُ. وَمَنْ فَضَّلَ جَعَلَ لَهُ النِّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَلِأُخْتِهِ السُّدُسَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُنَزِّلِينَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْمَالِ، وَلِأُخْتِهِ الْخُمُسُ بِنْتَا أُخْتٍ مِنْ أُمٍّ، إحْدَاهُمَا بِنْتُ أَخٍ مِنْ أَبٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، هِيَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، سِتَّةٌ لِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَأَرْبَعَةٌ لِذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ ابْنِهَا، وَلَهَا سَهْمٌ مِنْ جِهَةِ أُمِّهَا، وَلِلْأُخْرَى سَهْمٌ. عَمَّتَانِ مِنْ أَبٍ، إحْدَاهُمَا خَالَةٌ مِنْ أُمٍّ، وَخَالَةٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، هِيَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا، لِذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ خَمْسَةٌ، وَلِلْعَمَّةِ الْأُخْرَى أَرْبَعَةٌ، وَلِلْخَالَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةٌ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا عَمٌّ مِنْ أُمٍّ هُوَ خَالٌ مِنْ أَبٍ، صَحَّتْ مِنْ تِسْعِينَ ابْنٌ وَبِنْتُ ابْنِ عَمَّةٍ مِنْ أُمٍّ، الْبِنْتُ هِيَ بِنْتُ عَمٍّ مِنْ أُمٍّ وَالْعَمُّ هُوَ خَالٌ مِنْ أَبٍ. ابْنٌ وَبِنْتُ ابْنِ خَالٍ مِنْ أَبٍ، الِابْنُ هُوَ ابْنُ بِنْتِ خَالٍ أُخَرَ مِنْ أَبٍ، وَالْخَالَانِ عَمَّانِ مِنْ أُمٍّ، هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. [مَسْأَلَةٌ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى] مَسَائِلُ شَتَّى؛ يَعْنِي مُتَفَرِّقَةً، فَإِنَّهَا مَسَائِلُ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، يُقَالُ: شَتَّى، وَشَتَّانَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ عِشْت فِي النَّاسِ أَطْوَارًا عَلَى طُرُقٍ ... شَتَّى وَقَاسَيْت فِيهَا اللِّينَ وَالْفَظَعَا (4910) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى. فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، وَحُكْمُهُ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ حُكْمُ رَجُلٍ. وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَلَهُ حُكْمُ امْرَأَةٍ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 الْخُنْثَى هُوَ الَّذِي لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجُ امْرَأَةٍ، أَوْ ثُقْبٌ فِي مَكَانِ الْفَرْجِ يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ. وَيَنْقَسِمُ إلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ، فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورِيَّةِ، أَوْ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوْ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، وَحُكْمُهُ فِي إرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهُ فِيهِ، وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْلِ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُوَرَّثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، إنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ، فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ، فَهُوَ امْرَأَةٌ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ؛ عَلِيٌّ، وَمُعَاوِيَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: رَوَى الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ، مِنْ أَيْنَ يُوَرَّثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أُتِيَ بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَار، فَقَالَ: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ مِنْهُ.» وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ أَعَمُّ الْعَلَامَاتِ؛ لِوُجُودِهَا مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَسَائِرُ الْعَلَامَاتِ إنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْكِبَرِ، مِثْلُ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ. وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، اعْتَبَرْنَا أَسْبَقَهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. فَإِنْ خَرَجَا مَعًا، وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: يَرِثُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ أَكْثَرَ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَقَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَزِيَّةٌ لِإِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ بِهَا، كَالسَّبْقِ. فَإِنْ اسْتَوَيَا فَهُوَ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ. فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرَّجُلِ؛ مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ، أَوْ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ؛ مِنْ الْحَيْضِ. وَالْحَبَلِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، أَنَّهُمَا قَالَا: تُعَدُّ أَضْلَاعُهُ، فَإِنَّ أَضْلَاعَ الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَضْلَاعِ الرَّجُلِ بِضِلْعٍ. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: وَلَوْ صَحَّ هَذَا، لَمَا أَشْكَلَ حَالُهُ، وَلَمَا اُحْتِيجَ إلَى مُرَاعَاةِ الْمَبَالِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: يُوقَفُ إلَى جَنْبِ حَائِطٍ، فَإِنْ بَالَ عَلَيْهِ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ شَلْشَلَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ فَهُوَ امْرَأَةٌ وَلَيْسَ عَلَى هَذَا تَعْوِيلٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ يُوقَفُ أَمْرُهُ مَا دَامَ صَغِيرًا، فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى قَسْمِ الْمِيرَاثِ، أُعْطِيَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي إلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَتُعْمَلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ، ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَتَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَارِثٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَيَقِفُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، أَوْ بَلَغَ مُشْكِلًا، فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةٌ، وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ. وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالَاتِهِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَأَعْطَاهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِيَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، أَوْ يَصْطَلِحُوا وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ جَرِيرٍ. وَوَرَّثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى الدَّعْوَى فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الْيَقِينِ، وَبَعْضُهُمْ بِالدَّعْوَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ. وَفِيهِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ سِوَى هَذِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُنْكِرًا، وَلِأَنَّ حَالَتَيْهِ تَسَاوَتَا، فَوَجَبَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا، كَمَا لَوْ تَدَاعَى نَفْسَانِ دَارًا بِأَيْدِيهِمَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا وَلَيْسَ تَوْرِيثُهُ بِأَسْوَأِ أَحْوَالِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَوْرِيثِ مَنْ مَعَهُ بِذَلِكَ، فَتَخْصِيصُهُ بِهَذَا تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ تُنْتَظَرُ، وَفِيهِ تَضْيِيعُ الْمَالِ مَعَ يَقِينِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ الْخُنْثَى الْمُشْكِل] (4911) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ مَنْ وَرَّثَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا مَرَّةً ذُكُورًا، وَمَرَّةً إنَاثًا، وَتُعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا مَرَّةً، وَعَلَى هَذَا مَرَّةً، ثُمَّ تَضْرِبُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى إنْ تَبَايَنَتَا، أَوْ فِي وَفْقِهِمَا إنْ اتَّفَقَتَا، وَتَجْتَزِئُ بِإِحْدَاهُمَا إنْ تَمَاثَلَتَا، أَوْ بِأَكْثَرِهِمَا إنْ تَنَاسَبَتَا، فَتَضْرِبُهُمَا فِي اثْنَيْنِ، ثُمَّ تَجْمَعُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ تَمَاثَلَتَا، وَتَضْرِبُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأُخْرَى إنْ تَبَايَنَتَا، أَوْ فِي وَفْقِهِمَا إنْ اتَّفَقَتَا، فَتَدْفَعُهُ إلَيْهِ وَيُسَمَّى هَذَا مَذْهَبَ الْمُنَزِّلِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَاللُّؤْلُؤِيُّ، فِي الْوَلَدِ إذَا كَانَ فِيهِمْ خُنْثَى، إلَى أَنْ يَجْعَلَ لِلْأُنْثَى سَهْمَيْنِ، وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةً، وَلِلذَّكَرِ أَرْبَعَةً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ لِلْأُنْثَى أَقَلَّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ، وَهُوَ اثْنَانِ، وَلِلذَّكَرِ ضِعْفَ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْخُنْثَى نِصْفَهُمَا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ مَعَهُ نِصْفُ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفُ مِيرَاثِ أُنْثَى. وَهَذَا قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَيُخَالِفُهُ فِي بَعْضِهَا، وَبَيَانُ اخْتِلَافِهِمَا، أَنَّنَا لَوْ قَدَّرْنَا ابْنًا وَبِنْتًا وَوَلَدًا خُنْثَى، لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ تِسْعَةٍ، لِلْخُنْثَى الثُّلُثُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَسْأَلَةُ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ خَمْسَةٍ، وَالْأُنُوثِيَّةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، تَضْرِبُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى تَكُنْ عِشْرِينَ، ثُمَّ فِي اثْنَيْنِ تَكُنْ أَرْبَعِينَ، لِلْبِنْتِ سَهْمٌ فِي خَمْسَةٍ، وَسَهْمٌ فِي أَرْبَعَةٍ، يَكُنْ لَهَا تِسْعَةٌ، وَلِلذَّكَرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِلْخُنْثَى سَهْمٌ فِي خَمْسَةٍ، وَسَهْمَانِ فِي أَرْبَعَةٍ، يَكُنْ لَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَهِيَ دُونَ ثُلُثِ الْأَرْبَعِينَ وَقَوْلُ مَنْ وَرَّثَهُ بِالدَّعْوَى فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 الْيَقِينِ يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُنَزِّلِينَ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لِلذَّكَرِ الْخُمُسَانِ بِيَقِينٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ يَدَّعِي النِّصْفَ عِشْرِينَ، وَلِلْبِنْتِ الْخُمُسُ بِيَقِينٍ، وَهِيَ تَدَّعِي الرُّبُعَ، وَلِلْخُنْثَى الرُّبُعُ بِيَقِينٍ، وَهُوَ يَدَّعِي الْخُمُسَيْنِ، سِتَّةَ عَشَرَ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ يَدَّعِيهَا الْخُنْثَى كُلَّهَا، فَتُعْطِيهِ نِصْفَهَا، ثَلَاثَةً، مَعَ الْعَشَرَةِ الَّتِي مَعَهُ، صَارَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، الِابْنُ يَدَّعِي أَرْبَعَةً، فَتُعْطِيهِ نِصْفَهَا، سَهْمَيْنِ، صَارَ لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالْبِنْتُ تَدَّعِي سَهْمَيْنِ، فَتَدْفَعُ إلَيْهَا سَهْمًا، صَارَ لَهَا تِسْعَةٌ وَقَدْ وَرِثَهُ قَوْمٌ بِالدَّعْوَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ، يَكُونُ الْمِيرَاثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى هَاهُنَا نِصْفٌ، وَرُبُعٌ، وَخُمُسَانِ، وَمَخْرَجُهَا عِشْرُونَ، يُعْطَى الِابْنُ النِّصْفَ، عَشَرَةً، وَلِلْبِنْتِ خَمْسَةٌ، وَالْخُنْثَى ثَمَانِيَةٌ، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنْتٌ، فَفِي قَوْلِ الثَّوْرِيِّ: هِيَ مِنْ سَبْعَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ وَرَّثَهُمَا بِالدَّعْوَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، وَفِي التَّنْزِيلِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلِابْنِ سَبْعَةٌ، وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ وَرَّثَهُ بِالدَّعْوَى فِيمَا عَدَا الْيَقِينَ وَإِنْ كَانَتْ بِنْتٌ وَوَلَدٌ خُنْثَى، وَلَا عَصَبَةٌ، مَعَهُمَا، فَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، فِي قَوْلِ الثَّوْرِيِّ، وَمِنْ اثْنَيْ عَشَرَ فِي التَّنْزِيلِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا عَصَبَةٌ، فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ؛ لِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمٌ. فِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أُمٌّ، وَعَصَبَةٌ، فَهِيَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، لِلْأُمِّ سِتَّةٌ، وَلِلْخُنْثَى سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْبِنْتِ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِلْعَصَبَةِ ثَلَاثَةٌ وَقِيَاسُ قَوْلِ الثَّوْرِيِّ أَنْ يَكُونَ لِلْخُنْثَى وَالْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَيَبْقَى نِصْفُ السُّدُسِ لِلْعَصَبَةِ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتِّينَ. وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ خُنْثَى، وَعَصَبَةٌ، فَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، إلَّا فِي قَوْلِ مَنْ وَرَّثَهُمَا بِالدَّعْوَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى تَدَّعِي الْمَالَ كُلَّهُ، وَالْعَصَبَةَ تَدَّعِي نِصْفَهُ، فَتُضِيفُ النِّصْفَ إلَى الْكُلِّ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ، لِكُلِّ نِصْفٍ ثُلُثٌ بِنْتٌ، وَوَلَدُ ابْنٍ خُنْثَى وَعَمٌّ، هِيَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى سِتَّةٍ؛ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْخُنْثَى الثُّلُثُ، وَلِلْعَمِّ السُّدُسُ. [فَصْلٌ إنْ كَانَ كَانَ الْخُنْثَى يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ] (4912) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ وَوَلَدِ أَبٍ خُنْثَى، فَمُقْتَضَى قَوْلِ الثَّوْرِيِّ أَنْ يُجْعَلَ لِلْخُنْثَى نِصْفُ مَا يَرِثُهُ فِي حَالِ إرْثِهِ، وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ، فَتَضُمُّهُ إلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ، وَهِيَ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا؛ لِيَزُولَ الْكَسْرُ، فَتَصِيرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ، وَالْبَاقِي، بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ نِصْفَيْنِ. وَقَدْ عَمِلَ أَبُو الْخَطَّابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ " الْهِدَايَةِ ". وَأَمَّا فِي التَّنْزِيلِ، فَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلْخُنْثَى سَهْمَانِ، وَهِيَ نِصْفُ سُبْعٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَإِنْ كَانَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ وَوَلَدُ أَبٍ خُنْثَى، فَلَهُ فِي حَالِ الْأُنُوثِيَّةِ ثَلَاثَةٌ مِنْ تِسْعَةٍ، فَاجْعَلْ لَهُ نِصْفَهَا مَضْمُومًا إلَى سِهَامِ بَاقِي الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ اُبْسُطْهَا تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، لَهُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الْخُمُسُ. وَفِي التَّنْزِيلِ لَهُ سِتَّةٌ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَهِيَ السُّدُسُ. وَإِنْ كَانَتْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَوَلَدُ أَخٍ خُنْثَى وَعَمٌّ، فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ؛ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، وَلِلْخُنْثَى السُّدُسُ، وَلِلْعَمِّ مَا بَقِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. [فَصْلٌ مَاتَ وَخَلَّفَ خنثيين فَصَاعِدًا] (4913) فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَّفَ خُنْثَيَيْنِ فَصَاعِدًا، نَزَّلْتهمْ بِعَدَدِ أَحْوَالِهِمْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَتَجْعَلُ لِلِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ، وَلِلثَّلَاثَةِ ثَمَانِيَةً، وَلِلْأَرْبَعَةِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْخَمْسَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ حَالًا، ثُمَّ تَجْمَعُ مَالَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فَتُقَسِّمُهُ عَلَى عَدَدِ أَحْوَالِهِمْ، فَمَا خَرَجَ بِالْقَسْمِ فَهُوَ لَهُمْ، إنْ كَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِهَاتٍ جَمَعْت مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْأَحْوَالِ، وَقَسَّمْته عَلَى عَدَدِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فَالْخَارِجُ بِالْقَسْمِ هُوَ نَصِيبُهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَضِرَارٍ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ. وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ حَالَيْنِ؛ مَرَّةً ذُكُورًا، وَمَرَّةً إنَاثًا، كَمَا تَصْنَعُ فِي الْوَاحِدِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ، فَيَعْدِلُ بَيْنَهُمْ. وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ يُعْطِي بَعْضَ الِاحْتِمَالَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَبَيَانُ هَذَا فِي وَلَدٍ خُنْثَى وَوَلَدِ أَخٍ خُنْثَى وَعَمٍّ، إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ فَالْمَالُ لِلْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَا أُنْثَيَيْنِ فَلِلْوَلَدِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، فَهِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ مَنْ نَزَّلَهُمْ حَالَيْنِ؛ لِلْوَلَدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَلِلْعَمِّ رُبُعُهُ. وَمَنْ نَزَّلَهُمْ أَحْوَالًا، زَادَ حَالَيْنِ آخَرَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَحْدَهُ ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَخِ وَحْدَهُ ذَكَرًا، فَتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِلْوَلَدِ الْمَالُ فِي حَالَيْنِ، وَالنِّصْفُ فِي حَالَيْنِ، فَلَهُ رُبُعُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَلِوَلَدِ الْأَخِ نِصْفُ الْمَالِ فِي حَالٍ، فَلَهُ رُبُعُهُ، وَهُوَ الثُّمُنُ، وَلِلْعَمِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَعْدَلُ وَمَنْ قَالَ بِالدَّعْوَى فِيمَا زَادَ عَلَى الْيَقِينِ، قَالَ: لِلْأَخِ النِّصْفُ يَقِينًا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَتَدَاعَوْنَهُ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَخٍ خُنْثَى وَوَلَدِ أَخٍ، وَفِي كُلِّ عَصَبَتَيْنِ يَحْجُبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَا يَرِثُ الْمَحْجُوبُ شَيْئًا إذَا كَانَ أُنْثَى. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَوَلَدًا خُنْثَى وَوَلَدَ ابْنٍ خُنْثَى وَعَصَبَةً، فَمَنْ نَزَّلَهُمَا حَالَيْنِ جَعَلَهُمَا مِنْ سِتَّةٍ؛ لِلْوَلَدِ الْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. وَمَنْ نَزَّلَهُمَا أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ، جَعَلَهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. وَجَعَلَ لِوَلَدِ الِابْنِ نِصْفَ السُّدُسِ، وَلِلْعَمِّ سُدُسَهُ، وَهَذَا أَعْدَلُ الطَّرِيقَيْنِ؛ لِمَا فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ مِنْ إسْقَاطِ وَلَدِ الِابْنِ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ تَوْرِيثِهِ كَاحْتِمَالِ تَوْرِيثِ الْعَمِّ. وَهَكَذَا تَصْنَعُ فِي الثَّلَاثَةِ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهَا. وَيَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ نَادِرٌ قَلَّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاجْتِمَاعُ خُنْثَيَيْنِ وَأَكْثَرَ نَادِرُ النَّادِرِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِوُجُودِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّطْوِيلِ فِيهِ. [فَصْلٌ مِيرَاثُ شَخْصَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا فِي قُبُلِهِمَا مَخْرَجٌ لَا ذَكَرٌ وَلَا فَرْجٌ] (4914) فَصْلٌ: وَقَدْ وَجَدْنَا فِي عَصْرِنَا شَيْئًا شَبِيهًا بِهَذَا، لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَرْضِيُّونَ، وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِ، فَإِنَّا وَجَدْنَا شَخْصَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 لَيْسَ لَهُمَا فِي قُبُلِهِمَا مَخْرَجٌ، لَا ذَكَرٌ، وَلَا فَرْجٌ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُبُلِهِ إلَّا لُحْمَةٌ نَاتِئَةٌ كَالرَّبْوَةِ، يَرْشَحُ الْبَوْلُ مِنْهَا رَشْحًا عَلَى الدَّوَامِ، وَأَرْسَلَ إلَيْنَا يَسْأَلُنَا عَنْ حُكْمِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ وَسِتُّمِائَةٍ. وَالثَّانِي، شَخْصٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَخْرَجٌ وَاحِدٌ فِيمَا بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ، مِنْهُ يَتَغَوَّطُ، وَمِنْهُ يَبُولُ. وَسَأَلْت مَنْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ عَنْ زِيِّهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إنَّمَا يَلْبَسُ لِبَاسَ النِّسَاءِ، وَيُخَالِطُهُنَّ، وَيَغْزِلُ مَعَهُنَّ، وَيَعُدُّ نَفْسَهُ امْرَأَةً. وَحُدِّثْت أَنَّ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْعَجَمِ شَخْصًا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ أَصْلًا، لَا قُبُلٌ، وَلَا دُبُرٌ، وَإِنَّمَا يَتَقَايَأُ مَا يَأْكُلُهُ وَمَا يَشْرَبُهُ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فِي مَعْنَى الْخُنْثَى، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِمَبَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَامَةٌ أُخْرَى فَهُوَ مُشْكِلٌ، يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فِي مِيرَاثِهِ وَأَحْكَامِهِ كُلِّهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ ابْنُ الْمُلَاعَنَة تَرِثُهُ أُمُّهُ وَعُصْبَتهَا] (4915) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَرِثُهُ أُمُّهُ وَعَصَبَتُهَا، فَإِنْ خَلَّفَ أُمًّا وَخَالًا فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْخَالِ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ، وَنَفَى وَلَدَهَا، وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا؛ انْتَفَى وَلَدُهَا عَنْهُ، وَانْقَطَعَ تَعْصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُلَاعِنِ، فَلَمْ يَرِثْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِهِ، وَتَرِثُ أُمُّهُ وَذَوُو الْفُرُوضِ مِنْهُ فُرُوضَهُمْ، وَيَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا وَأَمَّا إنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَرِثَهُ الْآخَرَانِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ لِعَانَهُ لَمْ يَتَوَارَثَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ لِعَانِهِ، فَإِنْ لَاعَنَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تَرِثْ، وَلَمْ تُحَدَّ، وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، وَرِثَتْ، وَحُدَّتْ. وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ، وَرِثَهَا فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ، إلَّا الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَإِنْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَتَوَارَثَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَزُفَرَ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَدَاوُد؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي حُصُولِ الْفُرْقَةِ بِهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَالرَّضَاعِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَتَوَارَثَانِ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَوْ حَصَلَ التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ لَمْ يُحْتَجْ إلَى تَفْرِيقِهِ. وَإِنْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ، لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّوَارُثُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ تَلَاعَنَا ثَلَاثًا، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَانْقَطَعَ التَّوَارُثُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا مُعْظَمُ اللِّعَانِ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّوَارُثُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَفْرِيقٌ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ، فَأَشْبَهَ التَّفْرِيقَ قَبْلَ الثَّلَاثِ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي تَوَارُثِ الزَّوْجَيْنِ. فَأَمَّا الْوَلَدُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْ الْمُلَاعِنِ إذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 بِنَفْيِهِ، لَا بِقَوْلِ الْحَاكِمِ: فَرَّقْت بَيْنَكُمَا، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي اللِّعَانِ لَمْ يَنْتَفِ عَنْ الْمُلَاعِنِ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَنْتَفِي بِزَوَالِ الْفِرَاشِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى الْوَلَدَ عَنْ الْمُلَاعِنِ، وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الرَّجُلُ فِي لِعَانِهِ. وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ حَمْلًا فِي الْبَطْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْظِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ، كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ جَعْدًا، جَمَالِيًّا، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِيرَاثِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ عَصَبَتَهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ. نَقْلَهَا الْأَثْرَمُ، وَحَنْبَلٌ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، إلَّا أَنَّ عَلِيًّا يَجْعَلُ ذَا السَّهْمِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَحَقَّ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ، وَقَدَّمَ الرَّدَّ عَلَى غَيْرِهِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ أُمَّهُ عَصَبَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَعَصَبَتُهَا عَصَبَتُهُ. نَقَلَهُ أَبُو الْحَارِثِ، وَمُهَنَّا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَمَكْحُولٍ، وَالشَّعْبِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا» وَرَوَاهُ أَيْضًا مَكْحُولٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا. وَرَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ؛ عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» . وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَالَ: «كَتَبْت إلَى صَدِيقٍ لِي مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَسْأَلُهُ عَنْ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، لِمَنْ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَتَبَ إلَيَّ؛ إنِّي سَأَلْت فَأُخْبِرْت أَنَّهُ قَضَى بِهِ لِأُمِّهِ، هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ.» رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا قَامَتْ مَقَامَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي انْتِسَابِهِ إلَيْهَا، فَقَامَتْ مَقَامَهُمَا فِي حِيَازَةِ مِيرَاثِهِ، وَلِأَنَّ عَصَبَاتِ الْأُمِّ أَدْلَوْا بِهَا، فَلَمْ يَرِثُوا مَعَهَا، كَأَقَارِبِ الْأَبِ مَعَهُ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُوَرِّثُ مِنْ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ، كَمَا يُوَرِّثُ مِنْ غَيْرِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ، وَلَا يَجْعَلُهَا عَصَبَةَ ابْنِهَا، وَلَا عَصَبَتَهَا عَصَبَتَهُ. فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَوْلَاةً لَقَوْمٍ جَعَلَ الْبَاقِيَ مِنْ مِيرَاثِهَا لِمَوْلَاهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْلَاةً جَعَلَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 لِبَيْتِ الْمَالِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَهْلَ الْبَصْرَةِ جَعَلُوا الرَّدَّ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ، أَحَقُّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَلَا نَصَّ فِي تَوْرِيثِ الْأُمِّ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا فِي تَوْرِيثِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ، وَلَا فِي تَوْرِيثِ أَبِي الْأُمِّ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ عَصَبَاتِ الْأُمِّ، وَلَا قِيَاسَ أَيْضًا، فَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَأَوْلَى الرِّجَالِ بِهِ أَقَارِبُ أُمِّهِ. وَعَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَلْحَقَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ بِعَصَبَةِ أُمِّهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا رَجَمَ الْمَرْأَةَ دَعَا أَوْلِيَاءَهَا فَقَالَ: هَذَا ابْنُكُمْ تَرِثُونَهُ وَلَا يَرِثُكُمْ، وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَعَلَيْكُمْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ. وَلِأَنَّ الْأُمَّ لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً كَأَبِيهِ لَحَجَبَتْ إخْوَتَهُ. وَلِأَنَّ مَوْلَاهَا مَوْلَى أَوْلَادِهَا، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَصَبَتُهَا عَصَبَتَهُ، كَالْأَبِ. فَإِذَا خَلَّفَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ أُمًّا، وَخَالًا، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْبَاقِي لِخَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، هُوَ لَهَا كُلُّهُ. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُوَافِقِيهِ، إلَّا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يُعْطِيهَا إيَّاهُ؛ لِكَوْنِهَا عَصَبَةً؛ وَالْبَاقُونَ بِالرَّدِّ، وَعِنْدَ زَيْدٍ، الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا مَوْلَى أُمٍّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ زَيْدٌ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْبَاقِي لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأُمِّهِ عَصَبَةٌ إلَّا مَوْلَاهَا، فَالْبَاقِي لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ، وَعَلَى الْأُخْرَى، هُوَ لِلْأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةُ ابْنِهَا. فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا أُمَّهُ، فَلَهَا الثُّلُثُ بِالْفَرْضِ، وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَسَائِرِ مِنْ يَرَى الرَّدَّ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَهَا الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ عَصَبَةٌ لَهَا، فَهَلْ يَكُونُ الْبَاقِي لَهَا أَوْ لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا عَصَبَاتٌ، فَهُوَ لَأَقْرَبِهِمْ مِنْهَا عَلَى رِوَايَةِ الْخِرَقِيِّ، فَإِذَا كَانَ مَعَهَا أَبُوهَا، وَأَخُوهَا، فَهُوَ لِأَبِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ أَبِيهَا جَدُّهَا فَهُوَ بَيْنَ أَخِيهَا وَجَدِّهَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ابْنُهَا، وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ، فَلَا شَيْءَ لِأَخِيهَا، وَيَكُونُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَلِأَخِيهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ، أَوْ ابْنِ أَخِيهِ. وَإِنْ خَلَّفَ أُمَّهُ، وَأَخَاهُ، وَأُخْتَهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ، دُونَ أُخْتِهِ. وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَ أُخْتِهِ، وَبِنْتَ أُخْتِهِ، أَوْ خَالَهُ وَخَالَتَهُ، فَالْبَاقِي لِلذَّكَرِ وَإِنْ خَلَّفَ أُخْتَهُ وَابْنَ أُخْتِهِ، فَلِأُخْتِهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِابْنِ أُخْتِهِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، الْبَاقِي لِلْأُمِّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. [فَصْلٌ ابْنُ مُلَاعَنَة مَاتَ وَتَرَك بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَمَوْلَى أُمّه] (4916) فَصْلٌ: ابْنُ مُلَاعَنَةٍ مَاتَ، وَتَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَمَوْلَى أُمِّهِ، الْبَاقِي لِمَوْلَى الْأُمِّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 ابْنُ مَسْعُودٍ: الرَّدُّ أَوْلَى مِنْ الْمَوْلَى؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُمٌّ فَلَهَا السُّدُسُ، وَفِي الْبَاقِي رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لِلْمَوْلَى، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِيَةُ: لِلْأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَوْلًى، فَالْبَاقِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى هُوَ لِلْأُمِّ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَخٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْفَرْضِ، وَلَهُ الْبَاقِي فِي رِوَايَةٍ، وَالْأُخْرَى هُوَ لِلْأُمِّ. بِنْتٌ وَأَخٌ أَوْ ابْنُ أَخٍ، أَوْ خَالٍ، أَوْ أَبُو أُمٍّ، أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ الْعَصَبَاتِ؛ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ فِي قَوْلِ الْعَبَادِلَةَ. وَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَخٌ وَأُخْتٌ، أَوْ ابْنُ أَخٍ وَأُخْتُهُ، أَوْ خَالٌ، أَوْ خَالَةٌ، فَالْبَاقِي لِلذَّكَرِ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: الْمَالُ لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ جَعَلَ ذَا السَّهْمِ أَحَقَّ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ، وَأَنَّهُ وَرَّثَ مِنْ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ ذَوِي أَرْحَامِهِ، كَمَا يَرِثُونَ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: وَلَيْسَ هَذَا مَحْفُوظًا عَنْ عَلِيٍّ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ قَوْلُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَرْجُومَةِ عَنْ ابْنِهَا: هَذَا ابْنُكُمْ، تَرِثُونَهُ، وَلَا يَرِثُكُمْ، وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَعَلَيْكُمْ. وَفَسَّرَ الْقَاضِي قَوْلَ أَحْمَدَ: إنْ لَمْ تَكُنْ أُمٌّ فَعَصَبَتُهَا عَصَبَتُهُ. بِتَقْدِيمِ الرَّدِّ عَلَى عَصَبَةِ الْأُمِّ، كَقَوْلِهِ فِي أُخْتٍ وَابْنِ أَخٍ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْأُخْتِ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْكَلَامِ بِضِدِّ مَا يَقْتَضِيهِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ، كَمَذْهَبِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا قَالَا: عَصَبَةُ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ أُمُّهُ، تَرِثُ مَالَهُ أَجْمَعَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمٌّ، فَعَصَبَتُهَا عَصَبَتُهُ. امْرَأَةٌ، وَجَدَّةٌ، وَأُخْتَانِ وَابْنُ أَخٍ، لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ، فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ وَالْجَدَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. أَبُو أُمٍّ، وَبِنْتٌ وَابْنُ أَخٍ وَبِنْتُ أَخٍ. الْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ وَحْدَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَبِي الْأُمِّ سُدُسُ بَاقِي الْمَالِ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ لِابْنِ الْأَخِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَالُ بَيْنَ أُمِّ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، عَلَى أَرْبَعَةٍ، بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ. [فَصْلٌ لَمْ يَتْرُكْ ابْنُ الْمُلَاعَنَة ذَا سَهْمٍ] (4917) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ ذَا سَهْمٍ، فَالْمَالُ لِعَصَبَةِ أُمِّهِ فِي قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: هُوَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَمِيرَاثِ غَيْرِهِ، وَرَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَذَلِكَ مِثْلُ خَالٍ وَخَالَةٍ، وَابْنِ أَخٍ وَأُخْتِهِ. الْمَالُ لِلذَّكَرِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، هُوَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نِصْفَيْنِ. خَالَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَالٌ لِأَبٍ، الْمَالُ لِلْخَالِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْخَالَةِ. خَالَةٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ. الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ. وَإِذَا لَمْ يُخَلِّفْ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ إلَّا ذَا رَحِمٍ فَحُكْمُهُمْ فِي مِيرَاثِهِ، كَحُكْمِهِمْ فِي مِيرَاثِ غَيْرِهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. [فَصْلٌ قُسِّمَ مِيرَاثُ الْمُلَاعَنَة ثُمَّ أَكْذَبِ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ] (4918) فَصْلٌ: وَإِذَا قُسِّمَ مِيرَاثُ الْمُلَاعَنَةِ، ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَنَقَضَتْ الْقِسْمَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 لَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ بَعْدَ مَوْتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَا تَوْأَمَيْنِ، مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَالْآخَرُ بَاقٍ، فَيَلْحَقَهُ نَسَبُ الْبَاقِي وَالْمَيِّتِ مَعًا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ تَوْأَمَيْنِ وَلَهُمَا ابْنٌ آخِرُ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ يَنْفِهِ فَمَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ] (4919) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ تَوْأَمَيْنِ، وَلَهُمَا ابْنٌ آخَرُ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ يَنْفِهِ، فَمَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ، فَمِيرَاثُ تَوْأَمِهِ مِنْهُ كَمِيرَاثِ الْآخَرِ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَرِثُهُ تَوْأَمُهُ مِيرَاثَ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَهُ الْآخَرُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا أَبٌ يَنْتَسِبَانِ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَا تَوْأَمَيْ الزَّانِيَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي تَوْأَمَيْ الزَّانِيَةِ، وَفَارَقَ هَذَا مَا إذَا اسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِاسْتِلْحَاقِهِ أَنَّهُ أَبُوهُ. [فَصْلٌ الْأُمّ عَصَبَة وَلَدهَا فِي الْمِيرَاث] (4920) فَصْلٌ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْأُمَّ عَصَبَةُ وَلَدِهَا، وَإِنَّ عَصَبَتهَا عَصَبَتُهُ. إنَّمَا هُوَ فِي الْمِيرَاثِ خَاصَّةً، كَقَوْلِنَا فِي الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، وَلَا غَيْرُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَرْجُومَةِ فِي وَلَدِهَا: هَذَا ابْنُكُمْ يَرِثُكُمْ وَلَا تَرِثُونَهُ، وَإِنْ جَنَى فَعَلَيْكُمْ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِبْرَاهِيمَ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ إنَّمَا يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، فَلَمْ يَعْقِلُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، كَمَا لَوْ عَلِمَ أَبُوهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّعْصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ التَّعْصِيبُ فِي الْعَقْلِ وَالتَّزْوِيجُ، بِدَلِيلِ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ. فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَخَلَّفَ أُمَّ مَوْلَاهُ، وَأَخَا مَوْلَاهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا الْإِرْثُ بِالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ التَّعْصِيبَ ثَابِتٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَلْ يَكُونُ لِلْأُمِّ أَوْ لِلْأَخِ؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُمَا مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرِثْنَ مِنْ الْوَلَاءِ، إلَّا مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، فَكَذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِهِنَّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَبْطُلُ بِالْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ، وَبِمِنْ عَصَّبَهُنَّ أَخُوهُنَّ مِنْ الْإِنَاثِ. [فَصْلٌ مِيرَاث ابْنِ ابْنِ الْمُلَاعَنَة] فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِ ابْنِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا خَلَّفَ أُمَّهُ وَأُمَّ أَبِيهِ، وَهِيَ الْمُلَاعَنَةُ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لَهَا بِالرَّدِّ. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ الْبَاقِي لِأُمِّ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةُ أَبِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيُعَابَا بِهَا فَيُقَالُ: جَدَّةٌ وَرِثَتْ مَعَ أُمٍّ أَكْبَرَ مِنْهَا. وَإِنْ خَلَّفَ جَدَّتَيْهِ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، السُّدُسُ بَيْنَهُمَا فَرْضًا، وَبَاقِي الْمَالِ لِأُمِّ أَبِيهِ. أُمُّ أُمٍّ وَخَالِ أَبٍ لِأُمٍّ؛ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَفِي الْبَاقِي قَوْلَانِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لَهَا بِالرَّدِّ. وَالثَّانِي، لِخَالِ الْأَبِ، وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ، الْكُلُّ لِلْجَدَّةِ. خَالٌ وَعَمٌّ وَخَالِ أَبٍ وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِلْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ أَبُو الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمٌّ فَلِأَبِي أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَبُوهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِخَالِ الْأَبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْخَالِ؛ لِأَنَّهُ ذُو رَحِمِهِ. بِنْتٌ وَعَمٌّ. لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ: الْكُلُّ لِلْبِنْتِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ الرَّدُّ عَلَى تَوْرِيثِ عَصَبَةِ أُمِّهِ. بِنْتٌ وَأُمٌّ وَخَالٍ، الْمَالُ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْأُمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ، بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، وَلَا شَيْءَ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةِ الْمُلَاعَنَةِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الْخَالِ خَالُ أَبٍ، كَانَ الْبَاقِي لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْمُلَاعَنَةِ. فَأَمَّا ابْنُ ابْنِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِذَا خَلَّفَ عَمَّهُ وَعَمِّ أَبِيهِ، فَالْمَالُ لِعَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَمُّ الْأَبِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ الْعَصَبَاتِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ أَقْرَبُهُمْ مِنْ الْمَيِّتِ، لَا مِنْ آبَائِهِ. وَإِنْ خَلَّفَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ، فَالسُّدُسُ بَيْنَهُنَّ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ. وَفِي الثَّانِيَةِ لِأُمِّ أَبِي أَبِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ خَلَّفَ أُمَّهُ، وَجَدَّتَهُ، وَجَدَّةَ أَبِيهِ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَلَا شَيْءَ لِجَدَّتِهِ، وَفِي الْبَاقِي رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُرَدُّ عَلَى الْأُمِّ. وَالثَّانِيَةُ؛ لِجَدَّةِ أَبِيهِ وَإِنْ خَلَّفَ خَالَهُ وَخَالِ أَبِيهِ وَخَالِ جَدِّهِ، فَالْمَالُ لِخَالِ جَدِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِخَالِهِ، وَلَا شَيْءَ لِخَالِ أَبِيهِ. فَأَمَّا وَلَدُ بِنْتِ الْمُلَاعَنَةِ، فَلَيْسَتْ الْمُلَاعَنَةُ عَصَبَةً لَهُمْ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ نَسَبًا مَعْرُوفًا مِنْ جِهَةِ أَبِيهِمْ، وَهُوَ زَوْجُ بِنْتِ الْمُلَاعَنَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَتْ بِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَخَلَّفَ أُمَّ مَوْلَاتِهِ، وَرِثَتْ مَالَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ لَبِنْتِهَا، وَالْبِنْتُ عَصَبَةٌ لِمَوْلَاهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ. [فَصْلٌ مِيرَاث وَلَدِ الزِّنَى] (4922) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الزِّنَى فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، كَالْحُكْمِ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْوَالِ، وَالِاخْتِلَافِ، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ قَالَ: عَصَبَةُ وَلَدِ الزِّنَى سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ لَيْسَتْ فِرَاشًا، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِانْقِطَاعِ نَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَبِيهِ، إلَّا أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ يَلْحَقُ الْمُلَاعِنَ إذَا اسْتَلْحَقَهُ، وَوَلَدُ الزِّنَى لَا يَلْحَقُ الزَّانِيَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ: يَلْحَقُ الْوَاطِئَ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَيَرِثُهُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: يَلْحَقُهُ إذَا جُلِدَ الْحَدَّ، أَوْ مَلَكَ الْمَوْطُوءَةَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يَلْحَقُهُ. وَذُكِرَ عَنْ عُرْوَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ نَحْوُهُ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَرَى بَأْسًا إذَا زِنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ حَمْلهَا، وَيَسْتُرَ عَلَيْهَا، وَالْوَلَدُ وَلَدٌ لَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشٍ رَجُلٍ، فَادَّعَاهُ آخَرُ. أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وُلِدَ عَلَى غَيْرِ فِرَاشٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ» . وَلِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ إذَا لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ، فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ بِحَالٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يُجْلَدْ الْحَدَّ عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَهُ. [مَسْأَلَةٌ الْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَلَا مَالَ لَهُ] (4923) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالْعَبْدُ لَا يَرِثُ، وَلَا مَالَ لَهُ، فَيُورَثُ عَنْهُ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ أَبًا مَمْلُوكًا، يُشْتَرَى مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ، فَيَرِثُ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ الْعَبْدَ يَرِثُ، وَيَكُونُ مَا وَرِثَهُ لِسَيِّدِهِ، كَكَسْبِهِ، وَكَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ، وَلِأَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، فَيَرِثُ كَالْحَمْلِ وَلَنَا، أَنَّ فِيهِ نَقْصًا مَنَعَ كَوْنَهُ مَوْرُوثًا، فَمَنَعَ كَوْنَهُ وَارِثًا، كَالْمُرْتَدِّ، وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لِمَوْلَاهُ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِمُخْتَلِفَيْ الدِّينِ. وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ رَقِيقٌ حِينَ مَوْتِ ابْنِهِ، فَلَمْ يَرِثْهُ، كَسَائِرِ الْأَقَارِبِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ صَارَ لِأَهْلِهِ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُورَثُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ فَيُورَثُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. فَمِلْكُهُ نَاقِصٌ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، يَزُولُ إلَى سَيِّدِهِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ رَقَبَتِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» وَلِأَنَّ السَّيِّدَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَمَاتِهِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَحْجُبُ: عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. [فَصْلٌ يَرِثُ الْأَسِيرُ الَّذِي مَعَ الْكُفَّارِ إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ] (4924) فَصْلٌ: وَيَرِثُ الْأَسِيرُ الَّذِي مَعَ الْكُفَّارِ إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ الْأَحْرَارَ بِالْقَهْرِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُرِّيَّتِهِ، فَيَرِثُ، كَالْمُطْلَقِ. [فَصْلٌ مِيرَاث الْمُدَبَّر وَأُمّ الْوَلَد] (4925) فَصْلٌ: وَالْمُدَبَّرُ، وَأَمُّ الْوَلَدِ، كَالْقِنِّ؛ لِأَنَّهُمْ رَقِيقٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ مُدَبَّرًا. وَأُمُّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ، يَجُوزُ لَسَيِّدِهَا وَطْؤُهَا، بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَتَزْوِيجُهَا وَإِجَارَتُهَا. وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمَةِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا، إلَّا فِيمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ فِيهَا أَوْ يُرَادُ لَهُ كَالرَّهْنِ. [فَصْلٌ الْمَكَاتِب إنْ لَمْ يَمْلِكْ قَدْرَ مَا عَلَيْهِ فَهُوَ عَبْدٌ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ] (4926) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ قَدْرَ مَا عَلَيْهِ فَهُوَ عَبْدٌ، لَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، وَإِنْ مَلَكَ قَدْرَ مَا يُؤَدِّي، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، لَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٍ، وَالزُّهْرِيِّ، نَحْوُهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ، فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَهُوَ عَبْدٌ» . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ: «مَنْ كَاتَبَ مُكَاتَبًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَقْضِيَ كِتَابَتَهُ» . وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كِتَابَتِهِ، وَعَجَزَ عَنْ الرُّبُعِ، عَتَقَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ إيفَاؤُهُ لِلْمُكَاتَبِ، فَلَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهُ عَلَى الرِّقِّ لِعَجْزِهِ عَمَّا يَجِبُ رَدُّهُ إلَيْهِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَقَدْ صَارَ حُرًّا، يَرِثُ، وَيُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ وَرِثَ، وَإِنْ مَاتَ فَلِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ كِتَابَتِهِ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . وَرَوَى الْحَكَمُ، عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٍ: يُعْطَى سَيِّدُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، كَانَ لِوَرَثَةِ الْمُكَاتَبِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ. وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمَنْصُورٌ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ أَحَقَّ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ. قَالَ فِي مُكَاتَبٍ هَلَكَ، وَلَهُ أَخٌ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَلَهُ ابْنٌ، قَالَ: مَا فَضَلَ مِنْ كِتَابَتِهِ لِأَخِيهِ دُونَ ابْنِهِ. وَجُعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَبْدًا مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ أَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ بَاقِيَ كِتَابَتِهِ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إنَّكُمْ مُكَاتِبُونَ مُكَاتَبِينَ، فَأَيُّهُمْ أَدَّى النِّصْفَ فَلَا رِقَّ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَهُوَ حُرٌّ. وَعَنْ عُرْوَةَ نَحْوُهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ، إذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَهُوَ غَرِيمٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٌ نَحْوُهُ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، إذَا أَدَّى ثُلُثًا أَوْ رُبُعًا فَهُوَ غَرِيمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، إذَا كَتَبَ الصَّحِيفَةَ فَهُوَ غَرِيمٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تَجْرِي الْعَتَاقَةُ فِي الْمُكَاتَبِ فِي أَوَّلِ نَجْمٍ. يَعْنِي يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَرِثُ، وَيَحْجُبُ، وَيَعْتِقُ مِنْهُ، بِقَدْرِ مَا أَدَّى. وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: إذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 حَدًّا أَوْ مِيرَاثًا، وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ «يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ، وَقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْدِ.» قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: وَكَانَ عَلِيٌّ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَقُولَانِ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ لِقَوْلِنَا أَصَحُّ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهَذَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ يَرِثُ وَيُورَثُ وَيَحْجُبُ عَلَى مِقْدَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ] (4927) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ يَرِثُ، وَيُورَثُ، وَيَحْجُبُ عَلَى مِقْدَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ إذَا كَسَبَ مَالًا، ثُمَّ مَاتَ وَخَلَّفَهُ، نُظِرَ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، مِثْلُ أَنْ كَانَ قَدْ هَيَّأَ سَيِّدَهُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ، فَاكْتَسَبَ فِي أَيَّامِهِ، أَوْ وَرِثَ شَيْئًا، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، أَوْ كَانَ قَدْ قَاسَمَ سَيِّدَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَتَرِكَتُهُ كُلُّهَا لِوَرَثَتِهِ، لَا حَقَّ لِمَالِكِ بَاقِيهِ فِيهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: جَمِيعُ مَا خَلَّفَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ إذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ كَسْبِهِ مَرَّةً، لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْبَاقِي، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَا كَسَبَهُ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاقْتَسَمَا كَسْبَهُ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ فِي حِصَّةِ، الْآخَرِ، وَالْعَبْدُ يَخْلُفُ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا عَتَقَ مِنْهُ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ خَاصَّةً، وَلَا اقْتَسَمَا كَسْبَهُ، فَلِمَالِكِ بَاقِيهِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهِ، وَالْبَاقِي، لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ مَاتَ مَنْ يَرِثُهُ، فَإِنَّهُ يَرِثُ، وَيُورَثُ، وَيَحْجُبُ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْعَبْدِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي الْقَدِيمِ. وَجَعَلَا مَالَهُ لِمَالِكِ بَاقِيهِ. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَالِكِ بَاقِيهِ عَلَى مَا عَتَقَ مِنْهُ مِلْكٌ، وَلَا وَلَاءٌ، وَلَا هُوَ ذُو رَحِمٍ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُحْتَمَلُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَدِيمِ، أَنْ يُجْعَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: مَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ لِوَرَثَتِهِ، وَلَا يَرِثُ هُوَ مِمَّنْ مَاتَ شَيْئًا. وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ كَالْحُرِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، فِي تَوْرِيثِهِ، وَالْإِرْثِ مِنْهُ، وَغَيْرِهِمَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، فَلَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ سِعَايَتُهُ، وَلَهُ نِصْفُ وَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ أَغْرَمَ الشَّرِيكَ، فَوَلَاؤُهُ كُلُّهُ لِلَّذِي أَعْتَقَ بَعْضَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الرَّمْلِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ: «يَرِثُ وَيُورَثُ عَلَى قَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» . وَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ بَعْضٍ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأُخَرُ مِثْلَهُ، وَقِيَاسًا لَأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخَرِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِنَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى غَيْرِهِ وَاضِحٌ. وَكَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِهِ أَنْ يُعْطَى مَنْ لَهُ فَرْضٌ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ فَرْضِهِ، وَإِنْ كَانَ عَصَبَةً نُظِرَ مَا لَهُ مَعَ الْحُرِّيَّةِ الْكَامِلَةِ، فَأُعْطِيَ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَا عَصَبَتَيْنِ لَا يَحْجُبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كَابْنَيْنِ نِصْفُهُمَا حُرٌّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُكَمَّلُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمَا، بِأَنْ تُضَمَّ الْحُرِّيَّةُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى مَا فِي الْآخَرِ مِنْهَا، فَإِنْ كَمَّلَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَرِثَا جَمِيعًا مِيرَاثَ ابْنٍ حُرٍّ؛ لِأَنَّ نِصْفَيْ شَيْءٍ شَيْءٌ كَامِلٌ، ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا وَرِثَاهُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَإِذَا كَانَ ثُلُثَا أَحَدِهِمَا حُرًّا، وَثُلُثُ الْآخِرِ حُرًّا كَانَ مَا وَرِثَاهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ نَقَصَ مَا فِيهِمَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ عَنْ حُرٍّ كَامِلٍ، وَرِثَا بِقَدْرِ مَا فِيهِمَا، وَإِنْ زَادَ عَلَى حُرٍّ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْجُزْءَانِ فِيهِمَا سَوَاءً، قُسِمَ مَا يَرِثَانِهِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا فِيهِ. قَالَ الْخَبْرِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، لَا تُكَمَّلُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَوْ كُمِّلَتْ لَمْ يَظْهَرْ لِلرِّقِّ أَثَرٌ، وَكَانَا فِي مِيرَاثِهِمَا كَالْحُرَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَحْجُبُ الْآخَرَ، فَقَدْ قِيلَ فِيهِمَا وَجْهَانِ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تُكَمَّلُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُكَمَّلُ بِمَا يُسْقِطُهُ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُنَافِيهِ وَوَرَّثَهُ بَعْضُهُمْ بِالْخِطَابِ، وَتَنْزِيلِ الْأَحْوَالِ، وَحَجَبَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ عَلَى مِثَالِ تَنْزِيلِ الْخَنَاثَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِمَعْنَاهُ. وَمَسَائِلُ ذَلِكَ؛ ابْنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ ابْنٌ آخَرُ نِصْفُهُ حُرٌّ فَلَهُمَا الْمَالُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْأُخَرِ، لَهُمَا نِصْفُهُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ، لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَلَوْ كَانَا رَقِيقَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَكْبَرُ وَحْدَهُ حُرًّا كَانَ لَهُ الْمَالُ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَصْغَرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَصْغَرُ وَحْدَهُ حُرًّا كَانَ لَهُ كَذَلِكَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ مَالٌ وَنِصْفٌ، فَلَهُ رُبُعُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ابْنٌ آخَرُ ثُلُثُهُ حُرٌّ، فَعَلَى الْوَجْهِ، الْأَوَّلِ، يَنْقَسِمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، كَمَا تُقَسَّمُ مَسْأَلَةُ الْمُبَاهَلَةِ، وَعَلَى الثَّانِي يُقَسَّمُ النِّصْفُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يُقَسَّمُ السُّدُسُ بَيْنَ صَاحِبَيْ النِّصْفَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَعَلَى تَنْزِيلِ الْأَحْوَالِ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ نِصْفُهُ حُرٌّ سُدُسُ الْمَالِ، وَثُمُنُهُ، وَلِمَنْ ثُلُثُهُ حُرٌّ ثُلُثَا ذَلِكَ، وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 تُسْعُ الْمَالِ، وَنِصْفُ سُدُسِهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ الْمَالَ فِي حَالٍ، وَنِصْفَهُ فِي حَالَيْنِ، وَثُلُثَهُ فِي حَالٍ، فَيَكُونُ لَهُ مَالَانِ وَثُلُثٌ، فِي ثَمَانِيَةِ أَحْوَالٍ، فَنُعْطِيهِ ثُمُنَ ذَلِكَ، وَهُوَ سُدُسٌ وَثُمُنٌ، وَيُعْطَى مِنْ ثُلُثِهِ حُرٌّ ثُلُثَيْهِ، وَهُوَ تُسْعٌ، وَنِصْفُ سُدُسٍ. ابْنٌ حُرٌّ، وَابْنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ. الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْبَاقِي لِلْحُرِّ، فَيَكُونُ لِلْحُرِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَلِلْآخَرِ الرُّبُعُ. وَلَوْ نَزَّلْتهمَا بِالْأَحْوَالِ أَفْضَى إلَى هَذَا؛ لِأَنَّ لِلْحُرِّ الْمَالَ فِي حَالٍ وَنِصْفَهُ فِي حَالٍ، فَلَهُ نِصْفُهُمَا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَلِلْآخِرِ نِصْفُهُ فِي حَالٍ، فَلَهُ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ الرُّبُعُ. وَلَوْ خَاطَبْتهمَا لَقُلْت لِلْحُرِّ: لَك الْمَالُ لَوْ كَانَ أَخُوكَ رَقِيقًا، وَنِصْفُهُ لَوْ كَانَ حُرًّا، فَقَدْ حَجَبَكَ بِحُرِّيَّتِهِ عَنْ النِّصْفِ، فَنِصْفُهَا يَحْجُبُك عَنْ الرُّبُعِ، يَبْقَى لَك ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ. وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: لَك النِّصْفُ لَوْ كُنْت حُرًّا، فَإِذَا كَانَ نِصْفُكَ حُرًّا، فَلَكَ نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ. ابْنٌ ثُلُثَاهُ حُرٌّ، وَابْنٌ ثُلُثُهُ حُرٌّ، عَلَى الْأَوَّلِ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَعَلَى الثَّانِي، الثُّلُث بَيْنَهُمَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثٌ فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ، وَلِلْآخَرِ السُّدُسُ، وَقِيلَ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَبِالْخِطَابِ تَقُولُ لِمَنْ ثُلُثَاهُ حُرٌّ: لَوْ كُنْت وَحْدَكَ حُرًّا، كَانَ الْمَالُ لَكَ، وَلَوْ كُنْتُمَا حُرَّيْنِ، كَانَ لَكَ النِّصْفُ، فَقَدْ حَجَبَك بِحُرِّيَّتِهِ عَنْ النِّصْفِ، فَبِثُلُثِهَا يَحْجُبُكَ عَنْ السُّدُسِ، يَبْقَى لَك خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ لَوْ كُنْت حُرًّا، فَلَكَ بِثُلْثَيْ حُرِّيَّتِهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعٍ وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: يَحْجُبُكَ أَخُوكَ بِثُلُثَيْ حُرِّيَّتِهِ، عَنْ ثُلُثَيْ النِّصْفِ، وَهُوَ الثُّلُثُ، يَبْقَى لَك الثُّلُثَانِ، فَلَكَ بِثُلُثِ حُرِّيَّتِهِمْ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ التُّسْعَانِ، وَيَبْقَى التُّسْعَانِ لِلْعَصَبَةِ إنْ كَانَ، أَوْ ذِي رَحِمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ. ابْنٌ حُرٌّ وَبِنْتٌ نِصْفُهَا حُرٌّ، لِلِابْنِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ، وَلِلْبِنْتِ سُدُسُهُ فِي الْخِطَابِ وَالتَّنْزِيلِ جَمِيعًا. وَمَنْ جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ أَفْضَى قَوْلُهُ إلَى أَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ، وَلَهَا الْخُمُسُ فَإِنْ كَانَتْ بِنْتٌ حُرَّةٌ وَابْنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ وَعَصَبَةٌ، فَلِلِابْنِ الثُّلُثُ، وَلَهَا رُبُعٌ وَسُدُسٌ. وَمِنْ جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ فِيهِمَا جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. ابْنٌ وَبِنْتٌ نِصْفُهُمَا حُرٌّ وَعَصَبَةٌ، فَمَنْ جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ، فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: النِّصْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَمِنْ وَرَّثَ بِالتَّنْزِيلِ وَالْأَحْوَالِ قَالَ: لِلِابْنِ الْمَالُ فِي حَالٍ، وَثُلُثَاهُ فِي حَالٍ، فَلَهُ رُبُعُ ذَلِكَ، رُبُعٌ وَسُدُسٌ، وَلِلْبِنْتِ نِصْفُ ذَلِكَ ثُمُنٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَإِنْ شِئْت قُلْت: إنْ قَدَّرْنَاهُمَا حُرَّيْنِ فَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ قَدَّرْنَا الْبِنْتَ وَحْدَهَا حُرَّةً فَهِيَ مِنْ اثْنَيْنِ، وَإِنْ قَدَّرْنَا الِابْنَ وَحْدَهُ حُرًّا فَالْمَالُ لَهُ، وَإِنْ قَدَّرْنَاهُمَا رَقِيقَيْنِ فَالْمَالُ لِلْعَصَبَةِ، فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ سِتَّةً، ثُمَّ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، فَلِلِابْنِ الْمَالُ فِي حَالٍ سِتَّةٌ، وَثُلُثَاهُ فِي حَالٍ أَرْبَعَةٌ، صَارَ لَهُ عَشْرَةٌ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ فِي حَالٍ، وَالثُّلُثُ فِي حَالٍ خَمْسَةٌ، وَلِلْعَصَبَةِ الْمَالُ فِي حَالٍ، وَنِصْفُهُ فِي حَالٍ تِسْعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ، جَعَلْت لِلْبِنْتِ فِي حَالِ حُرِّيَّتِهَا الْمَالَ كُلَّهُ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، فَيَكُونُ لَهَا مَالٌ وَثُلُثٌ، فَتَجْعَلُ لَهَا رُبُعَ ذَلِكَ، وَهُوَ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا امْرَأَةٌ وَأُمٌّ حُرَّتَانِ كَمُلَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمَا، فَحَجَبَا الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ، وَالْمَرْأَةَ إلَى الثُّمُنِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَحَجَبَ نِصْفَ الْحَجْبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا اُجْتُمِعَ الْحَجْبُ. وَمَنْ وَرَّثَ بِالْأَحْوَالِ وَالتَّنْزِيلِ، قَالَ: لِلْأُمِّ السُّدُسُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، وَالثُّلُثُ فِي حَالٍ، فَلَهَا رُبُعُ ذَلِكَ، وَهُوَ سُدُسٌ وَثُلُثٌ وَثَمَنٌ، وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. وَالرُّبُعُ فِي حَالٍ، فَلَهَا رُبُعُ ذَلِكَ، وَهُوَ الثُّمُنُ وَرُبُعُ الثُّمُنِ، وَلِلِابْنِ الْبَاقِي فِي حَالٍ، وَثُلُثَاهُ فِي حَالٍ، فَلَهُ رُبُعُهُ، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُ الْبَاقِي فِي حَالٍ، وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ، فَلَهَا رُبُعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَصَبَةٌ، فَلِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، مَكَانَ النِّصْفِ، وَلِلْأُمِّ سَبْعَةٌ مَكَانَ السُّدُسِ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ بِالْبَسْطِ مِنْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا، لِلْأُمِّ مِنْهَا سِتُّونَ، وَلِلْمَرْأَةِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَلِلِابْنِ خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ فِي الْحَجْبِ، أَنْ يَجْمَعَ الْحُرِّيَّةَ فِي التَّوْرِيثِ، فَيَجْعَلَ لَهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبَاقِي. وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: لَهُمَا سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ لَكَانَ لَهُمَا سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَيَكُونُ لَهُمَا بِنِصْفِ حُرِّيَّتِهِمْ نِصْفُ ذَلِكَ. وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ حَجْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِنِصْفِ حُرِّيَّتِهِ، كَحَجْبِهِ إيَّاهُ بِجَمِيعِهَا، وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَكَانَ لَهُمْ حَالَ انْفِرَادِهِمَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ابْنٌ وَأَبَوَانِ، نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرٌّ، إنْ قَدَّرْنَاهُمْ أَحْرَارًا، فَلِلِابْنِ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ قَدَّرْنَاهُ حُرًّا وَحْدَهُ، فَلَهُ الْمَالُ، وَإِنْ قَدَّرْنَا مَعَهُ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ حُرًّا فَلَهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، فَتَجْمَعُ ذَلِكَ تَجِدُهُ ثَلَاثَةَ أَمْوَالٍ وَثُلُثَانِ، فَلَهُ ثُمُنُهَا، وَهُوَ رُبُعٌ سُدُسٍ، وَلِلْأَبِ الْمَالُ فِي حَالٍ، وَثُلُثَاهُ فِي حَالٍ، وَسُدُسَاهُ فِي حَالَيْنِ، فَلَهُ ثُمُنُ ذَلِكَ رُبُعٌ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ فِي حَالَيْنِ، وَالسُّدُسُ فِي حَالَيْنِ، فَلَهَا الثُّمُنُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. وَإِنْ عَمِلْتهَا بِالْبَسْطِ قُلْت: إنْ قَدَّرْنَاهُمْ أَحْرَارًا، فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ. وَإِنْ قَدَّرْنَا الِابْنَ وَحْدَهُ حُرًّا، فَهِيَ مِنْ سَهْمٍ، فَكَذَلِكَ الْأَبُ، وَإِنْ قَدَّرْنَا الْأُمَّ وَحْدَهَا حُرَّةً، أَوْ قَدَّرْنَاهَا مَعَ حُرِّيَّةِ الْأَبِ، فَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ قَدَّرْنَا الِابْنَ مَعَ الْأَبِ، أَوْ مَعَ الْأُمِّ فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَإِنْ قَدَّرْنَاهُمْ رَقِيقًا، فَالْمَالُ لِلْعَصَبَةِ، وَجَمِيعُ الْمَسَائِلِ تَدْخُلُ فِي سِتَّةٍ، فَتَضْرِبُهَا فِي الْأَحْوَالِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَلِلِابْنِ الْمَالُ فِي حَالٍ سِتَّةٌ، وَثُلُثَاهُ فِي حَالٍ أَرْبَعَةٌ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ فِي حَالَيْنِ عَشَرَةٌ، فَذَلِكَ عِشْرُونَ سَهْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَلِلْأَبِ الْمَالُ فِي حَالٍ سِتَّةٌ، وَثُلُثَاهُ فِي حَالٍ، وَسُدُسَاهُ فِي حَالَيْنِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشْرَ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ فِي حَالَيْنِ ، وَالسُّدُسُ فِي حَالَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ، وَهِيَ الثُّمُنُ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرًّا، زِدْت عَلَى السِّتَّةِ نِصْفَهَا، تَصِيرُ تِسْعَةً، وَتَضْرِبُهَا فِي الثَّمَانِيَةِ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَلِلِابْنِ عِشْرُونَ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَهِيَ السُّدُسُ وَالتُّسْعُ، وَلِلْأَبِ اثْنَا عَشْرَ، وَهِيَ السُّدُسُ، وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ، وَهِيَ نِصْفُ السُّدُسِ، وَلَا تَتَغَيَّرُ سِهَامُهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَتْ مَنْسُوبَةً إلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَإِنْ كَانَ رُبُعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرًّا، زِدْت عَلَى السِّتَّةِ مِثْلَهَا. وَقِيلَ فِيمَا إذَا كَانَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 مِنْهُمْ حُرًّا: لِلْأُمِّ الثُّمُنُ، وَلِلْأَبِ الرُّبُعُ، وَلِلِابْنِ النِّصْفُ. ابْنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ وَأُمٌّ حُرَّةٌ، لِلْأُمِّ الرُّبُعُ، وَلِلِابْنِ النِّصْفُ وَقِيلَ: لَهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، وَهُوَ نِصْفُ مَا يَبْقَى، فَإِنْ كَانَ بَدَلُ الْأُمِّ أُخْتًا حُرَّةً، فَلَهَا النِّصْفُ. وَقِيلَ: لَهَا نِصْفُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَحْجُبُهَا بِنِصْفِهِ عَنْ نِصْفِ فَرْضِهَا، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهَا حُرًّا، فَلَهَا الثُّمُنُ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ، لَهَا الرُّبُعُ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الِابْنِ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، أَوْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ السُّدُسِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَصَبَةٌ حُرٌّ، فَلَهُ الْبَاقِي كُلُّهُ. [فَصْلٌ ابْنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ وَابْنُ ابْنٍ حُرٌّ] ٌّ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إلَّا الثَّوْرَيَّ. قَالَ: لِابْنِ الِابْنِ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِنِصْفِ الِابْنِ عَنْ الرُّبُعُ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الثَّانِي حُرًّا، فَلَهُ الرُّبُعُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ابْنُ ابْنِ ابْنٍ نِصْفُهُ حُرٌّ، فَلَهُ الثُّمُنُ. وَقِيلَ: لِلْأَعْلَى النِّصْفُ، وَلِلثَّانِي النِّصْفُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِمَا حُرِّيَّةَ ابْنٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا شَيْءَ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِمَا الْحُرِّيَّةُ مَحْجُوبٌ بِحُرِّيَّةِ الِابْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَخٌ حُرٌّ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُصُبَاتِ، فَلَهُ الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَلَهُ نِصْفُ مَا بَقِيَ، إلَّا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ. ابْنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَابْنُ ابْنٍ ثُلُثُهُ حُرٌّ، وَأَخٌ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ حُرٌّ؛ لِلْأَعْلَى النِّصْفُ، وَلِلثَّانِي ثُلُثُ الْبَاقِي، وَهُوَ السُّدُسُ، وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبَاقِي، وَهُوَ الرُّبُعُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لِلِابْنِ النِّصْفُ، وَلِابْنِ الِابْنِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ. ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ حُرٌّ؛ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُ السُّدُسِ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ أَحَدَ عَشَرَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُ السُّدُسِ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ مَا بَقِيَ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ بِنْتٌ حُرَّةٌ، فَلَهَا النِّصْفُ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الرُّبُعُ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ الثُّمُنُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، الْبَاقِي لِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْبِنْتِ، حُرًّا، فَلَهَا الرُّبُعُ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ رُبُعُ السُّدُسِ، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ نِصْفُ الْبَاقِي. [فَصْلٌ بِنْت نِصْفهَا حُرّ] (4929) فَصْلٌ: بِنْتٌ نِصْفُهَا حُرٌّ، لَهَا الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَلَهَا النِّصْفُ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، وَالْبَاقِي لِذَوِي الرَّحِمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِبَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا أُمٌّ حُرَّةٌ، فَلَهَا الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ الْحُرَّةَ تَحْجُبُهَا عَنْ السُّدُسِ، فَنِصْفُهَا يَحْجُبُهَا عَنْ نِصْفِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ، فَلَهَا الثُّمُنُ، وَنِصْفُ الثُّمُنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 أَخٌ مِنْ أُمٍّ، فَلَهُ نِصْفُ السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا بِنْتُ ابْنٍ، فَلَهَا الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا أَمَةً، لَكَانَ لِبِنْتِ الِابْنِ النِّصْفُ، وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً، لَكَانَ لَهَا السُّدُسُ، فَقَدْ حَجَبَتْهَا حُرِّيَّتُهَا عَنْ الثُّلُثِ، فَنِصْفُهَا يَحْجُبُهَا عَنْ السُّدُسِ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا إذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَلَهُ نِصْفُ مَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُهُ حُرًّا، فَلَهُ ثُلُثُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا بِنْتٌ أُخْرَى حُرَّةٌ، فَلَهَا رُبُعُ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ عِنْدَ مِنْ جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ لَهُمَا بِحُرِّيَّةٍ نِصْفًا، وَبِنِصْفِ حُرِّيَّةٍ نِصْفَ كَمَالِ الثُّلُثَيْنِ. وَفِي الْخِطَابِ وَالتَّنْزِيلِ لِلْحُرَّةِ رُبُعٌ وَسُدُسٌ، وَلِلْأُخْرَى سُدُسٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ إحْدَاهُمَا يَحْجُبُ الْحُرَّةَ عَنْ نِصْفِ السُّدُسِ فَيَبْقَى لَهَا رُبُعٌ وَسُدُسٌ، وَالْحُرَّةُ تَحْجُبُهَا عَنْ سُدُسٍ كَامِلٍ، فَيَبْقَى لَهَا سُدُسٌ فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُمَا رَقِيقًا، وَمَعَهُمَا عَصَبَةٌ، فَلَهُمَا رُبُعُ الْمَالِ وَسُدُسُهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَتَا حُرَّتَيْنِ كَانَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَتْ الْكُبْرَى وَحْدَهَا حُرَّةً كَانَ لَهَا النِّصْفُ، وَكَذَلِكَ الصُّغْرَى، وَلَوْ كَانَتَا أَمَتَيْنِ كَانَ الْمَالُ لِلْعَصَبَةِ، فَقَدْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ وَثُلُثَانِ، فَلَهُمَا رُبُعُ ذَلِكَ، وَهُوَ رُبُعٌ وَسُدُسٌ، وَطَرِيقُهَا بِالْبَسْطِ أَنْ تَقُولَ: وَلَوْ كَانَتَا حُرَّتَيْنِ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْكُبْرَى وَحْدَهَا حُرَّةً، فَهِيَ مِنْ اثْنَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الصُّغْرَى وَحْدَهَا حُرَّةً وَإِنْ كَانَتَا أَمَتَيْنِ، فَهِيَ مِنْ سَهْمٍ، فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ سِتَّةً، ثُمَّ فِي الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِلْكُبْرَى نِصْفُ الْمَالِ فِي حَالٍ ثَلَاثَةٌ، وَثُلُثُهُ فِي حَالٍ سَهْمَانِ، صَارَ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلِلْأُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْعَصَبَةِ الْمَالُ فِي حَالٍ، وَالنِّصْفُ فِي حَالَيْنِ، وَالثُّلُث فِي حَالٍ، ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَمَنْ جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ فِيهِمَا جَعَلَ لَهُمَا النِّصْفَ وَالْبَاقِيَ لِلْعَصَبَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ نَزَّلْتهمَا عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ اثْنَيْنِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرٌّ، عَلَى مَا قُلْنَاهُ. ثَلَاثُ بَنَاتِ ابْنٍ مُتَنَازِلَاتٌ، نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ حُرٌّ وَعَصَبَةٌ، لِلْأُولَى الرُّبُعُ، وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً كَانَ لَهَا الثُّلُثُ، وَلِلثَّالِثَةِ نِصْفُ السُّدُسِ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّك تَقُولُ لِلسُّفْلَى: لَوْ كَانَتَا أَمَتَيْنِ كَانَ لَك النِّصْفُ، وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً كَانَ لَك السُّدُسُ، فَبَيْنَهُمَا ثُلُثٌ، فَتَحْجُبُك الْعَلْيَاءُ عَنْ رُبُعٍ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ نِصْفِ سُدُسٍ، فَيَبْقَى لَك سُدُسٌ لَوْ كُنْت حُرَّةً، فَإِذَا كَانَ نِصْفُك حُرًّا، كَانَ لَك نِصْفُهُ وَفِي التَّنْزِيلِ، لِلثَّالِثَةِ نِصْفُ الثُّمُنُ وَثُلُثُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا لَوْ نَزَّلْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ حُرَّةٍ وَحْدَهَا، كَانَ لَهَا النِّصْفُ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ مِنْ ابْنَيْنِ اثْنَيْنِ. وَلَوْ كُنَّ إمَاءً كَانَ الْمَالُ لِلْعَصَبَةِ. وَلَوْ كُنَّ أَحْرَارًا كَانَ لِلْأُولَى النِّصْفُ، وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ، وَالثُّلُثُ لِلْعَصَبَةِ. وَلَوْ كَانَتْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ حُرَّتَيْنِ، فَكَذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ حُرَّتَيْنِ، فَلِلثَّانِيَةِ النِّصْفُ، وَلِلثَّالِثَةِ السُّدُسُ، وَالثُّلُثُ لِلْعَصَبَةِ فَهَذَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، مِنْ سِتَّةٍ سِتَّةٌ، وَالْمَسَائِلُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِيهَا، فَتَضْرِبُهَا فِي ثَمَانِيَةِ أَحْوَالٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، لِلْعُلْيَا النِّصْفُ، فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، اثْنَا عَشَرَ، وَهِيَ الرُّبُعُ، وَلِلثَّانِيَةِ النِّصْفُ فِي حَالَيْنِ، السُّدُسُ فِي حَالَيْنِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ السُّدُسُ، وَلِلثَّالِثَةِ النِّصْفُ فِي حَالٍ، وَالسُّدُسُ فِي حَالَيْنِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَهِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 نِصْفُ الثُّمُنِ، وَثُلُثُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: تُجْمَعُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِنَّ، فَيَكُونُ فِيهِنَّ حُرِّيَّةٌ وَنِصْفٌ، لَهُنَّ بِهَا ثُلُثٌ وَرُبُعٌ لِلْأُولَى، وَلِلثَّانِيَةِ رُبُعَانِ، وَلِلثَّالِثَةِ نِصْفُ سُدُسٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَابِعَةٌ كَانَ لَهَا نِصْفُ سُدُسٍ آخَرُ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ حُرٌّ وَأُمٌّ حُرَّةٌ وَعَمٌّ، لِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبَوَيْنِ الرُّبُعُ، وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ السُّدُسُ، وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ نِصْفُ السُّدُسِ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ إلَّا بِاثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَمْ تَكْمُلْ الْحُرِّيَّةُ فِي اثْنَتَيْنِ، وَلِلْعَمِّ مَا بَقِيَ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أُخْتٌ حُرَّةٌ وَأُخْرَى نِصْفُهَا حُرٌّ وَأُمٌّ حِرَةٌ، فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الْخَبْرِيُّ: لِلْأُمِّ الرُّبُعُ، وَحَجْبُهَا بِالْجُزْءِ، كَمَا تُحْجَبُ بِنِصْفِ الْبِنْتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْبَ بِالْوَلَدِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْوَلَدِ وَالْجُزْءِ مِنْ الْوَلَدِ، وَفِي الْإِخْوَةِ مُقَدَّرٌ بِاثْنَيْنِ، فَلَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تُحْجَبْ بِالْوَاحِدِ عَنْ شَيْءٍ أَصْلًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْن اللَّبَّانِ. وَحَكَى الْقَوْلَ الْأَوَّلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ: هَذَا غَلَطٌ. وَفِي الْبَابِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، وَفُرُوعٌ قَلَّ مَا تَتَّفِقُ، وَقَلَّ مَا تَجِيءُ مَسْأَلَةٌ إلَّا وَيُمْكِنُ عَمَلُهَا بِقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ] (4930) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ، وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، فَلَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ، فَلَهَا خُمُسُ مَا فِي يَدِهِ) قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْإِقْرَارِ مَنْ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ، وَمَنْ لَا يَثْبُتُ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا مَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ بِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ، إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، فَنَقُولُ، إذَا أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ لِمُشَارِكٍ فِي الْمِيرَاثِ، فَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، لَزِمَ الْمُقِرَّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فَضْلَ مَا فِي يَدِهِ عَنْ مِيرَاثِهِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَشَرِيكٍ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَوَكِيعٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: يُقَاسِمُهُ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي مِيرَاثِ أَبِينَا، وَكَأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ تَلِفَ، أَوْ أَخَذَتْهُ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَيَسْتَوِي فِيمَا بَقِيَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَدَاوُد: لَا يَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ دَفْعُ شَيْءٍ إلَيْهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مَنْ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ. وَعَلَى قَوْلِ الَّذِي يَلْزَمُهُ دَفْعُ شَيْءٍ إلَيْهِ، فَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَلَنَا، عَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِمُدَّعِيهِ، يُمْكِنُ صِدْقُهُ فِيهِ، وَيَدُ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمُعَيَّنٍ، وَلِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا أَخُوهُ، وَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ. وَيَتَعَيَّنُ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا، وَفِي يَدِهِ بَعْضُهُ وَصَاحِبُهُ يَطْلُبهُ، لَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ مَنْعُهُ مِنْهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 وَعَدَمُ ثُبُوتِ نَسَبِهِ فِي الظَّاهِرِ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ دَفْعِهِ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ شَيْئًا، وَلَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ بِغَصْبِهِ. وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْفَاضِلِ عَنْ مِيرَاثِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمُحَلٍّ مُشْتَرَكٍ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْعَبْدِ بِجِنَايَةٍ، فَعَلَى هَذَا، إذَا خَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، فَلِلْمُقَرِّ لَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ سُدُسُ الْمَالِ. لِأَنَّهُ يَقُولُ: نَحْنُ ثَلَاثَةٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا الثُّلُثُ، وَفِي يَدِي النِّصْفُ، فَفَضَلَ فِي يَدِي لَك السُّدُسُ، فَيَدْفَعُهُ إلَيْهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ الرُّبُعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ دَفَعَ إلَيْهَا خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: نَحْنُ أَخَوَانِ وَأُخْتٌ، فَلَكَ الْخُمُسُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ خُمُسُ مَا فِي يَدِي، وَخُمُسُ مَا فِي يَدِ أَخِي. فَيَدْفَعُ إلَيْهَا خَمْسَ مَا فِي يَدِهِ، وَفِي قَوْلِهِمْ يَدْفَعُ إلَيْهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَيِّتُ لِيَثْبُت نَسَبُهُ مِنْهُ] (4931) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَيِّتُ لِيَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، ثَبَتَ نَسَبَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا، أَوْ جَمَاعَةً. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يَثْبُت النَّسَبُ إلَّا بِإِقْرَارِ ابْنَيْنِ ذَكَرَيْنِ كَانَا أَوْ أُنْثَيَيْنِ، عَدْلَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ. وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَى ابْنُ اللَّبَّانِ، قَالَ أَشْعَثُ بْنُ سُوَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَأُخْتُهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعَهُمَا صَبِيٌّ، فَقَالَا: هَذَا أَخُونَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُلْحِقُ بِأَبِيكُمَا مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَمْعَةَ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ وَلِيدَةِ أَبِيهِ، وَقَالَ: هَذَا أَخِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي. فَقَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ، وَأَثْبُتَ النَّسَبَ بِهِ وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِاعْتِرَافِهِ مَا يَثْبُتُ بِاعْتِرَافِ الْمَوْرُوثِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَغَيْرِهِ، كَذَا النَّسَبُ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمَوْرُوثَ فِي حُقُوقِهِ، وَهَذَا مِنْهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ دَفْعِ مِيرَاثِهِ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ يُسْقِطُ الْمُقِرَّ، كَأَخٍ يُقِرُّ بِابْنٍ، أَوْ ابْنِ ابْنٍ، أَوْ أَخٍ مِنْ أَبٍ يُقِرُّ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ أَثْبَتِ النَّسَبَ، وَلَمْ يُوَرِّثْهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إقْرَارًا مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ، فَثُبُوتُ مِيرَاثِهِ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ مِنْ كُلِّ الْوَرَثَةِ، يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ بِمَنْ يَرِثُ، لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَرِثَ، كَمَا لَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ، وَلِأَنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، لَمْ يَمْنَعْ إرْثَهُ مَانِعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا حَالَةَ الْإِقْرَارِ، أَوْ بِكَوْنِهِ وَارِثًا لَوْلَا الْإِقْرَارُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ الْحَالُ الثَّانِي، لَمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 يَثْبُتْ النَّسَبُ، إذَا أَقَرَّ بِمُشَارِكٍ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا ثَبَتَ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ أَيْضًا مُقِرٌّ بِنَفْسِهِ مُدَّعٍ لِنَسَبِهِ. قُلْنَا: هَاهُنَا مِثْلُهُ، فَاسْتَوَيَا. [فَصْلٌ خَلَف ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ] (4932) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا، فَأَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ، دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ. فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدُ بِآخَرَ، فَاتَّفَقَا عَلَيْهِ، دَفَعَا إلَيْهِ ثُلُثَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا. فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ ثَانِيًا الْمُقَرَّ بِهِ الْأَوَّلَ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَثَلٌ لِلْعَامَّةِ، تَقُولُ: أَدْخِلْنِي أُخْرِجْك. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَلْزَمُ الْمُقِرَّ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفْهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ نَسَبُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ كُلُّ الْوَرَثَةِ حَالَ الْإِقْرَارِ. فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ الْمُقِرُّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ الْفَضْلُ الَّذِي فِي يَدِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَفْعُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ بِدَفْعِ النِّصْفِ إلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ يُقِرُّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الثُّلُثَ وَسَوَاءٌ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، أَوْ بِغَيْرِ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عِلَّةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَالِ عِنْدَ إقْرَارِهِ الْأَوَّلِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ وَاحِدٌ فِي ضَمَانِ مَا يُتْلَفُ. وَحَكَى نَحْوُ هَذَا عَنْ شَرِيكٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِالثَّانِي حِينَ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ لَا يُقْبَلُ، ضَمِنَ؛ لِتَفْوِيتِهِ حَقَّ غَيْرِهِ بِتَفْرِيطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِالْأَوَّلِ إذَا عَلِمَهُ، وَلَا يَحُوجُهُ إلَى حَاكِمٍ، وَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلَيْسَ بِخَائِنٍ، فَلَا يَضْمَنُ. وَقِيلَ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الدَّفْعُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، دَفَعَ إلَى الثَّانِي نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ كَالْأَخْذِ مِنْهُ كَرْهًا، وَإِنْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ حَاكِمٍ، دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ مَا لَيْسَ لَهُ تَبَرُّعًا. وَلَنَا عَلَى الْأَوَّلِ، أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْإِمَامُ يَدَ السَّارِقِ، فَسَرَى إلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَهُمَا بِثَالِثٍ، فَصَدَّقَاهُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَأَخَذَ رُبُعَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إذَا كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُ الْمَالِ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَأَخَذَ رُبُعَ مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَفِي ضَمَانِهِ لَهُ مَا زَادَ التَّفْصِيلُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَعَلَى مِثْلِ قَوْلِنَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. [فَصْلٌ مَعْرِفَة الْفَضْل فِي الْمِيرَاث] (4933) فَصْلٌ: وَمَتَى أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْفَضْلِ، فَاضْرِبْ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ تَضْرِبُ مَا لِلْمُقِرِّ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ، إذَا كَانَتَا مُتَبَايِنَتَيْنِ، وَتَضْرِبُ مَا لِلْمُنْكِرِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ فِي مَسْأَلَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 الْإِقْرَارِ، فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْفَضْلُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ فَضْلٌ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، كَثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، أَقَرَّ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ بِأَخٍ أَوْ أُخْتٍ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أُمٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إنْ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أُمٍّ، فَلَهُ نِصْفُ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَلِلْمُقَرِّ بِهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَأَقَرَّتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ بِأَخٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَصَبَةٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَصَبَةٌ، فَلَهُ سُدُسُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِنْكَارِ مِنْ خَمْسَةٍ، وَالْإِقْرَارِ مِنْ سِتَّةٍ إذَا ضَرَبْت إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، كَانَتْ ثَلَاثِينَ، لَهَا سَهْمٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ، فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ، سِتَّةٌ، وَلَهَا فِي الْإِقْرَارِ خَمْسَةٌ، يَفْضُلُ فِي يَدِهَا سَهْمٌ، فَهُوَ لِلْأَخِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ وَإِنْ أَقَرَّتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ بِأَخٍ لَهَا، صَحَّتْ مِنْ تِسْعِينَ، لَهَا عَشَرَةٌ، وَيَفْضُلُ لِأَخِيهَا ثَمَانِيَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، دَفَعَتْ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهَا. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِأَخٍ مِنْ أُمٍّ أَوْ بِأُمٍّ لِلْمَيِّتِ، أَوْ جَدَّةٍ، أَوْ بِعَصَبَةٍ، فَلَهُ سُدُسُ مَا فِي يَدِهَا. وَإِنْ خَلَّفَ أَرْبَعَ أَخَوَاتٍ مِنْ أَبٍ وَعَمًّا، فَأَقَرَّ الْأَخَوَاتُ بِأَخٍ لَهُنًّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ أَقْرَرْنَ بِأُخْتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، دَفَعْنَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَا فِي أَيْدِيهِنَّ. وَإِنْ أَقْرَرْنَ بِأُخْتٍ مِنْ أَبٍ، فَلَهَا خُمُسُ مَا فِي أَيْدِيهِنَّ، وَأَيَّتُهُنَّ أَقَرَّتْ وَحْدَهَا، دَفَعَتْ إلَيْهَا مِمَّا فِي يَدِهَا بِقَدْرِ ذَلِكَ وَإِنْ أَقَرَّتْ إحْدَاهُنَّ بِأَخٍ وَأُخْتٍ، فَمَسْأَلَةُ الْإِقْرَارِ مِنْ سَبْعَةٍ، وَالْإِنْكَارِ مِنْ سِتَّةٍ، تَضْرِبُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، لَهَا سَهْمٌ فِي سِتَّةٍ، وَفِي يَدِهَا سَبْعَةٌ، يَفْضُلُ فِي يَدِهَا سَهْمٌ لَهُمَا. وَإِنْ أَقَرَّ الْأَرْبَعُ بِهِمَا فَضَلَ لَهُمَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِمَا يَتَصَادَقَانِ، اقْتَسَمَاهَا بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، فَإِنْ تَجَاحَدَا، فَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَيَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ لِلْأُخْتِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي خُمُسَ الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ جَحَدَتْهُ، وَلَمْ يَجْحَدْهَا، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى جَحْدِهَا، لِإِقْرَارِ الْأَخَوَاتِ الْمَعْرُوفَاتِ، وَإِنْ جَحَدَهَا، وَلَمْ تَجْحَدْهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ لَهَا، لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الثُّلُثَيْنِ، وَكَوْنُهَا تَدَّعِي مِنْ الثُّلُثَيْنِ مِثْلَ هَذِهِ الْفَضْلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، لِإِقْرَارِهَا بِهَا لِلْأَخِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ أَقَرَّ الْعَمُّ بِأُخْتٍ، أَوْ أَخَوَاتٍ مِنْ، أَبٍ، أَوْ أَبَوَيْنِ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ وَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ، أَوْ أُخْتٍ مِنْ أُمٍّ، أَوْ بِأُمٍّ، أَوْ جَدَّةٍ، فَلِلْمُقَرِّ لَهُ السُّدُسُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَبٍ، أَوْ بِابْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، فَلَهُمْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ خَلَّفَ أُمًّا، أَوْ أَخًا مِنْ أَبَوَيْنِ، فَأَقَرَّتْ الْأُمُّ بِأَخٍ مِنْ، أُمٍّ، أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَلَهُ السُّدُسُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا فِي يَدِهَا وَإِنْ أَقَرَّتْ بِأَخٍ مِنْ أَبٍ، فَصَدَّقَهَا الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَلَهُ السُّدُسُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا فِي يَدِهَا، وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهَا، فَقَدْ أَقَرَّتْ لَهُ بِمَا لَا يَدَّعِيهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقِرَّ فِي يَدِهَا، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مُسْتَحِقٌّ وَلَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ. فَإِنْ أَقَرَّ الْأَخُ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 أَثْمَانِ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لَهُ مِنْهَا خَمْسَةٌ، وَفِي يَدِهِ ثَمَانِيَةٌ، فَالْفَاضِلُ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةٌ. [فَصْلٌ خَلَّفَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ الْأَكْبَرُ بِأَخَوَيْنِ فَصَدَّقَهُ الْأَصْغَرُ فِي أَحَدِهِمَا] (4934) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَأَقَرَّ الْأَكْبَرُ بِأَخَوَيْنِ، فَصَدَّقَهُ الْأَصْغَرُ فِي أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَصَارُوا ثَلَاثَةً، فَمَسْأَلَةُ الْإِقْرَارِ إذًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمَسْأَلَةُ الْإِنْكَارِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَتَضْرِبُ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ، تَكُنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلْأَصْغَرِ سَهْمٌ، مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ، أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأَكْبَرِ سَهْمٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ، ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ بِصَاحِبِهِ مِثْلُ سَهْمِ الْأَكْبَرِ، وَإِنْ أَنْكَرَ مِثْلُ سَهْمِ الْأَصْغَرِ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ إنْ صَدَّقَ بِصَاحِبِهِ. لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُنْكِرِ إلَّا رُبُعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ، وَيَأْخُذُ هُوَ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ الْأَكْبَرِ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ، فَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِلْمُنْكِرِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، وَلِلْمُقِرِّ سَهْمَانِ، وَلِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ سَهْمَانِ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ. وَذَكَرَ ابْنُ اللَّبَّانِ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يُقِرُّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الثُّلُثَ، وَقَدْ حَضَرَ مَنْ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ. فَوَجَبَ دَفْعُهَا إلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: إنَّمَا هِيَ لِهَذَا الْمُدَّعِي. فَإِنَّهَا تُدْفَعُ إلَيْهِ. وَقَدْ رَدَّ الْخَبْرِيُّ عَلَى ابْنِ اللَّبَّانِ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ: عَلَى هَذَا يَبْقَى مَعَ الْمُنْكِرِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، وَهُوَ لَا يَدَّعِي إلَّا الثُّلُثَ، وَقَدْ حَضَرَ مَنْ يَدَّعِي هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهَا، فَيَجِبُ دَفْعُهَا إلَيْهِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنْ يَضُمَّ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ السُّدُسَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِ، فَيَضُمُّهُ إلَى النِّصْفِ الَّذِي بِيَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا، فَيَقْسِمَانِهِ أَثْلَاثًا، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ؛ لِلْمُنْكِرِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ سَهْمَانِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَصَادَقَا، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُلْزِمْ الْمُقِرَّ أَكْثَرَ مِنْ الْفَضْلِ عَنْ مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِمَا، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، لَا يَنْقُصُ مِيرَاثُهُ عَنْ الرُّبُعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إلَّا التُّسْعَانِ. وَقِيلَ: يَدْفَعُ الْأَكْبَرُ إلَيْهِمَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَصْغَرِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، فَيَحْصُلُ لِلْأَصْغَرِ الثُّلُثُ، وَلِلْأَكْبَرِ الرُّبُعُ، وَلِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ السُّدُسُ وَالثُّمُنُ، وَلِلْمُخْتَلَفِ فِيهِ الثُّمُنُ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلْأَصْغَرِ، ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ سَبْعَةٌ، وَلِلْأَكْبَرِ سِتَّةٌ، وَلِلْمُخْتَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةٌ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ سِوَى هَذَا. [فَصْلٌ خَلَّفَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَتَصَادَقَا] (4935) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ ابْنًا، فَأَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ دَفْعَةً، وَاحِدَةً فَتَصَادَقَا، ثَبَتَ نَسَبُهُمَا. وَإِنْ تَجَاحَدَا فَكَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ كُلُّ الْوَرَثَةِ قَبْلَهُمَا. وَفِي الْآخَرِ، لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ كُلِّ الْوَرَثَةِ، وَيَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 بِصَاحِبِهِ، وَجَحَدَهُ الْآخَرُ، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَفِي الْأُخَرِ وَجْهَانِ. وَيَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِأَخٍ وَأُخْتٍ فَصَدَّقَهُ أَحَدُ أَخَوَيْهِ فِي الْأَخِ وَالْآخَرُ فِي الْأُخْتِ] (4936) فَصْلٌ: وَلَوْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِأَخٍ، وَأُخْتٍ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُ أَخَوَيْهِ فِي الْأَخِ، وَالْآخَرُ فِي الْأُخْتِ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُمَا، وَيَدْفَعُ الْمُقَرُّ بِهِمَا إلَيْهِمَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ. وَيَدْفَعُ الْمُقِرُّ بِالْأَخِ إلَيْهِ رُبُعَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَدْفَعُ الْمُقِرُّ بِالْأُخْتِ إلَيْهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ؛ سَهْمُ الْمُقِرِّ يُقْسَمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ، فَلَهُ سِتَّةٌ، وَلَهُمَا ثَلَاثَةٌ، وَسَهْمُ الْمُقِرِّ بِالْأَخِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ، لَهُ ثَلَاثَةٌ وَلِأَخِيهِ سَهْمٌ وَسَهْمُ الْمُقِرِّ بِالْأُخْتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، لَهُ سِتَّةٌ، وَلَهَا سَهْمٌ، وَكُلُّهَا مُتَبَايِنَةٌ فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي سَبْعَةٍ، فِي تِسْعَةٍ، فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، تَكُنْ سَبْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ؛ لِلْمُقَرِّ بِهِمَا سِتَّةٌ، فِي أَرْبَعَةٍ، فِي سَبْعَةٍ، مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، وَسِتُّونَ، وَلِلْمُقِرِّ بِالْأُخْتِ سِتَّةٌ، فِي أَرْبَعَةٍ، فِي تِسْعَةٍ. مِائَتَانِ وَسِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْمُقِرِّ بِالْأَخِ ثَلَاثَةٌ، فِي سَبْعَةٍ، فِي تِسْعَةٍ، مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَلِلْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ سَهْمَانِ، فِي أَرْبَعَةٍ، فِي سَبْعَةٍ، سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَسَهْمٌ فِي سَبْعَةٍ، فِي تِسْعَةٍ، ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، فِي أَرْبَعَةٍ، فِي سَبْعَةٍ، ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَسَهْمٌ فِي أَرْبَعَةٍ، فِي تِسْعَةٍ، سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، يَجْتَمِعُ لَهَا أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَصَادُقِهِمَا، وَتَجَاحُدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا عَنْ مِيرَاثِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ابْنٌ رَابِعٌ، لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَانَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، عَلَى أَحَدَ عَشَرَ وَسَهْمٍ، عَلَى تِسْعَةٍ، وَسَهْمٍ عَلَى خَمْسَةٍ، وَسَهْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْجَاحِدُ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا، وَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا فَأَقَرَّتَا لَصَغِيرَةٍ فَقَالَتْ الْبِنْتُ هِيَ أُخْتٌ وَقَالَتْ الْأُخْتُ هِيَ بِنْتٌ] (4937) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا، فَأَقَرَّتَا لِصَغِيرَةٍ، فَقَالَتْ الْبِنْتُ: هِيَ أُخْتٌ. وَقَالَتْ الْأُخْتُ: هِيَ بِنْتٌ. فَلَهَا ثُلُثُ مَا فِي يَدِ الْأُخْتِ لَا غَيْرُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، تَخْبِيطٌ كَثِيرٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَإِنْ خَلَّفَ امْرَأَةً وَبِنْتًا وَأُخْتًا، فَأَقْرَرْنَ بِصَغِيرَةٍ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هِيَ امْرَأَةٌ. وَقَالَتْ الْبِنْتُ: هِيَ بِنْتٌ. وَقَالَتْ الْأُخْتُ: هِيَ أُخْتٌ فَقَالَ الْخَبْرِيُّ: تُعْطَى ثُلُثَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُقِرَّاتِ عَلَى حَسَبِ إقْرَارِهِنَّ، وَقَدْ أَقَرَّتْ لَهَا الْبِنْتُ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَقَرَّتْ لَهَا الْأُخْتُ بِأَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ، وَأَقَرَّتْ، الْمَرْأَةُ بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، لَهَا مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا، فَخُذْ لَهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ مَا أَقَرَّتْ لَهَا بِهِ، وَاضْرِبْ الْمَسْأَلَةَ فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ، فَإِذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ، فَصَدَّقَتْ إحْدَاهُنَّ، أَخَذَتْ مِنْهَا تَمَامَ مَا أَقَرَّتْ لَهَا بِهِ، وَرَدَّتْ عَلَى الْبَاقِيَتَيْنِ مَا أَخَذَتْهُ مِمَّا لَا تَسْتَحِقُّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُؤْخَذُ لَهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا أَقَرَّتْ لَهَا بِهِ. وَإِذَا بَلَغَتْ فَصَدَّقَتْ إحْدَاهُنَّ، أَمْسَكَتْ مَا أُخِذَ لَهَا مِنْهَا، وَرَدَّتْ عَلَى الْبَاقِيَتَيْنِ الْفَضْلَ الَّذِي لَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا عَلَى حَقِّهَا. ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ لِأَبٍ، ادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا أُخْتُ الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَصَدَّقَهَا الْأَكْبَرُ، وَقَالَ الْأَوْسَطُ: هِيَ أُخْتٌ لِأُمٍّ. وَقَالَ الْأَصْغَرُ: هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ. فَإِنَّ الْأَكْبَرَ يَدْفَعُ إلَيْهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَدْفَعُ إلَيْهَا الْأَوْسَطُ سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَدْفَعُ إلَيْهَا الْأَصْغَرُ سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَتَصِحُّ مِنْ مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَسْأَلَتِهِمْ ثَلَاثَةٌ، فَمَسْأَلَةُ الْأَكْبَرِ مِنْ اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي مِنْ سِتَّةٍ، وَالثَّالِثِ مِنْ سَبْعَةٍ، وَالِاثْنَانِ تَدْخُلُ فِي السِّتَّةِ، فَتَضْرِبُ سِتَّةً، فِي سَبْعَةٍ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَهَذَا مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتَأْخُذُ مِنْ الْأَكْبَرِ نِصْفَهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَمِنْ الْأَوْسَطِ سُدُسَهُ سَبْعَةً، وَمِنْ الْأَصْغَرِ سُبْعَهُ سِتَّةً، صَارَ لَهَا أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ. وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَأْخُذُ سُبُعَ مَا فِي يَدِ الْأَصْغَرِ، فَيُضَمُّ نِصْفُهُ إلَى مَا بِيَدِ أَحَدِهِمَا، وَنِصْفُهُ إلَى مَا بِيَدِ الْآخَرِ، وَيُقَاسِمُ الْأَوْسَطَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لَهُ عَشَرَةٌ، وَلَهَا ثَلَاثَةٌ، فَيَضُمُّ الثَّلَاثَةَ إلَى مَا بِيَدِ الْأَكْبَرِ، وَيُقَاسِمُهُ مَا بِيَدِهِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، لَهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ سَهْمٌ، فَاجْعَلْ فِي يَدِ الْأَصْغَرِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ لِيَكُونَ لِسُبْعِهِ نِصْفٌ صَحِيحٌ، وَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، تَكُنْ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ، فَهَذَا مَا بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، تَأْخُذُ مِنْ الْأَصْغَرِ سُبْعَهُ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. تُضَمُّ إلَى مَا بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ إخْوَتِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَيَصِيرُ مَعَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ، وَتَأْخُذُ مِنْ الْأَوْسَطِ مِنْهَا ثَلَاثَةً مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَهِيَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، تَضُمُّهَا إلَى مَا بِيَدِ الْأَكْبَرِ، يَصِيرُ مَعَهُ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، فَتَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا، وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، وَيَبْقَى لَهُ سِتُّونَ، وَيَبْقَى لِلْأَوْسَطِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَلِلْأَصْغَرِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى سُدُسِهَا، وَهُوَ أَحَدٌ وَتِسْعُونَ. [فَصْلٌ خَلَّفَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ جَحَدَهُ] (4938) فَصْلٌ: وَإِذَا خَلَّفَ ابْنًا، فَأَقَرَّ بِأَخٍ، ثُمَّ جَحَدَهُ، لَمْ يُقْبَلْ جَحْدُهُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ. فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ جَحْدِهِ بِآخَرَ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي يَدِهِ عَنْ مِيرَاثِهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا، لَزِمَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ لِلْآخَرِ شَيْءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَفْعُ النِّصْفِ الْبَاقِي كُلِّهِ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ، وَبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ الْفَضْلُ الَّذِي فِي يَدِهِ، عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمْ ثَلَاثَةً، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالثَّانِي مِنْ غَيْرِ جَحْدِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، ثُمَّ جَحَدَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِآخَرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّانِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي يَدِهِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ. وَعَلَى الثَّالِثِ يَلْزَمُهُ رُبُعُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ. وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، دُونَ الثَّانِي. [فَصْلٌ مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَك بِنْتًا فَأَقَرَّ الْبَاقِي بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ] (4939) فَصْلٌ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَتَرَكَ بِنْتًا، فَأَقَرَّ الْبَاقِي بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رُبُعًا، وَسُدُسًا، فَيَفْضُلُ فِي يَدِهِ ثُلُثٌ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ الْبِنْتُ وَحْدَهَا، فَفِي يَدِهَا الرُّبُعُ، وَهِيَ تَزْعُمُ أَنَّ لَهَا السُّدُسَ، يَفْضُلُ فِي يَدِهَا نِصْفُ السُّدُسِ، تَدْفَعُهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَقَرَّ الْأَخُ، دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّتْ الْبِنْتُ، دَفَعَتْ إلَيْهِ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رُبُعًا، وَسُدُسًا، وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَلَهَا السُّدُسُ، وَهُوَ سَهْمَانِ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ سَبْعَةً، لَهَا مِنْهُمَا سَهْمَانِ، وَلَهُ خَمْسَةٌ. بِنْتَانِ وَعَمٌّ، مَاتَتْ إحْدَاهُمَا، وَخَلَّفَتْ ابْنًا وَبِنْتًا، فَأَقَرَّتْ، الْبِنْتُ بِخَالَةٍ، فَفَرِيضَةُ الْإِنْكَارِ مِنْ تِسْعَةٍ، وَفَرِيضَةُ الْإِقْرَارِ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهَا مِنْهُمَا سَهْمَانِ، وَفِي يَدِهَا ثَلَاثَةٌ، فَتَدْفَعُ إلَيْهَا سَهْمًا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الِابْنُ دَفَعَ إلَيْهَا سَهْمَيْنِ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهَا الْبِنْتُ الْبَاقِيَةُ دَفَعَتْ إلَيْهَا التُّسْعَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الْعَمُّ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا شَيْئًا. وَإِنْ أَقَرَّ الِابْنُ بِخَالٍ لَهُ، فَمَسْأَلَةُ الْإِقْرَارِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لَهُ مِنْهَا سَهْمَانِ، وَهُمَا السُّدُسُ، يَفْضُلُ فِي يَدِهِ نِصْفُ تُسْعٍ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ أُخْتُهُ دَفَعَتْ إلَيْهِ رُبُعَ تُسْعٍ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ الْبِنْتُ الْبَاقِيَةُ فَلَهَا الرُّبُعُ، وَفِي يَدِهَا الثُّلُثُ، فَتَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ السُّدُسِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْعَمُّ دَفَعَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ. ابْنَانِ، مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ بِنْتٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْبَاقِي مِنْهُمَا بِأُمٍّ لِأَبِيهِ، فَفَرِيضَةُ الْإِنْكَارِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، لِلْمُقِرِّ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَفَرِيضَةُ الْإِقْرَارِ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، لِلْمُقِرِّ مِنْهَا أَرْبَعُونَ، يَفْضُلُ فِي يَدِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، يَدْفَعُهَا إلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي أَقَرَّ لَهَا، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ؛ لِلْمُقِرِّ مِنْهَا عِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ تِسْعَةٌ، وَلِلْمُقَرِّ لَهَا سَبْعَةٌ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْمَلُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يَجْمَعُ سِهَامَ الْأُمِّ، وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ، إلَى سِهَامِ الْمُقِرِّ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ، فَتَقْسِمُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَالِ، فَمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ فَهُوَ لَهُ فَتَضْرِبُ سَبْعَةً وَخَمْسِينَ فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ فِي سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَلِلْمُقِرِّ أَرْبَعُونَ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ، وَلِلْأُمِّ سَبْعَةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهَا الْبِنْتُ، فَلَهَا مِنْ فَرِيضَةِ الْإِقْرَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَفِي يَدِهَا الرُّبُعُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يَفْضُلُ فِي يَدِهَا ثَلَاثَةٌ، تَدْفَعُهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهَا. وَإِنْ أَقَرَّ الِابْنُ بِزَوْجَةٍ لِأَبِيهِ، وَهِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ الثَّانِي، فَمَسْأَلَةُ الْإِقْرَارِ مِنْ سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ، لَهُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، يَفْضُلُ مَعَهُ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، يَدْفَعُهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهَا، وَيَكُونُ لَهُ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَلَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ سِهَامَهُمْ كُلَّهَا تَتَّفِقُ بِالْأَثْمَانِ، فَيَكُونُ لِلْمُقِرِّ سَبْعَةٌ، وَلِلْمُقَرِّ لَهَا سَهْمَانِ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُضَمُّ سِهَامُ الْمُقَرِّ لَهَا، وَهِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ إلَى سِهَامِ الْمُقِرِّ، فَتَكُونُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، وَتُقْسَمَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ، وَهُمَا يَتَّفِقَانِ بِالْأَثْلَاثِ، فَتَرْجِعُ السِّهَامُ إلَى ثُلُثِهَا خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، تَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ مِائَةً، لِلْبِنْتِ سَهْمٌ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلِلْمَرْأَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ فِي سَهْمٍ، وَلِلْمُقِرِّ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَهَذَا طَرِيقٌ لَهُ. أَبَوَانِ وَابْنَتَانِ، اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ، ثُمَّ أَقَرُّوا بِبِنْتٍ لِلْمَيِّتِ، فَقَالَتْ: قَدْ اسْتَوْفَيْت نَصِيبِي مِنْ تَرِكَةِ أَبِي فَالْفَرِيضَةُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِلْأَبَوَيْنِ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ، فَأَسْقِطْ مِنْهَا نَصِيبَ الْبِنْتِ الْمُقَرِّ بِهَا، يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ لِلْأَبَوَيْنِ مِنْهَا سِتَّةٌ وَإِنَّمَا أَخَذَا ثُلُثَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثَا سَهْمٍ، فَيَبْقَى لَهُمَا فِي يَدِ الْبِنْتَيْنِ سَهْمٌ وَثُلُثٌ، يَأْخُذَانِهَا مِنْهَا، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَقَدْ أَخَذَ الْأَبَوَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَهُمَا يَسْتَحِقَّانِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يَبْقَى لَهُمَا أَرْبَعَةٌ، يَأْخُذَانِهَا مِنْهُمَا، وَيَبْقَى لِلِابْنَتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ اسْتَوْفَيْت نِصْفَ نَصِيبِي فَأَسْقِطْ سَهْمَيْنِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ، قَدْ أَخَذَا ثُلُثَهَا، خَمْسَةً وَثُلُثًا، خَمْسَةً وَثُلُثًا وَيَبْقَى لَهُمَا ثُلُثَا سَهْمٍ، فَإِذَا ضَرَبَتْهَا فِي ثَلَاثَةٍ كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، قَدْ أَخَذَا مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ، يَبْقَى لَهُمَا سَهْمَانِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مِمَّنْ أُعِيلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْ يَعْصِبهُ] (4940) فَصْلٌ: إذَا أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مِمَّنْ أُعِيلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْ يَعْصِبُهُ، فَيَذْهَبُ الْعَوْلُ، مِثْلُ مَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُخْتَانِ، أَقَرَّتْ إحْدَاهُمَا بِأَخٍ لَهَا، فَاضْرِبْ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ، تَكُنْ سِتَّةً، وَخَمْسِينَ؛ لِلْمُنْكِرَةِ سَهْمَانِ، فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْمُقِرَّةِ سَهْمٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنْكَارِ سَبْعَةٌ، يَفْضُلُ فِي يَدِهَا تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، فَيُسْأَلُ الزَّوْجُ، فَإِنْ أَنْكَرَ أُعْطِيَ ثَلَاثَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَدَفَعَتْ الْمُقِرَّةُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مَا فَضَلَ فِي يَدِهَا كُلِّهِ، وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِهِ فَهُوَ يَدَّعِي أَرْبَعَةً، وَالْأَخُ يَدَّعِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَتَجْمَعُهَا تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَقْسِمُ عَلَيْهَا التِّسْعَةَ. فَتَدْفَعُ إلَى الزَّوْجِ سَهْمَيْنِ، وَإِلَى الْأَخِ سَبْعَةً، فَإِنْ أَقَرَّتْ الْأُخْتَانِ بِهِ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، وَهُوَ يُنْكِرُهَا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تُقِرَّ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بَطَلَ لِعَدَمِ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ. وَالثَّانِي، يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ وَالْأُخْتَانِ، لَهُ نِصْفُهَا، وَلَهُمَا نِصْفُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْهُمْ، وَلَا شَيْءَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 فِيهَا لِلْأَخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ بِحَالٍ. الثَّالِثُ، يُؤْخَذُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ، أَخَذَتْ الْمُقِرَّةُ سَهْمَيْهَا مِنْ سَبْعَةٍ فَتَقْسِمُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي سَبْعَةٍ، تَكُونُ إحْدَى وَعِشْرِينَ، لَهُمَا مِنْهَا سِتَّةٌ، لَهَا سَهْمَانِ، وَلِأُخْتِهَا أَرْبَعَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ ضُمَّ سِهَامُهُ إلَى سَهْمَيْهِمَا، تَكُونُ خَمْسَةً، وَاقْتَسَمَاهَا بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ؛ لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ سَبْعَةً فِي سَبْعَةٍ، تَكُنْ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ؛ لِلْمُنْكِرَةِ سَهْمَانِ فِي سَبْعَةٍ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ فِي خَمْسَةٍ، وَلِلْمُقِرَّةِ سَهْمٌ فِي خَمْسَةٍ فَإِنْ خَلَّفَتْ أُمًّا وَزَوْجًا، وَأُخْتًا مِنْ أَبٍ، فَأَقَرَّتْ الْأُخْتُ بِأَخٍ لَهَا، فَمَسْأَلَةُ الْإِنْكَارِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَمَسْأَلَةُ الْإِقْرَارِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَيَتَّفِقَانِ بِالْأَنْصَافِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ؛ لِلْأُمِّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَفِي يَدِ الْمُقِرَّةِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلَهَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ ثَمَانِيَةٌ، يَفْضُلُ فِي يَدِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، فَيُسْأَلُ الزَّوْجُ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَخَذَ الْأَخُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَبَقِيَتْ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فِيهَا الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ أَقَرَّ فَهُوَ يَدَّعِي تِسْعَةً؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَمَامَ النِّصْفِ، وَالْأَخُ يَدَّعِي سِتَّةَ عَشَرَ، فَتَضُمُّ التِّسْعَةَ إلَى السِّتَّةَ عَشَرَ. تَكُونُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالتِّسْعَةَ عَشَرَ لَا تُوَافِقُهَا، فَتَضْرِبُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، تَكُونُ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، مَضْرُوبٌ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، مَضْرُوبٌ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ. وَسُئِلَ الْمُغِيرَةُ الضَّبِّيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَابَ بِهَذَا، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: وَهِيَ فِي قَوْلِ حَمَّادٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا. يَعْنِي لِلْأُمِّ رُبُعُهَا خَمْسَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأَخِ، وَالْأُخْتِ، عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ مِنْ فَرِيضَةِ الْإِقْرَارِ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِلْأَخِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمَانِ وَإِنْ صَدَّقَتْهَا الْأُمُّ وَحْدَهَا دُونَ الزَّوْجِ، أُعْطِيت الْأُمُّ السُّدُسَ، وَالْأَخُ وَالْأُخْتُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، وَيَبْقَى الثُّمُنُ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ وَارِثٌ بِمَنْ لَا يَرِثُ وَيَسْقُطُ بِهِ مِيرَاثُهُ] (4941) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ وَارِثٌ بِمَنْ لَا يَرِثُ، وَيَسْقُطُ بِهِ مِيرَاثُهُ، كَأُخْتٍ مِنْ أَبٍ أَقَرَّتْ بِأَخٍ لَهَا، فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُخْتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ أَقَرَّتْ بِأَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، سَقَطَ مِيرَاثُهَا، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ نِصْفَيْنِ، إنْ صَدَّقَاهَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَذَّبَاهَا، فَالْمُقَرُّ بِهِ هُوَ السَّبُعُ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَيَدْفَعُ إلَى الْأَبَوَيْنِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ خَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، فَأَقَرَّتْ إحْدَاهُمَا بِأَخٍ لَهَا، سَقَطَ مِيرَاثُهَا، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ. وَلِلْأُخْرَى خُمُسُ الْمَالِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ عَلَى سِتَّةٍ، إنْ أَقَرُّوا فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ، تَكُنْ ثَلَاثِينَ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ الْأُمُّ، فَلَهَا الْعُشْرُ أَيْضًا، وَالْبَاقِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 خَمْسَةٍ، وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ الْأُخْتَانِ مِنْ الْأُمِّ، فَلَهُمَا الْخُمُسُ أَيْضًا، وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِلزَّوْجِ، وَتَصِحُّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَلَهُ خُمُسٌ وَعُشْرٌ، فَيَبْقَى خُمُسُ الْمَالِ، لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ، يُقِرُّونَ بِهِ لِلْأُخْتِ الْمُقِرَّةِ، وَهِيَ تُقِرُّ بِهِ لَهُمْ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، إلَّا أَنَّنَا إذَا قُلْنَا: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِلْأُخْتِ الْمُنْكِرَةِ، وَلَا لِلْمُقَرِّ بِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا شَيْءٌ بِحَالٍ. [فَصْلٌ امْرَأَةٌ وَعَمٌّ وَوَصِيٌّ لَرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَة وَالْعَمُّ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُمَا] (4942) فَصْلٌ: امْرَأَةٌ وَعَمٌّ وَوَصِيٌّ لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ وَالْعَمُّ، أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ، وَصَدَّقَهُمَا، ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَأَخَذَ مِيرَاثَهُ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا، فَلَمْ يُصَدِّقْهَا الْمُقَرُّ بِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ إقْرَارُهَا شَيْئًا، وَإِنْ صَدَّقَهَا الْأَخُ وَحْدَهُ، فَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ بِكَمَالِهِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَصِيَّةَ، وَلِلْعَمِّ النِّصْفُ، وَيَبْقَى، الرُّبُعُ يُدْفَعُ إلَى الْوَصِيِّ، وَإِنْ صَدَّقَهَا الْعَمُّ، وَلَمْ يُصَدِّقْهَا الْوَصِيُّ، فَلَهُ الثُّلُثُ، وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي يُقِرُّ بِهِ الْعَمُّ لِمَنْ لَا يَدَّعِيهِ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْعَمُّ وَحْدَهُ، فَصَدَّقَهُ الْمُوصَى لَهُ، أَخَذَ مِيرَاثَهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَلِلْمَرْأَةِ السُّدُسُ، وَيَبْقَى نِصْفُ السُّدُسِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَعْتَرِفُ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ، أَوْ وُقُوفِهَا عَلَى إجَازَةِ الْمَرْأَةِ وَلَمْ تُجِزْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، أَخَذَ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ، وَالْمَرْأَةُ السُّدُسَ بِالْمِيرَاثِ، وَيَبْقَى النِّصْفُ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ. [مَسْأَلَةٌ الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ] (4943) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ، عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ مِنْ الْمَقْتُولِ شَيْئًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ، إنَّهُمَا وَرَّثَاهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْخَوَارِجِ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ تَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهَا، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِيهِ، وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ لِشُذُوذِهِ، وَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِهِ. فَإِنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى دِيَةَ ابْنِ قَتَادَةَ الْمَذْحِجِيِّ لِأَخِيهِ دُونَ أَبِيهِ، وَكَانَ حَذَفَهُ بِسَيْفِهِ فَقَتَلَهُ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا، وَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ. رَوَاهُ ابْنُ اللَّبَّانِ بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُمَا ابْنُ عُبِدَ الْبَرِّ فِي " كِتَابِهِ ". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ، فَلَيْسَ لِقَاتِلٍ مِيرَاثٌ» رَوَاهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، وَلِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ يُفْضِي إلَى تَكْثِيرِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ رُبَّمَا اسْتَعْجَلَ مَوْتَ مَوْرُوثِهِ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ، كَمَا فَعَلَ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي قَتَلَ عَمَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: مَا وُرِّثَ قَاتِلٌ بَعْدَ عَامِيلٍ، وَهُوَ اسْمُ الْقَتِيلِ. فَأَمَّا الْقَتْلُ خَطَأً، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُرْوَةُ، وَطَاوُسٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَوَكِيعٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَوَرَّثَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُد. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، تَخَصَّصَ قَاتِلُ الْعَمْدِ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ فِيمَا سِوَاهُ. وَلَنَا؛ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ مِنْ الدِّيَةِ لَا يَرِثُ مِنْ غَيْرِهَا، كَقَاتِلِ الْعَمْدِ، وَالْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَالْعُمُومَاتُ مُخَصَّصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ الْقَتْلُ الْمَانِعُ مِنْ الْإِرْثِ] (4944) فَصْلٌ: وَالْقَتْلُ الْمَانِعُ مِنْ الْإِرْثِ هُوَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ الْمَضْمُونُ بِقَوَدٍ، أَوْ دِيَةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ كَالْعَمْدِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى الْخَطَأِ؛ كَالْقَتْلِ بِالسَّبَبِ، وَقَتْلِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالنَّائِمِ، وَمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لَمْ يَمْنَعْ الْمِيرَاثَ؛ كَالْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا، أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَقَتْلِ الْعَادِلِ الْبَاغِي، أَوْ مَنْ قَصَدَ مَصْلَحَةَ مُوَلِّيهِ بِمَا لَهُ فِعْلُهُ؛ مِنْ سَقْيِ دَوَاءٍ، أَوْ رَبْطِ جِرَاحٍ، فَمَاتَ وَمَنْ أَمَرَهُ إنْسَانٌ عَاقِلٌ كَبِيرٌ بِبَطِّ خَرَاجِهِ، أَوْ قَطْعِ سِلْعَةٍ مِنْهُ، فَتَلِفَ بِذَلِكَ، وَرِثَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ فِي الْحَرْبِ يَرِثُهُ. وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ، فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى أُخْتِهِمْ بِالزِّنَا، فَرُجِمَتْ، فَرَجَمُوا مَعَ النَّاسِ: يَرِثُونَهَا هُمْ غَيْرُ قَتَلَةٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ ابْنَيْهِ صَالِحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ: لَا يَرِثُ الْعَادِلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 الْبَاغِيَ، وَلَا يَرِثُ الْبَاغِي الْعَادِلَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ بِكُلِّ حَالٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَخْذًا بِظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ، فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ، وَالْمَجْنُونَ وَالنَّائِمَ، وَالسَّاقِطَ عَلَى إنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَسَائِقَ الدَّابَّةِ، وَقَائِدَهَا، وَرَاكِبَهَا، إذَا قَتَلَتْ بِيَدِهَا، أَوْ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ، وَلَا مَأْثَمَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ فِي الْحَدِّ. وَلَنَا، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ عُمُومُ الْأَخْبَارِ، خَصَّصْنَا مِنْهَا الْقَتْلَ الَّذِي لَا يُضْمَنُ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ مَضْمُونٌ فَيَمْنَعُ الْمِيرَاثَ كَالْخَطَأِ وَلَنَا، عَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْمِيرَاثَ، كَمَا لَوْ أَطْعَمَهُ أَوْ سَقَاهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، وَلِأَنَّهُ حُرِّمَ الْمِيرَاثُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، كَيْ لَا يُفْضِي إلَى إيجَادِ الْقَتْلِ الْمُحَرَّمِ، وَزَجْرًا عَنْ إعْدَامِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ يَمْنَعُ إقَامَةَ الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ، وَاسْتِيفَاءَ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَا يُفْضِي إلَى إيجَادِ قَتْلٍ مُحَرَّمٍ، فَهُوَ ضِدُّ مَا ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى قَتْلِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُحَرَّمٌ، وَتَفْوِيتُ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ، وَالتَّوْرِيثُ يُفْضِي إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُشَارِكُ فِي الْقَتْلِ فِي الْمِيرَاثِ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الضَّمَانِ بِحَسَبِهِ، فَلَوْ شَهِدَ عَلَى مَوْرُوثِهِ مَعَ جَمَاعَةٍ ظُلْمًا فَقُتِلَ، لَمْ يَرِثْهُ، وَإِنْ شَهِدَ بِحَقٍّ، وَرِثَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ. [فَصْلٌ أَرْبَعَةُ إخْوَةٍ قَتَلَ أَكْبَرُهُمْ الثَّانِي ثُمَّ قَتَلَ الثَّالِثُ الْأَصْغَرَ] (4945) فَصْلٌ: أَرْبَعَةُ إخْوَةٍ قَتَلَ أَكْبَرُهُمْ الثَّانِيَ، ثُمَّ قَتَلَ الثَّالِثُ الْأَصْغَرَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ الثَّانِي صَارَ لِلثَّالِثِ وَالْأَصْغَرِ نِصْفَيْنِ، فَلَمَّا قَتَلَ الثَّالِثُ الْأَصْغَرَ لَمْ يَرِثْهُ، وَوَرِثَهُ الْأَكْبَرُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ نِصْفُ دَمِ نَفْسِهِ، وَمِيرَاثُ الْأَصْغَرِ جَمِيعُهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ، لِمِيرَاثِهِ بَعْضَ دَمِ نَفْسِهِ، وَلَهُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَصْغَرِ، وَيَرِثُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، فَإِنْ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَرِثَهُ، وَيَرِثُ إخْوَتَهُ الثَّلَاثَةَ وَلَوْ أَنَّ ابْنَيْنِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ أَبَوَيْهِمَا، وَهُمَا زَوْجَانِ، ثُمَّ قَتَلَ الْآخَرُ أَبَاهُ الْآخَرَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا قَتَلَ أَبَاهُ، وَرِثَ مَالَهُ وَدَمَهُ أَخُوهُ وَأُمُّهُ، فَلَمَّا قَتَلَ الثَّانِي أُمَّهُ، وَرِثَهَا قَاتِلُ الْأَبِ، فَصَارَ لَهُ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ ثُمُنُهُ، فَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِذَلِكَ، وَلَهُ الْقِصَاصُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ قَتَلَهُ وَرِثَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَإِنْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا أَبَاهُ، وَالْآخَرُ أُمَّهُ، وَمَاتَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا وَارِثَ لَهُمَا سِوَاهُمَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالُ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَلَمْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ عَلَى أَخِيهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدُهُمَا الِاسْتِيفَاءَ إلَّا بِإِبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ فَيَسْقُطَانِ. وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، فَلِلْآخَرِ قَتْلُ الْعَافِي، وَيَرِثُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 فِي الظَّاهِرِ. وَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَ أَخَاهُ، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَوِرْثَهُ فِي الظَّاهِرِ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَلَّا يَرِثَهُ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصَّاصِينَ لَمَّا تُسَاوَيَا، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِيفَائِهِمَا، سَقَطَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا حُكْمٌ، فَيَكُونُ الْمُسْتَوْفِي مِنْهَا مُعْتَدِيًا بِاسْتِيفَائِهِ، فَلَا يَرِثُ أَخَاهُ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ وَإِنْ أَشْكَلَ كَيْفِيَّةُ مَوْتِ الْأَبَوَيْنِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ قَتِيلَهُ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا، خُرِّجَ فِي تَوْرِيثِهِمَا، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْغَرْقَى، مِنْ تَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَ دَمِ نَفْسِهِ، فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا. وَمَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ الْقِصَاصُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِلشُّبْهَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الْأُخَرِ وَمَالُهُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا] (4946) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا، وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَقًا، فَيَأْخُذَ مَالَهُ بِالْوَلَاءِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءُ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ. يُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَعُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَامَّةُ، الْفُقَهَاءِ. وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَمُعَاذٍ، وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ وَرَّثُوا الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَمْ يُوَرِّثُوا الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَسْرُوقٍ، وَعَبْدِ اللَّه بْنِ مَعْقِلٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَإِسْحَاقَ. وَلَيْسَ بِمَوْثُوقٍ بِهِ عَنْهُمْ. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَيْسَ بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ. وَرُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، أَنَّ مُعَاذًا حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ» وَلِأَنَّنَا نَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ نِسَاءَنَا، فَكَذَلِكَ نَرِثُهُمْ، وَلَا يَرِثُونَنَا. وَلَنَا؛ مَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، فَلَمْ يَرِثْهُ، كَمَا لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَنْ يُسْلِمُ، وَبِمَا يُفْتَحُ مِنْ الْبِلَادِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْقُصُ بِمَنْ يَرْتَدُّ، لِقِلَّةِ مَنْ يَرْتَدُّ، وَكَثْرَةِ مِنْ يُسْلِمُ، وَعَلَى أَنَّ حَدِيثَهُمْ مُجْمَلٌ، وَحَدِيثَنَا مُفَسَّرٌ، وَحَدِيثَهُمْ لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى صِحَّتِهِ، وَحَدِيثَنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُ. وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا نَرِثُ أَهْلَ الْمِلَلِ، وَلَا يَرِثُونَنَا. وَقَالَ فِي عَمَّةِ الْأَشْعَثِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 يَرِثُهَا أَهْلُ دِينِهَا. فَأَمَّا الْمُعْتَقُ إذَا خَالَفَ دِينُهُ دِينَ مُعْتِقِهِ، فَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْوَلَاءِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الْكُفَّارُ يَتَوَارَثُونَ إذَا كَانَ دِينُهُمْ وَاحِدًا] (4947) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيَتَوَارَثُونَ، إذَا كَانَ دِينُهُمْ وَاحِدًا، لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرِثُ بَعْضًا. وَقَوْلُهُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقِيلًا وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ دُونَ جَعْفَرٍ، وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ عَلَى دِينِ أَبِيهِ، مُقِيمًا بِمَكَّةَ، فَبَاعَ رِبَاعَهُ بِمَكَّةَ، فَلِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ قَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» . وَقَالَ عُمَرُ فِي عَمَّةِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْس: يَرِثُهَا أَهْلُ دِينِهَا. فَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ، فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. رَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ، وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ. وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُد؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْآبَاءِ مِنْ الْأَبْنَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ مِنْ الْآبَاءِ، مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرًا عَامًّا، فَلَا يُتْرَكُ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ، وَمَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ الشَّرْعُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] عَامٌ فِي جَمِيعِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْكُفْرَ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . يَنْفِي تَوَارُثَهُمَا، وَيَخُصُّ عُمُومَ الْكِتَابِ، وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحْمَدَ تَصْرِيحًا بِذِكْرِ أَقْسَامِ الْمِلَلِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: الْكُفْرُ ثَلَاثُ مِلَلٍ: الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَدِينُ مَنْ عَدَاهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ يَجْمَعُهُمْ أَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَكَمِ. وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَشَرِيكٍ، وَمُغِيرَةَ الضَّبِّيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَوَكِيعٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، الْقَوْلَانِ مَعًا. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ مِلَلًا كَثِيرَةً، فَتَكُونُ الْمَجُوسِيَّةُ مِلَّةً، وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مِلَّةً أُخْرَى، وَعِبَادَةُ الشَّمْسِ مِلَّةً، فَلَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . وَلِأَنَّ كُلَّ فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ، وَلَا اتِّفَاقَ فِي دِينٍ فَلَمْ يَرِثْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْعُمُومَاتِ فِي التَّوْرِيثِ مَخْصُوصَةٌ، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحِلُّ النِّزَاعِ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ مُخَالِفِينَا قَطَعُوا التَّوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْمِلَّةِ، لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ، فَمَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ أَوْلَى. وَقَوْلُ مَنْ حَصَرَ الْمِلَّةَ بِعَدَمِ الْكِتَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ هَذَا وَصْفٌ عَدَمِيٌّ، لَا يَقْتَضِي حُكْمًا، وَلَا جَمْعًا، ثُمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 لَا بُدَّ لِهَذَا الضَّابِطِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، ثُمَّ قَدْ افْتَرَقَ حُكْمُهُمْ، فَإِنَّ الْمَجُوسَ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، وَغَيْرُهُمْ لَا يُقِرُّ بِهَا، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ، وَمُعْتَقِدَاتِهِمْ، وَآرَائِهِمْ، يَسْتَحِلُّ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، وَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكَانُوا مِلَلًا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، رَوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ جَعَلَ الْكُفْرَ مِلَلًا مُخْتَلِفَةً. وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. [فَصْلٌ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَة يَتَوَارَثُونَ] (4948) فَصْلٌ: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي، أَنَّ الْمِلَّةَ الْوَاحِدَةَ يَتَوَارَثُونَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَاتِ مِنْ النُّصُوصِ تَقْتَضِي تَوْرِيثَهُمْ، وَلَمْ يَرِدْ بِتَخْصِيصِهِمْ نَصٌّ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِمْ قِيَاسٌ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى.» أَنَّ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ يَتَوَارَثُونَ. وَضَبْطُهُ التَّوْرِيثَ بِالْمِلَّةِ وَالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى التَّوْرِيثِ مَوْجُودٌ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْمَانِعِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي مَنْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقُتِلَ، أَنَّهُ يُبْعَثُ بِدِيَتِهِ إلَى مَلِكِهِمْ حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَى الْوَرَثَةِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ كَانَ مَعَ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ فَسَلِمَ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَوَجَدَ رَجُلَيْنِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الْحَيِّ الَّذِي قَتَلُوهُمْ، وَكَانَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ عَمْرٌو، فَقَتَلَهُمَا، فَوَدَاهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بَعَثَ بِدِيَتِهِمَا إلَى أَهْلِهِمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي، أَنَّهُ لَا يَرِثُ حَرْبِيٌّ ذِمِّيًّا، وَلَا ذِمِّيٌّ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا مُنْقَطِعَةٌ، فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَيَرِثُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَا يَرِثُهُ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّ دَارَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَرِثُ أَهْلُ الْحَرْبِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ دِيَارُهُمْ، أَوْ اخْتَلَفَتْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ، بِحَيْثُ كَانَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مَلِكٌ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ قَتْلَ بَعْضٍ، لَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ، أَشْبَهَ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ، فَجَعَلُوا اتِّفَاقَ الدَّارِ، وَاخْتِلَافَهَا ضَابِطًا لِلتَّوْرِيثِ، وَعَدَمِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ حُجَّةً مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِعُمُومِ النَّصِّ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْرِيثِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا الدِّينَ فِي اتِّفَاقِهِ، وَلَا اخْتِلَافِهِ، مَعَ وُرُودِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَصِحَّةِ الْعِبْرَةِ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنْ اخْتَلَفْت الدَّارُ بِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْكُفَّارَ. وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ كَافِرًا، وَلَا الْكَافِرُ مُسْلِمًا؛ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ مُخْتَلِفَا الدِّينِ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 [مَسْأَلَةٌ الْمُرْتَدّ لَا يَرِث أَحَدًا] (4949) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا، إلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا. وَهَذَا قَوْلُ، مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مُسْلِمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا» . وَلَا يَرِثُ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي حُكْمِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ، وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَإِنْ انْتَقَلُوا إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ تَزُولُ أَمْلَاكُهُ الثَّابِتَةُ لَهُ وَاسْتِقْرَارُهَا، فَلَأَنْ لَا يَثْبُتُ لَهُ مِلْكٌ أَوْلَى. وَلَوْ ارْتَدَّ مُتَوَارِثَانِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَرِثْهُ الْآخَرُ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ. وَلَا يُورَثُ. وَإِنْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ، قُسِمَ لَهُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ مَال الزِّنْدِيق فِي بَيْت الْمَال] (4950) فَصْلٌ: وَالزِّنْدِيقُ كَالْمُرْتَدِّ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَالزِّنْدِيقُ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيَسْتَسِرُّ بِالْكُفْرِ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ، كَانَ يُسَمَّى فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَافِقًا، وَيُسَمَّى الْيَوْمَ زِنْدِيقًا. قَالَ أَحْمَدُ: مَالُ الزِّنْدِيقِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمِيرَاثِ ارْتَدَّ أُحُد الزَّوْجَيْنِ قَبْل الدُّخُول] (4951) فَصْلٌ: إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةَ. وَالْأُخْرَى يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَيَّهُمَا مَاتَ لَمْ يَرِثْهُ الْآخِرُ. وَحُكْمُ رِدَّتِهِمَا جَمِيعًا كَحُكْمِ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا، فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، وَامْتِنَاعِ الْمِيرَاثِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: إذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ دِينَهُمَا لَمْ يَخْتَلِفْ، فَأَشْبَهَا الْكَافِرِينَ الْأَصْلِيِّينَ، إلَّا أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ مَا دَامَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ تَوَارَثَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا صَارَ كَحُكْمِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ. [مَسْأَلَةٌ أَسْلَمَ قَبْلَ قَسْمِ مِيرَاثِ مَوْرُوثِهِ الْمُسْلِمِ] (4952) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، قُسِمَ لَهُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قَسْمِ مِيرَاثِ مَوْرُوثِهِ الْمُسْلِمِ؛ فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، أَنَّهُ يَرِثُ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَقَتَادَةُ، وَحُمَيْدٌ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَإِسْحَاقُ، فَعَلَى هَذَا إنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قَسْمِ بَعْضِ الْمَالِ وَرِثَ مِمَّا بَقِيَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ، فِي مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَوْتِ: لَا يَرِثُ، قَدْ وَجَبَتْ الْمَوَارِيثُ لِأَهْلِهَا. وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَعَامَّةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» . وَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُشَارِكْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ، كَمَا لَوْ اقْتَسَمُوا، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِرْثِ مُتَحَقِّقٌ حَالَ وُجُودِ الْمَوْتِ، فَلَمْ يَرِثْ، كَمَا لَوْ كَانَ رَقِيقًا فَأُعْتِقَ، أَوْ كَمَا لَوْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ، وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ.» وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، بِإِسْنَادِهِ فِي " التَّمْهِيدِ "، عَنْ زَيْدِ بْنِ قَتَادَةَ الْعَنْبَرِيِّ، أَنَّ إنْسَانًا مِنْ أَهْلِهِ مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَوَرِثَتْهُ أُخْتِي دُونِي، وَكَانَتْ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ إنَّ جَدِّي أَسْلَمَ، وَشَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُنَيْنًا، فَتُوُفِّيَ، فَلَبِثْت، سَنَةً، وَكَانَ تَرَكَ مِيرَاثًا، ثُمَّ إنَّ أُخْتِي أَسْلَمَتْ، فَخَاصَمَتْنِي فِي الْمِيرَاثِ إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَحَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ، أَنَّ عُمَرَ قَضَى أَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، فَلَهُ نَصِيبُهُ، فَقَضَى بِهِ عُثْمَانُ، فَذَهَبَتْ بِذَاكَ الْأَوَّلِ، وَشَارَكَتْنِي فِي هَذَا. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ انْتَشَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ فَكَانَتْ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَجَدَّدَ لَهُ صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ الَّتِي نَصَبَهَا فِي حَيَاتِهِ، لَثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ فِيهِ، وَلَوْ وَقَعَ إنْسَانٌ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا، لَتَعَلَّقَ ضَمَانُهُ بِتَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَجَازَ أَنْ يَتَجَدَّدَ حَقُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَرَثَتِهِ بِتَرِكَتِهِ، تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ، وَحَثًّا عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا قُسِمَتْ التَّرِكَةُ، وَتَعَيَّنَ حَقُّ كُلِّ وَارِثٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِي التَّرِكَةِ وَاحْتَازَهَا، كَانَ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَتِهَا. [فَصْلٌ كَانَ رَقِيقًا حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ فَأُعْتِقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ] (4953) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ رَقِيقًا حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، فَأُعْتِقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لَمْ يَرِثْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ، وَتَرَكَ أَبَاهُ عَبْدًا، فَأُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ مِيرَاثُهُ، فَقَالَ: لَهُ مِيرَاثُهُ. وَحُكِيَ عَنْ مَكْحُولٍ، وَقَتَادَةَ، أَنَّهُمَا وَرَّثَا مَنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْمِيرَاثِ زَالَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَسْلَمَ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ، أَنْ يُوَرَّثَ الْعَبْدُ إذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 أُعْتِقَ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قُرْبَةٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ، وَالْقُرْبُ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّأْلِيفِ عَلَيْهَا، فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِتَوْرِيثِهِ، تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَحَثًّا عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ مِنْ تَوْرِيثِ مَنْ أَسْلَمَ، لَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرِثَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ حِينَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُنْتَقَلُ بِهِ إلَى الْوَرَثَةِ، فَيَسْتَحِقُّونَهُ، فَلَا يَبْقَى لِمَنْ حَدَثَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ خَالَفْنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأَثَرِ، وَلَيْسَ فِي الْعِتْقِ أَثَرٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا فِيهِ الْأَثَرُ، فَيَبْقَى عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ. [مَسْأَلَةٌ مَالِ الْمُرْتَدِّ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ] (4954) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَمَتَى قُتِلَ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ، فَمَالُهُ فَيْءٌ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ إذَا مَاتَ، أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ صَحِيحٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ. وَإِسْحَاقُ. إلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ، وَأَبَا حَنِيفَةَ، وَاللُّؤْلُؤِيَّ، وَإِسْحَاقَ، قَالُوا: مَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ يَكُونُ فَيْئًا. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ تِلَادِ مَالِهِ وَطَارِفِهِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ قَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِت، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنْ أُقَسِّمَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَ وَرَثَتِهِمْ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِلُ بِهَا مَالُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً، أَنَّ مَالَهُ لِأَهْلِ دِينِهِ الَّذِي اخْتَارَهُ، إنْ كَانَ مِنْهُ مَنْ يَرِثُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فَيْءٌ. وَبِهِ قَالَ دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرْوَةَ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَوَرِثَهُ أَهْلُ دِينِهِ، كَالْحَرْبِيِّ، وَسَائِرِ الْكُفَّارِ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» . وَقَوْلُهُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ، كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُرْتَدٍّ، فَأَشْبَهَ الَّذِي كَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ لِأَهْلِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُمْ، فَلَا يَرِثُونَهُ، كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلِأَنَّهُ يُخَالِفُهُمْ فِي حُكْمِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَلَا تُوكَلُ لَهُ ذَبِيحَةٌ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ إنْ كَانَ امْرَأَةً، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ مَعَ الذِّمِّيِّ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا جَعَلْتُمُوهُ فَيْئًا فَقَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 وَرَّثْتُمُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ. قُلْنَا: لَا يَأْخُذُونَهُ مِيرَاثًا، بَلْ يَأْخُذُونَهُ فَيْئًا، كَمَا يُؤْخَذُ مَالُ الذِّمِّيِّ إذَا لَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا، وَكَالْعُشُورِ. [فَصْلٌ الزِّنْدِيقُ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ] (4955) فَصْلٌ: وَالزِّنْدِيقُ، كَالْمُرْتَدِّ؛ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الزِّنْدِيقِ الَّذِي يُتَّهَمُ بِذِمِّيٍّ وَرَثَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ مَنْ يَرْتَدُّ إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ. قَالَ: وَتَرِثُهُ زَوْجَتُهُ، سَوَاءٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَوْ لَمْ تَنْقَضِ، كَاَلَّتِي يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ؛ لِيَحْرِمَهَا الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ مِنْ مِيرَاثِ مَنْ انْعَقَدَ سَبَبُ مِيرَاثِهِ، فَوَرِثَهُ، كَالْمُطَلَّقَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ. وَلَنَا؛ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ.» وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا ارْتَدَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، يَرِثُهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ، وَفِعْلَ الْمَرْأَةِ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا، وَيُخَرَّجُ فِي مِيرَاثِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِثْلُ الزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ مِثْلَ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرِيضَةُ، فَمَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَرِثَهَا زَوْجُهَا. وَرَوَى اللُّؤْلُؤِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ، فَقُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَرِثَتْهُ، إذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، بَانَتْ وَلَمْ تَرِثْهُ. وَإِنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، فَمَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ لَا تُقْتَلُ، فَلَمْ تَكُنْ فَارَّةً مِنْ مِيرَاثِهِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ. [فَصْلٌ مِيرَاث الزَّوْجَيْنِ إذَا ارْتِدَاد مَعًا] (4956) فَصْلٌ: وَارْتِدَادُ الزَّوْجَيْنِ مَعًا، كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا؛ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِمَا، وَعَدَمِ مِيرَاثِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، سَوَاءٌ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ أَقَامَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا مَا ارْتَدَّا مَعًا، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ مَا دَامَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ تَوَارَثَا. وَلَنَا؛ أَنَّهُمَا مُرْتَدَّانِ، فَلَمْ يَتَوَارَثَا، كَمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ ارْتَدَّا جَمِيعًا، وَلَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ، لَمْ يَتْبَعُوهُمْ فِي رِدَّتِهِمْ، وَلَمْ يَرِثُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ، سَوَاءٌ لَحِقُوهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ لَمْ يَلْحَقُوهُمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: مَنْ أَلْحَقُوهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ يَصِيرُ مُرْتَدًّا، يَجُوزُ سَبْيُهُ، وَمَنْ لَمْ يُلْحِقُوهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا مَنْ وُلِدَ بَعْدَ الرِّدَّةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ فَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ، الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُسْبَوْنَ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ لُحُوق الْمُرْتَدّ بِدَارِ الْحَرْبِ] (4957) فَصْلٌ: فَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، وُقِفَ مَالُهُ فَإِنْ أَسْلَمَ دُفِعَ إلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ صَارَ فَيْئًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَجَعَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لِحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ، فِي زَوَالِ مِلْكِهِ، وَصَرْفِ مَالِهِ إلَى مِنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ إذَا مَاتَ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَهُ مَا وُجِدَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَتْلَفُوهُ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا اقْتَسَمُوهُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَنَّهُ فَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: إذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ، زَالَ مِلْكُهُ عَنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِنْ أَسْلَمَ رُدَّ إلَيْهِ تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّمَا أَحْكُمُ بِمَوْتِهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ فِي مَالِهِ، لَا يَوْمَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَنَا، أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَيَبْقَى مِلْكُهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَيَجِبُ رَدُّ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ، أَوْ أُتْلِفَ عَلَيْهِ، كَغَيْرِهِ. [فَصْلٌ مَاتَ الذِّمِّيُّ وَلَا وَارِثَ لَهُ] (4958) فَصْلٌ: وَمَتَى مَاتَ الذِّمِّيُّ، وَلَا وَارِثَ لَهُ، كَانَ مَالُهُ فَيْئًا، وَكَذَلِكَ مَا فَضَلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ، كَمَنْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَّا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّ الْفَاضِلَ عَنْ مِيرَاثِهِ يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ، فَكَانَ فَيْئًا، كَمَالِ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ. [فَصْلٌ مِيرَاثِ الْمَجُوسِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ] (4959) فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِ الْمَجُوسِ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، مِمَّنْ يَنْكِحُ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ، إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا. لَا نَعْلَمُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا فِي أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ بِنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ، فَكُلُّ نِكَاحٍ اعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ، وَأَقَرُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، تَوَارَثُوا بِهِ، سَوَاءٌ وُجِدَ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَمَا لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِهِ، وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ، فَلَوْ طَلَّقَ الْكَافِرُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَكَحَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَا، وَمَاتَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يُقَرَّا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَوَارَثَا بِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ إسْلَامِهِمَا، لَمْ يَتَوَارَثَا. فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ زُفَرُ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ: لَا يَتَوَارَثَانِ. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا، تَوَارَثَا، فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَسْلَمَا، وَقَدْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ أُقِرَّا عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ أَسْلَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أُقِرَّا، وَإِنْ أَسْلَمَا قَبْلُ لَمْ يُقَرَّا فَعَلَى هَذَا إنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لَمْ يَتَوَارَثَا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ، تَوَارَثَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي رِوَايَةَ أَحْمَدَ، عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حُبْلَى مِنْ زَوْجٍ، أَوْ زِنًا، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الزِّنَى مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَامِلِ مِنْ زَوْجٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، فِي الْحَامِلِ مِنْ زَوْجٍ: لَا يَتَوَارَثَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا: يَتَوَارَثَانِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ: لَا يَتَوَارَثَانِ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الْمِيرَاثِ الِاخْتِلَافُ فِيمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَا، أَوْ تَحَاكَمَا إلَيْنَا، وَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ مِيرَاث الْقَرَابَة] (4960) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَيَرِثُونَ بِجَمِيعِهَا، إذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُد، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ. وَعَنْ زَيْدٍ، أَنَّهُ وَرَّثَهُ بِأَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَحَمَّادٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٍ، وَالشَّعْبِيِّ، الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمَا قَرَابَتَانِ، لَا يُورَثُ بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ، فَلَا يُورَثُ بِهِمَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ أُخْتًا، وَجَبَ إعْطَاؤُهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ، كَالشَّخْصَيْنِ. وَلِأَنَّهُمَا قَرَابَتَانِ، تَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً، لَا تَحْجُبُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَلَا تُرَجَّحُ بِهَا، فَتَرِثُ بِهِمَا، مُجْتَمِعَيْنِ، كَزَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمٍّ، أَوْ ابْنُ عَمٍّ هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ، وَكَذَوِي الْأَرْحَامِ الْمُدْلِينَ بِقَرَابَتَيْنِ. وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَتَيْنِ فِي الْأَصْلِ تُسْقِطُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إذَا كَانَتَا فِي شَخْصَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتَا فِي شَخْصٍ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُورَثُ بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ. مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَرِثَ بِهِمَا، ثُمَّ إنَّ امْتِنَاعَ الْإِرْثِ بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ لِعَدَمِ وُجُودِهِمَا، وَلَوْ تُصُوِّرَ وُجُودُهُمَا لَوُرِثَ بِهِمَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ وُرِثَ بِنَظِيرِهِمَا فِي ابْنِ عَمٍّ هُوَ زَوْجٌ، أَوْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: وَاعْتِبَارُهُمْ عِنْدِي فَاسِدٌ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْجَدَّةَ تَكُونُ أُخْتًا لِأَبٍ، فَإِنْ وَرَّثُوهَا بِكَوْنِهَا جَدَّةً، لِكَوْنِ الِابْنِ يُسْقِطُ الْأُخْتَ دُونَهَا، لَزِمَهُمْ تَوْرِيثُهَا، بِكَوْنِهَا أُخْتًا، لِكَوْنِ الْأُمِّ تُسْقِطُ الْجَدَّةَ دُونَهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 وَخَالَفُوا نَصَّ الْكِتَابِ فِي فَرْضِ الْأُخْتِ، وَوَرَّثُوا الْجَدَّةَ الَّتِي لَا نَصَّ لِلْكِتَابِ فِي فَرْضِهَا، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ طُعْمَةٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ مُسْتَحَقٍّ. وَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا خَلَّفَ أُمَّهُ، وَأُمَّ أُمٍّ هِيَ أُخْتٌ، أَنْ لَا يُوَرِّثُوهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجُدُودَةَ مَحْجُوبَةٌ، وَهِيَ أَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ. وَإِنْ قَالُوا: نُوَرِّثُهَا مَعَ الْأُمِّ بِكَوْنِهَا أُخْتًا نَقَضُوا اعْتِبَارَهُمْ بِكَوْنِهَا أَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ، وَجَعَلُوا الْأُخُوَّة تَارَةً أَقْوَى، وَتَارَةً أَضْعَفَ. وَإِنْ قَالُوا: أَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ الْأُخُوَّةُ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهَا أَوْفَرُ. لَزِمَهُمْ فِي أُمٍّ هِيَ أُخْتٌ جَعْلَ الْأُخُوَّةِ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْأُمُومَةِ، وَيَلْزَمُهُمْ فِي إسْقَاطِ مِيرَاثِهَا مَعَ الِابْنِ وَالْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ مَا لَزِمَ الْقَائِلِينَ بِتَقْدِيمِ الْجُدُودَةِ مَعَ الْأُمِّ. فَإِنْ قَالُوا: تَوْرِيثُهَا بِالْقَرَابَتَيْنِ يُفْضِي إلَى حَجْبِ الْأُمِّ بِنَفْسِهَا، إذَا كَانَتْ أُخْتًا، وَلِلْمَيِّتِ أُخْتٌ أُخْرَى. قُلْنَا: وَمَا الْمَانِعُ مِنْ هَذَا؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَجَبَ الْأُمَّ بِالْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِغَيْرِهَا. ثُمَّ هُمْ قَدْ حَجَبُوهَا عَنْ مِيرَاثِ الْأُخْتِ بِنَفْسِهَا، فَقَدْ دَخَلُوا فِيمَا أَنْكَرُوهُ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ حَجْبِ التَّنْقِيصِ إلَى حَجْبِ الْإِسْقَاطِ، وَأَسْقَطُوا الْفَرْضَ الَّذِي هُوَ أَوْفَرُ بِالْكُلِّيَّةِ مُحَافَظَةً عَلَى بَعْضِ الْفَرْضِ الْأَدْنَى وَخَالَفُوا مَدْلُولَ أَرْبَعَةِ نُصُوصٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْا الْأُمَّ الثُّلُثَ، وَإِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا مَعَ الْأُخْتَيْنِ السُّدُسَ. وَالثَّانِي، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُخْتَيْنِ ثُلُثًا، فَأَعْطَوْا إحْدَاهُمَا النِّصْفَ كَامِلًا وَالثَّالِثُ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَهَاتَانِ أُخْتَانِ، فَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ الرَّابِعُ، أَنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُخْتَيْنِ الثُّلُثُ، وَهَذِهِ أُخْتٌ، فَلَمْ يُعْطُوهَا بِكَوْنِهَا أُخْتًا شَيْئًا. وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ اللَّبَّانِ. [فَصْلٌ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا قَرَابَتَانِ فِي الْمِيرَاث] (4961) فَصْلٌ: وَالْمَسَائِلُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا قَرَابَتَانِ، يَصِحُّ الْإِرْثُ بِهِمَا سِتٌّ؛ إحْدَاهُنَّ فِي الذُّكُورِ، وَهِيَ عَمٌّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، وَخَمْسٌ فِي الْإِنَاثِ، وَهِيَ بِنْتٌ هِيَ أُخْتٌ، أَوْ بِنْتُ ابْنٍ، وَأُمٌّ هِيَ أُخْتٌ، وَأُمُّ أُمٍّ هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ، وَأُمُّ أَبٍ هِيَ أُخْتٌ لِأُمٍّ، فَمَنْ وَرَّثَهُمْ بِأَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ، وَرَّثَهُمْ بِالْبُنُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ، دُونَ الْأُخُوَّةِ، وَبُنُوَّةِ الِابْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدَّةِ إذَا كَانَتْ أُخْتًا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْجُدُودَةُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا جِهَةُ وِلَادَةٍ لَا تَسْقُطُ بِالْوَلَدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأُخُوَّةُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِيرَاثًا. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَمَنْ وَرَّثَ بِأَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ لَمْ يَحْجُبْ الْأُمَّ بِأُخُوَّةِ نَفْسِهَا، إلَّا مَا حَكَاهُ سَحْنُونٌ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَجَبَهَا بِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ عَنْهُ الْأَوَّلُ. وَمَنْ وَرَّثَ بِالْقَرَابَتَيْنِ حَجَبَهَا بِذَلِكَ. وَمَتَى كَانَتْ الْبِنْتُ أُخْتًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 وَالْمَيِّتُ رَجُلٌ، فَهِيَ أُخْتٌ لِأُمٍّ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ وَإِنْ قِيلَ: أُمٌّ هِيَ أُخْتٌ لِأُمٍّ، أَوْ أُمُّ أُمٍّ هِيَ أُخْتٌ لِأُمٍّ، أَوْ أُمُّ أَبٍ هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ. فَهُوَ مُحَالٌ. مَسَائِلُ مِنْ ذَلِكَ: مَجُوسِيٌّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَأَوْلَدَهَا بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ عَنْهُمَا، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَانِ، وَلَا تَرِثُ الْكُبْرَى بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. فَإِنْ مَاتَتْ الْكُبْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ تَرَكَتْ بِنْتًا، هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ، فَلَهَا النِّصْفُ بِالْبُنُوَّةِ، وَالْبَاقِي بِالْأُخُوَّةِ، وَإِنْ مَاتَتْ الصُّغْرَى قَبْلَ الْكُبْرَى، فَقَدْ تَرَكَتْ أُمًّا، هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ، فَلَهَا النِّصْفُ، وَالثُّلُثُ بِالْقَرَابَتَيْنِ، وَمَنْ وَرَّثَ بِأَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ لَمْ يُوَرِّثْهَا بِالْأُخُوَّةِ شَيْئًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَحْتَمِلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوْرِيثَهَا بِالْقَرَابَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ تَوْرِيثَ الشَّخْصِ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، لِتَوْرِيثِهِ ابْنَ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا، أَوْ أَخًا لِأُمٍّ، وَإِنَّمَا مُنِعَ الْإِرْثُ بِفَرْضَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْمَجُوسِيُّ أَوْلَدَهَا بِنْتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ وَمَاتَتْ الْكُبْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ تَرَكَتْ بِنْتَيْنِ، هُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ، وَإِنْ لَمْ تَمُتْ الْكُبْرَى، بَلْ مَاتَتْ إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ، فَقَدْ تَرَكَتْ أُخْتًا لِأَبَوَيْنِ، وَأُمًّا هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ؛ فَلِأُمِّهَا السُّدُسُ بِكَوْنِهَا أُمًّا، وَالسُّدُسُ بِكَوْنِهَا أُخْتًا لِأَبٍ، وَانْحَجَبَتْ بِنَفْسِهَا وَأُخْتِهَا عَنْ السُّدُسِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لَهَا الثُّلُثُ بِالْأُمُومَةِ، وَلَا شَيْءَ لَهَا بِالْأُخُوَّةِ، وَلَا تَنْحَجِبُ بِهَا، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، فَقَدْ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ طَرِيقُهُمَا. وَعَلَى مَا حَكَاهُ سَحْنُونٌ، لَهَا السُّدُسُ وَتَنْحَجِبُ بِنَفْسِهَا، وَأُخْتِهَا. وَإِنْ أَوْلَدَهَا الْمَجُوسِيُّ ابْنًا، وَبِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ، وَمَاتَتْ الصُّغْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ خَلَّفَتْ أُمًّا هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ، وَأَخًا لِأُمٍّ وَأَبٍ، فَلِأُمِّهَا السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُمِّ بِالْأُخُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لِلْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ، فَأَوْلَدَهَا بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَلِابْنَتِهِ النِّصْفُ، وَلَا تَرِثُ أُمُّهُ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا، وَلَا ابْنَتُهُ بِكَوْنِهَا أُخْتًا لِأُمٍّ شَيْئًا. وَإِنْ مَاتَتْ الْكُبْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ خَلَّفَتْ بِنْتًا هِيَ بِنْتُ ابْنٍ، فَلَهَا الثُّلُثَانِ بِالْقَرَابَتَيْنِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ لَهَا النِّصْفُ. وَإِنْ مَاتَتْ الصُّغْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ تَرَكَتْ أُمًّا هِيَ أُمُّ أَبٍ، فَلَهَا الثُّلُثُ بِالْأُمُومَةِ لَا غَيْرُ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. وَإِنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَأَوْلَدَهَا ابْنَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَ الصُّغْرَى، فَأَوْلَدَهَا بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ، وَمَاتَتْ الْكُبْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ تَرَكَتْ أُخْتَيْهَا لِأَبِيهَا، إحْدَاهُمَا بِنْتُهَا وَبِنْتُ أَبِيهَا، وَالْأُخْرَى بِنْتُ بِنْتِهَا، فَلِبِنْتِهَا النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لَبِنْتِهَا النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلصُّغْرَى. وَإِنْ مَاتَتْ الْوُسْطَى بَعْدَهُ، فَقَدْ تَرَكَتْ أُخْتَيْهَا؛ إحْدَاهُمَا أُمُّهَا، وَالْأُخْرَى بِنْتُهَا؛ فَلِأُمِّهَا السُّدُسُ، وَلِبِنْتِهَا النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، الْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. وَإِنْ مَاتَتْ الصُّغْرَى بَعْدَهُ، فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتَيْهَا؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 إحْدَاهُمَا أُمُّهَا، وَالْأُخْرَى جَدَّتُهَا؛ فَلِأُمِّهَا السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَقَدْ انْحَجَبَتْ الْأُمُّ بِنَفْسِهَا، وَبِأُمِّهَا عَنْ السُّدُسِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ جَعْلِ الْأُخُوَّةِ أَقْوَى، فَلِلْكُبْرَى النِّصْفُ، وَلِلْوُسْطَى الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَمَنْ جَعَلَ الْجُدُودَةَ أَقْوَى، لَمْ يُوَرِّثْ الْكُبْرَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ، لِكَوْنِهَا ضَعِيفَةً، وَلَا بِالْجُدُودَةِ، لِكَوْنِهَا مَحْجُوبَةً بِالْأُمُومَةِ وَإِنْ مَاتَتْ الصُّغْرَى بَعْدَ الْوُسْطَى، فَقَدْ خَلَّفَتْ جَدَّةً هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ، فَلَهَا الثُّلُثُ بِالْقَرَابَتَيْنِ، وَمَنْ وَرَّثَ بِإِحْدَاهُمَا، فَلَهَا السُّدُسُ عِنْدَ قَوْمٍ. وَعِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَمَنْ وَافَقَهُ لَهَا النِّصْفُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَبْرِيِّ مَجُوسِيٌّ تَزَوَّجَ أُمَّهُ، فَأَوْلَدَهَا بِنْتًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهُ، فَأَوْلَدَهَا ابْنًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ الِابْنُ جَدَّتَهُ، فَأَوْلَدَهَا بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَجُوسِيُّ، ثُمَّ مَاتَتْ أُمُّهُ، فَقَدْ خَلَّفَتْ بِنْتًا هِيَ بِنْتُ ابْنٍ، وَبِنْتًا أُخْرَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنٍ، وَخَلَّفَتْ ابْنَ ابْنٍ هُوَ زَوْجُهَا؛ فَلِابْنَتِهَا الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْكُبْرَى وَابْنِهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ؛ لِلْكُبْرَى أَرْبَعَةٌ، وَلِلصُّغْرَى ثَلَاثَةٌ، وَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، الْبَاقِي لِلذَّكَرِ وَحْدَهُ. فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِنْتُهُ، فَإِنَّ الْكُبْرَى جَدَّتُهَا أُمُّ أَبِيهَا، وَهِيَ أُخْتُهَا مِنْ أُمِّهَا، فَلَهَا السُّدُسَانِ بِالْقَرَابَتَيْنِ، وَفِي الثَّانِي لَهَا السُّدُسُ بِإِحْدَاهُمَا. [فَصْلٌ وَطِئَ مُسْلِمٌ بَعْضَ مَحَارِمِهِ بِشُبْهَةِ] (4962) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ مُسْلِمٌ بَعْضَ مَحَارِمِهِ بِشُبْهَةٍ، أَوْ اشْتَرَاهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا فَوَطِئَهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ، وَاتَّفَقَ مِثْلُ هَذِهِ لِإِنْسَانٍ، فَالْحُكْمُ فِيهَا مِثْلُ هَذَا سَوَاءٌ. [مَسْأَلَةٌ غَرِقَ الْمُتَوَارِثَانِ أَوْ مَاتَا تَحْتَ هَدْمٍ فَجَهْل أَوَّلُهُمَا مَوْتًا] (4963) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا غَرِقَ الْمُتَوَارِثَانِ، أَوْ مَاتَا تَحْتَ هَدْمٍ، فَجُهِلَ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا، وُرِّثَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَارِثَيْنِ إذَا مَاتَا، فَجُهِلَ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: أَذْهَبُ إلَى قَوْلِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَشُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ: يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. يَعْنِي مِنْ تِلَادِ مَالِهِ دُونَ طَارِفِهِ، وَهُوَ مَا وَرِثَهُ مِنْ مَيِّتٍ مَعَهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ إيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَشَرِيكٍ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَإِسْحَاقَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَقَعَ الطَّاعُونُ عَامَ عَمَوَاسٍ، فَجَعَلَ أَهْلُ الْبَيْتِ يَمُوتُونَ عَنْ آخِرِهِمْ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَكَتَبَ عُمَرُ: أَنْ وَرِّثُوا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاذٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَجَعَلُوا مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 وَأَبُو الزِّنَادِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَرَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، وَحَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي امْرَأَةٍ وَابْنِهَا مَاتَا، فَقَالَ زَوْجُهَا: مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنِي فَوَرِثْتُهُ. وَقَالَ أَخُوهَا: مَاتَ ابْنُهَا فَوَرِثَتْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا. حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ مِيرَاثُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَمِيرَاثُ الْمَرْأَةِ لِأَخِيهَا وَزَوْجِهَا نِصْفَيْنِ. فَجَعَلَ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْبَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا فِيمَا إذَا ادَّعَى وَارِثُ كُلِّ مَيِّتٍ أَنَّ مَوْرُوثَهُ كَانَ آخِرَهُمَا مَوْتًا، وَيَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْآخَرِ، إذَا اتَّفَقَ وُرَّاثُهُمْ عَلَى الْجَهْلِ بِكَيْفِيَّةِ مَوْتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَعَ التَّدَاعِي تَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ، عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَيَتَوَفَّرُ الْمِيرَاثُ لَهُ. كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَهْلِ، فَلَا تَتَوَجَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يُشْرَعُ فِي مَوْضِعٍ اتَّفَقُوا عَلَى الْجَهْلِ بِهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَوْرِيثِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، بِمَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيدٍ: أَنَّ قَتْلَى الْيَمَامَةِ، وَقَتْلَى صِفِّينَ وَالْحَرَّةِ، لَمْ يُوَرِّثُوا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَوَرَّثُوا عَصَبَتَهُمْ الْأَحْيَاءَ وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتَ عَلِيٍّ تُوُفِّيَتْ هِيَ وَابْنُهَا زَيْدُ بْنُ عُمَرَ، فَالْتَقَتْ الصَّيْحَتَانِ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يُدْرَ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ، فَلَمْ تَرِثْهُ وَلَمْ يَرِثْهَا وَأَنَّ أَهْلَ صِفِّينَ، وَأَهْلَ الْحَرَّةِ لَمْ يَتَوَارَثُوا. وَلِأَنَّ شَرْطَ التَّوْرِيثِ حَيَاةُ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا يَثْبُتُ التَّوْرِيثُ مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، فَلَمْ يَرِثْهُ، كَالْحَمْلِ إذَا وَضَعَتْهُ مَيِّتًا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّوْرِيثِ فَلَا نُثْبِتُهُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ تَوْرِيثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأٌ يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمَا مَعًا، أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِهِ، وَتَوْرِيثُ السَّابِقِ بِالْمَوْتِ وَالْمَيِّتِ مَعَهُ خَطَأٌ يَقِينًا، مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَكَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَفِي قَطْعِ التَّوْرِيثِ قَطْعُ تَوْرِيثِ الْمَسْبُوقِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مَوْتُهُمَا جَمِيعًا، فَلَا يَكُونُ فِيهِمَا مَسْبُوقٌ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَا رَوَى إيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ وَقَعَ عَلَيْهِمْ بَيْتٌ. فَقَالَ: يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ عَنْ إيَاسٍ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ، وَلَيْسَ بِرَاوِيَةٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَحَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْن سُرَيْجٍ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ: يُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، أَوْ يَصْطَلِحُوا وَقَالَ الْخَبْرِيُّ: هَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عُلِمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ؛ أَخَوَانِ غَرِقَا، أَحَدُهُمَا مَوْلَى زَيْدٍ، وَالْآخَرُ مَوْلَى عَمْرٍو؛ مَنْ وَرَّثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، جَعَلَ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَى أَخِيهِ، وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدَهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، جَعَلَ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَاهُ، وَمَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ وَقَفَ مَالَهُمَا. فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ أَنَّ مَوْلَاهُ آخِرُهُمَا مَوْتًا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَأَخَذَ مَالَ مَوْلَاهُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمَا أُخْتٌ، فَلَهَا الثُّلُثَانِ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. وَإِنْ خَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنْتًا وَزَوْجَةً، فَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، صَحَّحَهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ، لِامْرَأَتِهِ الثُّمُنُ، وَلِابْنَتِهِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ. وَمَنْ وَرَّثَهُمْ، جَعَلَ الْبَاقِيَ لِأَخِيهِ، ثُمَّ قَسَّمَهُ بَيْنَ وَرَثَةِ أَخِيهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ ضَرَبَهَا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأُولَى، فَصَحَّتْ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ؛ لِامْرَأَتِهِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِابْنَتِهِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَلِامْرَأَةِ أَخِيهِ ثُمُنُ الْبَاقِي، وَلِابْنَتِهِ اثْنَا عَشَرَ، وَلِمَوْلَاهُ الْبَاقِي تِسْعَةٌ. أَخٌ وَأُخْتٌ غَرِقَا، وَلَهُمَا أُمٌّ وَعَمٌّ وَزَوْجَانِ. فَمَنْ وَرَّثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، جَعَلَ مِيرَاثَ الْأَخِ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَمَا أَصَابَ الْأُخْتَ مِنْهَا فَهُوَ بَيْنَ زَوْجِهَا وَأُمِّهَا وَعَمِّهَا عَلَى سِتَّةٍ، فَصَحَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ لِامْرَأَةِ الْأَخِ ثَلَاثَةٌ، وَلِزَوْجِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ بِمِيرَاثِهَا مِنْ الْأَخِ، وَاثْنَانِ بِمِيرَاثِهَا مِنْ الْأُخْتِ، وَلِلْعَمِّ سَهْمٌ، وَمِيرَاثُ الْأُخْتِ بَيْنَ زَوْجِهَا وَأُمِّهَا وَأَخِيهَا عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَخِيهَا سَهْمٌ بَيْنَ أُمِّهِ وَامْرَأَتِهِ وَعَمِّهِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، تَضْرِبُهَا فِي الْأُولَى، تَكُنْ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَالضَّرَرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَنْ يَرْتُ مِنْ أَحَدِ الْمَيِّتَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مِنْ أَبَوَيْنِ. غَرِقُوا، وَلَهُمْ أُمٌّ وَعَصَبَةٌ، فَقَدِّرْ مَوْتَ أَحَدِهِمْ أَوَّلًا، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِأَخَوَيْهِ، فَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَخَوَيْهِ خَمْسَةٌ، بَيْنَ أُمِّهِ وَعَصَبَتِهِ، عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَضْرِبُهَا فِي الْأُولَى، تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، لِلْأُمِّ مِنْ مِيرَاثِ الْأَوَّلِ السُّدُسُ سِتَّةٌ، وَمِمَّا وَرِثَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ خَمْسَةٌ، فَصَارَ لَهَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَلَهَا مِنْ مِيرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ. ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَبُو بَكْرٍ. ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ غَرِقُوا، وَخَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُخْتَهُ لِأَبَوَيْهِ، فَقَدِّرْ مَوْتَ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَوَّلًا عَنْ أُخْتِهِ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَأَخَوَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، وَأَخَوَيْهِ مِنْ أُمِّهِ، فَصَحَّتْ مَسْأَلَتُهُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِأَخِيهِ مِنْ أُمِّهِ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ بَيْنَ أُخْتِهِ مِنْ أَبَوَيْهِ وَأُخْتِهِ مِنْ أُمِّهِ، عَلَى أَرْبَعَةٍ وَأَصَابَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ مِنْهَا اثْنَيْنِ، بَيْنَ أَخِيهِ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَأُخْتِهِ مِنْ أَبِيهِ، عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَجْتَزِئُ بِإِحْدَاهُمَا، وَتَضْرِبُهَا فِي الْأُولَى، تَكُنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ قَدِّرْ مَوْتَ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ، عَنْ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ، وَأَخٍ، وَأُخْتٍ لِأُمٍّ، فَمَسْأَلَتُهُ مِنْ خَمْسَةٍ مَاتَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ عَنْ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 أَيْضًا، تَضْرِبُهَا فِي الْأُولَى، تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ قَدِّرْ مَوْتَ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ، عَنْ أُخْتٍ لِأَبَوَيْهِ، وَأَخٍ وَأُخْتٍ لِأَبِيهِ، فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ عَنْ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، تَضْرِبُهَا فِي الْأُولَى، تَكُنْ ثَلَاثِينَ. فَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَوَيْنِ، فَلَمْ يَقْتَسِمُوا التَّرِكَةَ حَتَّى غَرِقَ الْأَخَوَانِ، وَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً وَبِنْتًا وَعَمًّا؛ وَخَلَّفَ الْآخَرُ ابْنَتَيْنِ، وَابْنَتَيْنِ؛ الْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةٍ، مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ سَهْمٍ، وَمَسْأَلَتُهُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، لِأَخِيهِ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ بَيْنَ أَوْلَادِهِ عَلَى سِتَّةٍ رَجَعُوا إلَى اثْنَيْنِ، تَضْرِبُهَا فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَفَرِيضَةُ الْآخَرِ مِنْ سِتَّةٍ، يَتَّفِقَانِ بِالنِّصْفِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ فِي أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ، لِلْبِنْتِ نِصْفُهَا، وَلِأَوْلَادِ الْأَخِ عَنْ أَبِيهِمْ رُبُعُهَا، وَعَنْ عَمِّهِمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، صَارَ لَهُمْ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَلِامْرَأَةِ الْأَخِ سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. [فَصْلٌ عُلِمَ خُرُوجُ رُوحِ الْمُتَوَارِثِينَ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ] (4964) فَصْلٌ: وَإِنْ عُلِمَ خُرُوجُ رَوْحِهِمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَوَرِثَ كُلَّ وَاحِدٍ الْأَحْيَاءُ مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ مَشْرُوطٌ بِحَيَاتِهِ بَعْدَهُ، وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاءُ ذَلِكَ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَشْكَلَ، أُعْطِيَ كُلُّ وَارِثٍ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحُوا. قَالَ الْقَاضِي: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقَسَّمَ عَلَى سَبِيلِ مِيرَاثِ الْغَرْقَى الَّذِينَ جُهِلَ حَالُهُمْ. وَإِنْ ادَّعَى وَرَثَةُ كُلِّ مَيِّتٍ أَنَّهُ آخِرُهُمَا مَوْتًا، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ نَصَّ فِيهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ وَرَثَةَ كُلِّ مَيِّتٍ يَحْلِفُونَ، وَيَخْتَصُّونَ بِمِيرَاثِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ سَائِرُ الصُّوَرِ، فَيَتَخَرَّجُ فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ هَذَا الْحُكْمُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَ فِيهَا مُدَّعٍ وَمُنْكِرٌ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصُّوَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ لَمْ يَرِثْ لِمَعْنَى فِيهِ لَا يَحْجُبُ غَيْرَهُ] (4965) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَرِثْ لَمْ يُحْجَبْ) يَعْنِي مَنْ لَمْ يَرِثْ لِمَعْنًى فِيهِ، كَالْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَالرَّقِيقِ، وَالْقَاتِلِ، فَهَذَا لَا يَحْجُبُ غَيْرَهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، إلَّا ابْنَ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُمْ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، وَالزَّوْجَيْنِ بِالْوَلَدِ الْكَافِرِ، وَالْقَاتِلِ، وَالرَّقِيقِ، وَيَحْجُبُونَ الْأُمَّ بِالْإِخْوَةِ الَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد. وَتَابَعَهُ الْحَسَنُ فِي الْقَاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَعَلَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] . وقَوْله تَعَالَى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] . وَقَوْلِهِ {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 وَهَؤُلَاءِ أَوْلَادٌ، وَإِخْوَةٌ، وَعَدَمُ إرْثِهِمْ لَا يَمْنَعُ حَجْبَهُمْ، كَالْإِخْوَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، وَلَا يَرِثُونَ وَلَنَا، أَنَّهُ وَلَدٌ لَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ، وَلَا يَحْجُبُ وَلَدَهُ، وَلَا الْأَبَ إلَى السُّدُسِ، فَلَمْ يَحْجُبْ غَيْرَهُمْ، كَالْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَجْبِ غَيْرِ الْأُمِّ وَالزَّوْجَيْنِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي حَجْبِهِمْ، كَالْمَيِّتِ، وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا وَلَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] أَرَادَ بِهِ الْوَارِثَ، وَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِيهِمْ، وَلَمَّا قَالَ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] . لَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِيهِمْ. وَأَمَّا الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْلَا الْأَبُ لَوَرِثُوا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، وَمُنِعُوا مَعَ أَهْلِيَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ، فَامْتِنَاعُ إرْثِهِمْ لِمَانِعٍ، لَا لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي. [فَصْلٌ مَنْ لَا يَرِثُ لِحَجْبِ غَيْرِهِ لَهُ فَإِنَّهُ يَحْجُبُ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ] (4966) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ لِحَجْبِ غَيْرِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحْجُبُ، وَإِنْ لَمْ يَرِثْ، كَالْإِخْوَةِ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، وَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِالْأَبِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ إرْثِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِيهِمْ، وَلَا لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِمْ، بَلْ لِتَقْدِيمِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى الَّذِي حُجِبُوا بِهِ فِي حَالِ إرْثِهِمْ مَوْجُودٌ، مَعَ حَجْبِهِمْ عَنْ الْمِيرَاثِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَعَلَى هَذَا، إذَا اجْتَمَعَ أَبَوَانِ وَأَخَوَانِ أَوْ أُخْتَانِ؛ فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَيَحْجُبُ الْأَخَوَانِ الْأُمَّ عَنْ السُّدُسِ، وَلَا يَرِثُونَ شَيْئًا وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ أَبَاهُ وَأُمَّ أَبِيهِ وَأُمَّ أُمِّ أُمِّهِ، لَحَجَبَ الْأَبُ أُمَّهُ عَنْ الْمِيرَاثِ، وَحَجَبَتْ أُمُّهُ أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحْجُبُ الْجَدَّةَ بِابْنِهَا، وَالْبُعْدَى مِنْ الْجَدَّاتِ بِمَنْ هِيَ أَقْرَبُ مِنْهَا، وَيَكُونُ الْمَالُ جَمِيعُهُ لِلْأَبِ. [فَصْلٌ مِيرَاث الْحَمْلِ] (4967) فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ: إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُهُ، وُقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، فَإِنْ طَالِبَ الْوَرَثَةُ بِالْقِسْمَةِ، لَمْ يُعْطُوا كُلَّ الْمَالِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَلَكِنْ يُدْفَعُ إلَى مَنْ لَا يَنْقُصُهُ الْحَمْلُ كَمَالَ مِيرَاثِهِ، وَإِلَى مَنْ يَنْقُصُهُ أَقَلُّ مَا يُصِيبُهُ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ يُسْقِطُهُ شَيْءٌ، فَأَمَّا مَنْ يُشَارِكُهُ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: يُوقَفُ لِلْحَمْلِ شَيْءٌ، وَيُدْفَعُ إلَى شُرَكَائِهِ الْبَاقِي. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ، وَشَرِيكٌ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَهُوَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَى شُرَكَائِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا حَدَّ لَهُ وَلَا نَعْلَمُ كَمْ يُتْرَكُ لَهُ. وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَرَدَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ بِالْيَمَنِ شَيْئًا كَالْكِرْشِ، فَظُنَّ أَنْ لَا وَلَدَ فِيهِ، فَأُلْقِيَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَحَمِيَ بِهَا، تَحَرَّكَ فَأُخِذَ وَشُقَّ، فَخَرَجَ مِنْهُ سَبْعَةُ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، وَعَاشُوا جَمِيعًا، وَكَانُوا خَلْقًا سَوِيًّا، إلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي أَعْضَادِهِمْ قِصَرٌ، قَالَ: وَصَارَعَنِي أَحَدُهُمْ فَصَرَعَنِي، فَكُنْت أُعَيَّرُ بِهِ، فَيُقَال: صَرَعَك سُبْعُ رَجُلٍ وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّمِائَةٍ، أَوْ سَنَةَ تِسْعٍ، عَنْ ضَرِيرٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدَتْ امْرَأَتِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ سَبْعَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَ بِدِمَشْقَ أُمُّ وَلَدٍ لِبَعْضِ كُبَرَائِهَا، وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيَّ، وَكَانَتْ تَلِدُ ثَلَاثَةً فِي كُلِّ بَطْنٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا نَادِرٌ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ الْمِيرَاثِ مِنْ أَجْلِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْمَرْأَةِ حَمْلٌ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ فِيمَا يُوقَفُ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ذَكَرَيْنِ، إنْ كَانَ مِيرَاثُهُمَا أَكْثَرَ، أَوْ ابْنَتَيْنِ إنْ كَانَ نَصِيبُهُمَا أَكْثَرَ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَاللُّؤْلُؤِيِّ. وَقَالَ شَرِيكٌ: يُوقَفُ نَصِيبُ أَرْبَعَةٍ، فَإِنِّي رَأَيْت بَنِي إسْمَاعِيلَ أَرْبَعَةً، وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، مُحَمَّدُ، وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: وَأَظُنُّ الرَّابِعَ إسْمَاعِيلَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُوقَفُ نَصِيبُ غُلَامٍ، وَيُؤْخَذُ ضَمِينٌ مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَنَا؛ أَنَّ وِلَادَةَ التَّوْأَمَيْنِ كَثِيرٌ مُعْتَادٌ، فَلَا يَجُوزُ قَسْمُ نَصِيبِهِمَا، كَالْوَاحِدِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا نَادِرٌ، فَلَمْ يُوقَفْ لَهُ شَيْءٌ كَالْخَامِسِ، وَالسَّادِسِ، وَمَتَى وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مَنْ يَرِثُ الْمَوْقُوفَ كُلَّهُ أَخَذَهُ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ رُدَّ إلَى أَهْلِهِ، وَإِنْ أَعْوَزَ شَيْئًا رَجَعَ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ. مَسَائِلُ مِنْ ذَلِكَ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ وَبِنْتٌ، لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ، وَلِلْبِنْتِ خُمُسُ الْبَاقِي. وَفِي قَوْلِ شَرِيكٍ تِسْعَةٌ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ثُلُثُهُ بِضَمِينِ. وَلَا يُدْفَعُ إلَيْهَا شَيْءٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْبِنْتِ ابْنٌ دَفَعَ إلَيْهِ ثُلُثَ الْبَاقِي، أَوْ خُمُسَهُ، أَوْ نِصْفَهُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. وَمَتَى زَادَتْ الْفُرُوضُ عَلَى ثُلُثِ الْمَالِ، فَمِيرَاثُ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ، فَإِذَا خَلَّفَ أَبَوَيْنِ، وَامْرَأَةً حَامِلًا، فَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلِلْأَبَوَيْنِ ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا، وَيُوقَفُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَيَسْتَوِي هَاهُنَا قَوْلُ مَنْ وَقَفَ نَصِيبَ ابْنَتَيْنِ، وَقَوْلُ مَنْ وَقَفَ نَصِيبَ أَرْبَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُعْطَى الْمَرْأَةُ ثُمُنًا كَامِلًا، وَالْأَبَوَانِ ثُلُثًا كَامِلًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ ضَمِينٌ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ بِنْتٌ دُفِعَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَفِي قَوْلِ شَرِيكٍ، ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةَ عَشَرَ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْكُلِّ ضُمَنَاءُ مِنْ الْبِنْتِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُولَدَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَمِنْ الْبَاقِينَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَعُولَ الْمَسْأَلَةُ. وَعَلَى قَوْلِنَا يُوَافَقُ بَيْنَ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ بِالْأَثْلَاثِ، وَتَضْرِبُ ثُلُثَ إحْدَاهُمَا فِي جَمِيعِ الْأُخْرَى، تَكُنْ أَلْفًا وَثَمَانِينَ، وَتُعْطِي الْبِنْتَ ثَلَاثَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 عَشَرَ فِي تِسْعَةٍ، تَكُنْ مِائَةً وَسَبْعَةَ عَشَرَ، وَلِلْأَبَوَيْنِ وَالْمَرْأَةُ أَحَدَ عَشَرَ فِي أَرْبَعِينَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مَوْقُوفٌ زَوْجٌ وَأُمٌّ حَامِلٌ مِنْ الْأَبِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ، وَيُوقَفُ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، يُدْفَعُ إلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَإِلَى الْأُمِّ سَهْمَانِ، وَتَقِفُ ثَلَاثَةً، وَتَأْخُذُ مِنْهَا ضَمِينًا، هَكَذَا حَكَى الْخَبْرِيُّ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ يَسْقُطُ بِوَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، كَعَصَبَةٍ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ، لَمْ يُعْطَ شَيْئًا. وَلَوْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَدٌّ، فَلِلزَّوْجِ الثُّلُثُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي مَوْقُوفٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَيُوقَفُ السُّدُسُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ، وَلَا شَيْءَ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُهُ وَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُهَا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَيَقِفُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ. وَحُكِيَ عَنْ شَرِيكٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الْجَدِّ فَيَقِفُ هَاهُنَا نَصِيبَ الْإِنَاثِ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ تِسْعَةٍ، وَتَقِفُ مِنْهَا أَرْبَعَةً. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَتَقِفُ عَشَرَةً مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْجَدِّ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَيُوقَفُ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، يَقِفُ الثُّلُثَ، وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا ضَمِينٌ. وَمَتَى خَلَّفَ وَرَثَةً، وَأُمًّا تَحْتَ الزَّوْجِ، فَيَنْبَغِي لِلزَّوْجِ الْإِمْسَاكُ عَنْ وَطْئِهَا، لِيَعْلَم أَحَامِلٌ هِيَ أَمْ لَا؟ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، فِي آخَرِينَ. وَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَرِثَ، لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا بِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ تَرِثْ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْوَرَثَةُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا بِهِ يَوْمَ مَوْتِ وَلَدِهَا. [فَصْلٌ لَا يَرِثْ الْحَمْلُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ] فَصْلٌ: وَلَا يَرِثُ الْحَمْلُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْمَوْتِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَوْ سَيِّدٌ يَطَؤُهَا لَمْ يَرِثْ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوطَأُ، إمَّا لِعَدَمِ الزَّوْجِ، أَوْ السَّيِّدِ، وَإِمَّا لِغَيْبَتِهِمَا، أَوْ اجْتِنَابِهِمَا الْوَطْءَ، عَجْزًا أَوْ قَصْدًا أَوْ غَيْرَهُ، وَرِثَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَذَلِكَ أَرْبَعُ سِنِينَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى سَنَتَانِ وَالثَّانِي، أَنْ تَضَعَهُ حَيًّا، فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يَرِثْ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِيرَاثُ مِنْ الْحَيَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا وَرِثَ، وَوُرِثَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الِاسْتِهْلَالِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِهْلَالِ مَا هُوَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ» أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِغَيْرِ الِاسْتِهْلَالِ، وَفِي لَفْظٍ ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَاقَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ: «إذَا وَقَعَ صَارِخًا فَاسْتَهَلَّ وَرِثَ، وَتَمَّتْ دِيَتُهُ، وَسُمِّيَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَعَ حَيًّا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا، لَمْ تَتِمَّ دِيَتُهُ، وَفِيهِ غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ، أَوْ أَمَةٌ، عَلَى الْعَاقِلَةِ» . وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ حَيٍّ، وَالْحَرَكَةُ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ حَيٍّ، فَإِنَّ اللَّحْمَ يَخْتَلِجُ سِيَّمَا إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَان ضَيِّقٍ، فَتَضَامَّتْ أَجْزَاؤُهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَكَان فَسِيحٍ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنْ غَيْرِ حَيَاةٍ فِيهِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ، فَلَا نَعْلَمُ كَوْنَهَا مُسْتَقِرَّةً. لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ تَتَحَرَّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ حَرَكَةً شَدِيدَةً، وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ، وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِهْلَالِ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الصُّرَاخُ خَاصَّةً. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَرَوَاهُ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فَقَالَ: لَا يَرِثُ إلَّا مَنْ اسْتَهَلَّ صَارِخًا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الصُّرَاخُ مِنْ الصَّبِيِّ الِاسْتِهْلَالَ تَجَوُّزًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ صَاحُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَاجْتَمَعُوا، وَأَرَاهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَسُمِّيَ الصَّوْتُ عِنْدَ اسْتِهْلَالِ الْهِلَالِ اسْتِهْلَالًا، ثُمَّ سُمِّيَ الصَّوْتُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَوْلُودِ اسْتِهْلَالًا؛ لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ وُجُودِ شَيْءٍ يُجْتَمَعُ لَهُ، وَيُفْرَحُ بِهِ وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: يَرِثُ السِّقْطُ وَيُورَثُ، إذَا اسْتَهَلَّ. فَقِيلَ لَهُ: مَا اسْتِهْلَالُهُ؟ قَالَ: إذَا صَاحَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بَكَى. فَعَلَى هَذَا كُلُّ صَوْتٍ يُوجَدُ مِنْهُ، تُعْلَمُ بِهِ حَيَاتُهُ، فَهُوَ اسْتِهْلَالٌ. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ صَوْتٌ عُلِمَتْ بِهِ حَيَاتُهُ، فَأَشْبَهَ الصُّرَاخَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِصَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَرِثَ، وَثَبَتَ لَهُ أَحْكَامُ الْمُسْتَهِلِّ، لِأَنَّهُ حَيٌّ فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ، كَالْمُسْتَهِلِّ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَدَاوُد وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا فَاسْتَهَلَّ، ثُمَّ انْفَصَلَ بَاقِيهِ مَيِّتًا، لَمْ يَرِثْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إذَا خَرَجَ أَكْثَرُهُ فَاسْتَهَلَّ ثُمَّ مَاتَ، وَرِثَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ» . وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ جَمِيعُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 [فَصْلٌ وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ] (4969) فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ، أَوْ أُنْثَيَيْنِ، أَوْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، لَا يَخْتَلِفُ مِيرَاثُهُمَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَا ذَكَرًا وَأُنْثَى يَخْتَلِفُ مِيرَاثُهُمَا، فَقَالَ الْقَاضِي: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ جُعِلَ الْمُسْتَهِلَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ فَلَمْ تُعْلَمْ بِعَيْنِهَا ثُمَّ مَاتَ، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ. وَقَالَ الْخَبْرِيُّ: لَيْسَ فِي هَذَا عَنْ السَّلَفِ نَصٌّ. وَقَالَ الْفَرْضِيُّونَ: تُعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْحَالَيْنِ، وَيُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الِاحْتِمَالِ. وَمِنْ مَسَائِل ذَلِكَ: رَجُلٌ خَلَّفَ أُمَّهُ وَأَخَاهُ وَأُمَّ وَلَدٍ حَامِلًا مِنْهُ، فَوَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ، فَقِيلَ: إنْ كَانَ الِابْنُ الْمُسْتَهِلَّ، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لَهُ تَرِثُ أُمُّهُ، ثُلُثَهُ، وَالْبَاقِي لِعَمِّهِ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ، تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأُمِّ الْمَيِّتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِأُمِّ الْوَلَدِ خَمْسَةٌ، وَلِلْعَمِّ عَشَرَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ الْبِنْتُ الْمُسْتَهِلَّةَ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ، فَتَمُوتُ الْبِنْتُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، لِأُمِّهَا سَهْمٌ، وَلِعَمِّهَا سَهْمَانِ وَالسِّتَّةُ تَدْخُلُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ فِي وَاحِدٍ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ السِّتَّةِ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ، فَسُدُسُ الْأُمِّ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلِلْعَمِّ مِنْ السِّتَّةِ أَرْبَعَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ اثْنَا عَشَرَ، وَلَهُ مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ عَشَرَةٌ فِي وَاحِدٍ، فَهَذَا الْيَقِينُ فَيَأْخُذُهُ، وَلِأُمِّ الْوَلَدِ خَمْسَةٌ فِي سَهْمٍ، وَسَهْمٌ فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَأْخُذُهَا، وَيَقِفُ سَهْمَيْنِ بَيْنَ الْأَخِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقْتَسِمَاهَا بَيْنَهُمَا. امْرَأَةٌ حَامِلٌ وَعَمٌّ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ ابْنًا وَبِنْتًا، وَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُعْلَمْ، فَالْمَسْأَلَتَانِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، إذَا أَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهِ بَقِيَتْ ثَلَاثَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا بِنْتٌ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَالْمَوْقُوفُ اثْنَا عَشَرَ امْرَأَةٌ وَعَمٌّ وَأُمٌّ حَامِلٌ مِنْ الْأَبِ، وَلَدَتْ ابْنًا وَبِنْتًا، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهِلُّ الْأَخَ، فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْتُ الْمُسْتَهِلَّةَ، فَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَالْمَسْأَلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، فَاضْرِبْ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَكُنْ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً، وَسِتِّينَ، كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مَضْرُوبٌ فِي الْأُخْرَى، فَيَدْفَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، مِنْهَا تِسْعَةٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَمِّ، وَخَمْسَةٌ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْعَمِّ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ وَالْأُمُّ حَامِلَيْنِ، فَوَضَعَتَا مَعًا، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَرْجِعُ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَيُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَيَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ، وَسَبْعَةٌ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْعَمِّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 (4970) فَصْلٌ: وَإِذَا وَلَدَتْ الْحَامِلُ تَوْأَمَيْنِ، فَسُمِعَ الِاسْتِهْلَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ سُمِعَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْرِ أَهُوَ مِنْ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنْ الثَّانِي، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ الْمِيرَاثُ لِمَنْ عُلِمَ اسْتِهْلَالُهُ دُونَ مِنْ شَكَكْنَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اسْتِهْلَالِهِ. فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، إنْ عُلِمَ الْمُسْتَهِلُّ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ، وَإِنْ جُهِلَ عَيْنُهُ، كَانَ كَمَا لَوْ اسْتَهَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْفَرْضِيُّونَ: يُعْمَلُ عَلَى الْأَحْوَالِ، فَيُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ: أُمٌّ حَامِلٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَعَمٌّ، وَلَدَتْ الْأُمُّ بِنْتَيْنِ، فَاسْتَهَلَّتْ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ سُمِعَ الِاسْتِهْلَالُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْرِ هَلْ اسْتَهَلَّتْ الْأُخْرَى، أَوْ تَكَرَّرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ فَقِيلَ: إنْ كَانَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَقَدْ مَاتَتَا عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ سِتَّةٍ، وَلَا يُعْلَمُ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَرْقَى، فَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا تُوَرَّثُ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى، قَالَ: قَدْ خَلَّفَتَا أُمًّا وَأُخْتًا وَعَمًّا، فَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِهْلَالُ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ مَاتَتْ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ سِتَّةٍ فَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. وَبَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالسُّدُسِ، فَتَصِيرُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، لِلْأُمِّ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْأُخْتِ كَذَلِكَ، وَلِلْعَمِّ تِسْعَةٌ وَنَقِفُ ثَلَاثَةً، تَدَّعِي الْأُمُّ مِنْهَا سَهْمَيْنِ، وَالْعَمُّ سَهْمًا، وَتَدَّعِيهَا الْأُخْتُ كُلَّهَا، فَيَكُونُ سَهْمَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُمِّ، وَسَهْمٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَمِّ. زَوْجٌ وَجَدٌّ وَأُمٌّ حَامِلٌ، وَلَدَتْ ابْنًا، وَبِنْتًا، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ سُمِعَ الِاسْتِهْلَالُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْرِ مِمَّنْ هُوَ؟ فَإِنْ كَانَ الِاسْتِهْلَالُ تَكَرَّرَ مِنْ الْبِنْتِ، فَهِيَ الْأَكْدَرِيَّةُ، وَمَاتَتْ عَنْ أَرْبَعَةٍ، بَيْنَ أُمِّهَا وَجَدِّهَا، فَتَصِحُّ مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْ الْأَخِ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا، وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلْجَدِّ مِنْهَا سَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَلَهُمَا السُّدُسُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالثَّلَاثَةُ الَّتِي لَهُمَا بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَصَارَ لِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةٌ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، تُوَافِقُ أَحَدًا وَثَمَانِيَةً بِالْأَتْسَاعِ، فَتَصِيرُ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، لِلزَّوْجِ حَقُّهُ مِنْ الْأَكْدَرِيَّةِ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ، وَلِلْأُمِّ تُسْعَا الْمَالِ مِنْ مَسْأَلَةِ اسْتِهْلَالِهِمَا مَعًا، سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ مِنْ مَسْأَلَةِ اسْتِهْلَالِ الْأَخِ وَحْدَهُ، سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، يَدَّعِي الزَّوْجُ مِنْهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، وَالْأُمُّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَيَدَّعِي مِنْهَا الْجَدُّ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَتَعُولُ الثَّمَانِيَةُ الْفَاضِلَةُ لِلْأُمِّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَالْجَدَّ يُقِرَّانِ لَهَا بِهَا. [فَصْلٌ ضُرِبَ بَطْنُ حَامِلٍ فَأَسْقَطَتْ] (4971) فَصْلٌ: وَإِذَا ضُرِبَ بَطْنُ حَامِلٍ فَأَسْقَطَتْ، فَعَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْ الْجَنِينِ، كَأَنَّهُ سَقَطَ حَيًّا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ رَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ، وَهُوَ شُذُوذٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 لَا يَعْرُجُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تُوَرَّثُونَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَرِثُ؟ قُلْنَا: نُوَرَّثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلٌ عَنْهُ، فَوَرِثَتْهُ وَرَثَتُهُ، كَدِيَةِ غَيْرِ الْجَنِينِ، وَأَمَّا تَوْرِيثُهُ فَمِنْ شُرُوطِهِ كَوْنُهُ حَيًّا حِين مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، فَلَا نُوَرَّثُهُ مَعَ الشَّكِّ فِي حَيَاتِهِ. [فَصْلٌ دِيَةُ الْمَقْتُولِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ] (4972) فَصْلٌ: وَدِيَةُ الْمَقْتُولِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، إلَّا أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَنْ عَلِيٍّ، فَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَعَنْهُ لَا يَرِثُهَا إلَّا عَصَبَاتُهُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ. وَكَانَ عُمَرُ يَذْهَبُ إلَى هَذَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، لَمَّا بَلَغَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. قَالَ سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا «. فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ الْكِلَابِيُّ: كَتَبَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى إنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَعَقْلِهِ، وَيَرِثُ هُوَ مِنْ مَالِهَا وَعَقْلِهَا، مَا لَمْ يَقْتُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ» إلَّا أَنَّ فِي إسْنَادِهِ رَجُلًا مَجْهُولًا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّيَةُ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَالْعَقْلُ عَلَى الْعَصَبَةِ» . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَلَا تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ، وَلَا تُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، فَقُتِلَ، وَأُخِذَتْ دِيَتُهُ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأُخْرَى، لَيْسَ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ، وَمَبْنَى هَذَا عَلَى أَنَّ الدِّيَةِ مِلْكُ الْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ بَدَلُهَا لَهُ، كَدِيَةِ أَطْرَافِهِ الْمَقْطُوعَةِ مِنْهُ فِي الْحَيَاةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهَا عَنْ الْقَاتِلِ بَعْدَ جَرْحِهِ إيَّاهُ، كَانَ صَحِيحًا، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ مَوْرُوثٌ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَمْوَالِهِ. وَالْأُخْرَى، أَنَّهَا تُحْدَثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَبِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلِكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِوَرَثَتِهِ ابْتِدَاءً. وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمَيِّتَ يُجَهَّزُ مِنْهَا، إنْ كَانَ قَبْلَ تَجْهِيزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، لَوَجَبَ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لَوْ كَانَ فَقِيرًا، فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي دِيَتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 [فَصْلٌ مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ] (4973) فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلَاكُ، وَهُوَ مَنْ يُفْقَدُ فِي مَهْلَكَةٍ، كَاَلَّذِي يُفْقَدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَقَدْ هَلَكَ جَمَاعَةٌ، أَوْ فِي مَرْكَبٍ انْكَسَرَ، فَغَرِقَ بَعْضُ أَهْلِهِ، أَوْ فِي مَفَازَةٍ يَهْلَكُ فِيهَا النَّاسُ، أَوْ يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، أَوْ يَخْرُجُ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ أَوْ لِحَاجَةِ قَرِيبَةٍ، فَلَا يَرْجِعُ، وَلَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ، فَهَذَا يُنْتَظَرُ بِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ، قُسِّمَ مَالُهُ، وَاعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُقَسِّمُ مَالُهُ، حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُبَاحُ لِامْرَأَتِهِ التَّزَوُّجُ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَإِذَا حُكِمَ بِوَفَاتِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْوُقُوفِ عَنْ قَسْمِ مَالِهِ. وَإِنْ مَاتَ لِلْمَفْقُودِ مَنْ يَرِثُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ، وُقِفَ لِلْمَفْقُودِ نَصِيبُهُ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَمَا يَشُكُّ فِي مُسْتَحِقِّهِ، وَقُسِمَ بَاقِيهِ؛ فَإِنْ بَانَ حَيًّا، أَخَذَهُ، وَرُدَّ الْفَضْلُ إلَى أَهْلِهِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، دُفِعَ نُصِيبُهُ مَعَ مَالِهِ إلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، رُدَّ الْمَوْقُوفُ إلَى وَرَثَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ، رُدَّ أَيْضًا إلَى وَرَثَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي حَيَاتِهِ حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، فَلَا نُوَرِّثُهُ مَعَ الشَّكِّ، كَالْجَنِينِ الَّذِي يُسْقَطَ مَيِّتًا، وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَاتَ، وَلَمْ يَدْرِ مَتَى مَاتَ. وَلَمْ يُفَرِّقْ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ صُورِ الْفِقْدَانِ فِيمَا عَلِمْنَا، إلَّا أَنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فِي الْقَدِيمِ، وَافَقَا فِي الزَّوْجَةِ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ خَاصَّةً وَالْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ مِثْلُ قَوْلِ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا مَالُهُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ فِي مِثْلِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَفْقُودٌ لَا يَتَحَقَّقُ مَوْتُهُ، فَأَشْبَهَ التَّاجِرَ وَالسَّائِحَ. وَلَنَا، اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى تَزْوِيجِ امْرَأَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَدَدِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ مَعَ الِاحْتِيَاطِ لِلْأَبْضَاعِ، فَفِي الْمَالِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هَلَاكُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَضَتْ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ فِي مِثْلِهَا النَّوْعُ الثَّانِي، مَنْ لَيْسَ الْغَالِبُ هَلَاكَهُ، كَالْمُسَافِرِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ سِيَاحَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ، وَلَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتُهُ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ مِثْلَهَا، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَيَاتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ هَاهُنَا، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يُنْتَظَرُ بِهِ تَمَامُ تِسْعِينَ سَنَةً مَعَ سَنَةِ يَوْمَ فُقِدَ. وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُنْتَظَرُ بِهِ إلَى تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً مَعَ سَنَةِ يَوْمَ فُقِدَ. وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ وَالسِّتِّينَ» . أَوْ كَمَا قَالَ؛ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَأَشْبَهَ التِّسْعِينَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يُنْتَظَرُ بِهِ تَمَامُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ: وَلَوْ فُقِدَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَهُ مَالٌ، لَمْ يُقَسَّمْ مَالُهُ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ سِتُّونَ سَنَةً أُخْرَى، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ سَنَةِ يَوْمَ فُقِدَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَيُقَسَّمُ مَالُهُ حِينَئِذٍ بَيْنَ وَرَثَتِهِ إنْ كَانُوا أَحْيَاءً، وَإِنْ مَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ قَبْلَ مُضِيِّ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَخَلَّفَ وَرَثَةً لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمَفْقُودِ، وَكَانَ مَالُهُ لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَيُوقَفُ لِلْمَفْقُودِ حِصَّتُهُ مِنْ مَالِ مَوْرُوثِهِ الَّذِي مَاتَ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُ الْمَفْقُودِ رُدَّ الْمَوْقُوفُ إلَى وَرَثَةِ مَوْرُوثِ الْمَفْقُودِ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَةِ الْمَفْقُودِ قَالَ اللُّؤْلُؤِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَحَكَى الْخَبْرِيُّ عَنْ اللُّؤْلُؤِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْمَوْقُوفَ لِلْمَفْقُودِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ. قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنِ اللَّبَّانِ عَنْ اللُّؤْلُؤِيِّ، فَقَالَ: لَوْ مَاتَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ قَبْلَ تَمَامَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِيَوْمِ، أَوْ بَعْدَ فَقْدِهِ بِيَوْمِ، وَتَمَّتْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، لَمْ تُوَرَّثْ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ نُوَرِّثْهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَيَّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي الْغَرْقَى: إنَّهُ لَا يُوَرَّثُ أَحَدُهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ الْأَحْيَاءَ مِنْ وَرَثَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمَفْقُودَ إلَّا الْأَحْيَاءُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَوْمَ قَسْمِ مَالِهِ، لَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَوْ بِيَوْمٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْ مَاتَ وَفِي وَرَثَتِهِ مَفْقُودٌ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، أَوْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الِانْتِظَارِ ، فَتَعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ، ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَتَضْرِبُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى إنْ تَبَايَنَتَا، أَوْ فِي وَقْفِهِمَا إنْ اتَّفَقَتَا، وَتَجْتَزِئُ إحْدَاهُمَا إنْ تَمَاثَلَتَا، أَوْ بِأَكْثَرِهِمَا إنْ تَنَاسَبَتَا، وَتُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَمَنْ لَا يَرِثُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا لَا تُعْطِيهِ شَيْئًا، وَتَقِفُ الْبَاقِيَ. وَلَهُمْ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الْمَفْقُودِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَنِّيُّ، وَقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَنْقُصَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ مُتَيَقَّنَةٌ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: لَك أَنْ تُصَالِحَ عَلَى بَعْضِهِ بَلْ إنْ جَازَ ذَلِكَ، فَالْأَوْلَى أَنْ نُقَسِّمَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ، وَنَقِفُ نَصِيبَ الْمَفْقُودِ لَا غَيْرُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الزَّائِدَ عَنْ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ مِنْ الْمَوْقُوفِ مَشْكُوكٌ فِي مُسْتَحِقِّهِ، وَيَقِينُ الْحَيَاةِ مُعَارِضٌ بِظُهُورِ الْمَوْتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَرَّثَ كَالزَّائِدِ عَنْ الْيَقِينِ فِي مَسَائِلِ الْحَمْلِ وَالِاسْتِهْلَالِ، وَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ الْمَوْجُودِينَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، وَإِبَاحَةُ الصُّلْحِ عَلَيْهِ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ وَقْفِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، وَوُجُوبُ وَقْفِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 لَا يَمْنَعُ الصُّلْحَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ أَخْذِ الْإِنْسَانِ حَقَّ غَيْرِهِ بِرِضَاهُ وَصُلْحِهِ، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ أَخْذِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْوَنِّيِّ هَذَا أَنْ تُقَسَّمَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَيَقِفَ نَصِيبَهُ لَا غَيْرُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى الْمَوْجُودِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَحَقِّقُونَ، وَالْمَفْقُودُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يُوَرَّثُ مَعَ الشَّكِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ الْمَالُ فِي يَدِهِ، فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ ابْنَتَيْهِ، وَابْنَ ابْنٍ، أَبُوهُ مَفْقُودٌ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ، فَاخْتَصَمُوا إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَ الْمَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَلَا يَقِفَ مِنْهُ شَيْئًا، سَوَاءٌ اعْتَرَفَتْ الِابْنَتَانِ بِفَقْدِهِ، أَوْ ادَّعَتَا مَوْتَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ ابْنِ الْمَفْقُودِ، لَمْ يُعْطَ الِابْنَتَانِ إلَّا النِّصْفَ أَقَلَّ مَا يَكُونُ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ، فَأَقَرَّ بِأَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ، وُقِفَ لَهُ النِّصْفُ فِي يَدَيْهِ، وَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ: قَدْ مَاتَ الْمَفْقُودُ، لَزِمَهُ دَفْعُ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْبِنْتَيْنِ، وَيُوقَفُ الثُّلُثُ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ ابْنُ الِابْنِ بِمَوْتِ أَبِيهِ، فَيُدْفَعَ إلَيْهِ الْبَاقِي. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ وَأَخٌ مَفْقُودٌ، مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ، مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَيَاةِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَهُمَا يَتَّفِقَانِ بِالْأَتْسَاعِ ، فَتَضْرِبُ تُسْعَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ، وَالثُّلُثُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، فَيُعْطَى الثُّلُثَ، وَلِلْأُمِّ التُّسْعَانِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، وَالسُّدُسُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ، فَتُعْطَى السُّدُسَ، وَلِلْجَدِّ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، وَتِسْعَةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ، فَيَأْخُذُ التِّسْعَةَ، وَلِلْأُخْتِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ، فَتَأْخُذُ ثَلَاثَةً، وَيَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْقُوفَةً، إنْ بَانَ أَنَّ الْأَخَ حَيٌّ، وَأَخَذَ سِتَّةً، وَأَخَذَ الزَّوْجُ تِسْعَةً، وَإِنْ بَانَ مَيِّتًا، أَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ قُدُومِهِ، أَخَذَتْ الْأُمُّ ثَلَاثَةً، وَالْأُخْتُ خَمْسَةً، وَالْجَدُّ سَبْعَةً وَاخْتَارَ الْخَبْرِيُّ أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا مَضَتْ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ، أَنْ يُقَسَّمَ نَصِيبُهُ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَى وَرَثَتِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِحَيَاتِهِ، لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ مَوْقُوف لِمَنْ يُنْتَظَرُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ حَالُهُ، فَإِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ حَيَاتُهُ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ، كَالْمَوْقُوفِ لِلْحَمْلِ، وَلِلْمُورِثَةِ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى التِّسْعَةِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَابْنَتَانِ مَفْقُودَتَانِ مَسْأَلَةُ حَيَاتِهِمَا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي حَيَاةِ إحْدَاهُمَا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَفِي مَوْتِهِمَا مِنْ سِتَّةٍ، فَتَضْرِبُ ثُلُثَ السِّتَّةِ فِي خَمْسَةَ عَشْرَ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، تَكُنْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ، ثُمَّ تُعْطِي الزَّوْجَ وَالْأَبَوَيْنِ حُقُوقَهُمْ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ مَضْرُوبًا فِي اثْنَيْنِ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةَ عَشْرَ، وَتَقِفُ الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ مَفْقُودُونَ، عَمِلْت لَهُمْ أَرْبَعَ مَسَائِلَ. وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً عَمِلْت لَهُمْ مَسَائِلَ. وَعَلَى هَذَا. وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ يَحْجُبُ وَلَا يَرِثُ، كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ مِنْ أَبَوَيْنِ وَأُخْتٍ مِنْ أَبٍ وَأَخٍ لَهَا مَفْقُودٍ، وَقَفْت السُّبْعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَقِيلَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 لَا يُوقَفُ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَتُعْطَى الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ السُّبْعَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَا تَرِثُ بِالشَّكِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ دَفْعَ السُّبْعِ إلَيْهَا تَوْرِيثٌ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ فِي الْوَقْفِ حَجْبٌ يَقِينًا، إنَّمَا هُوَ تَوَقُّفٌ عَنْ صَرْفِ الْمَالِ إلَى إحْدَى الْجِهَتَيْنِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا. وَيُعَارِضُ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْيَقِينَ حَيَاتُهُ، فَيُعْمَلُ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَيُدْفَعُ الْمَالُ إلَى الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. وَالتَّوَسُّطُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِيرَاث الْأَسِير] (4974) فَصْلٌ: وَالْأَسِيرُ كَالْمَفْقُودِ، إذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ. وَإِنْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ، وَرِثَ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَ الْأَحْرَارَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ] (4975) فَصْلٌ: فِي التَّزْوِيجِ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ. حُكْمُ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَتَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ مَالِكٌ: أَيُّ الزَّوْجَيْنِ كَانَ مَرِيضًا مَرَضًا مَخُوفًا حَالَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ لَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ إلَّا أَنْ يُصِيبَهَا، فَيَكُونَ لَهَا الْمُسَمَّى فِي ثَلَاثَةٍ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصِيَّةِ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِثْلُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي نِكَاحِ مَنْ لَمْ يَرِثْ، كَالْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ بِقَصْدِ تَوْرِيثِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَارِثَةً. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ مِنْ الثُّلُثِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ: إنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا فَهُوَ صَحِيحٌ وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ فِي الصِّحَّةِ، فَيَصِحُّ فِي الْمَرَضِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ، فَيَصِحُّ كَحَالِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أُمِّ الْحَكَمِ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ، أَصْدَقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَلْفًا لِيُضَيِّقَ بِهِنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَيَشْرَكْنَهَا فِي مِيرَاثِهَا، فَأُجِيزَ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ، ثَبَتَ الْمِيرَاثُ بِعُمُومِ الْآيَةِ. [فَصْلٌ لَا فَرْقَ فِي مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ] (4976) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِي مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى لِبِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِالْمِيرَاثِ، وَكَانَ زَوْجُهَا مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، فَيُوَرَّثُ بِهِ، كَمَا بَعْدَ الدُّخُولِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 [فَصْلٌ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ] (4977) فَصْلٌ: فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ شَرْعِيٍّ. وَإِذَا اشْتَبَهَ مَنْ نِكَاحُهَا فَاسِدٌ بِمَنْ نِكَاحُهَا صَحِيحٌ، فَالْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ، لَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا تَزَوَّجَ أَوَّلَ: فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَتَوَقَّفَ عَنْ أَنْ يَقُولَ فِي الصَّدَاقِ شَيْئًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ إذَا مَاتَ عَنْهُمَا. وَعَنْ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُنَّ عَلَى حَسَبِ الدَّعَاوَى وَالتَّنْزِيلِ، كَمِيرَاثِ الْخَنَاثَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُوقَفُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ. فَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عَقْدٍ، وَأَرْبَعًا فِي عَقْدٍ، ثُمَّ مَاتَ، وَخَلَّفَ أَخًا، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّ الْعَقْدَيْنِ سَبَقَ، فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كُلُّ وَاحِدَةٍ تَدَّعِي مَهْرًا كَامِلًا يُنْكِرُهُ الْأَخُ، فَتُعْطَى كُلُّ وَاحِدَةٍ نِصْفَ مَهْرٍ، وَيُؤْخَذُ رُبُعُ الْبَاقِي تَدَّعِيهِ الْوَاحِدَةُ وَالْأَرْبَعُ، فَيُقَسَّمُ لِلْوَاحِدَةِ نِصْفُهُ، وَلِلْأَرْبَعِ نِصْفُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْثَرُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ، يُوقَفُ مِنْهَا مَهْرٌ بَيْنَ النِّسَاءِ الْخَمْسِ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ تَدَّعِي الْوَاحِدَةُ رُبُعَهَا مِيرَاثًا، وَيَدَّعِي الْأَخُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا، فَيُوقَفُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ بَيْنَ النِّسَاءِ الْخَمْسِ، وَبَاقِيهَا وَهُوَ مَهْرَانِ وَرُبُعٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَبَيْنَ الْأَخِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ رُبُعُ مَا بَقِيَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ النِّسَاءِ الْخَمْسِ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عَقْدٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ، وَثَلَاثًا فِي عَقْدٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ، فَالْوَاحِدَةُ نِكَاحُهَا صَحِيحٌ، فَلَهَا مَهْرُهَا، وَيَبْقَى الشَّكُّ فِي الْخَمْسِ، فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَهُنَّ مَهْرَانِ بِيَقِينٍ، وَالثَّالِثُ لَهُنَّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَيَكُونُ لَهُنَّ نِصْفُهُ، ثُمَّ يُقَسَّمُ ذَلِكَ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ مَهْرٍ، ثُمَّ يُؤْخَذُ رُبُعُ الْبَاقِي لَهُنَّ مِيرَاثًا، فَلِلْوَاحِدَةِ رُبُعُهُ يَقِينًا، وَتَدَّعِي نِصْفَ سُدُسِهِ، فَتُعْطَى نِصْفَهُ، فَيَصِيرُ لَهَا مِنْ الرُّبُعِ سُدُسُهُ وَثُمُنُهُ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالِاثْنَتَانِ تَدَّعِيَانِ ثُلُثَيْهِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشْرَ سَهْمًا، فَيُعْطَيْنَ نِصْفَهُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَالثَّلَاثُ يَدَّعِينَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَيُعْطَيْنَ تُسْعَهُ. هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، تُقَسَّمُ السَّبْعَةَ عَشَرَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ نِصْفَيْنِ. فَيَصِيرُ الرُّبُعُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا، ثُمَّ تَضْرِبُ الِاثْنَيْنِ فِي الثَّلَاثِ، ثُمَّ فِي الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ، تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ، فَهَذَا رُبُعُ الْمَالِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُعْطَى الْوَاحِدَةُ مَهْرَهَا، وَيُوقَفُ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ؛ مَهْرَانِ؛ مِنْهَا بَيْنَ الْخَمْسِ، وَمَهْرٌ تَدَّعِيهِ الْوَاحِدَةُ، وَالِاثْنَتَانِ رُبُعُهُ مِيرَاثًا، وَتَدَّعِيهِ الثَّلَاثُ مَهْرًا وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ تَدَّعِيهِ الْأُخْرَى مِيرَاثًا وَتَدَّعِيهِ الثَّلَاثُ مَهْرًا، وَيُؤْخَذُ رُبُعُ مَا بَقِيَ فَيُدْفَعُ رُبُعُهُ إلَى الْوَاحِدَةِ، وَنِصْفُ سُدُسِهِ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ مَوْقُوفٌ، وَثُلُثَاهُ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ طَلَبَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْخَمْسِ شَيْئًا مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 الْمِيرَاثِ الْمَوْقُوفِ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهَا شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ إنْ طَلَبَهُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ، لَمْ يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ. وَإِنْ طَلَبَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ، وَوَاحِدَةٌ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ، دُفِعَ إلَيْهِمَا رُبُعُ الْمِيرَاثِ. وَإِنْ طَلَبَتْهُ وَاحِدَةٌ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ، وَاثْنَتَانِ مِنْ الثَّلَاثِ، أَوْ الثَّلَاثُ كُلُّهُنَّ، دُفِعَ إلَيْهِنَّ ثُلُثُهُ. وَإِنْ عَيَّنَ الزَّوْجُ الْمَنْكُوحَاتِ أَوَّلًا، قُبِلَ تَعْيِينُهُ وَثَبَتَ. وَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْيِينًا لَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِلْمَوْطُوءَةِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَيَكُون الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا مَوْقُوفًا. وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، يَكُونُ تَعْيِينًا، فَإِنْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ، صَحَّ نِكَاحُهَا، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الثَّلَاثِ، بَطَلَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ. وَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْ الِاثْنَتَيْنِ، وَوَاحِدَةً مِنْ الثَّلَاثِ، صَحَّ نِكَاحُ الْفَرِيقِ الْمَبْدُوءِ بِوَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، وَلِلْمَوْطُوءَةِ الَّتِي لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فَإِنْ أَشْكَلَ أَيْضًا، أُخِذَ مِنْهُ الْيَقِينُ، وَهُوَ مَهْرَانِ مُسَمَّيَانِ وَمَهْرُ مِثْلٍ، وَيَبْقَى مَهْرٌ مُسَمًّى تَدَّعِيهِ النِّسْوَةُ، وَيُنْكِرُهُ الْأَخُ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، فَيَحْصُلُ لِلنِّسْوَةِ مَهْرُ مِثْلٍ وَمُسَمَّيَانِ وَنِصْفٌ، مِنْهَا مَهْرٌ مُسَمًّى، وَمَهْرُ مِثْلٍ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْمَوْطُوءَتَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَيَبْقَى مُسَمًّى وَنِصْفٌ بَيْنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفٌ مُسَمًّى، وَالْمِيرَاثُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا حُكْمَ لِلْوَطْءِ فِي التَّعْيِينِ، وَهَلْ يَقُومُ تَعْيِينُ الْوَارِثِ مَقَامَ تَعْيِينِ الزَّوْجِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. فَعَلَى قَوْلِهِ، يُؤْخَذُ مُسَمًّى وَمَهْرُ مِثْلٍ لِلْمَوْطُوءَتَيْنِ، تُعْطَى كُلُّ وَاحِدَةٍ الْأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَقِفُ الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا، وَيَبْقَى مُسَمَّيَانِ وَنِصْفٌ، يَقِفُ أَحَدَهُمَا بَيْنَ الثَّلَاثِ اللَّاتِي لَمْ يُوطَأْنَ، وَآخَرُ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ، وَالْمِيرَاثُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، فِي مَنْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَبَتَّ طَلَاقَ إحْدَاهُنَّ، ثُمَّ نَكَحَ خَامِسَةً، وَمَاتَ وَلَمْ يُدْرَ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَ، فَلِلْخَامِسَةِ رُبُعُ الْمِيرَاثِ، وَلِلْأَرْبَعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بَيْنَهُنَّ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ. وَلَوْ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ: إحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ. ثُمَّ نَكَحَ سَادِسَةً، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ، فَلِلسَّادِسَةِ رُبُعُ الْمِيرَاثِ، وَلِلْخَامِسَةِ رُبُعُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ أَرْبَاعًا. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ الطَّلَاق الرُّجْعَى لَا يَسْقُط التَّوَارُث بَيْنَهُمَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ] فَصْلٌ: فِي الطَّلَاقِ. إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فِي عِدَّتِهَا، لَمْ يَسْقُطْ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ، وَيَمْلِكُ إمْسَاكَهَا بِالرَّجْعَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا صَدَاقٍ جَدِيدٍ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الصِّحَّةِ طَلَاقًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَبَانَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، لَمْ يَتَوَارَثَا إجْمَاعًا وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فِي عِدَّتِهَا، وَرِثَتْهُ وَلَمْ يَرِثْهَا إنْ مَاتَتْ. يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَشُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَدِيمِ وَرُوِيَ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ، فَلَا تَرِثُ، كَالْبَائِنِ فِي الصِّحَّةِ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهَا، وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِيرَاثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلَاءٍ، وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَلَنَا، أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَّثَ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَبَتَّهَا. وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ وَلَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ خِلَافٌ فِي هَذَا، بَلْ قَدْ رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَئِنْ مِتّ لَأُوَرِّثَنَّهَا مِنْك. قَالَ: قَدْ عَلِمْت ذَلِكَ. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ إنْ صَحَّ، فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّ هَذَا قَصَدَ قَصْدًا فَاسِدًا فِي الْمِيرَاثِ، فَعُورِضَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَالْقَاتِلِ الْقَاصِدِ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ يُعَاقَبُ بِحِرْمَانِهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَرِثُهُ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا طَلَّقَهَا الْمَرِيضُ، أَنَّهَا تَرِثُهُ فِي الْعِدَّة، وَبَعْدَهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَهُوَ قَوْلُ الْبَتِّيِّ، وَحُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَصْحَابِ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَذُكِرَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَمَّا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَاهُ طَلَّقَ أُمَّهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَمَاتَ، فَوَرِثَتْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ سَبَبَ تَوْرِيثِهَا فِرَارُهُ مِنْ مِيرَاثِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ مُطَلَّقَاتِهِ. أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، أَنَّ الثَّمَانِيَ يَرِثْنَهُ كُلَّهُنَّ، فَيَكُونُ مُسْلِمًا يَرِثُهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَوْرِيثُ ثَمَانٍ، وَتَوْرِيثُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ يَلْزَمُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ: لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ لَهَا وَهَذِهِ كَذَلِكَ فَلَا تَرِثُ. وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ؛ لِأَنَّهَا تُبَاحُ لِزَوْجٍ آخَرَ، فَلَمْ تَرِثْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ تَوْرِيثَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ يُفْضِي إلَى تَوْرِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَإِنْ تَزَوَّجْت الْمَبْتُوتَةُ لَمْ تَرِثْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 الزَّوْجِيَّةِ أَوْ بَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ: تَرِثُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّهَا شَخْصٌ يَرِثُ مَعَ انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، فَوَرِثَ مَعَهَا، كَسَائِرِ الْوَارِثِينَ وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ وَارِثَةٌ مِنْ زَوْجٍ، فَلَا تَرِثُ زَوْجًا سِوَاهُ، كَسَائِرِ الزَّوْجَاتِ، وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ مِنْ حُكْمِ النِّكَاحِ، فَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ نِكَاحٍ آخَرَ، كَالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا فَعَلَتْ بِاخْتِيَارِهَا مَا يُنَافِي نِكَاحَ الْأَوَّلِ لَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فَسْخُ النِّكَاحِ مِنْ قِبَلِهَا (4979) فَصْلٌ: وَلَوْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ، لَمْ تَرِثْهُ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَزُفَرَ، أَنَّهَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ مَرَضٍ قُصِدَ بِهِ الْفِرَارُ مِنْ الْمِيرَاثِ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَصِحَّ وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ بَائِنٌ بِطَلَاقٍ فِي غَيْرِ مَرَضِ الْمَوْتِ، فَلَمْ تَرِثْهُ، كَالْمُطَلَّقَةِ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْمَرَضِ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِي الْعَطَايَا وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِقْرَارِ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا قَصَدَ الْفِرَارَ بِالطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ] (4980) فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهَا أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَالْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ ثَبَتَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا لِفِرَارِهِ مِنْهُ، وَهَذَا فَارٌّ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِيرَاثُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَتَكْمِيلُ الصَّدَاقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، لِأَنَّا جَعَلْنَاهَا فِي حُكْمِ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُوجِبُ عِدَّةً عَلَى غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا الثَّانِيَةُ، لَهَا الْمِيرَاثُ وَالصَّدَاقُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَلَا يَجِبُ بِفِرَارِهِ. وَالثَّالِثَةُ، لَهَا الْمِيرَاثُ وَنِصْفُ الصَّدَاقِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرِثُ يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ، وَلَا يَكْمُلُ الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَنْصِيفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَالرَّابِعَةُ، لَا مِيرَاثَ لَهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: لَا مِيرَاثَ لَهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَرِثُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَذْهَبُ إلَى قَوْلِ جَابِرٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَنْصِيفِ الصَّدَاقِ، وَنَفَى الْعِدَّةَ عَنْ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ نَصِّ الْكِتَابِ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُعْتَدَّةٍ مِنْ نِكَاحٍ، فَأَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ فِي الصِّحَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ خَلَا بِهَا، وَقَالَ: لَمَّا أَطَأْهَا. وَصَدَّقَتْهُ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِلْوَفَاةِ، وَيَكْمُلُ لَهَا الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ تَكْفِي فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَرِضَ فِي عِدَّتِهَا وَمَاتَ بَعْد انْقِضَائِهَا] (4981) فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَرِضَ فِي عِدَّتِهَا، وَمَاتَ بَعْد انْقِضَائِهَا، لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ صِحَّةٍ. وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي صِحَّتِهِ، وَأَبَانَهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ ابْتَدَأَ طَلَاقَهَا فِي مَرَضِهِ لِأَنَّهُ فَرَّ مِنْ مِيرَاثِهَا. وَإِنْ طَلْقَهَا وَاحِدَةً فِي صِحَّتِهِ، وَأُخْرَى فِي مَرَضِهِ، وَلَمْ يُبِنْهَا حَتَّى بَانَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْمَرَضِ لَمْ يَقْطَعْ مِيرَاثَهَا، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي بَيْنُونَتِهَا. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ فَارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا] (4982) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، فَارْتَدَّتْ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَرِثُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي الْمَرَضِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ تَرْتَدَّ. وَالثَّانِي، لَا تَرِثُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مَا يُنَافِي النِّكَاحَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَزَوَّجَتْ. وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، وَرِثَتْهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَرِثُهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي الْمَرَضِ، لَمْ تَفْعَلْ مَا يُنَافِي نِكَاحَهَا، مَاتَ زَوْجُهَا فِي عِدَّتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ تَرْتَدَّ. وَلَوْ ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَرِثَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ فَإِنْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ رُجُوعِهِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْفُرْقَةَ تُتَعَجَّلُ عَنَدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَرِثَهُ الْآخَرُ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ مَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا، وَرِثَهَا الزَّوْجُ. [فَصْلٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأُمَّةَ وَالذِّمِّيَّةَ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ عَتَقَتْ الْأَمَةُ ثُمَّ مَاتَ فِي عُدْتهمَا] (4983) فَصْلٌ: إذَا طَلَّقَ الْمُسْلِمُ الْمَرِيضُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ وَالذِّمِّيَّةَ طَلَاقًا بَائِنًا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ الذِّمِّيَّةُ، وَعَتَقَتْ الْأَمَةُ، ثُمَّ مَاتَ فِي عِدَّتِهِمَا، لَمْ تَرِثَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَارًّا. وَإِنْ قَالَ لَهُمَا فِي الْمَرَضِ: إذَا عَتَقْت أَنْتِ أَوْ أَسْلَمْت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 أَنْتِ، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَعَتَقَتْ الْأَمَةُ، وَأَسْلَمَتْ الذِّمِّيَّةُ، وَمَاتَ، وَرِثَتَاهُ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ فَإِنْ قَالَ لَهُمَا: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ غَدًا. فَعَتَقَتْ الْأَمَةُ، وَأَسْلَمَتْ الذِّمِّيَّةُ، لَمْ تَرِثَاهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ فَارٍّ. وَإِنْ قَالَ سَيِّدُ الْأَمَةِ: أَنْتِ حُرَّةٌ غَدًا. وَقَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا. وَهُوَ يَعْلَمُ بِقَوْلِ السَّيِّدِ. وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ تَرِثْهُ؛ لِعَدَمِ الْفِرَارِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَلَمْ أَعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفًا. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي صِحَّته إذَا مَرِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ] (4984) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي صِحَّتِهِ: إذَا مَرِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ طَلَاقِ الْمَرَضِ سَوَاءٌ. فَإِنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثًا، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ طَلَاقِهِ فِي مَرَضِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالِهَا. [فَصْلِ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فِي مَرَضِهِ فَأَجَابَهَا] (4985) فَصْلٌ: وَإِنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فِي مَرَضِهِ، فَأَجَابَهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَارٍّ. وَالثَّانِيَةُ، تَرِثُهُ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ خَالَعَهَا، أَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مَشِيئَتِهَا فَشَاءَتْ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَفَعَلَتْهُ، أَوْ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهَا لَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فِرَارَ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا، فَفَعَلَتْ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ، وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهَا مَعْذُورَةٌ فِيهِ. وَلَوْ سَأَلَتْهُ طَلْقَةً، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ أَبَانَهَا بِمَا لَمْ تَطْلُبْهُ مِنْهُ. وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ، كَصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، وَصِيَامٍ وَاجِبٍ فِي وَقْتِهِ، فَفَعَلَتْهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ طَلَاقِهَا ابْتِدَاءً، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ إنْ عَلَّقَهُ عَلَى كَلَامِهَا لِأَبَوَيْهَا أَوْ لَأَحَدِهِمَا. وَإِنْ قَالَ فِي مَرَضِهِ أَنْتَ طَالِقٌ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ. وَنَحْوُهُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا فِعْلِهِ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَطَلُقَتْ بِهِ. وَرِثَتْهُ. [فَصْلٌ عَلَّقَ طَلَاقَهَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى شَرْطٍ وُجِدَ فِي الْمَرَضِ] (4986) فَصْلٌ: فَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى شَرْطٍ وُجِدَ فِي الْمَرَضِ، كَقُدُومِ زَيْدٍ، وَمَجِيءِ غَدٍ، وَصَلَاتِهَا الْفَرْضَ، بَانَتْ وَلَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا تَرِثُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ فِي الْمَرَضِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَفَعَلَهُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِهَا فِي الْمَرَضِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ. وَلَوْ قَالَ فِي الصِّحَّةِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَضْرِبْ غُلَامِي. فَلَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى مَاتَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 وَرِثَتْهُ. وَإِنْ مَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا. وَإِنْ مَاتَ الْغُلَامُ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ، طَلُقَتْ، وَكَانَ كَتَعْلِيقِهِ عَلَى مَجِيءِ زَيْدٍ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ لَمْ أُوَفِّك مَهْرَكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَفَّاهَا مَهْرَهَا فَأَنْكَرَتْهُ، صُدِّقَ الزَّوْجُ فِي تَوْرِيثِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَلَمْ تُصَدَّقْ فِي بَرَاءَتِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي الصِّحَّةِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك. فَكَذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَلَوْ قَذَفَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ لَاعَنَهَا فِي مَرَضٍ، فَبَانَتْ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ وَرِثَتْهُ. وَإِنْ مَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا. وَإِنْ قَذَفَهَا فِي صِحَّتِهِ، وَلَاعَنَهَا فِي مَرَضِهِ، وَمَاتَ فِيهِ، لَمْ تَرِثْهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا تَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَإِنْ آلَى مِنْهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ صَحَّ، ثُمَّ نَكَسَ فِي مَرَضِهِ، فَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ، لَمْ تَرِثْهُ. [فَصْلٌ اسْتَكْرَهَ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ عَلَى مَا يَنْفَسِخ بِهِ نِكَاحُهَا فِي مَرَضِ أَبِيهِ فَمَاتَ أَبُوهُ مِنْ مَرَضِهِ] (4987) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَكْرَهَ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ عَلَى مَا يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا، مِنْ وَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فِي مَرَضِ أَبِيهِ، فَمَاتَ أَبُوهُ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَرِثَتْهُ، وَلَمْ يَرِثْهَا إنْ مَاتَتْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنْ طَاوَعَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّهَا مُشَارِكَةٌ فِيمَا يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَعَتْهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ بَنُونَ سِوَى هَذَا الِابْنِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَارِثٍ، كَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ وَالرَّقِيقِ، أَوْ كَانَ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَوْ ابْنَ ابْنٍ مَحْجُوبٍ بِابْنٍ لِلْمَيْتِ، أَوْ بِأَبَوَيْنِ، أَوْ ابْنَيْنِ، أَوْ كَانَ لِلْمَيْتِ امْرَأَةٌ أُخْرَى تَجُوزُ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ، لَمْ تَرِثْ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَلَوْ صَارَ ابْنُ الِابْنِ وَارِثًا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَرِثْ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حَالَ الْوَطْءِ. وَلَوْ كَانَ حَالَ الْوَطْءِ وَارِثًا، فَعَادَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ لَوَرِثَتْ؛ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ حِينَ الْوَطْءِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَرِيضِ امْرَأَتَانِ، فَاسْتَكْرَهَ ابْنُهُ إحْدَاهُمَا، لَمْ تَرِثْهُ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، لِكَوْنِ مِيرَاثِهَا لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ. وَلَوْ اسْتَكْرَهَ الثَّانِيَةَ بَعْدَهَا، لَوَرِثَتْ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهَا، وَلَوْ اسْتَكْرَهَهُمَا مَعًا، دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَرِثَتَا جَمِيعًا. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابِهِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَا يَرَى فَسْخَ النِّكَاحِ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا وَطِئَ الْمَرِيضُ مَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ بِوَطْئِهَا، كَأُمِّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتِهَا، فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ، وَتَرِثُهُ إذَا مَاتَ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يَرِثُهَا، وَسَوَاءٌ طَاوَعَتْهُ الْمَوْطُوءَةُ أَوْ أَكْرَهَهَا، فَإِنَّ مُطَاوَعَتَهَا لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ فِعْلٌ يَسْقُطُ بِهِ مِيرَاثُهَا. فَإِنْ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ حِينَ الْوَطْءِ لَمْ تَرِثْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَلَا يَكُونُ فَارًّا مِنْ مِيرَاثِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ ابْنُهُ امْرَأَتَهُ مُسْتَكْرَهًا لَهَا، وَهُوَ زَائِلُ الْعَقْلِ، لَمْ تَرِثْ لِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا عَاقِلًا، وَرِثَتْ؛ لِأَنَّ لَهُ قَصْدًا صَحِيحًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ كَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا وَطِئَ ابْنَةَ امْرَأَتِهِ أَوْ أُمَّهَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِي وَطْءِ الصَّبِيِّ بِنْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ أُمَّهَا قَوْلَانِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 أَحَدُهُمَا، لَا يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ. وَالثَّانِي، أَنَّ امْرَأَتَهُ تَبِينُ بِذَلِكَ، وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا. وَفِي الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَنْشُرُ الْحُرْمَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ تَحْرُمُ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ فَأَشْبَهَتْ الْوَطْءَ وَالثَّانِيَةُ، لَا تَنْشُرُهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْبَعْضِيَّةِ، فَلَا تَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، كَالنَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا فِي النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وَالْخَلْوَةِ لِشَهْوَةٍ وَجْهًا أَنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. [فَصْلٌ فَعَلْت الْمَرِيضَةُ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا فَمَاتَتْ فِي مَرَضِهَا] (4988) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَتْ الْمَرِيضَةُ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا، كَرَضَاعِ امْرَأَةٍ صَغِيرَةٍ لِزَوْجِهَا، أَوْ رَضَاعِ زَوْجِهَا الصَّغِيرِ، أَوْ ارْتَدَّتْ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَاتَتْ فِي مَرَضِهَا، وَرِثَهَا الزَّوْجُ وَلَمْ تَرِثْهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَرِثُهَا وَلَنَا، أَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَرَّ مِنْ مِيرَاثِ الْآخَرِ، فَأَشْبَهَ الرَّجُلَ. وَإِنْ أُعْتِقَتْ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَأَجَّلَ سَنَةً، وَلَمْ يُصِبْهَا حَتَّى مَرِضَتْ فِي آخَرِ الْحَوْلِ، فَاخْتَارَتْ فُرْقَتَهُ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَتَوَارَثَا فِي قَوْلِهِمْ أَجْمَعِينَ. ذَكَرَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي " كِتَابِهِ ". وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَرَضِهَا، لَمْ يَرِثْهَا؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، لَا لِلْفِرَارِ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَإِنْ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا لِشَهْوَةٍ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا وَيَرِثُهَا إذَا كَانَتْ مَرِيضَةً، وَمَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، ثُمَّ بَلَغَتْ، فَفَسَخَتْ النِّكَاحَ فِي مَرَضِهَا، لَمْ يَرِثْهَا الزَّوْجُ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ أَصْلِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَهَا الْخِيَارُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، إلَّا أَنَّ الْفَسْخَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ لَا مِنْ أَجْلِ الْفِرَارِ، فَلَمْ يَرِثْهَا، كَمَا لَوْ فَسَخَتْ الْمُعْتَقَةُ نِكَاحَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ نَكَحَ أُخْرَى وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ] (4989) فَصْلٌ: إذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ نَكَحَ أُخْرَى، وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، وَرِثَتَاهُ جَمِيعًا. هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ، لَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ، فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلثَّانِيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَرِيضِ عِنْدَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَجَعَلَ بَعْضُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 أَصْحَابِنَا فِيهَا وَجْهًا، أَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مَا كَانَتْ تَرِثُ قَبْلَ طَلَاقِهَا، وَهُوَ جَمِيعُ الْمِيرَاثِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَرِث مَا كَانَتْ تَرِثُ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، لَمْ تَرِثْ إلَّا نِصْفَ مِيرَاثِ الزَّوْجَاتِ، فَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّقَةِ إلَّا رُبْعُ مِيرَاثِ الزَّوْجَاتِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الزَّوْجَاتِ رُبُعُهُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَالْمِيرَاثُ لِلزَّوْجَاتِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَرْبَعِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلْمُطَلَّقَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ نَكَحَ أُخْرَى فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَنَكَحَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا، وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَبَاقِي الزَّوْجَاتِ الْأَوَائِلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَالْمِيرَاثُ لِلْجَدِيدَةِ مَعَ بَاقِي الْمَنْكُوحَاتِ دُونَ الْمُطَلَّقَةِ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَبَاقِي الزَّوْجَاتِ، كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَنْكُوحَةِ وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خُمْسُهُ. فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَفِي مِيرَاثِهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا مِيرَاثَ لَهَا، فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِبَاقِي الزَّوْجَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَالثَّانِيَةُ، تَرِثُ مَعَهُنَّ وَلَا شَيْءَ لِلْمَنْكُوحَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمِيرَاثُ لِلْمَنْكُوحَاتِ كُلِّهِنَّ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُطَلَّقَةِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ الْخَامِسَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، صَحَّ نِكَاحُهَا وَهَلْ تَرِثُ الْمُطَلَّقَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَرِثُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ. أَنْ يَرِثَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ، وَأَنْ يَرِثَهُ أُخْتَانِ، فَيَكُونُ مُسْلِمٌ يَرِثُهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ أَوْ أُخْتَانِ، وَتَوْرِيثُ الْمُطَلَّقَاتِ بَعْدَ الْعِدَّة يَلْزَمُ مِنْهُ هَذَا، أَوْ حِرْمَانُ الزَّوْجَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَى مِيرَاثِهِنَّ، فَيَكُونُ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ قَائِلٍ بِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمِيرَاثُ لِلزَّوْجَاتِ دُونَ الْمُطَلَّقَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تَرِثُ الْمُطَلَّقَةُ. فَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْخَمْسِ. وَالثَّانِي، يَكُونُ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَنْكُوحَاتِ الْأَوَائِلِ دُونَ الْجَدِيدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يَحْرِمَهُنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 مِيرَاثِهِنَّ بِالطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ تَنْقِيصِهِنَّ مِنْهُ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ بَعِيدٌ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَرُدُّهُ نَصَّ الْكِتَابِ عَلَى تَوْرِيثِ الزَّوْجَاتِ، فَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ النَّصِّ فِي مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَلَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعْنَ فِي مِيرَاثِهِ بِالزَّوْجِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَ أَرْبَعًا فِي مَرَضِهِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، وَنَكَحَ أَرْبَعًا سِوَاهُنَّ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَرِثُهُ الْمَنْكُوحَاتُ دُونَ الْمُطَلَّقَاتِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْمُطَلَّقَاتِ. وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بَيْنَ الثَّمَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمِيرَاثُ لِلْمُطَلَّقَاتِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَنْكُوحَاتِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ. وَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، فَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ، فَالْمِيرَاثُ لَهُنَّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُطَلَّقَاتِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَاتُ لَمْ يَرِثْنَ شَيْئًا إلَّا فِي قَوْلِهِ وَقَوْلِ مَنْ وَافَقَهُ. وَلَوْ طَلَّقَ أَرْبَعًا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهِنَّ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، وَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْنَنِي بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ فَكَذَّبْنَهُ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا سِوَاهُنَّ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فِيهَا، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِنَّ فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ، إذَا كَانَ بَعْد أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزْوِيجُ أَيْضًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقَّ لَهُنَّ فِيهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إنْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ مَاتَ، وَرِثَهُ الْمُطَلَّقَاتُ دُونَ الْمَنْكُوحَاتِ، إلَّا أَنْ يَمُتْنَ قَبْلَهُ، فَيَكُونَ الْمِيرَاثُ لِلْمَنْكُوحَاتِ وَإِنْ أَقْرَرْنَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، وَقُلْنَا: الْمِيرَاثُ لَهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَالْمِيرَاثُ لِلْمَنْكُوحَاتِ أَيْضًا. وَإِنْ مَاتَ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ، فَالْمِيرَاثُ لِلْبَاقِيَةِ. وَإِنْ مَاتَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ، وَمِنْ الْمَنْكُوحَاتِ وَاحِدَةٌ أَوْ اثْنَتَانِ، أَوْ مَاتَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ اثْنَتَانِ، وَمِنْ الْمَنْكُوحَاتِ وَاحِدَةٌ، فَالْمِيرَاثُ لِبَاقِي الْمُطَلَّقَاتِ. وَإِنْ مَاتَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ وَاحِدَةٌ وَمِنْ الْمَنْكُوحَاتِ ثَلَاثٌ، أَوْ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ اثْنَتَانِ، وَمِنْ الْمَنْكُوحَاتِ اثْنَتَانِ، أَوْ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثٌ وَمِنْ الْمَنْكُوحَاتِ وَاحِدَةٌ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْبَوَاقِي مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْنَفَ الْعَقْدَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ مِنْ الْجَمِيعِ، جَازَ فَكَانَ صَحِيحًا وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمَنْكُوحَاتِ فِي أَرْبَعَةِ عُقُودٍ، فَمَاتَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ وَاحِدَةٌ وَرِثَتْ مَكَانَهَا الْأُولَى مِنْ الْمَنْكُوحَاتِ. وَإِنْ مَاتَ اثْنَتَانِ، وَرِثَتْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ. وَإِنْ مَاتَ ثَلَاثٌ، وَرِثَتْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِنْ الْمَنْكُوحَاتِ، مَعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ. وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَاللُّؤْلُؤِيِّ. وَأَمَّا زُفَرُ فَلَا يَرَى صِحَّةَ نِكَاحِ الْمَنْكُوحَاتِ حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْمُطَلَّقَاتُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُبَاحُ عِنْدَهُ التَّزْوِيجُ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَعَلَى قَوْلِهِ إذَا طَلَّقَ أَرْبَعًا، وَنَكَحَ أَرْبَعًا، فِي عَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ فَالْمِيرَاثُ لِلْمَنْكُوحَاتِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ يُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الثَّمَانِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْمُطَلَّقَاتِ دُونَ الْمَنْكُوحَاتِ. فَإِنْ مَاتَ بَعْضُ الْمُطَلَّقَاتِ، أَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ فَلِلْمَنْكُوحَاتِ مِيرَاثُ الْمَيِّتَاتِ. وَإِنْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ فَلِلزَّوْجَاتِ رُبُعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ. وَإِنْ مَاتَتْ اثْنَتَانِ فَلِلزَّوْجَاتِ نِصْفُ الْمِيرَاثِ. فَإِنْ مَاتَ ثَلَاثٌ، فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ إنْ كَانَ نِكَاحُهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَإِذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ، فَمِيرَاثُهَا لِلْأُولَى مِنْ الْمَنْكُوحَاتِ، وَمِيرَاثُ الثَّانِيَةِ لِلثَّانِيَةِ، وَمِيرَاثُ الثَّالِثَةِ لِلثَّالِثَةِ. [فَصْلٌ قَالَ لِنِسَائِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ] (4990) فَصْلٌ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِنِسَائِهِ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ. يَعْنِي وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، طَلُقَتْ وَحْدَهَا، وَيُرْجَعُ إلَى تَعْيِينِهِ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِنَّ كُلِّهِنَّ إلَى أَنْ تُعَيَّنَ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، مُنِعَ مِنْهُنَّ إلَى أَنْ يُعَيِّنَ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت هَذِهِ. طَلُقَتْ وَحْدَهَا. وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَ. طَلُقَتْ الرَّابِعَةُ. وَإِنْ، عَادَ، فَقَالَ: أَخْطَأْت، إنَّمَا أَرَدْت هَذِهِ. طَلُقَتْ الْأُخْرَى وَإِنْ مُتْنَ أَوْ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا، وَأَحْلَفْنَاهُ، لِوَرَثَةِ مَنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ لَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، أَوْ مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، وَكَذَلِكَ إنَّ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، بِعَيْنِهَا، فَأُنْسِيهَا، فَمَاتَ، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَرَوَى عَطَاءٌ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّ لِي ثَلَاثَ نِسْوَةٍ، وَإِنِّي طَلَّقْت إحْدَاهُنَّ فَبَتَتّ طَلَاقَهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ كُنْت نَوَيْت وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ أُنْسِيتهَا، فَقَدْ اشْتَرَكْنَ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَوَيْت وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَطَلِّقْ أَيَّتَهُنَّ شِئْت. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: يُرْجَعُ إلَى تَعْيِينِهِ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا. فَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُنَّ كَانَ تَعْيِينًا لَهَا بِالنِّكَاحِ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ تَعْيِينًا. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ كُلِّهِنَّ، فِي قَوْل أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقَالَ مَالِكٌ: يُطَلَّقْنَ كُلُّهُنَّ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُنَّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوقَفُ مِيرَاثُهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ دَفَعَ إلَى كُلّ وَاحِدَةٍ نِصْفَ مَهْرٍ، وَوَقَفَ الْبَاقِيَ فِي مُهُورِهِنَّ. وَقَالَ دَاوُد: يَبْطُلُ حُكْمُ طَلَاقِهِنَّ؛ لِمَوْضِعِ الْجَهَالَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرٌ كَامِلٌ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ. وَإِنْ مُتْنَ قَبْلَهُ، طَلُقَتْ الْآخِرَةُ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرْجَعُ إلَى تَعْيِينِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 وَلَنَا، قَوْلُ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ ابْن عَبَّاسٍ يَعْتَرِفُ لِعَلِيٍّ بِتَقْدِيمِ قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا ثَبَتَ لَنَا عَنْ عَلِيٍّ قَوْلٌ، لَمْ نَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ وَقَالَ: مَا عِلْمِي إلَى عِلْمِ عَلِيٍّ، إلَّا كَالْقَرَارَةِ إلَى الْمُثْعَنْجِرِ. وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ الْآدَمِيِّ، فَتُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْقُرْعَةُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، كَالْعِتْقِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ بِخَبَرِ عِمْرَانِ بْنِ الْحُصَيْنِ. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيهِ الْقُرْعَةُ، كَالْقِسْمَةِ فِي السَّفَرِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَأَمَّا قَسْمُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْجَمِيعِ، فَفِيهِ دَفْعٌ إلَى إحْدَاهُنَّ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ، وَتَنْقِيصُ بَعْضِهِنَّ حَقَّهَا يَقِينًا، وَالْوَقْفُ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِهِنَّ، وَحِرْمَانُ الْجَمِيعِ مَنْعُ الْحَقِّ عَنْ صَاحِبِهِ يَقِينًا وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ مَاتَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا قُرْعَةُ الطَّلَاقِ لَمْ يَرِثْهَا إنْ كَانَتْ الْمَيِّتَةُ، وَلَمْ تَرِثْهُ إنْ كَانَتْ الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَرِثُ الْأُولَى، وَلَا تَرِثُهُ، الْأُخْرَى. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُرْجَعُ إلَى تَعْيِينِ الْوَارِثِ، فَإِنْ قَالَ: طَلَّقَ الْمَيِّتَةَ. لَمْ يَرِثْهَا، وَوَرِثَتْهُ الْحَيَّةُ. وَإِنْ قَالَ: طَلَّقَ الْحَيَّةَ. حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِيرَاثَ الْمَيِّتَةِ، وَلَمْ تُوَرَّثْ الْحَيَّةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، يُوقَفُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ الزَّوْجِ، وَمِنْ مَالِ الزَّوْجِ مِيرَاثُ الْحَيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ قَدْ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ فَلَهَا حُكْمُ الطَّلَاقِ، وَلِلْأُخْرَى حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: لِلْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ إنْ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا، وَلِلْأُخْرَى رُبُعُهُ لِأَنَّ لِلْمَدْخُولِ بِهَا نِصْفَهُ بِيَقِينٍ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَتَدَاعَيَانِهِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: النِّصْفُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، وَالثَّانِي مَوْقُوفٌ. وَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولًا بِهِمَا، فَقَالَ فِي مَرَضِهِ: أَرَدْت هَذِهِ. ثُمَّ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ كَالطَّلَاقِ فِيهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ زُفَرُ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَالْمِيرَاثُ لِلْأُخْرَى. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَرِيضِ امْرَأَةٌ أُخْرَى سِوَى هَاتَيْنِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَلِلِاثْنَتَيْنِ نِصْفُهُ. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ نِصْفُهُ مَوْقُوفٌ. [فَصْلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ نَكَحَ خَامِسَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ] (4991) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ نَكَحَ خَامِسَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَلِلْخَامِسَةِ رُبُعُ الْمِيرَاثِ وَالْمَهْرُ، وَيُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ بَيْنَهُنَّ وَإِنْ كُنَّ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِنَّ، فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، يُوقَفُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ، وَمَهْرٌ وَنِصْفٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ، فَإِنْ جَاءَتْ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا لَمْ تُعْطَ شَيْئًا وَإِنْ طَلَبَهُ اثْنَتَانِ دُفِعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 إلَيْهِمَا رُبُعُ الْمِيرَاثِ، وَإِنَّ طَلَبَهُ ثَلَاثٌ دُفِعَ إلَيْهِنَّ نِصْفُهُ، وَإِنْ طَلَبَهُ الْأَرْبَعُ دُفِعَ إلَيْهِنَّ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ، لِلْخَامِسَةِ رُبْعُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا شَرِيكَةُ ثَلَاثٍ، وَبَاقِيهِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ كَالْأُولَى، وَلِلْخَامِسَةِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ نَقَصَهَا وَثَلَاثًا مَعَهَا نِصْفَ مَهْرٍ، وَيَبْقَى لِلْأَرْبَعِ ثَلَاثَةٌ وَثُمُنٌ بَيْنَهُنَّ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَإِنْ تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ سَادِسَةً، فَلَهَا رُبُعُ الْمِيرَاثِ، وَمَهْرٌ كَامِلٌ. وَلِلْخَامِسَةِ رُبْعُ مَا بَقِيَ وَسَبْعَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ، وَلِلْأَرْبَعِ مَا بَقِيَ وَثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَثُمْنٌ، وَيَكُونُ الرُّبُعُ مَقْسُومًا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ. فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ. لَمْ يَخْتَلِفْ الْمِيرَاثُ وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ الْمُهُورُ، فَلِلسَّادِسَةِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ، وَلِلْخَامِسَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْ مَهْرٍ وَيَبْقَى لِلْأَرْبَعِ مَهْرَانِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ مَهْرٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُوقَفُ رُبُعُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ السِّتِّ، وَرُبْعٌ آخَرُ بَيْنَ الْخَمْسِ، وَبَاقِيهِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ، وَيُوقَفُ نِصْفُ مَهْرٍ بَيْنَ السِّتِّ، وَنِصْفٌ بَيْنَ الْخَمْسِ، وَنِصْفٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ، وَيُدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفٌ. [بَاب الِاشْتِرَاك فِي الطُّهْر] ِ إذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَطْئًا يَلْحَقُ النَّسَبُ مِنْ مِثْلِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، مِثْلَ أَنْ يَطَأَ الشَّرِيكَانِ جَارِيَتَهُمَا الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ يَطَأَ الْإِنْسَانُ جَارِيَتَهُ ثُمَّ يَبِيعَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، فَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، أَوْ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ بِشُبْهَةٍ أَوْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَيَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فِي عِدَّتِهَا وَيَطَأَهَا، أَوْ يَطَأُ إنْسَانٌ جَارِيَةَ آخَرَ أَوْ امْرَأَتَهُ بِشُبْهَةٍ فِي الطُّهْرِ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ سَيِّدُهَا أَوْ زَوْجُهَا ثُمَّ تَأْتِي بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يَرَى الْقَافَةَ مَعَهُمَا وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِأَحَدِهِمَا، لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ نَفَتْهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، لَحِقَ الْآخَرَ، وَسَوَاءٌ ادَّعَيَاهُ، أَوْ لَمْ يَدَّعِيَاهُ، أَوْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، لَحِقَهُمَا وَكَانَ ابْنَهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَرَوَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْهُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُرَى وَلَدُ الْحُرَّةِ لِلْقَافَةِ، بَلْ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ دُونَ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَا يُوجَدَ قَافَةٌ. وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ قَافَةٌ، أَوْ أُشْكِلْ عَلَيْهَا، أَوْ اخْتَلَفَ الْقَائِفَانِ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَضِيعُ نَسَبُهُ، وَلَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِهِ، وَيَبْقَى عَلَى الْجَهَالَةِ أَبَدًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إلَى أَحَدِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُتْرَكُ حَتَّى يُمَيَّزَ، وَذَلِكَ لِسَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، فَيَنْتَسِبَ إلَى أَحَدِهِمَا، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا، إلَى أَنْ يُنْتَسَبَ إلَى أَحَدِهِمَا، فَيَرْجِعُ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ. وَإِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ، اثْنَانِ، أُرِيَ الْقَافَةَ مَعَهُمَا. وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ الْمُدَّعَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَبْلَ أَنْ يُرَى الْقَافَةَ، وَلَهُ وَلَدٌ، أُرِيَ وَلَدُهُ الْقَافَةَ مَعَ الْمُدَّعِينَ. وَلَوْ مَاتَ الرَّجُلَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 أُرِيَ الْقَافَةَ مَعَ عَصَبَتِهِمَا. وَإِنْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ، فَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمْ، لَحِقَ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُلْحَقُ بِثَلَاثَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُلْحَقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: لَا حُكْمَ لِلْقَافَةِ، بَلْ إذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى، فَهُوَ ابْنُهُ. فَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا، فَهُوَ ابْنُهُمَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَثُرَ الْوَاطِئُونَ وَادَّعَوْهُ مَعًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ وَالْيَمِينِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوُهُ إذَا عَدِمَتْ الْقَافَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَشْرُوحَةً مَدْلُولًا عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَالْغَرَضُ هَاهُنَا ذِكْرُ مِيرَاثِ الْمُدَّعِي، وَالتَّوْرِيثُ مِنْهُ، وَبَيَانُ مَسَائِلِهِ. [مَسْأَلَةٌ أُلْحِقَ بِاثْنَيْنِ فَمَاتَ وَتَرَكَ أُمَّهُ حُرَّةً] (4992) مَسْأَلَةٌ: إذَا أُلْحِقَ بِاثْنَيْنِ، فَمَاتَ، وَتَرَكَ أُمَّهُ حُرَّةً، فَلَهَا الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لَهُمَا، فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ سِوَاهُ، أَوْ لَأَحَدِهِمَا ابْنَانِ، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَلَهُ ابْنٌ آخَرُ، فَمَالُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ مَاتَ الْغُلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْبَاقِي مِنْ أَبَوَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَحْجُوبَانِ بِالْأَبِ الْبَاقِي فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ تَرَكَ ابْنًا، فَلِلْبَاقِي مِنْ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِابْنِهِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَبَوَيْهِ، وَتَرَكَ ابْنًا، فَلَهُمَا جَمِيعًا السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِابْنِهِ. فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبَوَانِ، ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ وَلَهُ جَدَّةٌ أُمُّ أُمٍّ وَابْنٌ، فَلِأُمِّ أُمِّهِ نِصْفُ السُّدُسِ، وَلِأُمَّيْ الْمُدَّعِيَيْنِ نِصْفُهُ، كَأَنَّهُمَا جَدَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِلْجَدَّيْنِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلِابْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ابْنٌ، فَلِلْجَدَّيْنِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَدٍّ وَاحِدٍ، وَالْبَاقِي لِلْأَخَوَيْنِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْجَدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِيَانِ أَخَوَيْنِ، وَالْمُدَّعَى جَارِيَةً، فَمَاتَا وَخَلَّفَا أَبَاهُمَا، فَلَهُمَا مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ ابْنٍ. وَحَكَى الْخَبْرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَزُفَرَ وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، أَنَّ لَهَا الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ ابْنَتِهِ فَلَهَا مِيرَاثُ بِنْتَيْ ابْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي ابْنًا، فَمَاتَ أَبَوَاهُ، وَلِأَحَدِهِمَا بِنْتٌ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُمَا فَمِيرَاثُهُ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْبِنْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَضْرِبُ بِنَصِيبِ ابْنَيْ ابْنٍ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنْتٌ، فَلِلْغُلَامِ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَاهُ، وَلَهُ مِنْ مَالِ جَدِّهِ نِصْفُهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لَهُ ثُلُثَاهُ، وَلَهُمَا سُدْسَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِيَانِ رَجُلًا وَعَمَّةً، وَالْمُدَّعَى جَارِيَةً، فَمَاتَا، وَخَلَّفَا أَبَوَيْهِمَا، ثُمَّ مَاتَ أَبُو الْأَصْغَرِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 فَلَهَا النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِأَبِي الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ أَبُوهُ. وَإِذَا مَاتَ أَبُو الْعَمِّ، فَلَهَا النِّصْفُ مِنْ مَالِهِ أَيْضًا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لَهَا الثُّلُثَانِ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ ابْنٍ وَبِنْتُ ابْنِ ابْنٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلًا وَابْنَهُ، فَمَاتَ الِابْنُ، فَلَهَا نِصْفُ مَالِهِ وَإِذَا مَاتَ الْأَبُ فَلَهَا النِّصْفُ أَيْضًا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَهَا الثُّلُثَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا تَدَاعَى الْأَبُ وَابْنُهُ، قُدِّمَ الْأَبُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ شَيْءٌ. وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ أَوَّلًا، فَمَالُهُ بَيْنَ ابْنِهِ وَبَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ نِصْفَ مَالِ الْأَصْغَرِ، لِكَوْنِهَا بِنْتَهُ، وَبَاقِيهِ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُدَّعِي، وُقِفَ نَصِيبُهُ، وَدُفِعَ إلَى كُلِّ وَارِثٍ الْيَقِينُ، وَوُقِفَ الْبَاقِي حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ أَوْ يَصْطَلِحُوا فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعُونَ ثَلَاثَةً، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ، وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفًا، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي، وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ، وَتَرَكَ ابْنًا وَعِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ، وَتَرَكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأُمًّا حُرَّةً، وَقَدْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمْ، فَقَدْ تَرَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَلِأُمِّهِ سُدُسُهَا، وَالْبَاقِي بَيْنَ إخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُمْ قَبْلَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ، دُفِعَ إلَى الْأُمِّ ثُلُثُ تَرِكَتِهِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ صَاحِبِ الْأَلْفِ، فَيَرِثُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ وُقِفَ لَهُ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِينَ نِصْفُ مَالِهِ، فَيُرَدُّ إلَى ابْنِ صَاحِبِ الْأَلْفِ، وَابْنِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ، مَا وُقِفَ مِنْ مَالِ أَبَوَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ أَخًا لَهُمَا فَذَلِكَ لَهُمَا مِنْ أَبَوَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ أَخَا أَحَدِهِمَا، فَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ بِإِرْثِهِ مِنْهُ، وَيُرَدُّ عَلَى ابْنِ الثَّالِثِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَيَبْقَى ثُلُثَا أَلْفٍ مَوْقُوفَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ، فَيَكُونَ قَدْ مَاتَ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، لِأُمِّهِ ثُلُثُهَا، وَيَبْقَى مِنْ مَالِ الِابْنِ أَلْفَانِ وَخَمْسَمِائَةٍ مَوْقُوفَةً يَدَّعِيهَا ابْنُ صَاحِبِ الْأَلْفِ كُلِّهَا، وَيَدَّعِي مِنْهَا ابْنُ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ وَثُلُثًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأُمِّ، وَسُدُسُ الْأَلْفِ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنِ صَاحِبِ الْأَلْفِ فَإِنْ ادَّعَى أَخَوَانِ ابْنًا، وَلَهُمَا أَبٌ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَخَلَّفَ بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ ثُبُوتِ نَسَبِ الْمُدَّعِي، وُقِفَ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ، مِنْهَا تُسْعَانِ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْبِنْتِ، وَثَلَاثَةُ أَتْسَاعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَيُوقَفُ مِنْ مَالِ الثَّانِي خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ. فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَهُمَا، وَخَلَّفَ بِنْتًا، فَلَهَا نِصْفُ مَالِهِ، وَنِصْفُ مَا وَرِثَهُ عَنْ ابْنَتِهِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُلَامِ وَبِنْتِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ بِيَقِينِ وَيُدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْمَوْقُوفِ الْيَقِينُ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي، فَتُقَدِّرُهُ مَرَّةً ابْنَ صَاحِبِ الْبِنْتِ، وَمَرَّةً ابْنَ الْآخَرِ. وَتَنْظُرُ مَالَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْحَالَيْنِ، فَتُعْطِيهِ أَقَلَّهُمَا، فَلِلْغُلَامِ فِي حَالٍ الْمَوْقُوفِ مِنْ مَالِ الثَّانِي، وَخُمْسُ الْمَوْقُوفِ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ، وَفِي حَالٍ كُلُّ الْمَوْقُوفِ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ، وَثُلُثُ الْمَوْقُوفِ مِنْ الثَّانِي، فَلَهُ أَقَلُّهُمَا، وَلِبِنْتِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ النِّصْفُ مِنْ مَالِ أَبِيهَا، وَفِي حَالٍ السُّدُسُ مِنْ مَالِ عَمِّهَا، وَلِبِنْتِ الْأَبِ فِي حَالٍ نِصْفُ الْمَوْقُوفِ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 مَالِ الثَّانِي، وَفِي حَالٍ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِهِ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ، فَتَدْفَعُ إلَيْهَا أَقَلَّهُمَا، وَيَبْقَى بَاقِي التَّرِكَةِ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ وَمِنْ النَّاس مَنْ يُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الدَّعَاوَى. وَمَتَى اخْتَلَفَ أَجْنَاسُ التَّرِكَةِ، وَلَمْ يَصِرْ بَعْضُهَا قِصَاصًا عَنْ بَعْضٍ، قُوِّمَتْ، وَعُمِلَ فِي قِيمَتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الدَّرَاهِمِ إنْ تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يَبِيعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرَ الْحَقُّ كُلُّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّلَاحِ لَهُمْ، وَيُوقَفُ الْفَضْلُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ بَيْنَهُمْ عَلَى الصُّلْحِ. وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ غُلَامًا، فَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَتَرَكَ أَلْفًا وَبِنْتًا وَعَمًّا، ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ، وَتَرَكَ أَلْفَيْنِ وَابْنَ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ، وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَأُمًّا، كَانَ لِلْبِنْتِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهَا ثُلُثُهَا، وَلِلْغُلَامِ ثُلُثَاهَا، وَتَرِكَةُ الثَّانِي كُلُّهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ ابْنِ الِابْنِ. ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ عَنْ خَمْسَةِ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ، فَلِأُمِّهِ ثُلُثُ، ذَلِكَ، وَلِأُخْتِهِ نِصْفُهُ، وَبَاقِيهِ لِابْنِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، فَلِابْنَةِ الْأَوَّلِ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَيُوقَفُ ثُلُثَاهَا وَجَمِيعُ تَرِكَةِ الثَّانِي. فَإِذَا مَاتَ الْغُلَامُ، فَلِأُمِّهِ مِنْ تَرِكَتِهِ أَلْفٌ وَتُسْعَا أَلْفٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ قَدْ مَاتَ عَنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ، وَيُرَدُّ الْمَوْقُوفُ مِنْ مَالِ أَبِي الْبِنْتِ عَلَى الْبِنْتِ وَالْعَمِّ، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَهُمَا، إمَّا عَنْ صَاحِبِهِمَا أَوْ الْغُلَامِ، وَيُرَدُّ الْمَوْقُوفُ مِنْ مَالِ الثَّانِي إلَى ابْنِ ابْنِهِ. لِأَنَّهُ لَهُ إمَّا عَنْ جَدِّهِ وَإِمَّا عَنْ عَمِّهِ، وَتُعْطَى الْأُمُّ مِنْ تَرِكَةِ الْغُلَامِ أَلْفًا وَتُسْعَيْ أَلْفٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالِهَا، وَيَبْقَى أَلْفٌ وَسَبْعَةُ أَتْسَاعِ أَلْفٍ تَدَّعِي الْأُمُّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ أَلْفٍ، تَمَامَ ثُلُثِ خَمْسَةِ آلَافٍ، وَيَدَّعِي مِنْهَا ابْنُ الِابْنِ أَلْفًا وَثُلُثًا، تَمَامَ ثُلُثَيْ خَمْسَةِ آلَافٍ، وَتَدَّعِي الْبِنْتُ وَالْعَمُّ جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَصْطَلِحُوا. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلُودُ فِي يَدَيْ امْرَأَتَيْنِ فَادَّعَيَاهُ مَعًا، أُرِيَ الْقَافَةَ مَعَهُمَا، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِإِحْدَاهُمَا، لَحِقَ بِهَا وَوَرِثَهَا، وَوَرِثَتْهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَتْهُ عَنْهُمَا، لَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَإِنْ قَامَتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، تَعَارَضَتَا، وَلَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا، وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، كَمَا يُلْحَقُ بِرَجُلَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ كَاذِبَةٌ يَقِينًا، فَلَمْ تُسْمَعْ، كَمَا لَوْ عُلِمَتْ، وَمِنْ ضَرُورَةِ رَدِّهَا رَدُّهُمَا؛ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِعَيْنِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أَكْبَرَ مِنْهُمَا. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مَعَهَا صَبِيٌّ، ادَّعَاهُ رَجُلَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَهِيَ زَوْجَتُهُ، فَكَذَّبَتْهُمَا، لَمْ يَلْحَقْهُمَا، وَإِنْ صَدَّقَتْ أَحَدَهُمَا، لَحِقَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَالِغًا، فَادَّعَيَاهُ، فَصَدَّقَ أَحَدَهُمَا وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا مَعَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ زَوْجُهَا: هُوَ ابْنِي مِنْ غَيْرِكِ. فَقَالَتْ: بَلْ هُوَ ابْنِي مِنْك. لَحِقَهُمَا جَمِيعًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 [كِتَاب الْوَلَاء] ِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] . يَعْنِي الْأَدْعِيَاءَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى. قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» . (4993) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنْ اخْتَلَفَ دِينَاهُمَا) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا، أَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتِقْهُ سَائِبَةً، أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءَ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَرِثُ عَتِيقُهُ إذَا مَاتَ جَمِيعَ مَالِهِ، إذَا اتَّفَقَ دِينَاهُمَا، وَلَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا سِوَاهُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَالنَّسَبُ يُورَثُ بِهِ، وَلَا يُورَثُ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةٌ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: «كَانَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ مَوْلًى أَعْتَقَهُ، فَمَاتَ، وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاتَهُ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ النِّصْفَ، وَأَعْطَى مَوْلَاتَهُ بِنْتَ حَمْزَةَ النِّصْفَ» . قَالَ: وَحَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ، فَلِلْمَوْلَى» . وَعَنْهُ، «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَرَى فِي مَالِهِ؟ قَالَ: إنْ مَاتَ، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَهُوَ لَك» . [فَصْلٌ يُقَدَّمُ الْمَوْلَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الرَّدِّ وَذَوِي الْأَرْحَامِ] (4994) فَصْلٌ: وَيُقَدَّمُ الْمَوْلَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الرَّدِّ وَذَوِي الْأَرْحَامِ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ بِنْتَهُ وَمَوْلَاهُ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ. وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلَاهُ، فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ دُونَ ذِي رَحِمِهِ. وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ يُقَدَّمُ الرَّدُّ عَلَى الْمَوْلَى. وَعَنْهُمَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 تَقْدِيمُ ذِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوْلَى. وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وَلَنَا، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَحَدِيثُ الْحَسَنِ، وَلِأَنَّهُ عَصَبَةٌ يَعْقِلُ عَنْ مَوْلَاهُ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الرَّدِّ وَذَوِي الرَّحِمِ، كَابْنِ الْعَمِّ. [فَصْلٌ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَة أَوْ ذَوُو فَرْضٍ تَسْتَغْرِقُ فُرُوضُهُمْ الْمَالَ] (4995) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أَوْ ذَوُو فَرْضٍ تَسْتَغْرِقُ فُرُوضُهُمْ الْمَالَ فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتْ الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» . وَالْعَصَبَةُ مِنْ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ الْمُشَبَّهِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنْ الْوَلَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْوَلَاءِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ دِينُ السَّيِّدِ وَعَتِيقه] (4996) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَ دِينُ السَّيِّدِ وَعَتِيقِهِ، فَالْوَلَاءُ ثَابِتٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . وَلُحْمَةُ النَّسَبِ تَثْبُتُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ لِإِنْعَامِهِ بِإِعْتَاقِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ مَعَ اخْتِلَافِ دِينِهِمَا، وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَلِكُلِّ مُعْتِقٍ، لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى، وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ. وَهَلْ يَرِثُ السَّيِّدُ مَوْلَاهُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرِثُهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ: الْوَلَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الرِّقِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَرِثُ الْمُسْلِمُ مَوْلَاهُ النَّصْرَانِيَّ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ تَمَلُّكُهُ، وَلَا يَرِثُ النَّصْرَانِيُّ مَوْلَاهُ الْمُسْلِمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ تَمَلُّكُهُ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ مَعَ اخْتِلَافِ دِينِهِمَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» . وَلِأَنَّهُ مِيرَاثٌ، فَيَمْنَعُهُ اخْتِلَافُ الدِّينِ، كَمِيرَاثِ النَّسَبِ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ، فَمَنَعَ الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ، كَالْقَتْلِ وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مَنَعَ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْحَقَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ، بِقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . وَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ، كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلَاءِ، وَثُبُوتِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ، تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبِينَ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ عَصَبَةٌ عَلَى دِينِ الْعَبْدِ، وَرِثَهُ دُونَ سَيِّدِهِ. وَقَالَ دَاوُد: لَا يَرِثُ عَصَبَتُهُ مَعَ حَيَاتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 وَلَنَا، أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ الْعَصَبَةِ مُخَالِفًا لِدِينِ الْمَيِّتِ وَالْأَبْعَدُ عَلَى، دِينِهِ وَرِثَ دُونَ الْقَرِيبِ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيًّا] (4997) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيًّا، فَلَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ ثَابِتٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعِتْقُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ، مُسْلِمًا كَانَ السَّيِّدُ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا. وَلَنَا، أَنَّ مِلْكَهُمْ ثَابِتٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] فَنَسَبَهَا إلَيْهِمْ، فَصَحَّ عِتْقُهُمْ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا صَحَّ عِتْقُهُمْ ثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَإِنْ جَاءَنَا الْمُعْتَقُ مُسْلِمًا، فَالْوَلَاءُ بِحَالِهِ فَإِنْ سُبِيَ مَوْلَى النِّعْمَةِ، لَمْ يَرِثْ مَادَامَ عَبْدًا، فَإِنْ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمُعْتِقِهِ، وَلَهُ الْوَلَاءُ عَلَى مُعْتِقِهِ، وَهَلْ يَثْبُتُ لِمُعْتِقِ السَّيِّدِ وَلَاءٌ عَلَى مُعْتَقِهِ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يَثْبُتَ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَى مَوْلَاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ مِنْهُ إنْعَامٌ عَلَيْهِ وَلَا سَبَبٌ لِذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى صَاحِبِهِ يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ. وَإِنْ أَسَرَهُ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ أَسَرَهُ مَوْلَاهُ وَأَجْنَبِيٌّ فَأَعْتَقَاهُ، فَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ الْمُعْتَقُ الْأَوَّلُ فَلِشَرِيكِهِ نِصْفُ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَى نِصْفِ مَوْلَاهُ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَالْآخَرُ لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ وَإِنْ سُبِيَ الْمُعْتَقُ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ، فَأَعْتَقَهُ، بَطَلَ وَلَاءُ الْأَوَّلِ وَصَارَ الْوَلَاءُ لِلثَّانِي. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَقِيلَ: الْوَلَاءُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ. وَلَنَا، أَنَّ السَّبْيَ يُبْطِلُ مِلْكَ الْأَوَّلِ الْحَرْبِيِّ، فَالْوَلَاءُ التَّابِعُ لَهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ بَطَلَ بِاسْتِرْقَاقِهِ، فَلَمْ يَعُدْ بِإِعْتَاقِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا كَافِرًا، فَهَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتَرَقَّ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ سَوَاءٌ. وَإِنْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ كَافِرًا، فَهَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سَبَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ إبْطَالَ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ الْمَعْصُومِ. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: وَلِأَنَّ لَهُ أَمَانًا بِعِتْقِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ كِتَابِيٌّ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ كَمُعْتَقِ الْحَرْبِيِّ، وَكَغَيْرِ الْمُعْتَقِ وَقَوْلُهُمْ: فِي اسْتِرْقَاقِهِ إبْطَالُ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ مَتَى أُعْتِقَ عَادَ الْوَلَاءُ لِلْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَمَلُهُ فِي حَالِ رِقِّهِ لِمَانِعٍ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِيهِ إبْطَالَ وَلَائِهِ، فَكَذَلِكَ فِي قَتْلِهِ، وَقَدْ جَازَ إبْطَالُ وَلَائِهِ بِالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ يَبْطُلُ عَمَلُهَا بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَقَوْلُ ابْنِ اللَّبَّانِ: لَهُ أَمَانٌ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَمَانٌ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا سَبْيُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 فَعَلَى هَذَا. إنْ اُسْتُرِقَّ ثُمَّ أُعْتِقَ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ إذَا تَنَافَيَا كَانَ الثَّابِتُ هُوَ الْآخَرُ مِنْهُمَا، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ ثَبَتَ وَهُوَ مَعْصُومٌ، فَلَا يَزُولُ بِالِاسْتِيلَاءِ، كَحَقِيقَةِ الْمِلْكِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا مَاتَ كَانَ لِلثَّانِي. وَإِنْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا، أَوْ أَعْتَقَهُ ذِمِّيٌّ، فَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَسُبِيَ، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ. وَإِنْ اُشْتُرِيَ فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ الْقَتْلُ. [فَصْلٌ بَيْعُ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ] (4998) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْوَلَاءِ وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا أَنْ يَأْذَنَ لِمَوْلَاهُ فَيُوَالِي مَنْ شَاءَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٌ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَكَرِهَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بَيْعَ الْوَلَاءِ. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّمَا الْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ فَيَبِيعُ الرَّجُلُ نَسَبَهُ،. وَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ مَيْمُونَةَ وَهَبَتْ وَلَاءَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ مُكَاتَبًا. وَرُوِيَ أَنَّ مَيْمُونَةَ وَهَبَتْ وَلَاءَ مَوَالِيهَا لِلْعَبَّاسِ. وَوَلَاؤُهُمْ الْيَوْمَ لَهُمْ. وَأَنَّ عُرْوَةَ ابْتَاعَ وَلَاءَ طَهْمَانَ لِوَرَثَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجِ: قُلْت لِعَطَاءٍ أَذِنْت لِمَوْلَايَ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فَيَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. وَقَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ» . وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُورَثُ بِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ كَالْقَرَابَةِ. وَفِعْلُ هَؤُلَاءِ شَاذٌّ يُخَالِفُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، وَتَرُدُّهُ السُّنَّةُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ عَنْ الْمُعْتَقِ بِمَوْتِهِ وَلَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ] (4999) فَصْلٌ: وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ عَنْ الْمُعْتَقِ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنَّمَا يَرِثُونَ الْمَالَ بِهِ مَعَ بَقَائِهِ لِلْمُعْتَقِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَابْن قُسَيْطٍ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَدَاوُد وَشَذَّ شُرَيْحٌ، وَقَالَ: الْوَلَاءُ كَالْمَالِ، يُورَثُ عَنْ الْمُعْتِقِ، فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ. وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ. وَغَلَّطَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 لِلْمُعْتِقِ» . وَقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . وَالنَّسَبُ لَا يُورَثُ وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُورَثُ بِهِ، فَلَا يَنْتَقِلُ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ الْوَلَاءُ] (5000) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْوَلَاءُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْئًا، رَدَّهُ فِي مِثْلِهِ) قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يُعْتِقُ عَبْدَهُ سَائِبَةً، هُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: قَدْ أَعْتَقْتُك سَائِبَةً. كَأَنَّهُ يَجْعَلُهُ لِلَّهِ، لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ، قَدْ جَعَلَهُ لِلَّهِ وَسَلَّمَهُ. عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: السَّائِبَةُ يَضَعُ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، قَالَ عُمَرُ: السَّائِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِيَوْمِهَا. وَمَتَى قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُك سَائِبَةً، أَوْ أَعْتَقْتُك وَلَا وَلَاءَ لِي عَلَيْك. لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ. فَإِنْ مَاتَ، وَخَلَّفَ مَالًا، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا، اُشْتُرِيَ بِمَالِهِ رِقَابٌ، فَأُعْتِقُوا. فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَعْتَقَ ابْنُ عُمَرَ عَبْدًا سَائِبَةً، فَمَاتَ، فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِمَالِهِ رِقَابًا فَأَعْتَقَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمَالِكٌ: يُجْعَلُ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ سَائِبَةً. فَهُوَ يُوَالِي مَنْ شَاءَ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَهَبَ إلَى شِرَاءِ الرِّقَابِ اسْتِحْبَابًا لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَرَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَجَعَلَهُ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَكَمَا لَا يَزُولُ نَسَبُ إنْسَانٍ وَلَا وَلَدٍ عَنْ فِرَاشٍ بِشَرْطٍ، لَا يَزُولُ وَلَاءٌ عَنْ مُعْتَقٍ وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ بَرِيرَةَ اشْتِرَاطَ وَلَائِهَا عَلَى عَائِشَةَ، قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشْتَرِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . يَعْنِي أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ تَحْوِيلَ الْوَلَاءِ عَنْ الْمُعْتِقِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يُزِيلُ الْوَلَاءَ عَنْ الْمُعْتَقِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: إنِّي أَعْتَقْت عَبْدًا لِي، وَجَعَلْته سَائِبَةً، فَمَاتَ، وَتَرَكَ مَالًا، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ، وَأَنْتَ وَلِيُّ نِعْمَتِهِ، فَإِنْ تَأَثَّمْت وَتَحَرَّجْت مِنْ شَيْءٍ فَنَحْنُ نَقْبَلُهُ، وَنَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ سَعِيدٌ: ثنا هُشَيْمٌ، ثنا بِشْرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ طَارِقَ بْنَ الْمُرَقِّعِ أَعْتَقَ سَوَائِبَ، فَمَاتُوا، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ عُمَرُ، أَنْ ادْفَعْ مَالَ الرَّجُلِ إلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ قَبِلَهُ وَإِلَّا فَاشْتَرِ بِهِ رِقَابًا فَأَعْتِقْهُمْ عَنْهُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورٍ، أَنَّ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالَا فِي مِيرَاثِ السَّائِبَةِ: هُوَ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَعَلَ الصَّحَابَةُ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ فِي مِثْلِهِ، كَانَ لِتَبَرُّعِ الْمُعْتِقِ وَتَوَرُّعِهِ عَنْ مِيرَاثِهِ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِهِ، وَفِعْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي مِيرَاثِ الَّذِي تَوَرَّعَ سَيِّدُهُ عَنْ أَخَذِ مَالِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَعْتَقَتْهُ لُبْنَى بِنْتُ يُعَارَ سَائِبَةً فَقُتِلَ وَتَرَكَ ابْنَةً، فَأَعْطَاهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 عُمَرُ نِصْفَ مَالِهِ، وَجَعَلَ النِّصْفَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، إنْ خَلَّفَ السَّائِبَةُ مَالًا، اُشْتُرِيَ بِهِ رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا، فَإِنْ رَجَعَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ شَيْءٌ، اُشْتُرِيَ بِهِ أَيْضًا رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا. وَإِنْ خَلَّفَ السَّائِبَةُ ذَا فَرْضٍ لَا يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ، أَخَذَ فَرْضَهُ، وَاشْتُرِيَ بِبَاقِيهِ رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا، وَلَا يُرَدُّ عَلَى ذِي الْفَرْضِ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ أَوْ نَذْرِهِ أَوْ مِنْ زَكَاتِهِ] (5001) فَصْلٌ: وَإِنْ أُعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ أَوْ نَذْرِهِ أَوْ مِنْ زَكَاتِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي الَّذِي يَعْتِقُ مِنْ زَكَاتِهِ: إنْ وَرِثَ مِنْهُ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي مِثْلِهِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ الْعِتْقُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي يَعْتِقُ فِي الزَّكَاةِ: وَلَاؤُهُ لِلَّذِي جَرَى عِتْقُهُ عَلَى يَدَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْعَنْبَرِيُّ: وَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَاؤُهُ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي الْعِتْقِ فِي النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.» وَلِأَنَّ عَائِشَةَ، اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَأَعْتَقَتْهَا، فَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهَا. وَشَرْطُ الْعِتْقِ يُوجِبُهُ، وَلِأَنَّهُ مُعْتَقٌ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ كَمَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْعِتْقَ فَأَعْتَقَ وَلَنَا، أَنَّ الَّذِي أَعْتَقَ مِنْ الزَّكَاةِ مُعْتِقٌ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْوَلَاءُ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى السَّاعِي فَاشْتَرَى بِهَا وَأَعْتَقَ، وَكَمَا لَوْ دَفَعَ إلَى الْمُكَاتَبِ مَالًا، فَأَدَّاهُ فِي كِتَابَتِهِ، وَفَارَقَ مَنْ اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَ مَالَهُ، وَالْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ مِنْ الزَّكَاةِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَى نَفْسِهِ فَيَنْتَفِعُ بِزَكَاتِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ لِأَحْمَدَ، رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَةٌ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ] (5002) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ) ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ: الْقَرِيبُ الَّذِي يَحْرُمُ نِكَاحُهُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً. وَهُمْ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ دُونَ أَوْلَادِهِمْ، فَمَتَى مَلَكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَتَقَ عَلَيْهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ. وَأَعْتَقَ مَالِكٌ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ بَعُدُوا، وَالْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 دُونَ أَوْلَادِهِمْ. وَلَمْ يُعْتِقْ الشَّافِعِيُّ إلَّا عَمُودَيْ النَّسَبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ كَذَلِكَ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ، وَلَمْ يُعْتِقْ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَحَدًا حَتَّى يُعْتِقَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَنَا: مَا رَوَى الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، كَعَمُودَيْ النَّسَبِ، وَكَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " حَتَّى يَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ يَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بِشِرَائِهِ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَالضَّرْبُ هُوَ الْقَتْلُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَمَّا كَانَ يَحْصُلُ بِهِ الْعِتْقُ تَارَةً دُونَ أُخْرَى، جَازَ عَطْفُ صِفَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَهُ فَأَطَارَ رَأْسَهُ وَمَتَى عَتَقَ عَلَيْهِ، فَوَلَاؤُهُ لَهُ، لِأَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِ فِعْلِهِ، فَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ عِتْقَهُ، وَسَوَاءٌ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ إرْثٍ، أَوْ غَيْرِهِ. لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ الْمَحَارِم مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يُعْتِقُونَ عَلَى سَيِّدِهِمْ] (5003) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يُعْتِقُونَ عَلَى سَيِّدِهِمْ، كَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَالرَّبِيبَةِ، وَأُمِّ الزَّوْجَةِ، وَابْنَتِهَا إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَشَرِيكٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَخِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ. وَالْأُوَلُ أَصَحُّ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: جَرَتْ السُّنَّةُ بِأَنْ يُبَاعَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعِ. وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي عِتْقِهِمْ، وَلَا هُمْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَوْنَ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُمَا لَا رَحِمَ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَوَارُثَ وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَأَشْبَهَ الرَّبِيبَةَ وَأُمَّ الزَّوْجَةِ. [فَصْلٌ مَلَكَ وَلَدَهُ مِنْ الزِّنَى] (5004) فَصْلٌ: وَإِنْ مَلَكَ وَلَدَهُ مِنْ الزِّنَى، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ. عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوَلَدِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ، وَهِيَ الْمِيرَاثُ وَالْحَجْبُ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ، وَوُجُوبُ الْإِنْفَاقِ، وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لَهُ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْتَقَ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ تَحْرِيمِ التَّزْوِيجِ، وَلِهَذَا لَوْ مَلَكَ وَلَدَهُ الْمُخَالِفَ لَهُ فِي الدِّينِ، عَتَقَ عَلَيْهِ، مَعَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَةٌ وَلَاءُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ] (5005) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَوَلَاءُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ لِسَيِّدِهِمَا إذَا أُعْتِقَا) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَحَكَى ابْنُ سُرَاقَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 أَجْنَبِيٌّ فَأَعْتَقَهُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَاءَ الْمُكَاتِب، فَلِمَكَاتِبِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ وَقَالَ مَكْحُولٌ: أَمَّا الْمُكَاتَبُ إذَا اشْتَرَطَ وَلَاءَهُ مَعَ رَقَبَتِهِ، فَجَائِزٌ. وَلَنَا، أَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُعْتِقُ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ بِمَالِهِ، وَمَالُهُ وَكَسْبُهُ لِسَيِّدِهِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ بِهِ حَتَّى عَتَقَ، فَكَانَ هُوَ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ لِلْمُدَبَّرِ بِلَا إشْكَالٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَيْنِ يُدْعَوْنَ مَوَالِيَ مُكَاتَبِيهِمْ، فَيُقَالُ: أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، وَسِيرِينُ مَوْلَى أَنَسٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَقَدْ وَهَبَتْ وَلَاءَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانُوا مُكَاتَبِينَ، وَكَذَلِكَ أَشْبَاهُهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، «أَنَّهَا جَاءَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ شَاءُوا عَدَدْت لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً وَيَكُونُ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت. فَأَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ كَانَ لَهُمْ لَوْ لَمْ تَشْتَرِهَا مِنْهُمْ عَائِشَةُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِعِوَضِ حَالٍ] (5006) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِعِوَضٍ حَالٍّ، عَتَقَ وَالْوَلَاءُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مَالَهُ بِمَالِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْمُكَاتَبِ سَوَاءٌ، وَالسَّيِّدُ هُوَ الْمُعْتِقُ لَهُمَا فَالْوَلَاءُ لَهُ عَلَيْهِمَا. [مَسْأَلَةٌ وَلَاءُ أُمِّ الْوَلَدِ] (5007) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَوَلَاءُ أُمِّ الْوَلَدِ لِسَيِّدِهَا إذَا مَاتَتْ) يَعْنِي إذَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، فَوَلَاؤُهَا لَهُ يَرِثُهَا أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ. وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَعْتِقُ مِنْ نَصِيبِ ابْنِهَا، فَيَكُونُ وَلَاؤُهَا لَهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ لَا تَعْتِقُ مَا لَمْ يَعْتِقْهَا وَلَهُ بَيْعُهَا. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ نَحْوُهُ وَلِذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى عِتْقِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِعِتْقِهَا أَنَّ وَلَاءَهَا لِمَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيَكُونُ وَلَاؤُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِفِعْلِهِ مِنْ مَالِهِ، فَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ، كَمَا لَوْ عَتَقَتْ بِقَوْلِهِ. وَيَخْتَصُّ مِيرَاثُهَا بِالْوَلَاءِ بِالذُّكُورِ مِنْ عَصَبَةِ السَّيِّدِ، كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ رَجُلٍ حَيٍّ بِلَا أَمْرِهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ رَجُلٍ حَيٍّ بِلَا أَمْرِهِ، أَوْ عَنْ مَيِّتٍ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَدَاوُد وَرُوِيَ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ» وَلِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ غَيْرِهِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ رَجُلٍ حَيٍّ بِأَمْرِهِ] (5009) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ) وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَدَاوُد، فَقَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، إلَّا أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ عَلَى عِوَضٍ فَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَيَلْزَمُهُ الْعِوَضُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ثُمَّ وَكَّلَهُ فِي إعْتَاقِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ» . وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَنَا، أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي الْإِعْتَاقِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ عِوَضًا، فَإِنَّهُ كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا أَخَذَ عِوَضًا، يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْهِبَةِ إذَا لَمْ يَأْخُذْ عِوَضًا، فَإِنَّ الْهِبَةَ جَائِزَةٌ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا أَخَذَ عِوَضًا، وَكَسَائِرِ الْوُكَلَاءِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ] (5010) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، وَعَلَيَّ. ثَمَنُهُ. فَالثَّمَنُ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، وَأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِعِوَضٍ. وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَيُقَدَّرُ ابْتِيَاعُهُ مِنْهُ، ثُمَّ تَوْكِيلُهُ فِي عِتْقِهِ، لِيَصِحَّ عَنْهُ، فَيَكُونَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لَهُ، كَمَا لَوْ ابْتَاعَهُ مِنْهُ ثُمَّ وَكَّلَهُ فِي عِتْقِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ أَعْتِقْهُ وَالثَّمَنُ عَلَيَّ] (5011) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيَّ. كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) إنَّمَا كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ جَعْلًا عَلَى إعْتَاقِ عَبْدِهِ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ فَلَهُ دِينَارٌ. فَبَنَاهُ إنْسَانٌ، اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ. وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْتَاقِهِ عَنْهُ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الْمُعْتِقُ ذَلِكَ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي صَرْفَهُ إلَيْهِ، فَيَبْقَى لِلْمُعْتِقِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ.» [فَصْلٌ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُعْتِقَ] (5012) فَصْلٌ: وَمَنْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأُعْتِقَ، فَالْوَلَاءُ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنِّي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 فَأُعْتِقَ، كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ أُعْتِقَ عَنْهُ مَا يَجِبُ إعْتَاقُهُ، كَكَفَّارَةٍ وَنَحْوِهَا، فَقَدْ مَضَى ذِكْرُهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ أَمَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ عَبْدًا فَأُوَلِّدهَا] (5013) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ أَوْلَادٌ مِنْ مَوْلَاةٍ لِقَوْمٍ، جَرَّ مُعْتِقُ الْعَبْدِ وَلَاءَ أَوْلَادِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ، فَتَزَوَّجَتْ عَبْدًا، فَأَوْلَدَهَا، فَوَلَدُهَا مِنْهُ أَحْرَارٌ، وَعَلَيْهِمْ الْوَلَاءُ لِمَوْلَى أُمِّهِمْ، يَعْقِلُ عَنْهُمْ وَيَرِثُهُمْ إذَا مَاتُوا؛ لِكَوْنِهِ سَبَبَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِعِتْقِ أُمِّهِمْ، فَصَارُوا لِذَلِكَ أَحْرَارًا فَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ سَيِّدُهُ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، وَجَرَّ إلَيْهِ وَلَاءَ أَوْلَادِهِ عَنْ مَوْلَى أُمِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يَكُنْ يَصْلُحُ وَارِثًا، وَلَا وَلِيَّا فِي نِكَاحٍ. فَكَانَ ابْنُهُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ عَنْ ابْنِهِ، فَثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَوْلَى أُمِّهِ، وَانْتَسَبَ إلَيْهَا فَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ صَلَحَ الِانْتِسَابُ إلَيْهِ، وَعَادَ وَارِثًا عَاقِلًا وَلِيًّا، فَعَادَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهِ وَإِلَى مَوَالِيهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَلْحَقَ الْمَلَاعِنُ وَلَدَهُ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمَرْوَانَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَيُرْوَى عَنْ رَافِعِ بْن خَدِيجٍ أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَنْجَرُّ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وَدَاوُد؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَالنَّسَبُ لَا يَزُولُ عَمَّنْ ثَبَتَ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ نَحْوُ هَذَا، وَعَنْ زَيْدٍ وَأَنْكَرَهُمَا ابْنُ اللَّبَّانِ، وَقَالَ: مَشْهُورٌ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى بِجَرِّ الْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ عَلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. وَلَنَا، أَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى الْأَبِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ، كَانَ وَلَاءُ وَلَدِهِمَا لِمَوْلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا كَانَ مَمْلُوكًا كَانَ الْوَلَاءُ لِمَوْلَى الْأُمِّ ضَرُورَةً، فَإِذَا عَتَقَ الْأَبُ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَعَادَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهِ، وَالْوَلَاءُ إلَى مَوَالِيهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ خَيْبَرَ رَأَى فِتْيَةً لُعْسًا، فَأَعْجَبَهُ ظَرْفُهُمْ وَجَمَالُهُمْ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: مَوَالِي رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَأَبُوهُمْ مَمْلُوكٌ لِآلِ الْحُرْقَةِ، فَاشْتَرَى الزُّبَيْرُ أَبَاهُمْ فَأَعْتَقَهُ، وَقَالَ لِأَوْلَادِهِ: انْتَسِبُوا إلَيَّ، فَإِنَّ وَلَاءَكُمْ لِي. فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: الْوَلَاءُ لِي، فَإِنَّهُمْ، عَتَقُوا بِعِتْقِي أُمَّهُمْ. فَاحْتَكَمُوا إلَى عُثْمَانَ، فَقَضَى بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ، فَاجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ. اللَّعْسُ سَوَادُ الشَّفَتَيْنِ تَسْتَحْسِنُهُ الْعَرَبُ، وَمِثْلُهُ اللَّمَى، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 [فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ فِي كِتَابَتِهِ] (5014) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ يَتَزَوَّجُ فِي كِتَابَتِهِ، فَيَأْتِي لَهُ أَوْلَادٌ ثُمَّ يَعْتِقُ، حُكْمُ الْعَبْدِ الْقِنِّ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. [فَصْلٌ انْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ثُمَّ انْقَرَضُوا] (5015) فَصْلٌ: إذَا انْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ثُمَّ انْقَرَضُوا، عَادَ الْوَلَاءُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ بِحَالٍ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ يَعُودُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ جَرَى مَجْرَى الِانْتِسَابِ، وَلَوْ انْقَرَضَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ لَمْ تَعُدْ النِّسْبَةُ إلَى الْأُمِّ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ، كَانَ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوَالِي أَبِيهِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، عَادَ وَلَاؤُهُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّا نَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ. فَإِنْ عَادَ فَاسْتَلْحَقَهُ، عَادَ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ. [فَصْلٌ لَا يَنْجَرُّ الْوَلَاءُ إلَّا بِشُرُوطِ] (5016) فَصْلٌ: وَلَا يَنْجَرُّ الْوَلَاءُ إلَّا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْأَبُ عَبْدًا حِينَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَزَوْجَتُهُ مَوْلَاةٌ، لَمْ يَخْلُ، إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرَّ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى وَلَدِهِ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ مَوْلَى، ثَبَتَ الْوَلَاءُ عَلَى وَلَدِهِ لِمَوَالِيهِ ابْتِدَاءً، وَلَا جَرَّ فِيهِ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مَوْلَاةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ، إمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَى وَلَدِهَا بِحَالٍ، وَهُمْ أَحْرَارٌ بِحُرِّيَّتِهَا، أَوْ تَكُونُ أَمَةً، فَوَلَدُهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا، فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ فَوَلَاؤُهُمْ لَهُ لَا يَنْجَرُّ عَنْهُ بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُمْ بَعْدَ وِلَادَتِهِمْ، أَوْ أَعْتَقَ أُمَّهُمْ حَامِلًا بِهِمْ فَعَتَقُوا. بِعِتْقِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ مُبَاشَرَةً، فَلَا يَنْجَرُّ عَنْ الْعِتْقِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ مَسَّهُ الرِّقُّ وَعَتَقَ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَلَا يَنْجَرُّ وَلَاؤُهُ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، لَمْ يُحْكَمْ بِمَسِّ الرِّقِّ لَهُ، وَانْجَرَّ وَلَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَمْ يَمَسَّهُ الرِّقُّ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِرِقِّهِ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَائِنًا، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْفُرْقَةِ، لَمْ يُلْحَقْ بِالْأَبِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أُمِّهِ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَانْجَرَّ وَلَاؤُهُ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ مَمْلُوكٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ مِنْ سِفَاحٍ، عَرَبِيًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ أَعْجَمِيًّا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَعَنْ عُمَرَ: إنْ كَانَ زَوْجُهَا عَرَبِيًّا فَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَالْأُوَلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أُمَّهُمْ أَمَةٌ، فَكَانُوا عَبِيدًا، كَمَا لَوْ كَانَ أَبُوهُمْ أَعْجَمِيًّا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 الثَّالِثُ، أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ سَيِّدُهُ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّقِّ لَمْ يَنْجَرَّ الْوَلَاءُ بِحَالٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ فَإِنْ اخْتَلَفَ سَيِّدُ الْعَبْدِ وَمَوْلَى الْأُمِّ فِي الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ سَيِّدُهُ: مَاتَ حُرًّا بَعْدَ جَرِّ الْوَلَاءِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَوْلَى الْأُمِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَوْلَى الْأُمِّ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرِّقِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ الْجَدّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّعْصِيبِ وَأَحْكَامِ النَّسَبِ وَفِي جَرِّ الْوَلَاءِ] (5017) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَعْتِقْ الْأَبُ، وَلَكِنْ عَتَقَ الْجَدُّ فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُرُّ الْوَلَاءُ، لَيْسَ هُوَ كَالْأَبِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُرُّهُ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، جَرَّهُ عَنْ مَوَالِي الْجَدِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّعْصِيبِ وَأَحْكَامِ النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا، لَمْ يَجُرَّ الْجَدُّ الْوَلَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، جَرَّهُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَلَاءِ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَنْجَرُّ بِعِتْقِ الْأَبِ، وَالْجَدُّ لَا يُسَاوِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَتَقَ الْأَبُ بَعْدَ الْجَدِّ، جَرَّهُ عَنْ مَوَالِي الْجَدِّ إلَيْهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْجَدُّ، لَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُ وَلَدِهِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِغَيْرِهِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُرَّ الْوَلَاءَ كَالْأَخِ، وَكَوْنُهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَيْهِ، كَالْأَخِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لِأَنَّ الْبَعِيدَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ كَقِيَامِ الْقَرِيبِ، وَيَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ مَتَى عَتَقَ الْبَعِيدُ فَجَرَّ الْوَلَاءَ، ثُمَّ عَتَقَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ جَرَّ الْوَلَاءَ إلَيْهِ، ثُمَّ إنْ عَتَقَ الْأَبُ جَرَّ الْوَلَاءَ؛ لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ يَحْجُبُ مَنْ فَوْقَهُ، وَيُسْقِطُ تَعْصِيبَهُ وَإِرْثَهُ وَوِلَايَتَهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ الْجَدُّ، لَكِنْ كَانَ حُرًّا وَوَلَدُهُ مَمْلُوكٌ، فَتَزَوَّجَ مَوْلَاةَ قَوْمٍ، فَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا، فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوْلَى أُمِّهِمْ. وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ يَجُرُّ الْجَدُّ الْوَلَاءَ. يَكُون لِمَوْلَى الْجَدِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجَدُّ مَوْلًى، بَلْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَى وَلَدِ أَبِيهِ، فَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَعُدْ عَلَى وَلَدِهِ وَلَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَبَتَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ وَلَاءٍ، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ. [فَصْلٌ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحُرَّيْنِ حُرَّ الْأَصْلِ] (5018) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحُرَّيْنِ حُرَّ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَى وَلَدِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْآخَرُ عَرَبِيًّا أَوْ مَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنْ كَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُهَا فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ رَقِيقًا فِي انْتِفَاءِ الرِّقِّ وَالْوَلَاءِ، فَلَأَنْ يَتْبَعَهَا فِي نَفْيِ الْوَلَاءِ، وَحْدَهُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ حُرَّ الْأَصْلِ فَالْوَلَدُ يَتْبَعُهُ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِمَوْلَى أَبِيهِ، فَلَأَنْ يَتْبَعَهُ فِي سُقُوطِ الْوَلَاءِ عَنْهُ أَوْلَى. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا وَالْأُمُّ مَوْلَاةً ثَبَتَ الْوَلَاءُ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 وَلَدِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ الْوَلَاءُ عَلَى وَلَدِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَرَبِيًّا. وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ حَرْبِيًّا، أَوْ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْلُومَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمَالِكٍ وَابْنِ شُرَيْحٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ، ثَبَتَ الْوَلَاءُ عَلَى وَلَدِهِ لِمَوْلَى الْأُمِّ إنْ كَانَتْ مَوْلَاةً. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْخَبْرِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِمَوْلَى الْأُمِّ مَوْجُودٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِحُرِّيَّةِ الْأَبِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً فَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، وَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي مَعَ الشَّكِّ فِي الْمَانِعِ وَلَنَا، أَنَّ الْأَبَ حُرٌّ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، فَأَشْبَهَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ وَعَدَمُ الْوَلَاءِ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ بِالْوَهْمِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، كَمَا لَمْ يُتْرَكْ فِي حَقِّ الْأَبِ. وَقَوْلُهُمْ: مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِمَوْلَى الْأُمِّ مَوْجُودٌ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِمَوْلَى الْأُمِّ بِشَرْطِ رِقِّ الْأَبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُنْتَفٍ حُكْمًا وَظَاهِرًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمُقْتَضِي، فَقَدْ ثَبَتَ الْمَانِعُ حُكْمًا، فَإِنَّ الْأَبَ حُرِّيَّتُهُ ثَابِتَةٌ حُكْمًا، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَى مَا قَالُوهُ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَوْلًى، وَالْأُمُّ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِنَا وَقِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي وَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَثْبُتَ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِمَوْلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّا شَكَكْنَا فِي الْمَانِعِ مِنْ ثُبُوتِهِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْأُمَّ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَى وَلَدِهَا أَوْ أَمَةً فَيَكُونُ وَلَدُهَا عَبْدًا، أَوْ مَوْلَاةً فَيَكُونُ عَلَى وَلَدِهَا الْوَلَاءُ لِمَوْلَى أَبِيهِ. وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ رَاجِحٌ؛ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِهِ فِي الْأُمِّ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ فِي وَلَدِهَا الثَّانِي، أَنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ، ثُمَّ لَوْ لَمْ يَتَرَجَّحْ هَذَا الِاحْتِمَالُ، لَكَانَ الِاحْتِمَالُ الَّذِي صَارُوا إلَيْهِ مُعَارَضًا بِاحْتِمَالَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَاوٍ لَهُ، فَتَرْجِيحُهُ عَلَيْهِمَا تَحَكُّمٌ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ مُعْتَقٌ بِمُعْتَقَةِ فَأُوَلِّدهَا وَلَدَيْنِ] (5019) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ مُعْتَقٌ بِمُعْتَقَةٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدَيْنِ فَوَلَاؤُهُمَا لِمَوْلَى أَبِيهِمَا. فَإِنْ نَفَاهُمَا بِاللِّعَانِ، عَادَ وَلَاؤُهُمَا إلَى مَوْلَى أُمِّهِمَا. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَمِيرَاثُهُ لِأُمِّهِ وَمَوَالِيهِمَا. فَإِنْ أَكْذَبَ أَبُوهُمَا نَفْسَهُ، لَحِقَهُ نَسَبُهُمَا، وَاسْتَرْجَعَ الْمِيرَاثَ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ. وَلَوْ كَانَ أَبُوهُمَا عَبْدًا، وَلَمْ يَنْفِهِمَا، وَوَرِثَ مَوَالِي الْأُمِّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أُعْتِقَ الْأَبُ انْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ وَلَا لِلْأَبِ اسْتِرْجَاعُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا ثَبَتَ لَهُمْ عِنْدَ إعْتَاقِ الْأَبِ، وَيُفَارِقُ الْأَبَ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ مِنْ حِينِ خَلْقِ الْوَلَدِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 [فَصْلٌ تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً فَاسْتَوْلَدَهَا أَوْلَادًا] (5020) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً، فَاسْتَوْلَدَهَا أَوْلَادًا، فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَوَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِي أُمِّهِمْ. فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَيَجُرُّ إلَيْهِ وَلَاءَ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ، وَيَبْقَى وَلَاءُ الْمُشْتَرِي لِمَوْلَى أُمِّهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْلَى نَفْسِهِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ. وَشَذَّ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْمَدَنِيُّ، فَقَالَ: يَجُرُّ وَلَاءَ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ حُرًّا لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَيَحْتَمِلُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِشُذُوذِهِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا عَلَى أَبَوَيْهِ دُونَهُ، مَعَ كَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُمَا فِي حَالِ رِقِّهِمَا، أَوْ فِي حَالِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَنَا مِثْلُ هَذَا فِي الْأُصُولِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْلَى نَفْسِهِ، يَعْقِلُ عَنْهَا، وَيَرِثُهَا، وَيُزَوِّجُهَا، لَكِنْ لَوْ اشْتَرَى هَذَا الْوَلَدُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى الْعَبْدُ أَبَا مُعْتِقِهِ فَأَعْتَقَهُ، فَإِنَّهُ يَنْجَرُّ إلَيْهِ وَلَاءُ سَيِّدِهِ، فَيَكُونُ لِهَذَا الْوَلَدِ عَلَى مُعْتِقِهِ الْوَلَاءُ بِإِعْتَاقِهِ أَبَاهُ، وَلِلْعَتِيقِ وَلَاءُ مُعْتِقِهِ بِوَلَائِهِ عَلَى أَبِيهِ وَجَرِّهِ وَلَاءَهُ بِإِعْتَاقِهِ أَبَاهُ. وَلَا يَمْتَنِعُ مِثْلُ هَذَا، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدًا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أُسِرَ سَيِّدُهُ وَأَعْتَقَهُ، صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى الْآخَرِ مِنْ فَوْقُ وَمِنْ أَسْفَلُ، وَيَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِالْوَلَاءِ، وَكَمَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّسَبِ، فَيَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِهِ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَإِنْ تَزَوَّجَ وَلَدُ الْمُعْتَقَةِ مُعْتَقَةً، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، فَاشْتَرَى جَدَّهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَيَجُرُّ إلَيْهِ وَلَاءَ أَبِيهِ وَسَائِرِ أَوْلَادِ جَدِّهِ، وَهُمْ عُمُومَتُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَوَلَاءَ جَمِيعِ مُعْتَقَيْهِمْ، وَيَبْقَى وَلَاءُ الْمُشْتَرِي لِمَوْلَى أُمِّ أَبِيهِ. وَعَلَى قَوْلِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، يَبْقَى حُرًّا، لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ عَبْدٌ بِمُعْتَقَةِ فَأُوَلِّدهَا وَلَدًا فَتَزَوَّجَ الْوَلَدُ بِمُعْتَقَةِ رَجُلٍ فَأُوَلِّدهَا وَلَدًا] (5021) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ بِمُعْتَقَةٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، فَتَزَوَّجَ الْوَلَدُ بِمُعْتَقَةِ رَجُلٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، فَوَلَاءُ هَذَا الْوَلَدِ الْآخَرِ، لِمَوْلَى أُمِّ أَبِيهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ الْوَلَاءَ عَلَى أَبِيهِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَوْلَى جَدِّهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ عَلَى الْأَبِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِمَوْلَى الْأُمِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ عَلَى ابْنِهِ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ أَوْلَى مِمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّ أَبِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَوْلًى، وَلِأَبِيهِ مَوْلًى، كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ مَوْلَى أَبِيهِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَوْلَى أُمٍّ وَمَوْلَى أُمِّ أَبٍ، وَمَوْلَى أُمِّ جَدٍّ، وَجَدُّهُ مَمْلُوكٌ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ لِمَوْلَى أُمِّ الْجَدِّ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ لِمَوْلَى الْأُمِّ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَتْ بِنْتُ الْمُعْتَقَيْنِ بِمَمْلُوكِ] (5022) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ مُعْتَقٌ بِمُعْتَقَةٍ، فَأَوْلَدَهَا بِنْتًا، وَتَزَوَّجَ عَبْدٌ بِمُعْتَقَةٍ، فَأَوْلَدَهَا ابْنًا، فَتَزَوَّجَ هَذَا الِابْنُ بِنْتَ الْمُعْتَقَيْنِ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، فَوَلَاءُ هَذَا الْوَلَدِ لِمَوْلَى أُمِّ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ الْوَلَاءَ عَلَى أَبِيهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِنْتُ الْمُعْتَقَيْنِ بِمَمْلُوكٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 فَوَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَى أَبِيهَا؛ لِأَنَّ وَلَاءَهَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَبُوهَا ابْنَ مَمْلُوكٍ وَمُعْتَقَةٍ، فَالْوَلَاءُ لِمَوْلَى أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَوْلَى أُمِّ أَبِي الْأُمِّ يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَى أَبِي الْأُمِّ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُعْتَقِينَ أُمُّهَا، وَيَثْبُت لَهُ الْوَلَاءُ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً فَأُوَلِّدهَا بِنْتَيْنِ فَاشْتَرَتَا أَبَاهُمَا] (5023) فَصْلٌ: فِي دَوْرِ الْوَلَاء، إذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً، فَأَوْلَدَهَا بِنْتَيْنِ، فَاشْتَرَتَا أَبَاهُمَا، عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَلَهُمَا عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، وَتَجُرُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ وَلَاءِ أُخْتِهَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْتَقَتْ نِصْفَ الْأَبِ، وَلَا يَنْجَرُّ الْوَلَاءُ الَّذِي عَلَيْهَا، وَيَبْقَى نِصْفُ وَلَاءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَى أُمِّهَا. فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ، فَمَالُهُ لَهُمَا ثُلُثَاهُ بِالْبُنُوَّةِ، وَبَاقِيهِ بِالْوَلَاءِ. فَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلِأُخْتِهَا النِّصْفُ بِالنَّسَبِ، وَنِصْفُ الْبَاقِي بِأَنَّهَا مَوْلَاةُ نِصْفِهَا، فَصَارَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالِهَا، وَالرُّبُعُ الْبَاقِي لِمَوْلَى أُمِّهَا. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَاتَتْ قَبْلَ أَبِيهَا، فَمَالُهَا لِأَبِيهَا. ثُمَّ إذَا مَاتَ الْأَبُ فَلِلْبَاقِيَةِ نِصْفُ مِيرَاثِ أَبِيهَا؛ لِكَوْنِهَا بِنْتَهُ، وَنِصْفُ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ، لِكَوْنِهَا مَوْلَاةَ نِصْفِهِ، يَبْقَى الرُّبُعُ لِمَوَالِي الْبِنْتِ الَّتِي مَاتَتْ قَبْلَهُ فَنِصْفُهُ لِهَذِهِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا مَوْلَاةُ نِصْفِ أُخْتِهَا، صَارَ لَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ مِيرَاثِهِ، وَلِمَوْلَى أُمِّ الْمَيِّتَةِ، الثُّمُنُ. فَإِنْ مَاتَتْ الْبِنْتُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَهُمَا، فَمَالُهَا لِمَوَالِيهَا، نِصْفُهُ لِمَوْلَى أُمِّهَا، وَنِصْفُهُ لِمَوْلَى أُخْتِهَا الْمَيِّتَةِ، وَهُمْ أُخْتُهَا وَمَوَالِي أُمِّهَا، فَنِصْفُهُ لِمَوْلَى أُمِّهَا، وَهُوَ الرُّبُعُ، وَالرُّبُعُ الْبَاقِي يَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْمَيِّتَةِ، فَهَذَا الْجُزْءُ دَائِرٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ دَارَ إلَيْهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ نَعْلَمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ: هُوَ لِمَوْلَى أُمِّ الْمَيِّتَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ أَصْلٌ فِي دَوْرِ الْوَلَاءِ، وَفِيهَا أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ مَاتَتْ الِابْنَتَانِ قَبْلَ الْأَبِ، وَرِثَ مَالَهُمَا بِالنَّسَبِ. فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُمَا، فَمَالُهُ يُقَسَّمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ابْنَتَيْهِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ لِمَوْلَى أُمِّهَا وَسَهْمَانِ لِمَوْلَى أُخْتِهَا، يُقَسَّمَانِ أَيْضًا لِمَوْلَى أُمِّهَا سَهْمٌ، وَسَهْمٌ دَائِرٌ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَيَحْصُلُ لِبَيْتِ الْمَالِ الرُّبُعُ، وَلِمَوْلَى أُمِّهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ. فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ الْأَبِ، وَالْأُخْرَى بَعْدَهُ، فَمَالُ الْأَبِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِابْنَتَيْهِ ثُلُثَاهَا بِالنَّسَبِ، وَثُلُثَا الْبَاقِي بِوَلَائِهِمَا عَلَيْهِ، وَثُلُثُ الْبَاقِي بِوَلَائِهِمَا عَلَى أُخْتِهِمَا، وَيَبْقَى لِمَوْلَى الْأُمِّ سَهْمٌ، وَمَالُ الثَّانِيَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلْحَيَّةِ تِسْعَةٌ بِالنَّسَبِ، وَثَلَاثَةٌ بِوَلَائِهَا عَلَيْهَا، وَلِمَوْلَى أُمِّهَا ثَلَاثَةٌ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِمَوَالِي الْمَيِّتَةِ الْأُولَى لِلْحَيَّةِ سَهْمٌ، وَلِمَوْلَى أُمِّهَا سَهْمٌ، وَيَبْقَى سَهْمٌ دَائِرٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَمَنْ جَعْلِهِ لِمَوْلَى الْأُمِّ، فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَدْفَعْهُ، قَسَّمَهُ بَيْنَ الْحَيَّةِ وَمَوْلَى الْأُمِّ نِصْفَيْنِ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى أَرْبَعَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أُمَّهَاتُهُنَّ شَتَّى فَمِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. فَإِنْ اشْتَرَى الِابْنَتَانِ أَبَاهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَى أَبُوهُمَا هُوَ وَالْكُبْرَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 جَدَّهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، فَمَالُهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْجَدُّ وَخَلَّفَ ابْنَتَيْ ابْنِهِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَلِلْكُبْرَى نِصْفُ الْبَاقِي، لِكَوْنِهَا مَوْلَاةَ نِصْفِهِ، يَبْقَى السُّدُسُ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَى نِصْفِ الْجَدِّ، وَهُمْ ابْنَتَاهُ، فَيَحْصُلُ لِلْكُبْرَى ثُلُثُ الْمَالِ وَرُبُعُهُ، وَلِلصُّغْرَى رُبُعُهُ وَسُدُسُهُ، فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا، فَاشْتَرَتْ الْكُبْرَى وَأَبُوهَا أَخَاهُمَا لِأَبِيهِمَا، فَالْجَوَابُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [بَاب مِيرَاثِ الْوَلَاء] ِ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ. وَأَضَافَ الْمِيرَاثَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، كَمَا يُقَال: دِيَةُ الْخَطَأِ، وَدِيَةُ الْعَمْدِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ وَسَالِمٌ، الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَدَاوُد. وَجَعَلَ شُرَيْحٌ الْوَلَاءَ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَقَوْلُهُ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ.» وَالنَّسَبُ يُورَثُ بِهِ وَلَا يُورَثُ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِإِنْعَامِ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ بِالْعِتْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمُعْتِقِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. [مَسْأَلَةٌ إرْث النِّسَاء مِنْ الْوَلَاء] (5024) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ، أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ) ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بِنْتِ الْمُعْتِقِ خَاصَّةً، أَنَّهَا تَرِثُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أَنَّهُ وَرَّثَ بِنْتَ حَمْزَةَ مِنْ الَّذِي أَعْتَقَهُ حَمْزَةُ» قَوْلُهُ: " وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ ".؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، وَلِهَذَا قَالَ: " إلَّا مَا أَعْتَقْنَ ". وَمُعْتَقَهُنَّ وَلَاؤُهُ لَهُنَّ، فَكَيْفَ يَرِثْنَهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرِثْنَ بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، وَجَرَّ الْوَلَاءَ إلَيْهِنَّ مَنْ أَعْتَقْنَ. وَالْكِتَابَةُ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا إعْتَاقٌ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرِهَا الْخِرَقِيِّ فِي ابْنَةِ الْمُعْتِقِ مَا وَجَدْتهَا مَنْصُوصَةً عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَدْ سَأَلَهُ: هَلْ كَانَ الْمَوْلَى لِحَمْزَةَ أَوْ لِابْنَتِهِ؟ فَقَالَ: لِابْنَتِهِ. فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ وَرِثَتْ بِوَلَاءِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعْتِقَةُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ غَيْرَ شُرَيْحٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَالْمَوْلَى كَالنَّسِيبِ مِنْ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَنَحْوِهِمَا، فَوَلَدُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 مِنْ الْعَتِيقِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ أَخِيهِ وَعَمِّهِ، وَلَا يَرِثُ مِنْهُمْ إلَّا الذُّكُورُ خَاصَّةً. فَأَمَّا رِوَايَةُ الْخِرَقِيِّ فِي بِنْتِ الْمُعْتَقِ، فَوَجْهُهَا مَا رَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، أَنَّ مَوْلًى لِحَمْزَةَ مَاتَ، وَخَلَّفَ بِنْتًا، فَوَرَّثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَهُ النِّصْفَ، وَجَعَلَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ النِّصْفَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْلَى كَانَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: «كَانَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ مَوْلًى أَعْتَقَتْهُ، فَمَاتَ، وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاتَهُ بِنْتَ حَمْزَةَ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَى ابْنَتَهُ النِّصْفَ وَأَعْطَى مَوْلَاتَهُ بِنْتَ حَمْزَةَ النِّصْفَ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا أُخْتِي مِنْ أُمِّي، أُمُّنَا سَلْمَى. رَوَاهُ ابْنُ اللَّبَّانِ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ مِمَّا رَوَى إبْرَاهِيمُ. وَلِأَنَّ الْبِنْتَ مِنْ النِّسَاءِ، فَلَا تَرِثُ بِالْوَلَاءِ كَسَائِرِ النِّسَاءِ. فَأَمَّا تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ مُعْتَقِهَا، وَمُعْتِقِ مُعْتَقِهَا، وَمِنْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتَقِهَا، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ نَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ عَائِشَةَ «أَرَادَتْ شِرَاءَ بَرِيرَةَ لِتُعْتِقَهَا، وَيَكُونَ وَلَاؤُهَا لَهَا، فَأَرَادَ أَهْلُهَا اشْتِرَاطَ وَلَائِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّ الْمُعْتِقَةَ مُنْعِمَةٌ بِالْإِعْتَاقِ، كَالرَّجُلِ، فَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي الْمِيرَاثِ. وَفِي حَدِيثِ مَوْلَى بِنْتِ حَمْزَةَ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، تَنْصِيصٌ عَلَى تَوْرِيثِ الْمُعْتِقَةِ. وَأَمَّا مُعْتَقُ أَبِيهَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَمِّهَا، أَوْ عَمِّ أَبِيهَا فَلَا تَرِثُهُ، وَيَرِثُهُ أَخُوهَا، كَالنَّسَبِ. وَمِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ: رَجُلٌ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَ مُعْتِقِهِ، وَبِنْتَ مُعْتِقِهِ، فَالْمِيرَاثُ لِابْنِ مُعْتِقِهِ خَاصَّةً. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا بِنْتَ مُعْتِقِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ لَهَا. وَإِنْ خَلَّفَ أُخْتَ مُعْتِقِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ إنْ خَلَّفَ أُمَّ مُعْتِقِهِ أَوْ جَدَّةَ مُعْتِقِهِ أَوْ غَيْرَهُمَا. وَإِنْ خَلَّفَ أَخَا مُعْتِقِهِ وَأُخْتَ مُعْتِقِهِ، فَالْمِيرَاثُ لِلْأَخِ. وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتَ مُعْتِقِهِ وَابْنَ عَمِّ مُعْتِقِهِ أَوْ مُعْتِقِ مُعْتِقِهِ، أَوْ ابْنِ مُعْتِقِ مُعْتِقِهِ، فَالْمَالُ لَهُ دُونَ الْبِنْتِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لَهَا النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتَهُ وَمُعْتِقَهُ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِمُعْتِقِهِ، كَمَا فِي قِصَّةِ مَوْلَى بِنْتِ حَمْزَةَ؛ فَإِنَّهُ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتَهُ وَبِنْتَ حَمْزَةَ الَّتِي أَعْتَقَتْهُ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَهُ النِّصْفَ، وَالْبَاقِيَ لِمَوْلَاتِهِ. وَإِنْ خَلَّفَ ذَا فَرْضٍ سِوَى الْبِنْتِ، كَالْأُمِّ، أَوْ الْجَدَّةِ أَوْ الْأُخْتِ، أَوْ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ، أَوْ الزَّوْجِ، أَوْ الزَّوْجَةِ، أَوْ مَنْ لَا يَسْتَغْرِقُ فَرْضُهُ الْمَالَ أَوَمَوْلَاهُ أَوْ مَوْلَاتَهُ، فَإِنَّ لِذِي الْفَرْضِ فَرْضَهُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ أَوْ مَوْلَاتِهِ. فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ. رَجُلٌ وَابْنَتُهُ، أَعْتَقَا عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، وَخَلَّفَ ابْنَهُ وَبِنْتَهُ، فَمَالُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهَا مَوْلَاةُ نِصْفِهِ، وَالْبَاقِي لِابْنِ الْمُعْتِقِ خَاصَّةً، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الضَّعِيفَةِ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 ثَلَاثَةٍ، فَيَكُونُ لِلْبِنْتِ الثُّلُثَانِ، وَلِأَخِيهَا الثُّلُثُ. وَإِنْ مَاتَتْ الْبِنْتُ قَبْلَ الْعَبْدِ، وَخَلَّفْت ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَلِابْنِهَا النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِأَخِيهَا. وَلَوْ لَمْ تُخَلِّفْ الْبِنْتُ إلَّا بِنْتًا، كَانَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِأَخِيهَا دُونَ بِنْتِهَا، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لِبِنْتِهَا النِّصْفَ، وَالْبَاقِيَ لِأَخِيهَا. وَإِنْ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ الْعَبْدِ، وَخَلَّفَ بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، وَخَلَّفَ مُعْتَقَةَ نِصْفِهِ وَبِنْتَ أَخِيهَا، فَلِلْمُعْتَقَةِ نِصْفُ مَالِهِ، وَبَاقِيهِ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَهَا النِّصْفُ بِإِعْتَاقِهَا، وَنِصْفُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ مُعْتِقِ النِّصْفِ، وَالْبَاقِي لِعَصَبَةِ أَبِيهَا. وَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ مَاتَتْ أَيْضًا قَبْلَ الْعَبْدِ، وَخَلَّفَتْ ابْنَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، فَلِابْنِهَا النِّصْفُ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ أَخِيهَا. امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ أَبَاهَا، ثُمَّ أَعْتَقَ أَبُوهَا عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، ثُمَّ الْعَبْدُ، فَمَالُهُمَا لَهَا. فَإِنْ كَانَ أَبُوهَا خَلَّفَ بِنْتًا أُخْرَى مَعَهَا، فَلَهُمَا ثُلُثَا مَالِ الْأَبِ بِالنَّسَبِ، وَالْبَاقِي لِلْمُعْتَقَةِ بِالْوَلَاءِ، وَمَالُ الْعَبْدِ جَمِيعُهُ لِلْمُعْتِقَةِ دُونَ أُخْتِهَا. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، أَنْ يَكُونَ لَهُمَا ثُلُثَا مَالِ الْعَبْدِ أَيْضًا، وَبَاقِيهِ لِلْمُعْتِقَةِ. وَلَوْ كَانَ الْأَبُ خَلَّفَ مَعَ الْمُعْتِقَةِ ابْنًا، فَمَالُ الْأَبِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِالْبُنُوَّةِ، وَمَالُ الْعَبْدِ كُلُّهُ لِلِابْنِ دُونَ أُخْتِهِ؛ الْمُعْتِقَةِ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ بِالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَلَاءِ. وَلَوْ خَلَّفَ الْأَبُ أَخًا، أَوْ عَمًّا، أَوْ ابْنَ عَمٍّ مَعَ الْبِنْتِ، فَلِلْبِنْتِ نِصْفُ مِيرَاثِ أَبِيهَا، وَبَاقِيهِ لِعَصَبَتِهِ، وَمَالُ الْعَبْدِ لِعَصَبَتِهِ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ النَّسَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُعْتِقِ فِي الْمِيرَاثِ، إلَّا عَلَى رِوَايَةِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّ لِلْبِنْتِ نِصْفَ مِيرَاثِ الْعَبْدِ، لِكَوْنِهَا بِنْتَ الْمُعْتِقِ، وَبَاقِيهِ لِعَصَبَتِهِ. امْرَأَةٌ وَأَخُوهَا، أَعْتَقَا أَبَاهُمَا، ثُمَّ أَعْتَقَ أَبُوهُمَا عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، فَمَالُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ دُونَ أُخْتِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ الْمُعْتِقِ يَرِثُهُ بِالنَّسَبِ، وَهِيَ مَوْلَاةُ الْمُعْتِقِ، وَابْنُ الْمُعْتِقِ، مُقَدَّمٌ عَلَى مَوْلَاهُ. فَإِنْ مَاتَ أَخُوهَا قَبْلَ أَبِيهِ، وَخَلَّفَ بِنْتًا، فَمَالُهُ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَأَبِيهِ نِصْفَيْنِ. ثُمَّ إذَا مَاتَ الْأَبُ، فَقَدْ خَلَّفَ بِنْتَهُ وَبِنْتَ ابْنِهِ، وَبِنْتُهُ مَوْلَاةُ نِصْفِهِ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ ابْنِهِ السُّدُسُ، وَيَبْقَى الثُّلُثُ لَبِنْتِهِ نِصْفُهُ، وَهُوَ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهَا مَوْلَاةُ نِصْفِهِ، يَبْقَى السُّدُسُ لِمَوَالِي الْأَخِ إنْ كَانَ ابْنَ مُعْتِقِهِ وَهُمْ أُخْتُهُ، وَمَوَالِي أُمِّهِ، فَلِأُخْتِهِ نِصْفُ السُّدُسِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِمَوْلَى أُمِّهِ، فَحَصَلَ لِأَخِيهِ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ وَالسُّدُسُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ابْنَ مُعْتِقِهِ، بَلْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَتَأْخُذُ أُخْتُهُ الْبَاقِيَ كُلَّهُ بِالرَّدِّ إنْ لَمْ يُخَلِّفْ الْأَبُ عَصَبَةً، فَإِنْ خَلَّفَ الْأَبُ عَصَبَةً مِنْ نَسَبِهِ، كَأَخٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ ابْنِ عَمٍّ أَوْ عَمِّ أَبٍ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ ابْنِهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِعَصَبَتِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ وَأُخْتُهُ أَخَاهُمَا، ثُمَّ اشْتَرَى أَخُوهُمَا عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ مَاتَ أَخُوهُمَا، فَمَالُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. ثُمَّ إذَا مَاتَ عَتِيقُهُ فَمِيرَاثُهُ لِأَخِيهِ دُونَ أُخْتِهِ. وَلَوْ مَاتَ الْأَخُ الْمُعْتِقُ قَبْلَ مَوْتِ الْعَبْدِ، وَخَلَّفَ ابْنَةً، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ أَخِيهَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِي الْمُعْتِقِ. وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ الْأَخُ إلَّا بِنْتَهُ، فَنِصْفُ مَالِ الْعَبْدِ لِلْأُخْتِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَقَةُ نِصْفِ مُعْتِقِهِ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الْأَخِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 [فَصْلٌ خَلَّفَ الْمَيِّتُ بِنْتَ مَوْلَاهُ وَمَوْلَى أَبِيهِ] (5025) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ الْمَيِّتُ بِنْتَ مَوْلَاهُ وَمَوْلَى أَبِيهِ، فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ مِنْ جِهَةِ مُبَاشَرَتِهِ بِالْعِتْقِ، لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِ أَبِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ إلَّا بِنْتٌ لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَصَبَةً، وَإِنَّمَا يَرِثُ عُصُبَاتُ الْمَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ، لَمْ يَرْجِعْ إلَى مُعْتِقِ أَبِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ مُعْتِقُ أَبٍ أَوْ مُعْتِقُ جَدٍّ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُعْتِقًا، فَمِيرَاثُهُ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ إنْ كَانَ ابْنَ مُعْتِقِهِ، ثُمَّ لِعَصَبَةِ مُعْتِقِ أَبِيهِ، ثُمَّ لِمُعْتِقِ مُعْتِقِ أَبِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَلِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى مُعْتِقِ جَدِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ شَيْءٌ. [فَصْلٌ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ لَا وَلَاءَ عَلَيْهَا وَأَبَوَاهَا رَقِيقَانِ أَعْتَقَ إنْسَانٌ أَبَاهَا] (5026) فَصْلٌ: امْرَأَةٌ حُرَّةٌ لَا وَلَاءَ عَلَيْهَا، وَأَبَوَاهَا رَقِيقَانِ، أَعْتَقَ إنْسَانٌ أَبَاهَا، وَيُتَصَوَّرُ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ كُفَّارًا، فَتُسْلِمَ هِيَ وَيُسْبَى أَبَوَاهَا فَيَسْتَرِقَّانِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ أَبُوهَا عَبْدًا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَوَلَدَتْهَا، ثُمَّ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ مُعْتِقَ أَبِيهَا، لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ، وَهَذِهِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهَا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، ثُمَّ أُعْتِقْ الْعَبْدُ، وَمَاتَ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ، فَلَا مِيرَاثَ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ، لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ ابْنَتَانِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا أَبَاهَا، فَعَتَقَ عَلَيْهَا، فَلَهَا وَلَاؤُهُ، وَلَيْسَ لَهَا وَلَاءٌ عَلَى أُخْتِهَا، فَإِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ، وَلَهَا الْبَاقِي بِالْوَلَاءِ، فَإِذَا مَاتَتْ أُخْتُهَا، فَلَهَا نِصْفُ مِيرَاثِهَا بِالنَّسَبِ، وَبَاقِيهِ لِعَصَبَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ، فَالْبَاقِي لِأُخْتِهَا بِالرَّدِّ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهَا بِالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَا وَلَاءَ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ لَا يَرِثُ مِنْ أَقَارِبِ الْمُعْتِقِ ذُو فَرْضٍ مُنْفَرِدٍ] (5027) فَصْلٌ: وَلَا يَرِثُ مِنْ أَقَارِبِ الْمُعْتِقِ ذُو فَرْضٍ مُنْفَرِدٍ، كَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَالزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْعَصَبَاتِ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ عَصَبَاتٍ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ النِّسَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، إلَّا أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَرِثُ مَنْ أَعْتَقَ ابْنُهَا وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ الْمُلَاعَنَةَ عَصَبَةُ ابْنِهَا، وَهِيَ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ عَصَبَتِهَا، فَتَرِثُ لِكَوْنِهَا عَصَبَةً قَائِمَةً مَقَامَ أَبِيهِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِعَصَبَتِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَوْلَى الْعَتِيقَ إذَا لَمْ يَخْلُف مِنْ نَسَبِهِ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ] (5028) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْوَلَاءُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلَى الْعَتِيقَ إذَا لَمْ يَخْلُفْ مِنْ نَسَبِهِ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، كَانَ مَالُهُ لِمَوْلَاهُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَيِّتًا، فَهُوَ لِأَقْرَبِ عَصَبَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ وَلَدًا أَوْ أَبًا، أَوْ أَخًا أَوْ عَمًّا، أَوْ ابْنَ عَمٍّ أَوْ عَمَّ أَبٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتَقُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، كَانَ الْمِيرَاثُ لِمَوْلَاهُ ثُمَّ لِعَصَبَاتِهِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، ثُمَّ لِمَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ أَبَدًا رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ ابْنَهَا وَأَخَاهَا، أَوْ ابْنَ أَخِيهَا، أَنَّ مِيرَاثَ مَوَالِيهَا لِأَخِيهَا وَابْنِ أَخِيهَا، دُونَ ابْنِهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ إلَى مِثْلِ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: اخْتَصَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ فِي مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ عَلِيُّ: أَنَّا أَحَقُّ بِهِمْ، أَنَا أَرِثُهُمْ وَأَعْقِلُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ: هُمْ مَوَالِي أُمِّيِّ، وَأَنَا أَرِثُهُمْ. فَقَضَى عُمَرُ لِلزُّبَيْرِ بِالْمِيرَاثِ، وَالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ الضَّبِّيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ: ثنا هُشَيْمٌ. ثنا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَضَى بِوَلَاءِ مَوَالِي صَفِيَّةَ لِلزُّبَيْرِ دُونَ الْعَبَّاسِ وَقَضَى عُمَرُ فِي مَوَالِي أُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ لِأَبِيهَا جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ دُونَ عَلِيٍّ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، «، أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، وَتَرَكَتْ ابْنًا لَهَا وَأَخَاهَا. ثُمَّ تُوُفِّيَ مَوْلَاهَا مِنْ بَعْدِهَا، فَأَتَى أَخُو الْمَرْأَةِ وَابْنُهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِيرَاثِهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمَرْأَةِ. فَقَالَ أَخُوهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ جَرَّ جَرِيرَةً كَانَتْ عَلَيَّ، وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِهَذَا قَالَ: نَعَمْ.» وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَوْلَى أَخٌ فِي الدِّينِ، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ يَرِثُهُ أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُعْتِقِ.» إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ ابْنَهَا وَأَخَاهَا أَوْ ابْنَ أَخِيهَا، ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهَا، فَمِيرَاثُهُ لِابْنِهَا، وَإِنْ مَاتَ ابْنُهَا بَعْدَهَا وَقَبْلَ مَوْلَاهَا، وَتَرَكَتْ عَصَبَةً، كَأَعْمَامِهِ وَبَنِي أَعْمَامِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، وَتَرَكَ أَخَا مَوْلَاتِهِ وَعَصَبَةِ ابْنِهَا، فَمِيرَاثُهُ لِأَخِي مَوْلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَوَرِثَهَا أَخُوهَا وَعَصَبَتُهَا، فَإِنْ انْقَرَضَ عَصَبَتُهَا، كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَحَقَّ بِهِ مِنْ عَصَبَةِ أَبِيهَا، وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لِعَصَبَةِ الِابْنِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ. وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَالُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ هَذَا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رِئَابَ بْنَ حُذَيْفَةَ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَوَلَدَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ غِلْمَةٍ، فَمَاتَتْ أُمُّهُمْ، فَوَرِثُوا عَنْهَا وَلَاءَ مَوَالِيهَا، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَصَبَةُ بَنِيهَا، فَأَخْرَجَهُمْ إلَى الشَّامِّ، فَمَاتُوا، فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمَاتَ مَوْلَاهَا، وَتَرَكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 مَالًا، فَخَاصَمَهُ إخْوَتُهَا إلَى عُمَرَ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ.» قَالَ: وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا فِيهِ شَهَادَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَرَجُلٍ آخَرَ قَالَ فَنَحْنُ فِيهِ إلَى السَّاعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. فِي " سُنَنِهِمَا ". وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ، وَهُوَ بَاقٍ لِلْمُعْتَقِ، يَرِثُ بِهِ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَصَبَاتِهِ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا، وَعَصَبَاتُ الِابْنِ غَيْرُ عَصَبَاتِ أُمِّهِ، فَلَا يَرِثُ الْأَجَانِبُ مِنْهَا بِوَلَائِهَا دُونَ عَصَبَاتِهَا. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ غَلَطٌ، قَالَ حُمَيْدٍ: النَّاسُ يُغَلِّطُونَ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْعَتِيقَ مِنْ أَقَارِبِ مُعْتِقِهِ إلَّا عَصَبَاتِهِ، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ. وَلَا يَرِثُ ذُو فَرْضٍ بِفَرْضِهِ وَلَا ذُو رَحِمٍ. فَإِنْ اجْتَمَعَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَرْضٌ وَتَعْصِيبٌ، كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالزَّوْجِ وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ إذَا كَانَا ابْنَيْ عَمٍّ، وَرِثَ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْصِيبِ، وَلَمْ يَرِثْ بِفَرْضِهِ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ عَصَبَاتٌ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ، وَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، اقْتَسَمُوا الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ الْمُعْتَقُ وَخَلَّفَ أَبَا مُعْتِقِهِ وَابْنَ مُعْتِقِهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ وَخَلَّفَ أَبَا مُعْتِقِهِ وَابْنَ مُعْتِقِهِ، فَلِأَبِي مُعْتِقِهِ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلِابْنِ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي جَدِّ الْمُعْتِقِ وَابْنِهِ. وَقَالَ: لَيْسَ الْجَدُّ وَالْأَخُ وَالِابْنُ مِنْ الْكِبَرِ فِي شَيْءٍ يَجْزِيهِمْ عَلَى الْمِيرَاثِ. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَيُرْوَى عَنْ زَيْدٍ أَنَّ الْمَالَ لِلِابْنِ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، وَالْأَبُ وَالْجَدُّ يَرِثَانِ مَعَهُ بِالْفَرْضِ، وَلَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ ذُو فَرْضٍ بِحَالٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَصَبَةُ وَارِثٍ، فَاسْتَحَقَّ مِنْ الْوَلَاءِ كَالْأَخَوَيْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِابْنَ أَقْرَبُ مِنْ الْأَبِ، بَلْ هُمَا فِي الْقُرْبِ سَوَاءٌ، وَكِلَاهُمَا عَصَبَةٌ لَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَإِنَّمَا هُمَا يَتَفَاضَلَانِ فِي الْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 فِي الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ، وَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ فِي الْوِلَايَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِمَا. وَحُكْمُ الْأَبِ مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، حُكْمُ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا مَعَ الِابْنِ وَابْنِهِ سَوَاءٌ. [مَسْأَلَةٌ خَلَّفَ أَخَا مُعْتِقِهِ وَجَدَّ مُعْتِقِهِ] (5030) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ خَلَّفَ أَخَا مُعْتِقِهِ وَجَدَّ مُعْتِقِهِ، فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ. وَمَالَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَاَلَّذِينَ نَزَّلُوا الْجَدَّ أَبًا، جَعَلُوا الْجَدَّ أَوْلَى، وَوَرَّثُوهُ وَحْدَهُ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ أَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ، وَالْجَدُّ أَبُوهُ، وَالِابْنُ أَحَقُّ مِنْ الْأَبِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا عَصَبَتَانِ يَرِثَانِ الْمَالَ نِصْفَيْنِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، كَالْأَخَوَيْنِ. وَإِنْ تَرَكَ جَدَّ مَوْلَاهُ وَابْنَيْ أَخِي مَوْلَاهُ، فَالْمَالُ لِجَدِّهِ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، إلَّا مَالِكًا جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِابْنِ الْأَخِ وَإِنْ سَفَلَ. وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ. وَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابٍ؛ فَإِنَّ ابْنَ الْأَخِ مَحْجُوبٌ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْجَدِّ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى بِالْمُعْتِقِ مِنْ ابْنِ الْأَخِ، فَيَرِثُ مَوْلَاهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَوْلَى أَخٌ فِي الدِّينِ وَوَلِيُّ نِعْمَةٍ. يَرِثُهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْمُعْتِقِ» . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى أَنَّهُ يَرِثُ ابْنَ ابْنِهِ دُونَ ابْنِ الْأَخِ، فَيَكُونُ أَوْلَى لِقَوْلِ؛ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، وَمَا أَبْقَتْ الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» . وَلِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَى ابْنِ الْأَخِ، كَالْأَبِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي مِيرَاثِ الْمَالِ، فَقُدِّمَ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ كَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ إخْوَةٌ وَجَدٌّ فِي مِيرَاث الْوَلَاء] (5031) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَ إخْوَةٌ وَجَدٌّ، فَمِيرَاثُ الْمَوْلَى بَيْنَهُمْ، كَمَالِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ إخْوَةٌ مِنْ أَبَوَيْنِ وَإِخْوَةٌ مِنْ أَبٍ، عَادَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ الْجَدَّ بِالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ، ثُمَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ أَخَذَهُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَلَا يُعَادُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ الْجَدَّ بِوَلَدِ الْأَبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِخْوَةِ أَخَوَاتٌ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ لَا يَرِثْنَ مُنْفَرِدَاتٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِنَّ، كَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَإِنْ انْفَرَدَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ مَعَ الْجَدِّ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 [فَصْلٌ تَرَكَ جَدَّ مَوْلَاهُ وَعَمَّ مَوْلَاهُ فِي مِيرَاث الْمَوْلَى] فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ جَدَّ مَوْلَاهُ وَعَمِّ مَوْلَاهُ، فَهُوَ لِلْجَدِّ. وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ جَدَّ أَبِي مَوْلَاهُ وَعَمِّ مَوْلَاهُ، أَوْ جَدَّ جَدِّ مَوْلَاهُ وَعَمِّ مَوْلَاهُ، فَهُوَ لِلْجَدِّ. وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لِلْعَمِّ وَبَنِيهِ وَإِنْ سَفَلُوا، دُونَ جَدِّ الْأَبِ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْجَدَّ وَالْأَخَ سَوَاءً، فَجَدُّ الْأَبِ وَالْعَمِّ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْعَمِّ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرِثُهُ أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُعْتِقِ.» وَالْجَدُّ أَوْلَى بِالْمُعْتِقِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِمَالِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَيُقَدَّمُ فِي تَزْوِيجِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، نَزَّلَ الْجَدَّ أَبًا فِي وِلَايَةِ الْمَالِ وَوِلَايَةِ الْإِجْبَارِ عَلَى النِّكَاحِ، وَوَافَقَ غَيْرَهُ فِي وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَلَهُ وَعِتْقِهِ عَلَى ابْنِ ابْنِهِ، وَعِتْقِ ابْنِ ابْنِهِ عَلَيْهِ، وَانْتِفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْهُ بِقَتْلِ ابْنِ ابْنِهِ، وَالْحَدِّ بِقَذْفِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَبِ، ثُمَّ جَعَلَ أَبْعَدَ الْعَصَبَاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَلَاءِ. [مَسْأَلَةٌ هَلَكَ رَجُلٌ عَنْ ابْنَيْنِ وَمَوْلَى فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بَعْدَهُ عَنْ ابْنٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى] (5033) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا هَلَكَ رَجُلٌ عَنْ ابْنَيْنِ وَمَوْلًى، فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بَعْدَهُ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَالْوَلَاءُ لِابْنِ مُعْتِقِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ. وَلَوْ هَلَكَ الِابْنَانِ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمَوْلَى، وَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا ابْنًا، وَالْآخَرُ تِسْعَةً، كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهُ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى سَعِيدٌ. ثنا هُشَيْمٌ، ثنا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عُمَرَ، وَعَلِيًّا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَزَيْدًا، كَانُوا يَجْعَلُونَ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ قُسَيْطٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَدَاوُد. كُلُّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ. وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى الْمُعْتَقَ مِنْ عَصَبَاتِ سَيِّدِهِ أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ، وَأُولَاهُمْ بِمِيرَاثِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْعَبْدِ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ نُظِرَ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الَّذِي أَعْتَقَهُ، فَيُجْعَلُ مِيرَاثُهُ لَهُ، وَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ مَوْلَاهُ، لَمْ يَنْتَقِلْ الْوَلَاءُ إلَى عَصَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، لَا يَنْتَقِلُ، وَلَا يُورَثُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ، فَهُوَ بَاقٍ لِلْمُعْتِقِ أَبَدًا، لَا يَزُولُ عَنْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . إنَّمَا يَرِثُ عَصَبَةُ السَّيِّدِ مَالَ مَوْلَاهُ بِوَلَاءِ مُعْتِقِهِ، لَا نَفْسِ الْوَلَاءِ. وَيَتَّضِحُ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَسْأَلَتَيْ الْخِرَقِيِّ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا هَاهُنَا، وَهُمَا: إذَا مَاتَ رَجُلٌ عَنْ ابْنَيْنِ وَمَوْلًى فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بَعْدَهُ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَرِثَهُ ابْنُ مُعْتَقِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 دُونَ ابْنِ ابْنِ مُعْتِقِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مُعْتِقِهِ أَقْرَبُ عَصَبَةِ سَيِّدِهِ. وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ، وَخَلَّفَ ابْنَهُ وَابْنَ ابْنِهِ، لَكَانَ مِيرَاثُهُ لِابْنِهِ، دُونَ ابْنِ ابْنِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى. وَالْمَسْأَلَةُ الْأُخْرَى، إذَا هَلَكَ الِابْنَانِ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ مَوْلَاهُ، وَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا ابْنًا، وَالْآخَرُ تِسْعَةً، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى. كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ مَاتَ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ، مَوْلَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَاءُ مَوْرُوثًا لَانْعَكَسَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَكَانَ الْمِيرَاثُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَيْنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الِابْنَيْنِ وَرِثَا الْوَلَاءَ عَنْ أَبِيهِمَا، ثُمَّ مَا صَارَ لِلِابْنِ الَّذِي مَاتَ انْتَقَلَ إلَى ابْنِهِ، فَصَارَ مِيرَاثُ الْمَوْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ نِصْفَيْنِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَصِيرُ لِابْنِ الِابْنِ الْمُنْفَرِدِ نِصْفُ الْوَلَاءِ بِمِيرَاثِهِ ذَلِكَ عَنْ ابْنه وَلِبَنِي الِابْنِ الْآخَرِ النِّصْفُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ. وَشَذَّ شُرَيْحٌ، فَقَالَ: الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، يُورَثُ عَنْ الْمُعْتِقِ، فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، نَحْوُ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ نَحْوَهُ. وَغَلَّطَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِمَا، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَوَوْا عَنْ أَحْمَدَ مِثْلَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْوَلَاءِ لِلْكِبَرِ، فَقَالَ: كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ، إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَذْهَبُ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدًا، ثُمَّ يَمُوتَ وَيُخَلِّفَ ابْنَيْنِ، فَيَمُوتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ. وَيُخَلِّفَ ابْنًا فَوَلَاءُ هَذَا الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لِابْنِ الْمُعْتِقِ، وَلَيْسَ لِابْنِ الِابْنِ شَيْءٌ مَعَ الِابْنِ وَحُجَّةُ شُرَيْحٍ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمَالِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَوْلَى أَخٌ فِي الدِّينِ، وَوَلِيُّ نِعْمَةٍ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ أَقْرَبُهُمْ مِنْ الْمُعْتِقِ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَقَوْلُهُ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . وَلِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ، فَلَمْ يُورَثْ، كَالْقَرَابَةِ وَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَدْ غَلَّطَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ وَحَكَاهُ الشَّعْبِيُّ وَالْأَئِمَّةُ عَنْ عُمَرَ وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ. وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْوَلَاءِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْهُ ذَوُو الْفُرُوضِ، وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ، فَيُنْظَرُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى سَيِّدِهِ مِنْ عَصَبَاتِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْعَبْدِ وَالْمُعْتِقِ، فَيَكُونُ هُوَ الْوَارِثَ لِلْمَوْلَى دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَرِثَهُ وَحْدَهُ، فَإِذَا خَلَّفَ ابْنَ مَوْلَاهُ، وَابْنَ ابْنِ مَوْلَاهُ، فَمَالُهُ لِابْنِ مَوْلَاهُ. وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَ ابْنِ مَوْلَاهُ، وَتِسْعَةَ بَنِي ابْنٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ، فَمَالُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، لِكُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ جَدَّهُمْ كَذَلِكَ وَلَوْ خَلَّفَ السَّيِّدُ ابْنَهُ وَابْنَ ابْنِهِ، فَمَاتَ ابْنُهُ بَعْدَهُ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ عَتِيقُهُ، فَمِيرَاثُهُ بَيْنَ ابْنَيْ الِابْنِ نِصْفَيْنِ. وَفِي قَوْلِ شُرَيْحٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 هُوَ لِابْنِ الِابْنِ الَّذِي كَانَ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ عَنْ أَخٍ مِنْ أَبِ ابْنِ أَخٍ مِنْ أَبَوَيْنِ، فَمَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ، فَمَالُهُ لِابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. وَفِي قَوْلِ شُرَيْحٍ، هُوَ لِابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ. وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ عَصَبَةً مِنْ نَسَبِ مَوْلَاهُ، فَمَالُهُ لِمَوْلَى مَوْلَاهُ، ثُمَّ لِأَقْرَبِ عَصَبَاتِهِ، ثُمَّ لِمَوْلَى مَوْلَاهُ، فَإِذَا انْقَرَضَ عَصَبَاتُهُ وَمَوَالِي الْمَوَالِي وَعَصَبَاتُهُمْ، فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَوَلَاؤُهُ لِابْنِهِ وَعَقْلُهُ عَلَى عُصْبَته] (5034) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا، فَوَلَاؤُهُ لِابْنِهِ، وَعَقْلُهُ عَلَى عَصَبَتِهِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ لَمْ يُخَلِّفْ عَصَبَةً مِنْ نَسَبِهِ، وَلَا وَارِثًا مِنْهُمْ، إذْ لَوْ خَلَّفَ وَارِثًا مِنْ نَسَبِهِ أَوْ عَصَبَتِهِ، كَانُوا أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ وَعَقْلِهِ مِنْ عَصَبَاتِ مَوْلَاهُ وَوَلَدِهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إشْكَالٌ. وَإِذَا لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا ابْنَ مَوْلَاهُ وَعَصَبَةَ مَوْلَاهُ، فَمَالُهُ لِابْنِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ، وَعَقْلُهُ إنْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى عَصَبَةِ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ امْرَأَةً؛ لِمَا رَوَى إبْرَاهِيمُ قَالَ: اخْتَصَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ فِي مَوْلَى صَفِيَّةَ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَوْلَى عَمَّتِي وَأَنَا أَعْقِلُ عَنْهُ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَوْلَى أُمِّيِّ وَأَنَا أَرِثُهُ. فَقَضَى عُمَرُ لِلزُّبَيْرِ بِالْمِيرَاثِ، وَقَضَى عَلَى عَلِيٍّ بِالْعَقْلِ. ذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " السُّنَنِ " وَغَيْرُهُ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَضَى بِوَلَاءِ صَفِيَّةَ لِلزُّبَيْرِ دُونَ الْعَبَّاسِ، وَقُضِيَ بِوَلَاءِ أُمِّ هَانِئٍ لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ دُونَ عَلِيٍّ. وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْعَقْلِ عَلَى الْعَصَبَةِ وَالْمِيرَاثِ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِيرَاثِ الَّتِي قُتِلَتْ هِيَ وَجَنِينُهَا لِبَنِيهَا، وَعَقْلِهَا عَلَى الْعَصَبَةِ وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ «، أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ وَتَرَكَتْ ابْنًا لَهَا وَأَخَاهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ مَوْلَاهَا مِنْ بَعْدِهَا، فَأَتَى أَخُو الْمَرْأَةِ وَابْنُهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِيرَاثِهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمَرْأَةِ. فَقَالَ أَخُوهَا: لَوْ جَرَّ جَرِيرَةً كَانَتْ عَلَيَّ، وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِهَذَا، قَالَ: نَعَمْ» . وَإِنَّمَا حَمَلْنَا مَسْأَلَةَ الْخِرَقِيِّ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ امْرَأَةً؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي رَوَيْنَاهَا إنَّمَا وَرَدَتْ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَعْقِلُ، وَابْنُهَا لَيْسَ مِنْ عَشِيرَتِهَا، فَلَا تَعْقِلُ عَنْ مُعْتِقهَا، وَعَقَلَ عَنْهَا عَصَبَاتُهَا مِنْ عَشِيرَتِهَا. أَمَّا الرَّجُلُ الْمُعْتِقُ، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ عَنْ مُعْتَقِهِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَيَعْقِلُ ابْنُهُ وَأَبُوهُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عَصَبَاتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَلَا يُلْحَقُ ابْنُهُ فِي نَفْيِ الْعَقْلِ عَنْهُ بِابْنِ الْمَرْأَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إنْ كَانَ الْمَوْلَى حَيًّا وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُوسِرٌ فَعَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ وَلَهُ الْمِيرَاثُ] (5035) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَيًّا، وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُوسِرٌ، فَعَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ وَلَهُ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ مُعْتِقِهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَعْتُوهًا، فَالْعَقْلُ عَلَى عَصَبَاتِهِ، وَالْمِيرَاثُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَوْا جِنَايَةً خَطَأً، كَانَ الْعَقْلُ عَلَى عَصَبَاتِهِمْ، وَلَوْ جُنِيَ عَلَيْهِمْ كَانَ الْأَرْشُ لَهُمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 [فَصْلٌ لَا يَرِثُ الْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلِ مُعْتِقَهُ فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ] (5036) فَصْلٌ: وَلَا يَرِثُ الْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلِ مُعْتِقَهُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَطَاوُسٍ، أَنَّهُمَا وَرَّثَاهُ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَوْسَجَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَّا غُلَامٌ لَهُ هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرِثْهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِجِهَةِ غَيْرِ الْإِعْتَاقِ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّ إعْتَاقَهُ لَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِيرَاثَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ صِلَةً وَتَفَضُّلًا. إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ فَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَعْقِلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَيِّدُهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَغْرَمَ عَنْهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَيَنْعَكِسُ كَسَائِرِ الْعَاقِلَةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ وَيَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَيَنْتَقِضُ بِمَا إذَا قَضَى إنْسَانٌ دَيْنَ آخَرَ، فَقَدْ غَرِمَ عَنْهُ، وَلَا يَعْقِلُ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ لَمْ يَرِثْهُ بِذَلِكَ] (5037) فَصْلٌ: فَإِنْ أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ، لَمْ يَرِثْهُ بِذَلِكَ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَرِثُهُ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ لَهُ وَلَاءَهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: إنْ عَقَلَ عَنْهُ وَرِثَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ لَمْ يَرِثْهُ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يَرِثُهُ وَإِنْ لَمْ يُوَالِهِ؛ لِمَا رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ، فَهُوَ مَوْلَاهُ، يَرِثُهُ وَيَدِي عَنْهُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى الصَّدَفِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ الشَّامِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ» . وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا أَظُنُّهُ مُتَّصِلًا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِأَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 فِيهِ، وَحَدِيثُ رَاشِدٍ مُرْسَلٌ وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى الصَّدَفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ تَمِيمٍ تَكَلَّمَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ. [فَصْلٌ عَاقِد رَجُلًا فَقَالَ عَاقِدَتك عَلَى أَنْ تَرِثَنِي وَأَرِثَك وَتَعْقِلَ عَنِّي وَأَعْقِلَ عَنْك] (5038) فَصْلٌ: وَإِنْ عَاقَدَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَالَ: عَاقَدْتُكَ عَلَى أَنْ تَرِثَنِي وَأَرِثَك، وَتَعْقِلَ عَنِّي وَأَعْقِلَ عَنْك. فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْعَقْدِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إرْثٌ وَلَا عَقْلٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، مَا لَمْ يَعْقِلْ وَاحِدٌ عَنْ الْآخَرِ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ، لَزِمَ، وَيَرِثُهُ إذَا لَمْ يُخَلِّفْ ذَا رَحِمٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] . وَلِأَنَّ هَذَا كَالْوَصِيَّةِ، وَوَصِيَّةُ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ جَائِزَةٌ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِأَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلَاءٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ مَعَ ذِي رَحِمٍ شَيْئًا. قَالَ الْحَسَنُ: نَسَخَتْهَا: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ وَالنُّصْرَةَ وَالرِّفَادَةِ. وَلَيْسَ هَذَا بِوَصِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَعْقِلُ، فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ اللَّقِيطُ حُرُّ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ] (5039) فَصْلٌ: وَاللَّقِيطُ حُرٌّ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّ وَلَاءَهُ لِمُلْتَقِطِهِ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: إنْ نَوَى أَنْ يَرِثَ مِنْهُ فَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ؛ لَقِيطَهَا، وَعَتِيقَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَرَابَةٍ وَلَا عَتِيقٍ وَلَا ذِي نِكَاحٍ، فَلَا يَرِثُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ كَلَامٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 [كِتَاب الْوَدِيعَة] ِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ فَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى جَوَازِ الْإِيدَاعِ وَالِاسْتِيدَاعِ، وَالْعِبْرَةُ تَقْتَضِيهَا، فَإِنَّ بِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةً، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى جَمِيعِهِمْ حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يَحْفَظُ لَهُمْ. الْوَدِيعَةُ فَعِيلَةٌ، مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ: إذَا تَرَكَهُ، أَيْ هِيَ مَتْرُوكَةٌ عِنْدَ الْمُودَعِ. وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ السُّكُونِ. يُقَالُ: وَدَعَ، يَدَعُ. فَكَأَنَّهَا سَاكِنَةٌ عِنْدَ الْمُودَعِ. مُسْتَقِرَّةٌ. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ، فَكَأَنَّهَا فِي دَعَةٍ عِنْدَ الْمُودَعِ. وَقَبُولُهَا مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَضَاءَ حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ وَمُعَاوَنَتَهُ وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، مَتَى أَرَادَ الْمُودِعُ أَخْذَ وَدِيعَتِهِ لَزِمَ الْمُسْتَوْدَعَ رَدُّهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَوْدَعُ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ مُتَبَرِّعٌ بِإِمْسَاكِهَا؛ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبَرُّعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ عَلَى مُودَعٍ ضَمَانٌ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ] (5040) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى مُودَعٍ ضَمَانٌ، إذَا لَمْ يَتَعَدَّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، فَإِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُودَعِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، سَوَاءٌ ذَهَبَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمُودِعِ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو الزِّنَادِ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، إنْ ذَهَبَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ غَرِمَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ذَهَبَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأُولَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا أَمَانَةً وَالضَّمَانُ يُنَافِي الْأَمَانَةَ. وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ضَمَانٌ» . وَيُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ. وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ مُؤْتَمَنٌ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ وَتَفْرِيطِهِ، كَاَلَّذِي ذَهَبَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 مَعَ مَالِهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إنَّمَا يَحْفَظُهَا لِصَاحِبِهَا مُتَبَرِّعًا، مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلَوْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ، وَذَلِكَ مُضِرٌّ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيطِ مِنْ أَنَسٍ فِي حِفْظِهَا، فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ تَعَدَّى الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ. [فَصْلٌ شَرَطَ رَبُّ الْوَدِيعَة عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَة فَقَبِلَهُ] (5041) فَصْلٌ: إذَا شَرَطَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، فَقَبِلَهُ أَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا. لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُودَعِ: إذَا قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا. فَسُرِقَتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَصْلُهُ الْأَمَانَةُ، كَالْمُضَارَبَةِ، وَمَالِ الشَّرِكَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَكَالَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَرْطُ ضَمَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَمَانَ مَا يَتْلَفُ فِي يَدِ مَالِكِهِ. [مَسْأَلَةٌ خَلَطَ الْوَدِيعَة بِمَالِهِ وَهِيَ لَا تَتَمَيَّز أَوْ لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ] (5042) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ خَلَطَهَا بِمَالِهِ، وَهِيَ لَا تَتَمَيَّزُ، أَوْ لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ، أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ؛ (5043) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ، ضَمِنَهَا سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ دُونَهَا، أَوْ أَجْوَدَ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ غَيْرِ جِنْسِهَا، مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دُهْنًا بِدُهْنٍ، كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، أَوْ السَّمْنِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ عَلَى وَجْهِ الْحِرْزِ، لَمْ يَضْمَنْ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا إلَّا نَاقِصَةً. وَلَنَا، أَنَّهُ خَلَطَهَا بِمَالِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ، فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا، كَمَا لَوْ خَلَطَهَا بِدُونِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا خَلَطَهَا بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ، فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ إمْكَانَ رَدِّهَا، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ أَلْقَاهَا فِي لُجَّةِ بَحْرٍ. وَإِنْ أَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِخَلْطِهَا بِمَالِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَكَانَ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ فِيهِ. وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَاسْتَوْدَعَهُ آخَرُ عَشْرَةً، وَأَمَرَاهُ أَنْ يَخْلِطَهَا، فَخَلَطَهَا، فَضَاعَتْ الدَّرَاهِمُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِخَلْطِ دَرَاهِمِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ الْآخَرُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ دَرَاهِمَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ دُونَ الْأُخْرَى. وَإِنْ اخْتَلَطَتْ هِيَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، فَخَلْطُهَا أَوْلَى. وَإِنْ خَلَطَهَا غَيْرُهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ خَلَطَهَا؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ مِنْهُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 (5044) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِزَهَا بِحِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا. وَحِرْزُ مِثْلهَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَهَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْمُودِعُ مَا يَحْفَظُهَا فِيهِ، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ لَزِمَهُ حِفْظُهَا فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزَ مِثْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ أَحْرَزَهَا بِمِثْلِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهَا وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَضْمَنَهَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ (5045) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، إذَا أَوْدَعْهَا غَيْرَهُ. وَلَهَا صُورَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنْ يُودِعَهَا غَيْرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهَا وَإِحْرَازَهَا، وَقَدْ أَحْرَزَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَحَفِظَهَا بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ بِإِيدَاعِهِ، فَإِذَا أَوْدَعَهَا فَقَدْ حَفِظَهَا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَهُ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ حَفِظَهَا فِي حِرْزِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَالَفَ الْمُودِعَ فَضَمِنَهَا. كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ إيدَاعِهَا. وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَرْضَ لَهَا غَيْرَهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لَهُ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ الرُّجُوعُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ أَمِينٌ لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَحَبَّ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الثَّانِي، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ قَبْضًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَلَمْ يُوجِبْ ضَمَانًا آخَرَ، وَفَارَقَ الْقَبْضَ مِنْ الْغَاصِبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ، إنَّمَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ تَضْمِينَ الثَّانِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَالِكُهُ، فَضَمِنَهُ، كَالْقَابِضِ مِنْ الْغَاصِبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَذِكْرُ أَحْمَدَ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ الثَّانِي، كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ، وَلَا يَنْفِي وُجُوبَهُ عَلَى الْقَابِضِ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَمَا ذَكَرْنَا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى إنْسَانٍ عَارِيَّةً، أَوْ هِبَةً، أَوْ وَدِيعَةً لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إنْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِحِفْظِهَا لَهُ مِنْ أَهْلِهِ، كَامْرَأَتِهِ وَغُلَامِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُهَا، فَضَمِنَهَا. كَمَا لَوْ سَلَّمَهَا إلَى أَجْنَبِيٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَفِظَهَا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفِظَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَمَا لَوْ دَفَعَ الْمَاشِيَةَ إلَى الرَّاعِي، أَوْ دَفَعَ الْبَهِيمَةَ إلَى غُلَامِهِ لِيَسْقِيَهَا، وَيُفَارِقُ الْأَجْنَبِيَّ، فَإِنَّ دَفْعَهَا إلَيْهِ لَا يُعَدُّ حِفْظًا مِنْهُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِثْلُ إنْ أَرَادَ سَفَرًا، أَوْ خَافَ عَلَيْهَا عِنْدَ نَفْسِهِ مِنْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهَذَا إنْ قَدَرَ عَلَى رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَضَمِنَهَا، كَمَا لَوْ أَوْدَعَهَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَا وَكِيلِهِ، فَلَهُ دَفْعُهَا إلَى الْحَاكِمِ، سَوَاءٌ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِإِمْسَاكِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِدَامَتُهُ، وَالْحَاكِمُ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهَا عِنْدَ غَيْبَتِهِ. وَإِنْ أَوْدَعَهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَاكِمِ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَاكِمِ لَا وِلَايَةَ لَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ إيدَاعُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحْفَظَ لَهَا وَأَحَبَّ إلَى صَاحِبِهَا. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، فَأَوْدَعَهَا ثِقَةً، لَمْ يَضْمَنْهَا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا. ثُمَّ تَأَوَّلَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ أَوْدَعَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَاكِمِ. وَإِنْ دَفَنَهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً يَدُهُ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَكَانَتْ مِمَّا لَا يَضُرُّهَا الدَّفْنُ، فَهُوَ كَإِيدَاعِهَا عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَحَدًا ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَمُوتَ فِي سَفَرِهِ، فَلَا تَصِلُ إلَى صَاحِبِهَا، وَرُبَّمَا نَسِيَ مَكَانَهَا، أَوْ أَصَابَهُ آفَةٌ مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ، فَتُضِيعُ. وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا غَيْرَ ثِقَةٍ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَخَذَهَا. وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْمَكَانِ، فَقَدْ فَرَّطَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُودِعْهَا إيَّاهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِفَاظِ بِهَا. [فَصْلٌ أَرَادَ السَّفَرَ الْوَدِيعَةِ وَقَدْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ ذَلِكَ] (5046) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِهَا وَقَدْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ ذَلِكَ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِصَاحِبِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَهَاهُ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ مَخُوفٌ، أَوْ الْبَلَدَ الَّذِي يُسَافِرُ إلَيْهِ مَخُوفٌ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، سَوَاءٌ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى صَاحِبِهَا، أَوْ وَكِيلِهِ، أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ أَمِينٍ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ يُسَافِرُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا وَلَنَا، أَنَّهُ نَقَلَهَا إلَى مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ نَقَلَهَا فِي الْبَلَدِ، وَلِأَنَّهُ سَافَرَ بِهَا سَفَرًا غَيْرَ مَخُوفٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ مَتَى سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَالِكِهَا، أَوْ نَائِبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهُوَ مُفَرِّطٌ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى صَاحِبِهَا إمْكَانَ اسْتِرْجَاعِهَا، وَيُخَاطِرُ بِهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ لَعَلَى قُلْت، إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ» . أَيْ عَلَى هَلَاكٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي إمْسَاكِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَضْمَنُ هَذَا الْخَطَرَ، وَلَا يُفَوِّتُ إمْكَانَ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، الْإِذْنُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَأَمَّا مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ وَوَكِيلِهِ، فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا إذَا كَانَ أَحْفَظَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَتِهِ فَيَخْتَارُ فِعْلَ مَا فِيهِ الْحَظُّ. (5047) فَصْلٌ: وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّفَرِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِ، إلَّا فِي أَخْذِهَا مَعَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِخُرُوجِ الْوَدِيعَةِ عَنْ يَدِهِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ الْوَدِيعَة غَلَّةً فَخَلَطَهَا فِي صِحَاحٍ أَوْ صِحَاحًا فَخَلَطَهَا فِي غَلَّةٍ] (5048) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ غَلَّةً فَخَلَطَهَا فِي صِحَاحٍ، أَوْ صِحَاحًا فَخَلَطَهَا فِي غَلَّةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) يَعْنِي بِالْغَلَّةِ الْمُكَسَّرَةَ إذَا خَلَطَهَا بِصِحَاحٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ خَلَطَ الصِّحَاحَ بِالْمُكَسَّرَةِ لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَمَيَّزُ مِنْهَا فَلَا يَعْجِزُ بِذَلِكَ عَنْ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا فِي صُنْدُوقٍ وَفِيهِ أَكْيَاسٌ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا خَلَطَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، وَبِيضًا بِسُودٍ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ بِيضًا بِسُودٍ: يَضْمَنُهَا. وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَكْتَسِبُ مِنْهَا سَوَادًا، أَوْ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهَا، فَتَنْقُصُ قِيمَتُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَدِيعَة فِي مَنْزِلٍ فَأَخْرَجَهَا عَنْ الْمَنْزِلِ لِغَشَيَانِ نَارٍ] (5049) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي مَنْزِلٍ، فَأَخْرَجَهَا عَنْ الْمَنْزِلِ، لِغَشَيَانِ نَارٍ، أَوْ سَيْلٍ، أَوْ شَيْءٍ الْغَالِبُ مِنْهُ الْبَوَارُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ إذَا أَمَرَ الْمُسْتَوْدَعَ بِحِفْظِهَا فِي مَكَان عَيَّنَهُ، فَحَفِظَهَا فِيهِ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِهِ، غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي مَالِهِ. وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَيْلًا وَتَوًى، يَعْنِي هَلَاكًا، فَأَخْرَجَهَا مِنْهُ إلَى حِرْزِهَا، فَتَلِفَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَقْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ تَعَيَّنَ حِفْظًا لَهَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا. وَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْخَوْفِ فَتَلِفَتْ، ضَمِنَهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِالْأَمْرِ الْمَخُوفِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، لِأَنَّ حِفْظَهَا نَقْلُهَا، وَتَرْكَهَا تَضْيِيعٌ لَهَا. وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا فَنَقَلَهَا عَنْ الْحِرْزِ إلَى دُونِهِ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى دُونِهِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهَا، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ أَمْكَنَهُ إحْرَازُهَا بِمِثْلِهِ، أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، ضَمِنَهَا أَيْضًا؛ لِتَفْرِيطِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إحْرَازُهَا إلَّا بِمَا دُونَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ إحْرَازَهَا بِذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ تَرْكِهِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ سِوَاهُ. وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْحِرْزِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَضْمَنُهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِهَذَا الْحِرْزِ يَقْتَضِي مَا هُوَ مِثْلُهُ، كَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا لِزَرْعِ حِنْطَةٍ، فَلَهُ زَرْعُهَا وَزَرْعُ مِثْلِهَا فِي الضَّرَرِ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ لُزُومَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى أَحْرَزَ مِنْهُ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا إلَى مِثْلِهِ. فَإِنْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِتَرْكِهَا فِيهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ إخْرَاجِهَا مِنْهُ، إلَّا فِي أَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى تَلِفَتْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَضْمَنُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَالثَّانِي، لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِقَوْلِ صَاحِبِهَا وَفِي أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَهَا، سَوَاءٌ أَخْرَجَهَا إلَى مِثْلِهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ صَاحِبَهَا لِغَيْرِ فَائِدَةٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَهَاهُ عَنْ نَقْلِهَا مِنْ بَيْتٍ، فَنَقَلَهَا إلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ الدَّارِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ الْبَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ حِرْزٌ وَاحِدٌ، وَطَرِيقُ أَحَدِهِمَا طَرِيقُ الْآخَرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ زَاوِيَةٍ إلَى زَاوِيَةٍ. وَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ أُخْرَى، ضَمِنَ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ صَاحِبِهَا بِمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَيَضْمَنُ، كَمَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ. وَلَيْسَ مَا فَرَّقَ بِهِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّارِ تَخْتَلِفُ، فَمِنْهَا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إلَى مَوْضِعِ الْوَقُودِ، أَوْ إلَى الِانْهِدَامِ، أَوْ أَسْهَلُ فَتْحًا، أَوْ بَابُهُ أَسْهَلُ كَسْرًا، أَوْ أَضْعَفُ حَائِطًا، أَوَأَسْهَلُ نَقْبًا، أَوْ لِكَوْنِ الْمَالِكِ يَسْكُنُ بِهِ، أَوْ يَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحِفْظِ أَوْ فِي عَدَمِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ غَرَضِ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مِنْ تَعْيِينِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَعَلَيْهِ نَقْلُهَا. فَإِنْ تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ نَهْيَ صَاحِبِهَا عَنْ إخْرَاجِهَا إنَّمَا كَانَ لِحِفْظِهَا، وَحِفْظُهَا هَاهُنَا فِي إخْرَاجِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ إخْرَاجِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 فَإِنْ قَالَ: لَا تُخْرِجْهَا وَإِنْ خِفْت عَلَيْهَا. فَأَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ضَمِنَهَا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَيْهَا، أَوْ تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ مَعَ خَوْفِ الْهَلَاكِ نَصٌّ فِيهِ، وَتَصْرِيحٌ بِهِ، فَيَكُونُ مَأْذُونًا فِي تَرْكِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَ صَاحِبِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْهَا. فَأَتْلَفَهَا. وَلَا يَضْمَنُ إذَا أَخْرَجَهَا؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ وَحِفْظٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْهَا. فَلَمْ يُتْلِفْهَا حَتَّى تَلِفَتْ. [فَصْلٌ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَوْضِعَ إحْرَازِهَا] (5050) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَوْضِعَ إحْرَازِهَا، فَإِنَّ الْمُودَعَ يَحْفَظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ. فَإِنْ وَضَعَهَا فِي حِرْزٍ، ثُمَّ نَقَلَهَا عَنْهُ إلَى حِرْزِ مِثْلِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إلَى مِثْلِ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ؛ لِأَنَّ رَبَّهَا رَدَّ حِفْظَهَا إلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي إحْرَازِهَا بِمَا شَاءَ مِنْ إحْرَازِ مِثْلِهَا، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَهَا فِي هَذَا الثَّانِي أَوَّلًا لَمْ يَضْمَنْهَا، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَلَهَا إلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي بَيْتِ صَاحِبِهَا فَقَالَ لِرَجُلٍ: احْفَظْهَا فِي مَوْضِعِهَا. فَنَقَلَهَا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُودَعٍ، إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ فِي حِفْظِهَا، وَلَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهَا، وَلَا مِنْ مَوْضِعٍ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا، إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهَا. فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا، وَقَدْ تَعَيَّنَ حِفْظُهَا فِي إخْرَاجِهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَوْ حَضَرَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَأَخْرَجَهَا، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا عَلَى صِفَةٍ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الصِّفَةُ، لَزِمَهُ حِفْظُهَا بِدُونِهَا، كَالْمُسْتَوْدَعِ إذَا خَافَ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْ إخْرَاجِهَا فَتَلِفَتْ وَادَّعَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ نَارٍ] (5051) فَصْلٌ: إذَا أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْ إخْرَاجِهَا، فَتَلِفَتْ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ نَارٍ أَوْ سَيْلٍ، أَوْ شَيْءٍ ظَاهِرٍ، فَأَنْكَرَ صَاحِبُهَا وُجُودَهُ، فَعَلَى الْمُسْتَوْدَعِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي التَّلَفِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يُطَالَبْ بِهَا، كَمَا لَوْ ادَّعَى التَّلَفَ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالْحُكْمُ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ الْخَرِيطَةِ وَالصُّنْدُوقِ، حُكْمُ إخْرَاجِهَا مِنْ الْبَيْتِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ. [فَصْلٌ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَدِيعَة فِي مَنْزِلِهِ فَتَرَكَهَا فِي ثِيَابِهِ وَخَرَجَ بِهَا] (5052) فَصْلٌ: وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي مَنْزِلِهِ، فَتَرَكَهَا فِي ثِيَابِهِ، وَخَرَجَ بِهَا، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ أُحْرِزَ لَهَا. وَإِنْ جَاءَهُ بِهَا فِي السُّوقِ، فَقَالَ: احْفَظْهَا فِي بَيْتِكَ. فَقَامَ بِهَا فِي الْحَالِ، فَتَلِفَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَكَهَا فِي دُكَّانِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 وَلَمْ يَحْمِلْهَا إلَى بَيْتِهِ مَعَ إمْكَانِهِ، فَتَلِفَتْ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ بَيْتَهُ أُحْرِزَ لَهَا. هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَتَى تَرَكَهَا عِنْدَهُ إلَى وَقْتِ مُضِيِّهِ إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْعَادَةِ فَتَلِفَتْ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَوْدَعَ شَيْئًا وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ، أَمْسَكَهُ فِي دُكَّانِهِ أَوْ فِي ثِيَابِهِ إلَى وَقْتِ مُضِيِّهِ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَسْتَصْحِبُهُ مَعَهُ، وَالْمُودِعُ عَالِمٌ بِهَذِهِ الْحَالَةِ رَاضٍ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا لَشَرَطَ عَلَيْهِ خِلَافَهَا، وَأَمَرَهُ بِتَعْجِيلِ حَمْلِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَهَا بِهَذَا الشَّرْطِ أَوْ يَرُدَّهَا. وَإِنْ قَالَ: اجْعَلْهَا فِي كُمِّك. فَجَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ، لَمْ يَضْمَنْهَا لِأَنَّ الْجَيْبَ أُحْرِزَ لَهَا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَسِيَ، فَيَسْقُطُ الشَّيْءُ مِنْ كُمِّهِ بِخِلَافِ الْجَيْبِ. وَإِنْ قَالَ: اجْعَلْهَا فِي جَيْبِكَ. فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ، ضَمِنَهَا لِذَلِكَ. وَإِنْ جَعَلَهَا فِي يَدِهِ، ضَمِنَ أَيْضًا، كَذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: اجْعَلْهَا فِي كُمِّك. فَتَرَكَهَا فِي يَدِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الشَّيْءِ مِنْ الْيَدِ مَعَ النِّسْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ مِنْ الْكُمِّ وَالثَّانِي، لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهَا الطَّرَّارُ بِالْبَطِّ، وَالْكُمُّ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُحْرِزَ مِنْ وَجْهٍ، فَيَتَسَاوَيَانِ. وَلِمَنْ نَصَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَنْ يَقُولَ: مَتَى كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْرَزَ مِنْ وَجْهٍ، وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَجْهَ الْمَأْمُورَ بِالْحِفْظِ بِهِ، وَأَتَى بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، فَضَمِنَ لِمُخَالَفَتِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَرَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ، فَجَعَلَهَا فِي كُمِّهِ، ضَمِنَ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْيَدُ أَحْرَزُ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ، وَالْكُمُّ أَحْرَزُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُغَالَبَةِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ أُمِرَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ، فَشَدَّهَا فِي كُمِّهِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُغَالَبَةِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ ضَمِنَ وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا فِي كُمِّهِ، فَأَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُغَالَبَةِ ضَمِنَ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مُطْلَقًا، فَتَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ، أَوْ شَدَّهَا فِي كُمِّهِ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَإِنْ تَرَكَهَا فِي كُمِّهِ غَيْرَ مَشْدُودَةٍ، وَكَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَشْعُرُ بِهَا إذَا سَقَطَتْ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَشْعُرُ بِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا عَادَةُ النَّاسِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ. وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى عَضُدِهِ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ شَدَّهَا مِنْ جَانِبِ الْجَيْبِ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ شَدَّهَا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، ضَمِنَهَا لِأَنَّ الطَّرَّارَ يَقْدِرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 عَلَى بَطِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا مِمَّا يَلِي الْجَيْبَ. وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إذَا تَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ، أَوْ شَدَّهَا فِي كُمِّهِ، فَإِنَّ الطَّرَّارَ يَقْدِرُ عَلَى بَطِّهَا وَلَا يَضْمَنُ، وَلَيْسَ إمْكَانُ إحْرَازِهَا بِأَحْفَظِ الْحِرْزَيْنِ مَانِعًا مِنْ إحْرَازِهَا بِمَا دُونَهُ، إذَا كَانَ حِرْزًا لِمِثْلِهَا. وَشَدُّهَا عَلَى الْعَضُدِ حِرْزٌ لَهَا كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُحْرِزُونَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ، فَأَشْبَهَ شَدَّهَا فِي الْكُمِّ وَتَرْكَهَا فِي الْجَيْبِ، وَلَكِنْ لَوْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا مِمَّا يَلِي الْجَيْبَ، فَشَدَّهَا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، ضَمِنَ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا مِمَّا يَلِي الْجَانِبَ الْآخَرَ، فَشَدَّهَا مِمَّا يَلِي الْجَيْبَ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ أُحْرِزَ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا عَلَى عَضُدِهِ مُطْلَقًا، أَوْ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مَعَهُ، فَشَدَّهَا مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ كَانَ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ مَالِكِهَا، مُحْرِزٌ لَهَا بِحِرْزِ مِثْلِهَا. وَأَنْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ، فَهُوَ أَحْرَزُ لَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَهَا فِي بَيْتِهِ فِي حِرْزِهَا. [فَصْلٌ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَدِيعَة فِي صُنْدُوقٍ وَقَالَ لَا تَقْفِلْ عَلَيْهَا وَلَا تَنَمْ فَوْقَهَا فَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ] (5053) فَصْلٌ: وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ، وَقَالَ: لَا تَقْفِلْ عَلَيْهَا، وَلَا تَنَمْ فَوْقَهَا. فَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: لَا تَقْفِلْ عَلَيْهَا إلَّا قُفْلَا وَاحِدًا، فَجَعَلَ عَلَيْهَا قُفْلَيْنِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ رَبَّهَا فِي شَيْءٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا عَنْ مَنْزِلِهِ فَأَخْرَجَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّوْمَ عَلَيْهَا، وَتَرْكَ قُفْلَيْنِ عَلَيْهَا، وَزِيَادَةَ الِاحْتِفَاظِ بِهَا، يُنَبِّهُ اللِّصَّ عَلَيْهَا، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْجِدِّ فِي سَرِقَتِهَا، وَالِاحْتِيَالِ لِأَخْذِهَا. وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ أُحْرِزَ لَهَا، فَلَا يَضْمَنُ بِفِعْلِهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِتَرْكِهَا فِي صَحْنِ الدَّارِ، فَتَرَكَهَا فِي الْبَيْتِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ. [فَصْلٌ قَالَ اجْعَلْ الْوَدِيعَة فِي هَذَا الْبَيْتِ وَلَا تُدْخِلهُ أَحَدًا فَأَدْخَلَ إلَيْهِ قَوْمًا فَسَرَقَهَا أَحَدُهُمْ] (5054) فَصْلٌ: إذَا: قَالَ: اجْعَلْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَلَا تُدْخِلْهُ أَحَدًا. فَأَدْخَلَ إلَيْهِ قَوْمًا، فَسَرَقَهَا أَحَدُهُمْ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِتَعَدِّيهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَسَوَاءٌ سَرَقَهَا حَالَ إدْخَالِهِمْ، أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَاهَدَ الْوَدِيعَةَ فِي دُخُولِهِ الْبَيْتَ، وَعَلِمَ مَوْضِعَهَا، وَطَرِيقَ الْوُصُولِ إلَيْهَا. وَإِنْ سَرَقَهَا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ رُبَّمَا دَلَّ عَلَيْهَا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ، وَلِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ فَوَجَبَ الضَّمَانُ. إذَا كَانَتْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهَا فَأَوْجَبَتْهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا فَأَخْرَجَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ. [فَصْلٌ قَالَ ضَعْ هَذَا الْخَاتَمَ وَدِيعَة فِي الْخِنْصَر فَوَضَعَهُ فِي الْبِنْصِرِ] (5055) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: ضَعْ هَذَا الْخَاتَمَ فِي الْخِنْصَرِ. فَوَضَعَهُ فِي الْبِنْصِرِ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ وَأَحْفَظُ لَهُ، إلَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا، فَيَضَعَهُ فِي أُنْمُلَتِهَا الْعُلْيَا فَيَضْمَنَهُ، أَوْ يَنْكَسِرَ بِهَا لِغِلَظِهَا عَلَيْهِ، فَيَضْمَنَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ سَبَبٌ لِتَلَفِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْدَعَهُ شَيْئًا ثُمَّ سَأَلَهُ دَفْعَهُ إلَيْهِ فِي وَقْتٍ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ] (5056) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَهُ شَيْئًا، ثُمَّ سَأَلَهُ دَفْعَهُ إلَيْهِ فِي وَقْتٍ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ، فَهُوَ ضَامِنٌ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَالِكِهَا، إذَا طَلَبِهَا، فَأَمْكَنَ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» يَعْنِي عِنْدَ طَلَبِهَا. وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لِمَالِكِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ، فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ، كَالْمَغْصُوبِ وَالدَّيْنِ الْحَالِ. فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَتَلِفَتْ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا، لِكَوْنِهِ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ. فَأَمَّا إنْ طَلَبِهَا فِي وَقْتٍ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهَا إلَيْهِ، لِبُعْدِهَا، أَوْ لِمَخَافَةٍ فِي طَرِيقِهَا، أَوْ لِلْعَجْزِ عَنْ حَمْلِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ تَسْلِيمِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَإِنْ تَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِعَدَمِ عُدْوَانِهِ. وَإِنْ قَالَ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَقْضِيَ صَلَاتِي، أَوْ آكُلَ، فَإِنِّي جَائِعٌ أَوْ أَنَامَ فَإِنِّي نَاعِسٌ، أَوْ يَنْهَضِمَ عَنِّي الطَّعَامُ فَإِنِّي مُمْتَلِئٌ أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَحَمْلُهَا إلَى رَبِّهَا إذَا كَانَتْ مِمَّا لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ] (5057) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَحَمْلُهَا إلَى رَبِّهَا إذَا كَانَتْ مِمَّا لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، قُلْت الْمُؤْنَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْغَرَامَةُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي حِفْظِهَا فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ أَخْذِهَا. وَإِنْ سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى بَلَدِهَا، لِأَنَّهُ أَبْعَدَهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا، فَلَزِمَهُ رَدُّهَا، كَالْغَاصِبِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْ مَالِهِ] (5058) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْ مَالِهِ، فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ بِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَاتَ، وَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً لَمْ تُوجَدْ بِعَيْنِهَا، فَهِيَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، يَغْرَمُ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهَا، فَهِيَ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَإِنْ وَفَتْ تَرِكَتُهُ بِهِمَا، وَإِلَّا اقْتَسَمَاهَا بِالْحِصَصِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ: الْأَمَانَةُ قَبْلَ الدَّيْنِ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ: الدَّيْنُ قَبْلَ الْأَمَانَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا حَقَّانِ وَجَبَا فِي ذِمَّتِهِ، فَتَسَاوَيَا كَالدَّيْنَيْنِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ جِنْسِ الْوَدِيعَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. وَهَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُودَعُ أَنَّ عِنْدِي وَدِيعَةً أَوْ عَلَيَّ وَدِيعَةٌ لَفُلَانٍ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ تُوجَدُ بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عِنْدَهُ أَوْ تَلِفَتْ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 أَحَدُهُمَا، وُجُوبُ ضَمَانِهَا؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ يَجِبُ رَدُّهَا. إلَّا أَنْ يَثْبُتَ سُقُوطُ الرَّدِّ بِالتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِعَيْنِهَا كَالْجَهْلِ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الرَّدَّ. وَالثَّانِي، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إتْلَافِهَا وَالتَّعَدِّي فِيهَا، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الرَّدِّ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ. [فَصْلٌ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا] (5059) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا، فَعَلَى وَرَثَتِهِ تَمْكِينُ صَاحِبِهَا مِنْ أَخْذِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِ صَاحِبهَا مَنْ أَخَذَهَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ إعْلَامُهُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إمْسَاكُهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا رَبُّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ مَالُ غَيْرِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا وَعَلِمَ بِهِ، فَعَلَيْهِ إعْلَامُ صَاحِبِهِ بِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ. كَذَا هَا هُنَا. وَلَا تَثْبُتُ الْوَدِيعَةُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْ الْمَيِّتِ أَوْ وَرَثَتِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةِ تَشْهَدُ بِهَا. وَإِنْ وُجِدَ عَلَيْهَا مَكْتُوبًا وَدِيعَةً، لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ كَانَتْ فِيهِ وَدِيعَةٌ قَبْلَ هَذَا، أَوْ كَانَ وَدِيعَةً لِمَوْرُوثِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِ. أَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَابْتَاعَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي رزمانج أَبِيهِ، أَنَّ لَفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةً. لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا وَنَسِيَ الضَّرْبَ عَلَى مَا كَتَبَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ طَالَبَهُ الْوَدِيعَةِ فَقَالَ مَا أَوْدَعْتنِي ثُمَّ قَالَ ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ] (5060) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا طَالَبَهُ الْوَدِيعَةِ، فَقَالَ: مَا أَوْدَعْتنِي. ثُمَّ قَالَ: ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ، كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حَالِ الْأَمَانَةِ. وَلَوْ قَالَ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَدِيعَةً، فَقَالَ: مَا أَوْدَعْتنِي. ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ، فَقَالَ: أَوْدَعْتنِي، وَهَلَكَتْ مِنْ حِرْزِي. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِإِنْكَارِهِ الْأَوَّلِ وَمُعْتَرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ الْمُنَافِي لِلْأَمَانَةِ. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِتَلَفِهَا مِنْ حِرْزِهِ قَبْلَ جَحْدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ جُحُودِهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُحُودِ عَنْ الْأَمَانَةِ، فَصَارَ ضَامِنًا كَمَنْ طُولِبَ الْوَدِيعَةِ فَامْتَنَعَ مِنْ رَدِّهَا. وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ لِذَلِكَ. وَإِنْ شَهِدَتْ بِتَلَفِهَا قَبْلَ الْجُحُودِ مِنْ الْحِرْزِ. فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا بِإِنْكَارِهِ الْإِيدَاعَ. وَالثَّانِي، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ لَوْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ، فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِهِ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ مِنْ الْحِرْزِ، وَلَمْ تُعَيَّنْ قَبْلَ الْجُحُودِ وَلَا بَعْدَهُ، وَاحْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، لَمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُهُ، فَلَا يَنْتَفِي بِأَمْرِ مُتَرَدِّدٍ. وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَدِيعَةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَقَالَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْإِيدَاعِ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمُودَعُ، ثُمَّ قَالَ: ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُنَافِي مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَا يُكَذِّبُهَا، فَإِنَّ مَنْ تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ حِرْزِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَلَا شَيْءَ لِمَالِكِهَا عِنْدَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَكِنْ إنْ ادَّعَى تَلَفَهَا بَعْدَ جُحُودِهِ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ حَالَ جُحُودِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّ جُحُودَهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ. [فَصْلٌ نَوَى الْخِيَانَةَ فِي الْوَدِيعَة بِالْجُحُودِ أَوْ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يَفْعَلْ] (5061) فَصْلٌ: إذَا نَوَى الْخِيَانَةَ فِي الْوَدِيعَةِ، بِالْجُحُودِ أَوْ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الْوَدِيعَةِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا، فَلَا يَضْمَنُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ، فَيَضْمَنُهَا، كَالْمُلْتَقِطِ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ، أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَخُنْ فِيهَا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَاَلَّذِي لَمْ يَنْوِ، وَفَارَقَ الْمُلْتَقِطَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ ، فَإِنَّهُ عَمِلَ فِيهَا بِأَخْذِهَا نَاوِيًا لِلْخِيَانَةِ فِيهَا، فَوَجَبَ الضَّمَانُ بِفِعْلِهِ الْمَنْوِيِّ، لَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. وَلَوْ الْتَقَطَهَا قَاصِدًا لَتَعْرِيفِهَا، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ إمْسَاكَهَا لِنَفْسِهِ، كَانَتْ كَمَسْأَلَتِنَا. وَلَوْ أَخْرَجَهَا بِنِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، ضَمِنَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُهَا إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا لِنَقْلِهَا لَمْ يَضْمَنْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعَدَّى بِإِخْرَاجِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَعْمَلَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَلَهَا. [فَصْلٌ الْمُودَعُ أَمِينٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيه مِنْ تَلَفِ الْوَدِيعَة] (5062) فَصْلٌ: وَالْمُودَعُ أَمِينٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَلَفِ الْوَدِيعَةِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا ضَاعَتْ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَهُ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَنَا، أَنَّهُ أَمِينٌ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي قَبْضِهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. وَإِنْ قَالَ: دَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ بِأَمْرِكَ. فَأَنْكَرَ مَالِكُهَا الْإِذْنَ فِي دَفْعِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ، وَلَهُ تَضْمِينُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ ادَّعَى دَفْعًا يَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا. وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمَالِكُ بِالْإِذْنِ، وَلَكِنْ قَالَ: لَمْ يَدْفَعْهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ أَيْضًا، ثُمَّ نَنْظُرُ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ؛ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ، وَكَانَ الدَّفْعُ فِي دَيْنٍ، فَقَدْ بَرِئَ الْكُلُّ، وَإِنْ أَنْكَرَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ؛ لِكَوْنِهِ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَا يَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُفَرِّطٌ، لِكَوْنِهِ أَذِنَ فِي قَضَاءٍ يُبَرِّئُهُ مِنْ الْحَقِّ وَلَمْ يَبْرَأْ بِدَفْعِهِ، فَكَانَ ضَامِنًا، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ. وَإِنْ أَمَرَهُ بِدَفْعِهِ وَدِيعَةً، لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْمُودَعَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ وَالرَّدِّ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْمُودَعُ، وَيَبْرَأُ، وَيَحْلِفُ الْآخِرُ وَيَبْرَأُ أَيْضًا، وَيَكُونُ ذَهَابُهَا مِنْ مَالِكِهَا. [فَصْلٌ أُودِعَ بَهِيمَةً فَأَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا] (5063) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْدَعَ بَهِيمَةً، فَأَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا، لَزِمَهُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 أَحَدُهُمَا، لِحُرْمَةِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي، لِحُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَجِبُ إحْيَاؤُهُ بِالْعَلْفِ وَالسَّقْيِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ عَلْفُهَا. إلَّا أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِ صَاحِبِهَا، كَغَيْرِ الْوَدِيعَةِ. وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِعَلْفِهَا، لَزِمَهُ ذَلِكَ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْفَظَهُ إيَّاهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِعَلْفِهَا، وَالْعَلْفُ عَلَى مَالِكِهَا، فَإِذَا لَمْ يَعْلِفْهَا كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ فِي مَالِهِ وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إتْلَافُهَا، وَلَا التَّفْرِيطُ فِيهَا، فَإِذَا أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ عَلْفَهَا وَسَقْيَهَا، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ قَدَرَ الْمُسْتَوْدَعُ عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ، طَالَبَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، أَوْ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِيَرْجِعَ بِهِ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ صَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ، رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ وَجَدَ لِصَاحِبِهَا مَالًا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا فَعَلَ مَا يَرَى لَصَاحِبِهَا الْحَظَّ فِيهِ، مِنْ بَيْعِهَا، أَوْ بَيْعِ بَعْضِهَا وَإِنْفَاقِهِ عَلَيْهَا، أَوْ إجَارَتِهَا، أَوْ الِاسْتِدَانَةِ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْمُودَعِ إنْ أَرَادَ ذَلِكَ لِيُنْفِقَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ رَأَى دَفْعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَتَوَلَّى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا، جَازَ. وَإِنْ اسْتَدَانَ مِنْ الْمُودَعِ، جَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ لِيَتَوَلَّى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْحَاكِمُ فِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، وَيَكُونَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَكِلُ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ مَا يُنْفِقُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى النَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَنْفَقَ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَى الرُّجُوعِ، رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، وَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهَا فِيمَا إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْبَهِيمَةِ الْمَرْهُونَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ، وَفِي الضَّامِنِ إذَا ضَمِنَ وَأَدَّى بِغَيْرِ إذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، هَلْ يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ. وَإِنْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، مَعَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، أَوْ مَعَ إمْكَانِهِ، فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَمَتَى عَلَفَ الْبَهِيمَةَ أَوْ سَقَاهَا فِي دَارِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ غُلَامَهُ أَوْ صَاحِبَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، كَمَا يَفْعَلُ فِي بَهَائِمِهِ. عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُصَرَّحَ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 [فَصْلٌ أَوْدَعَهُ الْبَهِيمَةَ وَقَالَ لَا تَعْلِفْهَا وَلَا تَسْقِهَا] (5064) فَصْلٌ وَإِنْ أَوْدَعَهُ الْبَهِيمَةَ، وَقَالَ: لَا تَعْلِفْهَا، وَلَا تَسْقِهَا. لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُ عَلْفِهَا؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ يَجِبُ إحْيَاؤُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ عَلَفَهَا وَسَقَاهَا، كَانَ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضْمَنُ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِتَرْكِ عَلْفِهَا، أَشْبَهَ مَا إذَا لَمْ يَنْهَهُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. فَيَصِيرُ أَمْرُ مَالِكِهَا وَسُكُوتُهُ سَوَاءً. وَلَنَا، أَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِ صَاحِبِهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلْهَا فَقَتَلَهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: لَا تُخْرِجْ الْوَدِيعَةَ، وَإِنْ خِفْت عَلَيْهَا. فَخَافَ عَلَيْهَا وَلَمْ يُخْرِجْهَا، أَوْ أَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِإِلْقَائِهَا فِي نَارٍ أَوْ بَحْرٍ. وَبِهَذَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرُوهُ. وَمَنَعَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْحُكْمَ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ بِإِتْلَافِهَا وَأَتْلَفَهَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ لِصَاحِبِهَا فَلَمْ يَغْرَمْ لَهُ شَيْئًا، كَمَا لَوْ اسْتَنَابَهُ فِي مُبَاحٍ، وَالتَّحْرِيمُ أَثَرُهُ فِي بَقَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّأْثِيمُ، أَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَلَا يَبْقَى مَعَ إذْنِهِ فِي تَفْوِيتِهِ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا تَلِفَتْ بِتَرْكِ الْعَلْفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَا تُخْرِجْهَا إذَا خِفْت عَلَيْهَا. فَلَمْ يُخْرِجْهَا. [مَسْأَلَةٌ كَانَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ فَادَّعَاهَا نَفْسَانِ] (5065) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ، فَادَّعَاهَا نَفْسَانِ، فَقَالَ: أَوْدَعَنِي أَحَدُهُمَا وَلَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَادَّعَاهَا نَفْسَانِ، فَأَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، سُلِّمَتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ دَلِيلُ مِلْكِهِ، فَلَوْ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِحَقِّهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَتَهَا. لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِلثَّانِي بِهَا بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِهَا لِلْأَوَّلِ، سُلِّمَتْ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِإِقْرَارِهِ، وَغَرِمَ قِيمَتَهَا لِلثَّانِي. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا جَمِيعًا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُهُ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهَا. وَإِنْ قَالَ: هِيَ لِأَحَدِهِمَا لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا. فَاعْتَرَفَا لَهُ بِجَهْلِهِ، تَعَيَّنَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَإِنْ ادَّعَيَا مَعْرِفَتَهُ، فَعَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا يَعْلَمْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَ أَنَّهَا لَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَالِكِ، فَكَفَاهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ ادَّعَيَاهَا فَأَقَرَّ بِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 لِأَحَدِهِمَا، وَيُفَارِقُ مَا إذَا أَنْكَرَهَا. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ، فَهُمَا دَعْوَيَانِ، فَإِنْ حَلَفَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ، وَيُوقَفُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْمَالِكَ مِنْهُمَا. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ، قَالُوا: وَيَضْمَنُ الْمُسْتَوْدَعُ نِصْفَهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَا اسْتَوْدَعَ بِجَهْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْحَقِّ فِيمَا لَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، كَالْعَبْدَيْنِ إذَا أَعْتَقَهُمَا فِي مَرَضِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَحَدُهُمَا، أَوْ كَمَا لَوْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتْلَفْ، وَلَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي جَهْلِهِ تَفْرِيطٌ، إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَجْهَلَ. [مَسْأَلَةٌ أُودِعَ شَيْئًا فَأَخَذَ بَعْضَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ فَضَاعَ الْكُلُّ] (5066) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا، فَأَخَذَ بَعْضَهُ، ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ، فَضَاعَ الْكُلُّ، لَزِمَهُ مِقْدَارُ مَا أَخَذَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا، فَأَخَذَ بَعْضَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَخَذَ، فَإِنْ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ، لَمْ يَزُلْ الضَّمَانُ عَنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ لَمْ يُنْفِقْ مَا أَخَذَهُ، وَرَدَّ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَنْفَقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ضَمِنَ. وَلَنَا، أَنَّ الضَّمَانَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ بِالْأَخْذِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ رَدِّهِ ضَمِنَهُ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ كَالْمَغْصُوبِ. فَأَمَّا سَائِرُ الْوَدِيعَةِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي كِيسٍ مَخْتُومٍ أَوْ مَشْدُودٍ، فَكَسَرَ الْخَتْمَ أَوْ حَلَّ الشَّدَّ، ضَمِنَ، سَوَاءٌ أُخْرِجَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يُخْرَجْ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ بِفِعْلٍ تَعَدَّى بِهِ. وَإِنْ خَرَقَ الْكِيسَ فَوْقَ الشَّدِّ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا خَرَقَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَا هَتَكَ الْحِرْزَ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ فِي كِيسٍ، أَوْ كَانَتْ فِي كِيسٍ غَيْرِ مَشْدُودٍ، أَوْ كَانَتْ ثِيَابًا فَأَخَذَ مِنْهَا وَاحِدًا ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ رَدَّ بَدَلَهُ وَكَانَ مُتَمَيِّزًا، لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ غَيْرَهُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ اخْتَصَّ بِهِ، فَيَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِهِ، وَخَلْطُ الْمَرْدُودِ بِغَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ مَعَهَا، فَلَمْ يُفَوِّتْ عَلَى نَفْسِهِ إمْكَانَ رَدِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِرَدِّ بَدَلِهِ، فَأَخَذَ ثُمَّ رَدَّ بَدَلَ مَا أَخَذَ فَهُوَ كَرَدِّ بَدَلِ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي أَخْذِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَضْمَنُ الْكُلَّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهَا، فَضَمِنَ الْكُلَّ، كَمَا لَوْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ الْبَدَلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 وَقَدْ ذَكَرْنَا فَرْقًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَسَرَ خَتْمَ الْكِيسِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي غَيْرِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ هَتَكَ حِرْزَهَا، فَضَمِنَهَا إذَا تَلِفَتْ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ، فَفَتَحَهُ وَتَرَكَهُ مَفْتُوحًا. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي غَيْرِ الْخَتْمِ. [فَصْلٌ ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالْجَحْدِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا] (5067) فَصْلٌ: وَإِذَا ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالْجَحْدِ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ، فَإِنْ رَدَّهَا صَاحِبُهَا إلَيْهِ، كَانَ ابْتِدَاءَ اسْتِئْمَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ، وَلَكِنْ جَدَّدَ لَهُ الِاسْتِئْمَانَ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الضَّمَانِ، بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ حَقُّهُ، فَإِذَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ بَرِئَ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا جَدَّدَ لَهُ اسْتِئْمَانًا، فَقَدْ انْتَهَى الْقَبْضُ الْمَضْمُونُ بِهِ، فَزَالَ الضَّمَانُ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا رَهَنَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، أَوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ، زَالَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ لِيَسْتَعْمِلهَا أَوْ لِيَخْزُنَّ فِيهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بُنَيَّة الْأَمَانَة] (5068) فَصْلٌ: وَلَوْ تَعَدَّى فَلَبِسَ الثَّوْبَ، وَرَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ لِيَسْتَعْمِلَهَا، أَوْ لِيُخَزِّنَ فِيهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بِنِيَّةِ الْأَمَانَةِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ التَّعَدِّي. وَلَنَا، أَنَّهُ ضَمِنَهَا بِعُدْوَانٍ، فَبَطَلَ الِاسْتِئْمَانُ، كَمَا لَوْ جَحَدَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ. [فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ] (5069) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَوْدَعَ طِفْلٌ أَوْ مَعْتُوهٌ إنْسَانًا وَدِيعَةً، ضَمِنَهَا بِقَبْضِهَا، وَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ بِرَدِّهَا إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِدَفْعِهَا إلَى وَلِيِّهِ النَّاظِرِ لَهُ فِي مَالِهِ، أَوْ الْحَاكِمِ. فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا، صَحَّ إيدَاعُهُ لِمَا أُذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَالِغِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ. فَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ وَدِيعَةً، فَتَلِفَتْ، لَمْ يَضْمَنْهَا، سَوَاءٌ حَفِظَهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا. فَإِنْ أَتْلَفَهَا، أَوْ أَكَلَهَا، ضَمِنَهَا فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى إتْلَافِهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَى صَغِيرٍ سِكِّينًا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ وَلَنَا، أَنَّ مَا ضَمِنَهُ بِإِتْلَافِهِ قَبْلَ الْإِيدَاعِ، ضَمِنَهُ بَعْدَ الْإِيدَاعِ، كَالْبَالِغِ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى إتْلَافِهَا. وَإِنَّمَا اسْتَحْفَظَهُ إيَّاهَا، وَفَارَقَ دَفْعَ السِّكِّينِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِتْلَافِ، وَدَفْعُ الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 [فَصْلٌ أَوْدَعَ عَبْدًا وَدِيعَةً] (5070) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْدَعَ عَبْدًا وَدِيعَةً، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّغِيرِ، إنْ قُلْنَا: لَا يَضْمَنُ الصَّبِيُّ. فَأَتْلَفَهَا الْعَبْدُ، كَانَتْ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَضْمَنُ. كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ. [فَصْلٌ غُصِبَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ الْمُودَعِ قَهْرًا] (5071) فَصْلٌ: وَإِنْ غُصِبَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ الْمُودَعِ قَهْرًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَسْلِيمِهَا فَسَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عُذْرٌ لَهُ، يُبِيحُ لَهُ دَفْعَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ قَهْرًا. [بَاب قِسْمَة الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّدَقَة] ِ الْفَيْءُ: هُوَ الرَّاجِعُ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ. يُقَالُ: فَاءَ الْفَيْءُ. إذَا رَجَعَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ. وَالْغَنِيمَةُ: مَا أُخِذَ مِنْهُمْ قَهْرًا بِالْقِتَالِ. وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ الْغَنَمِ، وَهُوَ الْفَائِدَةُ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَيْءٌ وَغَنِيمَةٌ، وَإِنَّمَا خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مُيِّزَ بِهِ عَنْ الْآخَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْوَالُ ثَلَاثَةٌ فَيْءٌ وَغَنِيمَةٌ وَصَدَقَةٌ] (5072) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْأَمْوَالُ ثَلَاثَةٌ فَيْءٌ وَغَنِيمَةٌ، وَصَدَقَةٌ) يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَلِيهَا الْوُلَاةُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ قِسْمَانِ يُؤْخَذَانِ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَحَدُهُمَا الْفَيْءُ: وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَاَلَّذِي تَرَكُوهُ فَزَعًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَرَبُوا، وَالْجِزْيَةُ عُشْرُ أَمْوَالِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا إلَيْنَا تُجَّارًا، وَنِصْفُ عُشْرِ تِجَارَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَخَرَاجُ الْأَرْضِينَ، وَمَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ. وَالْغَنِيمَةُ: مَا أُخِذَ بِالْقَهْرِ وَالْقِتَالِ مِنْ الْكُفَّارِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ؛ الصَّدَقَةُ: وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ، وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] حَتَّى بَلَغَ: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] . ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] حَتَّى بَلَغَ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] حَتَّى بَلَغَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] . ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَلَئِنْ عِشْت لِيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبُهُ مِنْهَا، لَمْ يَعْرَقْ بِهِ جَبِينُهُ (5073) فَصْلٌ: وَلَمْ تَكُنْ الْغَنَائِمُ تَحِلُّ لِمَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ وَإِنَّمَا عَلِمَ اللَّهُ ضَعْفَنَا، فَطَيَّبَهَا لَنَا، رَحْمَةً لَنَا، وَرَأْفَةً بِنَا، وَكَرَامَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» . فَذَكَرَ فِيهَا: «أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا» ثُمَّ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 1] ثُمَّ صَارَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ، وَالْخُمُسُ لِغَيْرِهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . فَأَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَيْهِمْ، وَجَعَلَ الْخُمُسَ لِغَيْرِهِمْ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَهَا لَهُمْ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . أَضَافَ مِيرَاثَهُ إلَيْهِمَا، ثُمَّ جَعَلَ لِلْأُمِّ مِنْهُ الثُّلُثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فَأَحَلَّهَا لَهُمْ. [مَسْأَلَةٌ الْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِحَالِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِحَالٍ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَالْغَنِيمَةُ مَا أُوجِفَ عَلَيْهَا) الرِّكَابُ: الْإِبِلُ خَاصَّةً. وَالْإِيجَافُ أَصْلُهُ التَّحْرِيكُ، وَالْمُرَادُ هَا هُنَا الْحَرَكَةُ فِي السَّيْرِ إلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، وَلَا سَيَّرْتُمْ إلَيْهَا دَابَّةً، إنَّمَا كَانَتْ حَوَائِطَ بَنِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 النَّضِيرِ، أَطْعَمَهَا اللَّهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِيجَافُ، الْإِيضَاعُ. يَعْنِي الْإِسْرَاعَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَجِيفُ دُونَ التَّقْرِيبِ مِنْ السَّيْرِ. يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ، وَأَوْجَفْت أَنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] فَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِغَيْرِ إيجَافٍ، مِثْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتْرُكُونَهَا فَزَعًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهُوَ فَيْءٌ. وَمَا أَجْلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَسَارُوا إلَيْهِ، وَقَاتَلُوهُمْ عَلَيْهِ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ، سَوَاءٌ أُخِذَ عَنْوَةً أَوْ اسْتَنْزَلُوا أَهْلَهُ بِأَمَانٍ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «افْتَتَحَ حُصُونَ خَيْبَرَ بَعْضَهَا عَنْوَةً، وَبَعْضَهَا اسْتَنْزَلَ أَهْلَهُ بِالْأَمَانِ، فَكَانَتْ غَنِيمَةً كُلَّهَا.» [مَسْأَلَةٌ خُمْسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْفَيْءُ مَخْمُوسٌ كَمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ] (5075) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَخُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ: (5076) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَيْءَ مَخْمُوسٌ، كَمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُخَمَّسُ. نَقْلَهَا أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: إنَّمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ. قَالَ الْقَاضِي: لَمْ أَجِدْ مِمَّا قَالَ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَيْءَ مَخْمُوسٌ نَصًّا فَأَحْكِيهِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْمُوسٍ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا تُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْفَيْءِ خُمُسٌ، كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ. وَأَخْبَارُ عُمَرَ تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ} [الحشر: 7] إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] . الْآيَةَ. فَجَعَلَهُ كُلَّهُ لَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ خُمُسًا. وَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمِيعَهُ لِهَؤُلَاءِ. وَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ، وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ دَالَّةً عَلَى اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَيْ لَا تَتَنَاقَضَ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ وَتَتَعَارَضَ، وَفِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا وَتَوْفِيقٌ، فَإِنَّ خُمُسَهُ لِلَّذِي سُمِّيَ فِي الْآيَةِ، وَسَائِرُهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْ فِي الْخَبَرِ، كَالْغَنِيمَةِ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُخَمَّسَ، كَالْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ. وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: لَقِيت خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقُلْت: إلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ عَرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 [الْفَصْلُ الثَّانِي الْغَنِيمَة مَخْمُوسَةٌ] (5077) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَخْمُوسَةٌ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَمْدِ اللَّهِ. وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي أَشْيَاءَ؛ مِنْهَا سَلَبُ الْقَاتِلِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . يَقْتَضِي أَنَّهُ لَهُ كُلُّهُ، وَلَوْ خُمِّسَ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُ لَهُ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَهُ سَلَبَ رَجُلٍ قَتَلَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَمْ يُخَمِّسْ» رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَمِنْهَا، إذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ جَاءَ بِعَشْرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ، وَمَنْ طَلَعَ الْحِصْنَ فَلَهُ كَذَا مِنْ النَّفْلِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَخْمُوسٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّلَبِ. وَمِنْهَا، إذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. وَقُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ. فَقَدْ قِيلَ: لَا خُمُسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخُمُسَ لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى السَّلَبِ وَالنَّفَلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ تَخْمِيسِهِمَا لَا يُسْقِطُ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا يُسْقِطُهُ، فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ نَسْخًا لِحُكْمِهَا، وَنَسْخُهَا بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقًا. وَمِنْهَا؛ إذَا دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَا غَنِمُوهُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ، وَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَعَدَمِ دَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ. [الْفَصْلُ الثَّالِث الْخُمْس مِمَّا يَجِبُ خُمْسُهُ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَة شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي مَصْرِفِهِمَا وَحُكْمِهِمَا] (5078) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُمُسَ مِمَّا يَجِبُ خُمْسُهُ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فِي مَصْرِفِهِمَا، وَحُكْمِهِمَا، وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِمَا، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْفَيْءِ غَيْرَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ يَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّ فِيهِمَا الْخُمُسَ لِمَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَعْنِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . وَفِي سُورَةِ الْحَشْرِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الْآيَةَ، وَالْمُسَمَّوْنَ فِي الْآيَتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. [الْفَصْلُ الرَّابِع خُمُسِ الْغَنِيمَة يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ] (5079) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: يُقَسَّمُ عَلَى سِتَّةٍ؛ سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَهْمٌ لِرَسُولِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . فَعَدَّ سِتَّةً، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ سَهْمًا سَادِسًا، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَهْلِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ أَنَّهُ إذَا عَزَلَ الْخُمُسَ ضَرَبَ بِيَدِهِ فِيهِ، فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ لِلَّهِ لَا تَجْعَلُوا لَهُ نَصِيبًا، فَإِنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، كَانَتْ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَسَّمَا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَنَحْوِهِ حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، قَالُوا: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ. وَأَسْقَطُوا سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَوْتِهِ، وَسَهْمَ قَرَابَتِهِ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْفَيْءُ وَالْخُمُسُ وَاحِدٌ، يُجْعَلَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَبَلَغَنِي عَمَّنْ أَثِقُ بِهِ، أَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُعْطِي الْإِمَامُ أَقْرِبَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَرَى وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ: يَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . وَسَهْمُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ. كَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] افْتِتَاحُ كَلَامٍ. يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِاسْمِهِ، تَبَرُّكًا بِهِ. لَا لِإِفْرَادِهِ بِسَهْمٍ، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةٍ» وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ فَشَيْءٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رَأْيٌ، وَلَا يَقْتَضِيهِ قِيَاسٌ، وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ صَحِيحٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ أَثَرًا صَحِيحًا، سِوَى قَوْلِهِ، فَلَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ النَّصِّ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِرَسُولِهِ وَقَرَابَتِهِ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُمَا فِي الْخُمُسِ حَقًّا، كَمَا سَمَّى لِلثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَقَدْ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ. وَأَمَّا حَمْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَلَى سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَدْ ذُكِرَ لِأَحْمَدَ، فَسَكَتَ، وَحَرَّكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 رَأْسَهُ، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ، وَرَأَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَوْلَى؛ لَمُوَافَقَتِهِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، قَالَ: إنَّا كُنَّا نَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. فِعْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فِي حَمْلِهِمَا عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَمَتَى اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، وَكَانَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، كَانَ أَوْلَى. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ رَوَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا بَنِي نَوْفَلٍ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا، كَمَا كَانَ يَقْسِمُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلِبَنِي الْمُطَّلِبِ» وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَعُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، أَنَّهُمَا حَمَلَا عَلَى سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَقِيلَ: إنَّهُ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ. فَإِنْ قَالُوا: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِبَاقٍ، فَكَيْفَ يَبْقَى سَهْمُهُ؟ قُلْنَا: جِهَةُ صَرْفِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ، الْمَصَالِحُ بَاقِيَةٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ، إلَّا الْخُمُسُ» ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. [مَسْأَلَةٌ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْغَنِيمَة يُصْرَفُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ] (5080) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَسَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْرَفُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْتَارُ أَنْ يَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ خُصَّ بِهِ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ، مِنْ سَدِّ ثَغْرٍ، وَإِعْدَادِ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ، أَوْ إعْطَائِهِ أَهْلَ الْبَلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ نَفْلًا عِنْدَ الْحَرْبِ وَغَيْرِ الْحَرْبِ. وَهَذَا نَحْوُ مَا قَالَ الْخِرَقِيِّ. وَهَذَا السَّهْمُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْغَنِيمَةِ، حَضَرَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، كَمَا أَنَّ سِهَامَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْخُمُسِ لَهُمْ، حَضَرُوا أَوْ لَمْ يَحْضُرُوا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّمَا أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ جِهَتَهُ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَسْقُطُ بِمَوْتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَيُرَدُّ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُرَدُّ عَلَى الْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوهَا بِقِتَالِهِمْ، وَخَرَجَتْ مِنْهَا سِهَامٌ مِنْهَا سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَنْ وُجِدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ إذَا خَرَجَ مِنْهَا سَهْمٌ بِوَصِيَّةٍ، ثُمَّ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، رُدَّ إلَى التَّرِكَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ فَهِيَ لِلَّذِي يَقُومُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ» وَقَدْ رَأَيْت أَنَّ أَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَاقٍ، وَأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ مَقَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَرْفِهِ فِيمَا يَرَى، فَإِنَّ، أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُهُ فِيهِ إلَّا صَنَعْته. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ - يَعْنِي سَهْمَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى - فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُمَا فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. [فَصْلٌ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه مِنْ الْمَغْنَمِ الصَّفَّيْ] (5081) فَصْلٌ: وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَغْنَمِ الصَّفِيُّ، وَهُوَ شَيْءٌ يَخْتَارُهُ مِنْ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَالْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَحْمَدُ: الصَّفِيُّ إنَّمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ. وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لِهَذَا إلَّا أَبَا ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الصَّفِيُّ ثَابِتًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ سَهْمِ النَّبِيِّ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الشَّكِّ فِيهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فِي إبْقَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ أَبَا ثَوْرٍ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ كَوْنَ الصَّفِيِّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ وَبَرَةً مِنْ ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ: «مَا يَحِلُّ لَيّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ، إلَّا الْخُمُسَ» ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . فَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَاقِيَهَا لِلْغَانِمِينَ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أَقْيَشَ: إنَّكُمْ إنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَدَّيْتُمْ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمْ الْخُمُسَ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 الْمَغْنَمِ، وَسَهْمَ الصَّفِيِّ، إنَّكُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: " وَأَنْ يُعْطُوا سَهْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّفِيِّ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنْ الصَّفِيِّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَمَّا انْقِطَاعُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَبِي ثَوْرٍ وَبَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَا يُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ خُمْسٌ مِنْ الْغَنِيمَة مَقْسُومٌ فِي صَلِيبَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ فِي الْغَنِيمَةِ] (5082) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَخُمُسٌ مَقْسُومٌ فِي صَلِيبَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ، حَيْثُ كَانُوا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " فِي صَلِيبَةِ بَنِي هَاشِمٍ ". أَوْلَادَهُ دُونَ مَنْ يُعَدُّ مَعَهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: (5083) أَحَدُهَا: أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِيهِمْ، فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، قَالَ: «وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ.» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَمْ يَأْتِ لِذَلِكَ نَسْخٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِحُكْمِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّا كُنَّا نَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " هُوَ لَنَا ". [الْفَصْلُ الثَّانِي ذَوُو الْقُرْبَى فِي الْغَنِيمَة هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ابْنِي عَبْدِ مَنَافٍ دُونَ غَيْرِهِمْ] (5084) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَا الْقُرْبَى هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، قَالَ: «لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ، بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَتَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فَلَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ، لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.» وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ. فَرَعَى لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُصْرَتَهُمْ وَمُوَافَقَتَهُمْ بَنِي هَاشِمٍ. وَمَنْ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْهُمْ وَأَبُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْفَعْ إلَى أَقَارِبِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا دَفَعَ إلَى أَقَارِبِ أَبِيهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى أَقَارِبِ أُمِّهِ لَدَفَعَ إلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَخَبَرُ جُبَيْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَلَمْ يَدْفَعْ أَيْضًا إلَى بَنِي عَمَّاتِهِ، وَهُمْ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ ابْنَا أَبِي أُمَيَّةَ، وَبَنُو جَحْشٍ. [الْفَصْلُ الثَّالِث يَشْتَرِك فِي خَمْس ذَوِي الْقُرْبَى الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لَدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ] (5085) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى؛ لَدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ. فَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَهْمٌ اُسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ شَرْعًا، فَفُضِّلَ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى كَالْمِيرَاثِ، وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ وَمِيرَاثَ وَلَدِ الْأُمِّ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ اُسْتُحِقَّتْ بِقَوْلِ الْمُوصِي، وَمِيرَاثُ وَلَدِ الْأُمِّ اُسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لِقَرَابَةِ فُلَانٍ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ مَعَ الْأَبِ، وَابْنَ الِابْنِ يَأْخُذُ مَعَ الِابْنِ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَوَارِيثِ، وَلِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لَجَمَاعَةٍ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَسَائِرِ سِهَامِهِ، وَيَسْتَوِي بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ، فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ. [الْفَصْلُ الرَّابِع فِي تَقْسِيم سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ] (5086) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ حَيْثُ كَانُوا مِنْ الْأَمْصَارِ، وَيَجِبُ تَعْمِيمُهُمْ بِهِ حَسْبَ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَخُصُّ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِخُمُسِ مَغْزَاهَا الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ مَغْزَى سِوَاهُ، فَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَغْزَى الرُّومِ لِأَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَغْزَى التُّرْكِ لِمَنْ فِي خُرَاسَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي نَقْلِهِ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَعْمِيمُهُمْ بِهِ، فَلَمْ يُحِبَّ، كَسَائِرِ أَهْلِ السَّهْمِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سَهْمٌ مُسْتَحَقٌّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ، فَوَجَبَ دَفْعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ، كَالْمِيرَاثِ فَعَلَى هَذَا يَبْعَثُ الْإِمَامُ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْأَقَالِيمِ، وَيَنْظُرُ كَمْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ اسْتَوَتْ فِيهِ، فَرَّقَ كُلَّ خُمُسٍ فِي مَنْ قَارَبَهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 وَإِنْ اخْتَلَفَتْ، أَمَرَ بِحَمْلِ الْفَضْلِ لِيُدْفَعَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، كَالْمِيرَاثِ. وَفَارَقَ الصَّدَقَةَ، حَيْثُ لَا تُنْقَلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ يَكَادُ لَا يَخْلُو مِنْ صَدَقَةٍ تُفَرَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِهِ، وَالْخُمُسُ يُؤْخَذُ فِي بَعْضِ الْأَقَالِيمِ، فَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ لَأَدَّى إلَى إعْطَاءِ الْبَعْضِ وَحِرْمَانِ الْبَعْضِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّعْمِيمُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ، فَلَمْ يَجِبْ، كَتَعْمِيمِ الْمَسَاكِينِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ بَعْثِ الْإِمَامِ عُمَّالَهُ وَسُعَاتَهُ، فَهُوَ مُتَعَذِّرٌ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ إلَّا فِي قَلِيلٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ جِهَةٌ فِي الْغَزْوِ، وَلَا لَهُ فِيهِ أَمْرٌ، وَلِأَنَّ هَذَا سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْخُمُسِ، فَلَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ، كَسَائِرِ سِهَامِهِ. فَعَلَى هَذَا يُفَرِّقُهُ كُلُّ سُلْطَانٍ فِيمَا أَمْكَنَ مِنْ بِلَادِهِ. [الْفَصْلُ الْخَامِس غَنِيَّهُمْ وَفَقِيرَهُمْ سَوَاءٌ فِي تَقْسِيم سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى] (5087) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ غَنِيَّهُمْ وَفَقِيرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقِيلَ: لَا حَقَّ فِيهِ لِغَنِيٍّ. قِيَاسًا لَهُ عَلَى بَقِيَّةِ السِّهَامِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] . وَهَذَا عَامٌّ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ كُلَّهُمْ، وَفِيهِمْ الْأَغْنِيَاءُ، كَالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ "، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَأُمَّهُ سَهْمًا، وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ» . وَإِنَّمَا أَعْطَى أُمَّهُ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَقَدْ كَانَتْ مُوسِرَةً، وَلَهَا مَوَالٍ وَمَالٌ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، كَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ. وَلِأَنَّ عُثْمَانَ وَجُبَيْرًا طَلَبَا حَقَّهُمَا مِنْهُ، وَسَأَلَا عَنْ عِلَّةِ مَنْعِهِمَا وَمَنْعِ قَرَابَتِهِمَا، وَهُمَا مُوسِرَانِ، فَعَلَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنُصْرَةِ بَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَهُمْ، وَكَوْنِهِمْ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ الْيَسَارُ مَانِعًا وَالْفَقْرُ شَرْطًا، لَمْ يَطْلُبَا مَعَ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْعَهُمَا بِيَسَارِهِمَا وَانْتِفَاءِ فَقْرِهِمَا. [مَسْأَلَةٌ الْخُمْسُ الثَّالِثُ فِي الْغَنِيمَة لِلْيَتَامَى] (5088) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخُمُسُ الثَّالِثُ لِلْيَتَامَى) وَهُمْ الَّذِينَ لَا آبَاءَ لَهُمْ، وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» . قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَعَ الْفَقْرِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَا الْأَبِ لَا يَسْتَحِقُّ، وَالْمَالُ أَنْفَعُ مِنْ وُجُودِ الْأَبِ، وَلِأَنَّهُ صُرِفَ إلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِمْ، فَإِنَّ اسْمَ الْيُتْمِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ فِي الْعُرْفِ لِلرَّحْمَةِ، وَمَنْ كَانَ إعْطَاؤُهُ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ. وَفَارَقَ ذَوِي الْقُرْبَى، فَإِنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 لِقُرْبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي الْقُرْبِ سَوَاءٌ، فَاسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَلَمْ أَعْلَمْ هَذَا نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ. وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَعْمِيمَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَهُ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهُ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ فِي كُلِّ يَتِيمٍ، وَقِيَاسًا لَهُ عَلَى سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَصَّ بِهِ الْفَقِيرَ، لَكَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ السَّهْمِ الرَّابِعِ، وَكَانَ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَيْتَامِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، وَلَا يَخُصُّ بِهِ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَغْزَى. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ الْخُمْس الرَّابِعُ فِي الْغَنِيمَة لِلْمَسَاكِينِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخُمُسُ الرَّابِعُ لِلْمَسَاكِينِ) وَهُمْ أَهْلُ الْحَاجَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ، وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفَانِ فِي الزَّكَاةِ، وَصِنْفٌ وَاحِدٌ هَا هُنَا، وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظَيْنِ، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ إلَّا فِي الزَّكَاةِ، وَسَنَذْكُرُهُمْ فِي أَصْنَافِهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَعُمُّ بِهَا جَمِيعُهُمْ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، كَقَوْلِهِمْ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُنَا فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ الْخُمْسُ الْخَامِسُ فِي الْغَنِيمَة لِابْنِ السَّبِيلِ] (5090) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخُمُسُ الْخَامِسُ لِابْنِ السَّبِيلِ) وَسَنَذْكُرُهُ أَيْضًا فِي أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ مَا يُوَصِّلُهُ إلَى بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَنَا إلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، فَأُعْطِيَ بِقَدْرِهَا. فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ، كَالْمِسْكِينِ إذَا كَانَ يَتِيمًا وَابْنَ سَبِيلٍ، اسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أَسْبَابٌ لِأَحْكَامٍ، فَوَجَبَ أَنْ نُثَبِّتَ أَحْكَامَهَا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ. فَإِنْ أَعْطَاهُ لِيُتْمِهِ، فَزَالَ فَقْرُهُ، لَمْ يُعْطَ لِفَقْرِهِ شَيْئًا. [مَسْأَلَةٌ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ] (5091) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، إلَّا الْعَبِيدَ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْيَوْمَ فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْفَيْءِ، غَنِيَّهُمْ وَفَقِيرَهُمْ. ذَكَرَ أَحْمَدُ الْفَيْءَ فَقَالَ: فِيهِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَقَالَ عُمَرُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ، إلَّا الْعَبِيدَ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ. وَقَرَأَ عُمَرُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] حَتَّى بَلَغَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَلَئِنْ عِشْت لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبُهُ مِنْهَا، لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، كَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ مِنْ الْمُرَابِطِينَ فِي الثُّغُورِ، وَجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، لِحُصُولِ النُّصْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ صَارَتْ لِلْجُنْدِ، وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَصَارَ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْجِهَادِ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ. وَاَلَّذِينَ يَغْزُونَ إذَا نَشِطُوا، يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الصَّدَقَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، يَعْنِي الْغَنِيَّ الَّذِي فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ، أَنَّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الِانْتِفَاعَ بِذَلِكَ الْمَالِ؛ لِكَوْنِهِ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعُبُورِ عَلَى الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ الْمَعْقُودَةِ بِذَلِكَ الْمَالِ، وَبِالْأَنْهَارِ وَالطُّرُقَاتِ الَّتِي أُصْلِحَتْ بِهِ. وَسِيَاقُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْجُنْدِ وَإِنَّمَا هُوَ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ يَبْدَأُ بِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَصَالِحِ؛ لِكَوْنِهِمْ يَحْفَظُونَ الْمُسْلِمِينَ. فَيُعْطُونَ كِفَايَاتَهُمْ، فَمَا فَضَلَ قُدِّمَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْ عِمَارَةِ الثُّغُورِ وَكِفَايَتِهَا بِالْأَسْلِحَةِ وَالْكُرَاعِ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، ثُمَّ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ، مِنْ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ، وَكِرَاءِ الْأَنْهَارِ، وَسَدِّ بُثُوقِهَا، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ نَفْعٌ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَنَحْوِ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، بِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ يَخْتَصِمَانِ إلَيْهِ فِي أَمْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَلِيتهَا بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إلَّا أَنَّ فِيهِ: يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ. وَظَاهِرُ أَخْبَارِ عُمَرَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفَيْءِ حَقًّا؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لِلرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ مِنْهُ نَصِيبًا، وَقَالَ: مَا أَحَدٌ إلَّا لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ. وَأَمَّا أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ، فَبَدَأَ بِهِمْ، ثُمَّ جَعَلَ بَاقِيَةُ أُسْوَةَ الْمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ اخْتَصَّ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْفَيْءِ، وَتَرَكَ سَائِرَهُ لِمَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ. وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي قَوْلِ عُمَرَ: وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ قَسَمَ الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ] (5092) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فِي قَسْمِ الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَبِيدَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ لَهُ، كَمَنْ إنَّمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاضَلَ بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ، سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ. وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَضَّلَ بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَذْهَبُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ. أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ التَّسْوِيَةَ، وَمَذْهَبُ اثْنَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ التَّفْضِيلَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَجَازَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَيُؤَدِّي اجْتِهَادِهِ إلَيْهِ. فَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ قَوْمًا عَلَى قَوْمٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ لَا يُفَضِّلُوا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبِي: رَأَيْت قَسْمَ اللَّهِ الْمَوَارِيثَ عَلَى الْعَدَدِ، يَكُونُ الْإِخْوَةُ مُتَفَاضِلِينَ فِي الْغَنَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَالصِّلَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يُفَضَّلُونَ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ عَلَى الْعَدَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى غَايَةَ الْغَنَاءِ وَيَكُونُ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَحْضَرُهُ إمَّا غَيْرُ نَافِعٍ، وَإِمَّا ضَرَرٌ بِالْجُبْنِ وَالْهَزِيمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ انْتِصَابُهُمْ لِلْجِهَادِ، فَصَارُوا كَالْغَانِمِينَ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، يَفْعَلُ مَا يَرَاهُ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِي الْأَنْفَالَ، فَيُفَضِّلُ قَوْمًا عَلَى قَوْمٍ عَلَى قَدْرِ غَنَائِهِمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ كَثُرَ عِنْدَهُ الْمَالُ، فَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْطِيَاتِهِمْ، فَفَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلِلْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَفَرَضَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَلِأَهْلِ الْفَتْحِ أَلْفَيْنِ، وَقَالَ: بِمَنْ أَبْدَأُ؟ قِيلَ لَهُ: بِنَفْسِك. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَبْدَأُ بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَبَدَأَ بِبَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ بِبَنِي الْمُطَّلِبِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . ثُمَّ بِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ؛ لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبَوَيْهِ، ثُمَّ بِبَنِي نَوْفَلٍ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُمَا لِأَبِيهِمَا، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ الْإِمَامُ دِيوَانًا، وَهُوَ دَفْتَرٌ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَذِكْرُ أَعْطِيَاتِهِمْ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ عَرِيفًا. فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ عَرِيفًا. وَإِذَا أَرَادَ إعْطَاءَهُمْ بَدَأَ بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُقَدِّمُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَيُقَدِّمُ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ أَصْهَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَنْقَضِيَ قُرَيْشٌ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ قُرَيْشٍ الْأَنْصَارُ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَرَبِ، ثُمَّ الْعَجَمُ وَالْمَوَالِي، ثُمَّ تُفْرَضُ الْأَرْزَاقُ لِمَنْ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ، مِنْ الْقُضَاةِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالْبُرْدِ، وَالْعُيُونِ، وَمَنْ لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، ثُمَّ فِي إصْلَاحِ الْحُصُونِ، وَالْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ، ثُمَّ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَسَدِّ بُثُوقِهَا، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، ثُمَّ مَا فَضَلَ قَسَّمَهُ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخُصُّ ذَا الْحَاجَةِ. [فَصْلٌ يَعْرِفُ فِي الْغَنِيمَة قَدْرَ حَاجَات أَهْلَ الْعَطَاءِ وَكِفَايَتِهِمْ] (5093) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَيَعْرِفُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْعَطَاءِ - وَكِفَايَتِهِمْ، وَيَزْدَادُ ذُو الْوَلَدِ مِنْ أَجْلِ وَلَدِهِ، وَذُو الْفَرَسِ مِنْ أَجْلِ فَرَسِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ لِمَصَالِحِ الْحَرْبِ حَسْبَ مَئُونَتِهِمْ فِي كِفَايَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَزِينَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي مَئُونَتِهِ. وَيَنْظُرُ فِي أَسْعَارِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ؛ لِأَنَّ أَسْعَارَ الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ، وَالْغَرَضُ الْكِفَايَةُ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ الذُّرِّيَّةُ وَالْوَلَدُ، فَيَخْتَلِفُ عَطَاؤُهُمْ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي الْكِفَايَةِ، لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ كِفَايَتُهُمْ، وَيُعْطُونَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ، فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ. فَأَمَّا مِنْ يَرَى التَّفْضِيلَ، فَإِنَّهُ يُفَضِّلُ أَهْلَ السَّوَابِقِ وَالْغَنَاءِ فِي الْإِسْلَامِ، عَلَى غَيْرِهِمْ، بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، كَمَا أَنَّ عُمَرَ، فَضَّلَ أَهْلَ السَّوَابِقِ، فَقَسَمَ لَقَوْمٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلِآخَرِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَلِآخَرِينَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَلِآخَرِينَ أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ بِالْكِفَايَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 [فَصْلٌ الْعَطَاءُ الْوَاجِبُ مِنْ الْغَنِيمَة لَا يَكُونُ إلَّا لَبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ] (5094) فَصْلٌ: وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ، وَيَكُونُ عَاقِلًا حُرًّا بَصِيرًا صَحِيحًا، لَيْسَ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ الْقِتَالَ، فَإِنْ مَرِضَ الصَّحِيحُ مَرَضًا غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، كَالزَّمَانَةِ وَنَحْوِهَا، خَرَجَ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ، وَسَقَطَ سَهْمُهُ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ، كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ وَالْبِرْسَامِ، لَمْ يَسْقُطْ عَطَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَنِيبُ فِي الْحَجِّ كَالصَّحِيحِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، دُفِعَ حَقُّهُ إلَى وَرَثَتِهِ. وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، دُفِعَ إلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ قَدْرُ كِفَايَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْطَ ذُرِّيَّتُهُ بَعْدَهُ، لَمْ يُجَرِّدْ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الضَّيَاعَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُكْفَوْنَ بَعْد مَوْتِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو خَالِدٍ الْقَنَانِيُ: لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَيَّ حُبًّا بَنَاتِي ... إنَّهُنَّ مِنْ الضِّعَافِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَيْنَ الْفَقْرَ بَعْدِي ... وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقًا بَعْدَ صَافِ وَأَنْ يَعْرَيْنَ إنْ كُسِيَ الْجَوَارِي ... فَتَنْبُوا الْعَيْنُ عَنْ كَرَمٍ عِجَافِ وَلَوْلَا ذَاكَ قَدْ سَوَّمْت مُهْرِي ... وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِ وَإِذَا بَلَغَ ذُكُورُ أَوْلَادِهِمْ، وَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْمُقَاتِلَةِ، فُرِضَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا، تُرِكُوا، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْعَطَاءِ. [مَسْأَلَةٌ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ] (5095) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ، لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَارِسُ عَلَى هَجِينٍ، فَيَكُونَ لَهُ سَهْمَانِ، سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمٌ لِهَجِينِهِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إلَيْهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا سَهْمًا لِغَيْرِهِمْ، فَبَقِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 سَائِرُهَا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَى أَنَّ لِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ. وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فَوَافَقُوا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: إنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» . وَالْهَجِينُ مِنْ الْخَيْلِ: هُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ. وَالْمُقْرِفُ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ هِنْدَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: وَمَا هِنْدُ إلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ فَإِنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فَبِالْحُرِي ... وَإِنْ يَكُ إقْرَافٌ فَمَا أَنْجَبَ الْفَحْلُ وَأَرَادَ الْخِرَقِيِّ بِالْهَجِينِ هَا هُنَا مَا عَدَا الْعَرَبِيَّ مِنْ الْخَيْلِ، مِنْ الْبَرَاذِينِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْبَرَاذِينَ إذَا أَدْرَكَتْ مِثْلَ الْعَرَّابِ، فَلَهَا مِثْلُ سَهْمِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى، فِيمَا عَدَا الْعَرَّابَ مِنْ الْخَيْلِ لَا يُسْهَمُ لَهَا. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، وَأَدِلَّةٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، أَخَّرْنَا ذِكْرَهَا إلَى بَابِ الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِيهِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَةُ لَا يُجَاوِزُ بِهَا الثَّمَانِيَةَ الْأَصْنَافَ فِي مَصَارِف الزَّكَاة] (5096) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ لَا يُجَاوِزُ بِهَا الثَّمَانِيَةَ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك» . وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ هَا هُنَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، أَنَّهُمَا قَالَا: مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] . وَ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] . أَيْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] . أَيْ مَا أَنْتَ إلَّا نَذِيرٌ. وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ". [مَسْأَلَةٌ الْفُقَرَاءُ وَهُمْ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ] (5097) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (الْفُقَرَاءُ، وَهُمْ الزَّمْنَى، وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ، وَالْحِرْفَةُ الصِّنَاعَةُ، وَلَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ. وَالْمَسَاكِينُ، وَهُمْ السُّؤَّالُ، وَغَيْرُ السُّؤَّالِ، وَمَنْ لَهُمْ الْحِرْفَةُ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ) الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفَانِ فِي الزَّكَاةِ، وَصِنْفٌ وَاحِدٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَمُيِّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ تَمَيَّزَا، وَكِلَاهُمَا يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَعَدَمِ الْغِنَى، إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنْ الْمِسْكِينِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَالْأَصْمَعِيُّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَشَدُّ حَاجَةً. وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] . وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ، وَأَنْشَدُوا: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ. وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْفُقَرَاءِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهَمُّ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَسَاكِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ يَعْمَلُونَ بِهَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ. وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ الْفَقْرِ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شِدَّةَ الْحَاجَةِ، وَيَسْتَعِيذَ مِنْ حَالَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا. وَلِأَنَّ الْفَقْرَ مُشْتَقٌّ مِنْ فَقْرِ الظَّهْرِ، فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَفْقُودٌ، وَهُوَ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِهِ، فَانْقَطَعَ صُلْبُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَانَ، كَاَلَّذِي انْقَطَعَ صُلْبُهُ. وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنْ السُّكُونِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ، وَمَنْ كُسِرَ صُلْبُهُ أَشَدُّ حَالًا مِنْ السَّاكِنِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّ نَعْتَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمِسْكِينِ بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّعْتَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ ذُو عَلَمِ. وَيَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِالْمِسْكِينِ عَنْ الْفَقِيرِ، بِقَرِينَةٍ وَبِغَيْرِ قَرِينَةٍ، وَالشِّعْرُ أَيْضًا حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ، لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ، فَصَارَ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَقَعْ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَلَا لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ أَوْ مِنْ الْمَالِ الدَّائِمِ مَا يَقَعُ مُوقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَلَا لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ، مِثْلُ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ وَهُمْ الْعُمْيَانُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَفِّ أَبْصَارِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْغَالِبِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ، وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الْكِفَايَةِ، أَوْ نِصْفُ الْكِفَايَةِ مِثْلُ مَنْ يَكْفِيهِ عَشْرَةٌ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَكْسَبِهِ أَوْ غَيْرِهِ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ، وَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مَا لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ دُونَهَا، فَهَذَا هُوَ الْفَقِيرُ، وَالْأُوَلُ هُوَ الْمِسْكِينُ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِفَايَتَهُ، وَتَنْسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهَا وَإِغْنَاءُ صَاحِبِهَا، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَسْأَلُ، وَيُحَصِّلُ الْكِفَايَةَ أَوْ مُعْظَمَهَا مِنْ مَسْأَلَتِهِ، فَهُوَ مِنْ الْمَسَاكِينِ، لَكِنَّهُ يُعْطَى جَمِيعَ كِفَايَتِهِ، وَيُغْنَى عَنْ السُّؤَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ» . قُلْنَا، هَذَا تَجَوُّزٌ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ حَقِيقَةً، مُبَالَغَةٌ فِي إثْبَاتِهَا فِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . وَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 قَالُوا: الَّذِي لَا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا» . وَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ . قَالُوا: الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَلَطَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاته، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إذَا نَفِدَتْ حَسَنَاتُهُ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصُكُّ لَهُ صَكٌّ إلَى النَّارِ» . [فَصْلٌ مِنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الزَّكَاةِ] (5098) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ ذَا مَكْسَبٍ يُغْنِي بِهِ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ إنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ، وَكَانَ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، مِنْ أَجَّرَ عَقَارٍ، أَوْ غَلَّةِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَائِمَةٍ، فَهُوَ غَنِيٌّ لَا حَقَّ لَهُ فِي الزَّكَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ.» فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَلَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ النِّصَابِ. وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلَا قِيمَتَهُ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ، كَاَلَّذِي لَا كِفَايَةَ لَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلَاهُ شَيْئًا مِنْهَا، فَصَعَّدَ بَصَرَهُ فِيهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَقَالَ: هَذَا أَجْوَدُهُمَا إسْنَادًا، مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ، مَا أَعْلَمُ رُوِيَ فِي هَذَا أَجْوَدُ مِنْ هَذَا. قِيلَ لَهُ: فَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَصِحُّ. قِيلَ لَهُ: يَرْوِيهِ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَالِمٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْغِنَى يَخْتَلِفُ؛ فَمِنْهُ غِنًى يُوجِبُ الزَّكَاةَ، وَغِنًى يَمْنَعُ أَخْذَهَا، وَغِنًى يَمْنَعُ الْمَسْأَلَةَ، وَيُخَالِفُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ هَذَا، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا، وَالصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَلَا تُبَاحُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَهَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهَا، فَلَا تُبَاحُ لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 [فَصْلٌ إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَحِيحًا جَلْدًا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ هَلْ يُعْطَى مِنْ الْغَنِيمَة] (5099) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَحِيحًا جَلْدًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، أُعْطِيَ مِنْهَا، وَقُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ كَذِبِهِ، وَلَا يُحَلِّفُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ، وَلَمْ يُحَلِّفْهُمَا.» وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، أَنَّهُ قَالَ: «أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْنَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَصَعَّدَ فِينَا الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. [فَصْلٌ إنَّ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالًا فِي مَصَارِف الصَّدَقَة] (5100) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالًا، فَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُقَلَّدُ وَيُعْطَى لَهُمْ، كَمَا يُقَلَّدُ فِي دَعْوَى حَاجَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ عِنْدِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِيَالِ، وَلَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَدَّعِي مَا يُوَافِقُ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَسْبِ وَالْمَالِ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ عُرِفَ بِالْغِنَى، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ أَوْ نَفِدَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ» . وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْفَقْرِ ثَلَاثَةٌ، أَوْ يُكْتَفَى بِاثْنَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَكْفِي إلَّا ثَلَاثَةٌ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. وَالثَّانِي، يُقْبَلُ قَوْلُ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْفَقْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَالْخَبَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي حِلِّ الْمَسْأَلَةِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَسْتَحْلِفْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَحْلِفْ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا جَلْدَيْنِ. فَإِنْ رَآهُ مُتَجَمِّلًا قَبِلَ قَوْلَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغِنَى، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ أَنْ مَا يُعْطِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ. وَإِنْ رَآهُ ظَاهِرَ الْمَسْكَنَةِ، أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ شَرْطَ جَوَازِ الْأَخْذِ، وَلَا أَنَّ مَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ زَكَاةٌ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى رَجُلٍ: هَلْ يَقُولُ لَهُ: هَذِهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: يُعْطِيهِ وَيَسْكُتُ، وَلَا يُقْرِعُهُ. فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ حَالِهِ عَنْ سُؤَالِهِ وَتَعْرِيفِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 [فَصْلٌ إنْ كَانَ لِلرَّجُلِ بِضَاعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا أَوْ ضَيْعَةٌ يَسْتَغِلُّهَا تَكْفِيه غَلَّتُهَا فَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ] (5101) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ بِضَاعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا، أَوْ ضَيْعَةٌ يَسْتَغِلُّهَا تَكْفِيهِ غَلَّتُهَا، لَهُ وَلِعِيَالِهِ، فَهُوَ غَنِيٌّ، لَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ، جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةَ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ. [مَسْأَلَةٌ الْعَامِلُونَ عَلَيَّ الزَّكَاة وَهُمْ الْجُبَاةُ لَهَا وَالْحَافِظُونَ لَهَا] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُمْ الْجُبَاةُ لَهَا، وَالْحَافِظُونَ لَهَا) يَعْنِي الْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُمْ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، وَهُمْ السُّعَاةُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ الْإِمَامُ لِأَخْذِهَا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا وَنَقْلِهَا، وَمَنْ يُعِينُهُمْ مِمَّنْ يَسُوقُهَا وَيَرْعَاهَا وَيَحْمِلُهَا، وَكَذَلِكَ الْحَاسِبُ وَالْكَاتِبُ وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ وَالْعَدَّادُ، وَكُلُّ مَنْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّهُ يُعْطَى أُجْرَتَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَهُوَ كَعَلْفِهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَلَى الصَّدَقَةِ سُعَاةً، وَيُعْطِيهِمْ عِمَالَتَهُمْ، «فَبَعَثَ عُمَرَ، وَمُعَاذًا، وَأَبَا مُوسَى، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، وَغَيْرَهُمْ. وَطَلَبَ مِنْهُ ابْنَا عَمِّهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنْ يَبْعَثَهُمَا، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَعَثْتنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ، فَنُصِيبَ مَا يُصِيبُ النَّاسُ، وَنُؤَدِّيَ إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ؟ فَأَبَى أَنْ يَبْعَثَهُمَا، وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» . وَهَذِهِ قِصَصٌ اشْتَهَرَتْ، فَصَارَتْ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ التَّطْوِيلِ. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ عَامِلِ الزَّكَاة أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا أَمِينًا فِي جَمَعَ الزَّكَاة] (5103) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا أَمِينًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ تُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الْخِصَالُ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا قَبْضَ لَهُمَا، وَالْخَائِنَ يَذْهَبُ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَيُضَيِّعُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ. وَيُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْكَافِرُ، كَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ. وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ الْأَمَانَةُ، فَاشْتُرِطَ لَهُ الْإِسْلَامُ، كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْكَافِرُ، كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ. لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْعِمَالَةَ كَالْحَرْبِيِّ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَمِينٍ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: لَا تَأْتَمِنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي مُوسَى تَوْلِيَتَهُ الْكِتَابَةَ نَصْرَانِيًّا. فَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُجْرَتَهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ عَلَى عَمَلٍ تَجُوزُ لِلْغَنِيِّ، فَجَازَتْ لِذَوِي الْقُرْبَى، كَأُجْرَةِ النَّقَّالِ وَالْحَافِظِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 وَلَنَا، حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، حِينَ سَأَلَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْعَثَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبَى أَنْ يَبْعَثَهُمَا. وَقَالَ: «إنَّمَا هَذِهِ الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِهِمْ الْعِمَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَيُفَارِقُ النَّقَّالَ وَالْحَمَّالَ وَالرَّاعِيَ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ أُجْرَةً لِحَمْلِهِ لَا لِعِمَالَتِهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَالْحُرِّ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا كَالْحُرِّ. وَلَا كَوْنُهُ فَقِيهًا إذَا كُتِبَ لَهُ مَا يَأْخُذُهُ، وَحُدَّ لَهُ، كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَّالِهِ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ، وَكَمَا كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَّالِهِ، أَوْ بَعَثَ مَعَهُ مَنْ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ. وَلَا كَوْنُهُ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعَامِلَ صِنْفًا غَيْرَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَعْنَاهُمَا فِيهِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ مَعْنَاهُ فِيهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لَخَمْسَةٍ؛ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِرَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَى الْغَنِيِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعِمَالَةَ وِلَايَةٌ، فَنَافَاهَا الرِّقُّ، كَالْقَضَاءِ. وَيُشْتَرَطُ الْفِقْهُ؛ لِيَعْلَم قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا نُسَلِّمُ مُنَافَاةَ الرِّقِّ لِلْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِي الصَّلَاةِ، وَمُفْتِيًا، وَرَاوِيًا لِلْحَدِيثِ، وَشَاهِدًا، وَهَذِهِ مِنْ الْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا الْفِقْهُ، فَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَأْخُذُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ لَهُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. [فَصْلٌ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أَجْر عَامِلِ الزَّكَاة] (5104) فَصْلٌ: وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَامِلَ إجَارَةً صَحِيحَةً، بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، إمَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَإِمَّا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَعْلًا مَعْلُومًا عَلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا عَمِلَهُ اسْتَحَقَّ الْمَشْرُوطَ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعْت عَمَّلَنِي، فَقُلْت: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنِّي.» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَإِنْ تَلْفِت الصَّدَقَةُ فِي يَدِهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى أَرْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ تَتْلَفْ أُعْطِيَ أَجْرَ عَمَلِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ أَقَلَّ. ثُمَّ قُسِّمَ الْبَاقِي عَلَى أَرْبَابِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَجَرَى مَجْرَى عَلْفِهَا وَمُدَاوَاتِهَا. وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَعْطَاهُ أُجْرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَجْعَلُ لَهُ رِزْقًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يُعْطِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 مِنْهَا شَيْئًا، فَعَلَ. وَإِنْ تَوَلَّى الْإِمَامُ أَوْ الْوَالِي مِنْ قِبَلِهِ، أَخْذَ الصَّدَقَةِ وَقِسْمَتَهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. [فَصْلٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ السَّاعِيَ جِبَايَة الصَّدَقَة دُونَ تَفْرِقَتِهَا] (5105) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ السَّاعِيَ جِبَايَتَهَا دُونَ تَفْرِقَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ جِبَايَتَهَا وَتَفْرِيقَهَا؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَقَدِمَ بِصَدَقَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. وَقَالَ لَقَبِيصَةَ: أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا. وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ.» وَيُرْوَى أَنَّ زِيَادًا وَلَّى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ الصَّدَقَةَ، فَلَمَّا جَاءَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: أَوَ لِلْمَالِ بَعَثْتنِي، أَخَذْنَاهَا كَمَا كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا، فَوَضَعَهَا فِي فُقَرَائِنَا، وَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا، فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. [مَسْأَلَةٌ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ] (5106) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ) هَذَا الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: انْقَطَعَ سَهْمُهُمْ. وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُشْرِكًا جَاءَ يَلْتَمِسُ مِنْ عُمَرَ مَالًا، فَلَمْ يُعْطِهِ، وَقَالَ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٍّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَقَمَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى التَّأْلِيفِ. وَحَكَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤَلَّفَةُ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُهُمْ الْيَوْمَ. وَالْمَذْهَبُ عَلَى خِلَافِ مَا حَكَاهُ حَنْبَلٌ، وَلَعَلَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: انْقَطَعَ حُكْمُهُمْ. أَيْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِي الْغَالِبِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا يُعْطُونَهُمْ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَأَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَيْهِمْ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] . وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَأَعْطَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ بِثَلَاثِمِائَةٍ جَمَلٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، ثَلَاثِينَ بَعِيرًا. وَمُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَاطِّرَاحُهَا بِلَا حُجَّةٍ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَثْبُتُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 النَّسْخُ بِتَرْكِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى إعْطَائِهِمْ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، لَا لِسُقُوطِهِ. [فَصْلٌ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ضَرْبَانِ] (5107) فَصْلٌ: وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ضَرْبَانِ؛ كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ، وَهُمْ جَمِيعًا السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ. فَالْكُفَّارُ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ، فَيُعْطَى لِتَقْوَى نِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَمِيلَ نَفْسُهُ إلَيْهِ، فَيُسْلِمَ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْأَمَانَ، وَاسْتَنْظَرَهُ صَفْوَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَطَايَا قَالَ صَفْوَانُ: مَا لِي؟ فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى وَادٍ فِيهِ إبِلٌ مُحَمَّلَةٌ، فَقَالَ: هَذَا لَك. فَقَالَ صَفْوَانُ: هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ» . وَالضَّرْبُ الثَّانِي، مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ، وَيُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ كَفُّ شَرِّهِ وَكَفُّ غَيْرِهِ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَدَحُوا الْإِسْلَامَ، وَقَالُوا: هَذَا دِينٌ حَسَنٌ. وَإِنْ مَنَعَهُمْ ذَمُّوا وَعَابُوا. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ؛ قَوْمٌ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ نُظَرَاءُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أُعْطُوا رُجِيَ إسْلَامُ نُظَرَائِهِمْ وَحُسْنُ نِيَّاتِهِمْ، فَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ، مَعَ حُسْنِ نِيَّاتِهِمَا وَإِسْلَامِهِمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي، سَادَاتٌ مُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِمْ قُوَّةُ إيمَانِهِمْ، وَمُنَاصَحَتُهُمْ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ، وَالطُّلَقَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ عَلَامَ تَأْسَوْنَ؟ عَلَى لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْت بِهَا قَوْمًا لَا إيمَانَ لَهُمْ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إيمَانِكُمْ؟» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى أُنَاسًا وَتَرَكَ أُنَاسًا، فَبَلَغَهُ عَنْ الَّذِينَ تَرَكَ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أُعْطِي أُنَاسًا وَأَدَعُ أُنَاسًا، وَاَلَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أُنَاسًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أُنَاسًا إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ؛ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» . وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حِينَ «أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 رَسُولِهِ أَمْوَالَ هَوَازِنَ، طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَقَالَ نَاسٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَمْنَعُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أُعْطِي رِجَالًا حُدَثَاءَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ، قَوْمٌ فِي طَرَفِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، إذَا أُعْطُوا دَفَعُوا عَمَّنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: قَوْمٌ إذَا أُعْطُوا أَجَبُّوا الزَّكَاةَ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهَا إلَّا أَنْ يَخَافَ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. [مَسْأَلَةٌ ثُبُوتِ سَهْمِ الرِّقَابِ] (5108) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي الرِّقَابِ، وَهُمْ الْمُكَاتَبُونَ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ سَهْمِ الرِّقَابِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ الرِّقَابِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَخَالَفَهُمْ مَالِكٌ، فَقَالَ: إنَّمَا يُصْرَفُ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي إعْتَاقِ الْعَبِيدِ، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُعَانَ مِنْهَا مُكَاتَبٌ. وَخَالَفَ أَيْضًا ظَاهِرَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِنْ الرِّقَابِ، لِأَنَّهُ عَبْدٌ، وَاللَّفْظُ عَامٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِوَفَاءِ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ جَمِيعُهَا. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ، تَمَّمَ لَهُ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ. وَلَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ مَعَهُ وَفَاءُ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فِي وَفَاءِ الْكِتَابَةِ. قِيلَ: وَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْفَقْرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ؛ لِئَلَّا يَحِلَّ النَّجْمُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، فَتَنْفَسِخَ الْكِتَابَةُ. وَلَا يُدْفَعُ إلَى مُكَاتَبٍ كَافِرٍ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ. وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ إنَّهُ مُكَاتَبٌ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِانْتِقَالِ حَقِّهِ عَنْهُ قُبِلَ. وَالثَّانِي، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّهُ يُوَاطِئُهُ لِيَأْخُذَ بِهِ الْمَالَ. [فَصْلٌ لِلسَّيِّدِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى مَكَاتِبه] (5109) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَعَهُ فِي بَابِ الْمُعَامَلَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ. حَتَّى يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا الرِّبَا، فَصَارَ كَالْغَرِيمِ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى غَرِيمِهِ. وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ رَدُّهَا إلَى سَيِّدِهِ بِحُكْمِ الْوَفَاءِ؛ لِأَنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِيفَاءِ، أَشْبَهَ إيفَاءَ الْغَرِيمِ دَيْنَهُ بِهَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ وَفَاءً عَنْ الْكِتَابَةِ. وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْجَلُ لِعِتْقِهِ، وَأَوْصَلُ إلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي كَانَ الدَّفْعُ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَهُ الْمُكَاتَبُ قَدْ يَدْفَعُهُ وَقَدْ لَا يَدْفَعُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 وَنَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: لَا تُعْطِي مُكَاتَبًا لَك مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَأَنَا أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: أَيُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: الْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ يُعْطَى؟ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يُعْطِي مُكَاتَبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَمَالُهُ، يَرْجِعُ إلَيْهِ إنْ عَجَزَ، وَإِنْ عَتَقَ فَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُكَاتَبِهِ، وَلَا شَهَادَةُ مُكَاتَبِهِ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِعْتَاق مِنْ الزَّكَاة] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْهَا. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] . وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْقِنِّ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّقَبَةَ إذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَفِي إعْتَاقِ الرِّقَابِ وَلِأَنَّهُ إعْتَاقٌ لِلرَّقَبَةِ، فَجَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِيهِ، كَدَفْعِهِ فِي الْكِتَابَةِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى الرِّقَابِ، كَقَوْلِهِ: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 154] يُرِيدُ الدَّفْعَ إلَى الْمُجَاهِدِينَ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. وَالْعَبْدُ الْقِنُّ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: قَدْ كُنْت أَقُولُ: يُعْتَقُ مِنْ زَكَاتِهِ، وَلَكِنْ أَهَابُهُ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ الْوَلَاءَ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، قِيلَ لَهُ: فَمَا يُعْجِبُكَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: يُعِينُ مِنْ ثَمَنِهَا، فَهُوَ أَسْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ النَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةٌ كَامِلَةٌ، لَكِنَّ يُعْطِي مِنْهَا فِي رَقَبَةٍ، وَيُعِينُ مُكَاتَبًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ مِنْ زَكَاتِهِ، انْتَفَعَ بِوَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَهُ، فَكَأَنَّهُ صَرَفَ الزَّكَاةَ إلَى نَفْسِهِ. وَأَخَذَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّ أَحْمَدَ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِعْتَاقِ مِنْ الزَّكَاةِ. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ أَحْمَدَ إنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، فَلَا يَقْتَضِي رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَمَلَّكَ بِهَا جَرُّ الْوَلَاءِ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا رَجَعَ مِنْ الْوَلَاءِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ إذًا بِإِعْتَاقِهِ مِنْ الزَّكَاةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ زَكَاتِهِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالرَّحِمِ] (5111) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ زَكَاتِهِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالرَّحِمِ، وَهُوَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَإِنْ فَعَلَ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ لَمْ يَحْصُلْ إلَى أَبِيهِ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى بَائِعِهِ. وَلَنَا، أَنَّ نَفْعَ زَكَاتِهِ عَادَ إلَى أَبِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ حَصَلَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ مُجَازَاةً وَصِلَةً لِلرَّحِمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَسِبَ لَهُ بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ، كَنَفَقَةِ أَقَارِبِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَمْلُوكَ لَهُ عَنْ زَكَاتِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ كُلِّ مَالٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي قِيمَتِهِمْ، لَا فِي عَيْنِهِمْ. [فَصْلٌ اشْتَرَى مِنْ زَكَاتِهِ أَسِيرًا مُسْلِمًا مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ] (5112) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ زَكَاتِهِ أَسِيرًا مُسْلِمًا مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُ فَكُّ رَقَبَةٍ مِنْ الْأَسْرِ، فَهُوَ كَفَكِّ رَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ الرِّقِّ، وَلِأَنَّ فِيهِ إعْزَازًا لِلدِّينِ، فَهُوَ كَصَرْفِهِ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَى الْأَسِيرِ لِفَكِّ رَقَبَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا يَدْفَعُهُ إلَى الْغَارِمِ لِفَكِّ رَقَبَتِهِ مِنْ الدَّيْنِ. [مَسْأَلَةٌ مَا رَجَعَ مِنْ الْوَلَاءِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَمَا رَجَعَ مِنْ الْوَلَاءِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ) يَعْنِي يُعْتَقُ بِهِ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَقَالَ مَالِكٌ وَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، أَشْبَهَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِلصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَوَلَاؤُهُ يَرْجِعُ إلَيْهَا، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ بِمَالٍ هُوَ لِلَّهِ، وَالْمُعْتِقُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشِّرَاءِ وَالْإِعْتَاقِ، فَلَمْ يَكُنْ الْوَلَاءُ لَهُ. كَمَا لَوْ تَوَكَّلَ فِي الْإِعْتَاقِ، وَكَالسَّاعِي إذَا اشْتَرَى مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةً وَأَعْتَقَهَا، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الرِّقِّ، وَفَائِدَةٌ مِنْ الْمُعْتَقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمُزَكِّي، لِإِفْضَائِهِ إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِزَكَاتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَلَاءِ. [فَصْلٌ لَا يَعْقِل عَنْ الْأَسِير الْمُعْتَق] (5114) فَصْلٌ: وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ. اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 مُعْتِقٌ، فَيَعْقِلُ عَنْهُ، كَاَلَّذِي أَعْتَقَهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ مِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ؛ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِزَكَاتِهِ، وَالْعَقْلُ عَنْهُ لَيْسَ بِانْتِفَاعٍ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ وَكِيلًا فِي الْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ، فَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْوَكِيلِ وَالسَّاعِي إذَا أَعْتَقَ مِنْ الزَّكَاةِ. [مَسْأَلَةٌ الْغَارِمُونَ وَهُمْ الْمَدِينُونَ الْعَاجِزُونَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ] (5115) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْغَارِمِينَ) وَهُمْ الْمَدِينُونَ الْعَاجِزُونَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ. هَذَا الصِّنْفُ السَّادِسُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ. وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَثُبُوتِ سَهْمِهِمْ، وَأَنَّ الْمَدِينِينَ الْعَاجِزِينَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ مِنْهُمْ، لَكِنْ إنْ غَرِمَ فِي مَعْصِيَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْرًا، أَوْ يَصْرِفَهُ فِي زِنَاءٍ أَوْ قِمَارٍ أَوْ غِنَاءٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ تَابَ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُدْفَعُ إلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ، بَلْ يَجِبُ تَفْرِيغُهَا، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْوَاجِبِ قُرْبَةٌ لَا مَعْصِيَةٌ فَأَشْبَهَ مَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى افْتَقَرَ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَانَهُ لِلْمَعْصِيَةِ، فَلَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتُبْ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاسْتِدَانَةِ لِلْمَعَاصِي، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّ دَيْنَهُ يُقْضَى، بِخِلَافِ مَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ يُعْطَى لِفَقْرِهِ، لَا لِمَعْصِيَتِهِ. [فَصْلٌ لَا تُدْفَعُ الزَّكَاة إلَى غَارِمٍ كَافِرٍ] (5116) فَصْلٌ: وَلَا يُدْفَعُ إلَى غَارِمٍ كَافِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ لَا يُدْفَعُ إلَى فَقِيرِهِمْ وَلَا مُكَاتَبِهِمْ. وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ مَنْعِهِ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهَا لِفَقْرِهِ صِيَانَتُهُ عَنْ أَكْلِهَا، لِكَوْنِهَا أَوْسَاخَ النَّاسِ، وَإِذَا أَخَذَهَا لِغُرْمِهِ، فَصَرَفَهَا إلَى الْغُرَمَاءِ، فَلَا يَنَالُهُ دَنَاءَةُ وَسَخِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ أَخْذِهَا، وَكَوْنِهَا لَا تَحِلُّ لَهُمْ، وَلِأَنَّ دَنَاءَةَ أَخْذِهَا تَحْصُلُ، سَوَاءٌ أَكَلَهَا أَوْ لَمْ يَأْكُلْهَا، وَلَا يُدْفَعُ مِنْهَا إلَى غَارِمٍ لَهُ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا. [فَصْلٌ مِنْ الْغَارِمِينَ صِنْفٌ يُعْطُونَ مَعَ الْغِنَى وَهُوَ مَنْ غَرِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ] فَصْلٌ: وَمِنْ الْغَارِمِينَ صِنْفٌ يُعْطَوْنَ مَعَ الْغِنَى، وَهُوَ غُرْمٌ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ وَأَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ عَدَاوَةٌ وَضَغَائِنُ، يَتْلَفُ فِيهَا نَفْسٌ أَوْ مَالٌ، وَيَتَوَقَّفُ صُلْحُهُمْ عَلَى مَنْ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ، فَيَسْعَى إنْسَانٌ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، وَيَتَحَمَّلُ الدِّمَاءَ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَالْأَمْوَالَ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ حَمَالَةً، بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 ذَلِكَ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَحَمَّلُ الْحَمَالَةَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْقَبَائِلِ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ الصَّدَقَةِ، فَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ، قَالَ: تَحَمَّلْت حَمَالَةً، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلْته فِيهَا. فَقَالَ: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا» . ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبِيصَةُ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ» . ذَكَرَ مِنْهُمْ الْغَارِمَ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ ضَمَانُهُ وَتَحَمُّلُهُ إذَا كَانَ مَلِيًّا، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ الْغُرْمُ، وَإِنْ اسْتَدَانَ وَأَدَّاهَا، جَازَ لَهُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بَاقٍ، وَالْمُطَالَبَةَ قَائِمَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْغُرْمِ وَالْغُرْمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، أَنَّ هَذَا الْغُرْمَ يُؤْخَذَ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ لِإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ، وَإِخْمَادِ الْفِتْنَةِ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مَعَ الْغِنَى، كَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفِ وَالْعَامِلِ. وَالْغَارِمُ لِمُصْلِحَةِ نَفْسِهِ يَأْخُذُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، فَاعْتُبِرَتْ حَاجَتُهُ وَعَجْزُهُ، كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمُكَاتَبِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمَصْلَحَةٍ لَا يُطِيقُ قَضَاءَهُ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَا يُتِمُّ بِهِ قَضَاءَهُ، مَعَ مَا زَادَ عَنْ حَدِّ الْغِنَى. فَإِذَا قُلْنَا: الْغِنَى يَحْصُلُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَلَهُ مِائَةٌ، وَعَلَيْهِ مِائَةٌ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ خَمْسُونَ، لِيَتِمَّ قَضَاءُ الْمِائَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ غِنَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْطَى مَنْ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ، إلَّا مَدِينًا، فَيُعْطَى دَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْ الْغِنَى لَمْ يُعْطَ شَيْئًا. [فَصْلٌ أَرَادَ الرَّجُلُ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَى الْغَارِمِ] (5118) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَى الْغَارِمِ، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ لِيَدْفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ قَضَاءً عَنْ دَيْنِهِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ ذَلِكَ. نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ، قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفٌ، وَكَانَ عَلَى رَجُلٍ زَكَاةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 مَالِهِ أَلْفٌ، فَأَدَّاهَا عَنْ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، يَجُوزُ هَذَا مِنْ زَكَاتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْغَرِيمِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ قِيلَ: هُوَ مُحْتَاجٌ يَخَافُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْضِيَ دَيْنَهُ. قَالَ: فَقُلْ لَهُ يُوَكِّلُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى الْغَرِيمِ إلَّا بِوَكَالَةِ الْغَارِمِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْغَارِمِ، فَلَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ جَائِزًا. وَإِنْ كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ الْإِمَامَ، جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِهِ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ. وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ يَدَّعِيهِ مِنْ جِهَةِ إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ لَا يَكَادُ يَخْفَى، فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ غَرِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ. لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغُرْمِ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا صَدَّقَهُ سَيِّدُهُ. [مَسْأَلَةٌ سَهْمٌ مِنْ الزَّكَاة فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (5119) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَسَهْمٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمْ الْغُزَاةُ يُعْطَوْنَ مَا يَشْتَرُونَ بِهِ الدَّوَابَّ وَالسِّلَاحَ، وَمَا يُنْفِقُونَ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ) . هَذَا الصِّنْفُ السَّابِعُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ. وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَبَقَاءِ حُكْمِهِمْ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْغَزْوُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] . وَقَالَ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54] . وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] . وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا تُدْفَعُ إلَّا إلَى فَقِيرٍ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْغَارِمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا تَحِلُّ لَهُ، كَسَائِرِ أَصْحَابِ السَّهْمَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كُلَّهَا تُرَدُّ فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْفَقِيرُ عِنْدَهُمْ مَنْ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ؛ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِغَارِمٍ» . وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُمْ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَيْنِ، وَعَدَّ بَعْدَهُمَا سِتَّةَ أَصْنَافٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ صِفَةِ الصِّنْفَيْنِ فِي بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ وُجُودُ صِفَةِ الْأَصْنَافِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْعَامِلَ وَالْمُؤَلَّفَ، فَأَمَّا أَهْلُ سَائِرِ السَّهْمَانِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فَقْرُ مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، دُونَ مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ. فَإِذَا تُقَرَّرَ هَذَا، فَمَنْ قَالَ، إنَّهُ يُرِيدُ الْغَزْوَ. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى نِيَّتِهِ، وَيُدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ لِمُؤْنَتِهِ وَشِرَاءِ السِّلَاحِ وَالْفَرَسِ إنْ كَانَ فَارِسًا، وَحُمُولَتِهِ وَدِرْعِهِ وَلِبَاسِهِ وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِغَزْوِهِ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ، وَيُدْفَعَ إلَيْهِ دَفْعًا مُرَاعًى، فَإِنْ لَمْ يَغْزُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ غَزَا وَعَادَ، فَقَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّنَا دَفَعْنَا إلَيْهِ قَدْرَ الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ مَضَى إلَى الْغَزْوِ، فَرَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ، أَوْ لَمْ يُتِمَّ الْغَزْوَ الَّذِي دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ، رَدَّ مَا فَضَلَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَفْعَلْهُ كُلَّهُ. (5120) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ هَذَا السَّهْمَ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَإِنَّمَا يَتَطَوَّعُونَ بِالْغَزْوِ إذَا نَشِطُوا. قَالَ أَحْمَدُ: وَيُعْطَى ثَمَنَ الْفَرَسِ، وَلَا يَتَوَلَّى مُخْرِجُ الزَّكَاةِ شِرَاءَ الْفَرَسِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِنَفْسِهِ، فَمَا أَعْطَى إلَّا فَرَسًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي شِرَاءِ السِّلَاحِ وَالْمُؤْنَةِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ دَفَعَ ثَمَنَ الْفَرَسِ وَثَمَنَ السَّيْفِ، فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ هُوَ، رَجَوْت أَنْ يُجَزِّئَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: يَشْتَرِي الرَّجُلُ مِنْ زَكَاتِهِ الْفَرَسَ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ، وَالْقَنَاةَ، وَيُجَهِّزُ الرَّجُلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَفَ الزَّكَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى الْغَازِي فَاشْتَرَى بِهَا. قَالَ: وَلَا يَشْتَرِي مِنْ الزَّكَاةِ فَرَسًا يَصِيرُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا دَارًا، وَلَا ضَيْعَةً يُصَيِّرُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلرِّبَاطِ، وَلَا يَقِفُهَا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ. لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ لِأَحَدٍ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِتْيَانِهَا. قَالَ: وَلَا يَغْزُو الرَّجُلُ عَلَى الْفَرَسِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَصْرِفًا لِزَكَاتِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ، وَمَتَى أَخَذَ الْفَرَسَ الَّتِي اُشْتُرِيَتْ بِمَالِهِ، صَارَ مَصْرِفًا لِزَكَاتِهِ. [مَسْأَلَةٌ يَصْرِفُ مِنْ الزَّكَاة فِي الْحَجِّ] (5121) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُعْطَى أَيْضًا فِي الْحَجِّ، وَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وَيُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، الْحَجُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ نَاقَةً لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَرَادَتْ امْرَأَتُهُ الْحَجَّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْكَبِيهَا، فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَصْرِفُ مِنْهَا فِي الْحَجِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عِنْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجِهَادِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ. إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِهَادُ، إلَّا الْيَسِيرَ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَتُهُ بِهِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تُصْرَفُ إلَى أَحَدِ رَجُلَيْنِ، مُحْتَاجٍ إلَيْهَا، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ لِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ، أَوْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، كَالْعَامِلِ وَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفِ وَالْغَارِمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَالْحَجُّ مِنْ الْفَقِيرِ لَا نَفْعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ أَيْضًا إلَيْهِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ لَا فَرَضَ عَلَيْهِ فَيُسْقِطُهُ، وَلَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ، وَتَكْلِيفُهُ مَشَقَّةٌ قَدْ رَفَّهَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَخَفَّفَ عَنْهُ إيجَابَهَا، وَتَوْفِيرُ هَذَا الْقَدْرِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، أَوْ دَفْعُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ غَيْرُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، لِكَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى السَّفَرِ، وَلَا حَاجَةَ بِهَذَا إلَى هَذَا السَّفَرِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُدْفَعُ فِي الْحَجِّ مِنْهَا. فَلَا يُعْطَى إلَّا بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ سِوَاهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . وَقَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَاجَّ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ، لَا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْحَاجَةُ، كَمَنْ يَأْخُذُ لِفَقْرِهِ وَالثَّانِي، أَنْ يَأْخُذَهُ لِحِجَّةِ الْفَرْضِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ فَرْضِهِ وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ مَعًا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ، فَالْحِجَّةُ مِنْهُ كَالتَّطَوُّعِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ، مَا يَحُجُّ بِهِ حِجَّةً كَامِلَةً، وَمَا يُغْنِيهِ فِي حِجَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ زَكَاةِ نَفْسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ ابْنُ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ بِهِ وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ فَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ مَا يُبَلِّغُهُ] (5122) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَابْنُ السَّبِيلِ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ بِهِ، وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ، فَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ مَا يَبْلُغُهُ) ابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ الصِّنْفُ الثَّامِنُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ. وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَبَقَاءِ سَهْمِهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَا يَرْجِعُ بِهِ إلَى بَلَدِهِ، وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ، فَيُعْطَى مَا يَرْجِعُ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَنَحْوُهُ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، هُوَ الْمُخْتَارُ، وَمَنْ يُرِيدُ إنْشَاءَ السَّفَرِ إلَى بَلَدٍ أَيْضًا، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمَا مَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهِ لِذَهَابِهِمَا وَعَوْدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَازَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُلَازِمُ لِلطَّرِيقِ الْكَائِنِ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: وَلَدُ اللَّيْلِ. لِلَّذِي يُكْثِرُ الْخُرُوجَ فِيهِ، وَالْقَاطِنُ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ فِي طَرِيقٍ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْكَائِنِ فِيهَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِهَمِّهِ بِهِ دُونَ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ إلَّا الْغَرِيبَ دُونَ مَنْ هُوَ فِي وَطَنِهِ وَمَنْزِلِهِ، وَإِنْ انْتَهَتْ بِهِ الْحَاجَةُ مُنْتَهَاهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْغَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُعْطَى وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّهِ. فَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ فَقِيرًا فِي بَلَدِهِ، أُعْطِيَ لِفَقْرِهِ وَكَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ، لِوُجُودِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ، وَيُعْطَى لِكَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ قَدْرَ مَا يُوَصِّلُهُ إلَى بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، وَتُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فِي بَلَدِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى مَالِهِ، فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ. وَإِنْ فَضَلَ مَعَهُ شَيْءٌ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى بَلَدِهِ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ حَصَلَ الْغِنَى بِدُونِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ لِغَزْوٍ فَلَمْ يَغْزُ. وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ اتَّصَلَ بِسَفَرِهِ الْفَقْرُ، أَخَذَ الْفَضْلَ لِفَقْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَاتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ، حَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِجِهَةٍ أُخْرَى. وَإِنْ كَانَ غَارِمًا، أَخَذَ الْفَضْلَ لِغُرْمِهِ. [فَصْلٌ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ مُجْتَازًا يُرِيدُ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ فِي مَصَارِف الزَّكَاة] (5123) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ مُجْتَازًا يُرِيدُ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَا يَكْفِيهِ فِي مُضِيِّهِ إلَى مَقْصِدِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ، وَبُلُوغِ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ السَّفَرِ مُبَاحًا، إمَّا قُرْبَةً كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ مُبَاحًا كَطَلَبِ الْمَعَاشِ وَالتِّجَارَاتِ. فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَيْهَا، وَتَسَبُّبٌ إلَيْهَا، فَهُوَ كَفِعْلِهَا، فَإِنَّ وَسِيلَةَ الشَّيْءِ جَارِيَةٌ مَجْرَاهُ. وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لِلنُّزْهَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ. وَالثَّانِي، لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى هَذَا السَّفَرِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ لِلسَّفَرِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ. لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ لِلْمُنْشِئِ لِلسَّفَرِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ إنْ كَانَ لِجِهَادٍ، فَهُوَ يَأْخُذُ لَهُ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ حَجًّا فَغَيْرُهُ أَهَمُّ مِنْهُ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ فِي هَذَيْنِ، فَفِي غَيْرِهِمَا أَوْلَى. وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِلرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَدْعُو حَاجَتُهُ إلَيْهِ وَلَا غِنَى بِهِ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ، وَلَا نَصَّ فِيهِ، فَلَا يَثْبُتُ جَوَازُهُ لِعَدَمِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ. [فَصْلٌ ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ ابْن سَبِيلٍ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ فِي مَصَارِف الزَّكَاة] (5124) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَإِنْ ادَّعَى الْحَاجَةَ، وَلَمْ يَكُنْ عُرِفَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 لَهُ مَالٌ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ بِهِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ مَعَهُ. وَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ فِي مَكَانِهِ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ لِلْفَقْرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ الْمَسْكَنَةَ. [فَصْلٌ جُمْلَةُ مَنْ يَأْخُذُ مَعَ الْغِنَى مِنْ الزَّكَاة خَمْسَةٌ] (5125) فَصْلٌ: وَجُمْلَةُ مَنْ يَأْخُذُ مَعَ الْغِنَى خَمْسَةٌ؛ الْعَامِلُ، وَالْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ، وَالْغَازِي، وَالْغَارِمُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَابْنُ السَّبِيلِ الَّذِي لَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ. وَخَمْسَةٌ لَا يُعْطَوْنَ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ؛ الْفَقِيرُ، وَالْمِسْكِينُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَالْغَارِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فِي مُبَاحٍ، وَابْنُ السَّبِيلِ. وَأَرْبَعَةٌ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا، لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّ شَيْءٍ بِحَالٍ؛ الْفَقِيرُ، وَالْمِسْكِينُ، وَالْعَامِلُ، وَالْمُؤَلَّفُ. وَأَرْبَعَةٌ يَأْخُذُونَ أَخْذًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ؛ الْمُكَاتَبُ، وَالْغَارِمُ، وَالْغَازِي، وَابْنُ السَّبِيلِ. [فَصْلٌ سَافَرَ لِمَعْصِيَةِ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاة] (5126) فَصْلٌ: وَمَنْ سَافَرَ لِمَعْصِيَةٍ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ، مَا لَمْ يَتُبْ. فَإِنْ تَابَ، اُحْتُمِلَ جَوَازُ الدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، فَأَشْبَهَ رُجُوعَ غَيْرِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ رُجُوعُهُ إلَى بَلَدِهِ تَرْكًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَإِقْلَاعًا عَنْهَا، كَالْعَاقِّ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَى أَبَوَيْهِ، وَالْفَارِّ مِنْ غَرِيمِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهِمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُدْفَعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ، فَأَشْبَهَ الْغَارِمَ فِي الْمَعْصِيَةِ. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فِي مَصَارِف الزَّكَاة] (5127) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ، وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ، إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُجَاوِزَهُمْ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ، لَا لِإِيجَابِ الصَّرْفِ إلَى الْجَمِيعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُ كُلِّ صِنْفٍ بِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى صَرْفَهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْخَبَرِ إلَّا صِنْفًا وَاحِدًا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَبِيصَةَ حِينَ تَحَمَّلَ حَمَالَةً: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ، حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» . فَذَكَرَ دَفْعَهَا إلَى صِنْفٍ، وَهُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ. وَأَمَرَ بَنِي زُرَيْقٍ بِدَفْعِ صَدَقَتِهِمْ إلَى سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ. وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَبَعَثَ إلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ. وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ ثَابِتَةٍ دَفْعَهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ. وَلَا تَعْمِيمَهُمْ بِهَا، بَلْ كَانَ يَدْفَعُهَا إلَى مَنْ تَيَسَّرَ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ وَحُسْنِهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَاةٌ، أَوْ صَاعٌ مِنْ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ مِثْقَالٍ، أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، دَفْعَهَا إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَفْسًا، أَوْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، أَوْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ نَفْسًا، مِنْ ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ، لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ ثُمُنُهَا، وَالْغَالِبُ تَعَذُّرُ وُجُودِهِمْ فِي الْإِقْلِيمِ الْعَظِيمِ، وَعَجْزُ السُّلْطَانِ عَنْ إيصَالِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ كَثْرَتِهِ إلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَكَيْفَ يُكَلِّفُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ جَمْعَهُمْ وَإِعْطَاءَهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وَقَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَأَظُنُّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ دَفْعِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ، وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هَذَا فِي صَدَقَةٍ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَلَا أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلَا مِنْ صَحَابَتِهِ، وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ لَمَا أَغْفَلُوهُ، وَلَوْ فَعَلُوهُ مَعَ مَشَقَّتِهِ لَنُقِلَ وَمَا أُهْمِلَ، إذْ لَا يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ إهْمَالُ نَقْلِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِهِ، سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَوُجُودِ ذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَفِي كُلِّ مِصْرٍ وَبَلَدٍ، وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ تَفْرِيق الصَّدَقَة عَلَى مَا أَمْكَنَ مِنْ أَصْنَافِهَا] (5128) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَفْرِيقُهَا عَلَى مَا أَمْكَنَ مِنْ الْأَصْنَافِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَتَعْمِيمُ مَنْ أَمْكَنَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِتَفْرِيقِهَا السَّاعِي، اُسْتُحِبَّ إحْصَاءُ أَهْلِ السَّهْمَانِ مِنْ عَمَلِهِ، حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُهُ مِنْ قَبْضِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ تَنَاهِي أَسْمَائِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، وَحَاجَاتِهِمْ، وَقَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ، لِتَكُونَ تَفْرِقَتُهُ عَقِيبَ جَمْعِ الصَّدَقَةِ. وَيَبْدَأُ بِإِعْطَاءِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ أَقْوَى، وَلِذَلِكَ إذَا عَجَزَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ أَجْرِهِ، تَمَّمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ أَجْرٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» . ثُمَّ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَأَهَمُّهُمْ أَشَدُّ حَاجَةً، فَإِنْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَفِي بِحَاجَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 جَمِيعِهِمْ، أَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، فَيُعْطِي الْفَقِيرَ مَا يُغْنِيهِ، وَهُوَ مَا تَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْكِفَايَةُ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، لَهُ وَلِعِيَالِهِ، وَيُعْطِي الْمِسْكِينَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ. إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا؛ يُعْطِيهِ مَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَالثَّانِيَةُ، لَا يَزِيدُهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عِيَالٌ، فَيَدْفَعَ إلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ قَدْرَ أَجْرِهِ، وَإِلَى الْغَارِمِ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ، وَإِلَى الْمُكَاتَبِ مَا يُوفِي كِتَابَتَهُ، وَالْغَازِي يُعْطَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمُؤْنَةِ غَزْوِهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى بَلَدِهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ، فَرَّقَ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَنْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ، إلَّا الْعَامِلَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا. وَإِنْ فَضَلَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ، نَقَلَ الْفَاضِلَ إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِتَفْرِيقِهَا رَبَّهَا، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِهَا مِنْ أَهْلِهِ، وَيُفَرِّقَهَا فِي الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَهُوَ مَنْ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، وَقَرُبَ مِنْهُ نَسَبُهُ، وَيُعْطِي مَنْ أَمْكَنَهُ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ سَبَبَانِ فِي مَصَارِف الزَّكَاة] (5129) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ سَبَبَانِ، يَجُوزُ الْأَخْذُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، كَالْفَقِيرِ الْغَارِمِ، أُعْطِيَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيُعْطَى مَا يَقْضِي غُرْمَهُ، ثُمَّ يُعْطَى مَا يُغْنِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي فِيهِ الْمَعْنَيَانِ كَشَخْصَيْنِ، وُجِدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِمَا كَالْمِيرَاثِ لِابْنِ عَمٍّ هُوَ زَوْجٌ أَوْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ، وَلَوْ أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ وَلِلْفُقَرَاءِ، اسْتَحَقَّ الْقَرِيبُ الْفَقِيرُ سَهْمَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ لِبَنِيَّ هَاشِمٍ وَلَا لِمَوَالِيهِمْ] (5130) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ) وَلَا لِمَوَالِيهِمْ، وَلَا لِلْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ. وَلَا لِلزَّوْجِ، وَلَا لِلزَّوْجَةِ، وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، وَلَا لِكَافِرٍ، وَلَا لِمَمْلُوكٍ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَيُعْطَوْنَ بِحَقِّ مَا عَمِلُوا، وَلَا لِغَنِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ. هَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ تَكَرَّرَتْ، وَذَكَرْنَا شَرْحَهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هَا هُنَا. [مَسْأَلَةٌ تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ، سَقَطَ الْعَامِلُونَ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَأْخُذُ أَجْرَ عِمَالَتِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَامِلٌ عَلَيْهَا، وَلَا مَنْ يَسْتَحِقُّ أَجْرًا، فَيَسْقُطُ سَهْمُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ جَوَائِزُ السُّلْطَانِ] (5132) فَصْلٌ: فِي جَوَائِزِ السُّلْطَانِ، كَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا، وَيَمْنَعُ بَنِيهِ وَعَمَّهُ مِنْ أَخْذِهَا، وَهَجَرَهُمْ حِينَ قَبِلُوهَا، وَسَدَّ الْأَبْوَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِينَ أَخَذُوهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ يُصْنَعُ عِنْدَهُمْ. وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِمَا أَخَذُوهُ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَخْتَلِطُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْحَرَامِ مِنْ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ، فَيَصِيرُ شُبْهَةً، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَاقَعَ الشُّبُهَاتِ أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنْ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ تَنَزَّهُوا عَنْ مَالِ السُّلْطَانِ؛ مِنْهُمْ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ. وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ حَرَامًا؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: مَالُ السُّلْطَانِ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ حَقٌّ، فَكَيْفَ أَقُولُ إنَّهَا سُحْتٌ؟ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، يَقْبَلُونَ جَوَائِزَ مُعَاوِيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِجَوَائِزِ السُّلْطَانِ، مَا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَرَامِ وَقَالَ: لَا تَسْأَلْ السُّلْطَانَ شَيْئًا، فَإِنْ أَعْطَاكَ فَخُذْ؛ فَإِنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْحَرَامِ. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَيْبَةَ الْبُحْتُرِيُّ " فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ " أَنَّ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيَّ، دَخَلُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ فَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَلِفِ دِرْهَمٍ، وَأَمَرَ لِلْحَسَنِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَقَبَضَ الْحَسَنُ جَائِزَتَهُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 وَأَبَى ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقْبِضَ، فَقَالَ لِابْنِ سِيرِينَ: مَا لَكَ لَا تَقْبِضُ؟ قَالَ: حَتَّى يَعُمَّ النَّاسَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَاَللَّهِ لَوْ عَرَضَ لَكَ وَلِي لِصٌّ، فَأَخَذَ رِدَائِي وَرِدَاءَك، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ رِدَائِي، كُنْت أَقُولُ: لَا أَقْبَلُ رِدَائِي حَتَّى تَرُدَّ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ رِدَاءَهُ؟ كُنْت أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَفْقَهَ مِمَّا أَنْتَ يَا ابْنَ سِيرِينَ. وَلِأَنَّ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ لَهَا وَجْهٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْلِيلِ، فَإِنَّ لَهُ جِهَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهِمَا. (5133) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّدَقَةِ. يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، صِينَ عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلُهُ، لِدَنَاءَتِهَا، وَلَمْ يُصَانُوا عَنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ عَامَلَ السُّلْطَانَ فَرَبِحَ أَلْفًا، وَآخَرَ أَجَازَهُ السُّلْطَانُ بِأَلْفٍ، أَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: الْجَائِزَةُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَرْبَحُ عَلَيْهِ أَلْفًا، لَا يَرْبَحُهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَالْجَائِزَةُ عَطَاءٌ مِنْ الْإِمَامِ بِرِضَاهُ، لَا تَدْلِيسَ فِيهَا وَلَا غَبْنَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ رَجُلٌ. يَعْنِي فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَسَائِطَ كُلَّمَا كَثُرَتْ، قَرُبَتْ إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْبُعْدِ تَتَبَدَّلُ، وَتَحْصُلُ فِيهَا أَسْبَابٌ مُبِيحَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 [كِتَاب النِّكَاح] ِ النِّكَاحُ فِي الشَّرْعِ: هُوَ عَقْدُ التَّزْوِيجِ، فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، مَا لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُ دَلِيلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَشْبَهُ بِأَصْلِنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا؛ لِقَوْلِنَا بِتَحْرِيمِ مَوْطُوءَةِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ، لِدُخُولِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] . وَقِيلَ: بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْكَحْنَا الْفَرَا، فَسَنَرَى. أَيْ أَضْرَبْنَا فَحْلَ حُمُرِ الْوَحْشِ أُمَّهُ، فَسَنَرَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا. يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْأَمْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْنَا رِمَاحُنَا ... وَأُخْرَى عَلَى خَالٍ وَعَمٍّ تَلَهَّفُ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْأَشْهَرَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ النِّكَاحِ بِإِزَاءِ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ أَهْلِ الْعُرْفِ. وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ لَفْظُ نِكَاحٍ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، إلَّا قَوْلُهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْ الْوَطْءِ، فَيُقَال: هَذَا سِفَاحٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ. وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ، لَا مِنْ سِفَاحٍ» . وَيُقَالُ عَنْ السُّرِّيَّةِ: لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَلَا مَنْكُوحَةٍ. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ، كَاللَّفْظِ الْآخَرِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يُفْضِي إلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْآخَرُونَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالِاسْتِعْمَالُ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ كَوْنُهُ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ لَكَانَ اسْمًا عُرْفِيًّا، يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَيْهِ؛ لِشُهْرَتِهِ، كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ. (5134) فَصْلٌ: وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . الْآيَةَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَةٍ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ؛ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إلَّا أَنْ يَخَافَ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ بِتَرْكِهِ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: هُوَ وَاجِبٌ. وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ. وَحَكَى عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعُمَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَرَ بِهِ. عَلَّقَهُ عَلَى الِاسْتِطَابَةِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ عَلَى الِاسْتِطَابَةِ، وَقَالَ: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ النَّدْبُ، وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ عَلَى مَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْظُورِ بِتَرْكِ النِّكَاحِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ، فِي إيجَابِ النِّكَاحِ. [فَصْلٌ النَّاسُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرِب] (5135) فَصْلٌ: وَالنَّاسُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ إنْ تَرَكَ النِّكَاحَ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ، وَصَوْنُهَا عَنْ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ. الثَّانِي، مَنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَهُوَ مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ يَأْمَنُ مَعَهَا الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ، فَهَذَا الِاشْتِغَالُ لَهُ بِهِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَفِعْلِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إلَّا عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا، وَلِي طَوْلُ النِّكَاحِ فِيهِنَّ، لَتَزَوَّجْت مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: تَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: قَالَ لِي طَاوُسٌ: لَتَنْكِحْنَ، أَوْ لَأَقُولَنَّ لَك مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الزَّوَائِدِ: مَا يَمْنَعُك عَنْ النِّكَاحِ إلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَيْسَتْ الْعُزْبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، فِي شَيْءٍ. وَقَالَ: مَنْ دَعَاكَ إلَى غَيْرِ التَّزْوِيجِ، فَقَدْ دَعَاكَ إلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرٌ كَانَ قَدْ تَمَّ أَمْرُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ لَمَا مَدَحَ بِتَرْكِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] . وَهَذَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ وَحَثِّهِمَا عَلَيْهِ، «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَقَالَ سَعْدٌ: لَقَدْ «رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ» ، وَلَوْ أَحَلَّهُ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَهَذَا حَثٌّ عَلَى النِّكَاحِ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ عَلَى تَرْكِهِ يُقَرِّبُهُ إلَى الْوُجُوبِ، وَالتَّخَلِّي مِنْهُ إلَى التَّحْرِيمِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَلَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ، وَبَالَغَ فِي الْعَدَدِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَشْتَغِلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ إلَّا بِالْأَفْضَلِ، وَلَا تَجْتَمِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَدْنَى، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مَنْ يُفَضِّلُ التَّخَلِّيَ لَمْ يَفْعَلْهُ. فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى النِّكَاحِ فِي فِعْلِهِ، وَخَالَفُوهُ فِي فَضْلِهِ، أَفَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتْبَعُ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ وَيَعْمَلُ بِالْأَوْلَى؟ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَحْصِينِ الدِّينِ، وَإِحْرَازِهِ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ وَحِفْظِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِيجَادِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ، فَمَجْمُوعُهَا أَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 وَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَنَّ قَوْمًا ذَكَرُوا لَنَبِيٍّ لَهُمْ فَضْلَ عَابِدٍ لَهُمْ، فَقَالَ: أَمَّا إنَّهُ لَتَارِكٌ لِشَيْءٍ مِنْ السُّنَّةِ، فَبَلَغَ الْعَابِدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّك تَرَكْت التَّزْوِيجَ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا هُوَ إلَّا هَذَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ احْتِقَارَهُ لِذَلِكَ، قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ التَّزْوِيجَ مَنْ كَانَ يَقُومُ بِالْجِهَادِ، وَيَنْفِي الْعَدُوَّ، وَيَقُومُ بِفَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُدُودِهِ؟ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى، فَهُوَ شَرْعُهُ، وَشَرْعُنَا وَارِدٌ بِخِلَافِهِ، فَهُوَ أَوْلَى وَالْبَيْعُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَصَالِحِ النِّكَاحِ، وَلَا يُقَارِبُهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شَهْوَةٌ كَالْعِنِّينِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فَذَهَبَتْ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، التَّخَلِّي لَهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ مَصَالِحَ النِّكَاحِ، وَيَمْنَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَيُضِرُّ بِهَا، وَيَحْبِسُهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا، وَيَشْتَغِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالْأَخْبَارُ تُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُ، أَنْفَقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، صَبَرَ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرٌ كَانَ قَدْ تَمَّ أَمْرُهُ. وَاحْتَجَّ «بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ» . «وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمِ حَدِيدٍ، وَلَا وَجَدَ إلَّا إزَارَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ قَلِيلِ الْكَسْبِ، يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنْ الْعِيَالِ: اللَّهُ يَرْزُقُهُمْ، التَّزْوِيجُ أَحْصَنُ لَهُ، رُبَّمَا أَتَى عَلَيْهِ وَقْتٌ لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ. وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزْوِيجُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] [مَسْأَلَةٌ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيِّ وَشَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] [فَصَلِّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوَلِيٍّ] (5136) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 (5137) أَحَدُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا تَوْكِيلَ غَيْرِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا. فَإِنْ فَعَلَتْ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَأَبِي يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا، وَتُوَكِّلَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] . أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِنَّ، وَنَهَى عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمُبَاشَرَةِ، فَصَحَّ مِنْهَا، كَبَيْعِ أَمَتِهَا، وَلِأَنَّهَا إذَا مَلَكَتْ بَيْعَ أَمَتِهَا، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي رَقَبَتِهَا وَسَائِرِ مَنَافِعِهَا، فَفِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ عَقْدٌ عَلَى بَعْضِ مَنَافِعِهَا أَوْلَى وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . رَوَتْهُ عَائِشَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ وَيَحْيَى عَنْ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . فَقَالَا: صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ. قُلْنَا لَهُ: لَمْ يَقُلْ هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٌ غَيْرُ ابْنِ عُلَيَّةَ، كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ ثِقَاتٌ عَنْهُ، فَلَوْ نَسِيَهُ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ إنْسَانٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَسِيَ آدَم، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ» . وَلِأَنَّهَا مَوْلَى عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، فَلَا تَلِيهِ، كَالصَّغِيرَةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ عَضْلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَهَا إلَى الْوَلِيِّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، حِينَ امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِهِ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَوَّجَهَا. وَأَضَافَهُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ أَحَدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِبَارَتِهَا فِي النِّكَاحِ، فَيُخَرَّجُ مِنْهُ أَنَّ لَهَا تَزْوِيجَ نَفْسِهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، وَتَزْوِيجَ غَيْرِهَا بِالْوَكَالَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلًا لِابْنِ سِيرِينَ وَمَنْ مَعَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» . فَمَفْهُومُهُ صِحَّتُهُ بِإِذْنِهِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا مُنِعَتْ الِاسْتِقْلَالَ بِالنِّكَاحِ، لِقُصُورِ عَقْلِهَا، فَلَا يُؤْمَنُ انْخِدَاعُهَا وَوُقُوعُهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا إذَا أَذِنَ فِيهِ وَلِيُّهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا إلَّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِهَا، صِيَانَتُهَا عَنْ مُبَاشَرَةِ مَا يُشْعِرُ بِوَقَاحَتِهَا وَرُعُونَتِهَا وَمَيْلِهَا إلَى الرِّجَالِ، وَذَلِكَ يُنَافِي حَالَ أَهْلِ الصِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (5138) فَصْلٌ: فَإِنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ حَاكِمٌ، أَوْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِعَقْدِهِ حَاكِمًا، لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي هَذَا وَجْهًا خَاصَّةً أَنَّهُ يُنْقَضُ. وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ نَصًّا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَيَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ، فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُ الْحُكْمِ لَهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، وَهَذَا النَّصُّ مُتَأَوَّلٌ وَفِي صِحَّتِهِ كَلَامٌ، وَقَدْ عَارَضَهُ ظَوَاهِرُ. [فَصْلُ النِّكَاح لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ] (5139) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ. هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ. وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَالِمٌ وَحَمْزَةُ ابْنَا ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونُ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، إذَا أَعْلَنُوهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ فِي الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ خَبَرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 : «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ» . مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، إلَّا أَنَّ فِي نَقْلِهِ ذَلِكَ ضَعِيفًا، فَلَمْ أَذْكُرْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ أَعْتَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ فَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَةً بِسَبْعَةِ قُرُوشٍ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ أَمْ جَعَلَهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ حَجَبَهَا، فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَزْوِيجِهَا بِالْحِجَابِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ، فَاشْتَرَطَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الشَّهَادَةَ لِلنِّكَاحِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوهَا لِلْبَيْعِ، وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ أَرْبَعَةٍ؛ الْوَلِيُّ، وَالزَّوْجُ، وَالشَّاهِدَانِ» . وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْوَلَدُ، فَاشْتُرِطَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ، لِئَلَّا يَجْحَدَهُ أَبُوهُ، فَيَضِيعَ نَسَبُهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَأَمَّا نِكَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَغَيْرِ شُهُودٍ، فَمِنْ خَصَائِصِهِ فِي النِّكَاحِ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ. (5140) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ الزَّوْجُ وَحْدَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً، صَحَّ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ، مَبْنِيًّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى بَعْضٍ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَلِأَنَّهُ نِكَاحُ مُسْلِمٍ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ، كَنِكَاحِ الْمُسْلِمَيْنِ. (5141) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْفَاسِقَانِ، فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِمَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَنْعَقِدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِلْخَبَرِ. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِحُضُورِهِمَا، كَالْمَجْنُونَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وَالثَّانِيَةُ، يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا تَحَمُّلٌ، فَصَحَّتْ مِنْ الْفَاسِقِ، كَسَائِرِ التَّحَمُّلَاتِ. وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ، بَلْ يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ مَسْتُورِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ فِي الْقُرَى وَالْبَادِيَةِ، وَبَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ، مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْعَدَالَةِ، فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ يَشُقُّ فَاكْتُفِيَ بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَكَوْنِ الشَّاهِدِ مَسْتُورًا لَمْ يَظْهَرْ فِسْقُهُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاهِرَ الْفِسْقِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: نَتَبَيَّنُ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فَاسِدًا؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْبَاطِنِ شَرْطًا، لَوَجَبَ الْكَشْفُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الشَّكِّ فِيهَا يَكُونُ مَشْكُوكًا فِي شَرْطِ النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ، وَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا. وَإِنْ حَدَثَ الْفِسْقُ فِيهِمَا، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْعَقْدِ. وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَنَّهُمَا نَكَحَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، قُبِلَ قَوْلُهُمَا، وَثَبَتَ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِمَا. (5142) فَصْلٌ: وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ نِسْوَةٍ، لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، فَهُوَ أَهْوَنُ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي انْعِقَادِهِ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَانْعَقَدَ بِشَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ " وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَيَحْضُرُهُ الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ كَالْحُدُودِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَيْعَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا قَالَ: هُوَ أَهْوَنُ. لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ رِوَايَةً. (5143) فَصْلٌ: وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ صَبِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِشَهَادَةِ مُرَاهِقَيْنِ عَاقِلَيْنِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ مَجْنُونَيْنِ، وَلَا سَائِرِ مَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ أَصَمَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْمَعَانِ. وَلَا أَخْرَسَيْنِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا. وَفِي انْعِقَادِهِ بِحُضُورِ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الزَّرِيَّةِ كَالْحَجَّامِ وَنَحْوِهِ، وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَفِي انْعِقَادِهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ أَوْ ابْنَيْ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَجْهَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 أَحَدُهُمَا، يَنْعَقِدُ. اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ «إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.» وَلِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِمَا نِكَاحُ غَيْرِ هَذَا الزَّوَاجِ، فَانْعَقَدَ بِهِمَا نِكَاحُهُ، كَسَائِرِ الْعُدُولِ. وَالثَّانِي، لَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالِابْنُ لَا تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِوَالِدِهِ. (5144) فَصْلٌ: وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ ضَرِيرَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَوْلٍ، فَصَحَّتْ مِنْ الْأَعْمَى، كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمَا إذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَعَلِمَ صَوْتَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِيهِمَا، كَمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ يَرَاهُمَا، وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجًا فَاسِدًا] فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجًا فَاسِدًا، لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا لِغَيْرِ مَنْ تَزَوَّجَهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا أَوْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا. وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ طَلَاقِهَا، فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَاجَةَ إلَى فَسْخٍ وَلَا طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، أَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ نِكَاحٌ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَاحْتِيجَ فِي التَّفْرِيقِ فِيهِ إلَى إيقَاعِ فُرْقَةٍ، كَالصَّحِيحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ يُفْضِي إلَى تَسْلِيطِ زَوْجَيْنِ عَلَيْهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ نِكَاحَهُ الصَّحِيحُ، وَنِكَاحَ الْآخَرِ الْفَاسِدُ، وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ الْبَاطِلَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا زُوِّجَتْ بِآخَرَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ، لَمْ يَصِحَّ الثَّانِي أَيْضًا، وَلَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا الثَّالِثَ حَتَّى يُطَلِّقَ الْأَوَّلَانِ أَوْ يُفْسَخَ نِكَاحُهُمَا، وَمَتَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَبْضٌ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» . وَإِنْ تَكَرَّرَ الْوَطْءُ فَالْمَهْرُ وَاحِدٌ؛ لِلْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ إصَابَةٌ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، أَشْبَهَ الْإِصَابَةَ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ. (5146) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ: يُعْطِي شَيْئًا قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: «وَإِذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ فَالنِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا» . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لَهَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «وَلَهَا الَّذِي أَعْطَاهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا.» قَالَ الْقَاضِي: حَدَّثْنَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا إنْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْهُ، كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ لَمْ يَجِبْ الزَّائِدُ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» . فَجَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ الْمُمَيَّزَ بِالْإِصَابَةِ، وَالْإِصَابَةُ إنَّمَا تُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ مَسِّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَبَقِيَ الْوَطْءُ مُوجِبًا بِمُفْرَدِهِ، فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ مِنْ أَصِلْهُ كَانَ أَوْلَى. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهَا رَضِيَتْ بِدُونِ صَدَاقِهَا. إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْمُوجِبُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْإِصَابَةِ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَامِلًا، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ. (5147) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ لَهَا بِالْخَلْوَةِ شَيْءٌ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا. يَعْنِي أَصَابَ. وَلَمْ يُصِبْهَا. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَهْرَ يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. [فَصْلٌ لَا حَدَّ فِي وَطْءِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ] (5148) فَصْلٌ: وَلَا حَدَّ فِي وَطْءِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَا حِلَّهُ أَوْ حُرْمَتَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، إذَا اعْتَقَدَا حُرْمَتَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الصَّيْرَفِيِّ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، إنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ وَرَوَى الشَّالَنْجِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ الطَّرِيقَ جَمَعَتْ رَكْبًا فِيهِ امْرَأَةٌ ثَيِّبٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 فَخَطَبَهَا رَجُلٌ، فَأَنْكَحَهَا رَجُلٌ وَهُوَ غَيْرُ وَلِيٍّ بِصَدَاقٍ وَشُهُودٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُفِعَ إلَيْهِ أَمْرُهُمَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَتِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ أَقْوَى الشُّبُهَاتِ، وَتَسْمِيَتُهَا زَانِيَةً يَجُوزُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ سَمَّاهَا بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَعُمَرُ جَلَدَهُمَا أَدَبًا وَتَعْزِيرًا، وَلِذَلِكَ جَلَدَ الْمُنْكِحَ وَلَمْ يَجْلِدْ الْمَرْأَةَ، وَجَلَدَهُمَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مَعَ اعْتِقَادِهِمَا حِلَّهُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ فِيهِ، فَإِنَّ عَلِيًّا أَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ، وَقَدْ انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى الْجَلْدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ وَالصَّحَابَةِ لَمْ يَرَوْا فِيهِ جَلْدًا فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَوْجَبْتُمْ الْحَدَّ عَلَى شَارِبِ النَّبِيذِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ؟ قُلْنَا: هُوَ مُفَارِقٌ لِمَسْأَلَتِنَا، بِدَلِيلِ أَنَّا نَحُدُّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ، وَلِأَنَّ يَسِيرَ النَّبِيذِ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ يُغْنِي عَنْ الزِّنَى الْمَجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَافْتَرَقَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إثْمٌ وَلَا أَدَبٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَمَنْ اعْتَقَدَ حُرْمَتَهُ أَثِمَ وَأُدِّبَ. وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْهُ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ فِي الْحَالَيْنِ. (5149) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَنْكِحَةُ الْبَاطِلَةُ، كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ أَوْ الْمُعْتَدَّةِ، أَوْ شِبْهِهِ، فَإِذَا عَلِمَا الْحِلَّ وَالتَّحْرِيمَ، فَهُمَا زَانِيَانِ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ، وَلَا يَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ. [فَصْلٌ يُسَاوِي الْفَاسِدُ مِنْ النِّكَاح الصَّحِيحَ فِي اللَّعَّان] (5150) فَصْلٌ: وَيُسَاوِي الْفَاسِدُ الصَّحِيحَ فِي اللِّعَانِ، إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ عَنْهُ، لِكَوْنِ النَّسَبِ لَاحِقًا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَتَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ فِيهِ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْمَوْتِ فِيهِ، وَالْإِحْدَادُ، وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لَهَا. وَيُفَارِقُ الصَّحِيحَ فِي أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ التَّوَارُثَ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِبَاحَةُ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَلَا الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُطَلَّقِ ثَلَاثًا بِالْوَطْءِ فِيهِ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالْيَمِينِ فِيهِ، وَلَا يَحْرُمُ الطَّلَاقُ فِيهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ. [مَسْأَلَةٌ أَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا] (5151) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَأَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا) . إنَّمَا قَيَّدَ الْمَرْأَةَ بِالْحُرَّةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا وِلَايَةَ لِأَبِيهَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا وَلِيُّهَا سَيِّدُهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِتَزْوِيجِهَا أَبُوهَا، وَلَا وِلَايَةَ لَأَحَدٍ مَعَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الِابْنُ أَوْلَى. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْمِيرَاثِ، وَأَقْوَى تَعْصِيبًا، وَلِهَذَا يَرِثُ بِوَلَاءِ أَبِيهِ دُونَ جَدِّهِ وَلَنَا، أَنَّ الْوَلَدَ مَوْهُوبٌ لِأَبِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90] . وَقَالَ زَكَرِيَّا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] . وَقَالَ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . وَإِثْبَاتُ وِلَايَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْهِبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَكْمَلُ نَظَرًا، وَأَشَدُّ شَفَقَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الْوِلَايَةِ، كَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْجَدِّ، وَلِأَنَّ الْأَبَ يَلِي وَلَدَهُ فِي صِغَرِهِ وَسَفَهِهِ وَجُنُونِهِ، فَيَلِيهِ فِي سَائِرِ مَا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ فِيهِ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الِابْنِ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَّ بِوِلَايَةِ الْمَالِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِنْ مَالِهِ. وَلَهُ مِنْ مَالِهَا، إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ احْتِكَامٌ، وَاحْتِكَامُ الْأَصْلِ عَلَى فَرْعِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَفَارَقَ الْمِيرَاثَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ النَّظَرُ، وَلِهَذَا يَرِثُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَلَيْسَ فِيهِ احْتِكَامٌ وَلَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَوْرُوثِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ الْجَدّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاح مِنْ الِابْنِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ] (5152) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا يَعْنِي أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأَبِ وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنْ الِابْنِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الِابْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ وَمَنْ وَافَقَهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْأَخَ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَدِّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِأُبُوَّةِ الْأَبِ، وَالْأَخَ يُدْلِي بِبُنُوَّةٍ، وَالْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَدَّ وَالْأَخَ سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ بِالتَّعْصِيبِ، وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْوِلَايَةِ كَالْأَخَوَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا عَصَبَتَانِ لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَاسْتَوَيَا فِي الْوِلَايَةِ كَالْأَخَوَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَدَّ لَهُ إيلَادٌ وَتَعْصِيبٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِمَا، كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ الِابْنَ وَالْأَخَ يُقَادَانِ بِهَا، وَيُقْطَعَانِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَالْجَدَّ بِخِلَافِهِ، وَالْجَدُّ لَا يَسْقُطُ فِي الْمِيرَاثِ إلَّا بِالْأَبِ، وَالْأَخُ يَسْقُطُ بِهِ وَبِالِابْنِ وَابْنِهِ، وَإِذَا ضَاقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 الْمَالُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ جَدٌّ وَأَخٌ، سَقَطَ الْأَخُ وَحْدَهُ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِمَا كَالْأَبِ، وَلِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْعَمِّ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ غَيْرَ الْأَبِ، وَأَوْلَى الْأَجْدَادِ أَقْرَبُهُمْ وَأَحَقُّهُمْ فِي الْمِيرَاثِ. [مَسْأَلَةٌ مَتَى عَدَم الْأَبُ وَآبَاؤُهُ فَأَوْلَى النَّاسِ بِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ ابْنُهَا ثُمَّ ابْنُهُ بَعْدَهُ] (5153) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: ثُمَّ ابْنُهَا وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى عُدِمَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ ابْنُهَا، ثُمَّ ابْنُهُ بَعْدَهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنَ عَمٍّ، أَوْ مَوْلَى، أَوْ حَاكِمًا، فَيَلِي بِذَلِكَ، لَا بِالْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَهَا، فَلَا يَلِي نِكَاحَهَا كَخَالِهَا، وَلِأَنَّ طَبْعَهُ يَنْفِرُ مِنْ تَزْوِيجِهَا، فَلَا يَنْظُرُ لَهَا. وَلَنَا، مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا. قَالَ: لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: قُمْ يَا عُمَرُ، فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَزَوَّجَهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، حِينَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهُ أُمَّ سَلَمَةَ، أَلَيْسَ كَانَ صَغِيرًا؟ قَالَ: وَمَنْ يَقُولُ كَانَ صَغِيرًا، لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ. وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ مِنْ عَصَبَتِهَا، فَثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا كَأَخِيهَا. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَهَا. يَبْطُلُ بِالْحَاكِمِ وَالْمَوْلَى. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ طَبْعَهُ يَنْفِرُ مِنْ تَزْوِيجِهَا قُلْنَا: هَذَا مُعَارِضٌ فِي الْفَرْعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ أَوْ مَوْلَى أَوْ حَاكِمًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ وَمَنْ بَعْدَهُ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ تَعْصِيبًا، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِيلَادِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمِ الْأَخِ بَعْدَ عَمُودِيّ النَّسَبِ فِي وِلَايَة النِّكَاح] مَسْأَلَةٌ؛ (5154) قَالَ: ثُمَّ أَخُوهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا. لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقْدِيمِ الْأَخِ بَعْدَ عَمُودَيْ النَّسَبِ؛ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْعُصُبَاتِ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّهُ ابْنُ الْأَبِ، وَأَقْوَاهُمْ تَعْصِيبًا، وَأَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 [مَسْأَلَةٌ الْأَخُ لِأَبِ مِثْل الْأَخ الشَّقِيق فِي وِلَايَة النِّكَاح] (5155) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَالْأَخُ لِلْأَبِ مِثْلُهُ. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ وَالْأَخِ لِلْأَبِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْوِلَايَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْجِهَةِ الَّتِي تُسْتَفَادُ مِنْهَا الْعُصُوبَةُ، وَهِيَ جِهَةُ الْأَبِ، فَاسْتَوَيَا فِي الْوِلَايَةِ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ أَبٍ، وَإِنَّمَا يُرَجَّحُ الْآخَرُ فِي الْمِيرَاثِ بِجِهَةِ الْأُمِّ، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْوِلَايَةِ، فَلَمْ يُرَجَّحْ بِهَا، كَالْعَمَّيْنِ أَحَدُهُمَا خَالٌ، وَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ مِنْ أُمٍّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَوْلَى. وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ حَقٌّ يُسْتَفَادُ بِالتَّعْصِيبِ، فَقُدِّمَ فِيهِ الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، كَالْمِيرَاثِ وَكَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ، فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِيهِ، وَقَدْ قُدِّمَ الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ فِيهِ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ. فَأَمَّا إذَا كَانَ ابْنَا عَمٍّ لِأَبٍ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِرْثِ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِمَا مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا فِي ابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبَوَيْنِ وَابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبٍ؛ لِأَنَّهُ يُرَجَّحُ بِجِهَةِ أُمِّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جِهَةَ أُمِّهِ يَرِثُ بِهَا مُنْفَرِدَةً، وَمَا وَرِثَ بِهِ مُنْفَرِدًا لَمْ يُرَجَّحْ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُرَجَّحْ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا، إذَا اجْتَمَعَ ابْنُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ، فَالْوِلَايَةُ لِابْنِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَقْدِيمَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الْوِلَايَة فِي النِّكَاح تَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِرْثِ بِالتَّعْصِيبِ] (5156) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْعُمُومَةُ، ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ عُمُومَةُ الْأَبِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْنَا تَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِرْثِ بِالتَّعْصِيبِ، فَأَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَحَقُّهُمْ بِالْوِلَايَةِ، فَأَوْلَاهُمْ بَعْدَ الْآبَاءِ بَنُو الْمَرْأَةِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ بَنَوْا أَبِيهَا وَهُمْ الْإِخْوَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ بَنُو جَدِّهَا وَهُمْ الْأَعْمَامُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ بَنُو جَدِّ الْأَبِ وَهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ بَنُو جَدِّ الْجَدِّ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلِي بَنُو أَبٍ أَعْلَى مَعَ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ مِنْهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ، وَأَوْلَى وَلَدِ كُلِّ أَبٍ أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّ مَبْنَى الْوِلَايَةِ عَلَى النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِمَظِنَّتِهِ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ، فَأَقْرَبُهُمْ أَشْفَقُهُمْ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. [فَصْلٌ لَا وِلَايَةَ فِي النِّكَاح لِغَيْرِ الْعُصُبَات مِنْ الْأَقَارِبِ] (5157) فَصْلٌ: وَلَا وِلَايَةَ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ، كَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ، وَالْخَالِ، وَعَمِّ الْأُمِّ، وَالْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ يَلِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مِيرَاثِهَا، فَوَلِيَهَا كَعَصَبَاتِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الْحَقَائِقِ، فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى. إذَا أَدْرَكْنَ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْغَرِيبِ ". وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَصَبَاتِهَا فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عُصْبَة مِنْ نَسَبِهَا فِي وِلَايَة النِّكَاح] (5158) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ بِهِ. لَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهَا، أَنَّ مَوْلَاهَا يُزَوِّجُهَا، وَلَا فِي أَنَّ الْعَصَبَةَ الْمُنَاسِبَ أَوْلَى مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ مَوْلَاتِهِ، يَرِثُهَا وَيَعْقِلُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَاتِهَا، فَلِذَلِكَ يُزَوِّجُهَا، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُنَاسِبُونَ كَمَا قُدِّمُوا عَلَيْهِ فِي الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ. فَإِنْ عُدِمَ الْمَوْلَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، كَالْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ وَالْكَافِرِ، فَعَصَبَاتُهُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ مَوْلَى الْمَوْلَى، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، كَالْمِيرَاثِ سَوَاءٌ. فَإِنْ اجْتَمَعَ ابْنُ الْمُعْتِقِ وَأَبُوهُ، فَالِابْنُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ وَأَقْوَى فِي التَّعْصِيبِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْأَبُ الْمُنَاسِبُ عَلَى الِابْنِ الْمُنَاسِبِ لِزِيَادَةِ شَفَقَتِهِ وَفَضِيلَةِ وِلَادَتِهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي أَبِي الْمُعْتِقِ، فَرُجِعَ بِهِ إلَى الْأَصْلِ. [مَسْأَلَةٌ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةَ تَزْوِيج الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلِيَائِهَا أَوْ عَضَلهمْ] (5159) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: ثُمَّ السُّلْطَانُ. لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلِيَائِهَا أَوْ عَضْلِهِمْ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ «أَنَّ النَّجَاشِيَّ زَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ عِنْدَهُ. وَلِأَنَّ» لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةً عَامَّةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلِي الْمَالَ، وَيَحْفَظُ الضَّوَالَّ، فَكَانَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ كَالْأَبِ. [فَصْلٌ السُّلْطَانُ فِي وِلَايَة النِّكَاح هُوَ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ فَوَّضَا إلَيْهِ ذَلِكَ] (5160) فَصْلٌ: وَالسُّلْطَانُ هَاهُنَا هُوَ الْإِمَامُ، أَوْ الْحَاكِمُ، أَوْ مَنْ فَوَّضَا إلَيْهِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي وَالِي الْبَلَدِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يُزَوِّجُ وَالِي الْبَلَدِ. وَقَالَ فِي الرُّسْتَاقِ يَكُونُ فِيهِ الْوَالِي وَلَيْسَ فِيهِ قَاضٍ: يُزَوِّجُ إذَا احْتَاطَ لَهَا فِي الْمَهْرِ وَالْكُفْءِ، أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ ذُو سُلْطَانٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فِي الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ: فَالسُّلْطَانُ الْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ؛ الْقَاضِي يَقْضِي فِي الْفُرُوجِ وَالْحُدُودِ وَالرَّجْمِ، وَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ إنَّمَا هُوَ مُسَلَّطٌ فِي الْأَدَبِ وَالْجِنَايَةِ وَقَالَ: مَا لِلْوَالِي وِلَايَةٌ إنَّمَا هُوَ الْقَاضِي. وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّ الْوَالِيَ أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ قَاضٍ، فَكَأَنَّهُ قَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ النَّظَرَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ، وَهَذَا مِنْهَا. [فَصْلٌ حُكْم وِلَايَة أَهْلُ الْبَغْيِ فِي النِّكَاح] فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَوْلَى أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، جَرَى حُكْمُ سُلْطَانِهِمْ وَقَاضِيهِمْ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْإِمَامِ وَقَاضِيهِ؛ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مُجْرَاهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَحْكَامِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا. [فَصْلٌ الْمَرْأَةِ تُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لَهَا وَلَا يُزَوِّجُ حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانُ] (5162) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْمَرْأَةِ تُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَا يَكُونُ وَلِيًّا لَهَا، وَلَا يُزَوِّجُ حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهَا، وَلَا يَرِثُهَا، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فِي امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ عَلَى يَدِ رَجُلٍ: يُزَوِّجُهَا هُوَ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانَ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُزَوِّجَهَا نَفْسَهُ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، «أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» . إلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: رَاوِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ. [فَصْلٌ لَمْ يُوجَدْ لِلْمَرْأَةِ وَلِي وَلَا ذُو سُلْطَانٍ يَلِي نِكَاحهَا] (5163) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ وَلَا ذُو سُلْطَانٍ، فَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُزَوِّجُهَا رَجُلٌ عَدْلٌ بِإِذْنِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي دُهْقَانِ قَرْيَةٍ: يُزَوِّجُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا إذَا احْتَاطَ لَهَا فِي الْكُفْءِ وَالْمَهْرِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّسْتَاقِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 قَاضٍ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَخَذَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَقِفُ عَلَى وَلِيٍّ. قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي: نُصُوصُ أَحْمَدَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخْتَصٌّ بِحَالِ عَدَمِ الْوَلِيِّ وَالسُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الرُّسْتَاقِ قَاضٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَلِيِّ هَاهُنَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَاشْتِرَاطِ الْمُنَاسِبِ فِي حَقِّ مَنْ لَا مُنَاسِبَ لَهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَّا بِوَلِيٍّ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ التَّوْكِيلُ فِي النِّكَاحِ] (5164) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَوَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي النِّكَاحِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلِيُّ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، مُجْبَرًا أَوْ غَيْرَ مُجْبَرٍ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ، وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ فِي تَزْوِيجِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ» . وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ كَالْبَيْعِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي تَوْكِيلِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِالْإِذْنِ، فَلَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ لَهُ، كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَلِي شَرْعًا، فَكَانَ لَهُ التَّوْكِيلُ كَالْأَبِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَلِي بِالْإِذْنِ. فَإِنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ قَبْلَ إذْنِهَا، وَإِنَّمَا إذْنُهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ، فَأَشْبَهَ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ عَلَيْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَكَيْفَ تُنِيبُ لِنَائِبِهَا مِنْ قِبَلِهَا، (5165) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، فَالْمُقَيَّدُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيج رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. وَالْمُطْلَقُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيجِ مَنْ يَرْضَاهُ أَوْ مَنْ يَشَاءُ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فِي الرَّجُلِ يُوَلَّى عَلَى أُخْتِهِ أَوْ ابْنَتِهِ، يَقُولُ: إذَا وَجَدْت مَنْ تَرْضَاهُ فَزَوِّجْهُ فَتَزْوِيجُهُ جَائِزٌ. وَمَنَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّوْكِيلَ الْمُطْلَقَ. وَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ تَرَكَ ابْنَتَهُ عِنْدَ عُمَرَ. وَقَالَ: إذَا وَجَدْت لَهَا كُفُؤًا فَزَوِّجْهُ إيَّاهَا، وَلَوْ بِشِرَاكِ نَعْلِهِ. فَزَوَّجَهَا عُمَرُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهِيَ أُمُّ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ. وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكَرْ، وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي النِّكَاحِ، فَجَازَ مُطْلَقًا، كَإِذْنِ الْمَرْأَةِ، أَوْ عَقْدٌ فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ مُطْلَقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إذْنُ الْمَرْأَةِ فِي التَّوْكِيلِ] (5166) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إذْنُ الْمَرْأَةِ فِي التَّوْكِيلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ أَبًا أَوْ غَيْرَهُ. وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُضُورِ شَاهِدَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُجْبِرِ التَّوْكِيلُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ. وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُوَكَّلِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِحِلِّ الْوَطْءِ، فَافْتَقَرَ إلَى الشَّهَادَةِ، كَالنِّكَاحِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 وَلَنَا، أَنَّهُ إذْنٌ مِنْ الْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إذْنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا إلَى إشْهَادٍ، كَإِذْنِ الْحَاكِمِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمَرْأَةِ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إشْهَادٍ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ. وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ بِالتَّسَرِّي. [فَصْلٌ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ فِي النِّكَاح] (5167) فَصْلٌ: وَيَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ لِلْوَلِيِّ الْإِجْبَارُ ثَبَتَ ذَلِكَ لِوَكِيلِهِ. وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ وِلَايَةَ مُرَاجَعَةٍ، احْتَاجَ الْوَكِيلُ إلَى إذْنِهَا وَمُرَاجَعَتِهَا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فَيَثْبُتُ لَهُ مِثْلُ مَا ثَبَتَ لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السُّلْطَانِ وَالْحَاكِمِ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي التَّزْوِيجِ، فَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ قَائِمًا مَقَامَهُ. [فَصْلٌ هَلْ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ] (5168) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَلْ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ؟ فَرُوِيَ أَنَّهَا تُسْتَفَادُ بِهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: أَوْ وَصَّى نَاظِرًا لَهُ فِي التَّزْوِيجِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَمَالِكٍ وَعَنْهُ لَا تُسْتَفَادُ بِالْوَصِيَّةِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ شَرْعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا كَالْحَضَانَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْوَصِيِّ فِي تَضْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا، فَلَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْوِلَايَةُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّهَا وِلَايَةُ نِكَاحٍ، فَلَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ بِهَا، كَوِلَايَةِ الْحَاكِمِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ لَهَا عَصَبَةٌ، لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ بِنِكَاحِهَا؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّهُمْ بِوَصِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ، جَازَ لِعَدَمِ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهَا وِلَايَةٌ ثَابِتَةٌ لِلْأَبِ، فَجَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِهَا، كَوِلَايَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا فِي حَيَاتِهِ، فَيَكُونَ نَائِبُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا، كَوِلَايَةِ الْمَالِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِوِلَايَةِ الْمَالِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ وَصِيًّا فِي النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا بِالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ فِي الْمَالِ، كَالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى، قِيَاسًا عَلَى وَصِيَّةِ الْمَالِ لَا تُمْلَكُ بِالْوَصِيَّةِ فِي النِّكَاحِ. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ بِالنِّكَاحِ مِنْ كُلِّ ذِي وِلَايَةٍ] (5169) فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالنِّكَاحِ مِنْ كُلِّ ذِي وِلَايَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُجْبِرًا كَالْأَبِ، أَوْ غَيْرَ مُجْبِرٍ كَغَيْرِهِ، وَوَصِيُّ كُلِّ وَلِيٍّ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَهُ الْإِجْبَارُ فَكَذَلِكَ لِوَصِيِّهِ. وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى إذْنِهَا فَوَصِيُّهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ عَيَّنَ الْأَبُ الزَّوْجَ، مَلَكَ الْوَصِيُّ إجْبَارَهَا، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الزَّوْجَ، وَكَانَتْ ابْنَتُهُ كَبِيرَةً، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَاعْتُبِرَ إذْنُهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، انْتَظَرْنَا بُلُوغَهَا، فَإِذَا أَذِنَتْ، جَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِإِذْنِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وَلَنَا، أَنَّ مَنْ مَلَكَ التَّزْوِيجَ إذَا عُيِّنَ لَهُ الزَّوْجُ، مَلَكَ مَعَ الْإِطْلَاقِ، كَالْوَكِيلِ، وَمَتَى زَوَّجَ وَصِيُّ الْأَبِ الصَّغِيرَةَ فَبَلَغَتْ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَزْوِيجِهِ خِيَارٌ، كَالْوَكِيلِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ عُصْبَة الْمَرْأَة طِفْلًا أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ مِنْ عُصْبَتهَا] (5170) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَتِهَا طِفْلًا أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ مِنْ عَصَبَتِهَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَثْبُتُ لِطِفْلٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ بِحَالٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ وُجُودُهُمْ كَالْعَدَمِ، فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ كَمَا لَوْ مَاتُوا. وَتُعْتَبَرُ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ سَمَّيْنَا سِتَّةُ شُرُوطٍ؛ الْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَدَالَةُ، عَلَى اخْتِلَافٍ نَذْكُرُهُ. فَأَمَّا الْعَقْلُ، فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّظَرُ، وَلَا يَلِي نَفْسَهُ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لِصِغَرِهِ كَطِفْلٍ، أَوْ مَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ كِبَرٍ، كَالشَّيْخِ إذَا أَفْنَدَ قَالَ الْقَاضِي: وَالشَّيْخُ الَّذِي قَدْ ضَعُفَ لِكِبَرِهِ، فَلَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ لَهَا، لَا وِلَايَةَ لَهُ. فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلَا يُزِيلُ الْوِلَايَةَ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ عَنْ قُرْبٍ، فَهُوَ كَالنَّوْمِ، وَلِذَلِكَ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وَمَنْ كَانَ يُجَنُّ فِي الْأَحْيَانِ لَمْ تَزُلْ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَدِيمُ زَوَالُ عَقْلِهِ، فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ. الشَّرْطُ الثَّانِي، الْحُرِّيَّةُ، فَلَا وِلَايَةَ لَعَبْدٍ فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْعَبْدُ بِإِذْنِهَا، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ، الْإِسْلَامُ، فَلَا يَثْبُتُ لِكَافِرٍ وِلَايَةٌ عَلَى مُسْلِمَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا. قَالَ أَحْمَدُ: بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا أَجَازَ نِكَاحَ أَخٍ، وَرَدَّ نِكَاحَ الْأَبِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ، الذُّكُورِيَّةُ شَرْطٌ لِلْوِلَايَةِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْكَمَالُ، وَالْمَرْأَةُ نَاقِصَةٌ قَاصِرَةٌ، تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لِقُصُورِهَا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهَا، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتَ لَهَا وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهَا أَوْلَى. الشَّرْطُ الْخَامِسُ، الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُزَوِّجُ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ إذَا بَلَغَ عَشْرًا زَوَّجَ، وَتَزَوَّجَ، وَطَلَّقَ، وَأُجِيزَتْ وَكَالَتُهُ فِي الطَّلَاقِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ؛ لِتَخْصِيصِهِ الْمَسْلُوبَ الْوِلَايَةُ بِكَوْنِهِ طِفْلًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَوَصِيَّتُهُ وَطَلَاقُهُ، فَثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ كَالْبَالِغِ. وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ يُعْتَبَرُ لَهَا كَمَالُ الْحَالِ، لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ اُعْتُبِرَتْ نَظَرًا لَهُ، وَالصَّبِيُّ مَوْلًى عَلَيْهِ لِقُصُورِهِ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ، كَالْمَرْأَةِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ، الْعَدَالَةُ. فِي كَوْنِهَا شَرْطًا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هِيَ شَرْطٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ الْقَاضِي مِثْلَ ابْنِ الْحَلَبِيِّ وَابْنِ الْجَعْدِيِّ اسْتَقْبَلَ النِّكَاحَ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَفْسَدَ النِّكَاحَ لِانْتِفَاءِ عَدَالَةِ الْمُتَوَلِّي لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ. قَالَ أَحْمَدُ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ - يَعْنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَهَا وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ، فَلَا يَسْتَبِدُّ بِهَا الْفَاسِقُ، كَوِلَايَةِ الْمَالِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ. نَقَلَ مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ: إذَا تَزَوَّجَ بِوَلِيٍّ فَاسِقٍ، وَشُهُودٍ غَيْرِ عُدُولٍ؟ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَفْسُدُ مِنْ النِّكَاحِ شَيْءٌ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطِّفْلَ وَالْعَبْدَ وَالْكَافِرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَاسِقَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَلِي نِكَاحَ نَفْسِهِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ، كَالْعَدْلِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ الْقَرَابَةُ، وَشَرْطَهَا النَّظَرُ، وَهَذَا قَرِيبٌ نَاظِرٌ، فَيَلِي كَالْعَدْلِ (5171) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا؛ لِأَنَّ شُعَيْبًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ يُعْرَفُ بِالسَّمَاعِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النَّظَرِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ نَاطِقًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ الْأَخْرَسُ إذَا كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْأَحْكَامِ، فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. [فَصْلٌ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْوِلَايَة فِي النِّكَاح لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ] (5172) فَصْلٌ: وَمَنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْوِلَايَةُ، لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ وَقَائِمٌ مَقَامَهُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ الْوَلِيُّ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ مُنَاسَبَتِهِ بِوِلَايَةِ النَّسَبِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَ مُنَاسَبَةِ غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ أَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ تَوْكِيلُ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ اللَّفْظِ بِالْعَقْدِ، وَعِبَارَتُهُمْ فِيهِ صَحِيحَةٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّ قَبُولُهُمْ النِّكَاحَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا سُلِبُوا الْوِلَايَةَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لَهَا الْكَمَالُ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي اللَّفْظِ بِهِ فَأَمَّا إنْ وَكَّلَهُ الزَّوْجُ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ الْأَبُ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَابْنِهِ الصَّغِيرِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيْ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ فِيهِ كَالْإِيجَابِ. وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ ذَكَرْنَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَصِحُّ قَبُولُهُمْ النِّكَاحَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَجَازَ أَنْ يَنُوبُوا فِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، كَالْبَيْعِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ. [مَسْأَلَةٌ يُزَوِّجُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِهَا مَنْ يُزَوِّجُهَا] (5173) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُزَوِّجُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِهَا مَنْ يُزَوِّجُهَا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ يُزَوِّجُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ يَلِي نِكَاحَهَا وَلِيُّ سَيِّدَتِهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ كَوْنُ الْوِلَايَةِ لَهَا، فَامْتَنَعَتْ فِي حَقِّهَا لِقُصُورِهَا، فَتَثْبُتُ لِأَوْلِيَائِهَا، كَوِلَايَةِ نَفْسِهَا، وَلِأَنَّهُمْ يَلُونَهَا لَوْ عَتَقَتْ، فَفِي حَالِ رِقِّهَا أَوْلَى. ثُمَّ إنْ كَانَتْ سَيِّدَتُهَا رَشِيدَةً، لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا إلَّا بِإِذْنِهَا؛ لِأَنَّهَا مَالُهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ رَشِيدٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيُعْتَبَرُ نُطْقُهَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا؛ لِأَنَّ صُمَاتَهَا إنَّمَا اُكْتُفِيَ بِهِ فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا لِحَيَائِهَا. وَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ تَزْوِيجِ أَمَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ سَفِيهَةً، وَلِوَلِيِّهَا وِلَايَةٌ عَلَى مَالِهَا، فَلَهُ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا، إنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَزْوِيجِهَا، وَإِلَّا فَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا حَمَلَتْ. فَتَلِفَتْ. وَلَنَا، أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَالتَّزْوِيجُ هَاهُنَا فِيهِ الْحَظُّ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، فَجَازَ، كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ وَاحْتِمَالُ الْخَطَرِ مَرْجُوحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَهْرِهَا، وَوَلَدِهَا، وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا، وَصِيَانَتِهَا عَنْ الزِّنَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ فِي حَقِّهَا، وَنَقْصِ قِيمَتِهَا، وَالْمَرْجُوحُ كَالْمَعْدُومِ وَإِنْ كَانَ وَلِيُّهَا فِي مَالِهَا غَيْرَ وَلِيِّ تَزْوِيجِهَا، فَوِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا لِلْوَلِيِّ فِي الْمَالِ دُونَ وَلِيِّ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمَالِ، وَهِيَ مَالٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُوَلِّيَ أَمْرَ أَمَتِهَا رَجُلًا يُزَوِّجُهَا. نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ الْمِلْكُ، وَقَدْ تَحَقُّقَ فِي الْمَرْأَةِ، وَامْتَنَعَتْ الْمُنَاشَزَةُ لِنَقْصِ الْأُنُوثَة، فَمَلَكَتْ التَّوْكِيلَ، كَالرَّجُلِ الْمَرِيضِ وَالْغَائِبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ رِوَايَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ أَنَّ سَيِّدَتَهَا تُزَوِّجُهَا، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: تُزَوِّجُ أَمَتَهَا؟ قَالَ: قَدْ قِيلَ ذَلِكَ، هِيَ مَالُهَا. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لَهَا، وَوِلَايَتُهَا تَامَّةٌ عَلَيْهَا، فَمَلَكَتْ تَزْوِيجَهَا، كَالسَّيِّدِ، وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ بَيْعَهَا وَإِجَارَتَهَا، فَمَلَكَتْ تَزْوِيجَهَا، كَسَيِّدِهَا، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِتَحْصِيلِ الْكِفَايَةِ، وَصِيَانَةً لِحَظِّ الْأَوْلِيَاءِ فِي تَحْصِيلِهَا، فَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهَا الْوِلَايَةُ فِي أَمَتِهَا؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ، وَعَدَمِ الْحَقِّ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ هَذَا حِكَايَةً لِمَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي سِيَاقِهَا: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تَأْمُرَ مَنْ يُزَوِّجُهَا؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: زَوِّجُوا، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يُزَوِّجْنَ، وَاعْقِدُوا، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ. وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، فَغَيْرَهَا أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ يُزَوِّجُ مَوْلَاتَهَا مَنْ يُزَوِّجُ أَمَتَهَا] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيُزَوِّجُ مَوْلَاتَهَا مَنْ يُزَوِّجُ أَمَتَهَا يَعْنِي عَتِيقَتَهَا. وَهَذِهِ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ لِمَوْلَاتِهَا التَّوْكِيلَ فِي تَزْوِيجِهَا رَجُلًا؛ لِأَنَّهَا عَصَبَتُهَا، وَتَرِثُهَا بِالتَّعْصِيبِ، فَأَشْبَهْت الْمُعْتِقَ. وَالثَّانِيَةُ، وَلِيُّ سَيِّدَتِهَا وَلِيُّهَا. وَهِيَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ لِنِكَاحِ حُرَّةٍ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ إلَى عَصَبَاتِهَا، لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهَا، وَيَرِثُونَهَا بِالتَّعْصِيبِ عِنْدَ عَدَمِ سَيِّدَتِهَا، فَكَانُوا أَوْلِيَاءَهَا، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُعْتِقِ تَزْوِيجُ مُعْتَقَتِهِ لِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا انْقَرَضَ الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ، وَلِي الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، كَذَا هَاهُنَا، إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا تَقْدِيمُ أَبِي الْمُعْتَقَةِ عَلَى ابْنِهَا، لِأَنَّهُ الَّذِي يُزَوِّجُهَا. وَذَكَرْنَا ثَمَّ خِلَافَ هَذَا. وَيُعْتَبَرُ فِي وِلَايَتِهِ شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا، عَدَمُ الْعَصَبَةِ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَقْرَبُ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَأَوْلَى مِنْهُ. الثَّانِي، إذْنُ الْمُزَوِّجَةِ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ، وَلَيْسَتْ لَهُ وِلَايَةُ إجْبَارٍ، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ الْعَصَبَاتِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ مَوْلَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا وِلَايَةَ لَهَا وَلَا مِلْكَ، فَأَشْبَهَتْ قَرِيبَ الطِّفْلِ إذَا زَوَّجَ الْبَعِيدَ. [فَصْلٌ إنْ كَانَ لِلْأَمَةِ مَوْلَى فَهُوَ وَلِيُّهَا فِي نِكَاحهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا مَوْلَيَانِ فَالْوِلَايَةُ لَهُمَا] (5175) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلْأَمَةِ مَوْلًى، فَهُوَ وَلِيُّهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَوْلَيَانِ، فَالْوِلَايَةُ لَهُمَا، وَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْوِلَايَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهَا. وَإِنْ اشْتَجَرَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ نِكَاحَهَا حَقٌّ لَهَا، وَنَفْعَهُ عَائِدٌ إلَيْهَا، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ حَقٌّ لِسَيِّدِهَا، وَنَفْعُهُ عَائِدٌ إلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لِلسُّلْطَانِ عَنْهُ فِيهِ. فَإِنْ أَعْتَقَاهَا وَلَهَا عَصَبَةٌ مُنَاسِبٌ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ، فَهُمَا وَلِيَّاهَا، وَلَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا بِالتَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نِصْفِهَا فَإِنْ اشْتَجَرَا أَمَامَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 الْحَاكِمِ أَقَامَ الْحَاكِمُ مُقَامَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حُرَّةً، وَصَارَ نِكَاحُهَا حَقًّا لَهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ الْمُعْتِقَةُ وَاحِدًا، وَلَهُ عَصَبَتَانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالِابْنَيْنِ أَوْ الْأَخَوَيْنِ، فَلِأَحَدِهِمَا الِاسْتِقْلَالُ بِتَزْوِيجِهَا، كَمَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ سَيِّدَتِهَا. [مَسْأَلَةٌ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً هُوَ وَلِيُّهَا] (5176) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً هُوَ وَلِيُّهَا، جَعَلَ أَمْرَهَا إلَى رَجُلٍ يُزَوِّجُهَا مِنْهُ بِإِذْنِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَهُوَ ابْنُ الْعَمِّ، أَوْ الْمَوْلَى أَوْ الْحَاكِمُ، أَوْ السُّلْطَانُ، إذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَلِيَ طَرَفَيْ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لِأُمِّ حَكِيمٍ ابْنَةِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُك. وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُمَا، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ مِنْ وَلِيٍّ ثَابِتِ الْوِلَايَةِ، وَالْقَبُولُ مِنْ زَوْجٍ هُوَ أَهْلٌ لِلْقَبُولِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ وُجِدَا مِنْ رَجُلَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.» فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ: زَوْجٌ، وَوَلِيٌّ، وَشَاهِدَانِ» . قُلْنَا: هَذَا لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، فَيُخَصُّ مِنْهُ مَحِلُّ النِّزَاعِ أَيْضًا وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، أَمْ يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْت نَفْسِي فُلَانَةَ، وَقَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ. لِأَنَّ مَا افْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ افْتَقَرَ إلَى الْقَبُولِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَالثَّانِي، يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْت نَفْسِي فُلَانَةَ، أَوْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَة؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلِأَنَّ إيجَابَهُ يَتَضَمَّنُ الْقَبُولَ، فَأَشْبَهَ إذَا تَقَدَّمَ الِاسْتِدْعَاءُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: قَدْ أَعْتَقْتُك، وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك. انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ يُوَكِّلُ رَجُلًا يُزَوِّجُهُ إيَّاهَا بِإِذْنِهَا. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا يُزَوِّجُ نَفْسَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ رَجُلًا، عَلَى حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَهُوَ مَا رَوَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَمَرَ رَجُلًا زَوَّجَهُ امْرَأَةً الْمُغِيرَةُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالْإِذْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ، كَالْبَيْعِ. وَبِهَذَا فَارَقَ مَا إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ وَكَّلَ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ النِّكَاحَ، وَتَوَلَّى هُوَ الْإِيجَابَ، جَازَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي ابْنِ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى: لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ، وَلَا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهُ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهَذَا عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالْإِذْنِ، فَلَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ، كَالْبَيْعِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ مَعَ وُجُودِهِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّ وَكِيلَهُ يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ، فَصَحَّ أَنْ يَلِيَهُ عَلَيْهَا لَهُ إذَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ، كَالْإِمَامِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ، وَلَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ غَيْرُ عَاضِلٍ، فَلَمْ يَلِهَا الْحَاكِمُ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى هَذِهِ. (5177) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِي تَزْوِيجِهَا، وَلَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَزْوِيجَهَا غَيْرَهُ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُهُ. فَإِنْ زَوَّجَهَا لِابْنِهِ الْكَبِيرِ، قَبِلَ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ فِي تَوَلِّي طَرَفَيْ الْعَقْدِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَوَلَّاهُ فَوَكَّلَ رَجُلًا يُزَوِّجُهَا لِوَلَدِهِ، وَقَبِلَ هُوَ النِّكَاحَ لَهُ، افْتَقَرَ إلَى إذْنِهَا لِلْوَكِيلِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا. وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلًا يَقْبَلُ لِوَلَدِهِ النِّكَاحَ، وَأَوْجَبَ هُوَ النِّكَاحَ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَذِنَتْ لَهُ. [فَصْلٌ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ] (5178) فَصْلٌ: وَإِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، لَا بِحُكْمِ الْإِذْنِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِأَحَدِ طَرَفَيْ الْعَقْدِ، فَوَكَّلَهُ مَالِكُ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِيهِ، أَوْ وَكَّلَهُ الْوَلِيُّ فِي الْإِيجَابِ وَالزَّوْجُ فِي الْقَبُولِ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِالْإِذْنِ وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُكَافِئُهَا، فَيُخَرَّجُ فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ. وَإِنْ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا مِمَّنْ لَا يُكَافِئُهَا. وَعَنْهُ يَجُوزُ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ لَا يُزَوِّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً بِحَالِ وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرَةً] (5179) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُزَوِّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً بِحَالٍ، وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ سُلْطَانًا، أَوْ سَيِّدَ أَمَةٍ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مُسْلِمَةٍ بِحَالٍ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الذِّمِّيِّ: إذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ، هَلْ يَلِي نِكَاحَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلِيهِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، فَيَلِي نِكَاحَهَا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَيْهَا فَيَلِيهِ كَإِجَارَتِهَا. وَالثَّانِي، لَا يَلِيهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وَلِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَلَا يَلِي نِكَاحَهَا كَابْنَتِهِ. فَعَلَى هَذَا يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ وَهَذَا أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْكَافِرَةِ، غَيْرَ السَّيِّدِ وَالسُّلْطَانِ وَوَلِيِّ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] . وَلِأَنَّ مُخْتَلِفَيْ الدِّينِ لَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ، فَلَمْ يَلِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا. وَأَمَّا سَيِّدُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا لِكَافِرٍ؛ لِكَوْنِهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ وَلِيُّ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ يَلِي تَزْوِيجَهَا لِكَافِرٍ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ بِالْمِلْكِ، فَلَمْ يَمْنَعْهَا كَوْنُ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ مُسْلِمًا، كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ تَحْتَاجُ إلَى التَّزْوِيجِ. وَلَا وَلِيَّ لَهَا غَيْرُ سَيِّدِهَا فَأَمَّا السُّلْطَانُ، فَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، كَالْمُسْلِمَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَيُخَرَّجُ فِي اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِ فِي دِينِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي اعْتِبَارِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ إذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً فَوَلِيُّهَا الْكَافِرُ يُزَوِّجُهَا إيَّاهُ] (5180) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً، فَوَلِيُّهَا الْكَافِرُ يُزَوِّجُهَا إيَّاهُ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهَا، فَصَحَّ تَزْوِيجُهُ لَهَا، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا كَافِرًا، وَلِأَنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا وَلِيَّ مُنَاسِبٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلِيَهَا غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ذِمِّيٌّ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يَعْقِدُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ عُقْدَةَ نِكَاحٍ لِمُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى شَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِوِلَايَةِ كَافِرٍ، كَنِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأُوَلُ أَصَحُّ، وَالشُّهُودُ يُرَادُونَ لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 [مَسْأَلَةٌ إذَا زَوَّجَهَا مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَلَمْ يَعْضُلْهَا] (5181) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَإِذَا زَوَّجَهَا مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ، وَهُوَ حَاضِرٌ، وَلَمْ يَعْضُلْهَا، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ) . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ، مَعَ حُضُورِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ، فَأَجَابَتْهُ إلَى تَزْوِيجِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلِيٌّ، فَصَحَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِإِذْنِهَا كَالْأَقْرَبِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُسْتَحِقٌّ بِالتَّعْصِيبِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ، كَالْمِيرَاثِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْقَرِيبُ الْبَعِيدَ. الْحُكْمُ الثَّانِي، أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَقَعُ فَاسِدًا، لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَلَا يَصِيرُ بِالْإِجَازَةِ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا زُوِّجَ الْأَجْنَبِيُّ أَوْ زُوِّجَتْ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَبَرُ إذْنُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا، أَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَالنِّكَاحُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَاطِلٌ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَسَدَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي صَغِيرٍ زَوَّجَهُ عَمُّهُ: فَإِنْ رَضِيَ بِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ، فَسَخَ وَإِذَا زُوِّجَتْ الْيَتِيمَةُ، فَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ. وَقَالَ: إذَا زُوِّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ عَلِمَ السَّيِّدُ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ فَالطَّلَاقُ بِيَدِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ فِي التَّزْوِيجِ فَالطَّلَاقُ بِيَدِ الْعَبْدِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِذْنُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ «أَنَّ فَتَاةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي مِنْ ابْنِ أَخِيهِ، لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ الْأَمْرَ إلَيْهَا. فَقَالَتْ: قَدْ أَجَزْت مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أَعْلَمَ أَنَّ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «أَرَدْت أَنْ يَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ» . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقِفُ عَلَى الْفَسْخِ، فَوَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ، كَالْوَصِيَّةِ وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ.» وَقَالَ: «إذَا نَكَحَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 إلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ؛ مِنْ الطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَاللِّعَانِ، وَالتَّوَارُثِ، وَغَيْرِهَا، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، كَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُرْسَلٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، رَوَاهُ النَّاسُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَهُ أَبُو دَاوُد. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: زَوَّجَنِي مِنْ ابْنِ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ. فَخَيَّرَهَا لِتَزْوِيجِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْئِهَا، وَهَذَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ، وَالْوَصِيَّةُ يَتَرَاخَى فِيهَا الْقَبُولُ، وَتَجُوزُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهِيَ مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِوُضُوحِهَا. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ لَهُ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا مَعَهُ، كَالْقَبُولِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَقْدٍ، وَلِأَنَّهَا إذَا وُجِدَتْ، اسْتَنَدَ الْمِلْكُ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْعَقْدِ نَمَاءُ مِلْكٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، لَا مِنْ حِينِ الْإِجَازَةِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْإِجَازَةِ، لَمْ يَرِثْهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، إنْ كَانَ مِمَّا لَوْ رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ أَجَازَهُ، وَرِثَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْزَمُهُ إجَازَتُهُ، فَهُوَ كَالصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَفْسَخُهُ، لَمْ يَرِثْهُ. (5182) فَصْلٌ: وَمَتَى تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، أَوْ الْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، فَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الرِّوَايَتَانِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا؛ لِتَصْرِيحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالْبُطْلَانِ. وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِعَقْدٍ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ. فَأَمَّا مَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْأَهْلِ، كَاَلَّذِي عَقَدَهُ الْمَجْنُونُ أَوْ الطِّفْلُ، فَلَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَهَذَا عَقْدٌ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ أَهْلًا لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا فِيهِ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ مَعَ الْإِذْنِ الْمُقَارِنِ، فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَوْلَى، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَمَتَى تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ، فَرُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ، لَمْ يَمْلِكْ إجَازَتَهُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْوَلِيِّ، فَمَتَى رَدَّهُ بَطَلَ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى إجَازَتِهِ، بَطَلَ بِرَدِّهِ، كَالْمَرْأَةِ إذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا، أَمَرَ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ بِإِجَازَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ، لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْإِجَازَةِ صَارَ عَاضِلًا، فَانْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إلَى الْحَاكِمِ، كَمَا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَمَتَى حَصَلْت الْإِصَابَةُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ ثُمَّ أُجِيزَ، فَالْمَهْرُ وَاحِدٌ؛ إمَّا الْمُسَمَّى، وَإِمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ، فَيَثْبُتُ الْحِلُّ وَالْمِلْكُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَمَتَى تَزَوَّجَتْ الْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ إلَى مَنْ تَحِلُّ لَهُ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَتْ اسْتِبَاحَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى مَوْقُوفَةٍ فَأَبْطَلَتْهَا، وَلِأَنَّهَا أَقْوَى فَأَزَالَتْ الْأَضْعَفَ، كَمَا لَوْ طَرَأَ مِلْكُ يَمِينِهِ عَلَى مِلْكِ نِكَاحِهِ. وَإِنْ خَرَجَتْ إلَى مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ، كَالْمَرْأَةِ أَوْ اثْنَيْنِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ شَخْصٍ، لَمْ يَجُزْ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ أَمَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ بَاعَهَا الْمَالِكُ، فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَيْعَ الْأَجْنَبِيِّ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، فَمَلَكَ إجَازَتَهُ كَالْأَوَّلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ بِبَيْعٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَهَا السَّيِّدُ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَقَفَ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَعْتَقَ سَقَطَ حَقُّهُ، فَصَحَّ الْعَقْدُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِإِجَازَةٍ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى إنْ بَطَلَ مِنْ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَبْطُلْ مِنْ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، فَإِنَّهُ يَلِيهَا بِالْوَلَاءِ. (5183) فَصْلٌ: إذَا زُوِّجَتْ الَّتِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَقُلْنَا: يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهَا. فَإِجَازَتُهَا بِالنُّطْقِ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى مِنْ التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ، أَوْ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الرِّضَى تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَرِيرَةَ: «إنْ وَطِئَك زَوْجُك، فَلَا خِيَارَ لَك.» جَعَلَ تَمْكِينَهَا دَلِيلًا عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَوُجُودُهُ مِنْ الْمَرْأَةِ دَلِيلُ رِضَاهَا بِهِ. الْحُكْمُ الثَّالِثُ، إذَا عَضَلِهَا وَلِيُّهَا الْأَقْرَبُ، انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَنْتَقِلُ إلَى السُّلْطَانِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشُرَيْحٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ، فَقَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَامْتَنَعَ مِنْ قَضَائِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّزْوِيجُ مِنْ جِهَةِ الْأَقْرَبِ، فَمَلَكَهُ الْأَبْعَدُ، كَمَا لَوْ جُنَّ. وَلِأَنَّهُ يَفْسُقُ بِالْعَضَلِ، فَتَنْتَقِلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 الْوِلَايَةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَإِنْ عَضَلَ الْأَوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِقَوْلِهِ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . وَهَذِهِ لَهَا وَلِيٌّ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا عَضَلَ الْكُلُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَإِنْ اشْتَجَرُوا) . ضَمِيرُ جَمْعٍ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَالْوِلَايَةُ تُخَالِفُ الدَّيْنَ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهَا حَقٌّ لِلْوَلِيِّ، وَالدَّيْنُ حَقٌّ عَلَيْهِ. الثَّانِي، أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، وَالْوِلَايَةُ تَنْتَقِلُ لِعَارِضٍ؛ مِنْ جُنُونِ الْوَلِيِّ. أَوْ فِسْقِهِ أَوْ مَوْتِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُعْتَبَرُ فِي بَقَائِهِ الْعَدَالَةُ، وَالْوِلَايَةُ يُعْتَبَرُ لَهَا ذَلِكَ، وَقَدْ زَالَتْ الْعَدَالَةُ بِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ لَمَا صَحَّ مِنْهُ التَّزْوِيجُ إذَا أَجَابَ إلَيْهِ قُلْنَا: فِسْقُهُ بِامْتِنَاعِهِ، فَإِذَا أَجَابَ فَقَدْ نَزَعَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَرَاجَعَ الْحَقَّ، فَزَالَ فِسْقُهُ، فَلِذَلِكَ صَحَّ تَزْوِيجُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (5184) فَصْلٌ: وَمَعْنَى الْعَضْلِ مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنْ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ. قَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ: «زَوَّجْت أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْت لَهُ: زَوَّجْتُك، وَأَفْرَشْتُك، وَأَكْرَمْتُك، فَطَلَّقْتهَا، ثُمَّ جِئْت تَخْطُبُهَا، لَا وَاَللَّهِ لَا تَعُودُ إلَيْك أَبَدًا. وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] . فَقُلْت: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَسَوَاءٌ طَلَبَتْ التَّزْوِيجَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ دُونَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُمْ مَنْعُهَا مِنْ التَّزْوِيجِ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَارًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى نِسَائِهَا، لِنَقْصِ مَهْرِ مِثْلِهِنَّ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا، وَعِوَضٌ يَخْتَصُّ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِيهِ، كَثَمَنِ عَبْدِهَا، وَأُجْرَةِ دَارِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ، سَقَطَ كُلُّهُ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهُ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» . «وَقَالَ لِامْرَأَةِ زُوِّجَتْ بِنَعْلَيْنِ: أَرَضِيَتْ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَفْسِك؟» قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُمْ: فِيهِ عَارٌ عَلَيْهِمْ. لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ عُمَرَ قَالَ: لَوْ كَانَ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ، كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَعْنِي غُلُوَّ الصَّدَاقِ. فَإِنْ رَغِبَتْ فِي كُفْءٍ بِعَيْنِهِ، وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَكْفَائِهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِنْ الَّذِي أَرَادَتْهُ، كَانَ عَاضِلًا لَهَا. فَأَمَّا إنْ طَلَبَتْ التَّزْوِيجَ بِغَيْرِ كُفْئِهَا، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ عَاضِلًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 لَهَا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ زُوِّجَتْ مِنْ غَيْرِ كُفْئِهَا، كَانَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، فَلَأَنْ تُمْنَعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ كَانَ وَلِيُّهَا فِي النِّكَاح غَائِبًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْكِتَابُ أَوْ يَصِلُ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْوَلِيّ الْأَقْرَبَ إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَ وَلِيُّهَا غَائِبًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْكِتَابُ، أَوْ يَصِلُ فَلَا يُجِيبُ عَنْهُ، زَوَّجَهَا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ عَصَبَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَالسُّلْطَانُ. الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (5186) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَقْرَبَ إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً، فَلِلْأَبْعَدِ مِنْ عَصَبَتِهَا تَزْوِيجُهَا دُونَ الْحَاكِمِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى النِّكَاحِ مِنْ الْأَقْرَبِ، مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ، فَيَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ عَضَلِهَا، وَلِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِوِلَايَةِ الْأَقْرَبِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّزْوِيجُ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَدَلِيلُ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ مِنْ حَيْثُ هُوَ، أَوْ وَكَّلَ، صَحَّ وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . وَهَذِهِ لَهَا وَلِيٌّ، فَلَا يَكُونُ السُّلْطَانُ وَلِيًّا لَهَا، وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ تَعَذَّرَ حُصُولُ التَّزْوِيجِ مِنْهُ، فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِمَنْ يَلِيهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ، كَمَا لَوْ جُنَّ أَوْ مَاتَ، وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ يَجُوزُ فِيهَا التَّزْوِيجُ لِغَيْرِ الْأَقْرَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلْأَبْعَدِ، كَالْأَصْلِ، وَإِذَا عَضَلِهَا الْأَقْرَبُ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا. [الْفَصْل الثَّانِي الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ الَّتِي يَجُوزُ لِلْأَبْعَدِ التَّزْوِيجُ فِي مِثْلِهَا] (5187) وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ، الَّتِي يَجُوزُ لِلْأَبْعَدِ التَّزْوِيجُ فِي مِثْلِهَا. فَفِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: هِيَ مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْكِتَابُ، أَوْ يَصِلُ فَلَا يُجِيبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا تَتَعَذَّرُ مُرَاجَعَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَتَكُونُ مُنْقَطِعَةً، أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْ إمْكَانِ تَزْوِيجِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْمَسَافَةِ أَنْ لَا تُرَدَّدَ الْقَوَافِلُ فِيهِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً؛ لِأَنَّ الْكُفْءَ يَنْتَظِرُ سَنَةً، وَلَا يَنْتَظِرُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَيَلْحَقُ الضَّرَرُ بِتَرْكِ تَزْوِيجِهَا. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ: إذَا كَانَ الْأَبُ بَعِيدَ السَّفَرِ، يُزَوِّجُ الْأَخَ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالسَّفَرِ الْبَعِيدِ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّفَرُ الَّذِي عُلِّقَتْ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّ حَدَّهَا مَا لَا يُقْطَعُ إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ وَلِيٌّ حَاضِرٌ مِنْ عَصَبَتِهَا، كَتَبَ إلَيْهِمْ حَتَّى يَأْذَنُوا، إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً، لَا تُدْرَكُ إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْرَبُهَا إلَى الصَّوَابِ، فَإِنَّ التَّحْدِيدَاتِ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَتُرَدُّ إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالِانْتِظَارِ فِيهِ، وَيَلْحَقُ الْمَرْأَةَ الضَّرَرُ بِمَنْعِهَا مِنْ التَّزْوِيجِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرَ فِي ذَلِكَ الْوُصُولُ إلَى الْمَصْلَحَةِ مِنْ نَظَرِ الْأَقْرَبِ، فَيَكُونَ كَالْمَعْدُومِ، وَالتَّحْدِيدُ بِالْعَامِّ كَبِيرٌ؛ فَإِنَّ الضَّرَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 يَلْحَقُ بِالِانْتِظَارِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَيَذْهَبُ الْخَاطِبُ، وَمَنْ لَا يَصِلُ الْكِتَابُ مِنْهُ أَبْعَدُ، وَمَنْ هُوَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِي مُكَاتَبَتِهِ. وَالتَّوَسُّطُ أَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَقَوْلِ الْقَاضِي، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: مِنْ الرَّيِّ إلَى بَغْدَادَ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الرَّقَّةِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُشْبِهَانِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْغَيْبَةِ الَّتِي يُزَوِّجُ فِيهَا الْحَاكِمُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَافَةُ الْقَصْرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَرِيبًا. وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْغَيْبَةُ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ، أَنَّهُ يُنْتَظَرُ وَيُرَاسَلُ حَتَّى يَقْدَمَ أَوْ يُوَكِّلَ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ مَحْبُوسًا، أَوْ أَسِيرًا فِي مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، لَا تُمْكِنُ مُرَاجَعَتُهُ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ، فَإِنَّ الْبُعْدَ لَمْ يُعْتَبَرْ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّزْوِيجِ بِنَظَرِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَاهُنَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَائِبًا لَا يُعْلَمُ أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ قَرِيبٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتِرَاطُ الْكَفَاءَةِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ] (5189) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا زُوِّجَتْ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي اشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا شَرْطٌ لَهُ. قَالَ: إذَا تَزَوَّجَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَشْرَبُ الشَّرَابَ: مَا هُوَ بِكُفْءٍ لَهَا، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ حَائِكًا فَرَّقْت بَيْنَهُمَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ، إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: خَرَجَ سَلْمَانُ وَجَرِيرٌ فِي سَفَرٍ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَقَالَ جَرِيرٌ لِسَلْمَانِ: تَقَدَّمْ أَنْتَ. قَالَ سَلْمَانُ: بَلْ أَنْتَ تَقَدَّمْ، فَإِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُكُمْ، إنَّ اللَّهَ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهُ فِيكُمْ. وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ، مَعَ فَقْدِ الْكَفَاءَةِ، تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ مَنْ يَحْدُثُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: هَذَا ضَعِيفٌ، لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي النِّكَاحِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ عَوْنٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ، فَنَكَحَهَا بِأَمْرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «وَزَوَّجَ أَبَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ.» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأُخْتِهِ: أُنْشِدُك اللَّهَ أَنْ تَتَزَوَّجِي مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ رُومِيًّا، أَوْ أَسْوَدَ حَبَشِيًّا. وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا حَقًّا لِلْمَرْأَةِ، أَوْ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ لَهُمَا، فَلَمْ يُشْتَرَطْ وُجُودُهَا، كَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَبَا هِنْدٍ حَجَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَافُوخِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بَنِي بَيَاضَةَ، أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ ضَعَّفَهُ، وَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ، وَمَا رُوِيَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا حَقًّا، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ فَلَهُ الْفَسْخُ وَلِذَلِكَ لَمَّا زَوَّجَ رَجُلٌ ابْنَتَهُ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ، لِيَرْفَعَ بِهَا خَسِيسَتَهُ، جَعَلَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ، فَأَجَازَتْ مَا صَنَعَ أَبُوهَا. وَلَوْ فُقِدَ الشَّرْطُ لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ. فَإِذَا قُلْنَا بِاشْتِرَاطِهَا، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا حَالَ الْعَقْدِ، فَإِنْ عَدِمَتْ بَعْدَهُ، لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لَدَى الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً حَالَ الْعَقْدِ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، عَلَى مَا مَضَى. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ شَرْطًا. فَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بَعْضُهُمْ، فَهَلْ يَقَعُ الْعَقْدُ بَاطِلًا مِنْ أَصْلِهِ أَوْ صَحِيحًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَحَدُهُمَا، هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِجَمِيعِهِمْ، وَالْعَاقِدُ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ صَحِيحٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي رَفَعَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْئِهَا خَيَّرَهَا، وَلَمْ يُبْطِلْ النِّكَاحَ مِنْ أَصْلِهِ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بِالْإِذْنِ، وَالنَّقْصُ الْمَوْجُودُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 صِحَّتَهُ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، كَالْعَيْبِ مِنْ الْعُنَّةِ وَغَيْرِهَا. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَرْضَ الْفَسْخُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ وَبَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، لَمْ يَكُنْ لِبَاقِي الْأَوْلِيَاءِ فَسْخٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقَدْ أَسْقَطَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ حَقَّهُ، فَسَقَطَ جَمِيعُهُ، كَالْقِصَاصِ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِرِضَا غَيْرِهِ، كَالْمَرْأَةِ مَعَ الْوَلِيِّ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ كَامِلًا، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهُ، تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا، مَلَكَ الْبَاقُونَ عِنْدَهُمْ الِاعْتِرَاضَ، مَعَ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا، فَهَاهُنَا مَعَ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ أَوْلَى. وَسَوَاءٌ كَانُوا مُتَسَاوِينَ فِي الدَّرَجَةِ، أَوْ مُتَفَاوِتِينَ، فَزَوَّجَ الْأَقْرَبُ، مِثْلُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَبُ بِغَيْرِ كُفْءٍ، فَإِنَّ لِلْإِخْوَةِ الْفَسْخَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُمْ فَسْخٌ إذَا زَوَّجَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَبْعَدِ مَعَهُ، فَرِضَاؤُهُ لَا يُعْتَبَرُ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَلِيَ فِي حَالٍ يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاح] (5190) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَالْكُفْءُ ذُو الدِّينِ وَالْمَنْصِبِ يَعْنِي بِالْمَنْصِبِ الْحَسَبَ، وَهُوَ النَّسَبُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ، فَعَنْهُ هُمَا شَرْطَانِ؛ الدِّينُ، وَالْمَنْصِبُ، لَا غَيْرُ. وَعَنْهُ أَنَّهَا خَمْسَةٌ؛ هَذَانِ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالصِّنَاعَةُ، وَالْيَسَارُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي (الْمُجَرَّدِ) أَنَّ فَقْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِي الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَدَمُ الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَازِمٌ، وَمَا عَدَاهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَا يَتَعَدَّى نَقْصُهُ إلَى الْوَلَدِ وَذَكَرَ فِي (الْجَامِعِ) الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَمِيعِ الشُّرُوطِ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ لَا غَيْرُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا جُمْلَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَالسَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَتَكُونُ سِتَّةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ إلَّا فِي الصَّنْعَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ. وَلَمْ يَعْتَبِرْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الدِّينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْكَرُ وَيَخْرُجُ وَيَسْخَرُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ، فَلَا يَكُونُ كُفُؤًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْجُنْدِ الْفِسْقُ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ نَقْصًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الدِّينِ قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مَرْذُولٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، مَسْلُوبُ الْوِلَايَاتِ، نَاقِصٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ خَلْقِهِ، قَلِيلُ الْحَظِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُفُؤًا لِعَفِيفَةٍ، وَلَا مُسَاوِيًا لَهَا، لَكِنْ يَكُونُ كُفُؤًا لِمِثْلِهِ. فَأَمَّا الْفَاسِقُ مِنْ الْجُنْدِ، فَهُوَ نَاقِصٌ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوآت. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ، قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ. قَالَ: قُلْت: وَمَا الْأَكْفَاءُ؟ قَالَ فِي الْحَسَبِ. رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ الْعَرَبَ يَعُدُّونَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ، وَيَأْنَفُونَ مِنْ نِكَاحِ الْمَوَالِي، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا وَعَارًا، فَإِذَا أَطْلَقْتَ الْكَفَاءَةَ، وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّ فِي فَقْدِ ذَلِكَ عَارًا وَنَقْصًا، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْكَفَاءَةِ كَالدِّينِ. (5191) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ غَيْرَ قُرَيْشٍ مِنْ الْعَرَبِ لَا يُكَافِئُهَا، وَغَيْرَ بَنِي هَاشِمٍ لَا يُكَافِئُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» . وَلِأَنَّ الْعَرَبَ فُضِّلَتْ عَلَى الْأُمَمِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُرَيْشٌ أَخَصُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَخُصُّ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ إنَّ إخْوَانَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ عَلَيْنَا، لِمَكَانِكِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تُكَافِئُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ وَلَا الْعَرَبُ قُرَيْشًا، وَقُرَيْشٌ كُلُّهُمْ أَكْفَاءٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعَرَبَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْعَجَمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ عُثْمَانَ، وَزَوَّجَ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ زَيْنَبَ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ عُمَرَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ، وَتَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَتَزَوَّجَ الْمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ أُخْتَهَا سُكَيْنَةَ، وَتَزَوَّجَهَا أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ ابْنَةَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَةَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ أُخْتَهُ أُمَّ فَرْوَةَ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ، وَهُمَا كِنْدِيَّانِ، وَتَزَوَّجَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، وَهِيَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلِأَنَّ الْعَجَمَ وَالْمَوَالِيَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا، وَشَرُفَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الْعَرَبُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 (5192) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ، فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كُفُؤًا لِحُرَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ بَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ. فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ بِالْحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ، فَبِالْحُرِّيَّةِ الْمُقَارِنَةِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ كَبِيرٌ، وَضَرَرَهُ بَيِّنٌ، فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْ امْرَأَتِهِ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ، وَلَا يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُوسِرِينَ، وَلَا يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ، وَهُوَ كَالْمَعْدُومِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ. وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَبَرِيرَةَ: لَوْ رَاجَعْتِيهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْمُرُنِي؟ قَالَ: إنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ. قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمُرَاجَعَتُهَا لَهُ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ قَدْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِاخْتِيَارِهَا، وَلَا يَشْفَعُ إلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ تَنْكِحَ عَبْدًا إلَّا وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ. (5193) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْيَسَارُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ شَرْطٌ فِي الْكَفَاءَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَسَبُ الْمَالُ. وَقَالَ: إنَّ أَحْسَابَ النَّاسِ بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هَذَا الْمَالُ. وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَطَبَهَا: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ، لَا مَالَ لَهُ» وَلِأَنَّ عَلَى الْمُوسِرَةِ ضَرَرًا فِي إعْسَارِ زَوْجِهَا؛ لِإِخْلَالِهِ بِنَفَقَتِهَا وَمُؤْنَةِ أَوْلَادِهَا، وَلِهَذَا مَلَكَتْ الْفَسْخَ بِإِخْلَالِهِ بِالنَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُقَارِنًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ نَقْصًا فِي عُرْفِ النَّاسِ، يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ كَتَفَاضُلِهِمْ فِي النَّسَبِ وَأَبْلَغَ، قَالَ نُبَيْهُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّهْمِيُّ: سَأَلَتَانِي الطَّلَاقَ أَنْ رَأَتَانِي ... قَلَّ مَالِي قَدْ جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ وَيْكَأَنَّ مَنْ لَهُ نَشَبٌ مُحَبَّبٌ ... وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ فَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ، كَالنَّسَبِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ شَرَفٌ فِي الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا» . وَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا لَازِمًا، فَأَشْبَهَ الْعَافِيَةَ مِنْ الْمَرَضِ، وَالْيَسَارُ الْمُعْتَبَرُ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، حَسْبَ مَا يَجِبُ لَهَا، وَيُمْكِنُهُ أَدَاءُ مَهْرِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 (5194) فَصْلٌ: فَأَمَّا الصِّنَاعَةُ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ أَيْضًا؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا شَرْطٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ، كَالْحَائِكِ، وَالْحَجَّامِ، وَالْحَارِسِ، وَالْكَسَّاحِ، وَالدَّبَّاغِ، وَالْقَيِّمِ، وَالْحَمَّامِيِّ، وَالزَّبَّالِ، فَلَيْسَ بِكُفْءٍ لِبَنَاتِ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ، أَوْ أَصْحَابِ الصَّنَائِعِ الْجَلِيلَةِ، كَالتِّجَارَةِ، وَالْبِنَايَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ، فَأَشْبَهَ نَقْصَ النَّسَبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، إلَّا حَائِكًا، أَوْ حَجَّامًا» . قِيلَ لِأَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَيْفَ تَأْخُذُ بِهِ وَأَنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَيْهِ. يَعْنِي أَنَّهُ وَرَدَ مُوَافِقًا لِأَهْلِ الْعُرْفِ. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَقْصٍ، وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي الدِّينِ، وَلَا هُوَ لَازِمٌ، فَأَشْبَهَ الضَّعْفَ وَالْمَرَضَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَا إنَّمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ وَالْكَرَمُ ... وَحُبُّك لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ وَالسَّقَمُ وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ ... إذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمَ وَأَمَّا السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ، فَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِعَدَمِهَا، وَلَكِنَّهَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُخْتَصٌّ بِهَا. وَلِوَلِيِّهَا مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْذُومِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْنُونِ، وَمَا عَدَا هَذَا فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْكَفَاءَةِ. [فَصْلٌ مِنْ أَسْلَمَ أَوْ عِتْقَ مِنْ الْعَبِيدِ فَهُوَ كُفْءٌ لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ] ِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِكُفْءٍ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَكْثَرُهُمْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا أَفْضَلَ الْأُمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ غَيْرُ أَكْفَاءٍ لِلتَّابِعِينَ. [فَصْلٌ وَلَدُ الزِّنَى يَحْتَمِلُ أَنَّ لَا يَكُونَ كُفُؤًا لِذَاتِ نَسَبٍ] (5196) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَدُ الزِّنَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ كُفُؤًا لِذَاتِ نَسَبٍ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ يَنْكِحُ وَيُنْكَحُ إلَيْهِ؟ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُجِبْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِهِ هِيَ وَأَوْلِيَاؤُهَا، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى وَلَدِهَا. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِعَرَبِيَّةٍ، فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَوْلَى. [فَصْلٌ الْمَوَالِي بَعْضُهُمْ لَبَعْضٍ أَكْفَاءٌ فِي النِّكَاح] (5197) فَصْلٌ: وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْعَجَمُ، قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَهُ مَوْلَاةٌ: يُزَوِّجُهَا الْخُرَاسَانِيَّ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . هُوَ فِي الصَّدَقَةِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلْيَنْكِحْ. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ يُكَافِئُهُمْ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ زَيْدًا وَأُسَامَةَ عَرَبِيَّتَيْنِ» وَلِأَنَّ مَوَالِيَ بَنِي هَاشِمٍ سَاوُوهُمْ فِي حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ، فَيُسَاوُونَهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوَالِي أَكْفَاءَ لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا كَانَ كُفْءَ سَيِّدِهِ كَانَ كُفُؤًا لِمَنْ يُكَافِئُهُ سَيِّدُهُ، فَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْمَنْصِبِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّدَقَةِ، لَا فِي النِّكَاحِ. وَلِهَذَا لَا يُسَاوُونَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ، وَلَا فِي الْإِمَامَةِ، وَلَا فِي الشَّرَفِ. وَأَمَّا زَيْدٌ وَأُسَامَةُ، فَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِنِكَاحِهِمَا عَرَبِيَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ فَقْدَ الْكَفَاءَةِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ، وَاعْتَذَرَ أَحْمَدُ عَنْ تَزْوِيجِهِمَا، بِأَنَّهُمَا عَرَبِيَّانِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ كَلْبٍ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِمَا رِقٌّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا حُكْمَ كُلِّ عَرَبِيِّ الْأَصْلِ. [فَصْلٌ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَه مِنْ حَرُورِيٍّ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ وَلَا مِنْ الرَّافِضِيِّ وَلَا مِنْ الْقَدَرِيِّ] (5198) فَصْلٌ: فَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ الْجَهْمِيُّ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَ الْوَاقِفِيّ، إذَا كَانَ يُخَاصِمُ وَيَدْعُو، وَإِذَا زَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّفْظِيَّةِ، وَقَدْ كَتَبَ الْحَدِيثَ، فَهَذَا شَرٌّ مِنْ جَهْمِي، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: لَا يُزَوِّجُ بِنْتَهُ مِنْ حَرُورِيٍّ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ، وَلَا مِنْ الرَّافِضِيِّ، وَلَا مِنْ الْقَدَرِيِّ، فَإِذَا كَانَ لَا يَدْعُو فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيِّ فِي الْخِلَافَةِ، فَلَا تُنَاكِحُوهُ، وَلَا تُكَلِّمُوهُ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُقَلِّدُ مِنْهُمْ يَصِحُّ تَزْوِيجُهُ، وَمَنْ كَانَ دَاعِيَةً مِنْهُمْ فَلَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهُ. [فَصْلِ الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاح مُعْتَبَرَةٌ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ] (5199) فَصْلٌ: وَالْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مُكَافِئَ لَهُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَتَزَوَّجَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ، وَتَسَرَّى بِالْإِمَاءِ، وَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ، فَعَلَّمَهَا، وَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَحْسَنَ إلَيْهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ، لَا بِأُمِّهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الْأُمِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ فَوَضَعَهَا فِي كَفَاءَةٍ] (5200) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ، فَوَضَعَهَا فِي كَفَاءَةٍ، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَرِهَتْ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً. أَمَّا الْبِكْرُ الصَّغِيرَةُ، فَلَا خِلَافَ فِيهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ نِكَاحَ الْأَبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ جَائِزٌ، إذَا زَوَّجَهَا مِنْ كُفْءٍ، وَيَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا مَعَ كَرَاهِيَتِهَا وَامْتِنَاعِهَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فَجَعَلَ لِلَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عِدَّةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا تَكُونُ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إلَّا مِنْ طَلَاقٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ فَسْخٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا تُزَوَّجُ وَتَطْلُقُ، وَلَا إذْنَ لَهَا فَيُعْتَبَرُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنَةُ سِتٍّ، وَبَنَى بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ إذْنُهَا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ تَزَوَّجَ ابْنَةَ الزُّبَيْرِ حِين نَفِسَتْ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: ابْنَةُ الزُّبَيْرِ إنْ مِتّ وَرِثَتْنِي، وَإِنْ عِشْت كَانَتْ امْرَأَتِي. وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَأَمَّا الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ إجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَتَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَالصَّغِيرَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا، أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَلِأَنَّهَا جَائِزَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَجُزْ إجْبَارُهَا، كَالثَّيِّبِ، وَالرَّجُلِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. فَلَمَّا قَسَمَ النِّسَاءَ قِسْمَيْنِ، وَأَثْبَتَ الْحَقَّ لِأَحَدِهِمَا، دَلَّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ الْآخَرِ، وَهِيَ الْبِكْرُ فَيَكُونُ وَلِيُّهَا أَحَقَّ مِنْهَا بِهَا، وَدَلَّ الْحَدِيثُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ هَاهُنَا، وَالِاسْتِئْذَانَ فِي حَدِيثِهِمْ مُسْتَحَبٌّ، لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَحَدِيثُ الَّتِي خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا مِنْ ابْنِ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِهَا خَسِيسَتَهُ، فَتَخْيِيرُهَا لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ، كَالنُّطْقِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ فَوَضَعَهَا فِي كَفَاءَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، فَلَمْ يَصِحَّ. كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ لِمُوَلِّيَتِهِ عَقْدًا لَا حَظَّ لَهَا فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِهِ عَقَارَهَا مِنْ غَيْرِ غِبْطَةٍ وَلَا حَاجَةٍ، أَوْ بَيْعِهِ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهَا شَرْعًا، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ لَهَا شَرْعًا بِمَا لَا حَظَّ لَهَا فِيهِ كَالْوَكِيلِ وَالثَّانِيَةُ، يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ، كَشِرَاءِ الْمَعِيبِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ عَيْبُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ، إذَا عَلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِكُفْءٍ، وَيَصِحُّ إذَا لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَبَطَلَ لِتَحْرِيمِهِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى لَهَا مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ الضَّرَرِ، بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا، فَتُفْسَخُ إنْ كَرِهَتْ، وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ كَانَ كَإِجَازَتِهَا وَإِذْنِهَا، بِخِلَافِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَلَا خِيَارَ لِأَبِيهَا إذَا كَانَ عَالِمًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِرِضَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، فَعَلَيْهِ الْفَسْخُ، وَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَفْسَخُ لِحَظِّهَا، وَحَقُّهَا لَا يَسْقُطُ بِرِضَاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْفَسْخُ، وَلَكِنْ يَمْنَعُ الدُّخُولَ عَلَيْهَا حَتَّى تَبْلُغَ فَتَخْتَارَ. وَإِنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ غَيْرَ الْأَبِ، فَلَهَا الْفَسْخُ عَلَى مَا مَضَى. وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَا مِنْ مَعِيبٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَهُ مُقَامَهَا، نَاظِرًا لَهَا فِيمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَمُتَصَرِّفًا لَهَا، لِعَجْزِهَا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ مَا لَا حَظَّ لَهَا فِيهِ، كَمَا فِي مَالِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِمَا لَا حَظَّ فِيهِ، فَفِي نَفْسِهَا أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ إجْبَارُ كَبِيرَةٍ وَلَا تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ جِدًّا] (5201) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِ الْأَبِ. يَعْنِي لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ إجْبَارُ كَبِيرَةٍ، وَلَا تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ، جِدًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إلَّا فِي الْجَدِّ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَالْأَبِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ وِلَايَةُ إيلَادٍ، فَمَلَكَ إجْبَارَهَا كَالْأَبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لِغَيْرِ الْأَبِ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَيْنِ غَيْرُ الْأَبِ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَا. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخَفْ، فَلَهُ تَزْوِيجُ الْيَتِيمَةِ، وَالْيَتِيمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» . قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] . فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، فَيُشْرِكُهَا فِي مَالِهَا، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا فِيهِنَّ، وَيَبْلُغُوا أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ وَلِيٌّ فِي النِّكَاحِ، فَمَلَكَ التَّزْوِيجَ كَالْأَبِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ، فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَرُوِيَ ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ ابْنَ عُمَرَ ابْنَةَ أَخِيهِ عُثْمَانَ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهَا يَتِيمَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا» . وَالْيَتِيمَةُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا. وَلِأَنَّ غَيْرَ الْأَبِ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ، فَلَا يَلِي نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَغَيْرُ الْجَدِّ لَا يَلِي مَالَهَا، فَلَا يَسْتَبِدُّ بِنِكَاحِهَا، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلِأَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِوِلَايَةِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ، وَفَارَقَ الْأَبَ، فَإِنَّهُ يُدْلِي بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَيُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْجَدَّ، وَيَحْجُبُ الْأُمَّ عَنْ ثُلُثِ الْمَالِ إلَى ثُلُثِ الْبَاقِي فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ. وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَالِغَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] . وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إلَى الْكَبِيرَةِ، أَوْ نَحْمِلُهَا عَلَى بِنْتِ تِسْعٍ. [فَصْلٌ الْحُكْمِ إذَا بَلَغْت الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فِي إذْنهَا فِي النِّكَاح] (5202) فَصْلٌ: وَإِذَا بَلَغَتْ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْ تِسْعًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ. قَالُوا: حُكْمُ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ، حُكْمُ بِنْتِ ثَمَانٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ بَالِغَةٍ، وَلِأَنَّ إذْنَهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْبَالِغَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَدَلَالَةِ الْخَبَرِ بِعُمُومِهَا، عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَةَ تُنْكَحُ بِإِذْنِهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا، وَقَدْ انْتَفَى بِهِ الْإِذْنُ فِي مَنْ دُونَهَا، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ بَلَغَتْ تِسْعًا. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: إذَا بَلَغَتْ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 امْرَأَةٌ وَرَوَاهُ الْقَاضِي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. بِمَعْنَاهُ: فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ. وَلِأَنَّهَا بَلَغَتْ سِنًّا يُمْكِنُ فِيهِ حَيْضُهَا، وَيَحْدُثُ لَهَا حَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ، فَيُبَاحُ تَزْوِيجُهَا كَالْبَالِغَةِ. فَعَلَى هَذَا إذَا زُوِّجَتْ ثُمَّ بَلَغَتْ، لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ، كَالْبَالِغَةِ إذَا زُوِّجَتْ. وَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَجَابَتْهُ، وَهِيَ لِدُونِ عَشْرٍ، لِأَنَّهَا إنَّمَا وُلِدَتْ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ وِلَايَةُ عُمَرَ عَشْرًا، فَكَرِهَتْهُ الْجَارِيَةُ، فَتَزَوَّجَهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا بِوِلَايَةِ غَيْرِ أَبِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اسْتَأْذَنَ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ وَالِدُهَا] (5203) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ اسْتَأْذَنَ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ وَالِدُهَا، كَانَ حَسَنًا. لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ اسْتِئْذَانِهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَنْ النِّكَاحِ بِدُونِهِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ ذَلِكَ الِاسْتِحْبَابُ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَطْيِيبَ قَلْبِهَا، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجَارِيَةِ يَنْكِحُهَا أَهْلُهَا، أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَعَمْ، تُسْتَأْمَرُ) . وَقَالَ: «اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؛ فَإِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي، فَتَسْكُتُ، فَهُوَ إذْنُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إذَا أَنْكَحَهُنَّ. قَالَ: كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَ خِدْرِ الْمَخْطُوبَةِ، فَيَقُولُ: إنَّ فُلَانًا يَذْكُرُ فُلَانَةَ فَإِنْ حَرَّكَتْ الْخِدْرَ لَمْ يُزَوِّجْهَا، وَإِنْ سَكَتَتْ زَوَّجَهَا» . [فَصْلٌ اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيج ابْنَتِهَا] (5204) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ» . وَلِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ فِي النَّظَرِ لِابْنَتِهَا، وَتَحْصِيلِ الْمُصْلِحَةِ لَهَا، لِشَفَقَتِهَا عَلَيْهَا، وَفِي اسْتِئْذَانِهَا تَطْيِيبُ قَلْبِهَا، وَإِرْضَاءٌ لَهَا فَتَكُونُ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الثَّيِّبَ بِغَيْرِ إذْنِهَا] (5205) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الثَّيِّبَ بِغَيْرِ إذْنِهَا، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ رَضِيَتْ بَعْدُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الثَّيِّبَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ كَبِيرَةً، وَصَغِيرَةً، فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ، فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَلَا لِغَيْرِهِ تَزْوِيجُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ قَالَ: لَهُ تَزْوِيجُهَا وَإِنْ كَرِهَتْ. وَالنَّخَعِيُّ قَالَ: يُزَوِّجُ بِنْتَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 إذَا كَانَتْ فِي عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً فِي بَيْتِهَا مَعَ عِيَالِهَا اسْتَأْمَرَهَا. قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِي الْبِنْتِ. بِقَوْلِ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، خَالَفَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ، فَإِنَّ الْخَنْسَاءَ ابْنَةَ خِذَامٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، رَوَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ نِكَاحَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَالْقَوْلِ بِهِ، لَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُ إلَّا الْحَسَنَ، وَكَانَتْ الْخَنْسَاءُ مِنْ أَهْلِ قُبَاءَ، وَكَانَتْ تَحْتَ أُنَيْسٌ بْنِ قَتَادَةَ، فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَكَرِهَتْهُ، وَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ نِكَاحَهَا، وَنَكَحَتْ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا رَشِيدَةٌ عَالِمَةٌ بِالْمَقْصُودِ مِنْ النِّكَاحِ مُخْتَبَرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ، كَالرَّجُلِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ، وَفِي تَزْوِيجِهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَابْنُ بَطَّةَ، وَالْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الْإِجْبَارَ يَخْتَلِفُ بِالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ، لَا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَهَذِهِ ثَيِّبٌ، وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهَا فَائِدَةً، وَهُوَ أَنْ تَبْلُغَ فَتَخْتَارَ لِنَفْسِهَا وَيُعْتَبَرَ إذْنُهَا، فَوَجَبَ التَّأْخِيرُ، بِخِلَافِ الْبِكْرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّ لِأَبِيهَا تَزْوِيجَهَا، وَلَا يَسْتَأْمِرُهَا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ، فَجَازَ إجْبَارُهَا كَالْبِكْرِ وَالْغُلَامِ يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَزِيدُ بِالثُّيُوبَةِ عَلَى مَا حَصَلَ لِلْغُلَامِ بِالذُّكُورِيَّةِ، ثُمَّ الْغُلَامُ يُجْبَرُ إنْ كَانَ صَغِيرًا فَكَذَا هَذِهِ، وَالْأَخْبَارُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهَا أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالصَّغِيرَةُ لَا حَقَّ لَهَا. وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَةَ تِسْعِ سِنِينَ يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا بِإِذْنِهَا، وَمَنْ دُونَ ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبِكْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إذْنُ الثَّيِّبِ الْكَلَامُ وَإِذْنُ الْبِكْرِ الصُّمَاتُ] (5206) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذْنُ الثَّيِّبِ الْكَلَامُ، وَإِذْنُ الْبِكْرِ الصُّمَاتُ) . أَمَّا الثَّيِّبُ، فَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ إذْنَهَا الْكَلَامُ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ اللِّسَانَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَمَّا فِي الْقَلْبِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِذْنُ، غَيْرَ أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ أُقِيمَ فِيهَا الصَّمْتُ مُقَامَهُ لِعَارِضٍ. وَأَمَّا الْبِكْرُ فَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَلِيِّ أَبًا أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِي صَمْتِهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَبِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَكُونُ إذْنًا؛ لِأَنَّ الصُّمَاتَ عَدَمُ الْإِذْنِ، فَلَا يَكُونُ إذْنًا، وَلِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ الرِّضَا وَالْحَيَاءَ وَغَيْرِهِمَا، فَلَا يَكُونُ إذْنًا، كَمَا فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ بِهِ فِي حَقِّ الْأَبِ، لِأَنَّ رِضَاءَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهَذَا شُذُوذٌ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، يُصَانُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إضَافَتِهِ إلَيْهِ، وَجَعْلِهِ مَذْهَبًا لَهُ، مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَتْبَعْ النَّاسِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُعَرِّجُ مُنْصِفٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي. قَالَ: رِضَاهَا صُمَاتُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، فَصَمْتُهَا إقْرَارُهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَفِي رِوَايَةٍ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي غَيْرِ ذَاتِ الْأَبِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا، وَالْبِكْرُ رِضَاهَا صَمْتُهَا» . وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَلِأَنَّ الْحَيَاءَ عُقْلَةٌ عَلَى لِسَانِهَا، يَمْنَعُهَا النُّطْقَ بِالْإِذْنِ، وَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ إبَائِهَا وَامْتِنَاعِهَا، فَإِذَا سَكَتَتْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لِرِضَاهَا، فَاكْتُفِيَ بِهِ وَمَا ذَكَرُوهُ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَكُونَ صُمَاتُهَا إذْنًا فِي حَقِّ الْأَبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ، فَيَكُونُ إذًا رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكُلِّيَّةِ، وَاطِّرَاحًا لِلْأَخْبَارِ الصَّرِيحَةِ الْجَلِيَّةِ، وَخَرْقًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ الْمَرْضِيَّةِ. (5207) فَصْلٌ: فَإِنْ نَطَقَتْ بِالْإِذْنِ، فَهُوَ أَبْلَغُ وَأَتَمُّ فِي الْإِذْنِ مِنْ صَمْتِهَا، وَإِنْ بَكَتْ أَوْ ضَحِكَتْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ بَكَتْ فَلَيْسَ بِإِذْنٍ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَلَيْسَ بِصَمْتٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ، فَإِنْ بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» وَلِأَنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالِامْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِهَا لِلِاسْتِئْذَانِ، فَكَانَ إذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ أَوْ الضَّحِكِ. وَالْبُكَاءُ يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ، لَا عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَلَوْ كَرِهَتْ لَامْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِي مِنْ الِامْتِنَاعِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ بِصَرِيحِهِ عَلَى أَنَّ الصَّمْتَ إذْنٌ، وَبِمَعْنَاهُ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ، وَكَذَلِكَ أَقَمْنَا الضَّحِكَ مُقَامَهُ. [فَصْلٌ الثَّيِّبُ الْمُعْتَبَرُ نُطْقُهَا هِيَ الْمَوْطُوءَةُ فِي الْقُبُلِ] (5208) فَصْلٌ: وَالثَّيِّبُ الْمُعْتَبَرُ نُطْقُهَا،، هِيَ الْمَوْطُوءَةُ فِي الْقُبُلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُصَابَةِ بِالْفُجُورِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الْبِكْرِ فِي إذْنِهَا وَتَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الِاكْتِفَاءِ بِصُمَاتِ الْبِكْرِ الْحَيَاءُ، وَالْحَيَاءُ مِنْ الشَّيْءِ لَا يَزُولُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ، وَهَذِهِ لَمْ تُبَاشِرْ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ، فَيَبْقَى حَيَاؤُهَا مِنْهُ بِحَالِهِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا» . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَإِذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُطْقِ الثَّيِّبِ؛ لِأَنَّهُ قَسَمَ النِّسَاءَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَ السُّكُوتَ إذْنًا لِأَحَدِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ بِخِلَافِهِ وَهَذِهِ ثَيِّبٌ، فَإِنَّ الثَّيِّبَ هِيَ الْمَوْطُوءَةُ فِي الْقُبُلِ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِثَيِّبِ النِّسَاءِ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لِلْأَبْكَارِ لَمْ تَدْخُلْ، وَلَوْ اشْتَرَطَهَا فِي التَّزْوِيجِ أَوْ الشِّرَاءِ بِكْرًا فَوَجَدَهَا مُصَابَةً بِالزِّنَا، مَلَكَ الْفَسْخَ، وَلِأَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ فِي الْقُبُلِ، فَأَشْبَهَتْ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْحَيَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَظِنَّتِهِ، وَهِيَ الْبَكَارَةُ، ثُمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ مَنْطُوقِ الْحَدِيثِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُكْرَهَةِ وَالْمُطَاوِعَةِ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِأَبِيهَا إجْبَارُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغَةً، وَفِي تَزْوِيجِهَا إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَجْهَانِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا لَمْ تُبَاشِرْ الْإِذْنَ. قُلْنَا: يَبْطُلُ بِالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، أَوْ فِي مِلْكِ يَمِينٍ، وَالْمُزَوَّجَةُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ. [فَصْلٌ الْحُكْمِ إذَا ذَهَبَتْ عُذْرَتُهَا بِغَيْرِ جِمَاعٍ فِي إذْنهَا فِي النِّكَاح] (5209) فَصْلٌ: وَإِنْ ذَهَبَتْ عُذْرَتُهَا بِغَيْرِ جِمَاعٍ، كَالْوَثْبَةِ، أَوْ شِدَّةِ حَيْضَةٍ، أَوْ بِإِصْبَعٍ أَوْ عُودٍ وَنَحْوِهِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَبْكَارِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَبِرْ الْمَقْصُودَ، وَلَا وُجِدَ وَطْؤُهَا فِي الْقُبُلِ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ تَزُلْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 عُذْرَتُهَا. وَلَوْ وَطِئَتْ فِي الدُّبُرِ لَمْ تَصِرْ ثَيِّبًا، وَلَا حُكْمُهَا حُكْمُهُنَّ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْطُوءَةٍ فِي الْقُبُلِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي إذْنِهَا لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5210) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي إذْنِهَا لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ فِي الثَّيِّبِ كَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي الْبِكْرِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السُّكُوتُ، وَالْكَلَامُ حَادِثٌ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي الْأَصْلَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا مُنْكِرَةٌ الْإِذْنَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهَا اُسْتُؤْذِنَتْ وَسَمِعَتْ فَصَمَتَتْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَهَذَا جَوَابٌ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ وَلِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ وَصِحَّةِ النِّكَاحِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ وَهَلْ تُسْتَحْلَفُ الْمَرْأَةُ إذَا قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهَا؟ قَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ ادَّعَى زَوْجِيَّتَهَا فَأَنْكَرَتْهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: تُسْتَحْلَفُ. فَإِنْ نَكَلَتْ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَثْبُتُ النِّكَاحُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ، وَيَثْبُتُ النِّكَاحُ. وَلَنَا، أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي زَوْجِيَّةٍ، فَلَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ، وَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَصْلَ التَّزْوِيجِ فَأَنْكَرَتْهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ادَّعَتْ أَنَّهَا أَذِنَتْ فَأَنْكَرَ وَرَثَةُ الزَّوْجِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهَا، صَادِرٌ مِنْ جِهَتِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفُوا فِي نِيَّتِهَا فِيمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّتُهَا، وَلِأَنَّهَا تَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهُمْ يَدَّعُونَ فَسَادَهُ، فَالظَّاهِرُ مَعَهَا. [فَصْلٌ إذْن الْمَجْنُونَة فِي النِّكَاح] (5211) فَصْلٌ: فِي الْمَجْنُونَةِ، إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تُجْبَرُ لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً، جَازَ تَزْوِيجُهَا لِمَنْ يَمْلِكُ إجْبَارَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إجْبَارَهَا مَعَ عَقْلِهَا وَامْتِنَاعِهَا، فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُجْبَرُ، انْقَسَمَتْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ وَلِيُّهَا الْأَبَ أَوْ وَصِيَّهُ، كَالثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ، فَهَذِهِ يَجُوزُ لِوَلِيِّهَا تَزْوِيجُهَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْأَبِ تَزْوِيجَ الْمَعْتُوهِ، فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةُ إجْبَارٍ، وَلَيْسَ عَلَى الثَّيِّبِ وِلَايَةُ إجْبَارٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ وِلَايَةَ الْإِجْبَارِ إنَّمَا انْتَفَتْ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِرَأْيِهَا، لِحُصُولِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْهَا وَالْخِبْرَةِ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ، إذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْإِجْبَارِ فِي حَقِّهَا، إذَا كَانَتْ عَاقِلَةً. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ وَلِيُّهَا الْحَاكِمَ، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةُ إجْبَارٍ، فَلَا تَثْبُتُ لِغَيْرِ الْأَبِ، كَحَالِ عَقْلِهَا. وَالثَّانِي، لَهُ تَزْوِيجُهَا إذَا ظَهَرَ مِنْهَا شَهْوَةُ الرِّجَالِ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بِهَا حَاجَةً إلَيْهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْهَا، وَصِيَانَتِهَا عَنْ الْفُجُورِ، وَتَحْصِيلِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْعَفَافِ، وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إذْنِهَا، فَأُبِيحَ تَزْوِيجُهَا كَالثَّيِّبِ مَعَ أَبِيهَا وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ تَزْوِيجَهَا إنْ قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ: إنَّ عِلَّتَهَا تَزُولُ بِتَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ صَغِيرَةٍ بِحَالٍ، وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْكَبِيرَةِ إذَا قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ إنَّ عِلَّتَهَا تَزُولُ بِتَزْوِيجِهَا. وَلَنَا، أَنَّ الْمَعْنَى الْمُبِيحَ لِلتَّزْوِيجِ وُجِدَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ، فَأُبِيحَ تَزْوِيجُهَا، كَالْكَبِيرَةِ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهَا شَهْوَةُ الرِّجَالِ، فَفِي تَزْوِيجِهَا مَصْلَحَتُهَا وَدَفْعُ حَاجَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ إنَّهُ يُزِيلُ عِلَّتَهَا. وَتُعْرَفُ شَهْوَتُهَا مِنْ كَلَامِهَا، وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهَا، كَتَتَبُّعِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَيْلِهَا إلَيْهِمْ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَنْ وَلِيُّهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْحَاكِمِ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْقِسْمِ الثَّانِي، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُمْ تَزْوِيجُهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَمْلِكُ الْحَاكِمُ تَزْوِيجَ مُوَلِّيَتِهِ فِيهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى وِلَايَةِ الْحَاكِمِ، فَقُدِّمُوا عَلَيْهِ فِي التَّزْوِيجِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً. وَوَجْهُ قَوْلِ الْقَاضِي، أَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ النَّاظِرُ لَهَا فِي مَالِهَا دُونَهُمْ، فَيَكُونُ وَلِيًّا دُونَهُمْ، كَتَزْوِيجِ أَمَتِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا دَفْعُ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَكَانَتْ إلَى الْحَاكِمِ، كَدَفْعِ حَاجَةِ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ. فَإِنْ كَانَ لَهَا وَصِيٌّ فِي مَالِهَا، لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا. وَالْحُكْمُ فِي تَزْوِيجِهَا حُكْمُ مَنْ وَلِيُّهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْحَاكِمِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا] (5212) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، ثَبَتَ النِّكَاحُ بِالْمُسَمَّى. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ الْأَبِ ثَبَتَ النِّكَاحُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَبِ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُصَ فِيهِ عَنْ قِيمَةِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ تَفْرِيطٌ فِي مَالِهَا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَمَا أَصْدَقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ، أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ أُوقِيَّةً وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ دُونَ صَدَاقِ الْمِثْلِ. وَزَوَّجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ابْنَتَهُ بِدِرْهَمَيْنِ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، شَرَفًا وَعِلْمَا وَدِينًا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ الْعِوَضَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ، وَوَضْعُ الْمَرْأَةِ فِي مَنْصِبٍ عِنْدَ مَنْ يَكْفِيهَا، وَيَصُونَهَا، وَيُحْسِنُ عِشْرَتَهَا، وَالظَّاهِرُ مِنْ الْأَبِ، مَعَ تَمَامِ شَفَقَتِهِ، وَبُلُوغِ نَظَرِهِ، أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهَا مِنْ صَدَاقِهَا إلَّا لِتَحْصِيلِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ بِالنِّكَاحِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِتَفْوِيتِ غَيْرِهِ، وَيُفَارِقُ سَائِرَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الْعِوَضُ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ فَأَمَّا غَيْرُ الْأَبِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُصَهَا مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَإِنَّ زَوَّجَ بِدُونِ ذَلِكَ، صَحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ وَعَدَمَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ بُضْعِهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ نَقْصُهَا مِنْهُ، فَرَجَعَتْ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَمَامُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ] فَصْلٌ: وَتَمَامُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ هَاهُنَا فَاسِدَةٌ؛ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهَا شَرْعًا، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا بِمَحْرَمٍ. وَعَلَى الْوَلِيِّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُفَرِّطُ، فَكَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَهَا بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا. وَلَيْسَ الْأَبُ مِثْلَ الْوَلِيِّ، وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهَا وُجُوبُ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم. [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ غُلَامًا غَيْرَ بَالِغٍ أَوْ مَعْتُوهًا] (5214) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ زَوَّجَ غُلَامًا غَيْرَ بَالِغٍ، أَوْ مَعْتُوهًا، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُزَوِّجَهُ وَالِدُهُ، أَوْ وَصِيٌّ نَاظِرٌ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: (5215) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ أَوْ وَصِيِّهِ تَزْوِيجُ الْغُلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ": لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهُ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 يَلِي مَالَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ تَزْوِيجَهُ، لِيَأْلَفَ حِفْظَ فَرْجِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ. وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ فَإِنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ، فَالْغُلَامُ أَوْلَى. وَفَارَقَ الْأَبَ وَوَصِيَّهُ؛ فَإِنَّ لَهُمَا تَزْوِيجَ الصَّغِيرَةِ، وَوِلَايَةَ الْإِجْبَارِ وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْغُلَامُ فِي تَزْوِيجِهِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَإِنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ. (5216) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْتُوهَ؛ وَهُوَ الزَّائِلُ الْعَقْلُ بِجُنُونٍ مُطْبِقٍ، لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ تَزْوِيجُهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ شَهْوَةُ النِّسَاءِ، بِأَنْ يَتْبَعَهُنَّ وَيُرِيدَهُنَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَلَيْسَ لَهُ حَالٌ يَنْتَظِرُ فِيهَا إذْنُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْوَجْهَيْنِ فِي تَزْوِيجِ الْمَجْنُونَةِ. وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَجُوزَ تَزْوِيجُهُ إذَا قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ: إنَّ فِي تَزْوِيجِهِ ذَهَابَ عِلَّتِهِ. لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (5217) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ لِلْأَبِ أَوْ وَصِيِّهِ تَزْوِيجَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْغُلَامُ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونِ، مُسْتَدَامًا أَوْ طَارِقًا، فَأَمَّا الْغُلَامُ السَّلِيمُ مِنْ الْجُنُونِ، فَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ لِأَبِيهِ تَزْوِيجَهُ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ هَذَا مَذْهَبُهُ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَاخْتَصَمَا إلَى زَيْدٍ، فَأَجَازَاهُ جَمِيعًا. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَأَمَّا الْغُلَامُ الْمَعْتُوهُ، فَلِأَبِيهِ تَزْوِيجُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ بِالتَّزْوِيجِ حُقُوقًا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، فَمَلَكَ أَبُوهُ تَزْوِيجَهُ، كَالْعَاقِلِ، وَلِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ تَزْوِيجَ الْعَاقِلِ مَعَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إلَى التَّزْوِيجِ رَأْيًا وَنَظَرًا لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَزْوِيجُ مَنْ لَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ ذَلِكَ أَوْلَى. وَفَارَقَ غَيْرَ الْأَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَاقِلِ. وَأَمَّا الْبَالِغُ الْمَعْتُوهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّ لِلْأَبِ تَزْوِيجَهُ مَعَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِهَا وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الشَّهْوَةِ بِاتِّبَاعِ النِّسَاءِ وَنَحْوِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِي تَزْوِيجِهِ مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ إضْرَارًا بِهِ، بِإِلْزَامِهِ حُقُوقًا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي الْتِزَامِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَجُزْ إجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْعَاقِلِ. وَقَالَ زُفَرُ: إنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَدَامًا، جَازَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَجَازَ لِأَبِيهِ تَزْوِيجُهُ كَالصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ، مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ فِي الْحَالِ، وَتَوَقُّعِ نَظَرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَلَنَا، عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الطَّارِئِ وَالْمُسْتَدَامِ، أَنَّهُ مَعْنًى يُثْبِتُ الْوِلَايَةَ، فَاسْتَوَى طَارِئُهُ وَمُسْتَدَامُهُ، كَالرِّقِّ، وَلِأَنَّهُ جُنُونٌ يُثْبِتُ الْوِلَايَةَ عَلَى مَالِهِ، فَأَثْبَتَهَا عَلَيْهِ فِي نِكَاحِهِ، كَالْمُسْتَدَامِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحَاجَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ تَزْوِيجُهُ، إلَّا إذَا رَأَى الْمُصْلِحَةَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، فَقَدْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إلَى الْإِيوَاءِ وَالْحِفْظِ، وَرُبَّمَا كَانَ دَوَاءً لَهُ، وَيَتَرَجَّى بِهِ شِفَاؤُهُ، فَجَازَ التَّزْوِيجُ لَهُ، كَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِنْ يُفِيق فِي الْأَحْيَانِ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ] (5218) فَصْلٌ: وَمَنْ يُفِيقُ فِي الْأَحْيَانِ، لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَمَنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِنَفْسِهِ، لَمْ تَثْبُتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ كَالْعَاقِلِ. وَلَوْ زَالَ عَقْلُهُ بِبِرْسَامٍ أَوْ مَرَضٍ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، فَهُوَ كَالْعَاقِلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ الْوِلَايَةَ عَلَى مَالِهِ، فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُهُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلُ وَصِيّ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ] (5219) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ وَصِيَّ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْوَصِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَفِي هَذَا مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِوَصِيِّ الْأَبِ فِي التَّزْوِيجِ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي الْمَالِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ التَّصَرُّفَ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يُوصَ بِهِ إلَيْهِ، وَوَصِيُّ غَيْرِ الْأَبِ، لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَوَصِيُّهُ أَوْلَى. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ لَصَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ] (5220) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ لِصَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ لَهُمَا النِّكَاحَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمَا فِي قَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ. وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ ابْنَ عَشْرٍ، وَهُوَ مُمَيِّزٌ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ تَفْوِيضِ الْقَبُولِ إلَيْهِ، حَتَّى يَتَوَلَّاهُ لِنَفْسِهِ، كَمَا يُفَوَّضُ أَمْرُ الْبَيْعِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ لَهُ الْوَلِيُّ جَازَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ، وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ، وَوُقُوعِ طَلَاقِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ. فَهَذَا أَوْلَى (5221) فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لَهُمَا بِزِيَادَةٍ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَلَمْ تَجُزْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 الزِّيَادَةُ فِيهَا عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ، كَبَيْعِ مَالِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْأَبِ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، فَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، فَجَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ فِيهِ، كَمَا يَجُوزُ فِي مُدَاوَاتِهِ، بَلْ الْجَوَازُ هَاهُنَا أَوْلَى؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْضَى بِتَزْوِيجِ مَجْنُونٍ، إلَّا أَنْ تَرْغَبَ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، فَيَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ "، أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ بَذْلًا لِمَالِهِ فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ وَذَكَرَ فِي " الْجَامِعِ "، أَنَّ لَهُ تَزْوِيجَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِأَرْبَعٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهُ بِمَعِيبَةٍ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِهِ وَتَفْوِيتًا لِمَالِهِ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ فَعَلَ، خُرِّجَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ. فَهَلْ لِلْوَلِيِّ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، مَضَى تَوْجِيهُهَا فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ بِمَعِيبٍ. وَمَتَى لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ عَقَلَ الْمَجْنُونُ، فَلَهُمَا الْفَسْخُ، وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهُ بِأَمَةٍ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهَا مَشْرُوطَةٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، غَيْرُ مَعْدُومٍ فِي الْمَجْنُونِ. [فَصْلٌ إذَا زَوَّجَ ابْنَهُ تَعَلَّقَ الصَّدَاقُ بِذِمَّةِ الِابْنِ] (5222) فَصْلٌ: وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَهُ، تَعَلَّقَ الصَّدَاقُ بِذِمَّةِ الِابْنِ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لِلِابْنِ، فَكَانَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَهَلْ يَضْمَنُهُ الْأَبُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَضْمَنُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: تَزْوِيجُ الْأَبِ لِابْنِهِ الطِّفْلِ جَائِزٌ، وَيَضْمَنُ الْأَبُ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعِوَضِ عَنْهُ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ نَطَقَ بِالضَّمَانِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، نَابَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ عِوَضَهُ، كَثَمَنِ مَبِيعِهِ، أَوْ كَالْوَكِيلِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَصَحُّ. وَقَالَ: إنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا إذَا كَانَ الِابْنُ مُعْسِرًا، أَمَّا الْمُوسِرُ، فَلَا يَضْمَنُ الْأَبُ عَنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، سَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ دَفْعِ الْأَبِ الصَّدَاقَ عَنْهُ، رَجَعَ نِصْفُهُ إلَى الِابْنِ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيهِ، بِمَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَلَكَهُ بِالطَّلَاقِ عَنْ غَيْرِ أَبِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ الْأَبُ أَجْنَبِيًّا ثُمَّ وَهَبَهُ الْأَجْنَبِيُّ لِلِابْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَنْ ابْنِهِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ حَتَّى اسْتَرْجَعَهُ الِابْنُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ قَضَى الصَّدَاقَ عَنْ ابْنِهِ الْكَبِيرِ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِنْ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ فِي جَمِيعِهِ، كَالْحُكْمِ فِي الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 [فَصْلٌ حُكْم نِكَاحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ] (5223) فَصْلٌ: فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ وَالْكَلَامُ فِي نِكَاحِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ لِوَلِيِّهِ تَزْوِيجَهُ، إذَا عَلِمَ حَاجَتَهُ إلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِمَصَالِحِهِ، وَهَذَا مِنْ مَصَالِحِهِ، لِأَنَّهُ يَصُونُ بِهِ دِينَهُ وَعِرْضَهُ وَنَفْسَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَعَرَّضَ بِتَرْكِ التَّزْوِيجِ لِلْإِثْمِ بِالزِّنَا، وَالْحَدِّ، وَهَتْكِ الْعِرْضِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِحَاجَتِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَوْلِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَاجَتُهُ إلَى الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ إلَى الْخِدْمَةِ، فَيُزَوِّجُهُ امْرَأَةً لِتَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخَلْوَةِ بِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهُ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ بِالنِّكَاحِ حُقُوقًا؛ مِنْ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْعِشْرَةِ، وَالْمَبِيتِ، وَالسُّكْنَى، فَيَكُونُ تَضْيِيعًا لِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَبْذِيرِ مَالِهِ وَإِذَا أَرَادَ تَزْوِيجَهُ، اسْتَأْذَنَهُ فِي تَزْوِيجِهِ، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَمَلَكَهُ الْوَلِيُّ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ، كَالرَّشِيدِ وَالْعَبْدِ الْكَبِيرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إجْبَارَهُ عَلَى النِّكَاحِ مَعَ مِلْكِ الطَّلَاقِ، مُجَرَّدُ إضْرَارٍ، فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ فَيَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ مَعَ فَوَاتِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي امْرَأَةٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي أُخْرَى، فَإِذَا أُجْبِرَ عَلَى مَنْ يَكْرَهُهَا، لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ مِنْهَا، وَفَاتَ عَلَيْهِ غَرَضُهُ مِنْ الْأُخْرَى، فَيَحْصُلُ مُجَرَّدُ ضَرَرٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ، لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ ذَلِكَ هَاهُنَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفَوِّتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَالرَّشِيدِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهُ فِيهَا، وَهِيَ حَالَةُ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ، وَلِذَلِكَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَالْخُلْعَ، فَجَازَ أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمَرْأَةَ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ مُطْلَقًا. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ لَهُ؛ لِئَلَّا يَتَزَوَّجَ شَرِيفَةً يَكْثُرُ مَهْرُهَا وَنَفَقَتُهَا، فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَذِنَ فِي النِّكَاحِ، فَجَازَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَالْإِذْنِ لِلْعَبْدِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ. وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ بِمَالِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا. وَإِنْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مِنْ غَيْرِ خُسْرَانٍ. الْحَالُ الثَّالِثُ، إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَصِحُّ النِّكَاحُ، أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إذَا كَانَ مُحْتَاجًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 فَإِنْ عُدِمَتْ الْحَاجَةُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِمَالِهِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ أَمْكَنَهُ اسْتِئْذَانُ وَلِيِّهِ، لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَالْعَبْدِ، وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ النِّكَاحَ، فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ، فَحَقُّهُ مُتَعَيِّنٌ فِيهِ، فَصَحَّ اسْتِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ الْحَالَّ عِنْدَ امْتِنَاعِ وَلِيِّهِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ وَطِئَ الزَّوْجَةَ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بُضْعَهَا بِشُبْهَةٍ، فَلَزِمَهُ عِوَضُ مَا أَتْلَفَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَهَا. [فَصْلٌ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ تَطْلِيقُ امْرَأَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ] (5224) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ تَطْلِيقُ امْرَأَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ، كَوَصِيِّ الْأَبِ وَالْحَاكِمِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، أَوْ لَا يَمْلِكُهُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَأَمَّا الْأَبُ إذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ أَوْ الْمَجْنُونَ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلَيْنِ زَوَّجَ أَحَدُهُمَا ابْنَهُ بِابْنَةِ الْآخَرِ، وَهُمَا صَغِيرَانِ، ثُمَّ إنَّ الْأَبَوَيْنِ كَرِهَا، هَلْ لَهُمَا أَنْ يَفْسَخَا؟ فَقَالَ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ رَآهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ، فَتُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ يَسْتَفِيدُ بِهَا تَمْلِيكَ الْبُضْعِ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهَا إزَالَتَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا، كَالْحَاكِمِ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ بِالْإِعْسَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» . وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْبُضْعَ، فَلَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِنَفْسِهِ، كَوَصِيِّ الْأَبِ وَالْحَاكِمِ، وَكَالسَّيِّدِ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ يَبْطُلُ دَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ ادَّعَتْ امْرَأَةُ الْمَجْنُونِ عُنَّتَهُ] (5225) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةُ الْمَجْنُونِ عُنَّتَهُ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ مُدَّةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، وَلَا حُكْمَ لِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعُنَّةِ وَهُوَ صَحِيحٌ، فَضُرِبَتْ لَهُ الْمُدَّةُ ثُمَّ جُنَّ، وَانْقَضَتْ الْمُدَّةُ، وَطَالَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْفَسْخِ، لَمْ يُفْسَخْ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَادَّعَى مَنْعَهَا إيَّاهُ نَفْسَهَا، أَوْ أَنَّهُ وَطِئَهَا فَعَادَتْ عُذْرَتُهَا، فَلَهُ اسْتِحْلَافُهَا. فَإِذَا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَسْتَحْلِفْ، وَلَا يَثْبُتُ مَا قَالَتْهُ، فَلَمْ يُفْسَخْ عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 [مَسْأَلَةٌ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا] (5226) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، فَقَدْ لَزِمَهَا النِّكَاحُ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً) . لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، فَأَشْبَهَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْعَبْدَ، وَلِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتَزْوِيجِهَا؛ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ مَهْرِهَا وَوَلَدِهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. [فَصْلٌ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا بِصِفَةِ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْأَمَةِ الْقِنِّ فِي إجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ] (5227) فَصْلٌ: وَالْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، كَالْأَمَةِ الْقِنِّ، فِي إجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ مَالِكٌ آخِرَ أَمْرِهِ: لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ أُمِّ وَلَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا. وَكَرِهَهُ رَبِيعَةُ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَأُخْتِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا وَإِجَارَتَهَا، فَمَلَكَ تَزْوِيجَهَا، كَالْقِنِّ، وَلِأَنَّهَا إحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا، فَمَلَكَ أَخْذَ عِوَضِهَا، كَسَائِرِ مَنَافِعِهَا. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا، وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا. وَإِذَا مَلَكَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ مَجُوسِيَّةً، فَلَهُ تَزْوِيجُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا مُحَرَّمَتَيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتَا عَلَيْهِ لِعَارِضٍ. فَأَمَّا الَّتِي بَعْضُهَا حُرٌّ، فَلَا يَمْلِكُ سَيِّدُهَا إجْبَارَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَهَا. وَلَا يَمْلِكُ إجْبَارَ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ وَطْأَهَا وَلَا إجَارَتَهَا، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا، وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ مَهْرُهَا، فَهِيَ كَالْعَبْدِ. [فَصْلٌ طَلَبْت الْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا تَزْوِيجَهَا] (5228) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَبَتْ الْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا تَزْوِيجَهَا، فَإِنْ كَانَ يَطَؤُهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي تَزْوِيجِهَا، وَوَطْؤُهُ لَهَا يَدْفَعُ حَاجَتَهَا. فَإِنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا؛ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، كَالْمَجُوسِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ مُحَلَّلَةً لَهُ لَكِنْ لَا يَرْغَبُ فِي وَطْئِهَا، أُجْبِرَ عَلَى تَزْوِيجِهَا أَوْ وَطْئِهَا إنْ كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُ، وَإِزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهَا، فَأُجْبِرَ عَلَى تَزْوِيجِهَا، كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ حَاجَتَهَا قَدْ تَشْتَدُّ إلَى ذَلِكَ، فَأُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهَا، كَالْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ. وَإِذَا امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ. وَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ مَنْ نِصْفُهَا حُرٌّ، أَوْ الْمُكَاتَبَةُ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ، التَّزْوِيجَ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُنَّ، فَأُجْبِرَ عَلَى تَزْوِيجِهِنَّ، كَالْحَرَائِرِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ أَمَةً وَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ] (5229) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ أَمَةً، وَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ، مَلَكَ سَيِّدُهُ تَزْوِيجَهَا وَبَيْعَهَا وَإِعْتَاقَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 وَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: وَلِلسَّيِّدِ وَطْؤُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْغُرَمَاءِ. وَأَصِلُ الْخِلَافِ يَنْبَنِي عَلَى دَيْنِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَعِنْدَنَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ، فَلَا يَلْحَقُ الْغُرَمَاءَ ضَرَرٌ بِتَصَرُّفِ السَّيِّدِ فِي الْأَمَةِ، فَإِنَّ الدِّينَ مَا تَعَلَّقَ بِهَا، وَعِنْدَهُ أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ وَبِمَا فِي يَدِهِ، فَيَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إكْرَاهُ أَمَتِهِ عَلَى التَّزْوِيج بِمَعِيبِ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ] (5230) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إكْرَاهَ أَمَتِهِ عَلَى التَّزْوِيجِ بِمَعِيبٍ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ، وَذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَلِذَلِكَ مَلَكَتْ الْفَسْخَ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ. وَفَارَقَ بَيْعَهَا مِنْ مَعِيبٍ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَلِهَذَا مَلَكَ شِرَاءَ الْأَمَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَلَمْ تَمْلِكْ الْأَمَةُ الْفَسْخَ لِعَيْبِهِ وَلَا عُنَّتِهِ وَلَا إيلَائِهِ وَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ مَعِيبٍ فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ فَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ. فَلَهَا الْفَسْخُ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ أَوْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هَكَذَا فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ. [زَوَّجَ عَبْدَهُ وَهُوَ كَارِهٌ] (5231) قَالَ: وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدَهُ وَهُوَ كَارِهٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (5232) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ إجْبَارَ عَبْدِهِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ عَلَى النِّكَاحِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] ؛ وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ فَمَلَكَ إجْبَارَهُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ إجَارَتَهُ فَأَشْبَهَ الْأَمَةَ، وَلَنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْحُرِّ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ خَالِصُ حَقِّهِ وَنَفْعُهُ لَهُ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَالْأَمْرُ بِإِنْكَاحِهِ مُخْتَصٌّ بِحَالِ طَلَبِهِ بِدَلِيلِ عَطْفِهِ عَلَى الْأَيَامَى وَإِنَّمَا يُزَوَّجْنَ عِنْدَ الطَّلَبِ. وَمُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَإِنَّمَا يَجِبُ تَزْوِيجُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ. وَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا وَالِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَيُفَارِقُ النِّكَاحُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ بَدَنِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهَا. . [الْعَبْدُ الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لِلسَّيِّدِ تَزْوِيجُهُ] (5233) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْعَبْدِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، فَلِلسَّيِّدِ تَزْوِيجُهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يُحْتَمَلُ أَلَّا يَمْلِكَ تَزْوِيجَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 وَلَنَا أَنَّهُ إذَا مَلَكَ تَزْوِيجَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، فَعَبْدُهُ مَعَ مِلْكِهِ لَهُ وَتَمَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي عَبْدِهِ الْمَجْنُونِ. . [الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى السَّيِّدِ فِي زَوَاجِ الْعَبْدِ] (5234) فَصْلٌ: وَالْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى السَّيِّدِ، سَوَاءٌ ضَمِنَهُمَا أَوْ لَمْ يَضْمَنْهُمَا، وَسَوَاءٌ بَاشَرَ الْعَقْدَ أَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَعَقَدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: نَفَقَتُهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ. وَقَالَ: إنْ كَانَ بِقِيمَةِ ضَرِيبَتِهِ أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْطِي الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ السَّيِّدَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ أَوْجَبَهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْفَسْخُ؛ لِعَدَمِ كَسْبِ الْعَبْدِ، وَلِلسَّيِّدِ اسْتِخْدَامُهُ وَمَنْعُهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ، وَمَنْ عَلَّقَهُ بِكَسْبِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، فَلِلْمَرْأَةِ الْفَسْخُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ الْكَسْبِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ بِرِضَا سَيِّدِهِ، فَتَعَلَّقَ بِسَيِّدِهِ، وَجَازَ بَيْعُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ، أَوْ أَعْتَقَهُ، لَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرُ عَنْ السَّيِّدِ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَيْعِهِ وَعِتْقِهِ، كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ: فَإِنَّهَا تَتَجَدَّدُ، فَتَكُونُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ. [تَزَوَّجَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ بِإِذْنِهِ] (5235) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ بِإِذْنِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْعَبْدِ فَيَتَزَوَّجَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ كَالْحُرِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ امْرَأَةً أَوْ نِسَاءَ بَلَدٍ أَوْ قَبِيلَةٍ أَوْ حُرَّةً، أَوْ أَمَةً، فَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ فَتَقَيَّدَ تَصَرُّفُهُ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ كَالْوَكِيلِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُطْلَقًا؛ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَ، لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَلْدَةٍ أُخْرَى فَلِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَلَدِ، فَعَلَى سَيِّدِهِ إرْسَالُهُ لَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ. وَإِنْ أَحَبَّ سَيِّدُهُ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَسْكَنٍ مِنْ دَارِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِخْدَامِهِ، وَلَيْسَ النَّهَارُ مَحَلًّا لِلِاسْتِمْتَاعِ. وَلِسَيِّدِهِ الْمُسَافَرَةُ بِهِ، فَإِنَّ حَقَّ امْرَأَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُ عَلَى حَقِّ امْرَأَةِ الْحُرِّ، وَالْحُرُّ يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ وَإِنْ كَرِهَتْ امْرَأَتُهُ، كَذَا هَا هُنَا. [لِلسَّيِّدِ أَنْ يُعَيِّنَ لِلْعَبْدِ الْمَهْرَ وَلَهُ أَنْ يُطْلِقَ] (5236) فَصْلٌ: وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمَهْرَ، وَلَهُ أَنْ يُطْلِقَ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِمَا عَيَّنَهُ أَوْ دُونَهُ، أَوْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ دُونَهُ، لَزِمَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ الزِّيَادَةُ. وَهَلْ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ أَوْ بِذِمَّتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 يُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، بِنَاءً عَلَى اسْتِدَانَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَابِ الْمُصَرَّاةِ. [تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لِسَيِّدِهِ] (5237) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي نِكَاحِهِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ، وَقُلْنَا: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْحُرُّ امْرَأَتَهُ، وَلَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ إذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَاشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ بِمَا يَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَحَلَّتْ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ، وَإِنْ مَلَكَ بَعْضَهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَهَا. وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِعَيْنِ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَقُلْنَا: لَا تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ. لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِتَفْرِيقِهَا، صَحَّ فِي قَدْرِ مَالِهِ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِمِلْكِهِ بَعْضَهَا. [اشْتَرَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا أَوْ مَلَكَتْهُ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا] (5238) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا، أَوْ مَلَكَتْهُ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْيَمِينِ يَتَنَافَيَانِ، لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّخْصِ مَالِكًا لِمَالِكِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقُولُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ؛ لِأَنَّنِي امْرَأَتُك، وَأَنَا أُسَافِرُ بِك؛ لِأَنَّك عَبْدِي. وَيَقُولُ هُوَ: أَنْفِقِي عَلَيَّ؛ لِأَنَّنِي عَبْدُك، وَأَنَا أُسَافِرُ بِك؛ لِأَنَّك امْرَأَتِي. فَيَتَنَافَى ذَلِكَ، فَيَثْبُتُ أَقْوَاهُمَا، وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ، وَلَهَا عَلَى سَيِّدِهِ الْمَهْرُ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَهُ عَلَيْهَا الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَا دَيْنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ تَقَاصَّا وَتَسَاقَطَا إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِنْ تَفَاضَلَا سَقَطَ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا بِمِثْلِهِ، وَبَقِيَ الْفَاضِلُ، وَإِنْ اخْتَلَفَ جِنْسُهُمَا لَمْ يَتَسَاقَطَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَسْلِيمُ مَا عَلَيْهِ إلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَسْقُطُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا مَلَكَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لَهَا مَالًا. وَهَذَا بِنَاءٍ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ مِلْكُ الْعَبْدِ فِي إسْقَاطِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهًا: أَنَّهُ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ تَبَعٌ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا سَقَطَ مِنْ ذِمَّةِ الْعَبْدِ سَقَطَ مِنْ ذِمَّةِ السَّيِّدِ تَبَعًا، كَالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الضَّامِنِ إذَا سَقَطَ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّتَيْنِ جَمِيعًا، إحْدَاهُمَا تَبَعٌ لِلْأُخْرَى، بَلْ الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِحَالٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الشِّرَاءُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ نِصْفُهُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا. وَفِي سُقُوطِ بَاقِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ إنَّمَا هُوَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، فَالْفَسْخُ إذًا مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ جَمِيعُ الْمَهْرِ كَالْخُلْعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 وَالثَّانِي يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا تَمَّ بِشِرَاءِ الْمَرْأَةِ، فَأَشْبَهَ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ فِي أَحَدِهِمَا، وَفَسْخَهَا لِإِعْسَارِهِ، وَشِرَاءَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ. [ابْتَاعَتْ الْحُرَّةِ زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا] (5239) فَصْلٌ: فَإِنْ ابْتَاعَتْهُ بِصَدَاقِهَا، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ إنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نِصْفُهُ. أَوْ بِجَمِيعِهِ، إنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ جَمِيعُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يَقْتَضِي نَفْيَهُ، فَإِنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ؛ تَقْتَضِي فَسْخَ النِّكَاحِ وَسُقُوطَ الْمَهْرِ، وَسُقُوطُ الْمَهْرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُهُ وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِغَيْرِ هَذَا الْعَبْدِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لَهُ، كَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ، وَمَا سَقَطَ مِنْهُ رَجَعَ عَلَيْهَا بِهِ. [إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ فَالنِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا] (5240) قَالَ: فَإِذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ فَالنِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيَّانِ فَأَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَزْوِيجِهَا، جَازَ، سَوَاءٌ أَذِنَتْ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَذِنْت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَائِي فِي تَزْوِيجِي مَنْ أَرَادَ. فَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيَّانِ لِرَجُلَيْنِ، وَعُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَالنِّكَاحُ لَهُ، دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي صَارَ أَوْلَى. لِقَوْلِ عُمَرَ إذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ، مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي. وَلِأَنَّ الثَّانِيَ اتَّصَلَ بِعَقْدِهِ الْقَبْضُ، فَكَانَ أَحَقَّ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَمُرَةُ، وَعُقْبَةُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ، فَهِيَ لِلْأَوَّلِ.» أَخْرَجَ حَدِيثَ سَمُرَةَ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْهُ وَعَنْ عُقْبَةَ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَشُرَيْحٍ وَلِأَنَّ الثَّانِيَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِصْمَةِ زَوْجٍ، فَكَانَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا زَوْجًا؛ وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ لَوْ عَرِيَ عَنْ الدُّخُولِ، فَكَانَ بَاطِلًا وَإِنْ دَخَلَ، كَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، وَكَمَا لَوْ عَلِمَ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُصَحِّحْهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ خَالَفَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَاءَ عَلَى خِلَافِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقَبْضِ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِغَيْرِ قَبْضٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 [اسْتَوَى الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّرَجَةِ فِي النِّكَاحِ] (5241) فَصْلٌ: إذَا اسْتَوَى الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّرَجَةِ، كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ أَكْبَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَقَدَّمَ إلَيْهِ مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبِّرْ كَبِّرْ. أَيْ قَدِّمْ الْأَكْبَرَ، قَدِّمْ الْأَكْبَرَ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ. وَإِنْ تَشَاحُّوا وَلَمْ يُقَدِّمُوا الْأَكْبَرَ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ اسْتَوَى فِي الْقَرَابَةِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» لِتَسَاوِي حُقُوقِهِنَّ. كَذَا هَا هُنَا. فَإِنْ بَدَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَزَوَّجَ كُفُؤًا بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ، صَحَّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْغَرَ الْمَفْضُولَ الَّذِي وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَزْوِيجٌ صَدَرَ مِنْ وَلِيٍّ كَامِلِ الْوِلَايَةِ، بِإِذْنِ مُوَلِّيَتِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ. وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِإِزَالَةِ الْمُشَاحَّةِ. [إنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ] (5242) قَالَ: فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَمْ يُصِبْهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ آخِرِ وَقْتٍ وَطِئَهَا الثَّانِي. أَمَّا إذَا عُلِمَ الْحَالُ قَبْلَ وَطْءِ الثَّانِي لَهَا، فَإِنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ لَا يُوجِبُ شَيْئًا. وَإِنْ وَطِئَهَا الثَّانِي، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَهُوَ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ يَجِبُ لَهَا بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ، إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَلَمْ تَحْمِلْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهَا صَدَاقٌ بِالْمَسِيسِ، وَصَدَاقٌ مِنْ هَذَا. وَلَا يُرَدُّ الصَّدَاقُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الدَّاخِلِ بِهَا عَلَى الَّذِي دُفِعَتْ إلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَكَانَ لَهَا دُونَ زَوْجِهَا، كَمَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ مُكْرَهَةً. وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا النِّكَاحُ الثَّانِي إلَى فَسْخٍ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَلَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ إلَّا بِالْوَطْءِ، دُونَ مُجَرَّدِ الدُّخُولِ وَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ لَا حُكْمَ لَهُ. وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِالْإِصَابَةِ لَا بِالتَّسْمِيَةِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُسَمَّى. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا قُلْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [إنْ جُهِلَ الْأَوَّلُ مِنْ النِّكَاحَيْنِ فُسِخَا] (5243) قَالَ: فَإِنْ جُهِلَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فُسِخَ النِّكَاحَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جُهِلَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ لَا يُعْلَمَ كَيْفِيَّةُ وُقُوعِهِمَا، أَوْ يُعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ يُعْلَمَ بِعَيْنِهِ ثُمَّ يُشَكَّ، فَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَفْسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَيْنِ جَمِيعًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ تَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ أُمِرَ صَاحِبُهُ بِالطَّلَاقِ. ثُمَّ يُجَدِّدُ الْقَارِعُ نِكَاحَهُ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ، لَمْ يَضُرَّهُ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةَ الْآخَرِ، بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقِهِ، وَصَارَتْ زَوْجَةَ هَذَا بِعَقْدِهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تَدْخُلُ بِتَمَيُّزِ الْحُقُوقِ عِنْدَ التَّسَاوِي، كَالسَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ، وَالْبُدَاءَةِ بِالْمَبِيتِ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ، وَتَعْيِينِ الْأَنْصِبَاءِ فِي الْقِسْمَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُجْبِرُهُمَا السُّلْطَانُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً، فَإِنْ أَبَيَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِنَا الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إمْضَاءُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَوَجَبَ إزَالَةُ الضَّرَرِ بِالتَّفْرِيقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: النِّكَاحُ مَفْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إمْضَاؤُهُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ لَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ إشْكَالِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَزُولُ إلَّا بِفَسْخِهِ، كَذَا هَاهُنَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّهَا تُخَيَّرُ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَتْهُ فَهُوَ زَوْجُهَا. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِزَوْجٍ لَهَا، فَلَمْ تُخَيَّرْ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْقِدْ إلَّا أَحَدُهُمَا، أَوْ كَمَا لَوْ أَشْكَلَ عَلَى الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ فِي النِّسَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا، إلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ أَحَدَهُمَا، فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ، ثُمَّ عَقَدَ الْمُخْتَارُ نِكَاحَهَا فَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا، عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا جَمِيعًا، وَبِفَسْخِ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ عَنْ فَسْخِهِمَا. فَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَخْتَارَ، لَمْ تُجْبَرْ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمَا، لَمْ تُجْبَرْ عَلَى نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ زَوْجُهَا، فَيَتَعَيَّنُ إذًا فَسْخُ النِّكَاحَيْنِ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الْحَالِ، إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ بِهَا، لَمْ تَنْكِحْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ وَطْئِهِ. [ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّنِي السَّابِقُ بِالْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا] (5244) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّنِي السَّابِقُ بِالْعَقْدِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا. وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُقْبَلُ: كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ ابْتِدَاءً. وَلَنَا أَنَّ الْخَصْمَ فِي ذَلِكَ هُوَ الزَّوْجُ الْآخَرُ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ عَلَيْهِ بِطَلَاقٍ. وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجَانِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّهَا تَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا، فَأَنْكَرَتْ، لَمْ تُسْتَحْلَفْ لِذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُسْتَحْلَفُ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهَا مَقْبُولٌ. فَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا، لِاخْتِيَارِهَا لِصَاحِبِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 أَوْ لِوُقُوعِ الْقُرْعَةِ لَهُ، وَأَقَرَّتْ لَهُ أَنَّ عَقْدَهُ سَابِقٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهَا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ مُنَازِعٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ عَقْدٍ آخَرَ. [إنْ عُلِمَ أَنَّ عَقْدَيْ النِّكَاحِ وَقَعَا مَعًا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ] (5245) فَصْلٌ: وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْعَقْدَيْنِ وَقَعَا مَعًا، لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَهُمَا بَاطِلَانِ لَا حَاجَةَ إلَى فَسْخِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا بَاطِلَانِ مِنْ أَصْلِهِمَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُمَا، وَلَا يَرِثُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ فُسِخَ نِكَاحُهُمَا، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَيَقْتَرِعَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ، وَقَدْ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهُمَا مُجْبَرَانِ عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُمَا مَهْرٌ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَ رَجُلٍ لِعُسْرِهِ أَوْ عُنَّتِهِ. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ الْفَسْخِ وَالطَّلَاقِ فَلِأَحَدِهِمَا نِصْفُ مِيرَاثِهَا، فَيُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، حَلَفَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَوَرِثَ. وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجَانِ، فَلَهَا رُبْعُ مِيرَاثِ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَقَرَّتْ أَنَّ أَحَدَهُمَا سَابِقٌ بِالْعَقْدِ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْ الْآخَرِ، وَهِيَ تَدَّعِي رُبْعَ مِيرَاثِ مَنْ أَقَرَّتْ لَهُ. فَإِنْ كَانَ قَدْ ادَّعَى ذَلِكَ أَيْضًا دَفَعَ إلَيْهَا رُبْعَ مِيرَاثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ادَّعَى ذَلِكَ وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، فَإِنْ نَكَلُوا قُضِيَ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ أَقَرَّتْ بِسَبْقِ أَحَدِهِمَا، اُحْتُمِلَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَبْرَأَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ فَلَهَا رُبْعُ مِيرَاثِهِ. وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ، زَوَّجَ إحْدَاهُنَّ مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيَّتَهنَّ زَوَّجَ؟ يُقْرَعُ بَيْنَهُنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَهِيَ الَّتِي تَرِثُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ السَّابِقُ فِي النِّكَاحِ فَأَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا] . (5246) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ السَّابِقُ فَأَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ، وَجَبَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِإِقْرَارِهِ لَهَا بِهِ، وَإِقْرَارِهَا بِبَرَاءَةِ صَاحِبِهِ. وَإِنْ مَاتَا، وَرِثَتْ الْمُقَرَّ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ قَبْلَهُمَا، اُحْتُمِلَ أَنْ يَرِثَهَا الْمُقَرُّ لَهُ كَمَا تَرِثُهُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهَا لَهُ، كَمَا لَمْ تَقْبَلْهُ فِي نَفْسِهَا. وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ لِأَحَدِهِمَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ فِي حَيَاتِهِ. وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِنْكَارُ لِاسْتِحْقَاقِهَا؛ لِأَنَّ مَوْرُوثَهُ قَدْ أَقَرَّ لَهَا بِدَعْوَاهُ صِحَّةَ نِكَاحِهَا وَسَبْقَهُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لَهَا مِيرَاثُ مَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ أَصَابَهَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُقَرُّ لَهُ، أَوْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَهَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهَا بِهِ، وَهِيَ لَا تَدَّعِي سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُقِرَّةً لِلْآخَرِ، فَهِيَ تَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهُوَ يُقِرُّ لَهَا بِالْمُسَمَّى. فَإِنْ اسْتَوَيَا أَوْ اصْطَلَحَا، فَلَا كَلَامَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ، حَلَفَ عَلَى الزَّائِدِ، وَسَقَطَ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ، فَهُوَ مُقِرٌّ لَهَا بِالزِّيَادَةِ، وَهِيَ تُنْكِرُهَا، فَلَا تَسْتَحِقُّهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ابْتِدَاءً فَأَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ] (5247) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ابْتِدَاءً، فَأَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ، ثَبَتَ النِّكَاحُ وَتَوَارَثَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهَا رَشِيدَةٌ أَقَرَّتْ بِعَقْدٍ، يَلْزَمُهَا حُكْمُهُ، فَقُبِلَ إقْرَارُهَا، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ أَنَّ وَلِيَّهَا بَاعَ أَمَتَهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا، فَأَنْكَرَ أَبُوهَا تَزْوِيجَهَا، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ عَيَّنَهُمَا، فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَأَنْكَرَ الشَّاهِدَانِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ الْإِنْكَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهَا مَعَ إنْكَارِ أَبِيهَا؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا إلَيْهِ دُونَهَا. فَإِنْ ادَّعَى نِكَاحَهَا، فَلَمْ تُصَدِّقْهُ حَتَّى مَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ بِمَا قَالَ، وَرِثَتْهُ؛ لِكَمَالِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بِتَصْدِيقِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ دُونَهُ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصَدِّقَهَا، لَمْ تَرِثْهُ. وَإِنْ مَاتَتْ فَصَدَّقَهَا، وَرِثَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ] (5248) قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ نَكَحَ لَمْ يَنْعَقِدْ نِكَاحُهُ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ -، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقِفُ عَلَى الْفَسْخِ، فَوَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ، كَالْوَصِيَّةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَهُوَ عَاهِرٌ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَهُوَ زَانٍ.» قَالَ حَنْبَلٌ: ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ فَقَدَ شَرْطَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 [زَوَاجُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ] (5249) ؛ قَالَ: فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَى سَيِّدِهِ خُمْسَا الْمَهْرِ. كَمَا قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ الْخُمْسَانِ قِيمَتَهُ، فَلَا يَلْزَمُ سَيِّدَهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمُهُ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ فُصُولٍ: (5250) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ، وَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ بَاطِلٌ، فَلَا نُوجِبُ بِمُجَرَّدِهِ شَيْئًا، كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ. وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، لَا نُوجِبُ بِمُجَرَّدِهَا شَيْئًا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُصِيبَهَا، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ. رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَرَوَى عَنْهُ حَنْبَلٌ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَهَذَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي عَدَمِ الصَّدَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ إذَا تَزَوَّجَ مَمْلُوكٌ لِابْنِ عُمَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، جَلَدَهُ الْحَدَّ، وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إنَّك أَبَحْت فَرْجَك. وَأَبْطَلَ صَدَاقَهَا. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً مُطَاوِعَةً فِي غَيْرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ مَهْرٌ، كَالْمُطَاوِعَةِ عَلَى الزِّنَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، فَأَمَّا إنْ جَهِلَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا فِي الْحَالِ، بَلْ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ لَزِمَهُ بِرِضَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَكَانَ مَحَلُّهُ الذِّمَّةَ، كَالدَّيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا.» وَهَذَا قَدْ اسْتَحَلَّ فَرْجَهَا، فَيَكُونُ مَهْرُهَا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الْبُضْعِ بِاسْمِ النِّكَاحِ، فَكَانَ الْمَهْرُ وَاجِبًا، كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. [فَصْلُ الْمَهْرُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ] (5251) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَهْرَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، يُبَاعُ فِيهِ إلَّا بِفِدْيَةِ السَّيِّدِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا احْتِمَالًا آخَرَ: أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ إلَّا أَنَّ الْوَطْءَ أُجْرِيَ مُجْرَى الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْمَهْرُ هَاهُنَا، وَفِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَوْ لَمْ تَجْرِ مَجْرَاهَا مَا وَجَبَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلُ الْوَاجِبُ مِنْ مَهْرِ الْعَبْدِ خُمْسَاهُ] (5252) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْمَهْرِ خُمْسَاهُ. وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَمِلَ بِهِ أَبُو مُوسَى. وَعَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 أَحْمَدَ أَنَّهَا إنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ، فَلَهَا خُمْسَا الْمَهْرِ، وَإِذَا لَمْ تَعْلَمْ فَلَهَا الْمَهْرُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. وَعَنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يُوجِبُ الْمَهْرَ، فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ بِكَمَالِهِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَفِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. وَوَجْهُ الْأُولَى مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ خِلَاسٍ، أَنَّ غُلَامًا لِأَبِي مُوسَى تَزَوَّجَ بِمَوْلَاةِ تِيجَانَ التَّيْمِيِّ، بِغَيْرِ إذْنِ أَبِي مُوسَى، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُثْمَانُ، أَنْ فَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَخُذْ لَهَا الْخُمْسَيْنِ مِنْ صَدَاقِهَا. وَكَانَ صَدَاقُهَا خَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ. وَلِأَنَّ الْمَهْرَ أَحَدُ مُوجِبِي الْوَطْءِ، فَجَازَ أَنْ يَنْقُصَ الْعَبْدُ فِيهِ عَنْ الْحُرِّ كَالْحَدِّ فِيهِ؛ أَوْ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي النِّكَاحِ، فَيَنْقُصَ الْعَبْدُ، كَعَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجِبُ خُمْسَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِيهِ إلَى قِصَّةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ أَوْجَبَ خُمْسَيْ الْمُسَمَّى، وَلِهَذَا قَالَ: وَكَانَ صَدَاقُهَا خَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ. وَلِأَنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْجَبَ جَمِيعَهُ، كَسَائِرِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَأَوْجَبَ الْقِيمَةَ، وَهِيَ الْأَثْمَانُ دُونَ الْأَبْعِرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَجِبُ خُمْسَا مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى قِيمَةِ الْمَحَلِّ، كَسَائِرِ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيمَةُ الْمَحَلِّ مَهْرُ الْمِثْلِ. [فَصْلُ الْوَاجِبُ مِنْ مَهْرِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ لَمْ تَلْزَمْ السَّيِّدَ الزِّيَادَةُ] (5254) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاجِبَ إنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، لَمْ تَلْزَمْ السَّيِّدَ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا أَعْطَى الْقِيمَةَ فَقَدْ أَعْطَى مَا يُقَابِلُ الرَّقَبَةَ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَالْخِيرَةُ فِي تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَفِدَائِهِ إلَى السَّيِّدِ. وَهَذَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا. [فَصْلٌ أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي تَزْوِيجِهِ فَنَكَحَ غَيْرَ ذَلِكَ] (5255) فَصْلٌ: إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي تَزْوِيجِهِ بِمُعَيَّنَةٍ، أَوْ مِنْ بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ، فَنَكَحَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجٍ صَحِيحٍ، فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ، وَأَطْلَقَ، فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا، اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي النِّكَاحِ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ إذْنُهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُهُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَحَصَلَتْ الْإِصَابَةُ فِيهِ، فَعَلَى سَيِّدِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَأَصَابَهَا وَوَلَدَتْ مِنْهُ] [فَصْلُ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِالْغُرُورِ] (5256) ؛ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَأَصَابَهَا، وَوَلَدَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُمْ، وَالْمَهْرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْإِمَاءَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ، فَرَضِيَ بِالْمُقَامِ، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ الرِّضَى فَهُوَ رَقِيقٌ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةُ فُصُولٍ: (5257) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِالْغُرُورِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى حُرَّةٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْفَرَسَ. فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ. وَلَنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ الشَّخْصُ دُونَ الصِّفَاتِ، فَلَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهَا فِي صِحَّتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك هَذِهِ الْبَيْضَاءَ. فَإِذَا هِيَ سَوْدَاءُ. أَوْ هَذِهِ الْحَسْنَاءَ. فَإِذَا هِيَ شَوْهَاءُ. وَكَذَا يَقُولُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ: إنَّ الْعَقْدَ الَّذِي ذَكَرُوهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَيْنُ الْمُشَارُ إلَيْهَا. وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَّ فَاتَتْ الذَّاتُ، فَإِنَّ ذَاتَ الْفَرَسِ غَيْرُ ذَاتِ الْحِمَارِ، وَهَاهُنَا اخْتَلَفَا فِي الصِّفَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يُؤَثِّرُ فِيهِ فَوَاتُ الصِّفَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُرَدُّ بِفَوَاتِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مِنْهَا، وَالنِّكَاحُ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ أَوْلَادُ الْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا أَمَةٌ أَحْرَارٌ] (5258) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَوْلَادَهُ مِنْهَا أَحْرَارٌ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ حُرِّيَّتَهَا. فَكَانَ أَوْلَادُهُ أَحْرَارًا؛ لِاعْتِقَادِهِ مَا يَقْتَضِي حُرِّيَّتَهُمْ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِبَائِعِهَا، فَبَانَتْ مَغْصُوبَةً بَعْدَ أَنْ أَوْلَدَهَا. [فَصْلٌ عَلَى الزَّوْجِ فِدَاءُ أَوْلَادِهِ مِنْ الْحُرَّةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا أَمَةٌ] (5259) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ فِدَاءَ أَوْلَادِهِ. كَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَيْسَ عَلَيْهِ فِدَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ حُرَّ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: افْدِ أَوْلَادَك، وَإِلَّا فَهُمْ يَتْبَعُونَ أُمَّهُمْ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ فِدَائِهِمْ وَبَيْنَ تَرْكِهِمْ رَقِيقًا؛ لِأَنَّهُمْ رَقِيقٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِدَاؤُهُمْ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ رِقَّهَا. وَقَالَ الْخَلَّالُ: اتَّفَقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يَفْدِي وَلَدَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ: إنَّ الْوَلَدَ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُمْ. وَأَحْسَبُهُ قَوْلًا أَوَّلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ فِدَاءَهُمْ؛ لِقَضَاءِ الصَّحَابَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - بِهِ، وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمَالِكِهَا. وَقَدْ فَوَّتَ رِقَّهُ بِاعْتِقَادِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُمْ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ رِقَّهُمْ بِفِعْلِهِ. وَفِي فِدَائِهِمْ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: (5260) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي وَقْتِهِ، وَذَلِكَ حِينَ وَضْعِ الْوَلَدِ. قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَضْمَنُهُمْ بِقِيمَتِهِمْ يَوْمَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُهُمْ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ إلَّا حَالَ الْخُصُومَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ عِنْدَ الْوَضْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ رِقُّهُ مِنْ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي تَزِيدُ بَعْدَ الْوَضْعِ، لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِ الْأَمَةِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا بَعْدَ الْخُصُومَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ مَحْكُومًا بِحُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ جَنِينٌ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُهُ حِينَئِذٍ، لِعَدَمِ قِيمَتِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، فَأَوْجَبْنَا ضَمَانَهُ فِي أَوَّلِ حَالٍ يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ، وَهُوَ حَالُ الْوَضْعِ. (5261) فِي صِفَةِ الْفِدَاءِ، وَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ بِقِيمَتِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ.» وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ مِنْ الْمُتَقَوَّمَاتِ، لَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيَجِبُ ضَمَانُهُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَالثَّانِيَةُ: يَضْمَنُهُمْ بِمِثْلِهِمْ عَبِيدًا، الذَّكَرُ بِذَكَرٍ، وَالْأُنْثَى بِأُنْثَى؛ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: أَبَقَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ، وَانْتَمَتْ إلَى بَعْضِ الْعَرَبِ، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، ثُمَّ إنَّ سَيِّدَهَا دَبَّ، فَاسْتَاقَهَا وَاسْتَاقَ وَلَدَهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى لِلْعُذْرِيِّ بِفِدَاءِ وَلَدِهِ بِغُرَّةٍ، غُرَّةٌ مَكَانَ كُلِّ غُلَامٍ، وَمَكَانَ كُلِّ جَارِيَةٍ بِجَارِيَةٍ، وَكَانَ عُمَرُ يُقَوِّمُ الْغُرَّةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ لَمْ يَجِدْ غُرَّةً سِتِّينَ دِينَارًا. وَلِأَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ حُرٌّ، فَلَا يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْأَحْرَارِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى مِثْلِهِمْ فِي الصِّفَاتِ تَقْرِيبًا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ مِثْلُهُمْ فِي الْقِيمَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّالِثَةُ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِمْ بِمِثْلِهِمْ أَوْ قِيمَتِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إمَّا الْقِيمَةُ أَوْ رَأْسٌ بِرَأْسٍ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يُرْوَيَانِ عَنْ عُمَرَ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي أَيَّ الْإِسْنَادَيْنِ أَقْوَى. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ فِي الْمُقْنِعِ: الْفِدْيَةُ غُرَّةٌ بِغُرَّةٍ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَأَيُّهُمَا أَعْطَى أَجْزَأَهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْجَنِينِ الَّذِي يُضْمَنُ بِغُرَّةٍ، وَبَيْنَ إلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَضْمُونَاتِ، فَاقْتَضَى التَّخْيِيرَ بَيْنَهُمَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، كَسَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ الْمُتَقَوَّمَاتِ. وَقَوْلُ عُمَرَ قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِيهِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ، وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْقِيَاسِ. (5262) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَنْ يُضْمَنُ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَنْ وُلِدَ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، سَوَاءٌ عَاشَ أَوْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ لِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْخُصُومَةِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى وَقْتِ الضَّمَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا السُّقْطُ، وَمَنْ وُلِدَ لِوَقْتٍ لَا يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، وَهُوَ دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ. (5263) [فَصْلٌ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَقَدْ نَكَحَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا] الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمَهْرِ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَقَدْ نَكَحَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا، فَلَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاخْتَارَ الْفَسْخَ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ تَعَذَّرَ مِنْ جِهَتِهَا، فَهِيَ كَالْمَعِيبَةِ يُفْسَخُ نِكَاحُهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا مَهْرَ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا. وَهَلْ يَجِبُ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، لَكِنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْسُدُ بِهِ النِّكَاحُ. [فَصْلٌ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْأَوْلَادِ] (5264) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، فِي الْمَهْرِ وَقِيمَةُ الْأَوْلَادِ. وَهَذَا اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْعٌ وَصَلَ إلَيْهِ وَهُوَ الْوَطْءُ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَغْصُوبًا فَأَكَلَهُ، بِخِلَافِ قِيمَةِ الْوَلَدِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَحُرِّيَّةُ الْوَلَدِ لِلْوَلَدِ لَا لِأَبِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ، ثُمَّ كَأَنِّي هِبْته، وَكَأَنَّى أَمِيلُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ يَعْنِي فِي الرُّجُوعِ. وَلِأَنَّ الْعَاقِدَ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَطْءِ، كَمَا ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 فَكَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ كَذَلِكَ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْخِدْمَةِ إذَا غَرِمَهَا، كَمَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ، وَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا فَرْقًا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ السَّيِّدِ فَقَالَ: هِيَ حُرَّةٌ. عَتَقَتْ. وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ غَيْرِ هَذَا، لَمْ تَثْبُتْ بِهِ الْحُرِّيَّةُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَجِبَ لَهُ مَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ وَكِيلِهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، رَجَعَ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهَا فِي الْحَالِ مَالٌ، فَيَتَخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى دَيْنِ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، هَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؟ قَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَةِ إذَا خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا: يَتْبَعُهَا بِهِ إذَا عَتَقَتْ كَذَا هَاهُنَا، وَيَتْبَعُهَا بِجَمِيعِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْغُرُورَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَمَةِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا جَاءَتْ الْأَمَةُ فَقَالَتْ: إنِّي حُرَّةٌ. فَوَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا، فَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهَا مَوْلَاهَا، قَالَ: فِكَاكُ وَلَدِهِ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا إذَا غَرَّهُ رَجُلٌ، فَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَالْفِدَاءُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ. يُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمَ وَحَمَّادٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا. فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهَا بِقِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِمَّا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا، أَوْ يُسَلِّمُهَا، فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهَا بِقِيمَتِهَا، سَقَطَ قَدْرُ ذَلِكَ عَنْ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ نُوجِبَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَرُدَّهُ إلَيْهِ. وَإِنْ اخْتَارَ تَسْلِيمَهَا، سَلَّمَهَا، وَأَخَذَ مَا وَجَبَ لَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْغُرُورَ الْمُوجِبَ لِلرُّجُوعِ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَيَقُولُ: زَوَّجْتُكهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ تَمْلِكْ الْفَسْخَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ قَضَوْا بِالرُّجُوعِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْوَاعِ الْغُرُورِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ هَكَذَا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ فِي الْعُقُودِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ قَضَائِهِمْ الْمُطْلَقِ عَلَى صُورَةٍ نَادِرَةٍ لَمْ تُنْقَلْ؛ وَلِأَنَّ الْغُرُورَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَلَا لَفْظَ لَهَا فِي الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ مَتَى أَخْبَرَهُ بِحُرِّيَّتِهَا، أَوْ أَوْهَمَهُ ذَلِكَ بِقَرَائِنَ تَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ حُرِّيَّتَهَا، فَنَكَحَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَرَغِبَ فِيهَا بِنَاءً عَلَيْهِ، وَأَصْدَقَهَا صَدَاقَ الْحَرَائِرِ، ثُمَّ لَزِمَهُ الْغُرْمُ، فَقَدْ اسْتَضَرَّ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْمُخْبِرِ لَهُ وَالْغَارِّ، فَتَجِبُ إزَالَةُ الضَّرَرِ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِ الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَأَضَرَّ بِهِ فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَالرُّجُوعُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْغُرُرُ مِنْهَا وَمِنْ الْوَكِيلِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَانَ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْإِمَاءِ] (5265) الْفَصْلُ السَّادِسُ: أَنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَهُوَ مَنْ يَجِدُ الطَّوْلَ، أَوْ لَا يَخْشَى الْعَنَتَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّنَا بَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِعَدَمِ شَرْطِهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، أَوْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَكَانَتْ شَرَائِطُ النِّكَاحِ مُجْتَمِعَةً، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ " فَرَضِيَ بِالْمُقَامِ " مَعَهَا، وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ غُرَّ فِيهِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِحُرِّيَّةِ الْآخَرِ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ كَالْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ، وَرِقِّ امْرَأَتِهِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ فَقْدِ الْكَفَاءَةِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ نِصْفَ الْمُسَمَّى، وَالْفَسْخُ يُسْقِطُ جَمِيعَهُ، فَإِذَا فَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ رَضِيَ بِالْمُقَامِ مَعَهَا، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ رِقِّهِمْ فِي الْغُرُورِ اعْتِقَادُ الزَّوْجِ حُرِّيَّتَهَا، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ عِلْمِهِ، فَعَلِقَتْ مِنْهُ، ثُمَّ عَلِمَ قَبْلَ الْوَضْعِ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا يَعْتَقِدُ حُرِّيَّتَهَا. [فَصْلٌ الْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ كَالْأَمَةِ الْقِنِّ] فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ، كَالْأَمَةِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِالرِّقِّ، إلَّا أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ يُقَوَّمُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ حُكْمُ أُمِّهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أُعْتِقَ بَعْضُهَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا فَدَى الْوَلَدَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا فِدَاءُ مَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ؛ لِأَنَّ بَقِيَّتَهُ حُرٌّ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، لَا بِاعْتِقَادِ الْوَطْءِ. فَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ مَهْرَهَا لَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا، وَكَسْبَهَا لَهَا. وَتَجِبُ قِيمَةُ وَلَدِهَا، عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَكُونُ ذَلِكَ لَهَا تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا. فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا، فَلَا شَيْءَ لَهَا، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ شَيْءٍ لَهَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ غَيْرِهَا، غَرِمَهُ لَهَا، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ. [فَصْلٌ لَا يَثْبُتُ أَنَّهَا أَمَةٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى] (5267) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهَا أَمَةٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَإِنْ أَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، ثَبَتَ. وَإِنْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا أَمَةٌ، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يَسْتَحِقُّهَا بِإِقْرَارِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إقْرَارَهَا يُزِيلُ النِّكَاحَ عَنْهَا، وَيُثْبِتُ حَقًّا عَلَى غَيْرِهَا، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَإِقْرَارِهَا بِمَالٍ عَلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا شَيْءَ لَهُ حَتَّى يُثْبِتَ، أَوْ تُقِرَّ هِيَ أَنَّهَا أَمَتُهُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُقْبَلُ إقْرَارُهَا؛ لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِالرِّقِّ، أَشْبَهَ غَيْرَ الزَّوْجَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ إقْرَارُهَا بِالرِّقِّ بَعْدَ إقْرَارِهَا بِالْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 [فَصْلٌ حَمَلَتْ الْمَغْرُورُ بِهَا فَضَرَبَ بَطْنَهَا ضَارِبٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا] (5268) فَصْلٌ: إذَا حَمَلَتْ الْمَغْرُورُ بِهَا، فَضَرَبَ بَطْنَهَا ضَارِبٌ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَعَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَنِينَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، وَيَرِثُهَا وَرَثَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَعَلَى الضَّارِبِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ. وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ أَبَاهُ، لَمْ يَرِثْهُ، وَوَرِثَهُ أَقَارِبُهُ. وَلَا يَجِبُ بَذْلُ هَذَا الْوَلَدِ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بَذْلَ حَيٍّ، وَهَذَا مَيِّتٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ فَوَّتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاعْتِقَادِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَوْلَاهُ لَوَجَبَ لَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ] (5269) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ. وَهَذَا إذَا كَمُلَتْ شُرُوطُ النِّكَاحِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً، وَقُلْنَا: الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ. أَوْ أَنَّ فَقْدَ الْكَفَاءَةِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ. فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَتْ إمْضَاءَهُ فَلِأَوْلِيَائِهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَبْدِ إذَا غُرَّ بِأَمَةٍ، ثَبَتَ لِلْأَمَةِ إذَا غُرَّتْ بِعَبْدٍ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ الْمُسَمَّى، عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ فُسِخَ النِّكَاحُ مَعَ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ طَرَأَ عَلَى نِكَاحٍ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ. [فَصْلٌ غَرَّهَا بِنَسَبٍ فَبَانَ دُونَهُ] (5270) فَصْلٌ: فَإِنْ غَرَّهَا بِنَسَبٍ، فَبَانَ دُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُخِلًّا بِالْكَفَاءَةِ، وَقُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، فَلَهَا الْخِيَارُ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْإِمْضَاءَ، فَلِأَوْلِيَائِهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِالْكَفَاءَةِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي النِّكَاحِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرْطُهُ فَقِيهًا، فَبَانَ بِخِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَتْ غَيْرَ النَّسَبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَافِئٍ لَهَا فِي النَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْكَفَاءَةِ، كَالْفِقْهِ وَالْجَمَالِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْتَبَرْ فِي النِّكَاحِ، فَلَا يُؤَثِّرُ اشْتِرَاطُهُ. وَذُكِرَ فِيمَا إذَا بَانَ نَسَبُهُ دُونَ مَا ذُكِرَ وَجْهٌ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا إنْ لَمْ يُخِلَّ بِالْكَفَاءَةِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [إنْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا فَوَلَدُهُ أَحْرَارٌ] (5271) قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا فَوَلَدُهُ أَحْرَارٌ، وَيَفْدِيهِمْ إذَا عَتَقَ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَغْرُورَ إذَا كَانَ عَبْدًا، فَوَلَدُهُ أَحْرَارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ أَبَوَيْهِ رَقِيقٌ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ وَطِئَهَا مُعْتَقِدًا حُرِّيَّتَهَا، فَكَانَ وَلَدُهُ حُرًّا، كَوَلَدِ الْحُرِّ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْحُرِّيَّةِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ رَقِيقًا، فَإِنَّ عِلَّةَ رِقِّ الْوَلَدِ رِقُّ الْأُمِّ خَاصَّةً، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالِ الْأَبِ، بِدَلِيلِ وَلَدِ الْحُرِّ مِنْ الْأَمَةِ، وَوَلَدِ الْحُرَّةِ مِنْ الْعَبْدِ. وَعَلَى الْعَبْدِ فِدَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُمْ بِاعْتِقَادِهِ وَفِعْلِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ فِي الْحَالِ، فَيُخَرَّجُ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ. وَالثَّانِي، بِذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، بِمَنْزِلَةِ عِوَضِ الْخُلْعِ مِنْ الْأَمَةِ إذَا بَذَلَتْهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا. وَيُفَارِقُ الِاسْتِدَانَةَ وَالْجِنَايَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَدَانَ أَتْلَفَ مَالَ الْغَرِيمِ، فَكَانَ جِنَايَةً مِنْهُ، وَهَاهُنَا لَمْ يَجْنِ فِي الْأَوْلَادِ جِنَايَةً، وَإِنَّمَا عَتَقُوا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْهُمْ عِوَضٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَيَرْجِعُ بِهِ حِينَ يَغْرَمُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لَهُ بَذْلُ مَا لَمْ يَفُتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَتَتَعَجَّلُ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْفِدَاءَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. وَجَبَ فِي الْحَالِ، وَيَرْجِعُ بِهِ سَيِّدُهُ فِي الْحَالِ، وَيَثْبُتُ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ، كَمَا ثَبَتَ لِلْحُرِّ لِمَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي رِقِّ وَلَدِهِ، وَنَقْصًا فِي اسْتِمْتَاعِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَبِيتُ مَعَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ صِفَةً لَا يَنْقُصُ بِهَا عَنْ رُتْبَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ نَسَبَ امْرَأَةٍ فَبَانَتْ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِنَسَبِهِ، بِخِلَافِ تَغْرِيرِ الْحُرِّ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا خِيَارَ لَهُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ قَوْلَانِ وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا اخْتَارَ الْإِقَامَةَ، فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ، لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَالنِّكَاحُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَفِي الرُّجُوعِ بِهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَفِي قَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: الْخُمْسَانِ. وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي النِّكَاحِ أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَبَانَتْ كَافِرَةً] (5272) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ، فَبَانَتْ كَافِرَةً، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ وَضَرَرٌ يَتَعَدَّى إلَى الْوَلَدِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَهَا حُرَّةً فَبَانَتْ أَمَةً. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي النِّكَاحِ بِكْرًا فَبَانَتْ ثَيِّبًا] (5273) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَهَا بِكْرًا، فَبَانَتْ ثَيِّبًا. فَعَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُرَدُّ فِيهِ بِعَيْبٍ سِوَى ثَمَانِيَةِ عُيُوبٍ، فَلَا يُرَدُّ مِنْهُ بِمُخَالَفَةِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي، لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ صِفَةً مَقْصُودَةً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 فَبَانَ خِلَافُهَا، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَهَا ذَاتَ نَسَبٍ، فَبَانَتْ دُونَهُ، أَوْ شَرَطَهَا بَيْضَاءَ، فَبَانَتْ سَوْدَاءَ، أَوْ شَرَطَهَا طَوِيلَةً، فَبَانَتْ قَصِيرَةً، أَوْ حَسْنَاءَ فَبَانَتْ شَوْهَاءَ، خُرِّجَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَجْهَانِ. وَنَحْوُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْقِيَاسُ أَنَّ لَهُ الرَّدَّ إنْ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعًا فَالْإِجْمَاعُ أَوْلَى مِنْ النَّظَرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا ثَوْرٍ عَلَى مَقَالَتِهِ. وَمِمَّنْ أَلْزَمَ الزَّوْجَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهَا الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَمْ يَجِدْهَا عَذْرَاءَ، كَانَتْ الْحَيْضَةُ خَرَقَتْ عُذْرَتَهَا، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ عَائِشَةُ إنَّ الْحَيْضَةَ تُذْهِبُ الْعُذْرَةَ يَقِينًا. وَعَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَجِدْ امْرَأَتَهُ عَذْرَاءَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، الْعُذْرَةُ تُذْهِبُهَا الْوَثْبَةُ، وَكَثْرَةُ الْحَيْضِ، وَالتَّعَنُّسُ، وَالْحِمْلُ الثَّقِيلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا حُرَّةً فَبَانَتْ أَمَةً أَوْ يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فَبَانَتْ كَافِرَةً] (5274) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا حُرَّةً، فَبَانَتْ أَمَةً، أَوْ يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً، فَبَانَتْ كَافِرَةً، أَوْ تَزَوَّجَتْ عَبْدًا تَظُنُّهُ حُرًّا، فَلَهُمْ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ شَرَطُوا ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ عَبْدًا تَظُنُّهُ حُرًّا، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَمَةِ: لَا خِيَارَ لَهُ. وَفِي الْكَافِرَةِ: لَهُ الْخِيَارُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِمَا جَمِيعًا قَوْلَانِ. وَلَنَا أَنَّ بَعْضَ الرِّقِّ أَعْظَمُ ضَرَرًا، فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي رِقِّ وَلَدِهِ، وَيَمْنَعُ كَمَالَ اسْتِمْتَاعِهِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ كَافِرَةً. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي النِّكَاحِ أَمَةً فَبَانَتْ حُرَّةً] (5275) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَهَا أَمَةً، فَبَانَتْ حُرَّةً، أَوْ ذَاتَ نَسَبٍ، فَبَانَتْ أَشْرَفَ مِنْهُ، أَوْ عَلَى صِفَةٍ دَنِيئَةٍ، فَبَانَتْ خَيْرًا مِنْ شَرْطِهِ، أَوْ كَافِرَةً، فَبَانَتْ مُسْلِمَةً، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَهُ الْخِيَارُ إذَا بَانَتْ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْلٌ كُلُّ مَوْضِعٍ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَفَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ] (5276) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَفَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ فَسَخَ بَعْدَهُ، وَكَانَ التَّغْرِيرُ مِمَّنْ لَهُ الْمَهْرُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، يَدْفَعُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ، فَإِنْ كَانَ التَّغْرِيرُ مِنْ أَوْلِيَائِهَا، رَجَعَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْضَهُمْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الْغَارُّ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ سَوَاءٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 [قَالَ قَدْ جَعَلْت عِتْقَ أَمَتِي صَدَاقَهَا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ] (5277) ؛ قَالَ: وَإِذَا قَالَ: قَدْ جَعَلْت عِتْقَ أَمَتِي صَدَاقَهَا. بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ وَالنِّكَاحُ. وَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي قَدْ أَعْتَقْتهَا، وَجَعَلْت عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. كَانَ الْعِتْقُ وَالنِّكَاحُ أَيْضًا ثَابِتَيْنِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْعِتْقُ أَوْ تَأَخَّرَ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ فُصُولٍ: (5278) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفَعَلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَهُ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ: إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، يُوَكِّلُ رَجُلًا يُزَوِّجُهُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ هِيَ الصَّحِيحَةُ. وَاخْتَارَهَا الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إيجَابٌ وَقَبُولٌ، فَلَمْ يَصِحْ لِعَدَمِ أَرْكَانِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُك. وَسَكَتَ؛ وَلِأَنَّهَا بِالْعِتْقِ تَمْلِكُ نَفْسَهَا، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ رِضَاهَا، كَمَا لَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِحَقِّ الْمِلْكِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ الْوَطْءَ بِالْمُسَمَّى، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الْأَمَةَ، عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِيهَا بِالثَّمَنِ. لَمْ يَصِحَّ وَلَنَا مَا رَوَى أَنَسٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا. فَقُلْت: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفِيَّةَ. قَالَتْ: «أَعْتَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ عِتْقِي صَدَاقِي.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أُمَّ وَلَدِهِ، فَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَمَتَى ثَبَتَ الْعِتْقُ صَدَاقًا، ثَبَتَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَتَقَدَّمُ النِّكَاحَ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الْعِتْقُ عَنْ النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ انْعَقَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اسْتَأْنَفَ عَقْدًا، وَلَوْ اسْتَأْنَفَهُ لَظَهَرَ، وَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ غَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُ امْرَأَةٍ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ قَرَابَةٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، كَالْإِمَامِ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يُوجَدْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ. عَدِيمُ الْأَثَرِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمْ يَحْكُمُوا بِصِحَّتِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَعْلُ الْعِتْقِ صَدَاقًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً هُوَ وَلِيُّهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ: أَزَوَّجْت؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلزَّوْجِ: أَقَبِلْت؟ فَقَالَ: نَعَمْ. عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَكَمَا لَوْ أَتَى بِالْكِنَايَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 (5279) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُك، وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك وَتَزَوَّجْتُك وَبِذَلِكَ خَالِيًا عَنْ قَوْلِهِ: وَتَزَوَّجْتُك. وَهَذَا لَفْظُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَبِقَوْلِهِ: جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك. أَوْ جَعَلْت صَدَاقَك عِتْقَك. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: " سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْعِتْقُ أَوْ تَأَخَّرَ ". وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: إذَا قَالَ: جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك، أَوْ صَدَاقَك عِتْقَك. كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. (5280) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُك. وَسَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ قَالَ: جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْعِتْقِ حُرَّةً، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا بِصَدَاقٍ جَدِيدٍ. (5281) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إذَا قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ.» [فَصْلٌ طَلَاقُ الْأَمَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ] (5282) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ فِي نِصْفِ مَا فَرَضَ لَهَا، وَقَدْ فَرَضَ لَهَا نَفْسَهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي الرِّقِّ بَعْدَ زَوَالِهِ، فَرَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ نَفْسِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَرْجِعُ بِرُبْعِ قِيمَتِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأَوْجَبَ الرُّجُوعَ فِي النِّصْفِ، كَسَائِرِ الطَّلَاقِ. وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ حَالَةَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ الْإِتْلَافِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَهَلْ تُسْتَسْعَى فِيهَا، أَوْ تَكُونُ دَيْنًا تُنْظَرُ بِهِ إلَى حَالِ الْقُدْرَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِهَذَا الْقَوْلِ. فَعَلَيْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَرَجَعَ إلَى قِيمَةِ الْمُفَوَّتِ، كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَكَذَلِكَ إنْ قُلْنَا: إنَّ النِّكَاحَ انْعَقَدَ بِهِ. فَارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فَعَلَتْ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا، مِثْلَ أَنْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةً لَهُ صَغِيرَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَعَلَيْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا. [فَصْلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ أَعْتَقْتُك عَلَى أَنْ تُزَوِّجِينِي نَفْسَك] (5283) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُك عَلَى أَنْ تُزَوِّجِينِي نَفْسَك، وَيَكُونَ عِتْقُك صَدَاقَك. أَوْ لَمْ يَقُلْ: وَيَكُونَ عِتْقُك صَدَاقَك. فَقَبِلَتْ، عَتَقَتْ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ سَلَفٌ فِي نِكَاحٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَسْلَفَ حُرَّةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 أَلْفًا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنْ الْخِيَارِ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، كَالشَّفِيعِ يُسْقِطُ شُفْعَتَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَيَلْزَمُهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ مِنْهَا بِشَرْطِ عِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ، كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَتْ السِّلْعَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهَا شَيْءٌ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُك عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَزُفَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَفْظِ شَرْطٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُك، وَزَوِّجِينِي نَفْسَك. وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ حَالَةَ الْعِتْقِ، وَيُطَالِبُهَا بِهَا فِي الْحَالِ إنْ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً، فَهَلْ تُنْظَرُ إلَى الْمَيْسَرَةِ، أَوْ تُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَصْلُهُمَا فِي الْمُفْلِسِ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ اتَّفَقَ السَّيِّدُ وَأَمَتُهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا وَتُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ] (5284) فَصْلٌ: وَإِنْ اتَّفَقَ السَّيِّدُ وَأَمَتُهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا، وَتُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ، صَحَّ، وَلَا مَهْرَ لَهَا غَيْرَ مَا شَرَطَ مِنْ الْعِتْقِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ الْعِتْقُ صَدَاقًا، لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي لَهُ فِي ذِمَّتِهَا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ الْقِيمَةَ، صَحَّ الصَّدَاقُ. وَلَنَا أَنَّ الْعِتْقَ صَلَحَ صَدَاقًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجُوزُ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَالدَّرَاهِمِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفٍ. جَازَ، فَلَأَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ أَوْلَى، فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يُقْصَدُ فِيهِ الْعِوَضُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهَا، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعِتْقَ يَصِيرُ صَدَاقًا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهَا مَالًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا لِيَتَزَوَّجَهَا فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبَرْ، وَكَانَتْ لَهُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِهِ نَفْسَهَا، لَمْ يُجْبَرْ هُوَ عَلَى قَبُولِهَا. وَحُكْمُ الْمُدَبَّرَةِ، وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، حُكْمُ الْأَمَةِ الْقِنِّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ أَعْتَقَتْ امْرَأَةٌ عَبْدَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا] (5285) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَتْ امْرَأَةٌ عَبْدَهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، عَتَقَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلزَّوْجِ، وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ بِهِ، فَإِذَا اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ تُمَلِّكَهُ دَارًا. وَلَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ تَزَوُّجَهَا لَمْ تُجْبَرْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَهَا، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ شَرَطَ السَّيِّدُ عَلَى أَمَتِهِ أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ الْأَمَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا] (5286) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا، سَوَاءٌ أَعْتَقَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَعْتَقَهَا لِيَتَزَوَّجَهَا. وَكَرِهَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 أَنَسٌ تَزْوِيجَ مَنْ أَعْتَقَهَا لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعْتِقَ الْأَمَةَ، ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا أَعْتَقَهَا لِلَّهِ، كُرِهَ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ، فَعَلَّمَهَا، وَأَحْسَنَ إلَيْهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، فَذَلِكَ لَهُ أَجْرَانِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا، فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهَا بِإِعْفَافِهَا وَصِيَانَتِهَا، فَلَمْ يُكْرَهْ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا رُجُوعٌ فِيمَا جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا بِصَدَاقِهَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى مِنْهَا شَيْئًا. [فَصْلٌ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا] (5287) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا، لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَاءٍ، سَوَاءٌ كَانَ يَطَؤُهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِصِيَانَةِ الْمَاءِ، وَلَا يُصَانُ ذَلِكَ عَنْهُ. فَإِنْ اشْتَرَى أَمَةً فَأَعْتَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا، فَلَا يَسْقُطُ بِإِعْتَاقِهِ لَهَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ لَا يَطَؤُهَا فَيُعْتِقُهَا: لَا يَتَزَوَّجُهَا مِنْ يَوْمِهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، فَإِنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَأَعْتَقَهَا، تَزَوَّجَهَا مِنْ يَوْمِهِ، وَمَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّهَا فِي مَائِهِ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى قَوْلِهِ: إنْ كَانَ يَطَؤُهَا. أَيْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَهِيَ الَّتِي قَدْ اسْتَبْرَأَهَا. وَقَوْلِهِ: إنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا. أَيْ: لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا زَمَانُ الِاسْتِبْرَاءِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا. وَإِذَا مَضَى لَهَا بَعْضُ الِاسْتِبْرَاءِ قَبْلَ عِتْقِهَا، أَتَمَّتْهُ بَعْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَجَبَ بِالشِّرَاءِ، لَا بِالْعِتْقِ، فَيُحْسَبُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ وُجِدَ سَبَبُهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَنْ أُزَوِّجَك ابْنَتِي فَأَعْتَقَهُ] (5288) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك، عَلَى أَنْ أُزَوِّجَك ابْنَتِي. فَأَعْتَقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَفٌ فِي النِّكَاحِ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْعِتْقِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ عَبْدِهِ بِعِوَضٍ شَرَطَهُ، فَلَزِمَهُ عِوَضُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي، وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. وَكَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتَك، وَعَلَيَّ أَلْفٌ. فَطَلَّقَهَا، أَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْعِتْقِ. [قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ أَزَوَّجْت فَقَالَ نَعَمْ وَقَالَ لِلزَّوْجِ أَقَبِلْت فَقَالَ نَعَمْ] (5289) ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ: أَزَوَّجْت. فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلزَّوْجِ: أَقَبِلْت. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَدْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ إذَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ مَعَهُ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي، وَيَقُولَ الزَّوْجُ: قَبِلْت هَذَا التَّزْوِيجَ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ رُكْنَا الْعَقْدِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِمَا. وَلَنَا أَنَّ نَعَمْ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: أَزَوَّجْت وَقَبِلْت، وَالسُّؤَالُ يَكُونُ مُضْمَرًا فِي الْجَوَابِ مُعَادًا فِيهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى نَعَمْ مِنْ الْوَلِيِّ: زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي. وَمَعْنَى نَعَمْ مِنْ الْمُتَزَوِّجِ: قَبِلْت هَذَا التَّزْوِيجَ. وَلَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] كَانَ إقْرَارًا مِنْهُمْ بِوُجْدَانِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقًّا. وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. كَانَ إقْرَارًا صَحِيحًا لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَلَا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَبِمِثْلِهِ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي السَّرِقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ التَّزْوِيجُ، كَمَا لَوْ لَفَظَ بِذَلِكَ. [فَصْلٌ قَالَ زَوَّجْتُك ابْنَتِي فَقَالَ قَبِلْت] (5290) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي. فَقَالَ: قَبِلْت. انْعَقَدَ النِّكَاحُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ: قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي النِّكَاحِ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالْإِضْمَارِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ، كَلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. وَلَنَا أَنَّ الْقَبُولَ صَرِيحٌ فِي الْجَوَابِ، فَانْعَقَدَ بِهِ، كَمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ. وَقَوْلُهُمْ: يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ. مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ جَوَابٌ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَذْكُورِ. [فَصْلٌ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ] (5291) فَصْلٌ: وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا إجْمَاعًا، وَهُمَا اللَّذَانِ وَرَدَ بِهِمَا نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] . وَسَوَاءٌ اتَّفَقَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ اخْتَلَفَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُك بِنْتِي هَذِهِ. فَيَقُولَ: قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُد: يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ. وَفِي لَفْظِ الْإِجَارَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ إذَا ذَكَرَ الْمَهْرَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً، فَقَالَ: «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ تَزْوِيجُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ، كَلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؛ وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِمَجَازِهِ، فَوَجَبَ تَصْحِيحُهُ، كَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالْكِنَايَاتِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] . فَذَكَرَ ذَلِكَ خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ، كَلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا تُعْلَمُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ، لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ، وَبِهَذَا فَارَقَ بَقِيَّةَ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقَ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَقَدْ رُوِيَ: " زَوَّجْتُكَهَا " وَ " أَنْكَحْتُكَهَا " وَ " زَوَّجْنَاكَهَا ". مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ. وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَ رَوَى بِالْمَعْنَى ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْعَقَدَ بِأَحَدِهَا، وَالْبَاقِي فَضْلَةٌ. [فَصْلٌ مَنْ قَدَرَ عَلَى لَفْظِ النِّكَاحِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِهَا] (5292) فَصْلٌ: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى لَفْظِ النِّكَاحِ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِهَا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِهِ الْخَاصِّ، فَانْعَقَدَ بِهِ، كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَلَفْظِ الْإِحْلَالِ. فَأَمَّا مَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَيَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا سِوَاهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ كَالْأَخْرَسِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَعْنَاهُمَا الْخَاصِّ، بِحَيْثُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ. وَلَيْسَ عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ تَعَلُّمُ أَلْفَاظِ النِّكَاحِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَتْ الْعَرَبِيَّةُ شَرْطًا فِيهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، كَالتَّكْبِيرِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ النِّكَاحَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلَمْ يَجِبْ تَعَلُّمُ أَرْكَانِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ الْآخَرِ، أَتَى الَّذِي يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ بِهَا، وَالْآخَرُ يَأْتِي بِلِسَانِهِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يُحْسِنُ لِسَانَ الْآخَرِ، احْتَاجَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّفْظَةَ الَّتِي أَتَى بِهَا صَاحِبُهُ لَفْظَةُ الْإِنْكَاحِ، بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ يَعْرِفُ اللِّسَانَيْنِ جَمِيعًا. [فَصْلٌ الْأَخْرَسُ إنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ صَحَّ نِكَاحُهُ بِهَا] (5293) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ صَحَّ نِكَاحُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَصَحَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 بِإِشَارَتِهِ، كَبَيْعِهِ وَطَلَاقِهِ وَلِعَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ. كَمَا لَمْ يَصِحَّ غَيْرُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِهِ. وَلَوْ فَهِمَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ الْعَاقِدُ مَعَهُ، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَفْهَمَ الشُّهُودُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا لَا يُفْهَمُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُزَوِّجُهُ وَلِيُّهُ. يَعْنِي إذَا كَانَ بَالِغًا؛ لِأَنَّ الْخَرَسَ لَا يُوجِبُ الْحَجْرَ، فَهُوَ كَالصَّمَمِ. [فَصْلٌ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ فِي النِّكَاحِ] (5294) فَصْلٌ: إذَا تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ. لَمْ يَصِحَّ. رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: تَزَوَّجْت ابْنَتَك. فَيَقُولَ: زَوَّجْتُك. أَوْ بِلَفْظِ الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَك. فَيَقُولُ: زَوَّجْتُكَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، فَيَصِحُّ كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَبُولَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِيجَابِ، فَمَتَى وُجِدَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ قَبُولًا؛ لِعَدَمِ مَعْنَاهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الطَّلَبِ، لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا تَقَدَّمَ كَانَ أَوْلَى، كَصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالصِّيغَةِ الْمَشْرُوعَةِ مُتَقَدِّمَةً فَقَالَ: قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ. فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي. لَمْ يَصِحَّ، فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ إذَا أَتَى بِغَيْرِهَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ صِيغَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، بَلْ يَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ لَفْظٌ، بَلْ يَصِحُّ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ مِمَّا يُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَلَا يَلْزَمُ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشُّرُوطِ. [فَصْلٌ عَقَدَ النِّكَاحَ هَازِلًا أَوْ تَلْجِئَةً] (5295) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ النِّكَاحَ هَازِلًا أَوْ تَلْجِئَةً، صَحَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثٌ هَزْلُهُنَّ جِدٌّ، وَجِدُّهُنَّ جِدٌّ؛ الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالرَّجْعَةُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا، أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا، جَازَ.» وَقَالَ عُمَرُ أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إذَا تَكَلَّمَ بِهِنَّ؛ الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنَّذْرُ. وَقَالَ عَلِيٌّ أَرْبَعٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ. [فَصْلٌ تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ فِي النِّكَاحِ] (5296) فَصْلٌ: إذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ، صَحَّ، مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلَا عَنْهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَجْلِسِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ، وَثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبُولِ، بَطَلَ الْإِيجَابُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ قَدْ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهِ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَا يَكُونُ قَبُولًا. وَكَذَلِكَ إنْ تَشَاغَلَا عَنْهُ بِمَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْعَقْدِ أَيْضًا بِالِاشْتِغَالِ عَنْ قَبُولِهِ. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ مَشَى إلَيْهِ قَوْمٌ فَقَالُوا لَهُ: زَوِّجْ فُلَانًا. قَالَ: قَدْ زَوَّجْته عَلَى أَلْفٍ. فَرَجَعُوا إلَى الزَّوْجِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْت. هَلْ يَكُونُ هَذَا نِكَاحًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ مَنْ قَبِلَ الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَسْأَلَةُ أَبِي طَالِبٍ تَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَوْجَبَ النِّكَاحَ ثُمَّ زَالَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ] (5297) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْجَبَ النِّكَاحَ، ثُمَّ زَالَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ، بَطَلَ حُكْمُ الْإِيجَابِ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ بِالْقَبُولِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُضَامَّهُ الْقَبُولُ لَمْ يَكُنْ عَقْدًا، فَبَطَلَ بِزَوَالِ الْعَقْلِ، كَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِنَوْمٍ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ، فَكَذَلِكَ هَذَا. [فَصْلٌ لَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ خِيَارٌ] (5298) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ خِيَارٌ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بَعْدَ تَرَوٍّ، وَفِكْرٍ، وَمَسْأَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِحَالِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْوَاقِعِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِرُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ، وَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضِ، وَمَعَ فَسَادِهِ؛ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِيهِ يُفْضِي إلَى فَسْخِهِ بَعْدَ ابْتِذَالِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ فِي فَسْخِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ الصَّدَاقِ. [فَصْلٌ خُطْبَةُ النِّكَاحِ] (5299) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الْعَاقِدُ أَوْ غَيْرُهُ قَبْلَ التَّوَاجُبِ، ثُمَّ يَكُونَ الْعَقْدُ بَعْدَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، فَهُوَ أَقْطَعُ» . وَقَالَ: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ.» رَوَاهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَتَشَهَّدَ، وَيُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ بِخُطْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الَّتِي قَالَ: «عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ، قَالَ: التَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ: إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . وَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . وَ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] الْآيَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ إمَامُ طَرَسُوسَ، قَالَ: كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إذَا حَضَرَ عَقْدَ نِكَاحٍ لَمْ يُخْطَبْ فِيهِ بِخُطْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَامَ وَتَرَكَهُمْ. وَهَذَا كَانَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِحْبَابِهَا، لَا عَلَى الْإِيجَابِ، فَإِنَّ حَرْبَ بْنَ إسْمَاعِيلَ قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ خُطْبَةُ النِّكَاحِ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا دُعِيَ لِيُزَوِّجَ قَالَ: لَا تَفْضُضُوا عَلَيْنَا النَّاسَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، إنَّ فُلَانًا يَخْطُبُ إلَيْكُمْ، فَإِنْ أَنْكَحْتُمُوهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ رَدَدْتُمُوهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ. وَالْمُسْتَحَبُّ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَخْطُبُهَا الْوَلِيُّ، أَوْ الزَّوْجُ، أَوْ غَيْرُهُمَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَسْنُونُ خُطْبَتَانِ، هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِهِ، وَخُطْبَةٌ مِنْ الزَّوْجِ قَبْلَ قَبُولِهِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ السَّلَفِ، خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ. (5300) فَصْلٌ: وَالْخُطْبَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمْنَاهُ، إلَّا دَاوُد، فَإِنَّهُ أَوْجَبَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَنَا «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ خُطْبَةً وَخُطِبَ إلَى عُمَرَ مَوْلَاةٌ لَهُ، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: قَدْ أَنْكَحْنَاكَ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، عَلَى إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: إنْ كَانَ الْحُسَيْنُ لِيُزَوِّجَ بَعْضَ بَنَاتِ الْحَسَنِ، وَهُوَ يَتَعَرَّقُ الْعَرَقَ. رَوَاهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: «خَطَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ» . وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْخُطْبَةُ كَالْبَيْعِ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَمَالِ بِدُونِ الْخُطْبَةِ، لَا عَلَى الْوُجُوبِ. [فَصْلٌ إعْلَانُ النِّكَاحِ وَالضَّرْبُ فِيهِ بِالدُّفِّ] (5301) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ إعْلَانُ النِّكَاحِ، وَالضَّرْبُ فِيهِ بِالدُّفِّ قَالَ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُظْهَرَ النِّكَاحُ، وَيُضْرَبَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 فِيهِ بِالدُّفِّ، حَتَّى يَشْتَهِرَ وَيُعْرَفَ. وَقِيلَ لَهُ: مَا الدُّفُّ؟ قَالَ: هَذَا الدُّفُّ. قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْغَزَلِ فِي الْعُرْسِ بِمِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ: «أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ، فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ، لَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ مَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ، وَلَوْلَا الْحِنْطَةُ السَّوْدَاءُ مَا سُرَّتْ عَذَارِيكُمْ.» لَا عَلَى مَا يَصْنَعُ النَّاسُ الْيَوْمَ. وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ: «وَلَوْلَا الْحِنْطَةُ الْحَمْرَاءُ، مَا سَمِنَتْ عَذَارِيكُمْ» . وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: يُسْتَحَبُّ ضَرْبُ الدُّفِّ، وَالصَّوْتُ فِي الْإِمْلَاكِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا الصَّوْتُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ وَيَتَحَدَّثُ وَيُظْهَرُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالصَّوْتُ وَالدُّفُّ فِي النِّكَاحِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» وَفِي لَفْظٍ: «أَظْهِرُوا النِّكَاحَ.» وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ بِالدُّفِّ، وَفِي لَفْظٍ: «وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا زَوَّجَتْ يَتِيمَةً رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِي مَنْ أَهْدَاهَا إلَى زَوْجِهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْنَا قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟ ". قَالَتْ: سَلَّمْنَا، وَدَعَوْنَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا. فَقَالَ: " إنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ، أَلَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ: «أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ، فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ.» رَوَى هَذَا كُلَّهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا بَأْسَ بِالدُّفِّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَأَكْرَهُ الطَّبْلَ، وَهُوَ الْمُنْكَرُ، وَهُوَ الْكُوبَةُ، الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ نِكَاحُ السِّرِّ] (5302) فَصْلٌ: فَإِنْ عَقَدَهُ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ، فَأَسَرُّوهُ، أَوْ تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ، كُرِهَ ذَلِكَ، وَصَحَّ النِّكَاحُ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَمِمَّنْ كَرِهَ نِكَاحَ السِّرِّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُرْوَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ النِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا تَزَوَّجَ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ: لَا، حَتَّى يُعْلِنَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْحُجَّةُ لَهُمَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وَلَنَا قَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ.» مَفْهُومُهُ انْعِقَادُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِظْهَارُ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ إظْهَارُهُ كَالْبَيْعِ، وَأَخْبَارُ الْإِعْلَانِ يُرَادُ بِهَا الِاسْتِحْبَابُ، بِدَلِيلِ أَمْرِهِ فِيهَا بِالضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالصَّوْتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، فَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ لَا. نَهْيُ كَرَاهَةٍ، فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُ قَبْلَ هَذَا بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ إعْلَانَ النِّكَاحِ وَالضَّرْبَ فِيهِ بِالدُّفِّ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ بَعْدَ عَقْدِهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَاعْتُبِرَ حَالَ الْعَقْدِ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ. [فَصْلٌ عَقْدُ النِّكَاحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] (5303) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ عَقْدُ النِّكَاحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ السَّلَفِ اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ؛ مِنْهُمْ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عُتْبَةَ؛ وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ، وَيَوْمُ عِيدٍ، فِيهِ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْمِسَايَةُ أَوْلَى. فَإِنَّ أَبَا حَفْصٍ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَسُّوا بِالْإِمْلَاكِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ.» وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِهِ، وَأَقَلُّ لِانْتِظَارِهِ. [فَصْلٌ يُقَالُ لِلْمُتَزَوِّجِ بَارَكَ اللَّهُ لَك وَبَارَكَ عَلَيْك وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ] (5304) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمُتَزَوِّجِ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، وَبَارَكَ عَلَيْك، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ . فَقَالَ: إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَزْنُ النَّوَاةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَثَاقِيلَ وَنِصْفٌ مِنْ الذَّهَبِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: عَلَى نَوَاةٍ. فَحَسْبُ، فَإِنَّ النَّوَاةَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، كَمَا أَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَالنَّشَّ عِشْرُونَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَا يَقُولُ إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ] (5305) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ، مَا رَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ، فِي " مَسَائِلِهِ "، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، قَالَ: تَزَوَّجَ، فَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَحُذَيْفَةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَقَدَّمُوهُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خُذْ بِرَأْسِ أَهْلِك، فَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لِأَهْلِي فِي، وَارْزُقْهُمْ مِنِّي، وَارْزُقْنِي مِنْهُمْ. ثُمَّ شَأْنَك وَشَأْنَ أَهْلِك. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى خَادِمًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ. وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا، فَلْيَأْخُذْ بِذُرْوَةِ سَنَامِهِ، وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ.» [لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ] (5306) ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُ مِنْهُمْ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ أَبَاحَ تِسْعًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ عَنْ تِسْعٍ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، حِينَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» . وَقَالَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: «أَسْلَمْت وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَارِقْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ.» رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ ". وَإِذَا مُنِعَ مِنْ اسْتِدَامَةِ زِيَادَةٍ عَنْ أَرْبَعٍ، فَالِابْتِدَاءُ أَوْلَى، فَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ، كَمَا قَالَ: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] . وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ لِكُلِّ مَلَكٍ تِسْعَةَ أَجْنِحَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: تِسْعَةً. وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّطْوِيلِ مَعْنًى، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ جَهِلَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ. وَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. [لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ اثْنَتَيْنِ] (5307) ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَ إلَّا اثْنَتَيْنِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ اثْنَتَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إبَاحَةِ الْأَرْبَعِ، فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ إلَّا اثْنَتَانِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ،، وَدَاوُد: لَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا طَرِيقُهُ اللَّذَّةُ وَالشَّهْوَةُ، فَسَاوَى الْعَبْدُ الْحُرَّ فِيهِ، كَالْمَأْكُولِ. وَلَنَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَدْ رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَيُقَوِّي هَذَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ النَّاسَ: كَمْ يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: بِاثْنَتَيْنِ، وَطَلَاقُهُ بِاثْنَتَيْنِ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يُنْكَرْ، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْأَحْرَارِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . وَيُفَارِقُ النِّكَاحُ الْمَأْكُولَ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفَضُّلِ. وَلِهَذَا فَارَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أُمَّتَهُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مِلْكًا، وَالْعَبْدُ يَنْقُصُ فِي الْمِلْكِ عَنْ الْحُرِّ. [تَسَرِّي الْعَبْدِ] (5308) ؛ قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هَلْ يَمْلِكُ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ أَوْ لَا؟ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي تَسْرِي الْعَبْدِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ إلَّا فِي نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] . وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَسَرَّى الْعَبْدُ، وَنَحْوَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ النِّكَاحَ، فَمَلَكَ التَّسَرِّيَ، كَالْحُرِّ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ.» فَجَعَلَ الْمَالَ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، فَمَلَكَ الْمَالَ كَالْحُرِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِآدَمِيَّتِهِ يَتَمَهَّدُ لِأَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَمْوَالَ لِلْآدَمِيِّينَ. لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ التَّكَالِيفِ، وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . وَالْعَبْدُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ، وَمِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَاتِ، فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ فِي النِّكَاحِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْجَنِينِ، مَعَ كَوْنِهِ نُطْفَةً لَا حَيَاةَ فِيهَا، بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إلَى الْآدَمِيَّةِ، فَالْعَبْدُ الَّذِي هُوَ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ أَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّسَرِّي إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَوْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ جَارِيَةً، لَمْ يُبَحْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، وَلِسَيِّدِهِ نَزْعُهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ فَسْخِ عَقْدٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَقَالَ: تَسَرَّاهَا. أَوْ: أَذِنْت لَك فِي وَطْئِهَا. أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أُبِيحَ لَهُ، وَمَا وُلِدَ لَهُ مِنْ التَّسَرِّي فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا. وَإِنْ تَسَرَّى بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَالْوَلَدُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ. (5309) فَصْلٌ: وَلَهُ التَّسَرِّي بِمَا شَاءَ، إذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّسَرِّي، جَازَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ كَالْحُرِّ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَأَطْلَقَ التَّسَرِّيَ تَسَرَّى بِوَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَأَبُو ثَوْرٍ: إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ، فَعَقَدَ عَلَى اثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ، جَازَ. وَلَنَا أَنَّ الْإِذْنَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ يَقِينًا، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُرَادٍ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ أَذِنَ لَهُ أَوْ لَا؟ . [فَصْلٌ الْمُكَاتَبُ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ لَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَسَرَّى إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ] (5310) فَصْلٌ: وَالْمُكَاتَبُ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، لَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَسَرَّى إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إتْلَافًا لِلْمَالِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ.» وَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ، فَإِذَا مَلَكَ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ جَارِيَةً، فَمِلْكُهُ تَامٌّ، وَلَهُ الْوَطْءُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَلِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهَا تَامٌّ، لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِمَا شَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ، وَمَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَمْلِكُهُ، كَمَا لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَيَأْكُلَ مَا مَلَكَهُ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: حُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَقَوْلِنَا، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ مَنَعْنَاهُ التَّزْوِيجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِسَيِّدِهِ فِيهَا، وَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِاسْتِمْتَاعِهِ مِنْهَا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهُ فِيهَا، كَاسْتِخْدَامِهَا، وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهِ حُقُوقٌ تَتَعَلَّقُ بِجُمْلَتِهِ فَاعْتُبِرَ رِضَا السَّيِّدِ، لِيَكُونَ رَاضِيًا بِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمِلْكِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُ لَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِيهِ جَازَ، إلَّا عِنْدَ مَنْ مَنَعَ الْعَبْدَ التَّسَرِّيَ؛ لِأَنَّهُ كَالْقِنِّ فِي قَوْلِهِمْ [فَصْلٌ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ] (5311) فَصْلٌ: نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ مَاهَانَ، عَنْ أَحْمَدَ: لَا بَأْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، فَإِنْ رَجَعَ السَّيِّدُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا أَذِنَ لَهُ مَرَّةً وَتَسَرَّى، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ، وَلَمْ أَرَ عَنْهُ خِلَافَ هَذَا، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إذَا تَسَرَّى بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَمْ يَمْلِكْ السَّيِّدُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، فَلَمْ يَمْلِكْ سَيِّدُهُ فَسْخَهُ، قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّسَرِّي هَاهُنَا التَّزْوِيجَ وَسَمَّاهُ تَسَرِّيًا مَجَازًا، وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ الرُّجُوعُ فِيمَا مَلَكَ عَبْدُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ خِلَافُ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ بُضْعًا أُبِيحَ لَهُ وَطْؤُهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ رُجُوعَهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُنَاقِضٌ لِمَا ذَكَرَ قَبْلَهُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ، مِنْ قَوْلِهِ: وَلِسَيِّدِهِ نَزْعُهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ. [مَتَى طَلَّقَ الْحُرُّ أَوْ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا] (5312) قَالَ: (وَمَتَى طَلَّقَ الْحُرُّ أَوْ الْعَبْدُ طَلَاقًا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ أَرْبَعٍ، لَمْ يَتَزَوَّجْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا طَلَّقَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُخْتُهَا وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا وَبِنْتُ أَخِيهَا وَبِنْتُ أُخْتِهَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَرْبَعًا، حَرُمَتْ الْخَامِسَةُ تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَإِنْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ، حَرُمَتْ الثَّالِثَةُ تَحْرِيمَ جَمْعٍ فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَالتَّحْرِيمُ بَاقٍ بِحَالِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ فَسْخًا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ إمَامِنَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهُ نِكَاحُ جَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أَيْ: نِكَاحُهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، وَالْبَائِنُ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَنْ لَا تُنْكَحَ امْرَأَةٌ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْمَعْ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: كَانَ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلَّقَ وَاحِدَةً أَلْبَتَّةَ، وَتَزَوَّجَ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ عَابَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: إذَا عَابَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ ،. وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَنْ النِّكَاحِ لِحَقِّهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فِي حَقِّهِ، أَشْبَهَتْ الرَّجْعِيَّةَ، وَفَارَقَ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. [فَصْلٌ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الْوَثَنِيَّةِ] (5313) فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الْوَثَنِيَّةِ، أَوْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِخُلْعٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ فُسِخَ بِعَيْبٍ أَوْ إعْسَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِمَّنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ أَوْ لَمْ نَقُلْ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ، فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا، ثُمَّ أَسْلَمَا فِي عِدَّةِ الْأُولَى اخْتَارَ مِنْهُمَا وَاحِدَةً، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهُمَا مَعًا. وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْأُولَى، بَانَتْ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ أَمَةً كَانَ يُصِيبُهَا] (5314) فَصْلٌ: إذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ أَمَةً كَانَ يُصِيبُهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ اسْتِبْرَاؤُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا فِي عِدَّةٍ مِنْ نِكَاحٍ وَلَنَا، أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا، كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهُ فِي رَحِمِهَا، فَيَكُونَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَنْ جَمَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ سِوَاهَا. وَمَنَعَهُ زُفَرُ وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ قَبْلَ إعْتَاقِهَا، فَبَعْدَهُ أَوْلَى. [فَصْلٌ لَا يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أَمَةٍ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ بَائِنٍ] (5315) فَصْلٌ: وَلَا يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أَمَةٍ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ بَائِنٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي صُلْبِ نِكَاحِهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 وَلَنَا أَنَّهُ عَادِمٌ لِلطَّوْلِ، خَائِفٌ لِلْعَنَتِ، فَأُبِيحَ لَهُ نِكَاحُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] الْآيَةَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي صُلْبِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، بَلْ يَجُوزُ إذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطَانِ. [فَصْلٌ إنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا] (5316) فَصْلٌ: وَإِنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَحُكْمُ الْعِدَّةِ مِنْ الزِّنَا وَالْعِدَّةِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ كَحُكْمِ الْعِدَّةِ مِنْ النِّكَاحِ فَإِنْ زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ: يُمْسِكُ عَنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ، وَلَا أَحْكَامَهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَحْرُمَ بِذَلِكَ أُخْتُهَا، وَلَا أَرْبَعٌ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْكُوحَةً، وَمُجَرَّدُ الْوَطْءِ لَا يَمْنَعُ، بِدَلِيلِ الْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ لَا يَمْنَعُ أَرْبَعًا سِوَاهَا. [فَصْلٌ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَخْبَرَتْهُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ يَجُوزُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا وَكَذَّبَتْهُ] (5317) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَخْبَرَتْهُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ يَجُوزُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا، وَكَذَّبَتْهُ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي الظَّاهِرِ، فَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَيُبْنَى عَلَى صِدْقِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا وَنَفْيِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا وَلِوَلَدِهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُصَدَّقُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا يُصَدَّقُ فِي بَعْضِ حُكْمِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، قِيَاسًا لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْوَاحِدُ صِدْقًا وَكَذِبًا، وَلَنَا أَنَّهُ قَوْلٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقٍّ لِغَيْرِهِ، وَحَقًّا لَهُ لَا ضَرَرَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُصَدَّقَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَهُ، صُدِّقَ فِي حُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الرُّجُوعِ بِثَمَنِهِ. وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ امْرَأَتَهُ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، صُدِّقَ فِي بَيْنُونَتِهَا وَتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي سُقُوطِ مَهْرِهَا. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ امْرَأَةً فَزُوِّجَ بِغَيْرِهَا] (5318) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ خَطَبَ امْرَأَةً فَزُوِّجَ بِغَيْرِهَا، لَمْ يَنْعَقِدْ النِّكَاحُ) مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا، فَيُجَابَ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يُوجَبُ لَهُ النِّكَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا الَّتِي خَطَبَهَا، فَيَقْبَلُ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ انْصَرَفَ إلَى غَيْرِ مَنْ وُجِدَ الْإِيجَابُ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ سَاوَمَهُ بِثَوْبٍ وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ عَلِمَ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 فَرَضِيَ، لَمْ يَصِحَّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ خَطَبَ جَارِيَةً، فَزَوَّجُوهُ أُخْتَهَا، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ الصَّدَاقُ عَلَى وَلِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، وَيُجَهِّزُ إلَيْهِ أُخْتَهَا الَّتِي خَطَبَهَا بِالصَّدَاقِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ، يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ. وَقَوْلُهُ: يُجَهِّزُ إلَيْهِ أُخْتَهَا يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ هَذِهِ إنْ كَانَ أَصَابَهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي عَقَدَهُ لَمْ يَصِحَّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ صَدَرَ فِي إحْدَاهُمَا، وَالْقَبُولَ فِي الْأُخْرَى، فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِي هَذِهِ وَلَا فِي تِلْكَ فَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ فِي إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا كَانَ، جَازَ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا: لَهَا الْمَهْرُ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، وَلِأُخْتِهَا الْمَهْرُ. قِيلَ: يَلْزَمُهُ مَهْرَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَرْجِعُ عَلَى وَلِيِّهَا، هَذِهِ مِثْلُ الَّتِي بِهَا بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ. عَلِيٌّ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي امْرَأَةٍ جَاهِلَةٍ بِالْحَالِ أَوْ بِالتَّحْرِيمِ. أَمَّا إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لَهَا صَدَاقٌ؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ، فَأَمَّا إنْ جَهِلَتْ الْحَالَ فَلَهَا الْمَهْرُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلَيْنِ تَزَوَّجَا امْرَأَتَيْنِ، فَزُفَّتْ كُلُّ امْرَأَةٍ إلَى زَوْجِ الْأُخْرَى: لَهُمَا الصَّدَاقُ، وَيَعْتَزِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ] (5319) فَصْلٌ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِدٍ وَمَعْقُودٍ عَلَيْهِ يَجِبُ تَعْيِينُهُمَا، كَالْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعِ، ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً، فَقَالَ: زَوَّجْتُك هَذِهِ صَحَّ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ تَكْفِي فِي التَّعْيِينِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: بِنْتِي هَذِهِ، أَوْ هَذِهِ فُلَانَةُ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً فَقَالَ: زَوَّجْتُك بِنْتِي وَلَيْسَ لَهُ سِوَاهَا جَازَ. فَإِنْ سَمَّاهَا بِاسْمِهَا مَعَ ذَلِكَ، كَانَ تَأْكِيدًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ، مِنْ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، فَيَقُولَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي الْكُبْرَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الصُّغْرَى فَإِنْ سَمَّاهَا مَعَ ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا وَإِنْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي عَائِشَةَ أَوْ فَاطِمَةَ صَحَّ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا فَاطِمَةُ، فَقَالَ: زَوَّجْتُك فَاطِمَةَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْفَوَاطِمِ، حَتَّى يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: ابْنَتِي. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ إذَا نَوَيَاهَا جَمِيعًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إذَا ثَبَتَ بِهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي النِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي وَلَهُ بَنَاتٌ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُمَيِّزَهَا بِلَفْظِهِ وَإِنْ قَالَ: زَوَّجْتُك فَاطِمَةَ ابْنَةَ فُلَانٍ احْتَاجَ أَنْ يَرْفَعَ فِي نَسَبِهَا حَتَّى يَبْلُغَ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ النِّسَاءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 [فَصْلٌ لَهُ ابْنَتَانِ كُبْرَى وَصُغْرَى فَقَالَ زَوَّجْتُك الْكُبْرَى وَقَبِلَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَهُمَا يَنْوِيَانِ الصُّغْرَى] (5320) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَتَانِ، كُبْرَى اسْمُهَا عَائِشَةُ وَصُغْرَى اسْمُهَا فَاطِمَةُ فَقَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي عَائِشَةَ وَقَبِلَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، وَهُمَا يَنْوِيَانِ الصُّغْرَى، لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ فِي الَّتِي نَوَيَاهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَفَّظَا بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك عَائِشَةَ فَقَطْ أَوْ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي وَلَمْ يُسَمِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا لَمْ يُسَمِّهَا، فَفِيمَا إذَا سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ حَتَّى تُذْكَرَ الْمَرْأَةُ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اسْمَ أُخْتِهَا لَا يُمَيِّزُهَا، بَلْ يَصْرِفُ الْعَقْدَ عَنْهَا. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ يُرِيدُ الْكُبْرَى، وَالزَّوْجُ يَقْصِدُ الصُّغْرَى، لَمْ يَصِحَّ، كَمَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ، فِيمَا إذَا خَطَبَ امْرَأَةً وَزُوِّجَ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ انْصَرَفَ إلَى غَيْرِ مَنْ وُجِدَ الْإِيجَابُ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ مَا يَصْرِفُ الْقَبُولَ إلَى الصُّغْرَى، مِنْ خِطْبَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ بِلَفْظِهِ مُتَنَاوِلٌ لِلْكُبْرَى، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَصْرِفُهُ عَنْهَا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ نَوَيَاهَا. وَلَوْ نَوَى الْوَلِيُّ الصُّغْرَى، وَالزَّوْجُ الْكُبْرَى، أَوْ نَوَى الْوَلِيُّ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَدْرِ الزَّوْجُ أَيَّتَهُمَا هِيَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ التَّزْوِيجُ، لِعَدَمِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا فِي الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا لَفْظُهُمَا. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَصِحُّ فِي الْمُعَيَّنَةِ بِاللَّفْظِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ لِرَجُلٍ زَوَّجْتُك ابْنَتِي وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا] (5321) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ابْنَتِي آكَدُ مِنْ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا مُشَارَكَةَ فِيهَا، وَالِاسْمُ مُشْتَرَكٌ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك هَذِهِ وَأَشَارَ إلَيْهَا، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ. [فَصْلٌ قَالَ زَوَّجْتُك حَمْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ] (5322) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك حَمْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْبَنَاتِ قَبْلَ الظُّهُورِ، فِي غَيْرِ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ فِي الْبَطْنِ بِنْتًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك مَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَنْ فِيهَا. وَلَوْ قَالَ: إذَا وَلَدَتْ امْرَأَتِي بِنْتًا زَوَّجْتُكَهَا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلنِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ عَقْدٌ. [تَزَوَّجَهَا وَشَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا] قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَهَا، وَشَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا فَلَهَا شَرْطُهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ بِهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» وَإِنْ تَزَوَّجَهَا، وَشَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَلَهَا فِرَاقُهُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً، أَحَدُهَا مَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعُودُ إلَيْهَا نَفْعُهُ وَفَائِدَتُهُ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا أَوْ لَا يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لَهَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ. يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَاوُسٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَأَبْطَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: وَيَفْسُدُ الْمَهْرُ دُونَ الْعَقْدِ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» وَهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» وَهَذَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَهُوَ التَّزْوِيجُ وَالتَّسَرِّي وَالسَّفَرُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَلَا مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَكَانَ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ شَرَطَتْ أَنْ لَا تُسَلِّمَ نَفْسَهَا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَحَقَّ مَا وَفَّيْتُمْ بِهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهَا، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَشَرَطَ لَهَا دَارَهَا، ثُمَّ أَرَادَ نَقْلَهَا، فَخَاصَمُوهُ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَهَا شَرْطُهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: إذًا تُطَلِّقِينَا. فَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ؛ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَمَقْصُودٌ لَا يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ، فَكَانَ لَازِمًا، كَمَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ أَوْ غَيْرَ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ» أَيْ: لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَعَلَى مَنْ ادَّعَى الْخِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ وَعَلَى مَنْ نَفَى ذَلِكَ الدَّلِيلَ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. قُلْنَا: لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ لِلْمَرْأَةِ خِيَارَ الْفَسْخِ إنْ لَمْ يَفِ لَهَا بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَاقِدِ كَانَ مِنْ مَصْلَحَةِ عَقْدِهِ، كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَشَرْطُ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 فإذَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ فَلَمْ يَفِ لَهَا بِهِ، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَلِهَذَا قَالَ الَّذِي قَضَى عَلَيْهِ عُمَرُ بِلُزُومِ الشَّرْطِ: إذًا تُطَلِّقُنَا فَلَمْ يَلْتَفِتْ عُمَرُ إلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ؛ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ فِي عَقْدٍ فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ، كَالرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا] فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا» وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهَا شَرَطَتْ عَلَيْهِ فَسْخَ عَقْدِهِ، وَإِبْطَالَ حَقِّهِ وَحَقِّ امْرَأَتِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ فَسْخَ بَيْعِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ شَرْطٌ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ، وَلَهَا فِيهِ فَائِدَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا. وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ بَيْعَ أَمَتِهِ. مَا يُبْطِلُ الشَّرْطَ، وَيُصِحُّ الْعَقْدَ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، أَوْ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ إنْ أَصْدَقَهَا رَجَعَ عَلَيْهَا، أَوْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأَهَا، أَوْ يَعْزِلَ عَنْهَا أَوْ يَقْسِمَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ قَسْمِ صَاحِبَتِهَا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَا يَكُونُ عِنْدَهَا فِي الْجُمُعَةِ إلَّا لَيْلَةً، أَوْ شَرَطَ لَهَا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ، أَوْ شَرَطَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ أَوْ تُعْطِيَهُ شَيْئًا. فَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا تُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حُقُوقٍ تَجِبُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَأَمَّا الْعَقْدُ فِي نَفْسِهِ فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَعُودُ إلَى مَعْنًى زَائِدٍ فِي الْعَقْدِ، لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ، وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهِ، فَلَمْ يُبْطِلْهُ. كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ صَدَاقًا مُحَرَّمًا؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعِوَضِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَالْعَتَاقِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَتْ وَقَالَتْ: لَا أَرْضَى إلَّا لَيْلَةً وَلَيْلَةً فَقَالَ: لَهَا أَنْ تَنْزِلَ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ قَالَتْ: لَا أَرْضَى إلَّا بِالْمُقَاسَمَةِ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَهَا، تُطَالِبُهُ إنْ شَاءَتْ، وَنَقَلَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَنْ يَأْتِيَهَا فِي الْأَيَّامِ يَجُوزُ الشَّرْطُ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ، وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 النِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي هَذَا الشَّرْطِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ. يَحْتَمِلُ إبْطَالَ الْعَقْدِ، نَقَلَ عَنْهُ الْمَرْوَزِيِّ فِي النَّهَارِيَّاتِ وَاللَّيْلِيَّاتِ: لَيْسَ هَذَا مِنْ نِكَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمِمَّنْ كَرِهَ تَزْوِيجَ النَّهَارِيَّاتِ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَعْدِلَ لَهَا، عَدَلَ. وَكَانَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ لَا يَرَيَانِ بِنِكَاحِ النَّهَارِيَّاتِ بَأْسًا وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهَا مِنْ الشَّهْرِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، وَلَعَلَّ كَرَاهَةَ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى إبْطَالِ الشَّرْطِ، وَإِجَازَةَ مَنْ أَجَازَهُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلِ النِّكَاحِ، فَتَكُونُ أَقْوَالُهُمْ مُتَّفِقَةً عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِبْطَالِ الشَّرْطِ، كَمَا قُلْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ هَذَا النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى وَجْهِ السِّرِّ، وَنِكَاحُ السِّرِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْوَطْءِ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ إنْ شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تُسَلَّمَ إلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَهُ وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَطَأَهَا، لَمْ يَفْسُدْ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ لَا تَمْلِكُهُ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَفْسُدَ؛ لِأَنَّ لَهَا فِيهِ حَقًّا، وَلِذَلِكَ تَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ بِهِ إذَا آلَى، وَالْفَسْخَ إذَا تَعَذَّرَ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ مِنْ أَصْلِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَا تَأْقِيتَ النِّكَاحِ، وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ أَوْ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ يُعَلِّقَهُ عَلَى شَرْطٍ، مِثْلِ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُك إنْ رَضِيَتْ أُمُّهَا أَوْ فُلَانٌ أَوْ يُشْتَرَطَ الْخِيَارُ فِي النِّكَاحِ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَيَبْطُلُ بِهَا النِّكَاحُ. وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ صَدَاقَهَا تَزْوِيجَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ نِكَاحُ الشِّغَارِ وَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ، إنْ رَضِيَتْ أُمُّهَا أَوْ إنْ جَاءَهَا بِالْمَهْرِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ بِالْمَهْرِ فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا، أَنَّ الْعَقْدَ وَالشَّرْطَ جَائِزَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: يَبْطُلُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ إلَّا لَازِمًا، وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَهُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ رَضِيَتْ أُمُّهَا، أَوْ إنْ جِئْتنِي بِالْمَهْرِ فِي وَقْتِ كَذَا فَقَدْ وَقَفَ النِّكَاحَ عَلَى شَرْطٍ وَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عَلَى شَرْطٍ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الصَّدَاقِ خَاصَّةً] (5325) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الصَّدَاقِ خَاصَّةً لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْفَرِدُ عَنْ ذِكْرِ الصَّدَاقِ، وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ حَرَامًا أَوْ فَاسِدًا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ، فَلَأَنْ لَا يَفْسُدَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِيهِ أَوْلَى، وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ إذَا فَسَدَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ فَسَدَ الْآخَرُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَفِي الصَّدَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَصِحُّ الصَّدَاقُ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْخِيَارِ، كَمَا يَفْسُدُ الشَّرْطُ فِي النِّكَاحِ، وَيَصِحُّ النِّكَاحُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصَّدَاقِ عَقْدٌ مُنْفَرِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْأَثْمَانِ، فَثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْبِيَاعَاتِ. وَالثَّالِثُ: يَبْطُلُ الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى شَيْءٍ. [مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا] (5326) قَالَ: (وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ لِمَنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ قَالَ: فَخَطَبْت امْرَأَةً، فَكُنْت أَتَخَبَّأُ لَهَا، حَتَّى رَأَيْت مِنْهَا مَا دَعَانِي إلَى نِكَاحِهَا، فَتَزَوَّجْتُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي هَذَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سِوَى هَذَا؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، فَكَانَ لِلْعَاقِدِ النَّظَرُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَالنَّظَرِ إلَى الْأَمَةِ الْمُسْتَامَةِ وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إذْنِهَا. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَأَطْلَقَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " فَكُنْت أَتَخَبَّأُ لَهَا " وَفِي حَدِيثٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ أَبَوَيْهَا فِي النَّظَرِ إلَيْهَا، فَكَرِهَا، فَأَذِنَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِغَيْرِ النَّظَرِ، فَبَقِيَتْ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهَا نَظَرَ تَلَذُّذٍ وَشَهْوَةٍ، وَلَا لِرِيبَةٍ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 صَالِحٍ يَنْظُرُ إلَى الْوَجْهِ وَلَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ لَذَّةٍ وَلَهُ أَنْ يُرَدِّدَ النَّظَرَ إلَيْهَا، وَيَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ. (5327) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ، وَمَوْضِعُ النَّظَرِ وَلَا يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَا لَا يَظْهَرُ عَادَةً وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَوَاضِعِ اللَّحْمِ وَعَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى جَمِيعِهَا، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اُنْظُرْ إلَيْهَا وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوَجْهُ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ. وَلِأَنَّ النَّظَرَ مُحَرَّمٌ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ سُمِّيَ نَاظِرًا إلَيْهِ، وَمَنْ رَآهُ وَعَلَيْهِ أَثْوَابُهُ سُمِّيَ رَائِيًا لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 36] فَأَمَّا مَا يَظْهَرُ غَالِبًا سِوَى الْوَجْهِ، كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا تُظْهِرُهُ الْمَرْأَةُ فِي مَنْزِلِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ فَلَمْ يُبَحْ النَّظَرُ إلَيْهِ، كَاَلَّذِي لَا يَظْهَرُ، فَإِنَّ عَبْد اللَّه رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ. فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالثَّانِيَةُ: لَهُ النَّظَرُ إلَى ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا، وَإِلَى مَا يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا، مِنْ يَدٍ أَوْ جِسْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا عِنْدَ الْخِطْبَةِ حَاسِرَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْظُرُ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. وَوَجْهُ جَوَازِ النَّظَرِ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَذِنَ فِي النَّظَرِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا، عُلِمَ أَنَّهُ أَذِنَ فِي النَّظَرِ إلَى جَمِيعِ مَا يَظْهَرُ عَادَةً إذْ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ الْوَجْهِ بِالنَّظَرِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الظُّهُورِ؛ وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ غَالِبًا، فَأُبِيحَ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالْوَجْهِ. وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ أُبِيحَ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ، فَأُبِيحَ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى ذَلِكَ، كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَةَ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مِنْهَا صِغَرًا، فَقَالُوا لَهُ: إنَّمَا رَدَّك فَعَاوِدْهُ، فَقَالَ: نُرْسِلُ بِهَا إلَيْك تَنْظُرُ إلَيْهَا فَرَضِيَهَا، فَكَشَفَ عَنْ سَاقِهَا. فَقَالَتْ: أَرْسِلْ، فَلَوْلَا أَنَّك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَلَطَمْت عَيْنَك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 [فَصْلٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا] (5328) فَصْلٌ: وَيَحُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَا يَسْتَتِرُ غَالِبًا، كَالصَّدْرِ وَالظَّهْرِ وَنَحْوِهِمَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْد اللَّه عَنْ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةِ ابْنِهِ. فَقَالَ: هَذَا فِي الْقُرْآنِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] إلَّا لِكَذَا وَكَذَا قُلْت: يَنْظُرُ إلَى سَاقِ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَصَدْرِهَا قَالَ: لَا مَا يُعْجِبُنِي ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ إلَى مِثْلِ هَذَا، وَإِلَى كُلِّ شَيْءٍ لِشَهْوَةٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَرَاهِيَةُ أَحْمَدَ النَّظَرَ إلَى سَاقِ أُمِّهِ وَصَدْرِهَا عَلَى التَّوَقِّي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى الشَّهْوَةِ يَعْنِي أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ. وَمَنَعَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ، النَّظَرَ إلَى شَعْرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَرُوِيَ عَنْ هِنْدِ ابْنَةِ الْمُهَلَّبِ قَالَتْ: قُلْت لِلْحَسَنِ: يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى قُرْطِ أُخْتِهِ أَوْ إلَى عُنُقِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَوْ دَخَلْت عَلَى أُمِّي لَقُلْت: أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ، غَطِّي شَعْرَك. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ وَقَالَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، كَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَا عَلِمْت، فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْضِعِيهِ فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ مِنْهَا إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، فَإِنَّهَا قَالَتْ: يَرَانِي فَضْلًا وَمَعْنَاهُ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ الَّتِي لَا تَسْتُرُ أَطْرَافَهَا. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَجِئْت وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا ... لَدَى السِّتْرِ إلَّا لُبْسَةَ الْمُتَفَضِّلِ وَمِثْلُ هَذَا يَظْهَرُ مِنْهُ الْأَطْرَافُ وَالشَّعْرُ، فَكَانَ يَرَاهَا كَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَتْهُ وَلَدًا، ثُمَّ دَلَّهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَسْتَدِيمُونَ بِهِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أَسْمَاءَ امْرَأَةِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: فَكُنْت أَرَاهُ أَبًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْشُطُ رَأْسِي، فَيَأْخُذُ بِبَعْضِ قُرُونِ رَأْسِي، وَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا لَا يُمْكِنُ. فَأُبِيحَ كَالْوَجْهِ، وَمَا لَا يَظْهَرُ غَالِبًا لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى نَظَرِهِ، وَلَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الشَّهْوَةُ وَمُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ، فَحُرِّمَ النَّظَرُ إلَيْهِ كَمَا تَحْتَ السُّرَّةِ (5329) فَصْلٌ: وَذَوَاتُ مَحَارِمِهِ: كُلُّ مَنْ حُرِّمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ وَزَيْنَبَ. وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى آبَاءَ بُعُولَتِهِنَّ، وَأَبْنَاءَ بُعُولَتِهِنَّ، كَمَا ذَكَرَ آبَاءَهُنَّ وَأَبْنَاءَهُنَّ فِي إبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُمْ وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ النَّظَرِ إلَى شَعْرِ أُمِّ امْرَأَتِهِ وَبِنْتِهَا؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا حَكَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ مَحْرَمٌ يَجُوزُ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: سَاعَةَ يَعْقِدُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّ امْرَأَتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرَى شَعْرَهَا وَمَحَاسِنَهَا، لَيْسَتْ مِثْلَ الَّتِي يَزْنِي بِهَا، لَا يَحِلُّ لَهُ أَبَدًا أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِهَا، وَلَا إلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَابْنَتُهَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ وَإِنْ حَرُمَ نِكَاحُهُنَّ] (5330) فَصْلٌ: فَأَمَّا أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَابْنَتُهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ، وَإِنْ حَرُمَ نِكَاحُهُنَّ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ بِسَبَبٍ مُحَرِّمٍ، فَلَمْ يُفِدْ إبَاحَةَ النَّظَرِ، كَالْمُحَرَّمَةِ بِاللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَأُمُّهَا، لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لِقَرَابَتِهِ الْمُسْلِمَةَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَتْ بِنْتُهُ: لَا يُسَافِرْ بِهَا، لَيْسَ هُوَ مَحْرَمًا لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ، أَمَّا النَّظَرُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحِجَابُ مِنْهُ «؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ فَطَوَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَحْتَجِبْ مِنْهُ، وَلَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . [فَصْلٌ عَبْدُ الْمَرْأَةِ لَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا] (5331) فَصْلٌ: وَعَبْدُ الْمَرْأَةِ لَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَحْتَجِبْنَ مِنْ مُكَاتَبٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِينَارٌ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي (سُنَنِهِ) وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَلْقَى، قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ، إنَّمَا هُوَ أَبُوك وَغُلَامُك» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَكَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَأَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] إلَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ كَذَوِي الْمَحَارِمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ مَحْرَمٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَحَارِمِ مِنْ الْأَقَارِبِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ؛ وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا، فَكَانَ مَحْرَمًا كَالْأَقَارِبِ وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ» رَوَاهُ سَعِيدٌ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِمْتَاعُهَا، فَلَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا كَزَوْجِ أُخْتِهَا؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا، إذْ لَيْسَتْ بَيْنَهُمَا نَفْرَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَالْمِلْكُ لَا يَقْتَضِي النَّفْرَةَ الطَّبِيعِيَّةَ، بِدَلِيلِ السَّيِّدِ مَعَ أَمَتِهِ. وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ النَّظَرِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، كَالشَّاهِدِ وَالْمُبْتَاعِ وَنَحْوِهِمَا وَجَعَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَالْأَجْنَبِيِّ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الْغُلَامُ مَا دَامَ طِفْلًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَا يَجِبُ الِاسْتِتَارُ مِنْهُ] (5332) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْغُلَامُ، فَمَا دَامَ طِفْلًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، لَا يَجِبُ الِاسْتِتَارُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ عَقَلَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: حُكْمُهُ حُكْمُ ذِي الْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ. وَالثَّانِيَةُ: لَهُ النَّظَرُ إلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] إلَى قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَالِغِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَبُو طَيْبَةَ حَجَمَ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ غُلَامٌ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَتَى تُغَطِّي الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا مِنْ الْغُلَامِ؟ قَالَ: إذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ. [فَصْلٌ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ صَاحِبِهِ وَلَمْسُهُ] (5333) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ صَاحِبِهِ وَلَمْسُهُ حَتَّى الْفَرْجِ لِمَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ فَقَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 إلَّا مِنْ زَوْجَتِك، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْجَ يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ، فَجَازَ النَّظَرُ إلَيْهِ وَلَمْسُهُ، كَبَقِيَّةِ الْبَدَنِ. وَيُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ فَإِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْت فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: مَا رَأَيْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رَآهُ مِنِّي. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَرْأَةِ تَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيْ زَوْجِهَا وَفِي بَيْتِهَا مَكْشُوفَةً فِي ثِيَابٍ رِقَاقٍ: فَلَا بَأْسَ بِهِ قُلْت: تَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ إلَى بَيْتٍ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَلَيْسَ فِي الدَّارِ إلَّا هِيَ وَزَوْجُهَا؟ فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ يُبَاحُ لِلسَّيِّدِ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ أَمَتِهِ] (5334) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ لِلسَّيِّدِ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ أَمَتِهِ حَتَّى فَرْجِهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجَيْنِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ سُرِّيَّتُهُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا، فَأُبِيحَ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ، وَالنَّظَرُ مِنْهَا إلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ، فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ، فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمَفْهُومُهُ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى مَا عَدَاهُ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَا شَكَّ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ مُبَاحَةً لِلزَّوْجِ، وَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِرَجُلَيْنِ فَإِنْ وَطِئَهَا، لَزِمَهُ الْإِثْمُ وَالتَّعْزِيرُ، وَإِنْ وَلَدَتْ فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ وَلَدُهَا، كَالْأَجْنَبِيَّةِ. [فَصْلٌ مَنْ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ مِنْ الْأَجَانِبِ] (5335) فَصْلٌ: فِي مَنْ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ مِنْ الْأَجَانِبِ. وَيُبَاحُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إلَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِهَا، مِنْ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَكَّمَ سَعْدًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ كَانَ يَكْشِفُ عَنْ مُؤْتَزَرِهِمْ» وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلَامٍ قَدْ سَرَقَ، فَقَالَ: اُنْظُرُوا إلَى مُؤْتَزَرِهِ فَلَمْ يَجِدُوهُ أَنْبَتَ الشَّعْرَ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَلِلشَّاهِدِ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى عَيْنِهَا قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا وَإِنْ عَامَلَ امْرَأَةً فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ. فَلَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا، لِيَعْلَمَهَا بِعَيْنِهَا، فَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِالدَّرَكِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّابَّةِ دُونَ الْعَجُوزِ. وَلَعَلَّهُ كَرِهَهُ لِمَنْ يَخَافُ الْفِتْنَةَ، أَوْ يَسْتَغْنِي عَنْ الْمُعَامَلَةِ، فَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ، فَلَا بَأْسَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 [فَصْلٌ نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ] (5336) فَصْلٌ: فَأَمَّا نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَى جَمِيعِهَا، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَأْكُلُ مَعَ مُطَلَّقَتِهِ، هُوَ أَجْنَبِيٌّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا، كَيْفَ يَأْكُلُ مَعَهَا يَنْظُرُ إلَى كَفِّهَا؟ ، لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ إذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ، وَنَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَرَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثِيَابٍ رِقَاقٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ، إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، فَلَمْ يَحْرُمْ النَّظَرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِيبَةٍ، كَوَجْهِ الرَّجُلِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كُنْت قَاعِدَةً عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَحَفْصَةُ فَاسْتَأْذَنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجِبْنَ مِنْهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد «وَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْهَهُ عَنْهَا» وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَفِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ، إذْ لَوْ كَانَ مُبَاحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَمَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ لِهَذِهِ؟ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ إنْ صَحَّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، فَنَحْمِلُهُ عَلَيْهِ. (5337) فَصْلٌ: وَالْعَجُوزُ الَّتِي لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا، لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 قَالَ: فَنَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] الْآيَةَ وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الشَّوْهَاءُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى. [فَصْلٌ الْأَمَةُ يُبَاحُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا] (5338) فَصْلٌ: وَالْأَمَةُ يُبَاحُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، كَالْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى أَمَةً مُتَلَثِّمَةً فَضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: يَا لَكَاعِ، تَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَدَعُ أَمَةً تَقَنَّعُ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا الْقِنَاعُ لِلْحَرَائِرِ. وَلَوْ كَانَ نَظَرُ ذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَتْرِهِ، بَلْ أَمَرَ بِهِ وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَخَذَ صَفِيَّةَ قَالَ النَّاسُ: لَا نَدْرِي، أَجَعَلَهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَمْ أُمَّ وَلَدٍ؟ فَقَالُوا: إنْ حَجَبَهَا فَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ. فَلَمَّا رَكِبَ، وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَدَمَ حَجْبِ الْإِمَاءِ كَانَ مُسْتَفِيضًا بَيْنَهُمْ مَشْهُورًا، وَأَنَّ الْحَجْبَ لِغَيْرِهِنَّ كَانَ مَعْلُومًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُبَاحُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ وَسَوَّى بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ الْخَوْفُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفِتْنَةُ الْمَخُوفَةُ تَسْتَوِي فِيهَا الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حُكْمٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَيُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا فِيمَا ذَكَرُوهُ افْتَرَقَا فِي الْحُرْمَةِ، وَفِي مَشَقَّةِ السَّتْرِ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْأَمَةُ جَمِيلَةً يُخَافُ الْفِتْنَةُ بِهَا، حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا، كَمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى الْغُلَامِ الَّذِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ جَمِيلَةً: تَنْتَقِبُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْمَمْلُوكَةِ، كَمْ مِنْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ. [فَصْلٌ الطِّفْلَةُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلنِّكَاحِ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا] (5339) فَصْلٌ: فَأَمَّا الطِّفْلَةُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلنِّكَاحِ، فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي رَجُلٍ يَأْخُذُ الصَّغِيرَةَ فَيَضَعُهَا فِي حِجْرِهِ، وَيُقَبِّلُهَا: فَإِنْ كَانَ يَجِدُ شَهْوَةً فَلَا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا بَأْسَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْمَدِينِيِّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَرْسَلَ بِابْنَةٍ لَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ مَوْلَاةٍ لَهُ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَدِهِ، وَقَالَ: ابْنَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. فَتَحَرَّكَتْ الْأَجْرَاسُ مِنْ رِجْلِهَا فَأَخَذَهَا عُمَرُ فَقَطَعَهَا، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَعَ كُلِّ جَرَسٍ شَيْطَانٌ» فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْ حَدًّا تَصْلُحُ لِلنِّكَاحِ. كَابْنَةِ تِسْعٍ، فَإِنَّ عَوْرَتَهَا مُخَالِفَةٌ لِعَوْرَةِ الْبَالِغَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، كَقَوْلِنَا فِي الْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ مَعَ النِّسَاءِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَتْ عَلَيَّ ابْنَةُ أَخِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 مُزَيَّنَةً، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْرَضَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي وَجَارِيَةٌ فَقَالَ: «إذَا عَرَكَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ إلَّا وَجْهَهَا وَإِلَّا مَا دُونَ هَذَا وَقَبَضَ عَلَى ذِرَاعِ نَفْسِهِ، فَتَرَكَ بَيْنَ قَبْضَتِهِ وَبَيْنَ الْكَفِّ مِثْلَ قَبْضَةٍ أُخْرَى أَوْ نَحْوِهَا» وَذَكَرَ حَدِيثَ أَسْمَاءَ: «إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَتَخْصِيصُ الْحَائِضِ بِهَذَا التَّحْدِيدِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهَا. [فَصْلٌ مَنْ ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ الرِّجَالِ لِكِبَرٍ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ] (5340) فَصْلٌ: وَمَنْ ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ الرِّجَالِ، لِكِبَرٍ، أَوْ عُنَّةٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ الْخَصِيُّ، أَوْ الشَّيْخُ، أَوْ الْمُخَنَّثُ الَّذِي لَا شَهْوَةَ لَهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذِي الْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] أَيْ: غَيْرِ أُولِي الْحَاجَةِ إلَى النِّسَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي لَا تَسْتَحِي مِنْهُ النِّسَاءُ وَعَنْهُ: هُوَ الْمُخَنَّثُ الَّذِي لَا يَقُومُ زُبُّهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ الَّذِي لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ فَإِنْ كَانَ الْمُخَنَّثُ ذَا شَهْوَةٍ. وَيَعْرِفُ أَمْرَ النِّسَاءِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً، أَنَّهَا إذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا؟ لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا فَحَجَبُوهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَيْسَ الْمُخَنَّثُ الَّذِي تُعْرَفُ فِيهِ الْفَاحِشَةُ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا التَّخْنِيثُ شِدَّةُ التَّأْنِيثِ فِي الْخِلْقَةِ، حَتَّى يُشْبِهَ الْمَرْأَةَ فِي اللِّينِ، وَالْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالنَّغْمَةِ، وَالْعَقْلِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي النِّسَاءِ إرْبٌ، وَكَانَ لَا يَفْطِنُ لِأُمُورِ النِّسَاءِ، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ الَّذِينَ أُبِيحَ لَهُمْ الدُّخُولُ عَلَى النِّسَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْمُخَنَّثَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى نِسَائِهِ، فَلَمَّا سَمِعَهُ يَصِفُ ابْنَةَ غَيْلَانَ، وَفَهِمَ أَمْرَ النِّسَاءِ، أَمَرَ بِحَجْبِهِ؟ . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 [فَصْلٌ عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ] (5341) فَصْلٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّظَرُ مِنْ صَاحِبِهِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَفِي حَدِّهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَالْأُخْرَى: الْفَرْجَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَدِ وَذِي اللِّحْيَةِ، إلَّا أَنَّ الْأَمْرَدَ إنْ كَانَ جَمِيلًا، يُخَافُ الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَمْرُدُ، ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءَ ظَهْرِهِ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الْأَعْيَنَ يَقُولُ: قَدِمَ عَلَيْنَا إنْسَانٌ مِنْ خُرَاسَانَ، صَدِيقٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَمَعَهُ غُلَامٌ ابْنُ أُخْتٍ لَهُ، وَكَانَ جَمِيلًا، فَمَضَى إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَحَدَّثَهُ، فَلَمَّا قُمْنَا خَلَا بِالرَّجُلِ، وَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الْغُلَامُ مِنْك؟ قَالَ: ابْنُ أُخْتِي. قَالَ: إذَا جِئْتنِي لَا يَكُونُ مَعَك، وَاَلَّذِي أَرَى لَك أَنْ لَا يَمْشِيَ مَعَك فِي طَرِيقٍ. فَأَمَّا الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سَبْعًا فَلَا عَوْرَةَ لَهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَجَاءَ الْحَسَنُ فَجَعَلَ يَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ فَوَقَعَ مُقَدَّمُ قَمِيصِهِ، أَرَاهُ قَالَ: فَقَبَّلَ زَبِيبَتَهُ.» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ. [فَصْلٌ حُكْمُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ] (5342) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، فِي النَّظَرِ. قَالَ أَحْمَدُ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّهَا لَا تَضَعُ خِمَارَهَا عِنْدَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَأَمَّا أَنَا فَأَذْهَبُ إلَى أَنَّهَا لَا تَنْظُرُ إلَى الْفَرْجِ، وَلَا تَقْبَلُهَا حِينَ تَلِدُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَكْشِفُ قِنَاعَهَا عِنْدَ الذِّمِّيَّةِ، وَلَا تَدْخُلُ مَعَهَا الْحَمَّامَ. وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْكَوَافِرَ مِنْ الْيَهُودِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ، قَدْ كُنَّ يَدْخُلْنَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنَّ يَحْتَجِبْنَ، وَلَا أُمِرْنَ بِحِجَابٍ وَقَدْ «قَالَتْ عَائِشَةُ: جَاءَتْ يَهُودِيَّةٌ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: أَعَاذَك اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.» وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: «قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي، وَهِيَ رَاغِبَةٌ - يَعْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ - فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصِلُهَا؟ قَالَ نَعَمْ» ؛ وَلِأَنَّ الْحَجْبَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحَجْبُ بَيْنَهُمَا، كَالْمُسْلِمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 مَعَ الذِّمِّيِّ؛ وَلِأَنَّ الْحِجَابَ إنَّمَا يَجِبُ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَأَمَّا قَوْلُهُ {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ جُمْلَةَ النِّسَاءِ. [فَصْلٌ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ] (5343) فَصْلٌ: فَأَمَّا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: لَهَا النَّظَرُ إلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. وَالْأُخْرَى: لَا يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ مِنْ الرَّجُلِ إلَّا إلَى مِثْلِ مَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْهَا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ نَبْهَانَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كُنْت قَاعِدَةً عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَحَفْصَةُ فَاسْتَأْذَنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْتَجِبْنَ مِنْهُ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ قَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا لَا تُبْصِرَانِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ النِّسَاءَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِنَّ، كَمَا أَمَرَ الرِّجَالَ بِهِ؛ وَلِأَنَّ النِّسَاءَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْآدَمِيِّينَ، فَحَرُمَ، عَلَيْهِنَّ النَّظَرُ إلَى النَّوْعِ الْآخَرِ قِيَاسًا عَلَى الرِّجَالِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمَ لِلنَّظَرِ خَوْفُ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا فِي الْمَرْأَةِ أَبْلَغُ، فَإِنَّهَا أَشَدُّ شَهْوَةً، وَأَقَلُّ عَقْلًا، فَتُسَارِعُ الْفِتْنَةُ إلَيْهَا أَكْثَرَ. وَلَنَا «، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ فَلَا يَرَاكِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «. وَيَوْمَ فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُطْبَةِ الْعِيدِ، مَضَى إلَى النِّسَاءِ فَذَكَّرَهُنَّ، وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ» ؛ وَلِأَنَّهُنَّ لَوْ مُنِعْنَ النَّظَرَ، لَوَجَبَ عَلَى الرِّجَالِ الْحِجَابُ، كَمَا وَجَبَ عَلَى النِّسَاءِ، لِئَلَّا يَنْظُرْنَ إلَيْهِمْ. فَأَمَّا حَدِيثُ نَبْهَانَ فَقَالَ أَحْمَدُ: نَبْهَانُ رَوَى حَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ. يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ. إذْ لَمْ يَرْوِ إلَّا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُخَالِفَيْنِ لِلْأُصُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: نَبْهَانُ مَجْهُولٌ، لَا يُعْرَفُ إلَّا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ صَحِيحٌ فَالْحُجَّةُ بِهِ لَازِمَةٌ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ حَدِيثَ نَبْهَانَ خَاصٌّ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ حَدِيثُ نَبْهَانَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً وَحَدِيثُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 فَاطِمَةَ لِسَائِرِ النَّاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ فَتَقْدِيمُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِحَدِيثٍ مُفْرَدٍ، فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ أَمَتَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُمْ بِالنَّهَارِ وَيَبْعَثَ بِهَا إلَيْهِ بِاللَّيْلِ] (5344) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُمْ بِالنَّهَارِ، وَيَبْعَثَ بِهَا إلَيْهِ بِاللَّيْلِ، فَالْعَقْدُ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ، وَعَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ مُدَّةَ مُقَامِهَا عِنْدَهُ) أَمَّا الشَّرْطُ: فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الِاسْتِمْتَاعَ إنَّمَا يَكُونُ لَيْلًا، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ، فَيَكُونَانِ صَحِيحَيْنِ. وَعَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ فِي اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهَا سُلِّمَتْ إلَيْهِ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَإِذَا لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ النَّهَارِ عَلَى الزَّوْجِ، وَجَبَتْ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهَا فِي خِدْمَتِهِ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الْأَصْلِ فِي وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَكَذَلِكَ الْكُسْوَةُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالتَّمْكِينِ التَّامِّ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْهَا شَيْءٌ كَالْحُرَّةِ إذَا بَذَلَتْ التَّسْلِيمَ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ دُونَ بَعْضٍ. وَلَنَا أَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ، فَوَجَبَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يَسْتَوْفِيهِ، كَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَفَارَقَتْ الْحُرَّةَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ فِي الْبَعْضِ، فَلَمْ تُسَلِّمْ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا تَسْلِيمُهُ، وَهَاهُنَا قَدْ سَلَّمَ السَّيِّدُ جَمِيعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَقَالَ الْقَاضِي: الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ، وَلَهُ اسْتِخْدَامُهَا نَهَارًا، وَعَلَيْهِ إرْسَالُهَا لَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ زَمَانُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مِنْ أَمَتِهِ مَنْفَعَتَيْنِ، مَنْفَعَةَ الِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَى إحْدَاهُمَا، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا إلَّا فِي زَمَنِ اسْتِيفَائِهَا، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا لِلْخِدْمَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا إلَّا فِي زَمَنِهَا وَهُوَ النَّهَارُ، وَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ إقَامَتِهَا عِنْدَهُمَا وَإِنْ تَبَرَّعَ السَّيِّدُ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَالنَّفَقَةُ كُلُّهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ تَبَرَّعَ الزَّوْجُ بِتَرْكِهَا عِنْدَ السَّيِّدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا عَنْهُ. وَلَوْ تَبَرُّعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَرْكِهَا عِنْدَ الْآخَرِ، وَتَدَافَعَاهَا، كَانَتْ نَفَقَتُهَا كُلُّهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ، مَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا، عُدْوَانًا أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا مَعَ تَعَذُّرِ اسْتِمْتَاعِهَا بِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّيِّدِ هَاهُنَا مَنْعٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 فَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِوُجُودِ الزَّوْجِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا، وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْهَا. (5346) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ بِهَا، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ خِدْمَتَهَا الْمُسْتَحَقَّةَ لِسَيِّدِهَا، وَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ السَّفَرَ بِهَا، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي. فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّ الزَّوْجِ مِنْهَا، فَمُنِعَ مِنْهُ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ مَعَ الْإِقَامَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِإِحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَ الْآخَرِ مِنْ السَّفَرِ بِهَا، كَالسَّيِّدِ، وَكَمَا لَوْ أَجَّرَهَا ثُمَّ أَرَادَ السَّفَرَ بِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ السَّفَرَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ رَقَبَتِهَا، كَسَيِّدِ الْعَبْدِ إذَا زَوَّجَهُ، وَإِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنْ تُسَلَّمَ إلَيْهِ الْأَمَةُ لَيْلًا وَنَهَارًا، جَازَ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا كُلُّهَا، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ السَّفَرُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي نَفْعِهَا. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ أَنْ يَخْتَارَ ذَاتَ الدِّينِ] (5347) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ أَنْ يَخْتَارَ ذَاتَ الدِّينِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيَخْتَارُ الْبِكْرَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتَزَوَّجْت يَا جَابِرُ؟ قَالَ: قُلْت: نَعَمْ قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قَالَ: قُلْت: بَلْ ثَيِّبًا قَالَ: فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ، فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْقَى أَرْحَامًا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِي رِوَايَةٍ: «وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ نِسَاءٍ يُعْرَفْنَ بِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَرَوَى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أَصَبْت امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْكُمْ بِنِسَاءِ الْأَعَاجِمِ، فَالْتَمِسُوا أَوْلَادَهُنَّ فَإِنَّ فِي أَرْحَامِهِنَّ الْبَرَكَةَ» وَيَخْتَارُ الْجَمِيلَةَ؛ لِأَنَّهَا أَسْكَنُ لِنَفْسِهِ، وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَكْمَلُ لِمَوَدَّتِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وَلِذَلِكَ شُرِعَ النَّظَرُ قَبْلَ النِّكَاحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا النِّسَاءُ لُعَبٌ، فَإِذَا اتَّخَذَ أَحَدُكُمْ لُعْبَةً فَلِيَسْتَحْسِنَّهَا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ الَّتِي تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَلَا فِي مَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ فَائِدَةٍ أَفَادَهَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَهَا، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهَا» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَيَخْتَارُ ذَاتَ الْعَقْلِ، وَيَجْتَنِبُ الْحَمْقَاءَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ وَلَا يَطِيبُ الْعَيْشُ مَعَهَا، وَرُبَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى وَلَدِهَا. وَقَدْ قِيلَ: اجْتَنِبُوا الْحَمْقَاءَ، فَإِنَّ وَلَدَهَا ضَيَاعٌ، وَصُحْبَتَهَا بَلَاءٌ. وَيَخْتَارُ الْحَسِيبَةَ، لِيَكُونَ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَشْبَهَ أَهْلَهَا، وَنَزَعَ إلَيْهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَانْظُرْ إلَى أَبِيهَا وَأَخِيهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إلَيْهِمْ» وَيَخْتَارُ الْأَجْنَبِيَّةَ، فَإِنَّ وَلَدَهَا أَنْجَبُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا يَعْنِي: انْكِحُوا الْغَرَائِبَ كَيْ لَا تَضْعُفَ أَوْلَادُكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْغَرَائِبُ أَنْجَبُ، وَبَنَاتُ الْعَمِّ أَصْبَرُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْعَدَاوَةُ فِي النِّكَاحِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى الطَّلَاقِ، فَإِذَا كَانَ فِي قَرَابَتِهِ أَفْضَى إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ] َ التَّحْرِيمُ لِلنِّكَاحِ ضَرْبَانِ: تَحْرِيمُ عَيْنٍ، وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ. وَيَتَنَوَّعُ أَيْضًا نَوْعَيْنِ: تَحْرِيمُ نَسَبٍ، وَتَحْرِيمُ سَبَبٍ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَالْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا وَاَلَّتِي بَعْدَهَا، وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 [الْمُحَرَّمَاتُ نِكَاحُهُنَّ بِالْأَنْسَابِ] (5348) قَالَ: (وَالْمُحَرَّمَاتُ نِكَاحُهُنَّ بِالْأَنْسَابِ: الْأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَسْبَابِ: الْأُمَّهَاتُ الْمُرْضِعَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ، وَبَنَاتُ النِّسَاءِ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ، وَحَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ، وَزَوْجَاتُ الْأَبِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ فِي الْكِتَابِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، سَبْعٌ بِالنَّسَبِ، وَاثْنَتَانِ بِالرَّضَاعِ، وَأَرْبَعٌ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَوَاحِدَةٌ بِالْجَمْعِ. فَأَمَّا اللَّوَاتِي بِالنَّسَبِ فَأَوَّلُهُنَّ الْأُمَّهَاتُ، وَهُنَّ كُلُّ مَنْ انْتَسَبْت إلَيْهَا بِوِلَادَةٍ، سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الْأُمِّ حَقِيقَةً، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْك. أَوْ مَجَازًا، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَك وَإِنْ عَلَتْ، مِنْ ذَلِكَ جَدَّتَاك: أُمُّ أُمِّك وَأُمُّ أَبِيك، وَجَدَّتَا أُمِّك وَجَدَّتَا أَبِيك، وَجَدَّاتُ جَدَّاتِك وَجَدَّاتُ أَجْدَادِك وَإِنْ عَلَوْنَ، وَارِثَاتٍ كُنَّ أَوْ غَيْرَ وَارِثَاتٍ، كُلُّهُنَّ أُمَّهَاتٌ مُحَرَّمَاتٌ ذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَاجَرَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ وَفِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى أَبِينَا آدَمَ وَأُمِّنَا حَوَّاءَ. وَالْبَنَاتُ، وَهُنَّ كُلُّ أُنْثَى انْتَسَبَتْ إلَيْك بِوِلَادَتِك كَابْنَةِ الصُّلْبِ، وَبَنَاتِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُنَّ. وَارِثَاتٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثَاتٍ، كُلُّهُنَّ بَنَاتٌ مُحَرَّمَاتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ بِنْتُ آدَمَ، كَمَا أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ابْنُ آدَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ الْأَبِ، أَوْ مِنْ الْأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِنَّ، وَالْعَمَّاتُ أَخَوَاتُ الْأَبِ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، وَأَخَوَاتُ الْأَجْدَادِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَمِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، قَرِيبًا كَانَ الْجَدُّ أَوْ بَعِيدًا، وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء: 23] وَالْخَالَاتُ أَخَوَاتُ الْأُمِّ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، وَأَخَوَاتُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جَدَّةٍ أُمٌّ، فَكَذَلِكَ كُلُّ أُخْتٍ لِجَدَّةٍ خَالَةٌ مُحَرَّمَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] وَبَنَاتُ الْأَخِ، كُلُّ امْرَأَةٍ انْتَسَبَتْ إلَى أَخٍ بِوِلَادَةٍ فَهِيَ بِنْتُ أَخٍ مُحَرَّمَةٌ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ الْأَخُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء: 23] وَبَنَاتُ الْأُخْتِ كَذَلِكَ أَيْضًا مُحَرَّمَاتٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فَهَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ النَّوْعُ الثَّانِي، الْمُحَرَّمَاتُ تَحْرِيمَ السَّبَبِ وَهُوَ قِسْمَانِ: رَضَاعٌ وَمُصَاهَرَةٌ، فَأَمَّا الرَّضَاعُ: فَالْمَنْصُوصُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِيهِ اثْنَتَانِ؛ الْأُمَّهَاتُ الْمُرْضِعَاتُ، وَهُنَّ اللَّاتِي أَرْضَعْنَك وَأُمَّهَاتُهُنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وَجَدَّاتُهُنَّ وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُنَّ، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّسَبِ، مُحَرَّمَاتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] كُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْك أُمُّهَا، أَوْ أَرْضَعَتْهَا أُمُّك أَوْ أَرْضَعَتْك وَإِيَّاهَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ ارْتَضَعْت أَنْتَ وَهِيَ مِنْ لَبَنِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ، لَهُمَا لَبَنٌ أَرْضَعَتْك إحْدَاهُمَا، وَأَرْضَعَتْهَا الْأُخْرَى، فَهِيَ أُخْتُك. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْك لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] الْقِسْمُ الثَّانِي: تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَرْبَعٌ، أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ، فَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَرُمَ عَلَيْهِ كُلُّ أُمٍّ لَهَا، مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَكَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِابْنَتِهَا، كَمَا لَا تَحْرُمُ ابْنَتُهَا إلَّا بِالدُّخُولِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهَا مِنْ نِسَائِهِ، فَتَدْخُلُ أُمُّهَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ الْقُرْآنُ يَعْنِي عَمِّمُوا حُكْمَهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَا تَفْصِلُوا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ دَخَلَ بِهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَبِيبَتَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ زَيْدٌ تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ أَوْ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ وُجِدَ الدُّخُولُ أَوْ الْمَوْتُ أَوْ لَا؛ وَلِأَنَّهَا حَرُمَتْ بِالْمُصَاهَرَةِ بِقَوْلٍ مُبْهَمٍ، فَحَرُمَتْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، كَحَلِيلَةِ الِابْنِ وَالْأَبِ. الثَّانِيَةُ: بَنَاتُ النِّسَاءِ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ، وَهُنَّ الرَّبَائِبُ، فَلَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالدُّخُولِ بِأُمَّهَاتِهِنَّ، وَهُنَّ كُلُّ بِنْتٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، وَارِثَةٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثَةٍ، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَنَاتِ، إذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا رَخَّصَا فِيهَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي هَذَا «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ حَبِيبَةَ: لَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ» وَلِأَنَّ التَّرْبِيَةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي التَّحْرِيمِ كَسَائِرِ الْمُحَرِّمَاتِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَمْ تَخْرُجْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ تَعْرِيفًا لَهَا بِغَالِبِ حَالِهَا، وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِمَفْهُومِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إذَا بَانَتْ مِنْ نِكَاحِهِ، إلَّا أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: تَحْرُمُ ابْنَتُهَا. وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ الْمَوْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي تَكْمِيلِ الْعِدَّةِ وَالصَّدَاقِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا تَحْرُمُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَهَذَا نَصٌّ لَا يُتْرَكُ لِقِيَاسٍ ضَعِيفٍ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَمْ تُحَرِّمْ الرَّبِيبَةَ. كَفُرْقَةِ الطَّلَاقِ، وَالْمَوْتُ لَا يَجْرِي مَجْرَى الدُّخُولِ فِي الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ وَعِدَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَقِيَامُهُ مَقَامَهُ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ مُفَارَقَتِهِ إيَّاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَوْ قَامَ مَقَامَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يُتْرَكُ صَرِيحُ نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى وَنَصِّ رَسُولِهِ لِقِيَاسٍ وَلَا غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الدُّخُولَ بِهَا هُوَ وَطْؤُهَا، كُنِّيَ عَنْهُ بِالدُّخُولِ، فَإِنْ خَلَا بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا، لَمْ تَحْرُمْ ابْنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُهَا؛ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمَا وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمَدْخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا، إلَّا فِي الرُّجُوعِ إلَى زَوْجٍ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَفِي الزِّنَا، فَإِنَّهُمَا يُجْلَدَانِ وَلَا يُرْجَمَانِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّالِثَةُ: حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ، يَعْنِي أَزْوَاجَهُمْ، سُمِّيَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ حَلِيلَتَهُ لِأَنَّهَا مَحَلُّ إزَارِ زَوْجِهَا، وَهِيَ مُحَلَّلَةٌ لَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَزْوَاجُ أَبْنَائِهِ، وَأَبْنَاءُ بَنَاتِهِ، مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. الرَّابِعَةُ: زَوْجَاتُ الْأَبِ، فَتَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ امْرَأَةُ أَبِيهِ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا، وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: «لَقِيت خَالِي، وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقُلْت: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ أَوْ أَقْتُلَهُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَقِيت عَمِّي الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو، وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَذَكَرَ الْخَبَرَ كَذَلِكَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا امْرَأَةُ أَبِيهِ، أَوْ امْرَأَةُ جَدِّهِ لِأَبِيهِ، وَجَدِّهِ لِأُمِّهِ، قَرُبَ أَمْ بَعُدَ وَلَيْسَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافٌ عَلِمْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَيَحْرُمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 عَلَيْهِ مَنْ وَطِئَهَا أَبُوهُ، أَوْ ابْنُهُ، بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ شُبْهَةٍ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْ وَطِئَهَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْمِلْكُ فِي هَذَا وَالرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا ذَلِكَ عَنْهُ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَكْحُولٌ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُمْ. الضَّرْبُ الثَّانِي: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، حُرَّتَيْنِ كَانَتَا أَوْ أَمَتَيْنِ أَوْ حُرَّةً وَأَمَةً، مِنْ أَبَوَيْنِ كَانَتَا أَوْ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، لِعُمُومِ الْآيَةِ. فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ حَالَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَنِكَاحُ الْأُولَى صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ جَمْعٌ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا - بِحَمْدِ اللَّهِ - اخْتِلَافٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَفْرِيعٌ. [مَسْأَلَةٌ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ] (5349) مَسْأَلَةٌ: (وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) كُلُّ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ مِنْ النَّسَبِ حَرُمَ مِثْلُهَا مِنْ الرَّضَاعِ، وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ فِي النَّسَبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «الرَّضَاعُ يُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِنَّ، وَالْبَاقِيَاتُ يَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ لَفْظِ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. [مَسْأَلَةٌ لَبَنُ الْفَحْلِ مُحَرِّمٌ] (5350) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَبَنُ الْفَحْلِ مُحَرِّمٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا بِلَبَنٍ ثَابَ مِنْ وَطْءِ رَجُلٍ حَرُمَ الطِّفْلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَقَارِبِهِ، كَمَا يَحْرُمُ وَلَدُهُ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ الرَّجُلِ كَمَا هُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَيَصِيرُ الطِّفْلُ وَلَدًا لِلرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ أَبَاهُ، وَأَوْلَادُ الرَّجُلِ إخْوَتَهُ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ وَأَخَوَاتُهُ أَعْمَامُ الطِّفْلِ وَعَمَّاتُهُ، وَآبَاؤُهُ وَأُمَّهَاتُهُ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ لَبَنُ الْفَحْلِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ، فَتُرْضِعَ هَذِهِ صَبِيَّةً وَهَذِهِ صَبِيًّا لَا يُزَوَّجُ هَذَا مِنْ هَذَا وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ، أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةٍ وَالْأُخْرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 غُلَامًا، فَقَالَ: لَا، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا تَفْسِيرُ لَبَنِ الْفَحْلِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَرَخَّصَ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرِ مُسَمِّينَ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ الرَّجُلِ. وَيُرْوَى عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ، فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي، فَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي. أَرَاهُ وَالِدًا، وَمَا وَلَدَ فَهُمْ إخْوَتِي، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إلَيَّ يَخْطُبُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي، عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيَّةِ، فَقُلْت لِرَسُولِهِ: وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّمَا أَرَدْت بِهَذَا الْمَنْعَ لِمَا قِبَلَك، أَمَّا مَا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ فَهُمْ إخْوَتُك، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءَ فَلَيْسُوا لَك بِإِخْوَةٍ، فَأَرْسِلِي فَسَلِي عَنْ هَذَا، فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ، فَقَالُوا لَهَا: إنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَأَنْكَحَتْهَا إيَّاهُ، فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ عَنْهَا. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ بِقَوْلِ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعِ مَا يُحَرَّمُ مِنْ النَّسَبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يَعْتَقِدُهَا ابْنَتَهُ وَتَعْتَقِدُهُ أَبَاهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، وَقَوْلُهُ مَعَ إقْرَارِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِهِ وَقَوْلِ قَوْمٍ لَا يُعْرَفُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 [مَسْأَلَةٌ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا] (5351) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ - بِحَمْدِ اللَّهِ - اخْتِلَافٌ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ مِمَّنْ لَا تُعَدُّ مُخَالَفَتُهُ خِلَافًا، وَهُمْ الرَّافِضَةُ وَالْخَوَارِجُ، لَمْ يُحَرِّمُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا، لَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى» وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] خَصَّصْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ وَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْخَوَارِجِ أَتَيَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَكَانَ مِمَّا أَنْكَرَا عَلَيْهِ رَجْمَ الزَّانِيَيْنِ وَتَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا، وَقَالَا: لَيْسَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُمَا: كَمْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ الصَّلَاةِ؟ قَالَا: خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَسَأَلَهُمَا عَنْ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ وَسَأَلَهُمَا عَنْ مِقْدَارِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: فَأَيْنَ تَجِدَانِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَا: لَا نَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ صِرْتُمَا إلَى ذَلِكَ؟ قَالَا: فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ: قَالَ فَكَذَلِكَ هَذَا. ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ، حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، كَعَمَّاتِ آبَائِهَا وَخَالَاتِهِمْ، وَعَمَّاتِ أُمَّهَاتِهَا وَخَالَاتِهِنَّ، وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُنَّ، مِنْ نَسَبٍ كَانَ ذَلِكَ أَوْ مِنْ رَضَاعٍ فَكُلُّ شَخْصَيْنِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْآخَرَ، لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ، لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِتَأْدِيَةِ ذَلِكَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْقَرِيبَةِ، لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ التَّنَافُسِ وَالْغَيْرَةِ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُمِّهَا فِي الْعَقْدِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّ إلَى ابْنَتِهَا أَقْرَبُ مِنْ الْأُخْتَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَالْمَرْأَةُ وَبِنْتُهَا أَوْلَى. [فَصْلٌ لَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ ابْنَتَيْ الْعَمِّ وَابْنَتَيْ الْخَالِ] فَصْلٌ: وَلَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ ابْنَتَيْ الْعَمِّ، وَابْنَتَيْ الْخَالِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِمَا بِالتَّحْرِيمِ، وَدُخُولِهِمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَلِأَنَّ إحْدَاهُمَا تَحِلُّ لَهَا الْأُخْرَى لَوْ كَانَتْ ذَكَرًا، وَفِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يُكْرَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى ذِي قَرَابَتِهَا، كَرَاهِيَةَ الْقَطِيعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ. وَالْأُخْرَى: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالشَّعْبِيِّ وَحَسَنِ بْنِ حَسَنٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ تُحَرِّمُ الْجَمْعَ، فَلَا يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ، كَسَائِرِ الْأَقَارِبِ. [مَسْأَلَةٌ عَقَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا] (5353) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا عَقَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ وَأَبِيهِ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا، وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا فِيمَا قُلْت بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَابْنُ الِابْنِ فِيهِ وَإِنْ سَفَلَ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا عَقَدَ الرَّجُلُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وَهَذِهِ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ، وَتَحْرُمُ عَلَى ابْنِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَهَذِهِ قَدْ نَكَحَهَا أَبُوهُ، وَتَحْرُمُ أُمُّهَا عَلَيْهِ لَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَهَذِهِ مِنْهُنَّ وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ - بِحَمْدِ اللَّهِ -، إلَّا شَيْءٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْجَدُّ كَالْأَبِ فِي هَذَا، وَابْنُ الِابْنِ كَالِابْنِ. فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَالْوَارِثُ وَغَيْرُهُ، مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَمِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ أَوْ وَلَدِ الْبَنَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ كُلُّ مُحَرَّمَةٍ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا] (5354) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ، فَبَنَاتُهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ كَهُنَّ، إلَّا بَنَاتِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ مَنْ نَكَحَهُنَّ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ، فَإِنَّهُنَّ مُحَلَّلَاتٌ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ الزَّوْجَةِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُحَرَّمَةٍ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا، لِتَنَاوُلِ التَّحْرِيمِ لَهَا، فَالْأُمَّهَاتُ تَحْرُمُ بَنَاتُهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 أَخَوَاتٌ أَوْ عَمَّاتٌ أَوْ خَالَاتٌ، وَالْبَنَاتُ تَحْرُمُ بَنَاتُهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتٌ وَيَحْرُمُ بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتُهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأُخْتِ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ بَنَاتِ الْأَخِ، إلَّا بَنَاتِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ فَلَا يَحْرُمْنَ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] . فَأَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِأَنَّهُنَّ لَمْ يُذْكَرْنَ فِي التَّحْرِيمِ فَيَدْخُلْنَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ بَنَاتُ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ؛ لِأَنَّهُنَّ حُرِّمْنَ لِكَوْنِهِنَّ حَلَائِلَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي بَنَاتِهِنَّ، وَلَا وُجِدَتْ فِيهِنَّ عِلَّةٌ أُخْرَى تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُنَّ فَدَخَلْنَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَكَذَلِكَ بَنَاتُ الزَّوْجَةِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا مُحَلَّلَاتٌ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَهُنَّ الرَّبَائِبُ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ حُرِّمَتْ أُمُّهُنَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ، فَيُشْتَبَهُ حُكْمُهَا فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ حُرِّمَتْ ابْنَةُ الرَّبِيبَةِ، وَلَمْ تُحَرَّمْ ابْنَةُ حَلِيلَةِ الِابْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ ابْنَةَ الرَّبِيبَةِ رَبِيبَةٌ، وَابْنَةَ الْحَلِيلَةِ لَيْسَتْ حَلِيلَةً؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ أَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا، وَالْخَلْوَةِ بِهَا، بِكَوْنِهَا فِي حِجْرِهِ فِي بَيْتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي بِنْتِهَا وَإِنْ سَفَلَتْ، وَالْحَلِيلَةُ حُرِّمَتْ بِنِكَاحِ الْأَبِ وَالِابْنِ لَهَا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي ابْنَتِهَا. [مَسْأَلَةٌ وَطْءُ الْحَرَامِ مُحَرِّمٌ] (5355) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَوَطْءُ الْحَرَامِ مُحَرِّمٌ كَمَا يُحَرِّمُ وَطْءُ الْحَلَالِ وَالشُّبْهَةِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَإِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ أَوْ حَلَالًا وَلَوْ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَعُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَوْطُوءَةُ فِرَاشًا، فَلَا يُحَرِّمُ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَالْوَطْءُ يُسَمَّى نِكَاحًا قَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 إذَا زَنَيْت فَأَجِدْ نِكَاحًا فَحُمِلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} [النساء: 22] وَهَذَا التَّغْلِيظُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْوَطْءِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: (مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا) فَذَكَرْته لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَأَعْجَبَهُ وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ مِنْ التَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُفْسِدُهُ الْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ، فَأَفْسَدَهُ الْوَطْءُ الْحَرَامُ كَالْإِحْرَامِ، وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ أَشْوَعَ وَبَعْضِ قُضَاةِ الْعِرَاقِ كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقِيلَ: إنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَطْءُ الصَّغِيرَةِ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ. [فَصْلٌ الْوَطْءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ] (5356) فَصْلٌ: وَالْوَطْءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مُبَاحٌ، وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُعْتَبَرُ مَحْرَمًا لِمَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، أَشْبَهَ النَّسَبَ. الثَّانِي: الْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ، وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ شِرَاءٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءُ امْرَأَةٍ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، أَوْ وَطْءُ الْأَمَةِ. الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَتَعَلُّقِهِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ، أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَجْدَادِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَأَثْبَتَ التَّحْرِيمَ، كَالْوَطْءِ الْمُبَاحِ. وَلَا يَصِيرُ بِهِ الرَّجُلُ مَحْرَمًا لِمَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ بِهِ النَّظَرُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ بِمُبَاحٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِكَمَالِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْطُوءَةَ لَمْ يَسْتَبِحْ النَّظَرُ إلَيْهَا فَلَأَنْ لَا يَسْتَبِيحَ النَّظَرُ إلَى غَيْرِهَا أَوْلَى. الثَّالِثُ: الْحَرَامُ الْمَحْضُ، وَهُوَ الزِّنَا، فَيَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ، عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْمَحْرَمِيَّةُ، وَلَا إبَاحَةُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَبِالْحَرَامِ الْمَحْضِ أَوْلَى، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبٌ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ إذَا طَاوَعَتْهُ فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 [فَصْلٌ الزِّنَى فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ] (5357) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْن الزِّنَى فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِيمَا إذَا وُجِدَ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَى. فَإِنْ تَلَوَّطَ بِغُلَامٍ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ أَيْضًا، فَيَحْرُمُ عَلَى اللَّائِطِ أُمُّ الْغُلَامِ وَابْنَتُهُ، وَعَلَى الْغُلَامِ أُمُّ اللَّائِطِ وَابْنَتُهُ. قَالَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي الْفَرْجِ، فَنَشَرَ الْحُرْمَةَ، كَوَطْءِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهَا بِنْتُ مَنْ وَطِئَهُ وَأُمُّهُ، فَحَرُمَتَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ أُنْثَى. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَكُونُ ذَلِكَ كَالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ، يَكُونُ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِنَّ فِي التَّحْرِيمِ، فَيَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَلِأَنَّهُنَّ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِنَّ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِيهِنَّ، فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِنَّ فِي هَذَا حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ، وَمَنْ نَكَحَهُنَّ الْآبَاءُ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مِنْهُنَّ، وَلَا فِي مَعْنَاهُنَّ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمَرْأَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْبَعْضِيَّةِ، وَيُوجِبُ الْمَهْرَ، وَيَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، وَتَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، وَيُثْبِتُ أَحْكَامًا لَا يُثْبِتُهَا اللِّوَاطُ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهِنَّ؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ، وَانْقِطَاعِ الشَّبَهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَ الرَّجُلُ طِفْلًا، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ، وَاطِّرَاحُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ. [فَصْلٌ نِكَاحُ بِنْتِهِ مِنْ الزِّنَى وَأُخْتِهِ وَبِنْتِ ابْنِهِ وَبِنْتِ بِنْتِهِ وَبِنْتِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ مِنْ الزِّنَى] (5358) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ نِكَاحُ بِنْتِهِ مِنْ الزِّنَى، وَأُخْتِهِ، وَبِنْتِ ابْنِهِ، وَبِنْتِ بِنْتِهِ، وَبِنْتِ أَخِيهِ، وَأُخْتِهِ مِنْ الزِّنَى. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ: يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ وَلَا تُنْسَبُ إلَيْهِ شَرْعًا، وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهَا، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] . وَهَذِهِ بِنْتُهُ، فَإِنَّهَا أُنْثَى مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: «اُنْظُرُوهُ. يَعْنِي وَلَدَهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ» . يَعْنِي الزَّانِيَ. وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَأَشْبَهْت الْمَخْلُوقَةَ مَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، وَلِأَنَّهَا بِضْعَةٌ مِنْهُ، فَلَمْ تَحِلَّ لَهُ، كَبِنْتِهِ مِنْ النِّكَاحِ، وَتَخَلُّفُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا بِنْتًا، كَمَا لَوْ تَخَلَّفَ لِرِقٍّ أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْن عِلْمِهِ بِكَوْنِهَا مِنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَحْفَظَهَا حَتَّى تَضَعَ، أَوْ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ، فَتَأْتِيَ بِوَلَدٍ لَا يُعْلَمُ هَلْ هُوَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا بِنْتُ مَوْطُوءَتِهِمْ. وَالثَّانِي، أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا بِنْتُ بَعْضِهِمْ، فَتَحْرُمْ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ، وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَتَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ بَعْضِهِمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهَا الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمْ، حَلَّتْ لِأَوْلَادِ الْبَاقِينَ، وَلَمْ تَحِلَّ لَأَحَدٍ مِمَّنْ وَطِئَ أُمَّهَا؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى رَبِيبَتِهِ. [فَصْلٌ وَطْءُ الْمَيِّتَةِ] (5359) فَصْلٌ: وَوَطْءُ الْمَيِّتَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْحَيَاةِ كَالرَّضَاعِ. وَالثَّانِي، لَا يَنْشُرُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَعَلَّقُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْوَطْءِ، وَالْمَوْتُ يُبْطِلُ الْمَنَافِعَ. وَأَمَّا الرَّضَاعُ، فَيُحَرِّمُ؛ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ، وَهَذَا يَحْصُلُ مِنْ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ. وَفِي وَطْءِ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَنْشُرُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَآدَمِيَّةٍ حَيَّةٍ فِي الْقُبُلِ، أَشْبَهَ وَطْءَ الْكَبِيرَةِ. وَالثَّانِي، لَا يَنْشُرُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْبَعْضِيَّةِ أَشْبَهَ وَطْءَ الْمَيِّتَةِ. [فَصْلٌ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ] (5360) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، لَمْ تَنْشُرْ الْحُرْمَةَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ كَانَتْ لَشَهْوَةٍ، وَكَانَتْ فِي أَجْنَبِيَّةٍ، لَمْ تَنْشُرْ الْحُرْمَةَ أَيْضًا. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إلَى أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي شَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا، أَوْ بَاشَرَهَا. فَقَالَ: أَنَا أَقُولُ لَا يُحَرِّمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْجِمَاعَ. وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ لِامْرَأَةٍ مُحَلَّلَةٍ لَهُ، كَامْرَأَتِهِ، أَوْ مَمْلُوكَتِهِ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُحَرِّمُ الرَّبِيبَةَ إلَّا جِمَاعُ أُمِّهَا. وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . وَهَذَا لَيْسَ بِدُخُولٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْ أَجْلِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ أُمِّهَا، وَتَحْرِيمُهَا عَلَى أَبِي الْمُبَاشِرِ لَهَا وَابْنِهِ؛ فَإِنَّهَا فِي النِّكَاحِ تُحَرَّمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَا يَظْهَرُ لِلْمُبَاشَرَةِ أَثَرٌ. وَأَمَّا الْأَمَةُ، فَمَتَى بَاشَرَهَا دُونَ الْفَرْجِ لَشَهْوَةٍ، فَهَلْ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَنْشُرُهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمَسْرُوقٍ. وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ، فَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَلِأَنَّهُ تَلَذُّذٌ بِمُبَاشَرَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَمَا لَوْ وَطِئَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهَا مُلَامَسَةٌ لَا تُوجِبُ الْغُسْلَ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَلَا نَصَّ فِي هَذَا، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَا الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ اسْتِقْرَارُ الْمَهْرِ، وَالْإِحْصَانُ، وَالِاغْتِسَالُ، وَالْعِدَّةُ، وَإِفْسَادُ الْإِحْرَامِ، وَالصِّيَامُ، بِخِلَافِ اللَّمْسِ. وَذَكَر أَصْحَابُنَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. [فَصْلٌ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةِ] (5361) فَصْلٌ: وَمَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ، فَهُوَ كَلَمْسِهَا لَشَهْوَةٍ، فِيهِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْشُرُهَا اللَّمْسُ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ بَدْرِيًّا وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي مَنْ يَشْتَرِي الْخَادِمَ، ثُمَّ يُجَرِّدُهَا أَوْ يُقَبِّلُهَا، لَا يَحِلُّ لِابْنِهِ وَطْؤُهَا. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَكْحُولٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا. وَفِي لَفْظٍ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» . وَالثَّانِيَةُ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَلِأَنَّهُ نَظَرٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَلَمْ يُوجِبْ التَّحْرِيمَ، كَالنَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ، وَالْخَبَرُ ضَعِيفٌ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَقِيلَ: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ الْوَطْءِ. وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ فَلَا يَنْشُرُ حُرْمَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا فَرْقَ بَيْن النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ لَشَهْوَةٍ. وَالصَّحِيحُ، خِلَافُ هَذَا؛ فَإِنَّ غَيْرَ الْفَرْجِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ، وَلَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ فِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ لَا يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّ النَّظَرَ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْر شَهْوَةٍ لَا يَنْشُرُ حُرْمَةً؛ لِأَنَّ اللَّمْسَ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ لَا يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَالنَّظَرُ أَوْلَى. وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ فِي مِنْ بَلَغَتْ سِنًّا يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا، كَابْنَةِ تِسْعٍ فَمَا زَادَ، فَأَمَّا الطِّفْلَةُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي بِنْتِ سَبْعٍ: إذَا قَبَّلَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى السِّنِّ الَّذِي تُوجَدُ مَعَهُ الشَّهْوَةُ. (5362) فَصْلٌ: فَإِنْ نَظَرَتْ الْمَرْأَةُ إلَى فَرْجِ رَجُلٍ لَشَهْوَةٍ، فَحُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ حُكْمُ نَظَرِهِ إلَيْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَالْجِمَاعِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ لَمْسِهَا لَهُ، وَقُبْلَتِهَا إيَّاهُ لَشَهْوَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ الْخَلْوَةُ بِالْمَرْأَةِ] (5363) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِالْمَرْأَةِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَنْشُرُ حُرْمَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: إذَا خَلَا بِالْمَرْأَةِ، وَجَبَ الصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا وَابْنَتَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ الْخَلْوَةِ مُبَاشَرَةٌ، فَيُخَرَّجُ كَلَامُهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، فَأَمَّا مَعَ خَلْوَةٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالِفَةِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . وَقَوْلُهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ أَمَتِهِ، فَلَا تَنْشُرُ تَحْرِيمًا. لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَكُلُّ مَنْ حُرِّمَ نِكَاحُهَا حُرِّمَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ الْعَقْدُ الْمُرَادُ لِلْوَطْءِ، فَالْوَطْءُ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَسَدَ. وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ، فَالْأُولَى زَوْجَتُهُ، وَالْقَوْلُ فِيهِمَا الْقَوْلُ فِي الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْن الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا، أَوْ عَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، مُحَرَّمٌ. فَمَتَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَعَقَدَ عَلَيْهِمَا مَعًا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِيهِمَا، وَلَا مَزِيَّةَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَيَبْطُلُ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ زُوِّجَتْ الْمَرْأَةُ لِرَجُلَيْنِ. وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، بَطَلَ فِي الْجَمِيعِ لِذَلِكَ. وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ، فَنِكَاحُ الْأُولَى صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا جَمْعَ فِيهِ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ يَحْصُلُ بِهِ، فَبِالْعَقْدِ عَلَى الْأُولَى تُحَرَّمُ الثَّانِيَةُ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُهُ عَلَيْهَا حَتَّى تَبِينَ الْأُولَى مِنْهُ، وَيَزُولَ نِكَاحُهَا وَعِدَّتُهَا. (5365) فَصْلٌ: فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ، وَلَمْ يَدْرِ أُولَاهُمَا، فَعَلَيْهِ فُرْقَتُهُمَا مَعًا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ، لَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا تَزَوَّجَ أَوَّلًا: نُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَلَا نَعْرِفُ الْمُحَلَّلَةَ لَهُ، فَقَدْ اشْتَبَهَتَا عَلَيْهِ، وَنِكَاحُ إحْدَاهُمَا صَحِيحٌ، وَلَا تُتَيَقَّنُ بَيْنُونَتُهَا مِنْهُ إلَّا بِطَلَاقِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ فَسْخِ نِكَاحِهِمَا، فَوَجَبَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ، وَلَمْ يُعْرَفْ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُفَارِقَ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ يُجَدِّدَ عَقْدَ الْأُخْرَى وَيُمْسِكَهَا، فَلَا بَأْسَ، وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ لَا يَكُونَ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى إحْدَاهُمَا فِي الْحَالِ بَعْدَ فِرَاقِ الْأُخْرَى. الثَّانِي، إذَا دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا، فَارَقَ الَّتِي لَمْ يُصِبْهَا بِطَلْقَةٍ، ثُمَّ تَرَكَ الْمُصَابَةَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الثَّانِيَةَ، فَيَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَاحِقٌ بِهِ، وَلَا يُصَانُ ذَلِكَ عَنْ مَائِهِ. وَإِنْ أَحَبَّ نِكَاحَ الْأُخْرَى، فَارَقَ الْمُصَابَةَ بِطَلْقَةٍ، ثُمَّ انْتَظَرَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، إذَا دَخَلَ بِهِمَا، فَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُفَارِقَ الْأُخْرَى، وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ فُرْقَتِهَا، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْأُخْرَى مِنْ حِينِ أَصَابَهَا. وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ إحْدَاهُمَا، أَوْ هُمَا جَمِيعًا، فَالنَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَكِلَاهُمَا يَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يُرِدْ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَارَقَهُمَا بِطَلْقَةٍ طَلْقَةٍ. (5366) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلِإِحْدَاهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَا نَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا مَعَ يَمِينِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتِيَارِيّ أَنْ يَسْقُطَ الْمَهْرُ إذَا كَانَ مُجْبَرًا عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِنْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَقَعَتْ لِغَيْرِ الْمُصَابَةِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلِلْمُصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمُصَابَةِ، فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْرَى، وَلِلْمُصَابَةِ الْمُسَمَّى جَمِيعُهُ. وَإِنْ أَصَابَهُمَا مَعًا، فَلِإِحْدَاهُمَا الْمُسَمَّى، وَلِلْأُخْرَى مَهْرُ الْمِثْلِ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ. إنْ قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْمُسَمَّى فِيهِ، وَجَبَ هَاهُنَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَدَخَلَ بِهَا] (5367) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا، وَدَخَلَ بِهَا، اعْتَزَلَ زَوْجَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِيَةِ. إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَقْدَ عَلَى أُخْتِهَا فِي الْحَالِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْوَطْءُ لِامْرَأَتِهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا الَّتِي أَصَابَهَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَأَجْنَبِيَّةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ] (5368) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَأَجْنَبِيَّةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى أُخْتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ مَعًا، بِأَنْ يَكُونَ لَرَجُلٍ أُخْتٌ وَابْنَةُ عَمٍّ، إحْدَاهُمَا رَضِيعَةُ الْمُتَزَوِّجِ، فَيَقُولَ لَهُ: زَوَّجَتْكهَا مَعًا. فَيَقْبَلَ ذَلِكَ. فَالْمَنْصُوصُ هُنَا صِحَّةُ نِكَاحِ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَنَصَّ فِي مَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً، عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيُفَارِقُ الْأَمَةَ. وَقِيلَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَفْسُدُ فِيهِمَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ، جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْن أُخْتَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ، يَصِحُّ فِي الْحُرَّةِ. وَهِيَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلنِّكَاحِ، أُضِيفَ إلَيْهَا عَقْدٌ صَادِرٌ مِنْ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا فِيهِ مِثْلُهَا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ بِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وَفَارَقَ الْعَقْدَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَهَاهُنَا قَدْ تَعَيَّنَتْ الَّتِي بَطَلَ النِّكَاحُ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ لَهَا مِنْ الْمُسَمَّى بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمُسَمَّى. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ، يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهُمَا بِمَهْرٍ وَاحِدٍ، هَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ صَدَاقِهِمَا، أَوْ نِصْفَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، يَأْتِي ذِكْرُهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً وَمَجُوسِيَّةً أَوْ مُحَلَّلَةً وَمُحَرَّمَةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ] (5369) فَصْلٌ: وَلَوْ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً وَمَجُوسِيَّةً، أَوْ مُحَلَّلَةً وَمُحَرَّمَةً، فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَسَدَ فِي الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُحَرَّمَةِ، وَفِي الْأُخْرَى وَجْهَانِ. وَإِنْ نَكَحَ أَرْبَعَ حَرَائِرَ وَأَمَةً، فَسَدَ فِي الْأَمَةِ، وَفِي الْحَرَائِرِ وَجْهَانِ. وَإِنْ نَكَحَ الْعَبْدُ حُرَّتَيْنِ وَأَمَةً، بَطَلَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَابْنَتَهَا، فَسَدَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُحَرَّمٌ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِمَا، كَالْأُخْتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى أُخْتَيْنِ فَأَصَابَ إحْدَاهُمَا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمِلْكِ] (5370) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى أُخْتَيْنِ، فَأَصَابَ إحْدَاهُمَا، لَمْ يُصِبْ الْأُخْرَى حَتَّى تُحَرَّمَ الْأُولَى بِبَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَيُعْلَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ، فَإِنْ عَادَتْ إلَى مِلْكِهِ، لَمْ يُصِبْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، حَتَّى تُحَرَّمَ عَلَيْهِ الْأُولَى) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ سِتَّةٍ: (5371) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمِلْكِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا. وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَوَطِئَهَا، حَلَّ لَهُ شِرَاءُ أُخْتِهَا وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُقْصَدُ بِهِ التَّمَوُّلُ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَكَذَلِكَ حَلَّ لَهُ شِرَاءُ الْمَجُوسِيَّةِ، وَالْوَثَنِيَّةِ، وَالْمُعْتَدَّةِ، وَالْمُزَوَّجَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ بِالرَّضَاعِ وَبِالْمُصَاهَرَةِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ إمَائِهِ فِي الْوَطْءِ] (5372) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ إمَائِهِ فِي الْوَطْءِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَكَرِهَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَمَّارٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ؛ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلْهُ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا. يُرِيدُ بِالْمُحَرِّمَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] . وَبِالْمُحَلِّلَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ حَرَامٌ وَلَكِنْ نَنْهَى عَنْهُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَقَالَ دَاوُد، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا يُحَرَّمُ. اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ الْمُحَلِّلَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَرَائِرِ فِي الْوَطْءِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْإِمَاءِ، وَلِهَذَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ فِي الْحَرَائِرِ، وَتُبَاحُ فِي الْإِمَاءِ بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَالْمَذْهَبُ تَحْرِيمُهُ؛ لِلْآيَةِ الْمُحَرِّمَةِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْوَطْءَ وَالْعَقْدَ جَمِيعًا، بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ يُحَرَّمُ وَطْؤُهُنَّ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِنَّ، وَآيَةُ الْحِلِّ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُحَرَّمَاتِ جَمِيعِهِنَّ، وَهَذِهِ مِنْهُنَّ، وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ صَارَتْ فِرَاشًا، فَحُرِّمَتْ أُخْتُهَا كَالزَّوْجَةِ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ كَانَ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ] (5373) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ، فَلَهُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ: لَا يَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْفِرَاشِ، فَلَمْ يُحَرَّمْ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ إحْدَاهُمَا فَقَطْ. [الْفَصْل الرَّابِع كَانَ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ وَطِئَ إحْدَاهُمَا] (5374) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا، فَلَيْسَ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى نَفْسِهِ، بِإِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ تَزْوِيجٍ. هَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ. فَإِنْ رَهَنَهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُخْتُهَا؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ وَطْئِهَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَا لِتَحْرِيمِهَا، وَلِهَذَا يَحِلُّ لَهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِي وَطْئِهَا، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فَكِّهَا مَتَى شَاءَ وَاسْتِرْجَاعِهَا إلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إنْ اسْتَبْرَأَهَا، حَلَّتْ لَهُ أُخْتُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ فِرَاشُهُ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَنَفَاهُ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ انْتَفَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ زَوَّجَهَا. وَلَنَا، قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهَا، وَلَا حِلُّهَا لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَاسْتَبْرَأَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ وَطْأَهَا، فَلَا يَأْمَنُ عَوْدَهُ إلَيْهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ حَرَّمَ إحْدَاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ تُبَحْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُحَرِّمُهَا، إنَّمَا هُوَ يَمِينٌ يُكَفَّرُ، وَلَوْ كَانَ يُحَرِّمُهَا إلَّا أَنَّهُ لِعَارِضٍ، مَتَى شَاءَ أَزَالَهُ بِالْكَفَّارَةِ، فَهُوَ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ. وَإِنْ كَاتَبَ إحْدَاهُمَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَفْعِهِ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيجَ. وَلَنَا، أَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِبَاحَتِهَا بِمَا لَا يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَلَمْ تُبَحْ لَهُ أُخْتُهَا، كَالْمَرْهُونَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 [الْفَصْلُ الْخَامِس كَانَ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ أَخْرَجَ إحْدَاهُمَا مِنْ مِلْكِهِ] (5375) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُخْتُهَا، حَتَّى يَسْتَبْرِئَ الْمُخْرَجَةَ، وَيَعْلَمَ بَرَاءَتَهَا مِنْ الْحَمْلِ. وَمَتَى كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُخْتُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ، بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا. [فَصْلٌ وَطِئَ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ مَعًا] (5376) فَصْلٌ: فَإِنْ وَطِئَ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ مَعًا، فَوَطْءُ الثَّانِيَةِ مُحَرَّمٌ، وَلَا حَدَّ فِيهِ، لِأَنَّ وَطْأَهُ فِي مِلْكِهِ وَلِأَنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِي حُكْمِهَا، وَلَهُ سَبِيلٌ إلَى اسْتِبَاحَتِهَا، بِخِلَافِ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى وَيَسْتَبْرِئَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الْأُولَى بَاقِيَةٌ عَلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَ الثَّانِيَةَ. وَلَنَا، أَنَّ الثَّانِيَة قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا، فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا ابْتِدَاءً. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. لَيْسَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِمَا لَوْ وَطِئَ الْأُولَى فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ إحْرَامٍ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا، وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَوْ وَطِئَ امْرَأَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا، سَوَاءٌ وَطِئَهَا حَرَامًا أَوْ حَلَالًا. [الْفَصْل السَّادِس زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَوْطُوءَةِ زَوَالًا أَحَلَّ لَهُ أُخْتَهَا فَوَطِئَهَا ثُمَّ عَادَتْ الْأُولَى إلَى مِلْكِهِ] (5377) الْفَصْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ مَتَى زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَوْطُوءَةِ زَوَالًا أَحَلَّ لَهُ أُخْتَهَا، فَوَطِئَهَا، ثُمَّ عَادَتْ الْأُولَى إلَى مِلْكِهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا حَتَّى تُحَرَّمَ الْأُخْرَى، بِإِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ تَزْوِيجٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ فِرَاشًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَى أُخْتَهَا. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ صَارَتْ فِرَاشًا، وَقَدْ رَجَعَتْ إلَيْهِ الَّتِي كَانَتْ فِرَاشًا، فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَكُونُ أُخْتُهَا فِرَاشًا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ بِهِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَفْرَشَ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَى أُخْتَهَا، فَإِنَّ الْمُشْتَرَاةَ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، لَكِنْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِافْتِرَاشِ أُخْتِهَا. وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَوْطُوءَةَ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ قَبْلَ وَطْءِ أُخْتِهَا، فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، وَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِرَاشُهُ. [فَصْل حُكْمُ مُبَاشَرَةِ الْإِمَاءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ] (5378) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْإِمَاءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْأُخْتِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 كَحُكْمِهِ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ فِي الْعَقْدِ أَوْ الْوَطْءِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا. [فَصْلٌ وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ نِكَاحَ أُخْتِهَا] (5379) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ، ثُمَّ أَرَادَ نِكَاحَ أُخْتِهَا، فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: لَا يَجْمَعُ بَيْن الْأُخْتَيْنِ الْأَمَتَيْنِ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ. وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَرِدَ عَلَى فِرَاشِ الْأُخْتِ، كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ فِي الْأُخْتِ مَا يُنَافِي إبَاحَةَ أُخْتِهَا الْمُفْتَرَشَةِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْوَطْءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَا تُبَاحُ الْمَنْكُوحَةُ حَتَّى تُحَرَّمَ أُخْتُهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ، فَجَازَ أَنْ يَرِدَ عَلَى وَطْءِ الْأُخْتِ، وَلَا يُبِيحُ كَالشِّرَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَتَحِلُّ لَهُ الْمَنْكُوحَةُ، وَتُحَرَّمُ أُخْتُهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أَقْوَى مِنْ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِذَا اجْتَمَعَا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَقْوَى. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ وَطْءَ مَمْلُوكَتِهِ مَعْنًى يُحَرِّمُ أُخْتَهَا لِعِلَّةِ الْجَمْعِ، فَمَنَعَ صِحَّةَ نِكَاحِهَا كَالزَّوْجِيَّةِ، وَيُفَارِقُ الشِّرَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْوَطْءُ، وَلِهَذَا صَحَّ شِرَاءُ الْأُخْتَيْنِ، وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَوْلُهُمْ: النِّكَاحُ أَقْوَى مِنْ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. مَمْنُوعٌ. وَإِنْ سُلِّمَ، فَالْوَطْءُ أَسْبَقُ، فَيُقَدَّمُ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِمَّا يُنَافِيه، كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الْأُخْتِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَمَةِ يُحَرِّمُ نِكَاحَ ابْنَتِهَا وَأُمِّهَا، وَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْتَبْرِئْ الْمَوْطُوءَةَ. [فَصْلٌ إنْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ أَوْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا] (5380) فَصْلٌ: فَإِنْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ، أَوْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ، فَلَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا. وَإِنْ عَادَتْ الْأَمَةُ إلَى مِلْكِهِ، فَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، وَحِلُّهَا بَاقٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَقْوَى، وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْأَمَةُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُحَرَّمَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ الَّتِي كَانَتْ فِرَاشًا قَدْ عَادَتْ إلَيْهِ، وَالْمَنْكُوحَةُ مُسْتَفْرَشَةٌ، فَأَشْبَهَ أَمَتَيْهِ الَّتِي وَطِئَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ تَزْوِيجِ الْأُخْرَى، ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجُ أُخْتَهَا. وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْتَهَا، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَالْوَطْءِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ اشْتَرَى أُخْتَهَا. فَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَ الْأَمَةَ، ثُمَّ تَحِلُّ لَهُ زَوْجَتُهُ دُونَ أَمَتِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أَقْوَى وَأَسْبَقُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ لِئَلَّا يَكُونَ جَامِعًا لِمَائِهِ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَرَّمَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، حَتَّى تُحَرَّمَ إحْدَاهُمَا، كَالْأَمَتَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 [مَسْأَلَةٌ عَمَّةُ الْأَمَةِ وَخَالَتُهَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ كَأُخْتِهَا] (5381) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَعَمَّةُ الْأَمَةِ وَخَالَتُهَا فِي ذَلِكَ كَأُخْتِهَا) يَعْنِي فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ، وَالتَّفْصِيلُ فِيهِمَا كَالتَّفْصِيلِ فِي الْأُخْتَيْنِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ الْجَمْع بَيْن الْمَرْأَةِ وَرَبِيبَتِهَا] (5382) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَنْ كَانَتْ زَوْجَةَ رَجُلٍ وَابْنَتَهُ مِنْ غَيْرِهَا) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَرَبِيبَتِهَا جَائِزًا، لَا بَأْسَ بِهِ، فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَان بْنِ أُمَيَّةَ. وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إلَّا الْحَسَنَ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى. رُوِيَتْ عَنْهُمْ كَرَاهَتُهُ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا لَوْ كَانَتْ ذَكَرًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ وَعَمَّتَهَا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَلِأَنَّهُمَا لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، فَأَشْبَهَتَا الْأَجْنَبِيَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ حُرِّمَ خَوْفًا مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْقَرِيبَةِ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبَتَيْنِ، وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَ هَاتَيْنِ، وَبِهَذَا يُفَارِقُ مَا ذَكَرُوهُ. [فَصَلِّ لِرَجُلٍ ابْنٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ غَيْرِهِ] (5383) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ابْنٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ، وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَلَهَا ابْنٌ، جَازَ تَزْوِيجُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ كَرَاهِيَتُهُ إذَا كَانَ مِمَّا وَلَدَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ وَطْءِ الزَّوْجِ لَهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلَا سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَكَوْنُهُ أَخًا لِأُخْتِهَا، لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّحْرِيمِ، فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَمَتَى وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَدًا، صَارَ عَمًّا لِوَلَدِ وَلَدَيْهِمَا وَخَالًا. [فَصَلِّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَزَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّهَا] (5384) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ تُحَرَّمْ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا عَلَى أَبِيهِ وَلَا ابْنِهِ، فَمَتَى تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَزَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّهَا جَازَ؛ لِعَدَمِ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ. فَإِذَا وُلِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ، كَانَ وَلَدُ الِابْنِ خَالَ وَلَدِ الْأَبِ، وَوَلَدُ الْأَبِ عَمَّ وَلَدِ الِابْنِ وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً، وَزَوَّجْت ابْنِي بِأُمِّهَا، فَأَخْبِرْنَا. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إنْ أَخْبَرْتنِي بِقَرَابَةِ وَلَدِك مِنْ وَلَدِ ابْنِك أَخْبَرْتُك. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْعُرْيَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ الَّذِي وَلَّيْتَهُ قَائِمَ سَيْفِكَ، إنْ عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا تُخْبِرْنِي. فَقَالَ الْعُرْيَانُ: أَحَدُهُمَا عَمُّ الْآخَرِ، وَالْآخَرُ خَالُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 [فَصَلِّ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةِ وَزَوَّجَ ابْنَهُ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا] (5385) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا، فَزُفَّتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَوَطِئَهَا، فَإِنَّ وَطْءَ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ، وَيُفْسَخُ بِهِ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْوَطْءِ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَهْرُ الْمَوْطُوءَةِ عَنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، بِتَمْكِينِهَا مِنْ وَطْئِهَا، وَمُطَاوَعَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَرْجِعُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُشَارِكَةٌ فِي إفْسَادِ نِكَاحِهَا بِالْمُطَاوَعَةِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ لِزَوْجِهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَشْبَهَ الْمَرْأَةَ تُفْسِدُ نِكَاحَهُ بِالرَّضَاعِ. وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْوَاطِئِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ امْرَأَتَهُ صَارَتْ أُمًّا لِمَوْطُوءَتِهِ أَوْ بِنْتًا لَهَا، وَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى. فَأَمَّا وَطْءُ الثَّانِي، فَيُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلْمَوْطُوءَةِ خَاصَّةً. فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَوَّلُ، انْفَسَخَ النِّكَاحَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى وَاطِئِهَا، وَلَا يَثْبُتُ رُجُوعُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيَجِبُ لِامْرَأَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. [مَسْأَلَةٌ حَرَائِرُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحُهُمْ] (5386) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَحَرَائِرُ نِسَاء أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحُهُمْ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ) لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِحَمْدِ اللَّهِ، اخْتِلَافٌ فِي حِلِّ حَرَائِرِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَحُذَيْفَةُ وَسَلْمَانُ، وَجَابِرٌ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ حُذَيْفَةَ، وَطَلْحَةَ، وَالْجَارُودَ بْنَ الْمُعَلَّى، وَأُذَيْنَةَ الْعَبْدِيَّ، تَزَوَّجُوا نِسَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَبِهِ قَالَ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحَرَّمَتْهُ الْإِمَامِيَّةُ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] /إلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] . وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] . فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُمَا مُتَقَدِّمَتَانِ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 لَيْسَ هَذَا نَسْخًا، فَإِنَّ لَفْظَةَ الْمُشْرِكِينَ بِإِطْلَاقِهَا لَا تَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] . وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 6] . وَقَالَ {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] . وَقَالَ {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] . وَسَائِرُ آيِ الْقُرْآنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْمُشْرِكِينَ بِإِطْلَاقِهَا غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ، وَلِأَنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرَةٍ، وَآيَتُنَا خَاصَّةٌ فِي حِلِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْخَاصُّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ. فَطَلَّقُوهُنَّ إلَّا حُذَيْفَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا. قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ جَمْرَةٌ، طَلِّقْهَا. قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ جَمْرَةٌ. قَالَ: قَدْ عَلِمْت أَنَّهَا جَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلَالٌ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا طَلَّقْتهَا حِينَ أَمَرَك عُمَرُ؟ قَالَ: كَرِهْت أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْت أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لِي. وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَالَ إلَيْهَا قَلْبُهُ فَفَتَنَتْهُ، وَرُبَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَيَمِيلُ إلَيْهَا. (5387) فَصْلٌ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ هَذَا حُكْمُهُمْ، هُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] . فَأَهْلُ التَّوْرَاةِ الْيَهُودُ وَالسَّامِرَةُ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ النَّصَارَى، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ مِنْ الْإِفْرِنْجِ وَالْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ السَّلَفُ كَثِيرًا، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَسْبِتُونَ. فَهَؤُلَاءِ إذَا يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ. وَالصَّحِيحُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودَ فِي أَصِلْ دِينِهِمْ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي فُرُوعِهِ، فَهُمْ مِمَّنْ وَافَقُوهُ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أَصِلْ الدِّينِ، فَلَيْسَ هُمْ مِنْهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ، مِثْلُ الْمُتَمَسِّكِ بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ، وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد، فَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِمْ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَيُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] . وَلِأَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا، لَا أَحْكَامَ فِيهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ وَلَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ] (5388) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ، وَلَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَبَا ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَلِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً. وَلِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَأَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] . وَقَوْله {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . فَرَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَنْ عَدَاهُمْ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لِلْمَجُوسِ كِتَابًا. وَسُئِلَ أَحْمَدُ، أَيَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ لِلْمَجُوسِ كِتَابًا؟ فَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ وَاسْتَعْظَمَهُ جِدًّا. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. وَقَوْله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانَتْ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، غُلِّبَ ذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ دِمَائِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِنِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ، فَإِنَّنَا إذَا غَلَّبْنَا الشُّبْهَةَ فِي التَّحْرِيمِ فَتَغْلِيبُ الدَّلِيلِ الَّذِي عَارَضَتْهُ الشُّبْهَةُ فِي التَّحْرِيمِ أَوْلَى، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ حُذَيْفَةَ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً، وَضَعَّفَ أَحْمَدُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً. وَقَالَ: أَبُو وَائِلٍ يَقُول: تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً. وَهُوَ أَوْثَقُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً. وَقَالَ: ابْنُ سِيرِينَ: كَانَتْ امْرَأَةُ حُذَيْفَةَ نَصْرَانِيَّةً. وَمَعَ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ إحْدَاهُنَّ إلَّا بِتَرْجِيحٍ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مُخَالِفَتِهِ الْكِتَابَ وَقَوْلَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ، فَلِأَنَّنَا غَلَّبْنَا حُكْمَ التَّحْرِيمِ لِدِمَائِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ. [فَصْلٌ النِّكَاح مِنْ الْكُفَّارِ غَيْر أَهْلِ الْكِتَابِ] (5389) فَصْلٌ: وَسَائِر الْكُفَّارِ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَحْجَارِ وَالشَّجَرِ وَالْحَيَوَانِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَتَيْنِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهُمَا. وَالْمُرْتَدَّةُ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا عَلَى أَيِّ دِينٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ فِي إقْرَارِهَا عَلَيْهِ، فَفِي حِلِّهَا أَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 [مَسْأَلَةٌ النِّكَاح إذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوِيّ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا] (5390) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا، لَمْ يَنْكِحْهَا مُسْلِمٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْكِتَابِيَّةِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُهَا، سَوَاءٌ كَانَ وَثَنِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ غَيْرَ كِتَابِيٍّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ، وَيَشْرُفُ بِشَرَفِهِ وَيُنْسَبُ إلَى قَبِيلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ. وَلَنَا، أَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَبُوهَا وَثَنِيًّا، وَلِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحِلُّ، فَلَمْ يَحِلَّ، كَالسِّمْعِ وَالْبَغْلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَحِلَّ بِكُلِّ حَالٍ، لَدُخُولِهَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْمُبِيحَةِ، وَلِأَنَّهَا كِتَابِيَّةٌ تُقَرُّ عَلَى دِينِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَنْ أَبَوَاهَا كِتَابِيَّانِ. وَالْحُكْمُ فِي مَنْ أَبَوَاهَا غَيْرُ كِتَابِيَّيْنِ، كَالْحُكْمِ فِي مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إذَا حُرِّمَتْ لِكَوْنِ أَحَدِ أَبَوَيْهَا وَثَنِيًّا، فَلَأَنْ تُحَرَّمَ إذَا كَانَا وَثَنِيَّيْنِ أَوْلَى. وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ثَمَّ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا، اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهَا دُونَ أَبَوَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إلَى دِينٍ آخَر مِنْ الْكُفْرِ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ] (5391) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً، فَانْتَقَلَتْ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ الْكُفْرِ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: (5392) الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكِتَابِيَّ إذَا انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنَّهُ إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ بِالْجِزْيَةِ، كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ، فَالْأَصْلِيُّ مِنْهُمْ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ، فَالْمُنْتَقِلُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى الْمَجُوسِيَّةِ، لَمْ يُقَرَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى أَنْقَصَ مِنْ دِينِهِ، فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ. فَأَمَّا إنْ انْتَقَلَ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَالْيَهُودِيِّ يَتَنَصَّرُ، أَوْ النَّصْرَانِيِّ يَتَهَوَّدُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُقَرُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى دِينٍ بَاطِلٍ، قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهِ، فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ، كَالْمُرْتَدِّ. وَالثَّانِيَةُ، يُقَرُّ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُنْتَقِلِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، لَمْ يُقَرَّ، كَأَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ. وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، خُرِّجَ فِيهِ الرِّوَايَتَانِ، وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَلِعُمُومِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا. (5393) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ. وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْإِسْلَامِ أَدْيَانٌ بَاطِلَةٌ. قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهَا، فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهَا كَالْمُرْتَدِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دِينَهُ الْأَوَّلَ قَدْ أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ مَرَّةً. وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ، فَنُقِرُّهُ عَلَيْهِ إنْ رَجَعَ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُنْتَقِلٌ مِنْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، إلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَيُقْبَلُ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، كَالْمُرْتَدِّ إذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْإِسْلَامُ، أَوْ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ، أَوْ دِينٌ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقُلْنَا: لَا يُقَرُّ. فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ. وَالْأُخْرَى، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. (5394) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي صِفَةِ إجْبَارِهِ عَلَى تَرْكِ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ. وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً؛ لِعُمُومِ قَوْله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَلِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ نَقَضَ الْعَهْدَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَضَهُ بِتَرْكِ الْتِزَامِ الذِّمَّةِ. وَهَلْ يُسْتَتَابُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَرْجَعُ عَنْ دِينٍ بَاطِلٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَيُسْتَتَابُ، كَالْمُرْتَدِّ. وَالثَّانِي: لَا يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ أُبِيحَ قَتْلُهُ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ. فَعَلَى هَذَا إنْ بَادَرَ وَأَسْلَمَ، أَوْ رَجَعَ إلَى مَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، عُصِمَ دَمُهُ وَإِلَّا قُتِلَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا دَخَلَ الْيَهُودِيُّ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، رَدَدْته إلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَلَمْ أَدَعْهُ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا، فَدَخَلَ فِي الْمَجُوسِيَّةِ، كَانَ أَغْلَظَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَلَا تُنْكَحُ لَهُ امْرَأَةٌ، وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُرَدَّ إلَيْهَا. فَقِيلَ لَهُ: تَقْتُلُهُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ؟ قَالَ: إنَّهُ لَأَهْلُ ذَلِكَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْكِتَابِيَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُكْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 (5395) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ امْرَأَةَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ، إذَا انْتَقَلَتْ إلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهِيَ كَالْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، فَمَتَى كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا فِي الْحَالِ، وَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى يَنْفَسِخُ فِي الْحَالِ أَيْضًا. [مَسْأَلَةٌ الْأَمَة الْكِتَابِيَّةَ حَلَالٌ] [الْفَصْل الْأَوَّل أَمَتَهُ الْكِتَابِيَّةَ حَلَالٌ] (5396) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَأَمَتُهُ الْكِتَابِيَّةُ حَلَالٌ لَهُ، دُونَ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (5397) أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَمَتَهُ الْكِتَابِيَّةَ حَلَالٌ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ كَرِهَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ يُحَرَّمُ نِكَاحُهَا فَحُرِّمَ التَّسَرِّي بِهَا كَالْمَجُوسِيَّةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . وَلِأَنَّهَا مِمَّنْ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ، فَحَلَّ لَهُ التَّسَرِّي بِهَا، كَالْمُسْلِمَةِ. فَأَمَّا نِكَاحُهَا فَيُحَرَّمُ لِأَنَّ فِيهِ إرْقَاقَ وَلَدِهِ، وَإِبْقَاءَهُ مَعَ كَافِرَةٍ، بِخِلَافِ التَّسَرِّي. (5398) [الْفَصْل الثَّانِي مَنْ حُرِّمَ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ مِنْ الْمَجُوسِيَّات وَغَيْرِهِمْ لَا يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ] الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ حُرِّمَ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ مِنْ الْمَجُوسِيَّات، وَسَائِرِ الْكَوَافِرِ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَلَى هَذَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَا خَالَفَهُ فَشُذُوذٌ لَا يُعَدُّ خِلَافًا. وَلَمْ يَبْلُغْنَا إبَاحَةُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ طَاوُسٍ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . وَالْآيَة الْأُخْرَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْثًا قِبَلَ أَوْطَاسٍ، فَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَرَّجُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ، مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . قَالَ: فَهُنَّ لَهُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ.» وَعَنْهُ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إبَاحَتِهِنَّ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَكْثَرُ سَبَايَاهُمْ مِنْ كُفَّارِ الْعَرَبِ، وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ تَحْرِيمَهُنَّ لِذَلِكَ، وَلَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمُهُنَّ، وَلَا أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِاجْتِنَابِهِنَّ، وَقَدْ دَفَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ امْرَأَةً مِنْ بَعْضِ السَّبْيِ، نَفَلَهَا إيَّاهُ، وَأَخَذَ عُمَرُ وَابْنُهُ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ أُمُّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذَ الصَّحَابَةُ سَبَايَا فَارِسَ، وَهُمْ مَجُوسٌ، فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُمْ اجْتَنَبُوهُنَّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إبَاحَتِهِنَّ، لَوْلَا اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ أَجَبْت عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَوَازِنُ أَلَيْسَ كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي كَانُوا أَسْلَمُوا أَوْ لَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إبَاحَةُ وَطْئِهِنَّ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . (5399) [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً كِتَابِيَّةً] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً كِتَابِيَّةً) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَحَلَّتْ بِالنِّكَاحِ كَالْمُسْلِمَةِ. وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِتَزْوِيجِهَا. إلَّا أَنَّ الْخَلَّالَ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ: إنَّمَا تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيهَا، وَلَمْ يَنْفُذْ لَهُ قَوْلٌ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . فَشَرَطَ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِهِنَّ الْإِيمَانَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَتُفَارِقُ الْمُسْلِمَةَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اسْتِرْقَاقِ الْكَافِرِ وَلَدَهَا، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقَرُّ مِلْكُهُ عَلَى مُسْلِمَةٍ، وَالْكَافِرَةُ تَكُونُ مِلْكًا لَكَافِرٍ، وَيُقَرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا. وَوَلَدُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ اعْتَوَرَهَا نُقْصَانٌ، نَقْصُ الْكُفْرِ وَالْمِلْكِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا مَنَعَا، كَالْمَجُوسِيَّةِ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ، وَعَدَمُ الْكِتَابِ، لَمْ يُبَحْ نِكَاحُهَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَى الْحُرِّ تَزْوِيجُهُ لِأَجْلِ دِينِهِ، حُرِّمَ عَلَى الْعَبْدِ، كَالْمَجُوسِيَّةِ. [مَسْأَلَةٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ] (5400) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا لِحُرٍّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً مُسْلِمَةً، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ طَوْلًا بِحُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، وَيَخَافَ الْعَنَتَ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَيْئَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا وُجِدَ فِيهِ الشَّرْطَانِ، عَدَمُ الطَّوْلِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] . الْآيَةُ. وَالصَّبْرُ عَنْهَا مَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25] . وَالثَّانِي: إذَا عُدِمَ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُهَا لِحُرٍّ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى النِّكَاحِ لَا تَمْنَعُ النِّكَاحَ، كَمَا يَمْنَعُهُ وُجُودُ النِّكَاحِ، كَنِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْخَامِسَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ: إذَا خَافَ الْعَنَتَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ وُجِدَ الطَّوْلُ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهَا لِضَرُورَةِ خَوْفِ الْعَنَتِ، وَقَدْ وُجِدَتْ، فَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِنِكَاحِ الْأَمَةِ، فَأَشْبَهَ عَادِمَ الطَّوْلِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] . فَشَرَطَ فِي نِكَاحِهَا عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْإِعْتَاقِ، وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ إرْقَاقَ وَلَدِهِ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَقِيَاسُهُمْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ وَالْأُخْتِ، إنَّمَا حُرِّمَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، وَبِالْقُدْرَةِ عَلَى الْجَمْعِ لَا يَصِيرُ جَامِعًا، وَالْعِلَّةُ هَاهُنَا، هُوَ الْغِنَى عَنْ إرْقَاقِ وَلَدِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ. وَأَمَّا مَنْ يَجِدُ الطَّوْلَ وَيَخَافُ الْعَنَتَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ إلَّا حُرَّةً صَغِيرَةً أَوْ غَائِبَةً أَوْ مَرِيضَةً لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، أَوْ وَجَدَ مَالًا وَلَمْ يَتَزَوَّجْ لِقُصُورِ نَسَبِهِ، فَلَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ حُرَّةٍ تُعِفُّهُ. وَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 كَانَتْ الْحُرَّةُ فِي حِبَالَةِ غَيْرِهِ، فَلَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْغَائِبَةِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِوُجْدَانِ الطَّوْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِلطَّوْلِ إلَى حُرَّةٍ تُعِفُّهُ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي لَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ فَقِيرًا؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حُرَّةٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ وَطْئِهَا، وَالْعِفَّةُ بِهَا، فَلَيْسَ بِخَائِفٍ الْعَنَتَ. [فَصَلِّ إنْ قَدَرَ عَلَى تَزْوِيج كِتَابِيَّةٍ تَعْفُهُ لَمْ يَحِلّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ] (5401) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَزْوِيجِ كِتَابِيَّةٍ تُعِفُّهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرُوا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِذَلِكَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] . وَهَذَا غَيْرُ خَائِفٍ لَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى صِيَانَةِ وَلَدِهِ عَنْ الرِّقِّ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إرْقَاقُهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ مُؤْمِنَةٍ. [فَصْلٌ مَنْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَعِفّ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ] (5402) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمُسْلِمَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. [فَصْلٌ نِكَاح الْأُمَّة إنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا لَكِنْ وَجَدَ مَنْ يُقْرِضُهُ ذَلِكَ] (5403) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا، لَكِنْ وَجَدَ مَنْ يُقْرِضُهُ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلِصَاحِبِهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ فِي الْحَالِ. وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيت الْحُرَّةُ بِتَأْخِيرِ صَدَاقِهَا، أَوْ تَفْوِيضِ بُضْعِهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِعِوَضِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ بَذَلَ لَهُ بَاذِلٌ أَنْ يَزِنَهُ عَنْهُ، أَوْ يَهَبَهُ إيَّاهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُزَوِّجُهُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَلَا يُجْحِفُ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَلَهُ التَّيَمُّمُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] . وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ بِمَا لَا يَضُرُّهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إرْقَاقُ وَلَدِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرُوهُ فِي التَّيَمُّمِ، ثُمَّ هَذَا مُفَارِقٌ لِلتَّيَمُّمِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ عَامَّةٌ، وَهَذَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لَا ضَرُورَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 وَالثَّانِي، أَنَّ التَّيَمُّمَ يَتَكَرَّرُ، فَإِيجَابُ شِرَائِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ يُفْضِي إلَى الْإِجْحَافِ بِهِ، وَهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ، فَلَا ضَرَرَ فِيهِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا حَالَ النِّكَاحِ] (5404) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَأَنَّ الْمَالَ لِغَيْرِهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى مَخَافَةَ الْعَنَتِ. وَمَتَى تَزَوَّجَ الْأَمَةَ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا حَالَ النِّكَاحِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِفَسَادِ نِكَاحِهِ. وَهَكَذَا إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْشَى الْعَنَتَ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَصَدَّقَهُ السَّيِّدُ، فَلَا مَهْرَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَلَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ النِّكَاحِ وَالْأَصْلُ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى جَمِيعُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، يَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ، وَجَبَ وَلِلسَّيِّدِ أَلَّا يُصَدِّقَهُ فِيمَا قَالَ، فَيَكُونَ لَهُ مِنْ الْمَهْرِ مَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَهَلْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ عَقَدَ عَلَيَّ الْأُمَّة وَفِيهِ الشَّرْطَانِ عَدَمُ الطُّول وَخَوْفَ الْعَنَتِ ثُمَّ أَيْسَرِ] (5405) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَتَى عَقَدَ عَلَيْهَا وَفِيهِ الشَّرْطَانِ؛ عَدَمُ الطَّوْلِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ، ثُمَّ أَيْسَرَ، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَفِي الْمَذْهَبِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَفْسُدُ النِّكَاحُ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَإِذَا زَالَتْ الْحَاجَةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِدَامَتُهُ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالَ لَمْ يَسْتَدِمْهُ. وَلَنَا، أَنَّ فَقْدَ الطَّوْلِ أَحَدُ شَرْطَيْ إبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَلَمْ تُعْتَبَر اسْتَدَامَتْهُ، كَخَوْفِ الْعَنَتِ، وَيُفَارِقُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّ أَكْلَهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ ابْتِدَاءٌ لِلْأَكْلِ، وَهَذَا لَا يَبْتَدِئُ النِّكَاحَ. إنَّمَا يَسْتَدِيمُهُ، وَالِاسْتِدَامَةُ لِلنِّكَاحِ تُخَالِفُ ابْتِدَاءَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِدَّةَ وَالرِّدَّةَ وَأَمْنَ الْعَنَتِ يَمْنَعْنَ ابْتِدَاءَهُ دُونَ اسْتِدَامَتِهُ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ عَلَى الْأَمَةِ حُرَّةً] (5406) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَى الْأَمَةِ حُرَّةً، صَحَّ. وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْأَمَةِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَبْطُلُ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ، وَإِسْحَاقَ، وَالْمُزَنِيِّ. وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وَقَالَ النَّخَعِيُّ إنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَمَةِ وَلَدٌ، لَمْ يُفَارِقْهَا، وَإِلَّا فَارَقَهَا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ فِي غَيْرِ ذَاتِ الْوَلَدِ أَبْطَلَهُ فِي ذَاتِ الْوَلَدِ، كَسَائِرِ مُبْطِلَاتِهِ، وَلِأَنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ عَلَى الْأَمَةِ، قَسَمَ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةً. فَإِنَّهُ لَوْ بَطَلَ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ، لَبَطَلَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمُبْدَلِ كَاسْتِعْمَالِهِ، بِدَلِيلِ الْمَاءِ مَعَ التُّرَابِ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ الْإِمَاءِ أَرْبَعًا] (5407) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ الْإِمَاءِ أَرْبَعًا، إذَا كَانَ الشَّرْطَانِ فِيهِ قَائِمَيْنِ) اخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي إبَاحَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ إذَا لَمْ تُعِفَّهُ فَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا، إذَا لَمْ يَصْبِرْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً. يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُرَّ لَا يَتَزَوَّجُ مِنْ الْإِمَاءِ إلَّا وَاحِدَةً، وَقَرَأَ {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] . وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا لَا يَخْشَى الْعَنَتَ. وَوَجْهُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] . الْآيَةُ. وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهَا، وَلِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلطَّوْلِ، خَائِفٌ لِلْعَنَتِ، فَجَازَ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ كَالْأُولَى، وَقَوْلُهُمْ: لَا يَخْشَى الْعَنَتَ. قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي مَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا نُبِيحُهُ إلَّا لَهُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَلَمْ تُعِفَّهُ، فَذَكَرَ فِيهَا أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَتَيْنِ، مِثْلُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي حَقِّ مَنْ تَحْتَهُ أَمَةٌ لَمْ تُعِفَّهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَتْ الْحُرَّةُ تُعِفُّهُ، فَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ. وَإِنْ نَكَحَ أَمَةً تُعِفُّهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْرَى، فَإِنْ نَكَحَهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ يَبْطُلُ فِي إحْدَاهُمَا، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ. [فَصْلٌ لِلْعَبْدِ أَنَّ يَنْكِحَ الْأَمَةَ] (5408) فَصْلٌ: وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ، وَإِنْ فُقِدَ فِيهِ الشَّرْطَانِ؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لَهَا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ، كَالْحُرِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 مَعَ الْحُرَّةِ. وَلَهُ نِكَاحُ أَمَتَيْنِ مَعًا، وَوَاحِدَةٍ بَعْدَ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ خَشْيَةَ الْعَنَتِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً، وَقُلْنَا: لَيْسَتْ الْحُرِّيَّةُ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لَهُ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ نِكَاحِهَا عَدَمُ الْحُرَّةِ، كَالْحُرِّ مَعَ الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ عَدَمُ الْحُرَّةِ، لَاشْتُرِطَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: تُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ، وَلَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ. وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِبُضْعِ حُرَّةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، كَالْحُرِّ. وَإِنْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، صَحَّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ، فَجَازَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، كَالْأَمَتَيْنِ. [فَصْلٌ إذَا زَنَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ نِكَاحَهَا إلَّا بِشَرْطَيْنِ] (5409) فَصْلٌ: وَإِذَا زَنَتْ الْمَرْأَةُ، لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ نِكَاحَهَا إلَّا بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، فَإِنْ حَمَلَتْ مِنْ الزِّنَى فَقَضَاءُ عِدَّتِهَا بِوَضْعِهِ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا قَبْلَ وَضْعِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الْأُخْرَى قَالَ: يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَيَصِحُّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَلَمْ يُحَرِّمْ النِّكَاحَ، كَمَا لَوْ لَمْ تَحْمِلْ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» . يَعْنِي وَطْءَ الْحَوَامِلِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ» . صَحِيحٌ ، وَهُوَ عَامٌّ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، «أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَمَّا أَصَابَهَا وَجَدَهَا حُبْلَى، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ لَهَا الصَّدَاقَ، وَجَلَدَهَا مِائَةً.» رَوَاهُ سَعِيدٌ «. وَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً مُجِحًّا عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا، كَسَائِرِ الْحَوَامِلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ، وَحُرِّمَ عَلَيْهَا النِّكَاحُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِأَنَّهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَيَكُونَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الصَّغِيرِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْحَامِلِ، فَغَيْرُهَا أَوْلَى، لِأَنَّ وَطْءَ الْحَامِلِ لَا يُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ النَّسَبِ، وَغَيْرُهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مِنْ الْأَوَّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّانِي، فَيُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ، فَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي الْقُبُلِ، فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ وَطْءَ الصَّغِيرِ الَّذِي يُمْكِنُ مِنْهُ الْوَطْءُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ تَتُوبَ مِنْ الزِّنَا، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ رَجُلًا وَامْرَأَةً فِي الزِّنَى، وَحَرَصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَأَبَى الرَّجُلُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ، فَقَالَ: يَجُوزُ، أَرَأَيْت لَوْ سَرَقَ مِنْ كَرْمٍ، ثُمَّ ابْتَاعَهُ، أَكَانَ يَجُوزُ؟ . وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] /إلَى قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] . وَهِيَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فِي حُكْمِ الزِّنَى، فَإِذَا تَابَتْ زَالَ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَقَوْلِهِ «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ» . وَرُوِيَ «أَنَّ مَرْثَدًا دَخَلَ مَكَّةَ، فَرَأَى امْرَأَةً فَاجِرَةً يُقَال لَهَا عَنَاقٌ، فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا، فَلَمْ يُجِبْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: أَنْكِحُ عَنَاقًا؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] . فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ، وَقَالَ: لَا تَنْكِحْهَا» . وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُقِيمَةً عَلَى الزِّنَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ تُلْحِقَ بِهِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِهِ، وَتُفْسِدَ فِرَاشَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتَتَابَهَا. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ، وَلَا تَعَرُّضَ لَهُ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ عِدَّةَ الزَّانِيَةِ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لَحُرَّةٍ، فَأَشْبَهَ عِدَّةَ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةِ نِكَاحٍ، فَأَشْبَهَ اسْتِبْرَاءَ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ، فَهِيَ الِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ، كَالتَّوْبَةِ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْف تُعْرَفُ تَوْبَتُهَا؟ قَالَ: يُرِيدُهَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَلَمْ تَتُبْ، وَإِنْ أَبَتْ فَقَدْ تَابَتْ. فَصَارَ أَحْمَدُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ اتِّبَاعًا لَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَمُسْلِمٍ أَنْ يَدْعُوَ امْرَأَةً إلَى الزِّنَى، وَيَطْلُبَهُ مِنْهَا. وَلِأَنَّ طَلَبَهُ ذَلِكَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ، وَلَا تَحِلُّ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ فِي مُرَاوَدَتِهَا عَلَى الزِّنَى، ثُمَّ لَا يَأْمَنُ إنْ أَجَابَتْهُ إلَى ذَلِكَ أَنْ تَعُودَ إلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِلتَّعَرُّضِ لِمِثْلِ هَذَا، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَفِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ، عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا. [إذَا زَنَتْ الْأُمَّة حَلَّ نِكَاحُهَا لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ] (5410) فَصْلٌ: وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ حَلَّ نِكَاحُهَا لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَعَائِشَةَ، أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلزَّانِي بِحَالٍ، قَالُوا: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ مَا اجْتَمَعَا؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ مَا كَانَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، أَوْ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَيَكُونُ كَقَوْلِنَا. فَأَمَّا تَحْرِيمُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَلِأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لِغَيْرِ الزَّانِي، فَحَلَّتْ لَهُ، كَغَيْرِهَا. [فَصْلٌ إنْ زَنَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ أَوْ زَنَى زَوْجُهَا لَمْ يَنْفَسِخ النِّكَاحُ] (5411) فَصْلٌ: وَإِنْ زَنَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ، أَوْ زَنَى زَوْجُهَا، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَنَتْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ زَنَى قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ قَذَفَهَا وَلَاعَنَهَا بَانَتْ مِنْهُ؛ لِتَحْقِيقِهِ الزِّنَى عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الزِّنَى يُبِينُهَا. وَلَنَا، أَنَّ دَعْوَاهُ الزِّنَى عَلَيْهَا لَا يُبِينُهَا، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ يَنْفَسِخُ بِهِ لَانْفَسَخَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، كَالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا تَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَتْ السَّرِقَةَ، فَأَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسْخَ بِدُونِ الزِّنَى، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إذَا لَاعَنَتْهُ فَقَدْ قَابَلَتْهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 فَلَمْ يَثْبُتْ زِنَاهَا، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَهَا، وَالْفَسْخُ وَاقِعٌ. وَلَكِنَّ أَحْمَدَ اسْتَحَبَّ لِلرَّجُلِ مُفَارَقَةَ امْرَأَتِهِ إذَا زَنَتْ، وَقَالَ: لَا أَرَى أَنْ يُمْسِكَ مِثْلَ هَذِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تُفْسِدَ فِرَاشَهُ، وَتُلْحِقَ بِهِ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَعَلَّ مَنْ كَرِهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إنَّمَا كَرِهَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ أَحْمَدَ هَذَا. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» . يَعْنِي إتْيَانَ الْحَبَالَى. وَلِأَنَّهَا رُبَّمَا تَأْتِي بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَى فَيُنْسَبُ إلَيْهِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَكْفِي اسْتِبْرَاؤُهَا بِالْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكْفِي فِي اسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ، وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، أَوْ بِإِعْتَاقِ سَيِّدِهَا، فَيَكْفِي هَاهُنَا، وَالْمَنْصُوصُ هَاهُنَا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقَدْ حَصَلَ بِحَيْضَةٍ فَيُكْتَفَى بِهَا. [فَصْلٌ عَلِمَ الرَّجُلُ مِنْ جَارِيَتِهِ الْفُجُورَ] (5412) فَصْلٌ: وَإِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ مِنْ جَارِيَتِهِ الْفُجُورَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَطَؤُهَا؛ لَعَلَّهَا تُلْحِقُ بِهِ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَكْرَهُ أَنْ أَطَأَ أَمَتِي وَقَدْ بَغَتْ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ جَنِينٌ لِغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَخِّصُ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْفَاجِرَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ كَرِهَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، أَوْ إذَا لَمْ يُحَصِّنْهَا وَيَمْنَعْهَا مِنْ الْفُجُورِ، وَمَنْ أَبَاحَهُ بَعْدَهُمَا، فَيَكُونُ الْقَوْلَانِ مُتَّفِقَيْنِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ امْرَأَةً فَلَمْ تَسْكُنْ إلَيْهِ] (5413) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ خَطَبَ امْرَأَةً، فَلَمْ تَسْكُنْ إلَيْهِ، فَلِغَيْرِهِ خِطْبَتُهَا) الْخِطْبَةُ، بِالْكَسْرِ: خِطْبَةُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ لِيَنْكِحهَا. وَالْخُطْبَةُ، بِالضَّمِّ: هِيَ حَمْدُ اللَّهِ، وَالتَّشَهُّدُ؛ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَخْطُوبَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَسْكُنَ إلَى الْخَاطِبِ لَهَا، فَتُجِيبَهُ، أَوْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا فِي إجَابَتِهِ أَوْ تَزْوِيجِهِ، فَهَذِهِ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ خَاطِبِهَا خِطْبَتُهَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إفْسَادًا عَلَى الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَإِيقَاعَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ قَوْمًا حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالظَّاهِرُ أَوْلَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَرُدَّهُ أَوْ لَا تَرْكَنَ إلَيْهِ. فَهَذِهِ يَجُوزُ خِطْبَتُهَا؛ لِمَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، «أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَخَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إخْبَارِهَا إيَّاهُ بِخِطْبَةِ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي جَهْمٍ لَهَا، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ خِطْبَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إضْرَارٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ الْمَرْأَةَ النِّكَاحَ إلَّا مَنَعَهَا بِخِطْبَتِهِ إيَّاهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَرَّضَ لَهَا فِي عِدَّتِهَا بِالْخِطْبَةِ، فَقَالَ: لَا تَفُوتِينِي بِنَفْسِك. وَأَشْبَاهَ هَذَا، لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهَا؛ لِأَنَّ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا «لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِك. وَلَمْ يُنْكِرْ خِطْبَةَ أَبِي جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ لَهَا» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ امْرَأَةً عَلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَدَخَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ جَالِسَةٌ فِي بَيْتِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْطُبُ، وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَرْوَانَ يَخْطُبُ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ قُرَيْشٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَخْطُبُ، وَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَشَفَتْ الْمَرْأَةُ السِّتْرَ، فَقَالَتْ: أَجَادَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: فَقَدْ أَنْكَحْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْكَحُوهُ. فَهَذَا عُمَرُ قَدْ خَطَبَ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا تَقُولُ الْمَرْأَةُ فِي الْأَوَّلِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْمَرْأَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى وَالسُّكُونِ، تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، كَقَوْلِهَا: مَا أَنْتَ إلَّا رِضًى، وَمَا عَنْك رَغْبَةٌ. فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْأَوَّل، لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ خِطْبَتُهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رَكَنَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ. وَالرُّكُونُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالتَّعْرِيضِ تَارَةً، وَبِالتَّصْرِيحِ أُخْرَى. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إبَاحَةُ خِطْبَتِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ، حَيْثُ خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِهَا رُكُونُهَا إلَى أَحَدِهِمَا. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِخِطْبَتِهِ لَهَا قَبْلَ سُؤَالِهَا هَلْ وُجِدَ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَى الرِّضَى أَوْ لَا؟ وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَى الرِّضَى بِهِ، وَسُكُونِهَا إلَيْهِ، فَحَرُمَتْ خِطْبَتُهَا، كَمَا لَوْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرْكَنْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ قَالَ لَهَا: «لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك. وَفِي لَفْظٍ: لَا تَفُوتِينِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 بِنَفْسِك. وَفِي رِوَايَةٍ: إذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي. فَلَمْ تَكُنْ لِتَفْتَاتَ بِالْإِجَابَةِ قَبْلَ أَنْ تُؤْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَالثَّانِي، أَنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْمُسْتَشِيرَةِ لَهُ فِيهِمَا، أَوْ فِي الْعُدُولِ عَنْهُمَا إلَى غَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِشَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا مَيْلٍ إلَى أَحَدِهِمَا، عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَرْجِعَ إلَى قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهَا بِتَرْكِهِمَا؛ لِمَا ذَكَرِ مِنْ عَيْبِهِمَا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَدِّهَا لَهُمَا، وَتَصْرِيحِهَا بِمَنْعِهِمَا. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَبَقَهُمَا بِخِطْبَتِهَا تَعْرِيضًا، بِقَوْلِهِ لَهَا مَا ذَكَرْنَا، فَكَانَتْ خِطْبَتُهُ بَعْدَهُمَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْخِطْبَةِ السَّابِقَةِ لَهُمَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (5414) فَصْلٌ: وَالتَّعْوِيلُ فِي الرَّدِّ وَالْإِجَابَةِ عَلَى الْوَلِيِّ إنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، وَعَلَيْهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَلَوْ أَجَابَ هُوَ، وَرَغِبَتْ عَنْ النِّكَاحِ، كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَهَا. وَإِنْ أَجَابَ وَلِيُّهَا، فَرَضِيَتْ، فَهُوَ كَإِجَابَتِهَا، وَإِنْ سَخِطَتْ فَلَا حُكْمَ لِإِجَابَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا. وَلَوْ أَجَابَ الْوَلِيُّ فِي حَقِّ الْمُجْبَرَةِ، فَكَرِهَتْ الْمُجَابَ، وَاخْتَارَتْ غَيْرَهُ، سَقَطَ حُكْمُ إجَابَةِ وَلِيِّهَا، لِكَوْنِ اخْتِيَارِهَا مُقَدَّمًا عَلَى اخْتِيَارِهِ. وَإِنْ كَرِهَتْهُ وَلَمْ تُجِزْ سِوَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ الْإِجَابَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِاسْتِئْمَارِهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى مَنْ لَا تَرْضَاهُ. وَإِنْ أَجَابَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ الْإِجَابَةِ وَسَخِطَتْهُ، زَالَ حُكْمُ الْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا الرُّجُوعَ. وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ عَنْ الْإِجَابَةِ، زَالَ حُكْمُهَا؛ لِأَنَّ لَهُ النَّظَرَ فِي أَمْرِ مُوَلِّيَتِهِ، مَا لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ. وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ هِيَ وَلَا وَلِيُّهَا، وَلَكِنْ تَرَكَ الْخَاطِبُ الْخِطْبَةَ، أَوْ أَذِنَ فِيهَا، جَازَتْ خِطْبَتُهَا؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 (5415) فَصْلٌ: وَخِطْبَةُ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فِي مَوْضِعِ النَّهْيِ مُحَرَّمَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: هِيَ مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَهَذَا نَهْيُ تَأْدِيبٍ لَا تَحْرِيمٍ. وَلَنَا، ظَاهِرُ النَّهْيِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ، وَلِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ، فَكَانَ عَلَى التَّحْرِيمِ، كَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَالِهِ وَسَفْكِ دَمِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَدَاوُد، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: هُوَ بَاطِلٌ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَكَانَ بَاطِلًا كَنِكَاحِ الشِّغَارِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُحَرَّمَ لَمْ يُقَارِنْ الْعَقْدَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ. [فَصَلِّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِجَابَةِ إلَى الْخِطْبَة] (5416) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَه لِلْوَلِيِّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِجَابَةِ، إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْهَا فِي النَّظَرِ لَهَا، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ الرُّجُوعُ الَّذِي رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ سَاوَمَ فِي بَيْعِ دَارِهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي تَرْكِهَا. وَلَا يُكْرَه لَهَا أَيْضًا الرُّجُوعُ إذَا كَرِهَتْ الْخَاطِبَ؛؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ عُمَرَ يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ، فَكَانَ لَهَا الِاحْتِيَاطُ لِنَفْسِهَا، وَالنَّظَرُ فِي حَظِّهَا. وَإِنْ رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ غَرَضٍ، كُرِهَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ الْقَوْلِ، وَلَمْ يُحَرَّمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَعْدُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا، كَمَنْ سَاوَمَ بِسِلْعَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهَا. [فَصْلٌ إنْ كَانَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ ذِمِّيًّا لَمْ تُحَرَّمْ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ] (5417) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ ذِمِّيًّا، لَمْ تُحَرَّمْ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: لَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا يُسَاوِمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ اسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِمْ، لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِإِخْوَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لَا لِتَخْصِيصِ الْمُسْلِمِ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّ لَفْظَ النَّهْيِ خَاصٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ. وَلَا حُرْمَتُهُ كَحُرْمَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ إجَابَتُهُمْ فِي دَعْوَةِ الْوَلِيمَةِ وَنَحْوِهَا. وَقَوْلَهُ: خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ. قُلْنَا: مَتَى كَانَ فِي الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى يَصْحُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْحُكْمِ، لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ وَلَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِدُونِهِ، وَلِلْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَامِ، وَزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ فِي رِعَايَةِ حُقُوقِهِ، وَحِفْظِ قَلْبِهِ، وَاسْتِبْقَاءِ مَوَدَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 [مَسْأَلَةٌ التَّعْرِيضُ بِالْخُطْبَةِ فِي الْعِدَّة] (5418) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ عَرَّضَ لَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، بِأَنْ يَقُولَ: إنِّي فِي مِثْلِك لَرَاغِبٌ. وَإِنْ قُضِيَ شَيْءٌ كَانَ. وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْكَلَامِ، مِمَّا يَدُلُّهَا عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهَا، فَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَدَّاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَفَاةٍ، أَوْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ، أَوْ فَسْخٍ لِتَحْرِيمِهَا عَلَى زَوْجِهَا، كَالْفَسْخِ بِرَضَاعٍ، أَوْ لِعَانٍ، أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا لَا تَحِلُّ بَعْدَهُ لِزَوْجِهَا، فَهَذِهِ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] . وَلِمَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا: إذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي. وَفِي لَفْظٍ: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك. وَفِي لَفْظٍ: لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِك» . وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا. وَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ التَّعْرِيضَ بِالْإِبَاحَةِ، دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْرِيحِ، وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ النِّكَاحِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهَا الْحِرْصُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَالتَّعْرِيضُ بِخِلَافِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، الرَّجْعِيَّةُ، فَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا، وَلَا التَّصْرِيحُ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، فَهِيَ كَالَّتِي فِي صُلْبِ نِكَاحِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، بَائِنٌ يَحِلُّ لِزَوْجِهَا نِكَاحُهَا، كَالْمُخْتَلِعَةِ، وَالْبَائِنِ بِفَسْخٍ لَعَيْبٍ أَوْ إعْسَارٍ وَنَحْوِهِ، فَلِزَوْجِهَا التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا وَالتَّعْرِيضُ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ نِكَاحَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَهِيَ كَغَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ. وَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا، فَهِيَ كَالرَّجْعِيَّةِ. وَالْمَرْأَةُ فِي الْجَوَابِ، كَالرَّجُلِ فِي الْخِطْبَةِ، فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَخْتَلِفَانِ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ؛ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالتَّعْرِيضُ أَنْ يَقُولَ: إنِّي فِي مِثْلِك لَرَاغِبٌ. وَرُبَّ رَاغِبٍ فِيك. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّعْرِيضُ أَنْ يَقُولَ: إنَّك عَلَيَّ لَكَرِيمَةٌ. وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا أَوْ رِزْقًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَنْتِ جَمِيلَةٌ. وَأَنْتِ مَرْغُوبٌ فِيك. وَإِنْ قَالَ: لَا تَسْبِقِينَا بِنَفْسِك. أَوْ لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِك. أَوْ إذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي. وَنَحْوَ ذَلِكَ، جَازَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَاتَ رَجُلٌ، وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ تَتْبَعُ الْجِنَازَةَ، فَقَالَ لَهَا رَجُلٌ: لَا تَسْبِقِينَا بِنَفْسِك. فَقَالَتْ: سَبَقَك غَيْرُك. وَتُجِيبُهُ الْمَرْأَةُ: إنْ قُضِيَ شَيْءٌ كَانَ. وَمَا نَرْغَبُ عَنْك. وَمَا أَشْبَهَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 وَالتَّصْرِيحُ: هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ النِّكَاحِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: زَوِّجِينِي نَفْسَك. أَوْ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُك تَزَوَّجْتُك. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] . فَإِنَّ النِّكَاحَ يُسَمَّى سِرًّا، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَنْ تَطْلُبُوا سِرَّهَا لِلْغِنَى ... وَلَنْ تُسْلِمُوهَا لِإِزْهَادِهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السِّرُّ: الْجِمَاعُ. وَأَنْشَدَ لِامْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَّا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْقَوْمِ أَنَّنِي ... كَبِرْت وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي وَمُوَاعَدَةُ السِّرِّ أَنْ يَقُولَ: عِنْدِي جِمَاعٌ يُرْضِيك. وَنَحْوَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: رُبَّ جِمَاعٍ يُرْضِيك. فَنُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْهَجْرِ وَالْفُحْشِ وَالدَّنَاءَةِ وَالسُّخْفِ. [فَصَلِّ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ أَوْ عَرَّضَ فِي مَوْضِعٍ يَحْرُمُ التَّعْرِيضُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ حِلِّهَا] (5419) فَصْلٌ: فَإِنْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ، أَوْ عَرَّضَ فِي مَوْضِعٍ يَحْرُمُ التَّعْرِيضُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ حِلِّهَا، صَحَّ نِكَاحُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُحَرَّمَ لَمْ يُقَارِنْ الْعَقْدَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، أَوْ كَمَا لَوْ رَآهَا مُتَجَرِّدَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. [فَصْلٌ نِكَاح الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا] (5420) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْعَبْدِ نِكَاحُ سَيِّدَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا بَاطِلٌ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْت جَابِرًا عَنْ الْعَبْدِ يَنْكِحُ سَيِّدَتَهُ، فَقَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَنَحْنُ بِالْجَابِيَةِ، وَقَدْ نَكَحَتْ عَبْدَهَا، فَانْتَهَرَهَا عُمَرُ وَهَمَّ أَنْ يَرْجُمَهَا، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكِ. وَلِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ مَعَ أَحْكَامِ الْمِلْكِ يَتَنَافَيَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ بِحُكْمِهِ، يُسَافِرُ بِسَفَرِهِ، وَيُقِيمُ بِإِقَامَتِهِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَيَتَنَافَيَانِ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ] (5421) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَقْدٌ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لَهُ فِيهَا مِلْكٌ. وَلَا يَتَزَوَّجُ مُكَاتَبَتَهُ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ] (5422) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ مِلْكٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلَا تَعْتِقُ بِإِعْتَاقِهِ لَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ جُزْءًا مِنْ أَمَةٍ، لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ لَهَا، فَمَا هِيَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ بِجُمْلَتِهَا شَرْعًا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ نِكَاحُ أُمِّ سَيِّدِهِ أَوْ سَيِّدَتِهِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ. وَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَقْطَعُ وِلَايَتَهُ عَنْ أَبِيهِ وَمَالِهِ، وَلِهَذَا لَا يَلِي مَالَهُ وَلَا نِكَاحَهُ، وَلَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ. [فَصْلٌ لِلِابْنِ نِكَاحُ أَمَةِ أَبِيهِ] (5423) فَصْلٌ: وَلِلِابْنِ نِكَاحُ أَمَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقَرَابَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ لِمَمْلُوكِهِ، إذَا قُلْنَا: لَيْسَتْ الْحُرِّيَّةُ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ. وَمَتَى مَاتَ الْأَبُ، فَوَرِثَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ، أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، انْفَسَخَ النِّكَاح. وَكَذَلِكَ إنْ مَلَكَهُ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ بِغَيْرِ الْإِرْثِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: إذَا اشْتَرَى امْرَأَتَهُ لِلْعِتْقِ، فَأَعْتَقَهَا حِينَ مَلَكَهَا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَنَافِيَانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَبِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ لَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهُ سَابِقًا عَلَى عِتْقِهَا. وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ يَتَزَوَّجُ بِنْتَ سَيِّدِهِ أَوْ سَيِّدَتِهِ، حُكْمُ الْعَبْدِ، فِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ سَيِّدُهُ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: النِّكَاحُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْهُ، إنَّمَا لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَلِأَنَّهُ لَوْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ، لَمَا عَادَ بِعَجْزِهِ، كَمَا لَوْ أُعْتِقَ. [فَصْلٌ مَلَكَتْ الْمَرْأَة زَوْجَهَا أَوْ بَعْضَهُ فَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا] (5424) فَصْلٌ: وَإِذَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ بَعْضَهُ، فَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلَاقٍ، فَمَتَى أَعْتَقَتْهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، لَمْ تُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ تَطْلِيقَةٌ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْفِظْ بِطَلَاقٍ صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَإِنَّمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِوُجُودِ مَا يُنَافِيه، فَأَشْبَهَ انْفِسَاخَهُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا أَوْ رِدَّتِهِ. وَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ بَعْضَ زَوْجَتِهِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَحَرُمَ وَطْؤُهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفْتِينَ، حَتَّى يَسْتَخْلِصَهَا، فَتَحِلَّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَزِدْهُ مِلْكُهُ فِيهَا إلَّا قُرْبًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْقَى فِي بَعْضِهَا، وَمِلْكُهُ لَمْ يَتِمَّ عَلَيْهَا، وَلَا يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا نِكَاحَ فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ جَارِيَةِ ابْنِهِ] (5425) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ جَارِيَةِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَةً لَهُ، وَلَا مَمْلُوكَتَهُ، وَلِأَنَّهُ يَحِلُّ لِابْنِهِ وَطْؤُهَا، وَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِرَجُلَيْنِ. فَإِنْ وَطِئَهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ دَاوُد: يُحَدُّ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنْ كَانَ ابْنُهُ وَطِئَهَا حُدَّ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَنَا، أَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِ ابْنِهِ، وَالْقِصَاصُ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَإِذَا سَقَطَ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَالْحَدُّ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُحَدُّ بِالزِّنَى بِجَارِيَتِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَإِنْ كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ. وَإِذَا لَمْ تَعْلَقْ مِنْ الْأَبِ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الِابْنِ عَنْهَا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَتُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِ، وَحَرَمَهُ وَطْأَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ، وَلَا يَجِبُ لَهُ ضَمَانُهَا. وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ لِأَجْلِ الْمِلْكِ، فَأَشْبَهْت الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ إذَا كَانَ مُوسِرًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا وَلَا مَهْرُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كُلُّهُ، إذَا حُكِمَ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ. وَهَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلِابْنِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا قِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَعِنْدَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ] (5426) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ، عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَلَا تَصِيرُ بِهِ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَقَارِبِ. [فَصْلٌ وَطِئَ الْأَبُ وَابْنُهُ جَارِيَةَ الِابْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَأَتَتْ بِوَلَدِ] (5427) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ الْأَبُ وَابْنُهُ جَارِيَةَ الِابْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدِ أُرِيَ الْقَافَةَ، فَأُلْحِقُ بِمِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 مِنْهُمَا، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِوَطْئِهَا. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا، لَحِقَ بِهِمَا. وَإِنْ أُولِدَهَا أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا بِوِلَادَتِهَا مِنْهُ صَارَتْ لَهُ أُمِّ وَلَدٍ، لِانْفِرَادِهِ بِإِيلَادِهَا، فَلَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ ابْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَابِضًا لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ الِابْنُ وَطِئَهَا، فَأَحْبَلَهَا الْأَبُ، فَالْوَلَدُ وَلَدُهُ، وَالْجَارِيَةُ لَهُ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ فِيهَا شَيْءٌ قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الِابْنَ إنْ كَانَ وَطِئَهَا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ، لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَأَخْذُهَا، فَتَكُونُ قَدْ عَلِقَتْ بِمَمْلُوكٍ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَبَضَهَا، وَلَمْ يَكُنْ الِابْنُ وَطِئَهَا، مَلَكَهَا؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِهِ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ حَاجَتُهُ، فَيَتَمَلَّكُهُ. [بَاب نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ] ِ أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، يُقَرُّونَ عَلَيْهَا إذَا أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا، إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَالِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى صِفَةِ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ الْوَلِيِّ، وَالشُّهُودِ، وَصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا أَسْلَمَا مَعًا، فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَنَّ لَهُمَا الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا، مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمَ نِسَاؤُهُمْ، وَأُقِرُّوا عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَلَا كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ، فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، كَأَحَدِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوْ السَّبَبِ، أَوْ الْمُعْتَدَّةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ، وَالْوَثَنِيَّةِ، وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، لَمْ يُقَرَّ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَأَسْلَمَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا، أُقِرَّا؛ لِأَنَّهَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا. [مَسْأَلَة أَسْلَمَ الْوَثَنِيُّ وَقَدْ تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ وَثَنِيَّات وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوْ الْمَجُوسِيَّيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ] (5428) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْوَثَنِيُّ، وَقَدْ تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ وَثَنِيَّاتٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ، بِنَّ مِنْهُ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ مَا سَمَّى لَهَا إنْ كَانَ حَلَالًا، أَوْ نِصْفُ صَدَاقِ مِثْلِهَا إنْ كَانَ مَا سَمَّى لَهَا حَرَامًا. وَلَوْ أَسْلَمَ النِّسَاءُ قَبْلَهُ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ، بِنَّ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ. فَإِنْ كَانَ إسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ مَعًا، فَهُنَّ زَوْجَاتٌ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَنْ لَمْ تُسْلِمْ مِنْهُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 (5429) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوْ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ إسْلَامِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ، بَلْ إنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَام عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَبَى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ الْآخَرُ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ. فَإِنْ كَانَ الْإِبَاءُ مِنْ الزَّوْجِ، كَانَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ مِنْ قِبَلِهِ، فَكَانَ طَلَاقًا، كَمَا لَوْ لَفَظَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ، كَانَ فَسْخًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ، عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ، تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَلَنَا، أَنَّهُ اخْتِلَافُ دِينٍ يَمْنَعُ الْإِقْرَارَ عَلَى النِّكَاحِ، فَإِذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ، كَالرِّدَّةِ. وَعَلَى مَالِكٍ كَإِسْلَامِ الزَّوْجِ، أَوْ كَمَا لَوْ أَبَى الْآخِرُ الْإِسْلَامَ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ، فَلَيْسَ لَهُ إمْسَاكُ كَافِرَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ، فَلَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهَا فِي نِكَاحِ مُشْرِكٍ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهَا فُرْقَةُ فَسْخٍ، أَنَّهَا فُرْقَةٌ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، فَكَانَ فَسْخًا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَأَبَتِ الْمَرْأَةُ، وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ لَفْظٍ، فَكَانَتْ فَسْخًا، كَفُرْقَةِ الرَّضَاعِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ] (5430) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، فَلِلْمَرْأَةِ نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةً، أَوْ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً، مِثْلُ أَنْ يُصْدِقَهَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِإِسْلَامِ الْمَرْأَةِ، فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ. وَيَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ مِنْ قِبَلِهِ بِإِبَائِهِ الْإِسْلَامَ وَامْتِنَاعِهِ مِنْهُ، وَهِيَ فَعَلَتْ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَكَانَ لَهَا نِصْفُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا، كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّتْ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَجُوسِيٍّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِامْرَأَتِهِ: لَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الصَّدَاقِ. وَوَجْهُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ حَصَلَ بِإِسْلَامِهَا، فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ حَاصِلَةً بِفِعْلِهَا، فَلَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ، وَيُفَارِقُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَلِهَذَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَتْ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 [الْفَصْلُ الثَّالِث الزَّوْجَيْنِ إذَا أَسْلَمَا مَعًا] (5431) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ. ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ اخْتِلَافُ دِينٍ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مُسْلِمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً بَعْدَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ أَسْلَمَتْ مَعِي. فَرَدَّهَا عَلَيْهِ» وَيُعْتَبَرُ تَلَفُّظُهُمَا بِالْإِسْلَامِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لِئَلَّا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَيَفْسُدَ النِّكَاحُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْمَجْلِسِ، كَالْقَبْضِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمَجْلِسِ كُلِّهِ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ، لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ كُلِّ مُسْلِمَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ، إلَّا فِي الشَّاذِّ النَّادِرِ، فَيَبْطُلُ الْإِجْمَاعُ. [الْفَصْلُ الرَّابِع إسْلَامُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ] (5432) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَنَصَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا كَقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَحَصَلَتْ الْفُرْقَةُ، لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَسْلَمَ الرَّجُلُ قَبْلَ امْرَأَتِهِ، عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ، وَإِلَّا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ وَقَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ فَسْخَ النِّكَاحِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، كَالرَّضَاعِ وَلَنَا، مَا رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ إسْلَامِ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ، أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَبَقِيَ صَفْوَانُ حَتَّى شَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 فَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَشُهْرَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ إسْنَادِهِ وَقَالَ ابْن شِهَابٍ: أَسْلَمَتْ أُمُّ حَكِيمٍ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ حَتَّى أَتَى الْيَمَنَ، فَارْتَحَلَتْ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ الْيُمْنَ، فَدَعَتْهُ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ فَبَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَ الرَّجُلِ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمَرْأَةِ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ خَرَجَ فَأَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، وَلَمْ تُسْلِمْ هِنْدُ امْرَأَتُهُ حَتَّى فَتَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، فَثَبَتَا عَلَى النِّكَاحِ. وَأَسْلَمَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَبْلَ امْرَأَتِهِ. وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَلَقِيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ بِالْأَبْوَاءِ فَأَسْلَمَا قَبْلَ نِسَائِهِمَا وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَتَّفِقَ إسْلَامُهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَيُفَارِقُ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ لَا عِدَّةَ لَهَا فَتَتَعَجَّلُ الْبَيْنُونَةُ، كَالْمُطَلَّقَةِ وَاحِدَةً، وَهَاهُنَا لَهَا عِدَّةٌ، فَإِذَا انْقَضَتْ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الْفُرْقَةِ مِنْ حِينَ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَى عِدَّةٍ ثَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ سَبَبُ الْفُرْقَةِ، فَتُحْتَسَبُ الْفُرْقَةُ مِنْهُ كَالطَّلَاقِ. [الْفَصْلُ الْخَامِس أَسْلَمَ أُحُد الزَّوْجَيْنِ وَتَخَلَّفَ الْآخَرُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ] (5433) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. وَتَخَلَّفَ الْآخَرُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، شَذَّ فِيهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، زَعَمَ أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى زَوْجِهَا، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحِهَا الْأَوَّلِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَاحْتَجَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 بِهِ أَحْمَدُ. قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ يُرْوَى أَنَّهُ رَدَّهَا بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ إسْلَامِهَا وَرَدِّهَا إلَيْهِ ثَمَانِ سِنِينَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَالْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى تَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْكُفَّارِ. فَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي الْعَاصِ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْكُفَّارِ، فَتَكُونَ مَنْسُوخَةً بِمَا جَاءَ بَعْدَهَا، أَوْ تَكُونَ حَامِلًا اسْتَمَرَّ حَمْلُهَا حَتَّى أَسْلَمَ زَوْجُهَا، أَوْ مَرِيضَةً لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حَيْضَاتٍ حَتَّى أَسْلَمَ، أَوْ تَكُونَ رُدَّتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فِي (سُنَنِهِ) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْت عَبْدَ بْنَ حُمَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونُ يَقُولُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَجْوَدُ إسْنَادًا، وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ. [فَصْلٌ وَقَعْت الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ] (5434) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَعْت الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ، الدُّخُولِ، فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ بِالدُّخُولِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِشَيْءِ، فَإِنْ كَانَ مُسَمًّى صَحِيحًا، فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، يَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا، وَقَدْ قَبَضَتْهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ، فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ لِمَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَمُسْلِمَةٍ، وَلَا فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ صَارَتْ أَحْكَامُهُمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ قَبْلَهُ، فَلَهَا نَفَقَةُ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْقَاءِ نِكَاحِهَا، وَاسْتِمْتَاعِهِ مِنْهَا، بِإِسْلَامِهِ مَعَهَا، فَكَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ كَالرَّجْعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ قَبْلَهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى اسْتِبْقَاءِ نِكَاحِهَا، وَتَلَافِي حَالِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْبَائِنَ، وَسَوَاءٌ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا أَوْ لَمْ تُسْلِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تُسْلِمْ تَبَيَّنَّا أَنَّ نِكَاحَهَا انْفَسَخَ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، فَكَيْفَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْبَائِنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ الزَّوْجُ تَلَافِيَ نِكَاحِهَا إذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الرَّجْعِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: الرَّجْعِيَّةُ جَرَّتْ إلَى الْبَيْنُونَةِ بِسَبَبٍ مِنْهُ، وَهَذِهِ السَّبَبُ مِنْهَا؟ قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهَا مُضَيِّقًا، وَيُمْكِنُهُ تَلَافِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُهَا جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَمْكَنَهُ تَلَافِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 [فَصْلٌ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي زَمَنِ إسْلَامِهِمَا] (5435) فَصْلٌ: فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ، لَا يَخْلُو اخْتِلَافُهُمَا مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ (5436) : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ يَقُولَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْنَا مَعًا، فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ. وَتَقُولُ هِيَ: بَلْ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ؛ إذْ يَبْعُدُ اتِّفَاقُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ الظَّاهِرُ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا وَجْهًا آخَرَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَالْفَسْخُ طَارِئٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْأَصْلَ كَالْمُنْكِرِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ (5437) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ يَقُولَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْت قَبْلِي، فَلَا صَدَاقَ لَكَ. وَتَقُولُ هِيَ: أَسْلَمْت قَبْلِي، فَلِي نِصْفُ الصَّدَاقِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَالزَّوْجُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُهُ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرٌ فَبَقِيَ. فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَلَا يَعْلَمَانِ عَيْنَهُ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. كَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْ، فَلَا شَيْءَ؛ لَهَا لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهَا، فَلَا تَسْتَحِقُّ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَشُكُّ فِي اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ، وَلَا يَرْجِعُ مَعَ الشَّكِّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ، وَكَذَلِكَ إذَا تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، وَهَذِهِ قَدْ كَانَ صَدَاقُهَا وَاجِبًا لَهَا، وَشَكَّا فِي سُقُوطِهِ، فَيَبْقَى عَلَى الْوُجُوبِ. وَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِيهِ أَيْضًا مَسْأَلَتَانِ؛ (5438) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ: أَسْلَمْنَا مَعًا. أَوْ أَسْلَمَ الثَّانِي فِي الْعِدَّةِ، فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ. وَتَقُولَ هِيَ: بَلْ أَسْلَمَ الثَّانِي بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي، الْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إسْلَامِ الثَّانِي (5439) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ تَقُولَ: أَسْلَمْت قَبْلَكَ، فَلِي نَفَقَةُ الْعِدَّةِ. وَيَقُولَ هُوَ: أَسْلَمْت قَبْلَكَ فَلَا نَفَقَةَ لَك فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ. وَهُوَ يَدَّعِي سُقُوطَهَا. وَإِنْ قَالَ: أَسْلَمْت بَعْدَ شَهْرَيْنِ مِنْ إسْلَامِي، فَلَا نَفَقَةَ لَك فِيهِمَا. وَقَالَتْ: بَعْدَ شَهْرٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إسْلَامِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي. فَأَمَّا إنْ ادَّعَى هُوَ مَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ، وَأَنْكَرَتْهُ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِزَوَالِ نِكَاحِهِ وَسُقُوطِ حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَكَذَّبَتْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 [فَصْلٌ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ] (5440) فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا اتَّفَقَتْ الدَّارَانِ أَوْ اخْتَلَفَتَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَعَقَدَ الذِّمَّةَ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ؛ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَيَقْتَضِي مَذْهَبُهُ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا فِعْلًا وَحُكْمًا، فَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَنَا، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَامْرَأَتُهُ بِمَكَّةَ لَمْ تُسْلِمْ، وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ، وَأُمُّ حَكِيمٍ أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ إلَى الْيَمَنِ، وَامْرَأَةُ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَأُقِرُّوا عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ كَالْبَيْعِ، وَيُفَارِقُ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّ الْقَاطِعَ لِلنِّكَاحِ اخْتِلَافُ الدِّينِ، الْمَانِعُ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى النِّكَاحِ، دُونَ مَا ذَكَرُوهُ فَعَلَى هَذَا، لَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَرْبِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، صَحَّ نِكَاحُهُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ يُبَاحُ نِكَاحُهَا إذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأُبِيحَ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَالْمُسْلِمَةِ. [مَسْأَلَة نَكَحَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ ثُمَّ أَصَابَهُنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ] (5441) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ نَكَحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ أَصَابَهُنَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي عِدَّتِهَا، اخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، وَفَارَقَ مَا سِوَاهُنَّ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ أَمْسَكَ مِنْهُنَّ أَوَّلَ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ أَوْ آخِرَهُنَّ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ، وَمَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ فِي عِدَّتِهِنَّ، أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إمْسَاكُهُنَّ كُلِّهِنَّ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ وَلَا يَمْلِكُ إمْسَاكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. فَإِذَا أَحَبَّ ذَلِكَ، اخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، وَفَارَقَ سَائِرَهُنَّ، سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ أَوْ فِي عُقُودٍ، وَسَوَاءٌ اخْتَارَ الْأَوَائِلَ أَوْ الْأَوَاخِرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ فِي عُقُودٍ، فَنِكَاحُ الْأَوَائِلِ صَحِيحٌ، وَنِكَاحُ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا تَنَاوَلَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَتَحْرِيمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ فِي حَالِ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَسْلَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 وَلَنَا، مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: «أَسْلَمْت وَتَحْتِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سُوَيْد الثَّقَفِيُّ، «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ، وَخَالَفَ فِيهِ أَصْحَابَ الزُّهْرِيِّ. كَذَلِكَ قَالَ الْحُفَّاظُ؛ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ إمْسَاكُهُ بِنِكَاحٍ مُطْلَقٍ فِي حَالِ الشِّرْكِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهُنَّ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجَيْنِ، فَنِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مَلَّكَتْهُ مِلْكَ غَيْرِهَا. وَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَلِّكْهُ جَمِيعَ بُضْعِهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَائِعِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا اخْتِيَارُ النِّكَاحِ وَفَسْخُهُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ. (5442) فَصْلٌ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا فَمَا دُونَ، وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ، أَوْ يُفَارِقَ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ غَيْلَانَ وَقَيْسًا بِالِاخْتِيَارِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نِكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَإِنْ أَبَى، أُجْبِرَ، بِالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ إلَى أَنْ يَخْتَارَ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ إيفَاؤُهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْهُ، فَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَإِيفَاءِ الدَّيْنِ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَخْتَارَ عَنْهُ، كَمَا يُطَلِّقُ عَلَى الْمُولِي إذَا امْتَنَعَ مِنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هَاهُنَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ الزَّوْجَاتُ بِاخْتِيَارِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ الْحَاكِمُ فَيَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُولِي، فَإِنَّ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ يُمْكِنُ الْحَاكِمُ إيفَاءَهُ، وَالنِّيَابَةُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ فِيهِ. فَإِنْ جُنَّ خُلِّيَ حَتَّى يَعُودَ عَقْلُهُ، ثُمَّ يُجْبَرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْجَمِيعِ إلَى أَنْ يَخْتَارَ؛ لِأَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُنَّ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ أَيَّتَهُنَّ اخْتَارَ جَازَ. [فَصْلٌ زَوَّجَ الْكَافِرُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا] (5443) فَصْلٌ: وَلَوْ زَوَّجَ الْكَافِرُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاخْتِيَارُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَإِنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ، وَلَيْسَ لِأَبِيهِ الِاخْتِيَارُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّهْوَةِ، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ حِينَئِذٍ، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ إلَى أَنْ يَخْتَارَ. [فَصْلٌ مَاتَ الزَّوْج قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ لَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَعَلَى جَمِيعهنَّ الْعِدَّةُ] (5444) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ، لَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَاكِمِ، وَعَلَى جَمِيعِهِنَّ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَاتِ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُنَّ، فَمَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، وَمَنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ لِأَنَّهَا أَطْوَلُ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَعِدَّتُهَا أَطْوَلُ الْأَجَلَيْنِ، مِنْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ بِيَقِينٍ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَارَةً أَوْ مُفَارِقَةً، وَعِدَّةُ الْمُخْتَارَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَعِدَّةُ الْمُفَارِقَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، فَأَوْجَبْنَا أَطْوَلَهُمَا، لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ بِيَقِينِ، كَمَا قُلْنَا فِي مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ، لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا: عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا الْمِيرَاثُ، فَإِنْ اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ، فَهُوَ جَائِزٌ كَيْفَمَا اصْطَلَحْنَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُنَّ، وَإِنْ أَبَيْنَ الصُّلْحَ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، فَتَكُونَ الْأَرْبَعُ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ وَعِنْد الشَّافِعِيِّ، يُوقَفُ الْمِيرَاثُ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ. وَأَصِلُ هَذَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ صِفَةُ اخْتِيَارِ مِنْ يَثْبُت نِكَاحهنَّ] (5445) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَقُولَ: اخْتَرْت نِكَاحَ هَؤُلَاءِ، أَوْ اخْتَرْت هَؤُلَاءِ، أَوْ أَمْسَكْتهنَّ، أَوْ اخْتَرْت حَبْسَهُنَّ، أَوْ إمْسَاكَهُنَّ، أَوْ نِكَاحَهُنَّ، أَوْ أَمْسَكْت نِكَاحَهُنَّ، أَوْ ثَبَّتُّ نِكَاحَهُنَّ، أَوْ أَثْبَتُّهُنَّ. وَإِنْ قَالَ لِمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ: فَسَخْت نِكَاحَهُنَّ. كَانَ اخْتِيَارًا لِلْأَرْبَعِ. وَإِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ، كَانَ اخْتِيَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَوْجَةٍ. وَإِنْ قَالَ: قَدْ فَارَقْت هَؤُلَاءِ، أَوْ اخْتَرْت فِرَاقَ هَؤُلَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، كَانَ اخْتِيَارًا لِغَيْرِهِنَّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْلَانَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْفِرَاقِ صَرِيحًا فِيهِ، كَمَا كَانَ لَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحًا فِيهِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: فَعَمَدْت إلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً، فَفَارَقْتهَا. وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَخَصُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. فَيَجِبُ أَنْ يُتَخَصَّصَ فِيهِ بِالْفَسْخِ. وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، كَانَ اخْتِيَارًا لَهُنَّ دُونَ غَيْرِهِنَّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ عِنْد الْإِطْلَاقِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْمُفَارِقَاتِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْفِرَاقِ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُنَّ، كَانَ اخْتِيَارًا لَهَا، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مِلْكٍ، فَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِيَارِ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَوَطْءِ الرَّجْعِيَّةِ أَيْضًا اخْتِيَارًا لَهَا. وَإِنْ آلَى مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي غَيْرِ زَوْجَةٍ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يَكُونُ اخْتِيَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ زَوْجَةٍ. وَإِنْ قَذَفَهَا، لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي غَيْرِ زَوْجَةٍ. [فَصْلٌ اخْتَارَ الزَّوْج مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارَقَ الْبَوَاقِيَ] (5446) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارَقَ الْبَوَاقِيَ، فَعِدَّتُهُنَّ مِنْ حِينِ اخْتَارَ؛ لِأَنَّهُنَّ بِنَّ مِنْهُ بِالِاخْتِيَارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهُنَّ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُنَّ بِنَّ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ مِنْ حِينِ الْإِسْلَامِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمْ الْآخَرُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَفُرْقَتُهُنَّ فَسْخٌ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِإِسْلَامِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ فِيهِنَّ، وَعِدَّتُهُنَّ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ مِنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا كَذَلِكَ وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَى الْمُخْتَارَاتِ، أَوْ بَانَتْ مِنْهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ الْمُفَارِقَاتِ، وَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى طَلَاقِ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِنْ اخْتَارَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ اخْتَارَ تَرْكَ الْجَمِيعِ، أُمِرَ بِطَلَاقِ أَرْبَعٍ، أَوْ تَمَامِ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ الزَّوْجَاتِ لَا يَبِنَّ مِنْهُ إلَّا بِطَلَاقٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِذَا طَلَّقَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، وَقَعَ طَلَاقُهُ بِهِنَّ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ، لِاخْتِيَارِهِ لَهُنَّ، وَتَكُونُ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ حِينَ طَلَّقَ، وَعِدَّةُ الْبَاقِيَاتِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ، أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ، كُنَّ الْمُخْتَارَاتِ وَوَقَعَ طَلَاقُهُ بِهِنَّ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا، فَمَتَى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ الْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَطْلُقْنَ مِنْهُ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْمُطَلَّقَاتُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَلَوْ أَسْلَمَ، ثُمَّ طَلَّقَ الْجَمِيعَ قَبْلَ إسْلَامِهِنَّ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، أُمِرَ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ فَإِذَا اخْتَارَهُنَّ تَبَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ، وَيَعْتَدِدْنَ مِنْ حِينِ طَلَاقِهِ وَبَانَ الْبَوَاقِي مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِهِنَّ، وَلَا يَقَعُ بِهِنَّ طَلَاقُهُ، وَلَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ إذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَاتِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُطَلَّقَاتٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ طَلَاقَهُنَّ قَبْلَ إسْلَامِهِنَّ فِي زَمَنٍ لَيْسَ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِيهِ، فَإِذَا أَسْلَمْنَ تَجَدَّدَ لَهُ الِاخْتِيَارُ حِينَئِذٍ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا طَلَّقَهُنَّ وَلَهُ الِاخْتِيَارُ، وَالطَّلَاقُ يَصْلُحُ اخْتِيَارًا، وَقَدْ أَوْقَعَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُنَّ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَصِرْنَا إلَى الْقُرْعَةِ، لِتَسَاوِي الْحُقُوقِ (5447) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ قَبْلَهُنَّ، وَقُلْنَا بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَلَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُنَّ بِنَّ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، تَبَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِنَّ، وَلَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ إذَا أَسْلَمْنَ، وَإِنْ كَانَ وَطِئَهُنَّ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ وَطِئَ غَيْرَ نِسَائِهِ، وَإِنْ آلَى مِنْهُنَّ، أَوْ ظَاهَرَ، أَوْ قَذَفَ تَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَيْرِ زَوْجِهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ خَاطَبَ بِذَلِكَ أَجْنَبِيَّةً. فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَوَقَعَ طَلَاقُهُ بِهَا، وَكَانَ وَطْؤُهُ لَهَا وَطْئًا لِمُطَلَّقَتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ غَيْرَهَا، فَوَطْؤُهُ لَهَا وَطْءٌ لِامْرَأَتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَطْؤُهُ لَهَا قَبْلَ طَلَاقِهَا وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ فَأَسْلَمَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنْهُنَّ، أَوْ أَقَلُّ فِي عِدَّتِهِنَّ، وَلَمْ تُسْلِمْ الْبَوَاقِي، تَعَيَّنَتْ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْمُسْلِمَاتِ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِنَّ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْبَوَاقِي، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ بِهِنَّ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمَ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ] (5448) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمَ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ، فَلَهُ اخْتِيَارُهُنَّ، وَلَهُ الْوُقُوفُ إلَى أَنْ يُسْلِمَ الْبَوَاقِي. فَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 مَاتَ اللَّاتِي أَسْلَمْنَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَاقِيَاتُ، فَلَهُ اخْتِيَارُ الْمَيِّتَاتِ، وَلَهُ اخْتِيَارُ الْبَاقِيَاتِ، وَلَهُ اخْتِيَارُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ؛ وَبَعْضِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ بِعَقْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْحِيحٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِيهِنَّ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الِاخْتِيَارِ بِحَالِ ثُبُوتِهِ، وَحَالَ ثُبُوتِهِ كُنَّ أَحْيَاءَ وَإِنْ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ: اخْتَرْتهَا. جَازَ، فَإِذَا اخْتَارَ أَرْبَعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي. وَإِنْ قَالَ لِلْمُسْلِمَةِ: اخْتَرْت فَسْخَ نِكَاحِهَا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالِاخْتِيَارُ لِلْأَرْبَعِ، وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْفَسْخِ الطَّلَاقَ، فَيَقَعُ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَيَكُونُ طَلَاقُهُ لَهَا اخْتِيَارًا لَهَا وَإِنْ قَالَ: اخْتَرْت فُلَانَةَ. قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلِاخْتِيَارِ، لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ إلَيَّ بَيْنُونَةٍ، فَلَا يَصِحُّ إمْسَاكُهَا. وَإِنْ فَسَخَ نِكَاحَهَا، لَمْ يَنْفَسِخْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاخْتِيَارُ، لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ. وَإِنْ نَوَى بِالْفَسْخِ الطَّلَاقَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَهُوَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ أَسْلَمَ زِيَادَةٌ فَاخْتَارَهَا، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهَا، وَإِلَّا فَلَا (5449) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ اخْتَرْتهَا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا؛ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ اخْتَرْت فَسْخَ نِكَاحِهَا. لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَمْلِكُهُ فِي وَاحِدَةٍ حَتَّى يَزِيدَ عَدَدُ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَالِقُ. وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَيَتَضَمَّنُ الِاخْتِيَارَ لَهَا، فَكُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ كَانَ اخْتِيَارًا لَهَا، وَتَطْلُقُ بِطَلَاقِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَتَضَمَّنُ الِاخْتِيَارَ، وَالِاخْتِيَارُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ (5450) فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، فَلَهُ الِاخْتِيَارُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَتَعْيِينٌ لِلْمَنْكُوحَةِ، وَلَيْسَ بِابْتِدَاءٍ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ الِاخْتِيَارُ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِدَامَةُ نِكَاحٍ، لَا يُشْتَرَطُ لَهُ رِضَاءُ الْمَرْأَةِ، وَلَا وَلِيُّ، وَلَا شُهُودٌ، وَلَا يَتَجَدَّدُ بِهِ مَهْرٌ، فَجَازَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ، كَالرَّجْعَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 (5451) فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمْنَ مَعَهُ، ثُمَّ مُتْنَ قَبْلَ اخْتِيَارِهِ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، فَيَكُونَ لَهُ مِيرَاثُهُنَّ، وَلَا يَرِثُ الْبَاقِيَاتُ؛ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ بِزَوْجَاتٍ لَهُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ، فَلَهُ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْأَحْيَاءِ، وَلَهُ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْمَيِّتَاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ فَمُتْنَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي، فَلَهُ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْجَمِيعِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمَيِّتَاتِ، فَلَهُ مِيرَاثُهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ مُتْنَ وَهُنَّ نِسَاؤُهُ، وَإِنْ اخْتَارَ غَيْرَهُنَّ، فَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ. وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ الْبَوَاقِي، لَزِمَ النِّكَاحُ فِي الْمَيِّتَاتِ، وَلَهُ مِيرَاثُهُنَّ فَإِنْ وَطِئَ الْجَمِيعَ قَبْلَ إسْلَامِهِنَّ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، فَاخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إلَّا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ، وَلَسَائِرُهُنَّ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ. وَإِنْ وَطِئَهُنَّ بَعْدَ إسْلَامِهِنَّ، فَالْمَوْطُوآت أَوَّلَاهُنَّ الْمُخْتَارَاتُ، وَالْبَوَاقِي أَجْنَبِيَّاتُ، وَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَة أسلم وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ] (5452) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، اخْتَارَ مِنْهُمَا وَاحِدَةً هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ، كَقَوْلِهِ فِي عَشْرِ نِسْوَةٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «إنِّي أَسْلَمْت وَتَحْتِي أُخْتَانِ قَالَ: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْت» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا. وَلِأَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْجَمْعُ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَزَالَهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ إسْلَامِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَالْأُخْرَى فِي حِبَالِهِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ (5453) فَصْلٌ: وَلَوْ تَزَوَّجَ وَثَنِيَّةً، فَأَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ فِي شِرْكِهِ أُخْتَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَا فِي عِدَّةِ الْأُولَى، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ مُسْلِمَتَانِ. وَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا. فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ الثَّانِي. وَإِذَا أَسْلَمْت الْأُولَى فِي عِدَّتِهَا، فَنِكَاحُهَا لَازِمٌ؛ لِأَنَّهَا انْفَرَدَتْ بِهِ (5454) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ، وَدَخَلَ بِهِمَا، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ، فَاخْتَارَ إحْدَاهُمَا، لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا لِئَلَّا يَكُونَ وَاطِئًا لِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ فِي عِدَّةِ الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَكُنَّ ثَمَانِيَا، فَاخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، وَفَارَقَ أَرْبَعًا، لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْ الْمُخْتَارَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارِقَاتِ، لِئَلَّا يَكُونَ وَاطِئًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. فَإِنْ كُنَّ خَمْسًا، فَفَارَقَ إحْدَاهُنَّ، فَلَهُ وَطْءُ ثَلَاثٍ مِنْ الْمُخْتَارَاتِ، وَلَا يَطَأُ الرَّابِعَةَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارَقَةِ. وَإِنْ كُنَّ سِتًّا، فَفَارَقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُ وَطْءُ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْمُخْتَارَاتِ وَإِنْ كُنَّ سَبْعًا فَفَارَقَ ثَلَاثًا فَلَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُخْتَارَاتِ، وَلَا يَطَأُ الْبَاقِيَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارَقَاتِ، فَكُلَّمَا انْقَضَتْ عِدَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُفَارِقَاتِ، فَلَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُخْتَارَاتِ. هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ (5455) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَاخْتَارَ أَحَدَاهُمَا، فَلَا مَهْرَ لِلْأُخْرَى؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِإِسْلَامِهِمْ جَمِيعًا، فَلَا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا، كَمَا لَوْ فَسَخَ النِّكَاحَ لِعَيْبِ فِي إحْدَاهُمَا، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجِبُ بِهِ مَهْرٌ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُخْتَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ إذَا أَسْلَمُوا جَمِيعًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَاخْتَارَ أَرْبَعًا، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي، فَلَا مَهْرَ لَهُنَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة كَانَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فَأَسْلَمَ الزَّوْجُ وَأَسْلَمَتَا مَعًا] (5456) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ كَانَتَا أُمًّا وَبِنْتًا، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَسَدَ نِكَاحُ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصَلَّيْنَ: (5457) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: إذَا كَانَ إسْلَامُهُمْ جَمِيعًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ نِكَاحُ الْأُمِّ، وَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارِ الْمُزَنِيّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَخْتَارُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرْكِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الِاخْتِيَارُ، فَإِذَا اخْتَارَ الْأُمَّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ عَلَى الْبِنْتِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] . وَهَذِهِ أُمُّ زَوْجَتِهِ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهَا أُمُّ زَوْجَتِهِ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ ابْنَتَهَا فِي حَالِ شِرْكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ وَحْدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا إذَا أَسْلَمَ، فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا وَتَمَسَّك بِنِكَاحِهَا أَوْلَى. وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِانْضِمَامِ الِاخْتِيَارِ إلَيْهِ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، ثَبَتَ لَهَا أَحْكَامُ الصِّحَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ انْفَرَدَتْ كَانَ نِكَاحُهَا صَحِيحًا لَازِمًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَلِهَذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الِاخْتِيَارُ هَاهُنَا. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ لَيْسَ نِكَاحُهَا صَحِيحًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْأُمُّ بِفَسَادِ نِكَاحِهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى ابْنَتِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَمْ يُمْكِنْ اخْتِيَارُهَا، وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأُمِّهَا، فَتَعَيَّنَ النِّكَاحُ فِيهَا بِخِلَافِ الْأُخْتَيْنِ (5458) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا دَخَلَ بِهِمَا، حَرُمَتَا عَلَى التَّأْبِيدِ، الْأُمُّ لِأَنَّهَا أُمُّ زَوْجَتِهِ، وَالْبِنْتُ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا قَالَ. ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعْ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَإِنْ دَخَلَ بِالْأُمِّ وَحْدَهَا، فَكَذَلِكَ؛ أَنَّ الْبِنْتَ تَكُونُ رَبِيبَتَهُ مَدْخُولًا بِأُمِّهَا، وَالْأُمُّ حَرُمَتْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى ابْنَتِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ وَحْدَهَا، ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَفَسَدَ نِكَاحُ أُمِّهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا. وَلَوْ لَمْ تُسْلِمْ مَعَهُ إلَّا إحْدَاهُمَا، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتَا مَعَهُ مَعًا؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمُسْلِمَةُ هِيَ الْأُمَّ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْبِنْتَ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِأُمِّهَا، ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَوْ أَسْلَمَ وَلَهُ جَارِيَتَانِ، إحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، وَقَدْ وَطِئَهُمَا جَمِيعًا حَرُمَتَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا، حَرُمْت الْأُخْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَمْ تَحْرُمْ الْمَوْطُوءَةُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، فَلَهُ وَطْءُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، فَإِذَا وَطِئَهَا، حَرُمَتْ الْأُخْرَى عَلَى التَّأْبِيد. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة أسلم عَبْدٌ وَتَحْتَهُ زَوْجَتَانِ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَأَسْلَمَتَا فِي الْعِدَّةِ] (5459) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ، وَتَحْتَهُ زَوْجَتَانِ، قَدْ دَخَلَ بِهِمَا، فَأَسْلَمَتَا فِي الْعِدَّةِ، فَهُمَا زَوْجَتَاهُ، وَلَوْ كُنَّ أَكْثَرَ، اخْتَارَ مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ فِيمَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ حُكْمُ الْحُرِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، فَإِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ زَوْجَتَانِ، فَأَسْلَمَتَا مَعَهُ، أَوْ فِي عِدَّتِهِمَا، لَزِمَ نِكَاحُهُمَا، حُرَّتَيْنِ كَانَتَا أَوْ أَمَتَيْنِ، أَوْ حُرَّةً وَأَمَةً؛ لِأَنَّ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ نِكَاحِهِ، فَكَذَلِكَ فِي اخْتِيَارِهِ وَإِنْ كُنَّ أَكْثَرَ، اخْتَارَ مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ، أَيَّتَهُنَّ شَاءَ، عَلَى مَا مَضَى فِي الْحُرِّ، فَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّتَانِ وَأَمَتَانِ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْحُرَّتَيْنِ أَوْ الْأَمَتَيْنِ، أَوْ حُرَّةً، وَأَمَةً، وَلَيْسَ لِلْحُرَّةِ إذَا أَسْلَمَتْ مَعَهُ الْخِيَارُ فِي فِرَاقِهِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِنِكَاحِهِ وَهُوَ عَبْدٌ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ رِقُّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا تَجَدَّدَتْ حُرِّيَّتُهَا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ مَعِيبًا تَعْلَمُ عَيْبَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا، أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ عَيْبٌ تَجَدَّدَتْ أَحْكَامُهُ بِالْإِسْلَامِ، فَكَأَنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الرِّقَّ لَمْ يَزُلْ عَيْبًا وَنَقْصًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ نَقْصُهُ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 (5460) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ حَرَائِرَ، فَأُعْتِقَ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ فِي عِدَّتِهِنَّ، أَوْ أَسْلَمْنَ قَبْلَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَزِمَهُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْأَرْبَعُ فِي وَقْتِ اجْتِمَاعِ إسْلَامِهِمْ، فَإِنَّهُ حُرُّ. فَأَمَّا إنْ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إلَّا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا حِينَ ثَبَتَ لَهُ الِاخْتِيَارُ، وَهُوَ حَالُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَتَغَيُّرُ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ، كَمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ إمَاءٌ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، ثُمَّ أَيْسَرَ. وَلَوْ أَسْلَمَ مَعَهُ اثْنَتَانِ، ثُمَّ أَعْتَقَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَاقِيَاتُ لَمْ يَخْتَرْ إلَّا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بِإِسْلَامِ الْأُولَيَيْنِ (5461) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا، فَأَسْلَمْنَ، وَأَعْتَقْنَ قَبْلَ إسْلَامِهِ، فَلَهُنَّ فَسْخُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُنَّ عَتَقْنَ تَحْتَ عَبْدٍ، وَإِنَّمَا مَلَكْنَ الْفَسْخَ وَإِنْ كُنَّ جَارِيَاتٍ إلَى بَيْنُونَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْلِمُ فَيَقْطَعُ جَرَيَانَهُنَّ إلَى الْبَيْنُونَةِ، فَإِذَا فَسَخْنَ وَلَمْ يُسْلِمْ الزَّوْجُ، بِنَّ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ مِنْ حِينَ أَسْلَمْنَ، وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، بِنَّ لِفَسْخِ النِّكَاحِ، وَعَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْحَرَائِرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُنَّ هَاهُنَا وَجَبَتْ عَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ وَهُنَّ حَرَائِرُ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا عَتَقْنَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ الزَّوْجُ تَلَافِيَ النِّكَاحِ فِيهَا، فَأَشْبَهْنَ الرَّجْعِيَّةَ فَإِنْ أَخَّرْنَ الْفَسْخَ حَتَّى أَسْلَمَ الزَّوْجُ، لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَقُّهُنَّ فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُنَّ لِلْفَسْخِ اعْتِمَادٌ عَلَى جَرَيَانِهِنَّ لِبَيْنُونَةٍ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الرِّضَى بِالنِّكَاحِ كَالرَّجْعِيَّةِ إذَا أُعْتِقَتْ وَأَخَّرَتْ الْفَسْخَ، وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَهُنَّ، ثُمَّ أَعْتَقْنَ، فَاخْتَرْنَ الْفَسْخَ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُنَّ إمَاءٌ عَتَقْنَ تَحْتَ عَبْدٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا خِيَارَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِنَّ إلَى الْفَسْخِ، لِكَوْنِهِ يَحْصُلُ بِإِقَامَتِهِنَّ عَلَى الشِّرْكِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ السَّبَبَ مُتَحَقِّقٌ، وَقَدْ يَبْدُو لَهُنَّ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِنَّ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَسْلَمْنَ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ. قُلْنَا: يَتَضَرَّرْنَ بِطُولِ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ الْفَسْخِ، وَلِذَلِكَ مَلَكْنَ الْفَسْخَ فِيمَا إذَا أَسْلَمْنَ وَعَتَقْنَ قَبْلَهُ. فَأَمَّا إنْ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ، وَقُلْنَ: قَدْ رَضِينَا بِالزَّوْجِ. فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُنَّ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَصِحُّ فِيهَا اخْتِيَارُ الْفَسْخِ، فَصَحَّ فِيهَا اخْتِيَارُ الْإِقَامَةِ، كَحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُنَّ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ لِلْإِقَامَةِ ضِدٌّ لِلْحَالَةِ الَّتِي هُنَّ عَلَيْهَا، وَهِيَ جَرَيَانُهُنَّ إلَى الْبَيْنُونَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ الرَّجْعِيَّةُ، فَرَاجَعَهَا الزَّوْجُ حَالَ رِدَّتِهَا. وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إذَا قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقُ. ثُمَّ عَتَقَتْ، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 [فَصْلٌ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ إمَاءٌ فَأُعْتِقَتْ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي] (5462) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ إمَاءٌ، فَأُعْتِقَتْ إحْدَاهُنَّ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِعِصْمَةِ حُرَّةٍ حِينَ اجْتِمَاعِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ إحْدَاهُنَّ مَعَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِ الِاخْتِيَارِ، وَهِيَ حَالَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَحَالَةُ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَتْ أَمَةً (5463) فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ إمَاءٍ، وَهُوَ عَادِمٌ لِلطُّولِ خَائِفٌ لِلْعَنَتِ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْفُهُ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ مَنْ تَعْفُهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى لَا يَخْتَارُ إلَّا وَاحِدَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَتَوْجِيهُهُمَا قَدْ مَضَى فِي ابْتِدَاءِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ. وَإِنْ عَدَمَ فِيهِ الشَّرْطَانِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي الْكُلِّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلْعَقْدِ، لَا ابْتِدَاءٌ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الرَّجْعَةَ وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا حَالَ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَمْلِكْ اخْتِيَارَهَا، كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ قَطْعُ جَرَيَانِ النِّكَاحِ إلَى الْبَيْنُونَةِ، وَهَذَا إثْبَاتُ النِّكَاحِ فِي امْرَأَةٍ. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ فِي عِدَّتِهِنَّ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ لَهُ هَاهُنَا اخْتِيَارٌ، بَلْ يَبِنَّ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهِ، لِئَلَّا يُفْضِي إلَى اسْتِدَامَةِ نِكَاحِ مُسْلِمٍ فِي أَمَةٍ كَافِرَةٍ. وَلَنَا، أَنَّ إسْلَامَهُنَّ فِي الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ إسْلَامِهِنَّ مَعَهُ، وَلِهَذَا لَوْ كُنَّ حَرَائِرَ مَجُوسِيَّاتٍ أَوْ وَثَنِيَّاتٍ، فَأَسْلَمْنَ فِي عِدَّتِهِنَّ، كَانَ ذَلِكَ كَإِسْلَامِهِنَّ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ، سَوَاءٌ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ فِي أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ (5464) فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلطُّولِ، فَلَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى أَعْسَرَ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ النِّكَاحِ تُعْتَبَرُ فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ وَقْتُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ عَادِمٌ لِلطُّولِ خَائِفُ لِلْعَنَتِ، فَكَانَ لَهُ الِاخْتِيَارُ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى أَيْسَرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاخْتِيَارُ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَهُوَ مُوسِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي بَعْدَ إعْسَارِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 الِاخْتِيَارِ دَخَلَ بِإِسْلَامِ الْأُولَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْسِرًا، كَانَ لَهُ اخْتِيَارُهَا، فَإِذَا كَانَ مُوسِرًا، بَطَلَ اخْتِيَارُهُ. وَإِنْ أَسْلَمْت الْأُولَى وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَمْ تُسْلِمْ الْبَوَاقِي حَتَّى أَيْسَرِ، لَزِمَ نِكَاحُ الْأُولَى، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْبَوَاقِي؛ لِأَنَّ الْأُولَى اجْتَمَعَتْ مَعَهُ فِي حَالَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، بِخِلَافِ الْبَوَاقِي وَلَوْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَمْ يَخْتَرْ حَتَّى أَيْسَرَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ؛ لِأَنَّ حَالَ ثُبُوتِ الِاخْتِيَارِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَتَغَيُّرُ حَالِهِ لَا يُسْقِطُ مَا ثَبَتَ لَهُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَوْ اخْتَارَ ثُمَّ أَيْسَرَ، لَمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ (5465) فَصْلٌ: فَإِنْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا لَوْ أَسْلَمْنَ كُلُّهُنَّ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ وَحْدَهَا. وَإِنْ أَحَبَّ انْتِظَارَ الْبَوَاقِي جَازَ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُنَّ مَنْ هِيَ أَبَرُّ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ. فَإِنْ انْتَظَرَهُنَّ، فَلَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، تَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَ هَذِهِ كَانَ لَازِمًا، وَبَانَ الْبَوَاقِي مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ. وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي الْعِدَّةِ، اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ حِينَ الِاخْتِيَارِ، وَعَدَدُهُنَّ مِنْ حِينِ الِاخْتِيَارِ. وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ دُونَ بَعْضٍ، بَانَ اللَّائِي لَمْ يُسْلِمْنَ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، وَالْبَوَاقِي مِنْ حِينَ اخْتَارَهُ. وَإِنْ اخْتَارَ الَّتِي أَسْلَمَتْ مَعَهُ حِينَ أَسْلَمَتْ، انْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الْبَوَاقِي، وَثَبَتَ نِكَاحُهَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي فِي الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُنَّ بِنَّ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَعِدَّتُهُنَّ مِنْ حِينَئِذٍ. وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ، بِنَّ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَعِدَّتُهُنَّ مِنْهُ. وَإِنْ طَلَّقَ الَّتِي أَسْلَمَتْ مَعَهُ، طَلُقَتْ، وَكَانَ اخْتِيَارًا لَهَا. وَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ مَا لَوْ اخْتَارَهَا صَرِيحًا؛ لِأَنَّ إيقَاعَ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارَهَا. فَأَمَّا إنْ اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَاتِ لَمْ يُسْلِمْنَ مَعَهُ، فَمَا زَادَ الْعَدَدُ عَلَى مَا لَهُ إمْسَاكُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ الْبَوَاقِي، لَزِمَهُ نِكَاحُهَا، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فَاخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي، وَالْأُولَى مَعَهُنَّ. وَإِنْ اخْتَارَ الْأُولَى الَّتِي فَسَخَ نِكَاحَهَا، صَحَّ اخْتِيَارُهُ لَهَا؛ لِأَنَّ فَسْخَهُ لِنِكَاحِهَا لَمْ يَصِحَّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ لَهَا؛ لِأَنَّ فَسْخَهُ إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مَعَ إقَامَةِ الْبَوَاقِي عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، لِأَنَّنَا نَتَبَيَّنُ أَنَّ نِكَاحَهَا كَانَ لَازِمًا، فَإِذَا أَسْلَمْنَ لَحِقَ إسْلَامُهُنَّ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَصَارَ كَأَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا فَسَخَ نِكَاحَ إحْدَاهُنَّ، صَحَّ الْفَسْخُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا. وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ إسْلَامِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُجْعَلُ إسْلَامُهُنَّ الْمَوْجُودُ فِي الثَّانِي كَالْمَوْجُودِ سَابِقًا، كَذَلِكَ هَاهُنَا. [فَصْلٌ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ إمَاءٌ وَحُرَّةٌ] (5466) فَصْلٌ: فَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ إمَاءٌ وَحُرَّةٌ، فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 إحْدَاهُنَّ، أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ كُلُّهُنَّ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحُرَّةِ، فَلَا يَخْتَارُ أُمَّهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَهُ أَنْ يَخْتَارَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. الثَّانِيَةُ، أَسْلَمْت الْحُرَّةُ مَعَهُ دُونَ الْإِمَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَانْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الْإِمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، بِنَّ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَابْتِدَاءُ عَدَدِهِنَّ مِنْ حِينَ أَسْلَمَ. وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عَدَدِهِنَّ، بِنَّ مِنْ حِينِ إسْلَامِ الْحُرَّةِ، وَعَدَدِهِنَّ مِنْ حِينِ إسْلَامِهَا. فَإِنْ مَاتَتْ الْحُرَّةُ بَعْدَ إسْلَامِهَا، لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمُ بِمَوْتِهَا؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ نِكَاحِهَا وَانْفِسَاخِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَتِهِنَّ. الثَّالِثَةُ، أَسْلَمَ الْإِمَاءُ دُونَ الْحُرَّةِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا قَبْلَ إسْلَامِهَا، فَتَبِينُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحُرَّةِ، أَوْ تُسْلِمَ فِي عِدَّتِهَا فَيَثْبُتُ نِكَاحُهَا، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمْنَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْإِمَاءِ قَبْلَ إسْلَامِهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ، أَنَّهَا لَا تُسْلِمُ، فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرَّةَ ثَلَاثًا قَبْلَ إسْلَامِهَا، ثُمَّ لَمْ تُسْلِمْ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَهُ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْإِمَاءِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا، بَانَ أَنَّ نِكَاحَهَا كَانَ ثَابِتًا، وَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ فِيهِ، وَالْإِمَاءُ بِنَّ بِثُبُوتِ نِكَاحِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ (5467) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ إمَاءٌ وَحُرَّةٌ، فَأَسْلَمْنَ، ثُمَّ عَتَقْنَ قَبْلَ إسْلَامِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لَا يَجُوزُ لَقَادِرٍ عَلَى حُرَّةٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُهُنَّ حَالَ ثُبُوتِ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ حَالَةُ اجْتِمَاعِ إسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ الْحُرَّةُ، فَلَهُ الِاخْتِيَارُ مِنْهُنَّ، وَلَا يَخْتَارُ إلَّا وَاحِدَةً، اعْتِبَارًا بِحَالَةِ اجْتِمَاعِ إسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا، ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَانْقَطَعَتْ عِصْمَتُهُنَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْ الْمُعْتَقَاتِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ، ثُمَّ لَمْ تُسْلِمْ فَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا، فَأَمَّا إنْ عَتَقْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ وَاجْتَمَعْنَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُنَّ حَرَائِرُ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الزَّوْجَاتِ أَرْبَعًا فَمَا دُونَ، ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ، وَإِنْ كُنَّ زَائِدَاتٍ عَلَى أَرْبَعٍ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَتَبْطُلُ عِصْمَةُ الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ حَرَائِرَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهِيَ حَالَةُ اجْتِمَاعِ إسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، فَصَارَ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ الْحَرَائِرِ الْأَصْلِيَّاتِ، وَكَمَا لَوْ أُعْتِقْنَ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ، وَلَوْ أَسْلَمْنَ قَبْلَهُ، ثُمَّ أُعْتِقْنَ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَكَذَلِكَ، وَيَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ حَرَائِر أَوْ أَكْثَرُ، عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 [فَصْلٌ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ حَرَائِرَ] (5468) فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ حَرَائِرَ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى اخْتِيَارِ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْزَمَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا مَعْنَى لِانْتِظَارِ الْبَوَاقِي. فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً، وَلَمْ يُسْلِمْ الْبَوَاقِي، لَزِمَهُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ الْبَوَاقِي إلَّا اثْنَتَانِ، لَزِمَهُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ. وَإِنْ أَسْلَمَ الْجَمِيعُ فِي الْعِدَّةِ، كُلِّفَ أَنْ يَخْتَارَ ثَلَاثًا مَعَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَوَّلًا، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَاقِيَةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ مَعَهُ ثَلَاثٌ، كُلِّفَ اخْتِيَارَ اثْنَتَيْنِ. وَإِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ، كُلِّفَ اخْتِيَارَ ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ، إذْ لَا مَعْنَى لِانْتِظَارِهِ الْخَامِسَةَ. وَنِكَاحُ ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ لَازِمٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ الْإِمَاءِ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى اخْتِيَارِهَا، كَذَا هَاهُنَا. وَالصَّحِيحُ هَاهُنَا أَنْ يُجْبَرُ عَلَى اخْتِيَارِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْأَمَةُ، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي اخْتِيَارِ غَيْرِهَا؛ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَهَا وَهُمَا كِتَابِيَّانِ فَأَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ] (5469) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَهَا، وَهُمَا كِتَابِيَّانِ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ؛ لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتَدَامَتْهُ أَوْلَى وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِإِجَازَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ. فَأَمَّا إنْ أَسْلَمْت الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ؛ إذْ لَا يَجُوزُ لَكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ إسْلَامُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْهَا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا أَيْضًا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ كِتَابِيَّةً ثُمَّ تَرَافَعَا إلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ] (5470) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ كِتَابِيَّةً، ثُمَّ تَرَافَعَا إلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَجُوسِيٍّ تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. قِيلَ: مَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْإِمَامُ وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعَا إلَيْنَا؛ لِأَنَّهَا أَعْلَى دِينًا مِنْهُ، فَيُمْنَعُ نِكَاحَهَا كَمَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ وَإِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً، ثُمَّ تَرَافَعُوا إلَيْنَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 أَحَدُهُمَا، يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَعْلَى دِينًا مِنْهُ، فَيُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهَا، كَمَا يُقَرُّ الْمُسْلِمُ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ. وَالثَّانِي، لَا يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهَا؛ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَا يُقَرُّ الْمُسْلِمُ عَلَى نِكَاحِهَا، فَلَا يُقَرُّ الذِّمِّيُّ عَلَى نِكَاحِهَا، كَالْمُرْتَدَّةِ. [مَسْأَلَةٌ سَمَّى لَهَا وَهُمَا كَافِرَانِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ أَسْلَمَا] (5471) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَا سُمِّيَ لَهَا، وَهُمَا كَافِرَانِ، فَقَبَضَتْهُ، ثُمَّ أَسْلَمَا، فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا. وَلَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، أَوْ نِصْفُهُ، حَيْثُ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسْلَمُوا، وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا فَعَلُوهُ، وَمَا قَبَضَتْ مِنْ الْمَهْرِ فَقَدْ نَفَذَ، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] . فَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ دُونَ مَا قُبِضَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] . وَلِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْمَقْبُوضِ بِأَبْطَالِهِ يَشُقُّ، لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي الْحَرَامِ، فَفِيهِ تَنْفِيرُهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَعُفِيَ عَنْهُ، كَمَا عُفِيَ عَمَّا تَرَكُوهُ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَلِأَنَّهُمَا تَقَابَضَا بِحُكْمِ الشِّرْكِ، فَبَرِئَتْ ذِمَّةُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا. وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى حَلَالًا، وَجَبَ مَا سَمَّيَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى صَحِيحٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَوَجَبَ، كَتَسْمِيَةِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، بَطَلَ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا سَمَّيَاهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَمُسْلِمَةٍ، وَلَا فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهُ إنْ وَقَعْت الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: حَيْثُ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ أَصْدَقَهَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا مُعَيَّنَيْنِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ، فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ، اسْتِحْسَانًا. وَلَنَا أَنَّ الْخَمْرَ لَا قِيمَةَ لَهَا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خِنْزِيرًا، وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا (5472) فَصْلٌ: وَإِنْ قَبَضَتْ بَعْضَ الْحَرَامِ دُونَ بَعْضٍ، سَقَطَ مِنْ الْمَهْرِ بِقَدْرِ مَا قُبِضَ، وَوَجَبَ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَشْرَةَ زُقَاقِ خَمْرٍ مُتَسَاوِيَةً، فَقَبَضَتْ خَمْسًا مِنْهَا سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَوَجَبَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً، اُعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْكَيْلِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، اُعْتُبِرَ بِالْكَيْلِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ يَتَأَتَّى الْكَيْلُ فِيهِ. وَالثَّانِي، يُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا، فَاسْتَوَى صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا وَإِنْ أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ خَنَازِيرَ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي، يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا كَأَنَّهَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَمَا تُقَوَّمُ شِجَاجُ الْحُرِّ كَأَنَّهُ عَبْدُ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا كَلْبًا وَخِنْزِيرَيْنِ وَثَلَاثَةَ زُقَاقِ خَمْرٍ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يُقَسَّمُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهَا عِنْدَهُمْ. وَالثَّانِي، يُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِ الْأَجْنَاسِ، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ جِنْسٍ ثُلُثُ الْمَهْرِ. وَالثَّالِثُ، يُقَسَّمُ عَلَى الْعَدَدِ كُلِّهِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُ الْمَهْرِ، فَلِلْكَلْبِ سُدُسُهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخِنْزِيرَيْنِ وَالزُّقَاقِ سُدُسُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا. [فَصْلٌ نَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا فَأَسْلَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ تَرَافَعُوا إلَيْنَا] (5473) فَصْلٌ: فَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا، وَهُوَ مَا لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا، كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَأَسْلَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ تَرَافَعُوا إلَيْنَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي الْمَجُوسِيَّةِ تَكُونُ تَحْتَ أَخِيهَا أَوْ أَبِيهَا، فَيُطَلِّقُهَا أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا، فَتَرْتَفِعُ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِطَلَبِ مَهْرَهَا: لَا مَهْرَ لَهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ، لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَحَصَلَ فِيهِ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَأَمَّا إنْ دَخَلَ بِهَا، فَهَلْ يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمُسْلِمِ إذَا وَطِئَ امْرَأَةً مِنْ مَحَارِمِهِ بِشُبْهَةِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى أَنْ لَا صَدَاقَ لَهَا] (5474) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً، عَلَى أَنْ لَا صَدَاقَ لَهَا، أَوْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِفَرْضِهِ، إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا مَهْرَ لَهَا. وَالْأُخْرَى: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّهَا، وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا، وَالذِّمِّيُّ لَا يُطَالَبُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ خَلَا عَنْ تَسْمِيَةٍ، فَيَجِبُ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَالْمُسْلِمَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَهْرُ فِي حَقِّ الْمُفَوِّضَةِ لِئَلَّا تَصِيرَ كَالْمَوْهُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ. [فَصْلٌ إذَا ارْتَفَعَ أَهْل الشِّرْكِ إلَى الْحَاكِمِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَمْ يُزَوِّجْهُمْ إلَّا بِشُرُوطِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ] (5475) فَصْلٌ: إذَا ارْتَفَعُوا إلَى الْحَاكِمِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، لَمْ يُزَوِّجْهُمْ إلَّا بِشُرُوطِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] . وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] . وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 إلَى عَقْدِهِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَرَافَعُوا إلَيْنَا بَعْدَ الْعَقْدِ، لَمْ نَتَعَرَّضْ لِكَيْفِيَّةِ عَقْدِهِمْ، وَنَظَرْنَا فِي الْحَالِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا ابْتِدَاءً، أَقَرَّهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، كَذَوَاتِ مَحْرَمِهِ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً وَأَسْلَمَا، أَوْ تَرَافَعَا فِي عِدَّتِهَا، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، أُقِرَّ لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ نِكَاحِهَا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نِكَاحُ مُتْعَةٍ، لَمْ يُقَرَّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا نِكَاحٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمُدَّةِ، فَهُمَا لَا يَعْتَقِدَانِ تَأْبِيدَهُ، وَالنِّكَاحُ عَقْدُ مُؤَبَّدٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ إفْسَادَ الشَّرْطِ وَصِحَّةَ النِّكَاحِ مُؤَبَّدًا، فَيُقَرَّانِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ مَتَى شَاءَا أَوْ شَاءَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يُقَرَّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْتَقِدَانِ لُزُومَهُ، إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَا فَسَادَ الشَّرْطِ وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ خِيَارَ مُدَّةٍ، فَأَسْلَمَا فِيهَا، لَمْ يُقَرَّا؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا أُقِرَّا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ لُزُومَهُ. وَكُلُّ مَا اعْتَقَدُوهُ، فَهُوَ نِكَاحٌ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَمَا لَا فَلَا، فَلَوْ مَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً، فَوَطِئَهَا، أَوْ طَاوَعَتْهُ، ثُمَّ أَسْلَمَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ نِكَاحًا، أُقِرَّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَهُمْ فِي مَنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، فَأُقِرَّا عَلَيْهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدَاهُ نِكَاحًا، لَمْ يُقَرَّا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ تَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ] (5476) فَصْلٌ: وَأَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ تَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالْقَسَمِ، وَالْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْصَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِمَّنْ أَجَازَ طَلَاقَ الْكُفَّارِ، عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَمْ يُجَوِّزْهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَوَقَعَ، كَطَلَاقِ الْمُسْلِمِ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ أَنْكِحَتِهِمْ. قُلْنَا: دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ النِّسَاءَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] . وَقَالَ: {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] . وَحَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي زَوْجِيَّةً صَحِيحَةً. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ، لَا مِنْ سِفَاحٍ» . وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّتُهَا، ثَبَتَتْ أَحْكَامُهَا، كَأَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 فَعَلَى هَذَا، إذَا طَلَّقَ الْكَافِرُ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ، وَأَصَابَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَا، لَمْ يُقَرَّا عَلَيْهِ وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا، فَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا. وَإِنْ نَكَحَهَا كِتَابِيٌّ وَأَصَابَهَا، حَلَّتْ لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُطَلِّقُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَإِنْ ظَاهَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَإِنْ آلَى، ثَبَتَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] . [فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْكُفَّار فِي النِّكَاحِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ] (5477) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ فِي النِّكَاحِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ لَا يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا. وَالثَّانِي أَنْ يَعْتَقِدُوا إبَاحَةَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ يُخَلَّوْنَ وَأَحْكَامَهُمْ إذَا لَمْ يَجِيئُوا إلَيْنَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَلَا فِي أَنْكِحَتِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ نِكَاحَ مَحَارِمِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَجُوسِيٍّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً، قَالَ: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. قِيلَ: مَنْ يَحُولُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ الْإِمَامُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ عَلَيْنَا ضَرَرًا فِي ذَلِكَ. يَعْنِي بِتَحْرِيمِ أَوْلَادِ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَيْنَا. وَهَكَذَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَزْوِيجِ النَّصْرَانِيِّ الْمَجُوسِيَّةَ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِكَاحِ مَحَارِمِهِمْ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ، أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي مَجُوسِيٍّ مَلَكَ أَمَةً نَصْرَانِيَّةً: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا؛ لِأَنَّ النَّصَارَى لَهُمْ دِينٌ. فَإِنْ مَلَكَ نَصْرَانِيٌّ مَجُوسِيَّةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الضَّرَرِ. [مَسْأَلَة ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا، وَهُمَا مُسْلِمَانِ، فَارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ قَبْلَهَا وَقَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الْمَهْرِ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وَلِأَنَّهُ اخْتِلَافُ دِينٍ يَمْنَعُ الْإِصَابَةَ، فَأَوْجَبَ فَسْخَ النِّكَاحِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ تَحْتَ كَافِرٍ. ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُرْتَدَّ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ جِهَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَلَّقَ، وَإِنْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً، فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. [مَسْأَلَة ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ] (5479) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ، حَسْبَ اخْتِلَافِهَا فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، فَفِي إحْدَاهُمَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَزُفَرَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ فَسْخَ النِّكَاحِ اسْتَوَى فِيهِ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، كَالرَّضَاعِ. وَالثَّانِيَةِ، يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ، بَانَتْ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ، جَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، فَلَا يُوجِبُ فَسْخَهُ فِي الْحَالِ، كَإِسْلَامِ الْحَرْبِيَّةِ تَحْتَ الْحَرْبِيِّ، وَقِيَاسُهُ، عَلَى إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَقْرَبُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الرَّضَاعِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ، فَإِنْ قُلْنَا بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ وَإِنْ قُلْنَا: يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةَ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلزَّوْجِ إلَى رَجْعَتِهَا، وَتَلَافِي نِكَاحِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةُ، كَمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ، فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِلْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِأَنْ يُسْلِمَ، وَيُمْكِنُهُ تَلَافِي نِكَاحِهَا، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، كَزَوْجِ الرَّجْعِيَّةِ. [فَصْلٌ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا] (5480) فَصْلٌ: فَإِنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ مَا لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا؛ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَهَلْ تَتَعَجَّلُ، أَوْ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاء الْعِدَّةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا ارْتَدَّا مَعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ تَابَا، أَوْ تَابَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهِمَا الدِّينُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَسْلَمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وَلَنَا، أَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى النِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا فَسْخُهُ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا زَالَ عَنْهُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ إذَا ارْتَدَّ وَحْدَهُ، زَالَ إذَا ارْتَدَّ غَيْرُهُ مَعَهُ، كَمَالِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا انْتَقَلَ الْمُسْلِمُ وَالْيَهُودِيَّةُ إلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنَّ نِكَاحَهُمَا يَنْفَسِخُ، وَقَدْ انْتَقَلَا إلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا إذَا أَسْلَمَا، فَقَدْ انْتَقِلَا إلَى دِينِ الْحَقِّ، وَيُقَرَّانِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرِّدَّةِ. [فَصْلٌ ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ ارْتَدَّا مَعًا] (5481) فَصْلٌ: إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ ارْتَدَّا مَعًا، مُنِعَ وَطْؤُهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا فِي عِدَّتِهَا، وَقُلْنَا: إنَّ الْفُرْقَةَ تَعَجَّلَتْ. فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِهَذَا الْوَطْءِ، مَعَ الَّذِي يَثْبُتْ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً، فَيَكُونُ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْفُرْقَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَأَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا فِي عِدَّتِهَا، وَكَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْهُمَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَطْءِ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَزُلْ، وَأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ. وَإِنْ ثَبَتَا، أَوْ ثَبَتَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا عَلَى الرِّدَّةِ، حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ لِهَذَا الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ يُشْبِهُ النِّكَاحَ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ إسْلَامِ الْآخَرِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مِثْلُ الْحُكْمِ هَاهُنَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّعْلِيلِ فِيهِ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّ] (5482) فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ ارْتَدَّ، نَظَرْت؛ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ كَانَ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، وَعِدَّتُهَا مِنْ حِينَ أَسْلَمَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَسْلَمَ الْأُخَرُ مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ ارْتِدَادِ الْأَوَّلِ، اُعْتُبِرَ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينَ ارْتَدَّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِإِسْلَامِ الْأَوَّلِ زَالَ بِإِسْلَامِ الثَّانِي فِي الْعِدَّةِ وَلَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْعَقْدَ عَلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَدْنَ دُونَهُ أَوْ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِمَنْ لَا يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ فِي الْإِسْلَامِ] (5483) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِمَنْ لَا يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ فِي الْإِسْلَامِ، مِثْلُ أَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، أَوْ بَيْنَ عَشْرِ نِسْوَةٍ، أَوْ نَكَحَ مُعْتَدَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا؛ لِأَنَّنَا أَجْرَيْنَا أَحْكَامَهُمْ عَلَى الصِّحَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، وَلِهَذَا جَازَ لَهُ إمْسَاكُ الثَّانِيَةِ مِنْ الْأُخْتَيْنِ، وَالْخَامِسَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا آخِرًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 [مَسْأَلَة نِكَاحَ الشِّغَارِ] (5484) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ، عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ وَلِيَّتَهُ، فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ سَمَّوْا مَعَ ذَلِكَ صَدَاقًا أَيْضًا) . هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى الشِّغَارَ. فَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ شِغَارًا لِقُبْحِهِ، تَشْبِيهًا بِرَفْعِ الْكَلْبِ رِجْلَهُ لِيَبُولَ، فِي الْقُبْحِ. يُقَالُ: شَغَرَ الْكَلْبُ: إذَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِيَبُولَ، وَحُكِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الشِّغَارُ: الرَّفْعُ. فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِلْآخِرِ عَمَّا يُرِيدُ. وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ فَاسِدٌ. رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُمَا فَرَّقَا فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ مِنْ قِبَلِ الْمَهْرِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَهَذَا كَذَلِكَ وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الشِّغَارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا جَلَبَ، وَلَا جَنْبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» . وَلِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ سَلَفًا فِي الْآخَرِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي ثَوْبَك عَلَى أَنَّ أَبِيعَك ثَوْبِي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ فَسَادَهُ مِنْ قِبَلِ التَّسْمِيَةِ. قُلْنَا: لَا بَلْ فَسَادُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَقَفَهُ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرَطَ تَمْلِيكَ الْبِضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ تَزْوِيجَهُ إيَّاهَا مَهْرًا لِلْأُخْرَى، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ انْتِزَاعِهِ مِنْهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى. أَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَلَا يُسَمِّي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقًا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الشِّغَارِ» ، وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَك. وَيَكُونُ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ.» هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَك، وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَك، وَأُزَوِّجُك أُخْتِي.» رَوَاهُ مُسْلِمُ. وَهَذَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِصِحَّتِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُعْمَلَ بِالْجَمِيعِ. وَيَفْسُدُ النِّكَاحُ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ وَلِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي نِكَاحِ إحْدَاهُمَا تَزْوِيجَ الْأُخْرَى، فَقَدْ جَعَلَ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقَ الْأُخْرَى، فَفَسَدَ، كَمَا لَوْ لَفَظَ بِهِ، فَأَمَّا إنْ سَمَّوْا مَعَ ذَلِكَ صَدَاقًا، فَقَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي، عَلَى أَنْ تُزَوِّجُنِي ابْنَتَك، وَمَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ، أَوْ مَهْرُ ابْنَتِي مِائَةٌ وَمَهْرُ ابْنَتِك خَمْسُونَ، أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، صِحَّتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ سَمَّى صَدَاقًا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: لَا يَصِحُّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ الْأَعْرَجِ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَنْكَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ الْحَكَمِ ابْنَتَهُ، وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ، وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى مَرْوَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ شَرَطَ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا لِنِكَاحِ الْأُخْرَى، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يُسَمِّيَا صَدَاقًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ لَيْسَ بِمُفْسِدِ لِلْعَقْدِ، بِدَلِيلِ نِكَاحِ الْمُفَوِّضَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الشَّرْطُ، وَقَدْ وُجِدَ، وَلِأَنَّهُ سَلَفٌ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك ثَوْبِي بِعَشْرَةِ، عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي ثَوْبَك بِعِشْرِينَ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّشْرِيكِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي، عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك، وَمَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَبُضْعُ الْأُخْرَى. فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّشْرِيكِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ مُسَمًّى (5485) فَصْلٌ: وَمَتَى قُلْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ إذَا سَمَّيَا صَدَاقًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِالْمُسَمَّى إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيُّهُ صَاحِبَهُ، فَيَنْقُصَ الْمَهْرُ لِهَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِذَا احْتَجْنَا إلَى ضَمَانِ النَّقْصِ، صَارَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا، فَبَطَلَ. وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي (الْجَامِعِ) ، أَنَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَدْرًا مَعْلُومًا يَصْحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي عَلَى أَلْفٍ، عَلَى أَنَّ لِي مِنْهَا مِائَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ سَمَّى لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا دُونَ الْأُخْرَى] (5486) فَصْلٌ: وَإِنْ سَمَّى لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا دُونَ الْأُخْرَى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ فِي إحْدَاهُمَا، فَفَسَدَ فِي الْأُخْرَى. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَفْسُدُ فِي الَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا خَلَا مِنْ صَدَاقٍ سِوَى نِكَاحِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 الْأُخْرَى، وَيَكُونُ فِي الَّتِي سَمَّى لَهَا صَدَاقًا رِوَايَتَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَسْمِيَةً وَشَرْطًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي هَكَذَا. (5487) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: زَوَّجْتُك جَارِيَتِي هَذِهِ، عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك وَتَكُونُ رَقَبَتُهَا صَدَاقًا لِابْنَتِك. لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُ الْجَارِيَةِ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا صَدَاقًا سِوَى تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ وَإِذَا زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ رَقَبَةَ الْجَارِيَةِ صَدَاقًا لَهَا، صَحَّ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صَدَاقًا. وَإِنْ زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً، وَجَعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقًا لَهَا، لَمْ يَصِحَّ الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ، فَيَفْسُدُ الصَّدَاقُ، وَيَصِحُّ النِّكَاحُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. [مَسْأَلَة نِكَاحُ الْمُتْعَةِ] (5488) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ) مَعْنَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ مُدَّةً، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي شَهْرًا، أَوْ سَنَةً، أَوْ إلَى انْقِضَاءِ الْمَوْسِمِ، أَوْ قُدُومِ الْحَاجِّ. وَشِبْهَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً. فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حَرَامٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهَا رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَنْصُورٍ سَأَلَ أَحْمَدَ عَنْهَا، فَقَالَ: يَجْتَنِبُهَا أَحَبُّ إلَى. وَقَالَ فَظَاهِرُ هَذَا الْكَرَاهَةُ دُونَ التَّحْرِيمِ. وَغَيْرُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ هَذَا، وَيَقُولُ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ فِي تَحْرِيمِهَا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ تَحْرِيمُهَا عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَائِرُ أَصْحَابِ الْآثَارِ وَقَالَ زُفَرُ: يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهَا جَائِزَةٌ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ عَطَاءِ وَطَاوُسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَجَابِرٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشِّيعَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: «مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَأَنْهَى عَنْهُمَا، وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا؛ مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ.» وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَيَكُونُ مُؤَقَّتًا، كَالْإِجَارَةِ. وَلَنَا مَا رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي، أَنَّهُ حَدَّثَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» . وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَرَّمَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ.» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.» رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي (الْمُوَطَّأِ) وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ، فَقَالَ قَوْمُ: فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَنَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِيقَاتَ النَّهْيِ عَنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَهُ الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ فِي حَدِيثِهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ قَوْمٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا أَحَلَّهُ اللَّهِ ثُمَّ حَرَّمَهُ، ثُمَّ أَحَلَّهُ ثُمَّ حَرَّمَهُ، إلَّا الْمُتْعَةَ. فَحَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، ثُمَّ أَحَلَّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ حَرَّمَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ، مِنْ الطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ، وَاللِّعَانِ، وَالتَّوَارُثِ، فَكَانَ بَاطِلًا، كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْبَاطِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَثُرَتْ الْقَالَةُ فِي الْمُتْعَةِ، حَتَّى قَالَ فِيهَا الشَّاعِرُ: أَقُولُ وَقَدْ طَالَ الثَّوَاءُ بِنَا مَعًا ... يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسِ هَلْ لَك فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ ... تَكُونُ مَثْوَاك حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ فَقَامَ خَطِيبًا، وَقَالَ: إنَّ الْمُتْعَةَ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. فَأَمَّا إذْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا فَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ إنْ صَحَّ عَنْهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا، وَنَهْيِهِ عَنْهَا، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَهُ، وَبَقِيَ عَلَى إبَاحَتِهِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ إلَّا أَنَّ فِي نِيَّتِهِ طَلَاقَهَا] (5489) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، إلَّا أَنَّ فِي نِيَّتِهِ طَلَاقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ إذَا انْقَضَتْ حَاجَتُهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، فَالنِّكَاحُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 صَحِيحٌ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ قَالَ: هُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا تَضُرُّ نِيَّتُهُ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْوِيَ حَبْسَ امْرَأَتِهِ وَحَسْبُهُ إنْ وَافَقَتْهُ، وَإِلَّا طَلَّقَهَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ] (5490) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَنْعَقِدْ النِّكَاحُ) . يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، مِثْلُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا إنْ قَدِمَ أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، قَالَهُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شَرْطًا، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَلَا يُسَافِرَ بِهَا وَلَنَا، أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مَانِعٌ مِنْ بَقَاءِ النِّكَاحِ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، وَيُفَارِقُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ قَطْعَ النِّكَاحِ. [مَسْأَلَة نِكَاح الْمُحَلَّلِ] (5491) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِلّهَا لِزَوْجِ كَانَ قَبْلَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوَاءٌ قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا إلَى أَنْ تَطَأَهَا. أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ إذَا أَحَلَّهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَنَّهُ إذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ طَلَّقَهَا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ: لَا يَصِحَّ. وَفِي الثَّالِثَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثُ حَسَنُ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونٌ، عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ. لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ.» وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أُوتَى بِمُحِلٍّ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا. وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ إلَى مُدَّةٍ، أَوْ فِيهِ شَرْطٌ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيلَ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاح وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْعَقْد وَنَوَاهُ فِيهِ] (5492) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيلَ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْعَقْدِ وَنَوَاهُ فِي الْعَقْدِ أَوْ نَوَى التَّحْلِيلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ أَيْضًا. قَالَ. إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَفِي نَفْسِهِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ. قَالَ: هُوَ مُحَلِّلٌ، إذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِحْلَالَ، فَهُوَ مَلْعُونٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرَوَى نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: امْرَأَةٌ تَزَوَّجْتُهَا، أُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا، لَمْ يَأْمُرْنِي، وَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ: لَا، إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، إنْ أَعْجَبَتْك أَمْسِكْهَا، وَإِنْ كَرِهْتَهَا فَارِقْهَا قَالَ: وَإِنْ كُنَّا نَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِفَاحًا. وَقَالَ: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً، إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلّهَا. وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَجَاءَ رَجُلُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ قَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَبَكْرٍ الْمُزَنِيّ، وَاللَّيْثِ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: الْعَقْدُ صَحِيحٌ. وَذَكَرِ الْقَاضِي فِي صِحَّتِهِ وَجْهًا مِثْلَ قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى طَلَاقَهَا لِغَيْرِ الْإِحْلَالِ، أَوْ مَا لَوْ نَوَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا شُرِطَ لَا بِمَا قُصِدَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَشَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ نَوَى ذَلِكَ، لَمْ يَبْطُلُ وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مَا يَدُلُّ عَلَى إجَازَتِهِ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَدِمَ مَكَّةَ رَجُلٌ، وَمَعَهُ إخْوَةٌ لَهُ صِغَارٌ، وَعَلَيْهِ إزَارٌ، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ رُقْعَةٌ، وَمِنْ خَلْفِهِ رُقْعَةٌ، فَسَأَلَ عُمَرَ، فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 فَطَلَّقَهَا، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَك أَنْ تُعْطِيَ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ شَيْئًا، وَيُحِلُّك لِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ إنْ شِئْت فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ. قَالَ: نَعَمْ، وَتَزَوَّجَهَا، وَدَخَلَ بِهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَدْخَلَتْ إخْوَتَهُ الدَّارَ. فَجَاءَ الْقُرَشِيُّ يَحُومُ حَوْلَ الدَّارِ، وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ، غُلِبَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَأَتَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، غُلِبْت عَلَى امْرَأَتِي. قَالَ: مَنْ غَلَبَك؟ قَالَ: ذُو الرُّقْعَتَيْنِ. قَالَ: أَرْسِلُوا إلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ، قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: كَيْفَ مَوْضِعُك مِنْ قَوْمِك؟ قَالَ: لَيْسَ بِمَوْضِعِي بَأْسٌ. قَالَتْ: إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَك: طَلِّقْ امْرَأَتَك. فَقُلْ: لَا، وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا. فَإِنَّهُ لَا يُكْرِهُك. وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ مِنْ بَعِيدٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا. قَالَ عُمَرُ: لَوْ طَلَّقْتَهَا لَأَوْجَعْت رَأْسَك بِالسَّوْطِ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الشَّرْطُ عَلَى الْعَقْدِ، وَلَمْ يَرَ بِهِ عُمَرُ بَأْسًا وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَقَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيلَ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ. أَمَّا حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ، يَعْنِي أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَذْكُرْ إسْنَادَهُ إلَى عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مُرْسَلٌ. فَأَيْنَ هُوَ مِنْ الَّذِي سَمِعُوهُ يَخْطُبُ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَلَا نَوَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ. [فَصْلٌ شَرْط عَلَيْهِ أَنْ يُحِلّهَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَنَوَى بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ وَقَصَدَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ] (5493) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِلَّهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، فَنَوَى بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ، وَقَصَدَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ وَشَرْطِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ. وَإِنْ قَصَدَتْ الْمَرْأَةُ التَّحْلِيلَ أَوْ وَلِيُّهَا دُونَ الزَّوْجِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ: إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَسَدَ النِّكَاحُ قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالتَّابِعُونَ يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ: الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ ". وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَيْءِ، إنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي إلَيْهِ الْمُفَارَقَةُ وَالْإِمْسَاكُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَمْلِكُ رَفْعَ الْعَقْدِ، فَوُجُودُ نِيَّتِهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْعَقْدِ، وَلَا مِنْ رَفْعِهِ، فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ لَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُلْنَا: إنَّمَا لَعَنْهُ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا بِذَلِكَ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ، فَكَانَ زَانِيًا، فَاسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَاشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ وَزَوَّجَهَا إيَّاهُ] (5494) فَصْلٌ: فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا، فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ، ثُمَّ وَهَبَهَا إيَّاهُ لِيَنْفَسِخ النِّكَاحُ بِمِلْكِهَا لَهُ، لَمْ يَصِحَّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَأَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَاشْتَرَى عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُ، وَزَوَّجَهَا إيَّاهُ، فَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ عُمَرُ، يُؤَدَّبَانِ جَمِيعًا، وَهَذَا فَاسِدٌ لَيْسَ بِكُفْءٍ، وَهُوَ شِبْهُ الْمُحَلِّلِ. وَعَلَّلَ أَحْمَدُ فَسَادَهُ بِشَيْئَيْنِ؛: أَحَدُهُمَا، شَبَهُهُ بِالْمُحَلِّلِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا زَوَّجَهُ إيَّاهَا لِيُحِلَّهَا لَهُ وَالثَّانِي، كَوْنُهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهَا، وَتَزْوِيجُهُ لَهَا فِي حَالِ كَوْنِهِ عَبْدًا أَبْلَغُ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي عَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَشَدُّ مِنْ الْمَوْلَى، وَالسَّيِّدُ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إزَالَةِ نِكَاحِهِ مِنْ غَيْرِ إرَادَتِهِ، بِأَنْ يَهَبَهُ لِلْمَرْأَةِ، فَيَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ بِمِلْكِهَا إيَّاهُ، وَالْمَوْلَى بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَبْدُ التَّحْلِيلَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْفَسَادِ نِيَّةُ الزَّوْجِ، لَا نِيَّةُ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْوِ. وَإِذَا كَانَ مَوْلَى وَلَمْ يَنْوِ التَّحْلِيلَ، فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِمُعْتِقِهِ إلَى فَسْخِ نِكَاحِهِ، فَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّتِهِ. [فَصْلٌ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ فَاسِدٌ يَثْبُتُ فِيهِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ] (5495) فَصْلٌ: وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ فَاسِدٌ، يَثْبُتُ فِيهِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ، وَلَا الْإِبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَلِّلًا، وَسَمَّى الزَّوْجَ مُحَلَّلًا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْحِلُّ لَمْ يَكُنْ مُحَلِّلًا وَلَا مُحَلَّلًا لَهُ. قُلْنَا: إنَّمَا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْصُلُ فِيهِ الْحِلُّ، كَمَا قَالَ: «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] . وَلَوْ كَانَ مُحَلَّلًا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرُ مُحَلَّلًا لَهُ، لَمْ يَكُونَا مَلْعُونَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ عَقَدَ الْمُحْرِمُ نِكَاحًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ] (5496) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا عَقَدَ الْمُحْرِمُ نِكَاحًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ عَقَدَ أَحَدٌ نِكَاحًا لِمُحْرِمٍ أَوْ عَلَى مُحْرِمَةٍ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا تَزَوَّجَ لِنَفْسِهِ، أَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ لِغَيْرِهِ، كَكَوْنِهِ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا، فَإِنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 لَا يَصِحُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ عَقَدَ الْحَلَالُ نِكَاحًا لَمُحْرِمٍ، بِأَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ، أَوْ وَلِيَّا عَلَيْهِ، أَوْ عَقَدَهُ عَلَى مُحْرِمَةٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ لَهُ وَكِيلُهُ فَقَدْ نَكَحَ وَحَكَى الْقَاضِي فِي كَوْنِ الْمُحْرِمِ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ. وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَالثَّانِيَةُ، تَصِحُّ. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ حُرِّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ لِلْحَجِّ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِيهِ بِكَوْنِهِ وَلِيًّا فِيهِ لِغَيْرِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ لِلْمُحْرِمِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَشِرَاءِ الصَّيْدِ. وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَجِّ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ. [مَسْأَلَةٌ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ] [فَصْلُ خِيَارَ الْفَسْخِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِعَيْبِ يَجِدُهُ فِي صَاحِبِهِ] (5497) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَأَيُّ الزَّوْجَيْنِ وَجَدَ بِصَاحِبِهِ جُنُونًا، أَوْ جُذَامًا، أَوْ بَرَصًا، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ، أَوْ قَرْنَاءَ، أَوْ عَفْلَاءَ، أَوْ فَتْقَاءَ، أَوْ الرَّجُلُ مَجْنُونًا، فَلِمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: (5498) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ خِيَارَ الْفَسْخِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِعَيْبِ يَجِدُهُ فِي صَاحِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ بِعَيْبِ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِعَيْبِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا، فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْخِيَارَ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةِ، وَلَا يَكُونُ فَسْخًا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْعَيْبِ لَا يَقْتَضِي فَسْخَ النِّكَاحِ، كَالْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ وَلَنَا أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي عَقَدَ النِّكَاحِ، فَجَازَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ، كَالصَّدَاقِ، أَوْ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَجَازَ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ، أَوْ أَحَدُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 الزَّوْجَيْنِ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بِالْعَيْبِ فِي الْآخَرِ كَالْمَرْأَةِ. وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْعُيُوبِ، فَلَا يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ الْوَطْءُ، بِخِلَافِ الْعُيُوبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ: فَالْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ. قُلْنَا: بَلْ يَمْنَعُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْرَةً تَمْنَعُ قُرْبَانَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَسَّهُ، وَيُخَافُ مِنْهُ التَّعَدِّي إلَى نَفْسِهِ وَنَسْلِهِ، وَالْمَجْنُونُ يُخَافُ مِنْهُ الْجِنَايَةُ، فَصَارَ كَالْمَانِعِ الْحِسِّيِّ. [فَصْلُ الْعُيُوبِ الْمُجَوِّزَةِ لِفَسْخِ النِّكَاح] الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي عَدَدِ الْعُيُوبِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ فِيمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ ثَمَانِيَةٌ: ثَلَاثَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الزَّوْجَانِ؛ وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ. وَاثْنَانِ يَخْتَصَّانِ الرَّجُلَ؛ وَهُمَا الْجَبُّ، وَالْعُنَّةُ. وَثَلَاثَةٍ تَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ؛ وَهِيَ الْفَتْقُ، وَالْقَرْنُ، وَالْعَفَلُ وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ سَبْعَةٌ. جَعَلَ الْقَرْنَ وَالْعَفَلَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ الرَّتْقُ أَيْضًا، وَذَلِكَ لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي الْفَرْجِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَرْنُ عَظْمٌ فِي الْفَرْجِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَكُونُ فِي الْفَرْجِ عَظْمٌ، إنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يَنْبُتُ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ، أَنَّ الْعَفَلَ كَالرَّغْوَةِ فِي الْفَرْجِ، يَمْنَعُ لَذَّةَ الْوَطْءِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَيْبًا نَامِيًا وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الرَّتْقُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ مَسْدُودًا. يَعْنِي أَنْ يَكُونَ مُلْتَصِقًا لَا يَدْخُلُ الذَّكَرُ فِيهِ. وَالْقَرْنُ وَالْعَفَلُ لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي الْفَرْجِ فَيَسُدّهُ، فَهُمَا فِي مَعْنَى الرَّتْقِ، إلَّا أَنَّهُمَا نَوْعٌ آخِرُ. وَأَمَّا الْفَتْقُ فَهُوَ انْخِرَاقُ مَا بَيْنَ مَجْرَى الْبَوْلِ وَمَجْرَى الْمَنِيِّ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ. وَذَكَرَهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ سَبْعَةً، أَسْقَطُوا مِنْهَا الْفَتْقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا سِتَّةً، جَعَلَ الْقَرْنَ وَالْعَفَلَ شَيْئًا وَاحِدًا. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْفَسْخُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الْجُذَامَ وَالْبَرَصَ يُثِيرَانِ نَفْرَةً فِي النَّفْس تَمْنَعُ قُرْبَانَهُ، وَيُخْشَى تَعَدِّيهِ إلَى النَّفْسِ وَالنَّسْلِ، فَيَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ، وَالْجُنُونُ يُثِيرُ نَفْرَةً وَيُخْشَى ضَرَرُهُ، وَالْجَبُّ وَالرَّتْقُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْوَطْءُ، وَالْفَتْقُ يَمْنَعُ لَذَّةَ الْوَطْءِ وَفَائِدَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْعَفَلُ، عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالرَّغْوَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الْعَيْبِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِجَسَدِهِ بَيَاضٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَهَقًا أَوْ مِرَارًا، وَاخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ بَرَصًا، أَوْ كَانَتْ بِهِ عَلَامَاتُ الْجُذَامِ، مِنْ ذَهَابِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ جُذَامًا، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالثِّقَةِ، يَشْهَدَانِ لَهُ بِمَا قَالَ، ثَبَتَ قَوْلُهُ، وَإِلَّا حَلَفَ الْمُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ، أُرِيتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 النِّسَاءَ الثِّقَاتِ، وَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِمَا قَالَ الزَّوْجُ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَأَمَّا الْجُنُونُ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، سَوَاءٌ كَانَ مُطْبِقًا أَوْ كَانَ يُجَنُّ فِي الْأَحْيَانِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَسْكُنُ إلَى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يُغْمَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزُولُ، فَذَلِكَ مَرَضٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ خِيَارٌ. فَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ، وَدَامَ بِهِ الْإِغْمَاءُ، فَهُوَ كَالْجُنُونِ، يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، وَأَمَّا الْجَبُّ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَكَرِهِ مَقْطُوعًا، أَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا مَا لَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ، وَيَغِيبُ مِنْهُ فِي الْفَرْجِ قَدْرُ الْحَشَفَةِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُمْكِنُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يَضْعُفُ بِالْقَطْعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوَطْءِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْوَطْءَ فِي الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّ لَهُ مَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِمِثْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَهُ ذَكَرٌ قَصِيرٌ (5500) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْشَى تَعَدِّيهِ، فَلَمْ يُفْسَخْ بِهِ النِّكَاحُ، كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا نَصَّ فِي غَيْرِ هَذِهِ وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى هَذِهِ الْعُيُوبِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ. وَأَبُو حَفْصٍ: إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَمْسِكُ بَوْلَهُ وَلَا خَلَاءَهُ فَلِلْآخَرِ الْخِيَارُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بِهِ الْبَاسُورُ، وَالنَّاصُورُ، وَالْقُرُوحُ السَّيَّالَةُ فِي الْفَرْجَ، لِأَنَّهَا تُثِيرُ نَفْرَةً، وَتَتَعَدَّى نَجَاسَتُهَا، وَتُسَمَّى مَنْ لَا تَحْبِسُ نَجَوْهَا الشَّرِيمَ، وَمَنْ لَا تَحْبِسُ بَوْلَهَا الْمَشُولَةَ، وَمِثْلُهَا مِنْ الرِّجَالِ الْأَفِينُ قَالَ أَبُو حَفْصٍ: وَالْخِصَاءُ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِيهِ نَقْصًا وَعَارًا، وَيَمْنَعُ الْوَطْءَ أَوْ يُضْعِفُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ سَنَدِرُّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ خَصِيٌّ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَعْلَمْتهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَعْلِمْهَا، ثُمَّ خَيِّرْهَا. وَفِي الْبَخَرِ، وَكَوْنِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ خُنْثَى، وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْرَةً وَنَقْصًا وَعَارًا، وَالْبَخَرُ: نَتِنُ الْفَمِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: هُوَ نَتِنُ فِي الْفَرْجِ، يَثُورُ عِنْدَ الْوَطْءِ. وَهَذَا إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يُسَمَّى أَيْضًا بَخَرًا وَيُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ نَتِنَ الْفَمِ يُسَمَّى بَخَرًا، وَيَمْنَعُ مُقَارَبَةَ صَاحِبِهِ إلَّا عَلَى كُرْهٍ وَمَا عَدَا هَذِهِ فَلَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَجْهًا وَاحِدًا، كَالْقَرَعِ، وَالْعَمَى، وَالْعَرَجِ، وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ، وَلَا يُخْشَى تَعَدِّيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: إذَا وَجَدَ الْآخَرَ عَقِيمًا يُخَيَّرُ. وَأَحَبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 وَقَالَ: عَسَى امْرَأَتُهُ تُرِيدُ الْوَلَدَ وَهَذَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، فَأَمَّا الْفَسْخُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِذَلِكَ لَثَبَتَ فِي الْآيِسَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ، فَإِنَّ رِجَالًا لَا يُولَدُ لَأَحَدِهِمْ وَهُوَ شَابٌّ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُ وَهُوَ شَيْخٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُمَا. وَأَمَّا سَائِرُ الْعُيُوبِ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا فَسْخٌ عِنْدَهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلُ أَصَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخِرِ عَيْبًا وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ] (5501) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ عَيْبًا، وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَالْأَبْرَصِ يَجِدُ الْمَرْأَةَ مَجْنُونَةً أَوْ مَجْذُومَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، إلَّا أَنْ يَجِدَ الْمَجْبُوبُ الْمَرْأَةَ رَتْقَاءَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ عَيْبَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَانِعَ لَصَاحِبِهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَيْبِ نَفْسِهِ وَإِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ عَيْبًا بِهِ مِثْلُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا خِيَارَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَلَا مَزِيَّةَ لَأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبهِ، فَأَشْبَهَا الصَّحِيحَيْنِ. وَالثَّانِي، لَهُ الْخِيَارُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غُرَّ عَبْدٌ بِأَمَةٍ. [فَصْلٌ حَدَثَ الْعَيْبُ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ] (5502) فَصْلٌ: وَإِنْ حَدَثَ الْعَيْبُ بِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ الْخِيَارُ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ جُبَّ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي النِّكَاحَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ مُقَارِنًا، فَأَثْبَتَهُ طَارِئًا، كَالْإِعْسَارِ وَكَالرِّقِّ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الْخِيَارَ إذَا قَارَنَ، مِثْلُ أَنْ تَغِرَّ الْأَمَةُ مِنْ عَبْدٍ، وَيُثْبِتُهُ إذَا طَرَأَتْ الْحُرِّيَّةُ، مِثْلُ إنْ عَتَقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَحُدُوثُ الْعَيْبِ بِهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، كَالْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي، لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، أَشْبَهَ الْحَادِثَ بِالْمَبِيعِ. وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي الْإِجَارَةِ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ حَدَثَ بِالزَّوْجِ، أَثْبَتِ الْخِيَارَ، وَإِنْ حَدَثَ بِالْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْآخَرِ، لَا يُثْبِتُهُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِيمَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ سَابِقًا، فَتَسَاوَيَا فِيهِ لَاحِقًا، كَالْمُتَبَايِعِينَ. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِعُيُوبِ النِّكَاح أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَا يَرْضَى بِهَا بَعْدَهُ] (5503) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ، أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَا يَرْضَى بِهَا بَعْدَهُ، فَإِنْ عَلِمَ بِهَا فِي الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ فَرَضِيَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مُشْتَرِيَ الْمَعِيبِ. وَإِنْ ظَنَّ الْعَيْبَ يَسِيرًا فَبَانَ كَثِيرًا، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَرَصَ فِي قَلِيلٍ مِنْ جَسَدِهِ، فَبَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا رَضِيَ بِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِعَيْبٍ، فَبَانَ بِهِ غَيْرُهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلَا بِجِنْسِهِ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَالْمَبِيعِ إذَا رَضِيَ بِعَيْبٍ فِيهِ، فَوَجَدَ بِهِ غَيْرَهُ. وَإِنْ رَضِيَ بِعَيْبٍ، فَزَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَأَنْ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 قَلِيلٌ مِنْ الْبَرَصِ، فَانْبَسَطَ فِي جِلْدِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِهِ رِضًى بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ. [فَصْلٌ خِيَارُ عَيْبِ النِّكَاح ثَابِتٌ عَلَى التَّرَاخِي] (5504) فَصْلٌ: وَخِيَارُ الْعَيْبِ ثَابِتٌ عَلَى التَّرَاخِي، لَا يَسْقُطُ، مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى بِهِ، مِنْ الْقَوْلِ، أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ الزَّوْجِ، أَوْ التَّمْكِينِ مِنْ الْمَرْأَةِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ، فَسَكَتَتْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ، ثُمَّ طَالَبَتْ بَعْدُ، فَلَهَا ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَمَتَى أَخَّرَ الْفَسْخَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْإِمْكَانِ، بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَاَلَّذِي فِي الْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَخِيَارِ الْقِصَاصِ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ يَمْنَعُهُ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ضَرَرَهُ فِي الْمَبِيعِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مَالِيَّتَهُ أَوْ خِدْمَتَهُ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ عَيْبِهِ. وَهَاهُنَا الْمَقْصُودُ الِاسْتِمْتَاعُ، وَيَفُوتُ ذَلِكَ بِعَيْبِهِ. وَأَمَّا خِيَارُ الْمُجْبَرَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْمَجْلِسِ، فَهُوَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُتَحَقِّقٍ (5505) فَصْلٌ: وَيَحْتَاجُ الْفَسْخُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَهُوَ كَفَسْخِ الْعُنَّةِ، وَالْفَسْخِ لِلْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ. وَيُخَالِفُ خِيَارَ الْمُعْتَقَةِ؛ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة إذَا فَسَخَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا مَهْرَ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْفَسْخَ إذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ] (5506) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا فَسَخَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَلَا مَهْرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ مَا عَلِمَ، حَلَفَ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: (5507) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَسْخَ إذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الْمَرْأَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْفَسْخَ إنْ كَانَ مِنْهَا، فَالْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا، فَسَقَطَ مَهْرُهَا، كَمَا لَوْ فَسَخَتْهُ بِرَضَاعِ زَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ، فَإِنَّمَا فَسَخَ لَعَيْبٍ بِهَا دَلَّسَتْهُ بِالْإِخْفَاءِ، فَصَارَ الْفَسْخُ كَأَنَّهُ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ فَسْخَهَا لِعَيْبِهِ، كَأَنَّهُ مِنْهُ؛ لِحُصُولِهِ بِتَدْلِيسِهِ؟ قُلْنَا: الْعِوَضُ مِنْ الزَّوْجِ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِهَا، فَإِذَا اخْتَارَتْ فَسْخَ الْعَقْدِ مَعَ سَلَامَةِ مَا عَقَدَتْ عَلَيْهِ، رَجَعَ الْعِوَضُ إلَى الْعَاقِدِ مَعَهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ لِأَجْلِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهَا، لَا لِتَعَذُّرِ مَا اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضًا، فَافْتَرَقَا. [الْفَصْلُ الثَّانِي الْفَسْخ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاح] (5508) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ، فَلَا يَسْقُطُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 بِحَادِثٍ بَعْدَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِرِدَّتِهَا، وَلَا بِفَسْخٍ مِنْ جِهَتِهَا، وَيَجِبُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ " فِيهِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجِبُ الْمُسَمَّى. وَالْأُخْرَى، مَهْرُ الْمِثْلِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ اسْتَنَدَ إلَى الْعَقْدِ، فَصَارَ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. وَلَنَا، أَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِيهِ مُسَمًّى صَحِيحٌ، فَوَجَبَ الْمُسَمَّى، كَغَيْرِ الْمَعِيبَةِ، وَكَالْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، أَنَّهُ وُجِدَ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَكَانَ صَحِيحًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَفْسَخْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْسَخْهُ لَكَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ إذَا فَسَخَهُ، كَنِكَاحِ الْأَمَةِ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَلِأَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصِّحَّةِ مِنْ ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا جَازَ إبْقَاؤُهُ وَتَعَيَّنَ فَسْخُهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مِنْ حِينِهِ، غَيْرَ سَابِقٍ عَلَيْهِ، وَمَا وَقَعَ عَلَى صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ فُسِخَ الْبَيْعُ بِعَيْبٍ، لَمْ يَصِرْ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَا يَكُونُ النَّمَاءُ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً، فَوَطِئَهَا، لَمْ يَجِبْ بِهِ مَهْرُهَا، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ. [الْفَصْلُ الثَّالِث عَلِمَ بِالْعَيْبِ وَقْتَ عَقْدِ النِّكَاح أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ وُجِدَ مِنْهُ رِضًى] (5509) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ وُجِدَ مِنْهُ رِضًا، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، كَالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ، أَوْ تَمْكِينِهَا إيَّاهُ مِنْ الْوَطْءِ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ فَرَضِيَهُ. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْعِلْمِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ الرُّجُوعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي عُيُوب النِّكَاح] (5510) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ بِهِ. وَالْأُخْرَى: لَا يَرْجِعُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَذْهَبَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ فَهِبْتُهُ، فَمِلْت إلَى قَوْلِ عُمَرَ: إذَا تَزَوَّجَهَا، فَرَأَى جُذَامًا أَوْ بَرَصًا، فَإِنَّ لَهَا الْمَهْرَ بِمَسِيسِهِ إيَّاهَا، وَوَلِيُّهَا ضَامِنٌ لِلصَّدَاقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرْجِعُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَا اسْتَوْفَى بَدَلَهُ، وَهُوَ الْوَطْءُ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا فَأَكَلَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ بِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا. وَلِأَنَّهُ غَرَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 فِي النِّكَاحِ بِمَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَكَانَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ عَلِمَ غَرِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ فَالتَّغْرِيرُ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي عِلْمِ الْوَلِيِّ، فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ بِالْعِلْمِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: إنْ عَلِمَ الْوَلِيُّ غَرِمَ، وَإِلَّا اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ؛ أَنَّهُ مَا عَلِمَ، ثُمَّ هُوَ عَلَى الزَّوْجِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ أَبًا، أَوْ جَدًّا، أَوْ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرَاهَا، فَالتَّغْرِيرُ مِنْ جِهَتِهِ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرَاهَا، كَابْنِ الْعَمِّ، وَالْمَوْلَى، وَعَلِمَ غَرِمَ، وَإِنْ أَنْكَرَ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِإِقْرَارِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَدَّتْ الْمَرْأَةُ مَا أَخَذَتْ، تَرَكَ لَهَا قَدْرَ مَا تُسْتَحَلُّ بِهِ، لِئَلَّا تَصِيرَ كَالْمَوْهُوبَةِ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْقَاضِي. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا لَمْ يَعْلَمْ لَا يَغْرَمُ، أَنَّ التَّغْرِيرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَغْرَمْ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ. وَعَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ بِكُلِّ الصَّدَاقِ، أَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْهَا، فَرَجَعَ بِكُلِّ الصَّدَاقِ، كَمَا لَوْ غَرَّهُ الْوَلِيُّ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَرَاهَا. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ عُيُوبَ الْفَرْجِ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ رُؤْيَتُهَا، وَكَذَلِكَ الْعُيُوبُ تَحْتَ الثِّيَابِ، فَصَارَ فِي هَذَا كَمَنْ لَا يَرَاهَا، إلَّا فِي الْجُنُونِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مَنْ يَرَاهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ غَائِبًا. وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْمَهْرِ، فَإِنَّهُ لَسَبَبٍ آخِرَ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَتْهُ إيَّاهُ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوبَةِ. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ بِهَا عَيْبٌ مِنْ عُيُوب النِّكَاح] (5511) فَصْلٌ: إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ بِهَا عَيْبٌ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْتِزَامِ نِصْفِ الصَّدَاقِ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ الْفَسْخُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَاهُنَا اسْتَقَرَّ الصَّدَاقُ بِالْمَوْتِ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ. [مَسْأَلَة الْمُطَلَّقَة قَبْلَ الدُّخُولِ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَة] (5512) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا سُكْنَى لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِمَرْأَةٍ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَبِينُ بِالْفَسْخِ، كَمَا تَبِينُ بِطَلَاقِ ثَلَاثٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ زَوْجُهَا عَلَيْهَا رَجْعَةً، فَلَمْ تَجِبْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «إنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَهَذَا إذَا كَانَتْ حَائِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي حَالِ حَمْلِهَا، فَكَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةِ. وَفِي السُّكْنَى رِوَايَتَانِ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَكَذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ: لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ، وَالْحَمْلُ لَاحِقٌ بِهِ، وَبَنَوْهُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّتَهُ فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَالصَّغِيرِ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ تَزْوِيجُهُمْ مِمَّنْ بِهِ أُحُد عُيُوبِ النِّكَاح] (5513) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَالصَّغِيرِ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ تَزْوِيجُهُمْ مِمَّنْ بِهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لَهُمْ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَإِنْ زَوَّجَهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا لَا يَجُوزُ عَقْدُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَقَارَهُ لِغَيْرِ غِبْطَةٍ وَلَا حَاجَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ، صَحَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى لَهُمْ مَعِيبًا لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ إذَا عَلِمَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ النَّظَرَ لَهُمْ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَالْحَظُّ فِي الْفَسْخِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ زَوَّجَهُمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهُمْ إيَّاهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهُمْ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ تَزْوِيجُ كَبِيرَةٍ بِمَعِيبِ بِغَيْرِ رِضَاهَا] (5514) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ كَبِيرَةٍ بِمَعِيبِ بِغَيْرِ رِضَاهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ الْفَسْخَ إذَا عَلِمَتْ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَالِامْتِنَاعُ أَوْلَى. وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ مَعِيبًا، فَلَهُ مَنْعُهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُزَوِّجَهَا بِعِنِّينٍ، وَإِنْ رَضِيت السَّاعَةَ تَكْرَهُهُ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِنَّ النِّكَاحَ، وَيُعْجِبُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْجِبُنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي هَذَا دَائِمٌ، وَالرِّضَى غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِدَوَامِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ إذَا كَانَتْ عَالِمَةً فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى الشِّقَاقِ وَالْعَدَاوَةِ، فَيَتَضَرَّرُ وَلِيُّهَا وَأَهْلُهَا، فَمَلَكَ الْوَلِيُّ مَنْعَهَا، كَمَا لَوْ أَرَادَتْ نِكَاحَ مَنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْنُونِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا عَلَيْهَا خَاصَّةً. وَفِي الْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، وَالضَّرَرَ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَا الْمَجْبُوبَ وَالْعِنِّينَ. وَالثَّانِي، لَهُ مَنْعُهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُعَيَّرُ بِهِ، وَيُخْشَى تَعَدِّيهِ إلَى الْوَلَدِ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيجَ بِمَنْ لَا يُكَافِئُهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْلَى أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا فِيهِ ضَرَرًا دَائِمًا، وَعَارًا عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا، فَمَلَكَ مَنْعَهَا مِنْهُ، كَالتَّزْوِيجِ بِغَيْرِ كُفْءٍ. فَأَمَّا إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَرَضِيَا بِهِ، جَازَ، وَصَحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا وَيُكْرَهُ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَنَّهَا وَإِنْ رَضِيت الْآنَ، تَكْرَهُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ سَائِرُ الْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا وَمَنْعَهَا مِنْ هَذَا التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُمْ، وَيَنَالُهُمْ الضَّرَرُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ فَأَمَّا إنْ حَدَثَ الْعَيْبُ بِالزَّوْجِ، وَرَضِيَتْهُ الْمَرْأَةُ، لَمْ يَمْلِكْ وَلِيُّهَا إجْبَارَهَا عَلَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا فِي دَوَامِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 وَلِهَذَا لَوْ دَعَتْ وَلِيَّهَا إلَى تَزْوِيجِهَا بِعَبْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إجَابَتُهَا، وَلَوْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، لَمْ يَمْلِكْ إجْبَارَهَا عَلَى الْفَسْخِ. [مَسْأَلَة عَتَقَتْ الْأَمَةُ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ] (5515) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ، وَزَوْجُهَا عَبْدٌ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ. أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُهُمَا وَالْأَصْلُ فِيهِ خَبَرُ بَرِيرَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَاتَبَتْ بَرِيرَةُ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا.» قَالَ عُرْوَةُ: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ "، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.، وَلِأَنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي كَوْنِهَا حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ، فَبَانَ عَبْدًا، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ فَلَهَا فِرَاقُهُ، وَإِنْ رَضِيت الْمُقَامَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِرَاقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. [فَصْلٌ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرٍّ] (5516) فَصْلٌ: وَإِنْ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرٍّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَقَالَ طَاوُسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهَا الْخِيَارُ؛ لِمَا رَوَى الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيَّرَ بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلِأَنَّهَا كَمُلَتْ بِالْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا وَلَنَا، أَنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْكَمَالِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ مُسْلِمٍ. فَأَمَّا خَبَرُ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، فَقَدْ رَوَى عَنْهَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا. وَهُمَا أَخَصُّ بِهَا مِنْ الْأَسْوَدِ؛ لِأَنَّهُمَا ابْنُ أَخِيهَا وَابْنُ أُخْتِهَا وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيم، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا. فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ، يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدِ. قَالَ أَحْمَدُ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ قَالَا فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ: إنَّهُ عَبْدٌ. رِوَايَةُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَعَمَلُهُمْ، وَإِذَا رَوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثًا وَعَمِلُوا بِهِ، فَهُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنَّهُ حُرٌّ عَنْ الْأَسْوَدِ وَحْدَهُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِذَاكَ قَالَ: وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، فَلَا يُفْسَخُ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَالْحُرُّ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَالْعَبْدُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَيُخَالِفُ الْحُرُّ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ، فَإِذَا كَمُلَتْ تَحْتَهُ تَضَرَّرَتْ بِبَقَائِهَا عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْحُرِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 [فَصْلٌ فُرْقَةُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاح فَسْخ] (5517) فَصْلٌ: وَفُرْقَةُ الْخِيَارِ فَسْخٌ، لَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قِيلَ لِأَحْمَدَ: لِمَ لَا يَكُونُ طَلَاقًا؟ قَالَ: لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّجُلُ. وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ، فَكَانَتْ فَسْخًا، كَالْفَسْخِ لِعُنَّتِهِ أَوْ عَتَهِهِ. [مَسْأَلَة أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ أَوْ وَطِئَهَا] (5518) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ أَعْتَقَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ، أَوْ وَطِئَهَا، بَطَلَ خِيَارُهَا، عَلِمَتْ أَنَّ الْخِيَارَ لَهَا أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ خِيَارَ الْمُعْتَقَةِ عَلَى التَّرَاخِي، مَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؛ عِتْقِ زَوْجِهَا، أَوْ وَطْئِهِ لَهَا، وَلَا يُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنْ وَطْئِهَا وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأُخْتِهِ حَفْصَةَ وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَنَافِعٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَحَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ: لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَلِلشَّافِعِي ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ أَظْهَرُهَا كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي، أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الشُّفْعَةِ. وَالثَّالِثُ، أَنَّهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: سَمِعْت رِجَالًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ، فَهِيَ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَطَأْهَا، إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، «أَنَّ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ وَهِيَ عِنْدَ مُغِيثٍ، عَبْدٍ لِآلِ أَبِي أَحْمَدَ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهَا: إنْ قَرُبَك فَلَا خِيَارَ لَك» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ لِابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَثَبَتَ، كَخِيَارِ الْقِصَاصِ، أَوْ خِيَارٍ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ، فَأَشْبَهَ مَا قُلْنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى عَتَقَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ، سَقَطَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِالرِّقِّ، وَقَدْ زَالَ بِعِتْقِهِ، فَسَقَطَ، كَالْمَبِيعِ إذَا زَالَ عَيْبُهُ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ وَطِئَهَا بَطَلَ خِيَارُهَا، عَلِمَتْ بِالْخِيَارِ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ وَإِنْ أُصِيبَتْ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 مَا لَمْ تَعْلَمْ، فَإِنْ أَصَابَهَا بَعْدَ عِلْمِهَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهَا إذَا أَمْكَنَتْ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ عِلْمِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ تُصَبْ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ مَوْلَاةً لِبَنِي عَدِيٍّ، يُقَال لَهَا: زَبْرَاءُ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَعَتَقَتْ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَتْ إلَى حَفْصَةَ، فَدَعَتْنِي، فَقَالَتْ: إنَّ أَمْرَك بِيَدِك مَا لَمْ يَمَسَّك زَوْجُك، فَإِنْ مَسَّك، فَلَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ. فَقُلْت: هُوَ الطَّلَاقُ، ثُمَّ الطَّلَاقُ [ثُمَّ الطَّلَاقُ] . فَفَارَقَتْهُ ثَلَاثًا وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَمَسَّهَا. وَلِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ، فَيَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ مَعَ الْجَهَالَةِ، كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا وَطِئَهَا، وَادَّعَتْ الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ، وَهِيَ مِمَّنْ يَجُوزُ خَفَاءُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، مِثْلُ أَنْ يَعْتِقَهَا سَيِّدُهَا فِي بَلَدٍ آخِرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهَا، لِكَوْنِهِمَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ اشْتَهَرَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَإِنْ عَلِمَتْ الْعِتْقَ، وَادَّعَتْ الْجَهَالَةَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهَا فِيهِ. وَلِلشَّافِعِي فِي قَبُولِ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. [فَصْلٌ عِتْقَ الزَّوْجَانِ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ دَفْعَةً وَاحِدَةً] (5519) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ رَجُلَانِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَعَنْهُ: لَهَا الْخِيَارُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ عِتْقِهَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ، فَالْمُقَارِنَةُ أَوْلَى، كَإِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: إنْ عَتَقَا مَعًا انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ إذَا وَهَبَ لِعَبْدِهِ سُرِّيَّةً، وَأَذِنَ لَهُ فِي التَّسَرِّي بِهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا، صَارَا حُرَّيْنِ، وَخَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إصَابَتُهَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ هَكَذَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِي مَنْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ سُرِّيَّةً، أَوْ اشْتَرَى لَهُ سُرِّيَّةً، ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا، لَا يَقْرَبُهَا إلَّا بِنِكَاحِ جَدِيدٍ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، بِمَا رَوَى نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدًا لَهُ كَانَ لَهُ سُرِّيَّتَانِ، فَأَعْتَقَهُمَا وَأَعْتَقَهُ، فَنَهَاهُ أَنْ يَقْرَبَهُمَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ. وَلِأَنَّهَا بِإِعْتَاقِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ التَّسَرِّي بِهَا، كَالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ، فَعَتَقَا، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْفَسِخْ بِإِعْتَاقِهَا وَحْدهَا. فَلَأَنْ لَا يَنْفَسِخَ بِإِعْتَاقِهِمَا مَعًا أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: انْفَسَخَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 نِكَاحُهُمَا. أَنَّ لَهَا فَسْخَ النِّكَاحِ. وَهَذَا تَخْرِيجٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِأَنَّ لَهَا الْفَسْخَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا قَبْلَ الْعِتْقِ. [فَصْلٌ لَهُ عَبْدٌ وَأَمَةٌ مُتَزَوِّجَانِ فَأَرَادَ عِتْقَهُمَا] (5520) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَهُ عَبْدٌ وَأَمَةٌ مُتَزَوِّجَانِ، فَأَرَادَ عِتْقَهُمَا، الْبِدَايَةُ بِالرَّجُلِ؛ لِئَلَّا يَثْبُتَ لِلْمَرْأَةِ خِيَارٌ عَلَيْهِ فَيُفْسَخَ نِكَاحُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ «كَانَ لَهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، فَتَزَوَّجَا، فَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهُمَا. فَقَالَ لَهَا: فَابْدَئِي بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ» . وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ لِلرَّجُلِ: إنِّي بَدَأْت بِعِتْقِك لِئَلَّا يَكُونَ لَهَا عَلَيْك خِيَارٌ. [فَصْلٌ إذَا عَتَقَتْ الْمُتَزَوِّجَةُ الْمَجْنُونَةُ وَالصَّغِيرَةُ فَلَا خِيَارَ لَهُمَا فِي الْحَالِ] (5521) فَصْلٌ: إذَا عَتَقَتْ الْمَجْنُونَةُ وَالصَّغِيرَةُ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَقْلٌ لَهُمَا، وَلَا قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ، وَلَا يَمْلِكُ وَلِيُّهُمَا الِاخْتِيَارَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقُهُ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوِلَايَةِ كَالِاقْتِصَاصِ. فَإِذَا بَلَغْت الصَّغِيرَةُ، وَعَقَلَتْ الْمَجْنُونَةُ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ حِينَئِذٍ؛ لِكَوْنِهِمَا صَارَتَا عَلَى صِفَةٍ لَكُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ كَانَ بِزَوْجَيْهِمَا عَيْبٌ يُوجِبُ الْفَسْخَ، فَإِنْ كَانَ زَوْجَاهُمَا قَدْ وَطِئَاهُمَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا، لِأَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ انْقَضَتْ وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ: لَهُمَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُمَا، فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهُمَا مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَى، بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُمْنَعُ زَوْجَاهُمَا مِنْ وَطْئِهِمَا. [مَسْأَلَة إذَا كَانَتْ لِنَفْسَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا فَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعَسِّرًا] (5522) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ لِنَفْسَيْنِ، فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا، إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا. إنَّمَا شَرَطَ الْإِعْسَارَ فِي الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ يَسْرِي عِتْقُهُ إلَى جَمِيعِهَا، فَتَصِيرُ حُرَّةً، وَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، وَالْمُعْسِرُ لَا يَسْرِي عِتْقُهُ، بَلْ يَعْتِقُ مِنْهَا مَا أَعْتَقَ، وَبَاقِيهَا رَقِيقٌ، فَلَا تَكْمُلُ حُرِّيَّتُهَا، فَلَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ حِينَئِذٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ. حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ، وَاخْتَارَهَا؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ مِنْهُ، فَإِنَّهَا تَرِثُ، وَتُورَثُ، وَتَحْجُبُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْحُرَّةِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّهَا كَامِلَةُ الْأَحْكَامِ، وَأَيْضًا مَا عَلَّلَ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، فَلَا يُفْسَخُ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهَذِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 [فَصْلٌ زَوَّجَ أَمَةً قِيمَتُهَا عَشْرَةٌ بِصَدَاقِ عِشْرِينَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ مَاتَ] فَصْلٌ: وَلَوْ زَوَّجَ أَمَةً قِيمَتُهَا عَشْرَةٌ بِصَدَاقٍ عِشْرِينَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، ثُمَّ مَاتَ، وَلَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا وَغَيْرَ مَهْرِهَا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ، عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَهَا الْخِيَارُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ، عَتَقَ ثُلُثُهَا فِي الْحَالِ. وَفِي الْخِيَارِ لَهَا وَجْهَانِ، فَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ مَهْرِهَا شَيْءٌ عَتَقَ مِنْهَا بِقَدْرِ ثُلُثِهِ، فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ كُلُّهُ عَتَقَتْ كُلُّهَا، وَلَهَا الْخِيَارُ حِينَئِذٍ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ لَهَا الْخِيَارَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا، فَقَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ بِتَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا. وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهَا مَكَّنَتْ مِنْهُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَكَّنَتْ مِنْهُ قَبْلَ عِتْقِهَا. فَأَمَّا إنْ عَتَقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ فَسْخَهَا النِّكَاحَ يَسْقُطُ بِهِ صَدَاقُهَا، فَيَعْجِزُ الثُّلُثُ عَنْ كَمَالِ قِيمَتِهَا، فَيَرِقُّ ثُلُثَاهَا، وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا، فَيُفْضِي إثْبَاتُ الْخِيَارِ لَهَا إلَى إسْقَاطِهِ، فَيَسْقُطُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، لَهَا الْخِيَارُ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ لِسَيِّدِهَا نِصْفَ الْمَهْرِ، فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ عَتَقَ ثُلُثَاهَا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَسْقَطَهُ، يَعْتِقُ ثُلُثُهَا. [مَسْأَلَة الْمُعْتَقَةَ إنْ اخْتَارَتْ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ بَعْدَ الدُّخُولِ] (5524) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُقَامَ مَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ إنْ اخْتَارَتْ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا اخْتَارَتْ الْمُقَامَ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مُسْقِطٌ، وَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَقَدْ اسْتَقَرَّ بِالدُّخُولِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِشَيْءٍ، وَهُوَ لِلسَّيِّدِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فِي مِلْكِهِ، وَالْوَاجِبُ الْمُسَمَّى فِي الْحَالَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ، فَالْوَاجِبُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَالْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ اسْتَنَدَ إلَى حَالَةِ الْعِتْقِ، فَصَارَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ، فِيهِ مُسَمًّى صَحِيحٌ، اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ قَبْلَ الْفَسْخِ، فَأَوْجَبَ الْمُسَمَّى، كَمَا لَوْ لَمْ يُفْسَخْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الْفَسْخِ، لَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ حِينَئِذٍ وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ صَحِيحًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُفْسِدُهُ، وَيَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، مِنْ الْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَالْإِحْصَانِ، وَكَوْنِهِ حَلَالًا. وَأَمَّا إنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لِلسَّيِّدِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلسَّيِّدِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 وَلَنَا، أَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، فَسَقَطَ مَهْرُهَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ، أَوْ ارْتَدَّتْ، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ يَفْسَخُ نِكَاحَهَا رَضَاعُهُ. وَقَوْلُهُ: وَجَبَ لِلسَّيِّدِ. قُلْنَا: لَكِنَّ بِوَاسِطَتِهَا وَلِهَذَا سَقَطَ نِصْفُهُ بِفَسْخِهَا، وَجَمِيعُهُ بِإِسْلَامِهَا وَرِدَّتِهَا (5525) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَتْ مُفَوِّضَةً، فَفُرِضَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَهُوَ لِلسَّيِّدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فِي مِلْكِهِ لَا بِالْفَرْضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَجَبَ، وَالْمَوْتُ لَا يُوجِبُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ، فَلَا شَيْءَ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ مُسَمًّى وَجَبَ نِصْفُهُ. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ أُعْتِقَتْ] (5526) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا، ثُمَّ أُعْتِقَتْ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي نِكَاحٍ، وَلَا نِكَاحَ هَاهُنَا. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا بَاقٍ، فَيُمْكِنُ فَسْخُهُ، وَلَهَا فِي الْفَسْخِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ رَجْعَتَهُ لَهَا فِي آخِرِ عِدَّتِهَا، فَتَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عِدَّةٍ أُخْرَى إذَا فَسَخَتْ، فَإِذَا فَسَخَتْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَثَبَتَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عِدَّةٍ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَفْسَخْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَفْسَخُ حِينَئِذٍ؟ قُلْنَا: إذًا تَحْتَاجُ إلَى عِدَّةٍ أُخْرَى. وَإِذَا فَسَخَتْ فِي عِدَّتِهَا، ثَبَتَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا، وَلَمْ تَحْتَجْ إلَى عِدَّةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ الطَّلَاقِ، وَالْفَسْخُ لَا يُنَافِيهَا وَلَا يَقْطَعُهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً أُخْرَى، وَيَنْبَنِي عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ. فَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُقَامَ، بَطَلَ خِيَارُهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهَا اخْتَارَتْ الْمُقَامَ مَعَ جَرَيَانِهَا إلَى الْبَيْنُونَةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْمَقَامِ. وَلَنَا، أَنَّهَا حَالَةٌ يَصِحُّ فِيهَا اخْتِيَارُ الْفَسْخِ، فَصَحَّ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ، كَصُلْبِ النِّكَاحِ. وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا، لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَلِأَنَّ سُكُوتَهَا لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ لِجَرَيَانِهَا إلَى الْبَيْنُونَةِ، اكْتِفَاءً مِنْهَا بِذَلِكَ فَإِنْ ارْتَجَعَهَا، فَلَهَا الْفَسْخُ حِينَئِذٍ، فَإِنْ فَسَخَتْ، ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، بَقِيَتْ مَعَهُ بِطَلْقَةِ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ أَنْ أُعْتِقَ، رَجَعَتْ مَعَهُ عَلَى طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا، فَمَلَكَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ، كَسَائِرِ الْأَحْرَارِ. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا وَقَبْلَ اخْتِيَارِهَا] (5527) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا، وَقَبْلَ اخْتِيَارِهَا، أَوْ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ وَالْمَجْنُونَةَ بَعْدَ الْعِتْق، وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَبَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ زَوْجٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَنَفَذَ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْ. وَقَالَ الْقَاضِي: طَلَاقُهُ مَوْقُوفٌ. فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهَا مِنْ الْخِيَارِ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ وَقَعَ. وَلِلشَّافِعِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَبَنَوْا عَدَمَ الْوُقُوعِ عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ اسْتَنَدَ إلَى حَالَةِ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا فِي نِكَاحٍ مَفْسُوخٍ وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ زَوْجٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ، فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ عِتْقِهَا، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ تَخْتَرْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَسْخَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ مِنْ حِينِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفُرْقَةِ عَلَيْهِ، إذْ الْحُكْمُ لَا يَتَقَدَّمُ سَبَبُهُ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تُبْتَدَأُ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ، لَا مِنْ حِينِ الْعِتْقِ، وَمَا سَبَقَهُ مِنْ الْوَطْءِ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، يُثْبِتُ الْإِحْصَانَ وَالْإِحْلَالَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ الْفَسْخُ سَابِقًا عَلَيْهِ لَانْعَكَسَتْ الْحَالُ وَقَوْلُ الْقَاضِي: إنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّهَا مِنْ الْفَسْخِ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْفَسْخِ، مَعَ زِيَادَةِ وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَتَقْصِيرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ طَلَاقِهِ، لَا مِنْ حِينِ فَسْخِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مُبْطِلًا لَحَقِّهَا، لَمْ يَقَعْ وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ الْفَسْخَ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، سَوَاءٌ فَسَخَ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَفْسَخْ وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، فَعَلَى قَوْلِهِمْ: إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ، سَقَطَ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالطَّلَاقِ. وَهَكَذَا لَوْ ارْتَدَّتْ أَوْ أَسْلَمْت الْكَافِرَةُ. [فَصْلٌ لِلْمُعْتَقَةِ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ] فَصْلٌ: وَلِلْمُعْتَقَةِ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، غَيْرُ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حَاكِمٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَافْتَقَرَ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، كَالْفَسْخِ لِلْإِعْسَارِ. [فَصْلٌ إذَا اخْتَارَتْ الْمُعْتَقَةُ الْفِرَاقَ كَانَ فَسْخًا لَيْسَ بِطَلَاقِ] (5529) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَارَتْ الْمُعْتَقَةُ الْفِرَاقَ، كَانَ فَسْخًا لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، إلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ. قَالَ مَالِكٌ: إلَّا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا. وَاحْتَجَّ لَهُ بِقِصَّةِ زَبْرَاءَ حِينَ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ الْفِرَاقَ، فَمَلَكْت الطَّلَاقَ كَالرَّجُلِ وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» . وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فَكَانَتْ فَسْخًا، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ يُفْسَخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ، وَفِعْلُ زَبْرَاءَ لَيْسَ بِحُجَّةِ، وَلَمْ يَثْبُت انْتِشَارُهُ فِي الصَّحَابَةِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي، أَوْ فَسَخْت النِّكَاحَ. انْفَسَخَ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي. وَنَوَتْ الْمُفَارَقَةَ، كَانَ كِنَايَةً عَنْ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَصَارَ كِنَايَةً عَنْهُ، كَالْكِنَايَةِ بِالْفَسْخِ عَنْ الطَّلَاقِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 [فَصْلٌ إنْ عَتَقَ زَوْجُ الْأَمَةِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارٌ] (5530) فَصْلٌ: وَإِنْ عَتَقَ زَوْجُ الْأَمَةِ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْكَمَالِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ، وَلِذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ إلَّا فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مُطْلَقًا، فَبَانَتْ أَمَةً، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارٌ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا مُطْلَقًا، فَبَانَ عَبْدًا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِدَامَةِ، لَكِنْ إنْ عَتَقَ وَوَجَدَ الطَّوْلَ لِحُرَّةٍ، فَهَلْ يَبْطُلُ نِكَاحُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، تَقَدَّمَ ذَكَرُهُمَا. [فَصْلٌ عَتَقَتْ الْأُمَّةُ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا زِدْنِي فِي مَهْرِي] (5531) فَصْلٌ: وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ، فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: زِدْنِي فِي مَهْرِي. فَفَعَلَ، فَالزِّيَادَةُ لَهَا دُونَ سَيِّدهَا، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَسَوَاءٌ عَتَقَ مَعَهَا، أَوْ لَمْ يَعْتِقْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِيمَ إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ ثُمَّ عَتَقَا جَمِيعًا، فَقَالَتْ الْأَمَةُ: زِدْنِي فِي مَهْرِي. فَالزِّيَادَةُ لِلْأَمَةِ لَا لِلسَّيِّدِ. فَقِيلَ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ الزَّوْجُ لِغَيْرِ السَّيِّدِ، لِمَنْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ؟ قَالَ: لِلْأَمَةِ وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، لَوْ زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا، ثُمَّ بَاعَهَا، فَزَادَهَا زَوْجُهَا فِي مَهْرِهَا، فَالزِّيَادَةُ لِلثَّانِي. وَقَالَ الْقَاضِي: الزِّيَادَةُ لِلسَّيِّدِ الْمُعْتِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّدَاقِ تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَتَكُونُ كَالْمَذْكُورَةِ فِيهِ. وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الزِّيَادَةِ إنَّمَا ثَبَتَ حَالَ وُجُودِهَا، بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ سَيِّدِهَا عَنْهَا، فَيَكُونُ لَهَا، كَكَسْبِهَا وَالْمَوْهُوبِ لَهَا وَقَوْلُنَا: إنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ. مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَلْزَمُ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا، وَيَصِيرُ الْجَمِيعُ صَدَاقًا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا فِيهَا، وَكَانَ لِسَيِّدِهَا، فَإِنَّ هَذَا مُحَالٌ، وَلِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وُجِدَ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقَدُّمِ الْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُعْتَقِ فِيهِ حِينَ التَّزْوِيجِ لَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ، وَكَانَ لَهُ نَمَاؤُهُ. وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نُطِيلَ فِيهِ. [بَاب أَجَلِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ] ِ الْعِنِّينُ: هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِيلَاجِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَّ. أَيْ: اعْتَرَضَ؛ لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ إذَا أَرَادَ إيلَاجَهُ، أَيْ يَعْتَرِضُ، وَالْعَنَنُ الِاعْتِرَاضُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَعِنُّ لِقُبُلِ الْمَرْأَةِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَلَا يَقْصِدُهُ. فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ كَذَلِكَ فَهُوَ عَيْبٌ بِهِ، وَيُسْتَحَقُّ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ، بَعْدَ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ فِيهَا، وَيُعْلَمُ حَالُهُ بِهَا. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَعَلَيْهِ فَتْوَى فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، مِنْهُمْ؛ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَشَذَّ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَدَاوُد، فَقَالَا: لَا يُؤَجَّلُ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْت بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» . وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ مُدَّةً. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً. وَرَوَى ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ. وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ عَنْ عَلِيٍّ وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالْجَبِّ فِي الرَّجُلِ، وَالرَّتْقِ فِي الْمَرْأَةِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمُدَّةَ إنَّمَا تُضْرَبُ لَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ، وَطَلَبِ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إنِّي لِأَعْرُكَهَا عَرْكَ الْأَدِيمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ طَلَاقِهِ، فَلَا مَعْنَى لِضَرْبِ الْمُدَّةِ. وَصَحَّحَ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ) . وَلَوْ كَانَ قَبْلَ طَلَاقِهِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَيْهَا. وَقِيلَ: إنَّهَا ذَكَرَتْ ضَعْفَهُ، وَشَبَّهَتْهُ بِهُدْبَةِ الثَّوْبِ مُبَالَغَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) وَالْعَاجِزُ عَنْ الْوَطْءِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا عِنِّينٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا] (5532) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا عِنِّينٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا، أُجِّلَ سَنَةً مُنْذُ تَرَافُعِهِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا فِيهَا، خُيِّرَتْ فِي الْمُقَامِ مَعَهُ أَوْ فِرَاقِهِ، فَإِنْ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا بِلَا طَلَاقٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ عَجْزَ زَوْجِهَا عَنْ وَطْئِهَا لِعُنَّةٍ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَالْمَرْأَةُ عَذْرَاءُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ وَقَالَ الْقَاضِي: هَلْ يَسْتَحْلِف أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى دَعْوَى الطَّلَاقِ. فَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ، أَوْ أَنْكَرَ وَطَلَبَتْ يَمِينَهُ فَنَكِلَ، ثَبَتَ عَجْزُهُ، وَيُؤَجَّلُ سَنَةً. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّهُ أَجَّلَ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ. وَلَنَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَجْزَ قَدْ يَكُونُ لِعُنَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَرَضِ، فَضُرِبَتْ لَهُ سَنَةً لِتَمُرَّ بِهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ يُبْسٍ زَالَ فِي فَصْلِ الرُّطُوبَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ زَالَ فِي فَصْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 الْحَرَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ انْحِرَافِ مِزَاجٍ زَالَ فِي فَصْلِ الِاعْتِدَالِ. فَإِذَا مَضَتْ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَهْوِيَةُ فَلَمْ تَزُلْ، عُلِمَ أَنَّهُ خِلْقَةٌ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الطِّبِّ يَقُولُونَ: الدَّاءُ لَا يَسْتَجِنُّ فِي الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ. وَابْتِدَاءُ السَّنَةِ مُنْذُ تَرَافُعِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْقَائِلِينَ بِتَأْجِيلِهِ. قَالَ مَعْمَرٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: يُؤَجَّلُ سَنَةً: مِنْ يَوْمِ مُرَافَعَتِهِ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَمْ يَطَأْ، فَلَهَا الْخِيَارُ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهَا فَتَفْسَخَ هِيَ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَلَا يَفْسَخُ حَتَّى تَخْتَارَ الْفَسْخَ وَتَطْلُبَهُ؛ لِأَنَّهُ لِحَقِّهَا، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، كَالْفَسْخِ لِلْإِعْسَارِ، فَإِذَا فَسَخَ فَهُوَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ يُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَتَكُونُ تَطْلِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ لِعَدَمِ الْوَطْءِ، فَكَانَتْ طَلَاقًا، كَفُرْقَةِ الْمُولِي. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا خِيَارٌ ثَبَتَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ، فَكَانَ فَسْخًا، كَفَسْخِ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الْعَيْبِ. [فَصْلٌ اتَّفَقَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ] (5533) فَصْلٌ: فَإِنْ اتَّفَقَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ عَنْهُ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. فَإِذَا تَزَوَّجَهَا كَانَتْ عِنْدَهُ عَلَى طَلَاقٍ ثَلَاثٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَحَرَّمَتْ النِّكَاحَ، كَفُرْقَةِ اللِّعَانِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لِأَجْلِ الْعَيْب، فَلَمْ تَمْنَعْ النِّكَاحَ، كَفُرْقَةِ الْمُعْتَقَةِ، وَالْفُرْقَةِ فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ. وَأَمَّا فُرْقَةُ اللِّعَانِ فَإِنَّهَا حَصَلَتْ بِلِعَانِهِمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُحَرِّمُ الْمُقَامَ عَلَى النِّكَاحِ، فَمَنَعَ ابْتِدَاءَهُ، وَيُوجِبُ الْفُرْقَةَ، فَمَنَعَ الِاجْتِمَاعَ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ. وَلَوْ رَضِيت الْمَرْأَةُ بِالْمُقَامِ، أَوْ لَمْ تَطْلُب الْفَسْخَ، لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَ هَذِهِ الْفُرُوقِ؟ . [فَصْلٌ مَنْ عُلِمَ أَنَّ عَجْزَهُ عَنْ الْوَطْءِ لَعَارِضٍ مِنْ صِغَرٍ أَوْ مَرَضٍ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ] (5534) فَصْلٌ: وَمَنْ عُلِمَ أَنَّ عَجْزَهُ عَنْ الْوَطْءِ لَعَارِضٍ؛ مِنْ صِغَرٍ، أَوْ مَرَضٍ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ مُدَّةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ يَزُولُ، وَالْعُنَّةُ خِلْقَةٌ وَجِبِلَّةٌ لَا تَزُولُ. وَإِنْ كَانَ لَكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، ضُرِبَتْ لَهُ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ لِجَبٍّ، أَوْ شَلَلٍ، ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِانْتِظَارِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ الذَّكَرِ مَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ بِهِ، فَالْأَوْلَى ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِنِّينِ خِلْقَةً. وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي هَلْ يُمْكِنُ الْوَطْءُ بِمِثْلِهِ أَوْ لَا؟ رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الْخَصِيُّ مِنْ عُيُوب النِّكَاح] (5535) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْخَصِيُّ، فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ ذَكَرَهُ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ، وَلَمْ يُفْرِدْهُ بِحُكْمٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ، فِي أَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 مَتَى لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أُجِّلَ، وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مُمْكِنٌ، وَالِاسْتِمْتَاعَ حَاصِلٌ بِوَطْئِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ وَطْأَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَطْءِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ فَيَفْتُرُ بِالْإِنْزَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قُطِعَتْ خُصْيَتَاهُ وَالْمَوْجُورِ، وَهُوَ الَّذِي رُضَّتْ خُصْيَتَاهُ، وَالْمَسْلُولِ الَّذِي سُلَّتْ خُصْيَتَاهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنْزِلُ، وَلَا يُولَدُ لَهُ. [مَسْأَلَة قَالَ قَدْ عَلِمَتْ أَنِّي عِنِّينٌ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَهَا] (5536) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ أَنِّي عِنِّينٌ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَهَا. فَإِنْ أَقَرَّتْ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يُؤَجَّلُ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا عَلِمَتْ عُنَّةَ الرَّجُلِ وَقْتَ الْعَقْدِ، مِثْلُ أَنْ يُعْلِمَهَا بِعُنَّتِهِ، أَوْ تُضْرَبَ لَهُ الْمُدَّةُ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ الْمُدَّةُ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يُؤَجَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنِّينًا فِي نِكَاحٍ دُونَ نِكَاحٍ وَلَنَا أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ، وَدَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عَالِمَةً بِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا خِيَارٌ، كَمَا لَوْ عَلِمَتْهُ مَجْبُوبًا، وَلِأَنَّهَا لَوْ رَضِيَتْ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ الْمُدَّةِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ، فَكَذَلِكَ إذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي الْعَقْدِ، كَسَائِرِ الْعُيُوبِ، وَلَوْ أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ، كَذَا هَاهُنَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا تَكُونُ فِي نِكَاحٍ دُونَ نِكَاحٍ. احْتِمَالٌ بَعِيدٌ؛ فَإِنَّ الْعُنَّةَ جِبِلَّةٌ وَخِلْقَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ ظَاهِرًا، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْمُدَّةِ. فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهَا الْعِلْمَ بِعُنَّتِهِ، فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَإِنْ أَقَرَّتْ، أَوْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ، ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَبَطَلَ خِيَارُهَا. [مَسْأَلَة عَلِمَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فَسَكَتَتْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ] (5537) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَسَكَتَتْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ، ثُمَّ طَالَبَتْ بَعْدُ، فَلَهَا ذَلِكَ، وَيُؤَجَّلُ سَنَةً مِنْ يَوْمِ تَرَافُعِهِ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا اخْتِلَافًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ سُكُوتَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الرِّضَى؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ لَا تَمْلِكُ فِيهِ الْفَسْخَ، وَلَا الِامْتِنَاعَ مِنْ اسْتِمْتَاعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا مُسْقِطًا لِحَقِّهَا، كَسُكُوتِهَا بَعْدَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَقَبْلَ انْقِضَائِهَا. وَلَوْ سَكَتَتْ بَعْدَ الْمُدَّةِ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ، وَثُبُوتِ عَجْزِهِ، فَلَا يَضُرُّ السُّكُوتُ قَبْلَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 [مَسْأَلَة قَالَتْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ قَدْ رَضِيت بِهِ عِنِّينًا] (5538) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ قَالَتْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ: قَدْ رَضِيت بِهِ عِنِّينًا. لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدُ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ، أَنَّهَا مَتَى رَضِيَتْ بِهِ عِنِّينًا، بَطَلَ خِيَارُهَا، سَوَاءٌ قَالَتْهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَلَا نَعْلَمُ فِي بُطْلَانِ خِيَارِهَا بِقَوْلِهَا ذَلِكَ بَعْد انْقِضَاء الْمُدَّةِ خِلَافًا، فَأَمَّا قَبْلَهَا فَإِنْ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْفَسْخِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَمْ يَصِحَّ إسْقَاطُهُ قَبْلَهَا، كَالشَّفِيعِ يُسْقِطُ حَقَّهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَنَا، أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَسَقَطَ خِيَارُهَا، كَسَائِرِ الْعُيُوبِ، وَكَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْعُنَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفَسْخِ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُدَّةُ لِيُعْلَمَ وُجُودُهَا، وَيَتَحَقَّقُ عِلْمُهَا، فَهِيَ كَالْبَيِّنَةِ فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ وَيُفَارِقُ الشُّفْعَةَ؛ فَإِنَّ سَبَبَهَا الْبَيْعُ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ رَضِيت الْمَرْأَةُ بِالْإِعْسَارِ، ثُمَّ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ، مَلَكَتْهُ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا، فَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ، ثُمَّ طَالَبَتْ بِالْعُنَّةِ، كَانَ لَهَا ذَلِكَ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ يَتَجَدَّدُ وُجُوبُهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَإِذَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ مَا يَجِبْ لَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَمْ يَسْقُطْ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَأَشْبَهَ إسْقَاطَ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْعَيْبِ، وَلِأَنَّ الْإِعْسَارَ يَعْقُبُهُ الْيَسَارُ، فَتَرْضَى بِالْمُقَامِ رَجَاءَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُولِي يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَطَأَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ، فَأَمَّا الْعِنِّينُ إذَا رَضِيَتْهُ، فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَجْزِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَزُولُ فِي الْعَادَةِ، فَافْتَرَقَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 [مَسْأَلَة إنَّ اعْتَرَفَتْ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا] (5539) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ اعْتَرَفَتْ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا. أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا، يَقُولُونَ: مَتَى وَطِىءَ امْرَأَتَهُ مَرَّةً، ثُمَّ ادَّعَتْ عَجْزَهُ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا، وَلَمْ تُضْرَبْ لَهُ مُدَّةٌ، مِنْهُمْ؛ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ هَاشِمٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ عَجَزَ عَنْ وَطْئِهَا أُجِّلَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ وَطْئِهَا، فَثَبَتَ حَقُّهَا، كَمَا لَوْ جُبَّ بَعْدَ الْوَطْءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَزَوَالُ عُنَّتِهِ، فَلَمْ تُضْرِبْ لَهُ مُدَّةٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْجِزْ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، مِنْ اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، تَثْبُتُ بِوَطْءِ وَاحِدٍ، وَقَدْ وُجِدَ. وَأَمَّا الْجَبُّ، فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَجْزُ فَافْتَرَقَا. [فَصْلٌ الْوَطْءُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُنَّةِ] (5540) فَصْلٌ: وَالْوَطْءُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُنَّةِ، هُوَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ، فَكَانَ وَطْئًا صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ الذَّكَرُ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُنَّةِ إلَّا بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ هَاهُنَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ، فَاعْتُبِرَ تَغْيِيبُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ حُصُولُ حُكْمِ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي، يُعْتَبَرُ تَغْيِيبُ قَدْرِ الْحَشَفَةِ، لِيَكُونَ مَا يُجْزِئُ مِنْ الْمَقْطُوعِ مِثْلُ مَا يُجْزِئُ مِنْ الصَّحِيحِ وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَهَذَيْنِ. (5541) فَصْلٌ: وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُنَّةِ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَطْءِ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِحْلَالُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَا الْإِحْصَانُ. وَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْقُبُلِ حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ مُحْرِمَةً، أَوْ صَائِمَةً، خَرَجَ عَنْ الْعُنَّةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْعُنَّةِ؛ لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَالْإِبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ، أَشْبَهَ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلِّ الْوَطْءِ، فَخَرَجَ بِهِ عَنْ الْعُنَّةِ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ يَضُرُّهَا الْوَطْءُ، وَلِأَنَّ الْعُنَّةَ الْعَجْزُ عَنْ الْوَطْءِ، وَلَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ، فَلَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ ضِدِّهِ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ أَحْكَامٌ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَفِيَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهَا لِمَانِعٍ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، وَالْعُنَّةُ فِي نَفْسِهَا أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ، لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ مَعَ انْتِفَائِهِ فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ، فَلَيْسَ بِوَطْءٍ فِي مَحَلِّهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَدْ اخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ تَنْتَفِي بِهِ الْعُنَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِ أُقْدَرُ. [فَصْلٌ إنَّ وَطِئَ امْرَأَةً لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ الْعُنَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا] (5542) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً، لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ الْعُنَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُنَّةِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النِّسَاءِ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُخْتَبَرُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ أُخْرَى. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُنَّةَ خِلْقَةٌ وَجِبِلَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ النِّسَاءِ، فَإِذَا انْتَفَتْ فِي حَقِّ امْرَأَةٍ، لَمْ تَبْقَ فِي حَقِّ غَيْرِهَا وَلَنَا، أَنَّ حُكْمَ كُلِّ امْرَأَةٍ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ ثَبَتَتْ عُنَّتُهُ فِي حَقِّهِنَّ، فَرَضِيَ بَعْضُهُنَّ، سَقَطَ حَقُّهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 وَحْدَهَا دُونَ الْبَاقِيَاتِ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالْعَجْزِ عَنْ وَطْئِهَا، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهَا لَا يَزُولُ بِوَطْءِ غَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: كَيْفَ يَصِحُّ عَجْزُهُ عَنْ وَاحِدَةٍ دُونَ أُخْرَى؟ قُلْنَا: قَدْ تَنْهَضُ شَهْوَتُهُ فِي حَقِّ إحْدَاهُمَا، لِفَرْطِ حُبِّهِ إيَّاهَا، وَمَيْلِهِ إلَيْهَا، وَاخْتِصَاصِهَا بِجَمَالٍ وَنَحْوِهِ دُونَ الْأُخْرَى. فَعَلَى هَذَا، لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَصَابَهَا، ثُمَّ أَبَانَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَعَنَّ عَنْهَا، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَعِنَّ عَنْ امْرَأَةٍ دُونَ أُخْرَى، فَفِي نِكَاحٍ دُون نِكَاحٍ أَوْلَى. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ: لَا يَصِحُّ هَذَا، بَلْ مَتَى وَطِئَ مَرَّةً، لَمْ تَثْبُتْ عُنَّتُهُ أَبَدًا. [مَسْأَلَة إنْ جُبَّ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي وَقْتِهَا] (5543) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ جُبَّ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي وَقْتِهَا كَأَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ: إذَا ضُرِبَتْ لَهُ الْمُدَّةُ فَلَمْ يُصِبْهَا حَتَّى جُبَّ، ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ. لِأَنَّنَا نَنْتَظِرُ الْحَوْلَ لِنَعْلَمَ عَجْزَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَاهُ هَاهُنَا يَقِينًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِانْتِظَارِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ سَائِرَ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ؛ فَإِنَّ الْخِيَارَ هَاهُنَا إنَّمَا ثَبَتَ بِالْجَبِّ الْحَادِثِ، وَلَوْلَاهُ لَمْ يَثْبُتُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ عُنَّتَهُ، وَالْجَبُّ حَادِثٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْفَسْخُ بِهِ، عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ هَاهُنَا بِالْجَبِّ الْحَادِثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَقْصُودَ الْعُنَّةِ فِي الْعَجْزِ عَنْ الْوَطْءِ، وَمُحَقِّقٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَذْرَاءُ] (5544) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا، وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، أُرِيَتْ النِّسَاءَ الثِّقَاتِ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِمَا قَالَتْ، أُجِّلَ سَنَةً وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ عُنَّةَ زَوْجِهَا، فَزَعَمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَقَالَتْ: إنَّهَا عَذْرَاءُ. أُرِيَتْ النِّسَاءَ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِعُذْرَتِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَيُؤَجَّلُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُزِيلُ عُذْرَتَهَا، فَوُجُودُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوَطْءِ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ عُذْرَتَهَا عَادَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا. وَهَلْ تُسْتَحْلَفُ الْمَرْأَةُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، تُسْتَحْلَفُ؛ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، كَمَا يُسْتَحْلَفُ سَائِرُ مَنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَالْآخَرُ، لَا تُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّ مَا يَبْعُدُ جِدًّا لَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ، كَاحْتِمَالِ كَذِبِ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ قَبْلَ ضَرْبِ الْأَجَلِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْد ضَرْب الْمُدَّةِ، وَشَهِدَ النِّسَاءُ بِعُذْرَتِهَا، لَمْ تَنْقَطِع الْمُدَّةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِنْ اعْتَرَفَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ شَهِدَ النِّسَاءُ بِزَوَالِ عُذْرَتِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَيَسْقُطُ حُكْمُ قَوْلِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ كَذِبُهَا. وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّ عُذْرَتَهَا زَالَتْ بِسَبَبٍ آخِرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَسْبَابِ. [مَسْأَلَة كَانَتْ ثَيِّبًا وَادَّعَى أَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهَا] (5545) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَادَّعَى أَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهَا، أُخْلِيَ مَعَهَا فِي بَيْتٍ، وَقِيلَ لَهُ: أَخْرِجْ مَاءَك عَلَى شَيْءٍ. فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنِيٍّ، جُعِلَ عَلَى النَّارِ، فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ مَنِيٌّ، وَبَطَلَ قَوْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَحَكَى الْخِرَقِيِّ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ يُخَلَّى مَعَهَا، وَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْ مَاءَك عَلَى شَيْءٍ. فَإِنْ أَخْرَجَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِنِّينَ يَضْعُفُ عَنْ الْإِنْزَالِ، فَإِذَا أَنْزَلَ تَبَيَّنَّا صِدْقَهُ، فَنَحْكُمُ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمِنِّي، جُعِلَ عَلَى النَّارِ، فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ مَنِيٌّ؛ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِبَيَاضِ الْبَيْضِ، وَذَاكَ إذَا وُضِعَ عَلَى النَّارِ تَجَمَّعَ وَيَبِسَ، وَهَذَا يَذُوبُ، فَيَتَمَيَّزُ بِذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ، فَيُخْتَبَرُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا مَتَى عَجَزَ عَنْ إخْرَاجِ مَائِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّجُلِ مَعَ يَمِينِهِ وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَجَنْبَتُهُ أَقْوَى، فَإِنْ فِي دَعْوَاهُ سَلَامَةَ الْعَقْدِ، وَسَلَامَةَ نَفْسِهِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَالْمُنْكِرِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَعَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ، فَقَوَّيْنَا قَوْلَهُ بِيَمِينِهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى الَّتِي يَسْتَحْلِفُ فِيهَا. فَإِنْ نَكِلَ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.» قَالَ الْقَاضِي: وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِفَ، بِنَاءً عَلَى إنْكَارِهِ دَعْوَى الطَّلَاقِ، فَإِنَّ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ، كَذَا هَاهُنَا. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ الْخِرَقِيِّ لِدَلَالَةِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينهَا. حَكَاهَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِصَابَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِأَنَّ قَوْلَهَا مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ، وَالْيَقِينُ مَعَهَا. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِوَطْئِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 بَطَلَ حُكْمُ عُنَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ مُدَّةٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ، انْقَطَعَتْ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا خِيَارٌ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِعَدَمِ الْوَطْءِ مِنْهُ، ثَبَتَ حُكْمُ عُنَّتِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ يُزَوَّجُ امْرَأَةً لَهَا حَظٌّ مِنْ الْجَمَالِ، وَتُعْطَى صَدَاقَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَيُخَلَّى مَعَهَا، وَتُسْأَلُ عَنْهُ، وَيُؤْخَذُ بِمَا تَقُولُ، فَإِنْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ يَطَأُ، كَذَبَتْ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفَسْخِ وَصَدَاقُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ كَذَّبَتْهُ، فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَصَدَاقُ الثَّانِيَةِ مِنْ مَالِهِ هَاهُنَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى سَمُرَةَ، فَشَكَتْ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهَا زَوْجُهَا، فَكَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ، أَنْ زَوِّجْهُ بِامْرَأَةِ ذَاتِ جَمَالٍ يُذْكَرُ عَنْهَا الصَّلَاحُ، وَسُقْ إلَيْهَا الْمَهْرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَنْهُ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَقَدْ كَذَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا فَقَدْ صَدَقَتْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ سَمُرَةُ، فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ: لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ. فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَشْهَدُهُ امْرَأَتَانِ، وَيُتْرَكُ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ، وَيُجَامِعُ امْرَأَتَهُ، فَإِذَا قَامَ عَنْهَا نَظَرَتَا إلَى فَرْجِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ رُطُوبَةُ الْمَاءِ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِلَّا فَلَا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِوَاحِدَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْوَطْءَ فِي الْإِيلَاءِ، وَلِمَا قَدَّمْنَا. وَاعْتِبَارُ خُرُوجِ الْمَاءِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطَأُ وَلَا يُنْزِلُ، وَقَدْ يُنْزِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، فَإِنَّ ضَعْفَ الذَّكَرِ لَا يَمْنَعُ سَلَامَةَ الظَّهْرِ وَنُزُولَ الْمَاءِ، وَقَدْ يَعْجِزُ السَّلِيمُ الْقَادِرُ عَنْ الْوَطْءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْوَطْءِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، أَوْ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، يَكُونُ عِنِّينًا، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا مُدَّتَهُ سَنَةً، وَتَزْوِيجُهُ بِامْرَأَةِ ثَانِيَةٍ، لَا يَصِحُّ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعِنُّ عَنْ امْرَأَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ إنْ كَانَ مُؤَقَّتًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ، فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ، وَالْوَطْءُ فِيهِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَازِمًا، فَفِيهِ إضْرَارٌ بِالثَّانِيَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا تُرِيدُ بِذَلِكَ تَخْلِيصَ نَفْسِهَا، فَهِيَ مُتَّهَمَةٌ فِيهِ، وَلَيْسَتْ بِأَحَقَّ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا مِنْ الْأُولَى، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ عَنْ الْوَطْءِ فِي يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، لَمْ تَثْبُتْ عُنَّتُهُ بِذَلِكَ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الَّذِي ذَكَرُوهُ، أَنْ يَثْبُتَ عَجْزُهُ عَنْ الْوَطْءِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي اخْتَبَرُوهُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ عُنَّتِهِ بِإِقْرَارِهِ بِعَجْزِهِ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتَ بِدَعْوَى غَيْرِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْلَى. [مَسْأَلَة قَالَ الْخُنَثِي الْمُشْكِلُ أَنَا رَجُلٌ] (5546) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا قَالَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ: أَنَا رَجُلٌ. لَمْ يُمْنَعْ مِنْ نِكَاحٍ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ ذَلِكَ بَعْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَقَ، فَقَالَ: أَنَا امْرَأَةٌ. لَمْ يَنْكِحْ إلَّا رَجُلًا. الْخُنْثَى: هُوَ الَّذِي لَهُ فِي قُبُلِهِ فَرْجَانِ؛ ذَكَرُ رَجُلٍ، وَفَرْجُ امْرَأَةٍ. وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم: 45] . وَقَالَ تَعَالَى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] . فَلَيْسَ ثَمَّ خَلْقٌ ثَالِثٌ. وَلَا يَخْلُو الْخُنْثَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا، أَوْ غَيْرَ مُشْكِلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا بِأَنْ تَظْهَرَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ، فَهُوَ رَجُلٌ لَهُ أَحْكَامُ الرِّجَالِ، أَوْ تَظْهَرَ فِيهِ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ، فَهُوَ امْرَأَةٌ لَهُ أَحْكَامُهُنَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا، فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ وَلَا النِّسَاءِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نِكَاحِهِ، فَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجُلُ، وَأَنَّهُ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى نِكَاحِ النِّسَاءِ، فَلَهُ نِكَاحُهُنَّ. وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الرِّجَالِ، زُوِّجَ رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إيجَابُ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا وَعِدَّتِهَا. وَقَدْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ بِمَيْلِ طَبْعِهِ إلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَشَهْوَتِهِ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ فِي الْحَيَوَانَات بِمَيْلِ الذَّكَرِ إلَى الْأُنْثَى وَمَيْلِهَا إلَيْهِ، وَهَذَا الْمَيْلُ أَمْرٌ فِي النَّفْسِ وَالشَّهْوَةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ عَلَامَاتِهِ الظَّاهِرَةِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، فِيمَا يَخْتَصُّ هُوَ بِحُكْمِهِ. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ وَالدِّيَةُ، فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُقَلِّلُ مِيرَاثَهُ أَوْ دِيَتَهُ، قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَى مَا يَزِيدُ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ عِبَادَاتِهِ وَسُتْرَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَمَا لَا يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا زُوِّجَ امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ خِلَافَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي التَّزْوِيجِ بِغَيْرِ الْجِنْسِ الَّذِي زُوِّجَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ، وَمُدَّعٍ مَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ تَزْوِيجِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ قَالَ: أَنَا امْرَأَةٌ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ؛ لِإِقْرَارِهِ بِبُطْلَانِهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ عَنْهُ. وَإِنْ تَزَوَّجَ رَجُلًا ثُمَّ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ. وَذَكَرَهُ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ مَا يُبِيحُ لَهُ النِّكَاحَ. فَلَمْ يُبَحْ لَهُ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهُ بِنِسْوَةٍ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: إنِّي رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَذَلِكَ، فِي نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ نَفْسَهُ كَمَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمَحْظُورِ فِي حَقِّهِ، فَحُرِّمَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَة أَصَابَ الرَّجُلُ أَوْ أُصِيبَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ بِنِكَاحِ صَحِيحٍ] (5547) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ أَوْ أُصِيبَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِزَائِلِ الْعَقْلِ، رُجِمَا إذَا زَنَيَا، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ الْحُرَّانِ فِيمَا وَصَفْت سَوَاءٌ. ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْبَاب شَرَائِطَ الْإِحْصَانِ. وَنَحْنُ نُؤَخِّرُهُ إلَى الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ أَخَصُّ بِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 [كِتَابُ الصَّدَاقِ] ِ الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، بِالْفَرِيضَةِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: النِّحْلَةُ: الْهِبَةُ، وَالصَّدَاقُ فِي مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَمْتِعُ بِصَاحِبِهِ، وَجَعَلَ الصَّدَاقَ لِلْمَرْأَةِ، فَكَأَنَّهُ عَطِيَّةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَقِيلَ: نِحْلَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] . وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَرَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَدْعَ زَعْفَرَانَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَهْيَمْ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْت امْرَأَةً. فَقَالَ: مَا أَصْدَقْتهَا؟ . قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةِ» . وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ. (5548) فَصْلٌ: وَلِلصَّدَاقِ تِسْعَةُ أَسْمَاءٍ؛ الصَّدَاقُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْمَهْرُ، وَالنِّحْلَةُ، وَالْفَرِيضَةُ، وَالْأَجْرُ، وَالْعَلَائِقُ، وَالْعُقْرُ، وَالْحِبَاءُ. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا الْعَلَائِقَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ» . وَقَالَ عُمَرُ: لَهَا عُقْرُ نِسَائِهَا. وَقَالَ مُهَلْهَلٌ: أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ أَدَم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 لَوْ بأبانين جَاءَ يَخْطُبُهَا ... خَضَّبَ مَا وَجْهُ خَاطِبٍ بِدَمِ يُقَال: أَصْدَقْت الْمَرْأَةَ وَمَهَرْتُهَا. وَلَا يُقَال: أَمْهَرْتهَا. [فَصْلٌ تَعْرِيَة النِّكَاحُ عَنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ] (5549) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَعْرَى النِّكَاحُ عَنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُزَوِّجُ بَنَاتَه وَغَيْرَهُنَّ وَيَتَزَوَّجُ، فَلَمْ يَكُنْ يُخْلِي ذَلِكَ مِنْ صَدَاقٍ. وَقَالَ لِلَّذِي زَوَّجَهُ الْمَوْهُوبَةَ: «هَلْ مِنْ شَيْءٍ تَصَدَّقَهَا بِهِ؟ . فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا. قَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ.» وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ وَلِلْخِلَافِ فِيهِ، وَلَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا. [مَسْأَلَة حُكْم الصَّدَاق إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً رَشِيدَةً أَوْ صَغِيرَةً عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهَا] (5550) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً رَشِيدَةً، أَوْ صَغِيرَةً عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهَا، فَأَيُّ صَدَاقٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، إذَا كَانَ شَيْئًا لَهُ نِصْفٌ يُحَصَّلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُول: (5551) الْفَصْلُ الْأَوَّل: أَنَّ الصَّدَاقَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، لَا أَقَلُّهُ وَلَا أَكْثَرُهُ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مَالًا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد وَزَوَّجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ابْنَتَهُ بِدِرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا لَحَلَّتْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ مُقَدَّرُ الْأَقَلِّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّهُ مَا يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَعَنْ النَّخَعِيِّ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَعَنْهُ عِشْرُونَ. وَعَنْهُ عِشْرُونَ. وَعَنْهُ رِطْلٌ مِنْ الذَّهَبِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ» . وَلِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِهِ عُضْوٌ، فَكَانَ مُقَدَّرًا كَاَلَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي زَوَّجَهُ: «هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ تَصَدَّقَهَا؟ قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: الْتَمِسْ، وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَضِيَتْ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَجَازَهُ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى امْرَأَةً صَدَاقًا مِلْءَ يَدِهِ طَعَامًا، كَانَتْ لَهُ حَلَالًا» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كُنَّا نَنْكِحُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَبْضَةِ مِنْ الطَّعَامِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . يَدْخُلُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ. وَلِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَتِهَا، فَجَازَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، كَالْعَشَرَةِ وَكَالْأُجْرَةِ. وَحَدِيثُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ، رَوَاهُ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ. وَرَوَوْهُ عَنْ جَابِرٍ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُ خِلَافَهُ. أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَهْرِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقِيَاسُهُمْ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ اسْتِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْجُمْلَةِ، وَالْقَطْعُ إتْلَافُ عُضْوٍ دُونَ اسْتِبَاحَتِهِ، وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَحَدٌّ، وَهَذَا عِوَضٌ، فَقِيَاسُهُ عَلَى الْأَعْوَاضِ أَوْلَى. وَأَمَّا أَكْثَرُ الصَّدَاقِ، فَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] . وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ عُمَرَ أَصْدَقَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْت وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَنْهَى عَنْ كَثْرَةِ الصَّدَاقِ، فَذَكَرْت هَذِهِ الْآيَةَ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] . قَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْقِنْطَارُ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 سَبْعُونَ أَلْفَ مِثْقَالٍ. [فَصْلٌ غَلَاء الصَّدَاقَ] (5552) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَغْلِيَ الصَّدَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً، أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً» . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَلَا لَا تُغْلُوا صَدَاقَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ، كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ، أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيُغْلِيَ بِصَدَقَةِ امْرَأَتِهِ، حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي قَلْبِهِ، وَحَتَّى يَقُولَ: كُلِّفْت لَكُمْ عِلْقَ الْقِرْبَةِ.» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَدَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: ثَنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشُّ. فَقُلْت: وَمَا نَشُّ؟ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةِ.» أَخْرَجَاهُ أَيْضًا. وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَلَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَثُرَ رُبَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، فَيَتَعَرَّضُ لِلضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [فَصْلٌ كُلُّ مَا جَازَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ أَوْ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا] (5553) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، أَوْ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ، مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَالْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ، وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَمَنَافِعِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَغَيْرِهِمَا، جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْكِحُوا الْأَيَامَى، وَأَدُّوا الْعَلَائِقَ. قِيلَ: مَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ، وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» . وَرَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنَافِعُ الْحُرِّ لَا تَكُونُ صَدَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ يَجُوزُ الْعِوَضُ عَنْهَا فِي الْإِجَارَةِ، فَجَازَتْ صَدَاقًا، كَمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَتْ مَالًا. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّهَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا وَبِهَا. ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا، فَقَدْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْمَالِ فِي هَذَا، فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: فَامْرَأَةٌ يَكُونُ لَهَا ضِيَاعٌ وَأَرْضُونَ، لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَعْمُرَهَا؟ ، قَالَ: لَا يَصْلُحُ هَذَا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ كَانَتْ الْخِدْمَةُ مَعْلُومَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا تَنْضَبِطُ فَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا. كَأَنَّهُ تَأَوَّلَ مَسْأَلَةَ مُهَنَّا عَلَى أَنَّ الْخِدْمَةَ مَجْهُولَةٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ التَّزْوِيجُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَعَمَلِ شَيْءٍ، جَائِزٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا كَالْأَعْيَانِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَأْتِيَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ مِنْ مَكَان مُعَيَّنٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَنْهُ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا الْإِتْيَانَ بِهِ أَيْنَ كَانَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. [فَصْلٌ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهَا] (5554) فَصْلٌ: وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهَا، لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو عُبَيْدٍ: يَصِحُّ، وَلَنَا أَنَّ الْحُمْلَانَ مَجْهُولٌ، لَا يُوقَفُ لَهُ عَلَى حَدٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا شَيْئًا. فَعَلَى هَذَا لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا خِيَاطَةَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ فَهَلَكَ الثَّوْبُ] (5555) فَصْلٌ: وَإِنْ أَصْدَقَهَا خِيَاطَةَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَهَلَكَ الثَّوْبُ، لَمْ تَفْسُدْ التَّسْمِيَةُ، وَلَمْ يَجِبْ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ تَسْلِيمِ مَا أَصْدَقَهَا بِعَيْنِهِ لَا يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَهَلَكَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ خِيَاطَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ تَلَفٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى عِوَضِ الْعَمَلِ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ عَبْدِهَا صِنَاعَةً فَمَاتَ قَبْلَ التَّعْلِيمِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ خِيَاطَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الثَّوْبِ لَمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ مُقَامَهُ مَنْ يَخِيطُهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ خِيَاطَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ خِيَاطَةُ نِصْفِهِ إنْ أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ نِصْفِهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَيْهِ نِصْفُ أَجْرِ خِيَاطَتِهِ إلَّا أَنْ يَبْذُلَ خِيَاطَةَ أَكْثَرِ مِنْ نِصْفِهِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ خَاطَ النِّصْفَ يَقِينًا، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْد خِيَاطَتِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ أَجْرِهِ. [فَصْلٌ إنَّ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ صِنَاعَةٍ أَوْ تَعْلِيمَ عَبْدِهَا صِنَاعَةً صَحَّ] (5556) فَصْلٌ: وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ صِنَاعَةٍ أَوْ تَعْلِيمَ عَبْدِهَا صِنَاعَةً صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ يَجُوزُ بَذْلُ الْعِوَضِ عَنْهَا فَجَازَ جَعْلُهَا صَدَاقًا كَخِيَاطَةِ ثَوْبِهَا. وَإِنْ أَصْدَقِهَا تَعْلِيمَهُ أَوْ تَعْلِيمَهَا شِعْرًا مُبَاحًا مُعَيَّنًا أَوْ فِقْهًا أَوْ لُغَةً أَوْ نَحْوًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجُوزُ أَخَذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهَا جَازَ وَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَجَازَ صَدَاقًا كَمَنَافِعِ الدَّارِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 [فَصْلٌ جَعَلَ صَدَاقهَا تَعْلِيم الْقُرْآنِ] (5557) فَصْلٌ: فَأَمَّا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَعْلِهِ صَدَاقًا. فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: أَكْرَهُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى نَعْلَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ يَعْنِي رِوَايَتَيْنِ. قَالَ وَاخْتِيَارِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَكْحُولٍ، وَإِسْحَاقَ وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي وَهَبْت نَفْسِي لَك فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَقَالَ هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ تَصَدَّقَهَا؟ فَقَالَ مَا عِنْدِي إلَّا إزَارِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إزَارُك إنْ أَعْطَيْتهَا جَلَسْت وَلَا إزَارَ لَك فَالْتَمِسْ شَيْئًا قَالَ لَا أَجِدُ. قَالَ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُعَيَّنَةٌ مُبَاحَةٌ، فَجَازَ جَعْلُهَا صَدَاقًا كَتَعْلِيمِ قَصِيدَةٍ مِنْ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ. وَوَجْهُ الرَّاوِيَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْفُرُوجَ لَا تُسْتَبَاحُ إلَّا بِالْأَمْوَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَالطَّوْلُ الْمَالُ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ رَجُلًا عَلَى سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ قَالَ لَا تَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَك مَهْرًا» رَوَاهُ النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ إلَّا قُرْبَةً لِفَاعِلِهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَتَعْلِيمِ الْإِيمَانِ. وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِنْ الْمُعَلِّمِ، وَالْمُتَعَلِّمُ مُخْتَلَفٌ، وَلَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الْمَجْهُولَ. فَأَمَّا حَدِيثُ الْمَوْهُوبَةِ فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ أَيْ زَوَّجْتُكَهَا لِأَنَّك مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ كَمَا زَوَّجَ أَبَا طَلْحَةَ عَلَى إسْلَامِهِ فَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَتَى أُمَّ سُلَيْمٍ يَخْطُبُهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَتْ: أَتَزَوَّجُ بِك وَأَنْتَ تَعْبُدُ خَشَبَةً نَحَتَهَا عَبْدُ بَنَى فُلَانٍ؟ إنْ أَسْلَمْت تَزَوَّجْت بِك. قَالَ فَأَسْلَمَ أَبُو طَلْحَةَ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى إسْلَامِهِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ذِكْرُ التَّعْلِيمِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا لِذَلِكَ الرَّجُلِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ النَّجَّادُ وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَأَمَّا عَلَى الْأُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَا يُعَلِّمُهَا إيَّاهُ؛ إمَّا سُورَةً مُعَيَّنَةً أَوْ سُوَرًا أَوْ آيَاتٍ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ السُّوَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 تَخْتَلِفُ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ، وَهَلْ تَحْتَاجُ إلَى تَعْيِينِ قِرَاءَةٍ مُرَتَّبَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَخْتَلِفُ وَالْقِرَاءَاتُ تَخْتَلِفُ فَمِنْهَا صَعْبٌ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَسَهْلٌ فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الْآيَاتِ. وَالثَّانِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ وَكُلُّ حَرْفٍ يَنُوبُ مَنَابَ صَاحِبهِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَيِّنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ قِرَاءَةً وَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْقِرَاءَةِ أَشَدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ الْيَوْمَ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ وَلِلشَّافِعِي فِي هَذَا وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ لَا يُحْسِنُهَا] (5558) فَصْلٌ: فَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ لَا يُحْسِنُهَا نَظَرْت، فَإِنْ قَالَ: أُحَصِّلُ لَك تَعْلِيمَ هَذِهِ السُّورَةِ صَحَّ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَيْهَا مَنْ لَا يُحْسِنُهَا كَالْخِيَاطَةِ إذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يُحَصِّلُهَا لَهُ، وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أُعَلِّمَك فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْخِيَاطَةَ لَيَخِيطَ لَهُ، وَذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا مَالًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ. [فَصْلٌ جَاءَتْهُ بِغَيْرِهَا فَقَالَتْ عَلِّمْهُ السُّورَةَ الَّتِي جَعَلَتْ تَعْلِيمِيّ إيَّاهَا صَدَاقِي] (5559) فَصْلٌ: فَإِنْ جَاءَتْهُ بِغَيْرِهَا، فَقَالَتْ: عَلِّمْهُ السُّورَةَ الَّتِي تُرِيدُ تَعْلِيمِي إيَّاهَا لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَيْنٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إيقَاعُهُ فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَأَتَتْهُ بِغَيْرِهِ، فَقَالَتْ: خِطْ هَذَا، وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّمِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّعَلُّمِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَعْلِيمِهَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْلِيمِ غَيْرِهَا، وَإِنْ أَتَاهَا بِغَيْرِهِ يُعَلِّمُهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّمِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّعْلِيمِ، وَلِأَنَّ لَهَا غَرَضًا فِي التَّعَلُّمِ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ زَوْجَهَا تَحِلُّ لَهُ وَيَحِلُّ لَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْلِيمُ غَيْرِهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا التَّعَلُّمُ مِنْ غَيْرِهِ، قِيَاسًا لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. [فَصْلٌ تَعَلَّمَتْ السُّورَة الَّتِي أُصَدِّقهَا إيَّاهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا] (5560) فَصْلٌ: فَإِنْ تَعَلَّمَتْهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ تَعْلِيمِهَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: عَلَّمْتُكَهَا فَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَعْلِيمِهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُمَا إنْ اخْتَلَفَا بَعْد أَنْ تَعَلَّمَتْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا، وَإِنْ عَلَّمَهَا السُّورَةَ ثُمَّ أُنْسِيَتْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى لَهَا بِمَا شَرَطَ، وَإِنَّمَا تَلِفَ الصَّدَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ لَقَّنَهَا الْجَمِيعَ وَكُلَّمَا لَقَّنَهَا آيَةً أُنْسِيَتْهَا لَمْ يَعْتَدَّ بِذَلِكَ تَعْلِيمًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ تَعْلِيمًا وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأَفْضَى إلَى أَنَّهُ مَتَى قَرَأَهَا فَقَرَأَتْهَا بِلِسَانِهَا مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ كَانَ تَلْقِينًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَلْقِينًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَقَّنَهَا الْآيَةَ وَحَفِظَتْهَا، فَأَمَّا مَا دُونَ الْآيَةِ فَلَيْسَ بِتَلْقِينٍ وَجْهًا وَاحِدًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 [فَصْلٌ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ تَعْلِيمِهَا السُّورَةَ الَّتِي أُصَدِّقهَا إيَّاهَا] (5561) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ تَعْلِيمِهَا السُّورَةَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أَجْرِ تَعْلِيمِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَّمَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ؛: أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ نِصْفُ أَجْرِ تَعْلِيمِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، فَلَا يُؤْمَنُ فِي تَعْلِيمِهَا الْفِتْنَةُ. وَالثَّانِي يُبَاحُ لَهُ تَعْلِيمُهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ بِهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ سَمَاعُ كَلَامِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي تَعْلِيمِهَا السُّورَةَ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا رَدَّ عَبْدِهَا مِنْ مَكَان مُعَيَّنٍ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الرَّدِّ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ أَجْرِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ نِصْفُ الرَّدِّ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّدِّ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أَجْرِهِ. [فَصْلٌ أَصْدَقَ الْكِتَابِيَّةَ تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ] (5562) فَصْلٌ: وَلَوْ أَصْدَقَ الْكِتَابِيَّةَ تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وَلَنَا أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مَعَ إيمَانِهِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ فَالْكَافِرُ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ» فَالتَّحَفُّظُ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا؛ فَإِنَّ السَّمَاعَ غَيْرُ الْحِفْظِ وَإِنْ أَصْدَقَهَا أَوْ أَصْدَقَ الْمُسْلِمَةَ تَعْلِيمَ شَيْءٍ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَمْ يَصِحّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُبَدِّلٌ مُغَيِّرٌ. وَلَوْ أَصْدَقَ الْكِتَابِيُّ الْكِتَابِيَّةَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا مُحَرَّمًا. [فَصْلُ الصَّدَاقَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَرَضُوا بِهِ] (5563) الْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الصَّدَاقَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَرَضُوا بِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَلَائِقُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ» ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيُعْتَبَرُ رِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْأَبَ فَمَهْمَا اتَّفَقَ هُوَ وَالزَّوْجُ عَلَيْهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَلِذَلِكَ زَوَّجَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْنَتَهُ وَجَعَلَا الصَّدَاقَ إجَارَةَ ثَمَانِي حِجَجٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ الْأَبِ اُعْتُبِرَ رِضَى الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَهَا وَهُوَ عِوَضُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 لمَنْفَعَتِهَا فَأَشْبَهَ أَجْرَ دَارِهَا وَصَدَاقَ أَمَتِهَا. فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي الصَّدَاقِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ فِي الْبَيْعِ إنْ جُعِلَ الصَّدَاقُ مَهْرَ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ صَحَّ وَلَزِمَ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. [فَصْلُ الصَّدَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا مَالًا] (5564) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا مَالًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفٌ يُتَمَوَّلُ عَادَةً، بِحَيْثُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَقِيَ لَهَا مِنْ النِّصْفِ مَالٌ حَلَالٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: لَهُ نِصْفٌ يُحَصَّلُ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، كَالْمُحَرَّمِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُولِ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَمَا لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ وَقِشْرَةِ جَوْزَةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهِ بِعِوَضٍ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ كَالْمَبِيعِ وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ مِمَّا يُتَمَوَّلُ عَادَةً وَيُبْذَلُ الْعِوَضُ فِي مِثْلِهِ عُرْفًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَعْرِضُ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا يَبْقَى لِلْمَرْأَةِ إلَّا نِصْفُهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَبْقَى لَهَا مَالٌ تَنْتَفِعُ بِهِ. وَيُعْتَبَرُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، لَا نِصْفُ عَيْنِ الصَّدَاقِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا جَازَ، وَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ قِسْمَتُهُ. [مَسْأَلَة أَصْدَقَهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَوَجَدَتْ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّتْهُ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ، فَوَجَدَتْ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّتْهُ، فَلَهَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فَوَجَدَتْ بِهِ عَيْبًا فَلَهَا رَدُّهُ كَالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا إذَا كَانَ الْعَيْبُ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، فَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ، فَرُدَّ بِهِ الصَّدَاقُ، كَالْكَثِيرِ، وَإِذَا رَدَّتْهُ، فَلَهَا قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ، فَيَبْقَى سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا إيَّاهُ فَأَتْلَفَهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِثْلِيًّا، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَرَدَّتْهُ، فَلَهَا عَلَيْهِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَارَتْ إمْسَاكَ الْمَعِيبِ، وَأَخْذَ أَرْشِهِ فَلَهَا ذَلِكَ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ عِنْدَهَا، ثُمَّ وَجَدَتْ بِهِ عَيْبًا خُيِّرَتْ بَيْنَ أَخْذِ أَرْشِهِ، وَبَيْنَ رَدِّهِ وَرَدِّ أَرْشِ عَيْبِهِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ، وَسَائِرِ فُرُوعِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا هَا هُنَا مِثْلُ مَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ شَرَطَتْ فِي الصَّدَاقِ صِفَةً مَقْصُودَةً] (5566) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَتْ فِي الصَّدَاقِ صِفَةً مَقْصُودَةً، كَالْكِتَابَةِ وَالصِّنَاعَةِ، فَبَانَ بِخِلَافِهَا، فَلَهَا الرَّدُّ، كَمَا تُرَدُّ بِهِ فِي الْبَيْعِ وَهَكَذَا إنْ دَلَّسَهُ تَدْلِيسًا يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ، مِثْلُ تَحْمِيرِ وَجْهِ الْجَارِيَةِ، وَتَسْوِيدِ شَعْرِهَا وَتَجْعِيدِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 وَتَضْمِيرِ الْمَاءِ عَلَى الْحَجَرِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَهَا الرَّدُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَتْ الشَّاةَ مُصَرَّاةً فَلَهَا رَدُّهَا وَرَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ فَإِذَا هِيَ تِسْعُمِائَةٍ: هِيَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الدَّارَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَةَ أَلْفِ ذِرَاعٍ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ. وَهَذَا فِيمَا إذَا أَصْدَقَهَا دَارًا بِعَيْنِهَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ، فَخَرَجَتْ تِسْعَمِائَةٍ، فَهَذَا كَالْعَيْبِ فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا مَقْصُودًا، فَبَانَ بِخِلَافِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ الْعَبْدَ كَاتِبًا، فَبَانَ بِخِلَافِهِ. وَجَوَّزَ أَحْمَدُ الْإِمْسَاكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ رَضِيَتْ بِهَا نَاقِصَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ أَرْشًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهَا الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ نَقْصِهَا، أَوْ رَدَّهَا وَأَخْذَ قِيمَتِهَا. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَخَرَجَ حُرًّا] (5567) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَخَرَجَ حُرًّا، أَوْ اُسْتُحِقَّ، سَوَاءٌ سَلَّمَهُ إلَيْهَا أَوْ لَمْ يُسَلِّمْهُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، تَظُنُّهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا فَخَرَجَ حُرًّا، أَوْ مَغْصُوبًا، فَلَهَا قِيمَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْمَغْصُوبِ كَقَوْلِنَا، وَفِي الْحُرِّ كَقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْحُرِّ بِإِشَارَتِهِ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَاهُ حُرًّا. وَلَنَا، أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى التَّسْمِيَةِ، فَكَانَ لَهَا قِيمَتُهُ، كَالْمَغْصُوبِ، وَلِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِقِيمَتِهِ، إذْ ظَنَّتْهُ مَمْلُوكًا، فَكَانَ لَهَا قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَعِيبًا فَرَدَّتْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَصْدَقْتُك هَذَا الْحُرَّ، أَوْ هَذَا الْمَغْصُوبَ. فَإِنَّهَا رَضِيَتْ بِلَا شَيْءٍ، لِرِضَاهَا بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، أَوْ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِهِ إيَّاهَا، فَكَانَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ كَعَدَمِهَا، فَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " سَوَاءٌ سَلَّمَهُ إلَيْهَا أَوْ لَمْ يُسَلِّمْهُ " يَعْنِي أَنْ تَسْلِيمَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ، وَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا مِثْلِيًّا فَبَانَ مَغْصُوبًا] (5568) فَصْلٌ: فَإِنْ أَصْدَقَهَا مِثْلِيًّا، فَبَانَ مَغْصُوبًا فَلَهَا مِثْلُهُ لِأَنَّ الْمِثْلَ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِهِ فِي الْإِتْلَافِ وَإِنْ أَصْدَقَهَا جَرَّةَ خَلٍّ، فَخَرَجَتْ خَمْرًا أَوْ مَغْصُوبَةً، فَلَهَا مِثْلُ ذَلِكَ خَلًّا لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَهَا قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ خَلًّا، فَرَضِيَتْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ لَهَا بَدَلُ الْمُسَمَّى كَالْحُرِّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَبَانَ حُرًّا؛ وَلِأَنَّهُ إنْ أَوْجَبَ قِيمَةَ الْخَمْرِ، فَالْخَمْرُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِنْ أَوْجَبَ قِيمَةَ الْخَلِّ، فَقَدْ اعْتَبَرَ التَّسْمِيَةَ فِي إيجَابِ قِيمَتِهِ، فَفِي إيجَابِ مِثْلِهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَالَ أَصْدَقْتُك هَذَا الْخَمْرَ وَأَشَارَ إلَى الْخَلِّ] (5569) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَصْدَقْتُك هَذَا الْخَمْرَ - وَأَشَارَ إلَى الْخَلِّ - أَوْ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا - وَأَشَارَ إلَى عَبْدِهِ - صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، وَلَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ صِفَتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْأُسُودَ. وَأَشَارَ إلَى أَبْيَضَ. أَوْ هَذَا الطَّوِيلَ. وَأَشَارَ إلَى قَصِيرٍ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدَيْنِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا] (5570) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدَيْنِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا، صَحَّ الصَّدَاقُ فِيمَا تَمَلَّكَهُ وَلَهَا قِيمَةُ الْآخَرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَاحِدًا، فَخَرَجَ نِصْفُهُ حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ رَدِّهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ إمْسَاكِ نِصْفِهِ وَأَخْذِ قِيمَةِ بَاقِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ، فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَعِيبًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تَقُولُونَ بِبُطْلَانِ التَّسْمِيَةِ فِي الْجَمِيعِ، وَتَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ كُلِّهَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، كَمَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؟ قُلْنَا: إنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ، إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ، وَهَا هُنَا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَلَا عَيْبَ فِيهِ وَهُوَ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِهِ. أَمَّا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، فَإِنَّهُ إذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، صِرْنَا إلَى الثَّمَنِ، وَلَيْسَ هُوَ بَدَلًا عَنْ الْمَبِيعِ، وَإِنَّمَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَرَجَعَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، وَهَا هُنَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَإِنَّمَا رَجَعَ إلَى قِيمَةِ الْحُرِّ مِنْهُمَا؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ. وَالْعَبْدُ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ قِيمَتِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَفِيهِ عَيْبٌ، فَجَازَ رَدُّهُ بِعَيْبِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَصْدَقَهَا عَبْدَيْنِ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ، فَلَهَا الْعَبْدُ وَحْدَهُ صَدَاقًا، وَلَا شَيْءَ لَهَا سِوَاهُ. وَلَنَا أَنَّهُ أَصْدَقَهَا حُرًّا، فَلَمْ تَسْقُطْ تَسْمِيَتُهُ إلَى غَيْرِ شَيْءٍ، كَمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا. آخِرُ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ رُبْعِ النِّكَاحِ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ [مَسْأَلَة تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ] (5571) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يُبَعْ، أَوْ طُلِبَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَلَهَا قِيمَتُهُ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ عِوَضًا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 وَلَنَا أَنَّهُ أَصْدَقَهَا تَحْصِيلَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى رَدِّ عَبْدِهَا الْآبِقِ مِنْ مَكَان مَعْلُومٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ عِوَضًا، وَإِنَّمَا الْعِوَضُ تَحْصِيلُهُ وَتَمْلِيكُهَا إيَّاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، لَزِمَهُ تَحْصِيلُهُ وَدَفْعُهُ إلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَهَا بِقِيمَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ صَدَاقِهَا إلَيْهَا، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا يَمْلِكُهُ. وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ سَيِّدُهُ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ؛ لِتَلَفِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ طُلِبَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلَهَا قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى قَبْضِ الْمُسَمَّى الْمُتَقَوِّمِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَعَلَ لَهَا مِثْلِيًّا، فَتَعَذَّرَ شِرَاؤُهُ، وَجَبَ لَهَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ أَقْرَبُ إلَيْهِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ] (5572) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ؛ صَحَّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ جَاءَهَا بِقِيمَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهَا قَبُولُهَا، قِيَاسًا عَلَى الْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ. وَلَنَا أَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا أَخْذُ قِيمَتِهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ عَبْدٌ وَجَبَ صَدَاقًا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مَعِيبًا، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَا يَلْزَمُ أَخْذُ قِيمَةِ الْإِبِلِ، وَإِنَّمَا الْأَثْمَانُ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، كَمَا أَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ دَفْعِ أَيِّ الْأُصُولِ شَاءَ، فَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ قَبُولُهُ لَهَا عَلَى طَرِيقِ الْقِيمَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ، فَلَا يُنَاقِضُ بِهَا، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قِيَاسُ الْعِوَضِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْوَاضِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، ثُمَّ يَنْتَقِضُ بِالْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهَا] (5573) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهَا صَحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَإِنْ طُلِبَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَلَهَا قِيمَتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَوَجْهُهُ مَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ جَاءَهَا بِقِيمَتِهِ مَعَ إمْكَانِ شِرَائِهِ، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهَا الْعِوَضَ فِي عِتْقِ أَبِيهَا. [فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الصَّدَاقُ إلَّا مَعْلُومًا يَصِحُّ بِمِثْلِهِ الْبَيْعُ] (5574) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الصَّدَاقُ إلَّا مَعْلُومًا يَصِحُّ بِمِثْلِهِ الْبَيْعُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ مَجْهُولًا، مَا لَمْ تَزِدْ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَادِمٍ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا: يُقَوَّمُ الْخَادِمُ وَسَطًا عَلَى قَدْرِ مَا يَخْدُمُ مِثْلَهَا. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، أَوْ فَرَسٍ، أَوْ بَغْلٍ، أَوْ حَيَوَانٍ مِنْ جِنْسٍ مَعْلُومٍ، أَوْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ أَوْ مَرْوِيٍّ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُذْكَرُ جِنْسُهُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهَا الْوَسَطُ. وَكَذَلِكَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ، وَعَشَرَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 أَرْطَالِ زَيْتٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، كَثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ، أَوْ عَلَى حُكْمِهَا أَوْ حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَلَى حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ زَيْتٍ، أَوْ عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ فِي الْعَامِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْوَسَطِ، فَيَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُهُ. وَفِي الْأَوَّلِ يَصِحُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَلَائِقُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ» . وَهَذَا قَدْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَثْبُتُ فِيهِ الْحَيَوَانُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْمَالَ، فَثَبَتَ مُطْلَقًا كَالدِّيَةِ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ التَّسْمِيَةِ هَا هُنَا أَقَلُّ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِنِسَائِهَا مِمَّنْ يُسَاوِيهَا فِي صِفَاتِهَا وَبَلَدِهَا وَزَمَانِهَا وَنَسَبِهَا، ثُمَّ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا صَحَّ، فَهَاهُنَا مَعَ قِلَّةِ الْجَهْلِ فِيهِ أَوْلَى وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فِيهِ الْجَهَالَةَ بِحَالٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِهِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، أَوْ قَمِيصٍ مِنْ قُمْصَانِهِ، أَوْ عِمَامَةٍ مِنْ عَمَائِمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صَحَّ، لِأَنَّ؛ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي مَنْ تَزَوَّجَ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ: جَائِزٌ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةَ عَبِيدٍ، تُعْطَى مِنْ أَوْسَطِهِمْ، فَإِنْ تَشَاحَّا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. قُلْت: وَتَسْتَقِيمُ الْقُرْعَةُ فِي هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ هَا هُنَا يَسِيرَةٌ، وَيُمْكِنُ التَّعْيِينُ بِالْقُرْعَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ تَكْثُرُ، فَلَا يَصِحُّ. وَلَنَا أَنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مَجْهُولًا، كَعِوَضِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ كَالْمُحَرَّمِ، وَكَمَا لَوْ زَادَتْ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ مِمَّا يَصْلُحُ عِوَضًا، بِدَلِيلِ سَائِرِ مَا لَا يَصْلُحُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، لَا بِالْعَقْدِ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ فِي تَقْدِيرِهَا، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ أَصْلًا، ثُمَّ إنَّ الْحَيَوَانَ الثَّابِتَ فِيهَا مَوْصُوفٌ بِسِنِّهِ، مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ فِي الْأَمْرَيْنِ؟ ثُمَّ لَيْسَتْ عَقْدًا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بَدَلُ مُتْلَفٍ، لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي، فَهُوَ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهَا عِوَضٌ فِي عَقْدٍ يُعْتَبَرُ تَرَاضِيهِمَا بِهِ؟ ثُمَّ إنَّ قِيَاسَ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى عِوَضٍ فِي مُعَاوَضَةٍ أُخْرَى، أَصَحُّ وَأَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَدَلِ مُتْلَفٍ، وَأَمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا تَجِبُ قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَصِيرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا نَصِيرُ إلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ، وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا بِعَبْدٍ مُطْلَقٍ فَأَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّا نَصِيرُ إلَى تَقْوِيمِهِ، وَلَا نُوجِبُ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ دُونَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي الْقَبَائِلِ وَالْقُرَى أَنْ يَكُونَ لِنِسَائِهِمْ مَهْرٌ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ إلَّا بِالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ فَحَسْبُ، فَيَكُونُ إذًا مَعْلُومًا، وَالْوَسَطُ مِنْ الْجِنْسِ يَبْعُدُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، لِكَثْرَةِ أَنْوَاعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهَا، وَاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْحِيحِ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، فَلَا نَظِيرَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا يُصَارُ إلَيْهِ، فَكَيْف يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالتَّحَكُّمِ؟ وَأَمَّا نُصُوصُ أَحْمَدَ عَلَى الصِّحَّةِ فَتَأَوَّلَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ أَشْكَلَ عَلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، وَمَنْ قَالَ بِصِحَّتِهَا، أَوْجَبَ الْوَسَطَ مِنْ الْمُسَمَّى، وَالْوَسَطُ مِنْ الْعَبِيدِ السِّنْدِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى التُّرْكِيُّ وَالرُّومِيُّ، وَالْأَسْفَلَ الزِّنْجِيُّ وَالْحَبَشِيُّ، وَالْوَسَطَ السِّنْدِيُّ وَالْمَنْصُورِيُّ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنْ أَعْطَاهَا قِيمَةَ الْعَبْدِ، لَزِمَهَا قَبُولُهَا، إلْحَاقًا بِالْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ. [فَصْلٌ الصَّدَاقُ مُعَجَّل وَمُؤَجَّل] (5575) فَصْلٌ: وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مُعَجَّلًا، وَمُؤَجَّلًا، وَبَعْضُهُ مُعَجَّلًا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَالثَّمَنِ. ثُمَّ إنْ أُطْلِقَ ذِكْرُهُ اقْتَضَى الْحُلُولَ، كَمَا لَوْ أُطْلِقَ ذِكْرُ الثَّمَنِ. وَإِنْ شَرَطَهُ مُؤَجَّلًا إلَى وَقْتٍ، فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ. وَإِنْ أَجَّلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْمَهْرُ صَحِيحٌ. وَمَحَلُّهُ الْفُرْقَةُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا تَزَوَّجَ عَلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، لَا يَحِلُّ الْآجِلُ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: يَبْطُلُ الْأَجَلُ، وَيَكُونُ حَالًّا، وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَقَتَادَةُ: لَا يَحِلُّ حَتَّى يُطَلِّقَ، أَوْ يَخْرُجَ مِنْ مِصْرِهَا، أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ: يَحِلُّ إلَى سَنَةٍ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْمَهْرَ فَاسِدٌ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَجْهُولُ الْمَحَلِّ، فَفَسَدَ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعَادَةُ فِي الصَّدَاقِ الْآجِلِ تَرْكُ الْمُطَالَبَةِ بِهِ إلَى حِينَ الْفُرْقَةِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَعْلُومًا بِذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ جَعَلَ لِلْآجِلِ مُدَّةً مَجْهُولَةً، كَقُدُومِ زَيْدٍ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَنَحْوِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ الْمُطْلَقُ لِأَنَّ أَجَلَهُ الْفُرْقَةُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَهَا هُنَا صَرَفَهُ عَنْ الْعَادَةِ بِذِكْرِ الْأَجَلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَبَقِيَ مَجْهُولًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ التَّسْمِيَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ التَّأْجِيلُ وَيَحِلُّ. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَهَا عَلَى مُحَرَّمٍ] (5576) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مُحَرَّمٍ، وَهُمَا مُسْلِمَانِ، ثَبَتَ النِّكَاحُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ نِصْفُهُ إنْ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 (5577) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا سَمَّى فِي النِّكَاحِ صَدَاقًا مُحَرَّمًا، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ، وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: إذَا تَزَوَّجَ عَلَى مَالٍ غَيْرِ طَيِّبٍ، فَكَرِهَهُ. فَقُلْت: تَرَى اسْتِقْبَالَ النِّكَاحِ؟ فَأَعْجَبَهُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثَبَتَ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فُسِخَ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَفْسَدَهُ بِأَنَّهُ نِكَاحٌ جُعِلَ الصَّدَاقُ فِيهِ مُحَرَّمًا، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الشِّغَارِ. وَلَنَا أَنَّهُ نِكَاحٌ لَوْ كَانَ عِوَضُهُ صَحِيحًا كَانَ صَحِيحًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ عِوَضُهُ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ كَانَ مَغْصُوبًا أَوْ مَجْهُولًا، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَفْسُدُ بِجَهَالَةِ الْعِوَضِ، فَلَا يَفْسُدُ بِتَحْرِيمِهِ كَالْخُلْعِ، وَلِأَنَّ فَسَادَ الْعِوَضِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَدَمِهِ، وَلَوْ عَدِمَ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْمَرُّوذِيِّ فِي الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ بِطَيِّبِ، وَذَلِكَ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِتَسْمِيَتِهِ فِيهِ اتِّفَاقًا. وَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مَا كَانَ فَاسِدًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهُوَ بَعْدَهُ فَاسِدٌ، كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَأَمَّا إذَا فَسَدَ الصَّدَاقُ لِجَهَالَتِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَوْ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَهُمَا مُسْلِمَانِ ". احْتِرَازٌ مِنْ الْكَافِرِينَ إذَا عُقِدَ النِّكَاحُ بِمُحَرَّمٍ، فَإِنَّ هَذِهِ قَدْ مَرَّ تَفْصِيلُهَا. (5578) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ فَسَادَ الْعِوَضِ يَقْتَضِي رَدَّ الْمُعَوَّضِ وَقَدْ تَعَذُّرَ رَدُّهُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ فَاسِدٍ، فَقَبَضَ الْمَبِيعَ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ. فَإِنْ دَخَلَ بِهَا اسْتَقَرَّ مَهْرُ الْمِثْلِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ وَتَقْرِيرِهِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَضَهُ لَهَا. وَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا كَانَ لَهَا الْمُتْعَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا سَمَّى لَهَا تَسْمِيَةً فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ كَعَدَمِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، وَبَيْنَ مَنْ سَمَّى لَهَا مُحَرَّمًا كَالْخَمْرِ، أَوْ مَجْهُولًا كَالثَّوْبِ وَفِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 إحْدَاهُمَا، لَهَا الْمُتْعَةُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ يُوجِبُ رَفْعَ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ، لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِي نِصْفِ الْمُسَمَّى لَتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ، فَكَانَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ أَوْلَى فَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ فِي أَنَّهُ يَرْتَفِعُ وَتَجِبُ الْمُتْعَةُ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّ لَهَا نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ قَدْ أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، فَيَتَنَصَّفُ بِهِ كَالْمُسَمَّى. وَالْخِرَقِيُّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَأَوْجَبَ فِي التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَفِي الْمُفَوِّضَةِ الْمُتْعَةَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُفَوِّضَةَ رَضِيَتْ بِلَا عِوَضٍ، وَعَادَ إلَيْهَا بُضْعُهَا سَلِيمًا، وَإِيجَابُ نِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهَا الْمُتْعَةَ، فَفِي إيجَابِ نِصْفِ الْمَهْرِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا أَوْ إسْقَاطٌ لِلْمُتْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ. وَأَمَّا الَّتِي اشْتَرَطَتْ لِنَفْسِهَا مَهْرًا، فَلَمْ تَرْضَ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا الْعِوَضُ الَّذِي اشْتَرَطَتْهُ، فَوَجَبَ لَهَا بَدَلُ مَا فَاتَ عَلَيْهَا مِنْ الْعِوَضِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ نِصْفُهُ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ وَالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِي الْمُفَوِّضَةِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهَا، فَفِيمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [مَسْأَلَة إذَا سَمَّى لَهَا تَسْمِيَةً فَاسِدَةً وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ] (5579) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إذَا سَمَّى لَهَا تَسْمِيَةً فَاسِدَةً، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، فَإِذَا رَضِيَتْ بِأَقَلِّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، لَمْ يُقَوَّمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا رَضِيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ الزِّيَادَةِ. وَلَنَا أَنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، كَالْمَبِيعِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لَمْ يَجِبْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَجَبَ لَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَقَلُّ الْمَهْرِ، وَلَمْ يَجِبْ مَهْرُ الْمِثْلِ. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا وَأَلْفٍ لِأَبِيهَا] (5580) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا، وَأَلْفٍ لِأَبِيهَا، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْأَلْفَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ أَخَذَهُ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَبِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ شَيْئًا مِنْ صَدَاقِ ابْنَتِهِ لِنَفْسِهِ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ لَمَّا زَوَّجَ ابْنَتَهُ، اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَجَعَلَهَا فِي الْحَجِّ وَالْمَسَاكِينِ، ثُمَّ قَالَ لِلزَّوْجِ: جَهِّزْ امْرَأَتَك. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ، لِأَنَّهُ نَقَصَ مِنْ صَدَاقِهَا لِأَجْلِ هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ إلَّا لِلزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ عِوَضُ بُضْعِهَا، فَيَبْقَى مَجْهُولًا، لِأَنَّنَا نَحْتَاجُ أَنَّ نَضُمَّ إلَى الْمَهْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ لِأَجْلِ هَذَا الشَّرْطِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فَيَفْسُدُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى، فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَجَعَلَ الصَّدَاقَ الْإِجَارَةَ عَلَى رِعَايَةِ غَنَمِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ لِلْوَالِدِ الْأَخْذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ» وَقَوْلِهِ: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَنَحْوَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، فَإِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ، يَكُونُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ، وَلَهُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ. مَمْنُوعٌ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ لِنَفْسِهِ، صَحَّ؛ بِدَلِيلِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ، فَإِنَّهُ شَرَطَ الْجَمِيعَ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا، وَأَلْفٍ لِأَبِيهَا، فَطَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ الزَّوْجُ فِي الْأَلْفِ الَّذِي قَبَضَتْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِمَّا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَالْأَلْفَانِ جَمِيعُ صَدَاقِهَا، فَرَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِمَا، وَهُوَ أَلْفٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ أَلْفًا، فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِهِ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ قَدْ قَبَّضَهَا الْأَلْفَيْنِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا، سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ أَلْفٌ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ أَلْفٌ لِلزَّوْجَةِ يَأْخُذُ الْأَبُ مِنْهَا مَا شَاءَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَقَالَ: نَقَلَهُ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ النِّصْفَ وَلَمْ يُحَصَّلْ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا النِّصْفُ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا شَاءَ، وَيَتْرُكَ مَا شَاءَ، وَإِذَا مَلَكَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ. (5581) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ غَيْرُ الْأَبِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى لَهَا. ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ "؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا بَطَلَ احْتَجْنَا أَنَّ نَرُدَّ إلَى الصَّدَاقِ مَا نَقَصَتْ الزَّوْجَةُ لِأَجْلِهِ، وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا فَيَفْسُدُ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا أَلْفَيْنِ، عَلَى أَنْ تُعْطِيَ أَخَاهَا أَلْفًا، فَالصَّدَاقُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُزَادُ فِي الْمَهْرِ مِنْ أَجَلِهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَهْرِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَنَا، أَنَّ جَمِيعَ مَا اشْتَرَطَتْهُ عِوَضٌ فِي تَزْوِيجِهَا، فَيَكُونُ صَدَاقًا لَهَا، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ لَهَا، وَإِذَا كَانَ صَدَاقًا انْتَفَتْ الْجَهَالَةُ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُشْتَرِطُ، لَكَانَ الْجَمِيعُ صَدَاقًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَخَذَ مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 ذَلِكَ وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُجْحِفًا بِمَالِ ابْنَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْحِفًا بِمَالِهَا، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَكَانَ الْجَمِيعُ لَهَا، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَهُ سَائِرُ أَوْلِيَائِهَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ. [فَصْلٌ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الصَّدَاق] (5582) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إلَيْهِ، رَجَعَ فِي نِصْفِ مَا أَعْطَى الْأَبَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي فَرَضَهُ لَهَا، فَنَرْجِعُ فِي نِصْفِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِقَدْرِ نِصْفِهِ، وَيَكُونَ مَا أَخَذَهُ الْأَبُ لَهُ، لِأَنَّنَا قَدَّرْنَا أَنَّ الْجَمِيعَ صَارَ لَهَا، ثُمَّ أَخَذَهُ الْأَبُ مِنْهَا، فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا قَبَضَتْهُ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهَا. وَهَكَذَا لَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفًا لَهَا وَأَلْفًا لِأَبِيهَا، ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْأَلْفِ الَّذِي قَبَضَهُ الْأَبُ، أَوْ عَلَيْهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة أَصْدَقَهَا عَبْدًا صَغِيرًا فَكَبِرَ] (5583) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا صَغِيرًا فَكَبِرَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ إلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، أَوْ تَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَهُ زَائِدًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَصْلُحُ صَغِيرًا لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ كَبِيرًا، فَيَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَخْذَ مَا بَذَلَتْهُ لَهُ مِنْ نِصْفِهِ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْكَامٌ؛ مِنْهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الصَّدَاقَ بِالْعَقْدِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْآثَارُ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ الْيَوْمَ فَعَلَى أَنَّهَا تَمْلِكُهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ أَعْطَيْتهَا إزَارَك، جَلَسْت وَلَا إزَارَ لَك» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ كُلَّهُ لِلْمَرْأَةِ، لَا يَبْقَى لِلرَّجُلِ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ تَمْلِكُ بِهِ الْعِوَضَ بِالْعَقْدِ، فَمُلِكَ فِيهِ الْعِوَضُ كَامِلًا كَالْبَيْعِ وَسُقُوطُ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ جَمِيعِهِ بِالْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ ارْتَدَّتْ، سَقَطَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ مَلَكَتْ نِصْفَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ نَمَاءَهُ وَزِيَادَتَهُ لَهَا، سَوَاءٌ قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ، مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا، وَإِنْ كَانَ مَالًا زَكَاتِيًّا فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، فَزَكَاتُهُ عَلَيْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِنْ نَقَصَ بَعْدَ قَبْضِهَا لَهُ أَوْ تَلِفَ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا وَلَوْ زَكَّتْهُ ثُمَّ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، كَانَ ضَمَانُ الزَّكَاةِ كُلِّهَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ، إنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يُمَكِّنْهَا مِنْ قَبْضِهِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَهَلْ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِهَا، أَوْ مِنْ ضَمَانِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْمَبِيعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي بَابِهِ. الْحُكْمُ الثَّانِي، أَنَّ الصَّدَاقَ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ حُكْمًا، كَالْمِيرَاثِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَمَا يَحْدُثُ مِنْ النَّمَاءِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَخْتَارَهُ، كَالشَّفِيعِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . أَيْ لَكُمْ أَوْ لَهُنَّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ النِّصْفَ لَهَا وَالنِّصْفَ لَهُ، بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَقِفْ الْمِلْكُ عَلَى إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، كَالْإِرْثِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ، فَنُقِلَ الْمِلْكُ بِمُجَرَّدِهِ، كَالْبَيْعِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ. وَلَا تَلْزَم الشُّفْعَةُ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا الْأَخْذُ بِهَا، وَمَتَى أَخَذَ بِهَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَقَبْلَ الْأَخْذِ مَا وُجِدَ السَّبَبُ. وَإِنَّمَا اُسْتُحِقَّ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْمِلْكِ، وَمُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُفَوَّضٌ إلَى اخْتِيَارِهِ فَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ نَظِيرُ الطَّلَاقِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْآخِذِ بِالشُّفْعَةِ نَظِيرُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُطَلِّقِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ حُكْمٌ لَهَا، وَثُبُوتُ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ مُبَاشَرَتِهَا لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِ أَحَدٍ، وَلَا إرَادَتِهِ. فَإِنْ نَقَصَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَهَا بِهِ فَمَنَعَتْهُ، فَعَلَيْهَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهَا غَاصِبَةٌ، وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ مُطَالَبَتِهِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدهَا بِغَيْرِ فِعْلِهَا، وَلَا عُدْوَانَ مِنْ جِهَتِهَا فَلَمْ تَضْمَنْهُ، كَالْوَدِيعَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُطَالَبَتِهِ لَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ التَّلَفَ أَوْ النَّقْصَ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَقَالَتْ: بَعْدَهُ. فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهَا وَهِيَ تُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الضَّمَانَ لِمَا تَلِفَ أَوْ نَقَصَ فِي يَدِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهَا بِحُكْمِ قَطْعِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ إذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِالْفَسْخِ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْمَبِيعُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ وَإِنْ سَلَّمْنَا فَإِنَّ الْفَسْخَ إنْ كَانَ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ حَصَلَ مِنْهُ التَّسَبُّبُ إلَى جَعْلِ مِلْكِ غَيْرِهِ فِي يَدِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَيْسَ مِنْ الْمَرْأَةِ فِعْلٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَى ثَوْبَهُ فِي دَارِهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا. [فَصْلٌ خَالَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ] (5584) فَصْلٌ: وَلَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَلَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 نِصْفُ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَطْءِ مَوْجُودٌ فِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَزِمَهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِهِ الْمَهْرُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنْ لُحُوقَ النَّسَبِ لَا يَقِفُ عَلَى الْوَطْءِ عِنْدَهُ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ الْأَوَّلِ، وَنِصْفُ الصَّدَاقِ الثَّانِي. بِغَيْرِ خِلَافٍ. الْحُكْمِ الثَّالِثِ، أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ، كَعَبْدٍ يَكْبَرُ أَوْ يَتَعَلَّمُ صِنَاعَةً أَوْ يَسْمَنُ، أَوْ مُتَمَيِّزَةً، كَالْوَلَدِ وَالْكَسْبِ وَالثَّمَرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً أَخَذَتْ الزِّيَادَةَ، وَرَجَعَ بِنِصْفِ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ، فَالْخِيرَةُ إلَيْهَا، إنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ إلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهَا لَا يَلْزَمُهَا بَذْلُهَا وَلَا يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَصْلِ بِدُونِهَا، فَصِرْنَا إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ إلَيْهِ نِصْفًا زَائِدًا، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهَا دَفَعَتْ إلَيْهِ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لَا تَضُرُّ وَلَا تَتَمَيَّزُ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوعُ إلَّا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا وَلَا لِوَلِيِّهَا التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا. وَإِنْ نَقَصَ الصَّدَاقُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا، وَلَا يَخْلُو أَيْضًا مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ مُتَمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا، كَعَبْدَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْبَاقِي وَنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ، أَوْ مِثْلِ نِصْفِ التَّالِفِ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَات الْأَمْثَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا، كَعَبْدٍ كَانَ شَابًّا فَصَارَ شَيْخًا، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ نَسِيَ مَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ هَزْلٍ، فَالْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ، إنْ شَاءَ رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النَّقْصِ عَلَيْهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِنِصْفِهِ نَاقِصًا، فَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ نَاقِصًا، وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ النَّقْصِ مَعَ هَذَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقِيَاسُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، كَالْمَبِيعِ يُمْسِكُهُ وَيُطَالِبُ بِالْأَرْشِ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الزِّيَادَةُ غَيْرُ الْمُتَمَيِّزَةِ تَابِعَةٌ لِلْعَيْنِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ، فَأَشْبَهَتْ زِيَادَةَ السُّوقِ. وَلَنَا أَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِهَا، فَلَمْ تُنَصَّفْ بِالطَّلَاقِ، كَالْمُتَمَيِّزَةِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ السُّوقِ فَلَيْسَتْ مِلْكَهُ، وَفَارَقَ نَمَاءَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ الْعَيْبُ، وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَسَبَبُ تَنْصِيفِ الْمَهْرِ الطَّلَاقُ، وَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي نِصْفِ الْمَفْرُوضِ دُونَ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً، كَانَ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 الرُّجُوعُ إلَى نِصْفِ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَالْمَفْرُوضُ لَمْ يَكُنْ سَمِينًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، وَالْمَبِيعُ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِعَيْنِهِ، فَتَبِعَهُ ثَمَنُهُ فَأَمَّا إنْ نَقَصَ الصَّدَاقُ مِنْ وَجْهٍ وَزَادَ مِنْ وَجْهٍ، مِثْلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ صَنْعَةً وَيَنْسَى أُخْرَى، أَوْ هَزْل وَتَعَلَّمَ، ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَى الْقِيمَةِ. فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى نِصْفِ الْعَيْنِ جَازَ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَذْلِ نِصْفِهَا، فَلَهَا ذَلِكَ لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ امْتَنَعَ هُوَ مِنْ الرُّجُوعِ فِي نِصْفِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ النَّقْصِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، رَجَعَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا. (5585) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ تَالِفَةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، رَجَعَ فِي نِصْفِ مِثْلِهَا، وَإِلَّا رَجَعَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا أَقَلُّ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْقَبْضِ أَوْ إلَى حِينِ التَّمْكِينِ مِنْهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إنْ زَادَتْ، فَالزِّيَادَةُ لَهَا تَخْتَصُّ بِهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالنَّقْصُ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ قَبْضِ الصَّدَاقِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ زَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً، فَهِيَ لَهَا، تَنْفَرِدُ بِهَا، وَتَأْخُذُ نِصْفَ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ النِّصْفَ وَيَبْقَى لَهُ النِّصْفُ، وَبَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ الْكُلَّ وَتَدْفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ النِّصْفِ غَيْرَ زَائِدَةٍ. وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا وَبَيْنَ مُطَالَبَتِهِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ غَيْرَ نَاقِصٍ. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا نَخْلًا حَائِلًا فَأَطْلَعَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5586) فَصْلٌ: إذَا أَصْدَقَهَا نَخْلًا حَائِلًا، فَأَطْلَعَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، فَأَشْبَهْت الْجَارِيَةَ إذَا سَمِنَتْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلْعُ مُؤَبَّرًا أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَصْلِ، وَلَا يَجِبُ فَصْلُهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَأَشْبَهَ السِّمَنَ وَتَعَلُّمَ الصِّنَاعَةِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ الرُّجُوعَ فِيهَا مَعَ طَلْعِهَا، أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ لَا يَجِبُ فَصْلُهَا. وَإِنْ قَالَ: اقْطَعِي ثَمَرَتَك، حَتَّى أَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْأَصْلِ. لَمْ يَلْزَمْهَا، لِأَنَّ عُرْفَ هَذِهِ الثَّمَرَةِ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِالْجُذَاذِ، بِدَلِيلِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ، فَلَمْ يَعُدْ إلَى الْعَيْنِ إلَّا بِرِضَاهَا، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: اُتْرُكْ الرُّجُوعَ حَتَّى أَجُذَّ ثَمَرَتِي وَتَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْأَصْلِ، أَوْ ارْجِعْ فِي الْأَصْلِ وَأَمْهِلْنِي حَتَّى أَقْطَعَ الثَّمَرَةَ. أَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أَصْبِرُ حَتَّى إذَا جَذَذْت ثَمَرَتَك رَجَعْت فِي الْأَصْلِ، أَوْ قَالَ: أَنَا أَرْجِعُ فِي الْأَصْلِ وَأَصْبِرُ حَتَّى تَجُذِّي ثَمَرَتَك. لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا قَبُولُ قَوْلِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ، فَلَمْ يَعُدْ إلَى الْعَيْنِ إلَّا بِرِضَاهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهَا قَبُولُ مَا عَرَضَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَهَا مَعَ طَلْعِهَا، وَكَمَا لَوْ وَجَدَ الْعَيْنَ نَاقِصَةً فَرَضِيَ بِهَا، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، جَازَ وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ الشَّجَرِ، كَالْحُكْمِ فِي النَّخْلِ. وَإِخْرَاجُ النُّورِ فِي الشَّجَرِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلْعِ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 وَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا فَحَرَثَتْهَا، فَتِلْكَ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ، إنْ بَذَلَتْهَا لَهُ بِزِيَادَتِهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهَا، كَالزِّيَادَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ تَبْذُلْهَا، دَفَعَتْ نِصْفَ قِيمَتِهَا. وَإِنْ زَرَعَتْهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ النَّخْلِ إذَا أَطْلَعَتْ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهَا إذَا بَذَلَتْ نِصْفَ الْأَرْضِ مَعَ نِصْفِ الزَّرْعِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، بِخِلَافِ الطَّلْعِ مَعَ النَّخْلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ لَا يَنْقُصُ بِهَا الشَّجَرُ، وَالْأَرْضُ تَنْقُصُ بِالزَّرْعِ وَتَضْعُفُ. الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَرَةَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ النَّخْلِ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، وَالزَّرْعُ مِلْكُهَا أَوْدَعَتْهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ، كَالطَّلْعِ سَوَاءً. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ. وَمَسَائِلُ الْغِرَاسِ كَمَسَائِلِ الزَّرْعِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْحَصَادِ، وَلَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ زَادَتْ وَلَا نَقَصَتْ، رَجَعَ فِي نِصْفِهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ بِالزَّرْعِ أَوْ زَادَتْ بِهِ رَجَعَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا، إلَّا أَنْ يَرْضَى بِأَخْذِهَا نَاقِصَةً، أَوْ تَرْضَى هِيَ بِبَذْلِهَا زَائِدَةً. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا خَشَبًا فَشَقَّتْهُ أَبْوَابًا] (5587) فَصْلٌ: وَإِذَا أَصْدَقَهَا خَشَبًا فَشَقَّتْهُ أَبْوَابًا، فَزَادَتْ قِيمَتُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهِ لِزِيَادَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُسْتَعِدًّا لِمَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ التَّسْقِيفِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، فَصَاغَتْهُ حُلِيًّا فَزَادَتْ قِيمَتُهُ، فَلَهَا مَنْعُهُ مِنْ نِصْفِهِ. وَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ النِّصْفَ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ، لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يَنْقُصُ بِالصِّيَاغَةِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ صِيَاغَتِهِ، وَإِنْ أَصْدَقَهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا، فَكَسَرَتْهُ، ثُمَّ صَاغَتْهُ عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ نِصْفِهِ، لِأَنَّهُ نَقَصَ فِي يَدِهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا بَذْلُ نِصْفِهِ؛ لِزِيَادَةِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا فِيهِ، وَإِنْ عَادَتْ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهَا، وَلَيْسَ لَهُ طَلَبُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَمَرِضَ ثُمَّ بَرِيءَ. وَإِنْ صَاغَتْ الْحُلِيَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّجُوعُ كَالدَّرَاهِمِ إذَا أُعِيدَتْ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهَا جَدَّدَتْ فِيهِ صِنَاعَةً، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَاغَتْهُ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ أَصْدَقَهَا جَارِيَةً، فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ، فَعَادَتْ إلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، فَهَلْ يَرْجِعُ فِي نِصْفِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ الصَّدَاقِ إذَا اكَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا] (5588) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الصَّدَاقِ حُكْمُ الْبَيْعِ، فِي أَنَّ مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَا يَجُوزُ لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 وَمَا عَدَاهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، وَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا كَانَ مُتَعَيِّنًا فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، كَالْقَفِيزِ مِنْ صُبْرَةٍ، وَالرِّطْلِ مِنْ زَيْتٍ مِنْ دِنٍّ، لَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، كَالْمَبِيعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَبِيعِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا أَصِلُ ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخِرَ أَنَّ مَا لَمْ يَنْتَقِضْ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ، كَالْمَهْرِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ بَذْلٌ لَا يَنْفَسِخُ السَّبَبُ الَّذِي مُلِكَ بِهِ بِهَلَاكِهِ، فَجَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هِبَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا صَدَاقَهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، وَهُوَ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فِيهِ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ مَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا إنْ تَلِفَ أَوْ نَقَصَ، وَمَا لَا تَصَرُّفَ لَهَا فِيهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ. وَإِنْ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْضَهُ، أَوْ لَمْ يُمَكِّنْهَا مِنْهُ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَادِيَةٌ فَضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ. وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى هَذَا الْغُلَامِ، فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ، فَهُوَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ، فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ جَعَلَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ. إذَا تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَبْطُلْ الصَّدَاقُ بِتَلَفِهِ، وَيَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَرْجِعُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ تَلَفَ الْعِوَضِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ فِي الْمُعَوَّضِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ رَجَعَ إلَى قِيمَتِهِ، كَالْمَبِيعِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ هُوَ الْقِيمَةُ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا مَعَ وُجُودِهَا إذَا تَلِفَتْ مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهَا، فَالْوَاجِبُ بَدَلُهَا، كَالْمَغْصُوبِ وَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ، وَفَارَقَ الْمَبِيعَ إذَا تَلِفَ فَإِنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ، وَزَالَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ التَّالِفَ فِي يَدِ الزَّوْجِ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَتْلَفَ بِفِعْلِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا مِنْهَا، وَيَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ ضَمَانُهُ. وَالثَّانِي، تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَضْمَنُهُ لَهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّالِثُ، أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ، وَبَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الزَّوْجِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُتْلِفِ. الرَّابِعُ، تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ] (5589) فَصْلٌ: إذَا طَلَّقَ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِي الصَّدَاقِ بِعَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 أَحَدُهَا، مَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الرَّقَبَةِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ، فَهَذَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ؛ لِزَوَالِ مِلْكِهَا، وَانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهَا. فَإِنْ عَادَتْ الْعَيْنُ إلَيْهَا قَبْلَ طَلَاقِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي يَدِهَا بِحَالِهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْوَالِدَ إذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا فَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ، حَيْثُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، لِأَنَّنَا نَمْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدِ سَقَطَ بِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِ الْوَلَدِ بِكُلِّ حَالٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِبَذْلِهِ، وَالزَّوْجُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَإِذَا وُجِدَ كَانَ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِهِ أَوْلَى. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ التَّصَرُّفَات الرَّهْنُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ الْمِلْكَ عَنْ الرَّقَبَةِ، لَكِنَّهُ يُرَادُ لِلْبَيْعِ الْمُزِيلِ لِلْمِلْكِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَفِي الرُّجُوعِ فِي الْعَيْنِ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ، فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ، فَإِنَّهَا تُرَادُ لِلْعِتْقِ الْمُزِيلِ لِلْمِلْكِ، وَهِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَجَرَتْ مَجْرَى الرَّهْنِ. فَإِنْ طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ إقْبَاضِ الْهِبَةِ أَوْ الرَّهْنِ، أَوْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تُجْبَرُ عَلَى رَدِّ نِصْفِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَقَدَتْهُ فِي مِلْكِهَا، فَلَمْ تَمْلِكْ إبْطَالَهُ، كَاللَّازِمِ، وَلِأَنَّ مِلْكَهَا قَدْ زَالَ، فَلَمْ تَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهَا. وَالثَّانِي، تُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا زِيَادَةَ فِيهَا. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ تَقْبِيضِ الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَلُزُومِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَأْخُذْ قِيمَةَ النِّصْفِ حَتَّى فُسِخَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي الْقِيمَةِ. الثَّانِي تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، كَالْوَصِيَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَهَذَا لَا يُبْطِلُ حَقَّ الرُّجُوعِ فِي نِصْفِهِ، وَيَكُونُ وُجُودُ هَذَا التَّصَرُّفِ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْمَالِكَ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْنَعُ مَنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ الرُّجُوعِ، كَالْإِيدَاعِ وَالْعَارِيَّةِ. فَأَمَّا إنْ دَبَّرَتْهُ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، أَوْ تَعْلِيقُ نِصْفِهِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ كَالْوَصِيَّةِ. وَلَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي نِصْفِهِ، بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ مَنْ نِصْفُهُ مُدَبَّرٌ نَقْصٌ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَرْفَعَ إلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ فَيَحْكُمَ بِعِتْقِهِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَدَبَّرَتْهَا، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، إنْ قُلْنَا: تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ فَهِيَ كَالْعَبْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُبَاعُ. لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي نِصْفِهَا. وَإِنْ كَاتَبَتْ الْأَمَةَ أَوْ الْعَبْدَ، لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ. وَإِنْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ، وَقُلْنَا: الْكِتَابَةُ تَمْنَعُ الْبَيْعَ. مَنَعَتْ الرُّجُوعَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَمْنَعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 الْبَيْعَ. احْتَمَلَ أَنْ لَا تَمْنَعَ الرُّجُوعَ كَالتَّدْبِيرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ يُرَادُ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، فَمَنَعْت الرُّجُوعَ كَالرَّهْنِ. الثَّالِثُ: تَصَرُّفٌ لَازِمٌ لَا يُرَادُ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ، فَهَذَا نَقْصٌ، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِهِ نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَقِّهِ نَاقِصًا، وَبَيْنَ الرُّجُوعِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، فَإِنْ رَجَعَ فِي نِصْفِ الْمُسْتَأْجَرِ، صَبَرَ حَتَّى تَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِي الطَّلْعِ الْحَادِثِ فِي النَّخْلِ: إذَا قَالَ: أَنَا أَصْبِرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ الثَّمَرَةُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَكُونُ الْمِنَّةُ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُهَا قَبُولُ مِنَّتِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّنَازُعِ فِي سَقْيِ الثَّمَرَةِ، وَوَقْتِ جُذَاذِهَا، وَقَطْعِهَا لِخَوْفِ الْعَطَشِ أَوْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا شِقْصًا فَهَلْ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ] (5590) فَصْلٌ: فَإِنْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا، فَهَلْ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَخْذُهُ. فَأَخَذَهُ، ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجُ، رَجَعَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ مِلْكُهَا عَنْهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَطَالَبَ الشَّفِيعُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ، وَحَقُّ الزَّوْجِ ثَبَتَ بِالطَّلَاقِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَحَقُّ الشَّفِيعِ إذَا بَطَلَ بَطَلِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآن وَالْإِجْمَاعِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ أَخْذُ النِّصْفِ الْبَاقِي بِنِصْفِ مَا كَانَ يَأْخُذُ بِهِ الْجَمِيعَ. [مَسْأَلَة اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ] (5591) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي قَدْرِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ عَلَى مَبْلَغِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَا ادَّعَتْ مَهْرَ مِثْلِهَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، وَلَا بَيِّنَةَ عَلَى مَبْلَغِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْهُمَا؛ فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ نَحْوُهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُسْتَنْكَرًا، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ مَهْرًا لَا يَتَزَوَّجُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكِلَ الْآخِرُ، ثَبَتَ مَا قَالَهُ، وَإِنْ حَلَفَا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَبِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 قَالَ الثَّوْرِيُّ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْعَقْدِ، وَلَا بَيِّنَةَ، فَيَتَحَالَفَانِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَحَالَفَا وَفُسِخَ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ فِي التَّحَالُفِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَلِأَنَّهَا إذَا أَسْلَمَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ، فَقَدْ رَضِيَتْ بِأَمَانَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، قِيَاسًا عَلَى الْمُنْكِرِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَعَلَى الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى التَّلَفَ أَوْ الرَّدَّ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَنْفَسِخُ بِالتَّحَالُفِ فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ كَالْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّحَالُفِ يُفْضِي إلَى إيجَابِ أَكْثَرِ مِمَّا يَدَّعِيهِ أَوْ أَقَلِّ مِمَّا يُقِرُّ لَهَا بِهِ فَإِنَّهَا إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةً فَادَّعَتْ ثَمَانِينَ وَقَالَ: بَلْ هُوَ خَمْسُونَ أَوْجَبَ لَهَا عِشْرِينَ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَلَوْ ادَّعَتْ مِائَتَيْنِ، وَقَالَ: بَلْ هُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ، فَأَوْجَبَ مِائَةً لَأَسْقَطَ خَمْسِينَ يَتَّفِقَانِ عَلَى وُجُوبِهَا. وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يُوَافِقْ دَعْوَى أَحَدِهِمَا، لَمْ يَجُزْ إيجَابُهُ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، وَإِنْ وَافَقَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا، فَلَا حَاجَةَ فِي إيجَابِهِ إلَى يَمِينِ مَنْ يَنْفِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي إيجَابِهِ، وَفَارَقَ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ بِالتَّحَالُفِ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِهِ. وَمَا ادَّعَاهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهَا اسْتَأْمَنَتْهُ، لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَجْعَلْهُ أَمِينَهَا، وَلَوْ كَانَ أَمِينًا لَهَا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَمِينَةً لَهُ، حِينَ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَدَمُ الْإِشْهَادِ، فَقَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَتَمُوتُ أَوْ تَغِيبُ أَوْ تَنْسَى الشَّهَادَةَ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ فَهُوَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِيمَا يَجُوزُ بَذْلُهُ، تُشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى فِي الْأَمْوَالِ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُشْرَعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى فِي النِّكَاحِ. [فَصْلٌ ادَّعَى أَقَلّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَادَّعَتْ هِيَ أَكْثَرَ مِنْهُ] (5592) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَادَّعَتْ هِيَ أَكْثَرَ مِنْهُ رُدَّ، إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا يَمِينًا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَحَالَفَا؛ فَإِنَّ مَا يَقُولُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَّا بِيَمِينِ مِنْ صَاحِبِهِ، كَالْمُنْكِرِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي عَدَمِ الظُّهُورِ، فَيُشْرَعُ التَّحَالُفُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْبَاقُونَ عَلَى أُصُولِهِمْ. [فَصْلٌ قَالَ تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ] (5593) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ. فَقَالَتْ: بَلْ عَلَى هَذِهِ الْأَمَةِ. وَكَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مَهْرَ الْمِثْلِ، أَوْ أَكْثَرَ، وَقِيمَةُ الْأَمَةِ فَوْقَ ذَلِكَ، حَلَفَ الزَّوْجُ وَوَجَبَتْ لَهَا قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يُوَافِقُ الظَّاهِرَ، وَلَا تَجِبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 عَيْنُ الْعَبْدِ، لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي مِلْكِهَا مَا يُنْكِرُهُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْأَمَةِ مَهْرَ الْمِثْلِ، أَوْ أَقَلَّ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا. وَهَلْ تَجِبُ الْأَمَةُ أَوْ قِيمَتُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَيْنُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّنَا قَبِلْنَا قَوْلَهَا فِي الْقَدْرِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إدْخَالُ مَا يُنْكِرُهُ فِي مِلْكِهَا. وَالثَّانِي، تَجِبُ لَهَا قِيمَتُهَا، لِأَنَّ قَوْلَهَا إنَّمَا وَافَقَ الظَّاهِرَ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الْعَيْنِ، فَأَوْجَبْنَا لَهَا مَا وَافَقَتْ الظَّاهِرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْأَمَةُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ إذَا تَحَالَفَا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُشْرَعُ فِي هَذَا كُلِّهِ. [مَسْأَلَة أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ] (5594) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ، فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، مَا ادَّعَتْ مَهْرَ مِثْلِهَا، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تُبْرِئُهُ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَنْكَرَ صَدَاقَ امْرَأَتِهِ، وَادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيمَا يُوَافِقُ مَهْرَ مِثْلِهَا، سَوَاءٌ ادَّعَى أَنَّهُ وَفَّى مَا لَهَا، أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ، أَوْ قَالَ: لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَالدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ يَقْطَعُ الصَّدَاقَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ قَالَ أَصْحَابُهُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ تَعْجِيلَ الصَّدَاقِ، كَمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ كَانَ الْخِلَافُ فِيمَا تُعَجِّلُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ نَفْسَهَا فِي الْعَادَةِ إلَّا بِقَبْضِهِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ ادَّعَى تَسْلِيمَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَمْ يُقْبَلْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ ادَّعَى تَسْلِيمَ الثَّمَنِ، أَوْ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ. [فَصْلٌ دَفَعَ إلَيْهَا أَلْفًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ دَفَعْتهَا إلَيْك صَدَاقًا] (5595) فَصْلٌ: فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهَا أَلْفًا ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ: دَفَعْتهَا إلَيْك صَدَاقًا. وَقَالَتْ: بَلْ هِبَةً فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 فِي نِيَّتِهِ كَأَنْ قَالَتْ: قَصَدْت الْهِبَةَ. وَقَالَ: قَصَدْت دَفْعَ الصَّدَاقِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَاهُ، وَلَا تَطَّلِعُ الْمَرْأَةُ عَلَى نِيَّتِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي لَفْظِهِ، فَقَالَتْ: قَدْ قُلْت خُذِي هَذَا هِبَةً أَوْ هَدِيَّةً. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَقْدًا عَلَى مِلْكِهِ، وَهُوَ يُنْكِرُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ بَيْعَ مِلْكِهِ لَهَا، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، كَأَنْ أَصْدَقَهَا دَرَاهِمَ، فَدَفَعَ إلَيْهَا عِوَضًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا، وَحَلَفَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهَا ذَلِكَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَلِلْمَرْأَةِ رَدُّ الْعَرْضِ، وَمُطَالَبَتُهُ بِصَدَاقِهَا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، فَبَعَثَ إلَيْهَا بِقِيمَتِهِ مَتَاعًا وَثِيَابًا، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ أَنَّهُ مِنْ الصَّدَاقِ، فَلَمَّا دَخَلَ سَأَلَتْهُ الصَّدَاقَ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ بَعَثْت إلَيْك بِهَذَا الْمَتَاعِ، وَاحْتَسَبْتُهُ مِنْ الصَّدَاقِ. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: صَدَاقِي دَرَاهِمُ: تَرُدُّ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِصَدَاقِهَا. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إذَا لَمْ يُخْبِرْهُمْ أَنَّهُ صَدَاقٌ، فَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهَا احْتَسَبَتْ بِهِ مِنْ الصَّدَاقِ، وَادَّعَتْ هِيَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ هِبَةٌ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَتَرَاجَعَانِ بِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهَدِيَّتِهِ، كَالثَّوْبِ وَالْخَاتَمِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ انْتِقَالِ مِلْكِهِ إلَى يَدِهَا، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْدَعْتُك هَذِهِ الْعَيْنَ. قَالَتْ: بَلْ وَهَبْتهَا. [فَصْلٌ مَاتَ الزَّوْجَانِ وَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا] (5596) فَصْلٌ: إذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ، وَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا، قَامَ وَرَثَةُ كُلِّ إنْسَانٍ مَقَامَهُ، إلَّا أَنَّ مَنْ يَحْلِفُ مِنْهُمْ عَلَى الْإِثْبَاتِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ، وَمَنْ يَحْلِفُ عَلَى النَّفْي يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجَانِ، فَادَّعَى وَرَثَةُ الْمَرْأَةِ التَّسْمِيَةَ، وَأَنْكَرَهَا وَرَثَةُ الزَّوْجِ جُمْلَةً، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. قَالَ أَصْحَابُهُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الصِّفَاتُ وَالْأَوْقَاتُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ زُفَرُ: بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الصَّدَاقِ. وَلَنَا أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، قَامَ وَرَثَتُهُمَا مَقَامَهُمَا، كَالْمُتَبَايِعِينَ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَقُّ لَتَقَادَمَ الْعَهْدِ، وَلَا يَتَعَذَّر الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ، كَقِيَمِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَأَبُو الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ] (5597) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَأَبُو الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، قَامَ الْأَبُ مَقَامَ الزَّوْجَةِ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيمَا اعْتَرَفَ بِهِ مِنْ الصَّدَاقِ، فَسُمِعَتْ يَمِينُهُ فِيهِ، كَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَتَّى بَلَغَتْ وَعَقَلَتْ، فَالْيَمِينُ عَلَيْهَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ هُوَ لِتَعَذُّرِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَتِهَا، فَإِذَا أَمْكَنَ فِي حَقِّهَا، صَارَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، كَالْوَصِيِّ إذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ قُبِلَ يَمِينُهُ فِيمَا يَحْلِفُ فِيهِ. فَأَمَّا أَبُو الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَلَا تُسْمَعُ مُخَالَفَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ قَوْلُهَا مَقْبُولٌ فِي الصَّدَاقِ، وَالْحَقُّ لَهَا دُونَهُ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ، إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ فِي بِنْتِ تِسْعٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَلَوْ زَوَّجُوهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، ثَبَتَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ زَوَّجَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَالْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ. [فَصْلٌ أَنْكَرَ الزَّوْجُ تَسْمِيَةَ الصَّدَاقِ] (5598) فَصْلٌ: إذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ تَسْمِيَةَ الصَّدَاقِ، وَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ نَظَرْنَا فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ وَجَبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ لَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَهِيَ مُقِرَّةٌ بِنَقْصِهَا عَمَّا يَجِبُ لَهَا بِدَعْوَى الزَّوْجِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ، ذَلِكَ وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ. فَلَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ. قُبِلَ قَوْلُهَا مَا ادَّعَتْ مَهْرَ مِثْلِهَا. هَذَا إذَا طَلَّقَهَا، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا، فُرِضَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ] (5599) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا الْمُتْعَةُ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ صَدَاقٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] وَمَتِّعُوهُنَّ وَرُوِيَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، امْرَأَةٍ مِنَّا مِثْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 مَا قَضَيْت» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ النِّكَاحِ الْوَصْلَةُ وَالِاسْتِمْتَاعُ دُونَ الصَّدَاقِ فَصَحَّ مِنْ غَيْرِهِ ذِكْرُهُ كَالنَّفَقَةِ. وَسَوَاءٌ تَرَكَا ذِكْرَ الْمَهْرِ، أَوْ شَرَطَا نَفْيَهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُك بِغَيْرِ مَهْرٍ. فَيَقْبَلُهُ كَذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك بِغَيْرِ مَهْرٍ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الثَّانِي. صَحَّ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْمَوْهُوبَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِيمَا إذَا قَالَ: زَوَّجْتُك بِغَيْرِ مَهْرٍ. فَيَصِحُّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَمَا صَحَّ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ، صَحَّ فِي الْأُخْرَى. وَلَيْسَتْ كَالْمَوْهُوبَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَفْسُدُ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُزَوَّجَةَ بِغَيْرِ مَهْرٍ تُسَمَّى مُفَوِّضَةً، بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْحِهَا، فَمِنْ كَسَرَ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا فَاعِلَةٌ، مِثْلُ مُقَوِّمَةٍ، وَمِنْ فَتَحَ أَضَافَهُ إلَى وَلِيِّهَا. وَمَعْنَى التَّفْوِيضِ الْإِهْمَالُ، كَأَنَّهَا أَهْمَلَتْ أَمْرَ الْمَهْرِ، حَيْثُ لَمْ تُسَمِّهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِر: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا يَعْنِي مُهْمَلِينَ. وَالتَّفْوِيضُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ تَفْوِيضُ بُضْعٍ، وَتَفْوِيضُ مَهْرٍ. فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَفَسَّرْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إطْلَاقُ التَّفْوِيضِ، وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْمَهْرِ، فَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّدَاقَ إلَى رَأْيِ أَحَدِهِمَا، أَوْ رَأْيِ أَجْنَبِيٍّ، فَيَقُولُ: زَوَّجْتُك عَلَى مَا شِئْت، أَوْ عَلَى حُكْمِك أَوْ عَلَى حُكْمِي، أَوْ حُكْمِهَا، أَوْ حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ. وَنَحْوِهِ. فَهَذِهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فِي ظَاهِرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهَا لَمْ تُزَوِّجْ نَفْسَهَا إلَّا بِصَدَاقٍ، لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ، فَسَقَطَ لِجَهَالَتِهِ، وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالتَّفْوِيضُ الصَّحِيحُ، أَنْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ الْجَائِزَةُ الْأَمْرُ لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ بِتَفْوِيضِ قَدْرِهِ، أَوْ يُزَوِّجَهَا أَبُوهَا كَذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَهْرًا، بِغَيْرِ إذْنِهَا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَفْوِيضُهُ. فَإِذَا طَلُقَتْ الْمُفَوِّضَةُ الْبُضْعَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمُتْعَةُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْوَاجِبَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَيُوجِبُ نِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، كَمَا لَوْ سَمَّى مُحَرَّمًا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْمُتْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] فَخَصَّهُمْ بِهَا فَيَدُلُّ أَنَّهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ، وَالْإِحْسَانُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَخْتَصَّ الْمُحْسِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] . وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحٍ يَقْتَضِي عِوَضًا، فَلَمْ يُعْرَ عَنْ الْعِوَضِ، كَمَا لَوْ سَمَّى مَهْرًا. وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ مِنْ الْإِحْسَانِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5600) فَصْلٌ: فَإِنْ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا نِصْفُ مَا فَرَضَ لَهَا، وَلَا مُتْعَةَ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ، يَسْقُطُ الْمَهْرُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَرِيَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْمُتْعَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ، فَتُنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 [فَصْل أُوجِبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ] (5601) فَصْلٌ: وَمَنْ أَوْجَبَ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ، لَمْ تَجِبْ لَهَا مُتْعَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّنْ سُمِّيَ لَهَا صَدَاقٌ أَوْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا لَكِنْ فُرِضَ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي مَنْ سُمِّيَ لَهَا. وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] إلَى قَوْلِهِ {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُفَوِّضَةً أَوْ مُسَمًّى لَهَا، مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُفَوِّضَةِ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا إذَا طَلُقَتْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا أَعْلَمُ، رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِالْمُتْعَةِ إلَّا لِمَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ، إلَّا حَنْبَلًا، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدِي لَوْلَا تَوَاتُرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِخِلَافِهَا. وَلَنَا: قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . فَخَصَّ الْأُولَى بِالْمُتْعَةِ، وَالثَّانِيَةَ بِنِصْفِ الْمَفْرُوضِ، مَعَ تَقْسِيمِهِ النِّسَاءَ قِسْمَيْنِ، وَإِثْبَاتِهِ لِكُلِّ قِسْمٍ حُكْمًا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ كُلِّ قِسْمٍ بِحُكْمِهِ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا ذَكَرُوهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَمْرُ بِالْمَتَاعِ فِي غَيْرِ الْمُفَوِّضَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِدَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا، جَمْعًا بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ عِوَضٌ وَاجِبٌ فِي عَقْدٍ، فَإِذَا سُمِّيَ فِيهِ عِوَضٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَجِبْ غَيْرُهُ، كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَلَمْ تَجِبْ لَهَا عِنْدَ الْفُرْقَةِ، كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْمُسَمَّى لَهَا أَوْ الْمُفَوِّضَةَ الْمَفْرُوضَ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ] فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَّقَ الْمُسَمَّى لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ الْمُفَوِّضَةَ الْمَفْرُوضَ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَا مُتْعَةَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا عَلَى رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُمَتِّعَهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: أَنَا أُوجِبُهَا عَلَى مَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 فَإِنْ كَانَ سَمَّى صَدَاقًا، فَلَا أُوجِبُهَا عَلَيْهِ، وَأَسْتَحِبُّ أَنْ يُمَتِّعَ وَإِنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا. وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِعُمُومِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهَا، وَدَلَالَتِهَا عَلَى إيجَابِهَا. وَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ بِهَا، فَلَمَّا امْتَنَعَ الْوُجُوبُ لِدَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ، وَدَلَالَةِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، تَعَيَّنَ حَمْلُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، فَلَا مُتْعَةَ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْعَامَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ الْمُطَلَّقَاتِ، وَلِأَنَّهَا أَخَذَتْ الْعِوَضَ الْمُسَمَّى لَهَا فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهَا بِهِ سِوَاهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. [فَصْلٌ الْمُتْعَةُ تَجِبُ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ] (5603) فَصْلٌ: وَالْمُتْعَةُ تَجِبُ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ، لِكُلِّ زَوْجَةٍ مُفَوِّضَةٍ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، وَالْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا مُتْعَةَ لِلذِّمِّيَّةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنْ كَانَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، فَلَا مُتْعَةَ. وَلَنَا عُمُومُ النَّصِّ وَلِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ نِصْفِ الْمَهْرِ فِي حَقِّ مَنْ سُمِّيَ، فَتَجِبُ لِكُلِّ زَوْجَةٍ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ كَنِصْفِ الْمُسَمَّى، وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الْعِوَضِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ، كَالْمَهْرِ. [فَصْلٌ فِي الْمُفَوِّضَةُ الْمَهْرَ] (5604) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُفَوِّضَةُ الْمَهْرَ، وَهِيَ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا عَلَى مَا شَاءَ أَحَدُهُمَا، أَوْ الَّتِي زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ بِغَيْرِ إذْنِهَا، أَوْ الَّتِي مَهْرُهَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَيَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا مُتْعَةَ لَهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الَّتِي مَهْرُهَا فَاسِدٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ دُونَ نِصْفِ الْمَهْرِ، كَالْمُفَوِّضَةِ الْبُضْعَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ خَلَا عَقْدُهَا مِنْ تَسْمِيَةٍ صَحِيحَةٍ، فَأَشْبَهَتْ الَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ لَهَا مَهْرٌ وَاجِبٌ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ، كَمَا لَوْ سَمَّاهُ. أَوْ نَقُولُ: لَمْ تَرْضَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَلَمْ تَجِبْ الْمُتْعَةُ، كَالْمُسَمَّى لَهَا. وَتُفَارِقُ الَّتِي رَضِيَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ فَإِنَّهَا رَضِيَتْهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَعَادَ بُضْعُهَا سَلِيمًا، فَعَوَّضَتْ الْمُتْعَةَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ كُلُّ فُرْقَةٍ يَتَنَصَّفُ بِهَا الْمُسَمَّى تُوجِبُ الْمُتْعَةَ] (5605) فَصْلٌ: وَكُلُّ فُرْقَةٍ يَتَنَصَّفُ بِهَا الْمُسَمَّى، تُوجِبُ الْمُتْعَةَ، إذَا كَانَتْ مُفَوِّضَةً، وَمَا يَسْقُطُ بِهِ الْمُسَمَّى مِنْ الْفُرَقِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 كَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَالْفَسْخِ بِالرَّضَاعِ وَنَحْوِهِ، إذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، لَا تَجِبُ بِهِ مُتْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ نِصْفِ الْمُسَمَّى، فَسَقَطَتْ فِي مَوْضِعٍ يَسْقُطُ، كَمَا تَسْقُطُ الْأَبْدَالُ بِمَا يُسْقِطُ مُبْدَلَهَا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ وَهَبَ لَهَا غُلَامًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5606) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا مَهْرًا، ثُمَّ وَهَبَ لَهَا غُلَامًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. قَالَ: لَهَا الْمُتْعَةُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَنْقَضِي بِهَا الْمُتْعَةُ، كَمَا لَا يَنْقَضِي بِهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ قَضَاؤُهَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَا تَنْقَضِي بِالْهِبَةِ، كَالْمُسَمَّى. [مَسْأَلَة الْمُتْعَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ] (5607) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، فَأَعْلَاهُ خَادِمٌ، وَأَدْنَاهُ كُسْوَةٌ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَشَاءَ هُوَ أَنْ يُزِيدَهَا، أَوْ تَشَاءَ هِيَ أَنْ تُنْقِصَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتْعَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الزَّوْجِ، فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الْآخِرُ قَالُوا: هُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُعْتَبَرٌ بِهَا، كَذَلِكَ الْمُتْعَةُ الْقَائِمَةُ مَقَامَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُ فِي الْمُتْعَةِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، كَمَا يُجْزِئُ فِي الصَّدَاقِ ذَلِكَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الزَّوْجِ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ، وَلَوْ أَجْزَأَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ سَقَطَ الِاخْتِلَافُ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ بِحَالِ الْمَرْأَةِ لَمَا كَانَ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَعْلَاهَا خَادِمٌ، هَذَا إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مَتَّعَهَا كُسْوَتَهَا دِرْعًا وَخِمَارًا وَثَوْبًا تُصَلِّي فِيهِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْلَى الْمُتْعَةِ الْخَادِمُ ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ النَّفَقَةُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ الْكُسْوَةُ. وَنَحْوُ مَا ذَكَرْنَا فِي أَدْنَاهَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، قَالُوا: دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُرْجَعُ فِي تَقْدِيرِهَا إلَى الْحَاكِمِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَرِد الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الِاجْتِهَادِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْحَاكِمِ، كَسَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " رِوَايَةً ثَالِثَةً: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمَا يُصَادِفُ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ. فَيَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِهِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَضْعُفُ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ يَقْتَضِي تَقْدِيرَهَا بِحَالِ الزَّوْجِ، وَتَقْدِيرُهَا بِنِصْفِ مَهْر الْمِثْلِ يُوجِبُ اعْتِبَارَهَا بِحَالِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ مَهْرَهَا مُعْتَبَرٌ بِهَا لَا بِزَوْجِهَا. الثَّانِي، أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَاهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ لَكَانَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ، إذْ لَيْسَ الْمَهْرُ مُعَيَّنًا فِي شَيْءٍ وَلَا الْمُتْعَةُ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسِ: أَعْلَى الْمُتْعَةُ الْخَادِمُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ الْكُسْوَةُ. رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ. وَقَدَّرَهَا بِكُسْوَةٍ تَجُوزُ لَهَا الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكُسْوَةَ الْوَاجِبَةَ بِمُطْلَقِ الشَّرْعِ تَتَقَدَّرُ بِذَلِكَ، كَالْكُسْوَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالسُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَرَوَى كَنِيفُ السُّلَمِيُّ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمَاضُرَ الْكَلْبِيَّةَ، فَحَمَّمَهَا بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ. يَعْنِي مَتَّعَهَا. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُتْعَةَ التَّحْمِيمَ. وَهَذَا فِيمَا إذَا تَشَاحَّا فِي قَدْرِهَا، فَإِنْ سَمَحَ لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْخَادِمِ، أَوْ رَضِيت بِأَقَلِّ مِنْ الْكُسْوَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ بَذْلُهُ، فَجَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَالصَّدَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ مَتَّعَ امْرَأَةً بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ. [مَسْأَلَة طَالَبَتْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا] (5608) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ طَالَبَتْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ فَرَضَ لَهَا مَهْرَ مِثْلهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ فَرَضَ لَهَا أَقَلَّ مِنْهُ فَرَضِيتَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِفَرْضِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنْ الْمَهْرِ فَوَجَبَتْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِبَيَانِ قَدْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. فَإِنْ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى فَرْضِهِ، جَازَ مَا فَرَضَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، سَوَاءٌ كَانَا عَالِمَيْنِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ غَيْرَ عَالَمِينَ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: لَا يَصِحُّ الْفَرْضُ بِغَيْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا مَعَ عِلْمِهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مَا يَفْرِضُهُ بَدَلٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ مَعْلُومًا. وَلَنَا أَنَّهُ إذَا فَرَضَ لَهَا كَثِيرًا، فَقَدْ بَذَلَ مِنْ مَالِهِ فَوْقَ مَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ رَضِيت بِالْيَسِيرِ، فَقَدْ رَضِيت بِدُونِ مَا يَجِبُ لَهَا، فَلَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ بَدَلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْبَدَلَ غَيْرُ الْمُبْدَلِ، وَالْمَفْرُوضُ إنْ كَانَ نَاقِصًا فَهُوَ بَعْضُهُ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ الْوَاجِبُ وَزِيَادَةٌ، فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ بَدَلًا، وَلَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 كَانَ بَدَلًا لَمَا جَازَ مَعَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يُبْدِلُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَقَدْ رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَجُلٍ: «أَتَرْضَى أَنِّي أُزَوِّجُك فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَتَرْضِينَ أَنْ أُزَوِّجَك فُلَانًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَنِي فُلَانَةَ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا، وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتهَا عَنْ صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، فَأَخَذَتْ سَهْمَهُ، فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ» . فَأَمَّا إنْ تَشَاحَّا فِيهِ، فَفَرَضَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِسِوَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِهِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهَا حَتَّى تَرْضَاهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا بِفَرْضِهِ مَا لَمْ تَرْضَ بِهِ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ فَرَضَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِتَمَامِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهَا مَا لَمْ تَرْضَ بِهِ. وَإِنْ تَشَاحَّا، وَارْتَفَعَا، إلَى الْحَاكِمِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا إلَّا مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَيْلٌ عَلَيْهِ، وَالنُّقْصَانَ مِيلٌ عَلَيْهَا، وَالْعَدْلُ الْمِثْلُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفْرَضُ بَدَلُ الْبُضْعِ، فَيُقَدَّرُ بِهِ، كَالسِّلْعَةِ إذَا تَلِفَتْ فَرَجَعَا فِي تَقْوِيمِهَا إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. وَيُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى إمْكَانِ فَرْضِهِ. وَمَتَى صَحَّ الْفَرْضُ صَارَ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فِي أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ مَعَهُ. وَإِذَا فَرَضَهُ الْحَاكِمُ، لَزِمَ مَا فَرَضَهُ، سَوَاءٌ رَضِيَتْهُ أَوْ لَمْ تَرْضَهُ. كَمَا يَلْزَمُ مَا حَكَمَ بِهِ. [فَصْلٌ فَرَضَ لَهَا أَجْنَبِيٌّ مَهْرَ مِثْلِهَا فَرَضِيَتْهُ] (5609) فَصْلٌ: وَإِنْ فَرَضَ لَهَا أَجْنَبِيٌّ مَهْرَ مِثْلِهَا، فَرَضِيَتْهُ، لَمْ يَصِحَّ فَرْضُهُ، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ وَلَا حَاكِمٍ. فَإِنْ سَلَّمَ إلَيْهَا مَا فَرَضَهُ لَهَا، فَرَضِيَتْهُ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ مَنْ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَيَسْتَرْجِعُ مَا أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ، مَا صَحَّ، وَلَا بَرِئَتْ بِهِ ذِمَّةُ الزَّوْجِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجِ فِي قَضَاءِ الْمُسَمَّى، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ غَيْرُ الْمُسَمَّى. فَعَلَى هَذَا، إذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ نِصْفُهُ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ إيَّاهُ حِينَ قَضَى بِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَيَعُودُ إلَيْهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ هُوَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَذَكَرُوا وَجْهًا ثَالِثًا، أَنَّهُ يَرْجِعُ نِصْفُهُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَجْهًا لَنَا ثَالِثًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَضَى الْمُسَمَّى عَنْ الزَّوْجِ، صَحَّ، ثُمَّ إنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ نِصْفُهُ إلَيْهِ، وَإِنْ فَسَخَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا بِفِعْلِ مِنْ جِهَتِهَا، رَجَعَ جَمِيعُهُ إلَيْهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخِرِ، يَرْجِعُ إلَى مَنْ قَضَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 [فَصْلٌ يَجِبُ الْمَهْرُ لِلْمُفَوِّضَةِ بِالْعَقْدِ] (5610) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْمَهْرُ لِلْمُفَوِّضَةِ، بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ إلَى الْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ بِالْعَقْدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَا يَجِيءُ عَلَى أَصِلْ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ، كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. وَلَنَا، أَنَّهَا تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا، كَالْمُسَمَّى، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، لَمَا اسْتَقَرَّ بِالْمَوْتِ، كَمَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْمَهْرِ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ يُفْضِي إلَى خُلُوِّهِ عَنْهُ، وَإِلَى أَنَّ النِّكَاحَ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَمَلَكَ الزَّوْجُ الْوَطْءَ وَلَا مَهْرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَنَصَّفْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَهَا بِالطَّلَاقِ إلَى الْمُتْعَةِ كَمَا نَقَلَ مَنْ سُمِّيَ لَهَا إلَى نِصْفِ الْمُسَمَّى لَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ فَوَّضَ الرَّجُلُ مَهْرَ أَمَتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَوْ بَاعَهَا، ثُمَّ فُرِضَ لَهَا الْمَهْرُ، كَانَ لِمُعْتِقِهَا أَوْ بَائِعِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ فَوَّضَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، ثُمَّ طَالَبَتْ بِفَرْضِ مَهْرِهَا بَعْدَ تَغَيُّرِ مَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ دَخَلَ بِهَا، لَوَجَبَ مَهْرُ مِثْلِهَا حَالَةَ الْعَقْدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَوَافَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ، إلَّا فِي الْأَمَةِ الَّتِي أَعْتَقَهَا أَوْ بَاعَهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَ إعْطَائِهَا شَيْئًا] (5611) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَ إعْطَائِهَا شَيْئًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُفَوِّضَةً أَوْ مُسَمًّى لَهَا. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ: لَا يَدْخُلُ بِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَخْلَعُ إحْدَى نَعْلَيْهِ، وَيُلْقِيهَا إلَيْهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ، أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطِهَا دِرْعَك. فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا.» وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، قَالَ: «لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطِهَا شَيْئًا. قَالَ: مَا عِنْدِي. قَالَ: أَيْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 دِرْعُك الْحَطْمِيَّةُ؟ .» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَلَنَا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، فِي الَّذِي زَوَّجَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ بِهَا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُدْخِلَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَقِفْ جَوَازُ تَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ عَلَى قَبْضِ شَيْءٍ مِنْهُ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْطِيَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ شَيْئًا، مُوَافَقَةً لِلْأَخْبَارِ، وَلِعَادَةِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلِتَخْرُجَ الْمُفَوِّضَةُ عَنْ شَبَهِ الْمَوْهُوبَةِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِلْخُصُومَةِ. وَيُمْكِنُ حَمَلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَرْقٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَم. [مَسْأَلَة مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْإِصَابَةَ وَقَبْلَ الْفَرْضِ] (5612) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَرِثَهُ صَاحِبُهُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا) أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَرْضًا وَعَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ هَاهُنَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ، فَيُورَثُ بِهِ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ النَّصِّ. وَأَمَّا الصَّدَاقُ، فَإِنَّهُ يَكْمُلُ لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: لَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ وَرَدَتْ عَلَى تَفْوِيضٍ صَحِيحٍ قَبْلَ فَرْضٍ وَمَسِيسٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِهَا مَهْرٌ كَفُرْقَةِ الطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا فِي الْمُسْلِمَةِ وَكَقَوْلِهِمْ فِي الذِّمِّيَّةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَكْمُلُ، وَيَتَنَصَّفُ وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَلَنَا: مَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَضَى لِامْرَأَةٍ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا زَوْجُهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ: لَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانِ الْأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِرْوَعَ ابْنَةِ وَاشِقٍ مِثْلَ مَا قَضَيْت.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ مَعْنَى يَكْمُلُ بِهِ الْمُسَمَّى، فَكَمَلَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمُفَوِّضَةِ، كَالدُّخُولِ. وَقِيَاسُ الْمَوْتِ عَلَى الطَّلَاقِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَوْتَ يَتِمُّ بِهِ النِّكَاحُ فَيَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ، وَالطَّلَاقُ يَقْطَعُهُ وَيُزِيلُهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ تُجِبْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 بِالطَّلَاقِ وَكَمَلَ الْمُسَمَّى بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يَكْمُلْ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَإِنَّهَا مُفَارِقَةٌ بِالْمَوْتِ، فَكَمَلَ لَهَا الصَّدَاقُ كَالْمُسْلِمَةِ، أَوْ كَمَا لَوْ سَمَّى لَهَا وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ وَالذِّمِّيَّةَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الصَّدَاقِ فِي مَوْضِعٍ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا هَاهُنَا. (5613) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: " مَهْرُ نِسَائِهَا ". يَعْنِي مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ أَقَارِبِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ تُعْتَبَرُ بِمَنْ هِيَ فِي مِثْلِ كَمَالِهَا وَمَالِهَا وَشَرَفِهَا، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَقْرِبَائِهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْوَاضَ إنَّمَا تَخْتَلِفُ بِذَلِكَ دُونَ الْأَقَارِبِ. وَلَنَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا. وَنِسَاؤُهَا أَقَارِبُهَا. وَمَا ذَكَرَهُ فَنَحْنُ نَشْتَرِطُهُ، وَنَشْتَرِطُ مَعَهُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نِسَاءِ أَقَارِبِهَا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِنَّ. وَقَوْلُهُ: لَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَقَارِبِ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُطْلَبُ لِحَسَبِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ، وَحَسَبُهَا يَخْتَصُّ بِهِ أَقَارِبُهَا، فَيَزْدَادُ الْمَهْرُ لِذَلِكَ وَيَقِلُّ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَيُّ وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ لَهُمْ عَادَةٌ فِي الصَّدَاقِ، وَرَسْمٌ مُقَرَّرٌ، لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، وَلَا يُغَيِّرُونَهُ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مِنْ يُعْتَبَرُ مِنْ أَقَارِبِهَا، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا. فَاعْتَبَرَهَا بِنِسَاءِ الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ: لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا، مِثْلُ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ بِنْتِ عَمِّهَا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ نِسَائِهَا. وَالْأُولَى أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَهْرِ نِسَاءِ قَوْمِهَا.» وَلِأَنَّ شَرَفَ الْمَرْأَةِ مُعْتَبَرٌ فِي مَهْرِهَا، وَشَرَفُهَا بِنَسَبِهَا، وَأُمُّهَا وَخَالَتُهَا لَا تُسَاوِيَانِهَا فِي نَسَبِهَا، فَلَا تُسَاوِيَانِهَا فِي شَرَفِهَا، وَقَدْ تَكُونُ أَمُّهَا مَوْلَاةً وَهِيَ شَرِيفَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ أُمُّهَا شَرِيفَةً وَهِيَ غَيْرُ شَرِيفَةٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، فَأَقْرَبُ نِسَاءِ عَصَبَاتِهَا إلَيْهَا أَخَوَاتُهَا، ثُمَّ عَمَّاتُهَا ثُمَّ بَنَاتُ عَمِّهَا، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُنَّ فِي مِثْلِ حَالِهَا؛ فِي دِينِهَا، وَعَقْلِهَا، وَجَمَالِهَا، وَيَسَارِهَا وَبَكَارَتِهَا وَثُيُوبَتِهَا، وَصَرَاحَةِ نَسَبِهَا، وَكُلِّ مَا يَخْتَلِفُ لِأَجْلِهِ الصَّدَاقُ، وَأَنْ يَكُنَّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهَا؛ لِأَنَّ عَادَاتِ الْبِلَادِ تَخْتَلِفُ فِي الْمَهْرِ. وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إنَّمَا هُوَ بَدَلُ مُتْلَفٍ فَاعْتُبِرَتْ الصِّفَاتُ الْمَقْصُودَةُ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَصَبَاتِهَا مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهَا، فَمِنْ نِسَاءِ أَرْحَامِهَا، كَأُمِّهَا وَجَدَّاتِهَا وَخَالَاتِهَا وَبَنَاتِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَأَهْلُ بَلَدِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَنِسَاءُ أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا دُونَهَا، زِيدَ لَهَا بِقَدْرِ فَضِيلَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا خَيْرٌ مِنْهَا، نَقَصَتْ بِقَدْرِ نَقَصَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 [فَصْلٌ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا حَالًّا] (5614) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا حَالًّا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَأَشْبَهَ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ. وَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يَلْزَمُ كَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِ الْمُتْلَفِ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ، فَكَانَتْ بِحُكْمِ مَا جَعَلَ مِنْ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَعْتَبِرُ بِهَا غَيْرُهَا، وَلِأَنَّهَا عَدَلَ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْأَبْدَالِ فِي مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي تَأْجِيلِهَا تَخْفِيفًا عَنْهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ نِسَائِهَا تَأْجِيلَ الْمَهْرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُفْرَضُ حَالًّا؛ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي يُفْرَضُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا مُؤَجَّلٌ. وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ إذَا زَوَّجُوا مِنْ عَشِيرَتِهِمْ خَفَّفُوا، وَإِنْ زَوَّجُوا غَيْرَهُمْ ثَقَّلُوا اُعْتُبِرَ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلَ مُتْلَفٍ، يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلَفِ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. قُلْنَا: النِّكَاحُ يُخَالِفُ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمَالِيَّةُ خَاصَّةً، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلِفِينَ، وَالنِّكَاحُ يُقْصَدُ بِهِ أَعْيَانُ الزَّوْجَيْنِ، فَاخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ، وَالْمَهْرُ يَخْتَلِفُ بِالْعَادَاتِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ عَادَتُهُمْ تَخْفِيفُ مُهُورِ نِسَائِهِمْ، وَجَبَ مَهْرُ الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ خَفِيفًا، وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ وَأَشْرَفَ مِنْ نِسَاءِ مَنْ عَادَتُهُمْ تَثْقِيلُ الْمَهْرِ، وَعَلَى هَذَا مَتَى كَانَتْ عَادَتُهُمْ التَّخْفِيفَ لِمَعْنَى، مِثْلُ الشَّرَفِ أَوْ الْيَسَارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ اُعْتُبِرَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ] (5615) فَصْلٌ: إذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ مَهْرٌ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِسَيِّدِهَا، وَلَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجِبُ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى، كَيْ لَا يَخْلُوَ النِّكَاحُ عَنْ مَهْرٍ، ثُمَّ يَسْقُطُ لِتَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بِمَهْرٍ وَشُهُودٍ. قِيلَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا؟ قَالَ: يَكُونُ الصَّدَاقُ عَلَيْهِ إذَا أُعْتِقَ قِيلَ: فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ؟ قَالَ: قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ جَابِرٌ إلَى أَنَّهُ جَائِزٌ. [مَسْأَلَة خَلَا بِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَقَالَ لَمْ أَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا خَلَا بِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، فَقَالَ: لَمْ أَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمَا، وَكَانَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الدُّخُولِ، فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمَا، إلَّا فِي الرُّجُوعِ إلَى زَوْجٍ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ فِي الزِّنَى، فَإِنَّهُمَا يُجْلَدَانِ، وَلَا يُرْجَمَانِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَلَا بِامْرَأَتِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَهْرُهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 وَإِنْ لَمْ يَطَأْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَزَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَى عَنْهُ يَعْقُوبُ بْنِ بُخْتَانَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، لَمْ يُكْمِلْ لَهَا الصَّدَاقَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَهَذِهِ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وَالْإِفْضَاءُ: الْجِمَاعُ. وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُمَسَّ، أَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا. وَلَنَا: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا، أَوْ أَرْخَى سِتْرًا، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ. وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا، عَنْ الْأَحْنَفِ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا. وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَمَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا يَصِحُّ، قَالَ أَحْمَدُ: يَرْوِيهِ لَيْثٌ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ حَنْظَلَةُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ لَيْثٌ، وَحَنْظَلَةُ أَقْوَى مِنْ لَيْثٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهَا، فَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْبَدَلُ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا، أَوْ كَمَا لَوْ أَجَّرَتْ دَارَهَا، أَوْ بَاعَتْهَا وَسَلَّمَتْهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَنَّى بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ، الَّذِي هُوَ الْخَلْوَةُ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ، أَنَّهُ قَالَ: الْإِفْضَاءُ الْخَلْوَةُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ، وَهُوَ الْخَالِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ خَلَا بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمَا. يَعْنِي فِي حُكْمِ مَا لَوْ وَطِئَهَا، مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا إذَا طَلَّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لَهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وَلَنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا، وَلَا كَمَلَ عَدَدُ طَلَاقِهَا، وَلَا طَلَّقَهَا بِعِوَضٍ فَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، كَمَا لَوْ أَصَابَهَا. وَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ. وَلَا تَثْبُتُ بِهَا الْإِبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ ، لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك.» وَلَا الْإِحْصَانُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا الْغُسْلُ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ خَمْسَةٌ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ الْعَجْزُ عَنْ الْوَطْءِ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ. وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْئَةُ، لِأَنَّهَا الرُّجُوعُ عَمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِنَفْسِ الْوَطْءِ. وَلَا تَفْسُدُ بِهِ الْعِبَادَاتُ. وَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ: لَا تُحَرَّمُ. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ الْخَلْوَةِ نَظَرٌ أَوْ مُبَاشَرَةٌ، فَيُخَرَّجُ كَلَامُهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَالدُّخُولُ كِنَايَةٌ عَنْ الْوَطْءِ، وَالنَّصُّ صَرِيحٌ فِي إبَاحَتِهَا بِدُونِهِ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. [مَسْأَلَة خَلَا بِهَا وَبِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ] (5617) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَسَوَاءٌ خَلَا بِهَا وَهُمَا مُحْرِمَانِ، أَوْ صَائِمَانِ، أَوْ حَائِضٌ، أَوْ سَالِمَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا خَلَا بِهَا، وَبِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ، كَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَوْ مَانِعٌ حَقِيقِيٌّ، كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، أَوْ الرَّتْقِ فِي الْمَرْأَةِ، فَعَنْهُ أَنَّ الصَّدَاقَ يَسْتَقِرُّ بِكُلِّ حَالٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ عُمَرُ فِي الْعِنِّينِ: يُؤَجَّلُ سَنَةً، فَإِنْ هُوَ غَشِيَهَا، وَإِلَّا أَخَذَتْ الصَّدَاقَ كَامِلًا، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا قَدْ وُجِدَ، وَإِنَّمَا الْحَيْضُ وَالْإِحْرَامُ وَالرَّتْقُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَهْرِ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ النَّفَقَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَسَلُّمِهَا، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ مَهْرًا بِمَنْعِهَا، كَمَا لَوْ مَنَعَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا إلَيْهِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّسْلِيمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ الْعَاقِدِ كَالْإِجَارَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: إنْ كَانَا صَائِمَيْنِ صَوْمَ رَمَضَانَ، لَمْ يَكْمُلْ الصَّدَاقُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ، كَمَلَ. قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ، وَهُمَا صَائِمَانِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ؟ قَالَ: وَجَبَ الصَّدَاقُ. قِيلَ لِأَحْمَدَ فَشَهْرُ رَمَضَانَ؟ قَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ خِلَافٌ لِهَذَا. قِيلَ لَهُ: فَكَانَ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ. قَالَ: هَذَا مُفْطِرٌ يَعْنِي وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَانِعُ مُتَأَكِّدًا، كَالْإِحْرَامِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، لَمْ يَكْمُلْ الصَّدَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْمَانِعُ لَا يَمْنَعُ دَوَاعِيَ الْوَطْءِ، كَالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، وَالرَّتْقِ، وَالْمَرَضِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَجَبَ الصَّدَاقُ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ دَوَاعِيَهُ، كَالْإِحْرَامِ، وَصِيَامِ الْفَرْضِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهَا، لَمْ يَسْتَقِرَّ الصَّدَاقُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ؛ صِيَامُ فَرْضٍ أَوْ إحْرَامٌ، لَمْ يَسْتَقِرَّ الصَّدَاقُ، وَإِنْ كَانَ جَبًّا أَوْ عُنَّةً، كَمَلَ الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهَا، فَكَمَلَ حَقُّهَا، كَمَا يَلْزَمُ الصَّغِيرَ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ. [فَصْلٌ خَلَا بِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا] (5618) فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَا بِهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، أَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا، أَوْ كَانَ أَعْمَى فَلَمْ يَعْلَمْ بِدُخُولِهَا عَلَيْهِ، لَمْ يَكْمُلْ صَدَاقُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي الْمَكْفُوفِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ، فَأُرْخِيَ السِّتْرُ وَأُغْلِقَ الْبَابُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِدُخُولِهَا عَلَيْهِ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَأَوْمَأَ إلَى أَنَّهَا إذَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ، أَوْ مَنَعَتْهُ نَفْسَهَا، لَا يَكْمُلُ صَدَاقُهَا. وَذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ جِهَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَخْلُ بِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ خَلَا بِهَا، وَهُوَ طِفْلٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ، لَمْ يَكْمُلْ الصَّدَاقُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّغِيرَةِ فِي عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ. [فَصْل الْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ] (5619) فَصْلٌ: وَالْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ الْوَطْءُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلِ الدُّخُولِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ كَالْخَلْوَةِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْخَلْوَةِ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ بِذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمَهْرُ كَالصَّحِيحِ، وَالْأُولَى أَوْلَى. [فَصْلٌ اسْتَمْتَعَ بِامْرَأَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ] (5620) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَمْتَعَ بِامْرَأَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ، كَالْقُبْلَةِ وَنَحْوهَا، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَخَذَهَا فَمَسَّهَا، وَقَبَضَ عَلَيْهَا، مِنْ غَيْر أَنْ يَخْلُوَ بِهَا، لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا إذَا نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ مُهَنَّا: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَنَظَرَ إلَيْهَا وَهِيَ عُرْيَانَةُ تَغْتَسِلُ، أُوجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَرَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: إذَا اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ، فَهُوَ كَالْقُبْلَةِ. قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِذَلِكَ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 بِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ، وَنَظَرَ إلَيْهَا، وَجَبَ الصَّدَاقُ، دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ.» وَلِأَنَّهُ مَسِيسٌ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] . وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بِامْرَأَتِهِ فَكَمَلَ بِهِ الصَّدَاقُ، كَالْوَطْءِ. وَالْوَجْهُ الْآخِرُ: لَا يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ الْجِمَاعُ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] أَنْ لَا يَكْمُلَ الصَّدَاقُ لِغَيْرِ مَنْ وَطِئَهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، تُرِكَ عُمُومُهُ فِي مَنْ خَلَا بِهَا، لِلْإِجْمَاعِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّحَابَةِ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. [فَصْلٌ دَفَعَ زَوْجَتَهُ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا] فَصْلٌ: إذَا دَفَعَ زَوْجَتَهُ، فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ صَدَاقِهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الصَّدَاقُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ عُذْرَتَهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كَامِلًا، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَهَذِهِ مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عُذْرَةَ أَمَتِهِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَجِبَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ، عَلَيْهِ الصَّدَاقُ. فَفِيمَا إذَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَا يَجِبُ بِهِ الصَّدَاقُ ابْتِدَاءً أَحَقُّ بِتَقْرِيرِ الْمَهْرِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي مَنْ أَخَذَ امْرَأَتَهُ، وَقَبَضَ عَلَيْهَا، وَفِي مَنْ نَظَرَ إلَيْهَا وَهِيَ عُرْيَانَةٌ: عَلَيْهِ الصَّدَاقُ كَامِلًا. فَهَذَا أَوْلَى. [فَصْلٌ دَفَعَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا] (5622) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً، فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأُصْبُعِهِ أَوْ غَيْرِهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا. وَقَالَ: إنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَذْرَاءَ، فَدَفَعَهَا هُوَ وَأَخُوهُ، فَأَذْهَبَا عُذْرَتَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَعَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَعَلَى الْأَخِ نِصْفُ الْعَقْرِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أَرْشُ بَكَارَتِهَا؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِ عِوَضِهِ، فَرُجِعَ فِي دِيَتِهِ إلَى الْحُكُومَةِ، كَسَائِرِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكْمُلْ بِهِ الصَّدَاقُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ عِنْدَهُ يَتِيمَةٌ، فَخَافَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَاسْتَعَانَتْ بِنِسْوَةٍ فَضَبَطْنَهَا لَهَا، فَأَفْسَدَتْ عُذْرَتَهَا، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: إنَّهَا فَجَرَتْ. فَأَخْبَرَ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إلَى امْرَأَتِهِ وَالنِّسْوَةِ، فَلَمَّا أَتَيْنَهُ، لَمْ يَلْبَثْنَ إنْ اعْتَرَفْنَ بِمَا صَنَعْنَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: اقْضِ فِيهَا يَا حَسَنُ فَقَالَ: الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَهَا، وَالْعَقْرُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْمُمْسِكَاتِ. قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ كُلِّفَتْ الْإِبِلُ طَحْنًا لَطَحَنَتْ. وَمَا يَطْحَنُ يَوْمئِذٍ بَعِيرٌ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، أَنَّ جَوَارِيَ أَرْبَعًا قَالَتْ إحْدَاهُنَّ: هِيَ رَجُلٌ، وَقَالَتْ الْأُخْرَى، هِيَ امْرَأَةٌ، وَقَالَتْ الثَّالِثَةُ،: هِيَ أَبُو الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا رَجُلٌ، وَقَالَتْ الرَّابِعَةُ،: هِيَ أَبُو الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا امْرَأَةٌ. فَخَطَبَتْ الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا أَبُو الرَّجُلِ إلَى الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا أَبُو الْمَرْأَةِ، فَزَوَّجُوهَا إيَّاهَا فَعَمَدَتْ إلَيْهَا فَأَفْسَدَتْهَا بِأُصْبُعِهَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَجَعَلَ الصَّدَاقَ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا، وَأَلْغَى حِصَّةَ الَّتِي أَمْكَنَتْ مِنْ نَفْسِهَا، فَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ، فَقَالَ: لَوْ وُلِّيت أَنَا، لَجَعَلْت الصَّدَاقَ عَلَى الَّتِي أَفْسَدَتْ الْجَارِيَةَ وَحْدَهَا. وَهَذِهِ قَصَصٌ تَنْتَشِرُ فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ إتْلَافَ الْعُذْرَةِ مُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَجَبَ الْمَهْرُ، كَمَنْفَعَةِ الْبُضْعِ. [مَسْأَلَة الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَإِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأَيُّهُمَا عَفَا لِصَاحِبِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهُ مِنْ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزُ الْأَمْرِ فِي مَالِهِ، بَرِئَ مِنْهُ صَاحِبُهُ) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ الزَّوْجُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْن سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ الْوَلِيُّ إذَا كَانَ أَبَا الصَّغِيرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ، إذَا كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ أَنَّهُ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، لِكَوْنِهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَفْوَ النِّسَاءِ عَنْ نَصِيبِهِنَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفْوُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَنْهُ، لِيَكُونَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِخِطَابِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ، بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] ثُمَّ قَالَ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَهَذَا خِطَابُ غَيْرِ حَاضِرٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 وَلَنَا، مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: وَلِيُّ الْعُقْدَةِ الزَّوْجُ.» وَلِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بَعْدَ الْعَقْدِ هُوَ الزَّوْجُ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهِ وَفَسْخِهِ وَإِمْسَاكِهِ، وَلَيْسَ إلَى الْوَلِيِّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وَالْعَفْوُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّقْوَى هُوَ عَفْوُ الزَّوْجِ عَنْ حَقِّهِ، أَمَّا عَفْوُ الْوَلِيِّ عَنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، فَلَيْسَ هُوَ أَقْرَبَ إلَى التَّقْوَى، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ لِلزَّوْجَةِ، فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ هِبَتَهُ وَإِسْقَاطَهُ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهَا وَحُقُوقِهَا، وَكَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْعُدُولُ عَنْ خِطَابِ الْحَاضِرِ إلَى خِطَابِ الْغَائِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] فَعَلَى هَذَا مَتَى طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَنَصَّفَ الْمَهْرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ عَفَا الزَّوْجُ لَهَا عَنْ النِّصْفِ الَّذِي لَهُ، كَمَلَ لَهَا الصَّدَاقُ جَمِيعُهُ، وَإِنْ عَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ النِّصْفِ الَّذِي لَهَا مِنْهُ، وَتَرَكَتْ لَهُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، جَازَ، إذَا كَانَ الْعَافِي مِنْهُمَا رَشِيدًا جَائِزًا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ سَفِيهًا، لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِهِبَةٍ وَلَا إسْقَاطٍ. وَلَا يَصِحُّ عَفْوُ الْوَلِيِّ عَنْ صَدَاق الزَّوْجَةِ، أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ: إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَعَفَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا، مَا أَرَى عَفْوَ الْأَبِ إلَّا جَائِزًا. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: مَا أَرَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ إلَّا قَوْلًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَدِيمًا. وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ بِجَوَازِ عَفْوِ الْأَبِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ إسْقَاطُ دُيُونِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَلَا إعْتَاقُ عَبِيدِهِ، وَلَا تَصَرُّفُهُ لَهُ إلَّا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، وَلَا حَظَّ لَهَا فِي هَذَا الْإِسْقَاطِ، فَلَا يَصِحُّ. وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ؛: أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ أَبًا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِي مَالَهَا، وَلَا يُتَّهَمُ عَلَيْهَا. الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، لِيَكُونَ وَلِيًّا عَلَى مَالِهَا، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ تَلِي مَالَ نَفْسِهَا. الثَّالِثُ، أَنْ تَكُونَ بِكْرًا لِتَكُونَ غَيْرَ مُبْتَذَلَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الثَّيِّبِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، فَلَا تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَيْهَا تَامَّةً. الرَّابِعُ، أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ مُعَرَّضَةٌ لِإِتْلَافِ الْبُضْعِ. الْخَامِسُ، أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ قَدْ أَتْلَفَ الْبُضْعَ، فَلَا يَعْفُو عَنْ بَدَلٍ مُتْلَفٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْجَدَّ كَالْأَبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 [فَصْلٌ بَانَتْ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ أَوْ الْمَجْنُونِ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ صَدَاقَهَا عَنْهُمْ] (5624) فَصْلٌ: وَلَوْ بَانَتْ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ أَوْ الْمَجْنُونِ، عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ صَدَاقَهَا عَنْهُمْ، مِثْلُ أَنْ تَفْعَلَ امْرَأَتُهُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا؛ مِنْ رَضَاعِ مَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ، أَوْ رِدَّةٍ، أَوْ بِصِفَةٍ لَطَلَاقٍ مِنْ السَّفِيهِ، أَوْ رَضَاعٍ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ لِمَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَوَلِيِّهِمْ الْعَفْوُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ أَنَّ وَلِيَّهَا أَكْسَبَهَا الْمَهْرَ بِتَزْوِيجِهَا، وَهَاهُنَا لَمْ يُكْسِبْهُ شَيْئًا، إنَّمَا رَجَعَ الْمَهْرُ إلَيْهِ بِالْفُرْقَةِ. [فَصْلٌ عَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ صَدَاقِهَا الَّذِي لَهَا عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَنْ بَعْضِهِ أَوْ وَهَبَتْهُ لَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ] (5625) فَصْلٌ: وَإِذَا عَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ صَدَاقِهَا الَّذِي لَهَا عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَنْ بَعْضِهِ أَوْ وَهَبَتْهُ لَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، وَهِيَ جَائِزَةُ الْأَمْرِ فِي مَالِهَا جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] يَعْنِي الزَّوْجَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَيْسَ شَيْءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] سَمَّاهُ غَيْرَ الْمَهْرِ تَهَبُهُ الْمَرْأَةُ لِلزَّوْجِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ لِامْرَأَتِهِ: هَبِي لِي مِنْ الْهَنِيءِ الْمَرِيءِ. يَعْنِي مِنْ صَدَاقِهَا. وَهَلْ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَتْ زَوْجَهَا؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَاتٌ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَنَصَّفَ الْمَهْرُ بَيْنَهُمَا] (5626) فَصْلٌ: إذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَتَنَصَّفَ الْمَهْرُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا، أَوْ فِي ذِمَّتِهَا، بِأَنْ تَكُونَ قَدْ قَبَضَتْهُ، وَتَصَرَّفَتْ فِيهِ أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّ لِلَّذِي لَهُ الدَّيْنُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ مِنْهُ، بِأَنْ يَقُولَ: عَفَوْت عَنْ حَقِّي مِنْ الصَّدَاقِ، أَوْ أَسْقَطْته، أَوْ أَبْرَأْتُك مِنْهُ أَوْ مَلَّكْتُك إيَّاهُ، أَوْ وَهَبْتُك، أَوْ أَحْلَلْتُك مِنْهُ، أَوْ أَنْتَ مِنْهُ فِي حِلٍّ، أَوْ تَرَكْته لَك. وَأَيُّ ذَلِكَ قَالَ: سَقَطَ بِهِ الْمَهْرُ، وَبَرِئَ مِنْهُ الْآخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ، لِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ، كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ إبْرَاءُ الْمَيِّتِ مَعَ عَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُ، وَلَوْ رَدَّ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدَّ، وَبَرِئَ مِنْهُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ مِنْ الصَّدَاقِ فِي ذِمَّتِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهَا إلَّا النِّصْفُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ، وَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي لَهَا، فَهُوَ حَقُّهَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ الْجَمِيعَ كَانَ مِلْكًا لَهَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ مِلْكُ الزَّوْجِ لِلنِّصْفِ بِطَلَاقِهِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَيُّهُمَا أَرَادَ تَكْمِيلَ الصَّدَاقِ لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يُجَدِّدُ لَهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً. وَأَمَّا إنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَعَفَا الَّذِي هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 فِي يَدِهِ لِلْآخَرِ، فَهُوَ هِبَةٌ لَهُ تَصِحُّ بِلَفْظِ الْعَفْوِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَلَا تَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ، وَيَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ. وَإِنْ عَفَا غَيْرُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ، صَحَّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَافْتَقَرَ إلَى مُضِيِّ زَمَنٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهِ، إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ. [فَصْل أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ عَيْنًا] (5627) فَصْلٌ: إذَا أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ عَيْنًا، فَوَهَبَتْهَا لَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛: إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَلَا تَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهَا بِالطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بِالْبَيْعِ، أَوْ وَهَبَتْهَا لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ وَهَبَتْهَا لَهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْعَيْنُ أَوْ تَنْقُصَ، ثُمَّ تَهَبَهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَادَ إلَيْهِ وَلَوْ لَمْ تَهَبْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَعَقْدُ الْهِبَةِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانًا، وَلِأَنَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ تُعَجِّلُ لَهُ بِالْهِبَةِ. فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا، فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ ثَمَّ. فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ ثَمَّ. خُرِّجَ هَاهُنَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقٍّ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ كَتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولٍ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِدِينِ، فَأَبْرَأْهُ مُسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ، لَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ قَبَضَهُ مِنْهُ، ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ، غَرِمَا. وَالثَّانِي، يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، فَهُوَ كَالْعَيْنِ، وَالْإِبْرَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَفْظِهَا وَإِنْ قَبَضَتْ الدِّينَ مِنْهُ، ثُمَّ وَهَبَتْهُ لَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَهُوَ كَهِبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِقَبْضِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ قَدْ اسْتَوْفَتْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ تَصَرَّفَتْ فِيهِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ وَهَبَتْهُ أَجْنَبِيًّا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ مَا أَصْدَقَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَيْنًا، فَقَبَضَتْهَا، ثُمَّ وَهَبَتْهَا. أَوْ وَهَبَتْهُ الْعَيْنَ، أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ الدَّيْنِ، ثُمَّ فَسَخَتْ النِّكَاحَ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا، كَإِسْلَامِهَا، أَوْ رِدَّتِهَا، أَوْ إرْضَاعِهَا لِمَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ، فَفِي الرُّجُوعِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ عَلَيْهَا رِوَايَتَانِ، كَمَا فِي الرُّجُوعِ بِالنِّصْفِ سَوَاءً. [فَصْلٌ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَوَهَبَتْهُ نِصْفَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5628) فَصْلٌ: وَإِنْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا، فَوَهَبَتْهُ نِصْفَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: إذَا وَهَبَتْهُ الْكُلَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. رَجَعَ هَاهُنَا فِي رُبْعِهِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَرْجِعُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 بِعَيْنِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُزَنِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ حُصِلَ فِي يَدِهِ، فَقَدْ اسْتَعْجَلَ حَقَّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي، لَهُ نِصْفُ النِّصْفِ الْبَاقِي، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ. وَالثَّالِثُ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ النِّصْفِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَجَدَ نِصْفَ مَا أَصْدَقَهَا بِعَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَمْ تَهَبْهُ شَيْئًا. [فَصْل خَالِع امْرَأَتَهُ بِنِصْفِ صَدَاقِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ] (5629) فَصْلٌ: فَإِنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ بِنِصْفِ صَدَاقِهَا، قَبْلَ دُخُولِهِ، بِهَا صَحَّ وَصَارَ الصَّدَاقُ كُلُّهُ؛ لَهُ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ، وَنِصْفُهُ بِالْخُلْعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَعَهَا بِنِصْفِهِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ النِّصْفَ يَسْقُطُ عَنْهُ، صَارَ مُخَالِعًا بِنِصْفِ النِّصْفِ الَّذِي يَبْقَى لَهَا، فَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ بِالطَّلَاقِ، وَالرُّبْعُ بِالْخُلْعِ. وَإِنْ خَالَعَهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي ذِمَّتِهَا، صَحَّ، وَسَقَطَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ؛ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ بِالْمُقَاصَّةِ بِمَا فِي ذِمَّتِهَا لَهُ مِنْ عِوَضِ الْخُلْعِ. وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِي بِمَا تُسَلِّمُ لِي مِنْ صَدَاقِي. فَفَعَلَ، صَحَّ، وَبَرِئَ مِنْ جَمِيعِ الصَّدَاقِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِي الْمَهْرِ. صَحَّ، وَسَقَطَ جَمِيعُهُ عَنْهُ. وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِمِثْلِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ فِي ذِمَّتِهَا، صَحَّ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ نِصْفُهُ بِالْمُقَاصَّةِ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ النِّصْفُ بِالطَّلَاقِ، يَبْقَى لَهَا عَلَيْهَا النِّصْفُ. وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِصَدَاقِهَا كُلِّهِ فَكَذَلِكَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِي الْآخَرِ، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَعَهَا بِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِسُقُوطِ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ، كَانَ مُخَالِعًا لَهَا بِنِصْفِهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ نِصْفُهُ، وَلَا يَبْقَى لَهَا شَيْءٌ. [فَصْل أَبْرَأْت الْمُفَوِّضَةُ مِنْ الْمَهْرِ] (5630) فَصْلٌ: وَإِذَا أَبْرَأْت الْمُفَوِّضَةُ مِنْ الْمَهْرِ، صَحَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُفَوِّضَةُ الْبُضْعِ وَمُفَوِّضَةُ الْمَهْرِ. وَكَذَلِكَ مَنْ سُمِّيَ لَهَا مَهْرٌ فَاسِدٌ كَالْخَمْرِ وَالْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنَّمَا جَهْلُ قَدْرِهِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا إسْقَاطٌ، فَصَحَّتْ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُفَوِّضَةَ لَمْ يَجِبْ لَهَا مَهْرٌ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِمَّا لَمْ يَجِبْ، وَغَيْرُهَا مَهْرُهَا مَجْهُولٌ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ، إلَّا أَنْ تَقُولَ: أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ. فَيَبْرَأُ مِنْ مَهْرِهَا إذَا كَانَ دُونَ الْأَلْفِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِهِ فِيمَا مَضَى، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ. وَإِذَا أَبْرَأَتْ الْمُفَوِّضَةُ، ثُمَّ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ إلَى الْمُسَمَّى لَهَا. لَمْ يَرْجِعْ هَاهُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ ثَمَّ. احْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ كُلَّهُ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ، وَوَجَبَتْ الْمُتْعَةُ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ مَهْرُهَا بِسَبَبِ غَيْرِ الطَّلَاقِ. وَبِكَمْ يَرْجِعُ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَبَ بِالْعَقْدِ، فَهُوَ كَنِصْفِ الْمَفْرُوضِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَجِبُ بِالطَّلَاقِ، فَأَشْبَهَتْ الْمُسَمَّى. [فَصْلٌ أَبْرَأَتْهُ الْمُفَوِّضَةُ مِنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا] (5631) فَصْلٌ: وَإِنْ أَبْرَأَتْهُ الْمُفَوِّضَةُ مِنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَقَدْ أَبْرَأَتْ مِنْهُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَبَضَتْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ لَهَا نِصْفُ الْمُتْعَةِ إذَا قُلْنَا: إنَّ الزَّوْجَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءِ إذَا أَبْرَأَتْ مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا. [فَصْلٌ بَاعَ رَجُلًا عَبْدًا بِمِائَةِ فَأَبْرَأْهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ قَبْضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا] (5632) فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ رَجُلًا عَبْدًا بِمِائَةٍ، فَأَبْرَأْهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ قَبْضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا، فَهَلْ لَهُ رَدُّ الْمَبِيعِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ، أَوْ أَخْذُ أَرْشَ الْعَيْبِ مَعَ إمْسَاكِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّدَاقِ إذَا وَهَبَتْهُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا، فَوَهَبَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ لِلْبَائِعِ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَضْرِبَ بِالثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا عَادَ إلَى الْبَائِعِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ قَبْلَ الْفَلْسِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا، ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ مَالَ الْكِتَابَةِ، بَرِئَ، وَعَتَقَ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى سَيِّدِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُؤْتِيَهُ إيَّاهُ، كَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَدْرَ الَّذِي يَلْزَمَهُ إيتَاؤُهُ إيَّاهُ، وَاسْتَوْفَى الْبَاقِي، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ عَنْهُ يَقُومُ مَقَامَ الْإِيتَاءِ. وَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّدَاقِ، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَسْقَطَتْ الصَّدَاقَ الْوَاجِبَ لَهَا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفَهُ، وَهَاهُنَا أَسْقَطَ السَّيِّدُ عَنْ الْمُكَاتِبِ مَا وُجِدَ سَبَبُ إيتَائِهِ إيَّاهُ، فَكَانَ إسْقَاطُهُ مَقَامَ إيتَائِهِ، وَلِهَذَا لَوْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ، ثُمَّ آتَاهُ إيَّاهُ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَبَضَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا، وَوَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَرَجَعَ عَلَيْهَا، فَافْتَرَقَا. [فَصْلٌ لَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَتَسَلَّمُ مَالَهَا] (5633) فَصْلٌ: وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَتَسَلَّمُ مَالَهَا، فَإِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً، لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهَا، أَوْ إلَى وَكِيلِهَا، وَلَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى أَبِيهَا وَلَا إلَى غَيْرِهِ؛ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَخَذَ مَهْرَ ابْنَتِهِ، وَأَنْكَرَتْ، فَذَاكَ لَهَا، تَرْجِعُ عَلَى زَوْجِهَا بِالْمَهْرِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى أَبِيهَا. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا، إنَّمَا أَخَذَ مِنْ زَوْجِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَادَةُ، وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي، فَقَامَ أَبُوهَا مَقَامَهَا، كَمَا قَامَ مَقَامَهَا فِي تَزْوِيجِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 وَلَنَا، أَنَّهَا رَشِيدَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهَا قَبْضُ صَدَاقِهَا، كَالثَّيِّبِ، أَوْ عِوَضٌ مَلَكَتْهُ وَهِيَ رَشِيدَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهَا قَبْضُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَثَمَنِ مَبِيعِهَا، وَأَجْرِ دَارِهَا. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ، سَلَّمَهُ إلَى وَلِيِّهَا فِي مَالِهَا، مِنْ أَبِيهَا، أَوْ وَصِيِّهِ، أَوْ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهَا، فَهُوَ كَثَمَنِ مَبِيعِهَا، وَأَجْرِ دَارِهَا. [مَسْأَلَة لَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ إذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يُوطَأُ] (5634) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، إذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يُوطَأُ، أَوْ مُنِعَ مِنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ، لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا؛ لِصِغَرِهَا، فَطَلَبَ وَلِيُّهَا تَسَلُّمَهَا، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا، لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ، وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا، أَوْ مَنَعَهَا أَوْلِيَاؤُهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى النَّاشِزِ؛ لِكَوْنِهَا لَمْ تُسَلِّمْ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا، فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ الْحَالِّ إذَا طُولِبَ بِهِ. فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فِيهِ، كَالصَّغِيرَةِ، وَالْمَانِعَةِ نَفْسَهَا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ: يَجِبُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْبُضْعِ، وَقَدْ مَلَكَهُ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، فَإِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ. وَرَدَّ قَوْمٌ هَذَا وَقَالُوا: الْمَهْرُ قَدْ مَلَكَتْهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا مَلَكَهُ مِنْ بُضْعِهَا، فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالِاسْتِيفَاءِ إلَّا عِنْدَ إمْكَانِ الزَّوْجِ اسْتِيفَاءَ الْعِوَضِ. [فَصْلٌ إمْكَانُ الْوَطْءِ فِي الصَّغِيرَةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا وَاحْتِمَالِهَا لِذَلِكَ] (5635) فَصْلٌ: وَإِمْكَانُ الْوَطْءِ فِي الصَّغِيرَةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا وَاحْتِمَالِهَا لِذَلِكَ. قَالَهُ الْقَاضِي. وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ يَخْتَلِفْنَ، فَقَدْ تَكُونُ صَغِيرَةَ السِّنِّ تَصْلُحُ، وَكَبِيرَةً لَا تَصْلُحُ. وَحَدَّهُ أَحْمَدُ بِتِسْعِ سِنِينَ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي الصَّغِيرَةِ يَطْلُبُهَا زَوْجُهَا: فَإِنْ أَتَى عَلَيْهَا تِسْعُ سِنِينَ، دُفِعَتْ إلَيْهِ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهَا بَعْدَ التِّسْعِ. وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى بِعَائِشَةَ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ ابْنَةَ تِسْعٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَمَتَى كَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِلْوَطْءِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِهَا تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْضُنُهَا وَيُرَبِّيهَا وَلَهُ مَنْ يَخْدِمُهَا، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَلَيْسَتْ لَهُ بِمَحِلٍّ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرَهُ نَفْسِهِ إلَى مُوَاقَعَتِهَا، فَيَفُضُّهَا أَوْ يَقْتُلُهَا. وَإِنْ طَلَبَ أَهْلُهَا دَفْعَهَا إلَيْهِ، فَامْتَنَعَ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً إلَّا أَنَّهَا مَرِيضَةٌ مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ، لَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا قَبْلَ بَرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مَرْجُوُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 الزَّوَالِ، فَهُوَ كَالصِّغَرِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِزَفِّ الْمَرِيضَةِ إلَى زَوْجِهَا، وَالتَّسْلِيمُ فِي الْعَقْدِ يَجِبُ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ. فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا، فَتَسَلَّمَهَا الزَّوْجُ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ عَارِضٌ يَعْرِضُ وَيَتَكَرَّرُ، فَيَشُقُّ إسْقَاطُ النَّفَقَةِ بِهِ، فَجَرَى مَجْرَى الْحَيْضِ، وَلِهَذَا لَوْ مَرِضَتْ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَسَلُّمُهَا، كَالصَّغِيرَةِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِتَسَلُّمِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُهَا، وَإِنْ امْتَنَعَ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ عَارِضٌ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَيَتَكَرَّرُ، فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَرَضُ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، لَزِمَ تَسْلِيمُهَا إلَى الزَّوْجِ إذَا طَلَبَهَا، وَلَزِمَهُ تَسَلُّمُهَا إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا حَالَةٌ يُرْجَى زَوَالُ ذَلِكَ فِيهَا، فَلَوْ لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا لَمْ يُفِدْ التَّزْوِيجُ فَائِدَةً، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ نِضْوَةَ الْخَلْقِ، وَهُوَ جَسِيمٌ، تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا الْإِفْضَاءَ مِنْ عِظَمِ خَلْقِهِ، فَلَهَا مَنْعُهُ مِنْ جِمَاعِهَا، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا امْتِنَاعُ الِاسْتِمْتَاعِ لِمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ عِظَمُ خَلْقِهِ، بِخِلَافِ الرَّتْقَاءِ. وَإِنْ طَلَبَ تَسْلِيمَهَا إلَيْهِ وَهِيَ حَائِضٌ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ الْمَرْجُوَّ الزَّوَالِ، وَاحْتَمَلَ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ قَرِيبًا، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَإِذَا طَلَبَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْهُ، كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهَا مَنْعُهُ مِنْهُ بَعْدَ تَسَلُّمِهَا. وَإِنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ، فَأَبَاهَا حَتَّى تَطْهُرَ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُهَا وَنَفَقَتُهَا إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ كَالْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ الزَّوَالِ. [فَصْل مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى تَتَسَلَّمَ صَدَاقَهَا] (5636) فَصْلٌ: فَإِنْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى تَتَسَلَّمَ صَدَاقَهَا، وَكَانَ حَالًّا، فَلَهَا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ دُخُولِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا. وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: لَا أُسَلِّمُ إلَيْهَا الصَّدَاقَ حَتَّى أَتَسَلَّمَهَا. أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ أَوَّلًا، ثُمَّ تُجْبَرُ هِيَ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِهِ فِي الْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي إجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا أَوَّلًا خَطَرَ إتْلَافِ الْبُضْعِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْعِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ ثَمَنَهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا امْتَنَعَتْ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ. وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِتَأْجِيلِهِ رِضَى بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ حَلَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 الْمُؤَجَّلُ قَبْلَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا، وَاسْتَقَرَّ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْعَاجِلِ دُونَ الْآجِلِ. وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ حَالًّا، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ قَبْضِهِ، ثُمَّ أَرَادَتْ مَنَعَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهَا. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا إلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ بِرِضَى الْمُسَلِّمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، إلَى أَنَّ لَهَا ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ يُوجِبُهُ عَلَيْهَا عَقْدُ النِّكَاحِ فَمَلَكَتْ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا، كَالْأَوَّلِ. فَأَمَّا إنْ وَطِئَهَا مُكْرَهَةً، لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّهَا مِنْ الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، كَالْمَبِيعِ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ كُرْهًا وَإِنْ أَخَذَتْ الصَّدَاقَ، فَوَجَدَتْهُ مَعِيبًا، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى يُبَدِّلَهُ، أَوْ يُعْطِيَهَا أَرْشَهُ؛ لِأَنَّ صَدَاقَهَا صَحِيحٌ. وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ عَيْبَهُ حَتَّى سَلَّمَتْ نَفْسَهَا، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا ثُمَّ بَدَا لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا. فَلَهَا السَّفَرُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَقُّ الْحَبْسِ، فَصَارَتْ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا. وَلَوْ بَقَّى مِنْهُ دِرْهَمٌ، كَانَ كَبَقَاءِ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْحَبْسُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ، ثَبَتَ لَهُ الْحَبْسُ بِبَعْضِهِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ. [فَصْلٌ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ الْحَالِ قَبْلَ الدُّخُولِ] (5637) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ الْحَالِّ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى عِوَضِ الْعَقْدِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ، فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ. وَأَجَازَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَا فَسْخَ لَهَا. وَإِنْ أَعْسَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ. فَلَهَا الْفَسْخُ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا. فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ بِدَيْنٍ لَهَا آخَرَ. وَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ] (5638) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ، أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ السِّرُّ قَدْ انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فِي السِّرِّ بِمَهْرٍ، ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِمَهْرٍ آخَرَ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ الْقَاضِي: الْوَاجِبُ الْمَهْرُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ سِرًّا كَانَ أَوْ عَلَانِيَةً. وَحُمِلَ كَلَامُ أَحْمَدَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 وَالْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُقِرَّ بِنِكَاحِ السِّرِّ فَثَبَتَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ النِّكَاحُ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَنَحْوُهُ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَيْسَ بِعَقْدٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ شَيْءٍ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إذَا عَقَدَ فِي الظَّاهِرِ عَقْدًا بَعْدَ عَقْدِ السِّرِّ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ بَذْلُ الزَّائِدِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ، فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ زَادَهَا عَلَى صَدَاقِهَا. وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّعْلِيلِ لِكَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إنْ كَانَ مَهْرُ السِّرِّ أَكْثَرَ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، وَجَبَ مَهْرُ السِّرِّ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِعَقْدِهِ، وَلَمْ تُسْقِطْهُ الْعَلَانِيَةُ فَبَقِيَ وُجُوبُهُ، فَأَمَّا إنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّهُمَا يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ بِأَلْفَيْنِ تَجَمُّلًا، فَفَعَلَا ذَلِكَ فَالْمَهْرُ أَلْفَانِ؛ لِأَنَّهَا تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، فَوَجَبَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا اتِّفَاقٌ عَلَى خِلَافِهَا. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ مِنْ جِنْسِ الْعَلَانِيَةِ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ أَلْفًا وَالْعَلَانِيَةُ أَلْفَيْنِ، أَوْ يَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْعَلَانِيَةُ مِائَةَ دِينَارٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ. فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفِيَ لِلزَّوْجِ بِمَا وَعَدَتْ بِهِ، وَشَرَطَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، مِنْ أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ إلَّا مَهْرَ السِّرِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ بِمَهْرٍ، وَأَعْلَنُوا مَهْرًا، يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا، وَيُؤْخَذَ بِالْعَلَانِيَةِ. فَاسْتَحَبَّ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.» وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ عَقْدًا فِي السِّرِّ انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ، فِيهِ مَهْرٌ قَلِيلٌ، فَصَدَّقَتْهُ، فَلَيْسَ لَهَا سِوَاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ، وَقَالَتْ: هُمَا مَهْرَانِ فِي نِكَاحَيْنِ. وَقَالَ: بَلْ نِكَاحٌ وَاحِدٌ، أَسْرَرْنَاهُ ثُمَّ أَظْهَرْنَاهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الثَّانِيَ عَقْدٌ صَحِيحٌ يُفِيدُ حُكْمًا كَالْأَوَّلِ، وَلَهَا الْمَهْرُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي، وَنِصْفُ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، إنْ ادَّعَى سُقُوطَ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ، سُئِلَتْ الْمَرْأَةُ فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا، ثُمَّ نَكَحَهَا نِكَاحًا ثَانِيًا، حَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَحَقَّتْ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِمَا يُسْقِطُ نِصْفَ الْمَهْرِ أَوْ جَمِيعَهُ، لَزِمَهَا مَا أَقَرَّتْ بِهِ. [فَصْل تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِمَهْرِ وَاحِدٍ] (5639) فَصْلٌ إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ وَلِيٌّ وَاحِدٌ كَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ، أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 مَوْلَيَاتٌ لِمَوْلَى وَاحِدٍ، أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُنَّ وَلِيٌّ، فَزَوَّجَهُنَّ الْحَاكِمُ، أَوْ كَانَ لَهُنَّ أَوْلِيَاءٌ فَوَكَّلُوا وَكِيلًا وَاحِدًا، فَعَقَدَ نِكَاحَهُنَّ مَعَ رَجُلٍ، فَقَبِلَهُ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَالْمَهْرُ صَحِيحٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي، أَنَّ الْمَهْرَ فَاسِدٌ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْمَهْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ، فَلَا يَفْسُدُ لِجَهَالَتِهِ فِي التَّفْصِيلِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ مِنْ رَجُلٍ بِثَمَنِ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الصُّبْرَةُ بِثَمَنِ وَاحِدٍ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ قَفَزَانِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الصَّدَاقَ يُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ فِي قَوْلِ الْقَاضِي، وَابْنِ حَامِدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِنَّ إضَافَةً وَاحِدَةً، فَكَانَ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوَاءِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُنَّ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ لَهُنَّ، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى جَمَاعَةٌ ثَوْبًا بِأَثْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ بَاعُوهُ مُرَابَحَةً أَوْ مُسَاوَمَةً، كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْسِيطِهِ يُفْضِي إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَذَلِكَ يُفْسِدُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفِي الْقِيمَةِ، فَوَجَبَ تَقْسِيطُ الْعِوَضِ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا، أَوْ كَمَا لَوْ ابْتَاعَ عَبْدَيْنِ، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي مِنْ ابْتَاعَ عَبْدَيْنِ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَكَذَلِكَ نَصَّ فِي مَنْ تَزَوَّجَ عَلَى جَارِيَتَيْنِ، فَإِذَا إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْحُرَّةِ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا مَعِيبًا فَرَدَّهُ لَرَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ. مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، وَإِنْ سُلِّمَ فَالْقِيمَةُ ثَمَّ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْإِقْرَارُ، فَلَيْسَ فِيهِمَا قِيمَةٌ يُرْجَعُ إلَيْهَا، وَتُقَسَّمُ الْهِبَةُ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى جَهَالَةِ التَّفْصِيلِ، لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجُمْلَةِ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إذَا خَالَعَ امْرَأَتَيْنِ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَاتَبَ عَبِيدًا بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، أَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْخِلَافِ فِيهِ وَيُقَسَّمُ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ عَلَى قَدْرِ الْمَهْرَيْنِ، وَفِي الْكِتَابَةِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبِيدِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، يُقَسَّمُ بِالسَّوِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ بِصَدَاقِ وَاحِدٍ] (5640) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ بِصَدَاقٍ وَاحِدٍ، وَإِحْدَاهُمَا مِمَّنْ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا؛ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَقُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي الْأُخْرَى، فَلَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْمُسَمَّى. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلٍ وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسَمَّى كُلُّهُ لِلَّتِي يَصِحُّ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ بِحَالٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَالْحَائِطُ بِالْمُسَمَّى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنَيْنِ، إحْدَاهُمَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، فَلَزِمَهُ فِي الْأُخْرَى بِحِصَّتِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ. مَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي مُقَابَلَةِ نِكَاحِهَا مَهْرٌ بِخِلَافِ الْحَائِطِ. [فَصْلٌ جَمَعَ بَيْنَ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ] (5641) فَصْلٌ: فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ، فَقَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي، وَبِعْتُك دَارِي هَذَا بِأَلْفٍ. صَحَّ، وَيُقَسَّطُ الْأَلْفُ، عَلَى صَدَاقِهَا، وَقِيمَةُ الدَّارِ. وَإِنْ قَالَ زَوَّجْتُك ابْنَتِي، وَاشْتَرَيْت مِنْك عَبْدَك هَذَا بِأَلْفٍ. فَقَالَ: بِعْتُكَهُ، وَقَبِلْت النِّكَاحَ. صَحَّ، وَيُقَسَّطُ الْأَلْفُ عَلَى الْعَبْدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالْمَهْرُ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْجَهَالَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَصِحُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، فَصَحَّ جَمْعُهُمَا، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبَيْنِ. فَإِنْ قَالَ: زَوَّجْتُك وَلَك هَذَا الْأَلْفُ بِأَلْفَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ كَمَسْأَلَةِ مَدِّ عَجْوَةٍ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَ أَبُوهَا حَيًّا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَ أَبُوهَا مَيِّتًا] (5642) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَ أَبُوهَا حَيًّا، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَ أَبُوهَا مَيِّتًا، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ، وَلَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا؛ لِأَنَّ حَالَ الْأَبِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَيَكُونُ مَجْهُولًا. وَإِنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ أُخْرِجْك مِنْ دَارِك، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجْتُك مِنْهَا. أَوْ عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لِي امْرَأَةٌ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ. فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو بَكْرٍ: فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الشَّرْطَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْبَيْعِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَلْفًا مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا جَهْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَعْلُومٌ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ وَالصَّدَاقُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ. وَالْأُولَى أَوْلَى. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ، فَلَوْ قَالَ: إنْ مَاتَ أَبُوك، فَقَدْ زِدْتُك فِي صَدَاقِك أَلْفًا. لَمْ تَصِحَّ، وَلَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الشَّرْطَ هَاهُنَا لَمْ يَتَجَدَّدْ فِي قَوْلِهِ: إنْ كَانَ لِي زَوْجَةٌ، أَوْ إنْ كَانَ أَبُوك مَيِّتًا. وَلَا الَّذِي جَعَلَ الْأَلْفَ فِيهِ مَعْلُومَ الْوُجُودِ، لِيَكُونَ الْأَلْفُ الثَّانِي زِيَادَةً عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ التَّسْمِيَةِ فِيهَا، وَبَيْنَ الَّتِي نَصَّ عَلَى الصِّحَّةِ فِيهَا، بِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي جَعَلَ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِيهَا غَرَضٌ يَصِحُّ بَذْلُ الْعِوَضِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ أَبِيهَا مَيِّتًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِمَا، فَإِنَّ خُلُوَّ الْمَرْأَةِ مِنْ ضَرَّةٍ تُغِيرُهَا، وَتُقَاسِمُهَا، وَتُضَيَّقُ عَلَيْهَا، مِنْ أَكْبَرِ أَغْرَاضِهَا، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا فِي دَارِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَفِي وَطَنِهَا، فَلِذَلِكَ خَفَّفَتْ صَدَاقَهَا لِتَحْصِيلِ غَرَضِهَا، وَثَقَّلَتْهُ عِنْد فَوَاتِهِ. فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ قِيَاسُ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَا يَكُونُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ إلَّا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الصِّحَّةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ، وَالْبُطْلَانُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَمَا جَاءَ مِنْ الْمَسَائِلِ أُلْحِقَ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَهَا عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى] (5643) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى، لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتُكْفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا، وَلِتُنْكَحَ، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا.» صَحِيحٌ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً بِطَلَاقِ أُخْرَى.» وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، وَلَا أَجْرًا فِي إجَارَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ صَدَاقًا، كَالْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا وَنَحْوَهُ، يَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ نِصْفُهُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ الْمُتْعَةِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهَا فِي التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِعْلًا لَهَا فِيهِ نَفْعٌ وَفَائِدَةٌ، لِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ الرَّاحَةِ بِطَلَاقِهَا مِنْ مُقَاسَمَتِهَا، وَضَرَرِهَا، وَالْغَيْرَةِ مِنْهَا، فَصَحَّ صَدَاقًا، كَعِتْقِ أَبِيهَا، وَخِيَاطَةِ قَمِيصِهَا، وَلِهَذَا صَحَّ بَذْلُ الْعِوَضِ فِي طَلَاقِهَا بِالْخُلْعِ. فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ يُطَلِّقْ ضَرَّتَهَا، فَلَهَا مِثْلُ صَدَاقِ الضَّرَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، فَكَانَ لَهَا قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا، فَخَرَجَ حُرًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَإِنْ جَعَلَ صَدَاقَهَا أَنَّ طَلَاقَ ضَرَّتِهَا إلَيْهَا إلَى سَنَةٍ، فَلَمْ تُطَلِّقْهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَجَعَلَ طَلَاقَ الْأُولَى مَهْرَ الْأُخْرَى إلَى سَنَةٍ أَوْ إلَى وَقْتٍ، فَجَاءَ الْوَقْتُ وَلَمْ تَقْضِ شَيْئًا، رَجَعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ. فَقَدْ أَسْقَطَ أَحْمَدُ حَقَّهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لَهَا إلَى وَقْتٍ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ تَقْضِ فِيهِ شَيْئًا، بَطَلَ تَصَرُّفُهَا كَالْوَكِيلِ، وَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنْ الْمَهْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ؛ أَحَدُهُمَا، يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ مَا شَرَطَ لَهَا بِاخْتِيَارِهَا، فَسَقَطَ حَقُّهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَأَعْتَقَتْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 وَالثَّانِي، لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا أَخَّرَتْ اسْتِيفَاءَ حَقِّهَا، فَلَا يَسْقُطُ، كَمَا لَوْ أَجْلَتْ قَبَضَ دَرَاهِمِهَا. وَهَلْ تَرْجِعُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ إلَى مَهْرِ الْأُخْرَى؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ تَلْحَقُ بِهِ] (5644) فَصْلٌ: الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ تَلْحَقُ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ، فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى مَهْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا زَادَهَا فِي مَهْرِهَا: فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ الْأَوَّلِ، وَاَلَّذِي زَادَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ، فَإِنْ زَادَهَا فَهِيَ هِبَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هِبَتِهَا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْ الزِّيَادَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا زَوَّجَ رَجُلٌ أَمَتَهُ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا، فَقَالَتْ الْأَمَةُ: زِدْنِي فِي مَهْرِي حَتَّى أَخْتَارَك فَالزِّيَادَةُ لِلْأَمَةِ، وَلَوْ لَحِقَتْ بِالْعَقْدِ، كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِلسَّيِّدِ. وَلَيْسَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ مَعْنَى لُحُوقِ الزِّيَادَةِ بِالْعَقْدِ، أَنَّهَا تَلْزَمُ وَيَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الصَّدَاقِ؛ مِنْ التَّنْصِيفِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ لِلسَّيِّدِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالزِّيَادَةِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُونُ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهَا شَيْئًا، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عِوَضِ الْعَقْدِ بَعْدَ لُزُومِهِ، فَلَمْ يُلْحَقُ بِهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ زَمَنٌ لِفَرْضِ الْمَهْرِ، فَكَانَ حَالَةَ الزِّيَادَةِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا يَبْطُلُ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مَا حَصَلَ بِهِ، وَلِهَذَا صَحَّ خُلُوُّهُ عَنْهُ، وَهَذَا أَلْزَمُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَهْرُ الْمُفَوِّضَةِ إنَّمَا وَجَبَ بِفَرْضِهِ لَا بِالْعَقْدِ، وَقَدْ مَلَكَ الْبُضْعَ بِدُونِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ ثُبُوتُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ، فَيَكُونَ كَأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِمَا جَمِيعًا، كَمَا قَالُوا فِي مَهْرِ الْمُفَوِّضَةِ إذَا فَرَضَهُ، وَكَمَا قُلْنَا جَمِيعًا فِيمَا إذَا فَرَضَ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَعْنَى لُحُوقِ الزِّيَادَةِ بِالْعَقْدِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فِي أَنَّهَا تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِمَنْ كَانَ الصَّدَاقُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى سَبَبِهِ، وَلَا وُجُودِهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بَعْدَ سَبَبَهُ مِنْ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي الزِّيَادَةِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ. وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهَا صَدَاقًا، جَعَلَهَا تَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ وَتَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ، وَتَسْقُطُ كُلُّهَا إذَا جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَمَنْ جَعَلَهَا هِبَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 جَعَلَهَا جَمِيعَهَا لِلْمَرْأَةِ، لَا تَتَنَصَّفُ بِطَلَاقِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ لِكَوْنِهَا عِدَّةً غَيْرَ لَازِمَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا وَجْهٌ، وَإِلَّا فَلَا. [مَسْأَلَة أَصْدَقَهَا غَنَمًا فَتَوَالَدَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5645) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَصْدَقَهَا غَنَمًا فَتَوَالَدَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، كَانَتْ الْأَوْلَادُ لَهَا، وَرَجَعَ بِنِصْفِ الْأُمَّهَاتِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا أَوْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا نَاقِصَةً) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَهْرَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَإِذَا زَادَ فَالزِّيَادَةُ لَهَا، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَتْ غَنَمًا فَتَوَالَدَتْ، فَالْأَوْلَادُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، تَنْفَرِدُ بِهَا دُونَهُ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهَا. وَيَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْأُمَّهَاتِ، إنْ لَمْ تَكُنْ نَقَصَتْ وَلَا زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ مَا فَرَضَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَإِنْ كَانَتْ نَقَصَتْ بِالْوِلَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهَا نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِدُونِ حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهَا: وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النَّقْصِ عَلَيْهَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ رُجُوعُهُ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الصَّدَاقِ، فَلَمْ يَمْنَعْ رُجُوعَ الزَّوْجِ، كَمَا لَوْ انْفَصَلَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمَا ذَكَرُوهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِرَفْعٍ لِلْعَقْدِ، وَلَا النَّمَاءُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، إنَّمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا أَوْ بَعْدَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَنَعَهَا قَبْضَهُ. فَيَكُونُ النَّقْصُ مِنْ ضَمَانِهِ، وَالزِّيَادَةُ لَهَا، فَتَنْفَرِدُ بِالْأَوْلَادِ. وَإِنْ نَقَصَتْ الْأُمَّهَاتُ، خُيِّرَتْ بَيْنَ أَخَذَ نِصْفِهَا نَاقِصَةً، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ أَصْدَقَهَا إلَى يَوْمِ طَلَّقَهَا. وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ الْمَرْأَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ فِي نِصْفِ الْأَوْلَادِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ حَقَّ التَّسْلِيمِ تَعَلَّقَ بِالْأُمِّ، فَسَرَى إلَى الْوَلَدِ، كَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ، وَمَا دَخَلَ فِي التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ، كَاَلَّذِي دَخَلَ فِي الْعَقْدِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَمَا فُرِضَ هَا هُنَا إلَّا الْأُمَّهَاتُ، فَلَا يَتَنَصَّفُ سِوَاهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 وَلِأَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ فِي مِلْكِهَا، فَأَشْبَهَ مَا حَدَثَ فِي يَدِهَا، وَلَا يُشْبِهُ حَقُّ التَّسْلِيمِ حَقَّ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنْ حَقَّ الِاسْتِيلَادِ يَسْرِي، وَحَقَّ التَّسْلِيمِ لَا سِرَايَةَ لَهُ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ طَالَبَتْ بِهِ فَمَنَعَهَا، ضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ. [فَصْلٌ حُكْم الصَّدَاقِ إذَا كَانَ جَارِيَةً] (5646) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الصَّدَاقِ إذَا كَانَ جَارِيَةً، كَالْحُكْمِ فِي الْغَنَمِ، فَإِذَا وَلَدَتْ كَانَ الْوَلَدُ لَهَا، كَوَلَدِ الْغَنَمِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِهِ، فَيَرْجِعُ أَيْضًا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا لَا غَيْر. [فَصْلٌ كَانَ الصَّدَاقُ بَهِيمَةً حَائِلًا فَحَمَلَتْ] (5647) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ بَهِيمَةً حَائِلًا، فَحَمَلَتْ فَالْحَمْلُ فِيهَا زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، إنْ بَذَلَتْهَا لَهُ بِزِيَادَتِهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْدُودًا نَقْصًا، وَلِذَلِكَ لَا يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَحَمَلَتْ، فَقَدْ زَادَتْ مِنْ وَجْهٍ لِأَجَلِ وَلَدِهَا، وَنَقَصَتْ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي النِّسَاءِ نَقْصٌ، لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَيْهَا حِينَ الْوِلَادَةِ، وَلِهَذَا يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهَا بَذْلُهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا لِأَجْلِ النَّقْصِ، وَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَنْصِيفِهَا، جَازَ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا حَامِلًا، فَوَلَدَتْ، فَقَدْ أَصْدَقَهَا عَيْنَيْنِ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا، وَزَادَ الْوَلَدُ فِي مِلْكِهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا، فَرَضِيَتْ بِبَذْلِ النِّصْفِ مِنْ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا، أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِمَا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ وَإِنْ لَمْ تَبْذُلْهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِ الْوَلَد؛ لِزِيَادَتِهِ، وَلَا فِي نِصْفِ الْأُمِّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَفِي نِصْفِ الْوَلَدِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَسْتَحِقُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَحَالَةَ الِانْفِصَالِ قَدْ زَادَ فِي مِلْكِهَا، فَلَا يُقَوَّمُ الزَّوْجُ بِزِيَادَتِهِ. وَيُفَارِقُ وَلَدَ الْمَغْرُورِ، فَإِنَّ وَقْتَ الِانْفِصَالِ وَقْتُ الْحَيْلُولَةِ، فَلِهَذَا قُوِّمَ فِيهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَالثَّانِي، لَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْدَقَهَا عَيْنَيْنِ، فَلَا يَرْجِعُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَيُقَوَّمُ حَالَةَ الِانْفِصَالِ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَالَةِ إمْكَانِ تَقْوِيمِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخِرُ وَهُوَ أَنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ حَادِثٌ. [فَصْلٌ كَانَ الصَّدَاق مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَنَقَصَ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا] (5648) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَنَقَصَ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا، أَوْ كَانَ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 فَمَنَعَهَا أَنْ تَتَسَلَّمَهُ، فَالنَّقْصُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ، وَتَتَخَيَّرُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، مِنْ يَوْمِ أَصْدَقَهَا إلَى يَوْمِ طَلَّقَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ زَادَ فَلَهَا، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. [مَسْأَلَة أُصَدِّقهَا أَرْضًا فَبِنْتهَا دَارًا أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ] (5649) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا أَصْدَقَهَا أَرْضًا، فَبَنَتْهَا دَارًا، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا، إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالصَّبْغِ، فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ، أَوْ تَشَاءَ هِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ زَائِدًا، فَلَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُهُ) . إنَّمَا كَانَ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ زِيَادَةٌ لِلْمَرْأَةِ، وَهِيَ الْبِنَاءُ وَالصَّبْغُ، فَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ نِصْفَ الْجَمِيعِ زَائِدًا، فَعَلَيْهِ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَزِيَادَةٌ. وَإِنْ بَذَلَ لَهَا نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالصَّبْغِ، وَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: " لَهُ ذَلِكَ ". قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، لَا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْبِنَاءِ مُعَاوَضَةٌ، فَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ حَصَلَتْ لَهُ، وَفِيهَا بِنَاءٌ لَغَيْرِهِ، فَإِذَا بَذَلَ الْقِيمَةَ، لَزِمَ الْآخَرَ قَبُولُهُ، كَالشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الْأَرْضَ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي فِيهَا، فَبَذَلَ الشَّفِيعُ قِيمَتَهُ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ، قَبُولُهَا، وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِي أَرْضِهِ، وَفِيهَا بِنَاءٌ أَوْ غَرْسٌ لَلْمُسْتَعِيرِ، فَبَذَلَ الْمُعِيرُ قِيمَةَ ذَلِكَ لَزِمَ الْمُسْتَعِيرَ قَبُولُهَا. . [فَصْلٌ أُصَدِّقهَا نَخْلًا حَائِلًا فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِهِ] (5650) فَصْلٌ: إذَا أَصْدَقَهَا نَخْلًا حَائِلًا، فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِهِ، فَالثَّمَرَةُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهَا، فَإِنْ جَذَّهَا بَعْدَ تَنَاهِيهَا، وَجَعَلَهَا فِي ظُرُوفٍ، وَأَلْقَى عَلَيْهَا صَقْرًا، مِنْ صَقْرِهَا، وَهُوَ سَيَلَانُ الرُّطَبِ بِغَيْرِ طَبْخٍ، وَهَذَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ حِفْظًا لِرُطُوبَتِهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ لَا تَنْقُصَ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ وَالصَّقْرِ، بَلْ كَانَا بِحَالِهِمَا، أَوْ زَادَا، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُمَا عَلَيْهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الثَّانِي، أَنْ تَنْقُصَ قِيمَتُهَا، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُمَا مُتَنَاهِيًا، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُمَا إلَيْهَا وَأَرْشَ نَقْصِهِمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ لَا يَتَنَاهَى، بَلْ يَتَزَايَدُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا تَأْخُذُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهَا كَالْمُسْتَهْلِكَةِ وَالثَّانِي، هِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ تَرْكِهَا حَتَّى يَسْتَقِرَّ نَقْصُهَا، وَتَأْخُذُهَا وَأَرْشَهَا، كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ لَا تَنْقُصَ قِيمَتُهَا لَكِنْ إنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ظُرُوفِهَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا، فَلِلزَّوْجِ إخْرَاجُهَا وَأَخْذُ ظُرُوفِهَا، إنْ كَانَتْ الظُّرُوفُ مِلْكَهُ. وَإِذَا نَقَصَتْ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أُعْطِيكَهَا مَعَ ظُرُوفِهَا. فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهَا قَبُولُهَا؛ لِأَنَّ ظُرُوفَهَا كَالْمُتَّصِلَةِ بِهَا التَّابِعَةَ لَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهَا قَبُولُهَا؛ لِأَنَّ الظُّرُوفَ عَيْنُ مَالِهِ، فَلَا يَلْزَمُهَا قَبُولُهَا، كَالْمُنْفَصِلَةِ عَنْهَا. (5651) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا، إلَّا أَنَّ الصَّقْرَ الْمَتْرُوكَ عَلَى الثَّمَرَةِ مِلْكُ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ يَنْزِعُ الصَّقْرَ، وَيَرُدُّ الثَّمَرَةَ، وَالْحُكْمُ فِيهَا إنْ نَقَصَتْ أَوْ لَمْ تَنْقُصْ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَالَ: أَنَا أُسَلِّمُهَا مَعَ الصَّقْرِ وَالظُّرُوفِ. فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمْنَا أَنَّ لَهُ رَدَّهُ، إذَا قَالَتْ: أَنَا أَرُدُّ الثَّمَرَةَ، وَآخُذُ الْأَصْلَ. فَلَهَا ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْآخَرِ، لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. مَبْنِيَّانِ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا. [فَصْل كَانَ الصَّدَاق جَارِيَة فَوَطِئَهَا الزَّوْج عَالِمًا بِزَوَالِ مِلْكه] (5652) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الصَّدَاقُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ، عَالِمًا بِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِسَيِّدَتِهَا، أَكْرَهَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِمَوْلَاتِهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِبَذْلِهَا وَمُطَاوَعَتِهَا، كَمَا لَوْ بَذَلَتْ يَدَهَا لِلْقَطْعِ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلْمَرْأَةِ. وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ جَمِيعِهَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَوْ كَانَ غَيْرَ عَالَمٍ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ لَا حَقَّ نَسَبُهُ بِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وِلَادَتِهِ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهَا، وَتُخَيَّرُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ أَخْذِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ نَقَصَهَا بِإِحْبَالِهَا، وَهَلْ لَهَا الْأَرْشُ مَعَ ذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهَا الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ بِعُدْوَانِهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَصَهَا الْغَاصِبُ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَرْشِ هَاهُنَا قَوْلَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ، وَكَمَا لَوْ طَالَبَتْهُ فَمَنَعَ تَسْلِيمَهَا. وَهَذَا أَصَحُّ. [فَصْلٌ أُصَدِّق ذِمِّيّ ذِمِّيّه خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدهَا] (5653) فَصْلٌ: إذَا أَصْدَقَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّهُ خَمْرًا، فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ زَادَتْ فِي يَدِهَا بِالتَّخَلُّلِ، وَالزِّيَادَةُ لَهَا، وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهَا قَبْلَ التَّخَلُّلِ، فَلَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إذَا زَادَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا أَقَلَّ مَا كَانَتْ مِنْ حِينَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْقَبْضِ، وَحِينَئِذٍ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَلُّ لَهُ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا، إذَا تَرَافَعَا إلَيْنَا قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ أَسْلَمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 [فَصْلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَة فَضَمِنَ أَبُوهُ نَفَقَتهَا عَشْر سِنِينَ] فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَضَمِنَ أَبُوهُ نَفَقَتَهَا عَشْرَ سِنِينَ، صَحَّ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ ضَمَانُ مَجْهُولٍ، أَوْ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْن كَوْنِ الزَّوْجِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ كَقَوْلِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ إلَّا ضَمَانُ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعْسِرِ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِ أَوْ الْمُتَوَسِّطِ، فَيَكُونُ ضَمَانَ مَجْهُولٍ، وَالْمُعْسِرُ مَعْلُومٌ مَا عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ أَصْلًا، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. وَلَنَا أَنَّ الْحَبَلَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الضَّمَانِ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ ضَمَانِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا فَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ صَحَّ الضَّمَانُ، فَكَذَلِكَ هَذَا. [فَصْلٌ يَجِب الْمَهْر لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا وَالْمَوْطُوءَة فِي نِكَاح فَاسِد] (5655) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْمَهْرُ لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَيَجِبُ لِلْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَلَا يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ أَحْمَدَ قَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَى، وَهِيَ بِكْرٌ: فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مَهْرَ لِلْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى. وَلَنَا «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» . وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُسْتَحِلٌّ لِفَرْجِهَا، فَإِنَّ الِاسْتِحْلَالَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحِلِّ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» . وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ الْأَرْشَ لِكَوْنِهِ أَوْجَبَ الْمَهْرَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا يَجِبُ بَدَلُهُ بِالشُّبْهَةِ، وَفِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَرِهَا، فَوَجَبَ بَدَلُهُ كَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَأَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ، أَنَّهُ وَطْءٌ ضَمِنَ بِالْمَهْرِ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَهُ أَرْشٌ، كَسَائِرِ الْوَطْءِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ بِالْوَطْءِ، وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَكَوْنِهِ تَمَحَّضَ عُدْوَانًا، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ يَدْخُلُ فِي الْمَهْرِ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْبِكْرِ يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ الثَّيِّبِ بِبَكَارَتِهَا، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ مُقَابِلَةً لِمَا أُتْلِفَ مِنْ الْبَكَارَةِ، فَلَا يَجِبُ عِوَضُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً. يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا أُخِذَ أَرْشُ الْبَكَارَةِ مَرَّةً، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، فَلَا يَجِبُ لَهَا إلَّا مَهْرُ ثَيِّبٍ، وَمَهْرُ الثَّيِّبِ مَعَ أَرْشِ الْبَكَارَةِ هُوَ مَهْرُ مِثْلِ الْبِكْرِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 [فَصْلٌ لَا فَرَّقَ بَيْن كَوْن الْمَوْطُوءَة أَجْنَبِيَّة أَوْ مِنْ ذَوَات مَحَارِمه] (5656) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْن كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ أَجْنَبِيَّةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَمَذْهَبُ النَّخَعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ مِنْ النِّسَاءِ لَا مَهْرَ لَهُنَّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ أَصْلٍ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مَهْرٌ. كَاللِّوَاطِ، وَفَارَقَ مَنْ حُرِّمَتْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا طَارِئٌ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَنْ حُرِّمَتْ بِالرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ أَيْضًا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ مَنْ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا لَا مَهْرَ لَهَا، كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ، وَمِنْ تَحِلُّ ابْنَتُهَا، كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا أَخَفُّ. وَلَنَا، أَنَّ مَا ضَمِنَ لِلْأَجْنَبِيِّ، ضَمِنَ لِلْمُنَاسِبِ، كَالْمَالِ وَمَهْرِ الْأَمَةِ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِالْوَطْءِ، فَلَزِمَهُ مَهْرُهَا، كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَضْمُونٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَالْمَالِ، وَبِهَذَا فَارَقَ اللِّوَاطَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ. [فَصْلٌ لَا يَجِب الْمَهْر بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُر وَلَا اللِّوَاط] (5657) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَلَا اللِّوَاطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِبَدَلِهِ، وَلَا هُوَ إتْلَافٌ لَشَيْءٍ، فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ وَالْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ، وَلَا يَجِبُ لِلْمُطَاوِعَةِ عَلَى الزِّنَى، لِأَنَّهَا بَاذِلَةٌ لِمَا يَجِبُ بَذْلُهُ لَهَا، فَلَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ لَهُ فِي قَطْعِ يَدِهَا فَقَطَعَهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً، فَيَكُونُ الْمَهْرُ لِسَيِّدِهَا، وَلَا يَسْقُطُ بِبَذْلِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِهَا. [فَصْل طَلَّقَ امْرَأَته قَبْلَ الدُّخُولِ طَلْقَة وَظَنَّ أَنَّهَا لَا تَبِينُ بِهَا فَوَطِئَهَا] (5658) فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلْقَةً، وَظَنَّ أَنَّهَا لَا تَبِينُ بِهَا، فَوَطِئَهَا، لَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ. وَلَنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ يَتَنَصَّفُ بِطَلَاقِهِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . وَوَطْؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَرِيَ عَنْ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ عَلِمَ أَوْ كَغَيْرِهَا، أَوْ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ. [فَصْلٌ وَمِنْ نِكَاحِهَا بَاطِل إذَا نَكَحَهَا رَجُلٌ فَوَطِئَهَا عَالِمًا بِالْحَالِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ عَالِمَةٌ فَلَا مَهْرَ لَهَا] (5659) فَصْلٌ: وَمَنْ نِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ كَالْمُزَوَّجَةِ، وَالْمُعْتَدَّةِ، إذَا نَكَحَهَا رَجُلٌ فَوَطِئَهَا عَالِمًا بِالْحَالِ، وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ عَالِمَةٌ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ زِنَى يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ جَهِلَتْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، أَوْ كَوْنَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالْمَهْرُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ بَصْرَةُ بْنُ أَكْثَمَ، نَكَحَ امْرَأَةً، فَوَلَدَتْ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا الصَّدَاقَ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ فَاجْلِدُوهَا» . وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ تَزَوَّجَ جَارِيَةً مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهَا الدَّرْدَاءُ، فَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، وَمَاتَ أَبُو الْجَارِيَةِ فَزَوَّجَهَا أَهْلُهَا رَجُلًا، يُقَالُ لَهُ عِكْرِمَةُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَقَدِمَ فَخَاصَمَهُمْ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ، وَكَانَتْ حَامِلًا مِنْ عِكْرِمَةَ، فَوَضَعَتْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ لَعَلِيٍّ: أَنَا أَحَقُّ بِمَالِيِّ أَوْ عُبَيْدُ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتِ أَحَقُّ بِمَالِك. قَالَتْ: فَاشْهَدُوا أَنَّ مَا كَانَ لِي عَلَى عِكْرِمَةَ مِنْ صَدَاقٍ فَهُوَ لَهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، رَدَّهَا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْن الْحُرِّ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ. [فَصْلٌ الصَّدَاق إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ دَيْن] (5660) فَصْلٌ: وَالصَّدَاقُ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ دَيْنٌ، إذَا مَاتَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهُ، قُسِّمَ مَالُهُ بَيْنهمْ بِالْحِصَصِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي مَرِيضٍ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَاتَ: مَا تَرَكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْمَرْأَةِ بِالْحِصَصِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ، وَالصَّدَاقَ دَيْنٌ، فَتَسَاوَى سَائِرُ الدُّيُونِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْفُرْقَة قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ قَبْلَ الْمَرْأَة] فَصْلٌ: وَكُلُّ فُرْقَةٍ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، مِثْلُ إسْلَامِهَا، أَوْ رِدَّتِهَا، أَوْ إرْضَاعِهَا مَنْ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِإِرْضَاعِهِ، أَوْ ارْتِضَاعِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ، أَوْ فَسَخَتْ لِإِعْسَارَةِ، أَوْ عَيْبِهِ، أَوْ لِعِتْقِهَا تَحْت عَبْدٍ، أَوْ فَسْخِهِ بِعَيْبِهَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ مَهْرُهَا، وَلَا يَجِبُ لَا مُتْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ الْمُعَوَّضَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، فَسَقَطَ الْبَدَلُ كُلُّهُ، كَالْبَائِعِ يُتْلِفُ الْمَبِيعَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ. وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الزَّوْجِ، كَطَلَاقِهِ، وَخُلْعِهِ، وَإِسْلَامِهِ، وَرِدَّتِهِ، أَوْ جَاءَتْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، كَالرَّضَاعِ، أَوْ وَطْءٍ يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ، سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَوَجَبَ نِصْفُهُ أَوْ الْمُتْعَةُ لِغَيْرِ مَنْ سُمِّيَ لَهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى مَنْ فَسَخَ النِّكَاحَ إذَا جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ أَجْنَبِيٍّ. وَإِنْ قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ، اسْتَقَرَّ الْمَهْرُ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِالْمَوْتِ، وَانْتِهَاءِ النِّكَاحِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، سَوَاءٌ قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، أَوْ قَتَلَ الْأَمَةَ سَيِّدُهَا. وَإِنْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْإِيلَاءِ، فَهُوَ كَطَلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَهُ فِي إيفَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ. وَفِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هِيَ كَطَلَاقِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ قَذْفُهُ الصَّادِرُ مِنْهُ. وَالثَّانِيَةُ، يَسْقُطُ بِهِ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ عَقِيبَ لِعَانِهَا، فَهُوَ كَفَسْخِهَا لِعُنَّتِهِ. وَفِي فُرْقَةِ شِرَائِهَا لِزَوْجِهَا أَيْضًا رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 إحْدَاهُمَا، يَتَنَصَّفُ بِهَا مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُوجِبَ لِلْفَسْخِ تَمَّ بِالسَّيِّدِ الْقَائِمِ مَقَامَ الزَّوْجِ وَبِالْمَرْأَةِ، فَأَشْبَهَ الْخُلْعَ. وَالثَّانِيَةُ، يَسْقُطُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ وُجِدَ عَقِيبَ قَبُولِهَا، فَأَشْبَهَ فَسْخَهَا لِعُنَّتِهِ. وَفِيمَا إذَا اشْتَرَى الْحُرُّ امْرَأَتَهُ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شِرَائِهَا لِزَوْجِهَا. وَإِذَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، أَوْ وَكَّلَهَا فِي الطَّلَاقِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، فَهُوَ كَطَلَاقِهِ. لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ بَاشَرَتْ الطَّلَاقَ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْهُ، وَوَكِيلَةٌ لَهُ، وَفِعْلُ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ. وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى فِعْلٍ مِنْ قِبَلِهَا، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقَّقَتْ شَرْطَهُ، وَالْحُكْمُ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ السَّبَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 [كِتَاب الْوَلِيمَة] ِ الْوَلِيمَةُ: اسْمٌ لِلطَّعَامِ فِي الْعُرْسِ خَاصَّةً، لَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى غَيْرِهِ. كَذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْوَلِيمَةَ تَقَعُ عَلَى كُلِّ طَعَامٍ لَسُرُورٍ حَادِثٍ، إلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي طَعَامِ الْعُرْسِ أَكْثَرُ. وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَوْضُوعَاتِ اللُّغَةِ، وَأَعْلَمُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْعَذِيرَةُ: اسْمٌ لِدَعْوَةِ الْخِتَان، وَتُسَمَّى الْإِعْذَارَ. وَالْخُرْسُ وَالْخُرْسَةُ: عِنْدَ الْوِلَادَة. وَالْوَكِيرَةُ: دَعْوَةُ الْبِنَاءِ. يُقَالُ: وَكَّرَ وَخَرَّسَ، مُشَدَّدٌ. وَالنَّقِيعَةُ: عِنْد قُدُومِ الْغَائِبِ، يُقَالُ: نَقَعَ، مُخَفَّفٌ. وَالْعَقِيقَةُ: الذَّبْحُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ، قَالَ الشَّاعِرُ: كُلُّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَةُ ... الْخَرْسَ وَالْإِعْذَارَ وَالنَّقِيعَةَ وَالْحُذَّاق: الطَّعَامُ عِنْد حُذَّاقِ الصَّبِيِّ. وَالْمَأْدُبَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ دَعْوَةٍ لَسَبَبٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ. وَالْآدِبُ، صَاحِبُ الْمَأْدُبَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لَا يَرَى الْآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرُ وَالْجَفَلَى فِي الدَّعْوَةِ: أَنْ يَعُمَّ النَّاسَ بِدَعْوَتِهِ. وَالنَّقَرَى: هُوَ أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُون قَوْمٍ. [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَزَوَّجَ أَنْ يُولِمَ وَلَوْ بِشَاةِ] مَسْأَلَةٌ (5662) ؛ قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَزَوَّجَ أَنْ يُولِمَ وَلَوْ بِشَاةٍ) . لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْوَلِيمَةَ سُنَّةٌ فِي الْعُرْسِ مَشْرُوعَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا وَفَعَلَهَا. فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حِينَ قَالَ: تَزَوَّجْت: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، جَعَلَ يَبْعَثُنِي فَأَدْعُو لَهُ النَّاسَ، فَأَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا حَتَّى شَبِعُوا. وَقَالَ أَنَسٌ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الصَّهْبَاءِ، فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِمَنْ حَوْلَك. فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَفِيَّةَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُولِمَ بِشَاةٍ، إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ «رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَب، أَوْلَمَ بِشَاةِ.» لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. فَإِنْ أَوْلَمَ بِغَيْرِ هَذَا جَازَ؛ فَقَدْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَفِيَّةَ بِحَيْسٍ، وَأَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (5663) فَصْلٌ: وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ إلَيْهَا وَاجِبَةٌ؛ فَكَانَتْ وَاجِبَةً. وَلَنَا، أَنَّهَا طَعَامٌ لَسُرُورٍ حَادِثٍ؛ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَوْنِهِ أَمَرَ بِشَاةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالسَّلَامِ، لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِجَابَةُ الْمُسَلِّمِ وَاجِبَةٌ. [مَسْأَلَةٌ وُجُوب الْإِجَابَةِ إلَى الْوَلِيمَةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَيْهَا] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَعَلَى مَنْ دُعِيَ أَنْ يُجِيبَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إلَى الْوَلِيمَةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَيْهَا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَهْوٌ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ: هِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ إكْرَامٌ وَمُوَالَاةٌ، فَهِيَ كَرَدِّ السَّلَامِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إذَا دُعِيتُمْ إلَيْهَا» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ؛ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا عَامٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَيْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 طَعَامُ الْوَلِيمَةِ الَّتِي يُدْعَى إلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كُلَّ وَلِيمَةٍ طَعَامُهَا شَرُّ الطَّعَامِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمَا أَمَرَ بِهَا، وَلَا نَدَبَ إلَيْهَا، وَلَا أَمَرَ بِالْإِجَابَةِ إلَيْهَا، وَلَا فَعَلَهَا؛ وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ تَجِبُ بِالدَّعْوَةِ، فَكُلُّ مَنْ دُعِيَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ. (5665) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ عَلَى مَنْ عُيِّنَ بِالدَّعْوَةِ، بِأَنْ يَدْعُوَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ. فَإِنْ دَعَا الْجَفَلَى؛ بِأَنْ يَقُولَ: يَا أَيُّهَا النَّاسِ، أَجِيبُوا إلَى الْوَلِيمَةِ. أَوْ يَقُولَ الرَّسُولُ: أُمِرْت أَنْ أَدْعُوَ كُلَّ مَنْ لَقِيت، أَوْ مَنْ شِئْت. لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، وَلَمْ تُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ بِالدَّعْوَةِ، فَلَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعِي بِتَرْكِ إجَابَتِهِ، وَتَجُوزُ الْإِجَابَةُ بِهَذَا؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الدُّعَاءِ. [فَصْلٌ إذَا صَنَعَتْ الْوَلِيمَة أَكْثَر مِنْ يَوْم جَازَ] (5666) فَصْلٌ: وَإِذَا صُنِعَتْ الْوَلِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، جَازَ؛ فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي، أَنَّهُ أَعْرَسَ وَدَعَا الْأَنْصَارَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَإِذَا دُعِيَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَجَبْت الْإِجَابَةُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي تُسْتَحَبُّ الْإِجَابَةُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا تُسْتَحَبُّ. قَالَ أَحْمَدُ: الْأُوَلُ يَجِبُ، وَالثَّانِي إنْ أَحَبَّ، وَالثَّالِثُ فَلَا. وَهَكَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ، وَالثَّالِثُ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب أَيْضًا. وَدُعِيَ سَعِيدٌ إلَى وَلِيمَةٍ مَرَّتَيْنِ فَأَجَابَ، فَدُعِيَ الثَّالِثَةَ، فَحَصَبَ الرَّسُولَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْخَلَّالُ. [فَصْلٌ الدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْن فِي الدُّخُول وَالْأَكْل] (5667) فَصْلٌ: وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْنٌ فِي الدُّخُولِ وَالْأَكْلِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ، فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَذَلِكَ إذْنٌ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إذَا دُعِيت فَقَدْ أُذِنَ لَك. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ. [فَصْلٌ دَعَاهُ ذِمِّيُّ إلَى وَلِيمَة] (5668) فَصْلٌ: فَإِنْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ لِلْمُسْلِمِ لِلْإِكْرَامِ وَالْمُوَالَاةِ وَتَأْكِيدِ الْمَوَدَّةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 وَالْإِخَاءِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَةِ، وَلَكِنْ تَجُوزُ إجَابَتُهُمْ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، أَنْ يَهُودِيًّا «دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فَأَجَابَهُ» . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الزُّهْدِ ". [فَصْلٌ دَعَاهُ رَجُلَانِ إلَى وَلِيمَة وَلَمْ يُمَكِّن الْجَمْع بَيْنَهُمَا] فَصْلٌ: فَإِنْ دَعَاهُ رَجُلَانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَسَبَقَ أَحَدُهُمَا، أَجَابَ السَّابِقَ؛ لِأَنَّ إجَابَتَهُ وَجَبَتْ حِينَ دَعَاهُ، فَلَمْ يَزُلْ الْوُجُوبُ بِدُعَاءِ الثَّانِي، وَلَمْ تَجِبْ إجَابَةُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ مَعَ إجَابَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا، أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا مِنْهُ بَابًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ، فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا؛ فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا، فَأَجِبْ الَّذِي سَبَقَ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ «عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ أَقْرَبُهُمَا مِنْك بَابًا» . وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ؛ فَقُدِّمَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، فَإِنْ اسْتَوَيَا، أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا رَحِمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا، أَجَابَ أَدْيَنَهُمَا، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تُعَيِّنُ الْمُسْتَحِقَّ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ. [مَسْأَلَة فِي الْوَلِيمَة إنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يُطْعِم دَعَا وَانْصَرَفَ] (5670) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يُطْعِمَ، دَعَا وَانْصَرَفَ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْإِجَابَةُ إلَى الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّهَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَتَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ، أَمَّا الْأَكْلُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، صَائِمًا كَانَ أَوْ مُفْطِرًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ صَائِمًا صَوْمًا وَاجِبًا أَجَابَ، وَلَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ، وَالْأَكْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ - وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَةٍ " فَلْيُصَلِّ ". يَعْنِي: يَدْعُو. وَدُعِيَ ابْنُ عُمَرَ إلَى وَلِيمَةٍ، فَحَضَرَ وَمَدَّ يَدَهُ وَقَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ قَبَضَ يَدَهُ، وَقَالَ: كُلُوا، فَإِنِّي صَائِمٌ. وَإِنْ كَانَ صَوْمًا تَطَوُّعًا، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْأَكْلِ إجَابَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ، كَانَ أُولَى. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي دَعْوَةٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَاحِيَةً، فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ، وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، كُلْ، ثُمَّ صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إنْ شِئْت» وَإِنْ أَحَبَّ إتْمَامَ الصِّيَامِ جَازَ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَكِنْ يَدْعُو لَهُمْ، وَيَتْرُكُ، وَيُخْبِرُهُمْ بِصِيَامِهِ؛ لِيَعْلَمُوا عُذْرَهُ، فَتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَابَ عَبْدَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْت أَنْ أُجِيبَ الدَّاعِيَ، فَأَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إذَا عُرِضَ عَلَى أَحَدِكُمْ الطَّعَامُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا، فَالْأَوْلَى لَهُ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي إكْرَامِ الدَّاعِي، وَجَبْرِ قَلْبِهِ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ وَجْهٌ آخِرُ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَكْلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ» . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْأَكْلُ، فَكَانَ وَاجِبًا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَكْلُ، لَوَجَبَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَكْلُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إذَا كَانَ مُفْطِرًا. وَقَوْلُهُمْ: الْمَقْصُودُ الْأَكْلُ. قُلْنَا: بَلْ الْمَقْصُودُ الْإِجَابَةُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الصَّائِمِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ. [فَصْلٌ إذَا دَعِي إلَى وَلِيمَة فِيهَا مَعْصِيَةٌ] (5671) فَصْلٌ: إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ، فِيهَا مَعْصِيَةٌ، كَالْخَمْرِ، وَالزَّمْرِ، وَالْعُودِ وَنَحْوِهِ، وَأَمْكَنَهُ الْإِنْكَارُ، وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ، لَزِمَهُ الْحُضُورُ وَالْإِنْكَارُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي فَرْضَيْنِ؛ إجَابَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَإِزَالَةَ الْمُنْكَرِ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ، لَمْ يَحْضُرْ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ، أَزَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ انْصَرَفَ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 أَمَّا اللَّهْوُ الْخَفِيفُ، كَالدُّفِّ وَالْكِيرِ فَلَا يَرْجِعُ. وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ أُصْبَغُ: أَرَى أَنْ يَرْجِعَ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَجَدَ اللَّعِبَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ فَيَأْكُلَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَخْرُجَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إذَا كَانَ فِيهَا الضَّرْبُ بِالْعُودِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَهَا. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى سَفِينَةُ «أَنَّ رَجُلًا أَضَافَهُ عَلِيٌّ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: لَوْ دَعَوْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَكَلَ مَعَنَا؟ فَدَعَوْهُ، فَجَاءَ. فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِضَادَتَيْ الْبَابِ، فَرَأَى قِرَامًا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَرَجَعَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: الْحَقْهُ، فَقُلْ لَهُ: مَا رَجَعَك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ أَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا» . حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» . «وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كُنْت أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَسَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذْنَيْهِ، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ حَتَّى قُلْت: لَا. فَأَخْرَجَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْخِلَالُ. وَلِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمُنْكَرَ وَيَسْمَعُهُ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ. وَيُفَارِقُ مَنْ لَهُ جَارٌ مُقِيمٌ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالزَّمْرِ، حَيْثُ يُبَاحُ لَهُ الْمُقَامُ، فَإِنَّ تِلْكَ حَالُ حَاجَةٍ؛ لِمَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ مِنْ الضَّرَرِ. [فَصْل رَأَى نُقُوشًا وَصُوَرَ شَجَرٍ بَعْدَمَا لَبَّى دُعَاء الْوَلِيمَة] (5672) فَصْلٌ: فَإِنْ رَأَى نُقُوشًا، وَصُوَرَ شَجَرٍ، وَنَحْوَهَا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ نُقُوشٌ، فَهِيَ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ. وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ صُوَرُ حَيَوَانٍ، فِي مَوْضِعٍ يُوطَأُ أَوْ يُتَّكَأُ عَلَيْهَا، كَاَلَّتِي فِي الْبُسُطِ، وَالْوَسَائِد، جَازَ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى السُّتُورِ وَالْحِيطَانِ، وَمَا لَا يُوطَأُ، وَأَمْكَنَهُ حَطُّهَا، أَوْ قَطْعُ رُءُوسِهَا، فَعَلَ وَجَلَسَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، انْصَرَفَ وَلَمْ يَجْلِسْ؛ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ. وَحَكَاهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَالِمٍ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَكْرَهُ التَّصَاوِيرَ، مَا نُصِبَ مِنْهَا وَمَا بُسِطَ. وَكَذَلِكَ مَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا تَنَزُّهًا، وَلَا يَرَاهَا مُحَرَّمَةً. وَلَعَلَّهُمْ يَذْهَبُونَ إلَى عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ فِي الْبَيْتِ صُورَةً أَبَى أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى كُسِرَتْ. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ «قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْت لِي سَهْوَةً بِنَمَطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: أَتَسْتُرِينَ الْخِدْرَ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ؟ فَهَتَكَهُ. قَالَتْ: فَجَعَلْت مِنْهُ مُنْتَبَذَتَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا» . رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُدَاسُ وَتُبْتَذَلُ، لَمْ تَكُنْ مُعَزَّزَةً وَلَا مُعَظَّمَةً، فَلَا تُشْبِهُ الْأَصْنَامَ الَّتِي تُعْبَدُ وَتُتَّخَذُ آلِهَةً، فَلَا تُكْرَمُ. وَمَا رَوَيْنَاهُ أَخُصُّ مِمَّا رَوَوْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «أَبِي طَلْحَةَ. أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ؟ قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ: إلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ؟» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُبَاحَ مَا كَانَ مَبْسُوطًا، وَالْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا كَانَ مُعَلَّقًا، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ. [فَصْلٌ قَطَعَ رَأْس الصُّورَة الَّتِي رَآهَا عِنْد صَاحِب الْوَلِيمَة] (5673) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ رَأْسَ الصُّورَةِ، ذَهَبَتْ الْكَرَاهَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصُّورَةُ الرَّأْسُ، فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلِيس بِصُورَةٍ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: أَتَيْتُك الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْت إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ سِتْرٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي عَلَى الْبَابِ فَيُقْطَعُ، فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْتُقْطَعْ مِنْهُ وِسَادَتَانِ مَنْبُوذَتَانِ يُوطَآنِ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَإِنْ قَطَعَ مِنْهُ مَا لَا يُبْقِي الْحَيَوَانَ بَعْدَ ذَهَابِهِ، كَصَدْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ، أَوْ جُعِلَ لَهُ رَأْسٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ بَدَنِهِ، لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ النَّهْيِ، لِأَنَّ الصُّورَةَ لَا تَبْقَيْ بَعْدَ ذَهَابِهِ، فَهُوَ كَقَطْعِ الرَّأْسِ. وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ يُبْقِي الْحَيَوَانَ بَعْدَهُ، كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَهُوَ صُورَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ النَّهْيِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ التَّصْوِيرِ صُورَةُ بَدَنٍ بِلَا رَأْسٍ، أَوْ رَأْسٍ بِلَا بَدَنٍ، أَوْ جُعِلَ لَهُ رَأْسٌ وَسَائِرُ بَدَنِهِ صُورَةُ غَيْرِ حَيَوَانٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُورَةِ حَيَوَانٍ. [فَصْلٌ صَنْعَة التَّصَاوِير] (5674) فَصْلٌ: وَصَنْعَةُ التَّصَاوِيرِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى فَاعِلِهَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . وَعَنْ «مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَقَالَ لَتِمْثَالٍ مِنْهَا: تِمْثَالُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: تِمْثَالُ مَرْيَمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَالْأَمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ. كَعَمَلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 [فَصْلٌ دُخُول مَنْزِل فِيهِ صُورَة] (5675) فَصْلٌ: فَأَمَّا دُخُولُ مَنْزِلٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَجَلِهِ عُقُوبَةً لِلدَّاعِي، بِإِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ؛ لِإِيجَادِهِ الْمُنْكَرَ فِي دَارِهِ. وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ رَآهُ فِي مَنْزِلِ الدَّاعِي الْخُرُوجُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ، إذَا رَأَى صُوَرًا عَلَى السِّتْرِ، لَمْ يَكُنْ رَآهَا حِينَ دَخَلَ؟ قَالَ: هُوَ أَسْهَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجِدَارِ. قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَرَهُ إلَّا عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أَيَخْرُجُ؟ فَقَالَ: لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ إذَا رَأَى هَذَا وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ. يَعْنِي لَا يَخْرُجُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا تَنَزُّهًا، وَلَا يَرَاهَا مُحَرَّمَةً. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إذَا كَانَتْ الصُّوَرُ عَلَى السُّتُورِ، أَوْ مَا لَيْسَ بِمَوْطُوءٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُولُ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، لَمَا جَازَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ مِنْ أَجْلِهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ، فَقَالَ: قَاتَلَهُمْ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ: أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَالْمَارَّةُ بِدَوَابِّهِمْ، وَرَوَى ابْنُ عَائِذٍ فِي " فُتُوحِ الشَّامِ "، أَنَّ النَّصَارَى صَنَعُوا لَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حِينَ قَدِمَ الشَّامَ، طَعَامًا، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالُوا: فِي الْكَنِيسَةِ، فَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ، وَقَالَ لَعَلِيٍّ: امْضِ بِالنَّاسِ، فَلِيَتَغَدَّوْا. فَذَهَبَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالنَّاسِ، فَدَخَلَ الْكَنِيسَةَ، وَتَغَدَّى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ، وَقَالَ: مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَخَلَ فَأَكَلَ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى إبَاحَةِ دُخُولِهَا وَفِيهَا الصُّورُ، وَلِأَنَّ دُخُولَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَكَذَلِكَ الْمَنَازِلُ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِهِ عَلَيْنَا، كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا صُحْبَةُ رُفْقَةٍ فِيهَا جَرَسٌ، مَعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُهُمْ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَجْلِهِ عُقُوبَةً لِفَاعِلِهِ، وَزَجْرًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ سِتْر الْحِيطَان بِسُتُورِ غَيْر مُصَوِّرَة] (5676) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَتْرُ الْحِيطَانِ بِسُتُورٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ؛ فَإِنْ كَانَ لَحَاجَةٍ مِنْ وِقَايَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ، فَأَشْبَهَ السِّتْرَ عَلَى الْبَاب، وَمَا يَلْبَسُهُ عَلَى بَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَعُذْرٌ فِي الرُّجُوعِ عَنْ الدَّعْوَةِ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْرَسْت فِي عَهْدِ أَبِي فَآذَنَ أَبِي النَّاسَ، فَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ فِيمَنْ آذَنَ، وَقَدْ سَتَرُوا بَيْتِي بِخِبَاءٍ أَخْضَرَ، فَأَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ مُسْرِعًا، فَاطَّلَعَ، فَرَأَى الْبَيْتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 مُسْتَتِرًا بِخِبَاءٍ أَخْضَرَ، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ أَتَسْتُرُونَ الْجُدُرَ؟ فَقَالَ أَبِي، وَاسْتَحْيَا: غَلَبَتْنَا النِّسَاءُ يَا أَبَا أَيُّوبَ. فَقَالَ: مَنْ خَشِيت أَنْ يَغْلِبَهُ النِّسَاءُ، فَلَمْ أَخْشَ أَنْ يَغْلِبَنَّكَ ثُمَّ قَالَ: لَا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، وَلَا أَدْخُلُ لَكُمْ بَيْتًا، ثُمَّ خَرَجَ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ، أَنَّهُ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ، فَرَأَى الْبَيْتَ مُنَجَّدًا، فَقَعَدَ خَارِجًا وَبَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك؟ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ رَقَّعَ بُرْدَةً لَهُ بِقِطْعَةِ أَدَمٍ، فَقَالَ: «تَطَالَعَتْ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا. ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ إذَا غَدَتْ عَلَيْكُمْ قَصْعَةٌ وَرَاحَتْ أُخْرَى، وَيَغْدُوا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَتَسْتُرُونَ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلَا أَبْكِي، وَقَدْ بَقِيت حَتَّى رَأَيْتُكُمْ تَسْتُرُونَ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ .» وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُسْتَرَ الْجُدُرُ.» وَرَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ فِيمَا رُزِقْنَا أَنْ نَسْتُرَ الْجُدُرَ.» إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ سِتْرَ الْحِيطَانِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَفُعِلَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِنَّمَا كَرِهَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَلْبُوسِ، وَالْمَأْكُولِ. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِلنَّهْيِ عَنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ ثَبَتَ الْحَمْلُ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ السُّتُور فِيهَا الْقُرْآن] (5677) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ السُّتُورِ فِيهَا الْقُرْآنُ؟ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُعَلَّقًا فِيهِ الْقُرْآنُ، يُسْتَهَانُ بِهِ، وَيُمْسَحُ بِهِ. قِيلَ لَهُ: فَيُقْلَعُ؟ فَكَرِهَ أَنْ يُقْلِعَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ: إذَا كَانَ سِتْرٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَكَرِهَ أَنْ يُشْتَرَى الثَّوْبُ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، مِمَّا يُجْلَسُ عَلَيْهِ أَوْ يُدَاسُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 [فَصْلٌ يَكْتَرِي الْبَيْت فِيهِ تَصَاوِير] (5678) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ فِيهِ تَصَاوِيرُ، تَرَى أَنْ يَحُكَّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: دَخَلْت حَمَّامًا، فَرَأَيْت صُورَةً، أَتَرَى أَنْ أَحُكَّ الرَّأْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ. إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الصُّورَةِ مُنْكَرٌ، فَجَازَ تَغْيِيرُهَا، كَآلَةِ اللَّهْوِ وَالصَّلِيبِ، وَالصَّنَمِ، وَيُتْلَفُ مِنْهَا مَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَدِّ الصُّورَةِ، كَالرَّأْسِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ بِاللُّعَبِ مَا لَمْ تَكُنْ صُورَةً؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَلْعَبُ بِاللُّعَبِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ . فَقُلْت: هَذِهِ خَيْلُ سُلَيْمَانَ. فَجَعَلَ يَضْحَكُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ. [فَصْلٌ الدُّفّ لَيْسَ بِمُنْكَرِ] (5679) فَصْلٌ: وَالدُّفُّ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فِي النِّكَاحِ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ؛ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تَدُفَّانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ اتِّخَاذ آنِيَة الذَّهَب وَالْفِضَّة مُحْرِم] (5680) فَصْلٌ: وَاِتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُحَرَّمٌ، فَإِذَا رَآهُ الْمَدْعُوُّ فِي مَنْزِلِ الدَّاعِي، فَهُوَ مُنْكَرٌ يَخْرُجُ مِنْ أَجْلِهِ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ مُسْتَعْمَلًا كَالْمُكْحُلَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ: إذَا رَأَى حَلْقَةَ مِرْآةٍ فِضَّةً، وَرَأْسَ مُكْحُلَةِ، يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: هَذَا تَأْوِيلٌ تَأَوَّلْته، وَأَمَّا الْآنِيَةُ نَفْسُهَا فَلَيْسَ فِيهَا شَكٌّ. وَقَالَ: مَا لَا يُسْتَعْمَلُ فَهُوَ أَسْهَلُ، مِثْلُ الضَّبَّةِ فِي السِّكِّينِ وَالْقَدَحِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمُنْكَرِ كَسَمَاعِهِ، فَكَمَا لَا يَجْلِسُ فِي مَوْضِعٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَوْتَ الزَّمْرِ، لَا يَجْلِسُ فِي مَوْضِعٍ يَرَى فِيهِ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ. [فَصْلٌ عِلْم أَنَّ عِنْد أَهْل الْوَلِيمَةِ مُنْكَرًا] (5681) فَصْلٌ: وَإِنْ عِلْمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْوَلِيمَةِ مُنْكَرًا، لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ، لِكَوْنِهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَوْضِعِ الطَّعَامِ، أَوْ يُخْفُونَهُ وَقْتَ حُضُورِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْضُرَ وَيَأْكُلَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَلَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْحُضُورِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُدْعَى إلَى الْخِتَانِ أَوْ الْعُرْسِ، وَعِنْدَهُ الْمُخَنَّثُونَ، فَيَدْعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أُولَئِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَأْثَمَ إنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنْ أَجَابَ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا. فَأَسْقُطَ الْوُجُوبَ؛ لِإِسْقَاطِ الدَّاعِي حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِاِتِّخَاذِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْإِجَابَةَ؛ لِكَوْنِ الْمُجِيبِ لَا يَرَى مُنْكَرًا وَلَا يَسْمَعُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْمَكْسَبُ طَيِّبًا، وَلَمْ يَرَ مُنْكَرًا. فَعَلَى قَوْلِهِ هَذَا، لَا تَجِبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 إجَابَةُ مَنْ طَعَامُهُ مِنْ مَكْسَبٍ خَبِيثٍ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهُ مُنْكَرٌ، وَالْأَكْلَ مِنْهُ مُنْكَرٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَسُغْ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ. [مَسْأَلَة دَعْوَة الْخِتَان] (5682) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدَعْوَةُ الْخِتَانِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلَا عَلَى مَنْ دُعِيَ إلَيْهَا أَنْ يُجِيبَ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي إجَابَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ تَزْوِيجٍ) يَعْنِي بِالْمُتَقَدِّمِينَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّذَيْنِ يُقْتَدَى بِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، دُعِيَ إلَى خِتَانٍ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ، فَقِيلَ لَهُ؟ فَقَالَ: إنَّا كُنَّا لَا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نُدْعَى إلَيْهِ.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَحُكْمُ الدَّعْوَةِ لِلْخِتَانِ وَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إطْعَامِ الطَّعَامِ، وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: تَجِبُ إجَابَةُ كُلِّ دَعْوَةٍ؛ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِهِ. فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْهُ، عُرْسًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عُرْسٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ السُّنَّةِ إنَّمَا وَرَدَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي إلَى الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ الطَّعَامُ فِي الْعُرْسِ خَاصَّةً، كَذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ، وَثَعْلَبٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: «كُنَّا لَا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نُدْعَى إلَيْهِ.» وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ يُسْتَحَبُّ إعْلَانُهُ، وَكَثْرَةُ الْجَمْعِ فِيهِ، وَالتَّصْوِيتُ، وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْإِجَابَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَاب؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ بِهِ دَعْوَةً ذَاتَ سَبَبٍ دُونَ غَيْرِهَا، وَإِجَابَةُ كُلِّ دَاعٍ مُسْتَحَبَّةٌ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ فِيهِ جَبْرَ قَلْبِ الدَّاعِي، وَتَطْيِيبَ قَلْبِهِ، وَقَدْ دُعِيَ أَحْمَدُ إلَى خِتَانٍ، فَأَجَابَ وَأَكَلَ. فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فِي حَقِّ فَاعِلِهَا، فَلَيْسَتْ لَهَا فَضِيلَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهَا، وَلَكِنْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، فَإِذَا قَصْدَ فَاعِلُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِطْعَامَ إخْوَانِهِ، وَبَذْلَ طَعَامِهِ، فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 [مَسْأَلَة النِّثَارُ مَكْرُوه] (5683) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالنِّثَارُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ النُّهْبَةِ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى صَاحِبِ النِّثَارِ مِنْهُ) . اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي النِّثَارِ وَالْتِقَاطِهِ؛ فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ، وَطَلْحَةَ، وَزُبَيْدٍ الْيَامِيِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ، قَالَ: «قُرِّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسُ بَدَنَاتٍ أَوْ سِتٌّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَنَحَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَسَأَلْت مَنْ قَرُبَ مِنْهُ، فَقَالَ: قَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى النِّثَارِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَتَوْا بِنَهْبٍ فَأَنْهَبَ عَلَيْهِ. قَالَ الرَّاوِي: وَنَظَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُزَاحِمُ النَّاسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَمَا نَهَيْتَنَا عَنْ النُّهْبَةِ؟ قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ نُهْبَةِ الْعَسَاكِرِ» . وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إبَاحَةٍ فَأَشْبَهَ إبَاحَةَ الطَّعَامِ لَلضَّيْفَانِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ.» وَلِأَنَّ فِيهِ نَهْبًا، وَتَزَاحُمًا، وَقِتَالًا، وَرُبَّمَا أَخَذَهُ مَنْ يَكْرَهُ صَاحِبَ النِّثَارِ، لِحِرْصِهِ وَشَرَهِهِ وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ، وَيُحْرَمُهُ مَنْ يُحِبُّ صَاحِبَهُ؛ لِمُرُوءَتِهِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَعِرْضِهِ، وَالْغَالِبُ هَذَا، فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوآتِ يَصُونُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُزَاحَمَةِ سَفَلَةِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا دَنَاءَةً، وَاَللَّهُ يُحِبُّ مَعَالِي الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا. فَأَمَّا خَبَرُ الْبَدَنَاتِ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّهُ لَا نُهْبَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِكَثْرَةِ اللَّحْمِ، وَقِلَّةِ الْآخِذِينَ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَنَاسِكِ عَنْ تَفْرِيقِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إبَاحَتُهُ فَلَا خِلَافَ فِيهَا، وَلَا فِي الِالْتِقَاطِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ إبَاحَةٍ لِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْإِبَاحَاتِ. [مَسْأَلَة قَسَمَ الْمُولِم عَلَى الْحَاضِرِينَ مَا يُنْثَرُ مِثْلُ اللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ] (5684) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ قَسَمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ) . كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ بَعْضَ أَوْلَادِهِ حَذَقَ، فَقَسَمَ عَلَى الصِّبْيَانِ الْجَوْزَ. أَمَّا إذَا قَسَمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ مَا يُنْثَرُ مِثْلُ اللَّوْزِ، وَالسُّكَّرِ، وَغَيْرِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:: «قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، لَمْ تَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْهَا، شَدَّتْ إلَى مَضَاغِي.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَخْذِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ تَنَاهُبٌ، فَلَا يُكْرَهُ أَيْضًا. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجَوْزِ يُنْثَرُ؟ فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: يُعْطُونَ يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ: سَمِعْت حُسْنَ أُمَّ وَلَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ تَقُولُ: لَمَّا حَذَقَ ابْنِي حَسَنٌ، قَالَ لِي مَوْلَايَ: حُسْنُ، لَا تَنْثُرِي عَلَيْهِ. فَاشْتَرَى تَمْرًا وَجَوْزًا، فَأَرْسَلَهُ إلَى الْمُعَلِّمِ، قَالَتْ: وَعَمِلْت أَنَا عَصِيدَةً، وَأَطْعَمْت الْفُقَرَاءَ، فَقَالَ: أَحْسَنْت أَحْسَنْت. وَفَرَّقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الصِّبْيَان الْجَوْزَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ خَمْسَةٌ. [فَصْلٌ مِنْ حُصِلَ فِي حَجَره شَيْء مِنْ النِّثَار فِي الْوَلِيمَة] (5685) فَصْلٌ: وَمَنْ حَصَلَ فِي حِجْرِهِ شَيْءٌ مِنْ النِّثَارِ فَهُوَ لَهُ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ حَصَلَ فِي حِجْرِهِ فَمَلَكَهُ، كَمَا لَوْ وَثَبَتْ سَمَكَةٌ مِنْ الْبَحْرِ فَوَقَعَتْ فِي حِجْرِهِ، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حِجْرِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْلَط الْمُسَافِرُونَ أَزْوَادهمْ وَيَأْكُلُوا جَمِيعًا] (5686) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَخْلِطَ الْمُسَافِرُونَ أَزْوَادَهُمْ وَيَأْكُلُوا جَمِيعًا. وَإِنْ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَلَا بَأْسَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَعَاهَدُونَ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ. وَيُفَارِقُ النِّثَارَ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَهْبٍ وَتَسَالُبٍ وَتَجَاذُبٍ، بِخِلَافِ هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 [فَصْلٌ آدَاب الطَّعَام] (5687) فَصْلٌ: فِي آدَابِ الطَّعَامِ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ خَيْرَ بَيْتِهِ، فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ بْن عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ.» يَعْنِي بِهِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا آتِيكَ بِوُضُوءٍ؟ قَالَ: لَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شِعْبِ الْجَبَلِ، وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، وَبَيْن أَيْدِينَا تَمْرٌ عَلَى تُرْسٍ أَوْ جُحْفَةٍ، فَدَعَوْنَاهُ فَأَكَلَ مَعَنَا، وَمَا مَسَّ مَاءً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْهُ، «أَنَّهُ كَانَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ، فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ،. وَلَا بَأْسَ بِتَقْطِيعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ، فَإِنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْأَعَاجِمِ، وَانْهَشُوهُ نَهْشًا؛ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ» . قَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحِ. وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل التَّسْمِيَة عِنْد الْأَكْلِ] (5688) فَصْلٌ: وَتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ مِمَّا يَلِيهِ؛ لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «كُنْت يَتِيمًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِك، وَكُلْ مِمَّا يَلِيك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ، فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إلَّا لُقْمَةٌ، فَلَمَّا رَفَعَهَا إلَى فِيهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ قَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ» . رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ، فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ، فَخَبَطَتْ يَدِي فِي نَوَاحِيهَا، فَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ، كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ الرُّطَبِ، فَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ، كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الثَّرِيدِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ، وَلَكِنْ لِيَأْكُلَ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا، يُبَارَكْ فِيهَا» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ الْأَكْل بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاث] (5689) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ، وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا. قَالَ مُثَنَّى: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَكْلِ بِالْأَصَابِعِ كُلِّهَا؟ فَذَهَبَ إلَى ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَذَكَرْت لَهُ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بِكَفِّهِ كُلِّهَا. فَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَلَمْ يَرَ إلَّا ثَلَاثَ أَصَابِعَ. وَقَدْ رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَهَا؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يُلْعِقَهَا أَوْ يَلْعَقهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ نُبَيْشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ فَلَحِسَهَا، اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَقَعَتْ اللُّقْمَةُ مِنْ يَدِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَمْسَحْ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَلْيَأْكُلْهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 [فَصْلٌ حَمْد اللَّه تَعَالَى إذَا فَرَغَ مِنْ الطَّعَام] (5690) فَصْلٌ: وَيَحْمَدُ اللَّه تَعَالَى إذَا فَرَغَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ طَعَامًا، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا رُفِعَ طَعَامُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنَى عَنْهُ، رَبِّنَا» . وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ طَعَامًا، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَبَرَكَةِ اللَّهِ. وَفِي آخِرِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَأَرْوَى وَأَنْعَمَ وَأَفْضَلَ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَهُ» . وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " أَثِيبُوا صَاحِبَكُمْ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إثَابَتُهُ؟ قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ، وَأُكِلَ طَعَامُهُ، وَشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذَلِكَ إثَابَتُهُ» . وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ الْجَمْع بَيْن طَعَامَيْنِ] (5691) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْن طَعَامَيْنِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْن جَعْفَرٍ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ. وَيُكْرَهُ عَيْبُ الطَّعَامِ؛ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ، إذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِهِ تَرَكَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَإِذَا حَضَرَ فَصَادَفَ قَوْمًا يَأْكُلُونَ، فَدَعَوْهُ، لَمْ يُكْرَهُ لَهُ الْأَكْلُ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، «حِين دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَ مَعَهُمْ» . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَيَّنَ وَقْتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 أَكْلِهِمْ، فَيَهْجُمَ عَلَيْهِمْ لِيُطْعَمَ مَعَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ بُلُوغَ نُضْجِهِ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خِوَانٍ، وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ» . قَالَ: فَعَلَامَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السَّفَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْفُخُ فِي طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ» . وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «وَلَا يَتَنَفَّسْ أَحَدُكُمْ فِي الْإِنَاءِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وُضِعَتْ الْمَائِدَةُ، فَلَا يَقُومُ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ وَالْقَوْمُ، وَلْيُعْذِرْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَقْبِضُ يَدَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ» . رَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ الْإِنَاءُ يُؤْكَلُ فِيهِ ثُمَّ تُغْسَلُ فِيهِ الْيَدُ] (5692) فَصْلٌ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْإِنَاءُ يُؤْكَلُ فِيهِ، ثُمَّ تُغْسَلُ فِيهِ الْيَدُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي غَسْلِ الْيَدِ بِالنُّخَالَةِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، نَحْنُ نَفْعَلُهُ. وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً أَنْ تَجْعَلَ مَعَ الْمَاءِ مِلْحًا، ثُمَّ تَغْسِلَ بِهِ الدَّمَ مِنْ حَيْضَةٍ.» وَالْمِلْحُ طَعَامٌ، فَفِي مَعْنَاهُ مَا أَشْبَهَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 كِتَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَالْخُلْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ، كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنِّي لِأُحِبّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهَا: إذَا أَطَعْنَ اللَّهُ، وَأَطَعْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، وَيَكُفُّ عَنْهَا أَذَاهُ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ سَعَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّمَاثُلُ هَاهُنَا فِي تَأْدِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُمْطِلُهُ بِهِ، وَلَا يُظْهِرُ الْكَرَاهَةَ، بَلْ بِبِشْرٍ وَطَلَاقَةٍ، وَلَا يُتْبِعُهُ أَذًى وَلَا مِنَّةً؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وَهَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ صَاحِبِهِ، وَالرِّفْقُ بِهِ، وَاحْتِمَالُ أَذَاهُ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] إلَى قَوْلِهِ {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] قِيلَ: هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، لَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ؛ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحَقِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: «إذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، «وَقَالَ لَامْرَأَةٍ أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ جَنَّتُك وَنَارُك. وَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ شَطْرُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَة مِثْلُهَا يُوطَأُ فَطَلَبَ تَسْلِيمَهَا إلَيْهِ] (5693) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، مِثْلُهَا يُوطَأُ، فَطَلَبَ تَسْلِيمَهَا، إلَيْهِ وَجَبَ ذَلِكَ وَإِنْ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، لَزِمَهُ تَسَلُّمُهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 وَوَجَبَتْ نَفَقَتُهَا. وَإِنْ طَلَبَهَا، فَسَأَلْت الْإِنْظَارَ، أُنْظِرَتْ مُدَّةً جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ تُصْلِحَ أَمَرَهَا فِيهَا، كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَطْرُقُوا النِّسَاءَ لَيْلًا، حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ» . فَمَنَعَ مِنْ الطُّرُوقِ، وَأَمَرَ بِإِمْهَالِهَا لِتُصْلِحَ أَمْرَهَا؛ مَعَ تَقَدُّمِ صُحْبَتِهِ لَهَا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. ثُمَّ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَجَبَ تَسْلِيمُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَهُ السَّفَرُ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَافِرُ بِنِسَائِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَخُوفًا، فَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ عُقِدَ عَلَى إحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا، فَلَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا لِخِدْمَةِ النَّهَارِ، لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا بِاللَّيْلِ. وَيَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُهَا؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِعَائِشَةَ فِي شِرَاءِ بَرِيرَةَ، وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ. وَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّ بَيْعَ بَرِيرَةَ لَمْ يُبْطِلْ نِكَاحَهَا» . [فَصْلٌ إجْبَار زَوْجَته عَلَى الْغُسْل مِنْ الْحَيْض وَالنِّفَاس] (5694) فَصْل: وَلِلزَّوْجِ إجْبَارُ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ مَمْلُوكَةً؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ، فَمَلَكَ إجْبَارَهَا عَلَى إزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ. وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى شِرَاءِ الْمَاءِ فَثَمَنُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِحَقِّهِ. وَلَهُ إجْبَارُ الْمُسْلِمَةِ الْبَالِغَةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا بِالْغُسْلِ. فَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛: إحْدَاهُمَا، لَهُ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ يَقِفُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تَعَافُ مَنْ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ لَهُ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ بِدُونِهِ؛ وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَفِي إزَالَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَتَسْتَوِي فِي هَذَا الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُصُولِ النَّفْرَةِ مِمَّنْ ذَلِكَ حَالُهَا. وَلَهُ إجْبَارُهَا عَلَى إزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ، إذَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ. وَإِنْ طَالَا قَلِيلًا، بِحَيْثُ تَعَافُهُ النَّفْسُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَهَلْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، كَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاتِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْقُبْلَةَ، وَكَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ. وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ السُّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، فَإِنَّهُ يُزِيلُ عَقْلَهَا، وَيَجْعَلُهَا كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَجْنِيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَرَادَتْ شُرْبَ مَا لَا يُسْكِرُهَا، فَلَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَهُ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ فِي دِينِهَا. وَلَهُ إجْبَارُهَا عَلَى غَسْلِ فَمِهَا مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِفِيهَا. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْعَهَا مِنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَهُوَ كَالثُّومِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً تَعْتَقِدُ إبَاحَةَ يَسِيرِ النَّبِيذِ، هَلْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ. [فَصْلٌ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوج مِنْ مَنْزِله] (5695) فَصْلٌ: وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَى مَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ سَوَاءٌ أَرَادَتْ زِيَارَةَ وَالِدَيْهَا، أَوْ عِيَادَتَهُمَا، أَوْ حُضُورَ جِنَازَة أَحَدِهِمَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ: طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ، فِي " أَحْكَامِ النِّسَاءِ "، عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ وَمَنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ الْخُرُوجِ، فَمَرِضَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِيَادَةِ أَبِيهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّقِي اللَّهَ، وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَك. فَمَاتَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُضُورِ جِنَازَتِهِ، فَقَالَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ، وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَك. فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي قَدْ غَفَرْت لَهَا بِطَاعَةِ زَوْجِهَا» . وَلِأَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ، وَالْعِيَادَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا، وَزِيَارَتِهِمَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَطِيعَةً لَهُمَا، وَحَمْلًا لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالِفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ ذِمِّيَّةً، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْكَنِيسَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَاعَةٍ، وَلَا نَفْعٍ. وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَمْنَعُهُ مِنْ مَنْعِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» . وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ تَزَوَّجَ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ عَمْرو بْنِ نُفَيْلٍ، فَكَانَتْ تَخْرُجُ إلَى الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ غَيُورًا، فَيَقُولُ لَهَا: لَوْ صَلَّيْت فِي بَيْتِك. فَتَقُولُ: لَا أَزَالَ أَخْرُجُ أَوْ تَمْنَعُنِي. فَكَرِهَ مَنْعَهَا لِهَذَا الْخَبَرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ أَوْ الْأَمَةُ النَّصْرَانِيَّةُ يَشْتَرِي لَهَا زُنَّارًا؟ قَالَ: لَا بَلْ تَخْرُجُ هِيَ تَشْتَرِي لِنَفْسِهَا. فَقِيلَ لَهُ: جَارِيَتُهُ تَعْمَلُ الزَّنَانِيرَ؟ قَالَ: لَا. [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَة خِدْمَة زَوْجهَا] (5696) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا، مِنْ الْعَجْنِ، وَالْخَبْزِ، وَالطَّبْخِ وَأَشْبَاهِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ: عَلَيْهَا ذَلِكَ. وَاحْتَجَّا «بِقِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَعَلَى عَلِيٍّ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْبَيْتِ مِنْ عَمَلٍ» . رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ، أَوْ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ» . وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ. قَالَ: فَهَذِهِ طَاعَتُهُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ؟ «وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ نِسَاءَهُ بِخِدْمَتِهِ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْقِينَا، يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الشَّفْرَةَ، وَاشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ» . وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْكُو إلَيْهِ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى، وَسَأَلَتْهُ خَادِمًا يَكْفِيهَا ذَلِكَ.» وَلَنَا - أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا الِاسْتِمْتَاعُ، فَلَا يَلْزَمُهَا غَيْرُهُ، كَسَقْيِ دَوَابِّهِ، وَحَصَادِ زَرْعِهِ. فَأَمَّا قَسْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، فَعَلَى مَا تَلِيقُ بِهِ الْأَخْلَاقُ الْمَرْضِيَّةُ، وَمَجْرَى الْعَادَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ بِفَرَسِ الزُّبَيْرِ، وَتَلْتَقِطُ لَهُ النَّوَى، وَتَحْمِلُهُ عَلَى رَأْسِهَا. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحٍ خَارِجَ الْبَيْتِ، وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى لَهَا فِعْلُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِقِيَامِهَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ، وَلَا تَصْلُحُ الْحَالُ إلَّا بِهِ، وَلَا تَنْتَظِمُ الْمَعِيشَةُ بِدُونِهِ. [فَصْلٌ وَطْء الزَّوْجَة فِي الدُّبُرِ] (5697) فَصْلٌ: وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي الدُّبُرِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَتْ إبَاحَتُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَنَافِعٍ، وَمَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فِي دِينِي فِي أَنَّهُ حَلَالٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ مَنْ أَحَلَّهُ، بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ مِنْ أَعْجَازِهِنَّ.» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَحَاشُّ النِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . رَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ الْأَثْرَمُ. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَرَوَى جَابِرٌ قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: إذَا جَامِعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا، جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ. فَأَنْزَلَ اللَّهَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا، وَمِنْ خَلْفِهَا، غَيْرَ أَنْ لَا يَأْتِيَهَا إلَّا فِي الْمَأْتَى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «ائْتِهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً، إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْفَرْجِ» . وَالْآيَةُ الْأُخْرَى الْمُرَادُ بِهَا ذَلِكَ. [فَصْلٌ وَطِئَ زَوْجَته فِي دُبُرهَا] (5698) فَصْلٌ: فَإِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً، وَيُعَزَّرُ لَفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ، وَعَلَيْهَا الْغُسْلُ؛ لِأَنَّهُ إيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي إفْسَادِ الْعِبَادَاتِ، وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ لَأَجْنَبِيَّةٍ، وَجَبَ حَدُّ اللُّوطِيِّ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ مَنْفَعَةً لَهَا عِوَضٌ فِي الشَّرْعِ. وَلَا يَحْصُلُ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ فِي الدُّبُرِ إحْصَانٌ، إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ الْكَامِلِ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَطْءٍ كَامِلٍ، وَالْإِحْلَالُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَذُوقُ بِهِ عُسَيْلَةَ الرَّجُلِ. وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْنَةُ، وَلَا الْخُرُوجُ مِنْ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهِمَا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ، وَحَقُّهَا الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ. وَلَا يَزُولُ بِهِ الِاكْتِفَاءُ بِصَمْتِهَا فِي الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ بَكَارَةَ الْأَصْلِ بَاقِيَةٌ. (5699) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالتَّلَذُّذِ بِهَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ بِتَحْرِيمِ الدُّبُرِ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ حُرِّمَ لِأَجَلِ الْأَذَى، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالدُّبُرِ، فَاخْتَصَّ التَّحْرِيمُ بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 [فَصْلٌ الْعَزْل مَكْرُوه] (5700) فَصْلٌ: وَالْعَزْلُ مَكْرُوهٌ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْزِعَ إذَا قَرُبَ الْإِنْزَالُ، فَيُنْزِلُ خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ، رُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْلِيلَ النَّسْلِ، وَقَطْعَ اللَّذَّةِ عَنْ الْمَوْطُوءَةِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوَلَدِ، فَقَالَ: «تَنَاكَحُوا، تَنَاسَلُوا، تَكْثُرُوا» . وَقَالَ: «سَوْدَاءُ وَلُودٌ، خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَقِيمٍ» إلَّا أَنْ يَكُونَ لَحَاجَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَتَدْعُوهُ حَاجَتُهُ إلَى الْوَطْءِ، فَيَطَأُ وَيَعْزِلُ، ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذِهِ الصُّورَةَ، أَوْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ أَمَةً، فَيَخْشَى الرِّقَّ عَلَى وَلَدِهِ، أَوْ تَكُونَ لَهُ أَمَةٌ، فَيَحْتَاجُ إلَى وَطْئِهَا وَإِلَى بَيْعِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ إمَائِهِ فَإِنْ عَزَلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ كَرِهَ وَلَمْ يَحْرُمْ، وَرُوِيَتْ الرُّخْصَةُ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «ذُكِرَ - يَعْنِي - الْعَزْلَ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ . وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ، إلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى. قَالَ: كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْت أَنْ تَصْرِفَهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ الْعَزْل عَنْ أُمَّته بِغَيْرِ إذْنهَا] (5701) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الْعَزْلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ، وَلَا فِي الْوَلَدِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَسَمِ وَلَا الْفَيْئَةِ، فَلَأَنْ لَا تَمْلِكَ الْمَنْعَ مِنْ الْعَزْلِ أَوْلَى. وَلَا يَعْزِلُ عَنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وُجُوبُ اسْتِئْذَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعَزْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ دُونَ الْإِنْزَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْرُج بِهِ مِنْ الْفَيْئَةِ وَالْعُنَّةِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ حَقًّا، وَعَلَيْهَا فِي الْعَزْلِ ضَرَرٌ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 فَأَمَّا زَوْجَتُهُ الْأَمَهُ، فَيَحْتَمِلُ جَوَازُ الْعَزْلِ عَنْهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُسْتَأْذَنُ الْحُرَّةُ، وَلَا تُسْتَأْذَنُ الْأَمَةُ. وَلِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا بِإِذْنِهَا؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ فِي الْفَيْئَةِ، وَالْفَسْخَ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ بِالْعُنَّةِ، وَتَرْكُ الْعَزْلِ مِنْ تَمَامِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَالْحُرَّةِ. [فَصْلٌ عَزْل عَنْ زَوْجَته أَوْ أُمَّته ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدِ] (5702) فَصْلٌ: فَإِنْ عَزَلَ عَنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنْت أَعْزِلُ عَنْ جَارِيَةٍ لِي، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ. وَلِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْإِنْزَالُ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْزَالُ، وَلَا يُحِسُّ بِهِ. [فَصْلٌ آدَاب الْجِمَاع] ِ. تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ قَبْلَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] . قَالَ عَطَاءٌ: هِيَ التَّسْمِيَةُ عِنْد الْجِمَاعِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ التَّجَرُّدُ عِنْدُ الْمُجَامَعَةِ؛ لِمَا رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، فَلْيَسْتَتِرْ وَلَا يَتَجَرَّدْ تَجَرُّدَ الْعِيرَيْنِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ غَطَّى رَأْسَهُ، وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ غَطَّى رَأْسَهُ» . وَلَا يُجَامِعُ بِحَيْثُ يَرَاهُمَا أَحَدٌ، أَوْ يَسْمَعُ حِسَّهُمَا. وَلَا يُقَبِّلُهَا وَيُبَاشِرُهَا عِنْدَ النَّاسِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يَكْتُمَ هَذَا كُلَّهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِي الَّذِي يُجَامِعُ الْمَرْأَةَ، وَالْأُخْرَى تَسْمَعُ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَجْسَ وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَلَا يَتَحَدَّثُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: «جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَأَقْبَلَ عَلَى الرِّجَالِ، فَقَالَ: لَعَلَّ أَحَدَكُمْ يُحَدِّثُ بِمَا يَصْنَعُ بِأَهْلِهِ إذَا خَلَا؟ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: لَعَلَّ إحْدَاكُنَّ تُحَدِّثُ النِّسَاءَ بِمَا يَصْنَعُ بِهَا زَوْجُهَا؟ . قَالَ: فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ، وَإِنَّا لِنَفْعَلَ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكُمْ كَمَثَلِ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً، فَجَامَعَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ بِمَعْنَاهُ. وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ حَالَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ، وَعَطَاءً، كَرِهَا ذَلِكَ. وَيُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الْكَلَامِ حَالَ الْجِمَاعِ؛ لِمَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ عِنْدَ مُجَامَعَةِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّ مِنْهُ يَكُونُ الْخَرَسُ وَالْفَأْفَاءُ» . وَلِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ حَالَةَ الْبَوْلِ، وَحَالُ الْجِمَاعِ فِي مَعْنَاهُ، وَأَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَاعِبَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الْجِمَاعِ؛ لِتَنْهَضَ شَهْوَتُهَا، فَتَنَالَ مِنْ لَذَّةِ الْجِمَاعِ مِثْلَ مَا نَالَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُوَاقِعْهَا إلَّا وَقَدْ أَتَاهَا مِنْ الشَّهْوَةِ مِثْلُ مَا أَتَاك، لِكَيْ لَا تَسْبِقَهَا بِالْفَرَاغِ. قُلْت: وَذَلِكَ إلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّك تُقَبِّلُهَا، وَتَغْمِزُهَا، وَتَلْمِزُهَا، فَإِذَا رَأَيْت أَنَّهُ قَدْ جَاءَهَا مِثْلُ مَا جَاءَك، وَاقَعْتَهَا» . فَإِنْ فَرَغَ قَبْلَهَا، كُرِهَ لَهُ النَّزْعُ حَتَّى تَفْرُغَ؛ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فَلْيَصْدُقْهَا، ثُمَّ إذَا قَضَى حَاجَتَهُ، فَلَا يُعَجِّلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا» . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهَا، وَمَنْعًا لَهَا مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ خِرْقَةً، تُنَاوِلُهَا الزَّوْجَ بَعْدَ فَرَاغِهِ، فَيَتَمَسَّحُ بِهَا؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ عَاقِلَةً، أَنْ تَتَّخِذَ خِرْقَةً، فَإِذَا جَامَعَهَا زَوْجُهَا، نَاوَلَتْهُ، فَمَسَحَ عَنْهُ، ثُمَّ تَمْسَحُ عَنْهَا، فَيُصَلِّيَانِ فِي ثَوْبِهِمَا ذَلِكَ، مَا لَمْ تُصِبْهُ جَنَابَةٌ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْن نِسَائِهِ وَإِمَائِهِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «سَكَبْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نِسَائِهِ غُسْلًا وَاحِدًا، فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ» . فَإِنَّ حَدَثَ الْجَنَابَةِ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ؛ بِدَلِيلِ إتْمَامِ الْجِمَاعِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَأَعْجَبُ إلَيَّ الْوُضُوءُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ يَزِيدُهُ نَشَاطًا وَنَظَافَةً، فَاسْتُحِبَّ. وَإِنْ اغْتَسَلَ بَيْنَ كُلِّ وَطْأَيْنِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، فَإِنَّ أَبَا رَافِعٍ رَوَى، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ عَلَى نِسَائِهِ جَمِيعًا، فَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُسْلًا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ جَعَلْتَهُ غُسْلًا وَاحِدًا؟ قَالَ: هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَرَوَى أَحَادِيثَ هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهَا أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ.» [فَصْلٌ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَع بَيْن امْرَأَتَيْهِ فِي مَسَّكُنَّ وَاحِد بِغَيْرِ رِضَاهُمَا] (5704) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْن امْرَأَتَيْهِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا ضَرَرًا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْغَيْرَةِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُثِيرُ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، وَتَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِسَّهُ إذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 أَتَى إلَى الْأُخْرَى، أَوْ تَرَى ذَلِكَ، فَإِنْ رَضِيَتَا بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَلَهُمَا الْمُسَامَحَةُ بِتَرْكِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَتَا بِنَوْمِهِ بَيْنَهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ رَضِيَتَا بِأَنْ يُجَامِعَ وَاحِدَةً بِحَيْثُ تَرَاهُ الْأُخْرَى، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ دَنَاءَةً وَسُخْفًا وَسُقُوطَ مُرُوءَةٍ، فَلَمْ يُبَحْ بِرِضَاهُمَا. وَإِنْ أَسْكَنَهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي بَيْتٍ، جَازَ، إذَا كَانَ ذَلِكَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا. [فَصْلٌ لَا خَيْرَ فِي مَنْ لَا يَغَارُ] (5705) فَصْلٌ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَكُمْ لَيُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ فِي الْأَسْوَاقِ، أَمَا تَغَارُونَ؟ إنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَنْ لَا يَغَارُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: كَانَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيُورًا، وَمَا مِنْ امْرِئِ لَا يَغَارُ إلَّا مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. [مَسْأَلَة التَّسْوِيَة بَيْن الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ] (5706) مَسْأَلَة: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي الْقَسْمِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ خِلَافًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وَلَيْسَ مَعَ الْمَيْلِ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ بَيْنَنَا فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ نِسْوَةٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ إلَّا بِقُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِهَا، تَفْضِيلٌ لَهَا، وَالتَّسْوِيَةُ وَاجِبَةٌ، وَلِأَنَّهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي الْحَقِّ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَاهُنَّ. فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، كَفَاهُ قُرْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَصِيرُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا مُتَعَيِّنٌ. وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا، أَقْرَعَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلْبِدَايَةِ بِإِحْدَى الْبَاقِيَتَيْنِ. وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا أَقْرَعَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَصِيرُ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ إلَى الرَّابِعَةِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ. وَلَوْ أَقْرَعَ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى، فَجَعَلَ سَهْمًا لِلْأُولَى، وَسَهْمًا لِلثَّانِيَةِ، وَسَهْمًا لِلثَّالِثَةِ، وَسَهْمًا لِلرَّابِعَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا عَلَيْهِنَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، جَازَ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَا خَرَجَ لَهَا. [فَصْلٌ يَقْسِم الْمَرِيض وَالْمَجْبُوب وَالْعِنِّينَ وَالْخُنْثَى وَالْخُصَّيْ لِزَوْجَتِهِ] (5707) فَصْلٌ: وَيَقْسِمُ الْمَرِيضُ وَالْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ وَالْخُنْثَى وَالْخَصِيُّ. وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ لِلْأُنْسِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِمَّنْ لَا يَطَأُ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ، جَعَلَ يَدُورُ فِي نِسَائِهِ، وَيَقُولُ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي الْكَوْنِ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ عَائِشَةُ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إلَى النِّسَاءِ فَاجْتَمَعْنَ، قَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بَيْنَكُنَّ، فَإِنْ رَأَيْتُنَّ أَنْ تَأْذَنَّ لِي، فَأَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَعَلْتُنَّ. فَأَذِنَّ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَإِنْ لَمْ يَأْذَنَّ لَهُ، أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ بِالْقُرْعَةِ أَوْ اعْتَزَلَهُنَّ جَمِيعًا إنْ أَحَبَّ. فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَجْنُونًا لَا يُخَافُ مِنْهُ، طَافَ بِهِ الْوَلِيُّ عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كَانَ يُخَافُ مِنْهُ، فَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ أُنْسٌ وَلَا فَائِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ الْوَلِيُّ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، ثُمَّ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ لِلْمَظْلُومَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَزِمَهُ إيفَاؤُهُ حَالَ الْإِفَاقَةِ كَالْمَالِ. [فَصْلٌ يَقْسِم لِلْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاء وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء وَالْمُحْرِمَة وَالصَّغِيرَة الْمُمَكَّن وَطْؤُهَا] (5708) فَصْلٌ: وَيُقْسَمُ لِلْمَرِيضَةِ، وَالرَّتْقَاءِ، وَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَالصَّغِيرَةِ الْمُمْكِنِ وَطْؤُهَا، وَكُلُّهُنَّ سَوَاءٌ فِي الْقَسْمِ. وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَكَذَلِكَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْإِيوَاءُ وَالسَّكَنُ وَالْأُنْسُ، وَهُوَ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ، فَإِنْ كَانَتْ لَا يُخَافُ مِنْهَا، فَهِيَ كَالصَّحِيحَةِ، وَإِنْ خَافَ مِنْهَا، فَلَا قَسْمَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا أُنْسٌ وَلَا بِهَا. [فَصْلٌ قَسَمَ الِابْتِدَاء بَيْن الزَّوْجَات] (5709) فَصْلٌ: وَيَجِبُ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، لَزِمَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ، مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 وَقَالَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ " لَا يَجِبُ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ الْوَطْءَ مُصِرًّا، فَإِنْ تَرَكَهُ غَيْرَ مُصِرٍّ لَمْ يَلْزَمْهُ قَسْمٌ، وَلَا وَطْءٌ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا وَصَلَ الرَّجُلُ إلَى امْرَأَتِهِ مَرَّةً، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا. أَيْ لَا يُؤَجَّلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ. وَلَنَا قَوْلُ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّك تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ، وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِك عَلَيْك حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ حَقًّا. وَقَدْ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ، وَرَوَاهَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ " قُضَاةُ الْبَصْرَةِ " مِنْ وُجُوهٍ؛ إحْدَاهُنَّ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ كَعْبَ بْن سَوْرٍ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطُّ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي، وَاَللَّهِ إنَّهُ لَيَبِيت لَيْلَهُ قَائِمًا، وَيَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا. فَاسْتَغْفَرَ لَهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهَا. وَاسْتَحْيَتْ الْمَرْأَةُ، وَقَامَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلَّا أَعْدَيْت الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ إنَّهَا جَاءَتْ تَشْكُوهُ، إذَا كَانَتْ حَالُهُ هَذِهِ فِي الْعِبَادَةِ، مَتَى يَتَفَرَّغُ لَهَا؟ فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى زَوْجِهَا، فَجَاءَ، فَقَالَ لَكَعْبٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّك فَهِمْت مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى كَأَنَّهَا امْرَأَةٌ عَلَيْهَا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، هِيَ رَابِعَتُهُنَّ، فَأَقْضِي لَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا رَأْيُك الْأَوَّلُ بِأَعْجَبَ إلَيَّ مِنْ الْآخِرِ، اذْهَبْ فَأَنْتَ قَاضٍ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْقَاضِي أَنْتَ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ انْتَشَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا، لَمْ تَسْتَحِقَّ فَسْخَ النِّكَاحِ لِتَعَذُّرِهِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَامْتِنَاعِهِ بِالْإِيلَاءِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ، لَمَلَكَ الزَّوْجُ تَخْصِيصَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: حَقُّ الْمَرْأَةِ لَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ، وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ سَبْعٍ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ مَعَهَا ثَلَاثَ حَرَائِرَ، وَلَهَا السَّابِعَةُ، وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي، أَنَّ لَهَا لَيْلَةً مِنْ ثَمَانٍ، لِتَكُونَ عَلَى النِّصْفِ مِمَّا لِلْحُرَّةِ، فَإِنَّ حَقَّ الْحُرَّةِ مِنْ كُلِّ ثَمَانٍ لَيْلَتَانِ، لَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ مِنْ سَبْعٍ لَزَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ ثَلَاثُ حَرَائِرَ وَأَمَهٌ، فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَزِيدَهُنَّ عَلَى الْوَاجِبِ لَهُنَّ، فَقَسَمَ بَيْنَهُنَّ سَبْعًا، فَمَاذَا يَصْنَعُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّامِنَةِ؟ إنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَبِيتَهَا عِنْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 حُرَّةٍ، فَقَدْ زَادَهَا عَلَى مَا يَجِبُ لَهَا، وَإِنْ بَاتَهَا عِنْدَ الْأَمَةِ جَعَلَهَا كَالْحُرَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَ تَكُونُ هَذِهِ اللَّيْلَةُ الثَّامِنَةُ لَهُ، إنْ أَحَبَّ انْفَرَدَ فِيهَا، وَإِنْ أَحَبَّ بَاتَ عِنْدَ الْأُولَى مُسْتَأْنِفًا لِلْقَسْمِ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ، قَسَمَ لَهُنَّ لَيَالٍ مِنْ ثَمَانٍ، وَلَهُ الِانْفِرَادُ فِي خَمْسٍ. وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّتَانِ وَأَمَةٌ، فَلَهُنَّ خَمْسٌ وَلَهُ ثَلَاثٌ. وَإِنْ كَانَ حُرَّتَانِ وَأَمَتَانِ، فَلَهُنَّ سِتٌّ وَلَهُ اثْنَتَانِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَاحِدَةً، فَلَهَا لَيْلَةٌ وَلَهُ سَبْعٌ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ لَهَا لَيْلَةٌ وَلَهُ سِتٌّ. [فَصَلِّ الْوَطْءُ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُلِ] (5710) فَصَلِّ وَالْوَطْءُ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُلِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ إلَّا أَنْ يَتْرُكَهُ لِلْإِضْرَارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ كَعْبٍ أَنَّهُ حِينَ قَضَى بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، قَالَ: إنَّ لَهَا عَلَيْك حَقًّا يَا بَعْلُ ... تُصِيبُهَا فِي أَرْبَعٍ لِمَنْ عَدَلَ فَأَعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْك الْعِلَلَ ، فَاسْتَحْسَنَ عُمَرُ قَضَاءَهُ، وَرَضِيَهُ. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، فَيَجِبُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، لَمْ يَصِرْ بِالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِهِ وَاجِبًا، كَسَائِرِ مَا لَا يَجِبُ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُفْضٍ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ كَإِفْضَائِهِ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ الرَّجُلِ، فَيَجِبُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ، وَيَكُون النِّكَاحُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ، لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْلِ، كَالْأَمَةِ. إذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَوَجْهُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي حَقِّ الْمُولِي، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تُوجِبُ مَا حُلِفَ عَلَى تَرْكِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ بِدُونِهَا. فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، وَطَالَبَتْ الْمَرْأَةُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، يَقُولُ: غَدًا أَدْخُلُ بِهَا، إلَى شَهْرٍ، هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الدُّخُولِ؟ فَقَالَ: أَذْهَبُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَجَعَلَهُ أَحْمَدُ كَالْمُولِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ: لَمْ يَرْوِ مَسْأَلَةَ ابْنِ مَنْصُورٍ غَيْرُهُ، وَفِيهَا نَظَرٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ لَهُ الْمُدَّةُ لِذَلِكَ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِيلَاءِ أَثَرٌ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ. [فَصْل كَمْ يَغِيبُ الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ] (5711) فَصْلٌ: وَإِنْ سَافَرَ عَنْ امْرَأَتِهِ لَعُذْرٍ وَحَاجَةٍ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْقَسْمِ وَالْوَطْءِ، وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 نِكَاحُ الْمَفْقُودِ إذَا تَرَكَ لِامْرَأَتِهِ نَفَقَةً. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى تَوْقِيتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَمْ يَغِيبُ الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ؟ قَالَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يُكْتَبُ إلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا. وَإِنَّمَا صَارَ إلَى تَقْدِيرِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَحْرُسُ الْمَدِينَةَ، فَمَرَّ بِامْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ تَقُولُ: تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ ... وَطَالَ عَلَيَّ أَنْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهُ وَوَاللَّهِ لَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ ... لَحُرِّك مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ فَسَأَلَ عَنْهَا عُمَرُ فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ فُلَانَةُ، زَوْجُهَا غَائِبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَرْسَلَ إلَيْهَا امْرَأَةً تَكُونُ مَعَهَا، وَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَأَقْفَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مِثْلُك يَسْأَلُ مِثْلِي عَنْ هَذَا، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أُرِيدُ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلْتُك. قَالَتْ: خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. سِتَّةَ أَشْهُرٍ. فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ؛ يَسِيرُونَ شَهْرًا، وَيُقِيمُونَ أَرْبَعَةً، وَيَسِيرُونَ شَهْرًا رَاجِعِينَ وَسُئِلَ أَحْمَدُ كَمْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَغِيبَ عَنْ أَهْلِهِ؟ قَالَ: يُرْوَى سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَقَدْ يَغِيبُ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَأَمْرٍ لَا بُدَّ لَهُ، فَإِنْ غَابَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُرَاسِلُهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَقْدَمَ، فَسَخَ نِكَاحَهُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُ إذَا تَرَكَ الْوَطْءَ وَهُوَ حَاضِرٌ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ الْفَسْخُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. [فَصْلٌ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ] (5712) فَصْلٌ وَسُئِلَ أَحْمَدُ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، يَحْتَسِبُ الْوَلَدَ، وَإِنْ لَمْ يُرْدِ الْوَلَدَ؟ يَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، لِمَ لَا يُؤْجَرُ؟ وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ رَوَى، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مُبَاضَعَتُك أَهْلَك صَدَقَةٌ. قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُصِيبُ شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالَ: قُلْت: بَلَى. قَالَ: أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ.» وَلِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْوَلَدِ، وَإِعْفَافِ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ، وَغَضِّ بَصَرِهِ، وَسُكُونِ نَفْسِهِ، أَوْ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ] (5713) فَصْلٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ لَهُ امْرَأَتَانِ: لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي النَّفَقَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْكُسَى، إذَا كَانَتْ الْأُخْرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 فِي كِفَايَةٍ، وَيَشْتَرِي لِهَذِهِ أَرْفَعَ مِنْ ثَوْبِ هَذِهِ، وَتَكُونُ تِلْكَ فِي كِفَايَةٍ. وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ تَشُقُّ، فَلَوْ وَجَبَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ، فَسَقَطَ وُجُوبُهُ، كَالتَّسْوِيَةِ فِي الْوَطْءِ. . [مَسْأَلَةٌ وَعِمَادُ الْقَسْم بَيْن الزَّوْجَاتِ اللَّيْلُ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَعِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِلسَّكَنِ وَالْإِيوَاءِ، يَأْوِي فِيهِ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَيَسْكُنُ إلَى أَهْلِهِ، وَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ عَادَةً، وَالنَّهَارَ لِلْمَعَاشِ، وَالْخُرُوجِ، وَالتَّكَسُّبِ، وَالِاشْتِغَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] وَقَالَ {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] فَعَلَى هَذَا يَقْسِمُ الرَّجُلُ بَيْنَ نِسَائِهِ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، وَيَكُونُ فِي النَّهَارِ فِي مَعَاشِهِ، وَقَضَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا شَاءَ مِمَّا يُبَاحُ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ مَعَاشُهُ بِاللَّيْلِ، كَالْحُرَّاسِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ بِالنَّهَارِ، وَيَكُونُ اللَّيْلُ فِي حَقِّهِ كَالنَّهَارِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ النَّهَارُ يَدْخُلُ فِي الْقَسْم بَيْنَ الزَّوْجَاتِ تَبَعًا لِلَّيْلِ] (5715) فَصْلٌ: وَالنَّهَارُ يَدْخُلُ فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْلِ؛ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ «قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي. وَإِنَّمَا قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَارًا.» وَيَتْبَعُ الْيَوْمُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ لِلَّيْلِ، وَلِهَذَا يَكُونُ أَوَّلُ الشَّهْرِ اللَّيْلَ وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ، فَيَبْدَأُ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ النَّهَارَ مُضَافًا إلَى اللَّيْلِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ. (5716) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي زَمَانِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، أَوْ آخِرِهِ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِالِانْتِشَارِ فِيهِ، وَالْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ، جَازَ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُونَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِهِ، وَأَمَّا النَّهَارُ، فَهُوَ لِلْمَعَاشِ وَالِانْتِشَارِ. وَإِنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ، لَمْ يَقْضِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَضَاءِ ذَلِكَ. وَإِنْ أَقَامَ، قَضَاهُ لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ إقَامَتُهُ لَعُذْرٍ؛ مِنْ شُغْلٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ فَاتَ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ قَضَاءَهُ لِذَلِكَ غَيْبَتَهُ عَنْ الْأُخْرَى، مِثْلُ مَا غَابَ عَنْ هَذِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 جَازَ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ اللَّيْلَةِ بِكَمَالِهَا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَبَعْضُهَا أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُمَاثَلَةِ، وَالْقَضَاءُ تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ، كَقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَالْحُقُوقِ. وَإِنْ قَضَاهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ اللَّيْلِ، مِثْلُ إنْ فَاتَهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَقَضَاهُ فِي آخِرِهِ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ، فَقَضَاهُ فِي أَوَّلِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى قَدْرَ مَا فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ. وَالْآخَرُ، لَا يَجُوزُ؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهُ كُلَّهُ مِنْ لَيْلَةِ الْأُخْرَى، لِئَلَّا يَفُوتَ حَقُّ الْأُخْرَى، فَتَحْتَاجَ إلَى قَضَاءٍ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ فِي لَيْلَةٍ، فَيَقْضِيَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَةً، بَيْنَهُنَّ، وَيُفَضِّلُ هَذِهِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ حَقِّهَا، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ مِنْ لَيْلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِثْلَ مَا فَاتَ مِنْ لَيْلَةِ هَذِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْسِمَ الْمَتْرُوكَ بَيْنَهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَاهُمَا سَاعَتَيْنِ، فَيَقْضِيَ لَهَا مِنْ لَيْلَةِ الْأُخْرَى سَاعَةً وَاحِدَةً، فَيَصِيرَ الْفَائِتُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَاعَةً. [فَصْلٌ الدُّخُولُ عَلَى ضَرَّتِهَا فِي زَمَنِهَا] فَصْلٌ: وَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَى ضَرَّتِهَا فِي زَمَنِهَا، فَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا الضَّرُورَةُ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَنْزُولًا بِهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَحْضُرَهَا، أَوْ تُوصِي إلَيْهِ، أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنَّ خَرَجَ، لَمْ يَقْضِ. وَإِنْ أَقَامَ وَبَرِئَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرِيضَةُ، قَضَى لِلْأُخْرَى مِنْ لَيْلَتِهَا بِقَدْرِ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا. وَإِنْ خَرَجَ لَحَاجَةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ، أُتِمَّ. وَالْحُكْمُ فِي الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ لَضَرُورَةٍ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَضَاءِ الْيَسِيرِ. وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَجَامَعَهَا فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الْقَسْمِ، وَالزَّمَنُ الْيَسِيرُ لَا يُقْضَى. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمَظْلُومَةِ فِي لَيْلَةِ الْمُجَامَعَةِ، فَيُجَامِعُهَا، لِيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعَ الْجِمَاعِ يَحْصُلُ بِهِ السَّكَنُ، فَأَشْبَهَ الْكَثِيرَ. وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي النَّهَارِ إلَى الْمَرْأَةِ فِي يَوْمِ غَيْرِهَا، فَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، مِنْ دَفْعِ النَّفَقَةِ، أَوْ عِيَادَةٍ، أَوْ سُؤَالٍ عَنْ أَمْرٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ زِيَارَتِهَا لِبُعْدِ عَهْدِهِ بِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ عَلَيَّ فِي يَوْمِ غَيْرِي، فَيَنَالُ مِنِّي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ.» وَإِذَا دَخَلَ إلَيْهَا لَمْ يُجَامِعْهَا، وَلَمْ يُطِلْ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ السَّكَنَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّهُ، وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهَا بِهِ السَّكَنُ، فَأَشْبَهَ الْجِمَاعَ. فَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامَ عِنْدَهَا، قَضَاهُ. وَإِنْ جَامَعَهَا فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَقْضِي إذَا جَامَعَ فِي النَّهَارِ. وَلَنَا، أَنَّهُ زَمَنٌ يَقْضِيهِ إذَا طَالَ الْمُقَامُ، فَيَقْضِيهِ إذَا جَامَعَ فِيهِ، كَاللَّيْلِ. (5718) فَصْلٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَسْكَنٌ يَأْتِيهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ هَكَذَا، وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهُنَّ وَأَسْتَرُ، حَتَّى لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ. وَإِنَّ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا يَسْتَدْعِي إلَيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلرَّجُلِ نَقْلَ زَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَمَنْ امْتَنَعَتْ مِنْهُنَّ مِنْ إجَابَتِهِ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْقَسْمِ؛ لِنُشُوزِهَا. وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَقْصِدَ بَعْضَهُنَّ فِي مَنَازِلِهِنَّ، وَيَسْتَدْعِيَ الْبَعْضَ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَيْثُ شَاءَ. وَإِنْ حُبِسَ الزَّوْجُ، فَأَحَبَّ الْقَسْمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، بِأَنْ يَسْتَدْعِيَ كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي لَيْلَتِهَا، فَعَلَيْهِنَّ طَاعَتُهُ، إنْ كَانَ ذَلِكَ سُكْنَى مِثْلِهِنَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ تَلْزَمْهُنَّ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا. وَإِنْ أَطَعْنَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، وَلَا اسْتِدْعَاءُ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا فِي غَيْرِ الْحَبْسِ. [مَسْأَلَةٌ وَطِئَ زَوْجَتَهُ وَلَمْ يَطَأْ الْأُخْرَى] (5719) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ، وَلَمْ يَطَأْ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ بِعَاصٍ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ لَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْجِمَاعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِمَاعَ طَرِيقُهُ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ قَدْ يَمِيلُ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ. وَإِنْ أَمْكَنَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِمَاعِ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ أَبْلُغُ فِي الْعَدْلِ، «وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ.» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ حَتَّى فِي الْقُبَلِ. وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ؛ مِنْ الْقُبَلِ، وَاللَّمْسِ، وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ التَّسْوِيَةُ فِي الْجِمَاعِ، فَفِي دَوَاعِيهِ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ يَقْسِمُ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ لَيْلَةً وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ] (5720) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَقْسِمُ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وَبِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَسْرُوقٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَهْلِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: يُسَوِّي بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْقَسْمِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ؛ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَقَسْمُ الِابْتِدَاءِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولَ: إذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ عَلَى الْأَمَةِ، قَسَمَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَلِأَنَّ الْحُرَّةَ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكَانَ حَظُّهَا أَكْثَرَ فِي الْإِيوَاءِ، وَيُخَالِفُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَحَاجَتُهَا إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْحُرَّةِ. وَأَمَّا قَسْمُ الِابْتِدَاءِ فَإِنَّمَا شُرِعَ لِيَزُولَ الِاحْتِشَامُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يَخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَقْسِمُ لَهُمَا لِتَسَاوِي حَظِّهِمَا. (5721) فَصْلٌ: وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ سَوَاءٌ فِي الْقَسْمِ، فَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، أَمَهٌ مُسْلِمَةٌ، وَحُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ، قَسَمَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا حُرَّتَيْنِ، فَلَيْلَةٌ وَلَيْلَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ. كَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادُ، وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ، كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى. وَيُفَارِقُ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَتِمُّ تَسْلِيمُهَا، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا الْإِيوَاءُ التَّامُّ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيَّةِ. [فَصْلٌ أَعْتَقَتْ الْأَمَةُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّتِهَا] (5722) فَصْلٌ: فَإِنْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّتِهَا، أَضَافَ إلَى لَيْلَتِهَا لَيْلَةً أُخْرَى، لِتُسَاوِي الْحُرَّةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، اُسْتُؤْنِفَ الْقَسْمُ مُتَسَاوِيًا، وَلَمْ يَقْضِ لَهَا مَا مَضَى؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَصَلَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا. وَإِنْ عَتَقَتْ، وَقَدْ قَسَمَ لِلْحُرَّةِ لَيْلَةً، لَمْ يَزِدْهَا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا، فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 [فَصْلٌ الْحَقُّ فِي الْقَسْمِ لِلْأَمَةِ دُونَ سَيِّدِهَا] (5723) فَصْلٌ: وَالْحَقُّ فِي الْقَسْمِ لِلْأَمَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَهَبَ لَيْلَتَهَا لِزَوْجِهَا، وَلِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا، كَالْحُرَّةِ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا، وَلَا أَنْ يَهَبَهُ دُونَهَا؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ وَالسَّكَنَ حَقٌّ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا، فَمَلَكَتْ إسْقَاطَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَحْمَدَ إنَّهُ يَسْتَأْذِنُ سَيِّدَ الْأَمَةِ فِي الْعَزْلِ عَنْهَا. أَنْ لَا تَجُوزَ هِبَتُهَا لِحَقِّهَا مِنْ الْقَسْمِ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْقَسْمُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ فِيهِ حَقٌّ، وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَيْئَةِ لِلْأَمَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، وَفَسْخُ النِّكَاحِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا، فَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُ هَاهُنَا. [فَصْلٌ لَا قَسَمَ عَلَى الرَّجُلِ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ] (5724) فَصْلٌ: وَلَا قَسْمَ عَلَى الرَّجُلِ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ وَإِمَاءٌ، فَلَهُ الدُّخُولُ عَلَى الْإِمَاءِ كَيْفَ شَاءَ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ إنْ شَاءَ كَالنِّسَاءِ، وَإِنْ شَاءَ أَقَلَّ، وَإِنْ شَاءَ أَكْثَرَ، وَإِنْ شَاءَ سَاوَى بَيْن الْإِمَاءِ، وَإِنْ شَاءَ فَضَّلَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَمْتَعَ مِنْ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَقَدْ «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ، وَرَيْحَانَةُ، فَلَمْ يَكُنْ يَقْسِمُ لَهُمَا.» وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِذَلِكَ لَا يَثْبُتُ، لَهَا الْخِيَارُ بِكَوْنِ السَّيِّدِ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا، وَلَا تُضْرَبُ لَهَا مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، لَكِنْ إنْ احْتَاجَتْ إلَى النِّكَاحِ، فَعَلَيْهِ إعْفَافُهَا، إمَّا بِوَطْئِهَا، أَوْ تَزْوِيجِهَا، أَوْ بَيْعِهَا. [فَصْلٌ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ لَيْلَةً لَيْلَةً] (5725) فَصْلٌ وَيَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ لَيْلَةً لَيْلَةً فَإِنْ أَحَبَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَاهُنَّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُنَّ. وَالْأَوْلَى مَعَ هَذَا لَيْلَةٌ وَلَيْلَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لَعَهْدِهِنَّ بِهِ، وَتَجُوزُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهَا فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، فَهِيَ كَاللَّيْلَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَسَمَ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، وَلِأَنَّ التَّسْوِيَةَ وَاجِبَةٌ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ بِالْبِدَايَةِ بِوَاحِدَةٍ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، فَإِذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً، تَعَيَّنَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ حَقًّا لِلْأُخْرَى، فَلَمْ يَجُزْ جَعْلُهَا لِلْأُولَى بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَلِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِحُقُوقِ بَعْضِهِنَّ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا، حَصَلَ تَأْخِيرُ الْأَخِيرَةِ فِي تِسْعِ لَيَالٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ تِسْعًا، وَلِأَنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٌ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ التَّعْجِيلِ بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْتَحِقِّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ الْحَالِّ، وَالتَّحْدِيدُ بِالثَّلَاثِ تَحَكُّمٌ لَا يُسْمَعُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَكَوْنُهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ لَا يُوجِبُ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْحَقِّ، كَالدُّيُونِ الْحَالَّةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ. [فَصْل قَسَمَ لِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ طَلَّقَ الْأُخْرَى قَبْلَ قَسَمَهَا] (5726) فَصْلٌ: فَإِنْ قَسَمَ لِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ طَلَّقَ الْأُخْرَى قَبْلَ قَسْمِهَا، أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ حَقَّهَا الْوَاجِبَ لَهَا، فَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ، بِرَجْعَةٍ أَوْ نِكَاحٍ؛ قَضَى لَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا، فَلَزِمَهُ، كَالْمُعْسِرِ إذَا أَيْسَرَ بِالدَّيْنِ. فَإِنْ قَسَمَ لِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ جَاءَ لِيَقْسِمَ لِلثَّانِيَةِ، فَأَغْلَقَتْ الْبَابَ دُونَهُ، أَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، أَوْ قَالَتْ: لَا تَدْخُلْ عَلَيَّ، أَوْ لَا تَبِتْ عِنْدِي. أَوْ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْقَسْمِ. فَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْمُطَاوَعَةِ، اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَقْضِ النَّاشِزَ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَأَقَامَ عِنْدَ ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ الرَّابِعَةِ عَشْرًا؛ لِتَسَاوِيهِنَّ، فَإِنْ نَشَزَتْ إحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ، وَظَلَمَ وَاحِدَةً فَلَمْ يَقْسِمْ لَهَا، وَأَقَامَ عِنْدَ الِاثْنَتَيْنِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَطَاعَتْهُ النَّاشِزُ، وَأَرَادَ الْقَضَاءَ لِلْمَظْلُومَةِ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ لَهَا ثَلَاثًا، وَلِلنَّاشِزِ لَيْلَةً خَمْسَةَ أَدْوَارٍ، فَيُكْمِلُ لِلْمَظْلُومَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَيَحْصُلُ لِلنَّاشِزِ خَمْسٌ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بَيْنَ الْجَمِيعِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَقَسَمَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، وَظَلَمَ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ جَدِيدَةً، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ لِلْمَظْلُومَةِ، فَإِنَّهُ يَخُصُّ الْجَدِيدَةَ بِسَبْعٍ إنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَثَلَاثٍ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِحَقِّ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَقْسِمُ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَظْلُومَةِ خَمْسَةَ أَدْوَارٍ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا لِلْمَظْلُومَةِ مِنْ كُلِّ دُورٍ ثَلَاثًا، وَوَاحِدَةً لِلْجَدِيدَةِ. [فَصْلٌ كَانَتْ امْرَأَتَاهُ فِي بَلَدَيْنِ الْقَسْم بَيْن الزَّوْجَات] (5727) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتَاهُ فِي بَلَدَيْنِ، فَعَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْمُبَاعَدَةَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُمَا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَمْضِيَ إلَى الْغَائِبَةِ فِي أَيَّامِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُقْدِمَهَا إلَيْهِ، وَيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ الْقُدُومِ مَعَ الْإِمْكَانِ، سَقَطَ حَقُّهَا لِنُشُوزِهَا. وَإِنْ أَحَبَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا فِي بَلَدَيْهِمَا، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، فَيَجْعَلَ الْمُدَّةَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ، كَشَهْرِ وَشَهْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ، عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ، وَعَلَى حَسَبِ تَقَارُبِ الْبَلَدَيْنِ وَتَبَاعُدِهِمَا. [فَصْلٌ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنْ الْقَسْم لِزَوْجِهَا] (5728) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنْ الْقَسْمِ لِزَوْجِهَا، أَوْ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا، أَوْ لَهُنًّ جَمِيعًا، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِرِضَاهُ، فَإِذَا رَضِيَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِنْ أَبَتْ الْمَوْهُوبَةُ قَبُولَ الْهِبَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، إنَّمَا مَنَعَتْهُ الْمُزَاحَمَةُ بِحَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ بِهِبَتِهَا، ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَإِنْ كَرِهَتْ، كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ «سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ وَفِي بَعْضِهِ، فَإِنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا فِي جَمِيعِ زَمَانِهَا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فِي شَيْءٍ، فَقَالَتْ صَفِيَّةُ لِعَائِشَةَ: هَلْ لَك أَنْ تُرْضِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَك يَوْمِي؟ فَأَخَذَتْ خِمَارًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانَ، فرشته لِيَفُوحَ رِيحُهُ، ثُمَّ اخْتَمَرَتْ بِهِ، وَقَعَدَتْ إلَى جَنْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إلَيْك يَا عَائِشَةُ، إنَّهُ لَيْسَ يَوْمَك. قَالَتْ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَأَخْبَرَتْهُ بِالْأَمْرِ، فَرَضِيَ عَنْهَا.» فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِجَمِيعِ ضَرَائِرِهَا، صَارَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ. وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ، فَلَهُ جَعْلُهُ لِمَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ فِي ذَلِكَ، إنْ شَاءَ جَعَلَهُ لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ شَاءَ خَصَّ بِهَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ لَبَعْضِهِنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ. وَإِنْ وَهَبَتْهَا لَوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفِعْلِ سَوْدَةَ، جَازَ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ، وَإِلَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، إلَّا بِرِضَى الْبَاقِيَاتِ، وَيَجْعَلُهَا لَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لِلْوَاهِبَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فِي لَيْلَتِهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لِلْوَاهِبَةِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ حَقِّ غَيْرِهَا، وَتَغْيِيرًا لِلَيْلَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَلَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ، فَآثَرَ بِهَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخِرُ، إنَّهُ يَجُوزُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّفْرِيقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ فَائِدَةً، فَلَا يَجُوزُ اطِّرَاحُهَا. وَمَتَى رَجَعَتْ الْوَاهِبَةُ فِي لَيْلَتِهَا، فَلَهَا ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ. وَلَوْ رَجَعَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، كَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَتَمَّ اللَّيْلَةَ، لَمْ يَقْضِ لَهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهَا. (5729) فَصْلٌ: فَإِنْ بَذَلَتْ لَيْلَتَهَا بِمَالٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي كَوْنِ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَالٍ، فَلَا يَجُوزُ مُقَابَلَتُهُ بِمَالٍ، فَإِذَا أَخَذَتْ عَلَيْهِ مَالًا، لَزِمَهَا رَدُّهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا، لِأَنَّهَا تَرَكَتْهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَلَمْ يَسْلَمْ لَهَا، وَإِنْ كَانَ عِوَضُهَا غَيْرَ الْمَالِ، مِثْلُ إرْضَاءِ زَوْجِهَا، أَوْ غَيْرِهِ عَنْهَا، جَازَ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ أَرْضَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفِيَّةَ، وَأَخَذَتْ يَوْمَهَا، وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 [مَسْأَلَةٌ إذَا سَافَرَتْ زَوْجَتُهُ بِإِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا سَافَرَتْ زَوْجَتُهُ بِإِذْنِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا قَسْمَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَشْخَصَهَا، فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنْ ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا إذَا سَافَرَتْ فِي حَاجَتِهَا، بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لَتِجَارَةٍ لَهَا، أَوْ زِيَارَةٍ، أَوْ حَجِّ تَطَوُّعٍ، أَوْ عُمْرَةٍ، لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ فِي نَفَقَةٍ وَلَا قَسْمٍ. هَكَذَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ؛: أَحَدُهُمَا، لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا؛ لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَافَرَتْ مَعَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَسْمَ لِلْأُنْسِ، وَالنَّفَقَةَ لِلتَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا، فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولٍ بِهَا. وَفَارَقَ مَا إذَا سَافَرَتْ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَسْمُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ عَنْهَا لَسَقَطَ قَسَمَهَا، وَالتَّعَذُّرُ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ مِنْ جِهَتِهَا بِسَفَرِهَا، كَانَ أَوْلَى، وَيَكُونُ فِي النَّفَقَةِ الْوَجْهَانِ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُقُوطِهِمَا إذَا سَافَرَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ إذَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّمْكِينِ بِأَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ نُشُوزٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ، فَلَأَنْ يَسْقُطَ بِالنُّشُوزِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْلَى. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ. فَأَمَّا إنْ أَشْخَصَهَا، وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَهَا لِحَاجَتِهِ، أَوْ يَأْمُرَهَا بِالنَّقْلَةِ مِنْ بَلَدِهَا، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَسْمٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُفَوِّتْ عَلَيْهِ التَّمْكِينَ، وَلَا فَاتَ مِنْ جِهَتِهَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِتَفْوِيتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ تَسْلِيمِ ثَمَنِهِ إلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، يَقْضِي لَهَا بِحَسَبِ مَا أَقَامَ عِنْدَ ضَرَّتِهَا. وَإِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ، فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنْهُمَا جَمِيعًا. [مَسْأَلَةٌ الزَّوْجَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا فَلَا يَخْرُجُ مَعَهُ مِنْهُنَّ إلَّا بِقُرْعَةِ] (5731) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا، فَلَا يَخْرُجُ مَعَهُ مِنْهُنَّ إلَّا بِقُرْعَةٍ، فَإِذَا قَدِمَ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا، فَأَحَبَّ حَمْلَ نِسَائِهِ مَعَهُ كُلِّهِنَّ، أَوْ تَرْكَهُنَّ كُلِّهِنَّ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لِتَعْيِينِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْهُنَّ بِالسَّفَرِ، وَهَاهُنَا قَدْ سَوَّى، وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِبَعْضِهِنَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إلَّا بِقُرْعَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْن نِسَائِهِ، وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ فِي الْمُسَافَرَةِ بِبَعْضِهِنَّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلًا لَهَا، وَمَيْلًا إلَيْهَا، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ كَالْبِدَايَةِ بِهَا فِي الْقَسْمِ. وَإِنْ أَحَبَّ الْمُسَافَرَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، أَقْرَعِ أَيْضًا، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَصَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمَتَى سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 سَوَّى بَيْنَهُنَّ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ بَعْدَ قُدُومِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ " فَإِذَا قَدِمَ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ ". وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَقْضِي؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] وَلَنَا، أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَذْكُرْ قَضَاءً فِي حَدِيثِهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ السَّكَنِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ السَّكَنِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَضَرِ، فَلَوْ قُضِيَ لِلْحَاضِرَاتِ، لَكَانَ قَدْ مَالَ عَلَى الْمُسَافِرَةِ كُلَّ الْمَيْلِ، لَكِنْ إنْ سَافَرَ بِإِحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، أَثِمَ، وَقَضَى لِلْبَوَاقِي بَعْدَ سَفَرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ قَسْمَ الْحَضَرِ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَقَسْمِ السَّفَرِ، فَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَصَّ بَعْضَهُنَّ بِمُدَّةٍ، عَلَى وَجْهٍ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِيهِ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي مِنْهَا مَا أَقَامَ مِنْهَا مَعَهَا بِمَبِيتٍ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا زَمَانُ السَّيْرِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مِنْهُ إلَّا التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ فَلَوْ جَعَلَ لِلْحَاضِرَةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مَبِيتًا عِنْدَهَا، وَاسْتِمْتَاعًا بِهَا، لَمَالَ كُلَّ الْمَيْلِ. [فَصْلٌ إذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِإِحْدَاهُنَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّفَرُ بِهَا] (5732) فَصْلٌ: إذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِإِحْدَاهُنَّ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّفَرُ بِهَا، وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُوجِبُ، وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ. وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْقُرْعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا، جَازَ إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ، كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي الْحَضَرِ. وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَى الزَّوْجِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هِبَةِ اللَّيْلَةِ فِي الْحَضَرِ. وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ، أَوْ لِلْجَمِيعِ، جَازَ. وَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ السَّفَرِ مَعَهُ، سَقَطَ حَقُّهَا إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ، وَإِنْ أَبَى، فَلَهُ إكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ، أَسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الْبَوَاقِي. وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجَاتُ كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ، إلَّا أَنْ لَا يَرْضَى الزَّوْجُ، وَيُرِيدَ غَيْرَ مَنْ اتَّفَقْنَ عَلَيْهَا، فَيُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ. وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا ثَانِيًا، أَنَّهُ يَقْضِي لِلْبَوَاقِي فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَافَرَ بِهَا بِقُرْعَةٍ، فَلَمْ يَقْضِ كَالطَّوِيلِ، وَلَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ لَمْ يَجُزْ الْمُسَافَرَةُ بِإِحْدَاهُنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 دُونَ الْأُخْرَى، كَمَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ إحْدَاهُنَّ بِالْقَسْمِ دُونَ الْأُخْرَى. وَمَتَى سَافَرَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بُعْدُ السَّفَرِ، نَحْوُ أَنْ يُسَافِرَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَمْضِي إلَى مِصْرَ، فَلَهُ اسْتِصْحَابُهَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاحِدٌ قَدْ أَقْرَعَ لَهُ. وَإِنْ أَقَامَ فِي بَلْدَةٍ مُدَّةَ إحْدَى وَعُشْرِينَ صَلَاةً فَمَا دُونَ، لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ السَّفَرِ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ. وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، قَضَى الْجَمِيعَ مِمَّا أَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ. وَإِنْ أَزْمَعَ عَلَى الْمُقَامِ قَضَى مَا أَقَامَهُ، وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ. ثُمَّ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى بَلَدِهِ، أَوْ بَلَدٍ أُخْرَى، لَمْ يَقْضِ مَا سَافَرَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ السَّفَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ أَقْرَعَ لَهُ. [فَصْلٌ أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِنِسَائِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ] (5733) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِنِسَائِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَأَمْكَنَهُ اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلَّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إفْرَادُ إحْدَاهُنَّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدَةٍ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلِ جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ خَصَّ إحْدَاهُنَّ، قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ كَالْحَاضِرِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ، أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَبَعَثَ بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ، جَازَ، وَلَا يَقْضِي لَأَحَدٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ. وَإِنْ أَرَادَ إفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقُرْعَةٍ. فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ، قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ كَوْنِهَا مَعَهُ فِي الْبَلَدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا، وَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ عَنْهُ. [فَصْلٌ لَهُ امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجَ أُخْرَى وَأَرَادَ السَّفَرَ بِهِمَا جَمِيعًا] فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجَ أُخْرَى، وَأَرَادَ السَّفَرَ بِهِمَا جَمِيعًا، قَسَمَ لِلْجَدِيدَةِ سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، ثُمَّ يَقْسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَدِيمَةِ. وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَاهُمَا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ الْجَدِيدَةِ، سَافَرَ بِهَا مَعَهُ، وَدَخَلَ حَقُّ الْعَقْدِ فِي قَسْمِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ قَسْمٍ. وَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ لِلْأُخْرَى، سَافَرَ بِهَا، فَإِذَا حَضَرَ، قَضَى لِلْجَدِيدَةِ حَقَّ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ سَافَرَ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَعَزَمَ عَلَى السَّفَرِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَسَافَرَ بِاَلَّتِي تَخْرُجُ لَهَا الْقُرْعَةُ، وَيَدْخُلُ حَقُّ الْعَقْدِ فِي قَسْمِ السَّفَرِ، فَإِذَا قَدِمَ، قَضَى لِلثَّانِيَةِ حَقَّ الْعَقْدِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لَهَا قَبْلَ سَفَرِهِ، لَمْ يُؤَدِّهِ إلَيْهَا، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ بِالْأُخْرَى مَعَهُ. وَالثَّانِي، لَا يَقْضِيهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الَّتِي سَافَرَ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُسَافِرَةِ مِنْ الْإِيوَاءِ وَالسَّكَنِ وَالْمَبِيتِ عِنْدَهَا، مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَضَرِ، فَيَكُونُ مَيْلًا فَيَتَعَذَّرُ قَضَاؤُهُ. فَإِنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَنْقَضِي فِيهَا حَقُّ عَقْدِ الْأُولَى، أَتَمَّهُ فِي الْحَضَرِ، وَقَضَى لِلْحَاضِرَةِ مِثْلَهُ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَفِيمَا زَادَ الْوَجْهَانِ. وَيَحْتَمِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَضَاءَ حَقِّ الْعَقْدِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَحْتَسِبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 عَلَى الْمُسَافِرَةِ بِمُدَّةِ سَفَرِهَا، كَمَا لَا يَحْتَسِبُ بِهِ عَلَيْهَا فِيمَا عَدَا حَقِّ الْعَقْدِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّ الْعَقْدِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ بِغَيْرِ مُسْقِطٍ. [مَسْأَلَةٌ إذَا أَعْرَسَ عِنْدَ بَكْرٍ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا] (5735) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَعْرَسَ عِنْدَ بَكْرٍ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ دَارَ، وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِمَا أَقَامَ عِنْدَهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ دَارَ، وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهَا أَيْضًا بِمَا أَقَامَ عِنْدَهَا) مَتَى تَزَوَّجَ صَاحِبُ النِّسْوَةِ امْرَأَةً جَدِيدَةً، قَطَعَ الدُّورَ، وَأَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَلَا يَقْضِيهَا لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَلَا يَقْضِيهَا، إلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا، فَإِنَّهُ يُقِيمُهَا عِنْدَهَا، وَيَقْضِي الْجَمِيعَ لِلْبَاقِيَاتِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: لِلْبِكْرِ ثَلَاثٌ وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ. وَنَحْوُهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا فَضْلَ لِلْجَدِيدَةِ فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ أَقَامَ عِنْدَهَا شَيْئًا قَضَاهُ لِلْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَضَّلَهَا بِمُدَّةٍ، فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا، كَمَا لَوْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ سَبْعًا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: لَوْ شِئْت لَقُلْت: أَنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ، إنْ شِئْت سَبَّعْت لَك، وَإِنْ سَبَّعْت لَك سَبَّعْت لِنِسَائِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «وَإِنْ شِئْت ثَلَّثْت ثُمَّ دُرْت» . وَفِي لَفْظٍ: «وَإِنْ شِئْت زِدْتُك، ثُمَّ حَاسَبْتُك بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ» ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: «إنْ شِئْت أَقَمْت عِنْدَك ثَلَاثًا خَالِصَةً لَك، وَإِنْ شِئْت سَبَّعْت لَك، ثُمَّ سَبَّعْت لِنِسَائِي.» وَهَذَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُمْ. وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ خَالَفَنَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مِنْ أَدْلَى بِالسُّنَّةِ (5736) فَصْلٌ: وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي: الْأَمَةُ عَلَى النَّصْبِ مِنْ الْحُرَّةِ، كَسَائِرِ الْقَسْمِ. وَالثَّالِثُ: لِلْبِكْرِ مِنْ الْإِمَاءِ أَرْبَعٌ، وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ، تَكْمِيلًا لِبَعْضِ اللَّيْلَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ.» وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلْأُنْسِ وَإِزَالَةِ الِاحْتِشَامِ، وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ سَوَاءٌ فِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ، كَالنَّفَقَةِ. [فَصْلٌ يُكْرَهُ أَنْ يُزَفّ إلَيْهِ امْرَأَتَانِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ] (5737) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُزَفَّ إلَيْهِ امْرَأَتَانِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي مُدَّةِ حَقِّ عَقْدِ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يُوَفِّيَهُمَا حَقَّهُمَا، وَتَسْتَضِرُّ الَّتِي لَا يُوَفِّيهَا حَقَّهَا وَتَسْتَوْحِشُ. فَإِنْ فَعَلَ، فَأُدْخِلَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى، بَدَأَ بِهَا، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا، ثُمَّ عَادَ فَوَفَّى الثَّانِيَةَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ. وَإِنْ زُفَّتْ الثَّانِيَةُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ حَقِّ الْعَقْدِ، أَتَمَّهُ لِلْأُولَى، ثُمَّ قَضَى حَقَّ الثَّانِيَةَ. وَإِنْ أُدْخِلَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا فِي مَكَان وَاحِدٍ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا، ثُمَّ وَفَّى الْأُخْرَى بَعْدَهَا. [فَصْلٌ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ فَبَاتَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا لَيْلَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ ثَالِثَةً قَبْلَ لَيْلَةِ الثَّانِيَةِ] (5738) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ، فَبَاتَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا لَيْلَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَ ثَالِثَةً قَبْلَ لَيْلَةِ الثَّانِيَةِ، قَدَّمَ الْمَزْفُوفَةَ بِلَيَالِيِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا آكَدُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ، وَحَقُّ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ، فَإِذَا قَضَى حَقَّ الْجَدِيدَةِ، بَدَأَ بِالثَّانِيَةِ، فَوَفَّاهَا لَيْلَتَهَا، ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْقَسْمَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا وَفَّى الثَّانِيَةَ لَيْلَتَهَا، بَاتَ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْقَسْمَ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُوَفِّيهَا لِلثَّانِيَةِ نِصْفُهَا مِنْ حَقِّهَا وَنِصْفُهَا مِنْ حَقِّ الْأُخْرَى، فَيَثْبُتُ لِلْجَدِيدَةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ نِصْفُ لَيْلَةٍ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَّتَيْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ فِي نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَفِيهِ حَرَجٌ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ مَكَانًا يَنْفَرِدُ فِيهِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَيْهِ فِي نِصْفِ اللَّيْلَةِ، أَوْ الْمَجِيءِ مِنْهُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْبِدَايَةِ بِهَا بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَفَاءٌ بِحَقِّهَا بِدُونِ هَذَا الْحَرَجِ، فَيَكُونُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ حُكْمُ السَّبْعَةِ وَالثَّلَاثَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا عِنْدَ الْمَزْفُوفَةِ] (5739) فَصْلٌ: وَحُكْمُ السَّبْعَةِ وَالثَّلَاثَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا عِنْدَ الْمَزْفُوفَةِ حُكْمُ سَائِرِ الْقَسْمِ، فِي أَنَّ عِمَادَهُ اللَّيْلُ، وَلَهُ الْخُرُوجُ نَهَارًا لِمَعَاشِهِ، وَقَضَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ. وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ عِنْدَهَا لَيْلًا؛ لِشُغْلٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، قَضَاهُ لَهَا، وَلَهُ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ الْجَمَاعَةَ لِذَلِكَ، وَيَخْرُجُ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ؛ فَإِنْ أَطَالَ قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 [مَسْأَلَةٌ ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَخَافُ مَعَهُ نُشُوزهَا] (5740) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَخَافُ مَعَهُ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوزًا هَجَرَهَا، فَإِنْ أَرْدَعَهَا، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا) مَعْنَى النُّشُوزِ مَعْصِيَةُ الزَّوْجِ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ النَّشْزِ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، فَكَأَنَّهَا ارْتَفَعَتْ وَتَعَالَتْ عَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ، فَمَتَى ظَهَرَتْ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ، مِثْلُ أَنْ تَتَثَاقَلَ وَتُدَافِعَ إذَا دَعَاهَا، وَلَا تَصِيرَ إلَيْهِ إلَّا بِتَكَرُّهٍ وَدَمْدَمَةٍ، فَإِنَّهُ يَعِظُهَا، فَيُخَوِّفُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَيَذْكُرُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ الْحَقِّ وَالطَّاعَةِ، وَمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْإِثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَمَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهَا، مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ ضَرْبِهَا وَهَجْرِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فَإِنْ أَظْهَرَتْ النُّشُوزَ، وَهُوَ أَنْ تَعْصِيَهُ، وَتَمْتَنِعَ مِنْ فِرَاشِهِ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا فِي الْمَضْجَعِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُضَاجِعْهَا فِي فِرَاشِك. فَأَمَّا الْهِجْرَانُ فِي الْكَلَامِ، فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ضَرْبُهَا فِي النُّشُوزِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ إذَا عَصَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، فَلَهُ ضَرْبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ ضَرْبِهَا بِأَوَّلِ مَرَّةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] . وَلِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِالْمَنْعِ فَكَانَ لَهُ ضَرْبُهَا، كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَلِفُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ، كَالْحُدُودِ وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ الْمَقْصُودُ زَجْرُهَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، كَمَنْ هُجِمَ مَنْزِلُهُ فَأَرَادَ إخْرَاجَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] الْآيَةَ، فَفِيهَا إضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، فَإِنْ أَصْرَرْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ رَتَّبَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ عَلَى خَوْفِ النُّشُوزِ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَضْرِبُهَا لِخَوْفِ النُّشُوزِ قَبْلَ إظْهَارِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَهَذَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَرْتَدِعْ بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ، فَلَهُ ضَرْبُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَى " غَيْرَ مُبَرِّحٍ " أَيْ لَيْسَ بِالشَّدِيدِ. قَالَ الْخَلَّالُ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى عَنْ قَوْلِهِ: " ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ " قَالَ: غَيْرَ شَدِيدٍ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْوَجْهَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 التَّأْدِيبُ لَا الْإِتْلَافُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ «حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت، وَلَا يُقَبِّحْ، وَلَا يَهْجُرْ إلَّا فِي الْبَيْتِ.» وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ وَلَا يَزِيدُ فِي ضَرْبِهَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَجْلِدْ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لَهُ تَأْدِيبُهَا عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ] (5741) فَصْلٌ: وَلَهُ تَأْدِيبُهَا عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ. وَسَأَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَحْمَدَ عَمَّا يَجُوزُ ضَرْبُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ، قَالَ: عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ. وَقَالَ فِي الرَّجُلِ لَهُ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي: يَضْرِبُهَا ضَرْبًا رَفِيقًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ: عَلِّمُوهُمْ أَدِّبُوهُمْ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَلَّقَ فِي بَيْتِهِ سَوْطًا يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ» . فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ أَخْشَى أَنْ لَا يَحِلَّ لِرَجُلِ أَنْ يُقِيمَ مَعَ امْرَأَةٍ لَا تُصَلِّي، وَلَا تَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَا تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ: لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَهُ وَلَا أَبُوهَا، لِمَ ضَرَبَهَا؟ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى «الْأَشْعَثُ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ يَا أَشْعَثُ، احْفَظْ عَنِّي شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسْأَلْنَ رَجُلًا فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْرِبُهَا لِأَجْلِ الْفِرَاشِ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ اسْتَحْيَا، وَإِنْ أَخْبَرَ بِغَيْرِهِ كَذَبَ. [فَصْلٌ خَافِتِ الْمَرْأَةُ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا] (5742) فَصْلٌ: وَإِذَا خَافَتْ الْمَرْأَةُ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا، لِرَغْبَةٍ عَنْهَا، إمَّا لِمَرَضٍ بِهَا، أَوْ كِبَرٍ، أَوْ دَمَامَةٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيهِ بِذَلِكَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] قَالَتْ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا، فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا، وَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، فَتَقُولُ لَهُ أَمْسِكْنِي، وَلَا تُطَلِّقْنِي، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيَّ، وَالْقِسْمَةِ لِي. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، حِينَ أَسَنَّتْ، وَفَرَّقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ. فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا.» قَالَتْ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 ثَنَاؤُهُ وَفِي أَشْبَاهِهَا أَرَاهُ قَالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَتَى صَالَحَتْهُ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ نَفَقَتِهَا، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، جَازَ. فَإِنْ رَجَعَتْ، فَلَهَا ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنْ امْرَأَتِهِ، فَيَقُولُ لَهَا: إنْ رَضِيت عَلَى هَذَا، وَإِلَّا فَأَنْتِ أَعْلَمُ. فَتَقُولُ: قَدْ رَضِيت. فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ. (5743) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالزَّوْجَانِ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ، وَخُشِيَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُخْرِجَهُمَا ذَلِكَ إلَى الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، مَأْمُونَيْنِ، بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْكِيلِهِمَا، بِأَنْ يَجْمَعَا إذَا رَأَيَا أَوْ يُفَرِّقَا، فَمَا فَعَلَا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُمَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ، نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَهُوَ نُشُوزٌ، قَدْ مَضَى حُكْمُهُ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ الرَّجُلِ، أَسْكَنَهُمَا إلَى جَانِبِ ثِقَةٍ، يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ إنْ بَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ ظَلَمَهُ، أَسْكَنَهُمَا إلَى جَانِبِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الْإِنْصَافَ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَظَرَا بَيْنَهُمَا، وَفَعَلَا مَا يَرَيَانِ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، مِنْ جَمْعٍ أَوْ تَفْرِيقٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] . وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْحَكَمَيْنِ، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا، لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إلَّا بِإِذْنِهِمَا. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْبُضْعَ حَقُّهُ، وَالْمَالَ حَقُّهَا، وَهُمَا رَشِيدَانِ، فَلَا يَجُوزُ لَغَيْرِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَلَهُمَا أَنْ يَفْعَلَا مَا يَرَيَانِ مِنْ جَمْعٍ وَتَفْرِيقٍ، بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] . فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَى الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا} [النساء: 35] فَخَاطَبَ الْحَكَمَيْنِ بِذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ، أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً أَتَيَا عَلِيًّا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، فَبَعَثُوا حَكَمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ لِلْحَكَمَيْنِ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا مِنْ الْحَقِّ؟ إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: رَضِيت بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَيَّ وَلِي. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا. فَقَالَ عَلِيٌّ كَذَبْت حَتَّى تَرْضَى بِمَا رَضِيَتْ بِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرْوَى أَنَّ عَقِيلًا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ، فَتَخَاصَمَا، فَجَمَعَتْ ثِيَابَهَا، وَمَضَتْ إلَى عُثْمَانَ فَبَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَلَمَّا بَلَغَا الْبَابَ كَانَا قَدْ غَلَّقَا الْبَابَ وَاصْطَلَحَا. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَثْبُت الْوِلَايَةُ عَلَى الرَّشِيدِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، كَمَا يَقْضِي الدَّيْنَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ إذَا امْتَنَعَ، وَيُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَى الْمُولِي إذَا امْتَنَعَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَكُونَانِ إلَّا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا: هُمَا حَاكَمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إلَّا عَدْلًا، كَمَا لَوْ نُصِبَ وَكِيلًا لَصَبِيٍّ أَوْ مُفْلِسٍ، يَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ. قَالَ الْقَاضِي: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا حُرَّيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ، لَمْ تُعْتَبَرْ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَا حَكَمَيْنِ، اُعْتُبِرَتْ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ فِي ذَلِكَ، فَيُعْتَبَرُ عِلْمُهُمَا بِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِمَا؛ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمَا أَشْفَقُ وَأَعْلَمُ بِالْحَالِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحُكْمِ وَلَا الْوَكَالَةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إرْشَادًا وَاسْتِحْبَابًا، فَإِنْ قُلْنَا: هُمَا وَكِيلَانِ فَلَا يَفْعَلَانِ شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ طَلَاقٍ أَوَصُلْحً، وَتَأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَكِيلِهَا فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَا يَرَاهُ، فَإِنْ امْتَنَعَا مِنْ التَّوْكِيلِ، لَمْ يُجْبَرَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُمَا حَكَمَانِ. فَإِنَّهُمَا يُمْضِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَخُلْعَ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، رَضِيَاهُ أَوْ أَبَيَاهُ. [فَصْلٌ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ حَكَمَيْنِ] (5744) فَصْلٌ: فَإِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ حَكَمَيْنِ، جَازَ لِلْحَكَمَيْنِ إمْضَاءُ رَأْيِهِمَا إنْ قُلْنَا: إنَّهُمَا وَكِيلَانِ. لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْغَيْبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُمَا حَاكِمَانِ. لَمْ يَجُزْ لَهُمَا إمْضَاءُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَحْكُومٌ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ وَكَّلَاهُمَا، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ، لَا بِالْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَكَّلَ، جَازَ لِوَكِيلِهِ فِعْلُ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَعَ غَيْبَتِهِ. وَإِنْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، بَطَلَ حُكْمُ وَكِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ بَقَاءَ الشِّقَاقِ، وَحُضُورَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْجُنُونِ. [فَصْلٌ شَرَطَ الْحَكَمَانِ شَرْطًا أَوْ شَرَطَهُ الزَّوْجَانِ] (5745) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ الْحَكَمَانِ شَرْطًا أَوْ شَرَطَهُ الزَّوْجَانِ لَمْ يَلْزَمْ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَ بَعْضِ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ، لَمْ يَلْزَمْ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْزَمْ بِرِضَى الْمُوَكِّلَيْنِ، فَبِرِضَى الْوَكِلَيْنِ أَوْلَى. وَإِنْ أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمَرْأَةِ مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ دَيْنٍ لَهَا، لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ إلَّا فِي الْخُلْعِ. وَإِنْ أَبْرَأَ وَكِيلُ الزَّوْجِ مِنْ دَيْنٍ لَهُ، أَوْ مِنْ الرَّجُلِ، لَمْ تَبْرَأْ الزَّوْجَةُ؛ لِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِصْلَاحِ، لَا فِي إسْقَاطِ الْحُقُوقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 [كِتَاب الْخُلْع] ِ (5746) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ، وَتَكْرَهُ أَنْ تَمْنَعَهُ مَا تَكُونُ عَاصِيَةً بِمَنْعِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَرِهَتْ زَوْجَهَا، لِخَلْقِهِ، أَوْ خُلُقِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ كِبَرِهِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَخَشِيَتْ أَنْ لَا تُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ، جَازَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِعِوَضٍ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الصُّبْحِ، فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَأْنُك؟ قَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ، لِزَوْجِهَا، فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتٌ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، فَذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ وَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: خُذْ مِنْهَا. فَأَخَذَ مِنْهَا، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا.» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ثَابِتُ الْإِسْنَادِ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 وَلَا خُلُقٍ، إلَّا أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَرَدَّتْهَا عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ لَهُ: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُ، إلَّا بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْهُ، وَزَعَمَ أَنَّ آيَةَ الْخُلْعِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] . الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْخُلْعُ حَتَّى يَجِدَ عَلَى بَطْنِهَا رَجُلًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . وَلَنَا الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا، وَالْخَبَرُ، وَأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَدَعْوَى النَّسْخِ لَا تُسْمَعُ حَتَّى يَثْبُت تَعَذُّرُ الْجَمْعِ، وَأَنَّ الْآيَةَ النَّاسِخَةَ مُتَأَخِّرَةٌ، وَلَمْ يَثْبُت شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا يُسَمَّى خُلْعًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْخَلِعُ مِنْ لِبَاسِ زَوْجِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَيُسَمَّى افْتِدَاءً؛ لِأَنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا بِمَالٍ تَبْذُلُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [فَصْلٌ لَا يُفْتَقَرُ الْخُلْع إلَى حَاكِمٍ] (5747) فَصْلٌ: وَلَا يُفْتَقَرُ الْخُلْعُ إلَى حَاكِمٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: يَجُوزُ الْخُلْعُ دُونَ السُّلْطَانِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَهْلُ الرَّأْيِ. وَعَنْ الْحَسَنِ، وَابْن سِيرِينَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى السُّلْطَانِ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ قَطْعُ عَقْدٍ بِالتَّرَاضِي، أَشْبَهَ الْإِقَالَةَ. [فَصْلٌ بِالْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ] (5748) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِطُولِ الْعِدَّةِ، وَالْخُلْعُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالْمُقَامِ مَعَ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتُبْغِضُهُ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ طُولِ الْعِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْلَاهُمَا بِأَدْنَاهُمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا، وَلِأَنَّ ضَرَرَ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَالْخُلْعُ يَحْصُلُ بِسُؤَالِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرِ مِمَّا أَعْطَاهَا] (5749) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا) هَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ بِأَكْثَرَ مِنْ الصَّدَاقِ، وَأَنَّهُمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْخُلْعِ بِشَيْءٍ صَحَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَوْ اخْتَلَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا بِمِيرَاثِهَا، وَعِقَاصِ رَأْسِهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: لَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: فَإِنْ فَعَلَ رَدَّ الزِّيَادَةَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا أَرَى أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ مَالِهَا، وَلَكِنْ لِيَدَعَ لَهَا شَيْئًا. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ، وَلَا يَزْدَادَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ فَسْخٍ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، كَالْعِوَضِ فِي الْإِقَالَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ: اخْتَلَعْت مِنْ زَوْجِي بِمَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِي، فَأَجَازَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمِثْلُ هَذَا يَشْتَهِرُ، فَلَمْ يُنْكَرْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ خِلَافُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَبِذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ فَإِنْ فَعَلَ جَازَ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ مَالِكٌ لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ إجَازَةَ الْفِدَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ الصَّدَاقِ. وَلَنَا، حَدِيثُ جَمِيلَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ، فَنَجْمَعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ لِلْكَرَاهِيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 [مَسْأَلَةٌ خَالَعَتْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقهَا] (5750) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ خَالَعَتْهُ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، كَرِهَ لَهَا ذَلِكَ، وَوَقَعَ الْخُلْعُ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ " بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا " بِالْبَاءِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا خَالَعَتْهُ لِغَيْرِ بُغْضٍ، وَخَشْيَةً مِنْ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْأَوَّلَ لَقَالَ: كَرِهَ لَهُ. فَلَمَّا قَالَ: كَرِهَ لَهَا. دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُخَالَعَتَهَا لَهُ، وَالْحَالُ عَامِرَةٌ، وَالْأَخْلَاقُ مُلْتَئِمَةٌ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَتْ صَحَّ الْخُلْعُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ تَحْرِيمَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الْخُلْعُ مِثْلُ حَدِيثِ سَهْلَةَ، تَكْرَهُ الرَّجُلَ فَتُعْطِيهِ الْمَهْرَ، فَهَذَا الْخُلْعُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْخُلْعُ صَحِيحًا إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ إذَا لَمْ يَخَافَا إلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ لَاحِقٌ بِهِمَا إذَا افْتَدَتْ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، ثُمَّ غَلَّظَ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] وَرَوِيَ ثَوْبَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ، مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "، وَذَكَرَهُ مُحْتَجًّا بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُخَالَعَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَلِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهَا وَبِزَوْجِهَا، وَإِزَالَةٌ لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَحُرِّمَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ فِي غَيْرِ عَقْدٍ، الْجَوَازُ فِي الْمُعَاوَضَةِ؛ بِدَلِيلِ الرِّبَا، حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي الْعَقْدِ وَأَبَاحَهُ فِي الْهِبَةِ. وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ حَرَّمَهُ، وَخُصُوصُ الْآيَةِ فِي التَّحْرِيمِ، يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ آيَةِ الْجَوَازِ، مَعَ مَا عَضْدَهَا مِنْ الْأَخْبَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَضَلِ زَوْجَتَهُ وَضَارَّهَا بِالضَّرْبِ] (5751) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ عَضَلَ زَوْجَتَهُ، وَضَارَّهَا بِالضَّرْبِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا، أَوْ مَنَعَهَا حُقُوقَهَا؛ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالْقَسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالْعِوَضُ مَرْدُودٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْعِوَضُ لَازِمٌ، وَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] . وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهْنَ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ. وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْعِوَضَ، وَقُلْنَا: الْخُلْعُ طَلَاقٌ. وَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَلَهُ رَجْعُهَا؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ بِالْعِوَضِ، فَإِذَا سَقَطَ الْعِوَضُ، ثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ. وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَقَعُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، إنَّمَا رَضِيَ بِالْفَسْخِ هَاهُنَا بِالْعِوَضِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ، لَا يَحْصُلُ الْمُعَوَّضُ. وَقَالَ مَالِكٌ إنَّ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، رَدَّهُ، وَمَضَى الْخُلْعُ عَلَيْهِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا: يَصِحُّ الْخُلْعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. [فَصْلٌ ضَرَبَهَا عَلَى نُشُوزِهَا وَمَنَعَهَا حَقَّهَا] (5752) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ ضَرَبَهَا عَلَى نُشُوزِهَا، وَمَنَعَهَا حَقَّهَا، لَمْ يَحْرُمْ خُلْعُهَا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُمَا أَنْ لَا يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه وَفِي بَعْضِ حَدِيثِ حَبِيبَةَ، أَنَّهَا «كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَضَرَبَهَا فَكَسَرَ ضِلْعَهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتًا، فَقَالَ: خُذْ بَعْضَ مَالِهَا، وَفَارِقْهَا فَفَعَلَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَكَذَا لَوْ ضَرَبَهَا ظُلْمًا؛ لِسُوءِ خُلُقِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا، لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مُخَالَعَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْضُلْهَا لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ إثْمُ الظُّلْمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 [فَصْلٌ أَتَتْ بِفَاحِشَةِ فَعَضَلِهَا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ فَفَعَلَتْ] (5753) فَصْلٌ: فَإِنْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ، فَعَضَلَهَا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، صَحَّ الْخُلْعُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّهْيِ إبَاحَةٌ، وَلِأَنَّهَا مَتَى زَنَتْ، لَمْ يَأْمَنْ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِهِ، وَتُفْسِدَ فِرَاشَهُ، فَلَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ، فَتَدْخُلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخِرُ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ تَزْنِ. وَالنَّصُّ أَوْلَى. [فَصْل خَالِعَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَارَأَهَا بِعِوَضِ] (5754) فَصْلٌ: إذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ، أَوْ بَارَأَهَا بِعِوَضٍ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْحُقُوقِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ كُلَّهُ، رَدَّتْ نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُفَوِّضَةً، فَلَهَا الْمُتْعَةُ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ بَرَاءَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ. وَأَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَنْهُ فِيهَا رِوَايَتَانِ، وَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بَعْدُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ حَقٌّ لَا يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ، إذَا كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَسْقُطُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، وَالْمُبَارَأَةُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَلِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ الَّذِي يَصِيرُ لَهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ قَبْلَ الْخُلْعِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمُبَارَأَةِ، كَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ، وَالنِّصْفُ لَهَا لَا يَبْرَأُ مِنْهُ بِقَوْلِهَا: بَارَأْتُكَ. لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بَرَاءَتَهَا مِنْ حُقُوقِهِ، لَا بَرَاءَتَهُ مِنْ حُقُوقِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْخُلْع فَسْخٌ] (5755) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخُلْعُ فَسْخٌ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ) . اخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْخُلْعِ؛ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ فَسْخٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَبِيصَةَ، وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ، وَقَالَ: لَيْسَ لَنَا فِي الْبَابِ شَيْءٌ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسْخٌ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثُمَّ قَالَ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَذَكَرَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَالْخُلْعَ وَتَطْلِيقَةً بَعْدَهَا، فَلَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ خَلَتْ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ، فَكَانَتْ فَسْخًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ لِلْفُرْقَةِ، وَالْفُرْقَةُ الَّتِي يَمْلِكُ الزَّوْجُ إيقَاعَهَا هِيَ الطَّلَاقُ دُونَ الْفَسْخِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ، قَاصِدًا فِرَاقَهَا، فَكَانَ طَلَاقًا، كَغَيْرِ الْخُلْعِ. وَفَائِدَةُ الرِّوَايَتَيْنِ، أَنَّا إذَا قُلْنَا: هُوَ طَلْقَةٌ. فَخَالَعَهَا مَرَّةً، حُسِبَتْ طَلْقَةً. فَنَقَصَ، بِهَا عَدَدُ طَلَاقِهَا. وَإِنْ خَالَعَهَا ثَلَاثًا طَلُقَتْ ثَلَاثًا، فَلَا تَحُلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ. لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَعَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا خَالَعَهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَنْوِهِ. فَأَمَّا إنْ بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى فِرَاقِهَا، فَهُوَ طَلَاقٌ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ وَقَعَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، مِثْلُ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، أَوْ لَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ، وَنَحْوِهِمَا، وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَهُوَ طَلَاقٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ نَوَى الطَّلَاقَ، فَكَانَتْ طَلَاقًا، كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الرِّوَايَتَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَلْفَاظُ الْخُلْع] (5756) فَصْلٌ: وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ تَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ؛ فَالصَّرِيحُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ؛ خَالَعْتُكَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعُرْفُ. وَالْمُفَادَاةُ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَفَسَخْت نِكَاحَك؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِذَا أَتَى بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَا عَدَا هَذِهِ مِثْلُ: بَارَأْتُك، وَأَبْرَأْتُك، وَأَبَنْتُك. فَهُوَ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْفُرْقَةِ، فَكَانَ لَهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، كَالطَّلَاقِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ لَهُ فِي لَفْظِ الْفَسْخِ وَجْهَيْنِ، فَإِذَا طَلَبَتْ الْخُلْعَ، وَبَذَلَتْ الْعِوَضَ فَأَجَابَهَا بِصَرِيحِ الْخُلْعِ أَوْ كِنَايَتِهِ، صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ مِنْ سُؤَالِ الْخُلْعِ وَبَذْلِ الْعِوَضِ، صَارِفَةٌ إلَيْهِ، فَأَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةَ حَالٍ، فَأَتَى بِصَرِيحِ الْخُلْعِ، وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ. وَلَا يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ إلَّا بِنِيَّةِ مِمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهُمَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَعَ صَرِيحِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْخُلْع بِمُجَرَّدِ بَذْلِ الْمَالِ] (5757) فَصْلٌ: وَلَا يَحْصُلُ الْخُلْعُ بِمُجَرَّدِ بَذْلِ الْمَالِ وَقَبُولِهِ، مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الزَّوْجِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ شُيُوخُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ، إلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِقَبُولِ الزَّوْجِ لِلْعِوَضِ. وَأَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ شِهَابٍ بِعُكْبُرَا وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ هُرْمُزَ، وَاسْتَفْتَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ بِبَغْدَادَ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الْمُخْلَعَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، مُسْتَبْرِئَةٌ، وَمُفْتَدِيَةٌ، فَالْمُفْتَدِيَةُ هِيَ الَّتِي تَقُولُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 لَا أَنَا وَلَا أَنْتَ، وَلَا أَبَرُّ لَك قَسَمًا، وَأَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي مِنْك. فَإِذَا قَبِلَ الْفِدْيَةَ، وَأَخَذَ الْمَالَ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ رَوَى، قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدْ كَيْفَ الْخُلْعُ؟ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمَالَ، فَهِيَ فُرْقَةٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَخْذُ الْمَالِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ قَبِلَ مَالًا عَلَى فِرَاقٍ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهَا. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَجَمِيلَةَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: خُذْ مَا أَعْطَيْتَهَا، وَلَا تَزْدَدْ» وَلَمْ يَسْتَدْعِ مِنْهُ لَفْظًا. وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تُغْنِي عَنْ اللَّفْظِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى قَصَّارٍ أَوْ خَيَّاطٍ مَعْرُوفَيْنِ بِذَلِكَ، فَعَمِلَاهُ، اسْتَحَقَّا الْأُجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا عِوَضًا. وَلَنَا أَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْخُلْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ، كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِعِوَضٍ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْبُضْعِ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ قَبْضٌ لِعِوَضٍ، فَلَمْ يَقُمْ بِمُجَرَّدِهِ مَقَامَ الْإِيجَابِ، كَقَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ إنْ كَانَ طَلَاقًا، فَلَا يَقَعُ بِدُونِ صَرِيحَةٍ أَوْ كِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فَهُوَ أَحَدُ طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ، كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَمِيلَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: (اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ اللَّفْظِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا. وَمَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْفُرْقَةَ، فَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى الْفُرْقَةَ وَالطَّلَاقَ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: فَفَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَالَ (خُذْ مَا أَعْطَيْتَهَا) . فَجَعَلَ التَّفْرِيقَ قَبْلَ الْعِوَضِ، وَنَسَبَ التَّفْرِيقَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَاشِرُ التَّفْرِيقَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعِوَضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا مِنْ جَانِبِهَا لَفْظًا وَلَا دَلَالَةَ حَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ اتِّفَاقًا. [مَسْأَلَةٌ لَا يَقَعُ بِالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْخُلْع طَلَاقٌ] (5758) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَقَعُ بِالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْخُلْعِ طَلَاقٌ، وَلَوْ وَاجَهَهَا بِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ بِحَالٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ الصَّرِيحُ الْمُعَيَّنُ، دُونَ الْكِنَايَةِ وَالطَّلَاقِ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ. وَرَوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٍ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ، مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمَا. وَلِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ الْمُنْقَضِيَةِ عِدَّتُهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَهَا، فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ، كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الْمُرْسَلُ، وَلَا تَطْلُقُ بِالْكِنَايَةِ، فَلَا يَلْحَقُهَا الصَّرِيحُ الْمُعَيَّنُ، كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوَاجِهَهَا بِهِ، فَيَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ لَا يُوَاجِهَهَا بِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ. وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا، وَلَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. [فَصْلٌ لَا يَثْبُتُ فِي الْخُلْع رَجْعَةٌ] (5759) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ فِي الْخُلْعِ رَجْعَةٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُمَا قَالَا: الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إمْسَاكِ الْعِوَضِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ إنْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةُ؛ مِنْ حُقُوقِ الطَّلَاقِ، فَلَا تَسْقُطُ بِالْعِوَضِ، كَالْوَلَاءِ مَعَ الْعِتْقِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَإِنَّمَا يَكُونُ فِدَاءً إذَا خَرَجَتْ بِهِ عَنْ قَبْضَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ، فَهِيَ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إزَالَةُ الضَّرَرِ عَنْ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ جَازَ ارْتِجَاعُهَا، لَعَادَ الضَّرَرُ، وَفَارَقَ الْوَلَاءَ؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ، وَالطَّلَاقُ يَنْفَكُّ عَنْ الرَّجْعَةِ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا أَكْمَلَ الْعَدَدَ. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي الْخُلْعِ أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ] (5760) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ فِي الْخُلْعِ أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَصِحُّ الْخُلْعُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَفْسُدُ بِكَوْنِ عِوَضِهِ فَاسِدًا، فَلَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ. فَإِذَا شَرَطَ الرَّجْعَةَ مَعَهُ، بَطَلَ الشَّرْطُ، كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الْخُلْعُ وَتَثْبُتَ الرَّجْعَةُ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِوَضِ وَالرَّجْعَةِ مُتَنَافِيَانِ، فَإِذَا شَرَطَاهُمَا سَقَطَا، وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الطَّلَاقِ فَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِالْأَصْلِ لَا بِالشَّرْطِ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، فَأَبْطَلَهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ. وَإِذَا حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَسْقُطُ الْمُسَمَّى فِي الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ عِوَضًا حَتَّى ضَمَّ إلَيْهِ الشَّرْطَ، فَإِذَا سَقَطَ الشَّرْطُ، وَجَبَ ضَمُّ النُّقْصَانِ الَّذِي نَقَصَهُ مِنْ أَجَلِهِ إلَيْهِ، فَيَصِيرُ مَجْهُولًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 فَيَسْقُطُ، وَيَجِبُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُمَا تَرَاضَيَا بِهِ عِوَضًا، فَلَمْ يَجِبْ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ خَلَا عَنْ شَرْطِ الرَّجْعَةِ. (5761) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرْطَ الْخِيَارَ لَهَا أَوْ لَهُ، يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَقَبِلَتْ الْمَرْأَةُ، صَحَّ الْخُلْعُ، وَبَطَلَ الْخِيَارُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ: إذَا جَعَلَ الْخِيَارَ. لِلْمَرْأَةِ، ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. وَلَنَا، أَنَّ سَبَبَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وُجِدَ، وَهُوَ اللَّفْظُ بِهِ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ أَطْلَقَ، وَمَتَى وَقَعَ، فَلَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِهِ. [فَصْلٌ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ اجْعَلْ أَمْرِي بِيَدِي وَأُعْطِيك عَبْدِي هَذَا] (5762) فَصْلٌ: نَقَلَ مُهَنَّا، فِي رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اجْعَلْ أَمْرِي بِيَدِي، وَأُعْطِيك عَبْدِي هَذَا. فَقَبَضَ الْعَبْدَ، وَجَعَلَ أَمَرَهَا بِيَدِهَا، وَبَاعَ الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ شَيْئًا هُوَ لَهُ، إنَّمَا قَالَتْ: اجْعَلْ أَمْرِي بِيَدِي وَأُعْطِيك. فَقِيلَ لَهُ: مَتَى شَاءَتْ تَخْتَارُ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا لَمْ يَطَأْهَا، أَوْ يَنْقُضْ. فَجَعَلَ لَهُ الرُّجُوعَ مَا لَمْ تَطْلُقْ. وَإِذَا رَجَعَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرْجَعَ مَا جَعَلَ لَهَا، فَتَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَعْطَتْهُ. وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَمْرُك بِيَدِك. مَلَكَ إبْطَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا، فَمَعَ التَّعْلِيقِ أَوْلَى، كَالْوَكَالَةِ. قَالَ أَحْمَدُ وَلَوْ جَعَلَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُخَيِّرَهَا، فَاخْتَارَتْ الزَّوْجَ، لَا يَرُدُّ عَلَيْهَا شَيْئًا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَلْفَ فِي مُقَابَلَةِ تَمْلِيكِهِ إيَّاهَا الْخِيَارَ، وَقَدْ فَعَلَ، فَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، وَلَيْسَتْ الْأَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ الْفُرْقَةِ. [فَصْلٌ قَالَتْ امْرَأَتُهُ طَلَّقَنِي بِدِينَارِ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ ارْتَدَّتْ] (5763) فَصْلٌ: إذَا قَالَتْ امْرَأَتُهُ: طَلِّقْنِي بِدِينَارٍ. فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ ارْتَدَّتْ، لَزِمَهَا الدِّينَارُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَلَا تُؤَثِّرُ الرِّدَّةُ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا وَقَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، بَانَتْ بِالرِّدَّةِ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَهَا بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقُلْنَا: إنَّ الرِّدَّةَ يَنْفَسِخُ بِهَا النِّكَاحُ فِي الْحَالِ. فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. كَانَ الطَّلَاقُ مُرَاعَى. فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى رِدَّتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، تَبَيَّنَّا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ حِينَ طَلَّقَهَا، فَلَمْ يَقَعْ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ، بَانَ أَنَّ الطَّلَاقَ صَادَفَ زَوْجَتَهُ، فَوَقَعَ، وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْعِوَضَ. [مَسْأَلَةٌ الْخُلْع بِالْمَجْهُولِ] (5764) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا قَالَتْ لَهُ اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ. فَفَعَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ، لَزِمَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخُلْعَ بِالْمَجْهُولِ جَائِزٌ، وَلَهُ مَا جُعِلَ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةً، فَلَا يَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ، كَالْبَيْعِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَصِحُّ الْخُلْعُ، وَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِالْبُضْعِ، فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَالنِّكَاحِ. وَلَنَا، أَنَّ الطَّلَاقَ مَعْنَى يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ الْعِوَضُ الْمَجْهُولُ كَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنْ الْبُضْعِ، لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، وَالْإِسْقَاطُ تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ، وَلِذَلِكَ جَازَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ. وَإِذَا صَحَّ الْخُلْعُ، فَلَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْذُلْهُ، وَلَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُهُ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ مِلْكِهِ بِرِدَّتِهَا، أَوْ رَضَاعِهَا لِمَنْ يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَجِبْ لِلزَّوْجِ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا، وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ مُكْرَهَةً، لَوَجَبَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ، وَلَوْ طَاوَعَتْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ الْبُضْعُ عَلَى الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ خَاصَّةً، وَأَبَاحَ لَهَا افْتِدَاءَ نَفْسِهَا لِحَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ مَا رَضِيَتْ بِبَذْلِهِ، فَأَمَّا إيجَابُ شَيْءٍ لَمْ تَرْضَ بِهِ فَلَا وَجْهَ لَهُ. فَعَلَى هَذَا، إنْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمَ، صَحَّ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا دَرَاهِمُ فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَهُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً، لَفْظُهَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، فَاسْتَحَقَّهُ كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِدَرَاهِمَ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَهُوَ فِي يَدِهَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِيهَا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي يَدِهَا. [فَصْلٌ الْخُلْع عَلَى مَجْهُولٍ] (5765) فَصْلٌ: وَالْخُلْعُ عَلَى مَجْهُولٍ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا؛: أَحَدُهَا، أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَدَدٍ مَجْهُولٍ مِنْ شَيْءٍ غَيْرِ مُخْتَلِفٍ، كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، كَاَلَّتِي يُخَالِعُهَا عَلَى مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ، فَهِيَ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ حُكْمَهَا. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ مُخْتَلِفٍ لَا يَعْظُمُ اخْتِلَافُهُ، مِثْلُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ أَوْ عَبِيدٍ، أَوْ يَقُولَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِأَيِّ عَبْدٍ أَعْطَتْهُ إيَّاهُ، وَيَمْلِكُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ. وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَبِيدٍ فَلَهُ ثَلَاثَةٌ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ وَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِيمَا إذَا قَالَ: إذَا أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ عَبْدًا: فَهِيَ طَالِقٌ. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا قُلْنَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ عَلَيْهَا عَبْدٌ وَسَطٌ. وَتَأَوَّلَ كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهَا أَعْطَتْهُ عَبْدًا وَسَطًا، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا خَالَعَتْهُ عَلَى مُسَمًّى مَجْهُولٍ، فَكَانَ لَهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَالَ: إنَّ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ عَبْدًا، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ رَأَيْت عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَا يَلْزَمُهَا أَكْثَرُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَلْتَزِمْ لَهُ شَيْئًا فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ خُلْعٍ. الثَّالِثُ، أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مُسَمًّى تَعْظُمُ الْجَهَالَةُ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ بَعِيرٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ يَقُولَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي ذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَالْوَاجِبُ فِي الْخُلْعِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إذَا أَعْطَتْهُ إيَّاهُ، فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى عَطِيَّتِهِ إيَّاهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فِي قِيَاسِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: تَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَتْ مِنْ صَدَاقِهَا؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ الْبُضْعَ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ؛ لِجَهَالَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهَا قِيمَةُ مَا فَوَّتَتْ، وَهُوَ الْمَهْرُ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّهَا مَا الْتَزَمَتْ لَهُ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى وَلَا مَهْرَ الْمِثْلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَمَّى قَدْ اُسْتُوْفِيَ بَدَلُهُ بِالْوَطْءِ، فَكَيْفَ يَجِبُ بِغَيْرِ رِضًى مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ كَالْوَصِيَّةِ بِهِ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ، لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي بَيْتِهَا مِنْ الْمَتَاعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ، فَهُوَ لَهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَتَاعٌ، فَلَهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَتَاعِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، عَلَيْهَا الْمُسَمَّى فِي الصَّدَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَالْوَجْهُ لِلْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعُ، أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى حَمْلِ أَمَتِهَا، أَوْ غَنَمِهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْحَيَوَانِ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَا فِي بُطُونِهَا أَوْ ضُرُوعِهَا، فَيَصِحُّ الْخُلْعُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَا يَصِحُّ عَلَى حَمْلِهَا. وَلَنَا أَنَّ حَمْلَهَا هُوَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَصَحَّ الْخُلْعُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنَّ خَرَجَ الْوَلَدُ سَلِيمًا، أَوْ كَانَ فِي ضُرُوعِهَا شَيْءٌ مِنْ اللَّبَنِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا شَيْءَ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ الْمُسَمَّى. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى مَا يُثْمِرُ نَخْلُهَا، أَوْ تَحْمِلُ أَمَتُهَا، صَحَّ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى ثَمَرَةِ نَخْلِهَا سِنِينَ، فَجَائِزٌ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ نَخْلُهَا، تُرْضِيهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 بِشَيْءِ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ حَمَلَ نَخْلُهَا؟ قَالَ: هَذَا أَجُودُ مِنْ ذَاكَ. قِيلَ لَهُ: يَسْتَقِيمُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ جَائِزٌ. فَيَحْتَمِلُ قَوْلُ أَحْمَدَ: تُرْضِيهِ بِشَيْءِ. أَيْ: لَهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الثَّمَرَةِ أَوْ الْحَمْلُ، فَتُعْطِيهِ عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا، أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مِثْلُ مَا أَلْزَمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةٍ الْمَتَاعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا شَيْءَ لَهُ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ أَحْمَدَ تُرْضِيهِ بِشَيْءٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَانَ وَاجِبًا، لَتَقَدَّرَ بِتَقْدِيرٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَمَسْأَلَةُ الدَّرَاهِم وَالْمَتَاعِ، حَيْثُ يَرْجِعُ فِيهِمَا بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا، وَهَا هُنَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ إذَا لَمْ يَجِدْ حَمْلًا وَلَا ثَمَرَةً ثُمَّ أَوْهَمَتْهُ أَنَّ مَعَهَا دَرَاهِمَ، وَفِي بَيْتِهَا مَتَاعٌ؛ لِأَنَّهَا خَاطَبَتْهُ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْوُجُودَ مَعَ إمْكَانِ عِلْمِهَا بِهِ، فَكَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا، كَمَا لَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَبْدٍ فَوُجِدَ حُرًّا، وَفِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ دَخَلَ مَعَهَا فِي الْعَقْدِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْعِلْمِ فِي الْحَالِ، وَرِضَاهُمَا بِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ غَيْرَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: خَالَعْتك عَلَى هَذَا الْحُرِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ الْعِوَضُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ. وَلَنَا، أَنَّ مَا جَازَ فِي الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، جَازَ فِيمَا كَانَ يَحْمِلُ، كَالْوَصِيَّةِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمُسَمَّى فِي الصَّدَاقِ. وَأَوْجَبَ لَهُ الشَّافِعِيُّ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَلَمْ يُصَحِّحْ أَبُو بَكْرٍ الْخُلْعَ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نُصُوصَ أَحْمَدَ عَلَى جَوَازِهِ، وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ خَالَعَتْهُ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ سَنَتَيْنِ] (5766) فَصْلٌ: إذَا خَالَعَتْهُ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ سَنَتَيْنِ، صَحَّ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَا وَقْتًا مَعْلُومًا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْخُلْعِ، فَفِي الْخُلْعِ أَوْلَى فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَذْكُرَا مُدَّتَهُ، صَحَّ أَيْضًا، وَيَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْحَوْلَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قِيلَ لَهُ: وَيَسْتَقِيمُ هَذَا الشَّرْطُ رَضَاعُ وَلَدِهَا وَلَا يَقُولُ: تُرْضِعُهُ سَنَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَا مُدَّةَ الرَّضَاعِ، كَمَا لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَتَّى يَذْكُرَا الْمُدَّةَ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَهُ بِالْحَوْلَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وَقَالَ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَلَمْ يُبَيِّنْ مُدَّةَ الْحَمْلِ هَاهُنَا وَالْفِصَالِ، فَحُمِلَ عَلَى مَا فَسَّرَتْهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَجُعِلَ الْفِصَالُ عَامَيْنِ، وَالْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» يَعْنِي بَعْدَ الْعَامَيْنِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى وَصْفِ الرَّضَاعِ، لِأَنَّ جِنْسَهُ كَافٍ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ جِنْسَ الْخِيَاطَةِ فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنْ مَاتَتْ الْمُرْضِعَةُ، أَوْ جَفَّ لَبَنُهَا، فَعَلَيْهَا أَجْرُ الْمِثْلِ لِمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ. وَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ فَكَذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَنْفَسِخُ، وَيَأْتِيهَا بِصَبِيٍّ تُرْضِعُهُ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُسْتَوْفَى بِهِ، لَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَمَاتَ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى فِعْلٍ فِي عَيْنٍ، فَيَنْفَسِخُ بِتَلَفِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَتْ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، وَلِأَنَّ مَا يَسْتَوْفِيه مِنْ اللَّبَنِ إنَّمَا يَتَقَدَّرُ بِحَاجَةِ الصَّبِيِّ، وَحَاجَاتُ الصِّبْيَانِ تَخْتَلِفُ وَلَا تَنْضَبِطُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ أَرَادَ إبْدَالَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَالْمُرْضِعَةِ، بِخِلَافِ رَاكِبِ الدَّابَّةِ. وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ، فَعَلَيْهَا أَجْرُ رَضَاعِ مِثْلِهِ. وَعَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا، وَعَنْهُ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا، وَعَنْهُ: يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهَا، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قَفِيزٍ، فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ. [فَصْلٌ خَالَعَهَا عَلَى كَفَالَةِ وَلَدِهِ عَشْرَ سِنِينَ] فَصْلٌ: وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى كَفَالَةِ وَلَدِهِ عَشْرَ سِنِينَ، صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مُدَّةَ الرَّضَاعِ مِنْهَا، وَلَا قَدْرَ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ، وَيُرْجَعُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى نَفَقَةِ مِثْلِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ مُدَّةَ الرَّضَاعِ، وَقَدْرَ الطَّعَامِ وَجِنْسَهُ، وَقَدْرَ الْإِدَامِ وَجِنْسَهُ، وَيَكُونَ الْمَبْلَغُ مَعْلُومًا مَضْبُوطًا بِالصِّفَةِ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَمَا يَحِلُّ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّعَامِ لِلْأَجِيرِ مُطْلَقًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ وَدَلَلْنَا عَلَيْهِ بِقِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي مُوسَى، آجَرَ نَفْسَهُ بِطَعَامِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجِهِ» وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُسْتَحَقَّةٌ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، كَذَا هَاهُنَا. وَلِلْوَالِدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُؤْنَةِ الصَّبِيِّ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ ثَبَتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهَا، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْفَقَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ، وَأُنْفِقَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهَا فِي إنْفَاقِهِ عَلَى الصَّبِيِّ، جَازَ فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَلِأَبِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُؤْنَةِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّهُ دَفْعَةً أَوْ يَوْمًا بِيَوْمٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 أَحَدُهُمَا يَسْتَحِقُّهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي " الْجَامِعِ "، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أَحْمَدَ: إذَا خَالَعَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلَيْنِ. قَالَ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِبَقِيَّةِ ذَلِكَ. وَلَمْ يُعْتَبَرْ الْأَجَلُ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا فُرِّقَ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَيْهِ مُتَفَرِّقًا، فَإِذَا زَالَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ اُسْتُحِقَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَالثَّانِي لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا يَوْمًا بِيَوْمٍ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مُنَجَّمًا، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ مُعَجَّلًا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي خُبْزٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْطَالًا مَعْلُومَةً، فَمَاتَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمُسْتَوْفِي، كَمَا لَوْ مَاتَ وَكِيلُ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ خَرَجَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فِي الْحَالِ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَحِلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ [فَصْلٌ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ] (5768) فَصْلٌ: وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ، كَالْعِوَضِ فِي الصَّدَاقِ وَالْبَيْعِ، إنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَّا بِقَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا، دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ، وَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: اجْعَلْ أَمْرِي بِيَدِي، وَلَك هَذَا الْعَبْدُ. فَفَعَلَ، ثُمَّ خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَمَا مَاتَ الْعَبْدُ: جَائِزٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ. قَالَ: وَلَوْ أَعْتَقَتْ الْعَبْدَ، ثُمَّ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهَا لَهُ. فَلَمْ يُصَحِّحْ عِتْقَهَا لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا زَالَ عَنْهُ بِجَعْلِهَا لَهُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ، وَلَمْ يُضَمِّنْهَا إيَّاهُ إذَا تَلِفَ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ فَدَخَلَ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. وَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي عِوَضِ الْبَيْعِ، وَفِي الصَّدَاقِ. وَأَمَّا الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ، فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ. فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَالْوَاجِبُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الصَّدَاقِ، أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ سَبَبُهُ بِتَلَفِهِ، فَهَا هُنَا مِثْلُهُ. [مَسْأَلَةٌ خَالِعهَا عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ، كَانَ خُلْعًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي: رَجُلٌ عَلِقَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ تَقُولُ: اخْلَعْنِي. قَالَ: قَدْ خَلَعْتُك. قَالَ يَتَزَوَّجُ بِهَا، وَيُجَدِّدُ نِكَاحًا جَدِيدًا، وَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثِنْتَيْنِ. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِلنِّكَاحِ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخُلْعِ أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 تُوجَدَ مِنْ الْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ عَنْ زَوْجِهَا، وَحَاجَةٌ إلَى فِرَاقِهِ، فَتَسْأَلَهُ فِرَاقَهَا، فَإِذَا أَجَابَهَا، حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْخُلْعِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ بِعِوَضٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْخُلْعَ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ، فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ طَلَاقٌ تُمْلَكُ بِهِ الرَّجْعَةُ، وَلَا يَكُونُ فَسْخًا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَكُونُ خُلْعٌ إلَّا بِعِوَضٍ. رَوَى عَنْهُ مُهَنَّا، إذَا قَالَ لَهَا: اخْلَعِي نَفْسَك. فَقَالَتْ: خَلَعْت نَفْسِي. لَمْ يَكُنْ خُلْعًا إلَّا عَلَى شَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الطَّلَاقَ، فَيَكُونُ مَا نَوَى. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ إلَّا بِعِوَضٍ، فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ إنْ كَانَ فَسْخًا، فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ فَسْخَ النِّكَاحِ إلَّا لِعَيْبِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَسَخْت النِّكَاحَ. وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَهُ الْعِوَضُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُعَاوَضَةً، فَلَا يَجْتَمِعُ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْخُلْعُ طَلَاقٌ فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَةُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِنِيَّةٍ، أَوْ بَذْلِ الْعِوَضِ، فَيَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ، وَمَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. ثُمَّ إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِعِوَضٍ، لَمْ يَقْتَضِ الْبَيْنُونَةَ إلَّا أَنْ تَكْمُلَ الثَّلَاثُ. [فَصْلٌ قَالَتْ بِعْنِي عَبْدَك هَذَا وَطَلِّقْنِي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ] (5770) فَصْلٌ: إذَا قَالَتْ: بِعْنِي عَبْدَك هَذَا وَطَلِّقْنِي بِأَلْفٍ. فَفَعَلَ، صَحَّ، وَكَانَ بَيْعًا وَخُلْعًا بِعِوَضٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ، يَصِحُّ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِوَضٍ، فَصَحَّ جَمْعُهُمَا، كَبَيْعِ ثَوْبَيْنِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعٍ وَصَرْفٍ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُوَ نَظِيرٌ لِهَذَا. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدَيْنِ تَخْتَلِفُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَيْضًا. فَعَلَى قَوْلِنَا يَتَقَسَّطُ الْأَلْفُ عَلَى الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى وَقِيمَةِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ عِوَضُ الْخُلْعِ مَا يَخُصُّ الْمُسَمَّى، وَعِوَضُ الْعَبْدِ مَا يَخُصُّ قِيمَتَهُ، حَتَّى لَوْ رَدَّتْهُ بِعَيْبٍ رَجَعَتْ بِذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا، رَجَعَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُهُ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ شِقْصٌ مَشْفُوعٌ، فَفِيهِ الشُّفْعَةُ، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِحِصَّةِ قِيمَتِهِ مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا عِوَضُهُ. [فَصْل خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ دَارٍ] (5771) فَصْلٌ: وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ دَارٍ، صَحَّ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَيَتَخَرَّجُ أَنَّ فِيهِ شُفْعَةً، لِأَنَّ لَهُ عِوَضًا. وَهَلْ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمِثْلِ الْمَهْرِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا إنْ خَالَعَهَا، وَدَفَعَ إلَيْهَا أَلْفًا بِنِصْفِ دَارِهَا، صَحَّ، وَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيمَا قَابَلَ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالٍ وَلَنَا، أَنَّ إيجَابَ الشُّفْعَةِ تَقْوِيمٌ لِلْبُضْعِ فِي حَقِّ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْبُضْعُ لَا يَتَقَوَّمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 مَلَكَ الشِّقْصَ صَفْقَةً وَاحِدَةً مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَخْذُ بَعْضِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ. [مَسْأَلَةٌ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ فَخَرَجَ مَعِيبًا] (5772) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ، فَخَرَجَ مَعِيبًا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ الْعَيْبِ، أَوْ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَيَرُدَّهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخُلْعَ يَسْتَحِقُّ فِيهِ رَدَّ عِوَضِهِ بِالْعَيْبِ، أَوْ أَخْذَ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةٍ، فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ. وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: اخْلَعْنِي عَلَى هَذَا الثَّوْبِ. فَيَقُولَ: خَلَعْتُك. ثُمَّ يَجِدُ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِهِ وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ، طَلُقَتْ، وَمَلَكَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأَرْشِ مَعَ إمْكَانِ رَدِّهِ. وَهَذَا أَصْلٌ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَيْعِ. وَلَهُ أَيْضًا قَوْلٌ: إنَّهُ إذَا رَدَّهُ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَهَذَا الْأَصْلُ ذُكِرَ فِي الصَّدَاقِ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، وَاسْتَقْصَى صِفَاتِ السَّلَمِ، صَحَّ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُعْطِيَهُ إيَّاهُ سَلِيمًا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ. فَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَيْهِ مَعِيبًا، أَوْ نَاقِصًا عَنْ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ، أَوْ رَدِّهِ وَالْمُطَالَبَةِ بِثَوْبٍ سَلِيمٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ سَلِيمًا تَامَّ الصِّفَاتِ، فَيَرْجِعُ بِمَا وَجَبَ لَهُ، لِأَنَّهَا مَا أَعْطَتْهُ الَّذِي وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، طَلُقَتْ، وَمَلَكَهُ. وَإِنْ أَعْطَتْهُ نَاقِصًا صِفَةً، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا وُجِدَ الشَّرْطُ. فَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّفَةِ، لَكِنْ بِهِ عَيْبٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ، وَرَدِّهِ وَالرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ لَهُ قَوْلًا، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَعَلَى مَا قُلْنَا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: إذَا أَعْطَيْتَنِي ثَوْبًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ هَذَا الْعَبْدَ. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ مَعِيبًا، طَلُقَتْ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ سِوَاهُ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْأَلْفَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ. وَقَالَ أَيْضًا: إذَا قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِذَا أَعْطَتْهُ عَبْدًا، فَهِيَ طَالِقٌ، وَيَمْلِكُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ إلَّا بِإِلْزَامٍ، أَوْ الْتِزَامٍ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِلْزَامِهَا هَذَا، وَلَا هِيَ الْتَزَمَتْهُ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ عَطِيَّتُهَا لَهُ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ سِوَاهُ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ مَعَهُ فِي مُعَاوَضَةٍ، وَإِنَّمَا حَقَّقَتْ شَرْطَ الطَّلَاقِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْ أَوْ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْت أَبَاك عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ. [فَصْلٌ قَالَ إنَّ أَعْطَيْتنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرِ] (5773) فَصْلٌ إذَا قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ، طَلُقَتْ؛ لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ دُونَ ذَلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِعَدَمِهَا. وَإِنْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا وَازِنَةً، تَنْقُصُ فِي الْعَدَدِ، طَلُقَتْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا عَدَدًا، تَنْقُصُ فِي الْوَزْنِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الدِّرْهَمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَازِنِ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ مَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مَتَى كَانَتْ تَنْفُقُ بِرُءُوسِهَا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الدَّرَاهِمِ، وَيَحْصُلُ مِنْهَا مَقْصُودُهَا، وَلَا تَطْلُقُ إذَا أَعْطَتْهُ وَازِنَةً تَنْقُصُ فِي الْعَدَدِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا رَدِيئَةً، كَنُحَاسٍ فِيهَا أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نَحْوِهِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَلِفِ يَتَنَاوَلُ أَلْفًا مِنْ الْفِضَّةِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ أَلْفٌ مِنْ الْفِضَّةِ. وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْأَلِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ فِيهَا أَلْفٌ فِضَّةٌ. طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا فِضَّةً. وَإِنْ أَعْطَتْهُ سَبِيكَةً تَبْلُغُ أَلْفًا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى دَرَاهِمَ، فَلَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، بِخِلَافِ الْمَغْشُوشَةِ، فَإِنَّهَا تُسَمَّى دَرَاهِمَ. وَإِنْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا رَدِيءَ الْجِنْسِ لِخُشُونَةٍ، أَوْ سَوَادٍ، أَوْ كَانَتْ وَحْشَةَ السِّكَّةِ، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَهُ رَدُّهَا، وَأَخْذُ بَدَلِهَا. وَهَذَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْل قَالَ إنَّ أَعْطَيْتنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ هَرَوِيًّا] (5774) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنَّ أَعْطَيْتنِي ثَوْبًا مَرْوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ هَرَوِيًّا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا لَمْ تُوجَدْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ مَرَوِيًّا طَلُقَتْ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى مَرْوِيٍّ، فَأَعْطَتْهُ هَرَوِيًّا، فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ، وَيُطَالِبُهَا بِمَا خَالَعَهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ، فَبَانَ هَرَوِيًّا، فَالْخُلْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ اخْتِلَافُ صِفَةٍ، فَجَرَى مَجْرَى الْعَيْبِ فِي الْعِوَضِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ رَدِّهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ الصِّفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي جَوَازِ الرَّدِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَعِنْدِي لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا سِوَاهُ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى عَيْنِهِ، وَقَدْ أَخَذَهُ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ، عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ، فَبَانَ كَتَّانًا، لَزِمَ رَدُّهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إمْسَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ، وَاخْتِلَافُ الْأَجْنَاسِ كَاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَرْوِيٍّ فَخَرَجَ هَرَوِيًّا، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 (5775) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى عَطِيَّتِهَا إيَّاهُ، فَمَتَى أَعْطَتْهُ عَلَى صِفَةٍ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ وُجِدَتْ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَعْطَتْهُ فَلَمْ يَأْخُذْ. وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا، وَاَلَّذِي مِنْ جِهَتِهَا فِي الْعَطِيَّةِ الْبَذْلُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ، فَإِنْ هَرَبَ الزَّوْجُ أَوْ غَابَ قَبْلَ عَطِيَّتِهَا، أَوْ قَالَتْ: يَضْمَنُهُ لَك زَيْدٌ، أَوْ اجْعَلْهُ قِصَاصًا مِمَّا لِي عَلَيْك. أَوْ أَعْطَتْهُ بِهِ رَهْنًا، أَوْ أَحَالَتْهُ بِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا وُجِدَتْ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُونِ شَرْطِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ تَعَذَّرَتْ الْعَطِيَّةُ فِيهِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ كَانَ التَّعَذُّرُ مِنْ جِهَتِهِ، أَوْ مِنْ جِهَتِهَا، أَوْ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِمَا؛ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقَنِي بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ. وَبَانَتْ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ قَالَتْ: لَا أُعْطِيك شَيْئًا. يَأْخُذُهَا بِالْأَلْفِ. يَعْنِي وَيَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ عَلَى شَرْطٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. [فَصْل تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى شَرْطِ الْعَطِيَّةِ أَوْ الضَّمَانِ أَوْ التَّمْلِيكِ] (5776) فَصْلٌ: وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى شَرْطِ الْعَطِيَّةِ، أَوْ الضَّمَانِ، أَوْ التَّمْلِيكِ، لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لُزُومًا لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيهَا حُكْمُ التَّعْلِيقِ الْمَحْضِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّةِ تَعْلِيقِهِ عَلَى الشُّرُوطِ. وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَطِيَّةُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي، أَوْ مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي، أَوْ أَيَّ حِينٍ أَوْ أَيَّ زَمَانٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي. وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي، أَوْ إذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِنْ أَعْطَتْهُ جَوَابًا لِكَلَامِهِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ، وَجَبَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُعَاوَضَاتِ، بِخِلَافِ مَتَى وَأَيٍّ، فَإِنَّ فِيهِمَا تَصْرِيحًا بِالتَّرَاخِي، وَنَصًّا فِيهِ. وَإِنْ صَارَا مُعَاوَضَةً، فَإِنَّ تَعْلِيقَهُ بِالصِّفَةِ جَائِزٌ، أَمَّا إنْ وَإِذَا، فَإِنَّهُمَا يَحْتَمِلَانِ الْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِهِمَا الْعِوَضُ، حُمِلَا عَلَى الْفَوْرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطِ الْإِعْطَاءِ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَسَائِرِ التَّعْلِيقِ. أَوْ نَقُولُ: عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِحَرْفِ مُقْتَضَاهُ التَّرَاخِي، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِيَ، كَمَا لَوْ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرَاخِي، أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ إذَا خَلَا عَنْ الْعِوَضِ، وَمُقْتَضَيَاتُ الْأَلْفَاظِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْعِوَضِ وَعَدَمِهِ، وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَعْلِيقهَا عَلَى الشُّرُوطِ، وَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي فِيمَا إذَا عَلَّقَهَا بِمَتَى أَوْ بِأَيِّ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ، ثُمَّ يَبْطُلُ قِيَاسُهُمْ بِقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: إنْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ. فَإِنَّهُ كَمَسْأَلَتِنَا، وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ هَذَا اللَّفْظِ حُكْمُ الشَّرْطِ الْمُطْلَقِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ إنَّ شِئْت] (5777) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ إنْ شِئْت لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَشَاءَ، فَإِذَا شَاءَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَيَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ سَوَاءٌ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ. فَأَجَابَهَا، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لَهَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى شَرْطٍ، فَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَتُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا بِالْقَوْلِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ مَحِلُّهَا الْقَلْبَ، فَلَا يُعْرَفُ مَا فِي الْقَلْبِ إلَّا بِالنُّطْقِ، فَيُعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى شَاءَتْ طَلُقَتْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ، إلَّا فِي أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُ. وَلَوْ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك إنْ ضَمِنْت لِي أَلْفًا. فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَمْرَك بِيَدِك، عَلَى التَّرَاخِي، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت. أَنَّ لَهَا الْمَشِيئَةَ بَعْدَ مَجْلِسِهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ ضَمِنْت لِي أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي. وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ إنْ شِئْت. كَانَ عَلَى التَّرَاخِي. وَالطَّلَاقُ نَظِيرُ الْعِتْقِ. فَعَلَى هَذَا، مَتَى ضَمِنَتْ لَهُ أَلْفًا، كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا جَعَلَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَمْرَك بِيَدِك تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، كَمَا يَرْجِعُ فِي الْوَكَالَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك إنْ ضَمِنْت لِي أَلْفًا. فَمَتَى ضَمِنَتْ لَهُ أَلْفًا، وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، وَقَعَ، مَا لَمْ يَرْجِعْ. وَإِنْ ضَمِنَتْ الْأَلْفَ وَلَمْ تَطْلُقْ، أَوْ طَلُقَتْ وَلَمْ تَضْمَنْ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. [مَسْأَلَةٌ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَخَرَجَ حُرًّا] (5778) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ، فَخَرَجَ حُرًّا أَوْ اُسْتُحِقَّ، فَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى عِوَضٍ يَظُنُّهُ مَالًا، فَبَانَ غَيْرَ مَالٍ، مِثْلُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ تُعَيِّنُهُ فَيَبِينُ حُرًّا، أَوْ مَغْصُوبًا، أَوْ عَلَى خَلٍّ فَيَبِينُ خَمْرًا، فَإِنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ بِالْبُضْعِ، فَلَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعِوَضِ، كَالنِّكَاحِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ الْخَلِّ، فَبَانَ خَمْرًا، رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِهِ خَلًّا؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَات الْأَمْثَالِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ خَلٌّ، فَكَانَ لَهُ مِثْلُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ خَلًّا فَتَلِفَ قَبْل قَبْضِهِ، وَقَدْ قِيلَ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ خَلًّا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِثْلُهُ لَوْ كَانَ خَلًّا، كَمَا تُوجَبُ قِيمَةُ الْحُرِّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ عَبْدًا، فَإِنَّ الْحُرَّ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا: يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْبُضْعِ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ بِخَمْرٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَإِذَا غُرَّ بِهِ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَخَذَتْ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا مَعَ سَلَامَتِهَا، وَبَقَاءِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَوَجَبَ بَدَلُهَا مُقَدَّرًا بِقِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا، كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَعَارِ. وَإِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ، فَخَرَجَ مَغْصُوبًا، أَوْ أُمِّ وَلَدٍ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُسَلِّمُهُ، يُوَافِقُنَا فِيهِ. [فَصْلٌ خَالَعَهَا عَلَى مُحَرَّمٍ يَعْلَمَانِ تَحْرِيمَهُ] (5779) فَصْلٌ: وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى مُحَرَّمٍ يَعْلَمَانِ تَحْرِيمَهُ، كَالْحُرِّ، وَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، فَهُوَ كَالْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ سَوَاءٌ، لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِالْبُضْعِ، فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَالنِّكَاحِ. وَلَنَا، أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَا، فَإِذَا رَضِيَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، فَفَعَلَتْهُ، وَفَارَقَ النِّكَاحَ؛ فَإِنَّ دُخُولَ الْبُضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَبَانَ حُرًّا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مُتَقَوِّمٍ، فَيَرْجِعُ بِحُكْمِ الْغُرُورِ، وَهَا هُنَا رَضِيَ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ عِوَضٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَكِنَايَاتِ الْخُلْعِ، وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، انْبَنَى عَلَى أَصْلٍ. وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ. صَحَّ هَاهُنَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ. لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْئًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، طَلُقَتْ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، كَقَوْلِهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْل قَالَ إنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْت طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا نِصْفُهُ] (5780) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْت طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا نِصْفُهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَالْقِنِّ فِي التَّمْلِيكِ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ حُرًّا، أَوْ مَغْصُوبًا، أَوْ مَرْهُونًا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ، وَمَا لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ لَا تَكُونُ مُعْطِيَةً لَهُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 أَوْ مَغْصُوبٌ، لَمْ تَطْلُقْ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ قَالَ: وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّهُ إذَا عَيَّنَهُ فَقَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهَا فِيهِ، فَإِذَا أَعْطَتْهُ إيَّاهُ، وُجِدَتْ الصِّفَةُ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَجْهَانِ كَذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، هَلْ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَطِيَّةَ إنَّمَا مَعْنَاهَا الْمُتَبَادِرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْهَا عِنْدَ إطْلَاقِهَا التَّمْكِينُ مِنْ تَمَلُّكِهِ، بِدَلِيلِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ؛ وَلِأَنَّ الْعَطِيَّةَ هَا هُنَا التَّمْلِيكُ، بِدَلِيلِ حُصُولِ الْمِلْكِ بِهَا فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا لَهَا، وَانْتِفَاءِ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. [مَسْأَلَةٌ قَالَتْ لَهُ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلْقِهَا وَاحِدَةً] (5781) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَإِذَا قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَلَزِمَهَا التَّطْلِيقَةُ) أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهَا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ وَأَمَّا الْأَلْفُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا اسْتَدْعَتْ مِنْهُ فِعْلًا بِعِوَضٍ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضَهُ اسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ مِنْ الْعِوَضِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبِيدِي فَلَهُ أَلْفٌ. فَرَدَّ ثُلُثَهُمْ، اسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْأَلْفِ، وَكَذَلِكَ فِي بِنَاءِ الْحَائِطِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ. وَلَنَا، أَنَّهَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ لَمْ يُجِبْهَا إلَيْهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْمُسَابَقَةِ: مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ فَلَهُ أَلْفٌ. فَسَبَقَ إلَى بَعْضِهَا. أَوْ قَالَتْ: بِعْنِي عَبْدَيْك بِأَلْفٍ. فَقَالَ: بِعْتُك أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ. وَكَمَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَاءَ لِلْعِوَضِ دُونَ الشَّرْطِ، وَعَلَى لِلشَّرْطِ، فَكَأَنَّهَا شَرَطَتْ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأَلْفَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَلَى لِلشَّرْطِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي حُرُوفِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْبَاءِ وَاحِدٌ، وَقَدْ سُوِّيَ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ. وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمُطَلَّقَةِ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ. (5782) فَصْلٌ: فَإِنْ: قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا وَلَك أَلْفٌ. فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، إنْ طَلَّقَهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيهَا كَمَذْهَبِهِمْ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ. وَلَنَا أَنَّهَا اسْتَدْعَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَتْ: رُدَّ عَبْدِي وَلَك أَلْفٌ. فَرَدَّهُ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ. غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَك أَلْفٌ عِوَضًا عَنْ طَلَاقِي. فَإِنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَيْنَا. فَطَلَّقَهَا وَحْدَهَا، طَلُقَتْ، وَعَلَيْهَا قِسْطُهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدَيْنِ، وَخُلْعَهُ لِلْمَرْأَتَيْنِ بِعِوَضٍ عَلَيْهِمَا خُلْعَانِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا مُوجِبًا لِلْعِوَضِ دُونَ الْآخِرِ. وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِنْهَا وَحْدَهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، كَانَ عَقْدًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقْدَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا] (5783) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، بَانَتْ بِثَلَاثٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ، عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثُلُثَ مَا طَلَبَتْ مِنْهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ، كَمَا لَوْ كَانَ طَلَاقُهَا ثَلَاثًا. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا طَلْقَةٌ، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ، كَقَوْلِ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً، كَانَ مَعْنَى كَلَامِهَا كَمِّلْ لِي الثَّلَاثَ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ هَذِهِ الْوَاحِدَةَ كَمَّلَتْ الثَّلَاثَ، وَحَصَّلَتْ مَا يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ مِنْ الْبَيْنُونَةِ، وَتَحْرِيمِ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ بِهَا الْعِوَضُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. [فَصْلٌ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ فَقَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أُبِينُ بِهَا] (5784) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ، فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَبِينُ بِهَا، وَاثْنَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ آخَرَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثٍ، فَإِذَا لَمْ يُوقِعْ الثَّلَاثَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِوَضَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ ذَاتَ طَلْقَاتٍ ثَلَاثٍ، فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا. فَلَمْ يُطَلِّقْهَا إلَّا وَاحِدَةً، وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْكِحْهَا نِكَاحًا آخَرَ، أَنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ نِكَاحُهُ إيَّاهَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا آخَرَ وَطَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ، لَمْ تَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا إلَّا وَاحِدَةً، رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ كُلِّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الطَّلْقَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَلَفٌ فِي طَلَاقٍ، وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الطَّلَاقِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ، فَالْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَإِذَا بَطَلَ فِيهِمَا انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُفَرَّقُ. فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُفَرَّقُ. فَسَدَ الْعِوَضُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى فِي عَقْدِ النِّكَاحِ. [فَصْلٌ قَالَتْ طَلَّقَنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا] (5785) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاحِدَةِ، لَأَنْ تَحْرِيمَهَا لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِزَوْجٍ وَإِصَابَةٍ، وَقَدْ لَا تُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَا تَبْذُلُ الْعِوَضَ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيقَاعًا لِمَا اسْتَدْعَتْهُ، بَلْ هُوَ إيقَاعٌ مُبْتَدَأٌ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْقَعَ مَا اسْتَدْعَتْهُ وَزِيَادَةً؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ وَاثْنَتَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا. فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً، وَقَعَ، فَيَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِالْوَاحِدَةِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ تَبْذُلْ الْعِوَضَ فِيهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا شَيْئًا. فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ. وَقَعَتْ الْأُولَى بَائِنَةً، وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ، وَلَا الثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّهُمَا جَاءَا بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ بِأَلْفٍ. وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ. قِيلَ لَهُ أَيَّتُهُنَّ أَوْقَعَتْ بِالْأَلْفِ؟ فَإِنْ قَالَ: الْأُولَى. بَانَتْ بِهَا، وَلَمْ يَقَعْ مَا بَعْدَهَا. وَإِنْ قَالَ: الثَّانِيَةَ. بَانَتْ بِهَا، وَوَقَعَتْ بِهَا طَلْقَتَانِ، وَلَمْ تَقَعْ الثَّالِثَةُ. وَإِنْ قَالَ: الثَّالِثَةُ. وَقَعَ الْكُلُّ. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت أَنَّ الْأَلْفَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُلِّ. بَانَتْ بِالْأُولَى وَحْدَهَا. وَلَمْ يَقَعْ بِهَا مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى حَصَلَ فِي مُقَابَلَتِهَا عِوَضٌ، وَهُوَ قِسْطُهَا مِنْ الْأَلْفِ، فَبَانَتْ بِهَا، وَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ يُوقِعَهَا بِذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ. فَيَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِخَمْسِمِائَةٍ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا بَذَلْت الْعِوَضَ فِيهِ بِنِيَّةِ الْعِوَضِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بَعْضُهُ بِنِيَّتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: رُدَّ عَبْدِي بِأَلْفٍ فَرَدَّهُ يَنْوِي خَمْسَمِائَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ بِالْأُولَى، وَلَمْ يَقَعْ بِهَا مَا بَعْدَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، وَلَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ بِأَلْفٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 [فَصْلٌ قَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَنَّ لَك أَلْفًا أَوْ إنَّ طَلَّقْتنِي فَلَكَ عَلَى أَلْفٌ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ] (5786) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَك أَلْفًا، أَوْ إنَّ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ. فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَوَابٌ لِمَا اسْتَدْعَتْهُ مِنْهُ، وَالسُّؤَالُ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَتْ: بِعْنِي عَبْدَك بِأَلْفٍ. فَقَالَ: بِعْتُكَهُ. وَإِنْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ. فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنْ قُلْنَا: الْخُلْعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ. وَقَعَ، وَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَهَا إلَى مَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ. احْتَمَلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِوَضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَتَضَمَّنُ مَا طَلَبَتْهُ، وَهُوَ بَيْنُونَتُهَا، وَفِيهِ زِيَادَةُ نُقْصَانِ الْعَدَدِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. احْتَمَلَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا اسْتَدْعَتْ مِنْهُ فَسْخًا، فَلَمْ يُجِبْهَا إلَيْهِ، وَأَوْقَعَ طَلَاقًا مَا طَلَبَتْهُ، وَلَا بَذَلَتْ فِيهِ عِوَضًا. فَعَلَى هَذَا، يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ مُبْتَدِئًا بِهِ، غَيْرَ مَبْذُولٍ فِيهِ عِوَضٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَلَّقَهَا ابْتِدَاءً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ بِعِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْعِوَضُ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ. فَقَالَ: خَلَعْتُك. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ طَلَاقٌ. اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، وَقُلْنَا: لَيْسَ بِطَلَاقٍ. لَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضًا لِأَنَّهُ مَا أَجَابَهَا إلَى مَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِيهِ، وَلَا يَتَضَمَّنُهُ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ طَلَاقًا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ طَلَاقِهِ، فَلَمْ يُجِبْهَا إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَالَعَهَا مُعْتَقِدًا لِحُصُولِ الْعِوَضِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَالْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهِ. [فَصْلٌ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَشْرًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ] (5787) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي عَشْرًا بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا إلَى مَا سَأَلَتْ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا مَا بَذَلَتْ. وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. وَلَمْ يَبْقَ. مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْمَقْصُودِ. [فَصْلٌ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ فَقَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ] (5788) فَصْلٌ: وَلَوْ: لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ؛ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، الْأُولَى بِأَلْفٍ، وَالثَّانِيَةُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَعْت الْأُولَى، وَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ، وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ. وَإِنْ قَالَ: الْأُولَى بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَعَتْ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا عِوَضًا، وَكَمَلَتْ الثَّلَاثُ. وَإِنْ قَالَ: إحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ. لَزِمَهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ طَلْقَةً بِأَلْفٍ، فَأَجَابَهَا إلَيْهَا، وَزَادَهَا أُخْرَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 [فَصْلٌ قَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ أَوْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَى شَهْرٍ] (5789) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ. أَوْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَى شَهْرٍ، فَقَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. صَحَّ ذَلِكَ، وَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ بِعِوَضٍ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّهْرِ، طَلُقَتْ وَلَا شَيْءَ لَهُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ رَأْسِ الشَّهْرِ، فَقَدْ اخْتَارَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَخَذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَى شَهْرٍ، فَطَلَّقَهَا بِأَلْفٍ، بَانَتْ، وَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَلَفٌ فِي طَلَاقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ، فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عِوَضًا صَحِيحًا عَلَى طَلَاقِهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا اسْتَحَقَّهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: إلَى شَهْرٍ، وَلِأَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عِوَضًا صَحِيحًا عَلَى طَلَاقِهَا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْهُ، كَالْأَصْلِ. وَإِنْ قَالَتْ: لَك أَلْفٌ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي أَيَّ وَقْتٍ شِئْت، مِنْ الْآنَ إلَى شَهْرٍ. صَحَّ فِي قِيَاسِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الطَّلَاقِ مَجْهُولٌ فَإِذَا طَلَّقَهَا فَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَصِحَّ، لِفَسَادِهِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ، فَصَحَّ بَذْلُ الْعِوَضِ فِيهِ مَجْهُولَ الْوَقْتِ كَالْجَعَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. صَحَّ، وَزَمَنُهُ مَجْهُولٌ أَكْثَرُ مِنْ الْجَهَالَةِ هَا هُنَا، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ هَا هُنَا فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، وَثَمَّ فِي الْعُمْرِ كُلِّهِ. وَقَوْلُ الْقَاضِي: لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَفْسُدُ فِيهَا الْعِوَضُ، أَنَّ لَهُ الْمُسَمَّى. فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَا هُنَا إنْ حَكَمْنَا بِفَسَادِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ] (5790) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ. وَقَعَتْ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهَا، وَلَا شَرْطًا فِيهَا، وَإِنَّمَا عَطَفَ ذَلِكَ عَلَى طَلَاقِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك الْحَجُّ فَإِنْ أَعَطَتْهُ الْمَرْأَةُ عَنْ ذَلِكَ عِوَضًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْهُ شَيْءٌ، وَكَانَ ذَلِكَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، يُعْتَبَرُ فِيهِ شَرَائِطُ الْهِبَةِ. وَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: ضَمِنْت لَك أَلْفًا. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِ الضَّامِنِ لِحَقٍّ وَاجِبٍ، أَوْ مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ هَا هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصِحُّ، وَلَمْ أَعْرِفْ لِذَلِكَ وَجْهًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهَا إذَا قَالَتْ قَبْلَ طَلَاقِهَا: ضَمِنْت لَك أَلْفًا، عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي. فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفٌ. فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي طَلْقَةً بِأَلْفٍ. فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفٌ. وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهَا أَلْفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ، وَمَا وُصِلَ بِهِ تَأْكِيدٌ. فَإِنْ اخْتَلَفَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 فَقَالَ: أَنْتِ اسْتَدْعَيْت مِنِّي الطَّلَاقَ بِالْأَلْفِ. فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَإِذَا حَلَفَتْ بَرِئَتْ مِنْ الْعِوَضِ وَبَانَتْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي بَيْنُونَتِهَا لِأَنَّهَا حَقُّهُ، غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْعِوَضِ لِأَنَّهُ عَلَيْهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ قَالَ: مَا اسْتَدْعَيْت مِنِّي الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا أَنَا ابْتَدَأْت بِهِ، فَلِي عَلَيْك الرَّجْعَةُ. وَادَّعَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِاسْتِدْعَائِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ. وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْأَلْفِ. فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا كَقَوْلِهِ: أَنْت طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفٌ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةٍ مُهَنًّا، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتَ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقُلْ هِيَ شَيْئًا: فَهِيَ طَالِقٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثَانِيًا. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ": ذَلِكَ لِلشَّرْطِ، تَقْدِيرُهُ إنْ ضَمِنْت لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ ضَمِنَتْ لَهُ أَلْفًا، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْك. فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، الطَّلَاقُ يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي إنْ قَبِلَتْ ذَلِكَ لَزِمَهَا الْأَلْفُ، وَكَانَ خُلْعَا وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى بِمَعْنَى الشَّرْطِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: وَإِذَا أَنْكَحَهَا عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَلَهَا فِرَاقُهُ إنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ عَلَى تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وَقَالَ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] وَقَالَ مُوسَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] وَلَوْ قَالَ فِي النِّكَاحِ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي عَلَى صَدَاقِ كَذَا. صَحَّ، وَإِذَا أَوْقَعَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَقَعْ بِدُونِهِ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، أَوْ ضَمِنْت لِي أَلْفًا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا عِوَضًا لَمْ تَبْذُلْهُ، فَوَقَعَ رَجْعِيًّا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفٌ. وَلِأَنَّ عَلَى لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ، وَلَا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك ثَوْبِي عَلَى دِينَارٍ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَالَتْ قَبِلْت وَاحِدَةً مِنْهَا بِأَلْفٍ] (5791) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. فَقَالَتْ: قَبِلْت وَاحِدَةً مِنْهَا بِأَلْفٍ. وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ إلَيْهِ إنَّمَا عَلَّقَهُ بِعِوَضٍ يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ مِنْ جِهَتِهَا، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ. وَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 قَالَتْ: قَبِلْت بِأَلْفَيْنِ وَقَعَ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْأَلْفُ الزَّائِدَةُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ لِمَا أَوْجَبَهُ دُونَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ. وَإِنْ قَالَتْ: قَبِلْت بِخَمْسِمِائَةِ. لَمْ يَقَعْ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قَالَتْ: قَبِلْت وَاحِدَةً مِنْ الثَّلَاثِ بِثُلُثِ الْأَلِفِ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِانْقِطَاعِ رَجْعَتِهِ عَنْهَا إلَّا بِأَلْفٍ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ. وَقَعَتْ بِهَا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَوَقَعْت الْأُخْرَى عَلَى قَبُولِهَا؛ لِأَنَّهَا بِعِوَضٍ. [مَسْأَلَةٌ خَالَعَتْهُ الْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ] (5792) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا خَالَعَتْهُ الْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ كَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا، وَيَتْبَعُهَا إذَا عَتَقَتْ بِمِثْلِهِ، إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (5793) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخُلْعَ مَعَ الْأَمَةِ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَمَعَ الزَّوْجَةِ أَوْلَى، يَكُونُ طَلَاقُهَا عَلَى عِوَضٍ بَائِنًا، وَالْخُلْعُ مَعَهَا كَالْخُلْعِ مَعَ الْحُرَّةِ سَوَاءٌ. (5794) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا عَلَى شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا إذَا عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذِمَّتِهَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى عَيْنٍ، فَاَلَّذِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهَا مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْعَيْنَ، وَمَا فِي يَدِهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِسَيِّدِهَا، فَيَلْزَمُهَا بِذَلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَخَرَجَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَعَهَا عَلَى عَيْنٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَمَةٌ، فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْعَيْنَ، فَيَكُونُ رَاضِيًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْمَغْصُوبِ، أَوْ هَذَا الْحُرِّ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " قَالَ: هُوَ كَالْخُلْعِ عَلَى الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُهَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَقَوْلِهِ فِي الْخُلْعِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَغْصُوبِ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهَا ذَكَرَتْ لِزَوْجِهَا أَنَّ سَيِّدَهَا أَذِنَ لَهَا فِي هَذَا الْخُلْعِ بِهَذِهِ، الْعَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ صَادِقَةً، أَوْ جَهِلَ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْعَيْنَ، أَوْ يَكُونُ اخْتَارَهُ فِيمَا إذَا خَالَعَهَا عَلَى مَغْصُوبٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ، وَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا فِي حَالِ عِتْقِهَا؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي تَمْلِكُ فِيهِ، فَهِيَ كَالْمُعْسِرِ، يُرْجَعُ عَلَيْهِ فِي حَالِ يَسَارِهِ، وَيُرْجَعُ بِقِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، كَالْمَغْصُوبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 (5795) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: إذَا كَانَ الْخُلْعُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، تَعَلَّقَ الْعِوَضُ بِذِمَّتِهِ. هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي الِاسْتِدَانَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْأَمَةِ. وَإِنْ خَالَعَتْ عَلَى مُعَيَّنٍ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فِيهِ، مَلَكَهُ. وَإِنْ أَذِنَ فِي قَدْرِ الْمَالِ، فَخَالَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَالزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهَا. وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ، اقْتَضَى الْخُلْعُ بِالْمُسَمَّى لَهَا، فَإِنْ خَالَعَتْ بِهِ أَوْ بِمَا دُونَهُ، لَزِمَ السَّيِّدَ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ تَعَلَّقْت الزِّيَادَةُ بِذِمَّتِهَا، كَمَا لَوْ عَيَّنَ لَهَا قَدْرًا فَخَالَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ مَأْذُونًا لَهَا فِي التِّجَارَةِ، سَلَّمَتْ الْعِوَضَ مِمَّا فِي يَدِهَا. (5796) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَمَةِ الْقِنِّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيمَا فِي يَدِهَا بِتَبَرُّعٍ، وَمَا لَاحَظَ فِيهِ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الْمَالِ، بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ بِسُقُوطِ نَفَقَتِهَا، وَبَعْضِ مَهْرِهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. وَإِذَا كَانَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ إذْنَ السَّيِّدِ، فَالْعِوَضُ فِي ذِمَّتِهَا، يَتْبَعُهَا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، سَلَّمَهُ مِمَّا فِي يَدِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ، فَهُوَ عَلَى سَيِّدِهَا. [فَصْلٌ خَلَعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِفَلْسِ] (5797) فَصْلٌ: يَصِحُّ خُلْعُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِفَلَسٍ، وَبَذْلُهَا لِلْعِوَضِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ لَهَا ذِمَّةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهَا فِيهَا، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْعِوَضِ إذَا أَيْسَرَتْ وَفُكَّ الْحَجْرُ عَنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا فِي حَالِ حَجْرِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَدَانَتْ مِنْهُ، أَوْ بَاعَهَا شَيْئًا فِي ذِمَّتِهَا. (5798) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لَسَفَهٍ، أَوْ صِغَرٍ، أَوْ جُنُونٍ، فَلَا يَصِحُّ بَذْلُ الْعِوَضِ مِنْهَا فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، وَلَيْسَ هِيَ مِنْ أَهْلِهِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِذْنُ فِي التَّبَرُّعَاتِ، وَهَذَا كَالتَّبَرُّعِ. وَفَارَقَ الْأَمَةَ، فَإِنَّهَا أَهْلُ التَّصَرُّفِ. وَلِهَذَا تَصِحُّ مِنْهَا الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بِإِذْنِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُفْلِسَةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ. فَإِنْ خَالَعَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَكُونُ طَلَاقًا، فَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، كَانَ كَالْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ الْخُلْعُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِهِ بِعِوَضٍ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَلَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ لِوَلِيِّ هَؤُلَاءِ الْمُخَالَعَةُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِمَا لَهَا فِيهِ الْحَظُّ، وَهَذَا لَا حَظَّ فِيهِ، بَلْ فِيهِ إسْقَاطُ نَفَقَتِهَا وَمَسْكَنِهَا وَبَذْلُ مَالِهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ، إذَا رَأَى الْحَظَّ فِيهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحَظُّ لَهَا فِيهِ بِتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُتْلِفُ مَالَهَا، وَتَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَعَقْلِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ بَذْلُ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ تَبْذِيرًا وَلَا سَفَهًا، فَيَجُوزُ لَهُ بَذْلُ مَالِهَا لِتَحْصِيلِ حَظِّهَا، وَحِفْظِ نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَمَا يَجُوزُ بَذْلُهُ فِي مُدَاوَاتِهَا، وَفَكِّهَا مِنْ الْأَسْرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالْأَبُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَوْلِيَائِهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَإِنْ خَالَعَهَا بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَمِنْ الْوَلِيِّ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَالَ الْأَبُ طَلْق ابْنَتِي وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا فَطَلَّقَهَا] (5799) فَصْلٌ: إذَا قَالَ الْأَبُ: طَلِّقْ ابْنَتِي، وَأَنْت بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا. فَطَلَّقَهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ شَيْءٍ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَبِ، وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأْهُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ. قَالَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ إبْرَاءَ الْأَبِ لَا يَصِحُّ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَرَّهُ فَزَوَّجَهُ مَعِيبَةً، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ إبْرَاءَ الْأَبِ لَا يَصِحُّ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ. وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْجِعُ، عَلَيْهِ، يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ بِعِوَضٍ. فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: هِيَ طَالِقٌ إنْ أَبْرَأَتْنِي مِنْ صَدَاقِهَا. فَقَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُك. لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَوْقَعَهُ إذَا قَصَدَ الزَّوْجُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِالْإِبْرَاءِ، دُونَ حَقِيقَةِ الْبَرَاءَةِ. وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: هِيَ طَالِقٌ إنْ بَرِئْت مِنْ صَدَاقِهَا. لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قَالَ الْأَبُ: طَلِّقْهَا عَلَى أَلْفٍ مِنْ مَالِهَا، وَعَلَيَّ الدَّرْكُ. فَطَلَّقَهَا، طَلُقَتْ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ مَا لَزِمَ الْأَبَ مِنْ ضَمَانِ الدَّرْكِ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَذْلُهَا. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ بِأَلْفٍ إنْ شِئْتُمَا فَقَالَتَا قَدْ شِئْنَا] (5800) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ بِأَلْفٍ إنْ شِئْتُمَا. فَقَالَتَا: قَدْ شِئْنَا. وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِمَا بَائِنًا، وَلَزِمَهُمَا الْعِوَضُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرَيْهِمَا. وَإِنْ شَاءَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، لَمْ يُطَلِّقْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا شِئْتُمَا صِفَةً فِي طَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَيُخَالِفُ هَذَا مَا لَوْ قَالَ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ بِأَلْفٍ. فَقَبِلَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِعِوَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فِي طَلَاقِهَا شَرْطًا، وَهَاهُنَا عَلَّقَ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِمَشِيئَتِهِمَا جَمِيعًا، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِمَا: قَدْ شِئْنَا لَفْظًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: مَا شِئْتُمَا وَإِنَّمَا قُلْتُمَا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِكُمَا. أَوْ قَالَتَا: مَا شِئْنَا بِقُلُوبِنَا. لَمْ يُقْبَلْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعِوَضَ يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الذَّهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الرَّأْي. وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَأَصِلُ هَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ بِصَدَاقٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَشِيدَةً، وَالْأُخْرَى مَحْجُورًا عَلَيْهَا لِسَفَهٍ، فَقَالَتَا: قَدْ شِئْنَا. وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا، وَوَجَبَ عَلَى الرَّشِيدَةِ قِسْطُهَا مِنْ الْعِوَضِ، وَوَقَعَ طَلَاقُهَا بَائِنًا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ لَهَا مَشِيئَةً، وَلَكِنَّ الْحَجْرَ مَعَ صِحَّةِ تَصَرُّفِهَا وَنُفُوذِهِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَشِيئَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ، وَفِيمَا تَأْكُلُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغَةٍ، إلَّا أَنَّهَا مُمَيِّزَةٌ، فَإِنَّ لَهَا مَشِيئَةً صَحِيحَةً، وَلِهَذَا يُخَيَّرُ الْغُلَامُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ، لَمْ تَصِحَّ الْمَشِيئَةُ مِنْهُمَا وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ الرَّشِيدَةَ يَلْزَمُهَا قِسْطُهَا مِنْ الْعِوَض، وَهُوَ قِسْطُ مَهْرِهَا مِنْ الْعِوَضِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ نِصْفُهُ. وَإِنَّ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتَاهُ: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ. فَطَلَّقَهُمَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا وَحْدَهَا، فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْأَلْفِ. وَإِنْ قَالَتَا: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهُمَا، فَالْأَلْفُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ صَدَاقَيْهِمَا، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا، فَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ رَشِيدَةٍ، فَطَلَّقَهُمَا، فَعَلَى الرَّشِيدَةِ حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ، يَقَعُ طَلَاقُهَا بَائِنًا، وَتَطْلُقُ الْأُخْرَى طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ الْخُلْع مَعَ الْأَجْنَبِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ] (5801) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْخُلْعُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْأَجْنَبِيُّ لِلزَّوْجِ: طَلِّقْ امْرَأَتَك بِأَلْفٍ عَلَيَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ، فَإِنَّهُ يَبْذُلُ عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدَك لِزَيْدٍ بِأَلْفٍ عَلَيَّ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَذْلُ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ إسْقَاطِ حَقٍّ عَنْ غَيْرِهِ فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك، وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. صَحَّ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ حَقًّا عَنْ أَحَدٍ، فَهَاهُنَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمَرْأَةِ، يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهَا بِعِوَضٍ، فَجَازَ لِغَيْرِهَا، كَالدَّيْنِ. وَفَارَقَ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ، فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاءِ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ. وَإِنْ قَالَ: طَلِّقْ امْرَأَتَك بِمَهْرِهَا، وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ. صَحَّ. يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 [فَصْلٌ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهُمَا] (5802) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهُمَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِمَا بَائِنًا، وَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ عَلَى بَاذِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَائِزٌ. وَإِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا، فَقَالَ الْقَاضِي: تَطْلُقُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَلَزِمَ الْبَاذِلَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: يَلْزَمُهَا مَهْرُ مِثْلِ الْمُطَلَّقَةِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، فِيمَا إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ، وَوَقَعَتْ بِهَا التَّطْلِيقَةُ، أَنْ لَا يَلْزَمَ الْبَاذِلَةَ هَا هُنَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا إلَى مَا سَأَلَتْ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا مَا بَذَلَتْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرَضُهَا فِي بَيْنُونَتِهَا جَمِيعًا مِنْهُ، فَإِذَا طَلَّقَ إحْدَاهُمَا، لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهَا، فَلَا يَلْزَمُهَا عِوَضُهَا. [فَصْلٌ قَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَطْلُقَ ضَرَّتِي أَوْ عَلَى أَنْ لَا تَطْلُقَ ضَرَّتِي] (5803) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَ ضَرَّتِي، أَوْ عَلَى أَنْ لَا تُطَلِّقَ ضَرَّتِي. فَالْخُلْعُ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ وَالْبَذْلُ لَازِمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الشَّرْطُ وَالْعِوَضُ بَاطِلَانِ، وَيَرْجِعُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ سَلَفٌ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعِوَضُ بَعْضُهُ فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ الْبَاطِلِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي مَجْهُولًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالْعِوَضُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ الْعِوَضِ. وَلَنَا أَنَّهَا بَذَلَتْ عِوَضًا فِي طَلَاقِهَا وَطَلَاقِ ضَرَّتِهَا، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ. فَإِنْ لَمْ يَفِ لَهَا بِشَرْطِهَا، فَعَلَيْهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، أَوْ الْأَلْفُ الَّذِي شَرَطَتْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا بَذَلَتْهُ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ. [مَسْأَلَةٌ مَا خَالَعَ الْعَبْدُ بِهِ زَوْجَته مِنْ شَيْءٍ جَازَ] (5804) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا خَالَعَ الْعَبْدُ بِهِ زَوْجَتَهُ مِنْ شَيْءٍ، جَازَ. وَهُوَ لِسَيِّدِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ زَوْجٍ صَحَّ طَلَاقُهُ، صَحَّ خُلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ مُجَرَّدُ إسْقَاطٍ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ شَيْءٍ، فَلَأَنْ يَمْلِكَهُ مُحَصِّلًا لِلْعِوَضِ أَوْلَى، وَالْعَبْدُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَمَلَك الْخُلْعَ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالسَّفِيهُ، وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ. وَمِنْ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ، كَالطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ، لَا يَصِحُّ خُلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، فَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ. وَمَتَى خَالَعَ الْعَبْدُ، كَانَ الْعِوَضُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِهِ، وَاكْتِسَابُهُ لِسَيِّدِهِ، وَسَائِرُ مَنْ ذَكَرْنَا الْعِوَضُ لَهُمْ. وَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْعِوَضِ إلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، وَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي خُلْعِ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَوَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ حُقُوقَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَيَدْفَعُ الْعِوَضَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ قَبْضُ الْعَبْدِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ خُلْعُهُ، صَحَّ قَبْضُهُ لِلْعِوَضِ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلْسٍ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أَحْمَدَ: مَا مَلَكَهُ الْعَبْدُ مِنْ خُلْعٍ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ وَالْمُخْتَلِعَةِ بِشَيْءٍ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْعَبْدِ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، وَالْعِوَضُ فِي خُلْعِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِلْكٌ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَفَادَ مَنْعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا أَتْلَفَهُ الْعَبْدُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ عَدَمَ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الدَّفْعِ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَيْهَا لَرَجَعَتْ عَلَى الْعَبْدِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّهَا بِرَقَبَتِهِ، وَهِيَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهَا بِمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَالِهِ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْعِوَضَ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لَمْ تَبْرَأَ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْوَلِيُّ مِنْهُ، بَرِئَتْ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ، أَوْ تَلِفَ، كَانَ لِوَلِيِّهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِهِ. [فَصْل طَلَاقِ الْأَبِ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَخُلْعَهُ إيَّاهَا] (5805) فَصْلٌ: وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي طَلَاقِ الْأَبِ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَخُلْعِهِ إيَّاهَا، وَسَأَلَهُ أَبُو الصَّقْرِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَكَأَنَّهُ رَآهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا رَوَاهُ أَبُو الصَّقْرِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ مَعْتُوهٍ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ الْمَعْتُوهَ إذَا عَبَثَ بِأَهْلِهِ، طَلَّقَ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: وَجَدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَحَّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا، كَالْحَاكِمِ يَفْسَخُ لِلْإِعْسَارِ، وَيُزَوِّجُ الصَّغِيرَ. وَالْقَوْلُ الْآخِرُ، لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الطَّلَاقُ بِيَدِ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ الْفَرْجُ. وَلِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ. فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ طَرِيقَهُ الشَّهْوَةُ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْوِلَايَةِ. وَالْقَوْلُ فِي زَوْجَةِ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ، كَالْقَوْلِ فِي زَوْجَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثه مِنْهَا] (5806) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا، فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُخَالَعَةَ فِي الْمَرَضِ صَحِيحَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَرِيضُ الزَّوْجَ أَوْ الزَّوْجَةَ، أَوْ هُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، فَصَحَّ فِي الْمَرَضِ، كَالْبَيْعِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. ثُمَّ إذَا خَالَعَتْهُ الْمَرِيضَةُ بِمِيرَاثِهِ مِنْهَا فَمَا دُونَهُ، صَحَّ، وَلَا رُجُوعَ، إنْ خَالَعَتْهُ بِزِيَادَةٍ، بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ الْعِوَضُ كُلُّهُ، فَإِنْ حَابَتْهُ فَمِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ لَهَا، فَصَحَّتْ مُحَابَاتُهَا لَهُ مِنْ الثُّلُثِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَعَنْ مَالِكٍ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَعَنْهُ: يُعْتَبَرُ بِخُلْعِ مِثْلِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ خَالَعَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، جَازَ، وَإِنْ زَادَ، فَالزِّيَادَةُ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِمَا قَدَّمْنَا، وَاعْتِبَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ تَقْوِيمٌ لَهُ. وَعَلَى إبْطَالِ الزِّيَادَةِ، أَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي أَنَّهَا قَصَدَتْ الْخُلْعَ لِتُوَصِّلَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، عَلَى وَجْهٍ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَيْهِ وَهُوَ وَارِثٌ لَهَا، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ أَوْصَتْ لَهُ، أَوْ أَقَرَّتْ لَهُ، وَأَمَّا قَدْرُ الْمِيرَاثِ، فَلَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُخَالِعْهُ لَوَرِثَ مِيرَاثَهُ. وَإِنْ صَحَّتْ مِنْ مَرَضِهَا ذَلِكَ، صَحَّ الْخُلْعُ، وَلَهُ جَمِيعُ مَا خَالَعَهَا بِهِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَالْخُلْعُ فِي غَيْرِ مَرَضِ الْمَوْتِ، كَالْخُلْعِ فِي الصِّحَّةِ. [مَسْأَلَةٌ خَالَعَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَأَوْصَى لَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَرِثُ] (5807) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ خَالَعَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَأَوْصَى لَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَرِثُ، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ لَا يُعْطُوهَا أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهَا) أَمَّا خُلْعَهُ لُزُوجَتِهِ، فَلَا إشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَصَحَّ، فَلَأَنْ يَصِحَّ بِعِوَضٍ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَفُوتُهُمْ بِخُلْعِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأَةٌ، لَبَانَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ. فَأَمَّا إنْ أَوْصَى لَهَا بِمِثْلِ مِيرَاثِهَا، أَوْ أَقَلَّ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي أَنَّهُ أَبَانَهَا لِيُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُبِنْهَا لَأَخَذَتْهُ بِمِيرَاثِهَا. وَإِنْ أَوْصَى لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، فَلِلْوَرَثَةِ مَنْعُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اُتُّهِمَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إيصَالَ ذَلِكَ إلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إيصَالِهِ إلَيْهَا وَهِيَ فِي حِبَالِهِ، فَطَلَّقَهَا لِيُوصِلَ ذَلِكَ إلَيْهَا، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لَوَارِثٍ. [فَصْل خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا] (5808) فَصْلٌ: وَإِذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا، فَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَهَذَا إنَّمَا يُخَرَّجُ عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا، أَمَّا غَيْرُ الْحَامِلِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ، فَلَا تَصِحُّ عِوَضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ النَّفَقَةُ عِوَضًا، فَإِنْ خَالَعَهَا بِهِ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ، فَلَا يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عِوَضِ مَا يُتْلِفُهُ عَلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا إحْدَى النَّفَقَتَيْنِ، فَصَحَّتْ الْمُخَالَعَةُ عَلَيْهَا، كَنَفَقَةِ الصَّبِيِّ فِيمَا إذَا خَالَعَتْهُ عَلَى كَفَالَةِ وَلَدِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 وَقْتًا مَعْلُومًا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا لَمْ تَجِبْ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ إنَّهَا إنْ لَمْ تَجِبْ، فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا، كَنَفَقَةِ الصَّبِيِّ، بِخِلَافِ عِوَضِ مَا يُتْلِفُهُ. [مَسْأَلَةٌ خَالَعَتْهُ بِمُحْرِمِ وَهُمَا كَافِرَانِ فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَسْلِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا] (5809) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ خَالَعَتْهُ بِمُحَرَّمٍ، وَهُمَا كَافِرَانِ، فَقَبَضَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ الْكُفَّارِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلَ حَرْبٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الطَّلَاقَ، مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ تَخَالَعَا بِعِوَضٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا وَتَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ، أَمْضَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا كَالْمُسْلِمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِمُحَرَّمٍ كَخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَا، وَتَرَافَعَا إلَيْنَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمْضَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يُعَوَّضْ لَهُ، وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ تَبَايَعَا خَمْرًا أَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ أَسْلَمَا. وَإِنْ كَانَ إسْلَامُهُمَا أَوْ تَرَافُعُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، لَمْ يُمْضِهِ الْحَاكِمُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِقْبَاضِهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لَمُسْلِمٍ أَوْ مِنْ مُسْلِمٍ، فَلَا يَأْمُرُ الْحَاكِمُ بِإِقْبَاضِهِ. قَالَ الْقَاضِي، فِي " الْجَامِعِ ": وَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ مِنْهَا بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْمُسْلِمَيْنِ إذَا تَخَالَعَا بِخَمْرٍ وَقَالَ، فِي " الْمُجَرَّدِ ": يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فَاسِدٌ، فَيَرْجِعُ إلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ؛ لَأَنْ تَخْصِيصَهُ حَالَةَ الْقَبْضِ بِنَفْيِ الرُّجُوعِ، يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ مَعَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ، أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْتَقِدُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالًا، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ عِوَضًا، فَقَدْ رَضِيَ بِالْخُلْعِ بِغَيْرِ مَالٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَالْمُشْرِكُ يَعْتَقِدُهُ مَالًا، فَلَمْ يَرْضَ بِالْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَيَكُونُ الْعِوَضُ وَاجِبًا لَهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى حُرٍّ يَظُنُّهُ عَبْدًا، أَوْ خَمْرٍ يَظُنُّهُ خَلًّا. إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْعِوَضُ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا. وَعَلَى مَا عَلَّلْنَا بِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ قِيمَةِ مَا سَمَّى لَهَا، عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَالًا، فَإِنَّهُ رَضِيَ بِمَالِيَّةِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُ قَدْرُهُ مِنْ الْمَالِ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى خَمْرٍ يَظُنُّهُ خَلًّا. وَإِنْ حَصَلَ الْقَبْضُ فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، سَقَطَ مَا قَبَضَ، وَفِيمَا لَمْ يَقْبِضْ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] . [فَصْل التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ] (5810) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَمِنْ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا. وَكُلُّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْخُلْعِ لِنَفْسِهِ، جَازَ تَوْكِيلُهُ وَوَكَالَتُهُ؛ حُرًّا؛ كَانَ أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ رَشِيدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْخُلْعَ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَمُوَكِّلًا فِيهِ، كَالْحُرِّ الرَّشِيدِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. يَكُونُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ اسْتِدْعَاءُ الْخُلْعِ أَوْ الطَّلَاقِ، وَتَقْدِيرُ الْعِوَضِ، وَتَسْلِيمُهُ. وَتَوْكِيلُ الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ شَرْطُ الْعِوَضِ، وَقَبْضُهُ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ أَوْ الْخُلْعِ. وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مَعَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ، وَمِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ كَذَلِكَ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. وَالْمُسْتَحَبُّ التَّقْدِيرُ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمُ مِنْ الْغَرَرِ، وَأَسْهَلُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ. فَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ: الْحَالُ الْأَوَّلُ، أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ الْعِوَضَ، فَخَالَعَ بِهِ أَوْ بِمَا زَادَ، صَحَّ، وَلَزِمَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ خَالَعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛: أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي خُلْعِ امْرَأَةٍ فَخَالَعَ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْخُلْعِ بِهَذَا الْعِوَضِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالنَّقْصِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي قَدْرِ الْعِوَضِ لَا تُبْطِلُ الْخُلْعَ، كَحَالَةِ الْإِطْلَاقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَمَّا إنْ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ، مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُلْعِ عَلَى دَرَاهِمَ، فَخَالَعَ عَلَى عَبْدٍ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ يَأْمُرَهُ بِالْخُلْعِ حَالًّا، فَخَالَعَ بِعِوَضٍ نَسِيئَةً، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمُوَكِّلِهِ فِي جِنْسِ الْعِوَضِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَا خَالَعَ بِهِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَا الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدُ السَّبَبُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وَفَارَقَ الْمُخَالَفَةَ فِي الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَبْرُهُ بِالرُّجُوعِ بِالنَّقْصِ عَلَى الْوَكِيلِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَ الْوَكِيلَ الْقَدْرُ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ، وَيَكُونَ لَهُ مَا خَالَعَ، قِيَاسًا عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي الْقَدْرِ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ هَذَا خُلْعٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الزَّوْجُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ فِي شَيْءٍ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَمْلِكَ عِوَضًا مَا مَلَّكَتْهُ إيَّاهُ الْمَرْأَةُ، وَلَا قَصَدَ هُوَ تَمَلُّكَهُ، وَتَنْخَلِعُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَزِمَهَا لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فِي الْقَدْرِ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ فِيهَا أَيْضًا، لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالُ الثَّانِي، إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْخُلْعَ بِمَهْرِهَا الْمُسَمَّى حَالًّا مِنْ جِنْسِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ خَالَعَ بِذَلِكَ فَمَا زَادَ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا، وَإِنْ خَالَعَ بِدُونِهِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا إذَا قَدَّرَ لَهُ الْعِوَضَ فَخَالَعَ بِدُونِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَسْقُطَ الْمُسَمَّى، وَيَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ خَالَعَ بِمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يَتَخَيَّرَ الزَّوْجُ بَيْنَ قَبُولِ الْعِوَضِ نَاقِصًا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ، وَبَيْنَ رَدِّهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ. وَإِنْ خَالَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ عَيَّنَ لَهُ عِوَضًا فَخَالَعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. وَإِنْ خَالَعَ الْوَكِيلُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ إنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُلْعِ، وَهُوَ إبَانَةُ الْمَرْأَةِ بِعِوَضٍ، وَمَا أَتَى بِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِطَلَاقٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ". وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَسَوَاءٌ عَيَّنَ لَهُ الْعِوَضَ أَوْ أَطْلَقَ، وَذَكَرَ، فِي " الْجَامِعِ " أَنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ. وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْمُسَمَّى، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ. هَذَا إذَا قُلْنَا: الْخُلْعُ بِلَا عِوَضٍ يَصِحُّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ. لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَيَقَعُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ وَكِيلَ الزَّوْجَةِ لَوْ خَالَعَ بِذَلِكَ صَحَّ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُ الزَّوْجِ. وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ وَكِيلَ الزَّوْجِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوقِعَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَوَكِيلُ الزَّوْجَةِ لَا يُوقِعُ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ، وَلِأَنَّ وَكِيلَ الزَّوْجِ إذَا خَالَعَ عَلَى مُحَرَّمٍ، فَوَّتَ عَلَى مُوَكَّلِهِ الْعِوَضَ، وَوَكِيلُ الزَّوْجَةِ يُخَلِّصُهَا مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الصِّحَّةِ فِي مَوْضِعٍ يُخَلِّصُ مُوَكَّلَهُ مِنْ وُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، الصِّحَّةُ فِي مَوْضِعٍ يُفَوِّتُهُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَكِيلَ الزَّوْجَةِ لَوْ صَالَحَ بِدُونِ الْعِوَضِ الَّذِي قَدَّرَتْهُ لَهُ، صَحَّ وَلَزِمَهَا، وَلَوْ خَالَعَ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِدُونِ الْعِوَضِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَأَمَّا وَكِيلُ الزَّوْجَةِ فَلَهُ حَالَانِ؛: أَحَدُهُمَا، أَنْ تُقَدِّرَ لَهُ الْعِوَضَ، فَمَتَى خَالَعَ بِهِ فَمَا دُونَ، صَحَّ، وَلَزِمَهَا ذَلِكَ: لِأَنَّهُ زَادَهَا خَيْرًا، وَإِنْ خَالَعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهَا الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ فِيهَا، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ لِلزَّوْجِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَالْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ": عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَكِيلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، إنَّمَا يَقْبَلُهُ لِغَيْرِهِ. وَلَعَلَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا أَكْثَرُ مِمَّا بَذَلَتْهُ؛ لِأَنَّهَا مَا الْتَزَمَتْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَا وُجِدَ مِنْهَا تَغْرِيرٌ لِلزَّوْجِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لِلزَّوْجِ أَيْضًا أَكْثَرُ مِمَّا بَذَلَ لَهُ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ عِوَضًا، وَهُوَ عِوَضٌ صَحِيحٌ مَعْلُومٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَذَلَتْهُ الْمَرْأَةُ. الثَّانِي، أَنْ يُطْلِقَ الْوَكَالَةَ، فَيَقْتَضِي خُلْعَهَا بِمَهْرِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ خَالَعَهَا بِذَلِكَ فَمَا دُونَ، صَحَّ، وَلَزِمَهَا، وَإِنْ خَالَعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرَتْ لَهُ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي الْخُلْع فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ] (5811) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الْخُلْعِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ، وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا عِوَضًا؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ، وَعَلَيْهَا الْيَمِينُ، وَإِنْ ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا عِوَضًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ حُلُولِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ. حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلِكِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي عِوَضِهِ، كَالسَّيِّدِ مَعَ مُكَاتَبَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي عِوَضِ الْعَقْدِ، فَيَتَحَالَفَانِ فِيهِ، كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخُلْعِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ، كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُنْكِرَةٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ أَوْ الصِّفَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَأَمَّا التَّحَالُفُ فِي الْبَيْعِ، فَيُحْتَاجُ إلَيْهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَالْخُلْعُ فِي نَفْسِهِ فَسْخٌ، فَلَا يُفْسَخُ. وَإِنْ قَالَ: خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ. فَقَالَتْ: إنَّمَا خَالَعَكَ غَيْرِي بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ. بَانَتْ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لَهُ. وَإِنْ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ ضَمِنَهَا لَك أَبِي أَوْ غَيْرُهُ. لَزِمَهَا الْأَلْفُ، لِإِقْرَارِهَا بِهِ، وَالضَّمَانُ لَا يُبْرِئُ ذِمَّتَهَا وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ: خَالَعْتُكَ عَلَى أَلْفٍ يَزِنُهُ لَك أَبِي. لِأَنَّهَا اعْتَرَفَتْ بِالْأَلْفِ وَادَّعَتْ عَلَى أَبِيهَا دَعْوَى، فَقُبِلَ قَوْلُهَا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَإِنْ قَالَ: سَأَلَتْنِي طَلْقَةً بِأَلْفٍ فَقَالَتْ: بَلْ سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً. بَانَتْ بِإِقْرَارٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي سُقُوطِ الْعِوَضِ. وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، يَلْزَمُهَا ثُلْثُ الْأَلْفِ. بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفٍ، فَادَّعَى أَنَّهَا دَنَانِيرُ، وَقَالَتْ: بَلْ هِيَ دَرَاهِمُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَتْ دَرَاهِمَ قِرَاضِيَّةً. وَقَالَ الْآخِرُ: مُطْلَقَةً. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي حَكَاهَا الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ الْأَلْفُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا أَرَادَا دَرَاهِمَ قِرَاضِيَّةً، لَزِمَهَا مَا اتَّفَقَتْ إرَادَتُهُمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِرَادَةِ، كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُطْلَقَةِ، يَرْجِعُ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِرَادَةِ، وَجَبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا يَجْعَلُ الْبَدَلَ مَجْهُولًا، فَيَجِبُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَطْلَقَا، لَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، وَوَجَبَ الْأَلْفُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَكُنْ إطْلَاقُهُمَا جَهَالَةً تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِوَضِ، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا، وَلِأَنَّهُ يُجِيزُ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ إذَا لَمْ تَكُنْ جَهَالَتُهُ تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، كَعَبْدٍ مُطْلَقٍ وَبَعِيرٍ وَفَرَسٍ، وَالْجَهَالَةُ هَا هُنَا أَقَلُّ، فَالصِّحَّةُ أَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 [فَصْلٌ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِصِفَةِ ثُمَّ أَبَانَهَا بِخَلْعِ أَوْ طَلَاقٍ ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا وَوَجَدَتْ الصِّفَةُ] (5812) فَصْلٌ: إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِصِفَةٍ، ثُمَّ أَبَانَهَا بِخُلْعٍ أَوْ طَلَاقٍ، ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، وَوُجِدَتْ. الصِّفَةُ، طَلُقَتْ. وَمِثَالُهُ إذَا قَالَ: إنْ كَلَّمْت أَبَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ أَبَانَهَا بِخُلْعٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَكَلَّمَتْ أَبَاهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَأَمَّا إنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ وُجِدَتْ مَرَّةً أُخْرَى، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تَطْلُقُ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْعِتْقِ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَبَاعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، يَعْنِي فَاشْتَرَاهُ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ لَمْ يَعْتِقْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فَلَا يَدْخُلُ إذَا رَجَعَ إلَيْهِ، فَإِنْ دَخَلَ عَتَقَ. فَإِذَا نَصَّ فِي الْعِتْقِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَعُودُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَشَوَّفُ الشَّرْعُ إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ: وَإِذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ إنْ تَزَوَّجَهَا. وَلَوْ قَالَ: إنْ مَلَكْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ. فَمَلَكَهُ صَارَ حُرًّا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَعُودُ إذَا أَبَانَهَا بِطَلَاقِ ثَلَاثٍ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لُزُوجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ، ثُمَّ نَكَحَهَا الْحَالِفُ، ثُمَّ دَخَلْت الدَّارَ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الْمِلْكِ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنْ أَبَانَهَا دُونَ الثَّلَاثِ فَوُجِدَتْ الصِّفَةُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، انْحَلَّتْ يَمِينُهُ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ فِي الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ نَكَحَهَا، لَمْ تَنْحَلَّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: لَا تَعُودُ الصِّفَةُ بِحَالٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وُجِدَ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِالصِّفَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا دَخَلْت الدَّارَ. ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. فَأَمَّا إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، انْحَلَّتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِي وَقْتٍ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الطَّلَاق فِيهِ، فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَإِذَا انْحَلَّتْ مَرَّةً، لَمْ يُمْكِنْ عَوْدُهَا إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَلَنَا أَنَّ عَقَدَ الصِّفَةِ وَوُقُوعَهَا وُجِدَا فِي النِّكَاحِ، فَيَقَعُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْهُ بَيْنُونَةٌ، أَوْ كَمَا لَوْ بَانَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ تَفْعَلْ الصِّفَةَ. وَقَوْلُهُمْ: أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ. قُلْنَا: يَبْطُلُ بِمَا إذَا لَمْ يُكْمِلْ الثَّلَاثَ. وَقَوْلُهُمْ: تَنْحَلُ الصِّفَةُ بِفِعْلِهَا. قُلْنَا: إنَّمَا تَنْحَلُ بِفِعْلِهَا عَلَى وَجْهٍ يَحْنَثُ بِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُلَّ وَعُقِدَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَهَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ، فَكَذَلِكَ حَلُّهَا، وَالْحِنْثُ لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الصِّفَةِ حَالَ بَيْنُونَتِهَا، فَلَا تَنْحَلُ الْيَمِينُ. وَأَمَّا الْعِتْقُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 إحْدَاهُمَا، أَنَّ الْعِتْقَ كَالنِّكَاحِ فِي أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَنْحَلُّ بِوُجُودِهَا بَعْدَ بَيْعِهِ، فَيَكُونُ كَمَسْأَلَتِنَا. وَالثَّانِيَةُ، تَنْحَلُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّانِي لَا يُبْنَى عَلَى الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَفَارَقَ النِّكَاحَ، فَإِنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْأَوَّلِ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ عَدَدُ الطَّلَاقِ، فَجَازَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ فِي عَوْدِ الصِّفَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا يَفْعَلُ حِيلَةً عَلَى إبْطَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ، وَالْحِيَلُ خِدَاعٌ لَا تُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنَ بَطَّةَ رَوَيَا بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ: قَدْ طَلَّقْتُك، قَدْ رَاجَعْتُك، قَدْ طَلَّقْتُك» . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ: " خَالَعْتُكَ، وَرَاجَعْتُك طَلَّقْتُك، رَاجَعْتُك " وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . (5813) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الصِّفَةُ لَا تَعُودُ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي، مِثْلُ إنْ قَالَ: إنْ أَكَلْت هَذَا الرَّغِيفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. ثُمَّ أَبَانَهَا، فَأَكَلَتْهُ، ثُمَّ نَكَحَهَا، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ حِنْثَهُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، وَمَا وُجِدَتْ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِأَكْلِهَا لَهُ حَالَ الْبَيْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُ الْبَائِنَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 [كِتَابُ الطَّلَاقِ] [فَصْلٌ الطَّلَاقُ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ] ِ الطَّلَاقُ: حِلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ. وَهُوَ مَشْرُوعٌ، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى «ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ الطَّلَاقِ، وَالْعِبْرَةُ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا فَسَدَتْ الْحَالُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرُ بَقَاءُ النِّكَاحِ مَفْسَدَةً مَحْضَةً، وَضَرَرًا مُجَرَّدًا بِإِلْزَامِ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، وَحَبْسِ الْمَرْأَةِ، مَعَ سُوءِ الْعِشْرَةِ، وَالْخُصُومَةِ الدَّائِمَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ شَرْعَ مَا يُزِيلُ النِّكَاحَ، لِتَزُولَ الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهُ. (5814) فَصْلٌ: وَالطَّلَاقُ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ؛ وَاجِبٌ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمُولِي بَعْدَ التَّرَبُّصِ إذَا أَبَى الْفَيْئَةَ، وَطَلَاقُ الْحَكَمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ، إذَا رَأَيَا ذَلِكَ. وَمَكْرُوهٌ، وَهُوَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَإِعْدَامٌ لِلْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ، فَكَانَ حَرَامًا، كَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ.» وَفِي لَفْظٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 : «مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِنَّمَا يَكُونُ مُبْغَضًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَالًا، وَلِأَنَّهُ مُزِيلٌ لِلنِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا. وَالثَّالِثُ، مُبَاحٌ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِسُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ، وَسُوءِ عِشْرَتِهَا، وَالتَّضَرُّرِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِهَا. وَالرَّابِعُ، مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ عِنْد تَفْرِيطِ الْمَرْأَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا، مِثْلُ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إجْبَارُهَا عَلَيْهَا، أَوْ تَكُونُ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُ عَفِيفَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي لَهُ إمْسَاكُهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ نَقْصًا لِدِينِهِ، وَلَا يَأْمَنُ إفْسَادَهَا لِفِرَاشِهِ، وَإِلْحَاقَهَا بِهِ وَلَدًا لَيْسَ هُوَ مِنْهُ، وَلَا بَأْسَ بِعَضْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا؛ لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَاجِبٌ. وَمِنْ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الشِّقَاقِ، وَفِي الْحَالِ الَّتِي تُحْوِجُ الْمَرْأَةَ إلَى الْمُخَالَعَةِ لِتُزِيلَ عَنْهَا الضَّرَرَ. وَأَمَّا الْمَحْظُورُ، فَالطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَكُلِّ الْأَعْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَيُسَمَّى طَلَاقَ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ خَالَفَ السُّنَّةَ، وَتَرَكَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِتَطْلِيقَتَيْنِ آخِرَتَيْنِ عِنْدَ الْقُرْأَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ؛ إنَّك أَخْطَأْت السُّنَّةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ، فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ.» وَلِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا، وَلَا الطُّهْرَ الَّذِي بَعْدَهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَ، وَإِذَا طَلَّقَ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، لَمْ يَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَيَنْدَمَ، وَتَكُونَ مُرْتَابَةً لَا تَدْرِي أَتَعْتَدُّ بِالْحَمْلِ أَوْ الْأَقْرَاءِ؟ [مَسْأَلَةٌ طَلَاقُ السُّنَّةِ] (5815) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَاحِدَةً، ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 مَعْنَى طَلَاقِ السُّنَّةِ الطَّلَاقُ الَّذِي وَافَقَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلسُّنَّةِ، مُطَلِّقٌ لِلْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَقَالَ: طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ: «لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . فَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُتْبِعُهَا طَلَاقًا آخِرَ قَبْلَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ حُكْمَ جَمْعِ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَحْمَدُ: طَلَاقُ السُّنَّةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا، فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ، الْكُوفِيِّينَ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَاجِعْهَا، ثُمَّ أَمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ.» قَالُوا: وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ طُهْرٌ كَامِلٌ، فَإِذَا مَضَى وَمَضَتْ الْحَيْضَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ: " وَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ، فَيُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ ". وَرَوَى النَّسَائِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً، وَهِيَ طَاهِرٌ، فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَيْضَةِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يُطَلِّقُ أَحَدٌ لِلسُّنَّةِ فَيَنْدَمُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَهَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ الطَّلَاقِ، مَا يُتْبِعُ رَجُلٌ نَفْسَهُ امْرَأَةً أَبَدًا، يُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَدَعُهَا مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَةً، فَمَتَى شَاءَ رَاجَعَهَا. رَوَاهُ النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ، ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، أَوْ يُرَاجِعَهَا إنْ شَاءَ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَمْعُ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا حَدِيثُهُ الْآخِرُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْد ارْتِجَاعِهَا، وَمَتَى ارْتَجَعَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 كَانَ لِلسُّنَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى قَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ لَشَهْوَةٍ، ثُمَّ وَالَى بَيْنَ الثَّلَاثِ، كَانَ مُصِيبًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرْتَجَعًا لَهَا. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إذَا ارْتَجَعَهَا، سَقَطَ حُكْمُ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ، وَلَا غِنَى بِهِ عَنْ الطَّلْقَةِ الْأُخْرَى إذَا احْتَاجَ إلَى فِرَاقِ امْرَأَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا؛ فَإِنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، لِإِفْضَائِهَا إلَى مَقْصُودِهِ مِنْ إبَانَتِهَا، فَافْتَرَقَا، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إرْدَافُ طَلَاقٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِجَاعٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّنَّةِ، كَجَمْعِ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ لَا يَزُولُ إلَّا بِزَوْجٍ وَإِصَابَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّنَّةِ، كَجَمْعِ الثَّلَاثِ. [فَصْلٌ طَلَاق الْبِدْعَةِ] (5816) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، أَثِمَ، وَوَقَعَ طَلَاقُهُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَالشِّيعَةُ قَالُوا: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي قُبُلِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا طَلَّقَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقَعَ، كَالْوَكِيلِ إذَا أَوْقَعَهُ فِي زَمَنٍ أَمَرَهُ مُوَكِّلُهُ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِهِ. وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: «فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْت لَوْ أَنِّي طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا، أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْك، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً.» وَقَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهِ، وَرَاجَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: أَفَتُعْتَدُّ عَلَيْهِ، أَوْ تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ، وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ، كَطَلَاقِ الْحَامِلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبِهِ، فَيَعْتَبِرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةَ السُّنَّةِ، بَلْ هُوَ إزَالَةُ عِصْمَةٍ، وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَعُقُوبَةً لَهُ، أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ، فَلَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِهِ مَحَلَّهُ. [فَصْلٌ مُرَاجَعَة الْمُطَلَّقَة] (5817) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاجِعَهَا، لَأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُرَاجَعَتِهَا، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ، وَلِأَنَّهُ بِالرَّجْعَةِ يُزِيلُ الْمَعْنَى الَّذِي حَرَّمَ الطَّلَاقَ. وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 أَنَّ الرَّجْعَةَ تَجِبُ. وَاخْتَارَهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَدَاوُد؛ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَجْرِي مَجْرَى اسْتِبْقَاءِ النِّكَاحِ، وَاسْتِبْقَاؤُهُ هَاهُنَا وَاجِبٌ؛ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْسَاكٌ لِلزَّوْجَةِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فَوَجَبَ ذَلِكَ كَإِمْسَاكِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد: يُجْبَرُ عَلَى رَجْعَتِهَا. قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يُجْبَرُ عَلَى رَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. إلَّا أَشْهَبَ، قَالَ: مَا لَمْ تَطْهُرْ، ثُمَّ تَحِيضُ، ثُمَّ تَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَجْعَتُهَا فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَرْتَفِعُ بِالرَّجْعَةِ، فَلَمْ تَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ فِيهِ، كَالطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَجِبُ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى يَنْتَقِضُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالرَّجْعَةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (5818) فَصْلٌ: فَإِنْ رَاجَعَهَا، وَجَبَ إمْسَاكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ، وَاسْتُحِبَّ إمْسَاكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثُمَّ تَطْهُرَ، عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيث ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهَا، أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكَادُ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا؛ إلَّا بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ الْمَبْغِيُّ مِنْ النِّكَاحِ، وَلَا يَحْصُلُ الْوَطْءُ إلَّا فِي الطُّهْرِ، فَإِذَا وَطِئَهَا حَرُمَ طَلَاقُهَا فِيهِ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَاعْتَبَرْنَا مَظِنَّةَ الْوَطْءِ وَمَحَلَّهُ لَا حَقِيقَتَهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الطَّلَاقَ كُرِهَ فِي الْحَيْضِ لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَانَتْ تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعَ حُكْمِ الطَّلَاقِ بِالْوَطْءِ، وَاعْتُبِرَ الطُّهْرُ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْوَطْءِ، فَإِذَا وَطِئَ حَرُمَ طَلَاقُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ مَسَّهَا، حَتَّى إذَا طَهُرَتْ أُخْرَى، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا» . رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَمِنْهَا، أَنَّهُ عُوقِبَ عَلَى إيقَاعِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُحَرَّمِ بِمَنْعِهِ مِنْهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ. وَذَكَرَ غَيْرَ هَذَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: لَا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَهَذَا مُطَلِّقٌ لِلْعِدَّةِ، فَيَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ. وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ. وَلَمْ يَذْكُرُوا تِلْكَ الزِّيَادَةَ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ طُهْرٌ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَ الثَّانِيَ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ] (5819) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، كَانَ أَيْضًا لِلسُّنَّةِ، وَكَانَ تَارِكًا لِلِاخْتِيَارِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمْعِ الثَّلَاثِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالشَّعْبِيِّ «؛ لِأَنَّ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ، قَالَ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي، فَبِتَّ طَلَاقِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَات. وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ جَازَ تَفْرِيقُهُ، فَجَازَ جَمْعُهُ، كَطَلَاقِ النِّسَاءِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، مُحَرَّمٌ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو حَفْصٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،. قَالَ عَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُطَلِّقُ أَحَدٌ لِلسُّنَّةِ فَيَنْدَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يُطَلِّقُهَا وَاحِدَةً، ثُمَّ يَدَعُهَا مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حَيْض، فَمَتَى شَاءَ رَاجَعَهَا،. وَعَنْ، عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ ثَلَاثًا، أَوْجَعَهُ ضَرْبًا. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا. فَقَالَ: إنَّ عَمَّك عَصَى اللَّهَ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ، فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلَى قَوْلِهِ {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] . وَمَنْ جَمَعَ الثَّلَاثَ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَمْرٌ يَحْدُثُ، وَلَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا وَلَا مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا. وَرَوَى النَّسَائِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ . حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا؟ قَالَ: إذَا عَصَيْت رَبَّك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك» . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزْوًا، أَوْ لَعِبًا؟ مَنْ طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا، لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» . وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْبُضْعِ بِقَوْلِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَحُرِّمَ كَالظِّهَارِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُهُ بِالتَّكْفِيرِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ لِلزَّوْجِ إلَى رَفْعِهِ بِحَالٍ، وَلِأَنَّهُ ضَرَرٌ وَإِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ وَبِامْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَرُبَّمَا كَانَ وَسِيلَةً إلَى عَوْدِهِ إلَيْهَا حَرَامًا، أَوْ بِحِيلَةٍ لَا تُزِيلُ التَّحْرِيمَ، وَوُقُوعِ النَّدَمِ، وَخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، الَّذِي ضَرَرُهُ بَقَاؤُهَا فِي الْعِدَّةِ أَيَّامًا يَسِيرَةً، أَوْ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، الَّذِي ضَرَرُهُ احْتِمَالُ النَّدَمِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَ جَمْعِ الثَّلَاثِ يَتَضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، فَالتَّحَرِّي ثَمَّ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّحْرِيمِ هَاهُنَا، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا فِي عَصْرِهِمْ خِلَافُ قَوْلِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهَا وَقَعَتْ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِمَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. ثُمَّ إنَّ اللِّعَانَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَالطَّلَاقُ بَعْدَهُ كَالطَّلَاقِ بَعْدَ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِالرَّضَاعِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ إنَّمَا حَرُمَ لِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ النَّدَمِ، وَيَحْصُلُ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ مِنْ حِلِّ نِكَاحِهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ اللِّعَانِ، لِحُصُولِهِ بِاللِّعَانِ، وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ لَمْ يَقَعْ فِيهَا جَمْعُ الثَّلَاثِ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَيْهِ، وَلَا حَضَرَ الْمُطَلِّقُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ، قَدْ جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا، وَحَدِيثُ امْرَأَةِ رُفَاعَةَ جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَمْعُ الثَّلَاثِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً، ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، إلَّا مَا حَكَيْنَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمُوَافَقَةً لِقَوْلِ السَّلَفِ. وَأَمْنًا مِنْ النَّدَمِ، فَإِنَّهُ مَتَى نَدِمَ رَاجَعَهَا، فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَهُ نِكَاحُهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ الطَّلَاقِ، مَا يُتْبِعُ رَجُلٌ نَفْسَهُ امْرَأَةً أَبَدًا، يُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَدَعُهَا، مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثًا، فَمَتَى شَاءَ رَاجَعَهَا. رَوَاهُ النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ، فَلْيُمْهِلْ، حَتَّى إذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ، طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَلَا يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا وَهِيَ حَامِلٌ، فَيَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفَقَتَهَا وَأَجْرَ رَضَاعِهَا، وَيَنْدَمُهُ اللَّهُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ إلَيْهَا سَبِيلًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 [فَصْلٌ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ] (5820) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَبْلِ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ. وَكَانَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، يَقُولُونَ: مَنْ طَلَّقَ الْبِكْرَ ثَلَاثَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، خِلَافَ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد. وَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ عَنْهُ طَاوُسٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «طَلَّقَ بَعْضُ آبَائِي امْرَأَتَهُ أَلْفًا، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَانَا طَلَّقَ أُمَّنَا أَلْفًا، فَهَلْ لَهُ مَخْرَجٌ؟ فَقَالَ: إنَّ أَبَاكُمْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ إثْمًا فِي عُنُقِهِ» . وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِلْكٌ يَصِحُّ إزَالَتُهُ مُتَفَرِّقًا، فَصَحَّ مُجْتَمِعًا، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِخِلَافِهِ، وَأَفْتَى أَيْضًا بِخِلَافِهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ؟ فَقَالَ: أَدْفَعُهُ بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عِدَّةٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ عُمَرُ مَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَلَا يَسُوغُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَرْوِيَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فِي طُهْرٍ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا] فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فِي طُهْرٍ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَهُوَ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَسُدَّ عَلَى نَفْسِهِ الْمَخْرَجَ مِنْ النَّدَمِ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ طَلْقَةً جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ تَحْصُلُ بِهَا، فَكَانَ مَكْرُوهًا، كَتَضْيِيعِ الْمَالِ. [مَسْأَلَة قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَكَانَتْ حَامِلًا أَوْ طَاهِرًا] (5822) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَكَانَتْ حَامِلًا أَوْ طَاهِرًا لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 كَانَتْ حَائِضًا، لَزِمَهَا الطَّلَاقُ إذَا طَهُرَتْ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَة مُجَامَعَةً فِيهِ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لَزِمَهَا الطَّلَاقُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. فَمَعْنَاهُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا غَيْرَ مُجَامَعَةٍ فِيهِ، فَهُوَ وَقْتُ السُّنَّةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَامِلًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَمْلَ طَلَاقُهَا لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: «ثُمَّ لِيُطَلِّقَهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. فَأَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ أَوْ فِي الْحَمْلِ، فَطَلَاقُ السُّنَّةِ مَا وَافَقَ الْأَمْرَ، وَلِأَنَّ مُطَلِّقَ الْحَامِلِ الَّتِي اسْتَبَانَ حَمْلُهَا قَدْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَلَا يَخَافُ ظُهُورَ أَمْرٍ يَتَجَدَّدُ بِهِ النَّدَمُ، وَلَيْسَتْ مُرْتَابَةً؛ لِعَدَمِ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَيْهَا، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِصِفَتِهَا، فَوَقَعَتْ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لَحَائِضٍ، لَمْ تَقَعْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهَا طَلَاقُ بِدْعَةٍ. لَكِنْ إذَا طَهُرَتْ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ حِينَئِذٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي النَّهَارِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي النَّهَارِ طَلُقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي اللَّيْلِ طَلُقَتْ إذَا جَاءَ النَّهَارُ. وَإِنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، لَمْ يَقَعْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ وَالْحَيْضَ بَعْدَهُ زَمَانُ بِدْعَةٍ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، طَلُقَتْ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. فَإِنْ أَوْلَجَ فِي آخِرِ الْحَيْضَةِ، وَاتَّصَلَ بِأَوَّلِ الطُّهْرِ، أَوْ أَوْلَجَ مَعَ أَوَّلِ الطُّهْرِ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، لَكِنْ مَتَى جَاءَ طُهْرٌ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، طَلُقَتْ فِي أَوَّلِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ. مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. (5823) فَصْلٌ: إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضِ فَقَدْ دَخَلَ زَمَانُ السُّنَّةِ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ. كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ طَهُرَتْ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِهِ، لَمْ يَقَعْ حَتَّى تَغْتَسِلَ، أَوْ تَتَيَمَّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَتُصَلِّيَ، أَوْ يَخْرُجَ عَنْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُوجَدْ، فَمَا حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ حَيْضِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا طَاهِرٌ. فَوَقَعَ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ، كَاَلَّتِي طَهُرَتْ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا طَاهِرٌ، أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ، وَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَيَصِحُّ مِنْهَا، وَتُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهَا، وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَإِذَا طَهُرَتْ، طَلَّقَهَا إنْ شَاءَ» . وَمَا قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّنَا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِالطُّهْرِ، لَمَا أَمَرْنَاهَا بِالْغُسْلِ، وَلَا صَحَّ مِنْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 [مَسْأَلَة قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَهِيَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ] (5824) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ. وَهِيَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يُصِيبَهَا أَوْ تَحِيضَ) . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَكْسُ تِلْكَ؛ فَإِنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِأَنَّهَا لِلْبِدْعَةِ، إنْ قَالَ ذَلِكَ لَحَائِضٍ أَوْ طَاهِرٍ مُجَامَعَةٍ فِيهِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِصِفَتِهَا. وَإِنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ، فَإِذَا حَاضَتْ طَلُقَتْ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيْضِ، وَإِنْ أَصَابَهَا طَلُقَتْ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، فَإِنْ نَزَعَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَوْلَجَ بَعْدَ النَّزْعِ، فَقَدْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ، وَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ ذَلِكَ. وَإِنْ أَصَابَهَا، وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ، فَسَنَذْكُرُهَا أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَعْدُ. [فَصْلٌ قَالَ لِطَاهِرِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فِي الْحَالِ] (5825) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لَطَاهِرٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فِي الْحَالِ. فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الصِّفَةَ تَلْغُو، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ، فَلَغَتْ الصِّفَةُ دُونَ الطَّلَاقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ فِي الْحَالِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، فَانْصَرَفَ الْوَصْفُ بِالْبِدْعَةِ إلَيْهِ، لِتَعَذُّرِ صِفَةِ الْبِدْعَةِ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَإِنْ قَالَ لِحَائِضٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فِي الْحَالِ، لَغَتْ الصِّفَةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، وَثَلَاثًا لِلْبِدْعَةِ. طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي الْحَالِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ] (5826) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ. فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا إنْ كَانَتْ طَاهِرًا طُهْرًا غَيْرَ مُجَامَعَةٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا إذَا طَهُرَتْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ يَكُونُ سُنَّةً، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِذَا طَهُرَتْ طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَتَطْلُقُ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فِي نِكَاحَيْنِ آخَرَيْنِ، أَوْ بَعْدَ رَجْعَتَيْنِ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ. قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَقَعُ عَلَيْهَا السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ رَاجَعَهَا تَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى، وَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى أُخْرَى. وَمَا يُعْجِبُنِي قَوْلُهُمْ هَذَا. فَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سُنَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَوْقَعَهَا لِوَصْفِهِ الثَّلَاثَ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ فَأَلْغَى الصِّفَةَ، وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ، كَمَا لَوْ قَالَ لِحَائِضٍ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْحَالِ لِلسُّنَّةِ. وَقَدْ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، قَالَ: يَقَعُ عَلَيْهَا الثَّلَاثُ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَات الْأَشْهُرِ وَقَعَ فِي كُلِّ شَهْرٍ طَلْقَةٌ. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ السُّنَّةَ تَفْرِيقُ الثَّلَاثِ عَلَى الْأَطْهَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ جَمْعِ الثَّلَاثِ. إنْ قَالَ: أَرَدْت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 بِقَوْلِي: لِلسُّنَّةِ إيقَاعَ وَاحِدَةٍ فِي الْحَالِ، وَاثْنَتَيْنِ فِي نِكَاحَيْنِ آخَرَيْنِ. قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنْ يَقَعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ. قُبِلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرِيدَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَدِينُ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛: أَحَدُهُمَا لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ. وَالثَّانِي، يُقْبَلُ؛ لِمَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ، فَقَالَ: سَبَقَ لِسَانِي إلَى قَوْلِ: لِلسُّنَّةِ، وَلَمْ أُرِدْهُ، وَإِنَّمَا أَرَدْت الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ. وَقَعَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِإِيقَاعِهَا، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِمَا يُوقِعُهَا، قُبِلَ مِنْهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ] (5827) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ، وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ طَلْقَتَيْنِ وَتَأَخَّرْت الثَّالِثَةُ إلَى الْحَالِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْحَالَيْنِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً فَيَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ ثُمَّ يَكْمُلُ النِّصْفُ؛ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ لَا يَتَبَعَّضُ، فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ طَلْقَةٌ، وَتَتَأَخَّرَ اثْنَتَانِ إلَى الْحَالِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ يَقَعُ عَلَى مَا دُونَ الْكُلِّ، وَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَثِيرَ، فَيَقَعُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، فَيَتَأَخَّرُ إلَى الْحَالِ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَقَعُ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ بَعْضُهَا، ثُمَّ تَكْمُلُ، فَيَقَعُ الثَّلَاثُ؟ قُلْنَا: مَتَى أَمْكَنَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ غَيْرِ تَكْسِيرٍ، وَجَبَ الْقِسْمَةُ عَلَى الصِّحَّةِ. وَإِنْ قَالَ: نِصْفُهُنَّ لِلسُّنَّةِ، وَنِصْفُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ. وَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ، وَتَأَخَّرَتْ الثَّالِثَةُ. وَإِنْ قَالَ: طَلْقَتَانِ لِلسُّنَّةِ، وَوَاحِدَةٌ لِلْبِدْعَةِ، أَوْ طَلْقَتَانِ لِلْبِدْعَةِ، وَوَاحِدَةٌ لِلسُّنَّةِ. فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْت ذَلِكَ. فَإِنْ فَسَّرَ نِيَّتَهُ بِمَا يُوقِعُ فِي الْحَالِ طَلْقَتَيْنِ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ. وَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا يُوقِعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَيُؤَخِّرُ اثْنَتَيْنِ، دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا، أَنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَمَا فَسَّرَ كَلَامَهُ بِهِ لَا يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ. وَالثَّانِي، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِأَخَفِّ مِمَّا يَلْزَمُهُ حَالَةَ الْإِطْلَاق. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ هَذَا. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، بَعْضُهَا لِلسُّنَّةِ. وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ، احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا لِلْبِدْعَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَالْبَعْضُ لَا يَقْتَضِي النِّصْفَ، فَتَقَعُ الْوَاحِدَةُ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، وَالزَّائِدُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بَعْضُهَا لِلسُّنَّةِ وَبَاقِيهَا لِلْبِدْعَةِ، أَوْ سَائِرُهَا لِلْبِدْعَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدِمَ وَهِيَ حَائِضٌ] (5828) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ. فَقَدِمَ وَهِيَ حَائِضٌ، طَلُقَتْ لِلْبِدْعَةِ، وَلَمْ يَأْثَمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ لِلسُّنَّةِ. فَقَدِمَ فِي زَمَانِ السُّنَّةِ، طَلُقَتْ. وَإِنْ قَدِمَ فِي زَمَانِ الْبِدْعَةِ، لَمْ يَقَعْ، حَتَّى إذَا صَارَتْ إلَى زَمَانِ السُّنَّةِ وَقَعَ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ حِينَ قَدِمَ زَيْدٌ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِقُدُومِ زَيْدٍ عَلَى صِفَةٍ، فَلَا يَقَعُ إلَّا عَلَيْهَا. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ. قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، طَلُقَتْ عِنْدَ قُدُومِهِ، حَائِضًا كَانَتْ أَوْ طَاهِرًا؛ لِأَنَّهَا لَا سُنَّةَ لِطَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ. وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، وَهِيَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، طَلُقَتْ. وَإِنْ قَدِمَ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَجِيءَ زَمَنُ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِمَّنْ لِطَلَاقِهَا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ لِلسُّنَّةِ. فَكَانَ رَأْسُ الشَّهْرِ فِي زَمَانِ السُّنَّةِ، وَقَعَ، وَإِلَّا وَقَعَ إذَا جَاءَ زَمَانُ السُّنَّةِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ] (5829) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لَهَا، وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. طَلُقَتْ مِنْ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ) قَالَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلَيْسَ لِطَلَاقِهَا سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ، إلَّا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَات الْأَقْرَاءِ إنَّمَا كَانَ لَهُ سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَطُولُ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَتَرْتَابُ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، وَيَنْتَفِي عَنْهَا الْأَمْرَانِ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا تَنْفِي تَطْوِيلَهَا أَوْ الِارْتِيَابَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْأَشْهُرِ؛ كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَالْآيِسَاتِ مِنْ الْمَحِيضِ لَا سُنَّةَ لِطَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَطُولُ بِطَلَاقِهَا فِي حَالٍ، وَلَا تَحْمِلُ فَتَرْتَابُ. وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ الَّتِي اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُنَّ لَيْسَ لَطَلَاقِهِنَّ سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ مِنْ جِهَةِ الْوَقْتِ، فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَإِذَا قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ. وَقَعَتْ الطَّلْقَةُ فِي الْحَالِ، وَلَغَتْ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهَا لَا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ يَزِدْ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ. أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْبِدْعَةِ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِصِفَتِهَا. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يَكُونَ لِلْحَامِلِ طَلَاقُ سُنَّةٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ أُمِرَ بِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا ". وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرُ كَلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ. وَلِأَنَّهَا فِي حَالٍ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا بَعْدَ زَمَنِ الْبِدْعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهَا إلَى زَمَانِ الْبِدْعَةِ، فَكَانَ طَلَاقُهَا طَلَاقَ سُنَّةٍ، كَالطَّاهِرِ مِنْ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ مُجَامَعَةٍ. وَيَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ. لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ، فَإِذَا وَضَعْت الْحَمْلَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ زَمَانُ بِدْعَةٍ، كَالْحَيْضِ. [فَصْل قَالَ لَصَغِيرَةٍ أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ] (5830) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لَصَغِيرَةٍ أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ. ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت إذَا حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ، أَوْ أُصِيبَتْ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا. أَوْ قَالَ لَهُمَا: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ: أَرَدْت طَلَاقَهُمَا فِي زَمَنٍ يَصِيرُ طَلَاقُهُمَا فِيهِ لِلسُّنَّةِ. دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُقْبَلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت إذَا دَخَلْت الدَّارَ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ. وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، فَقُبِلَ: كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا. [فَصْلٌ قَالَ لَهَا فِي طُهْرٍ جَامِعَهَا فِيهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فَيَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ] (5831) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. فَيَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ طَلَاقَهَا بِأَنَّهُ لِلسُّنَّةِ فِي زَمَنٍ يَصْلُحُ لَهُ، فَإِذَا صَارَتْ آيِسَةً، فَلَيْسَ لِطَلَاقِهَا سُنَّةٌ، فَلَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، فَلَا يَقَعَ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، لَمْ يَقَعْ أَيْضًا، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ طَلَاقَ الْحَامِلِ طَلَاقَ سُنَّةٍ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ؛ لِوُجُودِ الصِّفَةِ، كَمَا لَوْ حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً] (5832) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً. وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرْءِ، وَقَعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ. فَإِنْ كَانَتْ فِي الْقُرْءِ، وَقَعَتْ بِهَا وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ، وَوَقَعَ بِهَا طَلْقَتَانِ فِي قُرْأَيْنِ آخَرَيْنِ فِي أَوَّلِهِمَا، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْقُرْءُ الْحَيْضُ أَوْ الْأَطْهَارُ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، إلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِالطَّلْقَةِ الْأُولَى، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا، وَقَعَ بِهَا فِي الْقُرْءِ الثَّانِي طَلْقَةٌ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الثَّالِثَةِ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَقُلْنَا: الْقُرْءُ الْحَيْضُ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَطْلُقُ فِي كُلِّ حَيْضَةٍ طَلْقَةً. وَإِنْ قُلْنَا: الْقُرْءُ الْأَطْهَارُ. احْتَمَلَ أَنْ تَطْلُقَ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً، ثُمَّ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ فَتَطْلُقُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فِي الطُّهْرِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 الطُّهْرَ قَبْلَ الْحَيْضِ كُلَّهُ قُرْءٌ وَاحِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَطْلُقَ حَتَّى تَطْهُرَ بَعْدَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ فِي عِدَّتِهَا، لَمْ تَحْتَسِبْ بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَ الْحَيْضِ مِنْ عِدَّتِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْحُكْمُ فِي الْحَامِلِ كَالْحُكْمِ فِي الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الْحَمْلِ كُلَّهُ قُرْءٌ وَاحِدٌ، فِي أَحَدٍ الْوَجْهَيْنِ، إذَا قُلْنَا: الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، لَيْسَ بِقُرْءٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً، فَقَالَ الْقَاضِي: تَطْلُقُ وَاحِدَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِصِفَةِ تَسْتَحِيلُ فِيهَا، فَلَغَتْ وَوَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ. وَإِذَا طَلُقَتْ الْحَامِلُ فِي حَالِ حَمْلِهَا، بَانَتْ بِوَضْعِهِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِهِ، فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقٌ آخَرُ. فَإِنْ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا، أَوْ رَاجَعَهَا قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا، ثُمَّ طَهُرَتْ مِنْ النِّفَاسِ، طَلُقَتْ أُخْرَى، ثُمَّ إذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ، وَقَعَتْ الثَّالِثَةُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْك لِلسُّنَّةِ] (5833) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، إنْ كَانَ الطَّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْك لِلسُّنَّةِ. وَهِيَ فِي زَمَنِ السُّنَّةِ، طَلُقَتْ بِوُجُودِ الصِّفَةِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِ السُّنَّةِ، انْحَلَّتْ الصِّفَةُ، وَلَمْ يَقَعْ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا وُجِدَ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، إنْ كَانَ الطَّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْك لِلْبِدْعَةِ. إنْ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ، وَقَعَ، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ بِحَالٍ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا سُنَّةَ لِطَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ، فَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهَا احْتِمَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَقَعُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا وُجِدَتْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ كُنْت هَاشِمِيَّةً. وَلَمْ تَكُنْ هَاشِمِيَّةً. وَالثَّانِي، تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ شَرْطًا مُسْتَحِيلًا، فَلَغَى، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ] (5834) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَجْمَلَهُ، أَوْ أَعْدَلَهُ، أَوْ أَكْمَلَهُ، أَوْ أَتَمَّهُ، أَوْ أَفْضَلَهُ، أَوْ قَالَ: طَلْقَةً حَسَنَةً، أَوْ جَمِيلَةً، أَوْ عِدْلَةً أَوْ سُنِّيَّةً. كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِبَارَةً عَنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا قَالَ: أَعْدَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَحْسَنَهُ، وَنَحْوَهُ، كَقَوْلِنَا. وَإِنْ قَالَ: طَلْقَةً سُنِّيَّةً أَوْ عِدْلَةً. وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَّصِفُ بِالْوَقْتِ، وَالسُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ وَقْتٌ، فَإِذَا وَصَفَهَا بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ، سَقَطْت الصِّفَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً. أَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوَالْبِدْعَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ، وَيَصِحُّ وَصْفُ الطَّلَاقِ بِالسُّنَّةِ وَالْحُسْنِ؛ لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ، مُطَابِقًا لِلشَّرْعِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَحْسَنَ الطَّلَاقِ. وَفَارَقَ قَوْلَهُ: طَلْقَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي عِدَّةٍ، وَلَا عِدَّةَ لَهَا، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ. فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت بِقَوْلِي: أَعْدَلَ الطَّلَاقِ. وُقُوعَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِأَخْلَاقِهَا الْقَبِيحَةِ، وَلَمْ أُرِدْ الْوَقْتَ. وَكَانَتْ فِي الْحَيْضِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ. وَإِنْ كَانَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ، دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ. (5835) فَصْلٌ: فَإِنْ عَكَسَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ، وَأَسْمَجَهُ، أَوْ أَفْحَشَهُ، أَوْ أَنْتَنَهُ، أَوْ أَرْدَأَهُ. حُمِلَ عَلَى طَلَاقِ الْبِدْعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي وَقْتِ الْبِدْعَةِ، وَإِلَّا وَقَفَ عَلَى مَجِيءِ زَمَانِ الْبِدْعَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا، إنَّ قُلْنَا: إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ بِدْعَةٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ فِي وَقْتِ الْبِدْعَةِ؛ لِيَكُونَ جَامِعًا لِبِدْعَتَيْ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ. وَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ غَيْرَ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنَّ طَلَاقَك أَقْبَحُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّك لَا تَسْتَحِقِّينَهُ؛ لِحُسْنِ عِشْرَتِك، وَجَمِيلِ طَرِيقَتِك. وَقَعَ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِذَلِكَ طَلَاقَ السُّنَّةِ، لِيَتَأَخَّرَ الطَّلَاقُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى زَمَنِ السُّنَّةِ. لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً، فَاحِشَةً جَمِيلَةً، تَامَّةً نَاقِصَةً. وَقَعَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِصِفَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ، فَلَغِيَا، وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الطَّلَاقِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهَا حَسَنَةٌ لِكَوْنِهَا فِي زَمَانِ السُّنَّةِ، وَقَبِيحَةٌ لِإِضْرَارِهَا بِك. أَوْ قَالَ أَرَدْت أَنَّهَا حَسَنَةٌ لِتَخْلِيصِي مِنْ شَرِّك وَسُوءِ خُلُقِك، وَقَبِيحَةٌ لِكَوْنِهَا فِي زَمَانِ الْبِدْعَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ يُؤَخِّرُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَنْهُ، دُيِّنَ وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلِ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْحَرَجِ] (5836) فَصْلِ: فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْحَرَجِ، فَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ الضَّيِّقُ وَالْإِثْمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: طَلَاقُ الْإِثْم، وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ طَلَاقُ إثْمٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ الضَّيِّقُ، وَاَلَّذِي يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعُهُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا، وَيَمْنَعُهَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ، هُوَ الثَّلَاثُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، وَفِيهِ إثْمٌ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ: الضَّيِّقُ وَالْإِثْمُ. وَإِنْ قَالَ: طَلَاقَ الْحَرَجِ وَالسُّنَّةِ. كَانَ كَقَوْلِهِ: طَلَاقَ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 [مَسْأَلَةٌ طَلَاقُ الزَّائِلِ الْعَقْلِ بِلَا سُكْرٍ] (5837) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَطَلَاقُ الزَّائِلِ الْعَقْلُ بِلَا سُكْرٍ، لَا يَقَعُ) . أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّ الزَّائِلَ الْعَقْلُ بِغَيْرِ سُكْرٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ. كَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ فِي حَالِ نَوْمِهِ، لَا طَلَاقَ لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ.» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ.» رَوَاهُ النَّجَّادُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ، وَهُوَ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَاعْتُبِرَ لَهُ الْعَقْلُ، كَالْبَيْعِ. وَسَوَاءٌ زَالَ عَقْلُهُ لَجُنُونٍ، أَوْ إغْمَاءٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ شَرِبَ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ شُرْبُهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزِيلٌ لِلْعَقْلِ، فَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَأَمَّا إنْ شَرِبَ الْبَنْجَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُزِيلُ عَقْلَهُ، عَالِمًا بِهِ، مُتَلَاعِبًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّكْرَانِ فِي طَلَاقِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَقَع طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَذُّ بِشُرْبِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ زَالَ عَقْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَأَشْبَهَ السَّكْرَانَ. [فَصْلِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا طَلَّقَ] (5838) فَصْلِ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا طَلَّقَ، فَلَمَّا أَفَاقَ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِذَلِكَ، فَلَيْسَ هُوَ مُغْمَى عَلَيْهِ، يَجُوزُ طَلَاقُهُ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي الْمَجْنُونِ يُطَلِّقُ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَمَا أَفَاقَ: إنَّك طَلَّقْت امْرَأَتَك. فَقَالَ: أَنَا أَذْكُرُ أَنِّي طَلَّقْت، وَلَمْ يَكُنْ عَقْلِي مَعِي. فَقَالَ: إذَا كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ طَلَّقَ، فَقَدْ طَلُقَتْ. فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَجْنُونًا إذَا كَانَ يَذْكُرُ الطَّلَاقَ، وَيَعْلَمُ بِهِ. وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فِي مَنْ جُنُونُهُ بِذَهَابِ مَعْرِفَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبُطْلَانِ حَوَاسِّهِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ جُنُونُهُ لِنُشَافٍ أَوْ كَانَ مبرسما، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ، مَعَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ غَيْرُ ذَاهِبَةٍ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَضُرُّهُ ذِكْرُهُ لِلطَّلَاقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 [مَسْأَلَةٌ طَلَاقُ السَّكْرَانِ] (5839) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي السَّكْرَانِ رِوَايَاتٌ؛ رِوَايَةٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَرِوَايَةٌ لَا يَقَعُ. وَرِوَايَةٌ يَتَوَقَّفُ عَنْ الْجَوَابِ، وَيَقُولُ: قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا التَّوَقُّفُ عَنْ الْجَوَابِ، فَلَيْسَ بِقَوْلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، إنَّمَا هُوَ تَرْكٌ لِلْقَوْلِ فِيهَا، وَتَوَقُّفٌ عَنْهَا، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا، وَإِشْكَالِ دَلِيلِهَا. وَيَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَقَعُ طَلَاقُهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، وَالْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْحَكَمِ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ» . وَمِثْلُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ، إنْ رَكِبَ مَعْصِيَةً مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوهُ كَالصَّاحِي فِي الْحَدِّ بِالْقَذْفِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو وَبَرَةَ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: أَرْسَلَنِي خَالِدٌ إلَى عُمَرَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَقُلْت: إنَّ خَالِدًا يَقُولُ: إنَّ النَّاسَ انْهَمَكُوا فِي الْخَمْرِ، وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ. فَقَالَ عُمَرُ: هَؤُلَاءِ عِنْدَك فَسَلْهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: نَرَاهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. فَقَالَ عُمَرُ: أَبْلِغْ صَاحِبَك مَا قَالَ. فَجَعَلُوهُ كَالصَّاحِي، وَلِأَنَّهُ إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ مِنْ مُكَلَّفٍ غَيْرِ مُكْرَهٍ صَادَفَ مِلْكَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ، كَطَلَاقِ الصَّاحِي، وَيَدُلُّ عَلَى تَكْلِيفِهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْقَتْلِ، وَيُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَجْنُونَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ. وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُثْمَانَ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ عُثْمَانَ أَرْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ، وَهُوَ أَصَحُّ. يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَحَدِيثُ الْأَعْمَشِ، مَنْصُورٌ لَا يَرْفَعُهُ إلَى عَلِيٍّ. وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، أَشْبَهَ الْمَجْنُونَ، وَالنَّائِمَ، وَلِأَنَّهُ مَفْقُودُ الْإِرَادَةِ، أَشْبَهُ الْمُكْرَهُ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ؛ إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِطَابِ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ إلَى مَنْ لَا يَفْهَمُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَالِ الشَّرْطِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كَسَرَ سَاقَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَلَوْ ضَرَبَتْ الْمَرْأَةُ بَطْنَهَا، فَنَفِسَتْ، سَقَطَتْ عَنْهَا الصَّلَاةُ، وَلَوْ ضَرَبَ رَأْسَهُ فَجُنَّ، سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة لَا يَثْبُتُ، وَأَمَّا قَتْلُهُ وَسَرِقَتُهُ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا. (5840) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي عِتْقِهِ، وَنَذْرِهِ، وَبَيْعِهِ، وَشِرَائِهِ، وَرِدَّتِهِ، وَإِقْرَارِهِ، وَقَتْلِهِ، وَقَذْفِهِ، وَسَرِقَتِهِ، كَالْحُكْمِ فِي طَلَاقِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ. وَسَأَلَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ: إذَا طَلَّقَ السَّكْرَانُ، أَوْ سَرَقَ، أَوْ زَنَى، أَوْ افْتَرَى، أَوْ اشْتَرَى، أَوْ بَاعَ فَقَالَ: أَجْبُنُ عَنْهُ، لَا يَصِحُّ مِنْ أَمْرِ السَّكْرَانِ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: حُكْمُ السَّكْرَانِ حُكْمُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ وَفِيمَا عَلَيْهِ؛ فَأَمَّا فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْمُعَاوَضَات، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ، لَا يَصِحُّ لَهُ شَيْءٌ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، وَالْأَوْلَى أَنَّ مَالَهُ أَيْضًا لَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ لَأَنْ تَصْحِيحَ تَصَرُّفَاتِهِ فِيمَا عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفٍ لَهُ. [فَصْلٌ حَدُّ السُّكْرِ فِي الطَّلَاق] (5841) فَصْلٌ: وَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَقَعُ الْخِلَافُ فِي صَاحِبِهِ، هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ يَخْلِطُ فِي كَلَامِهِ، وَلَا يَعْرِفُ رِدَاءَهُ مِنْ رِدَاءِ غَيْرِهِ، وَنَعْلَهُ مِنْ نَعْلِ غَيْرِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَجَعَلَ عَلَامَةَ زَوَالِ السُّكْرِ عِلْمَهُ مَا يَقُولُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اسْتَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، أَوْ أَلْقُوا رِدَاءَهُ فِي الْأَرْدِيَةِ، فَإِنْ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ، أَوْ عَرَفَ رِدَاءَهُ، وَإِلَّا فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ لَا يَعْرِفَ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمَجْنُونِ، فَعَلَيْهِ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَ] (5842) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ، فَطَلَّقَ، لَزِمَهُ) وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا طَلَاقَ لَهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ بِهِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَات عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَالْخِرَقِيُّ، وَابْنُ حَامِدٍ. وَرُوِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَحَمَّادٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ، أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ.» وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمَجْنُونِ. وَوَجْهُ الْأَوْلَى قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» . وَقَوْلُهُ: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اُكْتُمُوا الصِّبْيَانَ النِّكَاحَ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فَائِدَتَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقُوا. وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ عَاقِلٍ صَادَفَ مَحَلَّ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ كَطَلَاقِ الْبَالِغِ. [فَصْلٌ مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ مِنْ الصَّبِيَّانِ] (5843) فَصْلٌ: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَات عَنْ أَحْمَدَ، تَحْدِيدُ مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ بِكَوْنِهِ يَعْقِلُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي. وَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ أَبُو الْحَارِثِ: إذَا عَقَلَ الطَّلَاقَ، جَازَ طَلَاقُهُ، مَا بَيْنَ عَشْرٍ إلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِدُونِ الْعَشْرِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ حَدٌّ لِلضَّرْبِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إذَا أَحْصَى الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، جَازَ طَلَاقُهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ إذَا بَلَغَ أَنْ يُصِيبَ النِّسَاءَ. وَعَنْ الْحَسَنِ: إذَا عَقَلَ، وَحَفِظَ الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إذَا جَاوَزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. [فَصْلٌ طَلَاقَ الصَّبِيِّ] (5844) فَصْلٌ: وَمَنْ أَجَازَ طَلَاقَ الصَّبِيِّ، اقْتَضَى مَذْهَبُهُ أَنْ يَجُوزَ تَوْكِيلُهُ فِيهِ، وَتَوَكُّلُهُ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ، فِي رَجُلٍ قَالَ لَصَبِيٍّ: طَلِّقْ امْرَأَتِي. فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا. لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا حَتَّى يَعْقِلَ الطَّلَاقَ فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ صَبِيَّةٌ فَقَالَتْ: صَيِّرْ أَمْرِي إلَيَّ. فَقَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك. فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي. فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ مِثْلُهَا يَعْقِلُ الطَّلَاقَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ حَتَّى يَبْلُغَ. وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَجُوزُ الْوِكَالَةُ فِيهِ بِنَفْسِهِ، صَحَّ تَوْكِيلُهُ وَوَكَالَتُهُ فِيهِ، كَالْبَالِغِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ مَنْعِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا تُجِيزُ طَلَاقَهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 [فَصْلٌ طَلَاقُ السَّفِيه] (5845) فَصْلٌ: فَأَمَّا السَّفِيهُ، فَيَقَعُ طَلَاقُهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ رَأْي أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَمَنَعَ مِنْهُ عَطَاءٌ. وَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، مَالِكٌ لِمَحَلِّ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ طَلَاقُهُ كَالرَّشِيدِ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيهِ، كَالْمُفْلِسِ. [مَسْأَلَةٌ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ] (5846) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ، لَمْ يَلْزَمْهُ) لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَشُرَيْحٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَأَجَازَهُ أَبُو قِلَابَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ، فِي مَحَلٍّ يَمْلِكُهُ، فَيَنْفُذُ، كَطَلَاقِ غَيْرِ الْمُكْرَهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْقُتَيْبِيُّ: مَعْنَاهُ: فِي إكْرَاهٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَأَلْت ابْنَ دُرَيْدٍ وَأَبَا طَاهِرٍ النَّحْوِيَّيْنِ، فَقَالَا: يُرِيدُ الْإِكْرَاهَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ انْغَلَقَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى المبرسم وَالْمَجْنُونُ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ، كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 [فَصْلٌ إكْرَاهِ الْحَاكِمِ الْمُولِي عَلَى الطَّلَاقِ] (5847) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ، نَحْوُ إكْرَاهِ الْحَاكِمِ الْمُولِي عَلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ إذَا لَمْ يَفِيئْ، وَإِكْرَاهِهِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ زَوْجَهُمَا وَلِيَّانِ، وَلَا يُعْلَمُ السَّابِقُ مِنْهُمَا عَلَى الطَّلَاقِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، فَصَحَّ، كَإِسْلَامِ الْمُرْتَدِّ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ إكْرَاهُهُ عَلَى الطَّلَاقِ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِكْرَاه عَلَى الطَّلَاق] (5848) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا حَتَّى يُنَالَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ، مِثْلُ الضَّرْبِ أَوْ الْخَنْقِ أَوْ عَصْرِ السَّاقِ وَمَا أَشْبَهَ، وَلَا يَكُونُ التَّوَاعُدُ إكْرَاهًا) أَمَّا إذَا نِيلَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ، كَالضَّرْبِ، وَالْخَنْقِ، وَالْعَصْرِ، وَالْحَبْسِ، وَالَغَطِ فِي الْمَاءِ مَعَ الْوَعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا بِلَا إشْكَالٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا، فَأَرَادُوهُ عَلَى الشِّرْكِ، فَأَعْطَاهُمْ، فَانْتَهَى إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبْكِي، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَيَقُولُ: «أَخَذَك الْمُشْرِكُونَ فَغَطُّوك فِي الْمَاءِ، وَأَمَرُوك أَنْ تُشْرِكَ بِاَللَّهِ، فَفَعَلْت، فَإِنْ أَخَذُوك مَرَّةً أُخْرَى، فَافْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ الرَّجُلُ أَمِينًا عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَجَعْته، أَوْ ضَرَبْته، أَوْ أَوْثَقْته. وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُودِ فِعْلٍ يَكُونُ بِهِ إكْرَاهًا. فَأَمَّا الْوَعِيدُ بِمُفْرَدِهِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَيْسَ بِإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِالرُّخْصَةِ مَعَهُ، هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ: " أَخَذُوك فَغَطُّوك فِي الْمَاءِ ". فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا فِيمَا كَانَ مِثْلَهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْوَعِيدَ بِمُفْرَدِهِ إكْرَاهٌ. قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: حَدُّ الْإِكْرَاهِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ، أَوْ ضَرْبًا شَدِيدًا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْمَاضِيَ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَا يَنْدَفِعُ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْشَى مِنْ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ دَفْعًا لِمَا يَتَوَعَّدُهُ بِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ فِيمَا بَعْدُ، وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ مَتَى تَوَعَّدَهُ بِالْقَتْلِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ الْفِعْلُ، أَفْضَى إلَى قَتْلِهِ، وَإِلْقَائِهِ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَا يُفِيدُ ثُبُوتُ الرُّخْصَةِ بِالْإِكْرَاهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَقَعَ طَلَاقُهُ، فَيَصِلُ الْمُكْرِهُ إلَى مُرَادِهِ، وَيَقَعُ الضَّرَرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 بِالْمُكْرَهِ، وَثُبُوتُ الْإِكْرَاهِ فِي حَقِّ مَنْ نِيلَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الَّذِي تَدَلَّى يَشْتَارُ عَسَلًا، فَوَقَفْت امْرَأَتُهُ عَلَى الْحَبْلِ، وَقَالَتْ: طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَإِلَّا قَطَعْته، فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، فَقَالَتْ: لَتَفْعَلْنَ أَوْ لَأَفْعَلْنَ. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَرَدَّهُ إلَيْهَا. رَوَاهُ سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ. وَهَذَا كَانَ وَعِيدًا. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ الْإِكْرَاهِ فِي الطَّلَاق ثَلَاثَةُ أُمُورٍ] (5849) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ الْإِكْرَاهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ قَادِرٍ بِسُلْطَانِ أَوْ تَغَلُّبٍ، كَاللِّصِّ وَنَحْوِهِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: إنَّ أَكْرَهَهُ اللِّصُّ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ وَقَعَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لِأَنَّ اللِّصَّ يَقْتُلُهُ. وَعُمُومُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي دَلِيلِ الْإِكْرَاهِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَاَلَّذِينَ أَكْرَهُوا عَمَّارًا لَمْ يَكُونُوا لُصُوصًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَمَّارٍ: «إنْ عَادُوا فَعُدْ» . وَلِأَنَّهُ إكْرَاهٌ، فَمَنَعَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، كَإِكْرَاهِ اللُّصُوصِ. الثَّانِي، أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ، إنْ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَا طَلَبَهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسْتَضِرُّ بِهِ ضَرَرًا كَثِيرًا، كَالْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْقَيْدِ، وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ، فَأَمَّا الشَّتْمُ، وَالسَّبُّ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْمَالِ الْيَسِيرِ. فَأَمَّا الضَّرَرُ الْيَسِيرُ فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُبَالِي بِهِ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ، عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ إخْرَاقًا بِصَاحِبِهِ، وَغَضًّا لَهُ، وَشُهْرَةً فِي حَقِّهِ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الْكَثِيرِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَإِنْ تَوَعَّدَ بِتَعْذِيبِ وَلَدِهِ، فَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا حَقَّ بِغَيْرِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ، وَالْوَعِيدُ بِذَلِكَ إكْرَاهٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا. [فَصْلٌ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ فَطَلَّقَ غَيْرَهَا] فَصْلٌ: وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ، فَطَلَّقَ غَيْرَهَا، وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى طَلْقَةٍ، فَطَلَّقَ ثَلَاثًا، وَقَعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرَهُ عَلَى الثَّلَاثِ وَإِنْ طَلَّقَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِهَا وَغَيْرَهَا، وَقَعَ طَلَاقُ غَيْرِهَا دُونَهَا. وَإِنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الطَّلَاقِ دُونَ دَفْعِ الْإِكْرَاهِ، وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَهُ وَاخْتَارَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ، فَلَا يَبْقَى إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، فَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ. وَإِنْ طَلَّقَ، وَنَوَى بِقَلْبِهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ، أَوْ تَأَوَّلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 فِي يَمِينِهِ، فَلَهُ تَأْوِيلُهُ، يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَلِيلٌ لَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ وَقَصْدَهَا بِالطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا أَنَّهُ يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ عَلَى نِيَّتِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْضُرُهُ التَّأْوِيلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَتَفُوتُ الرُّخْصَةُ. [بَابُ تَصْرِيحِ الطَّلَاقِ وَغَيْره] ِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِلَفْظٍ، فَلَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، لَمْ يَقَعْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ طَلُقَتْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، فِي مِنْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ: أَلَيْسَ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ؟ . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالنِّيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَإِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، لَمْ يَقَعْ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ، فَاللَّفْظُ يَنْقَسِمُ فِيهِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَالْكِنَايَةُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ حَتَّى يَنْوِيَهُ، أَوْ يَأْتِيَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ. [مَسْأَلَة قَالَ قَدْ طَلَّقْتُك أَوْ قَدْ فَارَقْتُك أَوْ قَدْ سَرَّحْتُك] (5851) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ قَدْ فَارَقْتُك، أَوْ قَدْ سَرَّحْتُك. لَزِمَهَا الطَّلَاقُ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ؛ الطَّلَاقُ، وَالْفِرَاقُ، وَالسَّرَاحُ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُنَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، إلَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ لَا غَيْرُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةَ لَا تَفْتَقِرُ عِنْدَهُ إلَى النِّيَّةِ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ كَثِيرًا، فَلَمْ يَكُونَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَكَانَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ، كَلَفْظِ الطَّلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَقَالَ {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 سُبْحَانَهُ {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] وَقَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الصَّرِيحَ فِي الشَّيْءِ مَا كَانَ نَصَّا فِيهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، إلَّا احْتِمَالًا بَعِيدًا، وَلَفْظَةُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ إنْ وَرَدَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَقَدْ وَرَدَا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَفِي الْعُرْفِ كَثِيرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِفُرْقَةِ الطَّلَاقِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَرْكُ ارْتِجَاعِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ، سَابِقٌ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَلَا دَلَالَةٍ، بِخِلَافِ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ. فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، إذَا قَالَ: طَلَّقْتُك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مُطَلَّقَةٌ. وَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَإِنْ قَالَ: فَارَقْتُك. أَوْ: أَنْتِ مُفَارَقَةٌ، أَوْ سَرَّحْتُك، أَوْ أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ. فَمَنْ يَرَاهُ صَرِيحًا أَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ صَرِيحًا لَمْ يُوقِعْهُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي: فَارَقْتُك أَيْ بِجِسْمِي، أَوْ بِقَلْبِي أَوْ بِمَذْهَبِي، أَوْ سَرَّحْتُك مِنْ يَدِي، أَوْ شُغْلِي، أَوْ مِنْ حَبْسِي، أَوْ أَيْ سَرَّحْت شَعْرَك. قُبِلَ قَوْلُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي: أَنْتِ طَالِقٌ أَيْ: مِنْ وَثَاقِي. أَوْ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَقُولُ: طَلَبْتُك. فَسَبَقَ لِسَانِي، فَقُلْت: طَلَّقْتُك. وَنَحْوُ ذَلِكَ، دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَتَى عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: اسْقِينِي مَاءً. فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ. أَنَّهُ لَا طَلَاقَ فِيهِ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ غَيْرُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ وَاسِعًا. وَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِي الْحُكْمِ؟ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ، أَوْ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ، لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ فِي الطَّلَاقِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ دَعْوَاهُ مُخَالِفَةً لِلظَّاهِرِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي الْحَارِثِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ، حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو حَفْصٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقِيلَ: كَمَا لَوْ قَالَ؛ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ، هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، قَالَ: وَهِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُقْبَلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ فِي الْعُرْف، فَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَشْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفًا، أَوْ صِغَارًا، أَوْ إلَى شَهْرٍ. فَأَمَّا إِنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ: طَلَّقْتُك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 مِنْ وَثَاقِي، أَوْ فَارَقْتُك بِجِسْمِي، أَوْ سَرَّحْتُك مِنْ يَدِي. فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ يَصْرِفُهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ، فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ. أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ طَلَاقًا مَاضِيًا، أَوْ مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَعَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا يَقَعُ. وَالثَّانِي، لَا يَقَعُ. وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرَ صَرِيحَةٍ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُتَصَرِّفَةٌ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. (5852) فَصْلٌ: فَأَمَّا لَفْظَةُ الْإِطْلَاقِ، فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا عُرْفُ الشَّرْعِ، وَلَا الِاسْتِعْمَالُ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ كِنَايَاتِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهَا احْتِمَالًا، أَنَّهَا صَرِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ فَعَلْت وَأَفْعَلْت، نَحْوُ عَظَّمْته وَأَعْظَمْته، وَكَرَّمْته وَأَكْرَمْته. وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بِمُطَّرِدٍ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: حَيَّيْته مِنْ التَّحِيَّةِ، وَأَحْيَيْته مِنْ الْحَيَاةِ، وَأَصْدَقْت الْمَرْأَةَ صَدَاقًا، وَصَدَّقْت حَدِيثَهَا تَصْدِيقًا، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَقْبَلَ وَقَبِلَ، وَأَدْبَرَ وَدَبَرَ، وَأَبْصَرَ وَبَصُرَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ بِحَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ، فَيَقُولُونَ: حَمْلٌ لِمَا فِي الْبَطْنِ، وَبِالْكَسْرِ لِمَا عَلَى الظَّهْرِ، وَالْوَقْرُ بِالْفَتْحِ الثِّقَلُ فِي الْأُذُنِ، وَبِالْكَسْرِ لِثِقَلِ الْحِمْلِ. وَهَا هُنَا فَرَّقَ بَيْنَ حَلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، بِالتَّضْعِيفِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْهَمْزَةِ فِي الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا لَقِيلَ طَلَّقْت الْأَسِيرَيْنِ، وَالْفَرَسَ، وَالطَّائِرَ، فَهُوَ طَالِقٌ، وَطَلَّقْت الدَّابَّةَ، فَهِيَ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ. وَلَمْ يُسْمَعْ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ الطَّلَاقُ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهِ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْأَعْيَانُ لَا تُوصَفُ بِالْمَصَادِرِ إلَّا مَجَازًا. وَالثَّانِي، أَنَّ الطَّلَاقَ لَفْظٌ صَرِيحٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى نِيَّةٍ، كَالْمُتَصَرِّفِ مِنْهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي عُرْفِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: نَوَّهْت بِاسْمِي فِي الْعَالَمِينَ ... وَأَفْنَيْت عُمْرِي عَامًا فَعَامَا فَأَنْتِ الطَّلَاقُ وَأَنْتِ الطَّلَاقُ ... وَأَنْتِ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا تَمَامًا وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَجَازٌ. قُلْنَا: نَعَمْ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا مَحْمَلَ لَهُ يَظْهَرُ سِوَى هَذَا الْمَحْمَلِ، فَتَعَيَّنَ فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 [فَصْلٌ صَرِيحُ الطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ] (5854) فَصْلٌ: وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ بهشتم، فَإِذَا أَتَى بِهَا الْعَجَمِيُّ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ كِنَايَةٌ، لَا يُطَلِّقُ بِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ خَلَّيْتُك، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ كِنَايَةٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِلِسَانِهِمْ مَوْضُوعَةٌ لِلطَّلَاقِ، يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَتْ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ صَرِيحَةً، لَمْ يَكُنْ فِي الْعَجَمِيَّةِ صَرِيحٌ لِلطَّلَاقِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهَا بِمَعْنَى خَلَّيْتُك، فَإِنَّ مَعْنَى طَلَّقْتُك خَلَّيْتُك أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لَهُ، يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، كَانَ صَرِيحًا، كَذَا هَذِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ، كَانَتْ طَلَاقًا، كَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا فِي الْغَضَبِ أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ لَطَمَهَا فَقَالَ هَذَا طَلَاقُك] (5855) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا فِي الْغَضَبِ: أَنْتِ حُرَّةٌ، أَوْ لَطَمَهَا، فَقَالَ: هَذَا طَلَاقُك فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (5856) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، إذَا نَوَاهُ بِهِ وَقَعَ، وَلَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَا دَلَالَةِ حَالٍ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي: أَنْتَ حُرَّةٌ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ. فَأَمَّا إذَا لَطَمَهَا، وَقَالَ: هَذَا طَلَاقُك. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا كِنَايَةً، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَدِّي مَعْنَى الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَلَا حُكْمٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَك. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: أَوْقَعْت عَلَيْك طَلَاقًا، هَذَا الضَّرْبُ مِنْ أَجْلِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ هَذَا صَرِيحًا. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ مُحْتَمِلٌ لِهَذَا أَيْضًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يُوقِعُهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ، فَيَكُونُ الْغَضَبُ قَائِمًا مَقَامَ النِّيَّةِ، كَمَا قَامَ مَقَامَهَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَطْمُهُ لَهَا قَرِينَةً تَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ الْغَضَبِ، فَجَرَى مَجْرَاهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ بِالتَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِطَلَاقِك، لِكَوْنِ الطَّلَاقِ مُعَلَّقًا عَلَيْهِ، فَصَحَّ أَنْ يُعَبِّرَ بِهِ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِصَرِيحِ؛ لِأَنَّهُ احْتَاجَ إلَى تَقْدِيرٍ، وَلَوْ كَانَ صَرِيحًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لَهُ، وَلَا مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْكِنَايَاتِ. وَعَلَى قِيَاسِهِ مَا لَوْ أَطْعَمَهَا، أَوْ سَقَاهَا، أَوْ كَسَاهَا، وَقَالَ: هَذَا طَلَاقُك. أَوْ لَوْ فَعَلَتْ الْمَرْأَةُ فِعْلًا مِنْ قِيَامٍ، أَوْ قُعُودٍ، أَوْ فَعَلَ هُوَ فِعْلًا، وَقَالَ: هَذَا طَلَاقُك. فَهُوَ مِثْلُ لَطْمِهَا، إلَّا فِي أَنَّ اللَّطْمَ يَدُلُّ عَلَى الْغَضَبِ الْقَائِمِ مَقَامَ النِّيَّةِ، فَيَكُونُ هُوَ أَيْضًا قَائِمًا مَقَامَهَا فِي وَجْهٍ، وَمَا ذَكَرْنَا لَا يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 [فَصْلٌ أَتَى بِالْكِنَايَةِ فِي حَالِ الْغَضَبِ فِي الطَّلَاقِ] (5857) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا أَتَى بِالْكِنَايَةِ فِي حَالِ الْغَضَبِ، فَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ؛: إحْدَاهُمَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي: إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ. فِي الرِّضَى، لَا فِي الْغَضَبِ، فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ فِي: اعْتَدِّي، وَاخْتَارِي، وَأَمْرُك بِيَدِك. كَقَوْلِنَا فِي الْوُقُوعِ. وَاحْتَجَّا بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَنْوِهِ بِهِ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، كَحَالِ الرِّضَى، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لَا يَتَغَيَّرُ بِالرِّضَى وَالْغَضَبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ إلَّا نَادِرًا، نَحْوُ قَوْلِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَاعْتَدِّي. وَاسْتَبْرِئِي. وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك. وَأَنْتَ بَائِنٌ. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَقَعُ فِي حَالِ الْغَضَبِ. وَجَوَابُ سُؤَالِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، نَحْوُ: اذْهَبِي. وَاخْرُجِي. وَرُوحِي. وَتَقَنَّعِي. لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ فِي الْوُقُوعِ، إنَّمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ. وَهُوَ مِمَّا لَا يَسْتَعْمِلُهُ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ غَالِبًا إلَّا كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْغَضَبِ وُقُوعُ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ مَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ يُوجَدُ كَثِيرًا غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الرِّضَى، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ الْغَضَبِ، إذْ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَالتَّكَلُّمِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَلَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ، كَانَ مُجَرَّدُ ذِكْرِهِ يُظَنُّ مِنْهُ إرَادَةُ الطَّلَاقِ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَجِيئُهُ عَقِيبَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ، أَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ، قَوِيَ الظَّنُّ، فَصَارَ ظَنًّا غَالِبًا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، أَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تُغَيِّرُ حُكْمَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لَرَجُلٍ: يَا عَفِيفُ ابْنَ الْعَفِيفِ. حَالَ تَعْظِيمِهِ، كَانَ مَدْحًا لَهُ، وَإِنْ قَالَهُ فِي حَالِ شَتْمِهِ وَتَنْقُصهُ، كَانَ قَذْفًا وَذَمًّا. وَلَوْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَغْدِرُ بِذَمِّهِ، وَلَا يَظْلِمُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ، وَمَا أَحَدٌ أَوْفَى ذِمَّةً مِنْهُ. فِي حَالِ الْمَدْحِ، كَانَ مَدْحًا بَلِيغًا، كَمَا قَالَ حَسَّانُ: فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ وَلَوْ قَالَهُ فِي حَالِ الذَّمِّ كَانَ هِجَاءً قَبِيحًا، كَقَوْلِ النَّجَاشِيِّ: قَبِيلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلٍ وَقَالَ آخَرُ: كَأَنَّ رَبِّي لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ ... سِوَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إنْسَانَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 وَهَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِجَاءٌ قَبِيحٌ وَذَمٌّ، حَتَّى حُكِيَ عَنْ حَسَّانَ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ سَلَّحَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْلَا الْقَرِينَةُ وَدَلَالَةُ الْحَالِ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدْحِ وَأَبْلَغِهِ. وَفِي الْأَفْعَالِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَصْدَ رَجُلًا بِسَيْفٍ، وَالْحَالُ يَدُلُّ عَلَى الْمَزْحِ وَاللَّعِبِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، وَلَوْ دَلَّتْ الْحَالُ عَلَى الْجِدِّ، جَازَ دَفْعُهُ بِالْقَتْلِ. وَالْغَضَبُ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الطَّلَاقِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ. [فَصْلٌ أَتَى بِالْكِنَايَةِ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ] (5858) فَصْلٌ: وَإِنْ أَتَى بِالْكِنَايَةِ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَتَى بِهَا فِي حَالِ الْغَضَبِ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ. وَالْوَجْهُ لِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّوْجِيهِ، إلَّا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ هَاهُنَا، أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ، قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا قَالَ: لَمْ أَنْوِهِ. صُدِّقَ فِي ذَلِكَ، إذَا لَمْ تَكُنْ سَأَلْته الطَّلَاقَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا غَضَبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ، وَكَوْنِهِ فِي حَالِ الْغَضَبِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَنْصَرِفُ إلَى السُّؤَالِ، فَلَوْ قَالَ: لِي عِنْدَك دِينَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوْ: صَدَقْت. كَانَ إقْرَارًا بِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي أَوْ بِعْتُك ثَوْبِي هَذَا. فَقَالَ: قَبِلْت. صَحَّ وَكَفَى، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرَادَ بِالْكِنَايَةِ حَالَ الْغَضَبِ، أَوْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ غَيْرَ الطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ بِالصَّرِيحِ لَمْ يَقَعْ، فَبِالْكِنَايَةِ أَوْلَى. وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، أَنَّهُ يُصَدَّقُ إنْ كَانَ فِي الْغَضَبِ، وَلَا يُصَدَّقُ إنْ كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ. وَنُقِلَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيئَةٌ، أَوْ بَائِنٌ. وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا ذِكْرُ طَلَاقٍ وَلَا غَضَبٌ، صُدِّقَ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ مَعَ وُجُودِهِمَا. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إلَى قَوْمٍ فَقَالُوا: لَا نُزَوِّجُك حَتَّى تُطَلِّقَ امْرَأَتَك. فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْت ثَلَاثًا. فَزَوَّجُوهُ، ثُمَّ أَمْسَكَ امْرَأَته، فَقَالُوا: أَلَمْ تَقُلْ إنَّك طَلَّقْت ثَلَاثًا؟ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَطَلَّقْتهَا، ثُمَّ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَطَلَّقْتهَا، ثُمَّ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَطَلَّقْتهَا؟ فَسُئِلَ عُثْمَانُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَهُ نِيَّتُهُ. وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِيهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ، كَمَا لَوْ كَرَّرَ لَفْظًا، وَقَالَ: أَرَدْت التَّوْكِيدَ. [مَسْأَلَة الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْكِنَايَاتِ] (5859) مَسْأَلَةٌ؛ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ بَرِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ، أَوْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك، أَوْ الْحَقِي بِأَهْلِك. فَهُوَ عِنْدِي ثَلَاثٌ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُفْتِيَ بِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، كَرَاهِيَةُ الْفُتْيَا فِي هَذِهِ الْكِنَايَاتِ، مَعَ مَيْلِهِ إلَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ " عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا ثَلَاثٌ. وَالثَّانِيَةُ، يَرْجِعُ إلَى مَا نَوَاهُ. اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: يُرْجَعُ إلَى مَا نَوَى، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَلَا يَقْتَضِي عَدَدًا. وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَزِيدُهَا فِي مَهْرِهَا إنْ أَرَادَ رَجْعَتَهَا. وَلَوْ وَقَعَ ثَلَاثًا لَمْ يُبَحْ لَهُ رَجْعَتُهَا، وَلَوْ لَمْ تَبِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى زِيَادَةٍ فِي مَهْرِهَا. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ أَلْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ رُكَانَةُ: آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً. فَرَدَّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ» . قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ: مَا أَشْرَفَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنَةِ الْجَوْنِ: " الْحَقِي بِأَهْلِك ". وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُطَلِّقَ ثَلَاثًا وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْكِنَايَاتِ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَقَعُ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَقْضِي الْبَيْنُونَةَ دُونَ الْعَدَدِ، وَالْبَيْنُونَةُ بَيْنُونَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَالصُّغْرَى بِالْوَاحِدَةِ، وَالْكُبْرَى بِالثَّلَاثِ، وَلَوْ أَوْقَعْنَا اثْنَتَيْنِ كَانَ مُوجِبُهُ الْعَدَدَ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِيهِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إلَّا فِي خُلْعٍ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَالْبَيْنُونَةُ تَحْصُلُ فِي الْخُلْعِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِوَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُزَدْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي زِيَادَةً عَلَيْهَا، وَفِي غَيْرِهِمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهَا، وَوَجْهُ أَنَّهَا ثَلَاثٌ أَنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْبَتَّةِ: قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ قَوْلٌ صَحِيحٌ ثَلَاثًا. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، فِي الْبَائِنِ: إنَّهَا ثَلَاثٌ. وَرَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عَاصِمٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إنَّ ظِئْرِي هَذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَهَلْ تَجِدَانِ لَهُ رُخْصَةً؟ فَقَالَا: لَا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَسَلْهُمْ، ثُمَّ ارْجِعْ إلَيْنَا، فَأَخْبِرْنَا. فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ ثَلَاثٌ. وَذَكَرَ عَنْ عَائِشَةَ مُتَابَعَتَهُمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 وَرَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ أَلْبَتَّةَ وَاحِدَةً، ثُمَّ جَعَلَهَا بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِطَلَاقٍ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، أَوْ نَوَى الثَّلَاثَ، وَاقْتِضَاؤُهُ لِلْبَيْنُونَةِ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَتَّ الْقَطْعُ، فَكَأَنَّهُ قَطَعَ النِّكَاحَ كُلَّهُ، وَلِذَلِكَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي. وَبَتَلَهُ هُوَ الْقَطْعُ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي مَرْيَمَ الْبَتُولُ؛ لِانْقِطَاعِهَا عَنْ النِّكَاحِ. وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّبَتُّلِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنْ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ الْخَلِيَّةُ وَالْبَرِيَّةُ يَقْتَضِيَانِ الْخُلُوَّ مِنْ النِّكَاحِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ لِلَّفْظِ مَعْنَى، فَاعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ، إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَيُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْبَيْنُونَةِ بِدُونِ الثَّلَاثِ، فَوَقَعَتْ ضَرُورَةُ الْوَفَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُهُ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ وَاحِدَةٍ بَائِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ بِكِنَايَاتِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُفَرِّقُوا، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظَةٍ أَوْجَبَتْ الثَّلَاثَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، أَوْجَبَتْهَا فِي غَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَأَمَّا حَدِيثُ رُكَانَةَ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ ضَعَّفَ إسْنَادَهُ، فَلِذَلِكَ تَرَكَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِابْنَةِ الْجَوْنِ: " الْحَقِي بِأَهْلِك ". فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَا تَقْتَضِي الثَّلَاثَ، وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّفَظَاتِ الَّتِي قَالَ الصَّحَابَةُ فِيهَا بِالثَّلَاثِ، وَلَا هِيَ مِثْلُهَا، فَيُقْصَرُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْكِنَايَةَ بِالنِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ. قُلْنَا: نَعَمْ، إلَّا أَنَّ الصَّرِيحَ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثٍ تَحْصُلُ بِهَا الْبَيْنُونَةُ، وَإِلَى مَا دُونَهَا مِمَّا لَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، فَكَذَلِكَ الْكِنَايَةُ تَنْقَسِمُ كَذَلِكَ، فَمِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّرِيحِ الْمُحَصِّلِ لِلْبَيْنُونَةِ، وَهُوَ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ، وَمِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ مَا عَدَاهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (5860) فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ؛ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَذِهِ الْكِنَايَاتِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَقَوْلِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ، فَلَمْ تَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بِنِيَّةٍ؛ لِقَوْلِهِ: وَإِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَقَعَ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الصَّرِيحِ لَا يَقَعُ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَلِأَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. [فَصْلٌ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَة] (5861) فَصْلٌ: وَالْكِنَايَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ سِتَّةُ أَلْفَاظٍ؛ خَلِيَّةٌ، وَبَرِيَّةٌ، وَبَائِنٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، وَأَمْرُك بِيَدِك. الْحُكْمُ فِيهَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، أَوْ أَلْبَتَّةَ. فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ بِهَا الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك. وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا، فَهِيَ ثَلَاثٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا رَجْعَةَ فِيهَا، وَلَا مَثْنَوِيَّةَ. هَذِهِ مِثْلُ الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ ثَلَاثًا، هَكَذَا هُوَ عِنْدِي. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ قَالَ: وَلَا رَجْعَةَ لِي فِيهَا. بِالْوَاوِ، فَكَذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: تَكُونُ رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْ الطَّلْقَةَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَطَفَ عَلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّ الصِّفَةَ تَصِحُّ مَعَ الْعِطْفِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك بِعَشْرَةِ وَهِيَ مَغْرِبِيَّةٌ صَحَّ، وَكَانَ صِفَةً لِلثَّمَنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] . وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنًا أَوْ وَاحِدَةً بَتَّةً. فَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، أَنَّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَيَلْغُو مَا بَعْدَهَا. قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مُتَقَدِّمًا، إنْ نَوَى وَاحِدَةً تَكُونُ بَائِنًا وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ، فَلَغَتْ الصِّفَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَقَعُ عَلَيْك. وَالثَّانِيَةُ: هِيَ ثَلَاثٌ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي الثَّلَاثَ، فَوَقَعَ، وَلَغَا قَوْلُهُ: وَاحِدَةً. كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ثَلَاثًا. وَالثَّالِثَةُ، رَوَاهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، يَزِيدُهَا فِي مَهْرِهَا إنْ أَرَادَ رَجْعَتَهَا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَ بِهَا وَاحِدَةً بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، وَلَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً لَمَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَلَا احْتَاجَتْ إلَى زِيَادَةٍ فِي مَهْرِهَا، وَلَوْ وَقَعَ ثَلَاثٌ لَمَا حَلَّتْ لَهُ رَجْعَتُهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَرَّجُ فِي جَمِيعِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَةِ، فَوَقَعَ عَلَى مَا أَوْقَعَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَمْ يَقْتَضِ عَدَدًا، فَلَمْ يَقَعْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَحَمَلَ الْقَاضِي رِوَايَةَ حَنْبَلٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. الْقَسَمُ الثَّانِي، مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَهِيَ ضَرْبَانِ؛ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ عَشْرَةٌ؛ الْحَقِي بِأَهْلِك. وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك. وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك. وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَجٌ. وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَاذْهَبِي فَتَزَوَّجِي مَنْ شِئْت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 وَغَطِّي شَعْرَك. وَأَنْتِ حُرَّةٌ. وَقَدْ أَعْتَقْتُك. فَهَذِهِ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛: إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا ثَلَاثٌ. وَالثَّانِيَةُ، تَرْجِعُ إلَى مَا نَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَوَاحِدَةٌ، كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي، مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ، وَهِيَ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك. وَحَلَلْت لِلْأَزْوَاجِ. وَتَقَنَّعِي. وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك. فَهَذِهِ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَهَا. وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقِي بِأَهْلِك. أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَلَا تَكُونُ ثَلَاثًا إلَّا بِنِيَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنَةِ الْجَوْنِ: «الْحَقِي بِأَهْلِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُطَلِّقَ ثَلَاثًا وَقَدْ نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنَةِ الْجَوْنِ: " الْحَقِي بِأَهْلِك ". وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا غَيْرَ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُطَلِّقَ ثَلَاثًا، فَيَكُونَ غَيْرَ طَلَاقِ السُّنَّةِ. فَقَالَ: لَا أَدْرِي. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك. لَا يَخْتَصُّ الثَّلَاثَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ الْوَاحِدَةِ، كَمَا يَكُونُ مِنْ الثَّلَاثِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةِ ابْنَةِ زَمْعَةَ: اعْتَدِّي» ، فَجَعَلَهَا تَطْلِيقَةً. وَرَوَى هُشَيْمٌ أَنْبَأْنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ دَجَاجَةَ الْأَسَدِيُّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هِيَ عَلَيَّ حَرَجٌ. وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَمَّا إنَّهَا لَيْسَتْ بِأَهْوَنِهِنَّ. وَأَمَّا سَائِرُ اللَّفَظَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ ظَاهِرَةٌ؛ فَلِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك، وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك. إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَبْتُوتَةِ، أَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ وَسُلْطَانٌ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ حُرَّةٌ، أَوْ أَعْتَقْتُك. يَقْتَضِي ذَهَابَ الرِّقِّ عَنْهَا، وَخُلُوصَهَا مِنْهُ، وَالرِّقُّ هَاهُنَا النِّكَاحُ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ حَرَامٌ يَقْتَضِي بَيْنُونَتَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ. وَكَذَلِكَ: حَلَلْت لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّك بِنْتِ مِنِّي. وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ وَاحِدَةٌ. فَلِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَلَلْت لِلْأَزْوَاجِ. أَيْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِك، إذْ لَا يُمْكِنُ حِلُّهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْوَاحِدَةُ تُحِلُّهَا. وَكَذَلِكَ: انْكِحِي مَنْ شِئْت. وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ، يَتَحَقَّقُ مَعْنَاهَا بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا. الْقَسَمُ الثَّالِثُ، الْخَفِيَّةُ نَحْوُ: اُخْرُجِي. وَاذْهَبِي. وَذُوقِي. وَتَجَرَّعِي. وَأَنْتِ مُخَلَّاةٌ. وَاخْتَارِي. وَوَهَبْتُك لِأَهْلِك. وَسَائِرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَيُؤَدِّي مَعْنَى الطَّلَاقِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثٌ إنْ نَوَى ثَلَاثًا، وَاثْنَتَانِ إنْ نَوَاهُمَا، وَوَاحِدَةٌ إنْ نَوَاهَا أَوْ أَطْلَقَ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا ظَهَرَ مِنْ الطَّلَاقِ فَهُوَ عَلَى مَا ظَهَرَ، وَمَا عَنَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ عَلَى مَا عَنَى، مِثْلُ: حَبْلُك عَلَى غَارِبِك. إذَا نَوَى وَاحِدَةً، أَوْ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَمِثْلُ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك. وَإِذَا نَصَّ فِي هَاتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ، فَكَذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 سَائِرُ الْكِنَايَاتِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ اثْنَتَانِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا وَقَعَ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ. فَهِيَ كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ، لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ. وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْوَاحِدَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَغْنَاك اللَّهُ. فَهِيَ كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ: أَغْنَاك اللَّهُ بِالطَّلَاقِ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] . [فَصْلٌ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِالْكِنَايَاتِ] (5862) فَصْلٌ: وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِالْكِنَايَاتِ رَجْعِيٌّ، مَا لَمْ يَقَعْ الثَّلَاثُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كُلُّهَا بَوَائِنُ، إلَّا: اعْتَدِّي. وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك. وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، فَتَقَعُ الْبَيْنُونَةُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ صَادَفَ مَدْخُولًا بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا اسْتِيفَاءِ عَدَدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا، كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَمَا سَلَّمُوهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا تَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ قُلْنَا: فَيَنْبَغِي أَنْ تَبِينَ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَا تَبِينُ إلَّا بِثَلَاثٍ أَوْ عِوَضٍ. [فَصْلٌ مَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْفِرَاقِ] (5863) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْفِرَاقِ، كَقَوْلِهِ: اُقْعُدِي. وَقُومِي. وَكُلِي. وَاشْرَبِي. وَاقْرَبِي. وَأَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي. وَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك. وَغَفَرَ اللَّهُ لَك. وَمَا أَحْسَنَك. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَلَا تَطْلُقُ بِهِ، وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: كُلِي. وَاشْرَبِي. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَقَوْلِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ: كُلِي أَلَمَ الطَّلَاقِ. وَاشْرَبِي كَأْسَ الْفِرَاقِ. فَوَقَعَ بِهِ، كَقَوْلِنَا: ذُوقِي، وَتَجَرَّعِي. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ بِمُفْرَدِهِ إلَّا فِيمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، كَنَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19] . وَقَالَ: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . فَلَمْ يَكُنْ كِنَايَةً، كَقَوْلِهِ: أَطْعِمِينِي. وَفَارَقَ ذُوقِي. وَتَجَرَّعِي؛ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَارِهِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] . {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] . وَكَذَلِكَ التَّجَرُّعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] . فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمَا مَا لَيْسَ مِثْلَهُمَا. [فَصْلٌ قَالَ أَنَا مِنْك طَالِقٌ] (5864) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنَا مِنْك طَالِقٌ. أَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، فَقَالَتْ: أَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تَطْلُقُ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْقَاسِمِ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ النِّكَاحِ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَحَّ فِي أَحَدِهِمَا صَحَّ فِي الْآخَرِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَلَمْ يَقَعْ وَإِنْ نَوَى، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ: مِنْك. لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ كَانَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ لَوَقَعَ بِذَلِكَ، كَالْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ مَالِكٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْمَرْأَةَ مَمْلُوكَةٌ، فَلَمْ يَقَعْ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِإِضَافَةِ الْإِزَالَةِ إلَى الْمَالِكِ، كَالْعِتْقِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُطَلَّقٌ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَلَّكْت امْرَأَتِي أَمْرَهَا، فَطَلَّقَتْنِي ثَلَاثًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَطَّأَ اللَّهُ نَوَاهَا، إنَّ الطَّلَاقَ لَك وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْك. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ (5865) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ. أَوْ بَرِيءٌ. فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مَحَلٌّ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَةِ صَرِيحِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ بِإِضَافَةِ كِنَايَتِهِ إلَيْهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي، يَقَعُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ وَالْبَرَاءَةِ يُوصَفُ بِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، يُقَالُ: بَانَ مِنْهَا، وَبَانَتْ مِنْهُ. وَبَرِئَ مِنْهَا، وَبَرِئَتْ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْفُرْقَةِ يُضَافُ إلَيْهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] . وَيُقَالُ: فَارَقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَفَارَقَهَا. وَلَا يُقَالُ: طَلَّقَتْهُ. وَلَا سَرَّحَتْهُ. وَلَا تَطْلُقَا. وَلَا تُسَرَّحَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 وَإِنْ قَالَ: أَنَا بَائِنٌ. وَلَمْ يَقُلْ: مِنْك. فَذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك. فَقَالَتْ: أَنْتِ بَائِنٌ. وَلَمْ تَقُلْ: مِنِّي. أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ قَالَتْ: أَنَا بَائِنٌ. وَنَوَتْ، وَقَعَ. وَإِنْ قَالَتْ: أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ. فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ] (5866) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ لَزِمَهُ، نَوَاهُ، أَوْ لَمْ يَنْوِهِ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، بَلْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ الْقَوْلُ يَكْتَفِي فِيهِ بِهِ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، إذَا كَانَ صَرِيحًا فِيهِ، كَالْبَيْعِ. وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمَزْحَ أَوْ الْجِدَّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ جِدَّ الطَّلَاقِ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَعُبَيْدَةَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. فَأَمَّا لَفْظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ، فَيُنْبِي عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ؛ فَمَنْ جَعَلَهُ صَرِيحًا أَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ صَرِيحًا لَمْ يُوقِعْ بِهِ الطَّلَاقَ حَتَّى يَنْوِيَهُ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ. [فَصْلٌ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ] (5867) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِلطَّلَاقِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، كَالْمُكْرَهِ. فَإِنْ نَوَى مُوجِبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَقَعْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اخْتِيَارُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا لَمْ يَكْفُرْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ إذَا نَوَى مُوجِبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَفَظَ بِالطَّلَاقِ نَاوِيًا مُوجِبَهُ، فَأَشْبَهَ الْعَرَبِيَّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ: بهشتم. وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا. [فَصْلٌ قَالَ لُزُوجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ] (5868) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لُزُوجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ. أَوْ قَالَ لِحَمَاتِهِ: ابْنَتُك طَالِقٌ. وَلَهَا بِنْتٌ سِوَى امْرَأَتِهِ. أَوْ كَانَ اسْمُ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ. طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَ غَيْرِهَا. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ. لَمْ يُصَدَّقْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَقَالَ لَحْمَاتِهِ: ابْنَتُك طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت ابْنَتَك الْأُخْرَى، الَّتِي لَيْسَتْ بِزَوْجَتِي، فَقَالَ: يَحْنَثُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ، اسْمَاهُمَا فَاطِمَةُ، فَمَاتَتْ إحْدَاهُمَا، فَقَالَ: فَاطِمَةُ طَالِقٌ. يَنْوِي الْمَيِّتَةَ، فَقَالَ: الْمَيِّتَةُ تَطْلُقُ، قَالَ أَبُو دَاوُد: كَأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ فِي الْحُكْمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 وَقَالَ الْقَاضِي، فِيمَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَتِهِ، وَأَجْنَبِيَّةٍ، فَقَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ. فَهَلْ يُقْبَلُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْبَلُ هَاهُنَا، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا إذَا قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت أَجْنَبِيَّةً اسْمُهَا زَيْنَبُ. لِأَنَّ زَيْنَبَ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَجْنَبِيَّةَ بِصَرِيحِهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ عَارِضَهُ دَلِيلٌ آخِرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ غَيْرَ زَوْجَتِهِ أَظْهَرُ، فَصَارَ اللَّفْظُ فِي زَوْجَتِهِ أَظْهَرَ، فَلَمْ يُقْبَلْ خِلَافُهُ، أَمَّا إذَا قَالَ: إحْدَاهُمَا. فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَجْنَبِيَّةَ بِصَرِيحِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقْبَلُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ امْرَأَتِهِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، فَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِهَا، كَمَا لَوْ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ. عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ إحْدَاكُمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إنَّمَا يَتَنَاوَلُ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا، وَزَيْنَبُ يَتَنَاوَلُ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا، ثُمَّ تَعَيَّنَتْ الزَّوْجَةُ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ الطَّلَاقِ، وَخِطَابُ غَيْرِهَا بِهِ عَبَثٌ، كَمَا إذَا قَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ. ثُمَّ لَوْ تَنَاوَلَهَا بِصَرِيحِهِ لَكِنَّهُ صَرَفَهُ عَنْهَا دَلِيلٌ، فَصَارَ ظَاهِرًا فِي غَيْرِهَا، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: " أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ ". لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى الْكَاذِبِ مِنْهُمَا وَحْدَهُ، وَلَمَّا قَالَ حَسَّانُ، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا سُفْيَانَ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ لَمْ يَنْصَرِفْ شَرُّهُمَا إلَّا إلَى أَبِي سُفْيَان وَحْدَهُ، وَخَيْرُهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ. وَهَذَا فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَدِينُ فِيهِ، فَمَتَى عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَجْنَبِيَّةَ، لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ. وَلَوْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَتِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ، مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ بِيَمِينِهِ ظُلْمًا، أَوْ يَتَخَلَّصَ بِهَا مِنْ مَكْرُوهٍ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الصَّارِفِ إلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ زَوْجَتَهُ، وَلَا الْأَجْنَبِيَّةَ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الطَّلَاقِ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهَا وَيَصْلُحُ لَهَا، وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهَا، فَوَقَعَ بِهِ، كَمَا لَوْ نَوَاهَا. [فَصْلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ فَقَالَ يَا حَفْصَةُ فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ] (5869) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ؛ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَوْ نَوَى الْمُجِيبَةَ وَحْدَهَا، طَلُقَتْ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ دُونَ غَيْرِهَا. وَإِنْ قَالَ: مَا خَاطَبْت بِقَوْلِي: أَنْتِ طَالِقٌ. إلَّا حَفْصَةَ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً، طَلُقَتْ وَحْدَهَا. وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّ الْمُجِيبَةَ عَمْرَةُ، فَخَاطَبْتهَا بِالطَّلَاقِ، وَأَرَدْت طَلَاقَ حَفْصَةَ. طَلُقَتَا مَعًا، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْت الْمُجِيبَةَ حَفْصَةَ فَطَلَّقْتهَا. طَلُقَتْ حَفْصَةُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي عَمْرَةَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَطْلُقُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ، وَهِيَ مَحِلٌّ لَهُ، فَطَلُقَتْ، كَمَا لَوْ قَصَدَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وَالثَّانِيَةُ، لَا تَطْلُقُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَقَالَ: فُلَانَةُ أَنْتِ طَالِقٌ. فَالْتَفَتَتْ، فَإِذَا هِيَ غَيْرُ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا، قَالَ: قَالَ إبْرَاهِيمُ: يَطْلُقَانِ. وَالْحَسَنُ يَقُولُ: تَطْلُقُ الَّتِي نَوَى. قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: تَطْلُقُ الَّتِي نَوَى. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهَا بِالطَّلَاقِ، فَلَمْ تَطْلُقْ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ طَاهِرٌ. فَسَبَقَ لِسَانُهُ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ كَلَامُ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَطْلُقُ الْمُجِيبَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِالطَّلَاقِ، فَطَلُقَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهَا، وَلَا تَطْلُقُ الْمَنْوِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَمْ تَعْتَرِفْ بِطَلَاقِهَا، وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُجِيبَةَ عَمْرَةُ، فَإِنَّ الْمَنْوِيَّةَ تَطْلُقُ بِإِرَادَتِهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ بِالِاعْتِرَافِ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِمَا لَا يُوجِبُ لَا يُوجِبُ، وَلِأَنَّ الْغَائِبَةَ مَقْصُودَةٌ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَطَلُقَتْ كَمَا لَوْ عِلْمَ الْحَالَ. (5870) فَصْلٌ: وَإِنْ أَشَارَ إلَى عَمْرَةَ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَأَرَادَ طَلَاقَ عَمْرَةَ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إلَى نِدَاءِ حَفْصَةَ، طَلُقَتْ عَمْرَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِلَفْظِهِ إلَّا طَلَاقَهَا، وَإِنَّمَا سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى غَيْرِ مَا أَرَادَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَاهِرٌ. فَسَبَقَ لِسَانُهُ إلَى أَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ أَتَى بِاللَّفْظِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهَا عَمْرَةُ، طَلُقَتَا مَعًا، عَمْرَةُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، وَإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهَا، وَحَفْصَةُ بِنِيَّتِهِ، وَبِلَفْظِهِ بِهَا. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهَا حَفْصَةُ، طَلُقَتْ حَفْصَةُ، وَفِي عَمْرَةَ رِوَايَتَانِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ لَقِيَ أَجْنَبِيَّةً ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ فَقَالَ فُلَانَةُ أَنْتَ طَالِقٌ] (5871) فَصْلٌ: وَإِنْ لَقِيَ أَجْنَبِيَّةً، ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ، فَقَالَ: فُلَانَةُ أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِذَا هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِالطَّلَاقِ غَيْرَهَا، فَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَصَدَ زَوْجَتَهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَطَلُقَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَأَرَدْت طَلَاقَ زَوْجَتِي. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ زَوْجَتِهِ، احْتَمَلَ؛ وَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَصَدَ امْرَأَتَهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَطْلُقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَا ذَكَرَ اسْمَهَا مَعَهُ. وَإِنْ عَلِمَهَا أَجْنَبِيَّةً، وَأَرَادَ بِالطَّلَاقِ زَوْجَتَهُ، طَلُقَتْ. وَإِنْ لَمْ يُرِدْهَا بِالطَّلَاقِ، لَمْ تَطْلُقْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 [فَصْلٌ لَقِيَ امْرَأَتَهُ فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ] (5872) فَصْلٌ: وَإِنْ لَقِيَ امْرَأَتَهُ، فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ تَنَحِّي يَا مُطَلَّقَةُ. أَوْ لَقِيَ أَمَتَهُ، فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً، فَقَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ، أَوْ تَنَحِّي يَا حُرَّةُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، فِيمَنْ لَقِيَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: تَنَحِّي يَا مُطَلَّقَةُ، أَوْ يَا حُرَّةُ. وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا، فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ: لَا يَقَعُ بِهِمَا طَلَاقٌ وَلَا حُرِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِمَا ذَلِكَ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِمَا شَيْءٌ، كَسَبْقِ اللِّسَانِ إلَى مَا لَمْ يُرِدْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَعْتِقَ الْأَمَةُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ النَّاسِ مُخَاطَبَةُ مَنْ لَا يَعْرِفُهَا بِقَوْلِهِ: يَا حُرَّةُ. وَتَطْلُقُ الزَّوْجَةُ؛ لِعَدَمِ الْعَادَةِ بِالْمُخَاطَبَةِ بِقَوْلِهِ: يَا مُطَلَّقَةُ. [فَصْلٌ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ] (5873) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ الصَّرِيحِ؛ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ، أَوْ دَلَالَةِ حَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، وَحَرَامٌ. يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي، فِي " الشَّرْحِ ": وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الطَّلَاقِ فِي الْعُرْفِ، فَصَارَتْ كَالصَّرِيحِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ كِنَايَةٌ لَمْ تُعْرَفْ بِإِرَادَةِ الطَّلَاقِ بِهَا، وَلَا اخْتَصَّتْ بِهِ، فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بِهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ، فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ مُقَارِنَةً لِلَّفْظِ، فَإِنْ وُجِدَتْ فِي ابْتِدَائِهِ، وَعَرِيَتْ عَنْهُ فِي سَائِرِهِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَقَعُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتَ بَائِنٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ، وَعَرِيَتْ نِيَّتُهُ حِينَ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ، لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي صَاحَبَتْهُ النِّيَّةُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. وَلَنَا أَنَّ مَا تُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ يَكْتَفِي فِيهِ بِوُجُودِهَا فِي أَوَّلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَأَمَّا إنْ تَلَفَّظَ بِالْكِنَايَةِ غَيْرَ نَاوٍ، ثُمَّ نَوَى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ، وَكَمَا لَوْ نَوَى الطَّهَارَةَ بِالْغُسْلِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ قِيلَ لَهُ أَلِك امْرَأَةٌ فَقَالَ لَا وَأَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ] (5874) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَلِك امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَا. وَأَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتهَا. وَأَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ، لَزِمَهُ الطَّلَاقُ) إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إذَا أَرَادَ الْكَذِبَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا لِي امْرَأَةٌ. كِنَايَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا نَوَى الْكَذِبَ فَمَا نَوَى الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَقَعْ. وَهَكَذَا لَوْ نَوَى أَنَّهُ لَيْسَ لِي امْرَأَةٌ تَخْدُمُنِي، أَوْ تُرْضِينِي، أَوْ أَنِّي كَمَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 لَا امْرَأَةَ لَهُ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ تَطْلُقْ؛ لِعَدَمِ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْكِنَايَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ طَلَاقَهَا، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ صَحِبَتْهَا النِّيَّةُ. وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا تَطْلُقُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ هُوَ كَاذِبٌ فِيهِ، وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُحْتَمِلُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فَلَيْسَتْ لَهُ بِامْرَأَةٍ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَنْتِ بَائِنٌ. وَغَيْرَهَا مِنْ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: طَلَّقْتهَا. وَأَرَادَ الْكَذِبَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ صَرِيحٌ، يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَإِنْ قَالَ: خَلَّيْتهَا، أَوْ أَبَنْتهَا. افْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. (5875) فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ لَهُ: أَطَلَّقْت امْرَأَتك؟ فَقَالَ: نَعَمْ. أَوْ قِيلَ لَهُ: امْرَأَتُك طَالِقٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارِ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ نَعَمْ صَرِيحٌ فِي الْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ الصَّرِيحُ لِلَّفْظِ الصَّرِيحِ صَرِيحٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: أَلِفُلَانٍ عَلَيْك أَلْفٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَجَبَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْت امْرَأَتَك؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَقَالَ: أَرَدْت الْإِيقَاعَ. وَقَعَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنِّي عَلَّقْت طَلَاقَهَا بِشَرْطٍ. قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْإِخْبَارَ عَنْ شَيْءٍ مَاضٍ. أَوْ قِيلَ لَهُ: أَلَك امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتهَا. ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنِّي طَلَّقْتهَا فِي نِكَاحٍ آخَرَ. دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ وُجِدَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: حَلَفْت بِالطَّلَاقِ. أَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ. وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْحُكْمِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: حَلَفْت بِالطَّلَاقِ. وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ: هِيَ كِذْبَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُ حَلَفْت. لَيْسَ بِحَلِفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ الْحَلِفِ، فَإِذَا كَانَ كَاذِبًا فِيهِ، لَمْ يَصِرْ حَالِفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: حَلَفْت بِاَللَّهِ. وَكَانَ كَاذِبًا. وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْحُكْمِ. وَحَكَى فِي زَادِ الْمُسَافِرِ عَنْ الْمَيْمُونِي، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: حَلَفْت بِالطَّلَاقِ. وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ، يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَيُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَوْ الْوَاحِدِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ. أَيْ فِي الْحُكْمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَجَعَلَهُ كِنَايَةً عَنْهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: يُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ. أَمَّا الَّذِي قَصَدَ الْكَذِبَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 فَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّلَاقِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ كَسَائِرِ الْكِنَايَات. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ، فِي مَنْ قَالَ: حَلَفْت بِالطَّلَاقِ. وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ، فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَ زَوْجَتَهُ لِأَهْلِهَا] (5877) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ زَوْجَتَهُ لِأَهْلِهَا، فَإِنْ قَبِلُوهَا فَوَاحِدَةٌ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا فَلَا شَيْءَ) هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٌ، وَمَسْرُوقٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالنَّخَعِيّ: إنْ قَبِلُوهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنِ: إنْ قَبِلُوهَا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ: هِيَ ثَلَاثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَبِلُوهَا أَوْ رَدُّوهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا كَقَوْلِهِ فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ، قَبِلُوهَا أَوْ رَدُّوهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَاخْتَلَفَا هَاهُنَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إذَا لَمْ يَقْبَلُوهَا، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْبُضْعِ، فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبُولِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي، وَأَمْرُك بِيَدِك. وَكَالنِّكَاحِ. وَعَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي. وَعَلَى أَنَّهَا رَجْعِيَّةٌ، أَنَّهَا طَلْقَةٌ لِمَنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ، فَكَانَتْ رَجْعِيَّةً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَوْلُهُ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ. مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ، أَوْ نَوَى وَاحِدَةً، فَأَمَّا إنْ نَوَى ثَلَاثًا، أَوْ اثْنَتَيْنِ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ فَيُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ فِي عَدَدِهَا كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ، أَوْ تَكُونَ ثَمَّ دَلَالَةُ حَالٍ، لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَاتُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النِّيَّةِ كَذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ مِنْ الَّذِي يَقْبَلُ أَيْضًا، كَمَا تُعْتَبَرُ فِي اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ إذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُك بِيَدِك. إذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّ صِيغَةَ الْقَبُولِ أَنْ يَقُولَ أَهْلُهَا: قَبِلْنَاهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَالْحُكْمُ فِي هِبَتِهَا لِنَفْسِهَا، أَوْ لِأَجْنَبِيِّ، كَالْحُكْمِ فِي هِبَتِهَا لِأَهْلِهَا. [فَصْلٌ بَاعَ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِهِ] (5878) فَصْلٌ: فَإِنْ بَاعَ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَى. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَطْلُقُ، وَاحِدَةً، وَهِيَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي خُرُوجَهَا عَنْ مِلْكِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 وَلَنَا، أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ بِعِوَضٍ، وَالطَّلَاقُ مُجَرَّدُ إسْقَاطٍ لَا يَقْتَضِي الْعِوَضَ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ كَقَوْلِهِ: أَطْعِمِينِي، وَاسْقِينِي. [مَسْأَلَةٌ جَعَلَ أَمَرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا] (5879) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك. فَهُوَ بِيَدِهَا، وَإِنْ تَطَاوَلَ، مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ بِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفَوِّضَهُ إلَى الْمَرْأَةِ، وَيَجْعَلَهُ إلَى اخْتِيَارِهَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَاخْتَرْنَهُ. وَمَتَى جَعَلَ أَمَرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، فَهُوَ بِيَدِهَا أَبَدًا، لَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي: هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَا طَلَاقَ لَهَا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ لَهَا، فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْمَجْلِسِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي. وَلَنَا، قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، قَالَ: هُوَ لَهَا حَتَّى تُنَكِّلَ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَوْكِيلٍ فِي الطَّلَاقِ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، وَفَارَقَ قَوْلَهُ: اخْتَارِي. فَإِنَّهُ تَخْيِيرٌ. فَإِنْ رَجَعَ الزَّوْجُ فِيمَا جَعَلَ إلَيْهَا، أَوْ قَالَ: فَسَخْت مَا جَعَلْت إلَيْك. بَطَلَ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا ذَلِكَ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ طَلُقَتْ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ، وَكَمَا لَوْ خَاطَبَ بِذَلِكَ أَجْنَبِيًّا. وَقَوْلُهُمْ: تَمْلِيكٌ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا يَنُوبُ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْهُ، فَإِذَا اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِيهِ كَانَ تَوْكِيلًا لَا غَيْرَ، ثُمَّ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، فَالتَّمْلِيكُ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَبُولِ بِهِ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَوْكِيلٍ، وَالتَّصَرُّفُ فِيمَا وَكَّلَ فِيهِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ. وَإِنْ رَدَّتْ الْمَرْأَةُ مَا جُعِلَ إلَيْهَا بَطَلَ، كَمَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِفَسْخِ الْوَكِيلِ. (5880) فَصْلٌ: وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ، مَا لَمْ يَنْوِ بِهِ إيقَاعَ طَلَاقِهَا فِي الْحَالِ، أَوْ تُطَلِّقْ نَفْسَهَا. وَمَتَى رَدَّتْ الْأَمْرَ الَّذِي جُعِلَ إلَيْهَا، بَطَلَ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَسْرُوقٌ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إنْ رَدَّتْ، فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ، أَوْ تَمْلِيكٌ لَمْ يَقْبَلْهُ الْمُمَلَّكُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ، كَسَائِرِ التَّوْكِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 فَأَمَّا إنْ نَوَى بِهَذَا تَطْلِيقَهَا فِي الْحَالِ، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى قَبُولِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: حَبْلُك عَلَى غَارِبِك. [مَسْأَلَةٌ الْمُمَلَّكَةَ وَالْمُخَيَّرَةَ إذَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي] (5881) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي. فَوَاحِدَةٌ، تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) . وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُمَلَّكَةَ وَالْمُخَيَّرَةَ إذَا قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي. فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَهُ إيَّاهَا أَمَرَهَا يَقْتَضِي زَوَالَ سُلْطَانِهِ عَنْهَا، وَإِذَا قَبِلَتْ ذَلِكَ بِالِاخْتِيَارِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ عَنْهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الرَّجْعَةِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إذَا لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا قُبِلَ مِنْهُ، إذَا أَرَادَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي زَوَالَ سُلْطَانِهِ عَنْهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِثَلَاثٍ. وَفِي قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا يَزُولُ سُلْطَانُهُ عَنْهَا بِوَاحِدَةٍ، فَاكْتُفِيَ بِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا لَمْ تَطْلُقْ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ، وَلَا نَوَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَطْلُقْ ثَلَاثًا، كَمَا لَوْ أَتَى الزَّوْجَ بِالْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ. (5882) فَصْلٌ: وَهَذَا إذَا لَمْ تَنْوِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ نَوَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَقَعَ مَا نَوَتْ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ الثَّلَاثَ بِالتَّصْرِيحِ، فَتَمْلِكُهَا بِالْكِنَايَةِ، كَالزَّوْجِ. وَهَكَذَا إنْ أَتَتْ بِشَيْءٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ، فَحُكْمُهَا فِيهَا حُكْمُ الزَّوْجِ، إنْ كَانَتْ مِمَّا يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ مِنْ الزَّوْجِ، وَقَعَ بِهَا الثَّلَاثُ إذَا أَتَتْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ، نَحْوُ قَوْلِهَا: لَا يَدْخُلْ عَلَيَّ. وَنَحْوِهَا، وَقَعَ مَا نَوَتْ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك. فَقَالَتْ: لَا يَدْخُلْ عَلَيَّ إلَّا بِإِذْنٍ. تَنْوِي فِي ذَلِكَ، إنْ قَالَتْ: وَاحِدَةً، فَوَاحِدَةٌ، وَإِنْ قَالَتْ: أَرَدْت أَنْ أَغِيظَهُ. قُبِلَ مِنْهَا. يَعْنِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَأَتَى بِهَذِهِ الْكِنَايَاتِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ حَتَّى يَنْوِيَ الْوَكِيلُ الطَّلَاقَ. ثُمَّ إنْ طَلَّقَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ ثَلَاثًا، أَوْ بِكِنَايَةٍ ظَاهِرَةٍ. طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ بِكِنَايَةٍ خَفِيَّةٍ، وَقَعَ مَا نَوَاهُ. [فَصْلٌ قَالَ إنَّ تَكَلَّمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَكَلَّمَتْ] (5883) فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: أَمْرُك بِيَدِك. وَقَوْلُهُ: اخْتَارِي نَفْسَك كِنَايَةٌ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ أَوْ دَلَالَةِ حَالٍ، كَمَا فِي سَائِرِ الْكِنَايَاتِ، فَإِنْ عَدَمَ لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 فَيَفْتَقِرُ إلَى مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهَا. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، إنْ قَبِلَتْهُ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ إلَى نِيَّتِهَا، إذَا نَوَى الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى نِيَّتِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ تَكَلَّمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَكَلَّمَتْ، وَقَالَ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بَائِنٌ. وَإِنْ نَوَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَخْيِيرٌ، وَالتَّخْيِيرُ لَا يَدْخُلُهُ عَدَدٌ، كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ، فَافْتَقَرَ إلَى نِيَّتِهَا، كَالزَّوْجِ. وَعَلَى أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ إذَا نَوَتْ، أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَارُ نَفْسَهَا بِالْوَاحِدَةِ، وَبِالثَّلَاثِ، فَإِذَا نَوَيَاهُ وَقَعَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ. [مَسْأَلَة طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ لَمْ أَجْعَلْ إلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً] (5884) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: لَمْ أَجْعَلْ إلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَالْقَضَاءُ مَا قَضَتْ) وَمِمَّنْ قَالَ: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ عُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ نَوَى ثَلَاثًا، فَلَهَا أَنْ تَطْلُقَ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ ثَلَاثَةً، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَوَى وَاحِدَةً، فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَخْيِيرِ، فَيُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي. وَلَنَا، أَنَّهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ أَمْرِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ، فَيَتَنَاوَلُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك مَا شِئْت. وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَرَدْت وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيه اللَّفْظُ، وَلَا يَدِنْ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ تَقْتَضِي ثَلَاثًا. [مَسْأَلَةٌ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ غَيْرِهَا] (5885) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا جَعَلَهُ فِي يَدِ غَيْرِهَا) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ غَيْرِهَا، صَحَّ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ جَعَلَهُ بِيَدِهَا، فِي أَنَّهُ بِيَدِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ. وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ. وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ: أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك أَوْ قَالَ: جَعَلْت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 لَك الْخِيَارَ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِي. أَوْ قَالَ: طَلِّقْ امْرَأَتِي. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَخْيِيرٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: اخْتَارِي. وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ مُطْلَقٌ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْهَا، وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا كَالْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ إلَّا بِيَدِ مَنْ يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ، وَهُوَ الْعَاقِلُ، فَأَمَّا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ بِأَيْدِيهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ، فَطَلَّقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ. وَلَنَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُمْ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُمْ فِي الْعِتْقِ. وَإِنْ جَعَلَهُ فِي يَدِ كَافِرٍ، أَوْ عَبْدٍ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ لِنَفْسِهِ، فَصَحَّ تَوْكِيلُهُمَا فِيهِ. وَإِنْ جَعَلَهُ فِي يَدِ امْرَأَةٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَوْكِيلُهَا فِي الْعِتْقِ، فَصَحَّ فِي الطَّلَاقِ، كَالرَّجُلِ. وَإِنْ جَعَلَهُ فِي يَدِ صَبِيٍّ يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ لِزَوْجَتِهِ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ هَاهُنَا عَلَى اعْتِبَارِ وَكَالَتِهِ بِطَلَاقِهِ، فَقَالَ: إذَا قَالَ الصَّبِيُّ: طَلِّقْ امْرَأَتِي ثَلَاثًا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا حَتَّى يَعْقِلَ الطَّلَاقَ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لِهَذَا الصَّبِيِّ امْرَأَةٌ فَطَلَّقَهَا، أَكَانَ يَجُوزُ طَلَاقُهُ؟ فَاعْتَبَرَ طَلَاقَهُ بِالْوَكَالَةِ بِطَلَاقِهِ لِنَفْسِهِ. وَهَكَذَا لَوْ جَعَلَ أَمْرَ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ بِيَدِهَا، لَمْ تَمْلِكْ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي امْرَأَةٍ صَغِيرَةٍ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك. فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي. لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ مِثْلُهَا يَعْقِلُ. وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا إذَا عَقَلَتْ الطَّلَاقَ، وَقَعَ طَلَاقُهَا. وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا طَلَّقَ. وَفِي الصَّبِيِّ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي هَذِهِ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (5886) فَصْلٌ: فَإِنْ جَعَلَهُ فِي يَدِ اثْنَيْنِ، أَوْ وَكَّلَ اثْنَيْنِ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، صَحَّ، وَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الِانْفِرَادِ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِمَا جَمِيعًا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَإِنْ طَلَّقَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً، وَالْآخَرُ ثَلَاثًا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا طَلَّقَا جَمِيعًا وَاحِدَةً، مَأْذُونًا فِيهَا، فَصَحَّ لَوْ جَعَلَ إلَيْهِمَا وَاحِدَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 [فَصْلٌ فَوَّضَ أَمْرَ الطَّلَاقِ إلَى مَنْ يَمْلِكُهُ] (5887) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ: أَمْرُك بِيَدِك، وَاخْتَارِي نَفْسَك. بِالشُّرُوطِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى أَجْنَبِيٍّ، صَحَّ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا وَمُعَلَّقًا؛ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي نَفْسَك، أَوْ أَمْرُك بِيَدِك، شَهْرًا، أَوْ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك. أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك يَوْمًا. أَوْ يَقُولَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ: [إذَا] كَانَ سَنَةٌ، أَوْ أَجَلٌ مُسَمًّى. فَأَمْرُك بِيَدِك. فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ. فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَلَيْسَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْرٌ. وَقَالَ أَيْضًا: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَقَالَ لِأَبِيهَا: إنْ جَاءَك خَبَرِي إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِلَّا فَأَمْرُ ابْنَتِك إلَيْك. فَلَمَّا مَضَتْ السُّنُونَ لَمْ يَأْتِ خَبَرُهُ، فَطَلَّقَهَا الْأَبُ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ فِيمَا جَعَلَ إلَى الْأَبِ، فَطَلَاقُهُ جَائِزٌ، وَرُجُوعُهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِيمَا جَعَلَ إلَيْهِ. وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَ الطَّلَاقِ إلَى مَنْ يَمْلِكُهُ، فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ، كَالتَّوْكِيلِ الصَّرِيحِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ إلَى مَنْ فَوَّضَ إلَيْهِ، عَلَى حَسَبِ مَا جَعَلَهُ إلَيْهِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَلِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لِلرُّجُوعِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ طَلَّقَ الْوَكِيلُ وَالزَّوْجُ غَائِبٌ، كُرِهَ لِلْمَرْأَةِ التَّزَوُّجُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الزَّوْجَ رَجَعَ فِي الْوَكَالَةِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ التَّزَوُّجِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ. فَإِنْ غَابَ الْوَكِيلُ، كُرِهَ لِلزَّوْجِ الْوَطْءُ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ طَلَّقَ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَحْمَدُ أَيْضًا؛ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَحَمَلَهُ الْقَاضِي أَيْضًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: رُجُوعُهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِيمَا جَعَلَ إلَيْهِ. مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنَّهُ قَدْ رَجَعَ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ، قُبِلَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ. [مَسْأَلَةٌ التَّخْيِيرَ عَلَى الْفَوْرِ فِي الطَّلَاقِ] (5888) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ خَيَّرَهَا، فَاخْتَارَتْ فُرْقَتَهُ مِنْ وَقْتِهَا، وَإِلَّا فَلَا خِيَارَ لَهَا) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ عَلَى الْفَوْرِ، إنْ اخْتَارَتْ فِي وَقْتِهَا، وَإِلَّا فَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَهَا الِاخْتِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ، مَا لَمْ يَفْسَخَ أَوْ يَطَأْ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ «بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ لَمَّا خَيَّرَهَا: إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا، فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك.» وَهَذَا يَمْنَعُ قَصْرَهُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَهَا إلَيْهَا، فَأَشْبَهَ أَمْرُك بِيَدِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ. رَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: قَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ، أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ خِيَارُ تَمْلِيكٍ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الْقَبُولِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي، وَخِلَافُنَا فِي الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا أَمْرُك بِيَدِك، فَهُوَ تَوْكِيلٌ، وَالتَّوْكِيلُ يَعُمُّ الزَّمَانَ مَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. (5889) فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ فِي وَقْتِهَا. أَيْ عَقِيبَ كَلَامِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي كَانَا فِيهِ إلَى غَيْرِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ إلَى كَلَامٍ غَيْرِهِ، بَطَلَ خِيَارُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي. فَلَهَا الْخِيَارُ مَا دَامُوا فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ، فَإِنْ طَالَ الْمَجْلِسُ، وَأَخَذُوا فِي كَلَامٍ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ تَخْتَرْ، فَلَا خِيَارَ لَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَنَحْوِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ، فَقِيلَ عَنْهُ: إنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: الْخِيَارُ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْكَلَامِ أَنْ تُجَاوِبَهُ وَيُجَاوِبَهَا، إنَّمَا هُوَ جَوَابُ كَلَامٍ، إنْ أَجَابَتْهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ، تَأَخَّرَ قَبُولُهُ عَنْ أَوَّلِ حَالِ الْإِمْكَانِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا، فَإِنْ قَامَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ اخْتِيَارِهَا، بَطَلَ خِيَارُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا دُونَ قِيَامِهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ، فَبَطَلَ بِقِيَامِهِ، كَمَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا، أَوْ مَشَى، بَطَلَ الْخِيَارُ، وَإِنْ قَعَدَ، لَمْ يَبْطُلْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، أَنَّ الْقِيَامَ يُبْطِلُ الْفِكْرَ وَالِارْتِيَاءَ فِي الْخِيَارِ، فَيَكُونُ إعْرَاضًا، وَالْقُعُودَ بِخِلَافِهِ. وَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ، أَوْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ، لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْفِكْرَةَ. وَإِنْ تَشَاغَلَ أَحَدُهُمَا بِالصَّلَاةِ، بَطَلَ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَأَتَمَّتْهَا، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا. وَإِنْ أَضَافَتْ إلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، بَطَلَ خِيَارُهَا. وَإِنْ أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ قَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ. أَوْ سَبَّحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا، لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِعْرَاضٍ. وَإِنْ قَالَتْ: اُدْعُ لِي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا. وَإِنْ كَانَتْ رَاكِبَةً فَسَارَتْ، بَطَلَ خِيَارُهَا. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. [فَصْلٌ جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ مَتَى شَاءَتْ فِي الطَّلَاقِ] (5890) فَصْلٌ: فَإِنْ جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ مَتَى شَاءَتْ، أَوْ فِي مُدَّةٍ، فَلَهَا ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَإِذَا قَالَ: اخْتَارِي إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت. فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تُفِيدُ جَعْلَ الْخِيَارِ لَهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ. وَإِنْ قَالَ: اخْتَارِي الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ. فَلَهَا ذَلِكَ، فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الْأَوَّلِ، بَطَلَ كُلُّهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لَا تُعَجِّلِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك. وَنَحْوُهُ، فَلَهَا الْخِيَارُ عَلَى التَّرَاخِي؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خِيَارَهَا لَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ. وَإِنْ قَالَ: اخْتَارِي نَفْسَك الْيَوْمَ، وَاخْتَارِي نَفْسَك غَدًا. فَرَدَّتْهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَبْطُلْ فِي الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَبْطُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا خِيَارَانِ فِي زَمَنَيْنِ، فَلَمْ يَبْطُلْ أَحَدُهُمَا بِرَدِّ الْآخِرِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خِيَارٌ وَاحِدٌ، فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا بَطَلَ أَوَّلُهُ بَطَلَ مَا بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا خِيَارَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ خِيَارٌ وَاحِدٌ فِي يَوْمَيْنِ، وَفَارَقَ مَا إذَا قَالَ: اخْتَارِي نَفْسَك الْيَوْمَ، وَاخْتَارِي نَفْسك غَدًا. فَإِنَّهُمَا خِيَارَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُفْرَدٍ. وَلَوْ خَيَّرَهَا شَهْرًا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ خِيَارٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا الْخِيَارُ. وَلَنَا أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ مَا جَعَلَ لَهَا فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي عَقْدٍ ثَانٍ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي سِلْعَةٍ مُدَّةً، ثُمَّ فَسَخَ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِعَقْدٍ آخَرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا، أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ الْمَشْرُوطَ فِي عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ فِي عَقْدٍ سِوَاهُ، كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَالْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. فِي هَذَا كُلِّهِ، كَالْحُكْمِ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَخْيِيرٍ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُك بِيَدِك، الْيَوْمَ وَبَعْدَ الْغَدِ، فَرَدَّتْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَبْطُلْ بَعْدُ فِي غَدٍ؛ لِأَنَّهُمَا خِيَارَانِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَبْطُلْ أَحَدُهُمَا بِبُطْلَانِ الْآخِرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّمَانُ مُتَّصِلًا وَاللَّفْظُ وَاحِدًا، فَإِنَّهُ خِيَارٌ وَاحِدٌ، فَبَطَلَ كُلُّهُ بِبُطْلَانِ بَعْضِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَك الْخِيَارُ يَوْمًا. أَوْ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا. فَابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينَ نَطَقَ بِهِ إلَى مِثْلِهِ مِنْ الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِكْمَالُ يَوْمٍ بِتَمَامِهِ إلَّا بِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ شَهْرًا. فَمِنْ سَاعَةِ نَطَقَ إلَى اسْتِكْمَالِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إلَى مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ. وَإِنْ قَالَ: الشَّهْرَ. أَوْ الْيَوْمَ. أَوْ السَّنَةَ. فَهُوَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ اخْتَارِي مِنْ الثَّلَاثِ مَا شِئْت فِي الطَّلَاقِ] (5891) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لَفْظَةَ التَّخْيِيرِ لَا تَقْتَضِي بِمُطْلَقِهَا أَكْثَرَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ. قَالَ أَحْمَدُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا يَقْتَضِي زَوَالَ سُلْطَانِهِ عَنْهَا، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِالْبَيْنُونَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَا تَبِينُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ بِعِوَضٍ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْهُمْ قَالُوا: إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَهِيَ وَاحِدَةٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. رَوَاهُ النَّجَّادُ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدِهِ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتَارِي تَفْوِيضٌ مُطْلَقٌ، فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَذَلِكَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَمْ يُكَمَّلْ بِهَا الْعَدَدُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً. وَيُخَالِفُ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك، فَإِنَّهُ لِلْعُمُومِ، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَمْرِهَا، لَكِنْ إنْ جَعَلَ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَهَا مَا جَعَلَ إلَيْهَا، سَوَاءٌ جَعَلَهُ بِلَفْظِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي مَا شِئْت. أَوْ اخْتَارِي الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ إنْ شِئْت. فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ: اخْتَارِي مِنْ الثَّلَاثِ مَا شِئْت. فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهَا اخْتِيَارُ الثَّلَاثِ بِكَمَالِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَقَدْ جَعَلَ لَهَا اخْتِيَارَ بَعْضِ الثَّلَاثِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا اخْتِيَارُ الْجَمِيعِ، أَوْ جَعَلَهُ نِيَّتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِقَوْلِهِ: اخْتَارِي. عَدَدًا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى مَا نَوَاهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتَارِي كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ، فَيَرْجِعُ فِي قَدْرِ مَا يَقَعُ بِهَا إلَى نِيَّتِهِ، كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا، أَوْ اثْنَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدَةً، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا، فَطَلُقَتْ أَقَلَّ مِنْهَا، وَقَعَ مَا طَلَّقْته؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمَا جَمِيعًا، فَيَقَعُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، كَالْوَكِيلَيْنِ إذَا طَلَّقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ ثَلَاثًا. [فَصْلٌ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ رَدَّتْ الْخِيَارَ] (5892) فَصْلٌ: وَإِنْ خَيَّرَهَا، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، أَوْ رَدَّتْ الْخِيَارَ، أَوْ الْأَمْرَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ الْحَسَنِ: تَكُونُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ: فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، فَوَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: انْفَرَدَ بِهَذَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّ التَّخْيِيرَ كِنَايَةٌ نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ، فَوَقَعَ بِهَا بِمُجَرَّدِهَا، كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ. وَكَقَوْلِهِ: انْكِحِي مَنْ شِئْت. وَلَنَا، قَوْلُ عَائِشَةَ: قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَكَانَ طَلَاقًا، وَقَالَتْ: «لَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ، بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إنِّي لَمُخْبِرُك خَبَرًا، فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك. ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] . حَتَّى بَلَغَ: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] . فَقُلْت: فِي أَيِّ هَذَا اسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَا فَعَلْت. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.» قَالَ مَسْرُوقٌ: مَا أُبَالِي خَيَّرْت امْرَأَتِي وَاحِدَةً، أَوْ مِائَةً، أَوْ أَلْفًا، بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي، وَلِأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ اخْتَارَتْ النِّكَاحَ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ، كَالْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ. فَأَمَّا إنْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 فَيَفْتَقِرُ إلَى نِيَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ كِنَايَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ نَوَى أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا لَمْ يَنْوِ فَمَا فَوَّضَ إلَيْهَا الطَّلَاقَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوقِعَهُ، وَإِنْ نَوَى وَلَمْ تَنْوِ هِيَ، فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا الطَّلَاقَ، فَمَا أَوْقَعَتْهُ، فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي الطَّلَاقِ، فَلَمْ يُطَلِّقْ. وَإِنْ نَوَيَا جَمِيعًا، وَقَعَ مَا نَوَيَاهُ مِنْ الْعَدَدِ إنْ اتَّفَقَا فِيهِ، وَإِنْ نَوَى أَحَدُهُمَا أَقَلَّ مِنْ الْآخِرِ، وَقَعَ الْأَقَلُّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَلَمْ يَقَعْ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَتْ قَبِلْت] (5893) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك، أَوْ اخْتَارِي. فَقَالَتْ: قَبِلْت. لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَمْرَك بِيَدِك. تَوْكِيلٌ، فَقَوْلُهَا فِي جَوَابِهِ: قَبِلْت. يَنْصَرِفُ إلَى قَبُولِ الْوَكَالَةِ، فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك. فَقَالَ: قَبِلْت. وَقَوْلُهُ: اخْتَارِي. فِي مَعْنَاهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ: أَخَذْت أَمْرِي. نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ، إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. فَقَالَتْ: قَبِلْت. لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى تَبِينَ. وَقَالَ: إذَا قَالَتْ: أَخَذْت أَمْرِي. لَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي. فَقَالَتْ: قَبِلْت نَفْسِي. أَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي. كَانَ أَبْيَنَ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت. وَلَمْ تَقُلْ: نَفْسِي. لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ نَوَتْ. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: اخْتَارِي. وَلَمْ يَقُلْ: نَفْسَك. وَلَمْ يَنْوِهِ، لَمْ تَطْلُقْ، مَا لَمْ تَذْكُرْ نَفْسَهَا، مَا لَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ جَوَابِهَا مَا يَصْرِفُ الْكَلَامَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّفْسِيرِ، فَإِذَا عَرِيَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ قَالَتْ: اخْتَرْت زَوْجِي. أَوْ اخْتَرْت الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ. أَوْ رَدَدْت الْخِيَارَ، أَوْ رَدَدْت عَلَيْك سَفِهْتَك. بَطَلَ الْخِيَارُ. وَإِنْ قَالَتْ: اخْتَرْت أَهْلِي. أَوْ أَبَوَيَّ. وَنَوَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَصْلُحُ كِنَايَةً مِنْ الزَّوْجِ، فِيمَا إذَا قَالَ: الْحَقِي بِأَهْلِك. فَكَذَلِكَ مِنْهَا. وَإِنْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأَزْوَاجَ. فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحِلُّونَ إلَّا بِمُفَارِقَةِ هَذَا الزَّوْجِ، وَلِذَلِكَ كَانَ كِنَايَةً مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: انْكِحِي مَنْ شِئْت. (5894) فَصْلٌ: فَإِنْ كَرَّرَ، لَفْظَةَ الْخِيَارِ، فَقَالَ: اخْتَارِي، اخْتَارِي، اخْتَارِي. فَقَالَ: أَحْمَدُ إنْ كَانَ إنَّمَا يُرَدِّدُ عَلَيْهَا لِيُفْهِمَهَا، وَلَيْسَ نِيَّتُهُ ثَلَاثًا، فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِذَلِكَ ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ، فَرَدَّ الْأَمْرَ إلَى نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَبِلَتْ، وَقَعَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، فَتَكَرَّرَ، كَمَا لَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْكِيدَ، فَإِذَا قَصَدَهُ قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 لِأَنَّ تَكْرِيرَ التَّخْيِيرِ لَا يَزِيدُ بِهِ الْخِيَارُ، كَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي. فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي. هِيَ وَاحِدَةٌ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي، اخْتَارِي، اخْتَارِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا. وَنَحْوُهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ تَقْتَضِي طَلْقَةً، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ اقْتَضَتْ ثَلَاثًا، كَلَفْظَةِ الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ قَالَ لُزُوجَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك وَنَوَى عَدَدًا] (5895) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لُزُوجَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك. وَنَوَى عَدَدًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى. وَإِنْ أَطْلَقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَمْ يَمْلِكْ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ وَكَّلَ أَجْنَبِيًّا، فَقَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتِي. فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك. وَنَوَى ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ كَانَ نَوَى وَاحِدَةً، فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَكُونُ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا، فَأَيُّهُمَا نَوَاهُ فَقَدْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَنَاوَلَ الْيَقِينَ، وَهُوَ الْوَاحِدَةُ. فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك، تَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ لِلطَّلَاقِ إلَيْهَا، فَتَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي. وَلَنَا، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي الطَّلَاقِ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. وَفَارَقَ: اخْتَارِي. فَإِنَّهُ تَخْيِيرٌ. وَمَا ذَكَرَهُ يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. وَلَهَا أَنْ تُوقِعَ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ، وَبِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تُوقِعَهُ بِالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إلَيْهَا بِلَفْظِ الصَّرِيحِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُوقِعَ غَيْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الطَّلَاقَ، وَقَدْ أَوْقَعَتْهُ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ أَوْقَعَتْهُ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ. وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ فِي شَيْءٍ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إيقَاعُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ مِنْ جِهَتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ دَارِي. جَازَ لَهُ بَيْعُهَا بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي ثَلَاثًا فَطَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَقَعَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْتَثِلْ أَمَرَهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ ثَلَاثٍ، فَمَلَكَتْ إيقَاعَ وَاحِدَةٍ، كَالْمُوَكَّلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَهَبْتُك هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ. فَقَالَتْ: قَبِلْت وَاحِدًا مِنْهُمْ. صَحَّ. كَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ قَالَ: طَلِّقِي وَاحِدَةً. فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِمَا يَصْلُحُ قَبُولًا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ. فَقَالَ: قَبِلْت الْبِيعَةَ فِي جَمِيعِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 وَلَنَا، أَنَّهَا وَقَّعَتْ طَلَاقًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَغَيْرَهُ، فَوَقَعَ الْمَأْذُونُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك. فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَضَرَائِرَهَا. فَإِنْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك. فَقَالَتْ: أَنَا طَالِقٌ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ انْصَرَفَ إلَى الْمُنْجَزِ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ. وَحُكْمُ تَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الطَّلَاقِ، كَحُكْمِهَا فِيمَا مَا ذَكَرْنَاهُ كُلِّهِ. [فَصْلٌ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك طَلَاقَ السُّنَّةِ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا] (5896) فَصْلٌ: نَقَلَ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ إذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك طَلَاقَ السُّنَّةِ. قَالَتْ: قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا. هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا. إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِلَفْظٍ يَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا سِيَّمَا وَطَلَاقُ السُّنَّةِ فِي الصَّحِيحِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ. [فَصْلٌ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا بِعِوَضِ] (5897) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا بِعِوَضٍ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَا عِوَضَ لَهُ، فِي أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيمَا جَعَلَ لَهَا، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْوَطْءِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَتْ امْرَأَتُهُ: اجْعَلْ أَمْرِي بِيَدِي، وَأُعْطِيك عَبْدِي هَذَا. قَبَضَ الْعَبْدَ، وَجَعَلَ أَمَرَهَا بِيَدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَا لَمْ يَطَأْهَا أَوْ يَنْقُضْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ، وَالتَّوْكِيلُ لَا يَلْزَمُ بِدُخُولِ الْعِوَضِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ بَعُوضٍ لَا يَلْزَمُ، مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ وَأَمْرُك بِيَدِك] (5898) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ وَأَمْرُك بِيَدِك. وَقَالَتْ: بَلْ نَوَيْت. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ جَوَابَ سُؤَالٍ، أَوْ مَعَهَا دَلَالَةُ حَالٍ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ تَنْوِ الطَّلَاقَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِك. وَقَالَتْ: بَلْ نَوَيْت. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي. وَأَنْكَرَ وُجُودَ الِاخْتِيَارِ مِنْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُهُ عِلْمُهُ، وَيُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، فَادَّعَتْهُ، فَأَنْكَرَهُ. [فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَى حَرَامٌ وَأَطْلَقَ] (5899) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَأَطْلَقَ، فَهُوَ ظِهَارٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ يَمِينٌ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالُوا فِي الْحَرَامِ: يَمِينٌ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْحَلَالِ، أَشْبَهَ تَحْرِيمَ الْأَمَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلزَّوْجَةِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَوَجَبَتْ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي. فَأَمَّا إنْ نَوَى غَيْرَ الظِّهَارِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، أَنَّهُ ظِهَارٌ، نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. وَذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّهُ ظِهَارٌ؛ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالْبَتِّيُّ. رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي الْحَرَامِ، أَنَّهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَلِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِهَا، فَكَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَعَنْ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا. وَقَالَ: إذَا قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا، وَلَا أُفْتِي بِهِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا نَوَاهُ. وَنَقَلَ عَنْهُ الْبَغَوِيّ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك. فَقَالَتْ: أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ. فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ. فَجَعَلَهُ مِنْهَا كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّجُلِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَاقُ ثَلَاثٍ؛ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ نَوْعُ تَحْرِيمٍ، فَصَحَّ أَنْ يُكَنَّى بِهِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ مَعَهُ، لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ. وَنَوَى بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ إذَا قُلْنَا: إنَّ الرَّجْعَةَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا تَحْرُمُ بِهِ الزَّوْجَةُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، فَحُمِلَ عَلَى الْيَقِينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا. فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالزُّهْرِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالشَّعْبِيِّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ هُوَ كَاذِبٌ فِيهِ. وَهَذَا يَبْطُلُ بِالظِّهَارِ؛ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَقَدْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ، وَلِأَنَّ هَذَا إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَنْتِ بَائِنٌ. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا. فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَنَوَى يَمِينًا، ثُمَّ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، قَالَ: هُوَ يَمِينٌ، وَإِنَّمَا الْإِيلَاءُ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . فَجَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نَوَى يَمِينًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. تَرْكَ وَطْئِهَا، وَاجْتِنَابَهَا، وَأَقَامَ ذَلِكَ مُقَامَ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك. [فَصْل قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ] (5900) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ. فَهُوَ طَلَاقٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ. كُنْت أَقُولُ: إنَّهَا طَالِقٌ، يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. وَهَذَا كَأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ طَلَاقٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، فَلَمْ يَصِرْ طَلَاقًا بِقَوْلِهِ: أُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ. كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَكِنْ جَمَاعَةُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ. وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَكَانَ طَلَاقًا، كَمَا لَوْ ضَرَبَهَا، وَقَالَ: هَذَا طَلَاقُك. وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ، إنَّمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَالتَّحْرِيمُ يَتَنَوَّعُ إلَى تَحْرِيمٍ بِالظِّهَارِ، وَإِلَى تَحْرِيمٍ بِالطَّلَاقِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِلَفْظِهِ إرَادَةَ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَجَبَ صَرْفُهُ إلَيْهِ، وَفَارَقَ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، وَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ ذَلِكَ طَلَاقًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. ثُمَّ إنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ. أَوْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ، تَفْسِيرًا لِلتَّحْرِيمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّلَاقُ كُلُّهُ، وَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ. وَعَنْهُ: لَا يَكُونُ ثَلَاثًا حَتَّى يَنْوِيَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَكُونُ لِغَيْرِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي أَكْثَرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا. فَهُوَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا، فَيَكُونُ طَلَاقًا وَاحِدًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ؛ إذَا قَالَ: أَعْنِي طَلَاقًا. فَهِيَ وَاحِدَةٌ أَوْ اثْنَتَانِ، إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ] (5901) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، فَلَمْ يَصْلُحْ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، كَمَا لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ كِنَايَةً فِي الظِّهَارِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهٌ بِمَنْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالطَّلَاقُ يُفِيدُ تَحْرِيمًا غَيْرَ مُؤَبَّدٍ، فَلَمْ تَصْلُحْ الْكِنَايَةُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ. لَمْ يَصِرْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ الْكِنَايَةُ بِهِ عَنْهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّم وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ] (5902) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِيهِ، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ النِّيَّةُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَيَقَعُ بِهِ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ مَا نَوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ، وَهَذَا حُكْمُهَا. وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ كَظَهْرِ أُمِّي. وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَرْكَ وَطْئِهَا، لَا تَحْرِيمَهَا، وَلَا طَلَاقَهَا، فَهُوَ يَمِينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا نَوَاهُ بِهِ. وَهَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أَوْ يَمِينًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا، يَكُونُ ظِهَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَإِنَّ تَشْبِيهَهَا بِهِمَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ بِهِمَا فِي الْأَمْرِ الَّذِي اشْتَهَرَا بِهِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] . وَالثَّانِي، يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا أَتَى بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ، ثَبَتَ بِهِ أَقَلُّ الْحُكْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نُثْبِتُهُ بِالشَّكِّ، وَلَا نَزُولُ عَنْ الْأَصْلِ إلَّا بِيَقِينٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، هُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ سَوَاءً. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا بِلِسَانِهِ وَاسْتَثْنَى شَيْئًا بِقَلْبِهِ] (5903) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَهَا بِلِسَانِهِ، وَاسْتَثْنَى شَيْئًا بِقَلْبِهِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِاللَّفْظِ مِنْ قَرِينَةٍ، أَوْ اسْتِثْنَاءٍ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَا لَا يَصِحُّ نُطْقًا وَلَا نِيَّةً، وَذَلِكَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا يَرْفَعُ حُكْمَ اللَّفْظِ كُلَّهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تَلْزَمُك. أَوْ: لَا تَقَعُ عَلَيْك. فَهَذَا لَا يَصِحُّ بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ حُكْمَ اللَّفْظِ كُلَّهُ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ لَغْوًا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا فِي اللُّغَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالصِّفَةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 الضَّرْبُ الثَّانِي، مَا يُقْبَلُ لَفْظًا، وَلَا يُقْبَلُ نِيَّةً، لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ، فَهَذَا يَصِحُّ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَا يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَيَسْتَثْنِيَ بِقَلْبِهِ: إلَّا وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ. فَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ نَصٌّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِنَصِّ اللَّفْظِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ أَقْوَى مِنْ النِّيَّةِ، وَلَوْ نَوَى بِالثَّلَاثِ اثْنَتَيْنِ، كَانَ مُسْتَعْمِلًا لِلَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ فَوَقَعَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَلَغَتْ نِيَّتُهُ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا لَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ. وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ: إلَّا فُلَانَةَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نِسَائِي اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الْعُمُومُ بِإِزَاءِ الْخُصُوصِ كَثِيرًا، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ الْبَعْضَ صَحَّ، وَقَوْلُهُ: ثَلَاثًا. اسْمُ عَدَدٍ لِلثَّلَاثِ، لَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ عَدَدِ غَيْرِهَا، وَلَا يَحْتَمِلُ سِوَاهَا بِوَجْهٍ، فَإِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ اثْنَتَيْنِ، فَقَدْ أَرَادَ بِاللَّفْظِ مَالًا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنَّمَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ فَلَا، فَإِنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِهِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ، كَانَ عَمَلًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا تَعْمَلُ فِي نِكَاحٍ، وَلَا طَلَاقٍ، وَلَا بَيْعٍ. وَلَوْ قَالَ: نِسَائِي الْأَرْبَعُ طَوَالِقُ. أَوْ قَالَ لَهُنًّ: أَرْبَعَتُكُنَّ طَوَالِقُ. وَاسْتَثْنَى بَعْضَهُنَّ بِالنِّيَّةِ، لَمْ يُقْبَلْ، عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَدِينِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ، مَا يَصِحُّ نُطْقًا، وَإِذَا نَوَاهُ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِ، أَوْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ. يُرِيدُ بَعْضَهُنَّ، أَوْ يَنْوِي بِقَوْلِهِ: طَوَالِقُ. أَيْ مِنْ وَثَاقٍ، فَهَذَا يُقْبَلُ إذَا كَانَ لَفْظًا. وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ كَلَامَهُ بِمَا بَيَّنَ مُرَادَهُ، وَإِنْ كَانَ بِنِيَّتِهِ، قُبِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الْعَامِ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي الْخُصُوصِ، وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ، شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ بِنِيَّتِهِ مُنْصَرِفًا إلَى مَا أَرَادَهُ، دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ. وَهَلْ يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛: إحْدَاهُمَا، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَأَرَادَ بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ شَرْطِ هَذَا أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلَّفْظِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولُ: نِسَائِي طَوَالِقُ. يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْضَهُنَّ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ النِّيَّةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ اللَّفْظِ، فَقَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ. ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ نَوَى بِقَلْبِهِ بَعْضَهُنَّ، لَمْ تَنْفَعْهُ النِّيَّةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِهِنَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَنَوَى بَعْدَ طَلَاقِهِنَّ، أَيْ مِنْ وَثَاقٍ، لَزِمَهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَالنِّيَّةُ الْأَخِيرَةُ نِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ، لَا لَفْظَ مَعَهَا، فَلَا تَعْمَلُ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ تَخْصِيصُ حَالٍ دُونَ حَالٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ يَصِلُهُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ بَعْدَ شَهْرٍ. فَهَذَا يَصِحُّ إذَا كَانَ نُطْقًا، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ نَوَاهُ، وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، فِي مَنْ حَلَفَ لَا تَدْخُلُ الدَّارَ، وَقَالَ: نَوَيْت شَهْرًا. يُقْبَلُ مِنْهُ. أَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَنَوَى تِلْكَ السَّاعَةَ، وَذَلِكَ الْيَوْمَ. قُبِلَتْ نِيَّتُهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا تُقْبَلُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَى سَنَةٍ، تَطْلُقْ. لَيْسَ يُنْظَرُ إلَى نِيَّتِهِ. وَقَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: نَوَيْت إنْ دَخَلْت الدَّارَ. لَا يُصَدَّقُ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ، بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي الْقَبُولِ، عَلَى أَنَّهُ يَدِينِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، عَلَى الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ إرَادَةَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ شَائِعٌ كَثِيرٌ، وَإِرَادَةَ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ غَيْرُ سَائِغٍ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّخْصِيصِ. [فَصْلٌ قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ طَلَّقَنِي فَقَالَ نِسَائِيّ طَوَالِقُ] (5904) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ: طَلِّقْنِي. فَقَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ. وَلَا نِيَّةَ لَهُ، طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ عَامٌ. إنْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْ نِسَاءَك. فَقَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ. فَكَذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ السَّائِلَةَ لَا تَطْلُقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ الْعَامَ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ الْخَاصِّ، وَسَبَبُهُ سُؤَالُ طَلَاقِ مَنْ سِوَاهَا. وَلَنَا، أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِيهَا، وَلَمْ يُرَدْ بِهِ غَيْرُ مُقْتَضَاهُ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ، كَالصُّورَةِ الْأُولَى، وَالْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ خُصُوصِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّفْظُ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ فِي خُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ أَخَصَّ مِنْ السَّبَبِ، لَوَجَبَ قَصْرُهُ عَلَى خُصُوصِهِ، وَاتِّبَاعُ صِفَةِ اللَّفْظِ دُونَ صِفَةِ السَّبَبِ، فَإِنْ أَخْرَجَ السَّائِلَةَ بِنِيَّتِهِ، دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصُّورَتَيْنِ، وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ دَلِيلٌ عَلَى نِيَّتِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهَا الطَّلَاقَ لِنَفْسِهَا، فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِهِ عَنْهَا لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَلِأَنَّهَا سَبَبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 الطَّلَاقِ، وَسَبَبُ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْعُمُومِ بِالتَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَطْلُقَ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ، وَالْعَامُّ يَحْتَمِل التَّخْصِيصَ. [فَصْل قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنَّ دَخَلْت الدَّارَ] (5905) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ، لَكِنْ سَبَقَ لِسَانِي إلَى الشَّرْطِ. طَلَقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ الطَّلَاقَ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا. فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: كَذَبْتُ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ طَلَاقَهَا عِنْدَ الشَّرْطِ. دُيِّنَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً] (5906) فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: وَاسْتَثْنَى شَيْئًا بِقَلْبِهِ. يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَثْنَى بِلِسَانِهِ صَحَّ، وَلَمْ يَقَعْ مَا اسْتَثْنَاهُ. وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً. أَنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ. مِنْهُمْ؛ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَدَدِ الطَّلْقَاتِ، وَيَجُوزُ فِي الْمُطَلَّقَاتِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً. وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَلَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا فُلَانَةَ. لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ إيقَاعِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُهُ لَوْ صَحَّ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ بَاطِلٌ بِمَا سَلَّمَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمُطَلَّقَات، وَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ رَفْعًا لِمَا وَقَعَ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَا صَحَّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ، وَلَا الْإِعْتَاقِ، وَلَا فِي الْإِقْرَارِ، وَلَا الْإِخْبَارِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُرَادٍ بِالْكَلَامِ، فَهُوَ يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَقَوْلُهُ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] . عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 27] . تَبَرُّؤٌ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً. عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَتَيْنِ لَا غَيْرُ، وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ إلَّا، وَيُشَبَّهُ بِهِ أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ؛ فَالْأَسْمَاءُ غَيْرُ وَسِوَى، وَالْأَفْعَالُ لَيْسَ وَلَا يَكُونُ وَعَدَا، وَالْحُرُوفُ حَاشَا وَخَلَا، فَبِأَيِّ كَلِمَةٍ اسْتَثْنَى بِهَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ] (5907) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ. وَقَعَ ثَلَاثٌ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِقْرَارِ. وَذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا أَجَازُوهُ فِي الْقَلِيلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 مِنْ الْكَثِيرِ، وَحَكَيْنَا ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً. وَقَعَ اثْنَتَانِ. وَإِنْ قَالَ: إلَّا اثْنَتَيْنِ. وَقَعَ ثَلَاثٌ. وَإِنْ قَالَ: طَلْقَتَيْنِ إلَّا طَلْقَةً. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقَعُ طَلْقَةٌ. وَالثَّانِي، طَلْقَتَانِ؛ بِنَاءً عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ، هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ ثَلَاثٌ. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِرَفْعِ بَعْضِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ جَمِيعُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إلَّا ثَلَاثًا. وَقَعَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنْ عَادَ إلَى الْخَمْسِ، فَقَدْ اسْتَثْنَى الْأَكْثَرَ، وَإِنْ عَادَ إلَى الثَّلَاثِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، فَقَدْ رَفَعَ جَمِيعَهَا. وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ. وَإِنْ قَالَ: خَمْسًا إلَّا طَلْقَةً. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ نَطَقَ بِمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا. وَالثَّانِي، يَقَعُ اثْنَتَانِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى مَا مَلَكَهُ مِنْ الطَّلْقَاتِ، وَهِيَ الثَّلَاثُ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَلْغُو، وَقَدْ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ الثَّلَاثِ، فَيَصِحُّ، وَيَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إلَّا اثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ اثْنَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى الثَّلَاثِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً] (5908) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ الْجُمْلَة الْأَخِيرَةَ بِكَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، فَيَصِيرُ ذِكْرُهَا وَاسْتِثْنَاؤُهَا لَغْوًا، وَكُلُّ اسْتِثْنَاءٍ أَفْضَى تَصْحِيحُهُ إلَى الْغَايَةِ وَإِلْغَاءِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَطَلَ، كَاسْتِثْنَاءِ الْجَمِيعِ، وَلِأَنَّ إلْغَاءَهُ وَحْدَهُ أَوْلَى مِنْ إلْغَائِهِ مَعَ إلْغَاءِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِلْجَمِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَجْعَلُ الْجُمْلَتَيْنِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا لَوَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا إلَّا خَمْسِينَ. صَحَّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً. فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يُخَرَّجُ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، إلَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 طَلْقَةً. أَوْ قَالَ: طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا إلَّا طَلْقَةً. فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى سَوَاءً. وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِغَيْرِ وَاوٍ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إلَّا طَلْقَةً، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَرْفٌ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَكَوْنَ الطَّلْقَةِ الْأَخِيرَةِ مُفْرَدَةً عَمَّا قَبْلَهَا، فَيَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهَا وَحْدَهَا فَلَا يَصِحُّ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ إلَّا اثْنَتَيْنِ. لَمْ يَصِحّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَادَ إلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، فَهُوَ رَفْعٌ لِجَمِيعِهَا، وَإِنْ عَادَ إلَى الثَّلَاثِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، فَهُوَ رَفْعٌ لِأَكْثَرِهَا، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَجْعَلُ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ يَصِحُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعًا إلَّا اثْنَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً. احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَادَ إلَى الرَّابِعَةِ، فَقَدْ بَقِيَ بَعْدَهَا ثَلَاثٌ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْوَاحِدَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْجَمِيعِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً وَطَلْقَةً وَطَلْقَةً] (5909) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً وَطَلْقَةً وَطَلْقَةً. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ اشْتَرَاكَ الْمَعْطُوفِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا لَثَلَاثٍ مِنْ ثَلَاثٍ. وَهَذَا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي طَلْقَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَقَلَّ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، فَيَلْغُو وَحْدَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ اثْنَتَيْنِ، وَيَلْغُو فِي الثَّالِثَةِ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ جَائِزٌ. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ إلَّا طَلْقَةً وَطَلْقَةً. فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً وَنِصْفًا. احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَيْضًا؛ أَحَدُهُمَا، يَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ يُكَمَّلُ، فَيَكُونُ مُسْتَثْنِيًا لِلْأَكْثَرِ، فَيَلْغُو. وَالثَّانِي، يَصِحُّ فِي طَلْقَةٍ، فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَإِلَّا وَاحِدَةً. كَانَ عَاطِفًا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى اسْتِثْنَاءٍ، فَيَصِحُّ الْأَوَّلُ، وَيَلْغُو الثَّانِي؛ لِأَنَّنَا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَكَانَ مُسْتَثْنِيًا لِلْأَكْثَرِ، فَيَقَعُ بِهِ طَلْقَتَانِ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ أَنْ يَصِحَّ فِيهِمَا، فَتَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، إلَّا وَاحِدَةً. كَانَ مُسْتَثْنِيًا مِنْ الْوَاحِدَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ وَاحِدَةً، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْغُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي، وَيَصِحَّ الْأَوَّلُ، فَيَقَعَ بِهِ طَلْقَتَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ مَعْنَاهُ إثْبَاتُ طَلْقَةٍ فِي حَقِّهَا؛ لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا، فَيُقْبَلَ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 فِي إيقَاعِ طَلَاقِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي نَفْيِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا. وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ طَلْقَةٍ. وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ، فَكُمِّلَ النِّصْفُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يُكَمَّلْ فِي النَّفْيِ. [فَصْلٌ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً] (5910) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي الطَّلَاقِ إلَّا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً. فَإِنَّهُ يَصِحُّ إذَا أَجَزْنَا اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ، فَيَقَعُ بِهِ طَلْقَتَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَجَزْتُمْ اسْتِثْنَاءَ الِاثْنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ عَلَيْهِمَا، بَلْ وَصَلَهُمَا بِأَنْ اسْتَثْنَى مِنْهَا طَلْقَةً، فَصَارَ عِبَارَةً عَنْ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الِاثْنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُهَا، وَاسْتِثْنَاءُ الثَّلَاثِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا جَمِيعُهَا. وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً. لَمْ يَصِحَّ، وَوَقَعَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ، بَقِيَ اثْنَتَانِ، لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُمَا مِنْ الثَّلَاثِ الْأُولَى، فَيَقَعُ الثَّلَاثُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ يَلْغُو؛ لِكَوْنِهِ اسْتِثْنَاءَ الْجَمِيعِ، فَيَرْجِعُ قَوْلُهُ: إلَّا وَاحِدَةً إلَى الثَّلَاثِ الْمُثْبَتَةِ، فَيَقَعُ مِنْهَا طَلْقَتَانِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، فَإِذَا اسْتَثْنَى مِنْ الثَّلَاثِ الْمَنْفِيَّةِ طَلْقَةً، كَانَ مُثْبِتًا لَهَا، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهَا مِنْ الثَّلَاثِ الْمُثْبَتَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إثْبَاتًا مِنْ إثْبَاتٍ. وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْإِقْرَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ كَذَا] (5911) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ كَذَا، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَغِيبَ شَمْسُ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي الشَّهْرَ الْمُشْتَرَطَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فِي شَهْرٍ عَيَّنَهُ، كَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْهُ، وَذَلِكَ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ شَهْرُ شَعْبَانَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُقُوعَهُ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الِاحْتِمَالِ. وَلَنَا، أَنَّهُ جَعَلَ الشَّهْرَ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ، فَإِذَا وُجِدَ مَا يَكُونُ ظَرْفًا لَهُ طَلَقَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِذَا دَخَلَتْ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْهَا طَلَقَتْ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْضِكَ حَقَّكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ قَبْلَ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَاهُ فِي آخِرِهِ لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُمْنَعُ. وَكَذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 كُلُّ يَمِينٍ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ، يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ قَبْلَ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَلَى حِنْثٍ، لِأَنَّ الْحِنْثَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ. وَلَنَا، أَنَّ طَلَاقَهُ لَمْ يَقَعْ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ لِأَجْلِ الْيَمِينِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا فَعَلْتُ كَذَا. وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ لَوَجَبَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ. (5912) فَصْلٌ: وَمَتَى جَعَلَ زَمَنًا ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، أَوْ غَدًا، أَوْ فِي سَنَةِ كَذَا، أَوْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت فِي آخِرِهِ، أَوْ أَوْسَطِهِ، أَوْ يَوْمِ كَذَا مِنْهُ، أَوْ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. قُبِلَ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ، أَوْ غُرَّةِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي رَأْسِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ، أَوْ مَجِيءِ شَهْرِ رَمَضَانَ. طَلَقَتْ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: أَرَدْتُ أَوْسَطَهُ، أَوْ آخِرَهُ. لَا ظَاهِرًا، وَلَا بَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ. وَإِنْ قَالَ: بِانْقِضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ انْسِلَاخِهِ، أَوْ نَفَادِهِ، أَوْ مُضِيِّهِ. طَلَقَتْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ. طَلَقَتْ بِطُلُوعِ فَجْرِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ النَّهَارِ وَالْيَوْمِ. وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، أَوْ صِيَامَ يَوْمٍ، لَزِمَهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا كَانَ رَمَضَانُ، أَوْ إلَى رَمَضَانَ، أَوْ إلَى هِلَالِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، طَلَقَتْ سَاعَةَ يَسْتَهِلُّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى مِنْ السَّاعَةِ إلَى الْهِلَالِ، فَتَطْلُقُ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَجِيءِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، طَلَقَتْ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. [فَصْلٌ أُوقِعْ الطَّلَاقَ فِي زَمَنٍ أَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةِ] (5913) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي زَمَنٍ، أَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ، تَعَلَّقَ بِهَا، وَلَمْ يَقَعْ حَتَّى تَأْتِيَ الصِّفَةُ وَالزَّمَنُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ، تَأْتِي لَا مَحَالَةَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلَ رَمَضَانُ. طَلَقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ مُؤَقَّتًا بِزَمَانٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا شَهْرًا. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى رَأْسِ السَّنَةِ. قَالَ: يَطَأُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ السَّنَةِ. وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَاتِ، فَمَتَى عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهَا، كَالْعِتْقِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوهُ. وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ بُقُولِ أَبِي ذَرٍّ: إنَّ لِي إبِلًا يَرْعَاهَا عَبْدٌ لِي، وَهُوَ عَتِيقٌ إلَى الْحَوْلِ. وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ بِصِفَةٍ لَمْ تُوجَدْ، فَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ. وَلَيْسَ هَذَا تَوْقِيتًا لِلنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيتٌ لِلطَّلَاقِ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ، كَمَا أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، وَالطَّلَاقُ يَجُوزُ فِيهِ التَّعْلِيقُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرِ كَذَا أَوْ سَنَةِ] فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرِ كَذَا، أَوْ سَنَةِ كَذَا. فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ سَنَةِ كَذَا. وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي أَوَّلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. إيقَاعٌ فِي الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: إلَى شَهْرِ كَذَا. تَأْقِيت لَهُ غَايَةٌ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ، فَبَطَلَ التَّأْقِيتُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ أَبِي ذَرٍّ، وَلِأَنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيتًا لِإِيقَاعِهِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنَا خَارِجٌ إلَى سَنَةٍ. أَيْ بَعْدَ سَنَةٍ. وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ. وَقَدْ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ جَعَلَ لِلطَّلَاقِ غَايَةً، وَلَا غَايَةَ لِآخِرِهِ، وَإِنَّمَا الْغَايَةُ لِأَوَّلِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَمَلٌ بِالْيَقِينِ، وَمَا ذَكَرُوهُ أَخْذٌ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْحَالِ إلَى سَنَةِ كَذَا. وَقَعَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ، وَلَفْظُهُ يَحْتَمِلُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ الْيَوْمِ إلَى سَنَةٍ. طَلَقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ طَلَاقَهَا مِنْ الْيَوْمِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ عَقْدَ الصِّفَةِ مِنْ الْيَوْمِ، وَوُقُوعَهُ بَعْدَ سَنَةٍ. لَمْ يَقَعْ إلَّا بَعْدَهَا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت تَكْرِيرَ وُقُوعِ طَلَاقِهَا مِنْ حِينِ لَفَظْتُ بِهِ إلَى سَنَةٍ، طَلَقَتْ مِنْ سَاعَتِهَا ثَلَاثًا، إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ الْيَوْمِ إلَى سَنَةٍ. يُرِيدُ التَّوْكِيدَ، وَكَثْرَةَ الطَّلَاقِ، فَتِلْكَ طَالِقٌ مِنْ سَاعَتِهَا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ] (5915) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ. طَلَقَتْ فِي آخِرِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُهُ، وَإِنْ قَالَ: فِي أَوَّلِ آخِرِهِ، طَلَقَتْ فِي أَوَّلِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ آخِرُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْأُولَى: تَطْلُقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ. وَفِي الثَّانِيَةِ: تَطْلُقُ بِدُخُولِ أَوَّلِ لَيْلَةِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ نِصْفَانِ، أَوَّلٌ، وَآخِرٌ، فَآخِرُ أَوَّلِهِ يَلِي أُولَ آخِرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ كَقَوْلِنَا، وَهُوَ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 مَا عَدَا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ لَا يُسَمَّى أُولَ الشَّهْرِ، وَيَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُسَمَّى أَوْسَطُ الشَّهْرِ آخِرَهُ وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُصْرَفَ كَلَامُ الْحَالِفِ إلَيْهِ، وَلَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ قَالَ إذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5916) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: إذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى سَنَةٍ. فَإِنَّ ابْتِدَاءَ السَّنَةِ مِنْ حِينِ حَلَفَ إلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . فَإِنْ حَلَفَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ، فَإِذَا مَضَى اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وَقَعَ طَلَاقُهُ. وَإِنْ حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ، عَدَدْتَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، ثُمَّ حَسَبْتَ بَعْدُ بِالْأَهِلَّةِ، فَإِذَا مَضَتْ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا نَظَرْتَ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَكَمَّلَتْهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ هِلَالَيْنِ. فَإِنْ تَفَرَّقَ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخِرُ، أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ كُلُّهَا بِالْعَدَدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَاعْتَرَضَ الْأَيَّامُ. قَالَ: يَصُومُ سِتِّينَ يَوْمًا. وَإِنْ ابْتَدَأَ مِنْ شَهْرٍ، فَصَامَ شَهْرَيْنِ، فَكَانَا ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، أَجْزَأَهُ؛ وَذَلِكَ إنَّهُ لَمَّا صَامَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَجَبَ تَكْمِيلُهُ مِنْ الَّذِي يَلِيهِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ الثَّانِي مِنْ نِصْفِهِ أَيْضًا، فَوَجَبَ أَنْ يُكَمِّلَهُ بِالْعَدَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي السَّنَةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ أَحَدَ عَشَرَ بِالْأَهِلَّةِ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ بِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُتِمَّ الْأَوَّلَ مِنْ الثَّانِي، بَلْ يُتِمُّهُ مِنْ آخِرِ الشُّهُورِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: سَنَةً. إذَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ. قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ. وَإِنْ قَالَ: إذَا مَضَتْ السَّنَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ بِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَرَّفَهَا فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ، انْصَرَفَتْ إلَى السَّنَةِ الْمَعْرُوفَةِ، الَّتِي آخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. قُبِلَ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ اسْمٌ لَهَا حَقِيقَةً. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ طَلْقَةً] (5917) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، فِي كُلِّ سَنَةٍ طَلْقَةً. فَهَذِهِ صِفَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ صِفَةً، جَازَ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ عَقِيبَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَجَلٍ ثَبَتَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، ثَبَتَ عَقِيبَهُ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُكِ سَنَةً. فَيَقَعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّنَةَ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ، فَتَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ فِي أَوَّلِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةُ فِي أَوَّلِ الثَّالِثَةِ، إنْ دَخَلَتَا عَلَيْهَا وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ، لِكَوْنِهَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، أَوْ ارْتَجَعَهَا فِي عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى وَعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ أَنْ بَانَتْ، فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَبَانَتْ مِنْهُ، وَدَخَلَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَائِنٌ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِكَوْنِهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ لَهُ. فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي أَثْنَائِهَا، اقْتَضَى قَوْلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَقِيبَ تَزْوِيجِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي جَعَلَهَا ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ، وَمَحَلًّا لَهُ، وَكَانَ سَبِيلُهُ أَنْ تَقَعَ فِي أَوَّلِهَا، فَمَنَعَ مِنْهُ كَوْنُهَا غَيْرَ مَحَلٍّ لِطَلَاقِهِ؛ لِعَدَمِ نِكَاحِهِ حِينَئِذٍ، فَإِذَا عَادَتْ الزَّوْجِيَّةُ، وَقَعَ فِي أَوَّلِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَطْلُقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ. وَعَلَى قَوْلِ التَّمِيمِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، تَنْحَلُّ الصِّفَةُ بِوُجُودِهَا فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَا تَعُودُ بِحَالٍ. وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا حَتَّى دَخَلْت السَّنَةُ الثَّالِثَةُ، ثُمَّ نَكَحَهَا، طَلَقَتْ عَقِيبَ تَزْوِيجِهَا، ثُمَّ طَلَقَتْ الثَّالِثَةَ بِدُخُولِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، لَا تَطْلُقُ إلَّا بِدُخُولِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ تَطْلُقُ الثَّالِثَةَ بِدُخُولِ الْخَامِسَةِ. وَعَلَى قَوْلِ التَّمِيمِيِّ، قَدْ انْحَلَّتْ الصِّفَةُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَبْدَإِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، أَنَّ أَوَّلَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ حِينِ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ حِينَ يَمِينِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ابْتِدَاءُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوَّلُ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّهَا السَّنَةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَإِذَا عَلَّقَ مَا يَتَكَرَّرُ عَلَى تَكَرُّرِ السِّنِينَ، انْصَرَفَ إلَى السِّنِينَ الْمَعْرُوفَةِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} [التوبة: 126] . وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؛ قُبِلَ؛ لِأَنَّهَا سَنَةٌ حَقِيقَةً. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت أَنَّ ابْتِدَاءَ السِّنِينَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ مِنْ الْمُحَرَّمِ. دُيِّنَ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا رَأَيْت هِلَالَ رَمَضَان] (5918) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا رَأَيْتُ هِلَالَ رَمَضَانَ طَلَقَتْ بِرُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَطْلُقُ إلَّا أَنْ يَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى رُؤْيَةِ زَيْدٍ. وَلَنَا، أَنَّ الرُّؤْيَةَ لِلْهِلَالِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ الْعِلْمُ بِهِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالِ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا» . وَالْمُرَادُ بِهِ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ، فَانْصَرَفَ لَفْظُ الْحَالِفِ إلَى عُرْفِ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا صَلَّيْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا إلَى الدُّعَاءِ. وَفَارَقَ رُؤْيَةَ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، لَكِنْ ثَبَتَ الشَّهْرُ بِتَمَامِ الْعَدَدِ طَلَقَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ طُلُوعَهُ بِتَمَامِ الْعَدَدِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إذَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي. قُبِلَ؛ لِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ حَقِيقَةً. وَتَتَعَلَّقُ الرُّؤْيَةُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَإِنْ رَأَى قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ هِلَالَ الشَّهْرِ مَا كَانَ فِي أَوَّلِهِ، وَلِأَنَّنَا جَعَلْنَا رُؤْيَةَ الْهِلَالِ عِبَارَةً عَنْ دُخُولِ أَوَّلِ الشَّهْرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقْ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى رُؤْيَةً، وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إذَا رَأَيْتُهُ أَنَا بِعَيْنِي. فَلَمْ يَرَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 حَتَّى أَقْمَرَ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيس بِهِلَالٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ قَمَرًا، فَقِيلَ: بَعْدَ ثَالِثَةٍ. وَقِيلَ: إذَا اسْتَدَارَ. وَقِيلَ: إذَا بَهَرَ ضَوْءُهُ. [فَصْل قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ] (5919) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. يَعْتَزِلُهَا إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَقَبْلَ الْعَشْرِ، أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَهَا فِي السَّبْعَ عَشْرَةَ، إلَّا أَنَّ الْمُثْبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. إنَّمَا أَمَرَهُ بِاجْتِنَابِهَا فِي الْعَشْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ حِنْثُهُ إلَى آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ هِيَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. [فَصْلٌ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ] (5920) فَصْلٌ: وَإِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، ثُمَّ قَالَ: عَجَّلْتُ لَك تِلْكَ الطَّلْقَةَ. لَمْ تَتَعَجَّلْ؛ لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَى تَغْيِيرِهَا سَبِيلٌ. وَإِنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ طَلَاقٍ سِوَى تِلْكَ الطَّلْقَةِ، وَقَعَتْ بِهَا طَلْقَةٌ، فَإِذَا جَاءَ الزَّمَنُ الَّذِي عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِهِ، وَهِيَ فِي حِبَالِهِ، وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إذَا قَدِمَ زَيْدٌ] (5921) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إذَا قَدِمَ زَيْدٌ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَقْدَمَ؛ لِأَنَّ إذَا اسْمُ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَمَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقْتَ قُدُومِ زَيْدٍ. وَإِنْ لَمْ يَقْدَمْ زَيْدٌ فِي غَد لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ طَلَاقَهَا بِقُدُومِ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، فَلَا تَطْلُقُ حَتَّى تُوجَدَ. وَإِنْ مَاتَتْ غَدْوَةً. وَقَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهَا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَوْقَعَ طَلَاقَهَا فِيهِ لَمْ يَأْتِ، وَهِيَ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ، فَلَمْ تَطْلُقْ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ دُخُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ. فَقَدِمَ لَيْلًا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ، فَتَطْلُقْ وَقْتَ قُدُومِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ يُسَمَّى يَوْمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] . وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ غَدْوَةً، وَقَدِمَ زَيْدٌ ظُهْرًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، نَتَبَيَّنُ أَنَّ طَلَاقَهَا وَقَعَ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. طَلَقَتْ مِنْ أَوَّلِهِ فَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ. فَيَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ بِطُلُوعِ فَجْرِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ قُدُومُ زَيْدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَقَعْ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ مَجِيءُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَهَا هُنَا شَرْطَانِ، فَلَا يُؤْخَذُ بِأَحَدِهِمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا، إنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ مُعَرَّفًا بِفِعْلٍ يَقَعُ فِيهِ، فَيَقَعُ فِي أَوَّلِهِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ الَّذِي نُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ زَيْدٌ. فَكَذَلِكَ. وَلَوْ مَاتَ الرَّجُلُ غَدْوَةً، ثُمَّ قَدِمَ زَيْدٌ، أَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ. فَقَدِمَ فِيهِ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ؛ لِأَنَّ قُدُومَهُ شَرْطٌ، فَلَا يَتَقَدَّمُهُ الْمَشْرُوطُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ. فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ قَبْلَ قُدُومِهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَكَمَا لَوْ قَالَ: إذَا قَدِمَ زَيْدٌ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. [فَصْل قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَطَالِقٌ غَدًا] (5922) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَطَالِقٌ غَدًا. طَلَقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَقَتْ الْيَوْمَ فَهِيَ طَالِقٌ غَدًا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ تَطْلُقَ الْيَوْمَ، وَتَطْلُقَ غَدًا. طَلَقَتْ طَلْقَتَيْنِ فِي الْيَوْمَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ. طَلَقَتْ الْيَوْمَ، وَلَمْ تَطْلُقْ غَدًا، لِأَنَّهُ جَعَلَ الزَّمَانَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ فِي أَوَّلِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت نِصْفَ طَلْقَةٍ الْيَوْمَ وَنِصْفَ طَلْقَةٍ غَدًا، طَلَقَتْ الْيَوْمَ وَاحِدَةً، وَأُخْرَى غَدًا؛ لِأَنَّ النِّصْفَ يُكَمَّلُ فَيَصِيرُ طَلْقَةً تَامَّةً. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت نِصْفَ طَلْقَةٍ الْيَوْمَ وَبَاقِيَهَا غَدًا. احْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَطْلُقَ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: نِصْفَهَا، كُمِّلَتْ الْيَوْمَ كُلُّهَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا بَقِيَّةٌ تَقَعُ غَدًا، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْقَعَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الِاحْتِمَالَ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، ذَكَرَ أَصْحَابُهُ فِيهَا الْوَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ] (5923) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ. فَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ مُحَالٍ، فَلَغَا الشَّرْطُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. كَمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ لَا سُنَّة لِطَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَة: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ فِي " الْمُجَرَّدِ ": لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ إذَا جَاءَ غَدٌ فِي الْيَوْمِ، وَلَا يَأْتِي غَدٌ إلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْيَوْمِ وَذَهَابِ مَحَلِّ الطَّلَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أُمْسِ وَلَا نِيَّة لَهُ] (5924) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلْقَةَ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ، فَلَغَتْ الصِّفَةُ، وَوَقَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ لَا سُنَّةَ لَهَا وَلَا بِدْعَة: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تَلْزَمُكِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ الِاسْتِبَاحَةِ، وَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِيَوْمَيْنِ. فَقَدِمَ الْيَوْمَ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا طَلَاقٌ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمُسْتَحِيلٍ فَلَغَا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَلَبْت الْحَجَرَ ذَهَبًا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ. فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. قَالَ الْقَاضِي: وَرَأَيْتُ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ، فِي " جُزْءٍ مُفْرَدٍ "، أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ. طَلَقَتْ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ أَمْسِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ، وَقَبْلَ تَزْوِيجِهَا مُتَصَوِّرُ الْوُجُودِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا، وَهَذَا الْوَقْتُ قَبْلَهُ، فَوَقَعَ فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ. وَإِنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أُمْسِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ. إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، مُسْتَنِدًا إلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَعَ فِي الْحَالِ. وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا هُوَ، أَوْ زَوْجٌ قَبْلَهُ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَكَانَ قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ، وَقَعَ طَلَاقُهُ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقْبَلُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْوُجُودَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنِّي كُنْتُ طَلَّقْتُك أَمْسِ. فَكَذَّبَتْهُ، لَزِمَتْهُ الطَّلْقَةُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِهَا؛ لِأَنَّهَا اعْتَرَفَتْ أَنَّ أَمْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِدَّتِهَا. وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُطَلِّقِ، إنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. لَمْ يَلْزَمْهُ هَاهُنَا شَيْءٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوعِهِ ثَمَّ، وَقَعَ هَاهُنَا. [فَصْلٌ قَالَ لَزّ وَجَتْهُ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرِ] (5925) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ. فَقَدِمَ بَعْدَ شَهْرٍ وَجُزْءٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ قَبْلَ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ بَعْدَ عَقْدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ قُدُومِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّهْرَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَسْبِقُ الطَّلَاقُ شَرْطَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي زَمَنٍ عَلَى صِفَةٍ، فَإِذَا حَصَلَتْ الصِّفَةُ وَقَعَ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ مَوْتِكَ بِشَهْرٍ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَاصَّةً يُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَلَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّهْرَ شَرْطًا، وَلَيْسَ فِيهِ حَرْفُ شَرْطٍ. وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ، لَمْ يَقَعْ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى صِفَةٍ كَانَ وُجُودُهَا مُمْكِنًا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا. وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ مَعَ مُضِيِّ الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ جُزْءٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ. فَإِنْ خَالَعَهَا بَعْدَ تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِيَوْمٍ، ثُمَّ قَدِمَ زَيْدٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 بَعْدَ الْخُلْعِ بِشَهْرٍ وَسَاعَةٍ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْخُلْعَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَهَا بَائِنًا. وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ عَقْدِ الصِّفَةِ بِشَهْرٍ وَسَاعَةٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَبَطَلَ الْخُلْعُ، وَلَهَا الرُّجُوعُ بِالْعِوَضِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُهَا. وَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ عَقْدِ الصِّفَةِ بِيَوْمٍ، ثُمَّ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ شَهْرٍ وَسَاعَةٍ مِنْ حِينِ عَقْدِ الصِّفَةِ، لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ قَدْ وَقَعَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَرِثْهُ صَاحِبُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّوَارُثَ، مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. فَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ وَسَاعَةٍ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ. فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي الْمَاضِي. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِشَهْرٍ وَسَاعَةٍ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَلَمْ يَتَوَارَثَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَيَمُوتَ فِي عِدَّتِهَا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي. وَلَمْ يَزِدْ شَيْئًا، طَلَقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ مَوْتِهِ مِنْ حِينِ عَقْدِ الصِّفَةِ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ، فَوَقَعَ فِي أَوَّلِهِ. وَإِنْ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِكَ أَوْ مَوْتِ زَيْدٍ. فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ، أَوْ قَبْلَ دُخُولِكِ الدَّارَ. فَقَالَ الْقَاضِي: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَقْدَمْ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] وَلَمْ يُوجَدْ الطَّمْسُ فِي الْمَأْمُورِينَ. وَلَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اسْقِنِي قَبْلَ أَنْ أَضْرِبَكَ. فَسَقَاهُ فِي الْحَالِ، عُدَّ مُمْتَثِلًا وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قُبَيْلَ مَوْتِي، أَوْ قُبَيْلَ قُدُومِ زَيْدٍ. لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الَّذِي يَلِي الْمَوْتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصْغِيرٌ يَقْتَضِي الْجُزْءَ الْيَسِيرَ الَّذِي يَبْقَى. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو بِشَهْرٍ. فَقَالَ الْقَاضِي: تَتَعَلَّقُ الصِّفَةُ بِأَوَّلِهِمَا مَوْتًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالثَّانِي يُفْضِي إلَى وُقُوعِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ، وَاعْتِبَارُهُ بِالْأَوَّلِ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5926) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِذَا طَلَّقَهَا لَزِمَهُ اثْنَتَانِ، إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، لَزِمَتْهُ وَاحِدَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: إذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَأُخْرَى بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَطْلِيقَهَا شَرْطًا لِوُقُوعِ طَلَاقِهَا، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا تُمْكِنُ رَجْعَتُهَا، فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا إلَّا بَائِنًا، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِبَائِنٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 (5927) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِقَوْلِي هَذَا، أَنَّكِ تَكُونِينَ طَالِقًا بِمَا أَوْقَعْتُهُ عَلَيْكِ. وَلَمْ أُرِدْ إيقَاعَ طَلَاقٍ سِوَى مَا بَاشَرْتُكِ بِهِ. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُقْبَلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ بِشَرْطِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ إخْبَارَهُ إيَّاهَا بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ بِهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ أَرَدْتُ بِالثَّانِي التَّأْكِيدَ أَوْ إفْهَامَهَا. [فَصْلٌ قَالَ إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5928) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ، طَلَقَتْ بِخُرُوجِهَا، ثُمَّ طَلَقَتْ بِالصِّفَةِ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا بَعْدَ عَقْدِ الصِّفَةِ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلًا: إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ، طَلَقَتْ بِالْخُرُوجِ، وَلَمْ تَطْلُقْ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِطَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُحْدِثْ عَلَيْهَا طَلَاقًا؛ لِأَنَّ إيقَاعَهُ الطَّلَاقَ بِالْخُرُوجِ كَانَ قَبْلَ تَعْلِيقِهِ الطَّلَاقَ بِتَطْلِيقِهَا، فَلَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، فَلَمْ يَقَعْ. وَإِنْ قَالَ: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ، طَلَقَتْ بِالْخُرُوجِ، ثُمَّ تَطْلُقُ الثَّانِيَةَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا. [فَصْل قَالَ لَهَا كَلَّمَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5929) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهَذَا حَرْفٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا قَالَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَعَ بِهَا طَلْقَتَانِ، إحْدَاهُمَا بِالْمُبَاشَرَةِ، وَالْأُخْرَى بِالصِّفَةِ. وَلَا تَقَعُ ثَالِثَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمْ تَقَعْ بِإِيقَاعِهِ بَعْدَ عَقْدِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك. يَقْتَضِي كُلَّمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ الطَّلَاقَ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَجْدِيدَ إيقَاعِ طَلَاقٍ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الثَّانِيَةُ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ عَقْدِ الصِّفَةِ: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ، طَلَقَتْ بِالْخُرُوجِ طَلْقَةً، وَبِالصِّفَةِ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا، وَلَمْ تَقَعْ الثَّالِثَةُ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا أَوْقَعْت عَلَيْكِ طَلَاقًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ، أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ بِصِفَةٍ عَقَدَهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: إذَا أَوْقَعْت عَلَيْك طَلَاقًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ مِنْهُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا بِشَرْطٍ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَهُوَ الْمُوقِعُ لِلطَّلَاقِ عَلَيْهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ وَقَعَتْ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ بِصِفَةٍ عَقَدَهَا قَبْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، طَلَقَتْ ثَلَاثًا. فَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ خَرَجَتْ، وَقَعَتْ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بِالْخُرُوجِ، ثُمَّ وَقَعْت الثَّانِيَةُ بِوُقُوعِ الْأُولَى، ثُمَّ وَقَعْت الثَّالِثَةُ بِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَدْ عَقَدَ الصِّفَةَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَكَيْفَمَا وَقَعَ يَقْتَضِي وُقُوعَ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ ثَلَاثًا؛ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ، وَاثْنَتَيْنِ بِالصِّفَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَطْلِيقَهُ لَهَا يَشْتَمِلُ عَلَى الصِّفَتَيْنِ؛ هُوَ تَطْلِيقٌ مِنْهُ، وَهُوَ وُقُوعُ طَلَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ بِالْمُبَاشَرَةِ وَاحِدَةً، فَتَطْلُقُ الثَّانِيَةَ بِكَوْنِهِ طَلَّقَهَا، وَذَلِكَ طَلَاقٌ مِنْهُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، فَتَطْلُقُ بِهِ الثَّالِثَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ هَذَا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. [فَصْلٌ قَالَ كَلَّمَا طَلَّقْتُك طَلَاقًا أَمْلِكُ فِيهِ رَجْعَتك فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5930) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك طَلَاقًا أَمْلِكُ فِيهِ رَجْعَتَكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ اثْنَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا بِالْمُبَاشَرَةِ. وَالْأُخْرَى بِالصِّفَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةُ بِعِوَضٍ، أَوْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، فَلَا تَقَعُ بِهَا ثَانِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَبِينُ بِالطَّلْقَةِ الَّتِي بَاشَرَهَا بِهَا، فَلَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ، طَلَقَتْ الثَّالِثَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قِيلَ: تَطْلُقُ، وَقِيلَ: لَا تَطْلُقُ. وَاخْتِيَارِي أَنَّهَا تَطْلُقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا تَطْلُقُ الثَّالِثَةَ؛ لِأَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَاهَا، لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ طَلَاقِهَا، فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى الدَّوْرِ، فَيَقْطَعُهُ بِمَنْعِ وُقُوعِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ لَمْ يُكَمَّلْ بِهِ الْعَدَدُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي مَدْخُولٍ بِهَا، فَيَقَعُ بِهَا الَّتِي بَعْدَهَا كَالْأُولَى، وَامْتِنَاعُ الرَّجْعَةِ هَاهُنَا لِعَجْزِهِ عَنْهَا، لَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ عَقِيبَهَا، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ تَقَعُ، وَإِنْ امْتَنَعْت الرَّجْعَةُ؛ لِعَجْزِهِ عَنْهَا. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ، أَوْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، لَمْ يَقَعْ بِهَا إلَّا الطَّلْقَةُ الَّتِي بَاشَرَهَا بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقٌ أَمْلِكُ فِيهِ رَجْعَتَك، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ صِفَةٍ، طَلَقَتْ ثَلَاثًا. وَعِنْدَهُمْ لَا تَطْلُقُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا طَلَّقْتُك طَلَاقًا أَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. ثُمَّ طَلَّقَهَا، طَلَقَتْ ثَلَاثًا. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا تَطْلُقُ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ قَالَ لُزُوجَتِهِ إذَا طَلَّقْتُك أَوْ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا] فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لُزُوجَتِهِ: إذَا طَلَّقْتُك، أَوْ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا. فَلَا نَصَّ فِيهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ، وَاثْنَتَانِ مِنْ الْمُعَلَّقِ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ بَعْضِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 أَصْحَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ، وَيَلْغُو الْمُعَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ. وَهُوَ قِيَاسُ نَصِّ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ، فِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَطْلُقُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْوَاحِدَةِ يَقْتَضِي وُقُوعَ ثَلَاثٍ قَبْلَهَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا، فَإِثْبَاتُهَا يُؤَدِّي إلَى نَفْيِهَا، فَلَا تَثْبُتُ، وَلِأَنَّ إيقَاعَهَا يُفْضِي إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ وَقَعَ قَبْلَهَا ثَلَاثٌ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا، وَمَا أَفْضَى إلَى الدَّوْرِ وَجَبَ قَطْعُهُ مِنْ أَصْلِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ، فِي مَحَلٍّ لِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْقِدْ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَلِأَنَّ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ تَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ، مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَكَذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الطَّلَاقَ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَمْنَعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُبْطِلُ شَرْعِيَّتَهُ، فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّا إنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ، فَلَهُ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، وَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الْمَاضِي، فَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِيَوْمٍ. فَقَدِمَ فِي الْيَوْمِ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلْقَةَ الْوَاقِعَةَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ، وَلَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ قَبْلَ شَرْطِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا يُفْضِي إلَى دَوْرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِمَا يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِهِ، فَلَغَتْ الصِّفَةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تُنْقِصُ عَدَدَ طَلَاقِك، أَوْ لَا تَلْزَمُك. أَوْ قَالَ لِلْآيِسَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. أَوْ قَالَ: لِلْبِدْعَةِ. وَبَيَانُ اسْتِحَالَتِهِ، أَنَّ تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَتَقَدَّمُ مَشْرُوطَهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ لَوَقَعَ بَعْدَهُ، وَتَعْقِيبُهُ بِالْفَاءِ فِي قَوْله: فَأَنْتِ طَالِقٌ. يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَقِيبَهُ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بَعْدَهُ قَبْلَهُ مُحَالٌ، لَا يَصِحُّ الْوَصْفُ بِهِ، فَلَغَتْ الصِّفَةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا تَلْزَمُك. ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِقَوْلِهِ: إذَا انْفَسَخَ نِكَاحُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا. ثُمَّ وُجِدَ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا؛ مِنْ رَضَاعٍ، أَوْ رِدَّةٍ، أَوْ وَطْءِ أُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ، وَلَا خِلَافَ فِي انْفِسَاخِ النِّكَاحِ. قَالَ الْقَاضِي: مَا ذَكَرُوهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ لَا يَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ جُمْلَةً. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قُبَيْلَ وُقُوعِ طَلَاقِي بِك وَاحِدَةً. أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ ثَلَاثًا إنَّ طَلَّقْتُك غَدًا وَاحِدَةً. فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلْقَةَ الْمُوَقَّعَةَ يَقْتَضِي وُقُوعُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 وُقُوعَ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا مَعَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْمُوَقَّعَةِ دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهَا تَابِعٌ، وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ الْمَتْبُوعِ لِامْتِنَاعِ حُصُولِ التَّبَعِ، فَيَبْطُلُ التَّابِعُ وَحْدَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ: إذَا أَعْتَقْت سَالِمًا فَغَانِمٌ حُرٌّ. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ إلَّا أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ سَالِمًا يَعْتِقُ وَحْدَهُ، وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى عِتْقِ الْمَشْرُوطِ دُونَ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: فَغَانِمٌ حُرٌّ قَبْلَهُ، أَوْ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ. أَوْ تَطْلُقُ. كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ] (5932) فَصْلٌ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ "، وَأَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ، أَيِّ شَرْطٍ كَانَ، إلَّا قَوْلَهُ: إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَنَحْوَهُ، فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ. وَإِذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ. وَإِذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى حَلِفًا عُرْفًا، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلِأَنَّ فِي الشَّرْطِ مَعْنَى الْقَسَمِ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ جُمْلَةً غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ دُونَ الْجَوَابِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: وَاَللَّهِ، وَبِاَللَّهِ، وَتَاللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " هُوَ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ يَقْصِدُ بِهِ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ، أَوْ الْمَنْعَ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ عَلَى تَصْدِيقِ خَبَرِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَقَدْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَقْدَمْ. فَأَمَّا التَّعْلِيقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَوْ قَدِمَ الْحَاجُّ، أَوْ إنْ لَمْ يَقْدَمْ السُّلْطَانُ. فَهُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ لَيْسَ بِحَلِفٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَلِفِ الْقَسَمُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى شَرْطٍ حَلِفًا تَجَوُّزًا، لِمُشَارَكَتِهِ الْحَلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ الْحَثُّ، أَوْ الْمَنْعُ، أَوْ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، أَوْ لَا أَفْعَلُ، أَوْ لَقَدْ فَعَلْت، أَوْ لَمْ أَفْعَلْ. وَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى، لَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ حَلِفًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إذَا حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ، عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَلِفٍ، وَتَطْلُقُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَلِفٌ. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا كَلَّمْت أَبَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى شَرْطٍ يُمْكِنُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَكَانَ حَلِفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ، طَلَقَتْ وَاحِدَةً، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَادَهُ مَرَّةً طَلَقَتْ، حَتَّى تَكْمُلَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ يُوجَدُ بِهَا شَرْطُ الطَّلَاقِ، وَيَنْعَقِدُ شَرْطُ طَلْقَةٍ أُخْرَى. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ ذَلِكَ بِحَلِفٍ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِتَكْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ تَكْرَارٌ لِلْكَلَامِ، فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لَاحِقًا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى شَرْطٍ يُمْكِنُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَكَانَ حَلِفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ تَكْرَارٌ لِلْكَلَامِ. حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ تَكْرَارَ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهِ مَرَّةً أُخْرَى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 فَإِذَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ حَلِفًا، فَوُجِدَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَدْ وُجِدَ الْحَلِفُ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُكَرَّرُ إذَا قَصْدَهُ، وَهَا هُنَا إنْ قَصَدَ إفْهَامَهَا، لَمْ يَقَعْ بِالثَّانِي شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ. يَعْنِي بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا، فَأَمَّا إنْ كَرَّرَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، بَانَتْ بِطَلْقَةٍ، وَلَمْ يَقَعْ أَكْثَرُ مِنْهَا، فَإِذَا قَالَ لَهَا ذَلِكَ ثَلَاثًا، بَانَتْ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ تَطْلُقْ بِالثَّالِثَةِ، فَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ لَهَا، أَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَكَلَّمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ طَلَاقِهَا إنَّمَا كَانَ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ] (5933) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا بَانَتْ بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا أَعَادَهُ مَرَّةً ثَالِثَةً، لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ، فَلَمْ تَكُنْ إعَادَةُ هَذَا الْقَوْلِ حَلِفًا بِطَلَاقِهَا. وَهِيَ غَيْرُ زَوْجِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، فَإِنَّ شَرْطَ طَلَاقِهِمَا الْحَلِفُ بِطَلَاقِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَ الْبَائِنِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ تَكَلَّمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَدْ قِيلَ: يَطْلُقَانِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِهَذَا حَالِفًا بِطَلَاقِهَا، وَقَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِإِعَادَةِ قَوْلِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَطَلَقَتَا حِينَئِذٍ، يَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذِهِ الَّتِي جَدَّدَ نِكَاحَهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَ إعَادَتِهِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ بَائِنٌ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ الصِّفَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لَأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَحَلَفَ بِطَلَاقِهَا. وَلَكِنْ تَطْلُقُ الْمَدْخُولُ بِهَا حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَحَلَفَ بِطَلَاقِ هَذِهِ حِينَئِذٍ، فَكَمَّلَ شَرْطَ طَلَاقِهَا. فَطَلَقَتْ وَحْدَهَا. [فَصْلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ فَقَالَ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا فَعُمْرَة طَالِقٌ] (5934) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا فَعَمْرَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ أَعَادَهُ، لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ وَحْدَهَا فَلَمْ يُوجَدْ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهِمَا. وَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا فَحَفْصَةُ طَالِقٌ. طَلَقَتْ عَمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِهِمَا بَعْدَ تَعْلِيقِهِ طَلَاقَهَا عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقِهِمَا، وَلَمْ تَطْلُقْ حَفْصَةُ لِأَنَّهُ مَا حَلَفَ بِطَلَاقِهِمَا بَعْدَ تَعْلِيقِهِ طَلَاقَهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا، فَعَمْرَةُ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِطَلَاقِهِمَا، إنَّمَا حَلَفَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ وَحْدَهَا. فَإِنْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكُمَا، فَحَفْصَةُ طَالِقٌ. طَلَقَتْ حَفْصَةُ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. [فَصْلٌ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَضَرَّتُك طَالِقٌ] (5935) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَضَرَّتُك طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ طَلَقَتْ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ إعَادَتَهُ لِلثَّانِيَةِ هُوَ حَلِفٌ بِطَلَاقِ الْأُولَى، وَذَلِكَ شَرْطُ وُقُوعِ طَلَاقِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إنْ أَعَادَ لِلْأُولَى، طَلَقَتْ، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَادَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامْرَأَةٍ طَلَقَتْ، حَتَّى يَكْمُلَ لِلثَّانِيَةِ ثَلَاثٌ، ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ لِلْأُولَى لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 الثَّانِيَةَ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَلِفًا بِطَلَاقِهَا. وَلَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَامْرَأَةٍ، ثُمَّ أَعَادَهُ لَهَا، لَمْ تَطْلُقْ بِهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَلِفٍ بِطَلَاقِهَا، إنَّمَا هُوَ حَلِفٌ بِطَلَاقِ ضَرَّتِهَا، وَلَمْ يُعَلَّقْ عَلَى ذَلِكَ طَلَاقًا. وَإِنْ قَالَ لِلْأُولَى؛ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ ضَرَّتِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ. طَلَقَتْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لِلثَّانِيَةِ حَلِفٌ بِطَلَاقِهَا، وَشَرْطٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْأُولَى. ثُمَّ إنْ أَعَادَهُ لِلْأُولَى. طَلَقَتْ الثَّانِيَةُ، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَادَهُ لَامْرَأَةٍ مِنْهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، طَلَقَتْ الْأُخْرَى. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَطَلَقَتْ مَرَّةً، بَانَتْ، وَلَمْ تَطْلُقْ صَاحِبَتُهَا بِإِعَادَةِ ذَلِكَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَلِفٍ بِطَلَاقِهَا، لِكَوْنِهَا بَائِنًا، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ. إنْ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا: إذَا حَلَفْت بِطَلَاقِ ضَرَّتِك، فَهِيَ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. ثُمَّ إنَّ أَعَادَ ذَلِكَ لِإِحْدَاهُمَا، طَلَقَتْ الْأُخْرَى، ثُمَّ إنْ أَعَادَهُ لِلْأُخْرَى، طَلَقَتْ صَاحِبَتُهَا، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَادَهُ لَامْرَأَةٍ، طَلَقَتْ الْأُخْرَى، إلَّا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا دُونَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهَا إذَا بَانَتْ صَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَامْرَأَةٍ ابْتِدَاءً، ثُمَّ أَعَادَهُ لَهَا، طَلَقَتْ ضَرَّتُهَا بِكُلِّ إعَادَةٍ مَرَّةً، حَتَّى تَكْمُلَ الثَّلَاثُ. وَإِنْ قَالَ لَامْرَأَةٍ: إذَا حَلَفْت بِطَلَاقِ ضَرَّتِك، فَهِيَ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: إذَا حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ فِي الْحَالِ. ثُمَّ إنْ قَالَ لِلْأُولَى مِثْلَ مَا قَالَ لَهَا، أَوْ قَالَ لِلثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا قَالَ لَهَا طَلَقَتْ الثَّانِيَةُ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، وَلَا يَقَعُ بِالْأُولَى بِهَذَا طَلَاقٌ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ لِلْأُولَى: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلثَّانِيَةِ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ ضَرَّتِك فَهِيَ طَالِقٌ. طَلَقَتْ الْأُولَى، ثُمَّ مَتَى أَعَادَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ مَرَّةً أُخْرَى، طَلَقَتْ الْأُولَى مَرَّةً ثَانِيَةً، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، وَلَا يَقَعُ بِالثَّانِيَةِ بِهَذَا طَلَاقٌ. وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا: إذَا حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَضَرَّتُك طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: إذَا حَلَفْت بِطَلَاقِ ضَرَّتِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَّقَ طَلَاقَ الثَّانِيَةِ عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقِ الْأُولَى، وَلَمْ يَحْلِفْ بِطَلَاقِهَا. وَلَوْ أَعَادَ ذَلِكَ لَهُمَا، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ لِلثَّانِيَةِ عَلَى الْقَوْلِ لِلْأُولَى، أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ. [فَصْلٌ قَالَ كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ فَأُنْتِن طَوَالِقُ] (5936) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ فَقَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَحَفْصَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَزَيْنَبُ طَالِقٌ. طَلَقَتْ عَمْرَةُ. وَإِنْ جَعَلَ مَكَانَ زَيْنَبَ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ حَفْصَةُ. ثُمَّ مَتَى أَعَادَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 بَعْدَ ذَلِكَ طَلَقَتْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، فَنِسَائِي طَوَالِقُ. ثُمَّ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. ثُمَّ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ حَفْصَةَ، فَنِسَائِي طَوَالِقُ. طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. فَقَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ بَعْدَ تَعْلِيقِهِ طَلَاقَ نِسَائِهِ عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقِهَا، فَطَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً، وَلَمَّا قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. فَقَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ وَزَيْنَبَ، فَطَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً بِحَلِفِهِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، وَلَمْ يَقَعْ بِحَلِفِهِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَنِثَ بِهِ مَرَّةً فَلَا يَحْنَثُ ثَانِيَةً. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ قَوْلِهِ: إنْ - كُلَّمَا، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ " كُلَّمَا " تَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ. ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً، طَلَقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ بِإِعَادَتِهِ حَالِفٌ بِطَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَحَلِفُهُ بِطَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَرْطٌ لَطَلَاقِهِنَّ جَمِيعًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، فَأَنْتُن طَوَالِقُ. ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً؛ لِأَنَّ " إنْ " لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِإِحْدَاهُنَّ: إنْ قُمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِكُنَّ، فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ. ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً. وَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِإِحْدَاهُنَّ: إنْ قُمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِلِاثْنَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، طَلَقَ الْجَمِيعُ طَلْقَةً طَلْقَةً. [فَصْلٌ قَالَ لُزُوجَتِهِ إنْ حَلَفْت بِعِتْقِ عَبْدِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ] (5937) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لُزُوجَتِهِ: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِ عَبْدِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَعَبْدِي حُرٌّ. طَلَقَتْ. ثُمَّ إنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِك، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. عَتَقَ الْعَبْدُ. وَإِنْ قَالَ لَهُ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ امْرَأَتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ. ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِ عَبْدِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. عَتَقَ الْعَبْدُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِك، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ، عَتَقَ الْعَبْدُ. [فَصْلٌ اُسْتُعْمِلَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ اسْتِعْمَالَ الْقَسَم] (5938) فَصْلٌ: وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ اسْتِعْمَالَ الْقَسَمِ، جَوَابًا لَهُ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَأَقُومَنَّ. وَقَامَ، لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ حَنِثَ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: يَقَعُ طَلَاقُهُ وَإِنْ قَامَ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ طَلَاقًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَلِفٌ بَرَّ فِيهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 وَكَانَ أَخُوهَا عَاقِلًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا، حَنِثَ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ، وَإِنْ شُكَّ فِي عَقْلِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا أَكَلْتُ هَذَا الرَّغِيفَ. فَأَكَلَهُ، حَنِثَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا أَكَلْته. وَكَانَ صَادِقًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَكَلْته. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا أَبُوك لَطَلَّقْتُك. وَكَانَ صَادِقًا، لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا طَلَقَتْ. وَلَوْ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَأُكْرِمَنَّك. طَلَقَتْ فِي الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِ عَبْدِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ لَأَقُومَنَّ. طَلَقَتْ الْمَرْأَةُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِ امْرَأَتِي، فَعَبْدِي حُرٌّ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَقَدْ صُمْت أَمْسِ. عَتَقَ الْعَبْدِ. [فَصْلٌ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ كُلَّمَا طَلَّقْت ضَرَّتِك فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5939) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ طَلَّقْت حَفْصَةَ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ طَلَّقْت عَمْرَةَ فَحَفْصَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ طَلَّقَ حَفْصَةَ. طَلَقَتَا مَعًا؛ حَفْصَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَعَمْرَةُ بِالصِّفَةِ، وَلَمْ تَزِدْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى طَلْقَةٍ. وَإِنْ بَدَأَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ حَفْصَةَ طَلَقَتْ عَمْرَةُ بِالصِّفَةِ؛ لِكَوْنِهِ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى طَلَاقِ حَفْصَةَ، وَلَمْ يَعُدْ عَلَى حَفْصَةَ طَلَاقٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِي عَمْرَةَ طَلَاقًا، إنَّمَا طَلَقَتْ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَلَى تَعْلِيقِهِ طَلَاقَهَا. وَإِنْ بَدَأَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ حَفْصَةُ؛ لِكَوْنِ طَلَاقِهَا مُعَلَّقًا عَلَى طَلَاقِ عَمْرَةَ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهَا تَطْلِيقٌ مِنْهُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهَا طَلَاقًا، بِتَعْلِيقِهِ طَلَاقَهَا عَلَى تَطْلِيقِ عَمْرَةَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: إنْ طَلَّقْت حَفْصَةَ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ. وَمَتَى وُجِدَ التَّعْلِيقُ وَالْوُقُوعُ مَعًا، فَهُوَ تَطْلِيقٌ. فَإِنْ وُجِدَا مَعًا بَعْدَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِطَلَاقِهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِطَلَاقِهَا. وَطَلَاقُ عَمْرَةَ هَاهُنَا مُعَلَّقٌ بِطَلَاقِهَا، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُقُوعِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَمْرَةَ: كُلَّمَا طَلَّقْت حَفْصَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِحَفْصَةَ: كُلَّمَا طَلَّقْت عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: أَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَةً وَاحِدَةً. وَإِنْ طَلَّقَ حَفْصَةَ ابْتِدَاءً، لَمْ يَقَعْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءً، فَإِنَّهُ بَدَأَ بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ عَمْرَةَ عَلَى تَطْلِيقِ حَفْصَةَ، ثُمَّ ثَنَّى بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ حَفْصَةَ عَلَى تَطْلِيقِ عَمْرَةَ. وَلَوْ قَالَ لِعَمْرَةَ: إنْ طَلَّقْتُك، فَحَفْصَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِحَفْصَةَ: إنْ طَلَّقْتُك، فَعَمْرَةُ طَالِقٌ. ثُمَّ طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلَقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَةً. وَإِنْ طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً؛ لِأَنَّهَا عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا. ذَكَر هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ". وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: كُلَّمَا طَلَّقْت ضَرَّتَكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى مِثْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 ذَلِكَ، ثُمَّ طَلَّقَ الْأُولَى، طَلَقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ الثَّانِيَةُ طَلْقَةً. وَإِنْ طَلَّقَ الثَّانِيَةَ، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك فَضَرَّتُك طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ طَلَّقَ الْأُولَى، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً طَلْقَةً. وَإِنْ طَلَّقَ الثَّانِيَةَ، طَلَقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ الْأُولَى طَلْقَةً، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. [فَصْل قَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَلَّمَا طَلَقَتْ إحْدَى ضَرَّتَيْك، فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5940) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: إنْ طَلَّقْت زَيْنَبَ فَعَمْرَة طَالِقٌ، وَإِنْ طَلَّقْت عَمْرَةَ فَحَفْصَةُ طَالِقٌ، وَإِنْ طَلَّقْت حَفْصَةَ فَزَيْنَبُ طَالِقٌ. ثُمَّ طَلَّقَ زَيْنَبَ، طَلَقَتْ عَمْرَةُ، وَلَمْ تَطْلُقْ حَفْصَةُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِي عَمْرَةَ طَلَاقًا بَعْدَ تَعْلِيقِ طَلَاقِ حَفْصَةَ بِتَطْلِيقِهَا، وَإِنَّمَا طَلَقَتْ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ وُقُوعًا لِلطَّلَاقِ، وَلَيْسَ بِتَطْلِيقِ. وَإِنْ طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ حَفْصَةُ، وَلَمْ تَطْلُقْ زَيْنَبُ لِذَلِكَ. وَإِنْ طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلَقَتْ زَيْنَبُ، ثُمَّ طَلَقَتْ عَمْرَةُ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِي زَيْنَبَ طَلَاقًا بَعْدَ تَعْلِيقِهِ طَلَاقَ عَمْرَةَ بِطَلَاقِهَا، فَإِنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَطْلِيقِ حَفْصَةَ، ثُمَّ طَلَّقَ حَفْصَةَ، وَالتَّعْلِيقُ مَعَ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ تَطْلِيقٌ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعْلِيقُ وَشَرْطُهُ مَعًا بَعْدَ تَعْلِيقِهِ طَلَاقَ عَمْرَةَ بِتَطْلِيقِهَا، فَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِزَيْنَبِ تَطْلِيقًا، فَطَلَقَتْ بِهِ عَمْرَةُ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَإِنْ قَالَ لِزَيْنَبِ: إنْ طَلَّقْت عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إنْ طَلَّقْت حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِحَفْصَةَ: إنْ طَلَّقْت زَيْنَبَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ طَلَّقَ زَيْنَبَ، طَلَقَ الثَّلَاثُ؛ زَيْنَبُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَحَفْصَةُ بِالصِّفَةِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِحَفْصَةَ تَطْلِيقٌ لَهَا، وَتَطْلِيقُهَا شَرْطُ طَلَاقِ عَمْرَةَ، فَتَطْلُقُ بِهِ أَيْضًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَطْلِيقٌ لِحَفْصَةَ، أَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهَا طَلَاقًا، بِتَعْلِيقِهِ طَلَاقَهَا عَلَى تَطْلِيقِ زَيْنَبَ، بَعْدَ تَعْلِيقِ طَلَاقِ عَمْرَةَ بِتَطْلِيقِهَا، وَتَحَقُّقِ شَرْطِهِ، وَالتَّعْلِيقُ مَعَ شَرْطِهِ تَطْلِيقٌ، وَقَدْ وُجِدَا مَعًا بَعْدَ جَعْلِ تَطْلِيقِهَا صِفَةً لِطَلَاقِ عَمْرَةَ. وَإِنْ طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ هِيَ وَزَيْنَبُ، وَلَمْ تَطْلُقْ حَفْصَةُ. وَإِنْ طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلَقَتْ هِيَ وَعَمْرَةُ، وَلَمْ تَطْلُقْ زَيْنَبُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَالَ لِزَيْنَبِ: إنَّ طَلَّقْتُك فَضَرَّتَاكِ طَالِقَتَانِ، ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِحَفْصَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ طَلَّقَ زَيْنَبَ، طَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي غَيْرِ زَيْنَبَ طَلَاقًا، إنَّمَا طَلَقَتَا بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِطَلَاقِهَا. وَإِنْ طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلَقَتْ زَيْنَبُ طَلْقَةً، وَطَلَقَتْ عَمْرَةُ وَحَفْصَةُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ طَلَقَتْ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ، وَطَلَقَتْ زَيْنَبُ وَحَفْصَةُ بِطَلَاقِهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَطَلَاقُ زَيْنَبَ تَطْلِيقٌ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِهَا بِصِفَةٍ أَحْدَثَهَا بَعْدَ تَعْلِيقِ طَلَاقِهِمَا بِتَطْلِيقِهَا، فَعَادَ عَلَى عَمْرَةَ وَحَفْصَةَ بِذَلِكَ طَلْقَتَانِ، وَلَمْ يَعُدْ عَلَى زَيْنَبَ بِطَلَاقِهِمَا طَلَاقٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلَقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهَا طَلَقَتْ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ، فَطَلَقَتْ بِهَا ضَرَّتَاهَا، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَطْلِيقٌ، لِأَنَّهُ بِصِفَةٍ أَحْدَثَهَا فِيهِمَا بَعْدَ تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِطَلَاقِهِمَا، فَعَادَ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةٌ، فَكَمُلَ لَهَا ثَلَاثٌ، وَطَلَقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَتَيْنِ، وَاحِدَةً بِتَطْلِيقِ حَفْصَةَ، وَأُخْرَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى زَيْنَبَ؛ لِأَنَّهُ تَطْلِيقٌ لِزَيْنَبِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 وَطَلَقَتْ زَيْنَبُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ طَلَاقَ ضَرَّتِهَا بِالصِّفَةِ، لَيْسَ بِتَطْلِيقٍ فِي حَقِّهَا. وَإِنْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ: كُلَّمَا طَلَقَتْ إحْدَى ضَرَّتَيْك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ طَلَّقَ الْأُولَى، طَلَقَتْ ثَلَاثًا، وَطَلَقَتْ الثَّانِيَةُ طَلْقَتَيْنِ، وَالثَّالِثَةُ طَلْقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ تَطْلِيقَهُ لِلْأُولَى شَرْطٌ لِطَلَاقِ ضَرَّتَيْهَا، وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِمَا تَطْلِيقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، لِكَوْنِهِ وَاقِعًا بِصِفَةٍ أَحْدَثَهَا بَعْدَ تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِطَلَاقِهِمَا، فَعَادَ عَلَيْهَا مِنْ تَطْلِيقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً، فَكَمُلَ لَهَا الثَّلَاثُ، وَعَادَ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْ طَلَاقِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الثَّالِثَةِ مِنْ طَلَاقِهِمَا الْوَاقِعِ بِالصِّفَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَطْلِيقٍ فِي حَقِّهَا. وَإِنْ طَلَّقَ الثَّانِيَةَ طَلَقَتْ أَيْضًا طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ الْأُولَى ثَلَاثًا، وَالثَّالِثَةُ طَلْقَةً. وَإِنْ طَلَّقَ الثَّالِثَةَ، طَلَقَتْ الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ، وَطَلَقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَاقِيَتَيْنِ طَلْقَةً طَلْقَةً. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنَّ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ قَالَ لِعَبَدَةِ إنْ قُمْت فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَقَامَ] (5941) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ. ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ قُمْت فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. فَقَامَ، طَلَقَتْ الْمَرْأَةُ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ قُمْتَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ. فَقَامَ الْعَبْدُ، طَلَقَتْ الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ إنَّمَا يَكُونُ تَطْلِيقًا مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ، فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَالْوُقُوعُ بَعْدَ قَوْلِهِ: إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ. وَفِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الْوُقُوعُ وَحْدَهُ، فَكَانَتْ الصِّفَةُ سَابِقَةً، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَعْتَقْتُك فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ. ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ أَضْرِبْك فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. عَتَقَ الْعَبْدُ، وَطَلَقَتْ الْمَرْأَةُ. [فَصْلٌ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى صِفَات فَاجْتَمَعْنَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ] (5942) فَصْلٌ: وَمَتَى عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى صِفَاتٍ، فَاجْتَمَعْنَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَعَ بِكُلِّ صِفَةٍ مَا عُلِّقَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ وُجِدَتْ مُفْتَرِقَةً، وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ، فَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَلَّمْت رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَلَّمْت طَوِيلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَلَّمْت أَسْوَدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَكَلَّمَتْ رَجُلًا أُسُودَ طَوِيلًا، طَلَقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ وَلَدْتِ بِنْتًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ وَلَدْتِ سَوْدَاءَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَوَلَدَتْ بِنْتًا سَوْدَاء، طَلَقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ أَكَلْتِ رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً، طَلَقَتْ اثْنَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا أَكَلْتِ رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكُلَّمَا أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً، طَلَقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَفِي الرُّمَّانَةِ نِصْفَانِ، فَتَطْلُقُ بِأَكْلِهِمَا طَلْقَتَيْنِ، وَبِأَكْلِ الرُّمَّانَةِ طَلْقَةً. فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: نِصْفَ رُمَّانَةٍ. نِصْفًا مُفْرَدًا عَنْ الرُّمَّانَةِ الْمَشْرُوطَةِ، أَوْ كَانَتْ مَعَ الْكَلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 قَرِينَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى تَأْكُلَ مَا نَوَى تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ دَخَلَ الدَّارَ رَجُلٌ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ] (5943) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلَ الدَّارَ رَجُلٌ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَإِنْ دَخَلَهَا طَوِيلٌ فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَإِنْ دَخَلَهَا أَسْوَدُ فَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ، وَإِنْ دَخَلَهَا فَقِيهٌ فَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ. فَدَخَلَهَا فَقِيهٌ طَوِيلٌ أَسْوَدُ، عَتَقَ مِنْ عَبِيدِهِ عَشَرَةٌ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: إنْ طَلَّقْت امْرَأَةً مِنْكُنَّ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَإِنْ طَلَّقْت اثْنَتَيْنِ فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَإِنْ طَلَّقْت ثَلَاثَةً، فَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ، وَإِنْ طَلَّقْت أَرْبَعًا، فَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ، ثُمَّ طَلَّقَ الْأَرْبَعَ مُجْتَمِعَاتٍ أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ عَتَقَ مِنْ عَبِيدِهِ عَشَرَةٌ؛ بِالْوَاحِدَةِ وَاحِدٌ، وَبِالِاثْنَتَيْنِ اثْنَانِ، وَبِالثَّلَاثِ ثَلَاثَةٌ، وَبِالْأَرْبَعِ أَرْبَعَةٌ؛ لِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ فِيهِنَّ. وَلَوْ عَلَّقَ ذَلِكَ بِلَفْظَةِ " كُلَّمَا "، فَقَدْ قِيلَ: يَعْتِقُ عَشَرَةٌ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْدًا؛ لِأَنَّ فِيهِنَّ أَرْبَعَ صِفَاتٍ، هُنَّ أَرْبَعٌ، فَيَعْتِقُ أَرْبَعَةٌ، وَهُنَّ أَرْبَعَةُ آحَادٍ، فَيَعْتِقُ بِذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، وَهُنَّ اثْنَتَانِ وَاثْنَتَانِ، فَيَعْتِقُ بِذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، وَفِيهِنَّ ثَلَاثٌ، فَيَعْتِقُ بِهِنَّ ثَلَاثَةٌ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: يَعْتِقُ بِالْوَاحِدَةِ وَاحِدٌ، وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا صِفَتَيْنِ هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَعَ الْأُولَى اثْنَتَانِ، وَيَعْتِقُ بِالثَّالِثَةِ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَعَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثَلَاثٌ، وَيَعْتِقُ بِالرَّابِعَةِ سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا ثَلَاثَ صِفَاتٍ، هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَعَ الثَّالِثَةِ اثْنَتَانِ، وَهِيَ مَعَ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا أَرْبَعٌ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَا يَعْتَبِرُ صِفَةَ طَلَاقِ الْوَاحِدَةِ فِي غَيْرِ الْأُولَى، وَلَا صِفَةَ التَّثْنِيَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَلَفْظُ " كُلَّمَا " يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيَجِبُ تَكْرَارُ الطَّلَاقِ بِتَكْرَارِ الصِّفَاتِ. وَقِيلَ: يَعْتِقُ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّثْنِيَةِ قَدْ وُجِدَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِضَمِّ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ. وَقِيلَ: يَعْتِقُ عِشْرُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّلَاثِ وُجِدَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً بِضَمِّ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُمَا عَدُّوا الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى فِي صِفَةِ التَّثْنِيَةِ مَرَّةً، ثُمَّ عَدُّوهَا مَعَ الثَّالِثَةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَعَدُّوا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فِي صِفَةِ التَّثْلِيثِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً مَعَ الْأُولَى، وَمَرَّةً مَعَ الرَّابِعَةِ، وَمَا عُدَّ فِي صِفَةٍ مَرَّةً، لَا يَجُوزُ عَدُّهُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ مَرَّةً أُخْرَى. وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً، لَمْ تَطْلُقْ إلَّا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرُّمَّانَةَ نِصْفَانِ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهَا تَطْلُقُ ثَالِثَةً، بِأَنْ يُضَمَّ الرُّبْعُ الثَّانِي إلَى الرُّبْعِ الثَّالِثِ فَيَصِيرَانِ نِصْفًا ثَالِثًا، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، لَمْ تُضَمَّ الْأُولَى إلَى الرَّابِعَةِ، فَيَصِيرَانِ اثْنَتَيْنِ. وَعَلَى سِيَاقِ هَذَا الْقَوْلِ، يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ؛ وَاحِدٌ بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ، وَثَلَاثَةٌ بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ، وَثَمَانِيَةٌ بِطَلَاقِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَعَ مَا قَبْلَهَا ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ مَعَ ضَمِّهَا إلَى الْأُولَى اثْنَتَانِ، وَمَعَ ضَمِّهَا إلَى الثَّانِيَةِ اثْنَتَانِ، فَفِيهَا صِفَةُ التَّثْنِيَةِ مَرَّتَانِ، وَيَعْتِقَ بِطَلَاقِ الرَّابِعَةِ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ فِيهَا ثَمَانِي صِفَاتٍ، هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَعَ مَا قَبْلَهَا أَرْبَعٌ، وَفِيهَا صِفَةُ التَّثْلِيثِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، هِيَ مَعَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثَلَاثٌ، وَمَعَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ثَلَاثٌ، وَمَعَ الْأُولَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وَالثَّالِثَةِ ثَلَاثٌ، فَيَعْتِقُ بِذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَفِيهَا صِفَةُ التَّثْنِيَةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، هِيَ مَعَ الْأُولَى اثْنَتَانِ، وَهِيَ مَعَ الثَّانِيَةِ اثْنَتَانِ، وَهِيَ مَعَ الثَّالِثَةِ اثْنَتَانِ، فَيَعْتِقُ بِذَلِكَ سِتَّةٌ، وَيَصِيرُ الْجَمِيعُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَمَا نَعْلَمُ بِهَذَا قَائِلًا. وَهَذَا مَعَ الْإِطْلَاقِ. فَأَمَّا إنْ نَوَى بِلَفْظِهِ غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ، مِثْلُ أَنْ يَنْوِيَ بِقَوْلِهِ: اثْنَتَيْنِ. غَيْرَ الْوَاحِدَةِ، فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ الْعَبِيدَ الْمُعْتَقِينَ، أُخْرِجُوا بِالْقُرْعَةِ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَعْتَقْت عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي فَامْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِي طَالِقٌ، وَكُلَّمَا أَعْتَقْت اثْنَيْنِ فَامْرَأَتَانِ طَالِقَتَانِ. ثُمَّ أَعْتَقَ اثْنَيْنِ، طَلَقَ الْأَرْبَعُ، عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، يَطْلُقُ ثَلَاثٌ، وَيَخْرُجْنَ بِالْقُرْعَةِ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَعْتَقْت عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي فَجَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيَّ حُرَّةٌ، وَكُلَّمَا أَعْتَقْت اثْنَيْنِ فَجَارِيَتَانِ حُرَّتَانِ، وَكُلَّمَا أَعْتَقْت ثَلَاثَةً فَثَلَاثٌ أَحْرَارٌ، وَكُلَّمَا أَعْتَقْت أَرْبَعَةً فَأَرْبَعٌ أَحْرَارٌ، ثُمَّ أَعْتَقَ أَرْبَعَةً، عَتَقَ مِنْ جَوَارِيهِ بِعَدَدِ مَا طَلَّقَ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ أَعْتَقَ خَمْسًا فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، يَعْتِقُ مِنْ جَوَارِيهِ هَاهُنَا خَمْسَ عَشْرَةَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، يَعْتِقُ إحْدَى وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْخَامِسِ عَتَقَ بِهِ سِتٌّ، لِكَوْنِهِ وَاحِدًا، وَهُوَ مَعَ مَا قَبْلَهُ خَمْسَةٌ، وَلَمْ يُمْكِنْ عَدُّهُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ قَدْ عُدَّ فِي ذَلِكَ مَرَّةً، فَلَا يُعَدُّ ثَانِيَةً. [قَالَ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَقْتًا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ مَاتَتْ] (5944) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: إنْ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ يَنْوِ وَقْتًا، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ مَاتَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهَا فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حَرْفَ " إنْ " مَوْضُوعٌ لِلشَّرْطِ، لَا يَقْتَضِي زَمَنًا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّقَ بِهِ مِنْ ضَرُورَتِهِ الزَّمَانُ، وَمَا حَصَلَ ضَرُورَةً لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَقْتَضِي تَعْجِيلًا، فَمَا عُلِّقَ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: إنْ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ يَنْوِ وَقْتًا، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، كَانَ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَمْ يَحْنَثْ بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفُتْ الْوَقْتُ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَلِمْنَا حِنْثَهُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِهَا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ، إذْ لَمْ يَبْقَ مِنْ حَيَاتِهِ مَا يَتَّسِعُ لِتَطْلِيقِهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا. وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أُطَلِّقْ عَمْرَةَ فَحَفْصَةُ طَالِقٌ. فَأَيُّ الثَّلَاثَةِ مَاتَ أَوَّلًا، وَقَعَ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ تَطْلِيقَهُ لِحَفْصَةَ عَلَى وَجْهٍ تَنْحَلُّ بِهِ يَمِينُهُ، إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاتِهِمْ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَعْتِقْ عَبْدِي، أَوْ إنْ لَمْ أَضْرِبْهُ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاةِ أَوَّلِهِمْ مَوْتًا. فَأَمَّا إنْ عَيَّنَ وَقْتًا بِلَفْظِهِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ، تَعَيَّنَ، وَتَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قَالَ: إنْ لَمْ أَضْرِبْ فُلَانًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَهُوَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ الْمَحْلُوفَ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ فِيهِ تَعَيَّنَ بِنِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَصَارَ كَالْمُصَرِّحِ بِهِ فِي لَفْظِهِ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» . (5945) فَصْلٌ: وَلَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَطَأُ حَتَّى يَفْعَلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفِعْلِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: يُضْرَبُ لَهُ أَجَلُ الْمُولِي، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، فَحَلَّ لَهُ الْوَطْءُ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَقَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْفِعْلِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ. قُلْنَا: هَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَقْتَضِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَقْتَضِ حُكْمَهُ، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ وَطْئِهِ لَمْ يَضُرَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا نَاجِزًا، وَعَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ هَاهُنَا إنَّمَا يَقَعُ فِي زَمَنٍ لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. [فَصْلٌ إذَا كَانَ الْمُعَلَّقُ طَلَاقًا بَائِنًا فَمَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا] (5946) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الْمُعَلَّقُ طَلَاقًا بَائِنًا فَمَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ أَبَانَهَا مِنْهُ، فَلَمْ يَرِثْهَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا نَاجِزًا عِنْدَ مَوْتِهَا. وَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك. وَمَاتَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا، وَرِثَتْهُ، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطْلُقُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَأَشْبَهَ طَلَاقَهُ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنَّهَا لَا تَرِثُهُ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ شَرْطُ وُقُوعِهِ فِي الْمَرَضِ، فَلَمْ تَرِثْهُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى فِعْلِهَا، فَفَعَلَتْهُ فِي مَرَضِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ حَلَفَ إنْ لَمْ تَأْتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَلَمْ تَفْعَلْ، فَإِنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَمَاتَ، وَرِثَتْهُ، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ فَقَدْ حَقَّقَتْ شَرْطَ الطَّلَاقِ، فَلَمْ تَرِثْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْهَا. وَإِذَا عَلَّقَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَامْتَنَعَ، كَانَ الطَّلَاقُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَجَّزَهُ فِي الْحَالِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ طَلَاقٌ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَمَنَعَهُ مِيرَاثَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ أَخَّرَ الطَّلَاقَ اخْتِيَارًا مِنْهُ حَتَّى وَقَعَ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ، فَصَارَ كَالْمُبَاشِرِ لَهُ. فَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 أَبِي حَنِيفَةَ، فَحَسَنٌ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا لَهُ كَفِعْلِهَا لِمَا حَلَفَ عَلَيْهَا لِتَتْرُكَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ مِيرَاثُهَا بِتَرْكِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَيْهَا لِتَرْكِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فِعْلِهِ، فَفَعَلَتْهُ. (5947) فَصْلٌ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ وَقْتًا بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيَّتِهِ، فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي أَيْضًا؛ فَإِنَّ لَفْظَهُ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّمَانِ كُلِّهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِدُونِ تَقْيِيدِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّاعَةِ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] . وَقَالَ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] . وَلَمَّا قَالَ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] كَانَ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي؛ فَإِنَّ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي نَوْبَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَتَأَخَّرَ الْفَتْحُ إلَى سَنَةِ ثَمَانٍ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْ لَيْسَ كُنْت تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ بَلَى، فَأَخْبَرْتُك أَنَّك آتِيهِ الْعَامَ؟ . قُلْت: لَا. قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ، وَمُطَوِّفٌ بِهِ» . وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ. [فَصْلٌ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك الْيَوْمَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا] (5948) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، إنْ لَمْ أُطَلِّقْك الْيَوْمَ. وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلَقَتْ إذَا بَقِيَ مِنْ الْيَوْمِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِتَطْلِيقِهَا فِيهِ، عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى الْقَاضِي فِيهَا وَجْهَيْنِ؛ هَذَا، وَوَجْهًا آخَرَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، لِأَنَّ مَحِلَّ الطَّلَاقِ الْيَوْمُ، وَلَا يُوجَدُ شَرْطُ طَلَاقِهَا إلَّا بِخُرُوجِهِ، فَلَا يَبْقَى مِنْ مَحِلِّ طَلَاقِهَا مَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ خُرُوجَ الْيَوْمِ يَفُوتُ بِهِ طَلَاقُهَا، فَوَجَبَ وُقُوعُهُ قَبْلَهُ فِي آخِرِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ كَمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْيَوْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى يَمِينِهِ؛ إنْ فَاتَنِي طَلَاقُك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فِيهِ. فَإِذَا بَقِيَ مِنْ الْيَوْمِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِتَطْلِيقِهَا، فَقَدْ فَاتَهُ طَلَاقُهَا فِيهِ، فَوَقَعَ حِينَئِذٍ، كَمَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي آخِرِ حَيَاةِ أَوَّلِهِمَا مَوْتًا. وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْيَوْمِ؛ فَإِنَّ مَحِلَّ طَلَاقِهَا يَفُوتُ بِمَوْتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ، كَذَا هَاهُنَا. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك الْيَوْمَ، أَوْ إنْ لَمْ اشْتَرِ لَك الْيَوْمَ ثَوْبًا. فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهَا، إذَا بَقِيَ مِنْ الْيَوْمَ مَا لَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك الْيَوْمَ طَلَقَتْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَفِي مَحِلِّ وُقُوعِهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 أَحَدُهُمَا، فِي آخِرِ الْيَوْمِ. وَالثَّانِي، بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، إنْ لَمْ أُطَلِّقْك. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، إنْ لَمْ أُطَلِّقْك الْيَوْمَ. لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ طَلَاقِهَا شَرْطًا لِطَلَاقِهَا الْيَوْمَ، وَالشَّرْطُ يَتَقَدَّمُ الْمَشْرُوطَ. (5949) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: [إنْ] لَمْ أَبِعْك الْيَوْمَ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ الْيَوْمَ. وَلَمْ يَبِعْهُ حَتَّى خَرَجَ الْيَوْمُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، أَوْ مَاتَ، أَوْ مَاتَ الْحَالِفُ، أَوْ الْمَرْأَةُ، فِي الْيَوْمِ، طَلَقَتْ زَوْجَتُهُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ بَيْعُهُ، وَإِنْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، لَمْ تَطْلُقْ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ. وَمَنْ مَنَعَ بَيْعَهُمَا قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ مَاتَ. وَإِنْ وَهَبَ الْعَبْدَ لَإِنْسَانٍ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَيْهِ، فَيَبِيعُهُ، فَلَمْ يَفُتْ بَيْعُهُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَبِعْ عَبْدِي، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْيَوْمِ، فَكَاتَبَ الْعَبْدَ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ عَجْزُهُ، فَلَمْ يُعْلَمْ فَوَاتُ الْبَيْعِ، فَإِنْ عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ فَاتَ بَيْعُهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ) . (وَقَعَ بِهَا الثَّلَاثُ فِي الْحَالِ، إذَا كَانَ مَدْخُولًا بِهَا) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] . وَقَالَ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] . فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الطَّلَاقِ بِتَكَرُّرِ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ عَدَمُ تَطْلِيقِهِ لَهَا، فَإِذَا مَضَى بَعْدَ يَمِينِهِ زَمَنٌ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، فَقَدْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ، فَيَقَعُ طَلْقَةٌ، وَتَتْبَعُهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا، بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: أَيَّ وَقْتٍ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَلَا يَتَكَرَّرُ إلَّا عَلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ فِي " مَتَى "، فَإِنَّهُ يَرَاهَا لِلتَّكْرَارِ، فَيَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ بِهَا مِثْلُ " كُلَّمَا " إلَّا أَنَّ " مَتَى " و " أَيَّ وَقْتٍ " يَقْتَضِيَانِ الطَّلَاقَ عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَالِ. وَأَمَّا " إذَا " فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هِيَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهَا اسْمُ وَقْتٍ فَهِيَ كَمَتَى. وَالثَّانِي، أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّهَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرْطِ، فَهِيَ كَإِنْ. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ يَنْوِ وَقْتًا، لَمْ تَطْلُقْ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاةِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: مَتَى لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: أَيَّ وَقْتٍ لَمْ أَحْلِفْ بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَاتٍ، طَلَقَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَا الثَّانِيَةِ؛ لِكَوْنِهِ حَلَفَ عَقِيبَيْهِمَا، وَحَنِثَ فِي الثَّالِثَةِ. وَإِنْ سَكَتَ بَيْنَ كُلِّ يَمِينَيْنِ سُكُوتًا يُمْكِنْهُ الْحَلِفُ فِيهِ، طَلَقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ بِلَفْظَةِ إذَا، وَقُلْنَا: هِيَ عَلَى الْفَوْرِ. فَهِيَ كَمَتَى، وَإِلَّا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً فِي آخِرِ حَيَاةِ أَحَدِهِمَا. [فَصْلٌ الْحُرُوفُ الْمُسْتَعْمَلَةُ لِلشَّرْطِ وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِهَا] (5951) فَصْلٌ: وَالْحُرُوفُ الْمُسْتَعْمَلَةُ لِلشَّرْطِ وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِهَا سِتَّةٌ؛ إنْ، وَإِذَا، وَمَتَى، وَمَنْ، وَأَيُّ وَكُلَّمَا. فَمَتَى عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِإِيحَادِ فِعْلٍ بِوَاحِدٍ مِنْهَا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي، مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ خَرَجْت، وَإِذَا خَرَجْت، وَمَتَى خَرَجْت، وَأَيَّ حِينٍ، وَأَيَّ زَمَانٍ، وَأَيَّ وَقْتٍ خَرَجْت، وَكُلَّمَا خَرَجْت، وَمَنْ خَرَجَتْ مِنْكُنَّ، وَأَيَّتُكُنَّ خَرَجَتْ فَهِيَ طَالِقٌ. فَمَتَى وُجِدَ الْخُرُوجُ طَلَقَتْ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، سَقَطْت الْيَمِينُ. فَأَمَّا إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالنَّفْيِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، كَانَتْ " إنْ " عَلَى التَّرَاخِي، وَمَتَى، وَأَيُّ، وَمَنْ، وَكُلَّمَا، عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَتَى دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. يَقْتَضِي أَيَّ زَمَانٍ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ، فَأَيَّ زَمَنٍ دَخَلَتْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ. وَإِذَا قَالَ: مَتَى لَمْ تَدْخُلِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِذَا مَضَى عَقِيبَ الْيَمِين زَمَنٌ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ، وُجِدَتْ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِوَقْتِ الْفِعْلِ، فَيُقَدَّرُ بِهِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ السُّؤَالُ بِهِ، فَيُقَالُ: مَتَى دَخَلْت؟ أَيْ: أَيَّ وَقْتٍ دَخَلْت. وَأَمَّا " إنْ " فَلَا تَقْتَضِي وَقْتًا، فَقَوْلُهُ: إنْ لَمْ تَدْخُلِي. لَا يَقْتَضِي وَقْتًا، إلَّا ضَرُورَةَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ إلَّا فِي وَقْتٍ، فَهِيَ مُطْلَقَةٌ فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ. وَأَمَّا إذَا، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هِيَ عَلَى التَّرَاخِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَنَصَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ شَرْطًا بِمَعْنَى إنْ، قَالَ الشَّاعِرُ: اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّك بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ فَجَزَمَ بِهَا كَمَا يَجْزِمُ بِأَنْ، وَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَتَى وَإِنْ، وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْأَمْرَيْنِ، فَالْيَقِينُ بَقَاءُ النِّكَاحِ، فَلَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لَزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَتَكُونُ كَمَتَى. وَأَمَّا الْمُجَازَاةُ بِهَا فَلَا تُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا، فَإِنَّ مَتَى يُجَازَى بِهَا أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ و" مَنْ " يُجَازَى بِهَا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ " أَيُّ " وَسَائِرُ الْحُرُوفِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا كُلَّمَا، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي " مَتَى " أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلتَّكْرَارِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِد أَيْ: فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَمَتَى وُجِدَ الشَّرْطُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيه؛ لِأَنَّهَا اسْمُ زَمَنٍ بِمَعْنَى أَيَّ وَقْتٍ، وَبِمَعْنَى إذَا، فَلَا تَقْتَضِي مَا لَا يَقْتَضِيَانِهِ، وَكَوْنُهَا تُسْتَعْمَلُ لِلتَّكْرَارِ فِي بَعْضِ أَحْيَانِهَا، لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَهَا فِي غَيْرِهِ، مِثْلُ إذَا وَأَيَّ وَقْتٍ، فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْأَمْرَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] . {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 203] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ ... لَهُمْ سَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا وَكَذَلِكَ أَيَّ وَقْتٍ وَأَيَّ زَمَانٍ، فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ لِلتَّكْرَارِ، وَسَائِرُ الْحُرُوفِ يُجَازَى بِهَا، إلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّكْرَارِ وَغَيْرِهِ، لَا تُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَذَلِكَ مَتَى. (5952) فَصْلٌ: وَهَذِهِ الْحُرُوفُ إذَا تَقَدَّمَ جَزَاؤُهَا عَلَيْهَا، لَمْ تَحْتَجْ إلَى حَرْفٍ فِي الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَإِنْ تَأَخَّرَ جَزَاؤُهَا، احْتَاجَتْ فِي الْجَزَاءِ إلَى حَرْفِ الْفَاءِ إذَا كَانَ جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنَّمَا اُخْتُصَّتْ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، فَتَرْبِطُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَشَرْطِهِ، وَتَدُلُّ عَلَى تَعْقِيبِهِ بِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 يُعَلَّقُ بِالْفَاءِ، وَهَذِهِ لَا فَاءَ فِيهَا، فَيَكُونُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أُتِيَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْلِيقَ بِهِ، وَإِنَّمَا حَذَفَ الْفَاءَ وَهِيَ مُرَادَةٌ، كَمَا يُحْذَفُ الْمُبْتَدَأُ تَارَةً، وَيُحْذَفُ الْخَبَرُ أُخْرَى، لِدَلَالَةِ بَاقِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْفَاءِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَقَدَّمَ الشَّرْطَ، وَمُرَادُهُ التَّأْخِيرُ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى فَائِدَةٍ، وَتَصْحِيحُهُ عَنْ الْفَسَادِ، وَجَبَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَصْحِيحُهُ، وَفِيمَا ذَكَرُوهُ إلْغَاؤُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ. وَقَعَ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ؛ لَأَنْ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولُك الدَّارَ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ ". وَقَالَ: " صِلْهُمْ وَإِنْ قَطَعُوك، وَأَعْطِهِمْ وَإِنْ حَرَمُوك ". وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الشَّرْطَ، دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَإِذَا قَالَ: إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُخْرَى. فَمَتَى دَخَلَتْ الْأُولَى طَلَقَتْ، سَوَاءٌ دَخَلَتْ الْأُخْرَى أَوْ لَمْ تَدْخُلْ، وَلَا تَطْلُقُ بِدُخُولِ الْأُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: تَطْلُقُ بِدُخُولِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مُقْتَضَيْ اللُّغَةِ مَا قُلْنَاهُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت جَعْلَ الثَّانِي شَرْطًا لِطَلَاقِهَا أَيْضًا. طَلَقَتْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ دُخُولَ الثَّانِيَةِ شَرْطٌ لِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ، فَهُوَ عَلَى مَا أَرَادَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُخْرَى. طَلَقَتْ بِدُخُولِ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ شَرْطًا عَلَى شَرْطٍ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ دُخُولَ الثَّانِيَةِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ، وَطَلَقَتْ بِدُخُولِ الْأُولَى وَحْدَهَا. وَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَإِنْ دَخَلَتْ هَذِهِ الْأُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَدْ قِيلَ: لَا تَطْلُقُ إلَّا بِدُخُولِهِمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهَا جَزَاءً لِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقْ بِأَحَدِهِمَا أَيِّهِمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ شَرْطَيْنِ بِحَرْفَيْنِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 فَيَقْتَضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءً، فَتَرَكَ ذِكْرَ جَزَاءِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الْجَزَاءُ الْآخَرُ دَالًّا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: ضَرَبْت وَضَرَبَنِي زَيْدٌ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَلَكِنَّ نِصْفًا لَوْ سَبَبْت وَسَبَّنِي ... بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَاشِمِ وَالتَّقْدِيرُ سَبَّنِي هَؤُلَاءِ وَسَبَبْتهمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] . أَيْ عَنْ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. وَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَقَتْ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ لِلْجَزَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِابْتِدَاءِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهَا الْجَزَاءَ. أَوْ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ دُخُولَهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا طَالِقًا شَرْطًا لِشَيْءٍ، ثُمَّ أَمْسَكْت. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ جَعَلَ لِهَذَا جَزَاءً، فَقَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ فَعَبْدِي حُرٌّ. صَحَّ، وَلَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ. وَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ هَاهُنَا لِلْحَالِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . وَقَوْلِهِ: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ طَالِقًا. فَدَخَلَتْ وَهِيَ طَالِقٌ، طَلَقَتْ أُخْرَى، وَإِنْ دَخَلَتْهَا غَيْرَ طَالِقٍ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَالٌ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاكِبَةً. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ قُمْتِ. كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ قُمْتِ. وَهَذَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلشَّرْطِ كَانَتْ لَغْوًا، وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ. وَقِيلَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْإِثْبَاتِ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَنْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] ، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 64] . وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ لَهَا جَوَابًا. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. (5953) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ أَكَلَتْ وَلَبِسْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بِوُجُودِهِمَا جَمِيعًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْأَكْلُ أَوْ تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَلَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ أَكَلْتِ أَوْ لَبِسْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلَقَتْ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ أَكَلْتِ، أَوْ إنْ لَبِسْتِ، أَوْ لَا أَكَلْتِ وَلَا لَبِسْتِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا أَكَلْتِ وَلَبِسْتِ. لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بِفِعْلِهِمَا، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: يَحْنَثُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا هَاهُنَا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَكَلْتِ فَلَبِسْتِ، أَوْ إنْ أَكَلْتِ ثُمَّ لَبِسْتِ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَأْكُلَ ثُمَّ تَلْبَسَ، لِأَنَّ الْفَاءَ وَثَمَّ لِلتَّرْتِيبِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَكَلْتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 إذَا لَبِسْتِ. أَوْ: إنْ أَكَلْتِ مَتَى لَبِسْتِ. أَوْ: إنْ أَكَلْتِ إنْ لَبِسْتِ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَلْبَسَ ثُمَّ تَأْكُلَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْأَكْلِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَيُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ اعْتِرَاضَ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، فَيَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْمُتَأَخِّرِ وَتَأْخِيرَ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَ فِي اللَّفْظِ شَرْطًا لِلَّذِي قَبْلَهُ، وَالشَّرْطُ يَتَقَدَّمُ الْمَشْرُوطَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] . فَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَعْطَيْتُك، إنْ وَعَدْتُك، إنْ سَأَلْتنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَسْأَلَهُ، ثُمَّ يَعِدَهَا ثُمَّ يُعْطِيَهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَطِيَّةِ الْوَعْدَ، وَفِي الْوَعْدِ السُّؤَالَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ سَأَلْتنِي، فَوَعَدْتُك، فَأَعْطَيْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي إذَا كَانَ الشَّرْطُ بِإِذَا كَقَوْلِنَا، وَفِيمَا إذَا كَانَ بِإِنْ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنْ شَرِبْت إنْ أَكَلْت. أَنَّهَا تَطْلُقُ بِوُجُودِهِمَا كَيْفَمَا وُجِدَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَقُولهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذَا، فَتَعَلَّقْت الْيَمِينُ بِمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْعُرْف، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ بِإِذَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْعُرْفِ فِي هَذَا عُرْفٌ؛ فَإِنْ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ مُتَدَاوَلٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ إلَّا نَادِرًا، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى مُقْتَضَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّأْنِ، كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ. (5954) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ قُمْت. بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ " أَنْ " الْمَفْتُوحَةَ لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّعْلِيلِ، فَمَعْنَاهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّك قُمْت، أَوْ لِقِيَامِك. كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] . {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] . {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1] . وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إنْ كَانَ نَحْوِيًّا وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَحْوِيًّا فَهِيَ لِلشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إلَّا الشَّرْطَ، وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ مُقْتَضَاهَا التَّعْلِيلُ، فَلَا يُرِيدُهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ مَا لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا يُرِيدُهُ، كَمَا لَوْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الطَّلَاقِ بِلِسَانٍ لَا يَعْرِفُهُ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي النَّحْوِيِّ أَيْضًا: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي، يَكُونُ شَرْطًا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، وَتَعْلِيلًا فِي حَقِّ النَّحْوِيِّ. وَالثَّالِثُ، يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْرَابِ، فَيَقُولُ: أَرَدْت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 الشَّرْطَ. فَيُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ عَمَّا يَقْتَضِيه إلَّا بِقَصْدِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذْ دَخَلْت الدَّارَ. طَلَقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ إذْ لِلْمَاضِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. (5955) فَصْلٌ: وَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطَيْنِ، لَمْ يَقَعْ قَبْلَ وُجُودِهِمَا جَمِيعًا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي وُقُوعِهِ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا، بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَ بَعْضَهُ. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، يُخَالِفُ الْأُصُولَ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ وَالْعُرْفَ، وَعَامَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنهمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِإِخْلَالِهِ بِالتَّرْتِيبِ فِي الشَّرْطَيْنِ الْمُرَتَّبَيْنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: إنْ أَكَلْت ثُمَّ لَبِسْت. فَلِإِخْلَالِهِ بِالشَّرْطِ كُلِّهِ أَوْلَى، ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتنِي دِرْهَمَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ قَبْلَ وُجُودِهِمَا جَمِيعًا، وَكَانَ قَوْلُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ بِإِعْطَائِهِ بَعْضَ دِرْهَمٍ وَمُضِيِّ بَعْضِ يَوْمٍ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِمَا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِذَا قَالَ: إذَا صُمْتِ يَوْمًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً كَامِلَةً، وَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي تَصُومُ فِيهِ طَلَقَتْ، وَأَمَّا الْيَمِينُ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ فِي لَفْظِهِ أَوْ نِيَّتِهِ مَا يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِفِعْلِ جَمِيعِهِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا مَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطَيْنِ مَعًا؛ لِتَصْرِيحِهِ بِهِمَا، وَجَعْلِهِمَا شَرْطًا لِلطَّلَاقِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَرْطِهِ، عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مُقْتَضَاهَا الْمَنْعُ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَيَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ فِعْلِ جَمِيعِهِ، لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْ شَيْءٍ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، كَمَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَمَا عُلِّقَ عَلَى شَرْطٍ جُعِلَ جَزَاءً وَحُكْمًا لَهُ، وَالْجَزَاءُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ تَمَامِ شَرْطِهِ، لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا. [فُصُولُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ] (5956) فُصُولٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت. فَصَدَّقَهَا، طَلَقَتْ، وَإِنْ كَذَّبَهَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُقْبَلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ عَلَى نَفْسِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . قِيلَ: هُوَ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ. وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهَا فِيهِ مَقْبُولٌ، لَمَا حَرُمَ عَلَيْهَا كِتْمَانُهُ، وَصَارَ هَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 لَمَّا حَرَّمَ كِتْمَانَهَا دَلَّ عَلَى قَبُولِهَا، كَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى فِيهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهَا فِيهِ، كَقَضَاءِ عِدَّتِهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَيَخْتَبِرُهَا النِّسَاءُ، بِإِدْخَالِ قُطْنَةٍ فِي الْفَرْجِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي ادَّعَتْ الْحَيْضَ فِيهِ، فَإِنْ ظَهَرَ الدَّمُ فَهِيَ حَائِضٌ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ. فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت: يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ، فَتُعْطَى قُطْنَةً وَتُخْرِجُهَا، فَإِنْ خَرَجَ الدَّمُ فَهِيَ حَائِضٌ، تَطْلُقُ وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا، كَدُخُولِ الدَّارِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ، وَلَعَلَّ أَحْمَدَ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْبَيِّنَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَجْلِ عِتْقِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ قَوْلَهَا إنَّمَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَهَلْ يُعْتَبَرُ يَمِينُهَا إذَا قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، فَأَنْكَرَهَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا فِي حَقِّ نَفْسِهَا خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا، مِنْ طَلَاقِ أُخْرَى، أَوْ عِتْقِ عَبْدٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ مَعَك. لِامْرَأَتِهِ الْأُخْرَى. قَالَتْ: قَدْ حِضْت. مِنْ سَاعَتِهَا أَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ، تَطْلُقُ هِيَ، وَلَا تَطْلُقُ هَذِهِ حَتَّى تَعْلَمَ؛ لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى نَفْسِهَا، وَلَا يُجْعَلُ طَلَاقُ هَذِهِ بِيَدِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا، دُونَ غَيْرِهَا، فَصَارَتْ كَالْمُودَعِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُودِعِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ حِضْت. فَأَنْكَرَتْ. طَلُقَتْ بِإِقْرَارِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنْ حِضْت فَأَنْتِ وَضَرَّتُك طَالِقَتَانِ. فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت. فَصَدَّقَهَا، طَلُقَتَا بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ كَذَّبَهَا، طَلُقَتْ وَحْدَهَا. وَإِنْ ادَّعَتْ الضَّرَّةُ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتهَا بِحَيْضِ غَيْرِهَا كَمَعْرِفَةِ الزَّوْجِ بِهِ، وَإِنَّمَا اُؤْتُمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا فِي حَيْضِهَا. وَإِنْ قَالَ: قَدْ حِضْت. فَأَنْكَرَتْ، طَلُقَتَا بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَقَالَتَا: قَدْ حِضْنَا. فَصَدَّقَهُمَا، طَلُقَتَا، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا، لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطَيْنِ، حَيْضِهَا، وَحَيْضِ ضَرَّتِهَا، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ ضَرَّتِهَا عَلَيْهَا، فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطَانِ. وَإِنْ صَدَّقَ إحْدَاهُمَا، وَكَذَّبَ الْأُخْرَى، طَلُقَتْ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي حَقِّهَا. وَقَدْ صَدَّقَ الزَّوْجُ ضَرَّتَهَا، فَوُجِدَ الشَّرْطَانِ فِي طَلَاقِهَا، وَلَمْ تَطْلُقْ الْمُصَدَّقَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ ضَرَّتِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّهَا، وَمَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ طَلَاقِهَا. [فَصْلٌ قَالَ لَأَرْبَعٍ إنْ حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لَأَرْبَعٍ: إنْ حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ. فَقُلْنَ: قَدْ حِضْنَا. فَصَدَّقَهُنَّ، طَلُقْنَ وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ، لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ طَلَاقِهِنَّ حَيْضُ الْأَرْبَعِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، لَمْ تَطْلُقْ، وَاحِدَةٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ. وَإِنْ صَدَّقَ ثَلَاثًا، طَلُقَتْ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي حَيْضِهَا، وَقَدْ صَدَّقَ الزَّوْجُ صَوَاحِبَهَا، فَوَجَدَ حَيْضُ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّهَا، فَطَلُقَتْ، وَلَا يُطَلِّقُ الْمُصَدَّقَاتُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُكَذِّبَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّهِنَّ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُنَّ كُلَّمَا حَاضَتْ إحْدَاكُنَّ أَوْ أَيَّتُكُنَّ حَاضَتْ فَضَرَّاتُهَا طَوَالِقُ فَقُلْنَ قَدْ حِضْنَا] (5958) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لَهُنًّ: كُلَّمَا حَاضَتْ إحْدَاكُنَّ، أَوْ أَيَّتُكُنَّ حَاضَتْ، فَضَرَّاتُهَا طَوَالِقُ. فَقُلْنَ: قَدْ حِضْنَا، فَصَدَّقَهُنَّ، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ، لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا طَلْقَةً طَلْقَةً، وَلَمْ تَطْلُقْ هِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَيْضُ ضَرَّةٍ لَهَا. وَإِنْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُصَدَّقَتَيْنِ طَلْقَةً طَلْقَةً؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ضَرَّةً مُصَدَّقَةً، وَطَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُكَذَّبَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ. وَإِنْ صَدَّقَ ثَلَاثًا، طَلُقَتْ الْمُكَذَّبَةُ ثَلَاثًا، وَطَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُصَدَّقَاتِ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ لَطَاهِرٍ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5959) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِطَاهِرٍ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَرَأَتْ الدَّمَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ حَيْضًا فِي الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ. وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضِ، لِانْقِطَاعِهِ لِدُونِ أَقَلِّ الْحَيْضِ، بَانَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا مَالِكًا فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ رَوَى عَنْهُ، أَنَّهُ يَحْنَثُ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا. وَإِنْ قَالَ لِحَائِضٍ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ. وَلَوْ قَالَ لِطَاهِرٍ: إذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ. وَهَذَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَطْلُقُ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهَا الْحَيْضُ وَالطُّهْر، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ صِفَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ إذَا اسْمُ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، يَقْتَضِي فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا، وَهَذَا الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ مُسْتَدَامٌ غَيْرُ مُتَجَدِّدٍ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ: حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَطَهُرَتْ. إلَّا ابْتِدَاءُ ذَلِكَ، فَتَعَلَّقَتْ الصِّفَةُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ لِطَاهِرٍ: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُوجَدُ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ إلَّا بِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ لِحَائِضٍ: إذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ بِأَوَّلِ الطُّهْرِ، وَتَطْلُقْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ قَبْلَ الْغُسْلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ، فِي " التَّنْبِيهِ " فِيهَا قَوْلًا، أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَغْتَسِلَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ حَتَّى تَغْتَسِلَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . أَيْ: يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] . أَيْ: اغْتَسَلْنَ. وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَصِحَّةِ الطَّهَارَةِ وَالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَائِضًا فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخِرِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهَا إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ حَيْضَةً] (5960) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَحَاضَتْ حَيْضَةً، طَلُقَتْ وَاحِدَةً، فَإِذَا حَاضَتْ الثَّانِيَةَ، طَلُقَتْ الثَّانِيَةَ عِنْدَ طُهْرِهَا مِنْهَا. وَإِنْ قَالَ إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُق الثَّانِيَةَ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ، فَتَقْتَضِي حَيْضَتَيْنِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، لِكَوْنِهِمَا مُرَتَّبَتَيْنِ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ قَالَ إذَا حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5961) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إذَا حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ إذَا ذَهَبَ نِصْفُ الْحَيْضَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذَا حَاضَتْ نِصْفَ عَادَتِهَا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَيَقَّنُ مُضِيَّ نِصْفِ الْحَيْضَةِ إلَّا بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ تَطْهُرَ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَتَى طَهُرَتْ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي نِصْفِ الْحَيْضَةِ. وَقِيلَ: يَلْغُو قَوْلُهُ: نِصْفِ حَيْضَةٍ. وَيَبْقَى طَلَاقُهَا مُعَلَّقًا بِوُجُودِ الْحَيْضِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَهُ مُدَّةٌ، أَقَلُّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلَهُ نِصْفٌ حَقِيقَةً، وَالْجَهْلُ بِقَدْرِ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُودَهُ، وَتَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ، كَالْحَمْلِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ] (5962) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى تَحِيضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إنْ حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. كَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . أَيْ: اجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ وَيَحْتَمِل أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِحَيْضِ إحْدَاهُمَا حَيْضَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُمَا، وَجَبَتْ إضَافَته إلَى إحْدَاهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] . وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْغُو قَوْلُهُ: حَيْضَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ حَيْضَةً وَاحِدَةً مِنْ امْرَأَتَيْنِ مُحَالٌ، فَيَبْقَى كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، لَا تَنْعَقِدُ هَذِهِ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحِيلَةٌ، فَتَصِيرُ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْحِيحَ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ بِحَمْلِهِ عَلَى مَحْمَلٍ سَائِغٍ، وَتَبْعِيد لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالْيَقِينُ بَقَاءُ النِّكَاحِ، فَلَا يَزُولُ حَتَّى يُوجَدَ مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ يَقِينًا، وَغَيْرُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ. فَإِنْ أَرَادَ بِكَلَامِهِ أَحَدَ هَذِهِ الْوُجُوهِ، حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ، قُبِلَ مِنْهُ. وَإِذَا قَالَ: أَرَدْت أَنْ تَكُونَ الْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُمَا، فَهُوَ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ بِمُسْتَحِيلِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْغُوَ قَوْلُهُ: حَيْضَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لَا تُوجَدُ، فَلَا يُوجَدُ مَا عُلِّقَ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ، وَيَلْغُوَ الشَّرْطُ، بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَالَ أَيَّتُكُنَّ لَمْ أَطَأْهَا فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ] فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: أَيَّتُكُنَّ لَمْ أَطَأْهَا، فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ. وَقَيَّدَهُ بِوَقْتٍ، فَمَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يَطَأْهُنَّ، طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ ضَرَائِرَ غَيْرَ مَوْطُوءَاتٍ. وَإِنْ وَطِئَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ وَاحِدَةً، لَمْ تَطْلُقْ الْمَتْرُوكَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا ضَرَّةٌ غَيْرُ مَوْطُوءَةٍ، وَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَوْطُوآت طَلْقَةً طَلْقَةً. وَإِنْ وَطِئَ اثْنَتَيْنِ طَلُقَتَا طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، وَطَلُقَتْ الْمَتْرُوكَتَانِ طَلْقَةً طَلْقَةً. وَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَطَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَتْرُوكَات طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِوَقْتٍ، كَانَ وَقْتُ الطَّلَاقِ مُقَيَّدًا بِعُمْرِهِ وَعُمْرِهِنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ مَاتَتْ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا طَلْقَةً طَلْقَةً، وَإِذَا مَاتَتْ أُخْرَى فَكَذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ هُوَ طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ تَكُنْ حَامِلًا] (5964) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ تَكُنْ حَامِلًا، طَلُقَتْ. وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْيَمِينِ، أَوْ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ يَطَؤُهَا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا بِذَلِكَ الْوَلَدِ. وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ وَلَمْ تَلِدْ، تَبَيَّنَّا أَنَّهَا طَلُقَتْ حِين عَقْدِ الْيَمِينِ. وَإِنْ كَانَ يَطَؤُهَا، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ الْحَمْلِ، مِنْ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَنَحْوِهِ، قَبْلَ وَطْئِهِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَطْءِ الثَّانِي، لَمْ تَطْلُقْ. وَإِنْ حَاضَتْ أَوْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتهَا مِنْ الْحَمْلِ طَلُقَتْ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّانِي، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي، لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، فَلَا يَزُولُ بِشَكٍّ وَاحْتِمَالٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَالِاسْتِبْرَاءُ هَاهُنَا بِحَيْضَةٍ، فَإِنْ وُجِدَتْ الْحَيْضَةُ عَلَى عَادَتِهَا، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ طَلَاقِهَا، وَإِنْ لَمْ تَأْتِ فِي عَادَتِهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى حَمْلِهَا وَحِلِّ وَطْئِهَا. وَإِنْ قَالَ: إنْ كُنْت حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهِيَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَمَّ لَا يَقَعُ هَاهُنَا، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَقَعُ ثَمَّ يَقَعُ هَاهُنَا، إلَّا أَنَّهَا إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، مِنْ حِينِ وَطْءِ الزَّوْجِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَع سِنِينَ مِنْ حِينِ عَقْدِ الصِّفَةِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ النِّكَاحِ بَاقٍ، وَالظَّاهِرُ حُدُوثُ الْوَلَدِ مِنْ الْوَطْءِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ قَبْلَهُ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ الْوَطْءُ سَوَاءٌ قُلْنَا: الرَّجْعِيَّةُ مُبَاحَةٌ أَوْ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمَعْرِفَةَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَبَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ. وَإِذَا اسْتَبْرَأَهَا، حَلَّ وَطْؤُهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَيَكُونُ الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: مَتَى حَمَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَحِيضَ، فَإِذَا طَهُرَتْ وَطِئَهَا، فَإِنْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا أُرِيَتْ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْنَ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِنَّ، انْتَظَرَ عَلَيْهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْلِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَقَدْ حَصَلَ بِحَيْضَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . يَعْنِي: تُعْلَمُ بَرَاءَتُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلِأَنَّ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْبَرَاءَةُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ. وَأَمَّا الْعِدَّةُ، فَفِيهَا نَوْعُ تَعَبُّدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّى بِالْقِيَاسِ. وَهَلْ تَعْتَدُّ بِالِاسْتِبْرَاءِ قَبْلَ عَقْدِ الْيَمِينِ، أَوْ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَلَفَ فِيهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَصَحُّهُمَا الِاعْتِدَادُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الْيَمِينِ. وَالثَّانِي، لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى سَبَبِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ. قَالَ أَحْمَدُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. يَطَؤُهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً. يَعْنِي إذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ حَلَّ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ عَلَمٌ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ، وَوَطْؤُهَا سَبَبٌ لَهُ، فَإِذَا وَطِئَهَا اعْتَزَلَهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ مِنْ وَطْئِهِ، فَطَلُقَتْ بِهِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ كُنْت حَامِلًا بِغُلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ غُلَامًا كَانَتْ حَامِلًا بِهِ وَقْتَ الْيَمِينِ] (5965) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: إنَّ كُنْت حَامِلًا بِغُلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ وَلَدْت أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ. فَوَلَدَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 غُلَامًا، كَانَتْ حَامِلًا بِهِ وَقْتَ الْيَمِينِ. تَبَيَّنَّا أَنَّهَا طَلُقَتْ وَاحِدَةً حِينَ حَلَفَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ. وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، طَلُقَتْ بِوِلَادَتِهَا طَلْقَتَيْنِ، وَاعْتَدَّتْ بِالْقُرُوءِ. وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، وَكَانَ الْغُلَامُ أَوَّلَهُمَا وِلَادَةً، تَبَيَّنَّا أَنَّهَا طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَبَانَتْ بِوَضْعِ الْجَارِيَةِ، وَلَمْ تَطْلُقْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلَهُمَا وِلَادَةً، طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ وَاحِدَةً بِحَمْلِ الْغُلَامِ، وَاثْنَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْغُلَامِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ كُنْت حَامِلًا بِغُلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كُنْت حَامِلًا بِجَارِيَةِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ. فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُك غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ حَمْلُك جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ. فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا كُلَّهُ لَيْسَ بِغُلَامٍ وَلَا هُوَ جَارِيَةٌ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَأَبُو الْخَطَّابِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ: الْقَاضِي، فِي " الْجَامِع ": فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَنْ حَلَفَ: لَا لَبِسْت ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا. فَلَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ مِنْ غَزْلِهَا. [فَصْلٌ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثًا] (5966) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَوَلَدَتْ ثَلَاثًا، دَفْعَةً وَاحِدَةً، طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّلَاثِ وُجِدَتْ وَهِيَ زَوْجَةٌ. وَإِنْ وَلَدَتْهُمْ فِي دَفَعَاتٍ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، طَلُقَتْ بِالْأَوَّلَيْنِ، وَبَانَتْ بِالثَّالِثِ، وَلَمْ تَطْلُقْ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّهَا تَطْلُق؛ لِأَنَّ زَمَانَ الْبَيْنُونَةِ زَمَنُ الْوُقُوعِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ الْعِدَّةَ انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَصَادَفَهَا الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا مِتّ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي مَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي. أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ. فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ قَالَ: إنْ وَلَدْت ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ وَلَدْت أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ. فَوَلَدَتْهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ وَلَدَتْهُمَا فِي دَفْعَتَيْنِ، وَقَعَ بِالْأَوَّلِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، وَبَانَتْ بِالثَّانِي، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، أَوْ كَيْفِيَّةُ وَضْعِهِمَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِيَقِينٍ، وَلَا تَلْزَمُهُ الثَّانِيَةُ، وَالْوَرَعُ أَنْ يَلْتَزِمَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ أَوَّلُ مَا تَلِدِينَ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ. فَوَلَدَتْهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَقَعْ بِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا أَوَّلَ فِيهِمَا، فَلَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ. وَإِنْ وَلَدَتْهُمَا فِي دَفْعَتَيْنِ، وَقَعَ بِالْأَوَّلِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقَعْ بِالثَّانِي شَيْءٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 [فَصْلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَالَ كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ فَوَلَدْنَ دَفْعَةً وَاحِدَةً] (5967) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ، فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ. فَوَلَدْنَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَإِنْ وَلَدْنَ فِي دَفَعَاتٍ، وَقَعَ بِضَرَائِرِ الْأُولَى طَلْقَةً طَلْقَةً، فَإِذَا وَلَدَتْ الثَّانِيَةُ بَانَتْ بِوَضْعِهِ، وَلَمْ تَطْلُقْ. وَهَلْ يُطَلِّقُ سَائِرُهُنَّ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا، لَا يَقَعُ بِهِنَّ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ، فَلَمْ يَبْقَيْنَ ضَرَائِرَهَا، وَالزَّوْجُ إنَّمَا عَلَّقَ عَلَى وِلَادَتِهَا طَلَاقَ ضَرَائِرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّهُنَّ ضَرَائِرُهَا فِي حَالِ وِلَادَتِهَا. فَعَلَى هَذَا يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ اللَّتَيْنِ لَمْ يَلِدْنَ طَلْقَتَانِ طَلْقَتَانِ، وَتَبِينُ هَذِهِ، وَتَقَعُ بِالْوَالِدَةِ الْأُولَى طَلْقَةٌ، فَإِذَا وَلَدْت الثَّالِثَةُ بَانَتْ. وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْبَاقِيَتَيْنِ وَجْهَانِ؛ فَإِذَا قُلْنَا: يَقَعُ بِهِنَّ. طَلُقَتْ الرَّابِعَةُ ثَلَاثًا، وَالْأُولَى طَلْقَتَيْنِ، وَبَانَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، وَلَيْسَ فِيهِنَّ مَنْ لَهُ رَجْعَتُهَا إلَّا الْأُولَى، مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، وَإِذَا وَلَدَتْ الرَّابِعَةُ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ، فَسَائِرُكُنَّ طَوَالِقُ. أَوْ: فَبَاقِيكُنَّ طَوَالِقُ. فَكُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ، وَقَعَ بِبَاقِيهِنَّ طَلْقَةٌ طَلْقَةٌ، وَتَبِينُ الْوَالِدَةُ بِوَضْعِ وَلَدِهَا إلَّا الْأُولَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِبَاقِيهِنَّ بِوِلَادَتِهِمَا هَاهُنَا، وَفِي الْأُولَى لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَبْقَيْنَ ضَرَائِرَهَا، وَهَاهُنَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ. فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأُولَى طَلْقَةٌ بِوِلَادَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ حَامِلًا بِاثْنَيْنِ، فَوَضَعْت الْأَوَّلَ مِنْهُمَا، وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا طَلْقَةٌ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، وَوَقَعَ بِهَا طَلْقَةٌ فِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةِ. وَإِذَا وَضَعْت الثَّالِثَةُ، أَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِاثْنَيْنِ، فَكَذَلِكَ، فَتَطْلُقُ الرَّابِعَةُ ثَلَاثًا، وَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْوَالِدَاتِ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ كُلَّمَا وَضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تَمَامَ حَمْلِهَا، انْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا. قَالَ الْقَاضِي: إذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَتَانِ، فَقَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُمَا، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، طَلُقَتَا جَمِيعًا، ثُمَّ وَلَدَتْ الثَّانِيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، بَانَتْ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَمْ تَطْلُقْ، وَطَلُقَتْ الْأُولَى ثَانِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَامِلًا بِاثْنَيْنِ، طَلُقَتَا بِوَضْعِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً طَلْقَةً أَيْضًا، ثُمَّ إذَا وَلَدَتْ الْأُولَى تَمَامَ حَمْلِهَا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِهِ، وَطَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا، فَإِذَا وَلَدَتْ الثَّانِيَةُ تَمَامَ حَمْلِهَا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِهِ، وَطَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ كَلَّمْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ ثَانِيَةً] (5968) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَلَّمْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ ثَانِيَةً، طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ إعَادَتَهُ تَكْلِيمٌ لَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 وَشَرْطٌ لِطَلَاقِهَا، فَإِنْ أَعَادَهُ ثَالِثَةً، طَلُقَتْ ثَانِيَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولِ بِهَا فَتَبِينُ بِالْأُولَى، وَلَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ ثَانٍ، وَإِنْ أَعَادَهُ رَابِعَةً، طَلُقَتْ الثَّالِثَةَ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاعْلَمِي ذَلِكَ، أَوْ فَتُحَقَّقِي ذَلِكَ. حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهَا بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَإِنْ زَجَرَهَا، فَقَالَ: تَنَحِّي، أَوْ اُسْكُتِي أَوْ اذْهَبِي. حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ. وَإِنْ سَمِعَهَا تَذْكُرُهُ، فَقَالَ: الْكَاذِبُ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. حَنِثَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهَا. وَإِنْ كَلَّمَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، أَوْ مَغْلُوبَةٌ عَلَى عَقْلِهَا بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ، لَا تَسْمَعُ، أَوْ بَعِيدَةٌ لَا تَسْمَعُ كَلَامَهُ، أَوْ صَمَّاءُ بِحَيْثُ لَا تَفْهَمُ كَلَامَهُ وَلَا تَسْمَعُ، أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَكَلَّمَهُ مَيِّتًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ . وَلَنَا، أَنَّ التَّكَلُّمَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إلَى الْمُتَكَلَّمِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْكَلِمِ، وَهُوَ الْجَرْحُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ كَتَأْثِيرِ الْجَرْحِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِإِسْمَاعِهِ، فَأَمَّا تَكْلِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَوْتَى، فَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْف تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا، أَوْ سُؤَالًا عَمَّا خَفِيَ عَنْهُمْ سَبَبُهُ وَحِكْمَتُهُ، حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكْمَةَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مُخْتَصٍّ بِهِ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ عَلَى النَّفْيِ. وَإِنْ حَلَفَ: لَا كَلَّمْت فُلَانًا. فَكَلَّمَتْهُ سَكْرَانَ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ يُكَلَّمُ وَيَحْنَثُ، وَرُبَّمَا كَانَ تَكْلِيمُهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ أَضَرَّ مِنْ تَكْلِيمِهِ فِي صَحْوِهِ، وَإِنْ كَلَّمَتْهُ سَكْرَانَةَ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الصَّاحِي، وَإِنْ كَلَّمَتْهُ، وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ يَسْمَعُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُكَلَّمُ حَنِثَ. وَإِنْ جُنَّتْ هِيَ، ثُمَّ كَلَّمَتْهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِكَلَامِهَا حُكْمٌ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إنْسَانًا فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَلَمْ يَسْمَعْ] (5969) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إنْسَانًا، فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِتَشَاغُلِهِ أَوْ غَفْلَتِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْمَعْ لِغَفْلَتِهِ، أَوْ شُغْلِ قَلْبِهِ. وَإِنْ كَلَّمَهُ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ، حَنِثَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، أَنْ لَا يُكَلِّمَ حَمَاتَهُ، فَرَآهَا بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ : حَنِثَ، قَدْ كَلَّمَهَا. وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَمِينًا مُكَفِّرَة، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَكْلِيمَهُ، فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 فَأَشْبَهَ لَغْوَ الْيَمِينِ. وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِالسَّلَامِ. وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ، وَأَرَادَ جَمِيعَهُمْ بِالسَّلَامِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُمْ كُلَّهُمْ، وَإِنْ قَصْدَ بِالسَّلَامِ مَنْ عَدَاهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَلَّمَ غَيْرَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُمْ جَمِيعَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ فِي الْحِنْثِ عَلَى الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِمَا بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَعَدَمِ الْحِنْثِ عَلَى الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَة. فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ إمَامًا، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَأْمُومًا، لَمْ يَحْنَثْ بِتَسْلِيمِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِتَسْلِيمِهِ الْمَأْمُومِينَ فَيَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ تَكْلِيمًا، وَلَا يُرِيدُهُ الْحَالِفُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَكَلَّمَ إنْسَانًا، وَفُلَانًا يَسْمَعُ، يَقْصِدُ بِذَلِكَ إسْمَاعَهُ، كَمَا قَالَ: إيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهُ حَنِثَ نَصَّ. عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ: إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَكَلَّمَ إنْسَانًا، وَفُلَانٌ يَسْمَعُ، يُرِيدُ بِكَلَامِهِ إيَّاهُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ تَكْلِيمَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، فَإِنَّهُ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ زِيَادًا، فَعَزَمَ زِيَادٌ عَلَى الْحَجِّ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرَةَ فَدَخَلَ قَصْرَهُ، وَأَخَذَ ابْنَهُ فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ: إنَّ أَبَاكِ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالدُّخُولَ عَلَى زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ عِلْمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. ثُمَّ خَرَجَ، وَلَمْ يَرَ أَنَّهُ كَلَّمَهُ. وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ يُرِيدُهُ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطِبَهُ بِهِ، وَلِأَنَّ بِهِ مَقْصُودَ تَكْلِيمِهِ قَدْ حَصَلَ بِإِسْمَاعِهِ كَلَامَهُ. [فَصْلٌ كَتَبَ إلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَهُ] فَصْلٌ: فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ أَنْ لَا يُشَافِهَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ [فِي] مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] . وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّرْكِ لِكَلَامِهِ هِجْرَانُهُ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ مُوَاصَلَتِهِ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ تَرْكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَكْلِيمٍ حَقِيقَةً، وَلَوْ حَلَفَ لِيُكَلِّمْنَهُ، لَمْ يَبَرَّ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْنَث بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ، فَأَرْسَلَ إنْسَانًا يَسْأَلُ أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، فَجَاءَ الرَّسُولُ، فَسَأَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ امْرَأَتَهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 فَجَامِعَهَا، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ هِجْرَانَهَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَلَّمْتُك خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا وَلَا يُكَلِّمَهَا؟ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ بَدْو هَذَا أَيَسُوءُهَا أَوْ يَغِيظُهَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا وَلَا يُكَلِّمَهَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ. فَقَرَأَهُ فِي نَفْسه، وَلَمْ يُحَرِّكْ شَفَتَيْهِ بِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا قِرَاءَةُ الْكُتُبِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ حَقِيقَةَ الْقِرَاءَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا حَلَفَ: لَا قَرَأْت لِفُلَانٍ كِتَابًا. فَفَتْحَهُ حَتَّى اسْتَقْصَى آخِرَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّكْ شَفَتَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَعْلَمَ مَا فِيهِ، فَقَدْ عَلِمَ مَا فِيهِ وَقَرَأَهُ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ] (5971) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَالَتْ: إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ. انْحَلَّتْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا خَاطِبَتِهِ بِيَمِينِهَا، فَاتَتْهُ الْبِدَايَةُ بِكَلَامِهَا، وَبَقِيَتْ يَمِينُهَا مُعَلَّقَةً، فَإِنْ بَدَأَهَا بِكَلَامِ انْحَلَّتْ يَمِينُهَا أَيْضًا، وَإِنْ بَدَأَتْهُ هِيَ، عَتَقَ عَبْدُهَا. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ إنْ بَدَأَهَا بِالْكَلَامِ فِي وَقْتٍ آخَر، حَنِثَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى بِدَايَةً، فَتَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ تَرَكَ الْبِدَايَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَوْ هَذَا الْمَجْلِسِ، فَيَتَقَيَّد بِهِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إنْ كَلَّمْتُمَا هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ] (5972) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إنْ كَلَّمْتُمَا هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَكَلَّمَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ رَجُلًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ تَكْلِيمَهُمَا وُجِدَ مِنْهُمَا، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَحَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ حَيْضَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ رَكِبْتُمَا دَابَّتَيْكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَرَكِبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ دَابَّتَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، لَا يَحْنَثُ حَتَّى تُكَلِّمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الرَّجُلَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِكَلَامِهِمَا لَهُمَا فَلَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ بِكَلَامِ الْأُخْرَى وَحْدَهَا. وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ. فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْأُولَى. وَهَذَا فِيمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِانْفِرَادِ الْوَاحِدِ بِهِ، فَأَمَّا مَا جَرَى الْعُرْفُ فِيهِ بِانْفِرَادِ الْوَاحِدِ فِيهِ بِالْوَاحِدِ، كَنَحْوِ: رَكِبَا دَابَّتَيْهِمَا، وَلَبِسَا ثَوْبَيْهِمَا، وَتَقَلَّدَا سَيْفَيْهِمَا، وَاعْتَقَلَا رُمْحَيْهِمَا، وَدَخَلَا بِزَوْجَيْهِمَا. وَأَشْبَاه هَذَا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا وُجِدَ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ، وَمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِيهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتُمَا هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ. فَأَكَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَغِيفًا، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَأْكُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الرَّغِيفَيْنِ، بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ وَالدَّارَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَمُحَمَّدٌ مَعَ خَالِدٍ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا، وَمُحَمَّدٌ مَعَ خَالِدٍ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تُكَلِّمَ زَيْدًا فِي حَالٍ يَكُونُ فِيهِ مُحَمَّدٌ مَعَ خَالِدٍ. وَذَكَر الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِ زَيْدٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُحَمَّدٌ مَعَ خَالِدٍ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ جَعْلُ الْكَلَامِ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْلَى مِنْ قَطْعِهِ، وَالرَّفْعُ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ حَالًا، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ تَكُونُ حَالًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] . وَقَالَ: {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] . {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] . وَهَذَا كَثِيرٌ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُهُ عَنْ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ فِي سِيَاقِهِ مَعَ إمْكَانِ وَصْلِهِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَمُحَمَّدٌ مَعَ خَالِدٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُق حَتَّى تُكَلِّمَ زَيْدًا فِي حَالِ كَوْنِ مُحَمَّدٍ مَعَ خَالِدٍ، فَكَذَلِكَ إذَا تَأَخَّرَ قَوْلُهُ: مُحَمَّدٌ مَعَ خَالِدٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَأَنَا غَائِبٌ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تُكَلِّمَهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. أَوْ وَهُوَ رَاكِبٌ. أَوْ: وَمُحَمَّدٌ رَاكِبٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تُكَلِّمَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَمُحَمَّدٌ أَخُوهُ مَرِيضٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تُكَلِّمَهُ وَأَخُوهُ مُحَمَّدٌ مَرِيضٌ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ كَلَّمْتنِي إلَى أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5974) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتنِي إلَى أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ. أَوْ: حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَكَلَّمَتْهُ قَبْلَ قُدُومِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَدَّ الْمَنْعَ إلَى غَايَةٍ هِيَ قُدُومُ زَيْدٍ، فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَهَا. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت إنْ اسْتَدَمْت كَلَامِي مِنْ الْآن إلَى أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت] (5975) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت. أَوْ: إذَا شِئْت. أَوْ: مَتَى شِئْت. أَوْ: كُلَّمَا شِئْت. أَوْ: كَيْفَ شِئْت. أَوْ: حَيْثُ شِئْت. أَوْ: أَنَّى شِئْت. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَشَاءَ، وَتَنْطِقَ بِالْمَشِيئَةِ بِلِسَانِهَا، فَتَقُولَ: قَدْ شِئْت. لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ اللِّسَانُ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ، دُونَ مَا فِي الْقَلْبِ، فَلَوْ شَاءَتْ بِقَلْبِهَا دُونَ نُطْقِهَا، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت. بِلِسَانِهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، لَوَقَعَ الطَّلَاقُ، اعْتِبَارًا بِالنُّطْقِ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهَا. وَمَتَى وَجَدَتْ الْمَشِيئَةُ بِاللِّسَانِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ، وَفِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت. أَوْ: أَنَّى شِئْت. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ دُونَ صَاحِبَيْهِ: إذَا قَالَ: أَنْتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 طَالِقٌ كَيْف شِئْت. تَطْلُقُ فِي الْحَالِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِمَشِيئَتِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مَشِيئَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: حَيْثُ شِئْت. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ: إنْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا فَلَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي " إنْ " كَقَوْلِهِ، وَفِي سَائِرِ الْحُرُوفِ كَقَوْلِنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ صَرِيحَةٌ فِي التَّرَاخِي، فَحُمِلَتْ عَلَى مُقْتَضَاهَا، بِخِلَافِ " إنْ "، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي زَمَانًا، وَإِنَّمَا هِيَ لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ فَتُقَيَّدُ، بِالْفَوْرِ بِقَضِيَّةِ التَّمْلِيكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنَّ شِئْت. إنَّمَا ذَلِكَ لَهَا مَا دَامَا فِي مَجْلِسِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى شَرْطٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَسَائِرِ التَّعْلِيقِ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ مُعَلَّقٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْعِتْقِ، وَفَارَقَ: اخْتَارِي. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ، إنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ، فَتَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَإِنْ مَاتَ مَنْ لَهُ الْمَشِيئَةُ، أَوْ جُنَّ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجَد. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ يَقَعُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقَعُ إذَا تَعَذَّرَ شَرْطُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَإِنْ شَاءَ. وَهُوَ مَجْنُونٌ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ. وَإِنْ شَاءَ، وَهُوَ سَكْرَانُ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي طَلَاقِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إيقَاعَ طَلَاقِهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ، كَيْ لَا تَكُونَ الْمَعْصِيَةُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ، وَهُوَ طِفْلٌ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ. وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، وَقَعَ؛ لِأَنَّ لَهُ مَشِيئَةً، وَلِذَلِكَ صَحَّ اخْتِيَارُهُ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ. وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، فَشَاءَ بِالْإِشَارَةِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ النَّاطِقِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقُهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ نَاطِقًا حَالَ التَّعْلِيقِ، فَخَرِسَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ فِي نَفْسِهِ يَقَعُ بِهَا، فَكَذَلِكَ طَلَاقُ مَنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةٍ. وَالثَّانِي، لَا يَقَعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ حَالَ التَّعْلِيقِ، كَانَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالنُّطْقِ، فَلَمْ يَقَعْ بِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي التَّعْلِيقِ: إنْ نَطَقَ فُلَانٌ بِمَشِيئَتِهِ فَهِيَ طَالِقٌ. [فَصْلٌ قَيَّدَ الْمَشِيئَةَ بِوَقْتِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت الْيَوْمَ] (5976) فَصْلٌ: فَإِنْ قَيَّدَ الْمَشِيئَةَ بِوَقْتٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت الْيَوْمَ. تَقَيَّدَ بِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الْيَوْمُ قَبْلَ مَشِيئَتهَا لَمْ تَطْلُقْ. وَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةِ اثْنَيْنِ، لَمْ يَقَعْ حَتَّى تُوجَدَ مَشِيئَتُهُمَا، وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا أَنَّهُ يَقَعُ بِمَشِيئَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 أَحَدِهِمَا، كَمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَشَاءَ أَبُوك. فَقَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ شَاءَ أَبِي. فَقَالَ أَبُوهَا: قَدْ شِئْت. لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَشَأْ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ، لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت. فَقَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ شِئْت. فَقَالَ: قَدْ شِئْت. أَوْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ. لَمْ يَقَعْ. نَصَّ أَحْمَدُ، عَلَى مَعْنَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت. فَقَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ شَاءَ فُلَانٌ. أَنَّهَا قَدْ رَدَّتْ الْأَمْرَ، وَلَا يَلْزَمُهَا الطَّلَاقُ وَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهَا مَشِيئَةٌ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهَا تَعْلِيقُ مَشِيئَتِهَا بِشَرْطٍ، وَلَيْسَ تَعْلِيقُ الْمَشِيئَةِ بِشَرْطِ مَشِيئَةٍ. وَإِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مَشِيئَةِ اثْنَيْنِ، فَشَاءَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَوْرِ، وَالْآخَرُ عَلَى التَّرَاخِي، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ قَدْ وُجِدَتْ مِنْهُمَا جَمِيعًا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ تَشَائِي أَوْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَقَالَتْ قَدْ شِئْت] (5977) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ تَشَائِي. أَوْ: يَشَاءَ زَيْدٌ. فَقَالَتْ: قَدْ شِئْت. لَمْ تَطْلُقْ. وَإِنْ أَخَّرَا ذَلِكَ طَلُقَتْ وَإِنْ. جُنَّ مَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَتِهِ، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَعَلَّقَ رَفْعَهُ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ. فَإِنْ خَرِسَ فَشَاءَ بِالْإِشَارَةِ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِإِشَارَتِهِ إذَا عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَته. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ تَشَائِي ثَلَاثًا فَلَمْ تَشَأْ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ تَشَائِي ثَلَاثًا. فَلَمْ تَشَأْ، أَوْ شَاءَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً. وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت ثَلَاثًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَطْلُق ثَلَاثًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَطْلُقُ إذَا شَاءَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَتَقْدِيرُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ تَشَائِي ثَلَاثًا فَلَا تَطْلُقِي، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ: ثَلَاثًا لَمَا طَلُقَتْ بِمَشِيئَتِهَا ثَلَاثًا، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الثَّلَاثَ صِفَةً لِمَشِيئَتِهَا الرَّافِعَة لِطَلَاقِ الْوَاحِدَةِ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ تُكَرِّرِي بِمَشِيئَتِك ثَلَاثًا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَطْلُق؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إيقَاعُ الثَّلَاثِ إذَا شَاءَتْهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِثَالِثَةٍ، وَخُذْ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ تُرِيدَ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 : «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» . أَيْ إنَّ بِيعَ الْخِيَارِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، إلَّا أَنْ تَشَائِي وَاحِدَةً. فَقَالَتْ: قَدْ شِئْت وَاحِدَةً. طَلُقَتْ وَاحِدَةً، عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ: لَا تَطْلُقُ شَيْئًا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِمَشِيئَةِ فُلَانٍ أَوْ لِرِضَاهُ أَوْ لَهُ] (5979) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِمَشِيئَةِ فُلَانٍ. أَوْ: لِرِضَاهُ. أَوْ: لَهُ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ لِكَوْنِهِ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ، أَوْ رَضِيَهُ، أَوْ لِيَرْضَى بِهِ، كَقَوْلِهِ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، أَوْ لِرِضَى اللَّهِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الشَّرْطَ. دُيِّنَ. قَالَ الْقَاضِي: يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْت أَوْ إنْ أَرَدْت أَوْ إنْ كَرِهْت] (5980) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْت. أَوْ: إنْ أَرَدْت. أَوْ: إنْ كَرِهْت. احْتَمَلَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بُقُولِهَا بِلِسَانِهَا: قَدْ أَحْبَبْت. أَوْ: أَرَدْت. أَوْ: كَرِهْت. لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقَلْبِ، لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ قِبَلِهَا، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِقَوْلِهَا، كَالْمَشِيئَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَا فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ، وَيَكُونَ اللِّسَانُ دَلِيلًا عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِوُجُودِهِ، وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَتْ: كُنْت كَاذِبَةً. لَمْ تَطْلُقْ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَك اللَّهُ بِالنَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَالَتْ: أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ. فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا، فِلْمُ يُجِبْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَفِيهَا احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَطْلُقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ فِي الْقَلْبِ، وَلَا تُوجَدُ مِنْ أَحَدٍ مَحَبَّةُ ذَلِكَ، وَخَبَرُهَا بِحُبِّهَا لَهُ كَذِبٌ مَعْلُومٌ، فَلَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى مَا فِي قَلْبِهَا. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي، أَنَّهَا تَطْلُقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ لَا يُوقَف عَلَيْهِ إلَّا مِنْ لِسَانِهَا، فَاقْتَضَى تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِلَفْظِهَا بِهِ، كَاذِبَةً كَانَتْ أَوْ صَادِقَةً، كَالْمَشِيئَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ ذَلِكَ. وَبَيْن قَوْلِهِ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَهُ بِقَلْبِكِ. لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] (5981) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. طَلُقَتْ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. عَتَقَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَقَالَ: لَيْسَ هُمَا مِنْ الْأَيْمَانِ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ وَمَكْحُولٌ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالْحَكَمِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَهَا، فَلَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةِ زَيْدٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو جَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُول: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهِيَ طَالِقٌ. رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ نَحْوُهُ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو سَعِيدٍ قَالَا: كُنَّا مَعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَرَى الِاسْتِثْنَاءَ جَائِزًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، إلَّا فِي الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهَذَا نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَانْتَشَرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا. وَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ حُكْمٍ فِي مَحَلٍّ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالْمَشِيئَةِ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ، فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُك إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ تَعْلِيقٌ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ، فَأَشْبَهَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الْمُسْتَحِيلَاتِ. وَالْحَدِيثُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ إنْشَاءٌ، وَلَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَمَجَازٌ، لَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ مِنْ أَجْلِهِ، ثُمَّ إنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا سُمِّيَ يَمِينًا إذَا كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ يُمْكِنُ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. لَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً، وَلَا مَجَازًا، فَلَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ يَمِينٍ. وَقَوْلُهُمْ: عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ لَا تُعْلَمُ. قُلْنَا: قَدْ عُلِمَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ الطَّلَاقَ بِمُبَاشَرَةِ الْآدَمِيِّ سَبَبَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ حِينَ أَذِنَ أَنْ يُطَلِّقَ. وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَمْ، تُعْلَمْ، لَكِنْ قَدْ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ يَسْتَحِيلُ عِلْمُهُ، فَيَكُونُ كَتَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُسْتَحِيلَاتِ، يَلْغُو، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ] (5982) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ، وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا تَطْلُقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ صَارَ يَمِينًا وَحَلِفًا، فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 فِيهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ» . وَفَارَقَ مَا إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] (5983) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. طَلُقَتْ، وَوَافَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ. وَعَلَّقَ رَفْعَهُ بِمَشِيئَةٍ لَمْ تُعْلَمْ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ. أَوْ: مَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ. وَقَعَ أَيْضًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهَا إذَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ مُحَالٌ، فَلَغَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ، بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُحَالِ، مِثْل قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ جَمَعْت بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. أَوْ: شَرِبْت الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ. وَلَا مَاءَ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَتَدْخُلَنَّ الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ تَطْلُقْ، دَخَلَتْ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ؛ لِأَنَّهَا إنْ دَخَلَتْ، فَقَدْ فَعَلْت الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ، عَلِمْنَا أَنَّ اللَّه لَمْ يَشَأْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَهُ لَوُجِدَ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَدْخُلِي الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ رَدَّهُ إلَى الطَّلَاقِ دُونَ الدُّخُولِ، خُرِّجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُنْجَزِ. وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ نِيَّتُهُ، فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إلَى الدُّخُولِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مُسْتَحِيلٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَتَلْت الْمَيِّتَ] (5984) فَصْلٌ: فَإِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مُسْتَحِيلٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَتَلْت الْمَيِّتَ. أَوْ شَرِبْت الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ. وَلَا مَاءَ فِيهِ. أَوْ: جَمَعْت بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. أَوْ: كَانَ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ. أَوْ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ عَادَةً، كَقَوْلِهِ: إنْ طِرْت. أَوْ: صَعِدْت إلَى السَّمَاءِ. أَوْ: قَلَبْت الْحَجَرَ ذَهَبًا. أَوْ: شَرِبْت هَذَا النَّهْرَ كُلَّهُ. أَوْ: حَمَلْت الْجَبَلَ. أَوْ: شَاءَ الْمَيِّتُ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَرْدَفَ الطَّلَاقَ بِمَا يَرْفَعُ جُمْلَتَهُ، وَيَمْنَعُ وُقُوعَهُ فِي الْحَالِ وَفِي الثَّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تَقَعُ عَلَيْك. أَوْ: لَا تَنْقُصُ عَدَدَ طَلَاقِك. وَالثَّانِي، لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ لَمْ تُوجَدْ، وَلِأَنَّ مَا يُقْصَدُ تَبْعِيدُهُ يُعَلَّقُ عَلَى الْمُحَالِ، كَقَوْلِهِ: إذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْت أَهْلِي ... وَصَارَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 أَيْ لَا آتِيهِمْ أَبَدًا. وَقِيلَ: إنْ عَلَّقَهُ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا، وَقَعَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ، فَلَمْ تُعَلَّقْ بِهِ الصِّفَةُ، وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ. وَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَى مُسْتَحِيلٍ عَادَةً، كَالطَّيَرَانِ، وَصُعُودِ السَّمَاءِ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ لَهُ وُجُودًا، وَقَدْ وُجِدَ جِنْسُ ذَلِكَ فِي مُعْجِزَات الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَجَازَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهِ، وَلَمْ يَقَعْ قَبْلَ وُجُودِهِ. فَأَمَّا إنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْمُسْتَحِيلِ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَيِّتَ. أَوْ: تَصْعَدِي السَّمَاءَ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ، وَعَدَمُهُ مَعْلُومٌ فِي الْحَالِ وَفِي الثَّانِي، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَبِعْ عَبْدِي. فَمَاتَ الْعَبْدُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ. وَلَا مَاءَ فِيهِ. أَوْ: لَأَقْتُلَنَّ الْمَيِّتَ. وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، أَوْ لَيُطِيرَنَّ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمُمْتَنِعِ كَاذِبٌ حَانِثٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] إلَى قَوْلِهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] . وَلَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُتَصَوَّرٍ، فَصَارَ مُمْتَنِعًا، حَنِثَ بِذَلِكَ، فَلَأَنْ يَحْنَثَ بِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا حَالَ يَمِينِهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا شَرِبْت مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَاغْتَرَفَ مِنْهُ وَشَرِبَ] (5985) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ هَذَا النَّهْرِ. فَاغْتَرَفَ مِنْهُ، وَشَرِبَ، حَنِثَ. وَإِنْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ. فَصَبَّ مِنْهُ فِي إنَاءٍ آخَرَ، وَشَرِبَ، وَكَانَ الْإِنَاءُ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ بِهِ، حَنِثَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الشُّرْبُ بِهِ مُمْكِنًا، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ الصَّغِيرَ آلَةٌ لِلشُّرْبِ، فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى الشُّرْبِ بِهِ، بِخِلَافِ النَّهْرِ وَالْإِنَاءِ الْكَبِيرِ، فَإِنَّهُ لَا تَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَّا إلَى الشُّرْبِ مِنْ مَائِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ بَرَدَى، فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ بَرَدَى، فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ، حَنِثَ. ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ بَرَدَى اسْمٌ لَمَكَانٍ خَاصٍّ، فَإِذَا تَجَاوَزَهُ إلَى مَكَان سِوَاهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ، فَمَا شَرِبَ مِنْ بَرَدَى، وَإِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَائِهِ، فَمَاؤُهُ مَاؤُهُ حَيْثُ كَانَ، وَأَيْنَ نُقِلَ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ تَمْرِ الْبَصْرَةِ، فَأَكَلَهُ فِي غَيْرِهَا، حَنِثَ. وَإِنْ اغْتَرَفَ مِنْ بَرَدَى بِإِنَاءٍ، وَنَقَلَهُ إلَى مَكَان آخَرَ، فَشَرِبَهُ، حَنِثَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اغْتِرَافَ الْمَاءِ مِنْ بَرَدَى. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِالشُّرْبِ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْفُرَاتِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ فُرَاتٍ، حَنِثَ بِالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَرَّفَهُ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ انْصَرَفَ إلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا أَنْكَرَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 صَارَ لِلْعُمُومِ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى فُرَاتًا، وَكُلُّ عَذْبٍ فُرَاتٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] . وَقَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] . وَمَتَى نَوَى بِيَمِينِهِ الْمُحْتَمَلَ الْآخَرَ، انْصَرَفَ إلَيْهِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ لَا تَبْعُدُ إرَادَتُهُ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَشْتُمُهُ وَلَا يُكَلِّمُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ] (5986) فَصْلٌ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتُمُهُ، وَلَا يُكَلِّمُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، حَنِثَ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ، وَلَا يَشُجُّهُ، وَلَا يَقْتُلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَفَعَلَهُ، وَالْحَالِفُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْكَلَامَ قَوْلٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ الْقَائِلُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حُضُورُ الْمَشْتُومِ، فَيُوجَدُ مِنْ الشَّاتِم فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَشْتُومُ فِيهِ، وَالْكَلَامُ قَوْلٌ؛ فَهُوَ كَالشَّتْمِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ مَحِلُّهُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَقْتُولُ وَالْمَشْجُوجُ، فَإِذَا كَانَ مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَانَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِهِ، فَيُعْتَبَرُ مَحَلُّ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَرَحَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ. وَإِنْ جَرَحَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَقَالَ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَقْتُولًا حَتَّى يَمُوتَ، فَاعْتُبِرَ يَوْمُ مَوْتِهِ لَا يَوْمُ ضَرْبِهِ. وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالْعَكْسِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَيُعْتَبَرَ يَوْمُ جَرْحِهِ لَا يَوْمُ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْقَاتِلِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام: 151] . وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى فِعْلٍ مُمْكِنٍ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، وَذَلِكَ فِعْلُ الْآدَمِيِّ مِنْ الْجَرْحِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا الزَّهُوقُ فَفِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْآدَمِيِّ إلَّا تَعَاطِي سَبَبِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَتْلِ، فَإِذَا وُجِدَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُفْضِيَ إلَيْهِ كَانَ قَتْلًا، وَلِذَلِكَ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَقَبْلَ الزَّهُوق. وَلَوْ حَلَفَ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَمَاتَ مِنْ جُرْحٍ كَانَ جَرَحَهُ، لَمْ يَبَرَّ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْتُلُهُ، لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ أَيْضًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبَرَّ حَتَّى يُوجَدَ السَّبَبُ وَالزَّهُوقُ مَعًا فِي يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ، فَأَمَّا بِنِسْبَتِهِ إلَى الشَّرْطِ وَحْدَهُ دُونَ السَّبَبِ، فَبَعِيدٌ. [فَصْلٌ قَالَ مَنْ بَشَّرَتْنِي بِقُدُومِ أَخِي فَهِيَ طَالِقٌ] (5987) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: مَنْ بَشَّرَتْنِي بِقُدُومِ أَخِي، فَهِيَ طَالِقٌ، فَبَشَّرَتْهُ إحْدَاهُنَّ، وَهِيَ صَادِقَةٌ، طَلُقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، لَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ التَّبْشِيرَ خَبَرُ صِدْقٍ، يَحْصُلُ بِهِ مَا يُغَيِّرُ الْبَشَرَةَ مِنْ سُرُورٍ أَوْ غَمٍّ. وَإِنْ أَخْبَرَتْهُ بِهِ أُخْرَى، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ السُّرُورَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى كَاذِبَةً، وَالثَّانِيَةُ صَادِقَةً، طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ السُّرُورَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِخَبَرِهَا، فَكَانَ هُوَ الْبِشَارَةَ. وَإِنْ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ اثْنَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، أَوْ الْأَرْبَعُ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ؛ لِأَنَّ " مَنْ " تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا زَادَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] . وَقَالَ {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] . وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي بِقُدُومِ أَخِي، فَهِيَ طَالِقٌ. فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ كَالْبِشَارَةِ، لَا تَطْلُقُ إلَّا الْمُخْبِرَةُ الْأُولَى الصَّادِقَةُ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ خَبَرٌ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ بِقُدُومِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِكَذِبٍ، وَلَا بِغَيْرِ الْأَوَّلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ كُلُّ مُخْبِرَةٍ، صَادِقَةً كَانَتْ أَوْ كَاذِبَةً، أَوَّلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ صِدْقًا وَكَذِبًا، وَأَوَّلًا وَمُكَرَّرًا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَاضِي. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ هَذَا التَّفْصِيلِ. [فَصْلٌ قَالَ أَوَّلُ مَنْ تَقُومُ مِنْكُنَّ فَهِيَ طَالِقٌ] (5988) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ تَقُومُ مِنْكُنَّ، فَهِيَ طَالِقٌ. أَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَوَّلُ مَنْ قَامَ مِنْكُمْ، فَهُوَ حُرٌّ. فَقَامَ الْكُلُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ؛ لِأَنَّهُ لَا أَوَّلَ فِيهِمْ. وَإِنْ قَامَ وَاحِدٌ أَوْ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَالثَّانِي، لَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا كَانَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يُوجَدْ. فَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَلَا انْتِفَائِهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْ قِيَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَهُ، فَتَنْحَلُّ يَمِينُهُ، وَإِنْ قَامَ اثْنَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَامَ بَعْدَهُمْ آخَرُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ قَامُوا فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] . وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي فِي مَنْ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ عَبِيدِي، فَهُوَ حُرٌّ. فَدَخَلَ اثْنَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمَا، ثَالِثٌ، لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ، وَلَا أَوَّلَ فِيهِمْ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْكُمْ وَحْدَهُ. وَلَمْ يَدْخُلْ بَعْدَ الثَّالِثِ أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ بَعْدَ الثَّالِثِ أَحَدٌ، عَتَقَ الثَّالِثُ، لِكَوْنِهِ أَوَّلِ مَنْ دَخَلَ وَحْدَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ وَحْدَهُ، فَإِنَّ لَفْظَةَ " الْأَوَّلِ " تَتَنَاوَلُ الْجَمَاعَةَ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 وَلَوْ قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ، فَهِيَ طَالِقٌ. فَدَخَلَ بَعْضُهُنَّ، لَمْ يُحْكَمْ بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهَا بِمَوْتِهِ، أَوْ مَوْتِهِنَّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِآخِرِهِنَّ دُخُولًا، مِنْ حِينَ دَخَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعِتْقِ. [فَصْلٌ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى فِعْلٍ بِلَفْظٍ عَامٍ وَأَرَادَ بِهِ شَيْئًا خَاصًّا] (5989) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَفَ يَمِينًا عَلَى فِعْلٍ بِلَفْظٍ عَامٍّ، وَأَرَادَ بِهِ شَيْئًا خَاصًّا؛ مِثْل إنْ حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ، وَأَرَادَ الْجَنَابَة، أَوْ: لَا قَرُبْت لِي فِرَاشًا. وَأَرَادَ تَرْكَ جِمَاعِهَا. أَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت، فَعَبْدِي حُرٌّ. وَأَرَادَ امْرَأَةً مُعَيَّنَةً. أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَ إلَيَّ رَجُلٌ. أَوْ قَالَ: أَحَدٌ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. وَأَرَادَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ. أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا. يُرِيدُ خُبْزَ الْبُرِّ. أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارًا، يُرِيدُ دَارَ فُلَانٍ. أَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى الْحَمَّامِ. أَوْ قَالَ: إنْ مَشَيْت. وَأَرَادَ اسْتِطْلَاقَ الْبَطْنِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مَشْيًا، «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةٍ: ثُمَّ تَسْتَمْشِينَ» . وَيُقَالُ: شَرِبَتْ مَشْيًا، وَمَشْوًا. إذَا شَرِبَ دَوَاءً يُمْشِيهِ، فَإِنَّ يَمِينَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَوَاهُ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الظِّهَارِ، فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَرُبْت لِي فِرَاشًا، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظُهْرِ أُمِّي، فَجَاءَتْ فَقَامَتْ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ: أَرَدْت الْجِمَاعَ. لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ التَّوْكِيدَ. [فَصْلٌ حَلَفَ يَمِينًا عَامَّةً لِسَبَبٍ خَاصٍّ وَلَهُ نِيَّةٌ] (5990) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ يَمِينًا عَامَّةً، لِسَبَبٍ خَاصٍّ، وَلَهُ نِيَّةٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَمِينَهُ تَخْتَصُّ بِمَا وُجِدَ فِيهِ السَّبَبُ. وَذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، رُجِعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ يَمِينَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَحَلِّ السَّبَبِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَمِينَهُ تُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَصِيدَ فِي هَذَا النَّهْرِ. لِظُلْمٍ رَآهُ، فَتَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَالَ: النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ الْحُكْمِ، فَيَجِبُ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ، كَمَا فِي لَفْظِ الشَّارِعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ السَّبَبَ الْخَاصَّ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْخُصُوصِ، وَيَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ اللَّفْظُ الْعَامُّ كَالنِّيَّةِ، وَفَارَقَ لَفْظَ الشَّارِعِ؛ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بَيَانَ الْأَحْكَامِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ السَّبَبِ، لِكَوْنِ الْحَاجَةِ دَاعِيَةً إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ، فَقَالَ: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَرَجَعَتْ، ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْد ذَلِكَ، أَوْ دَعَاهُ إنْسَانٌ إلَى غَدَائِهِ، فَقَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ تَغَدَّيْت. ثُمَّ رَجَعَ فَتَغَدَّى فِي مَنْزِلِهِ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ حَلَفَ لِعَامِلٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ حَلَفَ بِذَلِكَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ، فَعَزَلَ الْعَامِلَ، وَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ، وَبَاعَ الْمَمْلُوكَ، أَوْ حَلَفَ عَلَى وَكِيلٍ فَعَزَلَهُ، خُرِّجَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ دَخَلَ دَارِي أَحَدٌ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ] (5991) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلَ دَارِي أَحَدٌ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. فَدَخَلَهَا هُوَ. أَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: إنْ دَخَلَ دَارَك أَحَدٌ، فَعَبْدِي حُرٌّ. فَدَخَلَهَا صَاحِبُهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِ الْمُتَكَلِّم تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَمْنَعُ مَنْ سِوَاهُ، فَيَخْرُجُ هُوَ مِنْ الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَيَخْرُجُ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْيَمِينِ بِهَا أَيْضًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِعْرَاضًا عَنْ السَّبَبِ، كَمَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ] (5992) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى جِمَاعِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْن الْحَسَنِ يَمِينُهُ عَلَى الْوَطْءِ بِالْقَدَمِ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْجِمَاعَ. لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَطْءَ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ، كَانَ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ الْجِمَاعِ؛ وَلِهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْجِمَاعُ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ، فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . فَيَجِبُ حَمْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، مِنْ الظَّعِينَةِ، وَالرَّاوِيَةِ، وَأَشْبَاهِهِمَا. وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ. وَإِنْ حَلَفَ لَيُجَامِعَهَا، أَوْ لَا يُجَامِعُهَا، انْصَرَفَ إلَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ، وَإِنْ أَنْزَلَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ مَا قُلْنَاهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَافْتَضَضْتُك، فَافْتَضَّهَا بِأُصْبُعٍ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَطْءُ الْبِكْرِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا، أَنْ لَا يَنْكِحَهَا، فَيَمِينُهُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَهُوَ عَلَى وَطْئِهَا؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ صَارِفَةٌ عَنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا؛ لِكَوْنِهَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 [فَصْلٌ قَالَ إنْ أَمَرْتُك فَخَالَفْتنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ نَهَاهَا فَخَالَفَتْهُ] (5993) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ أَمَرْتُك فَخَالَفْتنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ نَهَاهَا، فَخَالَفَتْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ نَهْيَهُ لَا أَمْرَهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ، إذَا قَصَدَ أَنْ لَا تُخَالِفَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ نَفْيَ الْمُخَالَفَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، فَقَدْ خَالَفَتْ أَمْرَهُ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ نَهَيْتنِي عَنْ نَفْعِ أُمِّي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَالَتْ لَهُ: لَا تُعْطِهَا مِنْ مَالِي شَيْئًا. لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَهَا مِنْ مَالِهَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ النَّفْعُ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا النَّفْعُ مُحَرَّمًا، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ يَمِينُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ، وَلَفْظُهُ عَامٌّ، فَيَدْخُلُ الْمُحَرَّمُ فِيهِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ] (5994) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ خَرَجْت إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، طَلُقَتْ، سَوَاءٌ عَدَلَتْ إلَى الْحَمَّامِ، أَوْ لَمْ تَعْدِل. وَإِنْ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ، ثُمَّ عَدَلَتْ إلَى غَيْرِهِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ الْحَمَّامِ، فَكَيْفَمَا صَارَتْ إلَيْهِ حَنِثَ، كَمَا لَوْ خَالَفَتْ لَفْظَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ. وَإِنْ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ، وَجَمَعَتْهُمَا فِي الْقَصْدِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، وَانْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ، فَحِنْث بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا، فَكَلَّمَ زَيْدًا وَعَمْرًا. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا مَا خَرَجَتْ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، بَلْ الْخُرُوجُ مُشْتَرَكٌ. وَنَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ: إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ إلَّا لِنُزْهَةٍ. فَخَرَجَ إلَى النُّزْهَةِ، ثُمَّ مَرَّ إلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: النُّزْهَةُ لَا تَكُونُ إلَى مَكَّةَ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَحْنَثَهُ، وَوَجْهُهُ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ، فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَأْتِي أَرْمِينِيَةَ إلَّا بِإِذْنِ امْرَأَتِهِ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت. فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَقُولَ: إلَى أَرْمِينِيَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى أَذِنَتْ لَهُ إذْنًا عَامًّا، لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، وَلَوْ قَالَتْ هَذَا بِطِيبِ قَلْبِهَا، كَانَ إذْنًا مِنْهَا، وَلَهُ الْخُرُوجُ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ عَامٍّ. [فَصْلٌ حَلَفَ لِيَرْحَلَنَّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَفَعَلَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا] (5995) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَيَرْحَلَنَّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ. فَفَعَلَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الرُّجُوعِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْخُرُوجِ وَالرَّحِيلِ، وَقَدْ فَعَلَهُمَا. وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، إذَا حَلَفَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ، فَخَرَجَ ثُمَّ رَجَعَ: قَدْ مَضَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 يَمِينُهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَنَقَلَ عَنْهُ مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ، فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ لَمْ نَرْحَلْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ: إنْ لَمْ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، هِيَ إلَى أَنْ تَمُوتَ، فَإِنْ رَحَلَ لَمْ يَرْجِعْ. وَمَعْنَى هَذَا، أَنَّهُ إنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ إمْكَانِ الرَّحِيلِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّحِيلُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، فَيَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنْ رَحَلَ لَمْ يَرْجِعْ. فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ لِيَمِينِهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي هِجْرَانَ الدَّارِ عَلَى الدَّوَامِ. وَنَقَلَ مُهَنَّا، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ وَهَبْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَإِذَا هِيَ قَدْ وَهَبَتْ. قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ: إنْ كُنْت وَهَبْته. وَإِلَّا فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تَبْتَدِئَ هِبَتَهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَقْتَضِي فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا يَحْنَثُ بِهِ، وَمَا فَعَلَتْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ رَأَيْتُك تَدْخُلِينَ الدَّارِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ: فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ، إنْ أَرَادَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ نَوَى إذَا رَآهَا، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَرَاهَا تَدْخُلُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الْيَمِينِ عَلَى النِّيَّات، سِيَّمَا وَالرُّؤْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] . وَنَحْوِهِ. وَمَتَى لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا هُنَاكَ سَبَبٌ يَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ مَعَ الدُّخُولِ بِمُجَرَّدِهِ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَرَاهَا تَدْخُلُ الدَّارَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ. وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَرْوِيُّ، فِي رَجُلٍ أَقْرَضَ رَجُلًا دَرَاهِمَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا، وَكَانَ الرَّجُلُ مَيِّتًا: تُعْطَى الْوَرَثَةُ. يَعْنِي إذَا مَاتَ الْحَالِفُ يُوَفَّى الْوَرَثَةُ، وَلَا يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إبْرَاءً، فَلَا يَسْقُطُ الْحَقُّ بِهَا. [فَصْلٌ قَالَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ كُنْت أَمْلِكُ إلَّا مِائَةً وَكَانَ يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ] (5996) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ، إنْ كُنْت أَمْلِكُ إلَّا مِائَةً. وَكَانَ يَمِلْك أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، أَوْ أَقَلِّ، حَنِثَ. فَإِنْ نَوَى أَنِّي لَا أَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ بِمِلْكِ مَا دُونَهَا. وَإِنْ قَالَ: إنْ كُنْت أَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. وَكَانَ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ الْمِائَةِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ] (5997) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا طَالِقُ، أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: يَا طَالِقُ. وَبَقِيَتْ أُخْرَى مُعَلَّقَةً بِدُخُولِ الدَّارِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا طَالِقُ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، رَجَعَ إلَيْهَا، وَإِلَّا وَقَعَتْ وَاحِدَةً بِالنِّدَاءِ، وَبَقِيت الثَّلَاثُ مُعَلَّقَةً عَلَى دُخُولِ الدَّارِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَعَادَ الشَّرْطُ إلَى الطَّلَاقِ، دُونَ الْقَذْفِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَرْجِعُ الشَّرْطُ إلَيْهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلَا يَقَعُ بِهَا فِي الْحَالِ شَيْءٌ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ الشَّرْطُ إلَى الْخَبَرِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ التَّصْدِيقُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 وَالتَّكْذِيبُ، وَجَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ، بِخِلَافِ النِّدَاءِ وَالْقَذْفِ، الَّذِي لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً بِالنَّصْبِ أَوْ الرَّفْعِ] (5998) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً. بِالنَّصْبِ، أَوْ الرَّفْعِ، وَنَوَى بِهِ وَصْفَهَا بِالْمَرَضِ فِي الْحَالِ، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. وَإِنْ نَوَى بِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ مَرَضِك. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تُمَرَّضَ؛ لِأَنَّ هَذَا حَالٌ، وَالْحَالُ مَفْعُولٌ فِيهِ، كَالظَّرْفِ، وَيَكُونُ الرَّفْعُ لَحْنًا؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَنْصُوبٌ. وَإِنْ أَطْلَقَ وَنَصَبَ، انْصَرَفَ إلَى الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَرِيضَةً اسْمٌ نَكِرَةٌ، جَاءَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وَصْفًا لِمَعْرِفَةٍ، فَيَكُونُ حَالًا، وَإِنْ رَفَعَ، فَالْأَوْلَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ وَصْفًا لِطَالِقٍ، الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَإِنْ أَسْكَنَ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا؛ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، فَقَدْ تَيَقَّنَّا وُجُودَ الْمُقْتَضِي، وَشَكَكْنَا فِيمَا يَمْنَعُ حُكْمَهُ، فَلَا نَزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي، لَا يَقَعُ إلَّا فِي حَالِ مَرَضِهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِلْمَرَضِ فِي سِيَاقِ الطَّلَاقِ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِهِ بِهِ، وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَ حَالًا. [مَسْأَلَة قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدِمَ بِهِ مَيِّتًا] (5999) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ. فَقَدِمَ بِهِ مَيِّتًا، أَوْ مُكْرَهًا، لَمْ تَطْلُقْ) أَمَّا إذَا قَدِمَ بِهِ مَيِّتًا، أَوْ مُكْرَهًا مَحْمُولًا، فَلَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدَمْ، إنَّمَا قَدِمَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: دَخَلَ الطَّعَامُ الْبَلَدَ. إذَا حُمِلَ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا دَخَلَ الطَّعَامُ الْبَلَدَ. طَلُقَتْ إذَا حُمِلَ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ لَا يُنْسَبُ إلَى غَيْرِ فَاعِله إلَّا مَجَازًا، وَالْكَلَامُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ لِحَقِيقَتِهِ إذَا أَمْكَنَ، وَأَمَّا الطَّعَامُ، فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ حَقِيقَةً، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الدُّخُولِ فِيهِ عَلَى مَجَازِهِ. وَأَمَّا إنْ قَدِمَ بِنَفْسِهِ لَإِكْرَاهٍ، فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْنَثُ. وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ حَقِيقَةً، وَيُنْسَبُ إلَيْهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 71] . وَيَصِحُّ أَمْرُ الْمُكْرَهِ بِالْفِعْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72] . وَلَوْلَا أَنَّ الْفِعْلَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، لَمَا صَحَّ أَمْرُهُ بِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ زَالَ اخْتِيَارُهُ، فَإِذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ مِنْهُ، كَانَ كَوُجُودِ الطَّلَاقِ مِنْهُ مُكْرَهًا، وَهَذَا فِيمَا إذَا أَطْلَقَ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا كَلَامُهُ، وَتَقَيَّدَ بِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 (6000) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدِمَ مُخْتَارًا، حَنِثَ الْحَالِفُ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْقَادِمُ بِالْيَمِينِ أَوْ جَهِلَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ الْقَادِمُ مِمَّنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْقُدُومِ بِيَمِينِهِ، كَالسُّلْطَانِ، وَالْحَاجِّ، وَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ، حَنِثَ الْحَالِفُ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِلْمُهُ وَلَا جَهْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ بِالْيَمِينِ مِنْ الْقُدُومِ، كَقَرَابَةٍ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ غُلَامٍ لِأَحَدِهِمَا، فَجَهِلَ الْيَمِينَ، أَوْ نَسِيَهَا، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ تَمْنَعُهُ الْيَمِينُ، كَانَ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ عَلَى صِفَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ، كَانَ يَمِينًا، فَيُعْذَرُ فِيهَا بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نِيَّةُ الْحَالِفِ، وَقَرَائِنُ أَحْوَالِهِ، الدَّالَّةُ عَلَى قَصْدِهِ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ الْقَادِمِ مِنْ الْقُدُومِ، كَانَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ جَعْلَهُ صِفَةً فِي مُطْلَقَةٍ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ عِلْمُ الْقَادِمِ وَجَهْلُهُ، وَنِسْيَانُهُ، وَجُنُونُهُ وَإِفَاقَتُهُ، مِثْل أَنْ يَقْصِدَ طَلَاقَهَا إذَا حَصَلَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا، وَلَا يُطَلِّقُهَا وَحْدَهَا، وَتُعْتَبَرُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ؛ فَمَتَى عَلَّقَ الْيَمِينَ عَلَى قُدُومِ غَائِبٍ بَعِيدٍ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْيَمِينَ وَلَا يَمْتَنِعُ بِهَا، أَوْ عَلَى فِعْلِ صَغِيرٍ، أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ بِهَا، لَمْ تَكُنْ يَمِينًا. وَإِنْ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ حَاضِرٍ يَعْلَمُ بِيَمِينِهِ، وَيَمْتَنِعُ لِأَجَلِهَا مِنْ فِعْلِ مَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ، كَانَ يَمِينًا. وَمَتَى أَشْكَلَتْ الْحَالُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ عَنْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، فَمَتَى شَكَكْنَا فِي الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ، وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ تَرَكْت هَذَا الصَّبِيَّ يَخْرُجُ فَأَنْتِ طَالِقٌ] (6001) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ تَرَكْت هَذَا الصَّبِيَّ يَخْرُجُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَانْفَلَتَ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، فَخَرَجَ، فَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَدْ حَنِثَ، وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا تَدَعَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى فِعْلِهَا، فَقَدْ فَعَلَ الْخُرُوجَ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهَا، فَكَانَتْ كَالْمُكْرَهِ إذْ لَمْ يُمْكِنْهَا حِفْظُهُ وَمَنْعُهُ. وَإِنْ نَوَى فِعْلَهُ، فَقَدْ وُجِدَ، وَحَنِثَ. وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ نِيَّتُهُ، انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى فِعْلِهَا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا خَرَجَ بِتَفْرِيطِهَا فِي حِفْظِهِ أَوْ اخْتِيَارِهَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا تَأْخُذُ حَقَّك مِنِّي فَأُكْرِهْ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ] (6002) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا تَأْخُذُ حَقَّك مِنِّي، فَأُكْرِهَ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ قَهْرًا، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَخْذِ، وَقَدْ أَخَذَهُ مُخْتَارًا. وَإِنْ أُكْرِهَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِهِ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فِي مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْقُدُومِ. وَإِنْ وَضَعَهُ الْحَالِفُ فِي حِجْرِهِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ إلَى جَنْبِهِ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مَا وُجِدَ. وَإِنْ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ أَوْ السُّلْطَانُ مِنْ الْغَرِيمِ، فَدَفَعَهُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَأَخَذَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا تَأْخُذْ حَقَّك عَلَيَّ. حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ حَقَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الصُّورَتَيْنِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَهُ عَلَى الْأَسْبَابِ، لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا، فَأَخَذَهُ مِنْهُ، كَانَ آخِذًا لِحَقِّهِ مِنْهُ عُرْفًا، وَيُسَمَّى آخِذًا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] . وَقَالَ: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] . وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَحَلَفَ: لَا أَخَذْت حَقِّي مِنْك. فَالتَّفْرِيعُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنْ تَرَكَهَا الْغَرِيمُ فِي أَثْنَاءِ مَتَاعٍ فِي خُرْجٍ، ثُمَّ دَفَعَ الْخُرْجَ إلَى الْحَالِفِ، فَأَخَذَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا فِيهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَعْدُودٍ أَخْذًا، وَلَا يَبْرَأُ بِهِ الْغَرِيمُ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ: لَا أُعْطِيتُك حَقَّك، فَأَخَذَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ كُرْهًا، فَدَفَعَهُ إلَى الْغَرِيم، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَدَفَعَهُ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ بِاخْتِيَارِهِ، حَنِثَ. وَإِنْ وَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، أَوْ جَيْبِهِ، أَوْ صُنْدُوقِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ. وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ اخْتِيَارًا، لِيَدْفَعَهُ إلَى الْغَرِيمِ، فَدَفَعَهُ، أَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَدَفَعَهُ إلَى الْغَرِيمِ، حَنِثَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَيْهِ مُخْتَارًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى وَكِيله، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى الْأَسْبَابِ، لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ قَالَ إنْ رَأَيْت أَبَاكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْهُ مَيِّتًا أَوْ نَائِمًا] (6003) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ رَأَيْت أَبَاكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَرَأَتْهُ مَيِّتًا، أَوْ نَائِمًا، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، أَوْ رَأَتْهُ مِنْ خَلْفِ زُجَاجٍ، أَوْ جِسْمٍ شَفَّافٍ، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْهُ، وَإِنْ رَأَتْ خَيَالَهُ فِي مَاءٍ، أَوْ مِرْآةٍ، أَوْ صُورَتَهُ عَلَى حَائِطٍ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ، وَإِنْ أُكْرِهَتْ عَلَى رُؤْيَتِهِ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ] (6004) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. لَزِمَهُ تَطْلِيقَتَانِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا أَنْ قَدْ وَقَعَتْ بِهَا الْأُولَى، فَتَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ. مَرَّتَيْنِ. وَنَوَى بِالثَّانِيَةِ إيقَاعَ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ، وَقَعَتْ بِهَا طَلْقَتَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ نَوَى بِهَا إفْهَامَهَا أَنَّ الْأُولَى قَدْ وَقَعَتْ بِهَا، أَوْ التَّأْكِيدَ، لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ، وَيَحْتَمِلُ الْإِيقَاعَ، فَلَا تُوقَعُ طَلْقَةٌ بِالشَّكِّ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِيقَاعِ، وَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ عَنْ ذَلِكَ بِنِيَّةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَقَعَ مُقْتَضَاهُ، كَمَا يَجِب الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ. فِي الْعَامِّ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمُخَصِّصُ، وَبِالْإِطْلَاقِ فِي الْمُطْلَقِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمُقَيِّدُ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلَا تَطْلُقُ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ نَوَى الْإِيقَاعَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُنْفَصِلًا، أَوْ مُتَّصِلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْن الْمُنْذِرِ. وَذَكَرُهُ الْحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ يَقَعُ بِهَا تَطْلِيقَتَانِ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، إذَا كَانَ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ، أَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَاقٌ مُفَرَّقٌ، فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلَمْ تَقَعْ الْأُولَى، كَمَا لَوْ فَرَّقَ كَلَامَهُ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، فَتُصَادِفُهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ بَائِنًا، فَلَمْ يُمْكِنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَةٍ، وَإِنَّمَا تَطْلُق الزَّوْجَةُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَة، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ مَضَى زَمَنٌ طَوِيلٌ ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا] (6005) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ مَضَى زَمَنٌ طَوِيلٌ، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، طَلُقَتْ ثَانِيَةً، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: نَوَيْت التَّوْكِيدَ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَابِعٌ لِلْكَلَامِ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ، كَسَائِرِ التَّوَابِعِ؛ مِنْ الْعِطْفِ، وَالصِّفَةِ، وَالْبَدَلِ. [فَصْلٌ كُلُّ طَلَاقٍ يَتَرَتَّبُ فِي الْوُقُوعِ وَيَأْتِي بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ] فَصْلٌ: وَكُلُّ طَلَاقٍ يَتَرَتَّبُ فِي الْوُقُوعِ، وَيَأْتِي بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ، لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيَقَعُ بِالْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ إذَا أَوْقَعَهَا، مِثْل قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَطَالِقٌ، فَطَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ وَطَالِقٌ. أَوْ: فَطَالِقٌ. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُرُوفٌ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَتَقَعُ بِهَا الْأُولَى فَتُبِينُهَا، فَتَأْتِي الثَّانِيَةُ فَتُصَادِفُهَا بَائِنًا غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَلَا تَقَعُ بِهَا. وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا، فَتَأْتِي الثَّانِيَةُ فَتُصَادِفُ مَحَلَّ النِّكَاحِ، فَتَقَعُ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بَلْ، طَالِقٌ، وَطَالِقٌ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَ طَلْقَةٍ. أَوْ: بَعْدَ طَلْقَةٍ. أَوْ بَعْدَهَا طَلْقَةٌ. أَوْ: طَلْقَةً فَطَلْقَةً. أَوْ: طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَةً. وَقَعَ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا طَلْقَةٌ، وَبِالْمَدْخُولِ بِهَا طَلْقَتَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةٌ] (6007) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةٌ. فَكَذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا شَيْءٌ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَالَ وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ الطَّلْقَةِ الْمُوَقَّعَةِ، فَوَقَعَتْ مَعَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا تَأَخَّرَتْ عَنْ الزَّمَنِ الَّذِي قَصْدَ إيقَاعَهَا فِيهِ لِكَوْنِهِ زَمَنًا مَاضِيًا، وَجَبَ إيقَاعُهَا فِي أَقْرَبِ الْأَزْمِنَةِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَعَهَا، وَلَا يَلْزَمُ تَأَخُّرُهَا إلَى مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ زَمَنٌ يُمْكِنُ الْوُقُوعُ فِيهِ، وَهُوَ زَمَنٌ قَرِيبٌ، فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى الْبَعِيدِ مَعَ إمْكَانِ الْقَرِيبِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ بَعْضُهُ قَبْلَ بَعْضٍ، فَلَمْ يَقَعْ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا جَمِيعُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْمُتَأَخِّرُ فِي لَفْظِهِ مُتَقَدِّمًا، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ. أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً غَدًا، وَطَلْقَةً الْيَوْمَ. وَلَوْ قَالَ: جَاءَ زَيْدٌ بَعْد عَمْرٍو. أَوْ: جَاءَ زَيْدٌ وَقَبْلَهُ عَمْرٌو. أَوْ: أُعْطِ زَيْدًا بَعْدَ عَمْرٍو. وَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا، يُفِيدُ تَأْخِيرَ الْمُتَقَدِّمِ لَفْظًا، عَنْ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ هَذَا طَلَاقًا فِي زَمَنٍ مَاضٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ إيقَاعُهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَتَّبَهُ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُوَقَّعَةٌ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، لَامْتَنَعَ وُقُوعُهَا وَحْدَهَا، وَوَقَعْت الْأُخْرَى وَحْدَهَا، وَهَذَا تَعْلِيلُ الْقَاضِي، لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ] (6008) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ. وَقَعَ بِهَا طَلْقَتَانِ. وَإِنْ قَالَ: مَعَهَا اثْنَتَانِ. وَقَعَ بِهَا ثَلَاثٌ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَةَ إذَا وَقَعَتْ مُفْرَدَةً، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْقَعَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ، بِلَفْظِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُنَّ مَعًا، فَوَقَعْنَ كُلُّهُنَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلْقَةَ تَقَعُ مُفْرَدَةً، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِهِ، إذْ لَوْ وَقَعَ بِذَلِكَ، لَمَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ، وَلَا صَحَّ وَصْفُهُ بِالثَّلَاثِ، وَلَا بِغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ مَعَهَا طَلْقَةٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَهَا طَلْقَةٌ ثُمَّ قَالَ أَرَدْت أَنِّي أُوقِعُ بَعْدَهَا طَلْقَةً] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَهَا طَلْقَةٌ. ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت أَنِّي أُوقِعُ بَعْدَهَا طَلْقَةً. دِينَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةٌ. وَقَالَ: أَرَدْت أَنِّي طَلَّقْتهَا قَبْلَ هَذَا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 نِكَاحٍ آخَرِ، أَوْ أَنَّ زَوْجًا قَبْلِي طَلَّقَهَا. دُيِّنَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يُقْبَلُ. وَالْآخَرُ، لَا يُقْبَلُ. وَالثَّالِثُ، يُقْبَلُ إنْ كَانَ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ لَمْ يُقْبَلْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وُجِدَ لَا يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْتُ التَّوْكِيدَ] (6010) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت التَّوْكِيدَ. قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُكَرَّرُ لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ ". وَإِنْ قَصَدَ الْإِيقَاعَ، وَكَرَّرَ الطَّلْقَاتِ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بَيْنَهُمَا بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَلَا يَكُنَّ مُتَغَايِرَاتٍ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ التَّأْكِيدَ. لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الْعِطْفَ وَالْمُغَايِرَةَ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّأْكِيدَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ كَالثَّانِيَةِ فِي لَفْظِهَا. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهَا التَّوْكِيدَ. دُيِّنَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يُقْبَلُ. وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ مِثْلَ الْأَوَّلِ، فَقُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِالتَّأْكِيدِ. كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْعِطْفِ لِلْمُغَايَرَةِ، فَلَا يُقْبَلُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ. فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي عَطَفَهَا بِالْوَاوِ. وَإِنْ غَايَرَ بَيْنَ الْحُرُوفِ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ. أَوْ: طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ وَطَالِقٌ. أَوْ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إرَادَةَ التَّوْكِيدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مُغَايِرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي لَفْظِهَا، وَالتَّوْكِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَكْرِيرِ الْأَوَّلِ بِصُورَتِهِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ أَنْتِ مُفَارَقَةٌ] (6011) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ، أَنْتِ مُفَارَقَةٌ. وَقَالَ: أَرَدْت التَّوْكِيدَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ. قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَهُمَا بِالْحُرُوفِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ، بَلْ أَعَادَ اللَّفْظَةَ بِمَعْنَاهَا، وَمِثْلُ هَذَا يُعَادُ تَوْكِيدًا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، وَمُسَرَّحَةٌ، وَمُفَارَقَةٌ. وَقَالَ: أَرَدْت التَّوْكِيدَ. احْتَمَلَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُخْتَلِفَ يُعْطَفُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ تَوْكِيدًا، كَقَوْلِهِ: فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ] (6012) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. لَزِمَهُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ نَسَقٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيم مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ فَرَّقَهَا. وَلَنَا، أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ، وَلَا تَرْتِيبَ فِيهَا، فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلثَّلَاثِ جَمِيعًا، فَيَقَعْنَ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. أَوْ: طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَتَانِ. وَيُفَارِق مَا إذَا فَرَّقَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إذَا عَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَإِنَّ الْأُولَى تَقَعُ قَبْلَ الثَّانِيَةِ بِمُقْتَضَى إيقَاعِهِ، وَهَاهُنَا لَا تَقَعُ الْأُولَى حِينَ نُطْقِهِ بِهَا حَتَّى يَتِمَّ كَلَامُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَلْحَقَهُ اسْتِثْنَاءً، أَوْ شَرْطًا، أَوْ صِفَةً، لَحِقَ بِهِ، وَلَمْ يَقَعْ الْأَوَّلُ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ يَقَعُ حِينَ تَلَفَّظَهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَقِفُ وُقُوعُهُ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ تَمَامِ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ لَفْظُهُ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَاتٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: لِأَنَّهُ نَسَقٌ. أَيْ غَيْرُ مُفْتَرِقٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَقَفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، مَعَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ لَهُ، وَالْعَطْفُ لَا يُغَيِّرُ فَلَا يَقِفُ عَلَيْهِ، وَنَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَقَعَ أَوَّلَ مَا لَفِظَ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ. قُلْنَا: مَا لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلتَّغْيِيرِ، إمَّا بِمَا يَخُصُّهُ بِزَمَنِ، أَوْ يُقَيِّدُهُ بِقَيْدٍ كَالشَّرْطِ، وَإِمَّا بِمَا يَمْنَعُ بَعْضَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِمَّا بِمَا يُبَيِّنُ عَدَدَ الْوَاقِعِ، كَالصِّفَةِ بِالْعَدَدِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ بِحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَوَقَعَتْ بِهَا طَلْقَةٌ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا. لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَقَعَ بِهَا شَيْءٌ آخَرُ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ لَا تَتَعَلَّقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَلَوْ تَعَقَّبَ إحْدَاهُمَا شَرْطٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ صِفَةٌ، لَمْ يَتَنَاوَلْ الْأُخْرَى، وَلَا وَجْهَ لِوُقُوفِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَالْمَعْطُوفُ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَوْ تَعَقَّبَهُ شَرْطٌ لَعَادَ إلَى الْجَمِيعِ، وَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُفِيدُ بِمُفْرَدِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهَا جُمْلَةٌ مُفِيدَةٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا] (6013) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا. فَهِيَ عِنْدَنَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، يَقَعُ الثَّلَاثُ. وَقَالَ مُخَالِفُونَا: يَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ، فَاقْتَضَى وُقُوعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، فَدَخَلْت الدَّارَ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ إذَا وُجِدْت الصِّفَةُ، يَكُونُ كَأَنَّهُ أَوْقَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَلَى صِفَتِهِ، وَلَوْ أَوْقَعَهُ كَذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ وُجِدَ شَرْطُ وُقُوعِ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ، غَيْرِ مُرَتَّبَاتٍ، فَوَقَعَ الثَّلَاثُ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَالَ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَتَانِ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ] (6014) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ. أَوْ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ. أَوْ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً، فَبَانَتْ بِهَا، وَلَمْ يَقَعْ غَيْرُهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً، تَبِينُ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ " ثُمَّ " تَقْطَعُ الْأُولَى عَمَّا بَعْدَهَا، لِأَنَّهَا لِلْمُهْلَةِ، فَتَكُونُ الْأُولَى مُوَقَّعَةً، وَالثَّانِيَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَقَعُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، فَيَقَعَ بِهَا ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطٌ لِثَلَاثٍ، فَوَقَعَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَلَنَا، أَنَّ " ثُمَّ " لِلْعَطْفِ، وَفِيهَا تَرْتِيبٌ، فَتَعَلَّقْت التَّطْلِيقَاتُ كُلُّهَا بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْعِطْفَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيقَ الشَّرْطِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا، كَمَا يَجِبُ لَوْ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ، وَلِأَنَّ الْأُولَى تَلِي الشَّرْطَ، فَلَمْ يَجُزْ وُقُوعُهَا بِدُونِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأُولَى جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَعَقَّبَهُ إيَّاهَا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَزَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ كَسَائِرِ نَظَائِرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَ زَيْدٌ دَارِي، فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمٌ، لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ. [فَصْلٌ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ] (6015) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ. لَمْ يَقَعْ بِهَا شَيْءٌ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، فَتَقَعَ بِهَا الثَّلَاثُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى وُقُوعِ طَلْقَتَيْنِ فِي الْحَالِ، وَتَبْقَى الثَّالِثَةُ مُعَلَّقَةً بِالدُّخُولِ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لِلْمَعْطُوفِ، دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُعَلِّقُ بِهِ مَا يَبْعُدُ عَنْهُ، دُونَ مَا يَلِيهِ، وَيَجْعَلُ جَزَاءَهُ مَا لَمْ تُوجَدْ فِيهِ الْفَاءُ الَّتِي يُجَازَى بِهَا، دُونَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ، تَحَكُّمًا لَا يَعْرِفُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ نَظِيرًا. وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَهُوَ يَنْوِي وَاحِدَةً] (6016) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا، وَهُوَ يَنْوِي وَاحِدَةً، فَهِيَ ثَلَاثٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الثَّلَاثِ، وَالنِّيَّةُ لَا تُعَارِضُ الصَّرِيحَ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْ اللَّفْظِ، وَلِذَلِكَ لَا نَعْمَلُ بِمُجَرَّدِهَا، وَالصَّرِيحُ قَوِيٌّ يُعْمَلُ بِمُجَرَّدِهِ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَلَا يُعَارَضُ الْقَوِيُّ بِالضَّعِيفِ، كَمَا لَا يُعَارَضُ النَّصُّ بِالْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ إلَى بَعْضِ مُحْتَمِلَاتِهِ، وَالثَّلَاثُ نَصٌّ فِيهَا، لَا يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَةَ بِحَالٍ، فَإِذَا نَوَى وَاحِدَةً، فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ: أَرَدْت وَاحِدًا. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ وَاحِدَةً وَهُوَ يَنْوِي ثَلَاثًا] (6017) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً، وَهُوَ يَنْوِي ثَلَاثًا، فَهِيَ وَاحِدَةٌ) أَمَّا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً. وَنَوَى ثَلَاثًا، لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا نَوَى ثَلَاثًا، فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، فَلَوْ وَقَعَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَاحِدَةً مَعَهَا اثْنَتَانِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَعَهَا اثْنَتَانِ. لَا يُؤَدِّيهِ مَعْنَى الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ، فَنِيَّتُهُ فِيهِ نِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ، فَلَا تَعْمَلُ، كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَنَوَى ثَلَاثًا، فَهَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا، وَلَا بَيْنُونَةً، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الثَّلَاثُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً. بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. إخْبَارٌ عَنْ صِفَةٍ هِيَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْعَدَدَ، كَقَوْلِهِ: قَائِمَةٌ، وَحَائِضٌ، وَطَاهِرٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، إذَا نَوَى ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَوْ قَرَنَ بِهِ لَفْظَ الثَّلَاثِ، كَانَ ثَلَاثًا، فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ، كَانَ ثَلَاثًا، كَالْكِنَايَاتِ، وَلِأَنَّهُ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، فَوَقَعَ ذَلِكَ بِهِ، كَالْكِنَايَةِ. وَبَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْعَدَدِ، أَنَّهُ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ؛ فَيَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ. اسْمُ فَاعِلٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يَقْتَضِي الْمَصْدَرَ، كَمَا يَقْتَضِيه الْفِعْلُ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَفَارَقَ قَوْلَهُ: أَنْتِ حَائِضٌ وَطَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ لَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ فِي حَقِّهَا، وَالطَّلَاقُ يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَنَوَى ثَلَاثًا] (6018) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا. وَنَوَى ثَلَاثًا، وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 فَقَدْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ. وَقَعَ مَا نَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَحَكَى فِيهَا الْقَاضِي رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: يَقَعُ الثَّلَاثَ. نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الْكُلِّ، وَهُوَ ثَلَاثٌ. وَالثَّانِيَةُ، إنَّهَا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَعُودَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إلَى مَعْهُودٍ، يُرِيدُ الطَّلَاقَ الَّذِي أَوْقَعَتْهُ. وَلِأَنَّ اللَّامَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الِاسْتِغْرَاقِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ: وَمِنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ. وَإِذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ. وَاغْتَسَلْت بِالْمَاءِ. وَتَيَمَّمْت بِالتُّرَابِ. وَقَرَأَتْ الْعِلْمَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ. هَذَا مِمَّا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ، إلَّا بِنِيَّةٍ صَارِفَةٍ إلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إنْ أَرَادَ ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. فَهَذَا قَدْ بَيَّنَ. أَيَّ شَيْءٍ بَقِيَ. هِيَ ثَلَاثٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَيُخَرَّجُ فِيهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَنْتِ الطَّلَاقُ وَأَنْتِ الطَّلَاقُ ... وَأَنْتِ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا تَمَامًا فَجَعَلَ الْمُكَرَّرَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ ذَلِكَ تِسْعًا. [فَصْلٌ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ] (6019) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي. أَوْ: الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ. فَهُوَ صَرِيحٌ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ طَلَاقُهُ: لَزِمَهُ الطَّلَاقُ. وَقَالُوا: إذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ، فَطَلَّقَ، لَزِمَهُ. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا: لَزِمَهُ حُكْمُهُ. فَحَذَفُوا الْمُضَافَ، وَأَقَامُوا الْمُضَافَ إلَيْهِ مُقَامَهُ، ثُمَّ اشْتَهَرَ ذَلِكَ، حَتَّى صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، وَانْغَمَرَتْ الْحَقِيقَةُ فِيهِ. وَيَقَعُ بِهِ مَا نَوَاهُ مِنْ وَاحِدَةٍ، أَوْ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ. وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَجْهُهُمَا مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ. فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ، وَقَدْ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ. وَيُخَرَّجُ فِيهِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ الرِّوَايَتَانِ؛ هَلْ هُوَ ثَلَاثٌ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ وَالْأَشْبَهُ فِي هَذَا جَمِيعِهِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يَعْتَقِدُونَهُ ثَلَاثًا، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَلِهَذَا يُنْكِرُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَ ثَلَاثًا، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ طَلَّقَ إلَّا وَاحِدَةً، فَمُقْتَضَى اللَّفْظِ فِي ظَنِّهِمْ وَاحِدَةً، فَلَا يُرِيدُونَ إلَّا مَا يَعْتَقِدُونَهُ مُقْتَضَى لِلَفْظِهِمْ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمْ نَوَوْا الْوَاحِدَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ] (6020) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي وَقْتِ السُّنَّةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، فِي ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ السُّنَّةِ. وَقَعَتْ بِهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَيْضًا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ، فَتَكُونَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ قَالَ الْعَجَمِيُّ بهشتم لبسيار طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ثَلَاثًا] (6021) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ الْعَجَمِيُّ: بهشتم لبسيار. طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ثَلَاثًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْتِ طَالِقٌ كَثِيرًا. وَإِنْ قَالَ: بهشتم. فَحَسْبُ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا، فَتَكُونَ ثَلَاثًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ، وَذَاكَ صَرِيحٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ مَا نَوَاهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا خَلَّيْتُك، وَخَلَّيْتُك يَقَعُ بِهَا مَا نَوَاهُ، وَكَذَا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ صَرِيحَةً لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّلَاقِ، وَتَعَيُّنِهَا لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي مَعْنَاهَا، وَلَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ إذَا أَرَادَهُ. وَإِنْ قَالَ: فَارَقَتْك. أَوْ: سَرَّحْتُكِ. وَنَوَى وَاحِدَةً، أَوْ أَطْلَقَ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ. [فَصْلٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ] (6022) فَصْلٌ: وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ، كَالْأَخْرَسِ إذَا طَلَّقَ بِالْإِشَارَةِ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالْإِشَارَةِ، فَقَامَتْ إشَارَتُهُ مَقَامَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَالنِّكَاحِ، فَأَمَّا الْقَادِرُ، فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِالْإِشَارَةِ، كَمَا لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِهَا، فَإِنْ أَشَارَ الْأَخْرَسُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ إلَى الطَّلَاقِ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ جَرَتْ مَجْرَى نُطْقِ غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ النَّاطِقُ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ. لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ لَا تَكْفِي. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَكَذَا تَصْرِيحٌ بِالتَّشْبِيهِ بِالْأَصَابِعِ فِي الْعَدَدِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 وَذَلِكَ يَصْلُحُ بَيَانًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ مَرَّةً ثَلَاثِينَ، وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعَيْنِ الْمَقْبُوضَتَيْنِ قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا يَدَّعِيهِ الْمَوْضِعُ الثَّانِي، إذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَوَاهُ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، أَنَّ لَهُ قَوْلًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، كَالْإِشَارَةِ وَلَنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ حُرُوفٌ، يُفْهَمُ مِنْهَا الطَّلَاقُ، فَإِذَا أَتَى فِيهَا بِالطَّلَاقِ، وَفُهِمَ مِنْهَا، وَنَوَاهُ، وَقَعَ كَاللَّفْظِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ الْكَاتِبِ؛ بِدَلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، فَحَصَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ، وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي يَقُومُ مَقَامَ لَفْظِهِ فِي إثْبَاتِ الدُّيُونِ وَالْحُقُوقِ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ كَتَبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: قَدْ خَرَّجَهَا الْقَاضِي الشَّرِيفُ فِي " الْإِرْشَادِ " عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَقَعُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِيَةُ: لَا يَقَعُ إلَّا بِنِيَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُحْتَمِلَةٌ، فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِهَا تَجْرِبَةُ الْقَلَمِ، وَتَجْوِيدُ الْخَطِّ، وَغَمُّ الْأَهْلِ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ تَجْوِيدَ خَطِّهِ، أَوْ تَجْرِبَةَ قَلَمِهِ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِاللَّفْظِ غَيْرَ الْإِيقَاعِ، لَمْ يَقَعْ، فَالْكِتَابَةُ أُولَى وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقْبَلُ أَيْضًا فِي الْحُكْمِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي اللَّفْظ الصَّرِيحِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ فَهَاهُنَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِ أُولَى وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت غُمَّ أَهْلِي فَقَدْ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي مَنْ كَتَبَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ: وَقَعَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَغُمَّ أَهْلَهُ، فَقَدْ عَمِلَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا يَعْنِي أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ غَمَّ أَهْلِهِ يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ، فَيَجْتَمِعُ غَمُّ أَهْلِهِ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يُرِيدُ بِهِ غَمَّهَا وَيَحْتَمِلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 أَنْ لَا يَقَعَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ غَمَّ أَهْلِهِ بِتَوَهُّمِ الطَّلَاقِ، دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَلَا يَكُونُ نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ، وَالْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِ بِمَا نَوَاهُ عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ، أَوْ الْكَلَامِ، وَهَذَا لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ [فَصْلٌ كَتْبُ الْأَخْرَسِ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ لَا يَبِينُ] (6023) فَصْلٌ: وَإِنْ كَتَبَهُ بِشَيْءٍ لَا يَبِينُ مِثْلُ أَنْ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ عَلَى وِسَادَةٍ، أَوْ فِي الْهَوَاءِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: يَقَعُ وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَتَبَ حُرُوفَ الطَّلَاقِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَتَبَهُ بِشَيْءٍ يَبِينُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي لَا تَبِينُ، كَالْهَمْسِ بِالْفَمِ، بِمَا لَا يَتَبَيَّنُ، وَثَمَّ لَا يَقَعُ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اسْتَمَدَّ] (6024) فَصْلٌ: إذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اسْتَمَدَّ، فَكَتَبَ: إذَا أَتَاك كِتَابِي أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، أَوْ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَانَ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ لِلطَّلَاقِ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ، بَلْ نَوَاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ نَوَى الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ، غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطِ، طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، وَقُلْنَا: إنَّ الْمُطْلَقَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ اسْتِمْدَادًا لِحَاجَةٍ، أَوْ عَادَةٍ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَدْرَكَهُ النَّفَسُ، أَوْ شَيْءٌ يُسْكِتُهُ، فَسَكَتَ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِشَرْطِ تَعَلَّقَ بِهِ، فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى وَإِنْ اسْتَمَدَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَادَةٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ سَكَتَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا وَإِنْ قَالَ: إنَّنِي كَتَبْتُهُ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ قَبْلَ الشَّرْط إلَّا أَنَّهُ يَدِينُ وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت تَعْلِيقَهُ عَلَى شَرْطٍ وَإِنْ كَتَبَ إلَى امْرَأَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهَا الْكِتَابُ، أَوْ لَمْ يَصِلْ وَعِدَّتُهَا مِنْ حِينَ كَتَبَهُ وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهَا: إذَا وَصَلَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَتَاهَا الْكِتَابُ، طَلُقَتْ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَيْهَا، وَإِنْ ضَاعَ وَلَمْ يَصِلْهَا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُهُ وَإِنْ ذَهَبَتْ كِتَابَتُهُ بِمَحْوٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَوَصَلَ الْكَاغَدُ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكِتَابٍ وَكَذَلِكَ إنْ انْطَمَسَ مَا فِيهِ لِعَرَقٍ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِيهِ الْكِتَابَةُ وَإِنْ ذَهَبَتْ حَوَاشِيهِ، أَوْ تَخَرَّقَ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ كِتَابًا، وَوَصَلَ بَاقِيهِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ كِتَابٌ وَإِنْ تَخَرَّقَ بَعْضُ مَا فِيهِ الْكِتَابَةُ سِوَى مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ فَوَصَلَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَاقٍ، فَيَنْصَرِفُ الِاسْمُ إلَيْهِ وَإِنْ تَخَرَّقَ مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ فَذَهَبَ، وَوَصَلَ بَاقِيهِ، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذَاهِبٌ فَإِنْ قَالَ لَهَا: إذَا أَتَاكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهَا: إذَا أَتَاك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَتَاهَا الْكِتَابُ، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت إذَا أَتَاك كِتَابِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ بِذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 الطَّلَاقِ الَّذِي عَلَّقْته دُيِّنَ وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ لَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالطَّلَاقِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ] (6025) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالطَّلَاقِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِي امْرَأَةٍ أَتَاهَا كِتَابُ زَوْجِهَا بِخَطِّهِ وَخَاتَمِهِ بِالطَّلَاقِ: لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا شُهُودٌ عُدُولٌ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ شَهِدَ حَامِلُ الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا، إلَّا شَاهِدَانِ فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ حَامِلِ الْكِتَابِ وَحْدَهُ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُثْبِتَةَ لِلْحُقُوقِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، كَكِتَابِ الْقَاضِي وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْكِتَابَ يَثْبُتُ عِنْدَهَا بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَقِّهَا فِي الْعِدَّةِ، وَجَوَازِ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَهَذَا مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ عَلَى الْغَيْرِ، فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِسَمَاعِهَا لِلشَّهَادَةِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ، أَنَّ هَذَا خَطُّ فُلَانٍ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشَبَّهُ بِهِ وَيُزَوَّرُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ، وَلَوْ اُكْتُفِيَ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ، لَاكْتُفِيَ بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ، حَتَّى يُشَاهِدَاهُ يَكْتُبُهُ، ثُمَّ لَا يَغِيبُ عَنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ فَإِنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ فَهَذَا أَوْلَى، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ الْكِتَابِ لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَنِيبُ فِيهَا وَقَدْ يَسْتَنِيبُ فِيهَا مِنْ يَعْرِفُهَا بَلْ مَتَى أَتَاهَا بِكِتَابٍ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمَا وَقَالَ: هَذَا كِتَابِي كَانَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ. [بَابُ الطَّلَاقِ بِالْحِسَابِ] [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا نِصْفُك طَالِقٌ أَوْ يَدُك أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِك طَالِقٌ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ جُزْءًا مِنْهَا] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا: نِصْفُك طَالِقٌ أَوْ يَدُك أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِك طَالِقٌ أَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ بِهَا وَاحِدَةٌ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي فَصْلَيْنِ: (6027) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ جُزْءًا مِنْهَا وَالثَّانِي إذَا طَلَّقَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ مَتَى طَلَّقَ مِنْ الْمَرْأَةِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا الثَّابِتَةِ طَلُقَتْ كُلُّهَا سَوَاءٌ كَانَ جُزْءًا شَائِعًا كَنِصْفِهَا أَوْ سُدْسِهَا أَوْ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْهَا أَوْ جُزْءًا مُعَيَّنًا كَيَدِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ أُصْبُعِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِك وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إلَى أَنَّهُ إنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَاءٍ خَمْسَةٍ؛ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالظَّهْرِ وَالْفَرْجِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 طَلُقَتْ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ تَبْقَى الْجُمْلَةُ مِنْهُ بِدُونِهِ أَوْ جُزْءٌ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ فَلَمْ تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِ كَالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ ثَابِتٍ اسْتَبَاحَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْجُزْءَ الشَّائِعَ وَالْأَعْضَاءَ الْخَمْسَةَ وَلِأَنَّهَا جُمْلَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وُجِدَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ فَغَلَبَ فِيهَا حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي قَتْلِ صَيْدٍ وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتِ وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ لَيْسَ بِثَابِتِ فَإِنَّهُمَا يَزُولَانِ وَيَخْرُجُ غَيْرُهُمَا وَلَا يَنْقُضُ مَسُّهُمَا الطَّهَارَةَ. [الْفَصْلُ الثَّانِي طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ جُزْءًا مِنْهَا] (6028) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ جُزْءًا مِنْهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهَا طَلْقَةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا دَاوُد قَالَ: لَا تَطْلُقْ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو عُبَيْدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ فِي الطَّلَاقِ ذِكْرٌ لِجَمِيعِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: نِصْفُك طَالِقٌ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ] (6029) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَيْ الشَّيْءِ كُلُّهُ وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَكُمِّلَ النِّصْفُ فَصَارَا طَلْقَتَيْنِ وَهَذَا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَنْصَافَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةً فَيَسْقُطُ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَتَقَعُ طَلْقَةٌ وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الطَّلَاقِ الْمُوقَعِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْإِضَافَةُ إلَى الطَّلْقَة الْوَاحِدَةِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُمَّ يُكَمَّلُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ يَتَحَقَّقُ بِهِ وَفِيهِ عَمَلٌ بِالْيَقِينِ وَإِلْغَاءُ الشَّكِّ وَإِيقَاعُ مَا أَوْقَعَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَكَانَ أَوْلَى وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ نِصْفَيْ الشَّيْءِ جَمِيعُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ ثُمَّ يُكَمَّلُ النِّصْفُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ] (6030) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ عَلَى جُزْءٍ مِنْ طَلْقَةٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا طَلَقَاتٌ مُتَغَايِرَةٌ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَجَاءَ بِهَا فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَقَالَ: ثُلُثَ الطَّلْقَةِ وَسُدْسَ الطَّلْقَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: إذَا ذُكِرَ لَفْظٌ ثُمَّ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِنْ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] فَالْعُسْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِإِعَادَتِهِ مُعَرَّفًا وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ لِإِعَادَتِهِ مُنْكَرًا وَلِهَذَا قِيلَ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ وَقِيلَ: لَوْ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى لَذَكَرَهَا بِالضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ الْأَوْلَى وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ ثُلُثَ طَلْقَةٍ سُدْسَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ غَيْرِ مُتَغَايِرَةٍ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي هَاهُنَا بَدَلًا مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ مِنْ الثَّانِي وَالْبَدَلُ هُوَ الْمُبْدَلُ أَوْ بَعْضُهُ فَلَمْ يَقْتَضِ الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً نِصْفَ طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَةً طَلْقَةً لَمْ تَطْلُقْ إلَّا طَلْقَةً فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَسُدْسًا لَمْ يَقَعْ إلَّا طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَرُبْعًا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الطَّلْقَةِ نِصْفَ سُدْسٍ ثُمَّ يُكَمَّلُ وَإِنْ أَرَادَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَلْقَةٌ أَوْ: أَنْتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ أَوْ أَنْتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ ثُلُثُ طَلْقَةٍ سُدُسُ طَلْقَةٍ أَوْ أَنْتِ نِصْفُ طَالِقٍ وَقَعَ بِهَا طَلْقَةٌ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِي: أَنْتِ الطَّلَاقُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ وَهَاهُنَا مِثْلُهُ. [فَصْلٌ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً] (6031) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى قَسَمَهَا بَيْنِهِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعُهَا ثُمَّ تَكَمَّلَتْ وَإِنْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ طَلْقَةٌ فَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي: تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ: مَا أَرَى إلَّا قَدْ بِنَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّنَا إذَا قَسَمْنَا كُلَّ طَلْقَةٍ بَيْنِهِنَّ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ جُزْءَانِ مِنْ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تُكَمَّلُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً وَيُكَمَّلُ نَصِيبُهَا مِنْ الطَّلَاقِ فِي وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفٌ ثُمَّ يُكَمَّلُ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يُقْسَمُ بِالْأَجْزَاءِ مَعَ الِاخْتِلَافِ كَالدُّورِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُخْتَلِفَاتِ أَمَّا الْجُمَلُ الْمُتَسَاوِيَةُ مِنْ جِنْسٍ كَالنُّقُودِ فَإِنَّمَا تُقْسَمُ بِرُءُوسِهَا وَيُكَمَّلُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَاحِدٍ كَأَرْبَعَةِ لَهُمْ دِرْهَمَانِ صَحِيحَانِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفٌ مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَالطَّلَقَاتُ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَخْذًا بِالْيَقِينِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إيقَاعِ طَلْقَةٍ زَائِدَةٍ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ كُلِّ طَلْقَةٍ بَيْنِهِنَّ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ طَلَقَاتٍ فَعَلَى قَوْلِنَا: تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَطْلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ خَمْسَ طَلَقَاتٍ وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ وَرُبْعٌ ثُمَّ تُكَمَّلُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنكُنَّ تِسْعًا طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. [فَصْلٌ قَالَ بَيْنَ نِسَائِهِ أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَطَلْقَةً وَطَلْقَةً] (6032) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَطَلْقَةً وَطَلْقَةً وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ وَجَبَ قَسَمُ كُلِّ طَلْقَةٍ عَلَى حِدَتِهَا وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ثَلَاثٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً فَطَلْقَةً فَطَلْقَةً أَوْ طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَةً أَوْ أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَأَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَأَوْقَعْت بَيْنكُنَّ طَلْقَةً طَلُقْنَ ثَلَاثًا إلَّا الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَمْ يَلْحَقْهَا مَا بَعْدَهَا. [فَصْلٌ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ثَلَاثًا] (6033) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِنِسَائِهِ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ثَلَاثًا أَوْ: طَلَّقْتُكُنَّ ثَلَاثًا طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْتُكُنَّ يَقْتَضِي تَطْلِيقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَتَعْمِيمَهُنَّ بِهِ ثُمَّ وَصَفَ مَا عَمّهنَّ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ بِأَنَّهُ ثَلَاثٌ فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي قِسْمَةَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جُزْءٌ مِنْهَا وَجُزْءُ الْوَاحِدَةِ مِنْ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَةٍ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا شَعْرُك أَوْ ظُفْرُك طَالِقٌ] (6034) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ قَالَ لَهَا: شَعْرُك أَوْ ظُفْرُك طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 لِأَنَّ الشَّعْرَ وَالظُّفْرَ يَزُولَانِ وَيَخْرُجُ غَيْرُهُمَا فَلَيْسَ هُمَا كَالْأَعْضَاءِ الثَّابِتَةِ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تَطْلُقُ بِذَلِكَ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يُسْتَبَاحُ بِنِكَاحِهَا فَتَطْلُقُ بِطَلَاقِهِ كَالْأُصْبُعِ وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءٌ يَنْفَصِلُ عَنْهَا فِي حَالِ السَّلَامَةِ فَلَمْ تَطْلُقْ بِطَلَاقِهِ كَالْحَمْلِ وَالرِّيقِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِمَا وَفَارَقَ الْأُصْبُعَ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَصِلُ فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّهُ فَأَشْبَهَ الْعَرَقَ وَالرِّيقَ وَاللَّبَنَ وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مُتَّصِلٌ بِهَا وَإِنَّمَا لَمْ تَطْلُقْ بِطَلَاقِهِ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى الِانْفِصَالِ وَهَذِهِ كَذَلِكَ وَالسِّنُّ فِي مَعْنَاهُمَا؛ لِأَنَّهَا تَزُولُ مِنْ الصَّغِيرِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهَا وَتَنْقَلِعُ مِنْ الْكَبِيرِ. [فَصْلٌ تَطْلِيقُ بَعْضِ الْمَرْأَةِ] فَصْلٌ: وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الرِّيقِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْحَمْلِ لَمْ تَطْلُقْ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ جِسْمِهَا وَإِنَّمَا الرِّيقُ وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ فَضَلَاتٌ تَخْرُجُ مِنْ جِسْمِهَا فَهُوَ كَلَبَنِهَا وَالْحَمْلُ مُودَعٌ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98] قِيلَ: مُسْتَوْدَعٌ فِي بَطْنِ الْأُمِّ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الزَّوْجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَقَعُ إذَا ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ؛ الشَّعْرَ وَالسِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالرُّوحَ جَرَّدَ الْقَوْلَ عَنْهُ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ فَبِذَلِكَ أَقُولُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ عُضْوًا وَلَا شَيْئًا يُسْتَمْتَعُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ شَكَّ فِي طَلَاقِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَطَلَّقَ أَمْ لَا] (6036) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَطَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا يَزُولُ يَقِينُ النِّكَاحِ بِشَكِّ الطَّلَاقِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي طَلَاقِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِشَكٍّ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ وَاطِّرَاحِ الشَّكِّ وَلِأَنَّهُ شَكٌّ طَرَأَ عَلَى يَقِينٍ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ كَمَا لَوْ شَكَّ الْمُتَطَهِّرُ فِي الْحَدَثِ أَوْ الْمُحْدِثُ فِي الطَّهَارَةِ، وَالْوَرَعُ الْتِزَامُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا رَاجَعَ امْرَأَتَهُ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ شَكَّ فِي طَلَاقِ ثَلَاثٍ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَتَرَكَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا فَيَقِينُ نِكَاحِهِ بَاقٍ فَلَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْ شَرِيكٍ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طَلَاقِهِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا؛ لِتَكُونَ الرَّجْعَةُ عَنْ طَلْقَةٍ فَتَكُونَ صَحِيحَةً فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالرَّجْعَةِ مُمْكِنٌ مَعَ الشَّكِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 فِي الطَّلَاقِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى مَا تَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْعِبَادَاتُ مِنْ النِّيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي طَلْقَتَيْنِ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً لَصَارَ شَاكًّا فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَلَا تُفِيدُهُ الرَّجْعَةُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا] (6037) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا اعْتَزَلَهَا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ وَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يَتَيَقَّنَ كَمْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ وَشَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ لَفَظَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَدْرِي وَاحِدَةً أَمْ ثَلَاثًا؟ قَالَ: أَمَّا الْوَاحِدَةُ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي تَيَقَّنَهُ طَلَاقٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ تَبْقَى أَحْكَامُ الْمُطَلِّقِ دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ إبَاحَةِ الرَّجْعَةِ. وَإِذَا رَاجَعَ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَحُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ الْخِرَقِيِّ: وَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَقَوْلُهُمَا: تَيَقَّنَ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ وُجُودَهُ بِالطَّلَاقِ وَشَكَّ فِي رَفْعِهِ بِالرَّجْعَةِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ كَمَا لَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ وَشَكَّ فِي مَوْضِعِهَا فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِ مَوْضِعٍ مِنْ الثَّوْبِ وَلَا يَزُولُ إلَّا بِغَسْلِ جَمِيعِهِ وَفَارَقَ لُزُومَ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهَا وَظَاهِرُ قَوْلِ غَيْرِ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا حَلَّتْ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُتَعَلِّقَ بِمَا يَنْفِيهِ يَزُولُ بِالرَّجْعَةِ يَقِينًا فَإِنَّ التَّحْرِيمَ أَنْوَاعٌ؛ تَحْرِيمٌ تُزِيلُهُ الرَّجْعَةُ وَتَحْرِيمٌ يُزِيلُهُ نِكَاحٌ جَدِيدٌ وَتَحْرِيمٌ يُزِيلُهُ نِكَاحٌ بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَمَنْ تَيَقَّنَ الْأَدْنَى لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَعْلَى كَمَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ لَا يَثْبُت فِيهِ حُكْمُ الْأَكْبَرِ وَيَزُولُ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَيُخَالِفُ الثَّوْبَ فَإِنَّ غَسْلَ بَعْضِهِ لَا يَرْفَعُ مَا تَيَقَّنَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَتَيَقَّنَ نَجَاسَةَ كُمِّ الثَّوْبِ وَيَشُكَّ فِي نَجَاسَةِ سَائِرِهِ فَإِنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِيهِ يَزُولُ بِغَسْلِ الْكُمِّ وَحْدَهَا كَذَا هَاهُنَا وَيُمْكِنُ مَنْعُ حُصُولِ التَّحْرِيمِ هَاهُنَا وَمَنْعُ يَقِينِهِ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ مُبَاحَةٌ لِزَوْجِهَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَمَا هُوَ إذًا مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ شَاكٌّ فِيهِ مُتَيَقِّنٌ لِلْإِبَاحَةِ. [فَصْلٌ رَأَى رَجُلَانِ طَائِرًا فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ غُرَابٌ وَحَلَفَ الْآخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ حَمَامٌ] (6038) فَصْلٌ: إذَا رَأَى رَجُلَانِ طَائِرًا فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ غُرَابٌ وَحَلَفَ الْآخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ حَمَامٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِحِنْثِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ يَقِينَ النِّكَاحِ ثَابِتٌ وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَإِنْ ادَّعَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 امْرَأَةُ أَحَدِهِمَا حِنْثَهُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ وَالْيَقِينَ فِي جَانِبِهِ وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ وَاحِدًا فَقَالَ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَنِسَاؤُهُ طَوَالِقُ وَإِنْ كَانَ حَمَامًا فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ أَوْ قَالَ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَزَيْنَبُ طَالِقٌ وَإِنْ كَانَ حَمَامًا فَهِنْدُ طَالِقٌ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ لَمْ يُحْكَمْ بِحِنْثِهِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلنِّكَاحِ شَاكٌّ فِي الْحِنْثِ فَلَا يَزُولُ عَنْ يَقِينِ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ بِالشَّكِّ فَأَمَّا إنْ قَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا فَقَدْ حَنِثَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ بَلْ تَبْقَى فِي حَقِّهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينُ نِكَاحِهِ بَاقٍ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَأَمَّا الْوَطْءُ فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ، وَامْرَأَتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْكَلَ فَحَرُمَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَمَا لَوْ حَنِثَ فِي إحْدَى امْرَأَتَيْهِ لَا بِعَيْنِهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَحْرُمُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْءُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِبَقَاءِ نِكَاحِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ وَفَارَقَ الْحَانِثَ فِي إحْدَى امْرَأَتَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ زَوَالُ نِكَاحِهِ عَنْ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ قُلْنَا: إنَّمَا تَحَقَّقَ حِنْثُهُ فِي وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَبِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مُفْرَدَةٍ فَيَقِينُ نِكَاحِهَا بَاقٍ وَطَلَاقُهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ لَكِنْ لَمَّا تَحَقَّقْنَا أَنَّ إحْدَاهُمَا حَرَامٌ وَلَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُهَا حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَدْ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِمَا وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ أَحَدُ الْإِنَاءَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَا لِرَجُلَيْنِ أَوْ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ مَكْحُولٌ: يُحْمَلُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ عَلِمَ الْحَالَ وَأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوَ هَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمْكِنُ صِدْقُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ وَإِنْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْحَانِثُ طَلُقَتْ زَوْجَتَاهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا حَنِثَ وَحْدَهُ، وَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةُ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ الْحِنْثَ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَلْ يَحْلِفُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. (6039) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ كَانَ هَذَا غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا لَمْ نَحْكُمْ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ، فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا عَبْدَ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ حِنْثَ نَفْسِهِ عَتَقَ الَّذِي اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ حِنْثَ نَفْسِهِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِحِنْثِ صَاحِبِهِ وَإِقْرَارٌ بِعِتْقِ الَّذِي اشْتَرَاهُ. وَإِذَا اشْتَرَى مَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إنْكَارٌ وَلَا اعْتِرَافٌ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدَانِ فِي يَدِهِ وَأَحَدُهُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 حُرٌّ وَلَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ، وَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِهِ إلَى الْقُرْعَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ الَّذِي اشْتَرَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ تَمَسُّكَهُ بِعَبْدِهِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِرِقِّهِ وَحُرِّيَّةِ صَاحِبِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ لَفْظًا وَلَا فَعَلَ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ فَإِنَّ الشَّرْعَ يُسَوِّغُ لَهُ إمْسَاكَ عَبْدِهِ مَعَ الْجَهْلِ اسْتِنَادًا إلَى الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْتَرِفًا مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّنِي لَا أَعْلَمُ الْحُرَّ مِنْهُمَا؟ وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا فِي إبْقَاءِ رِقِّ عَبْدِهِ بِاحْتِمَالِ الْحِنْثِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا صَارَ الْعَبْدَانِ لَهُ وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ لَا بِعَيْنِهِ صَارَ كَأَنَّهُمَا كَانَا لَهُ فَحَلَفَ بِعِتْقِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ وَاحِدًا فَقَالَ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَأَمَتِي حُرَّةٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ، فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فَيُعْتِقُ أَحَدَهُمَا فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الَّذِي عَتَقَ أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ كَانَ غُرَابًا فَهَذِهِ طَالِقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَهَذِهِ الْأُخْرَى طَالِقٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ] (6040) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَهَذِهِ طَالِقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَهَذِهِ الْأُخْرَى طَالِقٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قُرْبَانُهُمَا وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِمَا حَتَّى تَبِينَ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَحْبُوسَتَانِ عَلَيْهِ لِحَقِّهِ وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فَتَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا كَقَوْلِنَا فِي الْعَبِيدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا هَاهُنَا؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً وَأُنْسِيَهَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَعَلَى هَذَا يَبْقَى التَّحْرِيمُ فِيهِمَا إلَى أَنْ يَعْلَمَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِمَا، فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الَّتِي حَنِثْت فِيهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حِلِّ الْأُخْرَى فَإِنْ ادَّعَتْ الَّتِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِطَلَاقِهَا أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَهَلْ يَحْلِفُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ كَانَ غُرَابًا فَنِسَاؤُهُ طَوَالِقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ وَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ] (6041) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَنِسَاؤُهُ طَوَالِقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ وَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكَيْنِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْجَمِيعِ، فَإِنْ قَالَ: كَانَ غُرَابًا طَلُقَ نِسَاؤُهُ وَرُقَّ عَبِيدُهُ، فَإِنْ ادَّعَى الْعَبِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا لَيَعْتِقُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَلْ يَحْلِفُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ غُرَابًا عَتَقَ عَبِيدُهُ وَلَمْ تَطْلُقْ النِّسَاءُ، فَإِنْ ادَّعَيْنَ أَنَّهُ كَانَ غُرَابًا لِيَطْلُقْنَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَفِي تَحْلِيفِهِ وَجْهَانِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَسْتَحْلِفُ، فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ مَا الطَّائِرُ؟ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَقَعْت الْقُرْعَةُ عَلَى الْغُرَابِ طَلُقَ النِّسَاءُ، وَرُقَّ الْعَبِيدُ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْعَبِيدِ عَتَقُوا وَلَمْ تَطْلُقْ النِّسَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ وَقَعْت الْقُرْعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ عَتَقُوا وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى النِّسَاءِ لَمْ يَطْلُقْنَ، وَلَمْ يَعْتِقْ الْعَبِيدُ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْعِتْقِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ السِّتَّةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَالْقُرْعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ، وَالْعِتْقَ حَلُّ الْمِلْكِ وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَمْلَاكِ قَالُوا: وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا: إنَّ مَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ فِي حَقِّ الْمَوْرُوثِ لَا يَصْلُحُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي زَوْجَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْإِمَاءَ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ تَحْرِيمًا لَا تُزِيلُهُ الْقُرْعَةُ فَلَمْ يُنَجَّزْ لِلْوَارِثِ بِهَا كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهِنَّ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِزَوْجَاتِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا] (6042) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَاتِهِ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَأُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُنَّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَالِكٌ: يَطْلُقْنَ جَمِيعًا وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ فَيُوقِعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَهُ ابْتِدَاءً وَتَعْيِينَهُ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مَلَكَ تَعْيِينَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَا مَلَكَهُ وَلَنَا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَتَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ كَالْعِتْقِ وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ؛ بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ السِّتَّةِ وَلِأَنَّ الْحَقَّ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَوَجَبَ تَعْيِينُهُ بِالْقُرْعَةِ كَالْحُرِّيَّةِ فِي الْعَبِيدِ إذَا أَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَخْرُجَ جَمِيعُهُمْ مِنْ الثُّلْثِ وَكَالسَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَالْبِدَايَةِ بِإِحْدَاهُنَّ فِي الْقَسَمِ وَكَالشَّرِيكَيْنِ إذَا اقْتَسَمَا وَلِأَنَّهُ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا فَلَمْ يَمْلِكْ تَعْيِينَهَا بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَنْسِيَّةِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُنَّ لَا يَطْلُقْنَ جَمِيعًا؛ أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَاحِدَةٍ فَلَمْ يُطَلِّقْ الْجَمِيعَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهَا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ وَالتَّعْيِينَ قُلْنَا: مِلْكُهُ لِلتَّعْيِينِ بِالْإِيقَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَمْلِكَهُ بَعْدَهُ كَمَا لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَأُنْسِيَهَا، وَأَمَّا إنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا طَلُقَتْ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا بِنِيَّتِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَيَّنَهَا بِلَفْظِهِ وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْت فُلَانَةَ قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ وَالتَّعْيِينِ أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ بَيْنَهُنَّ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا قُرْعَةُ الطَّلَاقِ فَحُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ مَا لَوْ عَيَّنَهَا بِالتَّطْلِيقِ. [فَصْلٌ قَالَ لِنِسَائِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ غَدًا فَجَاءَ غَدٌ] (6043) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِنِسَائِهِ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ غَدًا فَجَاءَ غَدٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَأُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، فَإِنْ مَاتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 قَبْلَ الْغَدِ وَرِثْنَهُ كُلُّهُنَّ، وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ وَرِثَهَا؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ أَقْرَعَ بَيْنَ الْمَيِّتَةِ وَالْأَحْيَاءِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمَيِّتَةِ لَمْ يَطْلُقْ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَصَارَتْ كَالْمُعَيَّنَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَتَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِي الْأَحْيَاءِ فَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَمَاتَتْ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنهمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَقْتَ قَوْلِهِ فَلَا يَنْصَرِفْ قَوْلُهُ إلَيْهَا وَهَذِهِ قَدْ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، وَإِرَادَتُهَا بِالطَّلَاقِ مُمْكِنَةٌ وَإِرَادَتُهَا بِالطَّلَاقِ كَإِرَادَةِ الْأُخْرَى، وَحُدُوثُ الْمَوْتِ بِهَا لَا يَقْتَضِي فِي حَقِّ الْأُخْرَى طَلَاقًا فَتَبْقَى عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ كَالْقَوْلِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا جَاءَ غَدٌ وَقَدْ بَاعَ بَعْضَ الْعَبِيدِ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبِيدِ الْأُخَرِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَبِيعِ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُمْ شَيْءٌ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْبَاقِينَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ لَهُ تَعْيِينَ الْعِتْقِ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَبَيْعُ أَحَدِهِمْ صَرْفٌ لِلْعِتْقِ عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْبَاقِينَ، وَإِنْ بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاقِينَ، فَإِنْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عَتَقَ نِصْفُهُ وَسَرَى إلَى بَاقِيهِ إنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ إلَّا نِصْفُهُ. [فَصْلٌ قَالَ امْرَأَتِي طَالِقٌ وَأَمَتِي حُرَّةٌ وَلَهُ نِسَاءٌ وَإِمَاءٌ وَنَوَى بِذَلِكَ مُعَيَّنَةً] (6044) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ وَأَمَتِي حُرَّةٌ، وَلَهُ نِسَاء وَإِمَاءٌ وَنَوَى بِذَلِكَ مُعَيَّنَةً انْصَرَفَ إلَيْهَا، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مُبْهَمَةً فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِيهِنَّ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا؛ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَطْلُقُ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ، وَيَعْتِقُ إمَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُضَافَ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] و {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ الْجَمَاعَةُ: يَقَعُ عَلَى وَاحِدَةٍ مُبْهَمَةٍ وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ قَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَإِحْدَاكُنَّ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمْعِ إلَّا مَجَازًا وَالْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهَا دَلِيلٌ وَلَوْ تَسَاوَى الِاحْتِمَالَانِ لَوَجَبَ قَصْرُهُ عَلَى الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا] (6045) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ) أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا أَنَّهَا تَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِيهَا وَيَحِلُّ لَهُ الْبَاقِيَاتُ وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ هَاهُنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 لِمَعْرِفَةِ الْحِلِّ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِمَعْرِفَةِ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَ؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِي الطَّلَاقِ بِالْقُرْعَةِ قُلْت: أَرَأَيْت إنْ مَاتَ هَذَا؟ قَالَ: أَقُولُ بِالْقُرْعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصِيرُ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمَالِ وَجَمَاعَةُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْقُرْعَةُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الْمَنْسِيَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّوْرِيثِ فَأَمَّا فِي الْحِلِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ بِالْقُرْعَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَالْكَلَامُ إذَنْ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي شَيْئَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْمَنْسِيَّةِ لِلتَّوْرِيثِ، وَالثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِهَا فِيهَا لِلْحِلِّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ قَدِمَ الْبَصْرَةَ فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ، وَنَكَحَ ثُمَّ مَاتَ لَا يَدْرِي الشُّهُودُ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَ؟ فَقَالَ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَأُنْذِرَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ وَأُقْسِمَ بَيْنَهُنَّ الْمِيرَاثُ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ إذَا تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ إلَّا بِالْقُرْعَةِ صَحَّ اسْتِعْمَالُهَا كَالشُّرَكَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْعَبِيدِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَمَّا الْقُرْعَةُ فِي الْحِلِّ فِي الْمَنْسِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ فَلَمْ تَحِلَّ لَهُ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا عَقْدٌ وَلِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُزِيلُ التَّحْرِيمَ مِنْ الْمُطَلَّقَةِ وَلَا تَرْفَعُ الطَّلَاقَ عَمَّنْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَلَا احْتِمَالَ كَوْنِ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيْرُهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ أَوْ زَالَ الطَّلَاقُ لَمَا عَادَ بِالذِّكْرِ فَيَجِبُ بَقَاءُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْقُرْعَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا وَقَدْ قَالَ الْخِرَقِيِّ فِي مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَأْكُلَ تَمْرَةً فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ فَأَكَلَ مِنْهُ وَاحِدَةً: لَا تَحِلُّ لَهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَحَرَّمَهَا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ يَقِينُ التَّحْرِيمِ فَهَاهُنَا أَوْلَى وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اشْتَبَهَتْ بِغَيْرِهَا؛ مِثْلُ أَنْ يَرَى امْرَأَةً فِي رَوْزَنَةٍ أَوْ مُوَلِّيَةً فَيَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا مِنْ نِسَائِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَى نِسَائِهِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَشِبْهِهَا، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ جَمِيعُ نِسَائِهِ عَلَيْهِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ الْمُطَلَّقَةُ وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَةِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لَمْ تَفِدْ الْقُرْعَةُ شَيْئًا وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ التَّزَوُّجُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمُطَلَّقَةِ وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ غَيْرُهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى إحْدَاهُنَّ ثَبَتَ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِيهَا فَحَلَّ لَهَا النِّكَاحُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا وَحَلَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 لِلزَّوْجِ مَنْ سِوَاهَا كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُعْلَمْ بِعَيْنِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ الْمَبْنِيَّيْنِ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ أَشْبَهَ الْعِتْقَ وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلُ هَاهُنَا لِمَا قَدَّمْنَا وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ الْقُرْعَةَ مُعِينَةً، فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا؛ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي مُعَيَّنَةٍ لَا مَحَالَةَ، وَالْقُرْعَةُ لَا تَرْفَعُهُ عَنْهَا، وَلَا تُوقِعُهُ عَلَى غَيْرِهَا وَلَا يُؤْمَنُ وُقُوعُ الْقُرْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا وَاحْتِمَالُ وُقُوعِ الْقُرْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا كَاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا عَلَيْهَا بَلْ هُوَ أَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا؛ فَإِنَّهُنَّ إذَا كُنَّ أَرْبَعًا فَاحْتِمَالُ وُقُوعِهِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا أَنْدَرُ مِنْ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَلِذَلِكَ لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةِ أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ أَوْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْكُلُ تَمْرَةً فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ لَا تَدْخُلُهُ قُرْعَةٌ فَكَذَا هَاهُنَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ لَا فِي الْحِلِّ وَمَا نَعْلَمُ بِالْقَوْلِ بِهَا فِي الْحِلِّ مِنْ الصَّحَابَةِ قَائِلًا (6046) فَصْلٌ: فَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا إذَا ذَكَرَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيْرُ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَيَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ طَلَّقَ لَا مِنْ حِينِ ذَكَرَ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَتُرَدُّ إلَيْهِ الَّتِي خَرَجَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، وَالْقُرْعَةُ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ لَا صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَزَوَّجَتْ رُدَّتْ إلَيْهِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ قِبَلِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَتْ أَوْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الزَّوْجِ الثَّانِي فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ، وَالْقُرْعَةُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ لَا يُمْكِنُ الزَّوْجَ رَفْعُهَا فَتَقَعَ الْفُرْقَةُ بِالزَّوْجَيْنِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَلَمْ يَدْرِ أَيَّتَهنَّ طَلَّقَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَإِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى وَاحِدَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: هَذِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِ وَاَلَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَهَذَا شَيْءٌ قَدْ مَرَّ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَلَا أُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ حَامِدٍ: مَتَى أَقْرَعَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 غَيْرُهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ إلَّا أَنَّ الَّتِي عَيَّنَهَا بِالطَّلَاقِ تَحْرُمُ بِقَوْلِهِ: وَتَرِثُهُ إنْ مَاتَ وَلَا يَرِثُهَا وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا أَنْ تَلْزَمَهُ نَفَقَتُهَا وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا (6047) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ بَلْ هَذِهِ طَلُقَتَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِطَلَاقِ الْأُولَى فَقُبِلَ إقْرَارُهُ ثُمَّ قُبِلَ إقْرَارُهُ بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ طَلَاقِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ لَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَقَالَ: هَذِهِ بَلْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ، وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ أَوْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِنْ قَالَ: طَلُقْت هَذِهِ بَلْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ طَلُقَتْ الْأُولَى وَإِحْدَى الْآخِرَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ فَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ كَذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ الْكِسَائِيّ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَطْلُقُ الثَّانِيَةُ وَيَبْقَى الشَّكُّ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى بِغَيْرِ شَكٍّ ثُمَّ فَصَلَ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بِحَرْفِ الشَّكِّ فَيَكُونُ الشَّكُّ فِيهِمَا وَلَوْ قَالَ: طَلُقْت هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ، وَكَانَ الشَّكُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَحْتَمِلُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى أَتَى بِحَرْفِ الشَّكِّ بَعْدَهُمَا فَيَعُودُ إلَيْهِمَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الشَّكِّ فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: طَلُقْت هَذِهِ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ طُولِبَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ قَالَ: هِيَ الثَّالِثَةُ طَلُقَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ الْأُولَيَانِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أُقْرِعَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ وَالثَّالِثَةِ قَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ ": وَهَذَا أَصَحُّ، وَإِنْ قَالَ: طَلُقْت هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ أُخِذَ بِالْبَيَانِ فَإِنْ قَالَ: هِيَ الْأُولَى طَلُقَتْ وَحْدَهَا وَإِنْ قَالَ: لَيْسَتْ الْأُولَى طَلُقَتْ الْأُخْرَيَانِ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلُقْت هَذِهِ أَوْ هَاتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ وَطِئَ لَمْ يَكُنْ تَعْيِينًا وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ ثُبُوتِ طَلَاقِهَا وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَطْأَهَا لَا يَنْفِي احْتِمَالَ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً فَلَمْ يَكُنْ تَعْيِينًا لِغَيْرِهَا كَمَرَضِهَا وَإِنْ قَالَ: طَلُقْت هَذِهِ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ لَا يَدْرِي أَهُمَا الْأُولَيَانِ أَمْ الْآخِرَتَانِ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْت هَاتَيْنِ أَوْ هَاتَيْنِ، فَإِنْ قَالَ: هُمَا الْأُولَيَانِ تَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِيهِمَا، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُطَلِّقْ الْأُولَيَيْنِ تَعَيَّنَ الْآخِرَتَانِ وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَشُكُّ فِي طَلَاقِ الثَّانِيَةِ وَالْآخِرَتَيْنِ طَلُقَتْ الْأُولَى وَبَقِيَ الشَّكُّ فِي الثَّلَاثِ، وَمَتَى فَسَّرَ كَلَامَهُ بِشَيْءٍ مُحْتَمَلٍ قُبِلَ مِنْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 [مَسْأَلَةٌ مَاتَ قَبْلَ تَحْدِيدِ مَنْ الَّتِي طَلَّقَهَا مِنْ نِسَائِهِ] (6048) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِلْبَوَاقِي مِنْهُنَّ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ كُلِّهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ تَسَاوَيْنَ فِي احْتِمَالِ اسْتِحْقَاقِهِ وَلَا يَخْرُجُ الْحَقُّ عَنْهُنَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ الْمِيرَاتُ الْمُخْتَصُّ بِهِنَّ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُنَّ وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ تَسَاوَيْنَ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّعْيِينِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْقُرْعَةِ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِمْ بِالنَّصِّ وَلِأَنَّ تَوْرِيثَ الْجَمِيعِ تَوْرِيثٌ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ يَقِينًا وَالْوَقْفُ لَا إلَى غَايَةٍ حِرْمَانٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ يَقِينًا وَالْقُرْعَةُ يُسْلَمُ بِهَا مِنْ هَذَيْنِ الْمَحْذُورَيْنِ وَلَهَا نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ (6049) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ أَوْ جَمِيعُهُنَّ قَرَعْنَا بَيْنَ الْجَمِيعِ فَمَنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لَهَا حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ وَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِمَيِّتَةٍ قَبْلَهُ حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ لِمَيِّتَةٍ بَعْدَهُ حَرَمْنَاهَا مِيرَاثَهُ، وَالْبَاقِيَاتُ يَرِثُهُنَّ وَيَرِثْنَهُ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِهَا: هَذِهِ الَّتِي طَلَّقْتهَا أَوْ قَالَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ: هَذِهِ الَّتِي أَرَدْتهَا حُرِمَ مِيرَاثَهَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرِثُ الْبَاقِيَاتِ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ وَرَثَتُهُنَّ أَوْ كَذَّبُوهُ؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَهُمْ يَدَّعُونَ طَلَاقَهُ لَهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَهَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يُسْتَحْلَفُ فَنَكَلَ حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا؛ لِنُكُولِهِ وَلَمْ يَرِثْ الْأُخْرَى لِإِقْرَارِهِ بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ مَاتَ فَقَالَ وَرَثَتُهُ لِإِحْدَاهُنَّ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَأَقَرَّتْ أَوْ أَقَرَّ وَرَثَتُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا حَرَمْنَاهَا مِيرَاثَهُ وَإِنْ أَنْكَرَتْ أَوْ أَنْكَرَ وَرَثَتُهَا فَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي بَقَاءَ نِكَاحِهَا وَهُمْ يَدَّعُونَ زَوَالَهُ وَالْأَصْلُ مَعَهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ عَلَيْهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا إذَا لَمْ يَكُونَا مِمَّنْ يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِمَا مِيرَاثُهَا وَلَا عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ كَأُمِّهِمَا وَجَدَّتِهِمَا؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ إحْدَى الزَّوْجَاتِ لَا يَرْجِعُ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا يَتَوَفَّرُ عَلَى ضَرَائِرِهَا وَإِنْ ادَّعَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا طَلَاقًا تَبِينُ بِهِ فَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ لِإِقْرَارِهِمَا بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ مِيرَاثَهُ فَقَبِلْنَا قَوْلَهَا فِيمَا عَلَيْهَا دُونَ مَا لَهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهَا فِيمَا عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ يُبِينُهَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ رَجْعِيًّا وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا أَوْ مَاتَتْ وَرَّتْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 [فَصْلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلُقَ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ نَكَحَ أُخْرَى بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيَّتُهُنَّ طَلَّقَ] (6050) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ نَكَحَ أُخْرَى بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيَّتَهنَّ طَلَّقَ فَلِلَّتِي تَزَوَّجَهَا رُبْعُ مِيرَاثِ النِّسْوَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا خَرَجَتْ وَوَرِثَ الْبَاقِيَاتُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ جَمِيعًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ الْبَاقِي بَيْنَهُنَّ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ وَوَجْهُ الْأَقْوَالِ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثَلَاثًا وَوَاحِدَةً اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً وَاحِدَةً وَمَاتَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُنَّ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَأَيَّتُهُنَّ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ وَأَيَّتُهُنَّ وَاحِدَةً: يُقْرَعُ بَيْنَهُنَّ فَاَلَّتِي أَبَانَهَا تَخْرُجُ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا هَذَا فِيمَا إذَا مَاتَ فِي عِدَّتِهِنَّ، وَكَانَ طَلَاقُهُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ إلَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْبَاقِيَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ يَرِثْنَهُ فِي الْعِدَّةِ وَيَرِثُهُنَّ وَمَنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُنَّ لَمْ تَرِثْهُ وَلَمْ يَرِثْهَا وَلَوْ كَانَ طَلَاقُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لَوَرِثَهُ الْجَمِيعُ فِي الْعِدَّةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا قَبْلَ التَّزْوِيجِ رِوَايَتَانِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا يُعَيِّنُهَا أَوْ يُعَيِّنُهَا فَأُنْسِيَهَا] (6051) فَصْلٌ: إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا يُعَيِّنُهَا أَوْ يُعَيِّنُهَا فَأُنْسِيَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّةُ الْجَمِيعِ فَلَهُ نِكَاحُ خَامِسَةٍ قَبْلَ الْقُرْعَةِ وَخَرَّجَ ابْنُ حَامِدٍ وَجْهًا فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي حُكْمِ نِسَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَحُرْمَةِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهَا وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً بَائِنًا مِنْهُ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّةٍ مِنْ نِكَاحِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ زَوْجَتَهُ؟ وَإِنَّمَا الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَبْسِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ؛ لِأَجْلِ اشْتِبَاهِهَا وَمَتَى عَلِمْنَاهَا بِعَيْنِهَا إمَّا بِتَعْيِينِهِ أَوْ قُرْعَةٍ فَعِدَّتُهَا مِنْ حِينِ طَلَّقَهَا لَا مِنْ حِينِ عَيَّنَهَا وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ حِينَ إيقَاعِهِ وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ مِنْ الزَّوْجِ وَحِرْمَانِهِ مِنْهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ تَبَيُّنٌ لِمَا كَانَ وَاقِعًا وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَى الْجَمِيعِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى النِّكَاحِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ فَتَلْزَمُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 عِدَّتُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَطُولُ الْأَجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَعِدَّةِ الطَّلَاقِ لَكِنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ طَلَّقَ وَعِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا تَبْرَأُ يَقِينًا إلَّا بِأَطْوَلِهِمَا وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَأَمَّا الرَّجْعِيُّ؛ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ. [فَصْلٌ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَأَنْكَرَهَا] (6052) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَعَدَمُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا بِمَا ادَّعَتْهُ بَيِّنَةٌ وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا عَدْلَانِ وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ: أَتَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ إلَّا عَدْلَانِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يُسْتَحْلَفُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ نَقَلَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ: «الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الزَّوْجِ بَذْلُهُ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالْمَهْرِ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ: لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالنِّكَاحِ إذَا ادَّعَى زَوْجِيَّتَهَا فَأَنْكَرَتْهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا وَسَمِعَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهَا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَفِرَّ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَتْ وَتَمْتَنِعَ مِنْهُ إذَا أَرَادَهَا وَتَفْتَدِيَ مِنْهُ إنْ قَدَرَتْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ وَقَالَ أَيْضًا: تَفْتَدِي مِنْهُ بِمَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أُجْبِرَتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَزَّيَّنُ لَهُ وَلَا تُقِرُّ بِهِ وَتَهْرُبُ إنْ قَدَرَتْ وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهَا عَدْلَانِ غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ فَلَا تُقِيمُ مَعَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنُ سِيرِينَ: تَفِرُّ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَتْ وَتَفْتَدِي مِنْهُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: تَفِرُّ مِنْهُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَتَزَيَّنُ لَهُ وَلَا تُبْدِي لَهُ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهَا وَلَا عَرِيَّتِهَا وَلَا يُصِيبُهَا إلَّا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ يُسْتَحْلَفُ ثُمَّ يَكُونُ الْإِثْمُ عَلَيْهِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ وَالْفِرَارُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَهَكَذَا لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ كَذِبًا وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِالزَّوْجِيَّةِ أَوْ لَوْ تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا بَاطِلًا وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ بِذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ جَحَدَ طَلَاقَهَا] (6053) فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ جَحَدَ طَلَاقَهَا لَمْ تَرِثْهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَسَنُ: تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ ظَاهِرًا وَلَنَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَلَمْ تَرِثْهُ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: تَهْرُبُ مِنْهُ وَلَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يُظْهِرَ طَلَاقَهَا وَتَعْلَمَ ذَلِكَ يَجِيءُ فَيَدَّعِيهَا فَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَتُعَاقَبُ وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُقِرَّ بِطَلَاقِهَا لَا تَرِثُهُ لَا تَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهَا تَفِرُّ مِنْهُ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ وَلَكِنْ تَخْتَفِي فِي بَلَدِهَا قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: تَقْتُلُهُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ فَمَنَعَهَا مِنْ التَّزْوِيجِ قَبْلَ ثُبُوتِ طَلَاقِهَا لِأَنَّهَا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ زَوْجَةُ هَذَا الْمُطَلِّقِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ الْعُقُوبَةُ وَالرَّدُّ إلَى الْأَوَّلِ وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا زَوْجَانِ هَذَا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَذَاكَ بِبَاطِنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَوِّي التُّهْمَةَ فِي نُشُوزِهَا وَلِأَنَّ فِي قَتْلِهِ قَصْدًا؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَقْتُلُ قَصْدًا فَأَمَّا إنْ قَصَدَتْ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهَا فَآلَ إلَى نَفْسِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهَا وَلَا ضَمَانَ فِي الْبَاطِنِ فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْقَتْلِ مَا لَمْ يَثْبُتْ صِدْقُهَا. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ وَطِئَهَا] (6054) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ وَطِئَهَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إنَّمَا أَوْجَبَهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالطَّلَاقِ أَجْنَبِيَّةً فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ بَلْ هِيَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَطْئًا وَنِكَاحًا، فَإِنْ جَحَدَ طَلَاقَهَا وَوَطِئَهَا ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِطَلَاقِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ جَحَدَهُ لِطَلَاقِهِ يُوهِمُنَا أَنَّهُ نَسِيَهُ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى عِلْمِ مَعْرِفَتِهِ بِالطَّلَاقِ حَالَةَ وَطْئِهِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: وَطِئْتهَا عَالِمًا بِأَنَّنِي كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا كَانَ إقْرَارًا مِنْهُ بِالزِّنَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى. [مَسْأَلَةٌ الْمُطَلِّقُ إذَا بَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ] (6055) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فَقَضَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ ثُمَّ أَصَابَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَقَضَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّلَاثِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلِّقَ إذَا بَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ وَيُصِيبَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَهَذِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى طَلَاقِ ثَلَاثٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 وَالثَّانِي أَنْ يُطَلِّقَهَا دُونَ الثَّلَاثِ ثُمَّ تَعُودَ إلَيْهِ بِرَجْعَةٍ، أَوْ نِكَاحٍ جَدِيدٍ قَبْلَ زَوْجٍ ثَانٍ فَهَذِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَالثَّالِثُ طَلَّقَهَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَضَتْ عِدَّتَهَا ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَمُعَاذٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدَةُ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى طَلَاقِ ثَلَاثٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَشُرَيْحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ فَيُثْبِتُ حِلًّا يَتَّسِعُ لِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا بَعْدَ الثَّلَاثِ لِأَنَّ وَطْءَ الثَّانِي يَهْدِمُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ فَأَوْلَى أَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهَا وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الثَّانِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الطَّلَاقِ كَوَطْءِ السَّيِّدِ وَلِأَنَّهُ تَزْوِيجٌ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَتْ إلَيْهِ قَبْلَ وَطْءِ الثَّانِي وَقَوْلُهُمْ: إنَّ وَطْءَ الثَّانِي يُثْبِتُ الْحِلَّ لَا يَصِحُّ؛ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: مَنْعُ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لِلْحِلِّ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ غَايَةُ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَحَتَّى لِلْغَايَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّوْجَ الَّذِي قَصَدَ الْحِيلَةَ مُحَلِّلًا تَجَوُّزًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَعَنَهُ وَمَنْ أَثْبَتَ حَلَالًا يَسْتَحِقُّ لَعْنًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي مَحَلٍّ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهَاهُنَا هِيَ حَلَالٌ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حِلٌّ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَهْدِمُ الطَّلَاقَ قُلْنَا: بَلْ هُوَ غَايَةٌ لِتَحْرِيمِهِ وَمَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا تَحْرِيمَ فِيهَا فَلَا يَكُونُ غَايَةً لَهُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمُطَلِّقُ عَبْدًا وَكَانَ طَلَاقُهُ اثْنَتَيْنِ] (6056) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ عَبْدًا وَكَانَ طَلَاقُهُ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ زَوْجَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ مَمْلُوكَةً؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةَ بِالنِّسَاءِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا؛ فَطَلَاقُهُ ثَلَاثٌ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ أَمَةً وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؛ فَطَلَاقُهُ اثْنَتَانِ حُرَّةً كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَةً فَإِذَا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 غَيْرَهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَيُّهُمَا رَقَّ نَقَصَ الطَّلَاقُ بِرِقِّهِ فَطَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَطَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ فَطَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ حُرًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ عَبْدًا وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعِكْرِمَةُ وَعُبَيْدَةُ وَمَسْرُوقٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرُ بِهَا كَالْعِدَّةِ وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الرِّجَالَ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِهِمْ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ خَالِصُ حَقِّ الزَّوْجِ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ اخْتِلَافُهُ بِهِ كَعَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَ أَبُو دَاوُد: رَاوِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَتَتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ وَلَا تَتَزَوَّجُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا فَمَلَكَ طَلَقَاتٍ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُرَّ الَّذِي زَوْجَتُهُ حُرَّةٌ طَلَاقُهُ ثَلَاثٌ وَأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي تَحْتَهُ أَمَةٌ طَلَاقُهُ اثْنَتَانِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا. [فَصْلٌ أَحْكَامُ الْمُكَاتَبِ فِي الطَّلَاقِ] (6057) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: الْمَكَاتِبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَطَلَاقُهُ وَأَحْكَامُهُ كُلُّهَا أَحْكَامُ الْعَبِيدِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَلَا يَنْكِحُ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَلَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَسَرَّى إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ فَيَكُونُ طَلَاقُهُ كَطَلَاقِ سَائِرِ الْعَبِيدِ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ نُفَيْعًا مُكَاتَبَ أُمِّ سَلَمَةَ طَلَّقَ امْرَأَةً حُرَّةً تَطْلِيقَتَيْنِ فَسَأَلَ عُثْمَانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا: حَرُمَتْ عَلَيْكَ وَالْمُدَبَّرُ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي نِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الزَّوَاجِ وَالطَّلَاقِ لَلْعَبْدِ الَّذِي نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا] (6058) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: الْعَبْدُ إذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا يَتَزَوَّجُ ثَلَاثًا وَيُطَلِّقُ ثَلَاثَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 تَطْلِيقَاتٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَجَزَّأَ بِالْحِسَابِ إنَّمَا جَعَلَ لَهُ نِكَاحَ ثَلَاثٍ لِأَنَّ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ يَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي حَقِّهِ كَالْحَدِّ فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ نِصْفَ مَا يَنْكِحُ الْحُرُّ وَنِصْفَ مَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ وَذَلِكَ ثَلَاثٌ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَكَمُلَ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إثْبَاتُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ كُلِّ مُطَلِّقٍ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي مَنْ كَمُلَ الرِّقُّ فِي حَقِّهِ فَفِي مَنْ عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَ] (6059) فَصْلٌ: إذَا طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ زَوْجَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ تَحْرِيمًا لَا يَنْحَلُّ إلَّا بِزَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ التَّحْرِيمُ وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَتَبْقَى عِنْدَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَمْلُوكَيْنِ: «إذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا» وَقَالَ: لَا أَرَى شَيْئًا يَدْفَعُهُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ يَقُولُ بِهِ؛ أَبُو سَلَمَةَ وَجَابِرٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ: حَدِيثُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ جَيِّدٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ مُغِيثٍ وَلَا أَعْرِفُهُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ أَبُو حَسَنٍ هَذَا؟ لَقَدْ حَمَلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً مُنْكِرًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَبُو حَسَنٍ فَهُوَ عِنْدِي مَعْرُوفٌ وَلَكِنْ لَا أَعْرِفُ عَمْرَو بْنَ مُغِيثٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ وَبِهِ أَقُولُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ طَلَّقَ عَبْدٌ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَ وَاشْتَرَاهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَلَوْ تَزَوَّجَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ عَتَقَ فَلَهُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَانِ إنْ كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الطَّلَاقِ حُرٌّ فَاعْتُبِرَ حَالُهُ حِينَئِذٍ كَمَا يُعْتَبَرُ حَالُ الْمَرْأَةِ فِي الْعِدَّةِ حِينَ وُجُودِهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حُرٌّ كَافِرٌ فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ ثُمَّ أَسْلَمَا جَمِيعًا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا طَلَاقَ الْعَبِيدِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ حِينَ الطَّلَاقِ وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي كُفْرِهِ وَاحِدَةً وَرَاجَعَهَا ثُمَّ سُبِيَ وَاسْتُرِقَّ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي كُفْرِهِ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ اُسْتُرِقَّ وَأَرَادَ التَّزَوُّجَ بِهَا جَازَ وَلَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ وَقَعَتَا غَيْرَ مُحَرِّمَتَيْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُمَا بِمَا يَطْرَأُ بَعْدَهُمَا كَمَا أَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ لَمَّا أَنَّ وَقَعَتَا مُحَرِّمَتَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ بَعْدَهُمَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ] (6060) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ طَلُقَتْ بِثَلَاثٍ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: تَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْصَافٍ مِنْ طَلْقَتَيْنِ وَذَلِكَ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ ثُمَّ تَكْمُلُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ وَقِيلَ: بَلْ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الثَّالِثَ مِنْ طَلْقَتَيْنِ مُحَالٌ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ وَلَنَا أَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ وَقَدْ أَوْقَعَهُ ثَلَاثًا فَيَقَعُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ، وَقَوْلُهُمْ: مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْصَافٍ مِنْ طَلْقَتَيْنِ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ مُخَالِفَةً لِثَلَاثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُحَالٌ قُلْنَا: وُقُوعُ نِصْفِ الطَّلْقَتَيْنِ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَيْسَ بِمُحَالِ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الدُّنْيَا] (6061) فَصْلٌ:، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الدُّنْيَا وَنَوَى الثَّلَاثَ وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ: فَإِنْ أَرَادَ الْغِلْظَةَ عَلَيْهَا - يَعْنِي يُرِيدُ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ - فَهِيَ ثَلَاثٌ فَاعْتَبَرَ نِيَّتَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَقْتَضِي عَدَدًا وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا أَنَّ الْوَاحِدَةَ إذَا وَقَعَتْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: تَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ تَقْتَضِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْبَيْنُونَةُ. وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ صَادَفَ مَدْخُولًا بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ عَدَدٍ وَلَا عِوَضٍ فَكَانَ رَجْعِيًّا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ فَإِذَا ثَبَتَ ثَبَتَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ زِيَادَةً، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ أَغْلَظَهُ أَوْ أَطْوَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَعْرَضَهُ أَوْ أَقْصَرَهُ أَوْ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَمِيعِهَا: يَقَعُ بَائِنًا وَقَالَ صَاحِبَاهُ: إنْ قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَإِنْ قَالَ: مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ كَانَتْ بَائِنًا وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَيْنُونَةِ، فَإِنَّهَا حُكْمٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِأَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْخَلْعِ وَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ سَبَبِهَا فَيَثْبُتُ وَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا وَأَغْلَظَ؛ لِتَعَجُّلِهِمَا أَوْ لِحُبِّ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ وَمَشَقَّةِ فِرَاقِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقَعْ أَمْرٌ زَائِدٌ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْصَى الطَّلَاقِ أَوْ أَكْبَرَهُ فَكَذَلِكَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقْصَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ أَقْصَاهُ آخِرُهُ وَآخِرُ الطَّلَاقِ الثَّالِثَةُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا ثَالِثَةً وُقُوعُ اثْنَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ: أَتَمَّ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلَهُ فَوَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ سُنِّيَّةً؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ الطَّلَاقِ وَأَتَمُّهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ أَوْ كُلَّهُ أَوْ جَمِيعَهُ أَوْ مُنْتَهَاهُ أَوْ مِثْلَ عَدَدِ الْحَصَى] (6062) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ أَوْ كُلَّهُ، أَوْ جَمِيعَهُ أَوْ مُنْتَهَاهُ، أَوْ مِثْلَ عَدَدِ الْحَصَى أَوْ الرَّمْلِ أَوْ الْقَطْرِ طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَدَدًا وَلِأَنَّ لِلطَّلَاقِ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ فَأَقَلُّهُ وَاحِدَةٌ وَأَكْثَرُهُ ثَلَاثٌ وَإِنْ قَالَ: كَعَدَدِ التُّرَابِ أَوْ الْمَاءِ وَقَعَ ثَلَاثًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا عَدَدَ لَهُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَاءَ تَتَعَدَّدُ أَنْوَاعُهُ وَقَطَرَاتُهُ وَالتُّرَابُ تَتَعَدَّدُ أَنْوَاعُهُ وَأَجْزَاؤُهُ فَأَشْبَهَ الْحَصَا، وَإِنْ قَالَ: يَا مِائَةَ طَالِقٍ أَوْ: أَنْتِ مِائَةُ طَالِقٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَمِائَةٍ أَوْ أَلْفٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفِ تَطْلِيقَةٍ: فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَدَدِ وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْأَلْفِ وَلَيْسَ الْمَوْقِعُ الشَّبَهَ بِهِ وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: كَأَلْفٍ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ذَلِكَ فَوَقَعَ الْعَدَدُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا قَالَ وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهَا طَلْقَةٌ كَأَلْفٍ فِي صُعُوبَتِهَا دُيِّنَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ] (6063) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَقَعَ طَلْقَتَانِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 لَا يَدْخُلُ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَإِنَّمَا يَدْخُلُ إذَا كَانَتْ بِمَعْنَى مَعَ وَذَلِكَ خِلَافُ مَوْضُوعِهَا وَقَالَ زَفَرُ: يَقَعُ طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ لَيْسَ مِنْهَا كَقَوْلِهِ: بِعْتُك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهَا وَلَنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ يَدْخُلُ كَمَا لَوْ قَالَ: خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهَا وَأَمَّا انْتِهَاءُ الْغَايَةِ فَلَا يَدْخُلُ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَلَوْ احْتَمَلَ دُخُولَهُ وَعَدَمَ دُخُولِهِ لَمْ نُجِزْ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً فِي اثْنَتَيْنِ] (6064) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً فِي اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ؛ بِفِي عَنْ " مَعَ " كَقَوْلِهِ: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَ طَلْقَتَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت وَاحِدَةً قُبِلَ أَيْضًا حَاسِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَاسِبٍ وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا كَانَ عَارِفًا بِالْحِسَابِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَوَقَعَ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظُ وَلَنَا أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ مَا يُرِيدُهُ الْعَامِّيُّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَكَانَ عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَقَعَ طَلْقَتَانِ وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ أَطْلَقَ لَمْ يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيقَاعِ إنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ لَفْظُ الْإِيقَاعِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الزَّائِدُ بِالْقَصْدِ فَإِذَا خَلَا عَنْ الْقَصْدِ لَمْ يَقَعْ إلَّا مَا أَوْقَعَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَقَوْلِنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الْحِسَابَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَاحِدَةً مَعَ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا لَهُ مِسَاحَةٌ فَأَمَّا مَا لَا مِسَاحَةَ لَهُ فَلَا حَقِيقَةَ فِيهِ لِلْحِسَابِ وَإِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُ الْإِيقَاعُ فِي وَاحِدَةٍ فَوَقَعَتْ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَنَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ فِي اصْطِلَاحِهِمْ لِاثْنَتَيْنِ فَإِذَا لَفَظَ بِهِ وَأَطْلَقَ وَقَعَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الِانْفِصَالُ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى نِيَّةٍ، فَأَمَّا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي وَضْعِ الْحِسَابِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي كُلِّ مَا لَهُ عَدَدٌ فَصَارَ حَقِيقَةً فِيهِ فَأَمَّا الْجَاهِلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ فِي الْحِسَابِ إذَا أَطْلَقَ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيقَاعِ إنَّمَا هُوَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا صَارَ مَصْرُوفًا إلَى الِاثْنَتَيْنِ بِوَضْعِ أَهْلِ الْحِسَابِ وَاصْطِلَاحِهِمْ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ لَا يَلْزَمُهُ مُقْتَضَاهُ كَالْعَرَبِيِّ يَنْطِقُ بِالطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 مِمَّنْ لَهُمْ عُرْفٌ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَوَّلًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ مِمَّنْ عُرْفُهُمْ أَنَّ " فِي " هَاهُنَا بِمَعْنَى " مَعَ " وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ إرَادَتُهُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِهِ فَإِنْ نَوَى مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُهُ مُقْتَضَاهُ كَالْعَرَبِيِّ يَنْطِقُ بِالطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مُوجَبَهُ فَلَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَصْدُ مَا لَا يَعْرِفُهُ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ] (6065) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَ طَلْقَتَانِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَقَعُ ثَلَاثًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ مَرَّتَيْنِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ رَفْعَهَا وَأَوْقَعَ اثْنَتَيْنِ آخِرَتَيْنِ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ وَلَنَا أَنَّ مَا لَفَظَ بِهِ قَبْلَ الْإِضْرَابِ بَعْضُ مَا لَفَظَ بِهِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمَانِ وَقَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ إيقَاعُ مَا أَوْقَعَهُ قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِوُقُوعِهِ مَعَ وُقُوعِ غَيْرِهِ فَلَا يَقَعُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ: هِيَ وَاحِدَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ رَفْعَ الْأُولَى وَإِيقَاعَ الثَّانِيَةِ فَلَمْ تَرْتَفِعْ الْأُولَى وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ كَذَا هَاهُنَا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً أُخْرَى وَقَعَ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ طَلْقَتَيْنِ بِلَفْظَيْنِ فَوَقَعَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ؛ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِوَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ اثْنَتَيْنِ قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتَا جَمِيعًا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلَاقَ الْأُولَى ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْهُ وَأَوْقَعَ طَلَاقَ الْأُخْرَى فَوَقَعَ بِهَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْ الْأُولَى وَفَارَقَ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ لِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الثَّانِيَةَ كَرَّرَ الْإِخْبَارَ بِهَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَرْأَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ إحْدَاهُمَا هُوَ طَلَاقَ الْأُخْرَى وَنَظِيرُهُ فِي الْإِقْرَارِ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِينَارٌ لَزِمَاهُ جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ هَذِهِ ثَلَاثًا طَلُقَتْ الْأُولَى وَاحِدَةٌ وَالثَّانِيَةُ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ الْأُولَى فَلَمْ يَقَعْ بِهَا مَا بَعْدَهَا وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَنَوَى تَعْلِيقَ الْجَمِيعِ بِدُخُولِ الدَّارِ تَعَلَّقَ، وَإِنْ نَوَى تَعْلِيقَ الثَّلَاثِ حَسْبُ، وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ فِي الْحَالِ وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ الْجَمِيعُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَهُمَا فَيَعُودُ إلَيْهِمَا وَالثَّانِي تَقَعُ الْوَاحِدَةُ فِي الْحَالِ وَتَبْقَى الثَّلَاثُ مُعَلَّقَةً بِدُخُولِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الشَّرْطَ عَقِيبَهَا فَتَخْتَصُّ بِهِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ بَلْ هَذِهِ فَدَخَلَتْ الْأُولَى طَلُقَتَا وَإِنْ دَخَلَتْ الثَّانِيَةُ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْلُقُ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالَهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّك تَطْلُقِينَ إذَا دَخَلَتْ الثَّانِيَةُ الدَّارَ قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالَهُ، وَكَانَ طَلَاقُ الْأُولَى وَحْدَهَا مُعَلَّقًا عَلَى دُخُولِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تَقَعُ عَلَيْك] (6066) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تَقَعُ عَلَيْك أَوْ: طَالِقٌ لَا أَوْ: طَالِقٌ طَلْقَةً لَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ طَلَاقِك أَوْ: طَالِقٌ لَا شَيْءَ أَوْ: لَيْسَ بِشَيْءٍ طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَفْعٌ لِجَمِيعِ مَا أَوْقَعَهُ فَلَمْ يَصِحَّ كَاسْتِثْنَاءِ الْجَمِيعِ وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ خَبَرًا فَهُوَ كَذِبٌ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إذَا أَوْقَعَهَا وَقَعَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا؟ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا لَإِيقَاعٍ وَيُخَالِفُ مَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْإِيقَاعِ لَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ؛ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ يَكُونُ بِالْهَمْزَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَيَقَعُ مَا أَوْقَعَهُ وَلَا يَرْتَفِعُ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ كَالَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا؟ فَكَذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ لَا يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ مِنْ اللَّفْظِ وَهُوَ وَاحِدَةٌ دُونَ لَفْظِ الْإِيقَاعِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ صِفَةٌ لِلطَّلْقَةِ الْوَاقِعَةِ فَمَا اتَّصَلَ بِهَا يَرْجِعْ إلَيْهَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا شَيْءَ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك أَوْ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك] (6067) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك أَوْ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك لَمْ تَطْلُقْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهَا تَبِينُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَلَا يُصَادِفُ الطَّلَاقُ نِكَاحًا يُزِيلُهُ، وَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ: إذَا مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ أَبُوهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَمْلِكُهَا فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِالْمِلْكِ وَهُوَ زَمَنُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ مِلْكِهَا وَطَلَاقِهَا وَفَسْخُ النِّكَاحِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ فَيُوجَدُ الطَّلَاقُ فِي زَمَنِ الْمِلْكِ السَّابِقِ عَلَى الْفَسْخِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ قَالَ الْأَبُ: إذَا مِتُّ فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَقَالَ الِابْنُ: إذَا مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَتْ تَخْرُجْ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 الثُّلُثِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَقَعَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ مَعًا وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ فَيَمْلِكُ الِابْنُ جُزْءًا مِنْهَا يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ فَيَكُونُ كَمِلْكِ جَمِيعِهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ عِتْقَهَا فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْإِجَازَةِ هَلْ هِيَ تَنْفِيذٌ أَوْ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ، فَقَدْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَهَا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ تَنْفِيذٌ لِمَا فَعَلَ السَّيِّدُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَهَكَذَا إنْ أَجَازَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ عِتْقَ أَبِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ لَمْ يَعْتِقْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ وَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَتَقَتْ وَطَلُقَتْ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ تَعْتِقْ كُلُّهَا فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَنْعِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ التَّرِكَةَ، وَإِنْ أَسْقَطَ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ قَبْلَ إسْقَاطِهِ. [فَصْلٌ مَسَائِلَ فِي الطَّلَاق تَنْبَنِي عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَتَأْوِيلِهِ] (6068) فَصْلٌ: فِي مَسَائِلَ تَنْبَنِي عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَتَأْوِيلِهِ؛ إذَا قَالَ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ حَبِّ هَذِهِ الرُّمَّانَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَكَلَ تَمْرًا فَقَالَ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ مَا أَكَلَتْ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ تَعْلَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَعُدُّ لَهُ عَدَدًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عَدَدَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ مِائَةٍ إلَى أَلْفٍ فَتَعُدُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَا يَحْنَثُ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَوَى الْإِخْبَارَ بِكَمِّيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْحَالِفِ إرَادَتُهُ فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ كَالْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مُسَمَّاهَا عُرْفًا دُونَ مُسَمَّاهَا حَقِيقَةً وَلَوْ أَكَلَا تَمْرًا فَقَالَ: إنْ لَمْ تُمَيِّزِي نَوَى مَا أَكَلْتُ مِنْ نَوَى مَا أَكَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَفْرَدَتْ كُلَّ نَوَاةٍ وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ جَارٍ فَحَلَفَ عَلَيْهَا: إنْ خَرَجْت مِنْهُ أَوْ أَقَمْت فِيهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَيْنَ الْمَاءِ الَّذِي هِيَ فِيهِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ يَمِينِهِ يَقْتَضِي خُرُوجَهَا مِنْ النَّهْرِ أَوْ إقَامَتَهَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَرَى عَنْهَا وَصَارَتْ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ سَوَاءٌ أَقَامَتْ أَوْ خَرَجَتْ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَقِفُ فِي غَيْرِهِ أَوْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَهُمْ تَنْبَنِي عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْقَصْدِ وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَا يَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَتْ امْرَأَتِي فِي السُّوقِ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ عَبْدِي فِي السُّوقِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَكَانَا جَمِيعًا فِي السُّوقِ فَقِيلَ: يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَلَا تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى عَتَقَ الْعَبْدُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي السُّوقِ عَبْدٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِي مَنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِعَيْنِهِ دُونَ صِفَتِهِ كَمَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 قَالَ: إنْ كَلَّمْت عَبْدِي سَعْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَكَلَّمَتْهُ طَلُقَتْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَعَلَّقَتْ بِعَبْدٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَمْ تَطْلُقْ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَبْدٌ فِي السُّوقِ وَلَوْ كَانَ فِي فِيهَا تَمْرَةٌ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَكَلْتهَا أَوْ أَلْقَيْتهَا أَوْ أَمْسَكْتهَا فَأَكَلَتْ بَعْضَهَا وَأَلْقَتْ بَعْضَهَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى الْجَمِيعَ لَمْ يَحْنَثْ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لَإِنْسَانٍ فَأَحْلَفَهُ ظَالِمٌ أَنْ لَيْسَ لِفُلَانِ عِنْدَك وَدِيعَةٌ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ: مَا لِفُلَانِ عِنْدِي وَدِيعَةٌ وَيَنْوِي بِمَا " الَّذِي " وَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَتْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ شَيْئًا فَحَلَفَ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ: لَتَصْدُقنِي أَسَرَقْت مِنِّي أَمْ لَا؟ وَخَافَتْ أَنْ تَصْدُقَهُ، فَإِنَّهَا تَقُولُ: سَرَقْت مِنْك مَا سَرَقْت مِنْك، وَتَعْنِي الَّذِي سَرَقْت مِنْك: وَلَوْ اسْتَحْلَفَهُ ظَالِمٌ: هَلْ رَأَيْت فُلَانًا أَوْ لَا؟ ، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِرَأَيْتُ أَيْ ضَرَبْت رِئَتَهُ وَذَكَرْتُهُ أَيْ قَطَعْت ذَكَرَهُ، وَمَا طَلَبْت مِنْهُ حَاجَةً أَيْ الشَّجَرَةَ الَّتِي حَبَسَهَا الْحَاجُّ وَلَا أَخَذْت مِنْهُ فَرُّوجًا يَعْنِي الْقَبَاءَ، وَلَا حَصِيرًا وَهُوَ الْحَبْسُ وَأَشْبَاهُ هَذَا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا فَحَلَفَ وَعَنَى بِهِ هَذَا تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِمَا عَنَاهُ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ عَلَى دَرَجَةٍ فَحَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَنْزِلَ عَنْهَا وَلَا تَصْعَدَ مِنْهَا وَلَا تَقِفَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى سُلَّمٍ آخَرَ، وَتَنْزِلُ إنْ شَاءَتْ أَوْ تَصْعَدُ أَوْ تَقِفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نُزُولَهَا إنَّمَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ فِي يَمِينِهِ وَلَا انْتَقَلَتْ عَنْهَا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ مُكْرَهَةً وَلَوْ كَانَ فِي سُلَّمٍ وَلَهُ امْرَأَتَانِ إحْدَاهُمَا فِي الْغُرْفَةِ وَالْأُخْرَى فِي الْبَيْتِ السُّفْلَانِيِّ فَحَلَفَ: لَا صَعِدْت إلَى هَذِهِ وَلَا نَزَلْت إلَى الْأُخْرَى، فَإِنَّ السُّفْلَى تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ الْعُلْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ إنْ شَاءَ أَوْ يَصْعَدُ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُجَامِعْك الْيَوْمَ وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ اغْتَسَلْت مِنْك الْيَوْمَ] (6069) فَصْلٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُجَامِعْك الْيَوْمَ وَأَنْت طَالِقٌ إنْ اغْتَسَلْت مِنْك الْيَوْمَ قَالَ: يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: اغْتَسَلْت الْمُجَامَعَةَ وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَطَأْك فِي رَمَضَانَ فَسَافَرَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ وَطِئَهَا قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ وَلَا تُعْجِبُنِي الْحِيلَةُ فِي هَذَا وَلَا فِي غَيْرِهِ قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ هَذَا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَقْصُودًا مُبَاحًا وَهَذَا لَا يَقْصِدُ بِهِ غَيْرَ حِلِّ الْيَمِينِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ وَيُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ مُبَاحٌ لِقَصْدٍ صَحِيحٍ، وَإِرَادَةُ حِلِّ يَمِينِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ أَبَحْنَا لَمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ قَصِيرَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَبَعِيدَةٌ أَنْ يَسْلُكَ الْبَعِيدَةَ لِيَقْصُرَ فِيهَا الصَّلَاةَ وَيُفْطِرَ مَعَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ سِوَى التَّرَخُّصِ فَهَاهُنَا أَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 [كِتَابُ الرَّجْعَةِ] ِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلَى قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعَةُ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أَيْ بِالرَّجْعَةِ وَمَعْنَاهُ إذَا قَارَبْنَ بُلُوغَ أَجَلِهِنَّ أَيْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهِنَّ وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ «طَلُقْت امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُمَرَ قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا» وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْحُرَّ إذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ دُونَ الثَّلَاثِ أَوْ الْعَبْدَ إذَا طَلَّقَ دُونَ الِاثْنَتَيْنِ أَنَّ لَهُمَا الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ (6070) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالزَّوْجَةُ إذَا لَمْ يُدْخَلْ بِهَا تُبِينُهَا تَطْلِيقَةٌ وَتُحَرِّمُهَا الثَّلَاثُ مِنْ الْحُرِّ وَالِاثْنَتَانِ مِنْ الْعَبْدِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَلِّقُهَا رَجْعَتَهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا عِدَّةَ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَتَبِينُ بِمُجَرَّدِ طَلَاقِهَا وَتَصِيرُ كَالْمَدْخُولِ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ رَغِبَ مُطَلِّقُهَا فِيهَا فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ يَتَزَوَّجُهَا بِرِضَاهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَلْقَتَيْنِ وَإِنْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَرَوَتْ عَائِشَةُ: «أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلَاقَهَا فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 فَقَالَتْ: إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ بِهُدْبَةٍ مِنْ جِلْبَابِهَا قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَاحِكًا وَقَالَ: لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْإِطَالَةِ فِيهِ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَطْئًا يُوجَدُ فِيهِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ إلَّا أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ مِنْ بَيْنِهِمْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِهِ إحْلَالًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ هَذَا إلَّا الْخَوَارِجَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَمَعَ تَصْرِيحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الثَّانِي عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ لَا يَعْرُجُ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ، وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ الْمَصِيرُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ مَا عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ مَسْرُوقٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَهْلُ الشَّامِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمْ. [فَصْلٌ يُشْتَرَطُ لِلْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ لِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ] (6071) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا سَيِّدُهَا لَمْ يُحِلَّهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَهَذَا لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ لَمْ تُبَحْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَبْرَأَهَا مُطَلِّقُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَخْتَصُّ الزَّوْجِيَّةَ فَأَثَّرَ فِي التَّحْرِيمِ بِهَا وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِهَا فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ وَلِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا مُبَاحًا فَسَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يُحِلَّهَا الْوَطْءُ فِيهِ وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُحِلُّهَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ وَخَرَّجَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ زَوْجٌ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ فَسَمَّاهُ مُحَلِّلًا مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 فَسَادِ نِكَاحِهِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَإِطْلَاقُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي الصَّحِيحَ وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَتَزَوَّجَ تَزْوِيجًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ لَمْ يَبَرَّ بِالتَّزَوُّجِ الْفَاسِدِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الزَّوْجِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ مِنْ الْإِحْصَانِ وَاللِّعَانِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ وَالنَّفَقَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مُحَلِّلًا فَلِقَصْدِهِ التَّحْلِيلَ فِيمَا لَا يَحِلُّ وَلَوْ أَحَلَّ حَقِيقَةً لَمَا لُعِنَ وَلَا لُعِنَ الْمُحَلَّلُ لَهُ وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَشْبَهَ وَطْءَ الشُّبْهَةِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ؛ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْفَرْجِ فَلَوْ وَطِئَهَا دُونَهُ أَوْ فِي الدُّبُرِ لَمْ يُحِلّهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ الْحِلَّ عَلَى ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ مِنْهُمَا وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ وَأَدْنَاهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَوْ أَوْلَجَ الْحَشَفَةَ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِذَوَّاقِ الْعُسَيْلَةِ وَلَا تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ وَإِنْ كَانَ الذَّكَرُ مَقْطُوعًا، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ فَأَوْلَجَهُ أَحَلَّهَا وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ كَانَ خَصِيًّا أَوْ مَسْلُولًا أَوْ مَوْجُوءًا حَلَّتْ بِوَطْئِهِ؛ لِأَنَّهُ يَطَأُ كَالْفَحْلِ وَلَمْ يَفْقِدْ إلَّا الْإِنْزَالَ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْإِحْلَالِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْخَصِيِّ أَنَّهُ لَا يُحِلُّهَا؛ فَإِنَّ أَبَا طَالِبٍ سَأَلَهُ فِي الْمَرْأَةِ تَتَزَوَّجُ الْخَصِيَّ تُسْتَحَلُّ بِهِ؟ قَالَ: لَا خَصِيَّ يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ مُهَنَّا أَنَّهَا تَحِلُّ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَصِيَّ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ فَلَا يَنَالُ لَذَّةَ الْوَطْءِ فَلَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَصِيَّ فِي الْغَالِبِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْوَطْءُ أَوْ لَيْسَ بِمَظِنَّةِ الْإِنْزَالِ فَلَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِوَطْئِهِ كَالْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ. [فَصْلٌ حَلَالُ نِكَاحِ وَوَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ] (6072) فَصْلٌ: وَاشْتَرَطَ أَصْحَابُنَا أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا، فَإِنْ وَطِئَهَا فِي حَيْضٍ، أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ إحْرَامٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ مِنْهُمَا، أَوْ وَأَحَدُهُمَا صَائِمٌ فَرْضًا، لَمْ تَحِلَّ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْإِحْلَالُ، كَوَطْءِ الْمُرْتَدَّةِ. وَظَاهِرُ النَّصِّ حِلُّهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَهَذِهِ قَدْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . وَهَذَا قَدْ وُجِدَ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي مَحَلِّ الْوَطْءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، فَأَحَلَّهَا، كَالْوَطْءِ الْحَلَالِ، وَكَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ وَطِئَهَا مَرِيضَةً يَضُرُّهَا الْوَطْءُ. وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 وَأَمَّا وَطْءُ الْمُرْتَدَّةِ، فَلَا يُحِلُّهَا، سَوَاءٌ وَطِئَهَا فِي حَالِ رِدَّتِهِمَا، أَوْ رِدَّتِهَا، أَوْ وَطِئَ الْمُرْتَدُّ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعُدْ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ، فَقَدْ كَانَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ غَيْرِ تَامٍّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْبَيْنُونَةِ حَاصِلٌ فِيهِ. وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ إسْلَامِ الْآخَرِ، لَمْ يُحِلَّهَا لِذَلِكَ. [فَصْل تَزَوَّجَ الْمَمْلُوك الْمُطَلَّقَة الْبَائِن وَوَطِئَهَا] (6073) فَصْلٌ: فَإِنْ تَزَوَّجَهَا مَمْلُوكٌ، وَوَطِئَهَا، أَحَلَّهَا. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ النَّصِّ، وَوَطْؤُهُ كَوَطْءِ الْحُرِّ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا مُرَاهِقٌ، فَوَطِئَهَا، أَحَلَّهَا فِي قَوْلِهِمْ، إلَّا مَالِكًا وَأَبَا عُبَيْدٍ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا يُحِلُّهَا. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ غَيْرِ بَالِغٍ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الصَّغِيرِ. وَلَنَا، ظَاهِرُ النَّصِّ، وَأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَأَشْبَهَ الْبَالِغَ، وَيُخَالِفُ الصَّغِيرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ مِنْهُ، وَلَا تُذَاقُ عُسَيْلَتُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِأَنَّ مَنْ دُونَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْمُجَامَعَةُ. وَلَا مَعْنَى لِهَذَا؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُجَامِعِ، وَمَتَى أَمْكَنَهُ الْجِمَاعُ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ سِنٍّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا، وَتَقْدِيرُهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ. وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً، فَوَطِئَهَا زَوْجُهَا الذِّمِّيُّ، أَحَلَّهَا لِمُطَلِّقِهَا الْمُسْلِمِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ: هُوَ زَوْجٌ، وَبِهِ تَجِبُ الْمُلَاعَنَةُ وَالْقَسَمُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: لَا يُحِلُّهَا. وَلَنَا، ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ تَامٍّ، أَشْبَهَ وَطْءَ الْمُسْلِمِ. وَإِنْ كَانَا مَجْنُونَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَوَطِئَهَا، أَحَلَّهَا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ: لَا يُحِلُّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ. وَلَنَا، ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مُبَاحٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَشْبَهَ الْعَاقِلَ. وَقَوْلُهُ: لَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْجُنُونَ إنَّمَا هُوَ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ. وَلَيْسَ الْعَقْلُ شَرْطًا فِي الشَّهْوَةِ وَحُصُولِ اللَّذَّةِ، بِدَلِيلِ الْبَهَائِمِ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَجْنُونُ ذَاهِبَ الْحِسِّ، كَالْمَصْرُوعِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، لَمْ يَحْصُلْ الْحِلُّ بِوَطْئِهِ، وَلَا بِوَطْءِ مَجْنُونَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ وَلَا تَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ. وَلَعَلَّ ابْنَ حَامِدٍ إنَّمَا أَرَادَ الْمَجْنُونَ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ، فَلَا يَكُونُ هَاهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَوْ وَطِئَ مُغْمًى عَلَيْهَا، أَوْ نَائِمَةً لَا تُحِسُّ بِوَطْئِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَحِلَّ بِهَذَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَيُحْتَمَلُ حُصُولُ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 [فَصْلٌ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً أَوْ ظَنَّهَا جَارِيَتَهُ فَوَطِئَهَا] (6074) فَصْلٌ: وَلَوْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً، فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً، أَوْ ظَنَّهَا جَارِيَتَهُ فَوَطِئَهَا، فَإِذَا هِيَ امْرَأَتُهُ، أَحَلَّهَا، لِأَنَّهُ صَادَفَ نِكَاحًا صَحِيحًا. وَلَوْ وَطِئَهَا فَأَفْضَاهَا، أَوْ وَطِئَهَا - وَهِيَ مَرِيضَةٌ - تَتَضَرَّرُ بِوَطْئِهِ، أَحَلَّهَا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا لِحَقِّهَا. وَإِنْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَحِلَّ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة طَلَّقَ الْحُرُّ زَوْجَتَهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ] (6075) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرُّ زَوْجَتَهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا أَمْرٍ يَقْتَضِي بَيْنُونَتَهَا، فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ امْرَأَتَهُ الْأَمَةَ، فَهُوَ كَطَلَاقِ الْحُرَّةِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ خِلَافًا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ، فَيَكُونُ لَهُ رَجْعَتُهَا مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا كَالْحُرَّةِ. [فَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَى الْمَرْأَةِ] (6076) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَى الْمَرْأَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] . فَجَعَلَ الْحَقَّ لَهُمْ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . فَخَاطَبَ الْأَزْوَاجَ بِالْأَمْرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُنَّ اخْتِيَارًا. وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْسَاكٌ لِلْمَرْأَةِ بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهَا فِي ذَلِكَ، كَاَلَّتِي فِي صُلْبِ نِكَاحِهِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا. [فَصْلٌ مَفْهُوم الرَّجْعِيَّةُ] (6077) فَصْلٌ: وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، وَإِيلَاؤُهُ، وَلِعَانُهُ، وَيَرِثُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ خَالَعَهَا صَحَّ خُلْعُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّحْرِيمِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهَا زَوْجَةٌ صَحَّ طَلَاقُهَا، فَصَحَّ خُلْعُهَا، كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْخُلْعِ التَّحْرِيمَ، بَلْ الْخَلَاصَ مِنْ مَضَرَّةِ الزَّوْجِ وَنِكَاحِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهَا، وَالنِّكَاحُ بَاقٍ، وَلَا نَأْمَنُ رَجْعَتَهُ، وَعَلَى أَنَّنَا نَمْنَعُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً (6078) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِقَوْلِهِ: " وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: لَا تَحْتَجِبُ عَنْهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: تَتَشَرَّفُ لَهُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَيَخْلُوَ بِهَا، وَيَطَأَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، فَأُبِيحَتْ لَهُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَوَجْهُ الْأُولَى، أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاقِعَةٌ، فَأَثْبَتَتْ التَّحْرِيمَ، كَاَلَّتِي بِعِوَضِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرٌ، سَوَاءٌ رَاجَعَ أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الَّتِي يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْرٌ، كَسَائِرِ الزَّوْجَاتِ. وَيُفَارِقُ مَا لَوْ وَطِئَ الزَّوْجُ بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا فِي الْعِدَّةِ؛ حَيْثُ يَجِبُ الْمَهْرُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ إسْلَامِ الْمُسْلِمِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَهِيَ فُرْقَةُ فَسْخٍ تَبِينُ بِهِ مِنْ نِكَاحِهِ، فَأَشْبَهَتْ الَّتِي أَرْضَعَتْ مَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا تَبِينُ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَافْتَرَقَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ عِنْدَ مَنْ حَرَّمَهَا. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ حَرَّمَهُ الطَّلَاقُ، فَوَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ، كَوَطْءِ الْبَائِنِ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْبَائِنَ لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَهَذِهِ زَوْجَتُهُ، وَقِيَاسُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْوَطْءِ وَأَحْكَامِهِ بَعِيدٌ. [مَسْأَلَة لِلْعَبْدِ فِي الطَّلَاق بَعْدَ الْوَاحِدَةِ مَا لِلْحُرِّ قَبْلَ الثَّلَاثِ] (6079) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلِلْعَبْدِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ، مَا لِلْحُرِّ قَبْلَ الثَّلَاثِ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ رَجْعَةَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ، إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً، فَلَا رَجْعَةَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ امْرَأَتُهُ حُرَّةً، أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ، وَفِي هَذَا خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ حَامِلًا بِاثْنَيْنِ فَوَضَعَتْ أَحَدَهُمَا] (6080) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِاثْنَيْنِ، فَوَضَعَتْ أَحَدَهُمَا، فَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا، مَا لَمْ تَضَعْ الثَّانِيَ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْأَوَّلِ. وَمَا عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ كُلِّهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَاسْمُ الْحَمْلِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَا فِي الْبَطْنِ، فَتَبْقَى الْعِدَّةُ مُسْتَمِرَّةً إلَى حِينِ وَضْعِ بَاقِي الْحَمْلِ، فَتَبْقَى الرَّجْعَةُ بِبَقَائِهَا. وَلَوْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِوَضْعِ بَعْضِ الْحَمْلِ، لَحَلَّ لَهَا التَّزْوِيجُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَأَظُنُّ أَنَّ قَتَادَةَ نَاظَرَ عِكْرِمَةَ فِي هَذَا فَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ. فَقَالَ لَهُ قَتَادَةُ: أَيَحِلُّ لَهَا بِأَنْ تَتَزَوَّجَ؟ . قَالَ: لَا قَالَ: خُصِمَ الْعَبْدُ. وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ، فَارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ بَاقِيَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَضَعْ جَمِيعَ حَمْلِهَا، فَصَارَتْ كَمَنْ وَلَدَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 [فَصْلٌ انْقَطَعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمَّا تَغْتَسِلْ فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِطُهْرِهَا] (6081) فَصْلٌ: إذَا انْقَطَعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَلَمَّا تَغْتَسِلْ، فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِطُهْرِهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَلِزَوْجِهَا رَجْعَتُهَا فِي ذَلِكَ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعِدَّةِ: فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، أُبِيحَتْ لِلْأَزْوَاجِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبِي مُوسَى، وَعُبَادَةَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَرُوِيَ عَنْ شَرِيكٍ: لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَةً. وَوَجْهُ هَذَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ أَكْثَرِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغُسْلِ، وَكَذَلِكَ هَذَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ الطُّهْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَالْقُرْءُ: الْحَيْضُ. وَقَدْ زَالَتْ، فَيَزُولُ التَّرَبُّصُ. وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَقُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ. وَقَالَ: دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكَ» . يَعْنِي أَيَّامَ حَيْضِكِ. وَلِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ تَتَعَلَّقُ بِهِ بَيْنُونَتهَا مِنْ الزَّوْجِ، وَحِلُّهَا لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ تَعْلِيقِ الزَّوْجِ، كَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ الْعَدَدِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ الْغُسْلَ اخْتِيَارًا أَوْ لِجُنُونٍ أَوْ نَحْوِهِ، لَمْ تَحِلَّ؛ أَمَّا أَنْ يُقَالَ بِقَوْلِ شَرِيكٍ، أَنَّهَا تَبْقَى مُعْتَدَّةً وَلَوْ بَقِيَتْ عِشْرِينَ سَنَةً. وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . فَإِنَّهَا تَصِيرُ عِدَّتُهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ قُرْءٍ. أَوْ يُقَالُ: تَنْقَضِي الْعِدَّةُ قَبْلَ الْغُسْلِ، فَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَيُحْمَلُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِمْ: حَتَّى تَغْتَسِلَ. أَيْ: يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَتْ الرَّجْعِيَّةُ فِي عِدَّتِهَا وَحَمَلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي] (6082) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَتْ الرَّجْعِيَّةُ فِي عِدَّتِهَا، وَحَمَلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي، انْقَطَعَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ بِوَطْءِ الثَّانِي. وَهَلْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا فِي عِدَّةِ الْحَمْلِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 أَوَّلُهُمَا، أَنَّهُ لَهُ رَجْعَتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْضِ عِدَّتَهُ، فَحُكْمُ نِكَاحِهِ بَاقٍ، يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ، وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ عِدَّتُهُ لِعَارِضٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وُطِئَتْ فِي صُلْبِ نِكَاحِهِ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَتَبْقَى سَائِرُ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ ارْتِجَاعَهَا إذَا عَادَتْ إلَى عِدَّتِهِ، فَمَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، لَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَمْلَ، انْقَضَتْ عِدَّةُ الثَّانِي، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَلَهُ ارْتِجَاعُهَا حِينَئِذٍ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَوْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْوَضْعِ تَعُودُ إلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَسِبْ بِهِ، فَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ فِيهِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ حَائِضًا، فَإِنَّ لَهُ رَجْعَتَهَا فِي حَيْضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْتَدُّ بِهَا وَإِنْ حَمَلَتْ حَمْلًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فِي حَمْلِهَا مِنْ الثَّانِي، إذَا رَاجَعَهَا فِي هَذَا الْحَمْلِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي، لَمْ يَصِحَّ؛ وَإِنْ بَانَ مِنْ الْأَوَّلِ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا مَعَ الشَّكِّ فِي إبَاحَةِ الرَّجْعَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ يُبْطِلُهَا الشَّكُّ فِي صِحَّتِهَا، وَعَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فِيمَا إذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، فَصَلَّى خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَإِنَّ كُلَّ صَلَاةٍ يَشُكُّ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ الْمَنْسِيَّةُ أَوْ غَيْرُهَا؟ وَلَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَتَطَهَّرَ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ، وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ، فَهُنَا أَوْلَى. فَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَبَانَ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ الثَّانِي صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَإِنْ بَانَ مِنْ الْأَوَّلِ، لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ. [مَسْأَلَة الْمُرَاجَعَةُ فِي الطَّلَاق] (6083) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالْمُرَاجَعَةُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: اشْهَدَا أَنِّي قَدْ رَاجَعْت امْرَأَتِي. بِلَا وَلَيٍّ يَحْضُرُهُ، وَلَا صَدَاقٍ يَزِيدُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ تَجُوزُ الرَّجْعَةُ بِلَا شَهَادَةٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وَلِيٍّ، وَلَا صَدَاقٍ، وَلَا رِضَى الْمَرْأَةِ، وَلَا عِلْمِهَا. بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ لَهَا، وَاسْتِبْقَاءٌ لِنِكَاحِهَا، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا، وَتَرْكَهَا فِرَاقًا وَسَرَاحًا، فَقَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَإِنَّمَا تَشَعَّثَ النِّكَاحُ بِالطَّلْقَةِ وَانْعَقَدَ بِهَا سَبَبُ زَوَالِهِ، فَالرَّجْعَةُ تُزِيلُ شُعْثَهُ، وَتَقْطَعُ مُضِيَّهُ، إلَى الْبَيْنُونَةِ، فَلَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجِبُ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ، فَوَجَبَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ، وَعَكْسُهُ الْبَيْعُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا تَجِبُ الشَّهَادَةُ. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى قَبُولٍ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى شَهَادَةٍ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَلِيُّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ، كَالْبَيْعِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ السُّنَّةَ الْإِشْهَادُ. فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ شَرْطٌ. فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا حَالَ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ ارْتَجَعَ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُجُودُهَا فِي الرَّجْعَةِ، دُونَ الْإِقْرَارِ بِهَا، إلَّا أَنْ يُقْصَدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ الِارْتِجَاعَ، فَيَصِحُّ. [فَصْلٌ الرَّجْعَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَوْلِ] (6084) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَوْلِ؛ لِقَوْلِهِ: الْمُرَاجَعَةُ أَنْ يَقُولَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ بُضْعٌ مَقْصُودٍ، أُمِرَ بِالْإِشْهَادِ فِيهِ، فَلَمْ تَحْصُلْ مِنْ الْقَادِرِ بِغَيْرِ قَوْلٍ، كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْقَوْلِ فِعْلٌ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الْقَوْلِ، فَلَمْ تَحْصُلْ بِهِ الرَّجْعَةُ، كَالْإِشَارَةِ مِنْ النَّاطِقِ، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ، سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ، أَوْ لَمْ يَنْوِ. اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ بَعْضُهُمْ. وَيُشْهِدُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: تَكُونُ رَجْعَةً إذَا أَرَادَ بِهِ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ تُفْضِي إلَى بَيْنُونَةٍ، فَتَرْتَفِعُ بِالْوَطْءِ، كَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَمَعَهُ خِيَارٌ، فَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ بِالْوَطْءِ يَمْنَعُ عَمَلَهُ، كَوَطْءِ الْبَائِعِ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّنَا إذَا قُلْنَا: الْوَطْءُ مُبَاحٌ. حَصَلَتْ الرَّجْعَةُ بِهِ، كَمَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّوْكِيلُ فِي طَلَاقِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مُحَرَّمٌ. لَمْ تَحْصُلْ الرَّجْعَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ، كَوَطْءِ الْمُحَلِّلِ. [فَصْلٌ تُحَصِّل الرَّجْعَة إذَا قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةِ أَوْ كَشَفَ فَرْجَهَا وَنَظَرَ إلَيْهِ] (6085) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ قَبَّلَهَا، أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ، أَوْ كَشَفَ فَرْجَهَا وَنَظَرَ إلَيْهِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، هُوَ رَجْعَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يُسْتَبَاحُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَحَصَلَتْ الرَّجْعَةُ بِهِ كَالْوَطْءِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ عِدَّةٍ وَلَا مَهْرٍ، فَلَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ، كَالنَّظَرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 فَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا، فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِمْتَاعٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّ الرَّجْعَةَ تَحْصُلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَحْرُمُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَيَحِلُّ مِنْ الزَّوْجَةِ، فَحَصَلَتْ بِهِ الرَّجْعَةُ، كَالِاسْتِمْتَاعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي لِلْأَمَةِ، فَلَمْ تَكُنْ رَجْعَةً، كَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَأَمَّا اللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَالنَّظَرُ لِذَلِكَ وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَأَشْبَهَ الْحَدِيثَ مَعَهَا. [فَصْل الْأَلْفَاظُ الَّتِي تُحَصِّل بِهَا الرَّجْعَةُ] (6086) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْقَوْلُ فَتَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ. بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَأَلْفَاظُهُ: رَاجَعْتُك، وَارْتَجَعْتُك، وَرَدَدْتُك، وَأَمْسَكْتُك. لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَالرَّدُّ وَالْإِمْسَاكُ وَرَدَ بِهِمَا الْكِتَابُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] . وَقَالَ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] يَعْنِي: الرَّجْعَةَ. وَالرَّجْعَةُ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» . وَقَدْ اُشْتُهِرَ هَذَا الِاسْمُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعُرْفِ، كَاشْتِهَارِ اسْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا رَجْعَةً، وَالْمَرْأَةَ رَجْعِيَّةً. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهَا هُوَ الصَّرِيحُ وَحْدَهُ، لِاشْتِهَارِهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَقَوْلِنَا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقُولَ: رَاجَعْت امْرَأَتِي إلَى نِكَاحِي أَوْ زَوْجَتِي. أَوْ رَاجَعْتهَا لِمَا وَقَعَ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِي. فَإِنْ قَالَ: نَكَحْتُهَا. أَوْ: تَزَوَّجْتُهَا. فَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ. وَهَلْ تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ، وَالرَّجْعَةُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ، وَلَا تَحْصُلُ بِالْكِنَايَةِ، كَالنِّكَاحِ. وَالثَّانِي، تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ تُبَاحُ بِهِ الْأَجْنَبِيَّةُ، فَالرَّجْعِيَّةُ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا، يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ كِنَايَةً تُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ قَالَ رَاجَعْتُك لِلْمَحَبَّةِ أَوْ قَالَ لِلْإِهَانَةِ وَقَالَ أَرَدْت أَنَّنِي رَاجَعْتُك لِمَحَبَّتِي] (6087) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: رَاجَعْتُك لِلْمَحَبَّةِ. أَوْ قَالَ: لِلْإِهَانَةِ. وَقَالَ: أَرَدْت أَنَّنِي رَاجَعْتُك لِمَحَبَّتِي إيَّاكِ، أَوْ إهَانَةً لَك. صَحَّتْ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالرَّجْعَةِ، وَبَيَّنَ سَبَبَهَا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّنِي كُنْت أَهَنْتُك، أَوْ أُحِبُّك، وَقَدْ رَدَدْتُك بِفِرَاقِي إلَى ذَلِكَ. فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ. وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، صَحَّتْ الرَّجْعَةُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الرَّجْعَةِ، وَضَمَّ إلَيْهِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِسَبَبِهَا، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَلَا يَزُولُ اللَّفْظُ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِالشَّكِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الرَّجْعَة عَلَى شَرْطٍ] (6088) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ عَلَى شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ، وَلَوْ قَالَ: رَاجَعْتُك إنْ شِئْت. لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك فَقَدْ رَاجَعْتُك. لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ الرَّجْعَةَ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ قَدِمَ أَبُوك، فَقَدْ رَاجَعْتُك. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ. (6089) فَصْلٌ: فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَهُوَ صَحِيحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الرِّدَّةِ، كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَقْرِيرُ النِّكَاحِ، وَالرِّدَّةَ تُنَافِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ قُلْنَا: تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ. لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ. فَالرَّجْعَةُ مَوْقُوفَةٌ، إنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ ارْتَجَعَهَا فِي نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إمْسَاكٍ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنْهُ الرِّدَّةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فِي الْعِدَّةِ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ الرَّجْعَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ. وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا إذَا رَاجَعَهَا بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ قَدْ ارْتَجَعْتُك] (6090) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: قَدْ ارْتَجَعْتُك. فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِك. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَا ادَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا، قُبِلَ قَوْلُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: هُوَ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ. فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُنَّ مَقْبُولٌ، لَمْ يُحْرِجْنَ بِكِتْمَانِهِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ تَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيهِ، كَالنِّيَّةِ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ أَمْرٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى التَّابِعِيِّ قَبُولُ خَبَرِ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، وَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْقُرُوءِ، هَلْ هِيَ الْحَيْضُ أَوْ الْأَطْهَارُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ الْحَيْضُ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَعَ آخِرِ الطُّهْرِ، ثُمَّ تَحِيضَ بَعْدَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ تَطْهُرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَحِيضَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ تَطْهُرَ ثَلَاثَةَ عَشْرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَحِيضَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 ثُمَّ تَطْهُرَ لَحْظَةً، لِيُعْرَفَ بِهَا انْقِطَاعُ الْحَيْضِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ اللَّحْظَةُ مِنْ عِدَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهَا، لِمَعْرِفَةِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا، وَلَوْ صَادَفَتْهَا رَجْعَتُهُ لَمْ تَصِحَّ. وَمَنْ اعْتَبَرَ الْغُسْلَ فِي قَضَاء الْعِدَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَقْتٍ يُمْكِنُ الْغُسْلُ فِيهِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقُرْءُ الْحَيْضُ، وَالطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ تَزِيدُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي الطُّهْرَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. وَأَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي آخِرِ لَحْظَةٍ مِنْ طُهْرِهَا، فَتَحْتَسِبُ بِهَا قُرْءًا، ثُمَّ تَحْتَسِبُ طُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبَيْنَهُمَا حَيْضَتَانِ يَوْمَيْنِ، فَإِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَحْظَةً، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَإِنْ قُلْنَا: الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا. زِدْنَا عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي الطُّهْرَيْنِ، فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَتِسْعَةَ عَشَرِ يَوْمًا وَلَحْظَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَبِأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَبِسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ. فَمَتَى ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا عِنْدَ أَحَدٍ فِيمَا أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ صِدْقُهَا. وَإِنْ ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا قَالَ: إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ، وَجَاءَتْ بِبَيِّنَةِ مِنْ النِّسَاءِ الْعُدُولِ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا، مِمَّنْ يُرْضَى صِدْقُهُ وَعَدْلُهُ، أَنَّهَا رَأَتْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ مِنْ الطَّمْثِ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ كَاذِبَةٌ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون. وَمَعْنَاهُ بِالرُّومِيَّةِ: أَصَبْت أَوْ أَحْسَنْت. فَأَخَذَ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الشَّهْرِ. فَإِنْ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِي أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، صَدَّقَهَا، عَلَى حَدِيثِ: «إنَّ الْمَرْأَةَ اُؤْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا» . وَلِأَنَّ حَيْضَهَا فِي الشَّهْرِ ثَلَاثُ حِيَضٍ يَنْدُرُ جِدًّا، فَرُجِّحَ بِبَيِّنَةٍ وَلَا يَنْدُرُ فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ كَنُدْرَتِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ. وَقَالَ: الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِدَّةٌ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ النُّعْمَانُ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَثَلَاثُ حِيَضٍ تِسْعَةُ أَيَّامٍ، وَطُهْرَانِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 وَالْخِلَافُ فِي هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ، وَفِي الْقُرُوءِ مَا هِيَ، وَقَدْ سَبَقَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبُولُ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ بَيِّنَتَهَا عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي شَهْرٍ. وَلَوْلَا تَصَوُّرُهُ لَمَا قُبِلَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلَا سُمِعَتْ فِيهِ دَعْوًى، وَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِمَا قُلْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ ادَّعَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا، وَلَا يُصْغَى إلَى بَيِّنَتِهَا؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ كَذِبَهَا. فَإِنْ بَقِيَتْ عَلَى دَعْوَاهَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا مَا يُمْكِنُ صِدْقُهَا فِيهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ بَقِيَتْ عَلَى دَعْوَاهَا الْمَرْدُودَةِ، لَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي مُحَالًا، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا، أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ مِنْهَا، قُبِلَ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ صِدْقُهَا. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَاسِقَةِ وَالْمَرْضِيَّةِ، وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ، كَإِخْبَارِهِ عَنْ بَيِّنَةٍ فِيمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ بَيِّنَةٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ تَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ تَدَّعِيَ وَضْعَ الْوَلَدِ لِتَمَامٍ، أَوْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ قَبْلَ كَمَالِهِ، فَإِنْ ادَّعَتْ وَضْعَهُ لِتَمَامٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ إمْكَانِ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ إمْكَانِ الْوَطْءِ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ سَقْطٍ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مَا أَتَى عَلَيْهِ ثَمَانُونَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً بَعْدَ الثَّمَانِينَ، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُضْغَةً بِحَالٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ تَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا؛ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَتَهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: طَلَّقْتُكِ فِي شَوَّالٍ. فَتَقُولَ هِيَ: بَلْ فِي ذِي الْحِجَّةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ، وَالْأَصْلُ وُجُوبُهَا، فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ ادَّعَتْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ، قُبِلَ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا تُقِرُّ عَلَى نَفْسِهَا بِمَا هُوَ أَغْلَظُ. وَلَوْ انْعَكَسَتْ الدَّعْوَى، فَقَالَ: طَلَّقْتُك فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَلِي رَجْعَتُك. فَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقْتَنِي فِي شَوَّالٍ، فَلَا رَجْعَةَ لَك. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، فِي إثْبَاتِ الطَّلَاقِ وَنَفْيِهِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهَا. فَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: عَلَيْهَا الْيَمِينُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا يَمِينٌ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: لَا يَمِينَ فِي نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا يَصِحُّ بَذْلُهَا، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا، كَالْحُدُودِ. وَالْأَوَّلُ؛ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ يُمْكِنُ صِدْقُ مُدَّعِيهِ، فَيَجِبُ الْيَمِينُ فِيهِ، كَالْأَمْوَالِ. فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ بَذْلُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ، وَلَهُ رَجْعَتُهَا، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ النُّكُولُ مِنْهَا، ظَهَرَ صِدْقُ الزَّوْجِ، وَقَوِيَ جَانِبُهُ، وَالْيَمِينُ تُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ قَوِيَ جَانِبُهُ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِالْيَدِ فِي الْعَيْنِ، وَبِالْأَصْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي الدَّيْنِ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ ادَّعَى الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا أَمْسِ أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ] (6091) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا أَمْسِ، أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الرَّجْعَةَ، مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهَا، كَالطَّلَاقِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. وَإِنْ قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا: كُنْت رَاجَعْتُك فِي عِدَّتِك. فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِإِجْمَاعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَاهَا فِي زَمَنٍ لَا يَمْلِكُهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا وَحُصُولُ الْبَيْنُونَةِ. فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَبَقَاؤُهَا، فَبَدَأَتْ فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي. فَقَالَ: قَدْ كُنْت رَاجَعْتُك. فَأَنْكَرَتْهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ؛ لِإِمْكَانِهِ، فَصَارَتْ دَعْوَاهُ لِلرَّجْعَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ. فَإِنْ سَبَقَهَا بِالدَّعْوَى، فَقَالَ: قَدْ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ. فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ دَعْوَاك. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ لِلرَّجْعَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي زَمَنٍ الظَّاهِرُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِهِ. وَلَوْ سَبَقَ فَقَالَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ. فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ. فَأَنْكَرَهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ، سَوَاءٌ سَبَقَهَا بِالدَّعْوَى، أَوْ سَبَقَتْهُ. وَهُوَ وَجْهٌ ثَانٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْبَيْنُونَةُ، وَالْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهَا، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ سَابِقًا، قُبِلَ قَوْلُهُ مَسْبُوقًا، كَسَائِرِ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، فَكَانَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُولِي وَالْعِنِّينُ إصَابَةَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَتْهُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْبَيْنُونَةِ، وَهُوَ مُفْضٍ إلَيْهَا، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ وَيُزِيلُ حُكْمَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ [قَوْلَ] مَنْ يُنْكِرُهُ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ وَقَعَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَلَا رَجْعَةَ؛ لِأَنَّ خَبَرَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا يَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 بَعْدَهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَلَا يُقْبَلُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. [فَصْل اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ فَقَالَ قَدْ أَصَبْتُك فَلَّى رَجْعَتُك فَأَنْكَرَتْهُ] (6092) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتُك، فَلِي رَجْعَتُك. فَأَنْكَرَتْهُ، أَوْ قَالَتْ: قَدْ أَصَابَنِي، فَلِي الْمَهْرُ كَامِلًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ، فَهُوَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِبَيْنُونَتِهَا، وَأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا. وَإِنْ أَنْكَرَتْهَا هِيَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَنْكَرَتْهَا، فَهِيَ مُقِرَّةٌ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَإِنْ أَنْكَرَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. هَذَا إنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ قَبْضِهَا لَهُ وَادَّعَى إصَابَتَهَا فَأَنْكَرَتْهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ لَهَا بِهِ وَلَا يَدَّعِيهِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُنْكِرَ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَبِلْتُمْ قَوْلَ الْمُولِي وَالْعِنِّينِ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَمْ تَقْبَلُوهُ هَاهُنَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُولِيَ وَالْعِنِّينَ يَدَّعِيَانِ مَا يُبْقِي النِّكَاحَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَيَمْنَعُ فَسْخَهُ، وَالْأَصْلُ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَسَلَامَتُهُ، فَكَانَ قَوْلُهُمَا مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ، فَقُبِلَ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ وَقَعَ مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَيُزِيلُهُ، وَهُوَ مَا وَالَى بَيْنُونَةً، وَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا يَرْفَعُ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَيُثْبِتُ لَهُ الرَّجْعَةَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمُولِيَ وَالْعِنِّينَ يَدَّعِيَانِ الْإِصَابَةَ فِي مَوْضِعٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْخَلْوَةُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقَّتَا الْفَسْخَ بِعَدَمِ الْوَطْءِ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ خَلْوَةٌ وَلَا تَمْكِينٌ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ لَوَجَبَ الْمَهْرُ كَامِلًا، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَهَلْ يُشْرَعُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ مَنْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ هَاهُنَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْل وَالْخَلْوَةُ كَالْإِصَابَةِ فِي إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي خَلَا بِهَا] (6093) فَصْلٌ: وَالْخَلْوَةُ كَالْإِصَابَةِ، فِي إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي خَلَا بِهَا، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يُصِيبَهَا. وَبِهِ قَالَ النُّعْمَانُ، وَصَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُصَابَةٍ، فَلَا تَسْتَحِقُّ رَجْعَتَهَا، كَغَيْرِ الَّتِي خَلَا بِهَا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] /إلَى قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] . وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ لَا عِوَضَ فِيهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 وَلَمْ تَسْتَوْفِ عَدَدَهُ، فَثَبَتَ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ كَالْمُصَابَةِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، فَمَلَكَ رَجْعَتَهَا، كَالَّتِي أَصَابَهَا. وَفَارَقَ الَّتِي لَمْ يَخْلُ بِهَا، فَإِنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ لَا عِدَّةَ لَهَا، وَلَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ لِلْمُعْتَدَّةِ الَّتِي يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ. [فَصْل ادَّعَى زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا فَكَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا] (6094) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَكَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَ مَوْلَاهَا مَقْبُولٌ فِي نِكَاحِهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي رَجْعَتِهَا، كَالْحُرَّةِ إذَا أَقَرَّتْ. وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ، فَقُبِلَ فِي إنْكَارِهَا لِلرَّجْعَةِ كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مِنْهُمَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ، فَيَكُونُ الْمُنَازِعُ هِيَ دُونَ سَيِّدِهَا، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ، وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُ السَّيِّدِ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ. وَإِنْ صَدَّقَتْهُ هِيَ وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهَا، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ يَتَعَلَّقَ بِهَا، وَحَلَّتْ لَهُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّ مُطَلِّقَهَا كَانَ رَاجَعَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ إنْكَارِهَا قَبُولُ تَصْدِيقِهَا، كَالَّتِي تَزَوَّجَتْ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إنْكَارُهَا، وَلَا يُقْبَلُ تَصْدِيقُهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَوْلَاهَا إذَا عَلِمَ صِدْقَ الزَّوْجِ فِي رَجْعَتِهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَا تَزْوِيجُهَا. وَإِنْ عَلِمَتْ هِيَ صِدْقَ الزَّوْجِ فِي رَجْعَتِهَا، فَهِيَ حَرَامٌ عَلَى سَيِّدِهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ وَطْئِهَا إلَّا مُكْرَهَةً، كَمَا قَبْلَ طَلَاقِهَا. [فَصْلٌ قَالَتْ انْقَضَتْ عِدَّتِي ثُمَّ قَالَتْ مَا انْقَضَتْ الرَّجْعَةُ بَعْدُ] (6095) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي. ثُمَّ قَالَتْ: مَا انْقَضَتْ بَعْدُ. فَلَهُ رَجْعَتُهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِكَذِبِهَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَقُبِلَ إقْرَارُهَا. وَلَوْ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ رَاجَعْتهَا. ثُمَّ أَقَرَّتْ بِكَذِبِهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَأَنْكَرَتْ مَا ذَكَرَ عَنْهَا، وَأَقَرَّتْ أَنَّ عِدَّتَهَا، لَمْ تَنْقَضِ، فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِخَبَرِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَجَعَتْ عَنْ خَبَرِهَا، فَقُبِلَ رُجُوعُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ثَانِيَةً] (6096) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ثَانِيَةً، بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْعِدَّةِ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ ثَانٍ، أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاقِعَةٌ فِي حَقِّ مَدْخُولٍ بِهَا، فَاقْتَضَتْ عِدَّةً كَامِلَةً، كَالْأُولَى. وَلَنَا، أَنَّهُمَا طَلَاقَانِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا إصَابَةٌ، وَلَا خَلْوَةٌ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ عِدَّةٍ، كَمَا لَوْ وَالَى بَيْنَهُمَا، أَوْ كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ طَلَّقَهَا، ثُمَّ فُسِخَ نِكَاحُهَا لِعَيْبٍ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ لِعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا لِرَضَاعٍ أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ. [فَصْل طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا] (6097) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَهَا، ثُمَّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْعِدَّةِ. نَقَلَهَا الْمَيْمُونِي. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا طَلَاقَانِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا دُخُولٌ بِهَا، فَكَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا دُخُولٌ، فَلَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ مِنْهَا عِدَّةٌ، كَمَا لَوْ نَكَحَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالثَّانِيَةُ، تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ. نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ. وَهِيَ أَصَحُّ. وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَجَابِرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَجْمَع الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ مَالِكٍ، إنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا بَنَتْ، وَإِلَّا اسْتَأْنَفَتْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الرَّجْعَةَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِصْلَاحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] . وَاَلَّذِي قَصَدَ الْإِضْرَارَ لَمْ يَقْصِدْ الْإِصْلَاحَ. وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا فِيهِ، فَأَوْجَبَ عِدَّةً كَامِلَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ طَلَاقٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْأُولَى شَعَّثَتْ النِّكَاحَ، وَالرَّجْعَةَ لَمَّتْ شُعْثَهُ، وَقَطَعَتْ عَمَلَ الطَّلَاقِ، فَصَارَ الطَّلَاقُ الثَّانِي فِي نِكَاحٍ غَيْرِ مُشَعَّثٍ مَدْخُولٍ بِهَا فِيهِ، فَأَوْجَبَ عِدَّةً كَالْأَوَّلِ، وَكَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً، كَذَا هَاهُنَا. وَيُفَارِقُ الطَّلَاقَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ. فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ طَلَاقٍ مُفْضٍ إلَى بَيْنُونَةٍ. فَإِنْ رَاجَعَهَا ثُمَّ دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ صَارَ كَالنَّاكِحِ ابْتِدَاءً إذَا وَطِئَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 [فَصْل خَالَعَ زَوْجَتَهُ أَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ ثُمَّ نَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا] (6098) فَصْلٌ: وَإِنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ، أَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ ثُمَّ نَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا؛ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا فِيهِ، لَمْ يَتَقَدَّمْهُ طَلَاقٌ سِوَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أَقْوَى مِنْ الرَّجْعَةِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ، كَمَا لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. وَفَارَقَ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّهَا رَدَّتْ الْمَرْأَةَ إلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي فِي نِكَاحٍ اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ، وَهَذَا النِّكَاحُ جَدِيدٌ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ دُخُولٌ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيجَ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ. وَأَمَّا بِنَاؤُهَا عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى، فَلِأَنَّهَا إنَّمَا قُطِعَ فِي حُكْمِهَا النِّكَاحُ، وَقَدْ زَالَ، فَيَعُودُ إلَيْهَا. وَلَوْ أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ هِيَ فِي عِدَّتِهَا، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ وَطْئِهِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحٍ وَطِئَ فِيهِ، أَشْبَهَ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ. [فَصْل مَتَى وَطِئَ الرَّجْعِيَّةَ] (6099) فَصْلٌ: وَمَتَى وَطِئَ الرَّجْعِيَّةَ، وَقُلْنَا: إنَّ الْوَطْءَ لَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنْ الْوَطْءِ، وَيَدْخُلَ فِيهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَتَدَاخَلَتَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى طَلَّقَهَا، وَلَهُ ارْتِجَاعُهَا فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ الطَّلَاقِ، فَإِذَا مَضَتْ الْبَقِيَّةُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ارْتِجَاعُهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّةِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الْوَطْءِ، صَارَتْ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْبَقِيَّةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ لِوَاحِدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا بِالْأَقْرَاءِ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّتَانِ جَمِيعًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ، وَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا قَبْلَ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ الطَّلَاقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ. فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ مُعْتَدَّةً مِنْ الْوَطْءِ خَاصَّةً. وَهَلْ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فِيمَا إذَا حَمَلَتْ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ ثَانٍ، فَإِذَا وَضَعَتْ أَتَمَّتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَلَهُ ارْتِجَاعُهَا فِي هَذِهِ الْبَقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا حَامِلًا، ثُمَّ وَطِئَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةً لِلْوَطْءِ بَعْدَ وَضَعَ الْحَمْلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَا رَجْعَةَ لَهُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِكُلِّ حَالٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سَوَاءً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا ثُمَّ أَشْهَدْ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ فَاعْتَدَّتْ ثُمَّ نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا] (6100) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا طَلَّقَهَا، ثُمَّ أَشْهَدْ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ، فَاعْتَدَّتْ، ثُمَّ نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا، رُدَّتْ إلَيْهِ، وَلَا يُصِيبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى هِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إذَا رَاجَعَهَا، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، صَحَّتْ الْمُرَاجَعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى رِضَاهَا، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى عِلْمِهَا كَطَلَاقِهَا. فَإِذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ غَيْرِهِ، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، إنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَنَافِعٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ فِي الظَّاهِرِ، وَمَعَ الثَّانِي مَزِيَّةُ الدُّخُولِ، فَقُدِّمَ بِهَا. وَلَنَا أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ، وَتَزَوَّجَتْ وَهِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي مَا دَخَلَ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَرُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءُ شُبْهَةٍ، وَتَعْتَدُّ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ. وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا، رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا مَعَ عِلْمِهَا بِالرَّجْعَةِ، أَوْ عِلْمِ أَحَدِهِمَا، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُمَا، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزَّانِي فِي الْحَدِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةَ غَيْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الرَّجْعَةِ بَيِّنَةٌ، فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَكِنْ إنْ أَنْكَرَاهُ جَمِيعًا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنْ اعْتَرَفَا لَهُ بِالرَّجْعَةِ، ثَبَتَتْ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ سَوَاءً. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ الزَّوْجُ وَحْدَهُ، فَقَدْ اعْتَرَفَ بِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَتَبِينُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ نِصْفُهُ إنْ كَانَ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْهُ، وَلَا تُسَلَّمُ الْمَرْأَةُ إلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ الثَّانِي عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا. وَهَلْ هُوَ مَعَ يَمِينِهَا أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَسْتَحْلِفُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهَا، فَإِذَا أَنْكَرَتْ لَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ بِإِنْكَارِهَا. وَإِنْ اعْتَرَفَتْ الْمَرْأَةُ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 لَمْ يُقْبَلْ اعْتِرَافُهَا عَلَى الزَّوْجِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا إنَّمَا يُقْبَلُ عَلَى نَفْسِهَا فِي حَقِّهَا. وَهَلْ يُسْتَحْلَفُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَحْلَفُ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ، كَمَا لَوْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْهُ. وَالثَّانِي، يُسْتَحْلَفُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ دَعْوَى فِي حَقِّ آدَمِيٍّ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالْمَالِ. فَإِنْ حَلَفَ فَيَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ. فَإِنْ زَالَ نِكَاحُهُ بِطَلَاقٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوْ مَوْتٍ، رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ رَدِّهَا إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الثَّانِي، فَإِذَا زَالَ، زَالَ الْمَانِعُ، وَحُكِمَ بِأَنَّهَا زَوْجَةُ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ. وَلَا يَلْزَمُهَا لِلْأَوَّلِ مَهْرٌ بِحَالٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ عَلَيْهَا لَهُ مَهْرًا. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُضْعِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَشْبَهَ شُهُودَ الطَّلَاقِ إذَا رَجَعُوا. وَلَنَا أَنَّ مِلْكَهَا اسْتَقَرَّ عَلَى الْمَهْرِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ، أَوْ أَسْلَمَتْ، أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَهِيَ فِي نِكَاحِ الثَّانِي، فَيَنْبَغِي أَنْ تَرِثَهُ؛ لِإِقْرَارِهِ بِزَوْجِيَّتِهَا، أَوْ إقْرَارِهَا بِذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا، لِأَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ مِيرَاثِ الزَّوْجِ الثَّانِي، كَمَا لَمْ تُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ نِكَاحِهِ، وَيَرِثُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الثَّانِي، لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ صِحَّةَ نِكَاحِهِ فَتُنْكِرُ مِيرَاثَهُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ إذَا مَضَى زَمَنٌ بَعْدَ طَلَاقِهَا يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتَيْنِ] (6101) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَتْهُ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحهَا إذَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْهَا الصِّدْقَ وَالصَّلَاحَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَمْ يَنْكِحْهَا حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُ قَوْلُهَا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ، إذَا مَضَى زَمَنٌ بَعْدَ طَلَاقِهَا، يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ وَوَطْءٌ، فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا؛ إمَّا لِمَعْرِفَتِهِ بِأَمَانَتِهَا، أَوْ بِخَبَرِ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهَا، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى نَفْسِهَا، وَعَلَى مَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهَا، كَمَا لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ نِكَاحُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَنْكِحَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ، وَلَمْ يُوجَدْ غَلَبَةُ ظَنٍّ تَنْقُلُ عَنْهُ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ عَنْهَا. [فَصْل أَخْبَرَتْ الزَّوْجَ أَصَابَهَا فَأَنْكَرَ الرَّجْعَةَ] فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْبَرَتْ أَنَّ الزَّوْجَ أَصَابَهَا، فَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَهْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْخَلْوَةِ بِهَا. فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَصَابَهَا. لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِتَحْرِيمِهَا. فَإِنْ عَادَ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْت صِدْقَهَا. دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْن اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا عَلِمَ حِلَّهَا لَهُ، لَمْ تَحْرُمْ بِكَذِبِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ. وَلَوْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ أَصَابَهَا. لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حِلِّهَا لَهُ خَبَرٌ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، لَا حَقِيقَةُ الْعِلْمِ. [فَصْل طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَغَابَ وَقَضَتْ عِدَّتَهَا وَأَرَادَتْ التَّزَوُّجَ] (6103) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَغَابَ، وَقَضَتْ عِدَّتَهَا، وَأَرَادَتْ التَّزَوُّجَ، فَقَالَ وَكِيلُهُ: تَوَقَّفِي كَيْ لَا يَكُونَ رَاجَعَك. لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا التَّوَقُّفُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، وَحِلُّ النِّكَاحِ، فَلَا يَجِبُ الزَّوَالُ عَنْهُ بِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَوَجَبَ عَلَيْهَا التَّوَقُّفُ قَبْلَ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الرَّجْعَةِ مَوْجُودٌ، سَوَاءٌ قَالَ أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَيُفْضِي إلَى تَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَى كُلِّ رَجْعِيَّةٍ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَبَدًا. [فَصْل قَالَتْ قَدْ تَزَوَّجْت مَنْ أَصَابَنِي ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا] (6104) فَصْلٌ: فَإِذَا قَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجْت مَنْ أَصَابَنِي. ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُبِيحَ لِلْعَقْدِ قَدْ زَالَ، فَزَالَتْ الْإِبَاحَةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا عَقَدَ عَلَيْهَا، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إبْطَالٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي لَزِمَهَا بِقَوْلِهَا، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ الْإِقْرَارِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 [كِتَابُ الْإِيلَاءِ] [شُرُوطَ الْإِيلَاءِ] ِ الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحَلِفُ. يُقَالُ: آلَى يُولِي إيلَاءً وَأَلِيَّةً. وَجَمْعُ الْأَلِيَّةِ أَلَايَا، قَالَ الشَّاعِرُ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ وَيُقَالُ: تَأَلَّى يَتَأَلَّى. وَفِي الْخَبَرِ: «مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكْذِبُهُ» . فَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي الشَّرْعِ، فَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . وَكَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَآنِ: " يُقْسِمُونَ ". (6105) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالْمُولِي الَّذِي يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَطَأَ زَوْجَتَهُ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَجُمْلَتُهُ أَن َّ شُرُوطَ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا، أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِذَلِكَ إيلَاءٌ. فَأَمَّا إنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ بِغَيْرِ هَذَا، مِثْلُ أَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ صَدَقَةِ الْمَالِ، أَوْ الْحَجِّ، أَوْ الظِّهَارِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَكُونُ مُولِيًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، هُوَ مُولٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعَهَا، فَهِيَ إيلَاءٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مَنَعَتْ جِمَاعَهَا فَكَانَتْ إيلَاءً، كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى وَطْئِهَا حَلِفٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَتَى حَلَفْت بِطَلَاقِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ يَمِينٍ مِنْ حَرَامٍ أَوْ غَيْرِهَا، يَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ، يَكُونُ الْحَالِفُ بِهَا مُولِيًا. وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، فَلَيْسَ الْحَلِفُ بِهِ إيلَاءً؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَمَا أَوْجَبَ كَفَّارَةً تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ الْمُطْلَقَ إنَّمَا هُوَ الْقَسَمُ، وَلِهَذَا قَرَأَ أُبَيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ " يُقْسِمُونَ ". مَكَانَ: يُؤْلُونَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ يُؤْلُونَ. قَالَ: يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَيْسَ بِقَسَمٍ وَلِهَذَا لَا يُؤْتَى فِيهِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ، وَلَا يُجَابُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 بِجَوَابِهِ، وَلَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي بَابِ الْقَسَمِ، فَلَا يَكُونُ إيلَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى حَلِفًا تَجَوُّزًا، لِمُشَارَكَتِهِ الْقَسَمَ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي الْقَسَمِ، وَهُوَ الْحَثُّ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ، أَوْ تَوْكِيدُ الْخَبَرِ، وَالْكَلَامُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ لِحَقِيقَتِهِ؛ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] . وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْغُفْرَانُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» . وَقَوْلُهُ: «إِن اللَّه يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ غَيْرَ الْقَسَمِ حَلِفٌ، لَكِنَّ الْحَلِفُ بِإِطْلَاقِهِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْقَسَمِ، وَإِنَّمَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ الْقَسَمِ بِدَلِيلٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ إيلَاءً؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً وَلَا شَيْئًا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ، فَلَا يَكُونُ إيلَاءً، كَالْخَبَرِ بِغَيْرِ الْقَسَمِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا إلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ فِيهِ حَقٌّ كَقَوْلِهِ: إنْ وَطِئْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ. أَوْ: فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. أَوْ: فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ: فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ الْحَجُّ أَوْ صَدَقَةٌ. فَهَذَا يَكُونُ إيلَاءً؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِوَطْئِهَا حَقٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ وَطْئِهَا خَوْفُهُ مِنْ وُجُوبِهِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ زَانِيَةٌ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ حَقٌّ، وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ زَانِيَةً بِوَطْئِهِ لَهَا، كَمَا لَا تَصِيرُ زَانِيَةً بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ مُضِيِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَقٌّ، فَإِنَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ مُضِيِّهِ، فَلَا يُلْزَمُ بِالنَّذْرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ عِشْرِينَ رَكْعَةً. كَانَ مُولِيًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَالٌ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَالٍ، فَلَا يَكُونُ الْحَالِفُ بِهَا مُولِيًا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ فِي السُّوقِ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِالنَّذْرِ، فَكَانَ الْحَالِفُ بِهَا مُولِيًا، كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَاجُ إلَى الْمَاءِ وَالسُّتْرَةِ. وَأَمَّا الْمَشْيُ فِي السُّوقِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ فِي هَذَا النَّذْرِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ؛: إمَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِمَّا الْمَشْيُ، فَقَدْ صَارَ الْحِنْثُ مُوجِبًا لِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُولِيًا بِنَذْرِ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَعَاصِي أَيْضًا، فَإِنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَإِذَا اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِالْحِنْثِ، فَلَمْ يَكُنْ الْحِنْثُ مُوجِبًا لِحَقٍّ عَلَيْهِ. وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ كَانَتْ يَمِينًا مُكَفِّرَةً، فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، فَمَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيَكُونُ مُولِيًا بِهِمَا، سَوَاءٌ اسْتَثْنَى أَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ. [فَصْلٌ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ] (6106) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا زَادَ، كَانَ مُولِيًا. وَحَكَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَبُو الْحُسَيْنِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْوَطْءِ بِالْيَمِينِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَكَانَ مُولِيًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى مَا زَادَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ كَثِيرٍ، وَتَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مُولٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . وَهَذَا مُولٍ؛ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ الْحَلِفُ، وَهَذَا حَالِفٌ وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ نَفْسَهُ مِنْ الْوَطْءِ بِالْيَمِينِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ قُبْلَتِهَا. وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ مَا دُونَهَا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّرَبُّصِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ تَنْقَضِي قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَ انْقِضَائِهِ. وَتَقْدِيرُ التَّرَبُّصِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ فِي مُدَّةٍ تَنَاوَلَهَا الْإِيلَاءُ، وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ إنَّمَا تَكَوُّنُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ بِأَرْبَعَةِ فَمَا دُونَ، لَمْ تَصِحَّ الْمُطَالَبَةُ مِنْ غَيْرِ إيلَاءٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الْفَيْئَةِ إنَّهَا تَكُونُ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ خِلَافُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] . فَعَقَّبَ الْفَيْءَ عَقِيبَ التَّرَبُّصِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهَا عَنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، أَمْكَنَهُ التَّخَلُّصُ بِغَيْرِ حِنْثٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا وَطِئَهَا فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ بَعْدَ التَّرَبُّصِ مِنْ يَمِينِهِ بِغَيْرِ حِنْثٍ، فَأَشْبَهَ الْمُطَلَّقَةَ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ عَلَى مَدِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ بِغَيْرِ الْحِنْثِ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ مُدَّةٌ تَتَضَرَّرُ الْمَرْأَةُ بِتَأْخِيرِ الْوَطْءِ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا كَانَ مُولِيًا كَالْأَبَدِ. وَدَلِيلُ الْوَصْفِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَطُوفُ لَيْلَةً فِي الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ: تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَازْوَرَّ جَانِبُهْ ... وَلَيْسَ إلَى جَنْبِي خَلِيلٌ أُلَاعِبُهْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 فَوَاَللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ مَخَافَةُ رَبِّي وَالْحَيَاءُ يَكُفُّنِي ... وَأُكْرِمُ بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ فَسَأَلَ عُمَرُ نِسَاءً: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ الزَّوْجِ؟ فَقُلْنَ: شَهْرَيْنِ، وَفِي الثَّالِثِ يَقِلُّ الصَّبْرُ، وَفِي الرَّابِعِ يَنْفَدُ الصَّبْرُ. فَكَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ لَا تَحْبِسُوا رَجُلًا عَنْ امْرَأَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. [فَصْلٌ عَلَّقَ الْإِيلَاء بِشَرْطِ مُسْتَحِيلٍ] (6107) فَصْلٌ: وَإِذَا عَلَّقَ الْإِيلَاء بِشَرْطِ مُسْتَحِيلٍ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَصْعَدِي السَّمَاءَ، أَوْ تَقْلِبِي الْحَجَرَ ذَهَبًا، أَوْ يَشِيبَ الْغُرَابُ. فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ تَرْكُ وَطْئِهَا؛ فَإِنَّ مَا يُرَادُ إحَالَةُ وُجُودِهِ يُعَلَّقُ عَلَى الْمُسْتَحِيلَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] . وَمَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْت أَهْلِي ... وَصَارَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَحْبَلِي. فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، فَهُوَ كَصُعُودِ السَّمَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِمُولٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ آيِسَةً، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا. قَالَ الْقَاضِي وَإِذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا مُمْكِنٌ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَمْلَ بِدُونِ الْوَطْءِ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، فَكَانَ تَعْلِيقُ الْيَمِينِ عَلَيْهِ إيلَاءً، كَصُعُودِ السَّمَاءِ. وَدَلِيلُ اسْتِحَالَتِهِ قَوْلُ مَرْيَمَ {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] . وَقَوْلُهُمْ {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] وَلَوْلَا اسْتِحَالَتُهُ لَمَا نَسَبُوهَا إلَى الْبِغَاءِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ، وَأَيْضًا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْحَبَلَ لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ. فَإِنْ قَالُوا: يُمْكِنُ حَبَلُهَا مِنْ وَطْءِ غَيْرِهِ، أَوْ بِاسْتِدْخَالِ مَنِيِّهِ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَحْبَلِي مِنْ غَيْرِي، أَوْ: مَا دُمْت فِي نِكَاحِي. أَوْ: حَتَّى تَزْنِي. كَانَ مُولِيًا، وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ عَادَةً، إنْ وُجِدَ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ: إنَّ الْمَنِيَّ إذَا بَرَدَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ وَلَدٌ. وَصَحَّحَ قَوْلَهُمْ قِيَامُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ عَلَى وَفْقِ مَا قَالُوهُ. وَإِذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 كَانَ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا أَوْ مَوْتِ زَيْدٍ إيلَاءً، فَتَعْلِيقُهُ عَلَى حَبَلِهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ أَوْلَى. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: حَتَّى تَحْبَلِي. السَّبَبِيَّةَ، وَلَمْ أُرِدْ الْغَايَةَ. وَمَعْنَاهُ لَا أَطَؤُكِ لِتَحْبَلِي. قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَالِفٍ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَالِفٌ عَلَى قَصْدِ تَرْكِ الْحَبَلِ بِهِ، فَإِنَّ حَتَّى تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ. [فَصْلٌ عَلَّقَ الْإِيلَاء عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِيلٍ] (6108) فَصْلٌ: وَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِيلٍ، فَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَقِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ لَهَا عَلَامَاتٍ تَسْبِقُهَا، فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: حَتَّى تَأْتِي الْهِنْدَ. أَوْ نَحْوَهُ. فَهَذَا مُولٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. الثَّانِي، مَا الْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَالدَّابَّةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَوْ يَقُولُ: حَتَّى أَمُوتَ. أَوْ: تَمُوتِي. أَوْ: يَمُوتَ وَلَدُك. أَوْ: زَيْدٌ. أَوْ: حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ مِنْ مَكَّةَ. وَالْعَادَةُ أَنَّهُ لَا يَقْدَمُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَيَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك فِي نِكَاحِي هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مَرَضِهَا، أَوْ مَرَضِ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ. الثَّالِثُ - أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى أَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُوجَدَ، احْتِمَالًا مُتَسَاوِيًا، كَقُدُومِ زَيْدٍ مِنْ سَفَرٍ قَرِيبٍ، أَوْ مِنْ سَفَرٍ لَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِيلَاءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حَلِفُهُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ. الرَّابِعُ أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ يُظَنُّ ذَلِكَ، كَذُبُولِ بَقْلٍ، وَجَفَافِ ثَوْبٍ، وَمَجِيءِ الْمَطَرِ فِي أَوَانِهِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ فِي زَمَانِهِ. فَهَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِضْرَارَ بِتَرْكِ وَطْئِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك شَهْرًا. الْخَامِسُ - أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى فِعْلٍ مِنْهَا، هِيَ قَادِرَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِهَا. وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا، أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَطَؤُكِ حَتَّى تَدْخُلِي الدَّارَ. أَوْ: تَلْبَسِي هَذَا الثَّوْبَ. أَوْ: حَتَّى أَتَنَفَّلُ بِصَوْمِ يَوْمٍ. أَوْ: حَتَّى أَكْسُوَك فَهَذَا لَيْسَ بِإِيلَاءٍ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ عَلَيْهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالثَّانِي، أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى مُحَرَّمٍ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَطَؤُكِ حَتَّى تَشْرَبِي الْخَمْرَ. أَوْ: تَزْنِي. أَوْ: تُسْقِطِي وَلَدَك. أَوْ: تَتْرُكِي صَلَاةَ الْفَرْضِ. أَوْ: حَتَّى أَقْتُلَ زَيْدًا. أَوْ نَحْوَهُ. فَهَذَا إيلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمُمْتَنِعٍ شَرْعًا، فَأَشْبَهَ الْمُمْتَنِعَ حِسًّا. الثَّالِثُ، أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى مَا عَلَى فَاعِلِهِ فِيهِ مَضَرَّةٌ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَطَؤُكِ حَتَّى تُسْقِطِي صَدَاقَك عَنِّي. أَوْ: حَتَّى تَكْفُلِي وَلَدِي. أَوْ: تَهَبِينِي دَارَك. أَوْ: حَتَّى يَبِيعَنِي أَبُوك دَارِهِ. أَوْ: نَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا إيلَاءٌ؛ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 أَخْذَهُ لِمَالِهَا أَوْ مَالِ غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ مُحَرَّمٌ، فَجَرَى مَجْرَى شُرْبِ الْخَمْرِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَطَؤُكِ حَتَّى أُعْطِيَك مَالًا. أَوْ: أَفْعَلَ فِي حَقِّك جَمِيلًا. لَمْ يَكُنْ إيلَاءً؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لِذَلِكَ لَيْسَ بِمُحْرِمِ وَلَا مُمْتَنِعٍ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: حَتَّى أَصُومَ يَوْمًا. [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إلَّا بِرِضَاك] (6109) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إلَّا بِرِضَاك. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا بِغَيْرِ حِنْثٍ، وَلِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي كَوْنِهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ اجْتِنَابَ سَخَطِهَا. وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ كُلُّ حَالٍ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِيهَا بِغَيْرِ حِنْثٍ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك مُكْرَهَةً، أَوْ مَحْزُونَةً. وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك مَرِيضَةً. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَا مَرَضٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ لَا يَزُولُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ حَالِفٌ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لَهَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ، فَمَرِضَتْ مَرَضًا يُمْكِنُ بُرْؤُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَصِرْ مُولِيًا، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ بُرْؤُهُ فِيهَا، صَارَ مُولِيًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، صَارَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك حَائِضًا. وَلَا نُفَسَاء، وَلَا مُحْرِمَةً، وَلَا صَائِمَةً. وَنَحْوَ هَذَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ شَرْعًا، فَقَدْ أَكَّدَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك طَاهِرًا. أَوْ: لَا وَطِئْتُك وَطْئًا مُبَاحًا. صَارَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ حَالِفٌ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ الَّذِي يُطَالِبُ بِهِ فِي الْفَيْئَةِ، فَكَانَ مُولِيًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك فِي قُبُلِك. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك لَيْلًا. أَوْ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك نَهَارًا. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُمْكِنُ بِدُونِ الْحِنْثِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ. أَوْ: فِي هَذَا الْبَيْتِ. أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْكِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالنُّعْمَانِ، وَصَاحِبَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ: هُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ حَالِفٌ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا بِغَيْرِ حِنْثٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ. [فَصْلٌ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا عَامًا ثُمَّ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ] (6110) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا عَامًا، ثُمَّ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، انْحَلَّ الْإِيلَاءُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْمُولِي يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ؟ قَالَ يَذْهَبُ عَنْهُ الْإِيلَاءُ، وَلَا يُوقَفُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ، وَذَهَبَ الْإِيلَاءُ حِينَ ذَهَبَتْ الْيَمِينُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَمْنُوعًا مِنْ الْوَطْءِ بِيَمِينِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى. فَإِنْ كَانَ تَكْفِيرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، انْحَلَّ الْإِيلَاءُ حِينَ التَّكْفِيرِ، وَصَارَ كَالْحَالِفِ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَإِنْ كَفَّرَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ وَقَبْلَ الْوُقُوفِ، صَارَ كَالْحَالِفِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْهَا، إذَا مَضَتْ مُدَّةُ يَمِينِهِ قَبْلَ وَقْفِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 [فَصْلٌ قَالَ فِي الْإِيلَاء وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إنْ شَاءَ فُلَانٌ] (6111) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إنْ شَاءَ فُلَانٌ. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا حَتَّى يَشَاءَ، فَإِذَا شَاءَ صَارَ مُولِيًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْوَطْءِ حَتَّى يَشَاءَ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَشَاءَ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إنْ شِئْت. فَكَذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ شَاءَتْ عَلَى الْفَوْرِ جَوَابًا لِكَلَامِهِ صَارَ مُولِيًا، وَإِنْ أَخَّرَتْ الْمَشِيئَةَ، انْحَلَّتْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَخْيِيرٌ لَهَا، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي فِي الطَّلَاقِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْيَمِينَ عَلَى الْمَشِيئَةِ بِحَرْفِ إنْ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَمَشِيئَةِ غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ: لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ فَإِنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: لَا وَطِئْتُك إلَّا بِرِضَاك. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّهَا إذَا شَاءَتْ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ مَانِعَةً مِنْ وَطْئِهَا، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَطْءُ بِغَيْرِ حِنْثٍ. وَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إلَّا بِرِضَاك. فَمَا حَلَفَ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ حَالُ سَخَطِهَا، فَيُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى بِغَيْرِ حِنْثٍ. وَإِذَا طَالَبَتْهُ بِالْفَيْئَةِ، فَهُوَ بِرِضَاهَا. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَشَائِي. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إلَّا بِرِضَاك. وَلَا يَكُونُ مُولِيًا بِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَبُوك. أَوْ: فُلَانٌ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِفِعْلٍ مِنْهُ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ إمْكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَلَا فِيهِ مَضَرَّةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إلَّا أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك إلَّا أَنْ تَشَائِي. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا بِرِضَاك. أَوْ: حَتَّى تَشَائِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ، لَمْ يَصِرْ مُولِيًا، وَإِلَّا صَارَ مُولِيًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ شَاءَتْ عَلَى الْفَوْرِ عَقِيبَ كَلَامِهِ، لَمْ يَصِرْ مُولِيًا، وَإِلَّا صَارَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ فَاتَتْ بِتَرَاخِيهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، فَإِنْ شَاءَتْ انْحَلَّتْ، وَإِلَّا فَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ بِيَمِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا إلَّا عِنْدَ إرَادَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: إلَّا بِرِضَاك. أَوْ: حَتَّى تَشَائِي. وَلِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى وُجُودِ الْمَشِيئَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهَا. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي: فَإِنْ أَرَادَ وُجُودَ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْفَوْرِ. فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ. وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَ الْمَشِيئَةِ عَلَى التَّرَاخِي، تَنْحَلُ بِهِ الْيَمِينُ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيلَاءً؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلٍ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، إمْكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، لَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك] (6112) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك. فَهُوَ إيلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك مُدَّةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 أَوْ: لَيَطُولَنَّ تَرْكِي لِجِمَاعِكِ. وَنَوَى مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ إيلَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ بِنِيَّتِهِ. وَإِنْ نَوَى مُدَّةً قَصِيرَةً، لَمْ يَكُنْ إيلَاءً لِذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ إيلَاءً؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْكَثِيرِ. فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. أَوْ: فَإِذَا مَضَتْ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك شَهْرَيْنِ. أَوْ: لَا وَطِئْتُك شَهْرَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ حَالِفٌ بِكُلِّ يَمِينٍ عَلَى مُدَّةٍ نَاقِصَةٍ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ إلَّا مُدَّتَهَا، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ يَمِينٍ عَقِيبَ مُدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَالثَّانِي، يَصِيرُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَطْءِ بِيَمِينِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ، فَكَانَ مُولِيًا، كَمَا لَوْ مَنَعَهَا بِيَمِينِ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ بَعْدَ الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ فِي يَمِينِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا إيلَاءً، أَفْضَى إلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْوَطْءِ طُولَ دَهْرِهِ بِالْيَمِينِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُدَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ يَزِيدُ مَجْمُوعُهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ، كَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةٍ، أَوْ ثَلَاثَةٍ وَشَهْرَيْنِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَالَ إنْ وَطِئْتُك فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك] (6113) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ حَقٌّ، لَكِنْ إنْ وَطِئَهَا صَارَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى يَمِينًا تَمْنَعُ الْوَطْءَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَهَذَا الصَّحِيحُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ، أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ مُولِيًا، فَيَلْحَقُهُ بِالْوَطْءِ ضَرَرٌ. وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إنْ قَالَ: وَطِئْتُك فَوَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ وَطِئَهَا انْحَلَّ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِنْ وَطْئِهَا بِيَمِينٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا بَقِيَ مُمْتَنِعًا بِالْيَمِينِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ. وَلَنَا أَنَّ يَمِينَهُ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطٍ، فَفِيمَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِحَالِفٍ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا. وَكَوْنُهُ يَصِيرُ مُولِيًا، لَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ مَتَى شَاءَ بِغَيْرِ حِنْثٍ، فَلَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الْوَطْءِ بِحُكْمِ يَمِينِهِ، فَإِذَا وَطِئَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، صَارَ مُولِيًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، يَكُونُ مُولِيًا فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا. فَكَذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مُنَكَّرٌ، فَلَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 يَخْتَصَّ يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: صُمْت رَمَضَانَ إلَّا يَوْمًا. لَمْ يَخْتَصَّ الْيَوْمَ الْآخِرَ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُك فِي السَّنَةِ إلَّا يَوْمًا. لَمْ يَخْتَصَّ يَوْمًا مِنْهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا فِي الْحَالِ. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرُ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى يَكُونُ مِنْ آخِرِ الْمُدَّةِ، كَالتَّأْجِيلِ وَمُدَّةِ الْخِيَارِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا وَطِئْتُك فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً، فَإِنَّ الْمَرَّةَ لَا تَخْتَصُّ وَقْتًا بِعَيْنِهِ. وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّأْجِيلِ وَمُدَّةِ الْخِيَارِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّأْجِيلَ وَمُدَّةَ الْخِيَارِ، تَجِبُ الْمُوَالَاةُ فِيهِمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّلَهُمَا يَوْمٌ لَا أَجَلَ فِيهِ وَلَا خِيَارَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ فِي أَثْنَاءِ الْأَجْلِ، لَزِمَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، فَيَسْقُطُ التَّأْجِيلُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ، لَمْ يَعُدْ إلَى الْجَوَازِ، فَتَعَيَّنَ جَعْلُ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ آخِرِ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ جَوَازَ الْوَطْءِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ أَوْ أَوْسَطِهَا، لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْيَمِينِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، فَصَارَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَا وَطِئْتُك فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا] (6114) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ، حَلَفَ عَلَيْهِ بِيَمِينَيْنِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَامًا آخَرَ سِوَاهُ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك نِصْفَ عَامٍ. أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك نِصْفَ عَامٍ. ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. دَخَلَتْ الْمُدَّةُ الْقَصِيرَةُ فِي الطَّوِيلَةِ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَرَّ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ، فَيَكُونُ إيلَاءً وَاحِدًا، لَهُمَا وَقْتُ وَاحِدٌ، وَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ نَوَى بِإِحْدَى الْمُدَّتَيْنِ غَيْرَ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ أَوْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. ثُمَّ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا آخَرَ. أَوْ: نِصْفَ عَامٍ آخَرَ. أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا، فَإِذَا مَضَى فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. فَهُمَا إيلَاءَانِ فِي زَمَانَيْنِ، لَا يَدْخُلُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، أَحَدُهُمَا مُنَجَّزٌ، وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرٌ، فَإِذَا مَضَى حُكْمُ أَحَدِهِمَا، بَقِيَ حُكْمُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَمَنٍ غَيْرِ زَمَنِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمٌ يَنْفَرِدُ بِهِ. فَإِنْ قَالَ فِي الْمُحَرَّمِ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك هَذَا الْعَامَ. ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا مِنْ رَجَبٍ إلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشْرَ شَهْرًا. أَوْ قَالَ فِي الْمُحَرَّمِ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. ثُمَّ قَالَ فِي رَجَبٍ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك عَامًا. فَهُمَا إيلَاءَانِ فِي مُدَّتَيْنِ، بَعْضُ إحْدَاهُمَا دَاخِلٌ فِي الْأُخْرَى. فَإِنْ فَاءَ فِي رَجَبٍ، أَوْ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَامِ الْأَوَّلِ، حَنِثَ فِي الْيَمِينَيْنِ، وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِيلَاءَيْنِ. وَإِنْ فَاءَ قَبْلَ رَجَبٍ، أَوْ بَعْدَ الْعَامِ الْأَوَّلِ، حَنِثَ فِي إحْدَى الْيَمِينَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى. وَإِنْ فَاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَنِثَ فِي الْيَمِينَيْنِ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 [فَصْلٌ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ] (6115) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ. انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ الْحِنْثُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ قُلْنَا: يَحْنَثُ. فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ حِنْثٍ، فَصَارَ مَانِعًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الْحَالِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، حَنِثَ، وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَزَالَ الْإِيلَاءُ مِنْ الْبَوَاقِي. وَإِنْ طَلُقَ بَعْضُهُنَّ أَوْ مَاتَ، لَمْ يَنْحَلَّ الْإِيلَاءُ فِي الْبَوَاقِي. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهُنَّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ وَطْءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ نَفْسَهُ بِيَمِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا. فَإِنْ وَطِئَ ثَلَاثًا، صَارَ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ فِي يَمِينِهِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ، أَوْ طَلَّقَهَا، انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَزَالَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْئِهِنَّ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوَطْءِ الْأَرْبَعِ. فَإِنْ رَاجَعَ الْمُطَلَّقَةَ، أَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا، عَادَ حُكْمُ يَمِينِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّا إذَا قُلْنَا: يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ. فَوَطِئَ وَاحِدَةً، حَنِثَ، وَلَمْ يَنْحَلَّ الْإِيلَاءُ فِي الْبَوَاقِي؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ مِنْ امْرَأَةٍ لَا يَنْحَلُّ بِوَطْءِ غَيْرِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ حَنِثَ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَنْحَلَّ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهُ إذَا وَطِئَ وَاحِدَةً حَنِثَ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِوَطْءِ الْبَاقِيَاتِ شَيْءٌ، فَلَمْ يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِنْ وَطْئِهِنَّ بِحُكْمِ يَمِينِهِ، فَانْحَلَّ الْإِيلَاءُ، كَمَا لَوْ كَفَّرَهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ حَتَّى يَطَأَ ثَلَاثًا، فَيَصِيرَ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ. وَحَكَى الْمُزَنِيّ، عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ، يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَإِذَا أَصَابَ بَعْضَهُنَّ، خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَيُوقَفُ لِمَنْ بَقِيَ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَطَأَ الْأَرْبَعَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ، فَإِنْ تَرَكَهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، بِنَّ مِنْهُ جَمِيعًا بِالْإِيلَاءِ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْضَهُنَّ، سَقَطَ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّهَا، وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِوَطْئِهِنَّ جَمِيعًا. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ لَا يَحْنَثُ بِوَطْئِهَا، لَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا، كَاَلَّتِي لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا] (6116) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْت وَاحِدَةً مِنْكُنَّ. وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهَا وَحْدَهَا، وَصَارَ مُولِيًا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مُبْهَمَةً مِنْهُنَّ، لَمْ يَصِرْ مُولِيًا مِنْهُنَّ فِي الْحَالِ، فَإِذَا وَطِئَ ثَلَاثًا، كَانَ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَخْرُجَ الْمُولَى مِنْهَا بِالْقُرْعَةِ، كَالطَّلَاقِ إذَا أَوْقَعَهُ فِي مُبْهَمَةٍ مِنْ نِسَائِهِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، صَارَ مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إلَّا بِالْحِنْثِ، فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، أَوْ مَاتَتْ، كَانَ مُولِيًا مِنْ الْبَوَاقِي. وَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، حَنِثَ وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ. وَسَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي الْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 فَإِذَا حَنِثَ فِيهَا مَرَّةً، لَمْ يَحْنَثْ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْيَمِينِ بَعْدَ حِنْثِهِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ مَاتَتْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، فَبَقِيَ حُكْمُ يَمِينِهِ فِي مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ، كَانَ الْإِيلَاءُ فِي وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ تَنَاوَلَ وَاحِدَةً مُنْكَرَةً، فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَلَنَا أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، كَقَوْلِهِ {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} [الجن: 3] . وَقَوْلِهِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وَقَوْلِهِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . وَلَوْ قَالَ إنْسَانٌ: وَاَللَّهِ لَا شَرِبْت مَاءً مِنْ إدَاوَةٍ. حَنِثَ بِالشُّرْبِ مِنْ أَيِّ إدَاوَةٍ كَانَتْ، فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي الْعُمُومِ. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ وَاحِدَةً مُعَيَّنَةً، أَوْ وَاحِدَةً مُبْهَمَةً. قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا غَيْرَ بَعِيدٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَبْهَمَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا بِقَوْلِهِ. وَأَصْلُ هَذَا مَذْكُورٌ فِي الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ] (6117) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ. صَارَ مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ فِي الْحَالِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: نَوَيْت وَاحِدَةً مِنْهُنَّ مُعَيَّنَةً، وَلَا مُبْهَمَةً؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ كُلِّ أَزَالَتْ احْتِمَالَ الْخُصُوصِ، وَمَتَى حَنِثَ فِي الْبَعْضِ، انْحَلَّ الْإِيلَاءُ فِي الْجَمِيعِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا تَنْحَلُّ فِي الْبَاقِيَاتِ. وَلَنَا أَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ حَنِثَ فِيهَا، فَسَقَطَ حُكْمُهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ إذَا حَنِثَ فِيهَا مَرَّةً، لَمْ يُمْكِنْ الْحِنْثُ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِنْ وَطْءِ الْبَاقِيَاتِ بِحُكْمِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَبْقَ الْإِيلَاءُ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ الَّتِي حَنِثَ فِيهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قُلْنَا بِكَوْنِهِ مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ إذَا طَالَبْنَ كُلُّهُنَّ بِالْفَيْئَةِ، وُقِفَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، وَإِنْ طَالَبْنَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُوقَفُ لِلْجَمِيعِ وَقْتَ مُطَالَبَةِ أُولَاهُنَّ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِيَةُ، يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِنْدَ مُطَالَبَتِهَا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِذَا وُقِفَ لِلْأُولَى، وَطَلَّقَهَا وَوُقِفَ لِلثَّانِيَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا، وُقِفَ لِلثَّالِثَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا، وُقِفَ لِلرَّابِعَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُنَّ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وَقْفِهِ لِلْأُخْرَى؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَنْحَلَّ، وَإِيلَاؤُهُ بَاقٍ؛ لِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهِنَّ. وَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُنَّ حِينَ وُقِفَ لَهَا، أَوْ قَبْلَهُ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي الْبَاقِيَاتِ، عَلَى مَا قُلْنَاهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، وَمَنْ وَافَقَهُ يُوقَفُ لِلْبَاقِيَاتِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ الَّتِي وُقِفَ لَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 [فَصْل قَالَ كُلَّمَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ] (6118) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَطِئْت وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِإِيلَا. فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ إيلَاءٌ. فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إلَّا بِطَلَاقِ ضَرَائِرِهَا، فَيُوقَفُ لَهُنَّ، فَإِنْ فَاءَ إلَى وَاحِدَةٍ، طَلَّقَ ضَرَائِرَهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، انْحَلَّ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَمْنُوعًا مِنْ وَطْئِهَا بِحُكْمِ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَرَاجَعَهُنَّ، بَقِيَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقّهنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ إلَّا بِطَلَاقِ ضَرَائِرِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ رَاجَعَ بَعْضَهُنَّ لِذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْمُدَّةَ تُسْتَأْنَفُ مِنْ حِينِ الرَّجْعَةِ. وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَعَادَ فَتَزَوَّجَهُنَّ، أَوْ تَزَوَّجَ بَعْضَهُنَّ، عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَاسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ النِّكَاحِ. وَسَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَإِصَابَةٍ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا. قُبِلَ مِنْهُ، وَتَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهَا، فَإِذَا وَطِئَهَا طَلَّقَ ضَرَائِرَهَا، وَإِنْ وَطِئَ غَيْرَهَا، لَمْ يُطَلَّقْ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَيَكُونُ مُولِيًا مِنْ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا الَّتِي يَلْزَمُهُ بِوَطْئِهَا الطَّلَاقُ دُونَ غَيْرِهَا. [فَصْلٌ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ] (6119) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك فِي الدُّبُرِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْوَطْءَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَلَا تَتَضَرَّرُ الْمَرْأَةُ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ أَكَّدَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك دُونَ الْفَرْجِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ فِي الْفَيْئَةِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي تَرْكِهِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا جَامَعْتُك إلَّا جِمَاعَ سَوْءٍ. سُئِلَ عَمَّا أَرَادَ فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْجِمَاعَ فِي الدُّبُرِ. فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَرَدْتُ أَنْ لَا أَطَأَهَا إلَّا دُونَ الْفَرْجِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ جِمَاعًا ضَعِيفًا، لَا يَزِيدُ عَلَى الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي الْفَيْئَةِ بِغَيْرِ حِنْثٍ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ وَطْئًا لَا يَبْلُغُ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ. فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي الْفَيْئَةِ بِغَيْرِ حِنْثٍ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ، فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا جَامَعْتُك جِمَاعَ سَوْءٍ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، إنَّمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ صِفَتِهِ الْمَكْرُوهَةِ. [فَصْلٌ كَوْنُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا فِي الْإِيلَاء امْرَأَةً] (6120) فَصْلٌ: الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا امْرَأَةً؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . وَلِأَنَّ غَيْرَ الزَّوْجَةِ لَا حَقَّ لَهَا فِي وَطْئِهِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا، كَالْأَجْنَبِيَّةِ. فَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 أَمَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ نَكَحَهَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِيرُ مُولِيًا إذَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ يَمِينِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ بِحُكْمِ يَمِينِهِ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ، فَكَانَ مُولِيًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ فِي الزَّوْجِيَّةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ إنْ مَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ، فَوَاَللَّهِ لَا قَرَبْتُهَا. صَارَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] . وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ كَالطَّلَاقِ وَالْقَسَمِ، وَلِأَنَّ الْمُدَّةَ تُضْرَبُ لَهُ لِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ بِهَا بِيَمِينِهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْيَمِينُ قَبْلَ النِّكَاحِ، لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِلْإِضْرَارِ، فَأَشْبَهَ الْمُمْتَنِعَ بِغَيْرِ يَمِينٍ. قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: يَصِحُّ الظِّهَارُ قَبْلَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ. فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَصِحُّ الْإِيلَاءُ قَبْلَ النِّكَاحِ. وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ آلَى مِنْ الرَّجْعِيَّةِ] (6121) فَصْلٌ: فَإِنْ آلَى مِنْ الرَّجْعِيَّةِ، صَحَّ إيلَاؤُهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ، أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقْطَعُ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إذَا طَرَأَ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّهَا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، فَصَحَّ إيلَاؤُهُ مِنْهَا، كَغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ. وَإِذَا آلَى مِنْهَا احْتَسَبَ بِالْمُدَّةِ مِنْ حِينِ آلَى، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنْ لَا يُحْتَسَبَ عَلَيْهِ بِالْمُدَّةِ إلَّا مِنْ حِينِ رَاجَعَهَا، لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ، فَأَشْبَهَتْ الْبَائِنَ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا طَرَأَ قَطَعَ الْمُدَّةَ، ثُمَّ لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ رَجْعَتِهَا، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَأْنِفَ الْمُدَّةَ فِي الْعِدَّةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ مَنْ صَحَّ إيلَاؤُهُ، اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِالْمُدَّةِ مِنْ حِينِ إيلَائِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُطَلَّقَةً، وَلِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ، فَاحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِالْمُدَّةِ فِيهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَفَارَقَ الْبَائِنَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنْهَا بِحَالٍ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّات. [فَصْلٌ مِمَّنْ يَصِحّ الْإِيلَاءُ] (6122) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ زَوْجَةٌ، فَصَحَّ الْإِيلَاءُ مِنْهَا كَالْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ. وَيَصِحُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 الْإِيلَاءُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: إنَّمَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ بِيَمِينِهِ، فَأَشْبَهَ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ. وَيَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنْ الْمَجْنُونَةِ وَالصَّغِيرَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ فِي الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْمُطَالَبَةِ. فَأَمَّا الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ، فَلَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مُتَعَذِّرٌ دَائِمًا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ عَلَى تَرْكِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَصْعَدُ السَّمَاءَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَتُضْرَبَ لَهُ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ بِسَبَبِ مِنْ جِهَتِهَا، فَهِيَ كَالْمَرِيضَةِ. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِيءَ فَيْئَةَ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ الْفَيْئَةَ بِالْوَطْءِ فِي حَقِّهَا مُتَعَذِّرَةٌ، فَلَا تُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَجْبُوبَ. (6123) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ عَلَى الْوَطْءِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَجِبُ بِمُخَالَفَتِهِ كَفَّارَةٌ أَوْ حَقٌّ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ مِنْهُمَا كَالنَّذْرِ. وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْوَطْءِ، فَإِنْ كَانَ لِعَارِضٍ مَرْجُوٍّ زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ وَالْحَبْسِ، صَحَّ إيلَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ، فَصَحَّ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ كَالْجُبِّ وَالشَّلَلِ، لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى تَرْكِ مُسْتَحِيلٍ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْلِبَ الْحِجَارَةَ ذَهَبًا، وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ الْيَمِينُ الْمَانِعَةُ مِنْ الْوَطْءِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ يَمِينُهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَذَّرٌ مِنْهُ، وَلَا تَضُرُّ الْمَرْأَةَ يَمِينُهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ الْإِيلَاءُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الْعَاجِزِ بِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْخَصِيُّ الَّذِي سُلَّتْ بَيْضَتَاهُ، أَوْ رُضَّتْ، فَيُمْكِنُ مِنْهُ الْوَطْءُ، وَيُنْزِلُ مَاءً رَقِيقًا فَيَصِحُّ إيلَاؤُهُ. وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي بَقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ. [فَصْلٌ إيلَاءُ الذِّمِّيّ] (6124) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ إذَا تَقَاضَوْا إلَيْنَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَإِنْ أَسْلَمَ، لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ إيلَائِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَسْلَمَ، سَقَطَ حُكْمُ يَمِينِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا جَامَعَ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . وَلِأَنَّهُ مَانِعٌ نَفْسَهُ بِالْيَمِينِ مِنْ جِمَاعِهَا، فَكَانَ مُولِيًا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ، صَحَّ إيلَاؤُهُ، كَالْمُسْلِمِ، وَمَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، صَحَّ إيلَاؤُهُ كَالْمُسْلِمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 [فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِيلَاءِ الْغَضَبُ وَلَا قَصْدُ الْإِضْرَارِ] (6125) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِيلَاءِ الْغَضَبُ، وَلَا قَصْدُ الْإِضْرَارِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيَّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ فِي إصْلَاحٍ إيلَاءٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إنَّمَا الْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: مَنْ حَلَفَ لَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ حَتَّى تَفْطِمَ وَلَدَهُ، لَا يَكُونُ إيلَاءً، إذَا أَرَادَ الْإِصْلَاحَ لِوَلَدِهِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ، مَانِعٌ نَفْسَهُ عَنْ جِمَاعِهَا بِيَمِينِهِ فَكَانَ مُولِيًا، كَحَالِ الْغَضَبِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ يَثْبُتُ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ سَوَاءٌ قَصَدَ الْإِضْرَارَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، كَاسْتِيفَاءِ دُيُونِهَا، وَإِتْلَافِ مَالِهَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ وَسَائِرَ الْأَيْمَانِ سَوَاءٌ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، فَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ فِي الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، فَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى تَفْطِمَ وَلَدَهُ، فَإِنْ أَرَادَ وَقْتَ الْفِطَامِ، وَكَانَتْ مُدَّتُهُ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ أَرَادَ فِعْلَ الْفِطَامِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَلَا فِيهِ تَفْوِيتُ حَقٍّ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَطَأهَا حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ. [فَصْل الْأَلْفَاظ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُولِيًا] (6126) فَصْلٌ: فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُولِيًا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ لَا آتِيك، وَلَا أُدْخِلُ، وَلَا أُغَيِّبُ أَوْ أُولِجُ ذَكَرِي فِي فَرْجِكِ. وَلَا افْتَضَضْتُك. لِلْبِكْرِ خَاصَّةً، فَهَذِهِ صَرِيحَةٌ، وَلَا يُدَيَّنْ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِيلَاءِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ عَشَرَةُ أَلْفَاظٍ: لَا وَطِئْتُك، وَلَا جَامَعْتُك، وَلَا أَصَبْتُك، وَلَا بَاشَرْتُك، وَلَا مَسِسْتُك، وَلَا قَرَبْتُك، وَلَا أَتَيْتُك، وَلَا بَاضَعْتُكِ، وَلَا بَاعَلْتُكِ، وَلَا اغْتَسَلْتُ مِنْك. فَهَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ فِي الْوَطْءِ. وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِبَعْضِهَا فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] . وَقَالَ {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَقَالَ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 وَأَمَّا الْجِمَاعُ وَالْوَطْءُ، فَهُمَا أَشْهَرُ الْأَلْفَاظِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْوَطْءِ الْوَطْءَ بِالْقَدَمِ، وَبِالْجِمَاعِ اجْتِمَاعَ الْأَجْسَامِ، وَبِالْإِصَابَةِ الْإِصَابَةَ بِالْيَدِ. دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالْعُرْفِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا عَدَا الْوَطْءَ وَالْجِمَاعَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ. وَقَالَ فِي: لَا بَاضَعْتُكِ: لَيس بِصَرِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْتِقَاءِ الْبَضْعَتَيْنِ، الْبَضْعَةُ مِنْ الْبَدَنِ بِالْبَضْعَةِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» . وَلَنَا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَطْءِ عُرْفًا، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَكَانَ صَرِيحًا، كَلَفْظِ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ، وَكَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ يَبْطُلُ بِلَفْظَةِ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَارَقْتُك، وَسَرَّحْتُك. فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ، مَعَ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَاضَعْتُكِ. فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَضْعِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ فِي غَيْرِ الْوَطْءِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَا لَا يَكُونُ إيلَاءً إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ، مِمَّا يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَكِ شَيْءٌ. لَا سَاقَفَ رَأْسِي رَأْسَك. لَأَسُوأَنَّكِ. لَأَغِيظَنَّكِ. لَتَطُولَنَّ غَيْبَتِي عَنْكِ. لَا مَسَّ جِلْدِي جِلْدَكِ. لَا قَرَبْتُ فِرَاشَك. لَا آوَيْتُ مَعَك. لَا نِمْتُ عِنْدَك. فَهَذِهِ إنْ أَرَادَ بِهَا الْجِمَاعَ، وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، كَانَ مُولِيًا، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ ظَاهِرَةً فِي الْجِمَاعِ، كَظُهُورِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَمْ يَرِدْ النَّصُّ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى مَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى نِيَّةِ الْجِمَاعِ وَالْمُدَّةِ مَعًا، وَهِيَ قَوْلُهُ: لَأَسُوأَنَّكِ، وَلَأَغِيظَنَّكِ، وَلَتَطُولَنَّ غَيْبَتِي عَنْك. فَلَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَنْوِيَ تَرْكَ الْجِمَاعِ فِي مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ غَيْظَهَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، وَفِي سَائِرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَكُونُ مُولِيًا بِنِيَّةِ الْجِمَاعِ فَقَطْ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَطُولَنَّ تَرْكِي لَجِمَاعِك، أَوْ لِوَطْئَتِكِ، أَوْ لِإِصَابَتِكِ. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَرْكِ الْجِمَاعِ، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُدَّةِ دُونَ نِيَّةِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا جَامَعْتُك إلَّا جِمَاعًا ضَعِيفًا. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جِمَاعًا لَا يَبْلُغُ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخَلْتُ جَمِيعَ ذَكَرِي فِي فَرْجِك. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْفَيْئَةُ، يَحْصُلُ بِدُونِ إيلَاجِ جَمِيعِ الذَّكَرِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَوْلَجْتُ حَشَفَتِي فِي فَرْجِك. كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْفَيْئَةَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ. [فَصْل قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى أَشْرَكْتُك مَعَهَا] (6127) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: أَشْرَكْتُك مَعَهَا. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا مِنْ الثَّانِيَةِ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظِ صَرِيحٍ مِنْ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، وَالتَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا كِنَايَةٌ، فَلَمْ تَصِحَّ بِهِ الْيَمِينُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: أَشْرَكْتُك مَعَهَا. وَنَوَى، فَقَدْ صَارَ طَلَاقُ الثَّانِيَةِ مُعَلَّقًا عَلَى وَطْئِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ إيلَاءٌ فِي الْأُولَى. صَارَ إيلَاءً فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي مَعْنَاهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى رَجُلٌ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَقَالَ آخَرُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ مِثْلُ فُلَانَةَ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ مُولٍ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَسَمِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُشْبِهَا بِهَا. [فَصْل الْإِيلَاءُ بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْ الْعَجَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ] (6128) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْإِيلَاءُ بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْ الْعَجَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا، مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَمِمَّنْ لَا يُحْسِنُهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ. وَالْمُولِي هُوَ الْحَالِفُ بِاَللَّهِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ، الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ آلَى بِالْعَجَمِيَّةِ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا، وَهُوَ لَا يَدْرِي مَعْنَاهَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنْ نَوَى مُوجِبَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا آلَى بِالْعَرَبِيَّةِ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَصْدُ الْإِيلَاءِ بِلَفْظٍ لَا يَدْرِي مَعْنَاهُ. فَإِنْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِغَيْرِ لِسَانِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِهَا. فَأَمَّا إنْ آلَى الْعَرَبِيُّ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: جَرَى عَلَى لِسَانِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. أَوْ قَالَ ذَلِكَ الْعَجَمِيُّ فِي إيلَائِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ، لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. [فَصْلٌ مُدَّةُ الْإِيلَاء فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ] (6129) فَصْلٌ: وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَالصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ مُدَّةَ إيلَاءِ الْعَبِيدِ شَهْرَانِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَوْلُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى النِّصْفِ فِي الطَّلَاقِ، وَعَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ، فَكَذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: إيلَاؤُهُ مِنْ الْأَمَةِ شَهْرَانِ، وَمِنْ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إيلَاءُ الْأَمَةِ نِصْفُ إيلَاءِ الْحُرَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ عِنْدَهُ، فَاخْتُلِفَ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَثْبُتُ ابْتِدَاؤُهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ وَحُرِّيَّتِهَا، كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ. وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِلْوَطْءِ، فَاسْتَوَى فِيهَا الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ، كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ تَتَعَلَّقُ بِهَا، ثُمَّ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمُدَّةِ الْعُنَّةِ، وَيُخَالِفُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَحْصُلُ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا مُدَّةُ الْإِيلَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْحُرَّةِ أَكْثَرُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَقَدَّمَ مُطَالَبَتُهَا مُطَالَبَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 الْأَمَةِ، وَالْحَقُّ عَلَى الْحُرِّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ - أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى الْعَبْدِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي مُطَالَبَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَرَافِعَته أُمِرَ بِالْفَيْئَةِ] (6130) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَرَافَعَتْهُ، أُمِرَ بِالْفَيْئَةِ، وَالْفَيْئَةُ الْجِمَاعُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلَى يَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، كَمَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُطَالَبُ فِيهِنَّ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَرَافَعَتْهُ امْرَأَتُهُ إلَى الْحَاكِمِ، وَقَفَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْفَيْئَةِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ بِنَفْسِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْإِيلَاءِ: يُوقَفُ، عَنْ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عَنْ عُمَرَ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ وَجَعَلَ يُثْبِتُ حَدِيثَ عَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: كَانَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوقِفُونَ فِي الْإِيلَاءِ. وَقَالَ سُهَيْلُ بْن أَبِي صَالِحٍ: سَأَلْت اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، حَتَّى يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ، وَإِلَّا طَلَّقَ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَمَسْرُوقٌ، وَقَبِيصَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيَّ، تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] . وَلِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِاسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ مِنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] . وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَيْئَةَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِذِكْرِهِ الْفَيْئَةَ بَعْدَهَا بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ، ثُمَّ قَالَ {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] . وَلَوْ وَقَعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى عَزْمٍ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ مَسْمُوعٌ، وَلَا يَكُونُ الْمَسْمُوعُ إلَّا كَلَامًا، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لَهُ تَأْجِيلًا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا، كَسَائِرِ الْآجَالِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا إيقَاعٌ، فَلَا يَتَقَدَّمُهَا وُقُوعٌ، كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ. وَمُدَّةُ الْعُنَّةِ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِمُضِيِّهَا، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْعُنَّةِ ضُرِبَتْ لَهُ لِيُخْتَبَرَ فِيهَا، وَيُعْرَفَ عَجْزُهُ عَنْ الْوَطْءِ بِتَرْكِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 فِي مُدَّتِهَا، وَهَذِهِ ضُرِبَتْ تَأْخِيرًا لَهُ وَتَأْجِيلًا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ إلَّا بَعْدَ مُضِيَّ الْأَجَلِ، كَالدَّيْنِ. [فَصْل ابْتِدَاءُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ] (6131) فَصْلٌ: وَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْيَمِينِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى ضَرْبٍ، كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ. وَلَا يُطَالَبُ بِالْوَطْءِ فِيهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ وَطِئَهَا فِيهَا فَقَدْ عَجَّلَ حَقَّهَا قَبْلَ مَحِلَّهُ، وَخَرَجَ مِنْ الْإِيلَاءِ، كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ دَفَعَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ. وَهَكَذَا إنْ وَطِئَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ أَوْ بَعْدَهَا، خَرَجَ مِنْ الْإِيلَاءِ. وَسَوَاءٌ وَطِئَهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ، أَوْ يَقْظَانَةُ أَوْ نَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَطِئَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ، لَمْ يَحْنَثْ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْنَثُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَالْقَلَمُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَيَخْرُجُ بِوَطْئِهِ عَنْ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّاهَا حَقَّهَا، وَحَصَلَ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يَحْصُلُ مِنْ الْعَاقِلِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ. ذَكَرَ هَذَا ابْنُ حَامِدٍ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيَّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى مُولِيًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا وَطِئَ بَعْدَ إفَاقَتِهِ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ الْأَوَّلَ مَا حَنِثَ بِهِ، وَإِذَا بَقِيَتْ يَمِينُهُ، بَقِيَ الْإِيلَاءُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطَأْ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَهُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ وَطِئَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَالَبَ بِالْفَيْئَةِ مَعَ وُجُودِهَا مِنْهُ، وَلَا يُطَلَّقُ عَلَيْهِ؛ لِانْتِفَائِهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ، وَلَكِنْ تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ لِبَقَاءِ حُكْمِ يَمِينِهِ. وَقِيلَ: تُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ إذَا عَقَلَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ بِحُكْمِ يَمِينِهِ. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: قَدْ وَفَّاهَا حَقَّهَا، فَلَمْ يَبْقَ الْإِيلَاءُ، كَمَا لَوْ حَنِثَ، وَلَا يَمْتَنِعُ انْتِفَاءُ الْإِيلَاءِ مَعَ الْيَمِينِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ أَجْنَبِيَّةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. [فَصْلٌ وَطِئَ الْعَاقِلُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ] (6132) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ الْعَاقِلُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَحْنَثُ. انْحَلَّ إيلَاؤُهُ، وَذَهَبَتْ يَمِينُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ. فَهَلْ يَنْحَلُّ إيلَاؤُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَجْنُونِ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِيمَا إذَا آلَى مِنْ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، فَظَنَّهَا الْأُخْرَى، فَوَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِهَا، وَالْجَاهِلُ كَالنَّاسِي فِي الْحِنْثِ. وَكَذَلِكَ إنْ ظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً فَبَانَتْ زَوْجَتَهُ. وَإِنْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. وَهَلْ يَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَخْرُجُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَصَلَتْ إلَى حَقِّهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 وَالثَّانِي، لَا يَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَفَّاهَا حَقَّهَا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ بِحُكْمِ الْيَمِينِ، فَكَانَ مُولِيًا، كَمَا لَوْ لَمْ يُفْعَلْ بِهِ ذَلِكَ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا وَطِئَ وَهُوَ نَائِمٌ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَث بِهِ. [فَصْلٌ وَطِئَهَا وَطْئًا مُحَرَّمًا] (6133) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَهَا وَطْئًا مُحَرَّمًا، مِثْلُ أَنْ وَطِئَهَا حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ مُحْرِمَةً، أَوْ صَائِمَةً صَوْمَ فَرْضٍ، أَوْ كَانَ مُحْرِمًا، أَوْ صَائِمًا، أَوْ مُظَاهِرًا، حَنِثَ، وَخَرَجَ مِنْ الْإِيلَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي الْفَيْئَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الْإِيلَاءِ، كَالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْحَلَّتْ، وَلَمْ يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْوَطْءِ بِحُكْمِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَبْقَ الْإِيلَاءُ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا مَرِيضَةً. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي مِنْ حَلَفَ، ثُمَّ كَفَّرَ يَمِينَهُ؛ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مُولِيًا، لِعَدَمِ حُكْمِ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّهُ مَا وَفَّاهَا حَقَّهَا، فَلَأَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ الْيَمِينِ بِحِنْثِهِ فِيهَا أَوْلَى. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُحْرِمِ وَالْمُظَاهِرِ، أَنَّهُمَا إذَا وَطِئَا فَقَدْ وَفَّيَاهَا حَقَّهَا. وَفَارَقَ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ، وَلَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَطْءِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ آلَى مِنْهَا وَثَمَّ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ] (6134) فَصْلٌ: وَإِذَا آلَى مِنْهَا، وَثَمَّ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، كَمَرَضِهِ، أَوْ حَبْسِهِ، أَوْ إحْرَامِهِ، أَوْ صِيَامِهِ، حُسِبَتْ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ إيلَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّمْكِينُ الَّذِي عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَكَانَ مُمْتَنِعًا لِعُذْرٍ، وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ. وَإِنْ طَرَأَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، أَوْ جُنَّ، لَمْ تَنْقَطِعْ الْمُدَّةُ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهَا، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ حَيْضًا، لَمْ يَمْنَعْ ضَرْبُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ لَمْ يُمْكِنْ ضَرْبُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي الْغَالِبِ لَا يَخْلُو مِنْهُ شَهْرٌ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ، لَمْ يَقْطَعْ الْمُدَّةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَفِي النِّفَاسِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هُوَ كَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ أَحْكَامُ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي، هُوَ كَسَائِرِ الْأَعْذَارِ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَعْذَارِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْذَارِ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا؛ كَصِغَرِهَا وَمَرَضِهَا، وَحَبْسِهَا، وَإِحْرَامِهَا، وَصِيَامِهَا وَاعْتِكَافِهَا الْمَفْرُوضَيْنِ، وَنُشُوزِهَا، وَغَيْبَتِهَا، فَمَتَى وُجِدَ مِنْهَا شَيْءٌ حَالَ الْإِيلَاءِ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ الْمُدَّةُ حَتَّى يَزُولَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ تُضْرَبُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ وَطْئِهَا، وَالْمَنْعُ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِهَا. وَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، اُسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَبْنِ عَلَى مَا مَضَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] يَقْتَضِي مُتَوَالِيَةً. فَإِذَا قَطَعَتْهَا، وَجَبَ اسْتِئْنَافُهَا، كَمُدَّةِ الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 وَإِنْ حَنِثَ وَهَرَبَتْ مِنْ يَدِهِ، انْقَطَعَتْ الْمُدَّةُ. وَإِنْ بَقِيَتْ فِي يَدِهِ وَأَمْكَنَهُ وَطْؤُهَا، اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مِنْهَا مَا لَا صُنْعَ لَهَا فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْطَعَ الْمُدَّةُ، كَالْحَيْضِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ الْمَنْعُ لِمَعْنًى فِيهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ بِفِعْلِهَا، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهَا. كَمَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَإِنْ آلَى فِي الرِّدَّةِ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ الْمُدَّةُ إلَّا مِنْ حِينِ رُجُوعِ الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ. وَإِنْ طَرَأَتْ الرِّدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، انْقَطَعْت؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَشَعَّثَ وَحَرُمَ الْوَطْءُ، فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، اُسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، أَوْ خَالَعَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاء] (6135) فَصْلٌ: وَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْئَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. فَإِنْ طَالَبَتْهُ، فَطَلَبَ الْإِمْهَالَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، لَمْ يُمْهَلْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ، لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ، فَلَمْ يُمْهَلْ بِهِ، كَالدَّيْنِ الْحَالِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمُدَّة أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ قَدْرَ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجِمَاعِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَطْءُ فِي مَجْلِسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِمْهَالٍ. فَإِنْ قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى آكُلَ فَإِنِّي جَائِعٌ، أَوْ حَتَّى يَنْهَضِمَ الطَّعَامُ فَإِنِّي كَظِيظٌ. أَوْ أُصَلِّيَ الْفَرْضَ، أَوْ أُفْطِرَ مِنْ صَوْمِي. أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يُجَامِعُ فِي مِثْلِهَا فِي الْعَادَةِ. وَكَذَلِكَ يُمْهَلُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْئَةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْوَطْءَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْفَيْئَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى حَالِ زَوَالِ الْعُذْرِ، إنْ لَمْ يَكُنْ الْعُذْرُ قَاطِعًا لِلْمُدَّةِ كَالْحَيْضِ، أَوْ كَانَ الْعُذْرُ حَدَثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. [فَصْل عَفَتْ الزَّوْجَة عَنْ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا الْإِيلَاء] (6136) فَصْلٌ: فَإِنْ عَفَتْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَسْقُطُ حَقُّهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ الْفَسْخِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ، فَسَقَطَ حَقُّهَا مِنْهُ، كَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ إذَا رَضِيَتْ بِعُنَّتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهَا، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ مَتَى شَاءَتْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِرَفْعِ الضَّرَرِ بِتَرْكِ مَا يَتَجَدَّدُ مَعَ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ لَهَا الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ، فَعَفَتْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَسْخِ، ثُمَّ طَالَبَتْ، وَفَارَقَ الْفَسْخَ لِلْعُنَّةِ؛ فَإِنَّهُ فَسْخٌ لِعَيْبِهِ، فَمَتَى رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ، سَقَطَ حَقُّهَا، كَمَا لَوْ عَفَا الْمُشْتَرِي عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 عَيْبِ الْمَبِيعِ، وَإِنْ سَكَتَتْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ، ثُمَّ طَالَبَتْ بَعْدُ، فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا يَثْبُتُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، كَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ. [فَصْلٌ الْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ الِاسْتِيلَاء] (6137) فَصْلٌ: وَالْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ، سَوَاءٌ عَفَا السَّيِّدُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، حَيْثُ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ يَحْصُلُ لَهَا. فَإِنْ تَرَكَتْ الْمُطَالَبَةَ، لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهَا الطَّلَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: حَقُّهُ فِي الْوَلَدِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْعَزْلُ عَنْهَا إلَّا بِإِذْنِهِ. قُلْنَا: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الزَّوْجِ اسْتِيلَادُ الْمَرْأَةِ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لِيَعْزِلَنَّ عَنْهَا أَوْ لَا يَسْتَوْلِدُهَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَلَوْ أَنَّ الْمُولِيَ وَطِئَ بِحَيْثُ يُوجَدُ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، حَصَلَتْ الْفَيْئَةُ، وَزَالَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَإِنَّمَا اُسْتُؤْذِنَ السَّيِّدُ فِي الْعَزْلِ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْأَمَةِ، فَرُبَّمَا نَقَصَ قِيمَتَهَا. [فَصْل كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً فِي الْإِيلَاء] (6138) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً، أَوْ مَجْنُونَةً، فَلَيْسَ لَهُمَا الْمُطَالَبَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِمَا الْمُطَالَبَةُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقَهُ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُمَا مَقَامَهُمَا فِيهِ. فَإِنْ كَانَتَا مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهُمَا، لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِالْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جِهَتِهِمَا. وَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُمَا مُمْكِنًا. فَإِنْ أَفَاقَتْ الْمَجْنُونَةُ، أَوْ بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، تَمَّمَتْ الْمُدَّةَ، ثُمَّ لَهَا الْمُطَالَبَةُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَهُمَا الْمُطَالَبَةُ يَوْمئِذٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُطَالَبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُضْرَبُ الْمُدَّةُ فِي الصَّغِيرَةِ حَتَّى تَبْلُغَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُضْرَبُ الْمُدَّةُ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ الْوَطْءُ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ الْوَطْءُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَاءَ بِلِسَانِهِ، وَإِلَّا بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ فِي النَّاشِزِ، وَالرَّتْقَاءِ، وَالْقَرْنَاءُ، وَاَلَّتِي غَابَتْ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا إيلَاءٌ صَحِيحٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَقَّبَهُ الْمُدَّةُ، كَالَّتِي يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا. وَلَنَا أَنَّ حَقَّهَا مِنْ الْوَطْءِ يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ جِمَاعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لَهُ، كَمَا يَسْقُطُ أَجَلُ الدَّيْنِ بِسُقُوطِهِ. وَأَمَّا الَّتِي أَمْكَنَهُ جِمَاعُهَا، فَتُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ إيلَاءٌ صَحِيحٌ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا، فَتُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ كَالْبَالِغَةِ، وَمَتَى قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا بِتَرْكِ الْوَطْءِ أَثِمَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِمَّا أَنْ تَفِيئَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وَقَالَ تَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَلَيْسَ الْإِضْرَارُ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ. [مَسْأَلَة الْفَيْئَةُ مِنْ الْمُولِي] (6139) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالْفَيْئَةُ: الْجِمَاعُ) لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ الْجِمَاعُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. وَأَصْلُ الْفَيْءِ الرُّجُوعُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ، فَسُمِّيَ الْجِمَاعُ مِنْ الْمُولِي فَيْئَةً؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى فِعْلِ مَا تَرَكَهُ. وَأَدْنَى الْوَطْءِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْئَةُ، أَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ؛ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ. وَلَوْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، لَمْ يَكُنْ فَيْئَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْلُوفٍ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا يَزُولُ الضَّرَرُ بِفِعْلِهِ. [فَصْلٌ إذَا فَاءَ فِي الْإِيلَاء] (6140) فَصْلٌ: وَإِذَا فَاءَ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] . قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا خَالَفَ النَّاسَ. يَعْنِي قَوْلَ الْحَسَنِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ حَالِفٌ حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ فَرِيضَةٍ ثُمَّ فَعَلَهَا، وَالْمَغْفِرَةُ لَا تُنَافِي الْكَفَّارَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ: «إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْإِيلَاءُ بِتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ] (6141) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ بِتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، وَقَعَ بِنَفْسِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ. وَإِنْ كَانَ عَلَى نَذْرٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ أَوْ الْمُبَاحَاتِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْن الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ لَجَاجٍ وَغَضَبٍ، فَهَذَا حُكْمُهُ. وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ بِوَطْئِهَا، لَمْ يُؤْمَرْ بِالْفَيْئَةِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 وَأُمِرَ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِكَوْنِهَا تَبِينُ مِنْهُ بِإِيلَاجِ الْحَشَفَةِ، فَيَصِيرُ مُسْتَمْتِعًا بِأَجْنَبِيَّةٍ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: تَجُوزُ الْفَيْئَةُ؛ لِأَنَّ النَّزْعَ تَرْكٌ لِلْوَطْءِ، وَتَرْكُ الْوَطْءِ لَيْسَ بِوَطْءٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ، كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُهُ؛ لَوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ آخِرَ الْوَطْءِ حَصَلَ فِي أَجْنَبِيَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَا؛ فَإِنَّ النَّزْعَ يُلْتَذُّ بِهِ كَمَا يُلْتَذُّ بِالْإِيلَاجِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْوَطْءِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ، فَنَزَعَ: أَنَّهُ يُفْطِرُ. وَالتَّحْرِيمُ هَاهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ بِالْوَطْءِ. وَيُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنِ النَّزْعِ وَطْئًا، وَالْمُحَرَّمُ هَاهُنَا الِاسْتِمْتَاعُ، وَالنَّزْعُ اسْتِمْتَاعٌ، فَكَانَ مُحَرَّمًا، وَلِأَنَّ لَمْسَهَا عَلَى وَجْهِ التَّلَذُّذِ بِهَا مُحَرَّمٌ، فَلَمْسُ الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ ضَرُورَةَ تَرْكِ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ. قُلْنَا: فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ الْوَطْءُ إلَّا بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ حَرُمَ ضَرُورَةَ تَرْكِ الْحَرَامِ. كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ بِلَحْمٍ مُبَاحٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَكْلُهُ إلَّا بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، حَرُمَ، وَلَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، أَوْ امْرَأَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةِ، حَرُمَ الْكُلُّ. الْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهُ بِالْوَطْءِ يَحْصُلُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، وَكَمَا يَحْرُمُ إيقَاعُهُ بِلِسَانِهِ، يَحْرُمُ تَحْقِيقُ سَبَبِهِ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ جَمْعُ الثَّلَاثِ، فَإِنْ وَطِئَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ حِينَ يُولِجُ الْحَشَفَةَ، وَلَا يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَلْبَثَ وَلَا يَتَحَرَّكَ عِنْدَ النَّزْعِ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا حَدَّ وَلَا مَهْرَ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْوَطْءِ، وَإِنْ لَبِثَ أَوْ تَمَّمَ الْإِيلَاجَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ وَطْئًا بَعْضُهُ فِي زَوْجَتِهِ، وَفِي الْمَهْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ فِي مَحِلٍّ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَأَوْجَبَ الْمَهْرَ، كَمَا لَوْ أَوْلَجَ بَعْدَ النَّزْعِ. وَالثَّانِي - لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ تَابَعَ الْإِيلَاجَ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ، فَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ. وَإِنْ نَزَعَ، ثُمَّ أَوْلَجَ، وَكَانَا جَاهِلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لَهَا، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ. وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إيلَاجٌ فِي أَجْنَبِيَّةٍ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ وَطِئَهَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مُطَاوِعَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَلَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِنَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا، أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاس، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعَالِمَيْنِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مُحَرِّمٌ لِلْمَرْأَةِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا، وَالْآخَرُ جَاهِلًا، نُظِرَتْ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 الْمَهْرُ، وَلَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ زَانٍ مَحْدُودٌ. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْعَالِمَةَ دُونَهُ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَحْدَهَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَالنَّسَبُ لَاحِقٌ بِالزَّوْجِ، لِأَنَّ وَطْأَهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ. [فَصْل قَالَ إنَّ وَطِئْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي] (6142) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا. وَإِذَا وَطِئَ هَاهُنَا، فَقَدْ صَارَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ، وَزَالَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ، إذَا وَطِئَهَا مَرَّةً، فَلَا يَطَأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِكَوْنِهِ صَارَ بِالْوَطْءِ مُظَاهِرًا، إذْ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ. وَلَوْ كَفَّرَ قَبْلَ الظِّهَارِ لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ، قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ، فِي مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنَّ قَرُبْتُك إلَى سَنَةٍ. قَالَ: إنْ جَاءَتْ تَطْلُبُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، يُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ. فَإِنْ وَطِئَهَا، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ أَبَى، وَأَرَادَتْ مُفَارَقَتَهُ، طَلَّقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. فَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَ الْوَطْءِ الَّذِي صَارَ بِهِ مُظَاهِرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَتَكُونُ الرِّوَايَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ إحْرَامٍ أَوْ شَيْءٍ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجِمَاعُ الْمُظَاهِرِ] (6143) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (أَوْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ إحْرَامٍ، أَوْ شَيْءٍ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجِمَاعُ، فَيَقُولُ: مَتَى قَدَرْت جَامَعْتهَا. فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فَيْئَةً لِلْعُذْرِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَبِالْمُولِي عُذْرٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ حَبْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ، فَيَقُولَ: مَتَى قَدَرْت جَامَعْتُهَا. وَنَحْوَ هَذَا. وَمِمَّنْ قَالَ: يَفِيءُ بِلِسَانِهِ إذَا كَانَ ذَا عُذْرٍ. ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ الْفَيْءُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، فِي حَالِ الْعُذْر وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ، لَمْ يُوقَفْ حَتَّى يَصِحَّ، أَوْ يَصِلَ إنْ كَانَ غَائِبًا، وَلَا تَلْزَمُهُ الْفَيْئَةُ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِتَرْكِ الْوَطْءِ لَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ نَدِمْت عَلَى مَا فَعَلْت، إنْ قَدَرْت وَطِئْت. وَلَنَا أَنَّ الْقَصْدَ بِالْفَيْئَةِ تَرْكُ مَا قَصَدَهُ مِنْ الْإِضْرَارِ، وَقَدْ تَرَكَ قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الِاعْتِذَارِ، وَالْقَوْلُ مَعَ الْعُذْرِ يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ الْقَادِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إشْهَادَ الشَّفِيعِ عَلَى الطَّلَبِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ طَلَبِهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 يَقُومُ مَقَامَ طَلَبِهَا فِي الْحُضُورِ فِي إثْبَاتِهَا. وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: نَدِمْتُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنْ يُظْهِرَ رُجُوعَهُ عَنْ الْمُقَامِ عَلَى الْيَمِينِ، وَقَدْ حَصَلَ بِظُهُورِ عَزْمِهِ عَلَيْهِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّ فَيْئَةَ الْمَعْذُورِ أَنْ يَقُولَ: فِئْتُ إلَيْك. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " مِثْلُ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ وَعْدَهُ بِالْفِعْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ قَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الِاعْتِذَارِ، وَإِخْبَارٌ بِإِزَالَتِهِ لِلضَّرَرِ عِنْدَ إمْكَانِهِ، وَلَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: فِئْتُ إلَيْك شَيْءٌ مِنْ هَذَا. فَأَمَّا الْعَاجِزُ لِجُبٍّ أَوْ شَلَلٍ، فَفَيْئَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَوْ قَدَرْت لَجَامَعْتُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ مَا حَصَلَ بِإِيلَائِهِ. [فَصْلٌ الْمُظَاهِرُ لَا يُمْهِل وَيُؤْمَرُ بِالطَّلَاقِ] (6144) فَصْلٌ: وَالْإِحْرَامُ كَالْمَرَضِ فِي ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ الِاعْتِكَافُ الْمَنْذُورُ وَالظِّهَارُ. وَذَكَر أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمُظَاهِرَ لَا يُمْهَلُ، وَيُؤْمَرُ بِالطَّلَاقِ. فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ عُذْرٍ مِنْ فِعْلِهِ يَمْنَعُهُ الْوَطْءَ لَا يُمْهَلُ مِنْ أَجْلِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِسَبَبِ مِنْهُ، فَلَا يُسْقِطُ حُكْمًا وَاجِبًا عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالطَّلَاقِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَطْءِ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ. فَأَمَّا الْمُظَاهِرُ، فَيُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تُكَفِّرَ وَتَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ. فَإِنْ قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَطْلُبَ رَقَبَةً، أَوْ أُطْعِمَ. فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْمُدَافَعَةَ وَالتَّأْخِيرَ، لَمْ يُمْهَلْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ حَالٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يُمْهَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ فَرْضُهُ الصِّيَامَ، فَطَلَبَ الْإِمْهَالَ لِيَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، لَمْ يُمْهَلْ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْئَةَ الْمَعْذُورِ، وَيُمْهَلَ حَتَّى يَصُومَ، كَقَوْلِنَا فِي الْمُحْرِمِ. فَإِنْ وَطِئَهَا فَقَدْ عَصَى، وَانْحَلَّ إيلَاؤُهُ. وَلَهَا مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ سَقَطَ حَقُّهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ، وَقَدْ بَذَلَهُ لَهَا، وَمَتَى وَطِئَهَا فَقَدْ وَفَّاهَا حَقَّهَا، وَالتَّحْرِيمُ عَلَيْهِ دُونَهَا. وَلَنَا أَنَّهُ وَطْءٌ حَرَامٌ، فَلَا يَلْزَمُ التَّمْكِينُ مِنْهُ، كَالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَهَذَا يَنْقُضُ دَلِيلَهُمْ. وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ دُونَهَا؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ مَتَى حَرُمَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَرُمَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِكَوْنِهِ فِعْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ جَازَ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ، لَاخْتَصَّتْ الْمَرْأَةُ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَإِحْرَامِهَا وَصِيَامِهَا؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِسَبَبِهِ. [فَصْل انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاء وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ] (6145) فَصْلٌ: وَإِنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ، طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 يَفْعَلْ، أُمِرَ بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهِ، أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا، أُمِرَ بِفَيْئَةِ الْمَعْذُورِ. وَإِنْ انْقَضَتْ وَهُوَ غَائِبٌ، وَالطَّرِيقُ آمِنٌ، فَلَهَا أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يُطَالِبُهُ بِالْمَسِيرِ إلَيْهَا، أَوْ حَمْلِهَا إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أُخِذَ بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا، أَوْ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ، فَاءَ فَيْئَةَ الْمَعْذُورِ. [فَصْلٌ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونِ أَوْ إغْمَاءٍ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاء] (6146) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ لَمْ يُطَالَبْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْجَوَابُ، وَتَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى حَالِ الْقُدْرَةِ، وَزَوَالِ الْعُذْرِ، ثُمَّ يُطَالَبُ حِينَئِذٍ. وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا، وَقُلْنَا: يَصِحُّ إيلَاؤُهُ. فَاءَ فَيْئَةَ الْمَعْذُورِ، فَيَقُولُ: لَوْ قَدَرْت جَامَعْتُهَا. [فَصْلٌ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ فَادَّعَى أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَطْءِ] (6147) فَصْلٌ: وَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، فَادَّعَى أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَطْءِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ وَطِئَهَا مَرَّةً، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ الْعُنَّةَ، كَمَا لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ بِالْفَيْئَةِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، كَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا، وَلَمْ تَكُنْ حَالُهُ مَعْرُوفَةً، فَقَالَ الْقَاضِي: تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْنِينَ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَلَهَا أَنْ تَسْأَلَ الْحَاكِمَ، فَيَضْرِبَ لَهُ مُدَّةَ الْعُنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَفِيءَ فَيْئَةَ أَهْلِ الْأَعْذَارِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دَعْوَى مَا يُسْقِطُ عَنْهُ حَقًّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِهِ، وَالْأَصْلُ سَلَامَتُهُ مِنْهُ. وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا مَرَّةً، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِضَرْبِ مُدَّةِ الْعُنَّةِ، لِاعْتِرَافِهَا بِعَدَمِ عُنَّتِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ. [مَسْأَلَة مَتَى قَدَرَ عَلَى الْجِمَاع فَلَمْ يَفْعَلْ أُمِرَ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الْإِيلَاء] (6148) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَمَتَى قَدَرَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، أُمِرَ بِالطَّلَاقِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُولِيَ إذَا وُقِفَ، وَطُولِبَ بِالْفَيْئَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، أُمِرَ بِالطَّلَاقِ. وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ يَقُولُ: يُوقَفُ الْمُولِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ. وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا، فَفَاءَ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْوَطْءِ، أُمِرَ بِهِ، فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا أُمِرَ بِالطَّلَاقِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا فَاءَ بِلِسَانِهِ، لَمْ يُطَالَبْ بِالْفَيْئَةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَخَرَجَ مِنْ الْإِيلَاءِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَاءَ مَرَّةً، فَخَرَجَ مِنْ الْإِيلَاءِ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ فَيْئَةٌ ثَانِيَةٌ، كَمَا لَوْ فَاءَ بِالْوَطْءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُسْتَأْنَفُ لَهُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَفَّاهَا حَقَّهَا بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ الْفَيْئَةِ، فَلَا يُطَالَبُ إلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 وَلَنَا أَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّهَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ أَنْ يُوَفِّيَهَا إيَّاهُ، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ بِحَقِّهَا، وَلَا يَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهَا بِهِ، وَإِنَّمَا وَعَدَهَا بِالْوَفَاءِ، وَلَزِمَهَا الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَإِنْظَارُهُ. كَالْغَرِيمِ الْمُعْسِرِ. (6149) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى مَنْ فَاءَ بِلِسَانِهِ كَفَّارَةٌ، وَلَا حِنْثٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَعَدَ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَلَفَ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ، ثُمَّ أَعْسَرِ بِهِ، فَقَالَ: مَتَى قَدَرْتُ وَفَّيْتُهُ. [مَسْأَلَة لَمْ يُطَلِّقْ الزَّوْج عِنْدَ امْتِنَاعِهِ عَنْ الزَّوْجَة بَعْدَ الْإِيلَاءِ] (6150) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ، طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُولِيَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْفَيْئَةِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، أَوْ امْتَنَعَ الْمَعْذُورُ مِنْ الْفَيْئَةِ بِلِسَانِهِ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ، أُمِرَ بِالطَّلَاقِ. فَإِنْ طَلَّقَ، وَقَعَ طَلَاقُهُ الَّذِي أَوْقَعَهُ، وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ إجْبَارُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْوَفَاءُ بِحَقِّهَا بِهَا؛ فَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى الْبَيْنُونَةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ ضَرَرِهِ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الطَّلَاقِ، طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَيْسَ لِلْحَاكِمِ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا خُيِّرَ الزَّوْجُ فِيهِ بَيْن أَمْرَيْنِ، لَمْ يَقُمْ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِيهِ كَالِاخْتِيَارِ لِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوْ أُخْتَانِ. فَعَلَى هَذَا يَحْبِسُهُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَفِيءَ، أَوْ يُطَلِّقَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا دَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ، وَتَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ، وَامْتَنَعَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِيهِ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَفَارَقَ الِاخْتِيَارَ، فَإِنَّهُ مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ. وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْمُرَ بِالطَّلَاقِ وَلَا يُطَلِّقَ إلَّا أَنْ تَطْلُبَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا، وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ يَسْتَوْفِي لَهَا الْحَقَّ، فَلَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِهَا. [فَصْلٌ الطَّلَاقُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُولِي] (6151) فَصْلٌ: وَالطَّلَاقُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُولِي رَجْعِيٌّ، سَوَاءٌ أَوْقَعَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُولِي: فَإِنْ طَلَّقَهَا. قَالَ: تَكُونُ وَاحِدَةً، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ فُرْقَةَ الْحَاكِمِ تَكُونُ بَائِنًا. ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي فُرْقَةِ الْحَاكِمِ، أَنَّهَا تَكُونُ بَائِنًا؛ فَإِنَّ فِي رِوَايَة الْأَثْرَمِ: وَقَدْ سُئِلَ إذَا طَلَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، أَتَكُونُ وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: إذَا طَلَّقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، فَأَمَّا تَفْرِيقُ السُّلْطَانِ، فَلَيْسَ فِيهِ رَجْعَةٌ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: طَلَاقُ الْمُولِي بَائِنٌ، سَوَاءٌ طَلَّقَ هُوَ، أَوْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لِرَفْعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 الضَّرَرِ، فَكَانَ بَائِنًا، كَفُرْقَةِ الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، لَمْ يَنْدَفِعْ الضَّرَرُ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَجِعُهَا، فَيَبْقَى الضَّرَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَائِنًا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ؛ أَنَّهُ طَلَاقٌ صَادَفَ مَدْخُولًا بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا اسْتِيفَاءِ عَدَدٍ، فَكَانَ رَجْعِيًّا، كَالطَّلَاقِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ. وَيُفَارِقُ فُرْقَةَ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ لِعَيْبٍ، وَهَذِهِ طَلْقَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ ارْتِجَاعُهَا، لَمْ يَنْدَفِعْ عَنْهَا الضَّرَرُ، وَهَذِهِ يَنْدَفِعُ عَنْهَا الضَّرَرُ؛ فَإِنَّهُ إذَا ارْتَجَعَهَا، ضُرِبَتْ لَهُ مُدَّةٌ أُخْرَى، وَلِأَنَّ الْعِنِّينَ قَدْ يُئِسَ مِنْ وَطْئِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي رَجْعَتِهِ، وَهَذَا غَيْرُ عَاجِزٍ، وَرَجْعَتُهُ دَلِيلٌ عَلَى رَغْبَتِهِ وَإِقْلَاعِهِ عَنْ الْإِضْرَارِ بِهَا، فَافْتَرَقَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة طَلْق الْمُوَلِّي وَامْتَنَعَ عَنْ الطَّلَاقِ وَالْفَيْئَة] (6152) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ طَلَّقَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُولِيَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْفَيْئَةِ وَالطَّلَاقِ مَعًا، وَقَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ الطَّلَاقِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُولِي، وَإِلَيْهِ الْخِيرَةُ فِيهِ، إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَاحِدَةً، وَإِنْ شَاءَ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ثَلَاثًا، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْحَقِّ يَحْصُلُ بِهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ زِيَادَةً عَلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَمْلِكْ الزِّيَادَةَ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمُمْتَنِعِ. وَلَنَا أَنَّ الْحَاكِمَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَمَلَكَ مِنْ الطَّلَاقِ مَا يَمْلِكُهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهَا؛ فَإِنَّ حَقَّهَا الْفُرْقَةُ، غَيْرَ أَنَّهَا تَتَنَوَّعُ، وَقَدْ يَرَى الْحَاكِمُ الْمَصْلَحَةَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَمَنْعِهِ رَجْعَتَهَا؛ لِعِلْمِهِ بِسُوءِ قَصْدِهِ، وَحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِبُعْدِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَالَ: فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا. فَإِنَّمَا هُوَ فَسْخٌ. وَإِذَا قَالَ: طَلَّقْتُ وَاحِدَةً. فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَإِذَا قَالَ: ثَلَاثًا. فَهِيَ ثَلَاثٌ. [مَسْأَلَة طَلَّقَ وَاحِدَةً وَرَاجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ] (6153) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً، وَرَاجَعَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا حَكَمْنَا فِي الْأَوَّلِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ الْمُولِي، أَوْ؛ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَلَهُ رَجْعَتُهَا. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ تَفْرِيقَ الْحَاكِمِ لَيْسَ فِيهِ رَجْعَةٌ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا تَفْرِيقُ السُّلْطَانِ، فَلَيْسَ فِيهِ رَجْعَةٌ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا بَعْدَهَا. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَكُونُ طَلَاقُ الْحَاكِمِ بَائِنًا، لَيْسَ فِيهِ رَجْعَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي كُلَّ فُرْقَةٍ فَرَّقَهَا الْحَاكِمُ رِوَايَتَانِ، لِعَانًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ؛ إحْدَاهُمَا، تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَاخْتَارَهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَهُ الْمُرَاجَعَةُ فِيهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَهَذَا الصَّحِيحُ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 وَقَوْلُهُ: لَيْسَ فِيهِ رَجْعَةٌ فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا. يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، وَتَفْرِيقُ الْحَاكِمِ لَا يَقْتَضِي سِوَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَلِذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْعُنَّةِ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فُرْقَةُ اللِّعَانِ، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. وَلَوْ حَصَلَتْ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ غَيْرَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّفْرِيقِ وَالتَّحْرِيمِ اللِّعَانُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْ تَرَاضَوْا بِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ إذَا كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ، فَهُوَ رَجْعِيٌّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمُولِي، أَوْ الْحَاكِمِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ نَائِبُهُ، فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ مُفِيدًا، كَمَا لَمْ يُفِدْهُ طَلَاقُ الْمُولِي كَالْوَكِيلِ. فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، بَانَتْ، وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقٌ ثَانٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: إذَا سَبَقَ حَدُّ الْإِيلَاءِ حَدَّ الطَّلَاقِ، فَهُمَا تَطْلِيقَتَانِ، وَإِنْ سَبَقَ حَدُّ الطَّلَاقِ حَدَّ الْإِيلَاءِ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، مِنْ غَيْرِ إيقَاعٍ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنَّ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ، فَلَيْسَ لِلْمُولِي الرُّجُوعُ عَلَيْهَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا. وَلَا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ طَلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، فَأَشْبَهَ فَسْخَ النِّكَاحِ لِعَيْبِهِ أَوْ عُنَّتِهِ. وَإِنْ طَلَّقَ الْمُولِي أَوْ الْحَاكِمُ ثَلَاثًا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ثَانٍ وَإِصَابَةٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَ دُونَ الثَّلَاثِ، فَرَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَإِنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ تَنْقَطِعُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِمَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ مِنْ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِغَيْرِ الْيَمِينِ، فَانْقَطَعْت الْمُدَّةُ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَإِنْ رَاجَعَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ رَجْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، سَقَطَ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهَا تَرَبَّصْنَا بِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ وَقَفْنَاهُ لِيَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ، ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا كَالْحُكْمِ فِي وَقْفِهِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ طَلَّقَ أَوْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، ثُمَّ رَاجَعَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، انْتَظَرْنَاهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ، فَقَدْ كَمُلَتْ الثَّلَاثُ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَقْتَضِي مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ الْأُخْرَى مِنْ حِينَ طَلَّقَ، فَلَوْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وُقِفَ ثَانِيًا، فَإِنْ فَاءَ، وَإِلَّا أُمِرَ بِالطَّلَاقِ. وَنَحْوُ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَإِنْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، بَانَتْ، وَانْقَطَعَ الْإِيلَاءُ، فَإِنْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، تَرَبَّصَ بِهِ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ طَلَّقَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّ الطَّلَاقَ يَهْدِمُ الْإِيلَاءَ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ مُدَّتَهُ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِمُدَّتِهِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ؛ فَيَكُونُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ مِثْلَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُزِيلُ حُكْمَهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّاهَا حَقَّهَا بِالطَّلَاقِ، فَسَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، كَمَا لَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 وَطِئَهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، أَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ بَاقٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْوَطْءِ فَيَبْقَى الْإِيلَاءُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْ، بِخِلَافِ الْفَيْئَةِ، فَإِنَّهَا تَرْفَعُ الْيَمِينَ، لِحُصُولِ الْحِنْثِ فِيهَا. [مَسْأَلَة وَقَفْنَاهُ بَعْدَ الْأَرْبَعَة أَشْهُرٍ فَقَالَ قَدْ أَصَبْتهَا فِي الْإِيلَاء] (6154) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ وَقَفْنَاهُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتهَا. فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ) وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي مَا يَلْزَمُهُ بِهِ رَفْعُهُ، وَهُوَ يَدَّعِي مَا يُوَافِقُ الْأَصْلَ، وَيُبْقِيهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. كَمَا لَوْ ادَّعَى الْوَطْءَ فِي الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ خَفِيٌّ وَلَا يُعْلَمْ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَقَوْلِ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا. وَتَلْزَمُهُ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ مَا تَدَّعِيهِ الْمَرْأَةُ مُحْتَمِلٌ، فَوَجَبَ نَفْيُهُ بِالْيَمِينِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَاخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ، أُرِيَتْ النِّسَاءُ الثِّقَاتُ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِثُيُوبَتِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِبَكَارَتِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَمِينَ هَاهُنَا؛ لِقَوْلِهِ فِي بَابِ الْعِنِّينِ: فَإِنْ شَهِدْنَ بِمَا قَالَتْ، أُجِّلَ سَنَةً. وَلَمْ يَذْكُرْ يَمِينَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ لَهَا، فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ مَعَهَا. (6155) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَادَّعَى أَنَّهُ أَصَابَهَا، وَكَذَّبَتْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَأَرَادَ رَجْعَتَهَا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، فَنَقْبَلُ قَوْلَهُ فِي الْإِصَابَةِ فِي الْإِيلَاءِ، وَلَا نَقْبَلُهُ فِي إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَ تَعْلِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ. [مَسْأَلَة قَالَ آلَى مِنْهَا فَلَمْ يُصِبْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ ثُمَّ نَكَحَهَا] (6156) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ آلَى مِنْهَا، فَلَمْ يُصِبْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ؛ ثُمَّ نَكَحَهَا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وُقِفَ لَهَا، كَمَا وَصَفْتُ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُولِيَ إذَا أَبَانَ زَوْجَتَهُ، انْقَطَعَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ سَوَاءٌ بَانَتْ بِفَسْخٍ، أَوْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ، أَوْ بِخُلْعٍ، أَوْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ نِكَاحِهَا. فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينَ تَزَوَّجَهَا، وَاسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ حِينَئِذٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ يَمِينِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ، لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، تَرَبَّصَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ وُقِفَ لَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ، أَوْ يُطَلِّقَ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ، طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الطَّلَاقُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا، عَادَ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ اسْتَوْفَى عَدَدَ الطَّلَاقِ، لَمْ يَعُدْ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى طَلَاقٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 ثَلَاثٍ، فَصَارَ إيلَاؤُهُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ كَإِيلَائِهِ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَتَحَصَّلُ مِنْ أَقْوَالِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: لَا يَعُودُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِحَالِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَالٍ لَوْ آلَى مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنْهَا، كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. وَلَنَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ بِيَمِينٍ فِي حَالِ نِكَاحِهَا، فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْ، وَفَارَقَ الْإِيلَاءَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِالْيَمِينِ عَلَيْهَا الْإِضْرَارَ بِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا] (6157) فَصْلٌ: وَلَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، عَادَ الْإِيلَاءُ. وَلَوْ كَانَ الْمُولِي عَبْدًا، فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَتُهُ، ثُمَّ أَعْتَقَتْهُ، وَتَزَوَّجَتْهُ، عَادَ الْإِيلَاءُ. وَلَوْ بَانَتْ الزَّوْجَةُ بِرِدَّةٍ، أَوْ إسْلَامٍ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا جَدِيدًا، عَادَ الْإِيلَاءُ، وَتُسْتَأْنَفُ الْمُدَّةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ ثَانٍ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ مِنْهُ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَيَبْقَى حُكْمُهَا مَا وَجَدَتْ الزَّوْجِيَّةُ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا جَامَعْتُك. ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ، عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَعْقُودَةَ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَا تَنْحَلُّ بِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ فِي حَالِ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ بِالْحَلِفِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَتْ وَهِيَ امْرَأَتُهُ. [مَسْأَلَة آلَى مِنْهَا وَاخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ] (6158) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ آلَى مِنْهَا، وَاخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَنَّهَا لَمْ تَمْضِ مَعَ يَمِينِهِ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي وَقْتِ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الْيَمِينِ، حُسِبَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَعُلِمَ هَلْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ أَوْ لَا. وَزَالَ الْخِلَافُ. أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الْيَمِينِ، فَقَالَ: حَلَفْتُ فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ. وَقَالَتْ: بَلْ حَلَفْتَ فِي غُرَّةِ شَعْبَانَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ. فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْإِيلَاءِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَلِفِ فِي غُرَّةِ شَعْبَانَ، فَكَانَ قَوْلُهُ فِي نَفْيِهِ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ. قَالَ الْخِرَقِيِّ: وَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ، إلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَلَمْ تُشْرَعْ فِيهِ يَمِينٌ، كَمَا لَوْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ يَجُوزُ بَذْلُهُ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ، كَالدُّيُونِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 [فَصْلٌ تَرَكَ الْوَطْءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ] (6159) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ الْوَطْءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ الْحَلِفُ. وَلَكِنْ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ غَيْبَةٍ، وَنَحْوِهِ، لَمْ تُضْرَبْ لَهُ مُدَّةٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ مُضِرًّا بِهَا، فَهَلْ تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ وَطِئَهَا، وَإِلَّا دُعِيَ بَعْدَهَا إلَى الْوَطْءِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ، أُمِرَ بِالطَّلَاقِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي الْإِيلَاءِ، سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَرَّ بِهَا بِتَرْكِ الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، فَيَلْزَمُ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ إذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَجَبَ أَدَاؤُهُ إذَا لَمْ يَحْلِفْ، كَالنَّفَقَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَجْعَلُ غَيْرَ الْوَاجِبِ وَاجِبًا إذَا أَقْسَمَ عَلَى تَرْكِهِ، فَوُجُوبُهُ مَعَهَا يَدُلُّ عَلَى، وُجُوبِهِ قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ وُجُوبَهُ فِي الْإِيلَاءِ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمَرْأَةِ، وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَضَرَرُهَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِيلَاءِ وَعَدَمِهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْوُجُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَا يَبْقَى لِلْإِيلَاءِ أَثَرٌ، فَلِمَ أَفْرَدْتُمْ لَهُ بَابًا؟ قُلْنَا: بَلْ لَهُ أَثَرٌ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْإِضْرَارِ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ الْإِضْرَارِ، اُكْتُفِيَ بِدَلَالَتِهِ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْيَمِينُ، احْتَجْنَا إلَى دَلِيلٍ سِوَاهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُضَارَّةِ، فَيُعْتَبَرُ الْإِيلَاءُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمُقْتَضَى لَا لِعَيْنِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُولٍ، فَلَمْ تُضْرَبْ لَهُ مُدَّةٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْإِضْرَارَ، وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْإِيلَاءِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ، إذْ لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ بِدُونِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 [كِتَابُ الظِّهَارِ] ِ الظِّهَارُ: مُشْتَقُّ مِنْ الظَّهْرِ، وَإِنَّمَا خَصُّوا الظَّهْرَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرْكُوبٍ يُسَمَّى ظَهْرًا، لِحُصُولِ الرُّكُوبِ عَلَى ظَهْرِهِ فِي الْأَغْلَبِ، فَشَبَّهُوا الزَّوْجَةَ بِذَلِكَ. وَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] . وَمَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَيْسَتْ كَالْأُمِّ فِي التَّحْرِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4] . وَالْأَصْلُ فِي الظِّهَارِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] . وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ «خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكٍ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْكُو، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَادِلُنِي فِيهِ، وَيَقُولُ: اتَّقِي اللَّهَ؛ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ. فَمَا بَرِحْت حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] . فَقَالَ: يُعْتِقُ رَقَبَةً. فَقُلْت: لَا يَجِدُ. قَالَ: فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قُلْت: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ.» قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعَرَقُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ: هُوَ مَا سُفَّ مِنْ خُوصٍ، كَالزِّنْبِيلِ الْكَبِيرِ. وَرَوَى أَيْضًا، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ «سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ، قَالَ: كُنْت أُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، خِفْت أَنْ أُصِيبَ مِنْ امْرَأَتِي شَيْئًا يَتَتَابَعُ حَتَّى أُصْبِحَ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدِمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ، إذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْت عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْت خَرَجْت إلَى قَوْمِي، فَأَخْبَرْتُهُمْ الْخَبَرَ، وَقُلْت: امْشُوا مَعِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالُوا: لَا وَاَللَّهِ. فَانْطَلَقْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 فَقَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةُ؟ . فَقُلْت: أَنَا بِذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا صَابِرٌ لِحُكْمِ اللَّهِ، فَاحْكُمْ فِي مَا أَرَاك اللَّهُ. قَالَ: حَرِّرْ رَقَبَةً. قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا. وَضَرَبْت صَفْحَةَ رَقَبَتِي. قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قُلْت: وَهَلْ أَصَبْت الَّذِي أَصَبْت إلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟ . قَالَ: فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ، مَا لَنَا طَعَامٌ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْك. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا. فَرَجَعْت إلَى قَوْمِي، فَقُلْت: وَجَدْت عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ.» [فَصْل كُلُّ زَوْجٍ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ] (6160) فَصْلٌ: وَكُلُّ زَوْجٍ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ، وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَظِهَارُ السَّكْرَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى طَلَاقِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ ظِهَارُ الصَّبِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى طَلَاقِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ظِهَارَ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ مِنْهُ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْ الصَّبِيِّ؛ لِكَوْنِ الْقَلَمِ مَرْفُوعًا عَنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الرِّقَابَ، وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَصَحَّ ظِهَارُهُ، كَالْحُرِّ. فَأَمَّا إيجَابُ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ يَجِدُهَا، وَلَا يَبْقَى الظِّهَارُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجِدُهَا، كَالْمُعْسِرِ، فَرْضُهُ الصِّيَامُ. وَيَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ، وَهِيَ الرَّافِعَةُ لِلتَّحْرِيمِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّحْرِيمُ، وَدَلِيلُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَلَنَا أَنَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ، كَالْمُسْلِمِ. فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَيَبْطُلُ بِكَفَّارَةِ الصَّيْدِ إذَا قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ يُقَامُ عَلَيْهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الصَّوْمُ، فَلَا تَمْتَنِعُ صِحَّةُ الظِّهَارِ بِامْتِنَاعِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ. وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِتَعْيِينِ الْفِعْلِ لِلْكَفَّارَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، كَالنِّيَّةِ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وَمَنْ يُخْنَقُ فِي الْأَحْيَانِ، يَصِحُّ ظِهَارُهُ فِي إفَاقَتِهِ، كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ فِيهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 [فَصْلٌ مَنْ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ] (6161) فَصْلٌ: وَمَنْ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، كَالطِّفْلِ، وَالزَّائِلِ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ، أَوْ إغْمَاءٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ غَيْرِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَصِحُّ ظِهَارُهُ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ طَلَاقِهِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ] (6162) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الظِّهَار مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، مُمْكِنًا وَطْؤُهَا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، وَالظِّهَارُ لِتَحْرِيمِ وَطْئِهَا. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهَا زَوْجَةٌ يَصِحُّ طَلَاقُهَا، فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا، كَغَيْرِهَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي] [الْفَصْل الْأَوَّل شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ] (6163) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ كَظَهْرِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ حَرَّمَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا، فَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْكَفَّارَةِ) (6164) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أُخْتِي، أَوْ غَيْرِهِمَا. فَهُوَ مُظَاهِرٌ. وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَهَذَا ظِهَارٌ إجْمَاعًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ تَصْرِيحَ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيِّ. وَفِي حَدِيثِ خُوَيْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يُشَبِّهَهَا بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، كَجَدَّتِهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ وَأُخْتِهِ. فَهَذَا ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ جَدِيدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ الظِّهَارُ إلَّا بِأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ؛ لِأَنَّهَا أُمٌّ أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِالْأُمِّ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهُ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. وَلَنَا أَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ، فَأَشْبَهْنَ الْأُمَّ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ فِيهَا: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَجَرَى مَجْرَاهُ. وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا إذَا كَانَتْ مِثْلَهَا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ، أَنْ يُشَبِّهَهَا بِظَهْرِ مِنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ سِوَى الْأَقَارِبِ، كَالْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَحَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ اللَّائِي دَخَلَ بِأُمِّهِنَّ، فَهُوَ ظِهَارٌ أَيْضًا. وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ، وَيَزِيدُ فِي الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ دُخُولُهَا فِي عُمُومِ الْأُمَّهَاتِ، فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي النَّصِّ، وَسَائِرُهُنَّ فِي مَعْنَاهَا، فَيَثْبُتُ فِيهِنَّ حُكْمُهَا. [الْفَصْلُ الثَّانِي شَبَّهَ امْرَأَته بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا] (6165) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا؛ كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ، وَعَمَّتِهَا، أَوْ الْأَجْنَبِيَّةِ. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ ظِهَارٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَقَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ بِظِهَارٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا ظِهَارًا، كَالْحَائِضِ، وَالْمُحْرِمَةِ مِنْ نِسَائِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ، وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. ظِهَارٌ إذَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيمٌ، فَكَانَ ظِهَارًا، فَأَمَّا الْحَائِضُ فَيُبَاحُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْفَرْجِ، وَالْمُحَرَّمَةُ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا، وَلَمْسُهَا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ،، وَلَيْسَ فِي وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَدٌّ بِخِلَافِ مَسْأَلَتنَا. وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ النِّسَاءِ، قَالَ: فَبِهَذَا أَقُولُ. [فَصْلٌ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ أَبِيهِ أَوْ بِظَهْرِ غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ] (6166) فَصْلٌ: وَإِنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ أَبِيهِ، أَوْ بِظَهْرِ غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْبَهِيمَةِ. أَوْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ ظِهَارٌ. قَالَ الْمَيْمُونِي: قُلْت لِأَحْمَدَ: إنْ ظَاهَرَ مِنْ ظَهْرِ الرَّجُلِ؟ . قَالَ: فَظَهْرُ الرَّجُلِ حَرَامٌ، يَكُونُ ظِهَارًا. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ، فِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَيْسَ بِظِهَارٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاسْتِمْتَاعِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَمَالِ زَيْدٍ. وَهَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا - فِيهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ مَالَهُ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. نَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ الرَّجُلِ: لَا يَكُونُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 ظِهَارًا. وَلَمْ أَرَهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِامْرَأَتِهِ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاسْتِمْتَاعِ، أَشْبَهَ التَّشْبِيهَ بِمَالِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ: إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ ظِهَارٌ. وَالْأُخْرَى، هُوَ يَمِينٌ. وَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدِي مَعْنَى إرَادَتِهِ الظِّهَارَ وَالْيَمِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عِنْدِي، أَوْ مِنِّي أَوْ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي] (6167) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عِنْدِي، أَوْ مِنِّي، أَوْ مَعِي، كَظَهْرِ أُمِّي. كَانَ ظِهَارًا بِمَنْزِلَةِ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ قَالَ: جُمْلَتُكِ، أَوْ بَدَنُك، أَوْ جِسْمُكِ، أَوْ ذَاتُك، أَوْ كُلُّك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. كَانَ ظِهَارًا؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهَا. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي. كَانَ ظِهَارًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ فَانْصَرَفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ بِظِهَارٍ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَظَهْرُ أُمِّهِ، مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيِّ أَوْ مِثْلُ أُمِّي وَنَوَى بِهِ الظِّهَارَ] (6168) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي. أَوْ: مِثْلُ أُمِّي. وَنَوَى بِهِ الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَإِنْ نَوَى بِهِ الْكَرَامَةَ وَالتَّوْقِيرَ، أَوْ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكِبَرِ، أَوْ الصِّفَةِ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَتَانِ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ حَتَّى يَنْوِيَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَرَامَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْرِيمِ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِجُمْلَةِ أُمِّهِ، فَكَانَ مُشَبِّهًا لَهَا بِظَهْرِهَا، فَيَثْبُتُ الظِّهَارُ كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِهِ مُنْفَرِدًا. وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ إنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الظِّهَارِ، مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْحَلِفِ، فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي. أَوْ قَالَ ذَلِكَ حَالَ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ، فَهُوَ ظِهَارٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَلِفِ، فَالْحَلِفُ يُرَادُ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ الْحَثِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهَا مِثْلُ أُمِّهِ فِي صِفَتِهَا أَوْ كَرَامَتِهَا. لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الظِّهَارَ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَاهَا، وَيُوجِبُ اجْتِنَابَهَا، وَهُوَ الظِّهَارُ. وَإِنْ عَدِمَ هَذَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِ الظِّهَارِ احْتِمَالًا كَثِيرًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 فَلَا يَتَعَيَّنُ الظِّهَارُ فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ: مِثْلُ أُمِّي. أَوْ قَالَ: أَنْتِ أُمِّي، أَوْ: امْرَأَتِي أُمِّي. مَعَ الدَّلِيلِ الصَّارِفِ لَهُ إلَى الظِّهَارِ، كَانَ ظِهَارًا؛ إمَّا بِنِيَّةٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. وَإِنْ قَالَ: أُمِّي امْرَأَتِي. أَوْ: مِثْلُ امْرَأَتِي. لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا؛ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِأُمِّهِ، وَوَصْفٌ لَهَا، وَلَيْسَ بِوَصْفٍ لِامْرَأَتِهِ. [الْفَصْلُ الثَّالِث قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. فَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ ظِهَارٌ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْبَتِّيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَرَامُ ظِهَارٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَمِينٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّ التَّحْرِيمَ يَمِينٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ الظِّهَارَ، لَيْسَ بِظِهَارٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَوَجْهُ ذَلِكَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَنَوَّعُ، مِنْهُ مَا هُوَ بِظِهَارٍ وَبِطَلَاقٍ وَبِحَيْضٍ وَإِحْرَامٍ وَصِيَامٍ، فَلَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ صَرِيحًا فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَمَا لَا يَنْصَرِفُ إلَى تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ تَحْرِيمٌ أَوْقَعَهُ فِي امْرَأَتِهِ، فَكَانَ بِإِطْلَاقِهِ ظِهَارًا، كَتَشْبِيهِهَا بِظَهْرِ أُمِّهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّحْرِيمَ يَتَنَوَّعُ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ مُنْتَفِيَةٌ، وَلَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ مِنْهَا إلَّا الطَّلَاقُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَهَذَا يُحَرِّمُهَا مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، فَكَانَ أَدْنَى التَّحْرِيمَيْنِ، فَكَانَ أَوْلَى. فَأَمَّا إنْ قَالَ ذَلِكَ لَمُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ بِحَيْضِ أَوْ نَحْوِهِ، وَقَصَدَ الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِنْ قَصَدَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ عَنْ حَالهَا، وَيَحْتَمِلُ إنْشَاءَ التَّحْرِيمِ فِيهَا بِالظِّهَارِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ. [فَصْلٌ قَالَ الزَّوْج الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ] (6170) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ: مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ حَرَامٌ. وَلَهُ امْرَأَةٌ، فَهُوَ مُظَاهِرٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ بِعُمُومِهِ. وَإِنْ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ، أَوْ نَوَاهَا، فَهُوَ آكُدُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ أَهْلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 وَمَالٍ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، هُوَ يَمِينٌ. وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ هَذَا. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ لِلظِّهَارِ وَلِتَحْرِيمِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَنَاوَلَهُمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ أَوْجَبَ كَفَّارَةً، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا. وَلَنَا أَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ كَفَارَتَيْنِ، كَمَا لَوْ تَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتَيْنِ، أَوْ حَرَّمَ مِنْ مَالِهِ شَيْئَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَنْتَقِضُ بِهَذَا. وَفِي قَوْلِ أَحْمَدَ: هُوَ يَمِينٌ. إشَارَةً إلَى التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ لَا تُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ. وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَغَيْرِهِ مِنْ لَفْظَاتِ الْعُمُومِ الْمَالَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَاصِّ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تَقُولُ: إنَّ الْحَرَامَ بِإِطْلَاقِهِ لَيْسَ بِظِهَارٍ. لَا يَكُونُ هَاهُنَا مُظَاهِرًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الظِّهَارَ. [فَصْل قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَرَامٌ] (6171) فَصْلٌ: وَإِنْ ` قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَرَامٌ. فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالظِّهَارِ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: حَرَامٌ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي. أَوْ: كَأُمِّي. فَكَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، إذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لَا أَقْبَلُ قَوْلَهُ فِي نَفْيِ الظِّهَارِ. وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ، أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي. بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفِي الطَّلَاقَ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الظِّهَارِ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّحْرِيمَ مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ. لَا نُسَلِّمُهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ فَسَّرَ لَفْظَهُ هَاهُنَا بِصَرِيحِ الظِّهَارِ بِقَوْلِهِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالنِّيَّةِ. [فَصْلٌ قَالَ الزَّوْج أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي] (6172) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي. طَلُقَتْ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ: كَظَهْرِ أُمِّي. لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوَّلًا، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: كَظَهْرِ أُمِّي صِفَةً لَهُ. فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي. تَأْكِيدَ الطَّلَاقِ، لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَهُوَ كَالظِّهَارِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا بِالطَّلَاقِ. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، كَانَ ظِهَارًا صَحِيحًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الظِّهَارِ فِي مَنْ هِيَ زَوْجَةٌ. وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. الظِّهَارَ، لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى الظِّهَارَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ. وَقَعَ الظِّهَارُ وَالطَّلَاقُ مَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، أَوْ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ سَبَقَ الطَّلَاقَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 [فَصْلِ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ مَعًا] (6173) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَنَوَى الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ مَعًا، كَانَ ظِهَارًا، وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا وَطَلَاقًا، وَالظِّهَارُ أَوْلَى بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُقَالُ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ قَالَ: أَرَدْت الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ. كَانَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ، كَانَ ظِهَارًا؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لَهُ، وَيَلْزَمُهُ مَا بَدَأَ بِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِلَفْظَةِ الْحَرَامِ يَنْوِي بِهَا الظِّهَارَ، فَكَانَتْ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ الظِّهَارُ بِنِيَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ زَاحَمَتْ نِيَّتُهُ نِيَّةَ الظِّهَارِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَالظِّهَارُ أَوْلَى بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ، فَيَجِبُ أَنْ يُغَلَّبَ مَا هُوَ الْأَوْلَى، أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْإِطْلَاقُ، وَهُوَ حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا التَّحْرِيمُ حُكْمٌ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ، وَقَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُطَلَّقَةٌ مُبَاحَةٌ. وَأَمَّا التَّخْيِيرُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهَا حِينَ لَفَظَ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ أَهْلًا وَالْمَحَلِّ قَابِلًا، وَلِهَذَا لَوْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ طَلَاقٌ، لَكَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ، وَلَيْسَ إلَيْهِ رَفْعُ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْمَحَلِّ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِبْدَالُهُ بِإِرَادَتِهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَهُ الِاخْتِيَارَ. وَهُوَ فَاسِدٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِجَمِيعِ لَفْظِهِ، لَا بِمَا بَدَأَ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ. لَمْ يَلْزَمْ طَلَاقُ الْأُولَى. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ] (6174) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَهُوَ مُظَاهِرٌ، فَلَوْ قَالَ: فَرْجُك، أَوْ ظَهْرُك، أَوْ رَأْسُك، أَوْ جِلْدُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ بَدَنِهَا، أَوْ رَأْسِهَا، أَوْ يَدِهَا. فَهُوَ مُظَاهِرٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَيْسَ بِمُظَاهِرٍ حَتَّى يُشَبِّهَ جُمْلَةَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَمَسُّ عُضْوًا مِنْهَا، لَمْ يَسْرِ إلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُظَاهَرَةُ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ جُمْلَتِهَا تَشْبِيهٌ لِمَحَلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا يَتَأَكَّدُ تَحْرِيمُهُ، وَفِيهِ تَحْرِيمٌ لِجُمْلَتِهَا، فَيَكُونُ آكَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَبَّهَهَا بِمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْأُمِّ، كَالْفَرْجِ، وَالْفَخِذِ، وَنَحْوِهِمَا، فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ النَّظَرُ إلَيْهِ، كَالرَّأْسِ، وَالْوَجْهِ، لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِعُضْوِ لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِعُضْوِ زَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى. وَلَنَا أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ، فَكَانَ مُظَاهِرًا، كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِهَا، وَفَارَقَ الزَّوْجَةَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَالنَّظَرُ إنْ لَمْ يَحْرُمْ، فَإِنَّ التَّلَذُّذَ يَحْرُمُ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 [فَصْلٌ قَالَ كَشَعْرِ أُمِّي أَوْ سِنِّهَا أَوْ ظُفْرهَا أَوْ شَبَّهَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ] (6175) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: كَشَعْرِ أُمِّي، أَوْ سِنِّهَا، أَوْ ظُفْرِهَا. أَوْ شَبَّهَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ، أَوْ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْضَاءِ الْأُمِّ الثَّابِتَةِ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهَا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كَزَوْجِ أُمِّي. فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَا هُوَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِمْتَاعِ. وَكَذَلِكَ الرِّيقُ، وَالْعَرَقُ، وَالدَّمْعُ. وَإِنْ قَالَ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ. فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ يَقُولُهُ النَّاسُ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي غَيْرِ الظِّهَارِ، وَلَا يُؤَدِّي مَعْنَى الظِّهَارِ، فَلَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُك. [فَصْلٌ قَالَ الزَّوْج أَنَا مُظَاهِرٌ أَوْ عَلَيَّ الظِّهَارُ أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ أَوْ الْحَرَامُ لِي] (6176) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُظَاهِرٌ، أَوْ عَلَيَّ الظِّهَارُ، أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ، أَوْ الْحَرَامُ لِي لَازِمٌ. وَلَا نِيَّةَ لَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الظِّهَارِ، وَلَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ. وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، أَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ الظِّهَارَ، مِثْلَ أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى شَرْطٍ، فَيَقُولَ: عَلَيَّ الْحَرَامُ إنْ كَلَّمْتُك. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَصَحَّ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، كَالطَّلَاقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الظِّهَارُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ بِغَيْرِ الصَّرِيحِ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. [فَصْل يُكْرَهُ أَنْ يُسَمِّي الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ] (6177) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُسَمِّي الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، كَأُمِّهِ، أَوْ أُخْتِهِ، أَوْ بِنْتِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخَيَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُخْتُك هِيَ،. فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْهُ.» وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يُشْبِهُ لَفْظَ الظِّهَارِ. وَلَا تَحْرُمُ بِهَذَا، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الظِّهَارِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ لَهُ: حَرُمَتْ عَلَيْك. وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الظِّهَارِ وَلَا نَوَاهُ بِهِ، فَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرْسَلَ إلَيْهِ جَبَّارٌ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا يَعْنِي عَنْ سَارَةَ فَقَالَ: إنَّهَا أُخْتِي. وَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ ظِهَارًا. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْمُظَاهِر يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ] (6178) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُظَاهِرَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ إذَا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عِتْقًا أَوْ صَوْمًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ إلَى إبَاحَةِ الْجِمَاعِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعْ الْمَسِيسَ قَبْلَهُ، كَمَا فِي الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ. وَلَنَا مَا رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي تَظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي، فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ. فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ. قَالَ: فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ مُظَاهِرٌ لَمْ يُكَفِّرْ، فَحَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ الْعِتْقَ أَوْ الصِّيَامَ، وَتَرْكُ النَّصِّ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ الَّذِي فِي مَعْنَاهَا. (6179) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّلَذُّذَ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ، مِنْ الْقُبْلَةِ، وَاللَّمْسِ، وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَحْرُمُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَا حَرَّمَ الْوَطْءَ مِنْ الْقَوْلِ حَرَّمَ دَوَاعِيَهُ، كَالطَّلَاقِ وَالْإِحْرَامِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَحْرُمُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَتَعَلَّقُ بِتَحْرِيمِهِ مَالٌ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ التَّحْرِيمُ، كَوَطْءِ الْحَائِضِ. [فَصْلٌ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ أَمَتِهِ، وَلَا أُمِّ وَلَدِهِ] (6180) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ أَمَتِهِ، وَلَا أُمِّ وَلَدِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ كَفَّارَةٌ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ، فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا كَالزَّوْجَةِ. وَعَنْ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، إنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَطَأْهَا فَهُوَ كَتَحْرِيمِ مَالِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةِ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِهَا، فَتَكُونُ عَلَى النِّصْفِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فَخَصَّهُنَّ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، فَلَا تَحْرُمُ بِهِ الْأَمَةُ، كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنُقِلَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ مَحَلُّهُ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَقَتَادَةُ: إنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنْ أَمَتِهِ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَتَوَجَّهُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ كَانَ ظِهَارًا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لَمُبَاحٍ مِنْ مَالِهِ، فَكَانَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَتَحْرِيمِ سَائِرِ مَالِهِ. قَالَ نَافِعٌ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ. وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَارِيَتِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَيُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ تَلْزَمهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ ظِهَارٌ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الظِّهَارُ مُؤَقَّتًا] (6181) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الظِّهَارُ مُؤَقَّتًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ. فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ زَالَ الظِّهَارُ، وَحَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِلَا كَفَّارَةٍ، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا إلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُهُ الْآخَرُ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ مُطْلَقًا، وَهَذَا لَمْ يُطْلِقْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إذَا ظَاهَرَ فِي وَقْتٍ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ بَرَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْقُطُ التَّأْقِيتُ، وَيَكُونُ ظِهَارًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَفْظٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ لَمْ يَتَوَقَّتْ كَالطَّلَاقِ. وَلَنَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَقَوْلُهُ: ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ. وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الشَّهْرِ، فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ. وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَلَيْهِ تَقْيِيدَهُ، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهَا بِيَمِينٍ لَهَا كَفَّارَةٌ، فَصَحَّ مُؤَقَّتًا كَالْإِيلَاءِ، وَفَارَقَ الطَّلَاقَ؛ فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَهُوَ يُوقِعُ تَحْرِيمًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 يَرْفَعُهُ التَّكْفِيرُ، فَجَازَ تَأْقِيتُهُ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ بَرَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الَّذِينَ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا، وَمَنْ بَرَّ وَتَرَك الْعَوْدَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ظَاهَرَ فَلَمْ يَعُدْ لِمَا قَالَ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَفَارَقَ التَّشْبِيهَ بِمَنْ لَا تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا غَيْرُ كَامِلٍ، وَهَذِهِ حَرَّمَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَحْرِيمًا مُشَبَّهًا بِتَحْرِيمِ ظَهْرِ أُمِّهِ. عَلَى أَنَّنَا نَمْنَعُ الْحُكْمَ فِيهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا إلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إذَا أَجْمَعَ عَلَى غَشَيَانهَا فِي الْوَقْتِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. وَلَنَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إلَّا بِالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ لَمْ يَحْنَثْ فِيهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَتُهَا، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ فِي وَقْتٍ، عَازِمٌ عَلَى إمْسَاكِ زَوْجَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ بِذَلِكَ، كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ طَاوُسٍ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: يَصِحُّ الظِّهَارُ مُؤَقَّتًا لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَقْتِ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِشُرُوطِ] (6182) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِالشُّرُوطِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَمَتَى شَاءَ زَيْدٌ أَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ، صَارَ مُظَاهِرًا، وَإِلَّا فَلَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ، فَجَازَ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ أَصْلَ الظِّهَارِ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا، وَالطَّلَاقُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَحْرُمُ بِهِ الزَّوْجَةُ، فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ تَظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي الْأُخْرَى، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. ثُمَّ تَظَاهَرَ مِنْ الْأُخْرَى، صَارَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ تَظَاهَرْت مِنْ فُلَانَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. ثُمَّ قَالَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. صَارَ مُظَاهِرًا مِنْ امْرَأَتِهِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى الظِّهَارَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَمَنْ لَا فَلَا. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ] (6183) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَنْعَقِدْ ظِهَارُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هِيَ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، هِيَ يَمِينٌ. وَإِذَا قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَهُ أَهْلٌ، هِيَ يَمِينٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ كَتَحْرِيمِ مَالِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ غَيْرَ حِنْثٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَإِنْ قَالَ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ "، " وَوَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُك إنْ شَاءَ اللَّهُ ". عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِمَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا، عَادَ إلَى جَمِيعِهَا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي بَعْضِهَا، فَيَعُودَ إلَيْهِ وَحْدَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ. فَكُلُّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ حُكْمَ الظِّهَارِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَنْتِ حَرَامٌ. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ حُكْمَ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا تَقَدَّمَ يُجَابُ بِالْفَاءِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ حَرَامٌ. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ مُقَدَّرَةٌ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَنْتِ حَرَامٌ. صَحَّ أَيْضًا، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ زَيْدٌ. فَشَاءَ زَيْدٌ، لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَتَيْنِ، فَلَا يَحْصُلُ بِإِحْدَاهُمَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ مَاتَ الْمُظَاهِرُ أَوْ مَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا] [الْفَصْل الْأَوَّل الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ] (6184) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: فَإِنْ مَاتَ، أَوْ مَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا، لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ. فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِالْعَوْدِ، وَهُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُظَاهِرِ قَبْلَ الْحِنْثِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: (6185) أَحَدُهَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ فَارَقَهَا قَبْلَ الْعَوْدِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ وَقَدْ وُجِدَ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ لِقَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَتَى أَمْسَكَهَا بَعْدَ ظِهَارِهِ زَمَنًا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا فِيهِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَوْدُ عِنْدَهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] . فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَمْرَيْنِ، ظِهَارٍ وَعَوْدٍ، فَلَا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِغَيْرِ الْحِنْثِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَالْحِنْثُ فِيهَا هُوَ الْعَوْدُ، وَذَلِكَ فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَتَرْكُ طَلَاقِهَا لَيْسَ بِحِنْثٍ فِيهَا، وَلَا فِعْلٍ لَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِمْسَاكُ عَوْدًا، لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ الْمُوَقِّتِ وَإِنْ بَرَّ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَطْئِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ فَارَقَهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مُتَرَاخِيًا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَقِيبَهُ وَأَيُّهُمَا مَاتَ وَرِثَهُ صَاحِبُهُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إنْ مَاتَتْ، لَمْ يَرِثْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَلَنَا أَنَّ مَنْ وَرِثَهَا إذَا كَفَّرَ وَرِثَهَا وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ، كَالْمُولِي مِنْهَا. [الْفَصْلُ الثَّانِي طَلَّقَ مَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا] (6186) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ مَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ. وَسَوَاءٌ رَجَعَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، أَوْ قَبْلَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إذَا بَانَتْ سَقَطَ الظِّهَارُ، فَإِذَا عَادَ فَنَكَحَهَا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ، إنْ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ بِالثَّلَاثِ، لَمْ يَعُدْ الظِّهَارُ، وَإِلَّا عَادَ. وَبَنَاهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي عَوْدِ صِفَةِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . وَهَذَا قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَمَاسَّا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلِأَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ مَسُّهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَاَلَّتِي لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَيَمِينُ الظِّهَارَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، فَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهَا بِالطَّلَاقِ، كَالْإِيلَاءِ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ الْعَوْدَ فِي الظِّهَارِ بَعْدَ الْكَفَّارَةِ] (6187) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ، فَمَتَى وَطِئَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا تَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهَا شَرْطٌ لِحِلِّ الْوَطْءِ، فَيُؤْمَرُ بِهَا مَنْ أَرَادَهُ لِيَسْتَحِلَّهُ بِهَا، كَمَا يُؤْمَرُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مَنْ أَرَادَ حِلَّ الْمَرْأَةِ. وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. إلَّا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ وَطِئَ، وَهِيَ عِنْدَهُ فِي حَقِّ مَنْ وَطِئَ كَمَنْ لَمْ يَطَأْ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: الْعَوْدُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَازِمِ عَلَى الْوَطْءِ، إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الْوَطْءِ، إلَّا أَبَا الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ بَعْدَ الْعَزْمِ، أَوْ طَلَّقَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا، فَقَالَ: مَالِكٌ يَقُولُ: إذَا أَجْمَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا، إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَمَا يُجْمِعُ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ طَاوُسٍ: إذَا تَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ لَزِمَهُ مِثْلُ الطَّلَاقِ. وَلَمْ يُعْجِبْ أَحْمَدَ قَوْلُ طَاوُسٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] . قَالَ: الْعَوْدُ الْغَشَيَانُ، إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى كَفَّرَ. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . فَأَوْجَبَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الْعَوْدِ قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَمَا حَرُمَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ، لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِالظِّهَارِ تَحْرِيمَهَا، فَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا، فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ، فَكَانَ عَائِدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَوْدُ إمْسَاكُهَا بَعْدَ ظِهَارِهِ زَمَنًا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ ظِهَارَهُ مِنْهَا يَقْتَضِي إبَانَتَهَا، فَإِمْسَاكُهَا عَوْدٌ فِيمَا قَالَ. وَقَالَ دَاوُد: الْعَوْدُ، تَكْرَارُ الظِّهَارِ مَرَّةً ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الشَّيْءِ إعَادَتُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْعَوْدَ فِعْلُ ضِدِّ قَوْلِهِ، وَمِنْهُ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، هُوَ الرَّاجِعُ فِي الْمَوْهُوبِ، وَالْعَائِدُ فِي عِدَتِهِ، التَّارِكُ لِلْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ، وَالْعَائِدُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فَاعِلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] . فَالْمُظَاهِرُ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَانِعٌ لَهَا مِنْهُ، فَالْعَوْدُ فِعْلُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَوْدَ يَتَقَدَّمُ التَّكْفِيرَ، وَالْوَطْءَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ. أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] . أَيْ أَرَدْتُمْ ذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] . فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا تَأْوِيلٌ، ثُمَّ هُوَ رُجُوعٌ إلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْعَزْمِ الْمُجَرَّدِ. قُلْنَا: دَلِيلُ التَّأْوِيلِ، مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْعَزْمِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهَا شَرْطًا لِلْحِلِّ، كَالْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ لِمَنْ أَرَادَ صَلَاةَ النَّافِلَةِ، وَالْأَمْرِ بِالنِّيَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ. فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فَلَيْسَ بِعَوْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْدٍ فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُطْلَقِ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ فِعْلُ ضِدِّ مَا قَالَهُ، وَالْإِمْسَاكُ لَيْسَ بِضِدٍّ لَهُ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي إبَانَتَهَا. لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا وَاجْتِنَابَهَا، وَلِذَلِكَ صَحَّ تَوْقِيتُهُ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] . وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي، وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مُتَرَاخٍ. وَأَمَّا قَوْلُ دَاوُد فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَوْسًا وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إنَّمَا هُوَ فِي مَقُولِهِ دُونَ قَوْلِهِ، كَالْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ وَالْعِدَةِ، وَالْعَوْدِ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَهُوَ فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَقْتَضِي تَرْكَ الْوَطْءِ، فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتُهَا إلَّا بِهِ، كَالْإِيلَاءِ. [مَسْأَلَةٌ الظِّهَارَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ] (6188) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَةِ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَمِّي. لَمْ يَطَأْهَا إنْ تَزَوَّجَهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْكَفَّارَةِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الظِّهَارَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ يَصِحُّ، سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ لَامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ قَالَ: كُلُّ النِّسَاءِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَسَوَاءٌ أَوْقَعَهُ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى التَّزْوِيجِ، فَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا، فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَمَتَى تَزَوَّجَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا، لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. يُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُ الظِّهَارِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] . وَالْأَجْنَبِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِحُكْمِهَا مُقَيَّدًا بِنِسَائِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، كَالْإِيلَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] . كَمَا قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا، كَأَمَتِهِ، وَلِأَنَّهُ حَرَّمَ مُحَرَّمَةً، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ. وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيمٍ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ النِّكَاحَ، كَالطَّلَاقِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ، فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَتَزَوَّجَهَا. قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، فَصَحَّ انْعِقَادُهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُظَاهِرُ مِنْ نِسَائِهِ، فَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِنَّ، كَمَا أَنْ تَخْصِيصَ الرَّبِيبَةِ الَّتِي فِي حِجْرِهِ بِالذِّكْرِ، لَمْ يُوجِبْ اخْتِصَاصَهَا بِالتَّحْرِيمِ، وَأَمَّا الْإِيلَاءُ، فَإِنَّمَا اخْتَصَّ حُكْمُهُ بِنِسَائِهِ؛ لِكَوْنِهِ يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِهِنَّ دُونَ غَيْرِهِنَّ وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ هَاهُنَا لِقَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِنِسَائِهِ، وَيُفَارِقُ الظِّهَارُ الطَّلَاقَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الطَّلَاقَ حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَلَا يُمْكِنُ حَلُّهُ قَبْلَ عَقْدِهِ وَالظِّهَارُ تَحْرِيمٌ لِلْوَطْءِ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْعَقْدِ كَالْحَيْضِ. الثَّانِي، أَنَّ الطَّلَاقَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْبِقَهُ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُهُ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْإِبَاحَةُ عَلَى شَرْطٍ، فَجَازَ تَقَدُّمُهُ. وَأَمَّا الظِّهَارُ مِنْ الْأَمَةِ، فَقَدْ انْعَقَدَ يَمِينًا وَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَمْ تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةً لَهُ حَالَ التَّكْفِيرِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ قَالَ كُلّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَ نِسَاءً وَأَرَادَ الْعَوْدَ] (6189) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: كُلّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا، فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. ثُمَّ تَزَوَّجَ نِسَاءً وَأَرَادَ الْعَوْدَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 وَاحِدَةٌ، سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، فَكَفَّارَتُهَا وَاحِدَةٌ. كَمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنْهُ أَنَّ لِكُلِّ عَقْدٍ كَفَّارَةً؛ فَلَوْ تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَ أُخْرَى، وَأَرَادَ الْعَوْدَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الثَّالِثَةَ وُجِدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الظِّهَارُ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ إلَيْهَا بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأُولَيَيْنِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ لَهَا كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا ابْتِدَاءً. وَلَوْ قَالَ لَأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي التَّحْرِيمِ فِي الْحَالِ. دُيِّنَ فِي ذَلِكَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ لِلظِّهَارِ، فَلَا يُقْبَلُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ أُمَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَأَرَادَ فِي تِلْكَ الْحَالِ] (6190) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَأَرَادَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنْ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ. وَإِنْ أَرَادَ فِي كُلِّ حَالٍ، لَمْ يَطَأْهَا إنْ تَزَوَّجَهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَمَّا إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. الْإِخْبَارَ عَنْ حُرْمَتِهَا فِي الْحَالِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ؛ لِكَوْنِهِ وَصَفَهَا بِصِفَتِهَا، وَلَمْ يَقُلْ مُنْكَرًا وَلَا زُورًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَهَا فِي كُلِّ حَالٍ، فَهُوَ ظِهَارٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْحَرَامِ، إذَا أُرِيدَ بِهَا الظِّهَارُ، ظِهَارٌ فِي الزَّوْجَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. [مَسْأَلَة ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَهِيَ أَمَةٌ، فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى مَلَكَهَا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الظِّهَارَ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ، أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً. فَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ، ثُمَّ مَلَكَهَا. انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَقَاءِ حُكْمِ الظِّهَارِ؛ فَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ بَاقٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . وَهَذَا قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ مَسُّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ قَدْ صَحَّ فِيهَا، وَحُكْمُهُ لَا يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ الْمُزِيلِ لِلْمِلْكِ وَالْحِلِّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 فَبِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لَكَفَّارَةٍ، فَوَجَبَتْ دُونَ غَيْرِهَا، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَسْقُطُ الظِّهَارُ بِمِلْكِهِ لَهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا حَنِثَ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا، وَهِيَ أَمَتُهُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ الزَّوْجَاتِ، وَصَارَ وَطْؤُهُ لَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، كَمَا لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا وَهِيَ أَمَتُهُ. وَيَقْتَضِي قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ هَذَا أَنْ تُبَاحَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الظِّهَارَ، وَجَعَلَهُ يَمِينًا، كَتَحْرِيمِ أَمَتِهِ. فَإِنْ أَعْتَقَهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ، صَحَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، حَلَّتْ لَهُ بِغَيْرِ كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَفَّرَ عَنْ ظِهَارِهِ بِإِعْتَاقِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ إجْزَاؤُهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ الَّتِي وَجَبَتْ بِسَبَبِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ مَلَكْتُ أَمَةً، فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَمَلَكَ أَمَةً، فَأَعْتَقَهَا. وَإِنْ أَعْتَقَهَا عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، عَادَ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَلَمْ تَحِلّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ. [مَسْأَلَةٌ تظاهر مِنْ أَرْبَعِ نِسَائِهِ بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ] (6192) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَائِهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ. بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ وَعُرْوَةَ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي الْجَدِيدِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ فِي حَقِّ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهَا بِهِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَوَاهُ عَنْهُمَا الْأَثْرَمُ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَلِمَةٌ تَجِبُ بِمُخَالَفَتِهَا الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَوْجَبَتْ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَفَارَقَ مَا إذَا ظَاهَرَ بِكَلِمَاتٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَقْتَضِي كَفَّارَةً تَرْفَعُهَا، وَتُكَفِّرُ إثْمَهَا. وَهَاهُنَا الْكَلِمَةُ وَاحِدَةٌ، فَالْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ تَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَتَمْحُوا إثْمَهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ. [فَصْلٌ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَاتِ فَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي] (6193) فَصْلٌ: وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إذَا ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَاتٍ، فَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَإِنَّ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةً. وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ، وَعَطَاءٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: الْمَذْهَبُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذَا. قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ عِنْدِي مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَرَبِيعَةَ، وَقَبِيصَةَ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ حَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ تَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهَا، كَالْحَدِّ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ الطَّلَاقُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 وَلَنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُتَكَرِّرَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إحْدَاهَا بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، فَلَا تُكَفِّرُهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، كَالْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْنًى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَتَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْمَحَالِّ الْمُخْتَلِفَةِ، كَالْقَتْلِ، وَيُفَارِقُ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. فَأَمَّا إنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا وَلَمْ يُكَفِّرْ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ وَاحِدٌ، فَوَجَبَتْ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. [فَصْل ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى أَشْرَكْتُك مَعَهَا] (6194) فَصْلٌ: إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى: أَشْرَكْتُك مَعَهَا، أَوْ أَنْتِ شَرِيكَتُهَا، أَوْ كَهِيَ. وَنَوَى الْمُظَاهَرَةَ مِنْ الثَّانِيَةِ، صَارَ مُظَاهِرًا مِنْهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنْ أَطْلَقَ صَارَ مُظَاهِرًا أَيْضًا، إذَا كَانَ عَقِيبَ مُظَاهَرَتِهِ مِنْ الْأُولَى، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الظِّهَارِ، وَلَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ فَلَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُظَاهِرَ مِنْ الْأُولَى، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا شَرِيكَتُهَا فِي دِينِهَا، أَوْ فِي الْخُصُومَةِ، أَوْ فِي النِّكَاحِ، أَوْ سُوءِ الْخُلُقِ، فَلَمْ تُخَصَّصْ بِالظِّهَارِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالتَّشْبِيهَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ، فَوَجَبَ تَعْلِيقُهُ بِالْمَذْكُورِ مَعَهُ، كَجَوَابِ السُّؤَالِ فِيمَا إذَا قِيلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا. وَكَالْعَطْفِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ كِنَايَةٌ لَمْ يَنْوِ بِهَا الظِّهَارَ. قُلْنَا: قَدْ وُجِدَ دَلِيلُ النِّيَّةِ، فَيُكْتَفَى بِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ. قُلْنَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَرِينَةِ يُزِيلُ الِاحْتِمَالَ. وَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالٌ مَا، كَانَ مَرْجُوحًا، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، كَالِاحْتِمَالِ فِي اللَّفْظِ الصَّرِيحِ. [مَسْأَلَة كَفَّارَة الظِّهَار] [مَسْأَلَةُ كَفَّارَةَ الْمُظَاهِرِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِعْتَاقِ] (6195) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَالِمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ (6196) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَفَّارَةَ الْمُظَاهِرِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، عِتْقُ رَقَبَةٍ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] إلَى قَوْلُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . «وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، حِينَ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ: يَعْتِقُ رَقَبَةً. قُلْتُ: لَا يَجِدُ. قَالَ: فَيَصُومُ» . وَقَوْلُهُ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ مِثْلَ ذَلِكَ. فَمَنْ وَجَدَ رَقَبَةً يَسْتَغْنِي عَنْهَا، أَوْ وَجَدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 ثَمَنَهَا فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَوَجَدَهَا بِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا الْإِعْتَاقُ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُبْدَلِ إذَا مُنِعَ الِانْتِقَالُ إلَى الْبَدَلِ، كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى ثَمَنِهِ تَمْنَعُ الِانْتِقَالَ، كَالْمَاءِ وَثَمَنِهِ، يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ إلَى التَّيَمُّمِ. (6197) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيمَا عَدَا كَفَّارَةَ الْقَتْلِ مِنْ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ، عِتْقُ رَقَبَةٍ ذِمِّيَّةٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الرَّقَبَةَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ مَا تَنَاوَلَهُ الْإِطْلَاقُ. وَلَنَا، مَا رَوَى «مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَ: كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: عَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: مَنْ أَنَا؟ . قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ. فَعَلَّلَ جَوَازَ إعْتَاقِهَا عَنْ الرَّقَبَةِ الَّتِي عَلَيْهِ بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الرَّقَبَةِ الَّتِي عَلَيْهِ إلَّا مُؤْمِنَةٌ، وَلِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِعِتْقٍ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا مُؤْمِنَةً، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ إذَا وُجِدَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَالتَّقْيِيدُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْكُفْرِ أَوْلَى. [مَسْأَلَةُ مَا يَشْتَرِط فِي كَفَّارَة الظِّهَارِ] (6198) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا رَقَبَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْلِيكُ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَيُمْكِنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا مَعَ مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَلَا يُجْزِئُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ فِي أَكْثَرِ الصَّنَائِعِ، وَلَا الْمُقْعَدُ، وَلَا الْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ آلَةُ الْبَطْشِ، فَلَا يُمْكِنْهُ الْعَمَلُ مَعَ فَقْدِهِمَا، وَالرِّجْلَانِ آلَةُ الْمَشْيِ، فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ تَلَفِهِمَا. وَالشَّلَلُ كَالْقَطْعِ فِي هَذَا. وَلَا يُجْزِئُ الْمَجْنُونَ جُنُونًا مُطْبِقًا، لِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ، ذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالْعَمَلِ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ جَوَّزَ عِتْقَ كُلِّ رَقَبَةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا الِاسْمُ، أَخْذًا بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَوْعُ كَفَّارَةٍ، فَلَمْ يُجْزِئْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَالْإِطْعَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ أَنْ يُطْعِمَ مُسَوَّسًا وَلَا عَفِنًا، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى طَعَامًا. وَالْآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 (6199) فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْيَدِ، أَوْ الرِّجْلِ، وَلَا أَشَلُّهَا، وَلَا مَقْطُوعُ إبْهَامِ الْيَدِ، أَوْ سَبَّابَتِهَا، أَوْ الْوُسْطَى؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْيَدِ يَذْهَبُ بِذَهَابِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْيَدَيْنِ يَزُولُ أَكْثَرُهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ قُطِعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يَدٍ جَازَ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْكَفَّيْنِ بَاقٍ، وَقَطْعُ أُنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ كَقَطْعِ جَمِيعِهَا؛ فَإِنَّ نَفْعَهَا يَذْهَبُ بِذَلِكَ؛ لِكَوْنِهَا أُنْمُلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْإِبْهَامِ لَمْ يَمْنَعْ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَا تَذْهَبُ؛ فَإِنَّهَا تَصِيرُ كَالْأَصَابِعِ الْقِصَارِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَصَابِعُهُ كُلُّهَا غَيْرَ الْإِبْهَامِ قَدْ قُطِعَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أُنْمُلَةٌ، لَمْ يَمْنَعْ. وَإِنْ قُطِعَ مِنْ الْإِصْبَعِ أُنْمُلَتَانِ، فَهُوَ كَقَطْعِهَا؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَتِهَا. وَهَذَا جَمِيعُهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ جَمِيعًا مِنْ خِلَافٍ أَجْزَأَتْ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ بَاقِيَةٌ، فَأَجْزَأَتْ فِي الْكَفَّارَةِ، كَالْأَعْوَرِ، فَأَمَّا إنْ قُطِعَتَا مِنْ وِفَاقٍ، أَيْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُجْزِئْ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ تَذْهَبُ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ، وَيَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ إجْزَاءَهَا، كَمَا لَوْ قُطِعَتَا مِنْ وِفَاقٍ وَيُخَالِفُ الْعَوَرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا. وَالِاعْتِبَارُ بِالضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِبَارِ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ ذَهَبَ شَمُّهُ، أَوْ قُطِعَتْ أُذُنَاهُ مَعًا، أَجْزَأَ مَعَ ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَلَا يُجْزِئُ الْأَعْرَجُ إذَا كَانَ عَرَجًا كَثِيرًا فَاحِشًا؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، فَهُوَ كَقَطْعِ الرِّجْلِ. وَإِنْ كَانَ عَرَجًا يَسِيرًا، لَمْ يَمْنَعْ الْإِجْزَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلُ الضَّرَرِ. (6200) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ وَالْإِجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ، فَأَشْبَهَ الْعَمَى. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ الْمَنَافِعَ، وَالْعَوَرُ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ. وَيُفَارِقُ الْعَمَى؛ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَيَمْنَعُ كَثِيرًا مِنْ الصَّنَائِعِ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ. وَيُفَارِقُ قَطْعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِإِحْدَاهُمَا مَا يَعْمَلُ بِهِمَا، وَالْأَعْوَرُ يُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا يُدْرِكُ بِهِمَا. وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا مُجَرَّدُ الْعَوَرِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ انْخِسَافُ الْعَيْنِ، وَذَهَابُ الْعُضْوِ الْمُسْتَطَابِ، وَلِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ يُمْنَعُ فِيهَا قَطْعُ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ، وَالْعِتْقُ لَا يُمْنَعُ فِيهِ إلَّا مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ. وَيُجْزِئُ الْمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ. وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَزُفَرُ: لَا يُجْزِئُ. لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا الدِّيَةُ، أَشْبَهَا الْيَدَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ قَطْعَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ، فَلَمْ يَمْنَعْ، كَنَقْصِ السَّمْعِ، بِخِلَافِ قَطْعِ الْيَدَيْنِ. وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْأَنْفِ كَذَلِكَ. وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ إذَا فَهِمَ بِالْإِشَارَةِ. وَيُجْزِئُ الْأَخْرَسُ إذَا فُهِمَتْ إشَارَتُهُ وَفَهِمَ بِالْإِشَارَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 ذَاهِبَةٌ، فَأَشْبَهَ زَائِلَ الْعَقْلِ. وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْخَرَسَ نَقْصٌ كَثِيرٌ، يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ، مِثْلُ الْقَضَاءِ، وَالشَّهَادَةِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ إشَارَتَهُ، فَيَتَضَرَّرُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ فِيهِ، وَذَهَابِ مَنْفَعَتَيْ الْجِنْسِ. وَوَجْهُ الْإِجْزَاءِ، أَنَّ الْإِشَارَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْإِفْهَامِ، وَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ فَيُجْزِئُ فِي الْعِتْقِ، كَاَلَّذِي ذَهَبَ شَمُّهُ. فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ شَمُّهُ فَيُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ كَالْحُمَّى وَمَا أَشْبَهَهَا، أَجْزَأَ فِي الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، كَالسِّلِّ، وَنَحْوِهِ، لَمْ يُجْزِئْ؛ لِأَنَّ زَوَالَهُ يَنْدُرُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ بَقَائِهِ. وَأَمَّا نِضْوُ الْخَلْقِ، فَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَجْزَأَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيُجْزِئُ الْأَحْمَقُ، وَهُوَ الَّذِي يُخْطِئُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيَصْنَعُ الْأَشْيَاءَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَيَرَى الْخَطَأَ صَوَابًا، وَمَنْ يُخْنَقُ فِي الْأَحْيَانِ، وَالْخَصِيُّ، وَالْمَجْبُوبُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْكَبِيرُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، لَا يَمْنَعُ تَمْلِيكَ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، فَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهِ كَالسَّالِمِ مِنْ الْعُيُوبِ. [فَصْلٌ يُجْزِئُ عِتْقُ الْجَانِي وَالْمَرْهُونِ وَعِتْقُ الْمُفْلِسِ عَبْدَهُ] (6201) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْجَانِي وَالْمَرْهُونِ، وَعِتْقُ الْمُفْلِسِ عَبْدَهُ، إذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ عِتْقِهِمْ، وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ، وَالْخَصِيِّ، وَوَلَدِ الزِّنَا؛ لِكَمَالِ الْعِتْقِ فِيهِمْ. [فَصْلٌ لَا يُجْزِئ عِتْقُ الْمَغْصُوبِ فِي الظِّهَار] (6202) فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ مَنَافِعِهِ، وَلَا غَائِبٍ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حَيَاتُهُ، فَلَا يُعْلَمُ صِحَّةُ عِتْقِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ، أَجْزَأَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ صَحِيحٌ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ، وَلَا يُتَيَقَّنُ أَيْضًا وُجُودُهُ، وَحَيَاتُهُ، وَلَا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، وَالْمِلْكُ فِيهَا غَيْرُ كَامِلٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَالْبَتِّيُّ: يُجْزِئُ عِتْقُهَا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ صَحِيحٌ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ مُكَاتَبٍ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا. وَسَنَذْكُرُ هَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة أَقُلْ الْكَفَّارَة فِي الظِّهَار] (6203) مَسْأَلَةٌ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً، أَنَّ فَرْضَهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . وَحَدِيثُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ رَقَبَةً فَاضِلَةً عَنْ حَاجَتِهِ، فَلَيْسَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَقَبَةٌ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهَا لِزَمَنٍ، أَوْ كِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عِظَمِ خَلْقٍ، وَنَحْوِهِ مِمَّا يُعْجِزُهُ عَنْ خِدْمَةِ نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَخْدُمُ نَفْسَهُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَجِدُ رَقَبَةً فَاضِلَةً عَنْ خِدْمَتِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِعْتَاقُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَتَى وَجَدَ رَقَبَةً، لَزِمَهُ إعْتَاقُهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الصِّيَامِ أَنْ لَا يَجِدَ رَقَبَةً، بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] . وَهَذَا وَاجِدٌ. وَإِنْ وَجَدَ ثَمَنَهَا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ وِجْدَانَ ثَمَنِهَا كَوِجْدَانِهَا. وَلَنَا أَنَّ مَا اسْتَغْرَقَتْهُ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ، كَمَنْ وَجَدَ مَاءً يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْعَطَشِ، يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ، وَهُوَ مِمَّنْ يَخْدِمُ نَفْسَهُ عَادَةً، لَزِمَهُ إعْتَاقُهَا؛ لِأَنَّهُ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ. بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فِي إعْتَاقِ خَادِمِهِ، وَتَضْيِيعًا لِكَثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَخْدِمُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ مِمَّنْ عَلَيْهِ إخْدَامُهَا، أَوْ كَانَ لَهُ رَقِيقٌ يَتَقَوَّتُ بِخَرَاجِهِمْ، أَوْ دَارٌ يَسْكُنُهَا، أَوْ عَقَارٌ يَحْتَاجُ إلَى غَلَّتِهِ لِمُؤْنَتِهِ، أَوْ عَرْضٍ لِلتِّجَارَةِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ رِبْحِهِ فِي مُؤْنَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِتْقُ. وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ رَقَبَةً، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدُ لِلرَّقَبَةِ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَقَبَةٌ تَخْدِمُهُ، يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا وَشِرَاءُ رَقَبَتَيْنِ بِثَمَنِهَا، يَسْتَغْنِي بِخِدْمَةِ إحْدَاهُمَا، وَيَعْتِقُ الْأُخْرَى، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ لَهُ ثِيَابٌ فَاخِرَةٌ، تَزِيدُ عَلَى مَلَابِسِ مِثْلِهِ، يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا، وَشِرَاءُ مَا يَكْفِيهِ فِي لِبَاسِهِ وَرَقَبَةٍ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ، يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا، وَشِرَاءُ مَا يَكْفِيهِ لِسُكْنَى مِثْلِهِ وَرَقَبَةٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ يَفْضُلُ مِنْهَا عَنْ كِفَايَتِهِ مَا يُمْكِنُهُ شِرَاءُ رَقَبَةٍ، لَزِمَهُ. وَيُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْكِفَايَةُ الَّتِي يَحْرُمُ مَعَهَا أَخْذُ الزَّكَاةِ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا قُلْنَا. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ إعْتَاقُهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا. وَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُهَا، وَشِرَاءُ سُرِّيَّةٍ أُخْرَى، وَرَقَبَةٍ يَعْتِقُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهَا، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، سِيَّمَا إذَا كَانَ بِدُونِ ثَمَنِهَا. [فَصْل كَانَ مُوسِرًا حِينَ وُجُوبِ كَفَّارَة الظِّهَار] فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا حِين وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، إلَّا أَنَّ مَالَهُ غَائِبٌ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْحُضُورِ قَرِيبًا، لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ لِشِرَاءِ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الِانْتِظَارِ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي كَفَّارَة الظِّهَارِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِوُجُودِ الْأَصْلِ فِي مَالِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْكَفَّارَاتِ. وَالثَّانِي، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَسِيسُ، فَجَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ عَدِمَ الْمَاءَ وَثَمَنَهُ، جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمَا فِي بَلَدِهِ. قُلْنَا: الطَّهَارَةُ تَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الِانْتِقَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّنَا لَوْ مَنَعْنَاهُ مِنْ التَّيَمُّمِ لِوُجُودِ الْقُدْرَةِ فِي بَلَدِهِ، بَطَلَتْ رُخْصَةُ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ وَجَدَ ثَمَنَ الرَّقَبَةِ وَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً كَفَّارَة الظِّهَار] (6205) فَصْلٌ: إنْ وَجَدَ ثَمَنَ الرَّقَبَةِ، وَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً يَشْتَرِيهَا، فَلَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ ثَمَنَ الْمَاءِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَشْتَرِيهِ. وَإِنْ وَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ بِثَمَنٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَا يُجْحِفُ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بِيعَتْ بِثَمَنِ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً بِثَمَنِ مِثْلِهَا، أَشْبَهَ الْعَادِمَ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ، الْعَادِمُ لِلْمَاءِ إذَا وَجَدَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَإِنْ وَجَدَ رَقَبَتَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهَا، إلَّا أَنَّهَا رَقَبَةٌ رَفِيعَةٌ، يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا رِقَابًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، لَزِمَهُ شِرَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا، وَلَا يُعَدُّ شِرَاؤُهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ ضَرَرًا، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ فِي إعْتَاقِهَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، كَمَا لَوْ كَانَ مَالِكًا لَهَا. [مَسْأَلَة وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ] (6206) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهَا مِنْ عُذْرٍ بَنَى، وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ابْتَدَأَ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ، ثُمَّ قَطَعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَفْطَرَ، أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِوُرُودِ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهِ، وَمَعْنَى التَّتَابُعِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ صِيَامِ أَيَّامِهَا، فَلَا يُفْطِرُ فِيهِمَا، وَلَا يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ. وَلَا يَفْتَقِرُ التَّتَابُعُ إلَى نِيَّةٍ، وَيَكْفِي فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ، وَشَرَائِطُ الْعِبَادَاتِ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ النِّيَّةُ لِأَفْعَالِهَا. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِكُلِّ لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ ضَمَّ الْعِبَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ شَرْطًا، وَجَبَتْ النِّيَّةُ فِيهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَالثَّالِثُ، يَكْفِي نِيَّةُ التَّتَابُعِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى. وَلَنَا، أَنَّهُ تَتَابُعٌ وَاجِبُ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى نِيَّةٍ، كَالْمُتَابَعَةِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ. وَيُفَارِقُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ، فَافْتَقَرَ إلَى نِيَّةِ التَّرَخُّصِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْمُتَابَعَةِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَةَ مُتَتَابِعًا، إذَا حَاضَتْ قَبْلَ إتْمَامِهِ، تَقْضِي إذَا طَهُرَتْ، وَتَبْنِي. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فِي الشَّهْرَيْنِ إلَّا بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْإِيَاسِ، وَفِيهِ تَغْرِيرٌ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا مَاتَتْ قَبْلَهُ. وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ، فِي أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي أَحْكَامِهِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ لَا يَحْصُلُ فِيهِمَا بِفِعْلِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الزَّمَانُ كَزَمَانِ اللَّيْلِ فِي حَقِّهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّ النِّفَاسَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ لِأَنَّهُ فِطْرُ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ. فَقَطَعَ التَّتَابُعَ، كَالْفِطْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ أَنْدَرُ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَإِنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ مَخُوفٍ، لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ أَيْضًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِفِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ لِسَفَرٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَفْطَرَ لِسَبَبٍ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، فَلَمْ يَقْطَعْ التَّتَابُعَ، كَإِفْطَارِ الْمَرْأَةِ لِلْحَيْضِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ غَيْرَ مَخُوفٍ، لَكِنَّهُ يُبِيحُ الْفِطْرَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ أَبَاحَ الْفِطْرَ، أَشْبَهَ الْمَخُوفَ. وَالثَّانِي، يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ اخْتِيَارًا، فَانْقَطَعَ التَّتَابُعُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. فَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ، فَإِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، فَهُمَا كَالْمَرِيضِ، وَإِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا. فَفِيهِمَا وَجْهَانِ أَحَدهمَا، لَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ أُبِيحَ لَهُمَا بِسَبَبٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمَا، فَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا. وَالثَّانِي، يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُمَا الْفِدْيَةُ مَعَ الْقَضَاءِ. وَإِنْ أَفْطَرَ لِجُنُونٍ، أَوْ إغْمَاءٍ، لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، فَهُوَ كَالْحَيْضِ. [فَصْلٌ صَامَ فِي كَفَّارَة الظِّهَارِ ثُمَّ أَفْطَرَ لِسَفَرِ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ] (6207) فَصْلٌ: وَإِنْ أَفْطَرَ لِسَفَرٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ، فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ؛ وَأَظْهَرُهُمَا، أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: كَانَ السَّفَرُ غَيْرَ الْمَرَضِ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوْكَدَ مِنْ رَمَضَانَ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِ التَّتَابُعُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ كَالْمَرَضِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِهِ، فَقَطَعَ التَّتَابُعَ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ فِطْرٌ لَعُذْرٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ التَّتَابُعُ، كَإِفْطَارِ الْمَرْأَةِ بِالْحَيْضِ، وَفَارَقَ الْفِطْرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ. وَإِنْ أَكَلَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، وَقَدْ كَانَ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَلَمْ تَغِبْ، أَفْطَرَ. وَيَتَخَرَّجُ فِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَنْقَطِعْ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ لَعُذْرٍ. وَالثَّانِي - يَقْطَع التَّتَابُعَ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلٍ أَخْطَأَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ الشَّهْرَيْنِ فَبَانَ خِلَافُهُ. وَإِنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا لِوُجُوبِ التَّتَابُعِ، أَوْ جَاهِلًا بِهِ أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ الشَّهْرَيْنِ، انْقَطَعَ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ لِجَهْلِهِ، فَقَطَعَ التَّتَابُعَ، كَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّ الْوَاجِبَ شَهْرٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ، بِأَنْ أَوْجَرَ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ، لَمْ يُفْطِرْ. وَإِنْ أَكَلَ خَوْفًا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُفْطِرُ. وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُفْطِرُ. فَعَلَى ذَلِكَ هَلْ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، لَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ. وَالثَّانِي: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِفِعْلِهِ لَعُذْرٍ نَادِرٍ. [فَصْلٌ أَفْطَرَ فِي كَفَّارَة الظِّهَار لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ قَطَعَ التَّتَابُعَ بِصَوْمِ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى] (6208) فَصْلٌ: وَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرَيْنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ قَطَعَ التَّتَابُعَ بِصَوْمِ نَذْرٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ تَطَوُّعٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّتَابُعِ الْمَشْرُوطِ، وَيَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَاهُ، لِأَنَّ هَذَا الزَّمَانَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ مُتَعَيَّنٍ لِلْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي غَيْرِهِ، بِخِلَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَخَّرَهُ إلَى فَرَاغِهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، أَخَّرَ الْكَفَّارَةَ عَنْهُ، أَوْ قَدَّمَهَا عَلَيْهِ إنْ أَمْكَنَ. وَإِنْ كَانَ أَيَّامًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، كَيَوْمِ الْخَمِيسِ، أَوْ أَيَّامِ الْبِيضِ، قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَضَاهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَفَّى بِنَذْرِهِ لَانْقَطَعَ التَّتَابُعُ، وَلَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ، فَيُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّكْفِيرِ، وَالنَّذْرُ يُمْكِنُ قَضَاؤُهُ، فَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِيرِهِ كَالْمَرَضِ. [مَسْأَلَة أَصَابَ الصَّائِم فِي كَفَّارَة الظِّهَار زَوْجَتَهُ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ] (6209) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ أَصَابَهَا فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، أَفْسَدَ مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ، وَابْتَدَأَ الشَّهْرَيْنِ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . فَأَمَرَ بِهِمَا خَالِيَيْنِ عَنْ وَطْءٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِمَا عَلَى مَا أُمِرَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ نَهَارًا، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْوَطْءِ لَا يَخْتَصُّ النَّهَارَ، فَاسْتَوَى فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كَالِاعْتِكَافِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا، وَيَبْنِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ، فَلَا يُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ، كَوَطْءِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ عِبَارَةٌ عَنْ إتْبَاعِ صَوْمِ يَوْمٍ لِلَّذِي قَبْلَهُ، مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ، وَإِنْ وَطِئَ لَيْلًا، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ إتْمَامِهِ إذَا لَمْ يُخِلَّ بِالتَّتَابُعِ الْمُشْتَرَطِ، لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَإِجْزَاءَهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ قَبْلَ الشَّهْرَيْنِ، أَوْ وَطِئَ لَيْلَةَ أَوَّلِ الشَّهْرَيْنِ وَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَالْإِتْيَانُ بِالصِّيَامِ قَبْلَ التَّمَاسِّ فِي حَقِّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، سَوَاءٌ بَنَى أَوْ اسْتَأْنَفَ. وَإِنْ وَطِئَهَا، أَوْ وَطِئَ، غَيْرَهَا، فِي نَهَارِ الشَّهْرَيْنِ عَامِدًا، أَفْطَرَ، وَانْقَطَعَ التَّتَابُعُ إجْمَاعًا، إذَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ وَإِنْ وَطِئَهَا، أَوْ وَطِئَ غَيْرَهَا، نَهَارًا نَاسِيًا أَفْطَرَ، وَانْقَطَعَ التَّتَابُعُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمُفْطِرَ نَاسِيًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا. وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِعُذْرٍ، فَوَطِئَ غَيْرَهَا نَهَارًا لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي قَطْعِ التَّتَابُعِ. وَإِنْ وَطِئَهَا، كَانَ كَوَطْئِهَا لَيْلًا، هَلْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ وَطِئَ غَيْرَهَا لَيْلًا، لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مُخِلٌّ بِإِتْبَاعِ الصَّوْمِ الصَّوْمَ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعَ، كَالْأَكْلِ لَيْلًا. وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ لَمَسَ الْمُظَاهِرُ مِنْهَا، أَوْ بَاشَرَهَا دُونَ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ يُفْطِرُ بِهِ، قَطَعَ التَّتَابُعَ؛ لِإِخْلَالِهِ بِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ، وَإِلَّا فَلَا يَنْقَطِعُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة لَمْ يَجِدْ فِي كَفَّارَة الظِّهَار فَعَلَيْهِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا] (6210) مَسْأَلَةٌ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ، أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ الرَّقَبَةَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ، أَنَّ فَرْضَهُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَجَاءَ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ يَخَافُ بِالصَّوْمِ تَبَاطُؤَهُ أَوْ الزِّيَادَةَ فِيهِ، أَوْ الشَّبَقِ فَلَا يَصْبِرُ فِيهِ عَنْ الْجِمَاعِ «، فَإِنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ، لَمَّا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصِّيَامِ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . «وَلَمَّا أَمَرَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالصِّيَامِ قَالَ: وَهَلْ أَصَبْت الَّذِي أَصَبْت إلَّا مِنْ الصِّيَامِ، قَالَ: فَأَطْعِمْ» . فَنَقَلَهُ إلَى الْإِطْعَامِ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ بِهِ مِنْ الشَّبَقِ وَالشَّهْوَةِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصِّيَامِ. وَقِسْنَا عَلَى هَذَيْنِ مَا يُشْبِهُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الْإِطْعَامِ إذَا عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ لِلْمَرَضِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ؛ لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ نِهَايَةً، فَأَشْبَهَ الشَّبَقَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ لِأَجْلِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الصِّيَامِ، وَلَهُ نِهَايَةٌ يَنْتَهِي إلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَالْوَاجِبُ فِي الْإِطْعَامِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 أَجْزَأَهُ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِسْكِينَ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، فَجَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا، كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وَهَذَا لَمْ يُطْعِمْ إلَّا وَاحِدًا، فَلَمْ يَمْتَثِلْ الْأَمْرَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ فِي أَيَّامٍ، لَجَازَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعَدَدِ الْمَسَاكِينِ، لَا بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، وَقَائِلُ هَذَا يَعْتَبِرُ عَدَدَ الْأَيَّامِ دُونَ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، وَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا قُوتَ يَوْمٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، كَمَا لَوْ أَوْصَى إنْسَانٌ بِشَيْءٍ لِسِتِّينَ مِسْكِينًا. [مَسْأَلَة مِقْدَار إطْعَام الْمِسْكِين فِي الظِّهَارِ] (6211) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ، أَنَّ قَدْرَ الطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَمِمَّنْ قَالَ: مُدُّ بُرٍّ. زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ. حَكَاهُ عَنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ عَنْهُمْ الْأَثْرَمُ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْت النَّاسَ إذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ، مُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ «أَوْسٍ ابْنِ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ يَعْنِي الْمُظَاهِرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.» وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: خُذْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ» . وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْمُجَامِعِ بِالْخَبَرِ، ثَبَتَ فِي الْمُظَاهِرِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْمُخْرَجِ، كَالْفِطْرَةِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ مَالِكٌ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ. وَمِمَّنْ قَالَ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ؛ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مِنْ الْقَمْحِ مُدَّانِ، وَمِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعٌ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ «خُوَيْلَةَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَطْعِمْ عَنِّي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَكَانَ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، ثنا إسْمَاعِيلُ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بِنِصْفِ وَسْقٍ شَعِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُظَاهِرِ: أَطْعِمْ هَذَا؛ فَإِنَّ مُدَّيْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ» . وَهَذَا نَصٌّ. وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مُدُّ بُرٍّ، أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَعَلَى أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ أَوْ الشَّعِيرِ، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخُوَيْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ اذْهَبِي إلَى فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلْتَأْخُذِيهِ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» . وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا. فَعَرَقَانِ يَكُونَانِ ثَلَاثِينَ صَاعًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد أَنَّ " الْعَرَقَ سِتُّونَ صَاعًا ". فَقَدْ ضَعَّفَهَا وَقَالَ: غَيْرُهَا أَصَحُّ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: (إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ) . فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: (فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . فَلَوْ كَانَ الْعَرَقُ سِتِّينَ صَاعًا، لَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ مِائَةً وَعِشْرِينَ صَاعًا، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُجَامِعِ الَّذِي أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: (تَصَدَّقْ بِهِ) . فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إلَيْهِ أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: (قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ صَاعًا) . وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ. وَحَدِيثُ أَوْسٍ بْن أَخِي عُبَادَةَ مُرْسَلٌ، يَرْوِيهِ عَنْهُ عَطَاءٌ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ عَرَقًا، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِآخَرَ، فَصَارَا جَمِيعًا ثَلَاثِينَ صَاعًا. وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ نَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخْبَارِنَا بِحَمْلِهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَأَخْبَارِنَا عَلَى الْإِجْزَاءِ، وَقَدْ عَضَّدَ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي بَعْضِهَا، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُدَّ مِنْ الْبُرِّ يُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 [فَصْل جِنْسُ الطَّعَامِ وَكَيْفِيَّته وَمُسْتَحِقُّهُ فِي كَفَّارَة الظِّهَار] (6212) فَصْلٌ: وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْإِطْعَامِ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَة: كَيْفِيَّتُهُ، وَجِنْسُ الطَّعَامِ، وَمُسْتَحِقُّهُ. فَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكُ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ لَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ أَوْ عَشَّاهُمْ لَمْ يُجْزِئُهُ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الْوَاجِبِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلَوْ غَدَّى كُلَّ وَاحِدٍ بِمُدٍّ، لَمْ يُجْزِئْهُ، إلَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إذَا أَطْعَمَهُمْ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ لَهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَطْعَمَ أَنَسٌ فِي فِدْيَةِ الصِّيَامِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَطْعَمَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَصَنَعَ الْجِفَانَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وَهَذَا قَدْ أَطْعَمَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئُهُ، وَلِأَنَّهُ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ مَلَّكَهُمْ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الصَّحَابَةِ إعْطَاؤُهُمْ؛ فَفِي قَوْلِ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، مُدٌّ لِكُلِّ فَقِيرٍ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَعْبٍ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ، بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» . وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ لِلْفُقَرَاءِ شَرْعًا، فَوَجَبَ تَمْلِيكُهُمْ إيَّاهُ كَالزَّكَاةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُجْزِئُ. اُشْتُرِطَ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ بِسِتِّينَ مُدًّا فَصَاعِدًا؛ لِيَكُونَ قَدْ أَطْعَمَهُمْ قَدْرَ الْوَاجِبِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ، فَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سِتِّينَ مُدًّا، وَقَالَ: هَذَا بَيْنَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ. فَقَبِلُوهُ، أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُمْ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَالِانْتِفَاعَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ: يُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خُذُوهَا عَنْ كَفَّارَتِي. يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرُ حَقِّهِ أَجْزَأَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ شَغْلُ ذِمَّتِهِ، مَا لَمْ يَعْلَمْ وُصُولَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ مُشَاعًا، فَقَبِلُوهُ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَدُيُونِ غُرَمَائِهِ. [فَصْلٌ التَّتَابُعُ فِي الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَة الظِّهَار] (6213) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي الْإِطْعَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَقِيلَ لَهُ: تَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَيُطْعِمُ الْيَوْمَ وَاحِدًا، وَآخَرَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَآخَرَ بَعْدُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ عَشْرَةً؟ فَلَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ فِيهِ. وَلَوْ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ الْإِطْعَامِ، لَمْ تَلْزَمْهُ إعَادَةُ مَا مَضَى مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَوَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ، كَالصِّيَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ مَا لَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ فِيهِ، فَلَمْ يُوجِبْ الِاسْتِئْنَافَ، كَوَطْءِ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا، أَوْ كَالْوَطْءِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الصِّيَامَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 [مَسْأَلَةٌ أَعْطَى مِسْكِينًا مُدَّيْنِ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي كَفَّارَة الظِّهَارِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا مُدَّيْنِ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَجْزَأَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ) وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ دَفَعَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ إلَى الْعَدَدِ الْوَاجِبِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُدَّيْنِ فِي يَوْمَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى قُوتَ يَوْمٍ مِنْ كَفَّارَةٍ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ثَانِيًا فِي يَوْمِهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَهُمَا إلَيْهِ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُجْزِئُهُ عَنْ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ. وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْأُخْرَى؟ يُنْظَرُ؛ فَإِذَا كَانَ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا عَنْ كَفَّارَةٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَرْجِعَ بِشَيْءٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَقْيَسُ وَأَصَحُّ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ذَلِكَ فِي يَوْمَيْنِ أَجْزَأَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّافِعُ اثْنَيْنِ، أَجْزَأَ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّافِعُ وَاحِدًا. وَلَوْ دَفَعَ سِتِّينَ مُدًّا إلَى ثَلَاثِينَ فَقِيرًا مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ، وَيُطْعِمُ ثَلَاثِينَ آخَرِينَ، وَإِنْ دَفَعَ السِّتِّينَ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ. أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْأُخْرَى إلَّا عَنْ ثَلَاثِينَ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي، أَنَّ الْمُجْزِئَ فِي الْإِطْعَامِ مَا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ، وَهُوَ الْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ، سَوَاءٌ كَانَتْ قُوتَهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَمَا عَدَاهَا. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتَ بَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ بِإِخْرَاجِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلِأَنَّهُ الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ فِي الْفِطْرَةِ، فَلَمْ يُجْزِئْ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قُوتَ بَلَدِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ جَمِيعِ الْحُبُوبِ الَّتِي هِيَ قُوتُ بَلَدِهِ، كَالذُّرَةِ، وَالدُّخْنِ، وَالْأَرُزِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا مِمَّا يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ بِظَاهِرِ النَّصِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ أَخْرَجَ غَيْرَ قُوتِ بَلَدِهِ، أَجْوَدَ مِنْهُ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا أَجْوَدُ. (6215) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، إخْرَاجُ الْحَبِّ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ، وَهِيَ حَالَةُ كَمَالِهِ، لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِيهَا، وَيَتَهَيَّأُ لِمَنَافِعِهِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِنْ أَخْرَجَ دَقِيقًا جَازَ، لَكِنْ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْمُدِّ قَدْرًا يَبْلُغُ الْمُدَّ حَبًّا، أَوْ يُخْرِجُهُ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ لِلْحَبِّ رَيْعًا، فَيَكُونُ فِي مِكْيَالِ الْحَبِّ أَكْثَرُ مِمَّا فِي مِكْيَالِ الدَّقِيقِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَيُعْطِي الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي جَاءَ فَالْبُرُّ، وَلَكِنْ إنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 أَعْطَاهُمْ الدَّقِيقَ بِالْوَزْنِ، جَازَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَالِ الْكَمَالِ، لِأَجْلِ مَا يَفُوتُ بِهِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْهَرِيسَةِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَالدَّقِيقُ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ، وَقَدْ كَفَاهُمْ مُؤْنَتَهُ وَطَحْنَهُ، وَهَيَّأَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْ الْأَكْلِ، وَفَارَقَ الْهَرِيسَةَ، فَإِنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى قُرْبٍ، وَلَا يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي إخْرَاجِ الْخُبْزِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ أَخَذَ ثَلَاثَةَ عَشْرَ رِطْلًا وَثُلُثًا دَقِيقًا، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَخَبَزَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَقَسَمَ الْخُبْزَ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ، أَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ ذَلِكَ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ مُدَّ بُرٍّ، وَهَذَا إنْ فَعَلَ فَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. قُلْت: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . فَهَذَا قَدْ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَأَوْفَاهُمْ الْمُدَّ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ أَحْمَدَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْكَفَّارَةِ، قَالَ: أَطْعِمْهُمْ خُبْزًا وَتَمْرًا؟ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ تَمْرٌ. قَالَ: فَخُبْزٌ؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرًّا أَوْ دَقِيقًا بِالْوَزْنِ، رِطْلٌ وَثُلُثٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَالَةِ الْكَمَالِ وَالِادِّخَارِ فَأَشْبَهَ الْهَرِيسَةَ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، وَلَيْسَ الِادِّخَارُ مَقْصُودًا فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمَا يَقُوتُ الْمِسْكِينَ فِي يَوْمِهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ كِفَايَتُهُ فِي يَوْمِهِ، وَهَذَا قَدْ هَيَّأَهُ لِلْأَكْلِ الْمُعْتَادِ لِلِاقْتِيَاتِ، وَكَفَاهُمْ مُؤْنَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَّى الْحِنْطَةَ وَغَسَلَهَا. وَأَمَّا الْهَرِيسَةُ وَالْكُبُولُ وَنَحْوُهُمَا، فَلَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا عَنْ الِاقْتِيَاتِ الْمُعْتَادِ إلَى حَيِّزِ الْإِدَامِ. وَأَمَّا السَّوِيقُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَاتُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ أَقَلُّ مِنْ شَيْءٍ يُعْمَلُ مِنْ مُدٍّ، فَإِنْ أَخَذَ مُدَّ حِنْطَةٍ، أَوْ رِطْلًا وَثُلُثًا مِنْ الدَّقِيقِ، وَصَنَعَهُ خُبْزًا، أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يُجْزِئُهُ رِطْلَانِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُدُّ يَجِيءُ مِنْهُ رِطْلَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ رِطْلَيْنِ مِنْ الْخُبْزِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ مُدٍّ، وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ خَمْسُ أَوَاقٍ وَأَقَلُّ مِنْ خُمْسِ أُوقِيَّةٍ، وَهَذَا فِي الْبُرِّ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُخْرَجُ مِنْ الشَّعِيرِ، فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا ضِعْفُ ذَلِكَ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 [فَصْلٌ لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي كَفَّارَةُ الظِّهَار] (6216) فَصْلٌ: وَلَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الْكَفَّارَةِ. نَقَلَهَا الْمَيْمُونِي، وَالْأَثْرَمُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. وَهُوَ مَا رَوَى الْأَثْرَمُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَحْمَدَ، قَالَ أَعْطَيْت فِي كَفَّارَةٍ خَمْسَةَ دَوَانِيقَ؟ فَقَالَ: لَوْ اسْتَشَرْتَنِي قَبْلَ أَنْ تُعْطِيَ لَمْ أُشِرْ عَلَيْك، وَلَكِنْ أَعْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَثْمَانِ عَلَى مَا قُلْت لَك. وَسَكَتَ عَنْ الَّذِي أَعْطَى. وَهَذَا لَيْسَ بِرِوَايَةٍ، وَإِنَّمَا سَكَتَ عَنْ الَّذِي أَعْطَى؛ [لِأَنَّهُ] مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمْ يَرَ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِ فِيهِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ، أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْكَفَّارَةِ هُمْ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ الْمَسْكَنَةَ وَزِيَادَةً، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. فَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، كَالْغُزَاةِ وَالْمُؤَلَّفَةِ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِهَا الْمَسَاكِينَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُكَاتَبِ؛ فَقَالَ الْقَاضِي فِي (الْمُجَرَّدِ) ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، فِي (الْهِدَايَةِ) : لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، فِي (مَسَائِلِهِمَا) : يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِحَاجَتِهِ، فَأَشْبَهَ الْمِسْكِينَ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِهَا الْمَسَاكِينَ، وَالْمُكَاتِبُونَ صِنْفٌ آخَرُ، فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، كَالْغُزَاةِ وَالْمُؤَلَّفَةِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قُدِّرَتْ بِقُوتِ يَوْمٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَصُرِفَتْ إلَى مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلِاقْتِيَاتِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَأْخُذُ لِذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمِسْكِينِ. وَيُفَارِقُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَأْخُذُونَ مِنْهَا، وَهُمْ الْغُزَاةُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ، وَالْغَارِمُونَ، وَلِأَنَّهُ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ أَوْ بِسَيِّدِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَامِلَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى عَبْدٍ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، وَلَا إلَى أُمِّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ نَفَقَتُهَا عَلَى سَيِّدِهَا، وَكَسْبُهَا لَهُ، وَلَا إلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي دَفْعِهَا إلَى الزَّوْجِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى كَافِرٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي إعْطَائِهِمْ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ فِي إعْتَاقِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَأَطْلَقَ فَيَدْخُلُونَ فِي الْإِطْلَاقِ. وَلَنَا أَنَّهُ كَافِرٌ، فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَلَّمَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِمْ سَائِرَ الْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ، إنْ كَانَ مِمَّنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ. وَإِذَا أَرَادَ صَرْفَهُ إلَى الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّهِ، يَقْبِضُ لَهُ؛ فَإِنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 الْقَبْضُ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْقِيمَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ الْكَبِيرَ. وَإِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ، جَازَ لِلسَّيِّدِ الدَّفْعُ مِنْ كَفَّارَتِهِ إلَى مُكَاتِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ زَكَاتِهِ (6217) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ، فَإِنْ بَانَ غَنِيًّا، فَهَلْ تُجْزِئُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الزَّكَاةِ. وَإِنْ بَانَ كَافِرًا، أَوْ عَبْدًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. [مَسْأَلَةٌ ابْتَدَأَ الْمُظَاهِر صَوْمَ الظِّهَارِ مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ] (6218) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَمِنْ ابْتَدَأَ صَوْمَ الظِّهَارِ مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ، أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَبَنَى، وَكَذَلِكَ إنَّ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ، أَفْطَرَ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ صَوْمَ الظِّهَارِ زَمَانٌ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، مِثْلُ أَنْ يَبْتَدِئَ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ، فَيَتَخَلَّلَهُ رَمَضَانُ وَيَوْمُ الْفِطْرِ، أَوْ يَبْتَدِئَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَيَتَخَلَّلَهُ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ، وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرَيْنِ بِمَا كَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ إذَا أَفْطَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ صَامَ عَنْ نَذْرٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى. وَلَنَا أَنَّهُ زَمَنٌ مَنَعَهُ الشَّرْعُ عَنْ صَوْمِهِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يَقْطَعْ التَّتَابُعَ، كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. فَإِنْ قَالَ: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ غَيْرُ مُمْكِنٍ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. قُلْنَا: قَدْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ مِنْ النِّفَاسِ بِأَنْ لَا تَبْتَدِئَ الصَّوْمَ فِي حَالِ الْحَمْلِ، وَمِنْ الْحَيْضِ إذَا كَانَ طُهْرُهَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهْرَيْنِ، بِأَنْ تَبْتَدِئَ الصَّوْمَ عَقِيبَ طُهْرِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ مُفَارَقَةُ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ الْمَسْبُوقُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِلُزُومِ مُفَارَقَتِهِ قَبْلَ إتْمَامِهَا. وَيَتَخَرَّجُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَصُومُهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يُفْطِرُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَحْدَهُ. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَفْطَرَهَا اسْتَأْنَفَ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامٌ أَمْكَنَهُ صِيَامُهَا فِي الْكَفَّارَةِ، فَفِطْرُهَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَغَيْرِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ، أَجْزَأَهُ صَوْمُ شَعْبَانَ عَنْ شَهْرٍ، نَاقِصًا كَانَ أَوْ تَامًّا. وَأَمَّا شَوَّالٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ يَوْمُ الْفِطْرِ، وَصَوْمُهُ حَرَامٌ، فَيَشْرَعُ فِي صَوْمِهِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَيُتَمِّمُ شَهْرًا بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنْ بَدَأَ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ، قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالشَّهْرَيْنِ مِنْ أَوَّلِهِمَا. وَلَوْ ابْتَدَأَ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُ يَوْمٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 الْفِطْرِ، وَصَحَّ صَوْمُ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ، وَصَوْمُ ذِي الْقَعْدَةِ، وَيُحْتَسَبُ لَهُ بِذِي الْقَعْدَةِ، نَاقِصًا كَانَ أَوْ تَامًّا؛ لِأَنَّهُ بَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَأَمَّا شَوَّالٌ، فَإِنْ كَانَ تَامًّا صَامَ يَوْمًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، مَكَانَ يَوْمِ الْفِطْر، وَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، صَامَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْدَأْهُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَإِنْ بَدَأَ بِالصِّيَامِ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقُلْنَا: يَصِحُّ صَوْمُهَا عَنْ الْفَرْضِ. فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ لَهُ بِالْمُحَرَّمِ، وَيُكْمِلُ صَوْمِ ذِي الْحِجَّةِ بِتَمَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ صَفَرٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا عَنْ الْفَرْضِ. صَامَ مَكَانَهَا مِنْ صَفَرٍ. (6219) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ، وَمِنْ أَثْنَائِهِ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَلِثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَأَيُّهُمَا صَامَ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ، فَإِنْ بَدَأَ مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ، فَصَامَ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، تَامَّيْنِ كَانَا أَوْ نَاقِصَيْنِ، إجْمَاعًا. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] . وَهَذَانِ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ. وَإِنْ بَدَأَ مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ، فَصَامَ سِتِّينَ يَوْمًا. أَجْزَأَهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَأَمَّا إنْ صَامَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، وَشَهْرًا بِالْعَدَدِ، فَصَامَ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَصَفَرَ جَمِيعَهُ، وَخَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا مِنْ رَبِيعٍ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ، سَوَاءٌ كَانَ صَفَرٌ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ، لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي بَدَأَ مِنْ وَسَطِهِ لِتَعَذُّرِهِ، فَفِي الشَّهْرِ الَّذِي أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالُ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا شَهْرَانِ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا ضَمَمْنَا إلَى الْخَمْسَةَ عَشْرَ مِنْ الْمُحَرَّمِ خَمْسَةَ عَشْرَ مِنْ صَفَرٍ، فَصَارَ ذَلِكَ شَهْرًا صَارَ ابْتِدَاءُ صَوْمِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. [فَصْلٌ نَوَى صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَار] فَصْلٌ: فَإِنْ نَوَى صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَانْقَطَعَ التَّتَابُعُ، حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ فِطْرٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ: يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ حَاضِرًا، أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ لِرَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ، أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ رَمَضَانَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: يُجْزِئُ عَنْ رَمَضَانَ دُونَ الْكَفَّارَةِ، سَفَرًا وَحَضَرًا. وَلَنَا، أَنَّ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِهِ، مُحَرَّمٌ صَوْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ غَيْرِهِ، كَيَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» . وَهَذَا مَا نَوَى رَمَضَانَ، فَلَا يُجْزِئُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ مُتَعَيَّنٌ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 وَإِنَّمَا جَازَ فِطْرُهُ فِي السَّفَرِ رُخْصَةً، فَإِذَا تَكَلَّفَ وَصَامَ، رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ. فَإِنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ الْمُتَخَلِّلِ لِصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَأُفْطِرَ، لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ لَا يَسْتَحِقُّ صَوْمَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِفِطْرِهِ كَاللَّيْلِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمُظَاهِرُ عَبْدًا] (6221) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ عَبْدًا، لَمْ يُكَفِّرْ إلَّا بِالصِّيَامِ، وَإِذَا صَامَ، فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظِهَارَ الْعَبْدِ صَحِيحٌ وَكَفَّارَتَهُ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] . وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِعْتَاقَ، فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ، وَأَسْوَأُ مِنْهُ حَالًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ الصِّيَامِ، سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، إنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ جَازَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، فَجَازَ لَهُ ذَلِكَ، كَالْحُرِّ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْإِطْعَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الصِّيَامِ. وَهَلْ لَهُ الْعِتْقُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ الْإِطْعَامُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ، وَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا الصِّيَامُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي الْوَلَاءَ، وَالْوِلَايَةَ، وَالْإِرْثَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَهُ الْعِتْقُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ تَكْفِيرُهُ بِالْإِطْعَامِ، صَحَّ بِالْعِتْقِ، وَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الْعِتْقِ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِرْثِ. كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي دِينِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ إسْقَاطُ الْمِلْكِيَّةِ عَنْ الْعَبْدِ، وَتَمْلِيكُهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَخُلُوصُهُ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ، لِامْتِنَاعِ بَعْضِ تَوَابِعِهِ. وَوَجْهُ الْأُولَى، أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، لَا يَمْلِكُ الْمَالَ، فَيَقَعُ تَكْفِيرُهُ بِالْمَالِ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ. وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، لَا يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ الصِّيَامُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ مُوسِرٌ لِحُرٍّ مُعْسِرٍ فِي التَّكْفِيرِ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الصِّيَامِ، فَأَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِمَا شَاءَ مِنْ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ، فَإِنَّ لَهُ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الصِّيَامِ، لَا يَلْزَمُهُ مَعَ عَجْزِهِ عَنْهُ، كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْتِزَامِ الْمِنَّةِ الْكَبِيرَةِ فِي قَبُولِ الرَّقَبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ؛ لِقِلَّةِ الْمِنَّةِ فِيهِ. وَهَذَا فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْعَوْدِ، فَإِنْ عَادَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ، انْبَنِي مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّكْفِيرَ هَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ، أَوْ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ؟ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِذَا صَامَ، لَا يُجْزِئُهُ إلَّا شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] . وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ فِي كَفَّارَةٍ فَاسْتَوَى فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ: لَوْ صَامَ شَهْرًا، أَجْزَأَهُ. وَقَالَهُ النَّخَعِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. [فَصْل الِاعْتِبَارُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ] (6222) فَصْلٌ: وَالِاعْتِبَارُ فِي الْكَفَّارَةِ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ، فِي أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا حَنِثَ وَهُوَ عَبْدٌ، فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَتَقَ، فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ عَبْدٍ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَحَنِثَ فِيهَا وَهُوَ عَبْدٌ، فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَتَقَ، أَيُكَفِّرُ كَفَّارَةَ حُرٍّ أَوْ كَفَّارَةَ عَبْدٍ؟ قَالَ: يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ عَبْدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكَفِّرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ حَنِثَ، لَا يَوْمَ حَلَفَ. قُلْت لَهُ: حَلَفَ وَهُوَ عَبْدٌ، وَحَنِثَ وَهُوَ حُرٌّ؟ قَالَ: يَوْمَ حَنِثَ. وَاحْتَجَّ فَقَالَ: افْتَرَى وَهُوَ عَبْدٌ أَيْ ثُمَّ أُعْتِقْ فَإِنَّمَا يُجْلَدُ جَلْدَ الْعَبْدِ. وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ حَالَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا حَالَ الْوُجُوبِ، اسْتَقَرَّ وُجُوبُ الرَّقَبَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِإِعْسَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ إلَى الرَّقَبَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، الِاعْتِبَارُ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إلَى حِينِ التَّكْفِيرِ، فَمَتَى وَجَدَ رَقَبَةً فِيمَا بَيْنَ الْوُجُوبِ إلَى حِينِ التَّكْفِيرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا الْإِعْتَاقُ. وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِوُجُودِ مَالٍ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَغْلَظُ الْحَالَيْنِ كَالْحَجِّ. وَلَهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْأَدَاءِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِحَالَةِ الْأَدَاءِ، كَالْوُضُوءِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى وَجْهِ الطَّهَارَةِ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالَةِ الْوُجُوبِ كَالْحَدِّ، أَوْ نَقُولُ: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ فِي الْكَفَّارَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ، كَالْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ، وَيُفَارِقُ الْوُضُوءَ، فَإِنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ، بَطَلِ تَيَمُّمُهُ، وَهَاهُنَا لَوْ صَامَ، ثُمَّ قَدَرِ عَلَى الرَّقَبَةِ، لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، وَلَيْسَ الِاعْتِبَارُ فِي الْوُضُوءِ بِحَالَةِ الْأَدَاءِ، فَإِنَّ أَدَاءَهُ فِعْلُهُ، وَلَيْسَ الِاعْتِبَارُ بِهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ غَيْرُ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا الْحَجُّ فَهُوَ عِبَادَةُ الْعُمْرِ، وَجَمِيعُهُ وَقْتٌ لَهَا، فَمَتَى قَدَرِ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهِ وَجَبَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْعِتْقِ مَعَ مَا ذَكَرُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الرَّقَبَةُ، وَلَا تُجْزِئُهُ، فَلَمَّا لَمْ تُجْزِئْهُ الزِّيَادَةُ، لَمْ تَلْزَمْهُ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. قُلْنَا: هَذَا لَا أَثَرَ لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا أَيْسَرِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الْإِعْتَاقِ، جَازَ لَهُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَاءَ فَلَهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ، وَيُجْزِئُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَانِثُ عَبْدًا، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الصَّوْمُ وَإِنْ عَتَقَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَوَافَقْنَا فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُوَ الْأَصْلُ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ كَسَائِرِ الْأُصُولِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَمَرَّ بِهِ الْعَجْزُ حَتَّى شَرَعَ فِي الصِّيَامِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْعِتْقِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْحَسَن. وَذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِهِ بِالْبَدَلِ، فَلَزِمَهُ الْعَوْدُ إلَيْهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعِتْق قَبْلَ تَلَبُّسِهِ بِالصِّيَامِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الْعَجْزُ إلَى بَعْدِ الْفَرَاغِ، وَلَا يُشْبِهُ الْوُضُوءَ، فَإِنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ بَطَلَ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْمُبْدَلَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي صَوْمِ الْبَدَلِ. فَلَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ، كَالْمُتَمَتِّعِ يَجِدُ الْهَدْيَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي صِيَامِ السَّبْعَةِ. (6223) فَصْلٌ: إذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ، فَوَقْتُهُ فِي الظِّهَارِ زَمَنَ الْعَوْدِ، لَا وَقْتَ الْمُظَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ حَتَّى يَعُودَ، وَقْتُهُ فِي الْيَمِينِ زَمَنَ الْحِنْثِ، لَا وَقْتَ الْيَمِينِ، وَفِي الْقَتْلِ زَمَنَ الزُّهُوقِ، لَا زَمَنَ الْجُرْحِ، وَتَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْوُجُوبِ تَعْجِيلٌ لَهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا، لِوُجُودِ سَبَبِهَا، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ وُجُوبِ النِّصَابِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمُظَاهِرُ ذِمِّيًّا] (6224) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ ذِمِّيًّا، فَتَكْفِيرُهُ بِالْعِتْقِ، أَوْ الْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، فَصَحَّ مِنْهُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ فِيهَا، وَلَا يُجْزِئُهُ فِي الْعِتْقِ إلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ وَرِثَهَا، أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى شِرَاءِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ، وَيَتَعَيَّنُ تَكْفِيرُهُ بِالْإِطْعَامِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ لِمُسْلِمِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنْ كَفَّارَتِي، وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. فَيَصِحُّ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَبْدِ، يَعْتِقُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ، عَلَى مَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ ظَاهَرَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَصَامَ فِي رِدَّتِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَفَّرَ بِعِتْقٍ أَوْ إطْعَامٍ، فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ أَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ. [مَسْأَلَةٌ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَار] (6225) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَمَنْ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَفَّارَةِ، كَانَ عَاصِيًا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُظَاهِرَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . فَإِنْ وَطِئَ عَصَى رَبَّهُ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَسْتَقِرُّ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا تَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَوْتٍ، وَلَا طَلَاقٍ، وَلَا غَيْرِهِ، وَتَحْرِيمُ زَوْجَتِهِ عَلَيْهِ بَاقٍ بِحَالِهِ، حَتَّى يُكَفِّرَ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُوَرِّقٍ الْعِجْلِيّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَشَرَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ؟ قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَبَكْرُ الْمُزَنِيّ، وَمُوَرِّقُ الْعِجْلِيّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ وَكِيعٌ: وَأَظُنُّ الْعَاشِرَ نَافِعًا. وَحُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَبِيصَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، وَالظِّهَارُ مُوجِبٌ لِلْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَثْبُتُ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ لِلْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْوَطْءِ. كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ وَقْتهَا؛ لِكَوْنِهَا وَجَبَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَلَنَا حَدِيثُ «سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ ثُمَّ وَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ» . وَلِأَنَّهُ وُجِدَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَاتَ وَقْتُهَا. فَيَبْطُلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِالصَّلَاةِ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ يَجِبُ قَضَاؤُهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا. [مَسْأَلَة قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي] (6226) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. لَمْ تَكُنْ مُظَاهِرَةً، وَلَزِمَتْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِالْمُنْكَرِ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. أَوْ قَالَتْ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانًا، فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِظِهَارٍ. قَالَ الْقَاضِي: لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ ظِهَارٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، إلَّا أَنَّ النَّخَعِيّ قَالَ: إذَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 مَا تَزَوَّجَ، فَلَيْسَ بِشَيْءِ. وَلَعَلَّهمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ظَاهَرَ مِنْ الْآخَرِ، فَكَانَ مُظَاهِرًا كَالرَّجُلِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] . فَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ تَحْرِيمًا فِي الزَّوْجَةِ، يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَفْعَهُ، فَاخْتَصَّ بِهِ الرَّجُلُ، كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْمَرْأَةِ حَقٌّ لِلرَّجُلِ، فَلَمْ تَمْلِكْ الْمَرْأَةُ إزَالَتَهُ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْكَفَّارَةِ، فَنَقَلَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ قَالَتْ: إنْ تَزَوَّجْت مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. فَسَأَلَتْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَرَأَوْا أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيّ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إلَيْنَا، فَسَأَلْتُهُ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مَوْلًى لِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، الَّتِي أَعْتَقَتْنِي عَنْ ظِهَارِهَا، خَطَبَهَا مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: هُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي إنْ تَزَوَّجْتُهُ. ثُمَّ رَغِبَتْ فِيهِ بَعْدُ، فَاسْتَفْتَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَوْمئِذٍ كَثِيرٌ، فَأَمَرُوهَا أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً وَتَتَزَوَّجَهُ، فَأَعْتَقَتْنِي وَتَزَوَّجَتْهُ. وَرَوَى سَعِيدٌ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مُخْتَصَرَيْنِ، وَلِأَنَّهَا زَوْجٌ أَتَى بِالْمُنْكَرِ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورِ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ كَالْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَاسْتَوَى فِيهَا الزَّوْجَانِ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ، وَلَيْسَ بِظِهَارٍ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً، كَالسَّبِّ وَالْقَذْفِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَيس بِظِهَارٍ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ، أَوْ تَحْرِيمٌ مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ مِنْ أَمَتِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ ذَهَبَ عَطَاءٌ مَذْهَبًا حَسَنًا، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَ. وَهَذَا أَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَشْبَهُ بِأُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْكَذِبِ، وَالظِّهَارِ قَبْلَ الْعَوْدِ، وَالظِّهَارِ مِنْ أَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يُثْبِتُ التَّحْرِيمَ فِي الْمَحَلِّ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، كَتَحْرِيمِ سَائِرِ الْحَلَالِ. وَلِأَنَّهُ ظِهَارٌ مِنْ غَيْرِ امْرَأَتِهِ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ مِنْ أَمَتِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إعْتَاقُهَا تَكْفِيرًا لَيَمِينِهَا، فَإِنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ أَحَدُ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا؛ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةٍ الْأَثْرَمِ، لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، إنَّمَا قَالَ: الْأَحْوَطُ أَنْ تُكَفِّرَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَحْوَطَ التَّكْفِيرُ بِأَغْلَظِ الْكَفَّارَاتِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ لِلْحَلَالِ مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ أَمَتَهُ، أَوْ طَعَامَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 (6227) فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا حَتَّى يَطَأَهَا وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَطْئِهَا، أَوْ إكْرَاهِهَا عَلَى الْوَطْءِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ، فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ فِيهَا، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ، كَكَفَّارَاتِ سَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِذَلِكَ، وَعَلَيْهَا تَمْكِينُ زَوْجِهَا مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِيَمِينِهَا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ لَحَلَالٍ، فَلَا يُثْبِتُ تَحْرِيمًا، كَمَا لَوْ حَرَّمَ طَعَامَهُ. وَحُكِيَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا لَا تُمَكِّنُهُ قَبْلُ التَّكْفِيرِ، إلْحَاقًا بِالرَّجُلِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ الظِّهَارُ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ الْحِلَّ حَقُّ الرَّجُلِ، فَمَلَكَ رَفْعَهُ، وَالْحِلُّ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَلَا تَمْلِكُ إزَالَتَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا] (6228) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا، فَلَمْ يُكَفِّرْ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، يَنْوِي بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ، أَوْ الِاسْتِئْنَافَ، أَوْ أَطْلَقَ. نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا كَثِيرَةً، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الْيَمِينِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ فَكَفَّارَتَانِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ، فَكَفَّارَاتٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَقَتَادَةَ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا نَوَى الِاسْتِئْنَافَ تَعَلَّقَ بِكُلِّ مَرَّةٍ حُكْمُ حَالِهَا، كَالطَّلَاقِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيمًا فِي الزَّوْجَةِ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيمًا، فَإِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَزِدْ تَحْرِيمُهَا، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ، فَإِذَا كَرَّرَهُ كَفَاهُ وَاحِدَةٌ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الطَّلَاقُ، فَمَا زَادَ عَنْ ثَلَاثٍ، لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَإِنَّهَا تُثْبِتُ تَحْرِيمًا زَائِدًا، وَهُوَ التَّحْرِيمُ قَبْلَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ، بِخِلَافِ الظِّهَارِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمٌ، فَنَظِيرُهُ مَا زَادَ عَلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ الثَّانِي. فَأَمَّا إنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ ظَاهَرَ، لَزِمَتْهُ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ، بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزَّوْجَةَ الْمُحَلَّلَةَ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 [فَصْلٌ شَرْطٌ النِّيَّة فِي صِحَّةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ] (6229) فَصْلٌ: وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْكَفَّارَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مُتَبَرَّعًا بِهِ، وَعَنْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، أَوْ نَذْرٍ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَصِفَتُهَا أَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ، أَوْ الصِّيَامَ، أَوْ الْإِطْعَامَ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ زَادَ الْوَاجِبَةَ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِلَّا أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ الْكَفَّارَةَ. وَإِنْ نَوَى وُجُوبَهَا، وَلَمْ يَنْوِ الْكَفَّارَةَ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَنَوَّعُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ، فَوَجَبَ تَمْيِيزُهُ. وَمَوْضِعُ النِّيَّةِ مَعَ التَّكْفِيرِ، أَوْ قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ. وَهَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُ حَتَّى يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ صِيَامًا اُشْتُرِطَ نِيَّةُ الصِّيَامِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَجِبْ تَعْيِينُ سَبَبِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ، أَجْزَأَهُ عَنْ إحْدَاهُنَّ، وَحَلَّتْ لَهُ وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَأَجْزَأَتْهُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَتَخْرُجَ بِالْقُرْعَةِ الْمُحَلَّلَةُ مِنْهُنَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، فَتَحِلُّ. وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مُحَلَّلَةً لَهُ، أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ مِنْ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ إحْدَاهُنَّ، ثُمَّ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ أُخْرَى، ثُمَّ مَرِضَ، فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ أُخْرَى، أَجْزَأَهُ، وَحَلَّ لَهُ الْجَمِيعُ، مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ تَقَعُ لَهَا الْقُرْعَةُ، فَالْعِتْقُ لَهَا، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَ الْبَاقِيَتَيْنِ، فَمَنْ تَقَعُ لَهَا الْقُرْعَةُ فَالصِّيَامُ لَهَا، وَالْإِطْعَامُ عَنْ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَوْ انْفَرَدَتْ، احْتَاجَتْ إلَى قُرْعَةٍ، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَتْ. وَلَنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ قَدْ حَصَلَ عَنْ الثَّلَاثِ، وَزَالَتْ حُرْمَةُ الظِّهَارِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى قُرْعَةٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ عَنْ ظِهَارِهِنَّ دَفْعَةً وَاحِدَةً. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَجْنَاسٍ؛ كَظِهَارٍ، وَقَتْلٍ، وَجِمَاعٍ فِي رَمَضَانَ، وَيَمِينٍ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ السَّبَبِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ أَدَائِهَا إلَى تَعْيِينِ سَبَبِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْيِينَ سَبَبِهَا، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ. وَحَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُمَا، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يُعْلَمُ سَبَبُهَا، فَكَفَّرَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، أَجْزَأَهُ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ بِعَدَدِ أَسْبَابِ الْكَفَّارَاتِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ عَنْ سَبَبٍ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ يَوْمٍ، لَا يَعْلَمُ أَمِنَ قَضَاءٍ هُوَ، أَوْ نَذْرٍ، لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمَيْنِ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا يَدْرِي أَهِيَ مِنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ نَذْرٍ، لَزِمَهُ صَوْمُ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. [فَصْل كَانَتْ عَلَى رَجُلٍ كَفَّارَتَانِ فَأَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ] (6230) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ عَلَى رَجُلٍ كَفَّارَتَانِ، فَأَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدهَا، أَنْ يَقُولَ: أَعْتَقْت هَذَا عَنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا عَنْ هَذِهِ. فَيُجْزِئُهُ، إجْمَاعًا. الثَّانِي، أَنْ يَقُولَ: أَعْتَقْت هَذَا عَنْ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ، وَهَذَا عَنْ الْأُخْرَى. مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَيَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَكَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ، أَوْ كَفَّارَتَيْ قَتْلٍ، أَجْزَأَهُ. وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ، كَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ، وَكَفَّارَةِ قَتْلٍ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ السَّبَبِ؛ إنْ قُلْنَا: يُشْتَرَطُ. لَمْ يُجْزِئْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ. أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا. الثَّالِثُ، أَنْ يَقُولَ: أَعْتَقْتُهُمَا عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ عَنْهُمَا، وَيَقَعُ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ كَفَّارَةٍ، وَلِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الرَّابِعُ - أَنْ يَعْتِقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَيَكُونَ مُعْتِقًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَفَّارَتَيْنِ نِصْفَ الْعَبْدَيْنِ، فَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَتَيْنِ عَنْ كَفَّارَةٍ، هَلْ يُجْزِئُهُ أَوْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْأَشْقَاصَ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْخَاصِ، فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ، بِدَلِيلِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ نِصْفَ ثَمَانِينَ شَاةً، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَلَكِ أَرْبَعِينَ، وَلَا تَلْزَمُ الْأُضْحِيَّةُ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ حَامِدٍ: لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَا أُمِرَ بِصَرْفِهِ إلَى شَخْصٍ فِي الْكَفَّارَةِ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهُ عَلَى اثْنَيْنِ، كَالْمُدِّ فِي الْإِطْعَامِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا أَجْزَأَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا، حَصَلَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ وَالتَّصَرُّفُ. وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي وَجْهًا لَنَا أَيْضًا، إلَّا أَنَّ لِلْمُعْتَرِضِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ تَكْمِيلَ الْأَحْكَامِ مَا حَصَلَ بِعِتْقِ هَذَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِانْضِمَامِهِ إلَى عِتْقِ النِّصْفِ الْآخَرِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يُجْزِئُ. عِتْقُ النِّصْفَيْنِ. لَمْ يُجْزِئْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْكَفَّارَتَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُجْزِئُ. وَكَانَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ، أَجْزَأَ الْعِتْقُ عَنْهُمَا. وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ، فَقَدْ قِيلَ: يُخَرَّجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ عِتْقَ النِّصْفَيْنِ عَنْهُمَا كَعِتْقِ عَبْدَيْنِ عَنْهُمَا. [فَصْل تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الظِّهَار قَبْل الظِّهَار] (6231) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِهِ، فَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ عَنْ ظِهَارِي إنْ تَظَاهَرْتُ عَتَقَ وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ ظِهَارِهِ إنْ ظَاهَرَ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبِهَا الْمُخْتَصِّ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَيْهَا، أَوْ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْجُرْحِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. لَمْ يَجُزْ التَّكْفِيرُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْكَفَّارَةِ قَبْلَ الظِّهَارِ. فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ، عَتَقَ الْعَبْدُ، وَصَارَ مُظَاهِرًا، وَلَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، فَلَا يُوجَدُ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ تَظَاهَرْتُ، فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي. ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. عَتَقَ الْعَبْدُ، لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بَعْدَ الظِّهَارِ، وَقَدْ نَوَى إعْتَاقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي - لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ عِنْدَ الْعِتْقِ، وَالنِّيَّةُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَا تُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لَهَا عَلَى سَبَبِهَا. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ تَظَاهَرْت فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي. فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِعِتْقِهِ عَلَى الْمُظَاهَرَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 [كِتَابُ اللِّعَانِ] ِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ اللَّعْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَلْعَنُ نَفْسَهُ فِي الْخَامِسَةِ إنْ كَانَ كَاذِبًا. وَقَالَ الْقَاضِي: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَنْفَكَّانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا، فَتَحْصُلُ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الْآيَاتِ. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، «أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي صَاحِبَتِك، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا. قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ، وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي جِئْت أَهْلِي، فَوَجَدْت عِنْدَهُمْ رَجُلًا، فَرَأَيْت بِعَيْنَيَّ، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِيَّ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ بِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] الْآيَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا هِلَالُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا قَالَ هِلَالٌ: قَدْ كُنْت أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْسِلُوا إلَيْهَا. فَأَرْسَلُوا إلَيْهَا، فَتَلَاهَا عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَّرَهُمَا، وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. فَقَالَ هِلَالٌ: وَاَللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: كَذَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا. فَقِيلَ لَهِلَالٍ: اشْهَدْ. فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ: يَا هِلَالُ اتَّقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعَذَابَ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا. فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا: اشْهَدِي. فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ. فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي. فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ، أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنْ لَا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلَا قُوتَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَقَالَ: إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُرَيْصِحَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ. فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ، جَعْدًا، جُمَالِيًّا، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا الْأَيْمَانُ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ. قَالَ عِكْرِمَةُ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ. وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُبْتَلَى بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ لِيَنْفِيَ الْعَارَ وَالنَّسَبَ الْفَاسِدَ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَجُعِلَ اللِّعَانُ بَيِّنَةً لَهُ، وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْشِرْ يَا هِلَالُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.» [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ فَقَالَ لَهَا زَنَيْتِ] [فَصْلُ صِفَةِ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ يَصِحُّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا] (6232) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ، فَقَالَ لَهَا: زَنَيْتِ. أَوْ: يَا زَانِيَةُ. أَوْ: رَأَيْتُك تَزْنِينَ. وَلَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ، لَزِمَهُ الْحَدُّ، إنْ لَمْ يَلْتَعْنَ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا) . الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ: (6233) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ يَصِحُّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِمَا، فَرُوِيَ أَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 يَصِحُّ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، أَوْ عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ، أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ يَلْتَعِنُونَ؛ الْحُرُّ مِنْ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَتْ زَوْجَةً، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مِنْ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَتْ زَوْجَةً. وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، عَدْلَيْنِ، حُرَّيْنِ، غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَنْ مَكْحُولٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيَّةِ لِعَانٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ: يُضْرَبُ الْحَدَّ، وَلَا يُلَاعِنُ. وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ. كَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالسَّاجِيُّ. لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] . فَاسْتَثْنَى أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] . فَلَا يُقْبَلُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهَا، لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] . وَلَا حَدَّ هَاهُنَا، فَيَنْتَفِي اللِّعَانُ لِانْتِفَائِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي (الْمُجَرَّدِ) أَنَّ مَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا، وَهِيَ الْأَمَةُ، وَالذِّمِّيَّةُ، وَالْمَحْدُودَةُ فِي الزِّنَا، لِزَوْجِهَا لِعَانُهَا؛ لِنَفْيِ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا لِإِسْقَاطِ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا يُشْرَعُ لِإِسْقَاطِ حَدٍّ، أَوْ نَفْيِ وَلَدٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يُشْرَعْ اللِّعَانُ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . الْآيَةَ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى مَا شَرَطُوهُ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . وَأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ شَهَادَةً، فَلِقَوْلِهِ فِي يَمِينِهِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ. فَسَمَّى ذَلِكَ شَهَادَةً وَإِنْ كَانَ يَمِينًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، فَيُشْرَعُ لَهُ طَرِيقًا إلَى نَفْيِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مِمَّنْ يُحَدُّ بِقَذْفِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَمَا يُخَالِفُهَا شَاذٌّ فِي النَّقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: وَإِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَرَطَ هَذَا لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لَا لِنَفْيِ اللِّعَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْمَرْأَةِ، لِتَكُونَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا، فَيَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ فَاسِقًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ: مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ زَوْجًا لَمُسْلِمَةٍ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ لَفْظِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الزَّوْجَ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَرَدَّ ذَلِكَ إلَى اللِّعَانِ، لَا إلَى الْحَدِّ. الثَّانِي، أَنَّهُ أَرَادَ مَا إذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ، فَقَذَفَهَا فِي عِدَّتِهَا، ثُمَّ أَسْلَمْ الزَّوْجُ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ. (6234) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجَةِ مَدْخُولًا بِهَا، أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فِي أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، بِظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْهُ. كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا صَدَاقَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا، فَأَشْبَهَ الْفُرْقَةَ لَعَيْبٍ فِي أَحَدِهِمَا. [فَصْلٌ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ فِي اللِّعَانِ] (6235) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ تَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، كَالطَّلَاقِ، أَوْ يَمِينٌ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. وَلَا يَخْلُو غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَ، أَوْ الزَّوْجَةَ، أَوْ هُمَا؛ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدِهِمَا، أَنْ يَكُونَ طِفْلًا. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونُ بَالِغًا زَائِلَ الْعَقْلِ. فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ، وَقَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِنْ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ عَشْرِ سِنِينَ، لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ، وَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُجْرِ الْعَادَةَ بِأَنْ يُولَدَ لَهُ لِدُونِ ذَلِكَ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا. وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرٍ فَصَاعِدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْلَقُ إلَّا مِنْ مَاء الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَوْ أَنْزَلَ لَبَلَغَ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُلْحَقُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، لَحِقَ بِالزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ يُلْحَقُ بِهِ إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ، مَعَ نُدْرَتِهِ. وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ فِي الْحَالِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ بُلُوغُهُ بِأَحَدِ أَسْبَابِ الْبُلُوغِ، فَلَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَاسْتِلْحَاقُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَلْحَقْتُمْ بِهِ الْوَلَدَ، فَقَدْ حَكَمْتُمْ بِبُلُوغِهِ، فَهَلَّا سَمِعْتُمْ نَفْيَهُ وَلِعَانَهُ؟ قُلْنَا: إلْحَاقُ الْوَلَدِ يَكْفِي فِيهِ الْإِمْكَانُ، وَالْبُلُوغُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِأَنَّ إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَاللِّعَانُ حَقٌّ لَهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 مَعَ الشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا انْتَفَى عَنْهُ الْوَلَدُ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا انْتَفَى عَنْهُ اللِّعَانُ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّتِهَا، فَسَقَطَتْ لِلشَّكِّ فِيهَا. الثَّانِي، إذَا كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ لَجُنُونٍ، فَلَا حُكْمَ لِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، وَإِنْ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ، فَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ، لِإِمْكَانِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى نَفْيِهِ مَعَ زَوَالِ عَقْلِهِ، فَإِذَا عَقَلَ، فَلَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ حِينَئِذٍ وَاسْتِلْحَاقُهُ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ حِينَ قَذَفَهُ، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، وَلِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِمَا قَالَ، ثَبَتَ قَوْلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَالَةٌ عُلِمَ فِيهَا زَوَالُ عَقْلِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ. وَإِنْ عُرِفَتْ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ، وَلَمْ تُعْرَفْ لَهُ حَالَةُ إفَاقَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ عُرِفَتْ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ وَحَالَةُ إفَاقَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَلْفُوفِ إذَا ضَرَبَهُ فَقَدَّهُ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا، وَقَالَ الْوَلِيُّ: كَانَ حَيًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْحَدِّ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَلْفُوفَ، لِأَنَّ الْمَلْفُوفَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ ضِدُّ ذَلِكَ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّهُ يُعْرَفُ لَهُ حَالَةُ إفَاقَةٍ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ ضِدُّهَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ تَقَدَّمَ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ اسْتَمَرَّتْ إلَى حِينِ قَذْفِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ، فَقَذَفَهَا الزَّوْجُ؛ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَتْ طِفْلَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُتَيَقَّنُ كَذِبُهُ فِيهِ، وَبَرَاءَةُ عِرْضِهَا مِنْهُ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ حَدٌّ كَمَا لَوْ قَالَ: أَهْلُ الدُّنْيَا زُنَاةٌ. وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ لِلسَّبِّ، لَا لِلْقَذْفِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي التَّعْزِيرِ إلَى مُطَالَبَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَتَأْدِيبِهِ، وَلِلْإِمَامِ فِعْلُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، كَابْنَةِ تِسْعِ سِنِينَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا وَلَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَتْ فَطَالَبَتْ، فَلَهَا الْحَدُّ، وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُرَادُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ أَوْ نَفْي الْوَلَدِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهَا، وَلَا وَلَدَ فَيَنْفِيَهُ، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ أَحَدُ أَسْبَابِ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ نُطْفَتِهَا، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ إنْزَالُهَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ بُلُوغِهَا. وَإِنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْمَجْنُونَةَ بِزِنًا أَضَافَهُ إلَى حَالِ إفَاقَتِهَا، أَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ، ثُمَّ حَنِثَ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ، وَلَا لِوَلِيِّهَا قَبْلَ إفَاقَتِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقُهُ التَّشَفِّي، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ الْوَلِيُّ فِيهِ، كَالْقِصَاصِ، فَإِذَا أَفَاقَتْ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ، وَلِلزَّوْجِ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ أَرَادَ لِعَانَهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا، وَلَا وَلَدَ يَنْفِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ حَدٌّ فَيُسْقِطَهُ، وَلَا نَسَبٌ فَيَنْفِيَهُ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ، وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا لِعَانٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي الْخَرْسَاءِ، أَنَّ زَوْجَهَا لَا يُلَاعِنُ. فَهَذِهِ أَوْلَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 وَقَالَ الْخِرَقِيِّ فِي الْعَاقِلَةِ: لَا يُعْرَضُ لَهُ حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَلَمْ يُشْرَعْ اللِّعَانُ مَعَ جُنُونِهِ، كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ لَا يَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ، فَشُرِعَ لَهُ طَرِيقٌ إلَى نَفْيِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ لَهُ لِعَانَهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . وَلِأَنَّهُ زَوْجٌ مُكَلَّفٌ، قَاذِفٌ لِامْرَأَتِهِ، الَّتِي يُولَدُ لِمِثْلِهَا، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً. [فَصْلٌ حُكْم الْأَخْرَسِ وَالْخَرْسَاءَ فِي اللِّعَانِ] (6236) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَخْرَسُ وَالْخَرْسَاءُ؛ فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مَعْلُومَيْ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَهُمَا كَالْمَجْنُونَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا لِعَانٌ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْ الزَّوْجِ قَذْفٌ، وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ مُطَالَبَةٌ. وَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ؛ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَرْسَاءُ لَمْ تُلَاعَنَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ مُطَالَبَتُهَا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْرَسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَفْظٌ يَفْتَقِرُ إلَى الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَخْرَسِ، كَالشَّهَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْإِشَارَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً كَالنُّطْقِ، فَلَا تَخْلُو مِنْ احْتِمَالٍ وَتَرَدُّدٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِهَا، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِشَهَادَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ كَالنَّاطِقِ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَصَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ، كَالنَّاطِقِ، وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنْ حُصُولُهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى الْأَخْرَسِ، وَفِي اللِّعَانِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْهُ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِهِ مِنْهُ، كَالطَّلَاقِ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَذْفِ وُجُوبُ الْحَدِّ، وَهُوَ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَقْصُودُ اللِّعَانِ الْأَصْلِيُّ نَفْيُ النَّسَبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالْإِمْكَانِ، مَعَ ظُهُورِ انْتِفَائِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ مَا يَنْفِيهِ، وَلَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الشُّبْهَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّهَادَةَ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهِ. قُلْنَا: قَدْ لَا تَحْصُلُ إلَّا مِنْهُ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِرُؤْيَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، أَوْ سَمَاعِهِ إيَّاهُ. [فَصْلٌ قَذَفَ الْأَخْرَسُ أَوْ لَاعَنَ ثُمَّ تَكَلَّمَ فَأَنْكَرَ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ] (6237) فَصْلٌ: فَإِنْ قَذَفَ الْأَخْرَسُ أَوْ لَاعَنَ ثُمَّ تَكَلَّمَ، فَأَنْكَرَ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ لِلْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَا يُقْبَلُ إنْكَارُهُ لَهُ، وَيُقْبَلُ إنْكَارُهُ لِلِّعَانِ فِيمَا عَلَيْهِ، فَيُطَالَبُ بِالْحَدِّ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَلَا تَعُودُ الزَّوْجِيَّةُ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُلَاعِنُ لِلْحَدِّ وَنَفْيِ النَّسَبِ. كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يُلَاعِنْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 [فَصْلٌ قَذَفَهَا وَهُوَ نَاطِقٌ ثُمَّ خَرِسَ وَأَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ] (6238) فَصْلٌ: فَإِنْ قَذَفَهَا وَهُوَ نَاطِقٌ، ثُمَّ خَرِسَ، وَأَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَخْرَسِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُ نُطْقِهِ، وَزَوَالُ خَرَسِهِ، اُنْتُظِرَ بِهِ ذَلِكَ، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَطِبَّاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي الْحَالَيْنِ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ أُصْمِتَتْ، فَقِيلَ لَهَا: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلَفُلَانً كَذَا؟ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَرَأَوْا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ مَنْ الرَّاوِي لِذَلِكَ، وَلَمْ يُعْلَم أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ، وَلَا عُلِمَ هَلْ كَانَ ذَلِكَ لَخَرَسٍ يُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ لَا؟ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ، وَأَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ: هَلْ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْل كُلُّ مَوْضِعٍ لَا لِعَانَ فِيهِ فَالنَّسَبُ لَاحِقٌ فِيهِ] (6239) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا لِعَانَ فِيهِ، فَالنَّسَبُ لَاحِقٌ فِيهِ، وَيَجِبُ بِالْقَذْفِ مُوجَبُهُ مِنْ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا، فَلَا ضَرْبَ فِيهِ، وَلَا لِعَانَ. كَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ: وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. [فَصْلُ لَا لِعَانَ بَيْنَ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ] (6240) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا لِعَانَ بَيْنَ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً مُحْصَنَةً، حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً عُزِّرَ، وَلَا لِعَانَ أَيْضًا. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . ثُمَّ خَصَّ الزَّوْجَاتِ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . فَفِيمَا عَدَاهُنَّ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ. وَإِنْ مَلَكَ أَمَةً، ثُمَّ قَذَفَهَا، فَلَا لِعَانَ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ، أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا، وَيُعَزَّرُ. فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوَطْئِهَا، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا، صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ. وَإِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ يَوْمِ الْوَطْءِ لَحِقَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ حَتَّى يُقِرّ بِوَلَدِهَا، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَحِقَهُ أَوْلَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، لَصَارَتْ فِرَاشًا بِإِبَاحَتِهِ، كَالزَّوْجَةِ. وَلَنَا، أَنَّ سَعْدًا نَازَعَ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ: هُوَ أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ، ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ أَلَمَّ بِهَا، إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا، فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ اُتْرُكُوا. وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا صَارَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا سُمِّيَتْ فِرَاشًا تَجَوُّزًا، إمَّا لِمُضَاجَعَتِهِ لَهَا عَلَى الْفِرَاشِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا تَحْتَهُ فِي حَالِ الْمُجَامَعَةِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَحْصُلُ فِي الْجِمَاعِ، وَقِيَاسُهُمْ الْوَطْءَ عَلَى الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْوَلَدُ بِدُونِ الْوَطْءِ، وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَدْ إلَّا لِلْوَطْءِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِي مَحَلٍّ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ، كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ وَلَدِ أَمَتِهِ الَّتِي يَلْحَقهُ وَلَدُهَا، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ وَطْئِهِ لَهَا بِحَيْضَةٍ، فَيَنْتَفِي بِذَلِكَ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ. فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا. قَالَ: فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَمَلَتْ. قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُك أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِي، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيَّ. يَعْنِي ابْنَهُ. وَلِحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعَهُ الْإِنْزَالُ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، لَمْ تَصِرْ بِذَلِكَ فِرَاشًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلِأَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ الْوَلَدُ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ إذَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِمُدَّةِ الْحَمْلِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَصِيرُ فِرَاشًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ، فَيَسْبِقُ الْمَاءُ إلَى الْفَرْجِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ، وَإِذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، قُبِلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَالْمَرْأَةِ تَدَّعِي انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا. وَفِي الْآخَرِ، يُسْتَحْلَفُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ". وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ. وَمَتَى لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ، لَحِقَهُ وَلَدُهَا، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَرْأَةِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . فَخَصَّ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجَ، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ، فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ، فَأَلْحَقَتْ الْقَافَةُ وَلَدَهَا بِهِ، وَلِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، فَلَا يُشْرَعُ، وَلِأَنَّهُ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ نَفْيُهُ؛ لِكَوْنِ النَّسَبِ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ، فَكَيْفَ مَعَ ظُهُورِ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَلَوْ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ. فَأَتَتْ بِوَلَدَيْنِ، فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ، لَحِقَاهُ مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ وَالْآخَرِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ الْمُقَرِّ بِهِ عَنْهُ مَعَ إقْرَارِهِ بِهِ، فَوَجَبَ إلْحَاقُهُمَا بِهِ مَعًا. وَكَذَلِكَ إنْ أَتَتْ أَمَتُهُ الَّتِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِوَطْئِهَا بِتَوْأَمَيْنِ، فَاعْتَرَفَ بِأَحَدِهِمَا، وَنَفَى الْآخَرَ. [فَصْلٌ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ قَذَفَهَا وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ] (6241) فَصْلٌ: وَإِذَا نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا، ثُمَّ قَذَفَهَا، وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، حُدَّ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَلَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَجْنَبِيَّاتِ، أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا وَلَدٌ يَلْحَقُهُ بِحُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، وَيُفَارِقُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَذْفِ؛ لِكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً، وَيُفَارِقُ سَائِرَ الْأَجْنَبِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ وَلَدُهُنَّ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى قَذْفِهِنَّ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ. فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قَذْفِهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، لِكَوْنِهَا خَانَتْهُ وَغَاظَتْهُ وَأَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَالْحَاجَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا، وَإِذَا لَاعَنَ سَقَطَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ مَشْرُوعٌ لِنَفْيِ الْحَدِّ، فَأَسْقَطَ الْحَدَّ، كَاللِّعَانِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ. وَهَلْ يُثْبِتُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُثْبِتُهُ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ صَحِيحٌ، أَشْبَهَ لِعَانَ الزَّوْجَةِ. وَالثَّانِي، لَا يُثْبِتُهُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ قَطْعُهُ بِهِ، بِخِلَافِ لِعَانِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِهِ. وَلَوْ لَاعَنَهَا مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ، وَلَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ فَاسِدٌ، فَلَمْ تَثْبُتْ أَحْكَامُهُ. وَسَوَاءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَاعَنَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ. [فَصْل أَبَانَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا بزنا أضافه إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ] (6242) فَصْلٌ: فَلَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهِيَ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا؛ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، وَإِلَّا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحَدُّ، وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، وَلَا يُلَاعِنُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَبِهِ حَاجَةٌ إلَى الْقَذْفِ، فَشُرِعَ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، وَقَدْ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ. وَمَتَى لَاعَنَهَا لِنَفْيِ وَلَدِهَا انْتَفَى، وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَفِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ وَجْهَانِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ لِعَانُهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، كَانَ لَهُ لِعَانُهَا قَبْلَهُ، كَالزَّوْجَةِ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عِنْدَهُ لَا يَنْتَفِي فِي حَالِ الْحَمْلِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَثْبُتُ هَاهُنَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِهِ بِوَضْعِهِ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِعَانِهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ثُمَّ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ] (6243) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَانَ لَاحِقًا بِهِ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إلَّا بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ دُونَ النِّكَاحِ، لِكَوْنِ الْمِلْكِ حَاضِرًا، فَصَارَ كَالزَّوْجِ الثَّانِي، يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَ، كَانَ مُلْحَقًا بِالنِّكَاحِ، إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، وَهَلْ يُثْبِتُ هَذَا اللِّعَانُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ قَذَفَ مُطَلَّقَتَهُ الرَّجْعِيَّةَ] (6244) فَصْلٌ: إذَا قَذَفَ مُطَلَّقَتَهُ الرَّجْعِيَّةَ، فَلَهُ لِعَانُهَا، سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ يَقْذِفُهَا. قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُلَاعِنُ، وَيُجْلَدُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يُلَاعِنُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَهُوَ يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ، فَهُوَ يُلَاعِنُ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ فَكَانَ لَهُ لِعَانُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. [فَصْلٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا] (6245) فَصْلٌ: وَإِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا، فَلَهُ لِعَانُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَرُوِيَ ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ: يُجْلَدُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَانِ بِزَوْجَيْنِ، وَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَجْنَبِيَّةً. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . وَهَذَا قَدْ رَمَى زَوْجَتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُوم الْآيَةِ، وَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِزَوْجَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ اللِّعَانِ. [فَصْلٌ قَالَتْ قَذَفَنِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي وَقَالَ بَلْ بَعْدَهُ] (6246) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتْ: قَذَفَنِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي. وَقَالَ: بَلْ بَعْدَهُ. أَوْ قَالَتْ: قَذَفَنِي بَعْدَ مَا بِنْتُ مِنْهُ. وَقَالَ: بَلْ قَبْلَهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْقَذْفِ، فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ. وَإِنْ قَالَتْ أَجْنَبِيَّةٌ: قَذَفَنِي. فَقَالَ: كُنْت زَوْجَتِي حِينَئِذٍ. فَأَنْكَرَتْ الزَّوْجِيَّةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا. [فَصْلٌ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا] (6247) فَصْلٌ: وَلَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي حَالِ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً، فَلَمْ يَمْلِكْ اللِّعَانَ مِنْ أَجْلِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا. وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، حُدَّ، وَلَمْ يُلَاعِنْ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . وَلِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ. وَحَكَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ، لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَهَا قَذْفًا مُضَافًا إلَى حَالِ الْبَيْنُونَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ بَائِنٌ، وَفَارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِأَنَّهَا غَاظَتْهُ وَخَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ، وَهَاهُنَا إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ زِنَاهَا، فَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي نِكَاحِ حَامِلٍ مِنْ الزِّنَا، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ طَرِيقٌ إلَى نَفْيِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ] (6248) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ. فَنَقَلَ مُهَنَّا، قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ. ثَلَاثًا، فَقَالَ: يُلَاعِنُ. قُلْت: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: يُحَدُّ، وَلَا يَلْزَمُهَا إلَّا وَاحِدَةٌ. قَالَ: بِئْسَ مَا يَقُولُونَ. فَهَذَا يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْنُونَتِهَا، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الرَّجْعِيَّةِ. وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ؛ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إضَافَةُ الْقَذْفِ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الزِّنَا مِنْهَا بَعْدَ طَلَاقِهِ لَهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا بَعْدَ إبَانَتِهَا: زَنَيْت إذْ كُنْت زَوْجَتِي. عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. [فَصْل كُلَّ قَذْفٍ لِلزَّوْجَةِ يَجِبُ بِهِ اللِّعَانُ] (6249) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ لِلزَّوْجَةِ يَجِبُ بِهِ اللِّعَانُ، سَوَاءٌ قَالَ لَهَا: زَنَيْت. أَوْ: رَأَيْتُك تَزْنِينَ. سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ أَعْمًى أَوْ بَصِيرًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَقَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ: لَا يَكُونُ اللِّعَانُ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا رُؤْيَةٍ، وَإِمَّا إنْكَارٍ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَالَ: رَأَيْت بِعَيْنَيَّ، وَسَمِعْت بِأُذُنَيَّ. فَلَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ إلَّا فِي مِثْلِهِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ. وَهَذَا رَامٍ لِزَوْجَتِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مَعْنًى يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ مُوجَبِ الْقَذْفِ، فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ كُلِّ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ، كَالْبَيِّنَةِ. وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ خُصُوصِ السَّبَبِ، ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَسَمِعْت بِأُذُنَيَّ. وَسَوَاءٌ قَذَفَهَا بِزِنًا فِي الْقُبُلِ أَوْ فِي الدُّبُرِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ بِالْقَذْفِ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ، فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ. وَلَنَا، أَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ بِوَطْءٍ فِي فَرْجِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا بِالْوَطْءِ فِي قُبُلِهَا. وَأَمَّا إنْ قَذَفَهَا بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَوَاحِشِ غَيْرِ الزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا بِضَرْبِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ. [فَصْلُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْمُحْصَنَةَ] (6250) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْمُحْصَنَةَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُلَاعِنَ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ اللِّعَانِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] الْآيَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 فَلَمْ يُوجِبْ بِقَذْفِ الْأَزْوَاجِ إلَّا اللِّعَانَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وَهَذَا عَامٌّ فِي الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّوْجَ بِأَنْ أَقَامَ لِعَانَهُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ، فِي نَفْيِ الْحَدِّ وَالْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ عَنْهُ. وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك» . وَقَوْلُهُ لَمَّا لَاعَنَ: " عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ". وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَلَزِمَهُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ الْمَشْرُوعَةِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. فَأَمَّا إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا كَالْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمَجْنُونَةِ، وَالطِّفْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِنَّ الْمَعَرَّةَ بِالْقَذْفِ، وَلَا يُحَدُّ لَهُنَّ حَدًّا كَامِلًا لِنُقْصَانِهِنَّ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِسْقٌ، وَلَا رَدُّ شَهَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ هَذَا التَّعْزِيرِ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إمَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ، أَوْ لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إسْقَاطَ الْحَدِّ الْكَامِلِ بِاللِّعَانِ، فَإِسْقَاطُ مَا دُونَهُ أَوْلَى. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِدَفْعِ الْحَدِّ الَّذِي يَعْظُمُ ضَرَرُهُ، مَشْرُوعِيَّتُهُ لِدَفْعِ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَ طِفْلَةً لَا يُتَصَوَّرُ وَطْؤُهَا، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. كَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. [مَسْأَلَة لَا يُعْرَضُ لِلزَّوْجِ فِي الْحَدّ حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ بِاللِّعَانِ] (6251) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يُعْرَضُ لَهُ، حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ) . يَعْنِي لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَا طَلَبِ اللِّعَانِ مِنْهُ، حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، فَلَا يُقَامُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا، كَسَائِرِ حُقُوقِهَا. وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا الْمُطَالَبَةُ عَنْهَا إنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، وَلَا لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّعْزِيرِ مِنْ أَجْلِهِمَا؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَبَتَ لِلتَّشَفِّي، فَلَا يَقُومُ الْغَيْرُ فِيهِ مَقَامَ الْمُسْتَحِقِّ، كَالْقِصَاصِ. فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ اللِّعَانَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ، مِثْلُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِزِنَاهَا، أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ قَذْفِهَا، أَوْ حُدَّ لَهَا ثُمَّ أَرَادَ لِعَانَهَا، وَلَا نَسَبَ هُنَاكَ يُنْفَى، فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا: لَهُ الْمُلَاعَنَةُ؛ لِإِزَالَةِ الْفِرَاشِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْفِرَاشِ تُمَكِّنُهُ بِالطَّلَاقِ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لَيْسَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 بِمَقْصُودٍ يُشْرَعُ اللِّعَانُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ ضِمْنًا. فَأَمَّا إنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، وَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، أَرْسَلَ إلَيْهَا، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكُنْ طَالَبَتْهُ. وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ، فَشُرِعَ لَهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ طَالَبَتْهُ، وَلِأَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ الْبَاطِلِ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا بِهِ، كَمَا لَوْ طَالَبَتْ بِاللِّعَانِ وَرَضِيَتْ بِالْوَلَدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُشْرَعَ اللِّعَانُ هَاهُنَا، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا فَصَدَّقَتْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُوجَبَيْ الْقَذْفِ فَلَا يُشْرَعُ مَعَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، كَالْحَدِّ. [فَصْلٌ قَذَفَهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ لِعَانُهُمَا أَوْ قَبْلَ إتْمَامِ لِعَانُهُ] (6252) فَصْلٌ: وَإِذَا قَذَفَهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ لِعَانِهِمَا، أَوْ قَبْلَ إتْمَامِ لِعَانِهِ، سَقَطَ اللِّعَانُ، وَلَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَوَرِثَتْهُ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلَ لِعَانَهُ، وَقَبْلَ لِعَانِهَا، فَكَذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبِينُ بِلِعَانِهِ، وَيَسْقُطُ التَّوَارُثُ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ، وَيَلْزَمُهَا الْحَدُّ، إلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ. وَلَنَا أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ إكْمَالِ اللِّعَانِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ إكْمَالِ الْتِعَانِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا رَتَّبَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى اللِّعَان التَّامِّ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ كَمَالِ سَبَبِهِ. وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَقَدْ مَاتَتْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَيَرِثُهَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ الْتَعَنَ، لَمْ يَرِثْ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَعِكْرِمَةَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُوجِبُ فُرْقَةً تَبِينُ بِهَا، فَيَمْنَعُ التَّوَارُثَ، كَمَا لَوْ الْتَعَنَ فِي حَيَاتِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا مَاتَتْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، فَوَرِثَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ بَعْدَ مَوْتِهَا كَالطَّلَاقِ، وَفَارَقَ اللِّعَانُ فِي الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الزَّوْجِيَّةَ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَهَا وَلَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ، لَمْ تَنْقَطِعْ الزَّوْجِيَّةُ أَيْضًا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمْ: لَوْ الْتَعَنَ مِنْ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَنَفَاهُ لَمْ يَرِثْهُ فَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ؟ قُلْنَا: لَوْ الْتَعَنَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ دُونَهَا، لَمْ يَنْتَفِ الْوَلَدُ، وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ اللِّعَانِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا نَفَى الْوَلَدَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ أَصْلًا فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَالزَّوْجَةُ قَدْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فِيمَا قَبْلَ اللِّعَانِ، وَإِنَّمَا يُزِيلُ نِكَاحَهَا اللِّعَانُ، كَمَا يُزِيلُهُ الطَّلَاقُ. فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَهُ، فَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ وُجُودِ مَا يُزِيلُهُ، فَيَكُونُ مَوْجُودًا حَالَ الْمَوْتِ، فَيُوجِبُ التَّوَارُثَ، وَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، فَلَا يُمْكِنُ انْقِطَاعُهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ اللِّعَانَ، وَلَمْ تَكُنْ طَالَبَتْ بِالْحَدِّ فِي حَيَاتِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّ لِعَانَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ، وَعِنْدَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ طَالَبَتْ بِالْحَدِّ فِي حَيَاتِهَا، فَإِنَّ أَوْلِيَاءَهَا يَقُومُونَ فِي الطَّلَبِ بِهِ مَقَامَهَا، فَإِنْ طُولِبَ بِهِ، فَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الطَّلَبِ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَارِثٌ غَيْرَ الزَّوْجِ، فَلَهُ اللِّعَانُ، لِيُسْقِطَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 [فَصْلٌ مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ] (6253) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ، سَقَطَ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ الطَّلَبُ بِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يُورَثُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَالَبَ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ، يُورَثُ إذَا طَالَبَ بِهِ، فَيُورَثُ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَدٌّ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الطَّلَبُ مِنْ الْمَالِكِ، لَمْ يَجِبْ، كَحَدِّ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الْمَتْرُوكَ يُورَثُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ، وَأَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَيَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَمَّا إنْ طَالَبَ بِهِ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ تَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ مِنْ النَّسَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمَتَى ثَبَتَ لِلْعَصَبَاتِ، فَلَهُمْ اسْتِيفَاؤُهُ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ، فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ. وَإِنْ عَفَى بَعْضُهُمْ، لَمْ يَسْقُطْ، وَكَانَ لِلْبَاقِينَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ، كَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يُرَادُ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، فَلَمْ يَتَبَعَّضْ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَصَبَاتِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُهُ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَيُفَارِقُ حَقَّ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفُوتُ إلَى بَدَلٍ، وَلَوْ أَسْقَطْنَاهُ هَاهُنَا، لَسَقَطَ حَقُّ غَيْرِ الْعَافِي إلَى غَيْرِ بَدَلٍ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَلَهَا أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتهَا غَيْرُهُ، فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَصَبَتَهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَحَدٌ سِوَاهُ، سَقَطَ. وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْ عَصَبَتهَا غَيْرُهُ، فَلَهُ الطَّلَبُ بِهِ، وَلَا يَسْقُطُ؛ بِمَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّهُ يَكْمُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ. [فَصْل قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَلَهُ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِزِنَاهَا] (6254) فَصْلٌ: وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، وَلَهُ بَيِّنَةٌ، تَشْهَدُ بِزِنَاهَا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ لِعَانِهَا وَبَيْنَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُمَا بَيِّنَتَانِ، فَكَانَتْ لَهُ الْخِيرَةُ فِي إقَامَةِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ، كَمَنْ لَهُ بِدَيْنٍ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ بِهَا مَا لَا يَحْصُلُ بِالْأُخْرَى، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِاللِّعَانِ نَفْيُ النَّسَبِ الْبَاطِلِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَيَحْصُلُ بِالْبَيِّنَةِ ثُبُوتُ زِنَاهَا، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَحْصُلُ بِاللِّعَانِ، فَإِنْ لَاعَنَهَا وَنَفَى وَلَدَهَا، ثُمَّ أَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ، فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا أَقَامَهَا، ثَبَتَ مُوجَبُ اللِّعَانِ وَمُوجَبُ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا، ثَبَتَ الزِّنَا وَمُوجَبُهُ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ الْوَلَدُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الزِّنَا كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْهُ. وَإِنْ أَرَادَ لِعَانَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ انْتَفَى عَنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ قَذَفَهَا فَطَالَبَتْهُ بِالْحَدِّ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِهَا بِالزِّنَا] (6255) فَصْلٌ: وَإِنْ قَذَفَهَا، فَطَالَبَتْهُ بِالْحَدِّ، فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِهَا بِالزِّنَا، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَصْدِيقُهَا إيَّاهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا بِشَاهِدَيْنِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ. وَاخْتَارَهُ. وَالثَّانِي، لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُقَرُّ بِهِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِهِ، كَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، فَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ، أُقِيمُهَا عَلَى الزِّنَا. أُمْهِلَ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ، فَإِنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلَّا حُدَّ، إلَّا أَنْ يُلَاعِنَ إذَا كَانَ زَوْجًا. فَإِنْ قَالَ: قَذَفْتُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. وَقَالَتْ: قَذَفَنِي وَأَنَا كَبِيرَةٌ. وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا قَالَ، فَهُمَا قَذْفَانِ. وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي الْكُفْرِ وَالرِّقِّ أَوْ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَا مُؤَرَّخَيْنِ تَأْرِيخًا وَاحِدًا، فَيَسْقُطَانِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ. [فَصْلٌ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ وَقَذَفَنَا] (6256) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ وَقَذَفَنَا. لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لَاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ عَلَى عَدُوِّهِ. فَإِنْ أَبْرَآهُ وَزَالَتْ الْعَدَاوَةُ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَذْفِ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدُ، كَالْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا. وَلَوْ أَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا، ثُمَّ أَبْرَآهُ وَزَالَتْ الْعَدَاوَةُ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُرَدَّا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا، فَإِنْ أَضَافَا دَعْوَاهُمَا إلَى مَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لَاعْتِرَافِهِمَا أَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا حِينَ شَهِدَا عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُضِيفَاهَا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا، لَمْ يُحْكَمْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ، وَإِنْ كَانَا بَعْدَ الْحُكْمِ، لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَمَّ قَبْلَ وُجُودِ الْمَانِعِ، كَظُهُورِ الْفِسْقِ. وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأُمَّنَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ لِلتُّهْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ لِلْكُلِّ. وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا، فَتَبِينُ، وَيَتَوَفَّرُ عَلَى أُمِّهِمَا. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ لِعَانَهُ لَهَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِزِنَاهَا، لَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَرِفُ بِهِ. وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ تَوْفِيرُهُ عَلَى أُمِّهِمَا. وَالثَّانِي، تُقْبَلُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا. [فَصْل شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَشَهِدَ آخِرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ] (6257) فَصْلٌ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 الِاخْتِلَافَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ عَائِدٌ إلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاحِدًا وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِقَذْفِهَا، وَشَهْدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ الِاخْتِلَافُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ. وَالْآخَرُ لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمْ تَثْبُتْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهْدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ بِالْقَذْفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ وَاحِدًا، أَقَرَّ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ بِلِسَانَيْنِ. [مَسْأَلَة مَتَى تَلَاعَنَا وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا أَبَدًا] (6258) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَمَتَى تَلَاعَنَا وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَجْتَمِعَا أَبَدًا) . فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَتَانِ: (6259) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا، وَهَلْ يُعْتَبَرُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فَلَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَحْصُلْ قَبْلَهُ. وَفِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ، قَالَ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ أَمْسَكْتهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا يَقْتَضِي إمْكَانَ إمْسَاكِهَا، وَأَنَّهُ وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ وَقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمَا وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَلَا أَمْكَنَهُ إمْسَاكُهَا. وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ، فَالْفُرْقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لَمْ تَقَعْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، كَفُرْقَةِ الْعُنَّةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِمَا. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، عَنْهُ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَزُفَرَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَلَاعِنَانِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ، فَلَمْ يَقِفْ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، كَالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، لَسَاغَ تَرْكُ التَّفْرِيقِ إذَا كَرِهَاهُ، كَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَوَجَبَ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، أَنْ يَبْقَى النِّكَاحُ مُسْتَمِرًّا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» . يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى إعْلَامِهِ لَهُمَا بِحُصُولِ الْفُرْقَةِ، وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْقَوْلِ، فَتَحْصُلُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، كَالطَّلَاقِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَحُكِيَ عَنْ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ فُرْقَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، لَمَا نَفَذَ طَلَاقُهُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَقَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا، أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. وَقَالَ عُمَرُ: الْمُتَلَاعِنَانِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَا يَكُونَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا فَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا، فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ، تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ مَدْلُولَ السُّنَّةِ وَفِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ لَفْظَ اللِّعَانِ لَا يَقْتَضِي فُرْقَةً؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَيْمَانٌ عَلَى زِنَاهَا، أَوْ شَهَادَةٌ بِذَلِكَ، وَلَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَحْصُلْ التَّفْرِيقُ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا، فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى بَعْضِهِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى بَعْضِ لِعَانِ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ بِأَيْمَانِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِيَمِينِ أَحَدِهِمَا، كَالْفَسْخِ لِتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ أَوْ الْعِتْقِ، وَقَوْلِ الزَّوْجِ: اخْتَارِي. وَأَمْرُك بِيَدِك. أَوْ: وَهَبْتُك لِأَهْلِك أَوْ لِنَفْسِك. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِلِعَانِهِمَا. فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ إكْمَالِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بَعْدَ كَمَالِ لِعَانِهِمَا، فَإِنْ فَرَّقَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ تَفْرِيقُهُ بَاطِلًا، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُكْمِلَ الزَّوْجُ لِعَانَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ لَاعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَالْفُرْقَةُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَالْفُرْقَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى بِالْأَكْثَرِ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقٌ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، أَوْ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ، لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ قَبْلَهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا حَكَمَ، لَمْ يَصِحَّ حُكْمُهُ. كَأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْبَيْعِ. وَكَمَا قَبْلَ الثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ كَمَالِ السَّبَبِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا إذَا شَهِدَ بِالدَّيْنِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. أَوْ بِمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَتَى بِأَكْثَرِ حُرُوفِهَا، وَبِالْمُسَابِقَةِ إذَا قَالَ: مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ. فَسَبَقَ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَبِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَأَمَّا إذَا تَمَّ اللِّعَانُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُمَا. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ» . وَرَوَى سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْن الْمُتَلَاعِنَيْنِ» . أَخْرَجَهُمَا سَعِيدٌ. وَمَتَى قُلْنَا: إنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ لَمْ يُوجَدْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُلَاعِنْ. [فَصْلٌ فُرْقَةُ اللِّعَان فَسْخٌ] (6260) فَصْلٌ: وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ فَسْخٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، تَخْتَصُّ النِّكَاحَ، فَكَانَتْ طَلَاقًا، كَالْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَلَنَا أَنَّهَا فُرْقَةٌ تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَكَانَتْ فَسْخًا، كَفُرْقَةِ الرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، كَسَائِرِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا، لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ. [فَصْلٌ تحصل الْفُرْقَة بِاللِّعَانِ] (6261) فَصْلٌ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ قَدْ وَقَعَ بِأَحَدِهِمَا لَتَلَاعُنِهِمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إنَّهَا الْمُوجِبَةُ. أَيْ إنَّهَا تُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ، وَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُوَ مِنْهُمَا يَقِينًا، فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْعُونَ، فَيَعْلُوَ امْرَأَةً غَيْرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 مَلْعُونَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلُوَ الْمُسْلِمَةَ كَافِرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا: لَوْ كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَانِعًا مِنْ دَوَامِ نِكَاحِهِمَا، لَمَنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ وُقُوعَ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ بِأَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَيُفْضِي إلَى عُلُوِّ مَلْعُونٍ لِغَيْرِ مَلْعُونَةٍ، أَوْ إلَى إمْسَاكِهِ لِمَلْعُونَةٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ النَّفْرَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ إسَاءَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إنْ كَانَ صَادِقًا، فَقَدْ أَشَاعَ فَاحِشَتَهَا، وَفَضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَقَامَهَا مُقَامَ خِزْيٍ، وَحَقَّقَ عَلَيْهَا اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ، وَقَطَعَ نَسَبَ وَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَقَدْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ بَهْتَهَا وَقَذْفَهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ صَادِقَةً، فَقَدْ أَكْذَبَتْهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَقَدْ أَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ، وَخَانَتْهُ فِي نَفْسِهَا، وَأَلْزَمَتْهُ الْعَارَ وَالْفَضِيحَةَ، وَأَحْوَجَتْهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْمُخْزِي، فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْرَةً مِنْ صَاحِبِهِ، لِمَا حَصَلَ إلَيْهِ مِنْ إسَاءَةٍ لَا يَكَادُ يَلْتَئِمُ لَهُمَا مَعَهَا حَالٌ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ انْحِتَامَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِزَالَةَ الصُّحْبَةِ الْمُتَمَحِّضَةِ مَفْسَدَةً، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى إمْسَاكِهَا، مَعَ مَا صَنَعَ مِنْ الْقَبِيحِ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعَجْلَانِيُّ: كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا. (6262) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا شَاذًّا، وَأَمَّا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَاَلَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَيْضًا. وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، حَلَّتْ لَهُ، وَعَادَ فِرَاشُهُ بِحَالِهِ. وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ. شَذَّ بِهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهَا غَيْرَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ، فَأَمَّا مَعَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا وَجْهَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بِحَالِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الْبَتِّيِّ، أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فُرْقَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ عِنْدَهُمَا طَلَاقٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، رُدَّتْ إلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَلَنَا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ، فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يَرْتَفِعُ قَبْلَ الْحَدِّ وَالتَّكْذِيبِ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِهِمَا، كَتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ. [فَصْلٌ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا مُلَاعِنُهَا] (6263) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَاشْتَرَاهَا مُلَاعِنُهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، فَحَرُمَتْ بِهِ عَلَى مُشْتَرِيهَا، كَالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا إذَا اشْتَرَى مُطَلَّقَتَهُ، لَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ، فَهَاهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مُؤَبَّدٌ، وَتَحْرِيمُ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِمُؤَبَّدٍ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ يَخْتَصُّ النِّكَاحَ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَة أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فِي اللِّعَانِ] (6264) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْحَدُّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكْذَبَهَا قَبْلَ لِعَانِهَا أَوْ بَعْدَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللِّعَانَ أُقِيمَ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَانَ أَنَّ لِعَانَهَا كَذِبٌ، وَزِيَادَةٌ فِي هَتْكِهَا، وَتَكْرَارٌ لِقَذْفِهَا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا بِالْقَذْفِ الْمُجَرَّدِ. فَإِنْ عَادَ عَنْ إكْذَابِ نَفْسِهِ، وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ أُقِيمُهَا بِزِنَاهَا. أَوْ أَرَادَ إسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَاللِّعَانَ لِتَحْقِيقِ مَا قَالَهُ، وَقَدْ أَقَرَّ بِكَذِبِ نَفْسِهِ، فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ خِلَافُهُ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَقْذُوفَةُ مُحْصَنَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. [فَصْلٌ لِمَنْ يَلْحَق وَلَد الْمُلَاعَنَة] (6265) فَصْلٌ: وَيَلْحَقُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا اسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدَّعِي مَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ، لَحِقَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ تَرَكَ وَلَدًا، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُسْتَلْحِقِ، وَتَبِعَهُ نَسَبُ ابْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَلَدًا، لَمْ يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَلَا يَرِثُ مِنْهُ الْمُدَّعِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ مُنْقَطِعٌ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ مُسْتَلْحِقًا لِوَلَدِهِ، وَتَبِعَهُ نَسَبُ الْمَيِّتِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا وَلَدٌ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، فَكَانَ لَهُ اسْتِلْحَاقُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا، أَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَتْبَعُ نَسَبَ الْوَلَدِ، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسَبَ الْوَلَدِ تَابِعًا لِنَسَبِ ابْنِهِ، فَجَعَلَ الْأَصْلَ تَابِعًا لِلْفَرْعِ، وَذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 بَاطِلٌ. فَأَمَّا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ: إنَّهُ إنَّمَا يَدَّعِي مَالًا. قُلْنَا: إنَّمَا يَدَّعِي النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ، وَالْمَالُ تَبَعٌ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّ غَرَضَهُ حُصُولُ الْمِيرَاثِ. قُلْنَا: إنَّ النَّسَبَ لَا تَمْنَعُ التُّهْمَةُ لُحُوقَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ يُعَادِيهِ، فَأَقَرَّ بِابْنٍ، لَزِمَهُ، وَسَقَطَ مِيرَاثُ أَخِيهِ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ حَيًّا وَهُوَ غَنِيٌّ، وَالْأَبُ فَقِيرٌ، فَاسْتَلْحَقَهُ، فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إيجَابِ نَفَقَتِهِ عَلَى ابْنِهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْوَلَدِ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْمِيرَاثُ الْمُخْتَصُّ بِالتُّهْمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِ التَّبَعِ انْقِطَاعُ الْأَصْلِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: حَقَّانِ عَلَيْهِ، وُجُوبُ الْحَدِّ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ. وَحَقَّانِ لَهُ: الْفُرْقَةُ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْحَدُّ وَالنَّسَبُ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا لَهُ، فَلَمْ تَزُلْ الْفُرْقَةُ، وَلَا التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ. [فَصْلٌ لَمْ يَكْذِبْ الزَّوْج نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَلَا لَاعَنَ] (6266) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَا لَاعَنَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. فَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضَهُ، فَبَذَلَ اللِّعَانَ، وَقَالَ: أَنَا أُلَاعِنُ. قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْحَدِّ، فَيُسْقِطُ بَعْضَهُ، كَالْبَيِّنَةِ. فَإِنْ ادَّعَتْ زَوْجَتُهُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، فَأَنْكَرَ، فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ الْبَيِّنَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَذْفًا؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا كَذِبًا، وَأَنَا صَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْذَابًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى رَمْيِهَا بِالزِّنَا، وَلَهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَذْهَبِنَا. فَإِنْ قَالَ: مَا زَنَتْ، وَلَا رَمَيْتهَا بِالزِّنَا. فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا، لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَلَا لِعَانُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا زَنَتْ. تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ وَاللِّعَانِ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ حُجَّةٌ قَدْ أَكْذَبَهَا. وَجَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا اُدُّعِيَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَوْدَعْتَنِي. فَقَامَتْ: عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْوَدِيعَةِ، فَادَّعَى الرَّدَّ أَوْ التَّلَفَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَلَوْ أَجَابَ بِأَنَّهُ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ. وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَادَّعَى الرَّدّ أَوْ التَّلَفَ، قُبِلَ مِنْهُ. [مَسْأَلَة قَذَفَهَا وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا وَتَمَّ اللِّعَان بَيْنَهُمَا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ] (6267) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ قَذَفَهَا، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، وَتَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، نُفِيَ عَنْهُ، إذَا ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَلَدْت امْرَأَتُهُ وَلَدًا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ، فَهُوَ وَلَدُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» . وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ التَّامِّ، الَّذِي اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 أَحَدُهَا، أَنْ يُوجَدَ اللِّعَانُ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْتَفِي بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ إنَّمَا كَانَ بِيَمِينِهِ وَالْتِعَانِهِ، لَا بِيَمِينِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَلَا مَعْنَى لِيَمِينِ الْمَرْأَةِ فِي نَفْيِ النَّسَبِ، وَهِيَ تُثْبِتُهُ وَتُكَذِّبُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيهِ، وَإِنَّمَا لِعَانُهَا لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] . وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ بَعْدَ تَلَاعُنِهِمَا، فَلَا يَجُوزُ النَّفْيُ بِبَعْضِهِ، كَبَعْضِ لِعَانِ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكْمُلَ أَلْفَاظُ اللِّعَانِ مِنْهُمَا جَمِيعًا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يَبْدَأَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ بَدَأَ بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ فَعَلَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَالْفُرْقَةُ جَائِزَةٌ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ لِعَانِهَا عَلَى لِعَانِهِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَتَّبَتْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَتِمُّ اللِّعَانُ إلَّا بِالتَّرْتِيبِ، إلَّا أَنَّهُ يَكْفِي عِنْدَهُ لِعَانُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ إخْلَالِهِ بِالتَّرْتِيبِ، وَعَدَمِ كَمَالِ أَلْفَاظِ اللِّعَانِ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتَى بِاللِّعَانِ عَلَى غَيْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الرَّجُلِ بَيِّنَتُهُ لِإِثْبَاتِ زِنَاهَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا، وَلِعَانَ الْمَرْأَةِ لِلْإِنْكَارِ، فَقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْإِثْبَاتِ، كَتَقْدِيمِ الشُّهُودِ عَلَى الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ لِعَانِ الْمَرْأَةِ لِدَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا ذَلِكَ إلَّا بِلِعَانِ الرَّجُلِ، فَإِذَا قَدَّمَتْ لِعَانَهَا عَلَى لِعَانِهِ، فَقَدْ قَدَّمَتْهُ عَلَى وَقْتِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَدَّمَتْهُ عَلَى الْقَذْفِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ نَفْيَ الْوَلَدِ فِي اللِّعَانِ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ، لَمْ يَنْتَفِ، إلَّا أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ وَيَذْكُرَ نَفْيَهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ وَنَفْيِهِ، وَيَنْتَفِي بِزَوَالِ الْفِرَاشِ؛ وَلِأَنَّ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، الَّذِي وَصَفَ فِيهِ اللِّعَانَ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْوَلَدَ، وَقَالَ فِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ «رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ» . وَلَنَا، أَنَّ مَنْ سَقَطَ حَقُّهُ بِاللِّعَانِ، كَانَ ذِكْرُهُ شَرْطًا، كَالْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي اللِّعَانِ أَنْ يُثْبِتَ زِنَاهَا، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِهِ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ: وَكَانَتْ حَامِلًا، فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا. مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ «رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ» . وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. فَعَلَى هَذَا، لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَلَدِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ، وَمَعَ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَفْظَاتِ اللِّعَانِ. وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ شَرْطًا خَامِسًا، وَهُوَ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَشْتَرِطُ تَفْرِيقَ الْحَاكِمِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يُشْتَرَطُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَا لِفَسْخِ النِّكَاحِ. وَشَرَطَ أَيْضًا شَرْطًا سَادِسًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَذَفَهَا. وَهَذَا شَرْطُ اللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقَذْفِ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ وَلَدْت امْرَأَتُهُ تَوْأَمَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَاسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا وَنَفَى نَسُبّ الْآخِرَ] (6268) فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَدْت امْرَأَتُهُ تَوْأَمَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَاسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا، وَنَفَى الْآخَرَ، لَحِقَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ، ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً، فَجَعَلْنَا مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ، وَلَمْ نَجْعَلْ مَا أَقَرَّ بِهِ تَابِعًا لِمَا نَفَاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ لَا لِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِن كَوْنُهُ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ، أَلْحَقْنَاهُ بِهِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ نَقْطَعْهُ عَنْهُ احْتِيَاطًا لِنَفْيِهِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَذَفَ أُمَّهُمَا وَطَالَبَتْهُ بِالْحَدِّ، فَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ يُحَدُّ، وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِاللِّعَانِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِلْحَاقِهِ اعْتَرَفَ بِكَذِبِهِ فِي قَذْفِهِ، فَلَمْ يُسْمَعْ إنْكَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ، انْتِفَاءُ الزِّنَا عَنْهَا، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، لَمْ يَنْتَفِ الْوَلَدُ عَنْهُ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ لِعَانِهِ وَبَيْنَ اسْتِلْحَاقِهِ لِلْوَلَدِ. وَإِنْ اسْتَلْحَقَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الْآخَرِ، لَحِقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ امْرَأَتَهُ مَتَى أَتَتْ بِوَلَدٍ، لَحِقَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ بِاللِّعَانِ. وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا، وَسَكَتَ عَنْ الْآخَرِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَا نَفَيْتُمْ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى أَخَاهُ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ؟ قُلْنَا لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتْ الْوَطْءُ، وَلَا يَنْتَفِي الْإِمْكَانُ لِلنَّفْيِ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَنَفَاهُ، وَلَاعَنَ لِنَفْيِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَنْتَفِ الثَّانِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَنَاوَلَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ، وَيَحْتَاجُ فِي نَفْيِ الثَّانِي إلَى لِعَانٍ ثَانٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى لِعَانٍ ثَانٍ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ لَاعَنَ لِنَفْيِهِ مَرَّةً، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى لِعَانٍ ثَانٍ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. فَإِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي، لَحِقَهُ هُوَ وَالْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ، لَحِقَاهُ أَيْضًا. فَأَمَّا إنْ نَفَى الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَذَا مِنْ حَمْلٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَلَوْ أَمْكَنَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُدَّةَ حَمْلٍ كَامِلٍ. فَإِنْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ انْتَفَى، وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ مُنْفَرِدٌ، وَإِنْ اسْتَلْحَقَهُ، أَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ، لَحِقَهُ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَاعَنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ حَمْلُهَا الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ. [فَصْلٌ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ أَوْ مَاتَا مَعًا فِي الْمُلَاعَنَة] (6269) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ، أَوْ مَاتَا مَعًا، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ نَسَبِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَا يُلَاعِنُ إلَّا لِنَفْيِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّ نَسَبَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، لِقَطْعِ النِّكَاحِ، لِكَوْنِهِ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ الْمَيِّتُ لَمْ يَنْتَفِ الْحَيُّ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ. وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَيُقَالُ: ابْنُ فُلَانٍ. وَيَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهُ، وَتَكْفِينُهُ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ، وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ، كَالْحَيِّ، وَكَمَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ. [مَسْأَلَة أَكْذَبَ الزَّوْج نَفْسَهُ فِي اللِّعَانِ يَلْحَق الْوَلَدُ بِهِ] (6270) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ، وَنَفَى وَلَدَهَا، ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ إذَا كَانَ حَيًّا. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، لَحِقَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ خَلَّفَ مَالًا أَوْ لَمْ يُخَلِّفْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لِلْوَلَدِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ، لَزِمَهُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ إنْكَارُهُ لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ سَبَبَ نَفْيِهِ عَنْهُ نَفْيُهُ لَهُ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ. فَقَدْ زَالَ سَبَبُ النَّفْيِ، وَبَطَلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ نَسَبُهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِ نَسَبِهِ بِهِ. [فَصْلٌ الْقَذْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ] (6271) فَصْلٌ: وَالْقَذْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ اعْتِزَالُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَا، وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ، لَزِمَهُ قَذْفُهَا، وَنَفْيُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 مَجْرَى الْيَقِينِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي، فَإِذَا لَمْ يَنْفِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَوَرِثَهُ، وَوَرِثَ أَقَارِبَهُ، وَوَرِثُوا مِنْهُ، وَنَظَرَ إلَى بَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِزٍ، فَيَجِبُ نَفْيُهُ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَآهَا. الثَّانِي - أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، أَوْ ثَمَّ وَلَدٌ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَوْ يُخْبِرَهُ بِزِنَاهَا ثِقَةٌ يُصَدِّقُهُ، أَوْ يَشِيعَ فِي النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا يَفْجُرُ بِفُلَانَةَ، وَيُشَاهِدُهُ عِنْدَهَا، أَوْ دَاخِلًا إلَيْهَا أَوْ خَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ فُجُورُهَا، فَهَذَا لَهُ قَذْفُهَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ. فَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَسْكُتُ، وَلَمْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى هِلَالٍ وَالْعَجْلَانِيِّ قَذْفَهُمَا حِينَ رَأَيَا. وَإِنْ سَكَتَ جَازَ، وَهُوَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ فِرَاقُهَا بِطَلَاقِهَا، وَيَكُونُ فِيهِ سَتْرُهَا وَسَتْرُ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ، مِنْ قَذْفِ أَزْوَاجِهِ وَالْأَجَانِبِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَوْلُهُ: " وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ ". يَعْنِي يَرَاهُ مِنْهُ، فَكَمَا حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ جَحْدَ وَلَدِهِ. وَلَا يَجُوزُ قَذْفُهَا بِخَبَرِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِخَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهَا، وَلَا بِرُؤْيَتِهِ رَجُلًا خَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفِيضَ زِنَاهَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ سَارِقًا، أَوْ هَارِبًا، أَوْ لِحَاجَةٍ، أَوْ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَلَا لِاسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَعْدَاؤُهَا أَشَاعُوا ذَلِكَ عَنْهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخِرُ، أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الثِّقَةِ. وَلَا بِمُخَالَفَةِ الْوَلَدِ لَوْنَ وَالِدَيْهِ أَوْ شَبَهِهِمَا، وَلَا لِشَبَهِهِ بِغَيْرِ وَالِدَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ. يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ . قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ . قَالَ: إنَّ فِيهَا أَوْرَقَ. قَالَ: فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: فَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . قَالَ: " وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَلْوَانُهُمْ وَخَلْقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَوْلَا مُخَالَفَتُهُمْ شَبَهَ وَالِدَيْهِمْ، لَكَانُوا عَلَى خِلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الشَّبَهِ ضَعِيفَةٌ، وَدَلَالَةَ وِلَادَتِهِ عَلَى الْفِرَاشِ قَوِيَّةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقَوِيِّ لِمُعَارَضَةِ الضَّعِيفِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تَنَازَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْفِرَاشِ، وَتَرَكَ الشَّبَهَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، جَوَازُ نَفْيِهِ. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ اللِّعَانِ: «إنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ. فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا الْأَيْمَانُ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . فَجَعَلَ الشَّبَهَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ لِعَانِهِ وَنَفْيِهِ إيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَجَعَلَ الشَّبَهَ مُرَجِّحًا لِقَوْلِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اسْتِقْلَالِ الشَّبَهِ بِالنَّفْيِ، وَلِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 مَوْضِعٍ زَالَ الْفِرَاشُ، وَانْقَطَعَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَا يَثْبُتُ مَعَ بَقَاءِ الْفِرَاشِ الْمُقْتَضِي لُحُوقَ نَسَبِ الْوَلَدِ بِصَاحِبِهِ. وَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ امْرَأَتِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، لَمْ يُبَحْ لَهُ نَفْيُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ، وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ، أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ؟ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى خَلْقَ نَسَمَةٍ خَلَقَهَا» . وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ فَتَعْلَقُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا إلَّا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى الْفَرْجِ فَيَعْلَقَ بِهِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهُ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَدَلَالَةُ عَدَمِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ عَلَى انْتِفَاءِ الْوَلَدِ أَشَدُّ مِنْ دَلَالَةِ مُخَالَفَةِ الْوَلَدِ لَوْنَ وَالِدَيْهِ. فَأَمَّا إنْ وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعَ الزِّنَا، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ الزَّانِي، مِثْلُ إنْ زَنَتْ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، أَوْ زَنَتْ فَلَمْ يَعْتَزِلْهَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، أَوْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا إلَّا دُونَ الْفَرْجِ، لَوْ كَانَ الْوَلَدُ شَبِيهًا بِالزَّانِي دُونَهُ، لَزِمَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعَ الزِّنَا يُوجِبُ نِسْبَتَهُ إلَى الزَّانِي، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِوَلَدِ امْرَأَةِ هِلَالٍ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، بِشَبَهِهِ لَهُ، مَعَ لِعَانِ هِلَالٍ لَهَا، وَقَذْفِهِ إيَّاهَا. وَأَمَّا إذَا أَتَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ، فَشَكَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَتِهِ لِزِنَاهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَذْفُهَا، وَلَا لِعَانُهَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْفَزَارِيِّ. وَكَذَلِكَ إنْ عَرَفَ زِنَاهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي، وَلَا وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. [فَصْلٌ أُكْرِهَتْ زَوْجَتُهُ عَلَى الزِّنَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ] (6272) فَصْلٌ: فَإِنْ أُكْرِهَتْ زَوْجَتُهُ عَلَى الزِّنَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَاطِئِ، فَهُوَ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ قَذْفُهَا بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِزِنًا مِنْهَا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَمِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ الْقَذْفُ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنْ الْمَرْأَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُكَذِّبُ الزَّوْجَ فِي إكْرَاهِهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 إحْدَاهُمَا، لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ، كَمَا لَوْ زَنَتْ مُطَاوِعَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَرَى نَفْيَ الْوَلَدِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ النَّفْيُ بِاللِّعَانِ هَاهُنَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم. [مَسْأَلَة نَفَى الْحَمْلَ فِي الْتِعَانِهِ] (6273) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ نَفَى الْحَمْلَ فِي الْتِعَانِهِ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ حَتَّى يَنْفِيَهُ عِنْدَ وَضْعِهَا لَهُ وَيُلَاعِنَ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ، وَنَفَى حَمْلَهَا فِي لِعَانُهُ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ وَجَمَاعَةٌ: لَا يَنْتَفِي الْحَمْلُ بِنَفْيِهِ قَبْلَ الْوَضْعِ، وَلَا يَنْتَفِي حَتَّى يُلَاعِنَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُسْتَيْقَنٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا، أَوْ غَيْرهَا، فَيَصِيرُ نَفْيُهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ اللِّعَانِ بِشَرْطٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ: يَصِحُّ نَفْيُ الْحَمْلِ، وَيَنْتَفِي عَنْهُ، مُحْتَجِّينَ بِحَدِيثِ هِلَالٍ، وَأَنَّهُ نَفَى حَمْلَهَا فَنَفَاهُ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَلْحَقَهُ بِالْأَوَّلِ. وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّهُ كَانَ حَمْلًا، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُنْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْآثَارُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرَةٌ. وَأَوْرَدَهَا. وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مَظْنُونٌ بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا ثَبَتَتْ لِلْحَامِلِ أَحْكَامٌ تُخَالِفُ بِهَا الْحَائِلَ: مِنْ النَّفَقَةِ، وَالْفِطْرِ فِي الصِّيَامِ، وَتَرْكِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَتَأْخِيرِ الْقِصَاصِ عَنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَيَصِحُّ اسْتِلْحَاقُ الْحَمْلِ، فَكَانَ كَالْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمُوَافَقَتِهِ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ وَمَا خَالَفَ الْحَدِيثَ لَا يُعْبَأُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي اللِّعَانِ احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، حَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا نَفْيُ الْحَمْلِ، وَلَا التَّعَرُّضُ لِنَفْيِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِنَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَفْيِهِ إلَى إعَادَةِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: إنْ لَاعَنَهَا حَامِلًا، ثُمَّ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لَزِمَهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذِهِ قَدْ بَانَتْ بِلِعَانِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا. وَهَذَا فِيهِ إلْزَامُهُ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، وَسَدُّ بَابِ الِانْتِفَاءِ مِنْ أَوْلَادِ الزِّنَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ طَرِيقًا، فَلَا يَجُوزُ سَدُّهُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَالِ الَّتِي أَضَافَ الزِّنَا إلَيْهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي تَأْتِي بِهِ يَلْحَقُهُ إذَا لَمْ يَنْفِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ، وَهَذِهِ كَانَتْ زَوْجَةً فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَمَلَكَ نَفْيَ وَلَدِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 [فَصْل اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ فِي الْمُلَاعَنَةِ] (6274) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ، فَمَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ. قَالَ: لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِنْ أَجَازَ نَفْيَهُ، قَالَ: لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِوُجُودِهِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَوَقْفِ الْمِيرَاثِ، فَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالْمَوْلُودِ، وَإِذَا اسْتَلْحَقَهُ لَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ. قَالَ: لَوْ صَحَّ اسْتِلْحَاقُهُ لَزِمَهُ بِتَرْكِ نَفْيِهِ كَالْمَوْلُودِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّ لِلشَّبَهِ أَثَرًا فِي الْإِلْحَاقِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَ الْوَضْعِ، فَاخْتُصَّ صِحَّةُ الِاسْتِلْحَاقِ بِهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ اسْتَلْحَقَهُ ثُمَّ نَفَاهُ بَعْدَ وَضْعِهِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إنْ سَكَتَ عَنْهُ، فَلَمْ يَنْفِهِ، وَلَمْ يَسْتَلْحِقْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَا قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودَهُ إلَّا أَنْ يُلَاعِنَهَا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَهُ الْوَلَدَ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. [فَصْلٌ وَلَدْت امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مَعَ إمْكَانِهِ الْمُلَاعَنَةَ] (6275) فَصْلٌ: وَإِذَا وَلَدْت امْرَأَتُهُ وَلَدًا، فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ، مَعَ إمْكَانِهِ، لَزِمَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ، بَلْ هُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، إنْ كَانَ لَيْلًا فَحَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْتَشِرَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَوْ ظَمْآنَ فَحَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ يَنَامَ إنْ كَانَ نَاعِسًا، أَوْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ وَيُسْرِجَ دَابَّتَهُ وَيَرْكَبَ وَيُصَلِّيَ إنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُحْرِزَ مَالَهُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَشْغَالِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ تَأْخِيرُ نَفْيِهِ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ يَشُقُّ، فَقُدِّرَ بِالْيَوْمَيْنِ لِقِلَّتِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَقَدَّرُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْوِلَادَةِ فِي الْحُكْمِ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَنَّ لَهُ نَفْيَهُ مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ، كَحَالَةِ الْوِلَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الشُّفْعَةِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» . عَامٌّ خَرَجَ مِنْهُ مَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ مَعَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، فَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى عُمُومِ الْحَدِيثِ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَبْطُلُ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَتَقْدِيرُهُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ يَبْطُلُ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ، وَلَا الْحَمْلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ضَرَرُهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَهَلْ يَتَقَدَّرُ الْخِيَارُ فِي النَّفْيِ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ، أَوْ بِإِمْكَانِ النَّفْيِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 الْمُطَالَبَةِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَخَّرَ نَفْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِالْوِلَادَةِ، وَأَمْكَنَ صِدْقُهُ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي الدَّارِ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت وِلَادَتَهُ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي نَفْيَهُ. أَوْ عَلِمْت ذَلِكَ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَكَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَعَامَّةِ النَّاسِ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ الْفَقِيهِ، وَيُقْبَلُ مِنْ النَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ، وَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَلْ يُقْبَلُ مِنْ سَائِرِ الْعَامَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْحُضُورِ لِنَفْيِهِ، كَالْمَرَضِ وَالْحَبْسِ، أَوْ الِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ مَالٍ يَخَافُ ضَيْعَتَهُ، أَوْ بِمُلَازَمَةِ غَرِيمٍ يَخَافُ فَوْتَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ، نُظِرَتْ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ قَصِيرَةً فَأَخَّرَهُ إلَى الْحُضُورِ لِيَزُولَ عُذْرُهُ، لَمْ يَبْطُلْ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ لَيْلًا فَأَخَّرَهُ إلَى الصُّبْحِ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَطَاوَلُ، فَأَمْكَنَهُ التَّنْفِيذُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبْعَثَ إلَيْهِ مَنْ يَسْتَوْفِي عَلَيْهِ اللِّعَانَ وَالنَّفْيَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، سَقَطَ نَفْيُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ نَافٍ لِوَلَدِ امْرَأَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَفْيِهِ كَانَ الْإِشْهَادُ قَائِمًا مَقَامَهُ، كَمَا يُقِيمُ الْمَرِيضُ الْفَيْئَةَ بِقَوْلِهِ، بَدَلًا عَنْ الْفَيْئَةِ بِالْجِمَاعِ. فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُصَدِّقْ الْمُخْبِرَ عَنْهُ. نُظِرَتْ؛ فَإِنْ كَانَ مُسْتَفِيضًا مُنْتَشِرًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَفِيضًا، وَكَانَ الْمُخْبِرُ مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ عَلَيَّ ذَلِكَ. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى، وَإِنْ عَلِمَ وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَمْكَنَهُ السَّيْرُ، فَاشْتَغَلَ بِهِ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، وَإِنْ أَقَامَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ السَّيْرِ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ أَخَّرَ نَفْيَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَالَ: أَخَّرْت نَفْيَهُ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ، فَأَسْتُرَ عَلَيْهِ وَعَلَيَّ. بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ. [فَصْلٌ هُنِّئَ عَلَى الْوَلَد فِي اللِّعَانِ فَأَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ] (6276) فَصْلٌ: فَإِنْ هُنِّئَ بِهِ، فَأَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، لَزِمَهُ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ قَالَ: أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَك. أَوْ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك. أَوْ: رَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ. لَزِمَهُ الْوَلَدُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ جَازَاهُ عَلَى قَصْدِهِ. وَإِذَا قَالَ: رَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ. فَلَيْسَ ذَلِكَ إقْرَارًا، وَلَا مُتَضَمِّنًا لَهُ. وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ الرَّاضِي فِي الْعَادَةِ، فَكَانَ إقْرَارًا، كَالتَّأْمِينِ عَلَى الدُّعَاءِ. وَإِنْ سَكَتَ، كَانَ إقْرَارًا. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ صُلْحٌ دَالًّا عَلَى الرِّضَى فِي حَقِّ الْبِكْرِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ مَا دَامَتْ أُمُّهُ عِنْدَهُ يَصِيرُ لَهَا الْوَلَدُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ جَحْدَهُ، كَمَا لَوْ بَانَتْ مِنْهُ أُمُّهُ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ جَحْدُهُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. [مَسْأَلَة جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَقَالَ لَمْ تَزْنِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي] (6277) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ، فَقَالَ: لَمْ تَزْنِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي. فَهُوَ وَلَدُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لَهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ. فَقَالَ زَوْجُهَا: لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي. أَوْ قَالَ لَيْسَ هَذَا وَلَدِي. فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَذْفٍ بِظَاهِرِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ، أَوْ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: زَنَتْ، فَوَلَدَتْ هَذَا مِنْ الزِّنَا. فَهَذَا قَذْفٌ يَثْبُتُ بِهِ اللِّعَانُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ لَا يُشْبِهُنِي خَلْقًا وَلَا خُلُقًا. فَقَالَتْ: بَلْ أَرَدْتَ قَذْفِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تَزْنِ. وَإِنْ قَالَ: وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَالْوَلَدُ مِنْ الْوَاطِئِ. فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْهَا، وَلَا قَذَفَ وَاطِئَهَا. وَإِنْ قَالَ: أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا. فَلَا حَدَّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْهَا، وَلَا لِعَانَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْهَا، وَمِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ الْقَذْفُ، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْآخِرَةِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ لَهُ اللِّعَانَ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وُطِئْتِ بِشُبْهَةٍ. فَإِنَّهُ يُمْكِنُ نَفْيُ النَّسَبِ بِعَرْضِ الْوَلَدِ عَلَى الْقَافَةِ، فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ اللِّعَانِ. فَلَا يُشْرَعُ، كَمَا لَا يُشْرَعُ لِعَانُ أَمَتِهِ، لَمَّا أَمْكَنَ نَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا أَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بَعْدَ الْقَذْفِ، فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ. وَلَمَّا لَاعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هِلَالٍ وَامْرَأَتِهِ كَانَ بَعْدَ قَذْفِهِ إيَّاهَا، وَكَذَلِكَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَامْرَأَتِهِ كَانَ بَعْدَ قَذْفِهِ إيَّاهَا، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ نَفْيَ اللِّعَانِ إنَّمَا يَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ بِتَمَامِهِ مِنْهُمَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ اللِّعَانُ مِنْ الْمَرْأَةِ هَاهُنَا. فَأَمَّا إنْ قَالَ: وَطِئَك فُلَانٌ بِشُبْهَةٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمِينَ الْحَالَ. فَقَدْ قَذَفَهَا، وَلَهُ لِعَانُهَا، وَنَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا، وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ نَفْيُ نَسَبِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْقَافَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: وَاشْتَبَهَ عَلَيْك أَيْضًا. وَلَنَا أَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وَلِأَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ بِالزِّنَا، فَمَلَكَ لِعَانَهَا وَنَفَى وَلَدَهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَى بِكِ فُلَانٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 قَافَةٌ، وَقَدْ لَا يَعْتَرِفُ الرَّجُلُ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ، أَوْ يَغِيبُ أَوْ يَمُوتُ، فَلَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ. وَإِنْ قَالَ: مَا وَلَدَتْهُ وَإِنَّمَا الْتَقَطْتُهُ أَوْ اسْتَعَرْتُهُ فَقَالَتْ: بَلْ هُوَ وَلَدِي مِنْك. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، كَالدَّيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا لِلْوِلَادَةِ، فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِهَا، وَلَا دَعْوَى الْأَمَةِ لَهَا لِتَصِيرَ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهَا لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِهَا. فَعَلَى هَذَا لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً، وَهِيَ امْرَأَةٌ مَرْضِيَّةٌ، تَشْهَدُ بِوِلَادَتِهَا لَهُ فَإِذَا ثَبَتَتْ وِلَادَتُهَا لَهُ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . وَتَحْرِيمُ كِتْمَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْمَرْأَةِ، تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ، كَالْحَيْضِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ، كَالْحَيْضِ. فَعَلَى هَذَا، النَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ، وَهَلْ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ لِوِلَادَتِهَا إيَّاهُ، إقْرَارٌ بِأَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ مِنْ زِنًا، فَلَا يُقْبَلُ إنْكَارُهُ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي، لَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ، وَنَافٍ لِوَلَدِهَا، فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، كَغَيْرِهِ. [فَصْل وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ] (6278) فَصْلٌ: وَمَنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ عَقِيبَ نِكَاحِهِ لَهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ، فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ عَلِمْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ طِفْلًا لَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدُ وَلَدٌ لِمِثْلِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عَشْرٌ، فَحَمَلْت امْرَأَتُهُ، لَحِقَهُ وَلَدُهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْحَقُ بِهِ، إذَا أَتَتْ بِهِ لِتِسْعَةِ أَعْوَامٍ وَنِصْفِ عَامٍ مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ يُولَدُ لَهَا لِتِسْعٍ، فَكَذَلِكَ الْغُلَامُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَلْحَقُهُ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمَاءِ، وَلَا يَنْزِلُ حَتَّى يَبْلُغَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 وَلَنَا أَنَّهُ زَمَنٌ يُمْكِنُ الْبُلُوغُ فِيهِ، فَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، كَالْبَالِغِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا اثْنَا عَشَرَ عَامًا، وَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، دَلِيلٌ عَلَى إمْكَانِ الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْوِلَادَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُ الْغُلَامِ عَلَى الْجَارِيَةِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِتِسْعٍ عَادَةً، وَالْغُلَامُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِمْتَاعُ لَتِسْعٍ، وَقَدْ تَحِيضُ لَتِسْعٍ، وَمَا عُهِدَ بُلُوغُ غُلَامٍ لَتِسْعٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، أَوْ تَزَوَّجَ مَشْرِقِيٌّ بِمَغْرِبِيَّةٍ، ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ. وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ، وَمُدَّةِ الْحَمْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: إذَا مَضَى زَمَانُ الْإِمْكَانِ، لَحِقَ الْوَلَدُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْوَطْءُ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إمْكَانُ الْوَطْءِ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ، كَزَوْجَةِ ابْنِ سَنَةٍ، أَوْ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ إذَا وُجِدَ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ قَطْعًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ، فَعَلَّقْنَا الْحُكْمَ عَلَى إمْكَانِهِ فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْإِمْكَانِ عَنْ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ إذَا انْتَفَى حَصَلَ الْيَقِينُ بِانْتِفَائِهِ عَنْهُ، فَلَمْ يَحُزْ إلْحَاقُهُ بِهِ مَعَ يَقِينِ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهُ. وَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَةُ مَقْطُوعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، لَمْ يَلْحَقْ نَسَبُهُ بِهِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ وَالْإِيلَاجُ. وَإِنْ قُطِعَتْ أُنْثَيَاهُ دُونَ ذَكَرِهِ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَلْحَقُهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِيلَاجُ، وَيُنْزِلُ مَاءً رَقِيقًا. وَلَنَا. أَنَّ هَذَا لَا يُخْلَقُ مِنْهُ وَلَدٌ عَادَةً، وَلَا وُجِدَ ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُطِعَ ذَكَرُهُ مَعَهُمَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِيلَاجٍ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، كَمَا لَوْ أَوْلَجَ إصْبَعَهُ. وَأَمَّا قَطْعُ ذَكَرِهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَاحِقَ، فَيُنْزِلَ مَاءً يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ، عَلَى نَحْو مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ عِنْدَنَا. قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ: لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ. فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْحَقُهُ بِالْفِرَاشِ. وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَلْحَقُ بِالْفِرَاشِ إذَا أَمْكَنَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَلْحَقْهُ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ؛ لِفَقْدِ الْمَنِيِّ مِنْ الْمَسْلُولِ، وَتَعَذُّرِ إيصَالِ الْمَنِيِّ إلَى قَعْرِ الرَّحِمِ مِنْ الْمَجْبُوبِ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَسْتَدْخِلَ الْمَرْأَةُ مَنِيَّ الرَّجُلِ، فَتَحْمِلَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْهُمَا، وَإِذَا اسْتَدْخَلَتِ الْمَنِيَّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، لَمْ تَحْدُثْ لَهَا لَذَّةٌ تُمْنِي بِهَا، فَلَا يَخْتَلِطُ نَسَبُهُمَا، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ الْأَجْنَبِيَّانِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهَا اسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنِيِّ، يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَمَا قَالَ ذَلِكَ أَحَدٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 [فَصْلٌ طَلْق امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ وَلَدًا ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ قَبْلَ مُضِيّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ] (6279) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا، ثُمَّ وَلَدَتْ آخِرَ قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، فَالْآخَرُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَلْحَقْ الزَّوْجَ، وَانْتَفَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدَانِ حَمْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا مُدَّةُ الْحَمْلِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا، فَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ آخِرِ إقْرَائِهَا، لَحِقَهُ؛ لِأَنَّنَا تَيَقَّنَّا أَنَّهَا لَمْ تَحْمِلْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَنَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا بِهِ فِي زَمَنِ رُؤْيَةِ الدَّمِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّمُ حَيْضًا، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِهِ وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَلْحَقْ بِالزَّوْجِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ. وَلَنَا، أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ، كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِمْكَانُ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَهُمَا، فَلَا يُكْتَفَى بِالْإِمْكَانِ لِلَحَاقِهِ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِالْإِمْكَانِ لِنَفْيِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِرَاشَ سَبَبٌ، وَمَعَ وُجُودِ السَّبَبِ يُكْتَفَى بِإِمْكَانِ الْحِكْمَةِ وَاحْتِمَالِهَا، فَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ وَآثَارُهُ، فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ لِانْتِفَائِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا إنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، لَحِقَ بِالزَّوْجِ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ، وَكَانَ بَائِنًا، انْتَفَى عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْفِرَاشِ. وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَوَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ الطَّلَاقِ، وَلِأَقَلَّ مِنْهَا مُنْذُ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا - لَا يَلْحَقُهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَقْ بِهِ قَبْلَ طَلَاقِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْبَائِنَ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْحَقُهُ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ فِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْحِلِّ، فِي رِوَايَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ سِنِينَ فَبَلَغَتْهَا وَفَاتُهُ فَاعْتَدَّتْ وَنَكَحَتْ نِكَاحًا صَحِيحًا] (6280) فَصْلٌ: فَإِنْ غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ سِنِينَ، فَبَلَغَتْهَا وَفَاتُهُ، فَاعْتَدَّتْ، وَنَكَحَتْ نِكَاحًا صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ، وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي، وَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا، ثُمَّ قَدِمَ الْأَوَّلُ، فُسِخَ نِكَاحُ الثَّانِي، وَرُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ، وَتَعْتَدُّ مِنْ الثَّانِي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَالْأَوْلَادُ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى فِرَاشِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٍ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، قَالَ: الْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ، لِأَنَّ نِكَاحَهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، وَنِكَاحُ الثَّانِي غَيْرُ ثَابِتٍ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَلَنَا أَنَّ الثَّانِي انْفَرَدَ بِوَطْئِهَا فِي نِكَاحٍ يَلْحَقُ النَّسَبُ فِي مِثْلِهِ، فَكَانَ الْوَلَدُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، كَوَلَدِ الْأَمَةِ مِنْ زَوْجِهَا يَلْحَقُهُ دُونَ سَيِّدِهَا، وَفَارَقَ الْأَجْنَبِيَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِكَاحٌ. [فَصْل وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَا زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ] (6281) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَا زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَجَدْت بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْحَقُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةٍ مِلْكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى عَقْدٍ، فَلَمْ يَلْحَقْ الْوَلَدُ فِيهِ بِالْوَطْءِ، كَالزِّنَا. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ. قَالَ أَحْمَدُ: كُلُّ مِنْ دَرَأْت عَنْهُ الْحَدَّ أَلْحَقْت بِهِ الْوَلَدَ. وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ حِلَّهُ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَفَارَقَ وَطْءَ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِيهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلَانِ أُخْتَيْنِ، فَغَلِطَ بِهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ، فَزُفَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجِ الْأُخْرَى، فَوَطِئَهَا، وَحَمَلَتْ مِنْهُ، لَحِقَ الْوَلَدُ بِالْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ، كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَكُونُ الْوَلَدُ لِلْوَاطِئِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ. وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَاطِئَ انْفَرَدَ بِوَطْئِهَا فِيمَا يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَلَحِقَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ ثُمَّ بَانَ حَيًّا، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِهَذَا، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ وُطِئَتْ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَاعْتَزَلَهَا حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ، لَحِقَ الْوَاطِئَ، وَانْتَفَى عَنْ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَاطِئُ الْوَطْءَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْمُنْكِرِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الزَّوْجِ فِي قَطْعِ نَسَبِ الْوَلَدِ. وَإِنْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ لَحِقَ الزَّوْجَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْوَاطِئِ. وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي وَطْئِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 فِي طُهْرٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، لَحِقَ الزَّوْجَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَقَدْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ. وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ مِنْ الْوَاطِئِ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُعْرَضُ عَلَى الْقَافَةِ مَعَهُمَا فَيُلْحَقُ بِمِنْ أَلْحَقَتْهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْوَاطِئِ لَحِقَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَانْتَفَى عَنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ لِعَانٍ، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالزَّوْجِ لَحِقَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا، لَحِقَ بِهِمَا، وَلَمْ يَمْلِكْ الْوَاطِئُ نَفْيَهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَلْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ، أَوْ أَنْكَرَ الْوَاطِئُ الْوَطْءَ، أَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْقَافَةِ، لَحِقَ الزَّوْجَ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلِحَاقِ النَّسَبِ بِهِ مُتَحَقِّقٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ، فَوَجَبَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ الزَّوْجَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِ الْقَافَةِ ضَعِيفَةٌ، وَدَلَالَةَ الْفِرَاشِ قَوِيَّةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ دَلَالَتِهِ لِمُعَارَضَةِ دَلَالَةٍ ضَعِيفَةٍ. [فَصْلٌ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ] (6282) فَصْلٌ: وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لَمْ يَلْحَقْ بِالْأَوَّلِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ بَانَتْ مِنْ الْأَوَّلِ، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، وَيَنْتَفِي عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ وَلَدُهُ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَعْلَمْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، وَلَحِقَ بِمِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْأَوَّلِ، انْتَفَى عَنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ لِعَانٍ، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالزَّوْجِ انْتَفَى عَنْ الْأَوَّلِ وَلَحِقَ الزَّوْجَ. وَهَلْ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَة اللِّعَانُ الَّذِي يَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْحَدِّ] (6283) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَاللِّعَانُ الَّذِي يَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْحَدِّ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْحَاكِمِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ زَنَتْ. وَيُشِيرَ إلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً سَمَّاهَا، وَنَسَبَهَا، حَتَّى يُكْمِلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَإِنْ أَبَى إلَّا أَنْ يُتِمَّ، فَلْيَقُلْ: وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَتَقُولُ هِيَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ. أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، وَتُخَوَّفُ كَمَا خُوِّفَ الرَّجُلُ، فَإِنْ أَبَتْ إلَّا أَنْ تُتِمَّ، فَلْتَقُلْ: وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَتَانِ: (6284) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْحَاكِمِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ أَنْ يَسْتَدْعِيَ زَوْجَتَهُ إلَيْهِ، وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّهُ إمَّا يَمِينٌ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ، وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَمِنْ شَرْطِهِ الْحَاكِمُ. وَإِنْ تَرَاضَى الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ الْحَاكِمِ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّأْكِيدِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ الْحَاكِمِ، كَالْحَدِّ. وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لِلسَّيِّدِ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا. وَلَنَا أَنَّهُ لِعَانٌ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ، كَاللِّعَانِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ، ثُمَّ لَا يُشْبِهُ اللِّعَانُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ زَجْرٌ وَتَأْدِيبٌ، وَاللِّعَانُ إمَّا شَهَادَةٌ وَإِمَّا يَمِينٌ، فَافْتَرَقَا، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ دَارِئٌ لِلْحَدِّ، وَمُوجِبٌ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا وَالْحُكْمِ بِهِ أَوْ بِنَفْيِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَفِرَةً لَا تَبْرُزُ لِحَوَائِجِهَا، بَعَثَ الْحَاكِمُ نَائِبَهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ عُدُولًا، لِيُلَاعِنُوا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ بَعَثَ نَائِبَهُ وَحْدَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ وَاجِبٍ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] (6285) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ حَضَرُوهُ مَعَ حَدَاثَةِ أَسْنَانِهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَضَرَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ إنَّمَا يَحْضُرُونَ الْمَجَالِسَ تَبَعًا لِلرِّجَالِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيظِ، مُبَالَغَةً فِي الرَّدْعِ بِهِ وَالزَّجْرِ، وَفِعْلُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصُوا عَنْ أَرْبَعَةٍ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَا الَّذِي شُرِعَ اللِّعَانُ مِنْ أَجْلِ الرَّمْيِ بِهِ أَرْبَعَةٌ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَاجِبًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلَاعَنَا قِيَامًا، فَيَبْدَأُ الزَّوْجُ فَيَلْتَعِنُ وَهُوَ قَائِمٌ، فَإِذَا فَرَغَ قَامَتْ الْمَرْأَةُ فَالْتَعَنَتْ وَهِيَ قَائِمَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: «قُمْ فَاشْهَدْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَامَ شَاهَدَهُ النَّاسُ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي شُهْرَتِهِ، فَاسْتُحِبَّ كَثْرَةُ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 [فَصْلٌ لَا يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ بِمَكَانٍ وَلَا زَمَانٍ] (6286) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ بِمَكَانٍ، وَلَا زَمَانٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الرَّجُلَ بِإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَخُصّهُ بِزَمَنٍ، وَلَوْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لَنُقِلَ وَلَمْ يُهْمَلْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلَاعَنَا فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُعَظَّمُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ فِي التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ التَّغْلِيظَ بِهِ مُسْتَحَبُّ كَالزَّمَانِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلِّعَانِ. وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ، أَنَّهُمَا إذَا كَانَا بِمَكَّةَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، فَإِنَّهُ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ فَعِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَنَدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي جَوَامِعِهَا. وَأَمَّا الزَّمَانُ فَبَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] . وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ أَوْ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بَيْنَهُمَا لَا يُرَدُّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ، وَلَمْ يَسُغْ تَرْكُهُ وَإِهْمَالُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ. فَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ. وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهُ كَانَ عِنْدَهُ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ. وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ بَيْنَ كَافِرَيْنِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي اللِّعَانِ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُغَلَّظَ فِي الْمَكَانِ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْأَيْمَانِ: وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَوَاضِعُ يُعَظِّمُونَهَا، وَيَتَوَقَّوْنَ أَنْ يَحْلِفُوا فِيهَا كَاذِبِينَ، حُلِّفُوا فِيهَا. فَعَلَى هَذَا، يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعِهِمْ اللَّاتِي يُعَظِّمُونَهَا؛ النَّصْرَانِيُّ فِي الْكَنِيسَةِ، وَالْيَهُودِيُّ فِي الْبِيعَةِ وَالْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ النَّارِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوَاضِعُ يُعَظِّمُونَهَا، حَلَّفَهُمْ الْحَاكِمُ فِي مَجْلِسِهِ؛ لِتَعَذُّرِ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُسْلِمَةُ حَائِضًا، وَقُلْنَا: إنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ، وَلَمْ تَدْخُلْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ. (6287) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَلْفَاظِ اللِّعَانِ وَصِفَتِهِ، أَمَّا أَلْفَاظُهُ فَهِيَ خَمْسَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَصِفَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالزَّوْجِ، فَيُقِيمُهُ، لَهُ: وَيَقُولُ لَهُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 قُلْ أَرْبَعَ مَرَّات: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا. وَيُشِيرُ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْحُضُورِ وَالْإِشَارَةِ إلَى نَسَبِهِ وَتَسْمِيَتِهِ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً أَسْمَاهَا وَنَسَبَهَا، فَقَالَ: امْرَأَتِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ. وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا حَتَّى يَنْفِي الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرهَا. فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقَفَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. وَيَأْمُرُ رَجُلًا فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، حَتَّى لَا يُبَادِرَ بِالْخَامِسَةِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرَّجُلَ، فَيُرْسِلُ يَدَهُ عَنْ فِيهِ، فَإِنْ رَآهُ يَمْضِي فِي ذَلِكَ، قَالَ لَهُ: قُلْ: وَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا. ثُمَّ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ بِالْقِيَامِ، وَيَقُولُ لَهَا قُولِي: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَتُشِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَسْمَتْهُ وَنَسَبَتْهُ، فَإِذَا كَرَّرَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقَفَهَا، وَوَعَظَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَيَأْمُرُ امْرَأَةً فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، فَإِنْ رَآهَا تَمْضِي عَلَى ذَلِكَ، قَالَ لَهَا: قُولِي: وَإِنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كَانَ زَوْجِي هَذَا مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: كَيْفَ يُلَاعِنُ؟ قَالَ: عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، يَقُولُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ لَمِنْ الصَّادِقِينَ. ثُمَّ يُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، فَيَقُولُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ، تُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، فَيُقَالُ لَهَا اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ. فَإِنْ حَلَفَتْ، قَالَتْ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ. وَعَدَدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ شَرْطٌ فِي اللِّعَانِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ أَبْدَلَ لَفْظًا مِنْهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ قَوْلَهُ: إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ. بِقَوْلِهِ: لَقَدْ زَنَتْ. لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ لَهَا إبْدَالُ: إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. بِقَوْلِهَا: لَقَدْ كَذَبَ. لِأَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ اللِّعَانِ كَذَلِكَ. وَاتِّبَاعُ لَفْظِ النَّصِّ أَوْلَى وَأَحْسَنُ. وَإِنْ أَبْدَلَ لَفْظَةَ: (أَشْهَدُ) بِلَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أُولِي. لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَعْنَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَبْدَلَ: إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ. بِقَوْلِهِ: لَقَدْ زَنَتْ. وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ فِي هَذَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، كَالشَّهَادَاتِ فِي الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُقْصَدُ فِيهِ التَّغْلِيظُ، وَاعْتِبَارُ لَفْظِ الشَّهَادَاتِ أَبْلَغُ فِي التَّغْلِيظِ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْسِمَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ كَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَ أَشْهَدُ. وَالثَّانِي، يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَعْنَى، أَشْبَهَ مَا قَبْلَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَإِنْ أَبْدَلَ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 بِالْإِبْعَادِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّعْنَةِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَأَشَدُّ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَإِنْ أَبْدَلَتْ الْمَرْأَةُ لَفْظَةَ الْغَضَبِ بِاللَّعْنَةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ أَغْلَظُ، وَلِهَذَا خُصَّتْ الْمَرْأَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ بِزِنَاهَا أَقْبَحُ، وَإِثْمُهَا بِفِعْلِ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ إثْمِهِ بِالْقَذْفِ. وَإِنْ أَبْدَلَتْهَا بِالسَّخَطِ، خُرِّجَ عَلَى وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا أَبْدَلَ الرَّجُلُ لَفْظَ اللَّعْنَةِ بِالْإِبْعَادِ. وَإِنْ أَبْدَلَ الرَّجُلُ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالْغَضَبِ احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ. قَالَ الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ الصَّادِقِينَ: فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَاشْتَرَطَ فِي نَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهَا: فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَى. وَلَا أَرَاهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاشْتِرَاطَ. وَأَمَّا مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ لَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْلَ الْخَامِسَةِ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ، قِيلَ: يَا هِلَالُ، اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا. فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ. فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ، قِيلَ لَهَا: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ. فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي. فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، حَدِيثَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، قَالَ: «فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَأُمْسِكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أُرْسِلَ، فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ دَعَاهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهَا، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَأُمْسِكَ عَلَى فِيهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. [فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ شُرُوطٌ سِتَّةٌ] (6288) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ شُرُوطٌ سِتَّةٌ: أَحَدهَا، أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاللِّعَانِ بَعْدَ إلْقَائِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَادَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُحَلِّفَهُ الْحَاكِمُ. الثَّالِثُ، اسْتِكْمَالُ لَفْظَاتِ اللِّعَانِ الْخَمْسَةِ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا لَفْظَةً، لَمْ يَصِحَّ. الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ بِصُورَتِهِ، إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي إبْدَالِ لَفْظَةٍ بِمِثْلِهَا فِي الْمَعْنَى. الْخَامِسُ، التَّرْتِيبُ، فَإِنْ قَدَّمَ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ قَدَّمَتْ الْمَرْأَةُ لِعَانَهَا عَلَى لِعَانِ الرَّجُلِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. السَّادِسُ، الْإِشَارَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَتَسْمِيَتُهُ وَنِسْبَتُهُ إنْ كَانَ غَائِبًا. وَلَا يُشْتَرَطُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 حُضُورُهُمَا مَعًا، بَلْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ، مِثْلُ إنْ لَاعَنَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى بَابِهِ، لِعَدَمِ إمْكَانِ دُخُولِهَا، جَازَ. [فَصْلٌ كَانَ الزَّوْجَانِ يَعْرِفَانِ الْعَرَبِيَّةَ فِي اللِّعَانِ] (6289) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ يَعْرِفَانِ الْعَرَبِيَّةَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَا بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنْ كَانَا لَا يُحْسِنَانِ ذَلِكَ، جَازَ لَهُمَا الِالْتِعَانُ بِلِسَانِهِمَا؛ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يُحْسِنُ لِسَانَهُمَا، أَجْزَأَ ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ يُحْسِنُونَ لِسَانَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يُحْسِنُ لِسَانَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تُرْجُمَانٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُجْزِئُ فِي التَّرْجَمَةِ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ أَعْجَمِيٍّ حَاكَمَ إلَيْهِ، إذَا لَمْ يَعْرِفْ لِسَانَهُ؛ أَقَلُّ مِنْ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة كَانَ بَيْنَهُمْ فِي اللِّعَانِ وَلَدٌ] (6290) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ فِي اللِّعَانِ وَلَدٌ، ذَكَرَ الْوَلَدَ، فَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، لَقَدْ زَنَتْ. يَقُولُ: وَمَا هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي. وَتَقُولُ هِيَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ، وَهَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ مَتَى كَانَ اللِّعَانُ لِنَفْيِ وَلَدٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فِي لِعَانِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إلَى ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفِيهِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ الزَّوْجُ إلَى ذِكْرِهِ لِنَفْيِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَحْتَاجُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ذِكْرِهِ، وَيَنْتَفِي بِزَوَالِ الْفِرَاشِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ سَقَطَ حَقُّهُ بِاللِّعَانِ، اُشْتُرِطَ ذِكْرُهُ فِيهِ، كَالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْوَلَدِ شَرْطًا فِي لِعَانِهَا كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّهُمَا مُتَحَالِفَانِ عَلَى شَيْءٍ، فَاشْتُرِطَ ذِكْرُهُ فِي تَحَالُفِهِمَا كَالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْيَمِينِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِ الزَّوْجِ: وَمَا هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي. وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهَا: وَهَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زِنًا، وَلَيْسَ هُوَ مِنِّي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ هُوَ مِنِّي. يَعْنِي خَلْقًا وَخُلُقًا. وَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ زِنًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ زِنًا، فَأَكَّدْنَا بِذِكْرِهِمَا جَمِيعًا. وَلَنَا أَنَّهُ نَفَى الْوَلَدَ فِي اللِّعَانِ فَاكْتُفِيَ بِهِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ اللَّفْظَيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّأْكِيدِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا يَنْتَفِي الِاحْتِمَالُ بِضَمِّ إحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ زِنًا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُنِي خَلْقًا وَخُلُقًا، أَوْ أَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَلَدَ فِي اللِّعَانِ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ. فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَهُ، أَعَادَ اللِّعَانَ، وَيَذْكُرُ نَفْيَ الْوَلَدِ فِيهِ. [فَصْلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلِ بِعَيْنِهِ] (6291) فَصْلٌ: وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ قَذَفَهُمَا، وَإِذَا لَاعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا، سَوَاءٌ ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ، حُدَّ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ، فَلَا يُحَدُّ لَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، إلَّا فِي أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدُّهُ بِلِعَانِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْقَذْفُ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا الْحَدِّ؛ لِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَزَّرَهُ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَجِبُ الْحَدُّ لَهُمَا، وَهَلْ يَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ أَوْ حَدَّانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إذَا لَاعَنَ، وَذَكَرَ الْأَجْنَبِيَّ فِي لِعَانِهِ، أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ اللِّعَانَ بَيِّنَةٌ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَكَانَ بَيِّنَةً فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ بِهِ حَاجَةً إلَى قَذْفِ الزَّانِي، لِمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاشِهِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لِيَسْتَدِلَّ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِلْمَقْذُوفِ عَلَى صِدْقِ قَاذِفِهِ. كَمَا اسْتَدَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِدْقِ هِلَالٍ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ حُكْمَ قَذْفِهِ مَا أَسْقَطَ حُكْمَ قَذْفِهَا، قِيَاسًا لَهُ عَلَيْهَا. [فَصْلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا بِكَلِمَتَيْنِ] (6292) فَصْلٌ: وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا بِكَلِمَتَيْنِ، فَعَلَيْهِ حَدَّانِ لَهُمَا، فَيَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ خَاصَّةً، وَمِنْ حَدِّ الزَّوْجَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ اللِّعَانِ. وَإِنْ قَذَفَهُمَا بِكَلِمَةٍ، فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُلَاعِنْ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، فَهَلْ يُحَدُّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حَدَّيْنِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُحَدُّ حَدًّا وَاحِدًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَوَاءٌ كَانَ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ؛ لِأَنَّهُمَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ، كَحُدُودِ الزِّنَا. وَالثَّانِيَةُ: إنْ طَالَبُوا مُجْتَمِعِينَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ طَالَبُوا مُتَفَرِّقِينَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَبِ، أَمْكَنَ إيفَاؤُهُمْ بِالْحَدِّ الْوَاحِدِ، وَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ الْحَدِّ الْوَاحِدِ إيفَاءً لِمَنْ لَمْ يُطَالِبْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ لَهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي الْجَدِيدِ: يُقَامُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالدُّيُونِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 وَلَنَا أَنَّهُ إذَا قَذَفَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُجْزِئُ حَدٌّ وَاحِدٌ، أَنَّهُ يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِي قَذْفِهِ، وَبَرَاءَةُ عِرْضِهِمَا مِنْ رَمْيِهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَوَاحِدٍ. وَإِذَا قَذَفَهُمَا بِكَلِمَتَيْنِ، وَجَبَ حَدَّانِ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لِشَخْصَيْنِ، فَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، كَمَا لَوْ قَذَفَ الثَّانِي بَعْدَ حَدِّ الْأَوَّلِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّتَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيَّاتٍ، فَالتَّفْصِيلُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ قَذَفَ أَرْبَعَ نِسَائِهِ، فَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لِعَانًا مُفْرَدًا، وَيَبْدَأُ بِلِعَانِ الَّتِي تَبْدَأُ بِالْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ طَالَبْنَ جَمِيعًا، وَتَشَاحَحْنَ، بَدَأَ بِإِحْدَاهُنَّ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَشَاحَحْنَ، بَدَأَ بِلِعَانِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَوْ بَدَأَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ مَعَ الْمُشَاحَّةِ صَحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ لِعَانٌ وَاحِدٌ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ مِنْ الزِّنَا. وَتَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَى. لِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ أَيْمَانٌ فَلَا تَتَدَاخَلُ لِجَمَاعَةٍ، كَالْأَيْمَانِ فِي الدُّيُونِ. [فَصْلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ] (6293) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ. فَقَدْ قَذَفَهَا، وَقَذَفَ أُمَّهَا بِكَلِمَتَيْنِ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ لَهُمَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فِي الْمُطَالَبَةِ، فَفِي أَيَّتِهِمَا يُقَدَّمُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الْأُمُّ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا آكَدُ، لِكَوْنِهِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ لَهَا فَضِيلَةَ الْأُمُومَةِ. وَالثَّانِي، تَقْدِيمُ الْبِنْتُ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِقَذْفِهَا. وَمَتَى حُدَّ لِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْأُخْرَى، لَمْ يُحَدَّ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ مِنْ حَدِّ الْأُولَى. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْحَدَّ هَاهُنَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَلَمْ لَا يُوَالَى بَيْنَهُمَا كَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلَيْنِ، قَطَعْنَا يَدَيْهِ لَهُمَا، وَلَمْ نُؤَخِّرْهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ قَبْلَ إقَامَةِ حَدِّهِ، فَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ حَدَّيْنِ فِيهِ تُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَالْقِصَاصُ يَجُوزُ أَنْ تُقْطَعَ الْأَطْرَافُ كُلُّهَا فِي قِصَاصٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا جَازَ لِوَاحِدٍ، فَلِاثْنَيْنِ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَذَفَ مُحْصَنًا مَرَّاتٍ] (6294) فَصْلٌ: وَإِنْ قَذَفَ مُحْصَنًا مَرَّاتٍ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ، أَوْ كَرَّرَ الْقَذْفَ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ تَرَادَفَ سَبَبُهُمَا، فَتَدَاخَلَا، كَالزِّنَا مِرَارًا. وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِذَلِكَ الزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تُحُقِّقَ كَذِبُهُ فِيهِ بِالْحَدِّ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إظْهَارِ كَذِبِهِ فِيهِ ثَانِيًا، وَلَمَّا جَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ حِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَعَادَ قَذْفَهُ، فَهَمَّ عُمَرُ بِإِعَادَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 صَاحِبَهُ. فَتَرَكَهُ. وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ ثَانٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ. وَأَمَّا إنْ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ، فَعَلَيْهِ حَدٌّ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمُحْصَنٍ لَمْ يُحَدَّ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الْحَدُّ كَالْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِّ وُجِدَ بَعْدَ إقَامَتِهِ، فَأُعِيدَ عَلَيْهِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حُدَّ لِصَاحِبِهِ مَرَّةً، فَلَا يُعَادُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فِيمَا إذَا تَقَارَبَ الْقَذْفُ الثَّانِي مِنْ الْحَدِّ، فَأَمَّا إذَا تَبَاعَدَ زَمَانُهُمَا، وَجَبَ الْحَدُّ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ مَرَّةً مِنْ أَجْلِهِ فَوَجَبَ إطْلَاقَ عِرْضِهِ لَهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كَمَذْهَبِنَا، إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا إذَا أَعَادَ الْقَذْفَ بِزِنًا ثَانٍ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي، يَجِبُ حَدَّانِ. فَأَمَّا إنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ قَذَفَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي. فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً قَذْفَيْنِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيَّةَ، ثُمَّ حُدَّ لَهَا، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنَا آخَرَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ حَدَّانِ. فَطَالَبَتْ الْمَرْأَةُ بِمُوجَبِ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، سَقَطَ عَنْهُ حَدُّهُ، وَلَمْ يَجِبْ فِي الثَّانِي حَدُّ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً، حُدَّ لَهَا. وَمَتَى طَالَبَتْهُ بِمُوجَبِ الثَّانِي، فَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، أَوْ لَاعَنَهَا، سَقَطَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَذْفَ مُوجَبُهُ غَيْرُ مُوجَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُوجَبُهُ الْحَدُّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالثَّانِي مُوجَبُهُ اللِّعَانُ أَوْ الْحَدُّ. وَإِنْ بَدَأَتْ بِالْمُطَالَبَةِ بِمُوجَبِ الثَّانِي، فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِهِ، أَوْ لَاعَنَ، سَقَطَ حَدُّهُ، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِمُوجَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، وَإِلَّا حُدَّ. قَالَ الْقَاضِي: إنْ أَقَامَ بِالثَّانِي بَيِّنَةً، سَقَطَ مُوجَبُ الْأَوَّلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ لَهَا حَدُّ الْمُحْصَنَاتِ. وَلَنَا أَنَّ سُقُوطَ إحْصَانِهَا فِي الثَّانِي، لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَى حَدَّهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا إذَا قَذَفَ رَجُلًا فَلَمْ يُقِمْ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ حَتَّى زَنَى الْمَقْذُوفُ. وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَلْتَعِنَ لِلثَّانِي، لَمْ يَجِبْ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ وَلِأَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ تَرَادَفَا، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدُهُمَا، فَتَدَاخَلَا، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ قَذْفَيْنِ. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، فَحُدَّ لَهَا، ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهَا بِذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 الزِّنَا، لَمْ يُحَدَّ لَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي إعَادَةِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَالسَّبِّ، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ التَّعْزِيرِ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ تَعْزِيرُ سَبٍّ، لَا تَعْزِيرُ قَذْفٍ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُلْزِمُ الْأَجْنَبِيَّ حَدًّا ثَانِيًا بِإِعَادَةِ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ هَاهُنَا حَدٌّ، وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَإِنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ حَدِّهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الزِّنَا، فَلَهُ اللِّعَانُ لِإِسْقَاطِهِ، عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ. وَإِنْ قَذَفَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ قَذْفَيْنِ بِزِنَاءَيْنِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَيَكْفِيهِ لِعَانٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ، فَإِذَا كَانَ الْحَقَّانِ لِوَاحِدٍ كَفَتْهُ، يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَاءَيْنِ. وَفَارَقَ مَا إذَا قَذَفَ زَوْجَتَيْنِ، حَيْثُ لَا يَكْفِيهِ لِعَانٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَجَبَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا تَتَدَاخَلُ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالْأَوَّلِ، سَقَطَ عَنْهُ مُوجَبُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ زَالَ إحْصَانُهَا، وَلَا لِعَانَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ. وَإِنْ أَقَامَهَا بِالثَّانِي لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ، وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ قَذَفَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَلَاعَنَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَقَّقَهُ بِلِعَانِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَدَّ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيٌّ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. وَلَوْ قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ بِزِنَا غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ لَمْ يَنْفِ بِلِعَانِهَا وَلَدًا، حُدَّ قَاذِفُهَا، وَإِنْ نَفَاهُ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْ زَوْجِهَا بِالشَّرْعِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَمَاهَا، أَوْ وَلَدَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا نَصٌّ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى مَنْ رَمَاهَا، مَعَ أَنَّ وَلَدَهَا مَنْفِيٌّ عَنْ الْمُلَاعِنِ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنَاهَا، وَلَا زَالَ إحْصَانُهَا، فَيَلْزَمُ قَاذِفَهَا الْحَدُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَنْفِ وَلَدَهَا. فَأَمَّا إنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، فَقَذَفَهَا قَاذِفٌ بِذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ بِغَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إحْصَانُهَا، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَذْفَ لَمْ يُدْخِلْ الْمَعَرَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْمَعَرَّةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِزِنَاهُ، لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى، وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَلَاعَنَهَا، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِاللِّعَانِ، وَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، إلَّا أَنْ يُضِيفَ الزِّنَا إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ ثَمَّ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ الْمُلَاعَنَةُ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 [مَسْأَلَة الْتَعْنَ هُوَ وَلَمْ تلتعن هِيَ] (6295) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ الْتَعَنَ هُوَ، وَلَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَاعَنَهَا، وَامْتَنَعَتْ هِيَ مِنْ الْمُلَاعَنَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَذَهَبَ مَكْحُولٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، إلَى أَنَّ عَلَيْهَا الْحَدَّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] وَالْعَذَابُ الَّذِي يَدْرَؤُهُ لِعَانُهَا، هُوَ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَلِأَنَّهُ بِلِعَانِهِ حَقَّقَ زِنَاهَا، فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ زِنَاهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يُلَاعِنْ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ تَحَقُّقَ زِنَاهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، أَوْ بِنُكُولِهَا، أَوْ بِهِمَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِهِ، لَمَا سُمِعَ لِعَانُهَا، وَلَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَلِأَنَّهُ إمَّا يَمِينٌ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ، وَكِلَاهُمَا لَا يُثْبِتُ لَهُ الْحَقَّ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِنُكُولِهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ، فَإِنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِشِدَّةِ خَفَرِهَا، أَوْ لِعُقْلَةِ عَلَى لِسَانِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحَدِّ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِي بَيِّنَتِهِ مِنْ الْعَدَدِ ضِعْفُ مَا اُعْتُبِرَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، وَاعْتُبِرَ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَصِفُوا صُورَةَ الْفِعْلِ، وَأَنْ يُصَرِّحُوا بِلَفْظِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الشُّبُهَاتِ عَنْهُ، وَتَوَسُّلًا إلَى إسْقَاطِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةٌ، لَا يُقْضَى بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا الْعُقُوبَاتِ، وَلَا مَا عَدَا الْأَمْوَالَ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ فِي شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَقْضِي بِهِ فِي أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَبْعَدِهَا ثُبُوتًا، وَأَسْرَعِهَا سُقُوطًا، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِلِسَانِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهَا مِنْ الْيَمِينِ عَلَى بَرَاءَتِهَا أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ الْمُفْرَدَةِ، لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الشُّبْهَةِ لَا يَنْتَفِي بِضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخِرِ، فَإِنَّ احْتِمَالَ نُكُولِهَا، لِفَرْطِ حَيَائِهَا وَعَجْزِهَا عَنْ النُّطْقِ بِاللِّعَانِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ، لَا يَزُولُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَالْعَذَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسَ أَوْ غَيْرَهُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ فِي الْحَدِّ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ، فَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِالِاحْتِمَالِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إنَّ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إذَا كَانَتْ بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ. فَذَكَرَ مُوجِبَاتِ الْحَدِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللِّعَانَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا؛ فَرُوِيَ أَنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَلْتَعِنَ أَوْ تُقِرَّ أَرْبَعًا. قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ أَبَتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْتَعِنَ بَعْدَ الْتِعَانِ الرَّجُلِ، أَجْبَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَهِبْت أَنْ أَحْكُمَ عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِلِسَانِهَا لَمْ أَرْجُمْهَا إذَا رَجَعَتْ، فَكَيْفَ إذَا أَبَتِ اللِّعَانَ، وَلَا يَسْقُطُ النَّسَبُ إلَّا بِالْتِعَانِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ حَتَّى تَلْتَعِنَ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَنَا فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا لَمْ تَشْهَدْ لَا يُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُخْلَى سَبِيلُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ، فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ. فَأَمَّا الزَّوْجِيَّةُ، فَلَا تَزُولُ، وَالْوَلَدُ لَا يَنْتَفِي مَا لَمْ يَتِمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّهُ قَضَى بِالْفُرْقَةِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الرَّجُلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. [مَسْأَلَة أَقَرَّتْ الزَّوْجَة بِالزِّنَا دُونَ الْأَرْبَعِ مَرَّات فِي اللِّعَانِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّتْ دُونَ الْأَرْبَعِ مَرَّاتٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَصَدَّقَتْهُ، وَأَقَرَّتْ بِالزِّنَا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ إنْ كَانَ تَصْدِيقُهَا لَهُ قَبْلَ لِعَانِهِ، فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ كَالْبَيِّنَةِ، إنَّمَا يُقَامُ مَعَ الْإِنْكَارِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ لِعَانِهِ، لَمْ تُلَاعِنْ هِيَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْلِفُ مَعَ الْإِقْرَارِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ صَدَّقَتْهُ قَبْلَ لِعَانِهِ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ نَسَبٌ يَنْفِيهِ، فَيُلَاعِنُ وَحْدَهُ، وَيَنْتَفِي النَّسَبُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ لِعَانِهِ، فَقَدْ انْتَفَى النَّسَبُ، وَلَزِمَهَا الْحَدُّ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَيَجِبُ الْحَدُّ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ قَدْ مَضَى أَكْثَرُهَا. وَلَوْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا، وَجَبَ الْحَدُّ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَسَبٌ يُنْفَى. وَإِنْ رَجَعَتْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ مَقْبُولٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِلْحَدِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ. وَإِنْ أَرَادَ لِعَانَهَا لِنَفْيِ نَسَبٍ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ لِعَانُهَا لِنَفْيِ النَّسَبِ فِيهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَفِيفَةً صَالِحَةً فَكَذَّبَتْهُ، مَلَكَ نَفْيَ وَلَدِهَا، فَإِذَا كَانَتْ فَاجِرَةً فَصَدَّقَتْهُ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ نَفْيَ وَلَدِهَا أَوْلَى، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ إنَّمَا يَكُونُ بِلِعَانِهِمَا مَعًا، وَقَدْ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ مِنْهُمَا؛ وَلِأَنَّهَا لَا تُسْتَحْلَفُ عَلَى نَفْيِ مَا تَقْرَبُهُ، فَتَعَذَّرَ نَفْيُ الْوَلَدِ لِتَعَذُّرِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْقَذْفِ وَقَبْلَ اللِّعَانِ. [فَصْلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ بِك زَنَيْت] (6297) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ. فَقَالَتْ: بِك زَنَيْت. فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَيْهِ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ نَفْيَ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا، كَمَا يَسْتَعْمِلُ أَهْلُ الْعُرْفِ فِيمَا إذَا قَالَ قَائِلٌ: سَرَقْت. قَالَ: مَعَك سَرَقْت. أَيْ أَنَا لَمْ أَسْرِقْ؛ لِكَوْنِك أَنْتَ لَمْ تَسْرِقْ. وَلَنَا أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَتْ: صَدَقْت. وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْذِفْهُ، وَإِنَّمَا أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِزِنَاهَا بِهِ، وَيُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ زَانِيًا، بِأَنْ يَظُنَّهَا زَوْجَتَهُ وَهِيَ عَالِمَةٌ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ نَفْيَ ذَلِكَ عَنْهُمَا، كَمَا ذَكَرُوهُ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْنِي سِوَاكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ زِنًا فَأَنْتَ شَرِيكِي فِيهِ. وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِهِ عَنْ الرَّجُلِ بِظَاهِرِ تَصْدِيقِهَا، وُجُوبُهُ عَلَيْهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ فَإِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا يَجِبُ بِهَا. وَلَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ. فَقَالَتْ: أَنْتِ أَزْنَى مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا: لَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ؛ بِتَصْدِيقِهَا لَهُ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ قَوْلُهَا قَذْفًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إلَّا أَنْ تُرِيدَ الْقَذْفَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ أَصَابَنِي وَهُوَ زَوْجِي، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنِّي فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهَا حَدٌّ لِقَذْفِهَا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ، وَقَدْ أَتَتْ بِصَرِيحِ قَذْفِهِ بِالزِّنَا، فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: أَنْتَ زَانٍ. وَالِاحْتِمَالُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْقَذْفِ، لَا يَمْنَعُ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: أَنْتَ زَانٍ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ. فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتَ زَانٍ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاذِفٌ لِصَاحِبِهِ، عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ إسْقَاطَ حَدِّهَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِبَيِّنَةِ أَوْ لِعَانٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 [كِتَابُ الْعِدَدِ] ِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ: الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . «وَقَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» فِي آيٍ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ تَيَقَّنَّاهَا هَاهُنَا. وَهَكَذَا كُلّ فُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ، كَالْفَسْخِ لِرَضَاعٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ لِعَانٍ، أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ. [فَصْلٌ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ] (6298) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ دِينِهِمْ، لَمْ تَلْزَمْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَةَ. وَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَمَنْ تَبِعَهُمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَعْتَدُّ مِنْ الْوَفَاةِ بِحَيْضَةِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ الْوَفَاةِ، أَشْبَهَتْ الْمُسْلِمَةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 [فَصْل الْمُعْتَدَّاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ] (6299) فَصْلٌ: وَالْمُعْتَدَّاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُعْتَدَّةٌ بِالْحَمْلِ، وَهِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ مِنْ زَوْجٍ، إذَا فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتِهِ عَنْهَا، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَالثَّانِي، مُعْتَدَّةٌ بِالْقُرُوءِ، وَهِيَ كُلُّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ فُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ، أَوْ وَطْءٍ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ، إذَا كَانَتْ ذَاتَ قُرْءٍ، فَعِدَّتُهَا الْقُرْءُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَالثَّالِثُ، مُعْتَدَّةٌ بِالشُّهُورِ، وَهِيَ كُلّ مَنْ تَعْتَدُّ بِالشَّهْرِ إذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ قُرْءٍ؛ لِصِغَرٍ، أَوْ يَأْسٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . وَذَوَاتُ الْقُرْءِ إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، اعْتَدَّتْ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ. وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ، وَكُلُّ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا حَمْلَ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، حُرَّةً أَوْ أَمَةً، فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [فَصْل كُلّ فُرْقَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ] (6300) فَصْلٌ: وَكَّلَ فُرْقَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِخُلْعٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ فَسْخٍ بِعَيْبٍ، أَوْ إعْسَارٍ، أَوْ إعْتَاقٍ، أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عِدَّةَ الْمُلَاعَنَةِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالُوا: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا مُفَارِقَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُرْوَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو عِيَاضٍ وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَدَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّتَهَا حَيْضَةً. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَعَنْ رُبَيِّعٍ بِنْتِ مُعَوِّذٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ عُثْمَانَ قَضَى بِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْحَيَاةِ، فَكَانَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، كَغَيْرِ الْخُلْعِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ» . عَامٌ، وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ مُرْسَلًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَدْ خَالَفَهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٌّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ مُطَلَّقَةٍ. وَهُوَ أَصَحُّ عَنْهُ. [فَصْل الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ] (6301) فَصْلٌ: وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فِي شَغْلِ الرَّحِمِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَرَاءَةُ. وَإِنْ وُطِئَتْ الْمُزَوِّجَة بِشُبْهَةٍ، لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ حَرُمَ وَطْؤُهَا لِعَارِضٍ مُخْتَصٍّ بِالْفَرْجِ، فَأُبِيحَ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَهُ، كَالْحَائِضِ. [فَصْل الْمَزْنِيُّ بِهَا كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ] (6302) فَصْلٌ: وَالْمَزْنِيُّ بِهَا، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ ذَكَرهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَلَا يَلْحَقُهُ نَسَبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّهُ وَطْءٌ يَقْتَضِي شَغْلَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ مِنْهُ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ. وَأَمَّا وُجُوبُهَا كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا تَجِبُ لِحِفْظِ النَّسَبِ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهَا لَوْ اخْتَصَّتْ بِذَلِكَ، لَمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُلَاعَنَةِ الْمَنْفِيِّ وَلَدُهَا، وَالْآيِسَةِ، وَالصَّغِيرَةِ، وَلَمَا وَجَبَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ الَّتِي لَا يَلْحَقُ وَلَدُهَا بِالْبَائِعِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لِذَلِكَ، لَكَانَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَهِ عَلَى الْبَائِعِ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا وَجَبَتْ لِذَلِكَ، فَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ؛ فَإِنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا إذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الِاعْتِدَادِ، اشْتَبَهَ وَلَدُ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا، فَلَا يَحْصُلُ حِفْظُ النَّسَبِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 [مَسْأَلَة طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَقَدْ خَلَا بِهَا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ خَلَا بِهَا زَوْجُهَا وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا] (6303) مَسْأَلَةٌ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَقَدْ خَلَا بِهَا، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ غَيْرَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (6304) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ خَلَا بِهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، فَأَمَّا إنْ خَلَا بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَزَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُمَسَّ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يُخْلَ بِهَا. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَنَّ مَنْ أَرْخَى سِتْرًا، أَوْ أَغْلَقَ بَابًا، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ. وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا عَنْ الْأَحْنَفِ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَهَذِهِ قَضَايَا اشْتَهَرَتْ، فَلَمْ تُنْكَرْ، فَصَارَتْ إجْمَاعًا. وَضَعَّفَ أَحْمَدُ مَا رُوِيَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَالتَّمْكِينُ فِيهِ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّمْكِينُ. [فَصْلٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِمُطَلَّقَتِهِ مَعَ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ] (6305) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ، أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا، كَالْجُبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْفَتْقِ وَالرَّتْقُ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْإِصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، وَلِهَذَا لَوْ خَلَا بِهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكْمُلُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 فَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي الْعِدَّةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَمْنَعُ كَمَالَ الصَّدَاقِ مَعَ الْخَلْوَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَانِعُ مُتَأَكِّدًا، كَالْإِحْرَامِ وَشِبْهِهِ، مَنَعَ كَمَالَ الصَّدَاقِ، وَلَمْ تَجِبْ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الْمَسِيسِ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لَهُ، وَمَعَ الْمَانِعِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمَظِنَّةُ. فَأَمَّا إنْ خَلَا بِهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، أَوْ كَانَ أَعْمَى فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا يَكْمُلُ صَدَاقُهَا؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ مَعَ ظُهُورِ اسْتِحَالَةِ الْمَسِيسِ. [الْفَصْل الثَّانِي عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَهِيَ مِنْ ذَوَات الْقُرُوءِ] (6306) الْفَصْلُ الثَّانِي: إنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ، إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَالْقُرْءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا، فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ: الْقُرُوءُ الْأَوْقَاتُ، الْوَاحِدُ قُرْءٌ، وَقَدْ يَكُونُ حَيْضًا وَقَدْ يَكُونُ طُهْرًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْتِي لِوَقْتٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَرِهْت الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي تَمِيمٍ ... إذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ يَعْنِي: لِوَقْتِهَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يُقَالُ: أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ: إذَا دَنَا حَيْضُهَا وَأَقْرَأَتْ: إذَا دَنَا طُهْرُهَا، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك. فَهَذَا الْحَيْضُ.» وَقَالَ الشَّاعِرُ: مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا فَهَذَا الطُّهْرُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، فَرُوِيَ أَنَّهَا الْحَيْضُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَبِي مُوسَى، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا، وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ بِالْأَطْهَارِ، فَقَالَ: فِي رِوَايَةِ النَّيْسَابُورِيِّ: كُنْتُ أَقُولُ: إنَّهُ الْأَطْهَارُ، وَأَنَا أَذْهَبُ الْيَوْمَ إلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: كُنْتُ أَقُولُ الْأَطْهَارَ، ثُمَّ وَقَفْتُ لِقَوْلِ الْأَكَابِرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ. وَهُوَ قَوْلُ زَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إلَّا وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَجَعَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: رَأَيْت الْأَحَادِيثَ عَمَّنْ قَالَ: الْقُرُوءُ الْحَيْضُ. تَخْتَلِفُ، وَالْأَحَادِيثُ عَمَّنْ قَالَ: إنَّهُ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ. أَحَادِيثُهَا صِحَاحٌ وَقَوِيَّةٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] /أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مُرْهُ «فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ: (فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ) . وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ مُجَرَّدٍ مُبَاحٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ، وَكَعِدَّةِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . فَنَقَلَهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ إلَى الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْحَيْضُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6] . الْآيَةَ، وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «اُنْظُرِي، فَإِذَا أَتَى قُرْؤُكِ، فَلَا تُصَلِّي، وَإِذَا مَرَّ قُرْؤُك، فَتَطَهَّرِي، ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إلَى الْقُرْءِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِهِ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ فِي مَوْضِعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي لِسَانِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ، وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا يَرْوِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، فِي (سُنَنِهِ) ، وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، فِي (جَامِعِهِ) ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ، فَكَذَلِكَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ. وَلِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وُجُوبُ التَّرَبُّصِ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارَ، لَمْ يُوجِبْ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، فَيُخَالِفُ ظَاهِرَ النَّصِّ، وَمَنْ جَعَلَهُ الْحَيْضَ، أَوْجَبَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، فَيُوَافِقُ ظَاهِرَ النَّصِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ، فَكَانَتْ بِالْحَيْضِ، كَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَيْضُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَ الْحَيْضَةِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ حَيْضَةٌ بِإِجْمَاعٍ. لَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، بَلْ جَائِزٌ لَهَا عِنْدَنَا أَنْ تَنْكِحَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ، وَاسْتَيْقَنَتْ أَنَّ دَمَهَا دَمُ حَيْضٍ، كَذَلِكَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ إيَّاهُ. قُلْنَا: هَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْحَيْضَةِ، لَا بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالطُّهْرِ، كَوَضْعِ الْحَمْلِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ مَقْصُودُهَا مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَمْلِ، فَتَارَةً تَحْصُلُ بِوَضْعِهِ، وَتَارَةً تَحْصُلُ بِمَا يُنَافِيهِ، وَهُوَ الْحَيْضُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مَعَهُ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَبْلَ عِدَّتِهِنَّ، إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ، ضَرُورَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَقَ الْعِدَّةَ، لِكَوْنِهِ سَبَبَهَا، وَالسَّبَبُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ، فَلَا يُوجَدْ قَبْلَهُ، وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ تَطْلِيقٌ قَبْلَ الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ الْأَقْرَاءُ الْحَيْضَ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ الْحَيْضَةَ الَّتِي تطلق فِيهَا فِي الْعِدَّة] الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي تَطْلُقُ فِيهَا، لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، فَتَنَاوَلَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، وَاَلَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا تَتِمُّ بِهِ مَعَ اثْنَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا. وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا حُرِّمَ فِي الْحَيْضِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَلَوْ احْتَسَبَتْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، كَانَ أَقْصَرَ لِعِدَّتِهَا، وَأَنْفَعَ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، وَمَنْ قَالَ: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. احْتَسَبَ لَهَا بِالطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ قُرْءًا، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ قُرْئِهَا لَحْظَةٌ، حَسَبَهَا قُرْءًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ قَالَ: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. إلَّا الزُّهْرِيَّ وَحْدَهُ، قَالَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ. . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامَعَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 فِي الطُّهْرِ، لَمْ يَحْتَسِبْ بِبَقِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ حُرِّمَ فِيهِ الطَّلَاقُ، فَلَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ مِنْ الْعِدَّةِ، كَزَمَنِ الْحَيْضِ. وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ حُرِّمَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ دَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَلَوْ لَمْ يَحْتَسِبْ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ قُرْءًا، كَانَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ أَضَرَّ بِهَا، وَأَطْوَلَ عَلَيْهَا، وَمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِكَوْنِهَا لَا تَحْتَسِبُ بِبَقِيَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ الِاحْتِسَابِ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ، فَتَصِيرَ الْعِلَّةُ مَعْلُولًا، وَإِنَّمَا تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ، لِكَوْنِهَا مُرْتَابَةً، وَلِكَوْنِهِ لَا يَأْمَنُ النَّدَمَ بِظُهُورِ حَمْلِهَا، فَأَمَّا إنْ انْقَضَتْ حُرُوفُ الطَّلَاقِ مَعَ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ، وَيَكُونُ مُحَرَّمًا، وَلَا تَحْتَسِبُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا، وَتَحْتَاجُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ بَعْدَهَا، أَوْ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ طُهْرِكِ. أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ طُهْرِك. أَوْ انْقَضَتْ حُرُوفُ الْإِيقَاعِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الطُّهْرِ إلَّا زَمَنُ الْوُقُوعِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَسِبُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ طُهْرٌ تَعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَادُ بِمَا قَبْلَهُ. وَلَا بِمَا قَارَبَهُ، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرْءَ الْحَيْضَ، اعْتَدَّ لَهَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تَلِي الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهَا حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ، لَمْ يَقَعْ فِيهَا طَلَاقٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ بِهَا قُرْءًا. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ. وَقَالَتْ: بَلْ فِي آخِرِ الطُّهْرِ. أَوْ قَالَ: انْقَضَتْ حُرُوفُ الطَّلَاقِ مَعَ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ. وَقَالَتْ: بَلْ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي الْحَيْضِ، وَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. [مَسْأَلَة اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَة فِي الْعِدَّة أُبِيحَتْ لِلْأَزْوَاجِ] (6308) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، أُبِيحَتْ لِلْأَزْوَاجِ) حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا. قَالَ أَحْمَدُ عُمَرُ وَعَلِيُّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ: قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَبِي مُوسَى وَعُبَادَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ شَرِيكٌ لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلِزَوْجِهَا رَجْعَتُهَا حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ. فَإِنْ انْقَطَعَ لِأَكْثَرِهِ، انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِانْقِطَاعِهِ. وَوَجْهُ اعْتِبَارِ الْغُسْلِ قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ حَدَثِ الْحَيْضِ، فَأَشْبَهَتْ الْحَائِضَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطُهْرِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَانْقِطَاعِ دَمِهَا. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَقَدْ كَمَّلَتْ الْقُرُوءُ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَفِعْلِ الصِّيَامِ، وَصِحَّتِهِ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمِيرَاثِ، وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا، وَاللِّعَانِ، وَالنَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: إذَا شَرَطْنَا الْغُسْلَ، أَفَادَ عَدَمُهُ إبَاحَةَ الرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا. فَصْلٌ: (6309) وَإِنْ قُلْنَا: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. فَطَلَّقَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَمَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ، لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ الدَّمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ دَمَ فَسَادٍ، فَلَا نَحْكُمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى يَزُولَ الِاحْتِمَالُ. وَحَكَى الْقَاضِي هَذَا احْتِمَالًا فِي مَذْهَبِنَا أَيْضًا. وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِلنَّصِّ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مِنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْهُمْ بِإِسْنَادِهِ، وَلَفْظُ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «إذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ، وَبَرِئَ مِنْهَا، وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا.» وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الدَّمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمَ فَسَادٍ. قُلْنَا: قَدْ حُكِمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، فَكَذَلِكَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. ثُمَّ إنْ كَانَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِلِاحْتِمَالِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَيْضٌ، عَلِمْنَا أَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ انْقَضَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ مِنْ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ تَكْمُلُ بِهِ الْعِدَّةُ، فَكَانَ مِنْهَا، كَاَلَّذِي فِي أَثْنَاءِ الْأَطْهَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْهَا، إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْقِضَاؤُهَا، وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْهَا، أَوْجَبْنَا الزِّيَادَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلَكِنَّا نَمْنَعُهَا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمْضِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلَوْ رَاجَعَهَا زَوْجُهَا فِيهَا، لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة اغْتَسَلَتْ الْأَمَة مِنْ الْحَيْضَة الثَّانِيَة فِي الْعِدَّة] (6310) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ) . أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالْقُرْءِ قُرْءَانِ. مِنْهُمْ؛ عُمَرُ وَعَلِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 قَدْ مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةٌ. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ذُو عَدَدٍ، بُنِيَ عَلَى التَّفَاضُلِ، فَلَا تُسَاوِي فِيهِ الْأَمَةُ الْحُرَّةَ، كَالْحَدِّ. وَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ حَيْضَةً وَنِصْفًا، كَمَا كَانَ حَدُّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرَّةِ، إلَّا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَكَمَّلَ حَيْضَتَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْعَلَ الْعِدَّةَ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْت. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى، بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ. فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ. [مَسْأَلَة عِدَّة مِنْ كَانَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَحِضْنَ] (6311) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ، أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَحِضْنَ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ، اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] . وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَهِلَّةِ. وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ اعْتَدَّتْ بَقِيَّتَهُ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَمَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَحْتَسِبُ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، وَتَعْتَدُّ مِنْ الرَّابِعِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهَا مِنْ الْأَوَّلِ، تَامَّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْهِلَالِ، كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَهِلَّةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ، وَجَبَ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهُ. وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا ثَانِيًا، أَنَّ جَمِيعَ الشُّهُورِ مَحْسُوبَةٌ بِالْعَدَدِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا حَسَبَ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ، كَانَ ابْتِدَاءُ الثَّانِي مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْسِبَ بِالْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ. وَلَنَا أَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَعَلَى الثَّلَاثِينَ، وَلِذَلِكَ إذَا غُمَّ الشَّهْرُ كُمِّلَ ثَلَاثِينَ، وَالْأَصْلُ الْهِلَالُ، فَإِذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْهِلَالِ، اُعْتُبِرُوا، وَإِذَا تَعَذَّرَ، رُجِعَ إلَى الْعَدَدِ. وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذُكِرَ لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا التَّخْرِيجُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إتْمَامُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُهُ مِنْ الرَّابِعِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 [فَصْلٌ مَتَى تَحْتَسِب الْعِدَّة] (6312) فَصْلٌ: وَتُحْسَبُ الْعِدَّةُ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِيهَا، فَلَوْ فَارَقَهَا نِصْفَ اللَّيْلِ، أَوْ نِصْفَ النَّهَارِ، اعْتَدَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى مِثْلِهِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَا تَحْتَسِبُ بِالسَّاعَاتِ، وَإِنَّمَا تَحْتَسِبُ بِأَوَّلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا نَهَارًا، احْتَسَبَتْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا لَيْلًا، احْتَسَبَتْ بِأَوَّلِ النَّهَارِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ حِسَابَ السَّاعَاتِ يَشُقُّ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَحِسَابُ السَّاعَاتِ مُمْكِنٌ، إمَّا يَقِينًا، وَإِمَّا اسْتِظْهَارًا، فَلَا وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة عِدَّةِ الْأَمَة] (6313) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالْأَمَةُ شَهْرَانِ اخْتَلَفْت الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، أَنَّهَا شَهْرَانِ. رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ حَيْضَتَانِ، وَلَوْ لَمْ تَحِضْ كَانَ عِدَّتُهَا شَهْرَيْنِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ بَدَلٌ مِنْ الْقُرُوءِ، وَعِدَّةُ ذَاتِ الْقُرُوءِ قُرْءَانِ، فَبَدَلُهُمَا شَهْرَانِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بِالشُّهُورِ عَنْ غَيْرِ الْوَفَاةِ، فَكَانَ عَدَدُهَا كَعَدَدِ الْقُرُوءِ، لَوْ كَانَتْ ذَاتَ قُرُوءٍ، كَالْحُرَّةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ عِدَّتَهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ. نَقَلَهَا الْمَيْمُونِيُّ، وَالْأَثْرَمُ، وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَنِصْفُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَإِنَّمَا كَمَّلْنَا لِذَاتِ الْحَيْضِ حَيْضَتَيْنِ، لِتَعَذُّرِ تَبْعِيضِ الْحَيْضَةِ، فَإِذَا صِرْنَا إلَى الشُّهُورِ، أَمْكَنَ التَّنْصِيفُ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، كَمَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَيَصِيرُ هَذَا كَالْمُحْرِمِ، إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ نِصْفُ مُدٍّ، أَجْزَأَهُ إخْرَاجُهُ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ مَكَانَهُ، صَامَ يَوْمًا كَامِلًا. وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ أَمْكَنَ تَنْصِيفُهَا، فَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةً بِالشُّهُورِ فَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيِّ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] . وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِلْأَمَةِ الْآيِسَةِ بِالشُّهُورِ، فَكَانَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، كَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ إذَا مَلَكَهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 أَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّهُورِ هَاهُنَا لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً، ثُمَّ يَتَحَرَّكُ، وَيَعْلُو بَطْنُ الْمَرْأَةِ، فَيَظْهَرُ الْحَمْلُ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ فِي حَقِّ سَيِّدهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. وَمَنْ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ: هِيَ مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَمَتَى اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَخْطِئَتِهِمْ، وَخُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لِغَيْرِ الْحَمْلِ، فَكَانَتْ دُونَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، كَذَاتِ الْقُرُوءِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. [فَصْل السِّنِّ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ الْآيِسَاتِ] (6314) فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي السِّنِّ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ الْآيِسَاتِ، فَعَنْهُ: أَوَّلُهُ خَمْسُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً. وَعَنْهُ: إنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْعَجَمِ فَخَمْسُونَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ فَسِتُّونَ؛ لِأَنَّهُنَّ أَقْوَى طَبِيعَةً. وَقَدْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي كِتَابِ " النَّسَبِ "، أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ أَبِي عُبَيْدَةَ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، وَلَدَتْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَهَا سِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ: يُقَالُ: إنَّهُ لَنْ تَلِدَ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً إلَّا عَرَبِيَّةٌ، وَلَا تَلِدَ لِسِتِّينَ إلَّا قُرَشِيَّةٌ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، يُعْتَبَرُ السِّنُّ الَّذِي يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ إذَا بَلَغَتْهُ لَمْ تَحِضْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اثْنَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَالثَّانِي، يُعْتَبَرُ السِّنُّ الَّذِي يَيْأَسُ فِيهِ نِسَاءُ عَشِيرَتِهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ نَشْأَهَا كَنَشْئِهِنَّ، وَطَبْعَهَا كَطَبْعِهِنَّ. وَالصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَتَى بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً، فَانْقَطَعَ حَيْضُهَا عَنْ عَادَتِهَا مَرَّاتٍ لِغَيْرِ سَبَبٍ، فَقَدْ صَارَتْ آيِسَةً؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ فِي حَقِّ هَذِهِ نَادِرٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ عَائِشَةَ وَقِلَّةِ وُجُودِهِ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى هَذَا انْقِطَاعُهُ عَنْ الْعَادَاتِ مَرَّاتٍ، حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِهِ، فَلَهَا حِينَئِذٍ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ، وَإِنْ انْقَطَعَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا، فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا. وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ، فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. قَالَ الْخِرَقِيِّ وَإِذَا رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ، فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتَدُّ بِهِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، كَاَلَّتِي لَا تَرَى دَمًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 [فَصْلٌ أَقَلُّ سِنّ الْحَيْضِ لِلْمَرْأَةِ الْمُعْتَدَّة] (6315) فَصْلٌ: وَأَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ تِسْعُ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ مَنْ تَحِيضُ لِتِسْعٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت جَدَّةً لَهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً. فَهَذِهِ إذَا أَسْقَطْتَ مِنْ عُمْرِهَا مُدَّةَ الْحَمْلَيْنِ فِي الْغَالِبِ عَامًا وَنِصْفًا، وَقَسَمْت الْبَاقِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنَتِهَا، كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ حَلَمَتْ لِدُونِ عَشْرِ سِنِينَ. فَإِنْ رَأَتْ دَمًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهَا مُتَكَرِّرًا، وَالْمُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ. (6316) فَصْلٌ: فَإِنْ بَلَغَتْ سِنًّا تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ، فَلَمْ تَحِضْ، كَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَضَعَّفَ أَبُو بَكْرٍ الرِّوَايَةَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا، وَقَالَ: رَوَاهَا أَبُو طَالِبٍ فَخَالَفَ فِيهَا أَصْحَابَهُ، وَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ سَنَةً. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَتَى عَلَيْهَا زَمَانُ الْحَيْضِ فَلَمْ تَحِضْ، صَارَتْ مُرْتَابَةً، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ مَنَعَ حَيْضَهَا، فَيَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بِسَنَةٍ، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ وُجُودِهِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وَهَذِهِ مِنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْمُعْتَدَّةِ، لَا بِحَالِ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَوْ حَاضَتْ قَبْلَ بُلُوغِ سِنٍّ يَحِيضُ لِمِثْلِهِ النِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ، مِثْلُ أَنْ تَحِيضَ وَلَهَا عَشْرُ سِنِينَ، اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ، وَفَارَقَ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ؛ فَإِنَّهَا مِنْ ذَوَات الْقُرُوءِ، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْهُنَّ. [مَسْأَلَة طَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَهِيَ أَمَةٌ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، وَهِيَ أَمَةٌ، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى أُعْتِقَتْ، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ. وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، فَأُعْتِقَتْ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ أَمَةٍ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْي. وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ. الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي، تُكْمِلُ عِدَّةَ أَمَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيَّةً. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ طَرَأَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَائِنًا. أَوْ كَمَا لَوْ طَرَأَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ، كَالْحَدِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ بِكُلِّ حَالٍ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِدَّةِ الْكَامِلَةِ إذَا وُجِدَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ، انْتَقَلَتْ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، كَمَا لَوْ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 وَلَنَا أَنَّهَا إذَا أُعْتِقَتْ وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ، فَقَدْ وُجِدَتْ الْحُرِّيَّةُ، وَهِيَ زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لَوْ مَاتَ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ، كَمَا لَوْ أُعْتِقَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَإِنْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ بَائِنٌ، فَلَمْ تُوجَدْ الْحُرِّيَّةُ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، كَمَا لَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرْأَيْنِ. وَلِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَوْ مَاتَ، فَتَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، وَالْبَائِنُ لَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَلَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِمَالِكٍ يَبْطُلُ بِمَا إذَا مَاتَ زَوْجُ الرَّجْعِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ، أَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَلُ، زَالَ حُكْمُ الْبَدَلِ، كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنْ عِدَّةَ الْأَمَةِ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ، وَلِذَلِكَ تَبْنِي الْأَمَةُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا اتِّفَاقًا، وَإِذَا حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ فَافْتَرَقَا، وَتُخَالِفُ الِاسْتِبْرَاءَ؛ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ لَوْ قَارَنَتْ سَبَبَ وُجُوبِهِ، لَمْ تَكْمُلْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا عَتَقَتْ لِمَوْتِهِ، وَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّتِي لَمْ تَعْتِقْ، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ عَتَقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا] (6318) فَصْلٌ: إذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ الْعَبْدِ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَمَرَ بَرِيرَةَ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ.» وَإِنْ طَلَّقَهَا الْعَبْدُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَأَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ. سَوَاءٌ فَسَخَتْ، أَوْ أَقَامَتْ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ فِي عِدَّةِ رَجْعِيَّةٍ. وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ، فَرَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَلَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ رَجْعَتِهَا، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَهَلْ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ، أَمْ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَأْنِفُ. فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ حُرَّةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: تَبْنِي. بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ. [مَسْأَلَة طَلَّقَهَا وَهِيَ مِمَّنْ قَدْ حَاضَتْ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ] (6319) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ مِمَّنْ قَدْ حَاضَتْ، فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا، لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، اعْتَدَّتْ سَنَةً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ فِي عَادَتِهَا، وَلَمْ تَدْرِ مَا رَفَعَهُ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ سَنَةً؛ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مِنْهَا تَتَرَبَّصُ فِيهَا لِتَعْلَمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ غَالِبُ مُدَّةُ الْحَمْلِ، فَإِذَا لَمْ يَبْنِ الْحَمْلُ فِيهَا، عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ظَاهِرًا، فَتَعْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ، ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. هَذَا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا قَضَاءُ عُمَرَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لَا يُنْكِرُهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ عَلِمْنَاهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ الَّتِي يُتَيَقَّنُ بِهَا بَرَاءَةُ رَحِمِهَا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا احْتِيَاطًا. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: تَكُونُ فِي عِدَّةٍ أَبَدًا، حَتَّى تَحِيضَ، أَوْ تَبْلُغَ سِنَّ الْإِيَاسِ، تَعْتَدُّ حِينَئِذٍ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي الزِّنَادِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ جُعِلَ بَعْدَ الْإِيَاسِ، فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ آيِسَةً، وَلِأَنَّهَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ، فَلَمْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ، كَمَا لَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ وَلَنَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ بِالِاعْتِدَادِ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَهَذَا تَحْصُلُ بِهِ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا، فَاكْتُفِيَ بِهِ، وَلِهَذَا اكْتَفِي فِي حَقِّ ذَاتِ الْقُرْءِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَوْ رُوعِيَ الْيَقِينُ، لَاعْتُبِرَ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلِأَنَّ عَلَيْهَا فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ضَرَرًا، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَتُحْبَسُ دَائِمًا، وَيَتَضَرَّرُ الزَّوْجُ بِإِيجَابِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُطَوِّلُوا عَلَيْهَا الشُّقَّةَ، كَفَاهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا مَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَقَدْ عُلِمَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا ظَاهِرًا، فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا؟ قُلْنَا: الِاعْتِدَادُ بِالْقُرُوءِ وَالْأَشْهُرِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَمْلِ، وَقَدْ تَجِبُ الْعِدَّةُ مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَوَضَعَتْهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ. [فَصْل عَادَ الْحَيْضُ إلَيْهَا فِي السَّنَةِ وَلَوْ فِي آخِرهَا] (6320) فَصْلٌ: فَإِنْ عَادَ الْحَيْضُ إلَيْهَا فِي السَّنَةِ، وَلَوْ فِي آخِرهَا، لَزِمَهَا الِانْتِقَالُ إلَى الْقُرُوءِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، فَبَطَلِ بِهَا حُكْمُ الْبَدَلِ. وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مُضِيِّهَا وَنِكَاحِهَا، لَمْ تَعُدْ إلَى الْقُرُوءِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا، فَلَمْ تَبْطُلْ، كَمَا لَوْ اعْتَدَّتْ الصَّغِيرَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ حَاضَتْ. وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ السَّنَةِ، وَقَبْلَ نِكَاحهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَعُودُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ، فَلَمْ تَعُدْ، كَالصَّغِيرَةِ. وَالثَّانِي، تَعُودُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَقَدْ قَدَرَتْ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ تَعَلُّقِ حَقِّ زَوْجٍ بِهَا، فَلَزِمَهَا الْعَوْدُ، كَمَا لَوْ حَاضَتْ فِي السَّنَةِ. [مَسْأَلَة عِدَّة الْأَمَة إذَا وَجَدَ حَمَلَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ] (6321) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، اعْتَدَّتْ بِأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ، وَشَهْرَانِ لِلْعِدَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْحُرَّةَ تَعْتَدُّ بِسَنَةٍ إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ. الثَّانِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الْآيِسَةِ شَهْرَانِ، فَتَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَتَسَاوَى فِيهَا الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا حَقِيقِيًّا، فَإِذَا يَئِسَتْ مِنْ الْحَمْلِ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْآيِسَةِ شَهْرَيْنِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي جَعَلَ عِدَّتَهَا شَهْرًا وَنِصْفًا، تَكُونُ عِدَّتُهَا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا. وَمَنْ جَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَعِدَّتُهَا سَنَةٌ كَالْحُرَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 [مَسْأَلَة إنْ عَرَفَتْ مَا رَفَعَ الْحَيْضَ] (6322) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِنْ عَرَفَتْ مَا رَفَعَ الْحَيْضَ، كَانَتْ فِي عِدَّةٍ حَتَّى يَعُودَ الْحَيْضُ، فَتَعْتَدُّ بِهِ، إلَّا أَنْ تَصِيرَ مِنْ الْآيِسَاتِ، فَتَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتٍ تَصِيرُ فِي عِدَادِ الْآيِسَاتِ أَمَّا إذَا عَرَفَتْ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَيْضِ بِعَارِضٍ؛ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ، وَعَوْدَ الدَّمِ وَإِنْ طَالَ، إلَّا أَنْ تَصِيرَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَكَانَتْ لَهَا مِنْهُ بُنَيَّةً تُرْضِعُهَا، فَتَبَاعَدَ حَيْضُهَا، وَمَرِضَ حِبَّانُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّك إنْ مِتَّ وَرِثَتْك. فَمَضَى إلَى عُثْمَانَ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ مَا تَرَيَانِ؟ فَقَالَا: نَرَى أَنَّهَا إنْ مَاتَتْ وَرِثَهَا، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ، وَلَا مِنْ الْأَبْكَارِ اللَّائِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ. فَرَجَعَ حِبَّانُ إلَى أَهْلِهِ، فَانْتَزَعَ الْبِنْتَ مِنْهَا، فَعَادَ إلَيْهَا الْحَيْضُ، فَحَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ، وَمَاتَ حِبَّانُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّالِثَةِ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَ جَدِّهِ امْرَأَتَانِ؛ هَاشِمِيَّةٌ، وَأَنْصَارِيَّةٌ، فَطَلَّقَ الْأَنْصَارِيَّةَ وَهِيَ مُرْضِعٌ، فَمَرَّتْ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ هَلَكَ وَلَمْ تَحِضْ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ: لَمْ أَحِضْ. فَاخْتَصَمُوا إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ، فَلَامَتْ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ فَقَالَ: هَذَا عَمَلُ ابْنِ عَمِّكِ، هُوَ أَشَارَ عَلَيْنَا بِهَذَا. يَعْنِي عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [مَسْأَلَة حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ] (6323) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ، فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا، لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ: تَجْلِسُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ بِهَا حَمْلٌ، تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَذَلِكَ سَنَةٌ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَضَى بِهِ عُمَرُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، فَتَحِيضُ حَيْضَةً، ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا. قَالَ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ إذَا رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا فَلَمْ تَدْرِ مِمَّا ارْتَفَعَتْ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً. قِيلَ لَهُ: فَحَاضَتْ دُونَ السَّنَةِ. فَقَالَ: تَرْجِعُ إلَى الْحَيْضَةِ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ ارْتَفَعَتْ حَيْضَتهَا أَيْضًا لَا تَدْرِي مِمَّا ارْتَفَعَتْ؟ قَالَ: تَقْعُدُ سَنَةً أُخْرَى. وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ وَافَقَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا ارْتَفَعَتْ حَيْضَتُهَا، حَصَلَتْ مُرْتَابَةً، فَوَجَبَ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى الِاعْتِدَادِ بِسَنَةٍ، كَمَا لَوْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا حِينَ طَلَّقَهَا،، وَوَجَبَ عَلَيْهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 لَا تَنْبَنِي عَلَى عِدَّةٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ لَوْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ يَئِسَتْ، انْتَقَلَتْ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ، وَلَوْ اعْتَدَّتْ الصَّغِيرَةُ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ حَاضَتْ، انْتَقَلَتْ إلَى ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. [فَصْل كَانَتْ عَادَةُ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَبَاعَدَ مَا بَيْنَ حَيْضَتَيْهَا] (6324) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَبَاعَدَ مَا بَيْنَ حَيْضَتَيْهَا، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَإِنْ طَالَتْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَمْ يَرْتَفِعْ حَيْضُهَا، وَلَمْ تَتَأَخَّرْ عَنْ عَادَتِهَا، فَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، بَاقِيَةٌ عَلَى عَادَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يَتَبَاعَدْ حَيْضُهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا. [فَصْل عِدَّةِ الْمُسْتَحَاضَة] (6325) فَصْلٌ: فِي عِدَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا حَيْضٌ مَحْكُومٌ بِهِ بِعَادَةٍ أَوْ تَمْيِيزٍ، أَوْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهَا حَيْضٌ مَحْكُومٌ بِهِ بِذَلِكَ، فَحُكْمُهَا فِيهِ حُكْمُ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، إذَا مَرَّتْ لَهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. قَالَ أَحْمَدُ الْمُسْتَحَاضَةُ تَعْتَدُّ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَعْرِفُ. وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَلَمْ تَعْلَمْ مَوْضِعَهَا، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَإِنْ شَكَّتْ فِي شَيْءٍ، تَرَبَّصَتْ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّ الْقُرُوءَ الثَّلَاثَ قَدْ انْقَضَتْ. وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَا تَمْيِيزَ لَهَا، أَوْ نَاسِيَةً لَا تَعْرِفُ لَهَا وَقْتًا وَلَا تَمْيِيزًا، فَعَنْ أَحْمَدْ فِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَهُوَ قَوْلِ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ أَنْ تَجْلِسَ فِي كُلّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً، فَجَعَلَ لَهَا حَيْضَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ تَتْرُكُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَيَثْبُتُ فِيهَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، فَيَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تَعْتَدُّ سَنَةً بِمَنْزِلَةِ مَنْ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهَا. قَالَ أَحْمَدُ إذَا كَانَتْ قَدْ اخْتَلَطَتْ، وَلَمْ تَعْلَمْ إقْبَالَ الدَّمِ وَإِدْبَارَهُ، اعْتَدَّتْ سَنَةً؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَبَيَّنُ الْحَمْلُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَيَقَّنْ لَهَا حَيْضًا، مَعَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا سَنَةً، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّنَا مَتَى حَكَمْنَا بِأَنَّ حَيْضَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَمَضَى لَهَا شَهْرَانِ بِالْهِلَالِ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الثَّالِثِ، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَإِنْ قُلْنَا: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. فَطَلَّقَهَا فِي آخِرِ شَهْرٍ، ثُمَّ مَرَّ لَهَا شَهْرَانِ وَهَلَّ الثَّالِثُ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 [مَسْأَلَة طَلَّقَهَا وَهِيَ مِنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ] (6326) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهِيَ مِنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ حَتَّى حَاضَتْ، اسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّةَ بِثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَبِحَيْضَتَيْنِ إنْ كَانَتْ أَمَةً وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ أَوْ الْبَالِغَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، فَحَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ، لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَلُ بَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ. وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ قُلْنَا: الْقُرُوءُ الْحَيْضُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. فَهَلْ تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ الطُّهْرِ قَبْلَ الْحَيْضِ قُرْءًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، تَعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ طُهْرٌ انْتَقَلَتْ مِنْهُ إلَى حَيْضٍ، فَأَشْبَهَ الطُّهْرَ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ. وَالثَّانِي، لَا تَعْتَدُّ بِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ. وَهَذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَيْضٌ، فَلَمْ يَكُنْ قُرْءًا. فَأَمَّا إنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ، ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَهَا وَلَوْ بِلَحْظَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَدَثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَاَلَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَنْعُهُ، لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ لَمْ تَحِضْ الِاعْتِدَادُ بِالشُّهُورِ بِحَالٍ. [فَصْل حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ صَارَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ] (6327) فَصْلٌ: وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ صَارَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ، اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُلَفَّقُ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إتْمَامُهَا بِالْحَيْضِ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُهَا بِالْأَشْهُرِ. وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ مِنْ الزَّوْجِ، سَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنْ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ. وَلَوْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ انْقَضَتْ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا مَعَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، وَالْحَامِلُ لَا تَحِيضُ. وَلَوْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ، بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ فَرَغَتْ مِنْ عِدَّتِهَا، لَمْ تَلْحَقْ بِالزَّوْجِ، وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ الِاعْتِدَادِ، وَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ حَادِثًا. وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِدُونِ ذَلِكَ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِحَيْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 [فَصْل ارْتَابَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِأَنَّ تَرَى أَمَارَاتِ الْحَمْلِ] (6328) فَصْلٌ وَإِذَا ارْتَابَتْ الْمُعْتَدَّةُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ تَرَى أَمَارَاتِ الْحَمْلِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنَّمَا تَبْقَى فِي حُكْمِ الِاعْتِدَادِ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، فَإِنْ بَانَ حَمْلًا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، فَإِنْ زَالَتْ وَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ، تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ بِالْقُرُوءِ أَوْ الشُّهُورِ. فَإِنْ زُوِّجَتْ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ الْحَمْلِ، أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. الثَّانِي: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا وَالتَّزَوُّجِ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا، وَالْحَمْلُ مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، لَكِنَّ، لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّنَا شَكَكْنَا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ وَضَعَتْ الْوَلَدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَوَطِئَهَا، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ. الْحَالُ الثَّالِثُ، ظَهَرَتْ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَتَزَوَّجُ مَعَ الشَّكِّ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وُجِدَتْ الرِّيبَةُ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ صَحَّحْنَا النِّكَاحَ، لَوَقَعَ مَوْقُوفًا، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا، وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَخَلَّفَتْ امْرَأَتُهُ فِي الشِّرْكِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إسْلَامِ الْأُولَى. وَالثَّانِي، يَحِلُّ لَهَا النِّكَاحُ وَيَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَحِلِّ النِّكَاحِ، وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، فَلَا يَجُوزُ زَوَالُ مَا حُكِمَ بِهِ بِالشَّكِّ الطَّارِئِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ الْحَاكِمُ مَا حَكَمَ بِهِ بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَرُجُوعِ الشُّهُودِ. [فَصْل طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا] فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دُونَ غَيْرِهَا، وَتُحْسَبُ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ طَلَّقَ، لَا مِنْ حِينِ الْقُرْعَةِ. وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَأُنْسِيَهَا، فَفِي قَوْلِ أَصْحَابنَا، الْحُكْمُ فِيهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 كَذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَمِيعُ، فَإِنْ مَاتَ فَعَلَى الْجَمِيعِ الِاعْتِدَادُ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ، وَأَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، فَوَجَبَ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، لَكِنَّ ابْتِدَاءَ الْقُرْءِ مِنْ حِينِ طَلَّقَ، وَابْتِدَاءُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ ثَلَاثًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ تَكْمِيلُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ طَلَّقَهُنَّ. وَإِنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَأُنْسِيَهُنَّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً. [مَسْأَلَة مَاتَ عَنْهَا وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ] (6330) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لِتَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَلِتَمَامِ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، إنْ كَانَتْ أَمَةً) أَجْمَعْ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، مَدْخُولًا بِهَا، أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ كَبِيرَةً بَالِغَةً أَوْ صَغِيرَةً لَمْ تَبْلُغْ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَا حَمَلْتُمْ الْآيَةَ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا، كَمَا قُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . قُلْنَا: إنَّمَا خَصَّصْنَا هَذِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَلَمْ يَرِدْ تَخْصِيصُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَا أَمْكَنَ قِيَاسُهَا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ فِي التَّخْصِيصِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ عُمْرٍ، فَإِذَا مَاتَ انْتَهَى، وَالشَّيْءُ إذَا انْتَهَى تَقَرَّرَتْ أَحْكَامُهُ، كَتَقَرُّرِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ بِدُخُولِ اللَّيْلِ، وَأَحْكَامِ الْإِجَارَةِ بِانْقِضَائِهَا، وَالْعِدَّةُ مِنْ أَحْكَامِهِ. الثَّانِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ الزَّوْجُ تَكْذِيبَهَا وَنَفْيَهُ بِاللِّعَانِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ، فَيَلْحَقَ الْمَيِّتَ نَسَبُهُ، وَمَا لَهُ مَنْ يَنْفِيهِ، فَاحْتَطْنَا بِإِيجَابِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِحِفْظِهَا عَنْ التَّصَرُّفِ وَالْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مَنْزِلهَا، حِفْظًا لَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَجَبَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا حَيْضَةٌ، وَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 اُعْتُبِرَ الْحَيْضُ فِي حَقِّهَا، لَاعْتُبِرَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، كَالْمُطَلَّقَةِ. وَهَذَا الْخِلَافُ يَخْتَصُّ بِذَاتِ الْقُرْءِ، فَأَمَّا الْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ، فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ، إلَّا ابْنَ سِيرِينَ فَإِنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى عِدَّةَ الْأَمَةِ إلَّا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ مَضَتْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ، فَإِنَّ السُّنَّةَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَأَخَذَ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَعُمُومِهِ. وَلَنَا، اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، فَكَذَلِكَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ. [فَصْلٌ الْعَشْرُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْعِدَّةِ] (6331) فَصْلٌ: وَالْعَشْرُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْعِدَّةِ هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا، فَتَجِبُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ مَعَ اللَّيَالِي. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَجِبُ عَشْرُ لَيَالٍ وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ،، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْأَيَّامُ اللَّاتِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيَالِي تَبَعًا. قُلْنَا: الْعَرَبُ تُغَلِّبُ اسْمَ التَّأْنِيثِ فِي الْعَدَدِ خَاصَّةً عَلَى الْمُذَكَّرِ، فَتُطْلِقُ لَفْظَ اللَّيَالِي وَتُرِيدُ اللَّيَالِيَ بِأَيَّامِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . يُرِيدُ بِأَيَّامِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . يُرِيدُ بِلَيَالِيِهَا. وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَزِمَهُ، اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ. وَيَقُولُ الْقَائِلُ: سِرْنَا عَشْرًا، يُرِيدُ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا. فَلَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنْ الْعِدَّةِ إلَى الْإِبَاحَة بِالشَّكِّ. [فَصْل مَاتَ زَوْجَ الرَّجْعِيَّة] (6332) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ، كَغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ. وَإِنْ مَاتَ مُطَلِّقُ الْبَائِنِ فِي عِدَّتِهَا، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ، إلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَلَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ، لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْ النِّكَاحِ، فَلَا تَكُونُ مَنْكُوحَةً. وَلَنَا أَنَّهَا وَارِثَةٌ لَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، كَالرَّجْعِيَّةِ، وَتَلْزَمُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي دَلِيلِهِمْ، وَإِنْ مَاتَ الْمَرِيضُ الْمُطَلِّقُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْحَيْضِ، أَوْ بِالشُّهُورِ، أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، أَوْ كَانَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 الدُّخُولِ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لِمَوْتِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ إذَا قُلْنَا: يَرِثْنَهُ. لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ. وَرَوَاهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الَّتِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيهَا رِوَايَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَقَالَ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَقَالَ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذِهِ النُّصُوصِ بِالتَّحَكُّمِ، وَلِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ تَحِلّ لِلْأَزْوَاجِ، وَيَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَتُخَالِفُ الَّتِي مَاتَ فِي عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَرِثُهُ، فَإِنَّهَا لَوْ وَرِثَتْهُ لَأَفْضَى إلَى أَنْ يَرِثَ الرَّجُلَ ثَمَانِيَ زَوْجَاتٍ. فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَتْ إحْدَى هَؤُلَاءِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَلَا تَرِثُهُ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنُ لَا تَرِثُ، كَالْأَمَةِ أَوْ الْحَرَّةِ يُطَلِّقُهَا الْعَبْدُ، أَوْ الذِّمِّيَّةُ يُطَلِّقُهَا الْمُسْلِمُ، وَالْمُخْتَلِعَةُ أَوْ فَاعِلَةُ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا، لَمْ تَلْزَمْهَا عِدَّةٌ، سَوَاءٌ مَاتَ زَوْجُهَا فِي عِدَّتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، فَهُمْ عَلَّلُوا نَقْلَهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِإِرْثِهَا وَهَذِهِ لَيْسَتْ وَارِثَةً، فَأَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ فِي الصِّحَّةِ، وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فِي الصِّحَّة إذَا كَانَتْ بَائِنًا، فَمَاتَ زَوْجُهَا، فَإِنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهَا أَطْوَلُ الْأَجَلَيْنِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَلِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فِي نِكَاحِهِ، وَمِيرَاثِهِ، وَالْحِلِّ لَهُ وَوُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ، وَتَحِلُّ لَهُ أُخْتُهَا وَأَرْبَعٌ سِوَاهَا، فَلَمْ تَعْتَدَّ لِوَفَاتِهِ كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي الْمُطَلَّقَةِ فِي الْمَرَضِ، أَنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، تَعْتَدُّ أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ تَنْقَضِي بِهِ كُلُّ عِدَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِغَيْرِ الْحَمْلِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ] (6333) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَوْ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 مُفَارِقَةٍ فِي الْحَيَاةِ. وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، أَجَلُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا، إلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهٍ مُنْقَطِعٍ، أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ. وَقَالَهُ أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ لَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ سُبَيْعَةَ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ أَنْ تَنْكِحَ فِي دَمِهَا. وَيُحْكَى عَنْ حَمَّادٍ وَإِسْحَاقَ أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى تَطْهُرَ. وَأَبَى سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: لَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجهَا، حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَلَكِنْ، لَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا وَتَغْتَسِلَ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوْ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا؟ قَالَ هِيَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَلِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَوْ لَاعَنْتُهُ: إنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الْأَخِيرَةُ، فَتُقَدَّمُ عَلَى مَا خَالَفَهَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيُخَصُّ بِهَا عُمُومُهَا. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ، «أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً، لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ؟ إنَّك وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي، بِأَنِّي قَدْ حَلَلْت حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، فَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَدْ جَاءَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى، كُلُّهَا ثَابِتَةٌ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 مُنْقَطِعٍ. وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ حَامِلٌ، فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ، وَوَضْعُهُ أَدَلُّ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ بِبَقَاءِ الْحَمْلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْحَمْلُ وَاحِدًا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ] (6334) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ وَاحِدًا، انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ، وَانْفِصَالِ جَمِيعِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُهُ، فَهِيَ فِي عِدَّتِهَا حَتَّى يَنْفَصِلَ بَاقِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَاضِعَةً لِحَمْلِهَا مَا لَمْ يَخْرُجَ كُلُّهُ. وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا إلَّا بِوَضْعِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْجَمِيعُ. هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَبَا قِلَابَةَ وَعِكْرِمَةَ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَلَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ الْآخَرَ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. قِيلَ لَهُ: فَتَتَزَوَّجُ؟ قَالَ لَا. قَالَ قَتَادَةُ خُصِمَ الْعَبْدُ. . وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَقَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى فَإِنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحَمْلِ، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ الْحَمْلِ، فَقَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلْعِدَّةِ، وَانْتَفَتْ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لِانْقِضَائِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، لَأُبِيحَ لَهَا النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ وَضَعَتْ الْآخَرَ. فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا، وَشَكَّتْ فِي وُجُودِ ثَانٍ، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، وَتَتَيَقَّنَ أَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَمْلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. [مَسْأَلَة الْحَمْلُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ] (6335) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَالْحَمْلُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَلْقَتْ بَعْدَ فُرْقَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، لَمْ يَخْلُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ تَضَعَ مَا بَانَ فِيهِ خَلْقُ الْآدَمِيِّ، مِنْ الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَهَذَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَنْقَضِي بِالسَّقْطِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ وَلَدٌ، وَمِمَّنْ نَحْفَظُ عَنْهُ ذَلِكَ: الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا نُكِّسَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ؟ يَعْنِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. فَقَالَ: إذَا نُكِّسَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ هَذَا أَدَلُّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا بَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْآدَمِيِّ، عُلِمَ أَنَّهُ حَمْلٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . الْحَالُ الثَّانِي، أَلْقَتْ نُطْفَةً أَوْ دَمًا، لَا تَدْرِي هَلْ هُوَ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْآدَمِيُّ أَوْ لَا؟ فَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَلَدٌ، لَا بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا بِالْبَيِّنَةِ. الْحَالُ الثَّالِثُ أَلْقَتْ مُضْغَةً لَمْ تَبِنْ فِيهَا الْخِلْقَةُ، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ الْقَوَابِلِ، أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً، بَانَ بِهَا أَنَّهَا خِلْقَةُ آدَمِيٍّ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ وَلَدٌ. الْحَالُ الرَّابِعُ، إذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً لَا صُورَةَ فِيهَا، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ الْقَوَابِلِ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي بِهِ، وَلَكِنْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي كَوْنِهِ وَلَدًا، فَلَمْ يُحْكَمْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الْمُتَيَقَّنَةِ بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْأَمَةِ الْوَالِدَةِ لَهُ مَعَ الشَّكِّ فِي رِقِّهَا، فَيَثْبُتُ كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ احْتِيَاطًا، وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِدَّةَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابنَا: عَلَى هَذَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ خِلْقَةُ آدَمِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَوَّرَ. . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرِوَايَةٍ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا. الْحَالُ الْخَامِسُ، أَنْ تَضَعَ مُضْغَةً لَا صُورَةَ فِيهَا، وَلَمْ تَشْهَدْ الْقَوَابِلُ بِأَنَّهَا مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَهَذَا لَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةٌ، وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ وَلَدًا بِبَيِّنَةٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ، فَأَشْبَهَ الْعَلَقَةَ، فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِ مَا قَبْلَ الْمُضْغَةِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً، وَسَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ أَوْ لَمْ يُقَلْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: أَمَّا إذَا كَانَ عَلَقَةً، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إنَّمَا هِيَ دَمٌ، لَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةٌ، وَلَا تَعْتِقُ بِهِ أَمَةٌ. وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي هَذَا، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا عُلِمَ أَنَّهَا حَمْلٌ، انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَفِيهِ الْغُرَّةُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ الْحَمْلِ، أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ ثَمَانِينَ يَوْمًا مُنْذُ أَمْكَنَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ لَيُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَيَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثَمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ". وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِمَا دُونِ الْمُضْغَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ، فَأَمَّا مَا بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ مُنَكَّسٌ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 [فَصْلٌ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ] (6336) فَصْلٌ: وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنَّهُ رُفِعَ إلَى عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَمَّ عُمُرُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَحَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، لَا رَجْمَ عَلَيْهَا. فَخَلَّى عُمَرُ سَبِيلَهَا، وَوَلَدَتْ مَرَّةً أُخْرَى لِذَلِكَ الْحَدِّ وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ ذَلِكَ. قَالَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ: فَقُلْت لِعِكْرِمَةَ إنَّا بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَالَ هَذَا. فَقَالَ عِكْرِمَةُ لَا، مَا قَالَ هَذَا إلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، فِي " الْمَعَارِفِ " أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وُلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَغَيْرِهِمْ. [مَسْأَلَة أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ] (6337) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَلَمْ تَنْكِحْ حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ طَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِهِ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَقْصَى مُدَّتِهِ سَنَتَانِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رَوَتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ عَلَى السَّنَتَيْنِ فِي الْحَمْلِ، وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُعْلَمُ بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ، وَلَا تَوْقِيفَ هَاهُنَا وَلَا اتِّفَاقَ، إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، وَهَرِمَ بْنَ حَيَّانَ حَمَلَتْ أُمُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ سَنَتَيْنِ، وَقَالَ اللَّيْثُ أَقْصَاهُ ثَلَاثُ سِنِينَ. حَمَلَتْ مَوْلَاةٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ: خَمْسُ سِنِينَ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَدْ تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ سِتَّ سِنِينَ وَسَبْعَ سِنِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ لِأَقْصَاهُ وَقْتٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ، يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ الْحَمْلُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ، فَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: حَدِيثُ جَمِيلَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ عَلَى السَّنَتَيْنِ فِي الْحَمْلِ. قَالَ مَالِكٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَنْ يَقُولُ هَذَا؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ تَحْمِلُ أَرْبَعَ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَقِيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ نِسَاءُ بَنِي عَجْلَانَ يَحْمِلْنَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَامْرَأَةُ عَجْلَانَ حَمَلَتْ ثَلَاثَ بُطُونٍ، كُلَّ دَفْعَةٍ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَبَقِيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَهَكَذَا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَجِيحٍ الْعُقَيْلِيُّ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ وَإِذَا تَقَرَّرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وُجُودُهُ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ، وَلَا يُزَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا وُجِدَ، وَلِأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ لِامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ غَايَةُ الْحَمْلِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَ، مِنْ يَوْمِ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقِهِ، وَلَمْ تَكُنْ تَزَوَّجَتْ، وَلَا وُطِئَتْ، وَلَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْقُرُوءِ، وَلَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِالزَّوْجِ، وَعِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةٌ بِهِ. [فَصْلٌ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ مَاتَ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقِ أَوْ فَسْخٍ] (6338) فَصْلٌ: وَإِنْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ مَاتَ، أَوْ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً لَمْ يَلْحَقْهُ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ، وَالْبَيْنُونَةِ مِنْهُ، وَكَوْنِهَا قَدْ صَارَتْ مِنْهُ أَجْنَبِيَّةً، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ نَكَحَهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَلْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ وَلَدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بَعْدَ نِكَاحِهِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، كَالْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الَّذِي أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ يَقِينًا. ثُمَّ نَاقَضُوا قَوْلَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي، وَلِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ بَانَتْ مِنْ الْأَوَّلِ، فَالْوَلَدُ مُنْتَفٍ عَنْهُمَا، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ مِنْهُ، لَمْ يَكْفِ فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، فَلَأَنْ لَا يَكْفِيَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا سَلَّمُوهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا بِشُبْهَةٍ، أَوْ بِنِكَاحٍ غَيْرِ هَذَا النِّكَاحِ الَّذِي أَتَتْ بِالْوَلَدِ فِيهِ، فَاسْتَوَيَا. وَأَمَّا الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ فَإِنَّا نَفَيْنَا الْوَلَدَ عَنْ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَنَفَيْنَا حُكْمَهُ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، حَتَّى أَوْجَبْنَا الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا وَقَاذِفِ وَلَدِهَا، وَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا دُونَهُ، فَثَبَتَتْ. [فَصْل أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ بَعْدِ انْقِضَائِهَا] (6339) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ بَعْدِ انْقِضَائِهَا، لَمْ يَلْحَقْ نَسَبُهُ بِالزَّوْجِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَلْحَقُ بِهِ، مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَوْ يَبْلُغْ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ قَوْلَهُ: إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ طَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ لَحِقَهُ الْوَلَدُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَلَدٌ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَلَا مَنْ يُسَاوِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وَلَنَا أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَضَاءِ عِدَّتِهَا، وَحِلِّ النِّكَاحِ لَهَا بِمُدَّةِ الْحَمْلِ، فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ حَمَلِهَا لِمُدَّةِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِمْكَانُ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ أَوْ آثَارِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ. وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَدَّعِي الْإِيَاسَ، تَبَيَّنَّا كَذِبَهَا، فَإِنَّ مَنْ تَحْمِلُ لَيْسَتْ بِآيِسَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا، لَحِقَهُ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا مَا يُنَافِي كَوْنَهَا حَامِلًا. [فَصْلٌ مَاتَ الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدِ] (6340) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ مَاتَ وَبِهَا حَمْلٌ ظَاهِرٌ، اعْتَدَّتْ عَنْهُ بِالْوَضْعِ، وَإِنْ ظَهَرَ الْحَمْلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّبِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ، وَدَخَلَ بِهَا، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تَعْتَدُّ بِهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَلَنَا أَنَّ هَذَا حَمْلٌ مَنْفِيٌّ عَنْهُ يَقِينًا، فَلَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ، ثُمَّ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي عَلِقَتْ بِهِ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ مُلْحَقًا بِغَيْرِ الصَّغِيرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، أَوْ كَانَ مِنْ زِنًا لَا يَلْحَقُ بِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ مِنْ كُلِّ وَطْءٍ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ اعْتَدَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ. وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، كَزَوْجَةِ كَبِيرٍ دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَعْدَ وَضْعِهِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ الْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ امْرَأَتَهُ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الْوَطْءِ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهَرَ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ، بِأَنْ يَحُكَّ مَوْضِعَ ذَكَرِهِ بِفَرْجِهَا فَيُنْزِلَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَلْحَقُ بِهِ؛ الْوَلَدُ، وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ سِنِينَ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ تَزَوَّجَ الْمَشْرِقِيُّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَا يُمْكِنُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا بِمُدَّةِ الْحَمْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزَوَّجَتْ مَنْ أَصَابَهَا] (6341) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزَوَّجَتْ مَنْ أَصَابَهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّةَ مِنْ الثَّانِي) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ فِي عِدَّتِهَا، إجْمَاعًا، أَيَّ عِدَّةٍ كَانَتْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] . وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَامْتِزَاجِ الْأَنْسَابِ. وَإِنْ تَزَوَّجَتْ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ النِّكَاحِ لِحَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَالْعِدَّةُ بِحَالِهَا، وَلَا تَنْقَطِعُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ، وَتَسْقُطُ سُكْنَاهَا وَنَفَقَتُهَا عَنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ، وَإِنْ وَطِئَهَا، انْقَطَعَتْ الْعِدَّةُ سَوَاءٌ عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَوْ جَهِلَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا فِرَاشًا لِغَيْرِ مَنْ لَهُ الْعِدَّةُ لَا يَمْنَعُهَا، كَمَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ زَوْجَةٌ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا لِلزَّوْجِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ وَطِئَهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، وَأَنَّهَا تَحْرُمُ، فَهُوَ زَانٍ، فَلَا تَنْقَطِعُ الْعِدَّةُ بِوَطْئِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، أَوْ بِالتَّحْرِيمِ، انْقَطَعَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا، وَالْعِدَّةُ تُرَادُ لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَكَوْنُهَا فِرَاشًا يُنَافِي ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْطَعَهَا، فَأَمَّا طَرَيَانُهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا وَطْءٌ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ، فَتَنْقَطِعُ بِهِ الْعِدَّةُ، كَمَا لَوْ جَهِلَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا لَا تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا. قُلْنَا: لَكِنَّهُ لَا يَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ وَطْئِهِ بِالزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَهُمَا شَيْئَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَعَلَيْهِ فِرَاقُهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَارَقَهَا أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، وَعِدَّتُهُ وَجَبَتْ عَنْ وَطْءٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ الثَّانِي، وَلَا تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ رَجُلَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتَدَاخَلَانِ، فَتَأْتِي بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الثَّانِي، تَكُونُ عَنْ بَقِيَّةِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَعِدَّةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهَذَا تَحْصُلُ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَلَنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ طُلَيْحَةَ كَانَتْ تَحْتَ رَشِيدٍ الثَّقَفِيِّ، فَطَلَّقَهَا، وَنَكَحَهَا غَيْرُهُ فِي عِدَّتِهَا، فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا ضَرْبَاتٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 بِمِخْفَقَةٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَكَانَ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا. وَرَوَى، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى فِي الَّتِي تَزَوَّجُ فِي عِدَّتِهَا، أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَتُكْمِلُ مَا أَفْسَدَتْ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَتَعْتَدُّ مِنْ الْآخَرِ وَهَذَانِ قَوْلَا سَيِّدَيْنِ مِنْ الْخُلَفَاءِ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُودَانِ لِآدَمِيَّيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا، كَالدَّيْنَيْنِ وَالْيَمِينَيْنِ، وَلِأَنَّهُ حَبْسٌ يَسْتَحِقُّهُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ فِي حَبْسِ رَجُلَيْنِ كَحَبْسِ الزَّوْجَةِ. [مَسْأَلَة لِلزَّوْجِ الثَّانِي أَنَّ يَتَزَوَّجهَا بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ] (6342) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ يَعْنِي لِلزَّوْجِ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجهَا بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ. فَأَمَّا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ ثَلَاثًا، لَمْ تَحِلّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاحِ وَإِنْ وَطِئَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ دُونَ الثَّلَاثِ، فَلَهُ نِكَاحُهَا أَيْضًا بَعْدَ الْعِدَّتَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، فَلَهُ رَجْعَتُهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي عَلَى التَّأْبِيدِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِ عُمَرَ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا. وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ الْحَقَّ قَبْلَ وَقْتِهِ فَحُرِمَهُ فِي وَقْتِهِ، كَالْوَارِثِ إذَا قَتَلَ مَوْرُوثَهُ، وَلِأَنَّهُ يُفْسِدُ النَّسَبَ فَيُوقِعُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ، كَاللِّعَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا شُرِعَتْ حِفْظًا لِلنَّسَبِ، وَصِيَانَةً لِلْمَاءِ، وَالنَّسَبُ، لَاحِقٌ بِهِ هَاهُنَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ نَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا، وَهَذَا حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِلنَّظَرِ. وَلَنَا عَلَى إبَاحَتِهَا بَعْدَ الْعِدَّتَيْنِ، أَنَّهُ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْ بِهِمَا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَكَحَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَوَطِئَهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِهَا، لَمْ تُحَرِّمْ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ آيَاتِ الْإِبَاحَةِ عَامَّةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلُهُ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] . فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِهَا، فَقَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي التَّحْرِيمِ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ، فَإِنَّ عَلِيًّا قَالَ: إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ. فَقَالَ عُمَرُ رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ. وَرَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِمَا إذَا زَنَى بِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَعْجَلَ وَطْأَهَا، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَوَجْهُ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ قَضَاءِ عِدَّةِ الثَّانِي عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَفْسُدُ بِهِ النَّسَبُ، فَلَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ مِنْهُ، كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ. [فَصْلٌ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّة مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ] (6343) فَصْلٌ: وَكُلُّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ كَالزَّانِيَةِ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ تَحْرِيمُ نِكَاحِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ. وَالْأَوْلَى حِلُّ نِكَاحِهَا لِمَنْ هِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ، إنْ كَانَ يَلْحَقُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِحِفْظِ مَائِهِ، وَصِيَانَةِ نَسَبِهِ، وَلَا يُصَانُ مَاؤُهُ الْمُحَرَّمُ عَنْ مَائِهِ الْمُحْتَرَمِ، وَلَا يُحْفَظُ نَسَبَهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لِلْمُخْتَلِعَةِ نِكَاحُ مَنْ خَالِعهَا، وَمَنْ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا كَالزَّانِيَةِ، لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا يُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ النَّسَبِ، فَالْوَاطِئُ كَغَيْرِهِ، فِي أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. [مَسْأَلَة الْقَافَة بالتحاق الْوَلَد بِوَالِدِيهِ] (6344) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، أُرِيَ الْقَافَةَ وَأُلْحِقَ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ مِنْهُمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلْآخَرِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِ حَمْلِهَا؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، وَأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِهِ مِنْهُ بِوَضْعِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عَنْ الثَّانِي. وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا زَادَ إلَى أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، وَلِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ بَانَتْ مِنْ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُلْصَقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ الثَّانِي، ثُمَّ تُتِمُّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ. وَتَقَدُّمُ عِدَّةِ الثَّانِي هَاهُنَا عَلَى عِدَّةُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ مِنْ إنْسَانٍ وَالْعِدَّةُ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ بَيْنُونَتِهَا مِنْ الْأَوَّلِ، أُرِيَ الْقَافَةَ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْأَوَّلِ، لَحِقَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ دُونِ الثَّانِي، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالثَّانِي، لَحِقَ بِهِ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْ الثَّانِي دُونِ الْأَوَّلِ فَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ عَلَى الْقَافَةِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ قَافَةٌ لَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ وَضْعِهِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتَتْ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي، فَعَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، لِيَسْقُطَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 الْفَرْضُ بِيَقِينٍ. فَأَمَّا الْوَلَدُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَضِيعُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى نِسْبَتِهِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مَجْنُونًا، لَمْ يَنْتَسِبْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَنْتَسِبَ إلَى أَحَدِهِمَا، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، لَحِقَ بِهِمَا. وَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِهِ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْهُمَا، كَمَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِهِ مِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا. وَإِنْ نَفَتْهُ الْقَافَةُ عَنْهُمَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ، وَتَعْتَدُّ بَعْدَ وَضْعِهِ بِثَلَاثِ قُرُوءٍ، وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُمَا بِقَوْلِ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَافَةِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ صَاحِبَيْ الْفِرَاشِ، لَا فِي النَّفْيِ عَنْ الْفِرَاشِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ وَاحِدًا فَنَفَتْهُ الْقَافَةُ عَنْهُ، لَمْ يَنْتِفَ عَنْهُ بِقَوْلِهَا. فَأَمَّا إنْ وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، وَلِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ آخَرَ، فَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ، ثُمَّ تُتِمُّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي عِدَّةً ثَالِثَةً، وَهُوَ الْوَطْءُ الَّذِي حَمَلَتْ مِنْهُ، فَتَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ، وَإِتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً وَهُمَا عَالَمَانِ بِالْعِدَّةِ] (6345) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً، وَهُمَا عَالِمَانِ بِالْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِيهَا، وَوَطِئَهَا، فَهُمَا زَانِيَانِ، عَلَيْهِمَا حَدُّ الزِّنَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ. وَإِنْ كَانَا جَاهِلِينَ بِالْعِدَّةِ، أَوْ بِالتَّحْرِيمِ، ثَبَتَ النَّسَبُ، وَانْتَفَى الْحَدُّ، وَوَجَبَ الْمَهْرُ. وَإِنْ عَلِمَ هُوَ دُونَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ، وَلَا نَسَبَ لَهُ. وَإِنْ عَلِمَتْ هِيَ دُونَهُ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَالنَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا نِكَاحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. [فَصْل خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ أَوْ فَسَخَ نِكَاحَهُ] (6346) فَصْلٌ: وَإِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، أَوْ فَسَخَ نِكَاحَهُ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا. فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَشَذَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَلَا خِطْبَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ. وَلَنَا، أَنَّ الْعِدَّةَ لِحِفْظِ نَسَبِهِ، وَصِيَانَةِ مَائِهِ، وَلَا يُصَانُ مَاؤُهُ عَنْ مَائِهِ إذَا كَانَا مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا، انْقَطَعْت الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ بِعَقْدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ مُعْتَدَّةً. فَإِنْ وَطِئَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، لَزِمَتْهَا عِدَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا مِنْ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا قَدْ انْقَطَعَتْ وَارْتَفَعَتْ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَهَلْ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ، أَوْ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى؟ قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 تَسْتَأْنِفُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَخْلُو مِنْ عِدَّةٍ، فَأَوْجَبَ عِدَّةً مُسْتَأْنَفَةً، كَالْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَلَمْ يُوجِبْ عِدَّةً، لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ " أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، لَكِنْ يَلْزَمُهَا إتْمَامُ بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ إسْقَاطَهَا يُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، لِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَيَطَؤُهَا وَيَخْلَعُهَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا وَيُطَلِّقُهَا فِي الْحَالِ، وَيَتَزَوَّجُهَا الثَّانِي، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ خَلَعَهَا حَامِلًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا حَامِلًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا قَبْلَ وَضْعِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ الثَّانِي، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِلطَّلَاقِ مِنْ النِّكَاحِ الثَّانِي، بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَكَحَهَا بِعَدِّ قَضَاءِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي، وَقَبْلَ طَلَاقِهِ، فَمَنْ قَالَ: يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةٍ. أَوْجَبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادَ بَعْدَ طَلَاقِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةٍ. لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا هَاهُنَا عِدَّةً؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْتَدَّ الْحَامِلُ بِغَيْرِ وَضْعِهِ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَات الْقُرُوءِ أَوْ الشُّهُورِ، فَنَكَحَهَا الثَّانِي بَعْدَ مُضِيِّ قُرْءٍ أَوْ شَهْرٍ، ثُمَّ مَضَى قُرْءَانِ أَوْ شَهْرَانِ قَبْلَ طَلَاقِهِ مِنْ النِّكَاحِ الثَّانِي، فَقَدْ انْقَطَعْت الْعِدَّةُ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا: تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ. فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ تَامَّةٌ، بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَإِنْ قُلْنَا: تَبْنِي. أَتَمَّتْ الْعِدَّةَ الْأُولَى بِقُرْأَيْنِ أَوْ شَهْرَيْنِ. [فَصْلٌ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا] (6347) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، انْقَطَعْت الْعِدَّةُ الْأُولَى بِرَجْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ حُكْمُ الطَّلَاقِ، وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةً مِنْ الطَّلَاقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ نِكَاحٍ اتَّصَلَ بِهِ الْمَسِيسُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسّهَا، فَهَلْ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً، أَوْ تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: أُولَاهُمَا: أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ أَزَالَتْ شُعْثَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ. وَرَدَّتْهَا إلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ الطَّلَاقُ الثَّانِي طَلَاقًا مِنْ نِكَاحٍ اتَّصَلَ بِهِ الْمَسِيسُ. وَالثَّانِيَةُ، تَبْنِي؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَزِيدُ عَلَى النِّكَاحِ الْجَدِيدِ، وَلَوْ نَكَحَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ، لَمْ يَلْزَمْهَا لِذَلِكَ الطَّلَاقِ عِدَّةٌ، فَكَذَلِكَ الرَّجْعَةُ. فَإِنْ فَسَخَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِخَلْعِ أَوْ غَيْرِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ فِي الْعِدَّةِ مُوجَبُ الطَّلَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا بِلَفْظِهِ، لَكِنَّهُ وَطِئَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَهَلْ تَحْصُلُ بِذَلِكَ رَجْعَةٌ أَوْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ مَنْ ارْتَجَعَهَا بِلَفْظِهِ ثُمَّ وَطِئَهَا، سَوَاءً. وَالثَّانِيَةُ، لَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِهِ، وَيَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ تَشَعَّثَ، فَهُوَ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ. وَتَدْخُلُ بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ حَمَلَتْ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ، فَهَلْ تَدْخُلُ فِيهَا بَقِيَّةُ الْأُولَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، تَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي، لَا تَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، أَتَمَّتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ. وَإِنْ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَفِي تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ وَجْهَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يَتَدَاخَلَانِ. فَانْقِضَاؤُهُمَا مَعًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَدَاخَلَانِ. فَانْقِضَاءُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الْوَطْءِ بِالْقُرُوءِ. (6348) فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا مَنْ وَطِئَهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً لِلثَّانِي، وَلِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ رَجْعَتُهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْسَاكٌ لِلزَّوْجَةِ، وَطَرَيَانُ الْوَطْءِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ عَلَى النِّكَاحِ، لَا يَمْنَعُ الزَّوْجَ إمْسَاكَ زَوْجَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ ارْتِجَاعُهَا، كَالْمُرْتَدَّةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَمْنَعُ الرَّجْعَةَ، كَالْإِحْرَامِ. وَيُفَارِقُ الرِّدَّةَ؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ إلَى بَيْنُونَةٍ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ. وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي عِدَّةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ. وَإِذَا ارْتَجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَكَانَتْ بِالْقُرُوءِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ، انْقَطَعَتْ عِدَّتُهُ بِالرَّجْعَةِ، وَابْتَدَأَتْ عِدَّةً مِنْ الثَّانِي، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي، كَمَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فِي صُلْبِ نِكَاحِهِ. وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً بِالْحَمْلِ، لَمْ يُمْكِنْ شُرُوعُهَا فِي عِدَّةِ الثَّانِي قَبْلَ وَضَعَ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقُرُوءِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، شَرَعَتْ فِي عِدَّةِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مُلْحَقًا بِالثَّانِي، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ عَنْ الثَّانِي وَتُقَدِّمُ عِدَّةَ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَكْمَلَتْهَا، شَرَعَتْ فِي إتْمَامِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَلَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَرْتَجِعَهَا؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهْت الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ الْمُرْتَدَّةَ. وَالثَّانِي، لَهُ رَجْعَتُهَا؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا مِنْهُ لَمْ تَنْقَضِ، وَتَحْرِيمُهَا لَا يَمْنَعُ رَجْعَتَهَا، كَالْمُحَرَّمَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 [فَصْل تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ فَمَاتَ وَلَدُهَا] (6349) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَمَاتَ وَلَدُهَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: يَعْتَزِلُ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنِ ابْنِهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَنْظُرَ بِهَا حَمْلٌ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا حِينَ مَوْتِهِ، وَرِثَهُ حَمْلُهَا، وَإِنْ حَدَثَ الْحَمْلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَمْ يَرِثْهُ. فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ أَبٌ أَوْ جَدٌّ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَائِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا، لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَائِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً، لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَائِهَا؛ لِلْيَأْسِ مِنْ حَمْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُمْكِنُ حَمْلُهَا، وَلَمْ يَبِنْ بِهَا حَمْلٌ، وَلَمْ يَعْتَزِلْهَا زَوْجُهَا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَرِثَ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرِ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا بَعْدَ مَوْتِ وَلَدِهَا، لَمْ يَرِثْ، لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ وُجُودَهُ حَالَ مَوْتِهِ. هَذَا يُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ أَحْكَامِ عدة زَوْجَة الْمَفْقُودِ] (6350) فَصْلٌ: فِي أَحْكَامِ الْمَفْقُودِ. إذَا غَابَ الرَّجُلُ عَنْ امْرَأَتِهِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ غَيْبَةً غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ، يُعْرَفُ خَبَرُهُ، وَيَأْتِي كِتَابُهُ، فَهَذَا لَيْسَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَجْمَعِينَ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، فَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ، فَيُفْسَخَ نِكَاحُهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْأَسِيرِ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَعْلَمَ يَقِينَ وَفَاتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَإِنْ أَبَقَ الْعَبْدُ، فَزَوْجَتُهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، حَتَّى تَعْلَمَ مَوْتَهُ أَوْ رِدَّتَهُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْحَسَنُ: إبَاقُهُ طَلَاقُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَفْقُودٍ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ، كَالْحُرِّ، وَمَنْ تَعَذُّرَ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ، فَحُكْمُهَا فِي الْفَسْخِ حُكْمُ مَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ عَلَى سَيِّدِهِ، أَوْ فِي كَسْبِهِ، فَيُعْتَبَرُ تَعَذُّرُ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يُفْقَدَ، وَيَنْقَطِعَ خَبَرُهُ، وَلَا يُعْلَمَ لَهُ مَوْضِعٌ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلَامَةَ، كَسَفَرِ التِّجَارَةِ فِي غَيْرِ مَهْلَكَةٍ، وَإِبَاقِ الْعَبْدِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالسِّيَاحَةِ، فَلَا تَزُولُ الزَّوْجِيَّةُ أَيْضًا، مَا لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَتَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ الْوَطْءِ بِالْعُنَّةِ، وَتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ بِالْإِعْسَارِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ هَاهُنَا لِتَعَذُّرِ الْجَمِيعِ أَوْلَى، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ فِي الْمَفْقُودِ، مَعَ مُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ، وَتَرْكِهِمْ إنْكَارَهُ. وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ، عَنْ أَحْمَدَ: إذَا مَضَى عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً، قُسِّمَ مَالُهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا اعْتَبَرَ تِسْعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعُمْرِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فَقْدُهُ بِغِيبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ غَيْبَةٌ ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ، كَمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِ سِنِينَ، أَوْ كَمَا قَبْلَ التِّسْعِينَ، وَلِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهَا بِتِسْعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ، يُفْضِي إلَى اخْتِلَافِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِاخْتِلَافِ عُمْرِ الزَّوْجِ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا، وَخَبَرُ عُمَرَ وَرَدَ فِي مَنْ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ الْهَلَاكُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ غَيْبَتُهُ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ، كَاَلَّذِي يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، أَوْ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَرْجِعُ، أَوْ يَمْضِي إلَى مَكَان قَرِيبٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَيَرْجِعَ، فَلَا يَظْهَرُ لَهُ خَبَرٌ، أَوْ يُفْقَدُ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ يَنْكَسِرُ بِهِمْ مَرْكَبٌ فَيَغْرَقُ بَعْضُ رُفْقَتِهِ، أَوْ يُفْقَدَ فِي مَهْلَكَةٍ، كَبَرِّيَّةِ الْحِجَازِ وَنَحْوِهَا، فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ الظَّاهِرُ عَنْهُ، أَنَّ زَوْجَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ؟ قَالَ: هُوَ أَحْسَنُهَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ وُجُوهٍ. ثُمَّ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ هَذَا. هَؤُلَاءِ الْكَذَّابِينَ. قُلْت: فَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ بِخِلَافِ هَذَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ يَكْذِبُ. وَقُلْت لَهُ مَرَّةً: إنَّ إنْسَانًا قَالَ لِي: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ تَرَكَ قَوْلَهُ فِي الْمَفْقُودِ بَعْدَكَ. فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَرَكَ هَذَا الْقَوْلَ أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَاللَّيْثُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ فِي انْتِظَارِ مَنْ يُفْقَدُ فِي الْقِتَالِ وَقْتٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ: تَتَرَبَّصُ سَنَةً؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ هَلَاكِهِ هَاهُنَا أَكْثَرُ مِنْ غَلَبَةِ غَيْرِهِ، لِوُجُودِ سَبَبِهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَقُولُ: إذَا تَرَبَّصَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 تَزَوَّجَتْ. وَقَدْ ارْتَبْت فِيهَا، وَهِبْت الْجَوَابَ فِيهَا، لَمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، فَكَأَنِّي أُحِبُّ السَّلَامَةَ. وَهَذَا تَوَقُّفٌ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَمَّا قَالَهُ، وَتَتَرَبَّصُ أَبَدًا، وَيَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ، وَيَكُونُ الْمَذْهَبُ مَا قَالَهُ أَوَّلًا. قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعِنْدِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الَّذِي أَقُولُ بِهِ - إنْ صَحَّ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ - أَنْ لَا يُحْكَمَ بِحُكْمٍ ثَانٍ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى الِانْتِقَالِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ أَوَّلًا. نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ الْجَمَاعَةُ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْهُ الرُّجُوعَ، عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ أَوْ فِرَاقُهُ؛ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ، حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ» . . وَرَوَى الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ عَنْ عَلِيٍّ: لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ، حَتَّى يَأْتِيَ مَوْتُهُ أَوْ طَلَاقُهُ. لِأَنَّهُ شَكٌّ فِي زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمْ تَثْبُتْ بِهِ الْفُرْقَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلَامَةَ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْأَثْرَمُ. وَالْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: فُقِدَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى عُمَرَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: انْطَلِقِي، فَتَرَبَّصِي أَرْبَعَ سِنِينَ. فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَ: انْطَلِقِي، فَاعْتَدِّي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَ: أَيْنَ وَلِيُّ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَجَاءَ وَلِيُّهُ، فَقَالَ: طَلِّقْهَا. فَفَعَلَ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: انْطَلِقِي، فَتَزَوَّجِي مَنْ شِئْت. فَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ كُنْت؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَهْوَتْنِي الشَّيَاطِينُ، فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي فِي أَيِّ أَرْضِ اللَّهِ، كُنْت؟ عِنْدَ قَوْمٍ يَسْتَعْبِدُونَنِي، حَتَّى اغْتَزَاهُمْ مِنْهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، فَكُنْت فِي مَا غَنِمُوهُ، فَقَالُوا لِي: أَنْتَ رَجُلٌ مِنْ الْإِنْسِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْجِنِّ، فَمَا لَكَ وَمَا لَهُمْ؟ فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي، فَقَالُوا: بِأَيِّ أَرْضِ اللَّهِ تُحِبُّ أَنْ تُصْبِحَ؟ قُلْت: الْمَدِينَةُ هِيَ أَرْضِي. فَأَصْبَحْتُ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى الْحَرَّةِ. فَخَيَّرَهُ عُمَرُ؛ إنْ شَاءَ امْرَأَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ الصَّدَاقَ، فَاخْتَارَ الصَّدَاقَ، وَقَالَ: قَدْ حَبِلَتْ، لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا. قَالَ أَحْمَدُ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الصَّحَابَةِ لَهُ مُخَالِفٌ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُ، بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عَلِيٍّ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَعْتَدُّ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا، وَتَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا الْمَفْقُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، خُيِّرَ بَيْنَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. وَقَضَى بِهِ عُثْمَانُ أَيْضًا، وَقَضَى بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَوْلَاةٍ لَهُمْ. وَهَذِهِ قَضَايَا انْتَشَرَتْ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَثْبُتْ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. وَمَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ، فَيَرْوِيهِ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ مُرْسَلًا، وَالْمُسْنَدُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا، ثُمَّ يُحْمَلُ مَا رَوَوْهُ عَلَى الْمَفْقُودِ الَّذِي ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلَامَةُ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَاهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ شَكٌّ فِي زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ. مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الشَّكَّ مَا تَسَاوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَالظَّاهِرُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَلَاكُهُ. [فَصْلٌ هَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا الْغَائِبِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ] (6351) فَصْلٌ: وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَعْتَدّ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَعْتَبِرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَحْسَنُهَا. وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ فَإِنَّ وَلِيَّ الرَّجُلِ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَلِأَنَّنَا حَكَمْنَا عَلَيْهَا بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَتْ وَفَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ دَلِيلُ هَلَاكِهِ عَلَى وَجْهٍ أَبَاحَ لَهَا التَّزْوِيجَ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ. [فَصْلٌ مَتَى تُعْتَبَرُ غَيْبَةُ الزَّوْجِ] (6352) فَصْلٌ: وَهَلْ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْغَيْبَةِ أَوْ مِنْ حِينِ ضَرَبَ الْحَاكِمُ الْمُدَّةَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ ضَرَبَهَا الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَافْتَقَرَتْ إلَى ضَرْبِ الْحَاكِمِ كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ. وَالثَّانِيَةُ، مِنْ حِينِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَبَعُدَ أَثَرُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي مَوْتِهِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. [فَصْل قَدِمَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ] (6353) فَصْلٌ: فَإِنْ قَدِمَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إذَا ضُرِبَتْ لَهَا الْمُدَّةُ، فَانْقَضَتْ، بَطَلَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا أَبَحْنَا لَهَا التَّزْوِيجَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ، فَإِذَا بَانَ حَيًّا، انْخَرَمَ ذَلِكَ الظَّاهِرُ، وَكَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَوْتِهِ ثُمَّ بَانَ حَيًّا، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمِلْكَيْنِ، فَأَشْبَهَ مِلْكَ الْمَالِ. فَأَمَّا إنْ قَدِمَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا، فَهِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ، تُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُخَيَّرُ. وَأَخَذَهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِ أَحْمَدَ: إذَا تَزَوَّجْت امْرَأَتُهُ فَجَاءَ، خُيِّرَ بَيْنَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ عُمُومَ كَلَامِ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى خَاصِّهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَأَنَّهُ لَا تَخْيِيرَ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَتَكُونُ زَوْجَةَ الْأَوَّلِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا صَحَّ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَإِذَا قَدِمَ تَبَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ امْرَأَةً ذَاتَ زَوْجٍ، فَكَانَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِمَوْتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَدَاقٌ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ فَاسِدٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ دُخُولٌ، وَتَعُودُ إلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا. خُيِّرَ الْأَوَّلُ بَيْنَ أَخْذِهَا، فَتَكُونُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ أَخْذِ صَدَاقِهَا، وَتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، فَرَوَى مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَا: إنْ جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ، خُيِّرَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَ هُوَ، رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ، وَالْأَثْرَمُ، وَقَضَى بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرُ فِي مَوْلَاةٍ. لَهُمْ وَقَالَ عَلِيٌّ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَمْسَكَهَا الْأَوَّلُ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ كَانَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِهِ، أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ هَذَا نِكَاحٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكَانَ مَأْمُورًا بِالطَّلَاقِ لِيَقْطَعَ حُكْمَ الْعَقْدِ الثَّانِي، كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ اعْتِزَالُهَا حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّتَهَا مِنْ الثَّانِي. وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْهَا الْأَوَّلُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَعَ الثَّانِي، وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهَا عَقْدًا جَدِيدًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهَا عَقْدًا، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ عَقْدِهِ بِمَجِيءِ الْأَوَّلِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ لَا تَصِيرُ زَوْجَةً لِغَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ لَهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْقِيَاسُ أَنَّنَا إنْ حَكَمْنَا بِالْفُرْقَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهِيَ امْرَأَةُ الثَّانِي، وَلَا خِيَارَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِفُرْقَةِ الْحَاكِمِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا لِعُسْرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِفُرْقَتِهِ بَاطِنًا، فَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ. [فَصْلٌ زَوْجَة الْغَائِب إذَا اخْتَارَ الزَّوْج الْأَوَّلُ تَرْكَهَا] (6354) فَصْلٌ: وَمَتَى اخْتَارَ الْأَوَّلُ تَرْكَهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي بِصَدَاقِهَا؛ لِقَضَاءِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِعَقْدِهِ عَلَيْهَا، وَدُخُولِهِ بِهَا. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَد فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالصَّدَاقِ الَّذِي أَصْدَقَهَا هُوَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، لِقَضَاءِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَ هُوَ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ الْمُعَوَّضَ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ، كَشُهُودِ الطَّلَاقِ إذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا الصَّدَاقَ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ بَعْضَهُ، رَجَعَ بِمَا دَفَعَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالصَّدَاقِ، وَتَرْجِعَ الْمَرْأَةُ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقِهَا. وَعَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 أَحْمَدَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبُضْعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَالْبُضْعُ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَوْ مَنْ جَرَى مَجْرَاهُ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِالْمُسَمَّى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ وَهَلْ يَرْجِعُ الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَى الزَّوْجَةِ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ لَزِمَتْ الزَّوْجَ بِسَبَبِ وَطْئِهِ لَهَا، فَرَجَعَ بِهَا، كَالْمَغْرُورِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَرْجِعُ بِهَا. وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَقْضُوا بِالرُّجُوعِ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَوَى، أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَضَيَا فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَدْرِي مَا مَهْلِكُ زَوْجِهَا، أَنْ تَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَزَوَّجُ إنْ بَدَا لَهَا، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا خُيِّرَ؛ إمَّا امْرَأَتَهُ، وَإِمَّا الصَّدَاقَ، فَإِنْ اخْتَارَ الصَّدَاقَ، فَالصَّدَاقُ عَلَى زَوْجِهَا الْآخَرِ، وَتَثْبُتُ عِنْدَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ امْرَأَتَهُ، عُزِلَتْ عَنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ قَدِمَ زَوْجُهَا وَقَدْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا الْآخَرُ، وَرِثَتْ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَتَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ. رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَغْرِيرَ مِنْهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، كَغَيْرِهَا. فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهَا الصَّدَاقَ، رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهَا، دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ بَعْضُهُ، رَجَعَ بِمَا دَفَعَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا. وَكَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهَا الصَّدَاقَ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ إلَيْهَا، لَزِمَهُ دَفْعُهُ وَيَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ صَدَاقًا آخَرَ. [فَصْل اخْتَارَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ الْمُقَامَ وَالصَّبْرَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ] (6355) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَارَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ الْمُقَامَ وَالصَّبْرَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ؛ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَ حَيًّا، وَيُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّهَا مَحْكُومٌ لَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ عَلِمَتْ حَيَاتَهُ. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، وَقِدَمَ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ، أَوْ فَارَقَهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ إلَى يَوْمِ مَوْتِهِ أَوْ بَيْنُونَتِهَا مِنْهُ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْبَاقِي؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا أَنْفَقَتْ مَالَ غَيْرِهِ، أَوْ أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهِ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ لَهُ. وَإِنْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ، فَضَرَبَ لَهَا مُدَّةً، فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِبَيْنُونَتِهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَهِيَ مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْمُدَّةِ. وَأَمَّا مُدَّةُ الْعِدَّةِ، فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَيَقِّنَةٍ، بِخِلَافِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَإِنَّ مَوْتَهُ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ إنْ تَزَوَّجَتْ أَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْهَا بِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ نِكَاحِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجَ وَلَا فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، فَنَفَقَتُهَا بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ بَعْدُ مِنْ نِكَاحِهِ. وَإِنْ قَدِمَ الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرُدَّتْ إلَيْهِ، عَادَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ حِينِ الرَّدِّ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: تَنْتَظِرُ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ أَرْبَعَ سِنِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذًا يُجْحِفَ ذَلِكَ بِالْوَرَثَةِ، وَلَكِنَّهَا تَسْتَدِينُ، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَخَذَتْ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَخَذَتْ مِنْ نَصِيبهَا مِنْ الْمِيرَاثِ. وَقَالَا: يُنْفَقُ عَلَيْهَا بَعْدُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا جَمِيعِهِ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا، مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا بِالتَّزْوِيجِ تَخْرُجُ عَنْ يَدَيْهِ، وَتَصِيرُ نَاشِزًا، وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ، فَلَمْ تَعُدْ إلَى مَسْكَنِ زَوْجِهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى النُّشُوزِ. وَإِنْ عَادَتْ إلَى مَسْكَنِهِ، احْتَمَلَ أَنْ تَعُودَ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ النُّشُوزَ الْمُسْقِطَ لِنَفَقَتِهَا قَدْ زَالَ، وَيُحْتَمَلُ أَلَّا تَعُودَ؛ لِأَنَّهَا مَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ فَتَسَلَّمَهَا، عَادَتْ نَفَقَتُهَا. وَمَتَى أُنْفِقَ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، حُسِبَ عَلَيْهَا مَا أُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ حِينِ مَوْتِهِ مِنْ مِيرَاثِهَا، فَإِنْ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا، فَهُوَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ، فَأَمَّا نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا: لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ، حُكْمُهُ فِي النَّفَقَةِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الصَّحِيحَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ، إلَّا أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاكِمٌ، فَيَحْتَمِلَ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ أَدَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلَ أَلَّا يَرْجِعَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، مَا لَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا. فَإِنْ فَارَقَهَا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَيَنْبَنِي وُجُوبُ النَّفَقَةِ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي النَّفَقَةِ؛ هَلْ هِيَ لِلْحَمْلِ، أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ لِلْحَمْلِ. فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْحَمْلِ لَاحِقٌ بِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى وَلَدِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَهَا مِنْ أَجْلِهِ. فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَأَشْبَهَ حَمْلَ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. وَإِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْ الثَّانِي، لَحِقَهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا تَرَبَّصَتْ بَعْدَ فَقْدِهِ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْ الثَّانِي بِوَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُرْضِعَهُ اللِّبَأَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَقُومُ بَدَنُهُ إلَّا بِهِ، فَإِنْ رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إرْضَاعِهِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا عَنْ حُقُوقِهِ، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا، وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ إرْضَاعِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَالُ ضَرُورَةٍ. فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ وَيَدِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ. [فَصْلٌ مِيرَاث زَوْجَة الْغَائِب] (6356) فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِهَا مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْرِيثِهِمَا مِنْهَا، مَتَى مَاتَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ، أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ تَزَوُّجِهَا بِالثَّانِي، وَرِثَتْهُ وَوَرِثَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِي فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّنَا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى قَدِمَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، رُدَّتْ إلَيْهِ بِغَيْرِ تَخْيِيرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاضِيَ ذَكَرَ أَنَّ فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِيهَا. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي. فَأَمَّا إنْ دَخَلَ الثَّانِي بِهَا نَظَرْنَا؛ فَإِنْ قَدِمَ الْأَوَّلُ، فَاخْتَارَهَا رُدَّتْ إلَيْهِ، وَرِثَهَا وَوَرِثَتْهُ، وَلَمْ تَرِثْ الثَّانِي وَلَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا زَوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اخْتِيَارِهَا؛ إمَّا فِي الْغَيْبَةِ، أَوْ بَعْدَ قُدُومِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. وَرِثَتْ الزَّوْجَ الثَّانِي وَوَرِثَهَا، وَلَمْ تَرِثْ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَتَعَذُّرَ أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ الْآخَرُ. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْأَوَّلِ، خُيِّرَ، فَإِنْ اخْتَارَهَا وَرِثَهَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْهَا وَرِثَهَا الثَّانِي. هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا عَلَى مَا أَخْتَارُهُ، فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ الثَّانِي وَلَا يَرِثُهَا بِحَالٍ، إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ لَهَا عَقْدًا، أَوْ لَا يَعْلَمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ حَيًّا، وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ حَيًّا، وَرِثَهَا وَوَرِثَتْهُ، إلَّا أَنْ يَخْتَارَ تَرْكَهَا، فَتَبِينَ مِنْهُ بِذَلِكَ، فَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ، إنْ حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَرِثَتْ الثَّانِي وَوَرِثَهَا، وَلَمْ تَرِثْ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَرِثْهَا، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَاطِنًا، وَرِثْت الْأَوَّلَ وَوَرِثَهَا، وَلَمْ تَرِثْ الثَّانِي وَلَمْ يَرِثْهَا. فَأَمَّا عِدَّتُهَا مِنْهُمَا، فَمَنْ وَرِثَتْهُ اعْتَدَّتْ لِوَفَاتِهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي فِي مَوْضِعٍ لَا تَرِثُهُ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. فَعَلَى هَذَا، عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِوَفَاتِهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِوَفَاتِهِ، لَكِنْ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْئِهِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ فَإِنْ مَاتَا مَعًا، اعْتَدَّتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبَدَأَتْ بِعِدَّةِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَكْمَلَتْهَا، اعْتَدَّتْ لِلْآخَرِ، وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ أَوَّلًا، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي أَوَّلًا، بَدَأَتْ بِعِدَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْأَوَّلُ، انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الثَّانِي، ثُمَّ ابْتَدَأَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَكْمَلَتْهَا، أَتَمَّتْ عِدَّةَ الثَّانِي. وَإِنْ عُلِمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا، وَجُهِلَ وَقْتُ مَوْتِ الْآخَرِ، أَوْ جُهِلَ مَوْتُهُمَا، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّتَيْنِ مِنْ حِينِ تَيَقَّنَتْ الْمَوْتَ، وَتَبْدَأُ بِعِدَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَأَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَبِوَضْعِ الْحَمْلِ تَنْقَضِي عِدَّةُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ بَعْدَهُ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ فِي وَقْتٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ] (6357) فَصْلٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ، فِي وَقْتٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ تَتَزَوَّجَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يُبَاحُ لَهَا التَّزْوِيجُ بَعْدَهَا، أَوْ كَانَتْ غَيْبَةُ زَوْجِهَا ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ تَبَيَّنَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ مَاتَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، أَوْ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَفِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، هُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي نِكَاحٍ وَلَا عِدَّةٍ، فَصَحَّ تَزْوِيجُهَا، كَمَا لَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَقِدَةٌ تَحْرِيمَ نِكَاحِهَا وَبُطْلَانَهُ. وَأَصْلُ هَذَا مَنْ بَاعَ عَيْنًا فِي يَدِهِ يَعْتَقِدُهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 لِمَوْرُوثِهِ، فَبَانَ مَوْرُوثُهُ مَيِّتًا وَالْعَيْنُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْإِرْثِ، هَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. كَذَا هَاهُنَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ هَذَا. وَلَنَا أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ فِي مُدَّةٍ مَنَعَهَا الشَّرْعُ مِنْ النِّكَاحِ فِيهَا، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ الْمُعْتَدَّةُ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ الْمُرْتَابَةُ قَبْلَ زَوَالِ رِيبَتِهَا. [فَصْلٌ مَتَى يُقَسَّمُ مَالُ الْمَفْقُودِ] (6358) فَصْلٌ: وَيُقَسَّمُ مَالُ الْمَفْقُودِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُؤْمَرُ زَوْجَتُهُ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ حَتَّى تُعْلَمَ وَفَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَقَاءُ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إلَى إبَاحَةِ التَّزْوِيجِ لِامْرَأَتِهِ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ،، وَلِأَنَّ بِالْمَرْأَةِ حَاجَةً إلَى النِّكَاحِ، وَضَرَرًا فِي الِانْتِظَارِ، فَاخْتَصَّ ذَلِكَ بِهَا. وَلَنَا أَنَّ مَنْ اعْتَدَّتْ زَوْجَتُهُ لِلْوَفَاةِ قُسِّمَ مَالُهُ، كَمَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَوْتِهِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَتَأْخِيرُ الْقِسْمَةِ ضَرَرٌ بِالْوَرَثَةِ، وَتَعْطِيلٌ لِمَنَافِعِ الْمَالِ، وَرُبَّمَا تَلِفَ أَوْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الضَّرَرِ بِتَأْخِيرِ التَّزْوِيجِ. [فَصْل تَصَرَّفَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ فِي زَوْجَتِهِ بِطَلَاقِ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إيلَاءٍ أَوْ قَذْفٍ] (6359) فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ فِي زَوْجَتِهِ، بِطَلَاقٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ إيلَاءٍ، أَوْ قَذْفٍ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ بَاقٍ، وَلِهَذَا خُيِّرَ فِي أَخْذِهَا، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَةِ تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ، فَلَا يَبْطُلُ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بِمَوْتِهِ بَيِّنَةٌ كَاذِبَةٌ. [فَصْلٌ عِدَّة الْأَمَةُ الَّتِي فَقَدَتْ زَوْجَهَا] (6360) فَصْلٌ: وَإِذَا فَقَدَتْ الْأَمَةُ زَوْجَهَا، تَرَبَّصَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَتَرَبَّصُ نِصْفَ تَرَبُّصِ الْحُرَّةِ. وَرَوَاهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ لِلْمَرْأَةِ لِعَدَمِ زَوْجِهَا، فَكَانَتْ الْأَمَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرَّةِ، كَالْعِدَّةِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَرْبَعَ سِنِينَ مَضْرُوبَةٌ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ، فَاسْتَوَيَا فِي التَّرَبُّصِ لَهَا، كَالتِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، وَكَالْحَمْلِ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ قِيَاسُهُمْ. فَأَمَّا الْعَبْدُ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً، فَتَرَبُّصُهَا كَتَرَبُّصِ الْحُرَّةِ تَحْتَ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَهِيَ كَالْأَمَةِ تَحْتَ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ. وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ نِصْفُ أَجَلِ الْحُرِّ. وَالْأَوْلَى مَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَبُّصٌ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِفُرْقَةِ زَوْجِهَا، فَأَشْبَهَ الْعِدَّةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 [فَصْلٌ غَابَ رَجُلٌ عَنْ زَوْجَتِهِ فَشَهِدَ ثِقَاتٌ بِوَفَاتِهِ] (6361) فَصْلٌ: فَإِنْ غَابَ رَجُلٌ عَنْ زَوْجَتِهِ، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ بِوَفَاتِهِ، فَاعْتَدَّتْ زَوْجَتُهُ لِلْوَفَاةِ، أُبِيحَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ. فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، يُخَيَّرُ زَوْجُهَا بَيْنَ أَخْذِهَا، وَتَرْكِهَا وَلَهُ الصَّدَاقُ. وَكَذَلِكَ إنْ تَظَاهَرَتْ الْأَخْبَارُ بِمَوْتِهِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ سُهَيَّةَ، أَنَّ زَوْجَهَا صَيْفِيَّ بْنَ فُسَيْلٍ، نُعِيَ لَهَا مِنْ قَنْدَابِيلَ، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ، ثُمَّ إنَّ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ قَدِمَ، فَأَتَيْنَا عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَأَشْرَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْضِي بَيْنَكُمْ وَأَنَا عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَقُلْنَا: قَدْ رَضِينَا بِقَوْلِكَ. فَقَضَى أَنْ يُخَيَّرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ. فَرَجَعْنَا. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ أَتَيْنَا عَلِيًّا، فَخَيَّرَ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ بَيْنَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، فَاخْتَارَ الصَّدَاقَ، فَأَخَذَ مِنِّي أَلْفَيْنِ، وَمِنْ زَوْجِي الْآخَرِ أَلْفَيْنِ. فَإِنْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِشَهَادَةِ مَحْصُورَةٍ، فَمَا حَصَلَ مِنْ غَرَامَةٍ فَعَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ فِي إيجَابِهَا. وَإِنْ شَهِدُوا بِمَوْتِ رَجُلٍ، فَقُسِّمَ مَالُهُ، ثُمَّ قَدِمَ، فَمَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ أَخَذَهُ. وَمَا تَلِفَ مِنْهُ أَوْ تَعَذَّرَ رُجُوعُهُ فِيهِ، فَلَهُ تَضْمِينُ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. [فَصْل نَكَحَ رَجُلٌ امْرَأَةً نِكَاحًا مُتَّفَقًا عَلَى بُطْلَانِهِ] (6362) فَصْلٌ: وَإِذَا نَكَحَ رَجُلٌ امْرَأَةً نِكَاحًا مُتَّفَقًا عَلَى بُطْلَانِهِ، مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ ذَاتَ مَحْرَمِهِ، أَوْ مُعْتَدَّةً يَعْلَمُ حَالَهَا وَتَحْرِيمَهَا، فَلَا حُكْمَ لِعَقْدِهِ، وَالْخَلْوَةُ بِهَا كَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، لَا تُوجِبُ عِدَّةً، وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ عَنْهَا لَا يُوجِبُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وَإِنْ وَطِئَهَا، اعْتَدَّتْ لِوَطْئِهِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ مُنْذُ وَطِئَهَا، سَوَاءٌ فَارَقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، كَمَا لَوْ زَنَى بِهَا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ. وَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنْ مَاتَ عَنْهَا، فَنَقَلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَا يُثْبِتُ الْحِلَّ، فَأَشْبَهَ الْبَاطِلَ. فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ نِكَاحٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَوَجَبَتْ بِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَفَارَقَ الْبَاطِلَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ. وَإِنْ فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، اعْتَدَّتْ بَعْدَ فُرْقَتِهِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَارِقَةَ فِي الْحَيَاةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، بِلَا خِلَافٍ، فَفِي الْفَاسِدِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا خَلْوَةٌ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَشْبَهْت الَّتِي نِكَاحُهَا بَاطِلٌ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْخَلْوَةَ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ، فَفِي الْفَاسِدِ أَوْلَى. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 [فَصْلٌ عِدَّةِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا] (6363) فَصْلٌ: فِي عِدَّةِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا. وَمَتَى كَانَتْ مُعْتَدَّةً بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْقُرُوءِ، فَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ بِالْقُرُوءِ قُرْءَانِ، فَأَدْنَى مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ يُوجِبُ قُرْءًا ثَالِثًا، لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ. وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً بِالشُّهُورِ؛ إمَّا لِلْوَفَاةِ، وَإِمَّا لِلْإِيَاسِ أَوْ الصِّغَرِ، فَعِدَّتُهَا بِالْحِسَابِ مِنْ عِدَّةِ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، فَإِذَا كَانَ نِصْفُهَا حُرًّا، فَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ، فَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَثَمَانِ لَيَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يُحْسَبُ مَعَ النَّهَارِ، فَيَكُونُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً بِالشُّهُورِ عَنْ الطَّلَاقِ، وَقُلْنَا: إنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ شَهْرٌ وَنِصْفٌ. كَانَ عِدَّةُ الْمُعْتَقِ نِصْفُهَا شَهْرَيْنِ وَرُبْعًا. وَإِنْ قُلْنَا: عِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. فَعِدَّةُ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا، كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ، سَوَاءً. وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ، عِدَّتُهُنَّ كَعِدَّةِ الْأَمَةِ، سَوَاءً؛ لِأَنَّهُنَّ إمَاءٌ. [مَسْأَلَة أُمُّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا] (6364) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا، فَلَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً كَامِلَةً) هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَمَكْحُولٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي عِيَاضٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تُفْسِدُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةُ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، كَالزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، رِوَايَةً ثَالِثَةً، أَنَّهَا تَعْتَدُّ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي (الْجَامِعِ) ، وَلَا أَظُنُّهَا صَحِيحَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ؛ وَلِأَنَّهَا حِينَ الْمَوْتِ أَمَةٌ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْأَمَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ، فَعَتَقَتْ بَعْد مَوْتِهِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ تُسْتَبْرَأُ، فَكَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ، كَالْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقَبَةِ، فَكَانَ حَيْضَةً فِي حَقِّ مَنْ تَحِيضُ، كَسَائِرِ اسْتِبْرَاءِ الْمُعْتَقَاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِغَيْرِ الزَّوْجَاتِ وَالْمَوْطُوآت بِشُبْهَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] . مَا هُنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 بِأَزْوَاجٍ. فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ضَعَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: لَا يَصِحُّ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا؟ وَقَالَ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ إنَّمَا هِيَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ مِنْ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَمَةٌ خَرَجَتْ مِنْ الرِّقِّ إلَى الْحُرِّيَّةِ. وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِهَذَا أَنْ يُوَرِّثَهَا. وَلَيْسَ لِقَوْلِ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَجْهٌ، وَإِنَّمَا تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُطَلَّقَةً، وَلَا فِي مَعْنَى الْمُطَلَّقَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ إيَّاهَا عَلَى الزَّوْجَاتِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ، وَلَا مُطَلَّقَةً، وَلَا فِي حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ. [فَصْلٌ مَا يَكْفِي فِي الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ الْحَمْلِ] (6365) فَصْلٌ: وَلَا يَكْفِي فِي الِاسْتِبْرَاءِ طُهْرٌ وَاحِدٌ، وَلَا بَعْضُ حَيْضَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: مَتَى طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ، فَقَدْ تَمَّ اسْتِبْرَاؤُهَا. وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَكْفِي طُهْرٌ وَاحِدٌ إذَا كَانَ كَامِلًا، وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي حَيْضِهَا، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ، حَلَّتْ، وَتَمَّ اسْتِبْرَاؤُهَا. وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ كُلِّهِ، وَبَنَوْا هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . وَقَالَ رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَطَأْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَهَذَا صَرِيحٌ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِبْرَاءٌ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ هُوَ الْحَيْضُ، فَإِنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ. فَأَمَّا الطُّهْرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَوَّلَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى مَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ، دُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَبِنَاؤُهُمْ قَوْلَهُمْ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ. بِنَاءٌ لِلْخِلَافِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُمْ بِنَاءُ هَذَا عَلَى ذَاكَ حَتَّى خَالَفُوهُ، فَجَعَلُوا الطُّهْرَ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ قُرْءًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا الطُّهْرَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ قُرْءًا، وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ وَالْمَعْنَى. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ بَعْضَ الْحَيْضَةِ الْمُقْتَرِنَ بِالطُّهْرِ يَدُلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ. قُلْنَا: فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ حِينَئِذٍ عَلَى بَعْضِ الْحَيْضَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْءًا عِنْدَ أَحَدٍ. فَإِذَا تُقَرَّرَ هَذَا، فَإِنْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ طَاهِرٌ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 الْمُسْتَقْبَلَةِ حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ، وَلَكِنْ مَتَى طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّتْ؛ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَ هَذِهِ بِحَيْضَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ. [مَسْأَلَة عِدَّة الْأَيِسَة] (6366) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ آيِسًا، فَبِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ) وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْقَوَابِلَ، فَقَالُوا: لَا تُسْتَبْرَأُ الْحُبْلَى فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ. وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْقُرْءِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً ثَالِثَةً، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرَيْنِ. كَعِدَّةِ الْأَمَةِ الْمُطَلَّقَةِ. وَلَمْ أَرَ لِذَلِكَ وَجْهًا، وَلَوْ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرَيْنِ، لَكَانَ اسْتِبْرَاءُ ذَاتِ الْقُرْءِ بِقُرْأَيْنِ، وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَكَمُ، فِي الْأَمَةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ: تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ. وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: إنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ، فَخَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً. قَالَ عَمِّي: كَذَلِكَ أَذْهَبُ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الْمُطَلَّقَةِ الْآيِسَةِ كَذَلِكَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ جَعَلْت ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ حَيْضَةٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مَكَانَ كُلِّ حَيْضَةٍ شَهْرًا؟ فَقَالَ: إنَّمَا قُلْنَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْقَوَابِلَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَبَيَّنُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ النُّطْفَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَإِذَا خَرَجَتْ الثَّمَانُونَ، صَارَ بَعْدَهَا مُضْغَةً، وَهِيَ لَحْمٌ، فَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ. وَقَالَ لِي: هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ النِّسَاءِ. فَأَمَّا شَهْرٌ، فَلَا مَعْنَى فِيهِ، وَلَا نَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا. وَوَجْهُ اسْتِبْرَائِهَا بِشَهْرٍ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الشَّهْرَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الشُّهُورُ بِاخْتِلَافِ الْحَيْضَاتِ، فَكَانَتْ عِدَّةُ الْحُرَّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، مَكَانَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرَيْنِ، مَكَانَ قُرْأَيْنِ، وَلِلْأَمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا عَشْرَةُ أَشْهُرٍ؛ تِسْعَةٌ لِلْحَمْلِ، وَشَهْرٌ مَكَانَ الْحَيْضَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ هَاهُنَا شَهْرٌ، كَمَا فِي حَقِّ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وُجِدَ ثَمَّ مَا دَلَّ عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَهُوَ تَرَبُّصُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. قُلْنَا: وَهَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَهُوَ الْإِيَاسُ، فَاسْتَوَيَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 [مَسْأَلَة ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ الْعِدَّة] (6367) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، اعْتَدَّتْ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَشَهْرٍ مَكَانَ الْحَيْضَةِ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِيَةُ بِسَنَةٍ؛ تِسْعَةُ أَشْهُرِ لِلْحَمْلِ، لِأَنَّهَا غَالِبُ مُدَّتِهِ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مَكَانَ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُسْتَبْرَأُ بِهَا الْآيِسَاتُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْآيِسَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُخْتَارَ عَنْ أَحْمَدَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَهَاهُنَا جَعَلَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ شَهْرًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَكْرَارِهَا فِي الْآيِسَةِ، لِتُعْلَمَ بَرَاءَتُهَا مِنْ الْحَمْلِ، وَقَدْ عُلِمَ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ هَاهُنَا بِمُضِيِّ غَالِبِ مُدَّتِهِ، فَجُعِلَ الشَّهْرُ مَكَانَ الْحَيْضَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ. [فَصْلٌ عَلِمَتْ مَا رَفَعَ الْحَيْضَ فِي الْعِدَّة] (6368) فَصْلٌ: وَإِنْ عَلِمَتْ مَا رَفَعَ الْحَيْضَ، لَمْ تَزَلْ فِي الِاسْتِبْرَاءِ حَتَّى يَعُودَ الْحَيْضُ، فَتَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِحَيْضَةٍ، إلَّا أَنْ تَصِيرَ آيِسَةً، فَتَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا اسْتِبْرَاءَ الْآيِسَاتِ. وَإِنْ ارْتَابَتْ بِنَفْسِهَا، فَهِيَ كَالْحُرَّةِ الْمُسْتَرِيبَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة عِدَّة الْحَامِلِ] (6369) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَحَتَّى تَضَعَ) وَهَذِهِ، بِحَمْدِ اللَّهِ، لَا خِلَافَ فِيهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ» . وَلِأَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَالْمُطَلَّقَةِ وَاسْتِبْرَاءَ كُلِّ أَمَةٍ إذَا كَانَتْ حَامِلًا بِوَضْعِ حَمْلِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِوَضْعِهِ، وَمَتَى كَانَتْ حَامِلًا بِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. فَلَا يَنْقَضِي اسْتِبْرَاؤُهَا حَتَّى تَضَعَ آخِرَ حَمْلِهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُعْتَدَّةِ. [فَصْلٌ زَوَّجَ أُمُّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ فِي الْعِدَّةِ] (6370) فَصْلٌ: وَإِذَا زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ، عَتَقَتْ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمَوْلَى، وَلَيْسَتْ لَهُ فِرَاشًا، وَإِنَّمَا هِيَ فِرَاشٌ لِلزَّوْجِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا الِاسْتِبْرَاءُ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ فِرَاشًا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى اسْتَبْرَأَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 الْمَسِيسِ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، فَعَلَيْهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ كَامِلَةٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حُرَّةً فِي حَالِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا. وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا وَهِيَ فِي عِدَّةِ الزَّوْجِ، عَتَقَتْ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ زَالَ فِرَاشُهُ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ مِنْ أَجْلِهِ، كَغَيْرِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا بَاعَهَا ثُمَّ مَاتَ. وَتَبْنِي عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ إنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَائِنًا، أَوْ كَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ، عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ بَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِطَلَاقٍ، أَوْ بَانَتْ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، أَوْ طَلَاقِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَقَضَتْ عِدَّتَهُ، ثُمَّ مَاتَ سَيِّدُهَا، فَعَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى فِرَاشِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَلْزَمُهَا اسْتِبْرَاءٌ، إلَّا أَنْ يَرُدَّهَا السَّيِّدُ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهُ قَدْ زَالَ بِتَزْوِيجِهَا، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهَا مَا يَرُدُّهَا إلَيْهِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَمَةَ غَيْرَ الْمَوْطُوءَةِ. [فَصْلٌ عِدَّة الْأَمَة الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا وَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا] (6371) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ أَيَّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَيْسَ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ سَيِّدِهَا قَدْ زَالَ عَنْهَا، وَلَمْ تَعُدْ إلَيْهِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِوَفَاةِ زَوْجِهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ سَيِّدَهَا مَاتَ أَوَّلًا، ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ حُرَّةً فَلَزِمَهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ، لِتَخْرُجَ مِنْ الْعِدَّةِ بِيَقِينٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، إنْ كَانَ بَيْنَ مَوْتِهِمَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ فَمَا دُونُ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ إنْ كَانَ مَاتَ أَوَّلًا، فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ آخِرًا، فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ مِنْهُمَا عِدَّةَ الْحُرَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَوْتِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهَا بَعْد مَوْتِ الْآخَرِ مِنْهُمَا أَطْوَلُ الْأَجَلَيْنِ، مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَاسْتِبْرَاءٍ بِحَيْضَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ السَّيِّدَ مَاتَ أَوَّلًا، فَيَكُونُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ آخِرًا، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْ الزَّوْجِ، وَعَوْدِهَا إلَى فِرَاشِهِ، فَلَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْقَائِلِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا بِحَيْضَةٍ، وَمِنْ زَوْجِهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، فَإِنْ جُهِلَ مَا بَيْنَ مَوْتِهِمَا، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّ بَيْنَهُمَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَ لَيَالٍ، احْتِيَاطًا لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ، كَمَا أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ بَيْنَ عِدَّةِ حُرَّةٍ وَحَيْضَةٍ، فِيمَا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ بَيْنَهُمَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَ لَيَالٍ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَكَانَ الْحَيْضَةِ ثَلَاثَ حَيْضَاتٍ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي اسْتِبْرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ، وَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَلَا أَنْقُلُهَا إلَى حُكْمِ الْحَرَائِرِ إلَّا بِإِحَاطَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ بَعْدَ الْمَوْلَى. وَقِيلَ: إنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَحْوَطُ. فَأَمَّا الْمِيرَاثُ، فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ مِنْ زَوْجِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، وَالْحُرِّيَّةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا، فَلَمْ تَرِثْ مَعَ الشَّكِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرْثِ وَالْعِدَّةِ، أَنَّ إيجَابَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا اسْتِظْهَارٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِيجَابَ الْإِرْثِ إسْقَاطٌ لِحَقِّ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمِيرَاثِ لَهَا، فَلَا تَرِثُ إلَّا بِيَقِينٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ لَوْ مَاتَتْ وُقِفَ مِيرَاثُهُ مِنْهَا مَعَ الشَّكِّ فِي إرْثِهِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ هَاهُنَا الرِّقُّ، وَالشَّكُّ فِي زَوَالِهِ وَحُدُوثِ الْحَالِ الَّتِي يَرِثُ فِيهَا، وَالْمَفْقُودُ الْأَصْلُ حَيَاتُهُ، وَالشَّكُّ فِي مَوْتِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ وَارِثًا، فَافْتَرَقَا. [مَسْأَلَة أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ أَمَةً كَانَ يُصِيبُهَا فَمَا عُدْتهَا] (6372) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ، أَوْ أَمَةً كَانَ يُصِيبُهَا) ، (لَمْ تَنْكِحْ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، ثُمَّ زَوَّجَهَا) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ هَاهُنَا بِحَيْضَةٍ فِي ذَاتِ الْقُرُوءِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، فِي مَنْ أَرَادَ تَزْوِيجَ أَمَةٍ كَانَ يُصِيبُهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّ لَهُ بَيْعَهَا، فَكَانَ لَهُ تَزْوِيجُهَا، كَاَلَّتِي لَا يُصِيبُهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: عِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ، كَعِدَّةِ الْأَمَةِ الْمُطَلَّقَةِ. وَلَنَا أَنَّهَا فِرَاشٌ لِسَيِّدِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، كَمَا لَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ مَوْطُوءَةٌ وَطْئًا لَهُ حُرْمَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَزَوَّجَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا سَيِّدُهَا الْيَوْمَ، ثُمَّ زَوَّجَهَا، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي آخِرِ الْيَوْمِ، أَفْضَى إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَامْتِزَاجِ الْأَنْسَابِ، وَهَذَا لَا يَحِلُّ، وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُشْتَرِيهَا وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، فَلَا يُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ فِي الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُزَوَّجَةِ، بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ. [فَصْلٌ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَوَات الْقُرُوءِ فَمَا هِيَ عِدَّتُهَا] (6373) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِمَا ذَكَرْنَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ، عَلَى مَا شَرَحْنَا. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً لَا يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِرَاشًا لِسَيِّدِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهَا الِاسْتِبْرَاءُ، كَالْمُزَوَّجَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ، وَلِأَنَّ تَرْكَهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا يُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَامْتِزَاجِ الْأَنْسَابِ، بِخِلَافِ الْمَوْطُوءَةِ. [فَصْلٌ مَاتَ عَنْ أَمَةٍ كَانَ يُصِيبُهَا فَمَا هِيَ عِدَّتُهَا] (6374) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ عَنْ أَمَةٍ كَانَ يُصِيبُهَا، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِمَا ذَكَرْنَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِسَيِّدِهَا، فَأَشْبَهَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 أُمَّ الْوَلَدِ، إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُرَّةً. [فَصْل أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ أَمَتَهُ الَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا فَمَا هِيَ عِدَّتُهَا] فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ، أَوْ أَمَتَهُ الَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا، أَوْ غَيْرَهَا مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ إصَابَتُهَا، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَالِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ؛ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنِ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا» . وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِبْرَاءً، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاء لِصِيَانَةِ مَائِهِ وَحِفْظِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءِ غَيْرِهِ، وَلَا يُصَانُ مَاؤُهُ عَنْ مَائِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُخْتَلِعَتَهُ فِي عِدَّتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْأَمَةِ الَّتِي لَا يَطَؤُهَا إذَا أَعْتَقَهَا: لَا يَتَزَوَّجُهَا بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا لَمْ تَحِلّ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَذَلِكَ بِالنِّكَاحِ، كَاَلَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يَنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ أَصَابَهَا، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا لَهُ بِظَاهِرِهِ، لِدُخُولِهَا فِي الْعُمُومِ، وَلِأَنَّهَا تَحِلُّ لِمَنْ تَزَوَّجَهَا سِوَاهُ، فَلَهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَبْرَأَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَالِ، كَانَ جَائِزًا حَسَنًا، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ تَارِكٌ لِوَطْئِهَا، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إنَّمَا كَانَ لِصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِغَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هَاهُنَا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. [فَصْلٌ اشْتَرَى أَمَةً فَأَعْتَقَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا] (6376) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى أَمَةً، فَأَعْتَقَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ ذَلِكَ. وَيُحْكَى أَنَّ الرَّشِيدَ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَتَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى جِمَاعهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَأَمَرَهُ أَبُو يُوسُفَ أَنْ يَعْتِقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الْمَهْدِيَّ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَأَعْجَبَتْهُ، فَقِيلَ لَهُ: اعْتِقْهَا وَتَزَوَّجْهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَعْظَمِ هَذَا، أَبْطَلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَرَائِرِ الْعِدَّةَ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَلَيْسَ مِنْ امْرَأَةٍ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ زَوْجُهَا إلَّا تَعْتَدُّ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِحَيْضَةٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَفَرْجٌ يُوطَأُ يَشْتَرِيهِ، ثُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 يَعْتِقُهَا عَلَى الْمَكَانِ، فَيَتَزَوَّجهَا، فَيَطَؤُهَا، يَطَؤُهَا رَجُلٌ الْيَوْمَ وَيَطَؤُهَا الْآخَرُ غَدًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا كَيْفَ يَصْنَعُ؟ هَذَا نَقْضُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ الْحَامِلِ حَتَّى تَحِيضَ» . وَهَذَا لَا يَدْرِي أَهِيَ حَامِلٌ أَمْ لَا. مَا أَسْمَجَ هَذَا، قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ هَذَا: فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَذَا، وَقَبَّحَ مَنْ يَقُولُهُ. وَفِيمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ كِفَايَةٌ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا لِغَيْرِهِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، إذَا لَمْ يَعْتِقْهَا؛ لِأَنَّهَا مِمَّنْ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ، كَالْمُعْتَدَّةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرَاةُ مِنْ رَجُلٍ يَطَؤُهَا، أَوْ مِنْ رَجُلٍ قَدْ اسْتَبْرَأَهَا وَلَمْ يَطَأْهَا، أَوْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَجْبُوبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا اشْتَرَاهَا مِمَّنْ لَا يَطَؤُهَا، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا، سَوَاءٌ أَعْتَقَهَا أَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِرَاشًا، وَقَدْ كَانَ لِسَيِّدِهَا تَزْوِيجُهَا قَبْلَ بَيْعِهَا، فَجَازَ ذَلِكَ بَعْدَ بَيْعِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ عَتَقَتْ عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَجَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ نِكَاحُهَا، فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُوطَأُ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . وَلِأَنَّهَا أَمَةٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَحَرُمَ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهَا وَالتَّزَوُّجُ بِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ بَائِعُهَا يَطَؤُهَا. فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا، فَأُبِيحَ لَهَا النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا الْبَائِعُ، وَفَارَقَ الْمَوْطُوءَةَ؛ فَإِنَّهَا فِرَاشٌ يَجِبُ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءُ نَفْسِهَا إذَا عَتَقَتْ، فَحَرُمَ عَلَيْهَا النِّكَاحُ، كَالْمُعْتَدَّةِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَرَادَ سَيِّدُهَا نِكَاحَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، كَالْمُعْتَدَّةِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُتَّخَذُ حِيلَةً عَلَى إبْطَالِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِهَا لِغَيْرِهِ. [فَصْلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَاسْتَبْرَأَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا] (6377) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَاسْتَبْرَأَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا فِرَاشًا بِاسْتِبْرَائِهِ لَهَا. وَإِنْ بَاعَهَا، فَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَطْئِهَا، لَمْ تَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَاء لِذَلِكَ. وَإِنْ بَاعَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَطْئِهَا وَاسْتِبْرَائِهَا، فَعَلَيْهَا اسْتِبْرَاءُ نَفْسِهَا. وَإِنْ مَضَى بَعْضُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، لَزِمَهَا إتْمَامُهُ بَعْدَ عِتْقِهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ فِرَاشًا لِلْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ بِإِعْتَاقِهِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَوَطِئَاهَا] (6378) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَوَطِئَاهَا، لَزِمَهَا اسْتِبْرَاءَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يَلْزَمُهَا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَرَاءَةُ الرَّحِمِ تُعْلَمُ بِاسْتِبْرَاءٍ وَاحِدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 وَلَنَا أَنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُودَانِ لِآدَمِيَّيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا، كَالْعِدَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا اسْتِبْرَاءَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَأَشْبَهَا الْعِدَّتَيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْعِدَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ. [مَسْأَلَة مَلَكَ أَمَةً يَجِبُ اسْتِبْرَائِهَا أَوَّلًا] (6379) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ أَمَةً، لَمْ يُصِبْهَا وَلَمْ يُقَبِّلْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ لَهَا بِحَيْضَةٍ، إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، إنْ كَانَتْ حَامِلًا، أَوْ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، إنْ كَانَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ أَوْ مِنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَمَةً بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ؛ كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالْإِرْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، مِمَّنْ تَحْمِلُ أَوْ مِمَّنْ لَا تَحْمِلُ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْبِكْرِ. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالِاسْتِبْرَاءِ مَعْرِفَةُ بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي الْبِكْرِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحْمِلُ مِثْلُهَا، لَمْ يَجِبْ اسْتِبْرَاؤُهَا لِذَلِكَ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا، لَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُزَوِّجِ دُونَ الزَّوْجِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَامَ أَوْطَاسٍ أَنْ تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إنَّنِي لَا أَقُولُ إلَّا مَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ السَّبْيِ، حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَطَأُ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ مَلَكَ جَارِيَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَلَمْ تَحِلَّ لَهُ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، كَالثَّيِّبِ الَّتِي تَحْمِلُ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلِاسْتِبْرَاءِ، فَلَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَاَلَّتِي تَحْمِلُ وَاَلَّتِي لَا تَحْمِلُ، كَالْعِدَّةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْعَذْرَاءَ تَحْمِلُ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ فِي جِيرَانِنَا. وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيِّ، أَوْ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِرَضَاعِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبَتِّيُّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ يَكُونُ بِالسَّبْيِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا الْمُشْتَرِي، أَفْضَى إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ، أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُرَادُ إلَّا لِلِاسْتِمْتَاعِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي مِنْ تَحِلُّ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ مُعْتَدَّةٍ، وَلَا مُرْتَدَّةٍ، وَلَا مَجُوسِيَّةٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 وَلَا وَثَنِيَّةٍ، وَلَا مُحَرَّمَةٍ بِالرَّضَاعِ وَلَا الْمُصَاهَرَةِ، وَالْبَيْعُ يُرَادُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَصَحَّ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلِهَذَا صَحَّ فِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُ قُبْلَتِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا لِشَهْوَةٍ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، قَالَ: تُسْتَبْرَأُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً بِأَيِّ شَيْءٍ تُسْتَبْرَأُ إذَا كَانَتْ رَضِيعَةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ إذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَإِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تُوطَأُ وَتَحْبَلُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَلَا تَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى، وَقَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِبَاحَةِ مُتَحَقِّقٌ. وَلَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلِيلٌ، فَإِنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا مَعْنَى نَصٍّ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ مُبَاشَرَةِ الْكَبِيرَةِ إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ دَاعِيًا إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ هَذَا فِي هَذِهِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِبَاحَةِ. فَأَمَّا مَنْ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، فَلَا تَحِلُّ قُبْلَتُهَا، وَلَا الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، إلَّا الْمَسْبِيَّةَ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَحْرُمُ مِنْ الْمُشْتَرَاةِ إلَّا فَرْجُهَا، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ، مَا لَمْ يَمَسَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْوَطْءِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَاخْتُصَّ بِالْفَرْجِ، كَالْحَيْضِ. وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ، فَحَرَّمَ الِاسْتِمْتَاعَ، كَالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ كَوْنِهَا حَامِلًا مِنْ بَائِعِهَا، فَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِأُمِّ وَلَدِ غَيْرِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ لِلْحَيْضِ. فَأَمَّا الْمَسْبِيَّةُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُ مُبَاشَرَتِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ. وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ كُلَّ اسْتِبْرَاءٍ حَرَّمَ الْوَطْءَ حَرَّمَ دَوَاعِيَهُ، كَالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، لِأَجْلِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ، فَأَشْبَهَتْ الْمَبِيعَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ فِي سَهْمِي يَوْمَ جَلُولَاءَ جَارِيَةٌ، كَأَنَّ عُنُقَهَا إبْرِيقُ فِضَّةٍ، فَمَا مَلَكْت نَفْسِي أَنْ قُمْت إلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمَسْبِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْمَبِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ، فَيَكُونَ مُسْتَمْتِعًا بِأُمِّ وَلَدِ غَيْرِهِ، وَمُبَاشِرًا لِمَمْلُوكَةِ غَيْرِهِ، وَالْمَسْبِيَّةُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ وَطْؤُهَا لِئَلَّا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ لَهَا. يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِجَمِيعِهَا، وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَهَا، ثُمَّ مَلَكَ بَاقِيَهَا، لَمْ يُحْتَسَب الِاسْتِبْرَاءُ إلَّا مِنْ حِينِ مَلَكَ بَاقِيهَا. وَإِنْ مَلَكَهَا بِبَيْعِ فِيهِ الْخِيَارُ، انْبَنَى عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ فِي مُدَّتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَقِلُ. فَابْتِدَاءُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْتَقِلُ. فَابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا، فَابْتِدَاء الْخِيَارَ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَهَلْ يُبْتَدَأُ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، مِنْ حِينِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِهِ. وَالثَّانِي، مِنْ حِينِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَتِهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدُهُ التَّاجِرُ أَمَةً، فَاسْتَبْرَأَهَا، ثُمَّ صَارَتْ إلَى السَّيِّدِ، حَلَّتْ لَهُ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ عَلَى مَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، فَقَدْ حَصَلَ اسْتِبْرَاؤُهَا فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى مُكَاتِبُهُ أَمَةً، فَاسْتَبْرَأَهَا، ثُمَّ صَارَتْ إلَى سَيِّدِهِ، فَعَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَجَدَّدَ عَلَيْهَا، إذْ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مِلْكٌ عَلَى مَا فِي يَدِ مُكَاتِبِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ مِنْ ذَوَات مَحَارِمِ الْمُكَاتِبِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تُبَاحُ لِلسَّيِّدِ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُكَاتِبِ، إنْ رَقَّ رَقَّتْ، وَإِنْ عَتَقَ عَتَقَتْ، وَالْمُكَاتِبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَالِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ هَاهُنَا فِي حَقِّ الْحَامِلِ بِوَضْعِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي ذَاتِ الْقُرُوءِ بِحَيْضَةٍ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ: بِحَيْضَتَيْنِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَلِلْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِحَيْضَةٍ، وَفِي الْآيِسَةِ وَاَلَّتِي لَمْ تَحِضْ وَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. [فَصْلٌ مَلَكَ مَجُوسِيَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً فَأَسْلَمَتْ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا] (6380) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، فَأَسْلَمَتْ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، أَوْ تُتِمَّ مَا بَقِيَ مِنْ اسْتِبْرَائِهَا؛ لِمَا مَضَى. وَإِنْ اسْتَبْرَأَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ، حَلَّتْ لَهُ بِغَيْرِ اسْتِبْرَائِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تُجَدِّدَ اسْتِبْرَاءَهَا بَعْدَ إسْلَامِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَجَدَّدَ عَلَى اسْتِمْتَاعِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَنْ تَجَدَّدَ مِلْكُهُ عَلَى رَقَبَتِهَا. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُوطَأُ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . وَهَذَا وَرَدَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَكُنَّ مُشْرِكَاتٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ فِي حَقِّهِنَّ بِأَكْثَرَ مِنْ حَيْضَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ مِلْكُهُ عَلَيْهَا، وَلَا أَصَابَهَا وَطْءٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، كَمَا لَوْ حَلَّتْ الْمُحَرَّمَةُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ إنَّمَا وَجَبَ كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَامْتِزَاجِ الْأَنْسَابِ، وَمَظِنَّةُ ذَلِكَ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ عَلَى رَقَبَتِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ. وَلَوْ بَاعَ أَمَتَهُ، ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إقَالَةٍ بَعْدَ قَبْضِهَا أَوْ افْتِرَاقِهِمَا، لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي لَهَا امْرَأَةً أَوْ غَيْرَهَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا، أَوْ قَبْلَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي بِالْجَارِيَةِ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا تَقَابَلَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ مَعَ تَعَيُّنِ الْبَرَاءَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 [فَصْلٌ زَوَّجَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ] (6381) فَصْلٌ: وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَلَكِنْ إنْ طَلُقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَلَوْ ارْتَدَّتْ أَمَتَهُ، أَوْ كَاتَبَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمُرْتَدَّةُ، وَعَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ، حَلَّتْ لِسَيِّدِهَا بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ اسْتِمْتَاعِهَا، ثُمَّ عَادَ، فَأَشْبَهَتْ الْمُشْتَرَاةَ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ مِلْكُهُ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ الْمُحَرَّمَةَ إذَا حَلَّتْ، وَالْمَرْهُونَةَ إذَا فُكَّتْ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي حِلِّهِمَا بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ شُرِعَ لِمَعْنًى مَظِنَّتُهُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ، فَلَا يُشْرَعُ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَظِنَّةِ وَالْمَعْنَى. [فَصْلٌ اشْتَرَى أَمَةً مُزَوِّجَةً فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ] (6382) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ تُبَحْ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: هَذِهِ حِيلَةٌ وَضَعَهَا أَهْلُ الرَّأْيِ، لَا بُدَّ مِنْ اسْتِبْرَاءٍ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ تَجَدَّدَ الْمِلْكُ فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ اسْتِبْرَاؤُهَا فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ تَحِلَّ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُزَوَّجَةً، وَلِأَنَّ إسْقَاطَ الِاسْتِبْرَاءِ هَاهُنَا ذَرِيعَةٌ إلَى إسْقَاطِهِ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ إسْقَاطَهُ، بِأَنْ يُزَوِّجَهَا عِنْدَ بَيْعِهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ، وَالْحِيَلُ حَرَامٌ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا. فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ اسْتِبْرَاؤُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ بِالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ عَتَقَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا مَعَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءٌ، وَلِأَنَّهَا قَدْ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِمَّنْ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ، فَأَجْزَأَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنْ سَيِّدِهَا إذَا كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ زَوْجٍ. وَإِنْ اشْتَرَاهَا، وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ زَوْجِهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لِسَيِّدِهَا، وَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ الزَّوْجِ بِالْعِدَّةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَتَقَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي الْمُزَوَّجَةِ: هَلْ يَدْخُلُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْعِدَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الْمُعْتَدَّةِ: يَلْزَمُ السَّيِّدَ اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَتَدَاخَلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ رَجُلَيْنِ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَنَّهَا حِيلَةٌ وَضَعَهَا أَهْلُ الرَّأْيِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هَاهُنَا، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ رَجُلَيْنِ. فَإِنَّ السَّيِّدَ هَاهُنَا لَيْسَ لَهُ اسْتِبْرَاءٌ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ لِرَجُلَيْنِ فَوَطِئَاهَا ثُمَّ بَاعَاهَا لِرَجُلٍ] (6383) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ لِرَجُلَيْنِ، فَوَطِئَاهَا، ثُمَّ بَاعَاهَا لِرَجُلٍ، أَجْزَأَهُ اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْبَرَاءَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَعْتَقَهَا لَأَلْزَمْتُمُوهَا اسْتِبْرَاءَيْنِ. قُلْنَا: وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي حَقِّ الْمُعْتَقَةِ مُعَلَّلٌ بِالْوَطْءِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 وَلِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا وَهِيَ مِمَّنْ لَا يَطَؤُهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ، وَقَدْ وُجِدَ الْوَطْءُ مِنْ اثْنَيْنِ، فَلَزِمَهَا حُكْمُ وَطْئِهِمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ مُعَلَّلٌ بِتَجْدِيدِ الْمِلْكِ لَا غَيْرُ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الِاسْتِبْرَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمِلْكُ وَاحِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَجَدَّدَ الِاسْتِبْرَاءُ. [فَصْل اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ] (6384) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا مِنْ مَائِهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ؛ لِيَعْلَمَ هَلْ الْوَلَدُ مِنْ النِّكَاحِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لَهُ، لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمِلْكِهِ لَهُ، وَلَا تَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ هُوَ حَادِثٌ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ؟ وَمَتَى تَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَلَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ الْحَمْلُ، وَزَالَ الِاشْتِبَاهُ. [فَصْلٌ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الَّتِي يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا] (6385) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الَّتِي يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، أَثِمَ، وَالِاسْتِبْرَاءُ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِعُدْوَانِهِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ، اسْتَبْرَأَهَا بِمَا كَانَ يَسْتَبْرِئُهَا بِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، فَمَتَى وَضَعَتْ حَمْلَهَا، اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا. وَإِنْ وَطِئَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ حَمْلًا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ، فَمَتَى وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَى اسْتِبْرَاؤُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَلْحَقُ بِالْمُشْتَرِي، وَلَا يَتْبَعُهُ، وَلَكِنْ يَعْتِقُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ مَرَّ بِامْرَأَةِ مُجِحٍّ، عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا. فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ، أَوْ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ» وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إنَّ اسْتَلْحَقَهُ وَشَرَكَهُ فِي مِيرَاثِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَإِنْ اتَّخَذَهُ مَمْلُوكًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَكَ فِيهِ، لِكَوْنِ الْوَطْءِ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 (6386) فَصْلٌ: وَمَنْ أَرَادَ بَيْعَ أَمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، لِيُعْلَمَ خُلُوُّهَا مِنْ الْحَمْلِ، فَيَكُونَ أَحْوَطَ لِلْمُشْتَرِي، وَأَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ قَالَ أَحْمَدُ: وَإِنْ كَانَتْ لِامْرَأَةٍ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ لَا تَبِيعَهَا حَتَّى تَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ، فَهُوَ أَحْوَطُ لَهَا. وَإِنْ كَانَ يَطَؤُهَا، وَكَانَتْ آيِسَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَمْلِ مَعْلُومٌ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحْمِلُ، وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بَاعَ جَارِيَةً كَانَ يَطَؤُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا. وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ آكَدُ، وَلَا يَجِبُ قَبْلَ النِّكَاحِ وَبَعْدَهُ، كَذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي الْأَمَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَيْعَ جَارِيَةٍ كَانَ يَطَؤُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: بَاعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ جَارِيَةً كَانَ يَقَعُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ عِنْدَ الَّذِي اشْتَرَاهَا، فَخَاصَمُوهُ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كُنْت تَقَعُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَبِعْتهَا قَبْلَ أَنْ تَسْتَبْرِئَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا كُنْت لِذَلِكَ بِخَلِيقٍ. قَالَ: فَدَعَا الْقَافَةَ، فَنَظَرُوا إلَيْهِ، فَأَلْحَقُوهُ بِهِ. وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الِاسْتِبْرَاءُ لِحِفْظِ مَائِهِ، فَكَذَلِكَ الْبَائِعُ؛ وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مَشْكُوكٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَوَازِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ، فَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءِ لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنْ خَالَفَ وَبَاعَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ؛ وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَمْ يَحْكُمَا بِفَسَادِ الْبَيْعِ فِي الْأَمَةِ الَّتِي بَاعَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا إلَّا بِلَحَاقِ الْوَلَدِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَطَؤُهَا، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ الْآيِسَةِ وَغَيْرِهَا. وَالْأُولَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي الْآيِسَةِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ احْتِمَالُ الْحَمْلِ، وَهُوَ وَهْمٌ بَعِيدٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَلَا نُثْبِتُ بِهِ حُكْمًا بِمُجَرَّدِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ] (6387) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً، فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحْوَالٍ خَمْسَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ يَكُونَ الْبَائِعُ ادَّعَى الْوَلَدَ، فَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لِلْبَائِعِ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْتَبْرَأَهَا، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينَ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، فَالْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ أَحَدِهِمَا لَهَا، وَلِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 مُنْذُ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، فَلَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ تَجَدَّدَ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا. فَإِنْ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحْدَهُ، فَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، لَحِقَهُ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ إلَيْهِ ظَاهِرًا، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْبَائِعِ فِيمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّ الْجَارِيَةَ مَغْصُوبَةٌ أَوْ مُعْتَقَةٌ. وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ لِلْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِوَلَدِهِ بِمَالٍ. وَالثَّانِي، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ أَبُوهُ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَبْدَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَخُو صَاحِبِهِ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ تَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِالْمُشْتَرِي، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، فَأَقَرَّ لَهُ الْمُشْتَرِي، لَحِقَهُ، وَبَطَلِ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْآخَرِ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، فَأُلْحِقَ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا لَحِقَ بِهِمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْبَيْعُ، وَتَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّنَا نَتَبَيَّنُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ قَبْلَ بَيْعِهَا. الْحَالُ الْخَامِسُ، إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ، وَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَالِ الثَّالِثِ، سَوَاءٌ. [مَسْأَلَةٌ تَجْتَنِبُ الزَّوْجَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الطِّيبَ وَالزِّينَةَ] (6388) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَتَجْتَنِبُ الزَّوْجَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الطِّيبَ وَالزِّينَةَ، وَالْبَيْتُوتَةَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا، وَالْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ، وَالنِّقَابَ هَذَا يُسَمَّى الْإِحْدَادَ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إلَّا عَنْ الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ. وَهُوَ قَوْلٌ شَذَّ بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَخَالَفَ بِهِ السُّنَّةَ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، وَالْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ، وَالْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا إحْدَادَ عَلَى ذِمِّيَّةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُكَلَّفَتَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 وَلَنَا، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفَةِ تُسَاوِي الْمُكَلَّفَةَ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَات، كَالْخَمْرِ وَالزِّنَى، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْإِثْمِ، فَكَذَلِكَ الْإِحْدَادُ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الذِّمِّيَّةِ فِي النِّكَاحِ كَحُقُوقِ الْمُسْلِمَةِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا عَلَيْهَا. (6389) فَصْلٌ: وَلَا إحْدَادَ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَاتِ، كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ الَّتِي يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا، إذَا مَاتَ عَنْهَا، وَلَا الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ، وَالْمَزْنِيُّ بِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . وَلَا إحْدَادَ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِزَوْجِهَا، وَتَسْتَشْرِفَ لَهُ، لِيَرْغَبَ فِيهَا، وَتَتَّفِقَ عِنْدَهُ، كَمَا تَفْعَلُ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ. وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا لَهَا مَنْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ وَيَحِلُّ لَهَا، فَتَحْزَنَ عَلَى فَقْدِهِ. [فَصْلٌ تَجْتَنِبُ الْحَادَّةُ مَا يَدْعُو إلَى جِمَاعِهَا] (6390) فَصْلٌ: وَتَجْتَنِبُ الْحَادَّةُ مَا يَدْعُو إلَى جِمَاعِهَا، وَيُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إلَيْهَا، وَيُحَسِّنُهَا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا الطِّيبُ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْإِحْدَادَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمَسُّ طِيبًا، إلَّا عِنْدَ أَدْنَى طُهْرِهَا، إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا بِنُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ، خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا لِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الطِّيبَ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، وَيَدْعُو إلَى الْمُبَاشَرَةِ. وَلَا يَجُوزُ لَهَا اسْتِعْمَالُ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْبَانِ، وَمَا أَشْبَهُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلطِّيبِ. فَأَمَّا الْأَدْهَانُ بِغَيْرِ الْمُطَيَّبِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ. الثَّانِي: اجْتِنَابُ الزِّينَةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ. وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا الزِّينَةُ فِي نَفْسِهَا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَخْتَضِبَ، وَأَنْ تُحَمِّرَ وَجْهَهَا بالكلكون، وَأَنْ تُبَيِّضَهُ بأسفيداج الْعَرَائِسِ، وَأَنْ تَجْعَلَ عَلَيْهِ صَبْرًا يُصَفِّرُهُ، وَأَنْ تَنْقُشَ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا، وَأَنْ تُحَفِّفَ وَجْهَهَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُحْسِنهَا، وَأَنْ تَكْتَحِلَ بِالْإِثْمِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُحِدُّ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا عِنْدَ أَدْنَى طُهْرِهَا، إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، بِنُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا. مَرَّتَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 أَوْ ثَلَاثًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْت عَلَى عَيْنِيَّ صَبْرًا، فَقَالَ: مَاذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ . قُلْت: إنَّمَا هُوَ صَبْرٌ، لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. قَالَ: إنَّهُ يَشِبُّ الْوَجْهَ، لَا تَجْعَلِيهِ إلَّا بِاللَّيْلِ، وَتَنْزِعِينَهُ بِالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ، وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ. قَالَتْ: قُلْت: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ، تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَك» . وَلِأَنَّ الْكُحْلَ مِنْ أَبْلَغِ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ تَدْعُو إلَيْهَا، وَتُحَرِّكَ الشَّهْوَةَ، فَهِيَ كَالطِّيبِ وَأَبْلَغَ مِنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ لِلسَّوْدَاءِ أَنْ تَكْتَحِلَ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْخَبَرِ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يُزَيِّنُهَا وَيُحَسِّنُهَا. وَإِنْ اُضْطُرَّتْ الْحَادَّةُ إلَى الْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ لِلتَّدَاوِي، فَلَهَا أَنْ تَكْتَحِلَ لَيْلًا، وَتَمْسَحَهُ نَهَارًا. وَرَخَّصَ فِيهِ عِنْد الضَّرُورَةِ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ أَسِيدٍ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ، وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَيْهَا، فَتَكْتَحِلُ بِالْجَلَاءِ، فَأَرْسَلَتْ مَوْلَاةً لَهَا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ، تَسْأَلُهَا عَنْ كُحْلِ الْجَلَاءِ، فَقَالَتْ: لَا تَكْتَحِلِي إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، يَشْتَدُّ عَلَيْك، فَتَكْتَحِلِينَ بِاللَّيْلِ، وَتَغْسِلِينَهُ بِالنَّهَارِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ، لِأَنَّهُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الزِّينَةُ، فَأَمَّا الْكُحْلُ بِالتُّوتْيَا والعنزروت وَنَحْوِهِمَا، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا زِينَةَ فِيهِ، بَلْ يُقَبِّحُ الْعَيْنَ، وَيَزِيدُهَا مُرَّهَا. وَلَا تُمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصَّبْرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا مِنْ بَدَنِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ فِي الْوَجْهِ لِأَنَّهُ يُصَفِّرُهُ، فَيُشْبِهُ الْخِضَابَ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ يَشِبُّ الْوَجْهَ» ، وَلَا تُمْنَعُ مِنْ التَّنْظِيفِ بِتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ الْمَنْدُوبِ إلَى حَلْقِهِ، وَلَا مِنْ الِاغْتِسَالِ بِالسِّدْرِ، وَالِامْتِشَاطِ بِهِ، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ لَا لِلطِّيبِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: زِينَةُ الثِّيَابِ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ الْمُصْبَغَةُ لِلتَّحْسِينِ، كَالْمُعَصْفَرِ، وَالْمُزَعْفَرِ، وَسَائِرِ الْأَحْمَرِ، وَسَائِرِ الْمُلَوَّنِ لِلتَّحْسِينِ، كَالْأَزْرَقِ الصَّافِي، وَالْأَخْضَرِ الصَّافِي، وَالْأَصْفَرِ، فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلْبَسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 ثَوْبًا مَصْبُوغًا» . وَقَوْلُهُ: «لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَ» . فَأَمَّا مَا لَا يُقْصَدُ بِصَبْغِهِ حُسْنُهُ، كَالْكُحْلِيِّ، وَالْأَسْوَدِ، وَالْأَخْضَرِ الْمُشْبَعِ، فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ. وَمَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ فِيهِ احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ لُبْسُهُ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُ وَأَحْسَنُ؛ وَلِأَنَّهُ مَصْبُوغٌ لِلْحُسْنِ، فَأَشْبَهَ مَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ. وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ» . وَهُوَ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نَسْجِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُصْبَغْ وَهُوَ ثَوْبٌ، فَأَشْبَهَ مَا كَانَ حَسَنًا مِنْ الثِّيَابِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَأَمَّا الْعَصْبُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَبْتٌ تُصْبَغُ بِهِ الثِّيَابُ. قَالَ صَاحِبُ الرَّوْضِ الْأَنِفِ الْوَرْسُ وَالْعَصْبُ نَبَتَانِ بِالْيَمَنِ، لَا يَنْبُتَانِ إلَّا بِهِ. فَأَرْخَصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَادَّةِ فِي لُبْسِ مَا صُبِغَ بِالْعَصْبِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا صُبِغَ لِغَيْرِ التَّحْسِينِ، أَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ لِلتَّحْسِينِ، كَالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ، فَلَا مَعْنَى لِتَجْوِيزِ لُبْسِهِ، مَعَ حُصُولِ الزِّينَةِ بِصَبْغِهِ، كَحُصُولِهَا بِمَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ. وَلَا تُمْنَعُ مِنْ حِسَانِ الثِّيَابِ غَيْرِ الْمَصْبُوغَةِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ إبْرَيْسَمٍ؛ لِأَنَّ حُسْنَهُ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُ تَغْيِيرُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ حَسَنَةَ الْخِلْقَةِ، لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تُغَيِّرَ لَوْنَهَا، وَتُشَوِّهَ نَفْسَهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْحُلِيُّ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُ الْحُلِيِّ كُلِّهِ، حَتَّى الْخَاتَمِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا الْحُلِيُّ» . وَقَالَ عَطَاءٌ: يُبَاحُ حُلِيُّ الْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ يَزِيدُ حُسْنَهَا، وَيَدْعُو إلَى مُبَاشَرَتِهَا، قَالَتْ امْرَأَةٌ: وَمَا الْحُلِيُّ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةِ ... تُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا (6391) فَصْلٌ: وَالثَّالِثُ مِمَّا تَجْتَنِبُهُ الْحَادَّةُ النِّقَابُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، مِثْلُ الْبُرْقُعِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مُشَبَّهَةٌ بِالْمُحْرِمَةِ وَالْمُحْرِمَةُ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا احْتَاجَتْ إلَى سَتْرِ وَجْهِهَا أَسْدَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُ الْمُحْرِمَةُ. [فَصْلٌ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا] (6392) فَصْلٌ: وَالرَّابِعُ الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا. وَمِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الِاعْتِدَادَ فِي مَنْزِلِهَا، عُمَرُ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، بِالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهِ، وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 240] . قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ، فَنَسَخَ السُّكْنَى، تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، مَا رَوَتْ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، «أَنَّهَا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ، وَلَا نَفَقَةٍ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ. قَالَتْ: فَخَرَجْت حَتَّى إذَا كُنْت فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ قُلْتِ فَرَدَّدْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. فَاعْتَدَدْت فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إلَيَّ، فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ، وَقَضَى بِهِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي مُوَطَّئِهِ، وَالْأَثْرَمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَضَى بِهِ عُثْمَانُ فِي جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ الِاعْتِدَادُ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا لِزَوْجِهَا، أَوْ بِإِجَارَةٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِفُرَيْعَةَ: اُمْكُثِي فِي بَيْتِك» . وَلَمْ تَكُنْ فِي بَيْتٍ يَمْلِكُهُ زَوْجُهَا. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «اعْتَدِّي فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَتَاك فِيهِ نَعْيُ زَوْجِك» وَفِي لَفْظٍ: «اعْتَدِّي حَيْثُ أَتَاك الْخَبَرُ» فَإِنْ أَتَاهَا الْخَبَرُ فِي غَيْرِ مَسْكَنِهَا، رَجَعَتْ إلَى مَسْكَنِهَا فَاعْتَدَّتْ فِيهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيُّ: لَا تَبْرَحُ مِنْ مَكَانِهَا الَّذِي أَتَاهَا فِيهِ نَعْيُ زَوْجِهَا، اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اُمْكُثِي فِي بَيْتِك» وَاللَّفْظُ الْآخَرُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا، فَإِنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا عُمُومَ لَهَا، ثُمَّ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الِاعْتِدَادُ فِي السُّوقِ وَالطَّرِيقِ وَالْبَرِّيَّةِ، إذَا أَتَاهَا الْخَبَرُ وَهِيَ فِيهَا. (6393) فَصْلٌ: فَإِنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ غَرَقًا أَوْ عَدُوًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ حَوَّلَهَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ لِكَوْنِهِ عَارِيَّةً رَجَعَ فِيهَا، أَوْ بِإِجَارَةٍ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، أَوْ مَنَعَهَا السُّكْنَى تَعَدِّيًا، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ إجَارَتِهِ، أَوْ طَلَبَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، أَوْ لَمْ تَجِدْ مَا تَكْتَرِي بِهِ، أَوْ لَمْ تَجِدْ إلَّا مِنْ مَالِهَا، فَلَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ؛ لِأَنَّهَا حَالُ عُذْرٍ، وَلَا يَلْزَمُهَا بِذَلِكَ أَجْرِ الْمَسْكَنِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهَا فِعْلُ السُّكْنَى، لَا تَحْصِيلُ الْمَسْكَنِ، وَإِذَا تَعَذَّرَتْ السُّكْنَى، سَقَطَتْ، وَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُهَا النَّقْلَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 إلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَوْضِعِ الْوُجُودِ، فَأَشْبَهَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ فِيهِ أَهْلَ السُّهْمَانِ، فَإِنَّهُ يَنْقُلُهَا إلَى أَقْرَبِ مَوْضِعٍ يَجِدُهُمْ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَاجِبَ سَقَطَ لِعُذْرٍ، وَلَمْ يَرِدَ الشَّرْعُ لَهُ بِبَدَلٍ، فَلَا يَجِبُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ الْحَجُّ لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَفَوَاتِ شَرْطٍ، وَالْمُعْتَكِفُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِلَا نَصٍّ، وَلَا مَعْنَى نَصٍّ، فَإِنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَادِ فِي بَيْتِهَا لَا يُوجَدُ فِي السُّكْنَى فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ، وَيُفَارِقُ أَهْلَ السُّهْمَانِ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ نَفْعُ الْأَقْرَبِ، وَفِي نَقْلِهَا إلَى أَقْرَبِ مَوْضِعٍ يَجِدُهُ نَفْعُ الْأَقْرَبِ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا] (6394) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا سُكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا، إذَا كَانَتْ حَائِلًا. رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي سُكْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا قَوْلَانِ. وَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] . فَنُسِخَ بَعْضُ الْمُدَّةِ، وَبَقِيَ بَاقِيهَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فُرَيْعَةَ بِالسُّكْنَى فِي بَيْتِهَا، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ لَمْ تَجِبْ السُّكْنَى، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَسْكُنَ إلَّا بِإِذْنِهِمْ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لِلزَّوْجَةِ ثُمْنَ التَّرِكَةَ أَوْ رُبْعَهَا، وَجَعَلَ بَاقِيَهَا لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَالْمَسْكَنُ مِنْ التَّرِكَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَشْبَهْت الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَقُلْنَا: لَهَا السُّكْنَى. فَلِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زَوْجِهَا، فَوَجَبَ لَهَا السُّكْنَى. قِيَاسًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرَيْعَةَ بِالسُّكْنَى، فَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِمَ أَنَّ الْوَارِثَ يَأْذَنُ فِي ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُ الْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى عَلَيْهَا، وَيَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْإِمْكَانِ، وَإِذْنُ الْوَارِثِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْصُلُ الْإِمْكَانُ بِهِ، فَإِذَا قُلْنَا لَهَا السُّكْنَى فَهِيَ أَحَقُّ بِسُكْنَى الْمَسْكَنِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ، مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمُتَوَفَّى، وَلَا يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ بَيْعًا يَمْنَعُهَا السُّكْنَى، فِيهِ حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمَسْكَنُ، فَعَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَكْتَرِيَ لَهَا مَسْكَنًا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ مَسْكَنِهَا إلَّا لِعُذْرِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ اتَّفَقَ الْوَارِثُ وَالْمَرْأَةُ عَلَى نَقْلِهَا عَنْهُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السُّكْنَى يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْعِدَّةِ، وَالْعِدَّةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى إبْطَالِهَا، بِخِلَافِ سُكْنَى النِّكَاحِ؛ فَإِنَّهَا حَقٌّ لَهُمَا؛ وَلِأَنَّ السُّكْنَى هَاهُنَا مِنْ الْإِحْدَادِ، فَلَمْ يَجُزْ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَرْكِهَا، كَسَائِرِ خِصَالِ الْإِحْدَادِ. وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهَا، إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِفَاحِشَةِ مُبَيِّنَةٍ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . وَهِيَ أَنْ تُطَوِّلْ لِسَانَهَا عَلَى أَحْمَائِهَا وَتُؤْذِيهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 بِالسَّبِّ وَنَحْوِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ: هِيَ الزِّنَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . وَإِخْرَاجُهُنَّ هُوَ الْإِخْرَاجُ لِإِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَى، ثُمَّ تُرَدُّ إلَى مَكَانِهَا. وَلَنَا أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ عَنْ السُّكْنَى، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا قَالَاهُ. وَأَمَّا الْفَاحِشَةُ فَهِيَ اسْمٌ لِلزِّنَى وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْفَاحِشَةِ، يُقَال: أَفْحَشَ فُلَانٌ فِي مَقَالِهِ. وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْت لَفُلَانٍ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ» . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُخْرِجُونَهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَسْكَنِ، إلَى مَسْكَنٍ آخَرَ مِنْ الدَّارِ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَجْمَعُهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَجْمَعُهُمْ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَقْلُهَا إلَى غَيْرِهِ فِي الدَّارِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَذَاهَا بِذَلِكَ، فَلَهُمْ نَقْلُهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَنْتَقِلُونَ هُمْ عَنْهَا؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا وَاجِبٌ فِي الْمَكَانِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَيْهِمْ. وَالنَّصُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُخْرَجُ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى مَا خَالَفَهُ؛ وَلِأَنَّ الْفَاحِشَةَ مِنْهَا، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ لَهَا. وَإِنْ كَانَ أَحْمَاؤُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَهَا، وَيُفْحِشُونَ عَلَيْهَا، نُقِلُوا هُمْ دُونَهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ، فَلَا تُخْرَجُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ، وَلِأَنَّ الذَّنْبِ لَهُمْ فَيَخُصُّونَ بِالْإِخْرَاجِ. وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لِغَيْرِ الْمَيِّتِ فَتَبَرَّعَ صَاحِبُهُ بِإِسْكَانِهَا فِيهِ، لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْكِنَهَا إلَّا بِأُجْرَةٍ، وَجَبَ بَذْلُهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِبَذْلِهَا، فَيَلْزَمُهَا الِاعْتِدَادُ بِهِ، فَإِنْ حَوَّلَهَا صَاحِبُ الْمَكَانِ، أَوْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَعَلَى الْوَرَثَةِ إسْكَانُهَا إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ يُسْتَأْجَرُ لَهَا بِهِ مَسْكَنٌ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا يُقَدَّمُ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَإِنْ اخْتَارَتْ النَّقْلَةَ عَنْ هَذَا الْمَسْكَنِ الَّذِي يَنْقُلُونَهَا إلَيْهِ، فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا بِهِ حَقٌّ لَهَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَسْكَنَ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهَا السُّكْنَى بِهِ، هُوَ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ حِينَ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا السُّكْنَى بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَسْكَنُ الَّذِي كَانَتْ بِهِ لِأَبَوَيْهَا، أَوْ لَأَحَدِهِمَا، أَوْ لَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ تَسْكُنُ فِي دَارِهَا فَاخْتَارَتْ الْإِقَامَةَ فِيهَا، وَالسُّكْنَى بِهَا مُتَبَرِّعَةً أَوْ بِأُجْرَةٍ تَأْخُذُهَا مِنْ التَّرِكَةِ، جَازَ، وَيَلْزَمُ الْوَرَثَةَ بَذْلُ الْأُجْرَةِ إذَا طَلَبَتْهَا، وَإِنْ طَلَبَتْ أَنْ تُسْكِنَهَا غَيْرَهَا، وَتَنْتَقِلَ عَنْهَا، فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُؤْجِرَ دَارَهَا وَلَا تُعِيرَهَا، وَعَلَيْهِمْ إسْكَانُهَا. [فَصْلٌ تَطَوَّعَ الْوَرَثَةُ بِإِسْكَانِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا] (6395) فَصْلٌ: فَأَمَّا إذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهَا السُّكْنَى. فَتَطَوَّعَ الْوَرَثَةُ بِإِسْكَانِهَا فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا، أَوْ السُّلْطَانِ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَإِنْ مُنِعَتْ السُّكْنَى بِهِ، أَوْ طَلَبُوا مِنْهَا الْأُجْرَةَ، فَلَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 أَخْرَجَهَا الْمُؤَجِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءٌ قَدَرَتْ عَلَى الْأُجْرَةِ، أَوْ عَجَزَتْ عَنْهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلْزَمُهَا السُّكْنَى لَا تَحْصِيلُ الْمَسْكَنِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْكَنٍ لِزَوْجِهَا، فَأَخْرَجَهَا الْوَرَثَةُ مِنْهُ، وَبَذَلُوا لَهَا مَسْكَنًا آخَرَ، لَمْ تَلْزَمْهَا السُّكْنَى. وَكَذَلِكَ إنْ أُخْرِجَتْ مِنْ الْمَسْكَنِ الَّذِي هِيَ بِهِ، أَوْ خَرَجَتْ لِأَيِّ عَارِضٍ كَانَ، لَمْ تَلْزَمْهَا السُّكْنَى فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ سِوَاهُ، سَوَاءٌ بَذَلَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهَا إنَّمَا يَلْزَمُهَا الِاعْتِدَادُ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، لَا فِي غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا لَهَا السُّكْنَى، فَتَعَذَّرَ سُكْنَاهَا فِي مَسْكَنِهَا وَبُذِلَ لَهَا سِوَاهُ. وَإِنْ طَلَبَتْ مَسْكَنًا سِوَاهُ، لَزِمَ الْوَرَثَةَ تَحْصِيلُهُ، بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، إنْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ تَرِكَةً تَفِي بِذَلِكَ، وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ؛ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ، ضَرَبَتْ بِأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا مُسَاوٍ لِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ، وَتَسْتَأْجِرُ بِمَا يُصِيبُهَا مَوْضِعًا تَسْكُنُهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُطَلَّقَةِ إذَا حُجِرَ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنَّهَا تَضْرِبُ بِأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ لِمُدَّةِ الْعِدَّةِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، إذَا كَانَتْ حَامِلًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قَدَّمْتُمْ حَقَّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ حَقَّهَا ثَبَتَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، فَشَارَكْت الْغُرَمَاءَ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمُفْلِسُ مَالًا لَإِنْسَانٍ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ، وَهِيَ فِي مَسْكَنِهِ، لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَسْكَنِ، قَبْلَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ حَقُّهَا مُقَدَّمًا كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَ هَذَا الْمَسْكَنِ، وَتُتْرَكُ السُّكْنَى لَهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى إذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ مَجْهُولَةٌ، فَتَصِيرُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى نَفْعَهَا مُدَّةً مَجْهُولَةً. وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قِسْمَةَ مَسْكَنِهَا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهَا فِي السُّكْنَى، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادُوا التَّعْلِيمَ بِخُطُوطٍ، مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ وَلَا بِنَاءٍ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِيهِ. (6396) فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ مُدَّةِ عِدَّتِهَا. فَإِنَّهَا تَضْرِبُ بِمُدَّةِ عَادَتِهَا فِي وَضْعِ الْحَمْلِ، إنْ كَانَتْ حَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَقُلْنَا: لَهَا السُّكْنَى. ضَرَبَتْ بِمُدَّةِ عَادَتِهَا فِي الْقُرُوءِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، ضَرَبَتْ بِغَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ، وَهُوَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، لِكُلِّ قُرْءٍ شَهْرٌ، أَوْ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ، إنْ كَانَ قَدْ مَضَى مِنْ مُدَّةِ حَمْلِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ الْقِسْمَةِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَإِذَا ضَرَبَتْ بِذَلِكَ، فَوَافَقَ الصَّوَابَ، فَلَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ، وَتَسْتَأْجِرُ بِمَا يَحْصُلُ لَهَا مَكَانًا تَسْكُنُهُ. وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ، سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءَتْ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ أَقَلَّ مِمَّا ضَرَبَتْ بِهِ، مِثْلَ إنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ تَرَبَّصَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فِي شَهْرَيْنِ، فَعَلَيْهَا رَدُّ الْفَضْلِ وَتَضْرِبُ فِيهِ بِحِصَّتِهَا مِنْهُ. وَإِنْ طَالَتْ الْعِدَّةُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، مِثْلَ ذَلِكَ مِثْلَ إنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا فِي عَامٍ، أَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فِي نِصْفِ عَامٍ، رَجَعَتْ بِذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، كَمَا يَرْجِعُونَ عَلَيْهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 فِي صُورَةِ النَّقْصِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَرْجِعَ بِهِ، وَيَكُونَ فِي ذِمَّةِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّنَا قَدَّرْنَا ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَارًا] (6397) فَصْلٌ: وَلِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَارًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا. لِمَا رَوَى «جَابِرٌ قَالَ طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلَاثًا، فَخَرَجَتْ تَجُذُّ نَخْلَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ، فَنَهَاهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ اُخْرُجِي، فَجُذِّي نَخْلَك، لَعَلَّك أَنْ تَصَّدَّقِي مِنْهُ، أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: «اُسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَتْ نِسَاؤُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْنَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْلِ، أَفَنَبِيتُ عِنْدَ إحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا بَادَرْنَا إلَى بُيُوتِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ، حَتَّى إذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ، فَلْتَؤُبْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إلَى بَيْتِهَا» . وَلَيْسَ لَهَا الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا، وَلَا الْخُرُوجُ لَيْلًا، إلَّا لِضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ الْفَسَادِ، بِخِلَافِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ قَضَاءِ الْحَوَائِج وَالْمَعَاشِ، وَشِرَاءِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا حَقٌّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِهَا، كَالْيَمِينِ وَالْحَدِّ، وَكَانَتْ ذَاتَ خِدْرٍ، بَعَثَ إلَيْهَا الْحَاكِمُ مَنْ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْهَا فِي مَنْزِلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً جَازَ إحْضَارُهَا لِاسْتِيفَائِهِ، فَإِذَا فَرَغَتْ رَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا. (6398) فَصْلٌ: وَالْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِي الْإِحْدَادِ وَالِاعْتِدَادِ فِي الْمَنْزِلِ، إلَّا أَنَّ سُكْنَاهَا فِي الْعِدَّةِ كَسُكْنَاهَا فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا، لِلسَّيِّدِ إمْسَاكُهَا نَهَارًا، وَإِرْسَالُهَا لَيْلًا، فَإِنْ أَرْسَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، اعْتَدَّتْ زَمَانَهَا كُلَّهُ فِي الْمَنْزِلِ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ سُكْنَاهَا فِيهِمَا كَالْحُرَّةِ سَوَاءٌ. (6399) فَصْلٌ: وَالْبَدَوِيَّةُ كَالْحَضَرِيَّةِ فِي الِاعْتِدَادِ فِي مَنْزِلهَا الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهِ، فَإِنْ انْتَقَلْت الْحِلَّةُ، انْتَقَلَتْ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامُ وَحْدَهَا، وَإِنْ انْتَقَلَ غَيْرُ أَهْلِهَا لَزِمَهَا الْمُقَامُ مَعَهُمْ، وَإِنْ انْتَقَلَ أَهْلُهَا انْتَقَلَتْ مَعَهُمْ إلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ الْحِلَّةِ مِنْ لَا تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مَعَهُمْ، فَتَكُونَ مُخَيَّرَةً بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالرَّحِيلِ. وَإِنْ هَرَبَ أَهْلُهَا فَخَافَتْ هَرَبَتْ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَمِنَتْ أَقَامَتْ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مَنْزِلِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 [فَصْلٌ مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ وَامْرَأَتُهُ فِي السَّفِينَةِ وَلَهَا مَسْكَنٌ فِي الْبَرِّ] (6400) فَصْلٌ فَإِنْ: مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ وَامْرَأَتُهُ فِي السَّفِينَةِ، وَلَهَا مَسْكَنٌ فِي الْبَرِّ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُسَافِرَةِ فِي الْبَرِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَسْكَنٌ سِوَاهَا، وَكَانَ فِيهَا بَيْتٌ يُمْكِنُهَا السُّكْنَى فِيهِ، بِحَيْثُ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَمْكَنَهَا الْمُقَامُ فِيهِ، بِحَيْثُ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَعَهَا مَحْرَمُهَا، لَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً وَلَيْسَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا، أَوْ لَا يُمْكِنُهَا الْإِقَامَةُ فِيهَا إلَّا بِحَيْثُ تَخْتَلِطُ بِالرِّجَالِ، لَزِمَهَا الِانْتِقَالُ مِنْهَا إلَى مَوْضِعٍ سِوَاهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا تَتَوَقَّى الطِّيبَ وَالزِّينَةَ] (6401) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، تَتَوَقَّى الطِّيبَ، وَالزِّينَةَ، وَالْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ؛ فَعَنْهُ، يَجِبُ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . وَهَذِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْدَادَ إنَّمَا يَجِبُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ، كَالرَّجْعِيَّةِ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِإِظْهَارِ الْأَسَفِ عَلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا وَمَوْتِهِ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ فَارَقَهَا بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، وَقَطَعَ نِكَاحَهَا، فَلَا مَعْنَى لَتَكْلِيفِهَا الْحُزْنَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدِ، لَحِقَ الزَّوْجَ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَنْفِيه، فَاحْتِيطَ عَلَيْهَا بِالْإِحْدَادِ، لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالْمَيِّتِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنَّ زَوْجَهَا بَاقٍ، فَهُوَ يُحْتَاطُ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ، وَيَنْفِي وَلَدَهَا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بَائِنٌ مِنْ نِكَاحٍ، فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ، كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُحَرِّمُ النِّكَاحَ، فَحَرَّمَتْ دَوَاعِيَهُ. وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الرَّجْعِيَّةُ، فَإِنَّهَا زَوْجَةٌ، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ لَيْسَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ، فَلَمْ تَكْمُلْ الْحُرْمَةُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ تَحْرِيمُ الْإِحْدَادِ عَلَى مَيِّتٍ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْإِحْدَادُ هَاهُنَا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا قُلْنَا يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ، لَزِمَهَا شَيْئَانِ؛ تَوَقِّي الطِّيبِ، وَالزِّينَةِ فِي نَفْسِهَا، عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِيهَا، وَلَا تُمْنَعُ مِنْ النِّقَابِ، وَلَا مِنْ الِاعْتِدَادِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا، وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (6402) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ حَامِلًا، وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 إحْدَاهُمَا، لَا يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُوسٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد. وَالثَّانِيَةُ يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . وَقَالَ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . فَأَوْجَبَ لَهُنَّ السُّكْنَى مُطْلَقًا، ثُمَّ خَصَّ الْحَامِلَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. وَلَنَا مَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، «أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ لَك عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى. فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا عُمَرُ، وَقَالَ مَا كُنَّا لِنَدَعَ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيَّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ. وَقَالَ عُرْوَةُ: لَقَدْ عَابَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَيْبِ،؟ وَقَالَ: إنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَان وَحْشٍ، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا.؟ وَقَالَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النَّاسَ، إنَّهَا كَانَتْ لَسِنَةً، فَوُضِعَتْ عَلَى يَدَيْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى. قُلْنَا: أَمَّا مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ، فَإِنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهَا، قَالَتْ: بَيْنِي وَبَيْنكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ فَكَيْفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 تَقُولُونَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟ فَكَيْفَ تُحْبَسُ امْرَأَةٌ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا. فَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ، قَالَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: لَا نُجِيزُ فِي دِينِنَا قَوْلَ امْرَأَةٍ. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِخَبَرِ فُرَيْعَةَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ، وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَصَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ إلَى خَبَرِ فَاطِمَةَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَنَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرِّجَالِ، وَخِطْبَةِ الرَّجُلِ، عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ سَكَنَتْ إلَى الْأَوَّلِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مِنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَهَا، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهَا تُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ أَعْلَمُ بِحَالِهَا، وَلَمْ يَتَّفِقْ الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رُدَّ عَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهَا، فَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، لَمَّا قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النَّاسَ: لَئِنْ كَانَتْ إنَّمَا أَخَذَتْ بِمَا أَفْتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فَتَنَتْ النَّاسَ، وَإِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةً حَسَنَةً، مَعَ أَنَّهَا أَحْرَمُ النَّاسِ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، وَلَا بَيْنهمَا مِيرَاثٌ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَان وَحْشٍ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: «يَا ابْنَةَ آلِ قَيْسٍ، إنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَا كَانَ لِزَوْجِك عَلَيْك الرَّجْعَةُ» . هَكَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَالْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ التَّأْوِيلِ، مَا احْتَاجَ عُمَرُ فِي رَدِّهِ إلَى أَنْ يَعْتَذِرَ بِأَنَّهُ قَوْلُ امْرَأَةٍ. ثُمَّ فَاطِمَةُ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ، وَهِيَ أَعْرَفُ بِنَفْسِهَا وَبِحَالِهَا، وَقَدْ أَنْكَرَتْ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا، وَرَدَّتْ عَلَى مِنْ رَدَّ خَبَرَهَا، أَوْ تَأَوَّلَهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ قَوْلِهَا؛ لِمَعْرِفَتِهَا بِنَفْسِهَا، وَمُوَافَقَتِهَا ظَاهِرَ الْخَبَرِ، كَمَا فِي سَائِرِ مَا هَذَا سَبِيلُهُ. [فَصْلٌ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَسْكُنُهُ الْمُعْتَدَّةُ فِي الطَّلَاقِ] (6403) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَسْكُنُهُ فِي الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: لَهَا السُّكْنَى. أَوْ لَمْ نَقُلْ، بَلْ يَتَخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْن إقْرَارِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَبَيْنَ نَقْلِهَا إلَى مَسْكَنِ مِثْلِهَا، وَالْمُسْتَحَبُّ إقْرَارُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . وَلِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى، يَرَوْنَ وُجُوبَ الِاعْتِدَادِ عَلَيْهَا فِي مَنْزِلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ يَمْلِكُ الزَّوْجُ سُكْنَاهُ، وَيَصْلُحُ لِمِثْلِهَا، اعْتَدَّتْ فِيهِ، فَإِنْ ضَاقَ عَنْهُمَا، انْتَقَلَ عَنْهَا وَتَرَكَهُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ سُكْنَاهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَإِنْ اتَّسَعَ الْمَوْضِعُ لَهُمَا، وَفِي الدَّارِ مَوْضِعٌ لَهَا مُنْفَرِدٌ كَالْحُجْرَةِ أَوْ عُلْوِ الدَّارِ أَوْ سُفْلِهَا، وَبَيْنهمَا بَابٌ مُغْلَقٌ، سَكَنَتْ فِيهِ، وَسَكَنَ الزَّوْجُ فِي الْبَاقِي، لِأَنَّهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 كَالْحُجْرَتَيْنِ الْمُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا بَابٌ مُغْلَقٌ، لَكِنَّ لَهَا مَوْضِعٌ تَتَسَتَّرُ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا، وَمَعَهَا مَحْرَمٌ تَتَحَفَّظُ بِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ مَعَ الْمُحْرِمِ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ، وَيُكْرَهُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ النَّظَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ لَهُ بِمَحْرَمٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ إسْكَانِهَا، وَكَانَتْ مِمَّنْ لَهَا عَلَيْهِ السُّكْنَى، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَعْدُومًا، رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا، فَهَلْ تَرْجِعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ الْمَسْكَنِ، فَاكْتَرَتْ لِنَفْسِهَا مَوْضِعًا، أَوْ سَكَنَتْ فِي مَوْضِعٍ تَمْلِكُهُ، لَمْ تَرْجِعْ بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا تَبَرَّعَتْ بِذَلِكَ فَلَمْ تَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنَّ عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ إسْكَانِهَا؛ لِعُسْرَتِهِ، أَوْ غَيْبَتِهِ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ؛ سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءَتْ. وَكَذَلِكَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إذَا لَمْ يُسْكِنْهَا وَرَثَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلْزَمُهَا السُّكْنَى فِي مَنْزِلِهِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ، لَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَى الْحَجِّ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ بِالْقُرْبِ] (6404) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا خَرَجَتْ إلَى الْحَجِّ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ بِالْقُرْبِ، رَجَعَتْ لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَبَاعَدَتْ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا شَيْءٌ، أَتَتْ بِهِ فِي مَنْزِلِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ الْوَفَاةِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى الْحَجِّ، وَلَا إلَى غَيْرِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالثَّوْرِيُّ. وَإِنْ خَرَجَتْ، فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي الطَّرِيقِ، رَجَعَتْ إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: تُرَدُّ مَا لَمْ تُحْرِمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَعِيدَةَ لَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِهَا، وَعَلَيْهَا مَشَقَّةٌ، وَلَا لَهَا مِنْ سَفَرٍ وَإِنْ رَجَعَتْ. قَالَ الْقَاضِي: يَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ الْقَرِيبُ بِمَا لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَالْبَعِيدُ مَا تُقْصَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِيهِ أَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْحَضَرِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرَى الْقَصْرَ إلَّا فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَقَالَ: مَتَى كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْكَنِهَا دُونِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَعَلَيْهَا الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ لَزِمَهَا الْمُضِيُّ إلَى مَقْصِدِهَا، وَالِاعْتِدَادُ فِيهِ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَفِي مَوْضِعِهَا الَّذِي هِيَ بِهِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُهَا الْإِقَامَةُ فِيهِ، لَزِمَهَا الْإِقَامَةُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْإِقَامَةُ، مَضَتْ إلَى مَقْصِدِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ فَارَقَتْ الْبُنْيَانَ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الرُّجُوعِ وَالتَّمَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي مَوْضِعٍ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِيهِ، وَهُوَ السَّفَرُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ قَدْ بَعُدَتْ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الرُّجُوعِ إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً، مَا رَوَى سَعِيدٌ، ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ، نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهَا الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلهَا قَبْلَ أَنْ يَبْعُدَ سَفَرُهَا، فَلَزِمَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقْ الْبُنْيَانَ. وَعَلَى أَنَّ الْبَعِيدَةَ لَا يَلْزَمُهَا الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا مَشَقَّةً وَتَحْتَاجُ إلَى سَفَرٍ فِي رُجُوعِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَنْ بَلَغَتْ مَقْصِدَهَا. وَإِنْ اخْتَارَتْ الْبَعِيدَةُ الرُّجُوعَ، فَلَهَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تَصِلُ إلَى مَنْزِلهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَمَتَى كَانَ عَلَيْهَا فِي الرُّجُوعِ خَوْفٌ أَوْ ضَرَرٌ، فَلَهَا الْمُضِيُّ فِي سَفَرِهَا، كَمَا لَوْ بَعُدَتْ، وَمَتَى رَجَعَتْ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، مِنْ عِدَّتِهَا، لَزِمَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا، بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهَا الِاعْتِدَادُ فِيهِ، فَلَزِمَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تُسَافِرْ مِنْهُ. (6405) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهَا حِجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَمَاتَ زَوْجُهَا، لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي مَنْزِلِهَا وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي الْمَنْزِلِ تَفُوتُ، وَلَا بَدَلَ لَهَا، وَالْحَجُّ يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْعَامِ. وَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ إحْرَامِهَا بِحَجِّ الْفَرْضِ، أَوْ بِحَجِّ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِيهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ مُتَّسِعًا، لَا تَخَافُ فَوْتَهُ، وَلَا فَوْتَ الرُّفْقَةِ، لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ خَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ، لَزِمَهَا الْمُضِيُّ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهَا الْمُقَامُ وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُنْشِئَ سَفَرًا، كَمَا لَوْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ اسْتَوَيَا فِي الْوُجُوبِ، وَضِيقِ الْوَقْتِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَسْبَقِ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْعِدَّةُ أَسْبَقَ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَشَقَّةُ بِتَفْوِيتِهِ تَعْظُمُ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ أَنْ بَعُدَ سَفَرُهَا إلَيْهِ. وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَخَشِيَتْ فَوَاتَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ لَهَا الْمُضِيُّ إلَيْهِ؛ لِمَا فِي بَقَائِهَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَلْزَمَهَا الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَسْبَقُ؛ وَلِأَنَّهَا فَرَّطَتْ وَغَلِطَتْ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِذَا قَضَتْ الْعِدَّةَ، وَأَمْكَنَهَا السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ، لَزِمَهَا ذَلِكَ، فَإِنْ أَدْرَكَتْهُ، وَإِلَّا تَحَلَّلَتْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَحُكْمُهَا فِي الْقَضَاءِ حُكْمُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا السَّفَرُ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ، كَاَلَّتِي يَمْنَعُهَا زَوْجُهَا مِنْ السَّفَرِ. وَحُكْمُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ كَذَلِكَ، إذَا خِيفَ فَوَاتُ الرُّفْقَةِ أَوْ لَمْ يُخَفْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 [فَصْلٌ مُعْتَدَّةٌ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا لِلسَّفَرِ لِغَيْرِ النَّقْلَةِ فَخَرَجَتْ ثُمَّ مَاتَ] (6406) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا لِلسَّفَرِ لِغَيْرِ النَّقْلَةِ، فَخَرَجَتْ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ. وَإِذَا مَضَتْ إلَى مَقْصِدِهَا، فَلَهَا الْإِقَامَةُ حَتَّى تَقْضِيَ مَا خَرَجَتْ إلَيْهِ، وَتَنْقَضِيَ حَاجَتُهَا مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا لَنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَدَّرَ لَهَا مُدَّةً، فَإِنَّهَا تُقِيمُ إقَامَةَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثًا، وَإِنْ قَدَّرَ لَهَا مُدَّةً، فَلَهَا إقَامَتُهَا؛ لِأَنَّ سَفَرَهَا بِحُكْمِ إذْنِهِ، فَكَانَ لَهَا إقَامَةُ مَا أَذِنَ لَهَا فِيهِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّتُهَا، أَوْ قَضَتْ حَاجَتَهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهَا الرُّجُوعُ؛ لَخَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَتَمَّتْ الْعِدَّةَ فِي مَكَانِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَهَا الرُّجُوعُ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُهَا الْوُصُولُ إلَى مَنْزِلهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، لَزِمَتْهَا الْإِقَامَةُ فِي مَكَانِهَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ وَهِيَ مُقِيمَةٌ أَوْلَى مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي السَّفَرِ. وَإِنْ كَانَتْ تَصِلُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا شَيْءٌ، لَزِمَهَا الْعَوْدُ؛ لِتَأْتِيَ بِالْعِدَّةِ فِي مَكَانِهَا. (6407) فَصْلٌ: وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ إلَى دَارٍ أُخْرَى، أَوْ بَلَدٍ آخَرَ، فَمَاتَ قَبْلَ انْتِقَالِهَا، لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا بَيْتُهَا، وَسَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ نَقْلِ مَتَاعِهَا أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا مَسْكَنُهَا، مَا لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهُ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْتِقَالِهَا إلَى الثَّانِيَةِ، اعْتَدَّتْ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَسْكَنُهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ نَقَلَتْ مَتَاعَهَا، أَوْ لَمْ تَنْقُلْهُ. وَإِنْ مَاتَ وَهِيَ بَيْنَهُمَا، فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا مَسْكَنَ لَهَا مِنْهُمَا. فَإِنَّ الْأُولَى قَدْ خَرَجَتْ عَنْهَا مُنْتَقِلَةً، فَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا مَسْكَنًا لَهَا، وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَسْكُنْ بِهَا، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهَا الِاعْتِدَادُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمَسْكَنُ الَّذِي أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي السُّكْنَى بِهِ. وَهَذَا يُمْكِنُ فِي الدَّارَيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَا بَلَدَيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهَا الِانْتِقَالُ إلَى الْبَلَدِ الثَّانِي بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ تَنْتَقِلُ لِغَرَضِ زَوْجِهَا فِي صُحْبَتِهَا إيَّاهُ، وَإِقَامَتِهَا مَعَهُ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهَا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَكَلَّفْنَاهَا السَّفَرَ الشَّاقَّ، وَالتَّغَرُّبَ عَنْ وَطَنِهَا وَأَهْلِهَا، وَالْمُقَامَ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمِهَا، وَالْمُخَاطَرَةَ بِنَفْسِهَا، مَعَ فَوَاتِ الْغَرَضِ، وَظَاهِرُ حَالِ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ، لَمَا نَقَلَهَا، فَصَارَتْ الْحَيَاةُ مَشْرُوطَةً فِي النَّقْلَةِ. فَأَمَّا إنْ انْتَقَلَتْ إلَى الثَّانِيَةِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأُولَى لِنَقْلِ مَتَاعِهَا، فَمَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ بِهَا، فَعَلَيْهَا الرُّجُوعُ إلَى الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَسْكَنَهَا بِانْتِقَالِهَا إلَيْهَا، وَإِنَّمَا عَادَتْ إلَى الْأُولَى لَحَاجَةٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَسْكَنِهَا دُونَ مَوْضِعِهَا. وَإِنْ مَاتَ وَهِيَ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَتْ: أَذِنَ لِي زَوْجِي فِي السُّكْنَى بِهَذَا الْمَكَانِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، أَوْ قَالَتْ: إنَّمَا أَذِنَ لِي زَوْجِي فِي الْمَجِيءِ إلَيْهِ، لَا فِي الْإِقَامَةِ بِهِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أُعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَلْزَمُهَا السَّفَرُ عَنْ بَلَدِهَا. فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ مَحْرَمِهَا مُسَافِرًا مَعَهَا، وَالْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ أَهْلِهَا» . أَوْ كَمَا قَالَ. (6408) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَهُوَ نَاءٍ عَنْهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ، إذَا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهَا، وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبْ مَا تَجْتَنِبُهُ الْمُعْتَدَّةُ) هَذَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ مَتَى مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ مَوْتِهِ وَطَلَاقِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَعْلَمُهُ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ، إلَّا مَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَطَاوُسٍ، وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَنَافِعٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَعَنْ. أَحْمَدَ: إنَّ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، فَكَمَا ذَكَرْنَا. وَإِلَّا فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْم يَأْتِيهَا الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ اجْتِنَابُ أَشْيَاءَ، وَمَا اجْتَنَبَتْهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا، فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا غَيْرَ عَالِمَةٍ بِفُرْقَةِ زَوْجِهَا، لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَدَدِ؛ وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ عَقِيبَ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعِدَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْمَجْنُونَةَ تَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَمْ يُعْدَمْ هَاهُنَا إلَّا الْقَصْدُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا اجْتَنَبَتْ مَا تَجْتَنِبُهُ الْمُعْتَدَّاتُ، أَوْ لَمْ تَجْتَنِبُهُ، فَإِنَّ الْإِحْدَادَ الْوَاجِبَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ تَرَكَتْهُ قَصْدًا، أَوْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَقَالَ: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] . وَقَالَ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَفِي اشْتِرَاطِ الْإِحْدَادِ مُخَالَفَةُ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 [كِتَابُ الرَّضَاعِ] ِ الْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ وَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] . ذَكَرهمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، نَذْكُرُ أَكْثَرَهَا إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي تَضَاعِيفِ الْبَابِ. وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَتَحْرِيمَ الْبِنْتِ ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا حُرِّمَتْ الْأُخْتُ فَالْبِنْتُ أُولَى، وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ بِالسُّنَّةِ. وَتَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَلَى التَّحْرِيمِ إذَا كَانَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، فَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْكَامِ النَّسَبِ؛ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنْهُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَإِنَّمَا يُشَبَّه بِهِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِيهِ. [مَسْأَلَةُ الرَّضَاعِ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِي تَحْرِيمِهِ] (6409) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالرَّضَاعُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِي تَحْرِيمِهِ، أَنْ يَكُونَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَصَاعِدًا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَتَانِ: (6410) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، أَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ خَمْسُ رَضَعَاتٍ فَصَاعِدًا. هَذَا الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَزَعَمَ اللَّيْثُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ فِي الْمَهْدِ مَا يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ. وَاحْتَجُّوا بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، «أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، كَتَحْرِيمِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» . وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَتْ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ وَالتَّكْرَارُ، يَعْتَبِرُ فِيهِ الثَّلَاثُ. وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ: لَا يُحَرِّمُ دُونَ عَشْرِ رَضَعَاتٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ عُرْوَةَ رَوَى فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا: «أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، فَيُحَرَّمُ بِلَبَنِهَا» . وَوَجْهُ الْأُولَى، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ " عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ". فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسٌ، وَصَارَ إلَى خَمْسِ رَضَعَاتِ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ: «أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا» وَالْآيَةُ فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ، وَبَيَّنَتْ الرَّضَاعَةَ الْمُحَرِّمَةَ، وَصَرِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ يَخُصُّ مَفْهُومَ مَا رَوَوْهُ، فَنَجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَنَحْمِلُهَا عَلَى الصَّرِيحِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. (6411) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ، أَوْ فِي عَدَدِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ، هَلْ كَمُلَا أَوْ لَا؟ لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَلَا نُزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 (6412) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الرَّضَعَاتُ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الرَّضْعَةِ إلَى الْعُرْفِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَحُدَّهَا بِزَمَنِ وَلَا مِقْدَارٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَدَّهُمْ إلَى الْعُرْفِ، فَإِذَا ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ، وَقَطَعَ قَطْعًا بَيِّنًا بِاخْتِيَارِهِ، كَانَ ذَلِكَ رَضْعَةً، فَإِذَا عَادَ كَانَتْ رَضْعَةً، أُخْرَى. فَأَمَّا إنْ قَطَعَ لِضِيقِ نَفَسٍ، أَوْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ ثَدْيٍ إلَى ثَدْيٍ، أَوْ لَشَيْءٍ يُلْهِيه، أَوْ قَطَعَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ قَرِيبًا فَهِيَ رَضْعَةٌ، وَإِنْ عَادَ فِي الْحَالِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْأُولَى رَضْعَةٌ، فَإِذَا عَادَ فَهِيَ رَضْعَةٌ أُخْرَى. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَمَا تَرَى الصَّبِيَّ يَرْتَضِعُ مِنْ الثَّدْيِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ النَّفَسُ أَمْسَكَ عَنْ الثَّدْيِ لِيَتَنَفَّسَ أَوْ يَسْتَرِيحَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ رَضْعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى رَضْعَةٌ لَوْ لَمْ يَعُدْ، فَكَانَتْ رَضْعَةً وَإِنْ عَادَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ بِاخْتِيَارِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَضْعَةٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا فِيمَا إذَا قَطَعَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَا أَكَلْت الْيَوْمَ إلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً. فَاسْتَدَامَ الْأَكْلَ زَمَنًا، أَوْ قَطَعَ لِشُرْبِ الْمَاءِ أَوْ انْتِقَالٍ مِنْ لَوْنٍ إلَى لَوْنٍ، أَوْ انْتِظَارٍ لِمَا يُحْمَلُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ، لَمْ يُعَدَّ إلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ السَّعُوطِ وَالْوَجُورِ رَضْعَةٌ، فَكَذَا هَذَا. [مَسْأَلَةٌ السَّعُوطُ كَالرَّضَاعِ وَكَذَلِكَ الْوَجُورُ] (6413) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: الشَّافِعِيُّ: (وَالسَّعُوطُ كَالرَّضَاعِ، وَكَذَلِكَ الْوَجُورُ) مَعْنَى السَّعُوطِ: أَنْ يُصَبَّ اللَّبَنَ فِي أَنْفِهِ مِنْ إنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْوَجُورُ: أَنْ يُصَبَّ فِي حَلْقِهِ صَبًّا مِنْ غَيْرِ الثَّدْيِ. وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِذَلِكَ، كَمَا يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْوَجُورِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا التَّحْرِيمُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ دَاوُد وَقَوْلُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ فِي السَّعُوطِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرَضَاعِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ بِالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ ارْتِضَاعٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ مِنْ جُرْحٍ فِي بَدَنَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رَضَاعَ، إلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا يَصِلُ بِهِ اللَّبَنُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ بِالِارْتِضَاعِ، وَيَحْصُلُ بِهِ مِنْ إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الِارْتِضَاعِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْأَنْفُ سَبِيلُ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ. فَكَانَ سَبِيلًا لِلتَّحْرِيمِ، كَالرَّضَاعِ بِالْفَمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 (6414) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ الَّذِي يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ، وَهُوَ خَمْسٌ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَإِنَّهُ فَرْعٌ عَلَى الرَّضَاعِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ، فَإِنْ ارْتَضَعَ وَكَمَّلَ الْخَمْسَ بِسَعُوطٍ أَوْ وَجُورٍ، أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ أُوجِرَ، وَكَمَّلَ الْخَمْسَ بِرَضَاعٍ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَالرَّضَاعِ فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ، فَكَذَلِكَ فِي إكْمَالِ الْعَدَدِ، وَلَوْ حَلَبَتْ فِي إنَاءٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ سَقَتْهُ غُلَامًا فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ، فَهُوَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، فَإِنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ طَعَامٍ خَمْسَ أَكَلَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، لَكَانَ قَدْ أَكَلَ خَمْسَ أَكَلَاتٍ. وَإِنْ حَلَبَتْ فِي إنَاءٍ حَلَبَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ، ثُمَّ سَقَتْهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَ رَضْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا لَوْ جُعِلَ الطَّعَامُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ، ثُمَّ أَكَلَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، كَانَ أَكْلَةً وَاحِدَةً. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ فِي الصُّورَتَيْنِ عَكْسُ مَا قُلْنَا اعْتِبَارًا لِخُرُوجِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالرَّضَاعِ، وَالْوَجُورُ فَرْعُهُ. وَلَنَا أَنَّ، الِاعْتِبَارَ بِشُرْبِ الصَّبِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَرِّمُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ، وَلَوْ ارْتَضَعَ بِحَيْثُ يَصِلُ إلَى فِيهِ، ثُمَّ مَجَّهُ، لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهِ، وَمَا وُجِدَ مِنْهُ إلَّا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَكَانَ رَضْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ سَقَتْهُ فِي أَوْقَاتٍ، فَقَدْ وُجِدَ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ، فَكَانَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَأَمَّا إنْ سَقَتْهُ اللَّبَنَ الْمَجْمُوعَ جَرْعَةً بَعْدَ جَرْعَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِاعْتِبَارِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الرَّضْعَةِ إلَى الْعُرْفِ، وَهُمْ لَا يَعُدُّونَ هَذَا رَضَعَاتٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ الْآكِلُ الطَّعَامَ لُقْمَةً بَعْدَ لُقْمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ أَكَلَاتٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرْجِعَ عَلَى مَا إذَا قَطَعَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ الرَّضَاعَ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا. [فَصْلٌ عَمِلَ اللَّبَنَ جُبْنًا ثُمَّ أَطْعَمَهُ الصَّبِيَّ هَلْ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ] (6415) فَصْلٌ: وَإِنْ عَمِلَ اللَّبَنَ جُبْنًا ثُمَّ أَطْعَمَهُ الصَّبِيَّ، ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحَرَّمُ بِهِ؛ لِزَوَالِ الِاسْمِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِالْوَجُورِ. لَا يَثْبُتُ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلَنَا، أَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ الْحَلْقِ، يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ، فَحَصَلَ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ شَرِبَهُ. (6416) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحُقْنَةُ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ؛ أَنَّهَا لَا تُحَرِّمُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى: تُحَرِّمُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ يَحْصُلُ بِالْوَاصِلِ مِنْهُ الْفِطْرُ، فَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَالرَّضَاعِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرَضَاعِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، فَلَمْ يَنْشُر الْحُرْمَةَ، كَمَا لَوْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَضَاعِ، وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ حُكْمِهِ فِيهِ، وَيُفَارِقُ فِطْرَ الصَّائِمِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ، وَلَا إنْشَازُ الْعَظْمِ، وَهَذَا لَا يُحَرِّمُ فِيهِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ؛ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ اللَّبَنُ إلَى الْبَاطِنِ مِنْ غَيْرِ الْحَلْقِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَلَ مِنْ جُرْحٍ. [مَسْأَلَةٌ الرَّضَاعَةُ بِاللَّبَنِ الْمُخْتَلِطِ بِغَيْرِهِ] (6417) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَاللَّبَنُ الْمَشُوبُ كَالْمَحْضِ) الْمَشُوبُ: الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَالْمَحْضُ: الْخَالِصُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ سِوَاهُ. وَسَوَّى الْخِرَقِيِّ بَيْنهمَا، سَوَاءٌ شِيبَ بِطَعَامِ أَوْ شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ؛ لِأَنَّهُ وَجُورٌ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْغَالِبُ اللَّبَنَ حَرَّمَ، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ، وَلِأَنَّهُ يَزُولُ بِذَلِكَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَزَادُوا، فَقَالُوا: إنْ كَانَتْ النَّارُ قَدْ مَسَّتْ اللَّبَنَ حَتَّى أَنْضَجَتْ الطَّعَامَ، أَوْ حَتَّى تَغَيَّرَ، فَلَيْسَ بِرَضَاعٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ اللَّبَنَ مَتَى كَانَ ظَاهِرًا، فَقَدْ حَصَلَ شُرْبُهُ، وَيَحْصُلُ مِنْهُ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ، فَحَرَّمَ، كَمَا لَوْ كَانَ غَالِبًا، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ صِفَاتُ اللَّبَنِ بَاقِيَةً، فَأَمَّا إنْ صُبَّ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَبَنٍ مَشُوبٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، وَلَا إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَلَا إنْشَازُ الْعَظْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ اللَّبَنِ حَصَلَتْ فِي بَطْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَوْنُهُ ظَاهِرًا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرَضَاعِ، وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِيهِ. (6418) فَصْلٌ: وَإِنْ حُلِبَ مِنْ نِسْوَةٍ، وَسُقِيَهُ الصَّبِيَّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ارْتَضَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شِيبَ بِمَاءٍ أَوْ عَسَلٍ، لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ رَضَاعًا مُحَرِّمًا، فَكَذَلِكَ، إذَا شِيبَ بِلَبَنٍ آخَرَ. [مَسْأَلَةٌ الرَّضَاع بِلَبَنِ الْمَيِّتَةِ] (6419) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُحَرِّمُ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ، كَمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ) الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمِ الْحَرْبِيِّ، أَنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 وَتَوَقَّفَ عَنْهُ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوِلَادَةِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ. كَلَبَنِ الرَّجُلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وُجِدَ الِارْتِضَاعُ، عَلَى وَجْهٍ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ مِنْ امْرَأَةٍ، فَأَثْبَتِ التَّحْرِيمَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً؛ وَلِأَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ شُرْبِهِ فِي حَيَاتِهَا وَمَوْتِهَا إلَّا الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ أَوْ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَمْنَعُ، كَمَا لَوْ حُلِبَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حُلِبَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَشَرِبَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، لَنَشَرَ الْحُرْمَةَ، وَبَقَاؤُهُ فِي ثَدْيِهَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ ثَدْيَهَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِنَاءِ فِي عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ لَا تَزِيدُ عَلَى عَظْمِ الْمَيْتَةِ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ. (6420) فَصْلٌ: وَلَوْ حَلَبَتْ الْمَرْأَةُ لَبَنهَا فِي إنَاءٍ، ثُمَّ مَاتَتْ، فَشَرِبَهُ صَبِيٌّ، نَشَرَ الْحُرْمَةَ. فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ جَعَلَ الْوَجُورَ مُحَرِّمًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي حَيَاتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرِبَهُ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَبَتْ مِمَّنْ يَلْحَقُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِهِ فَثَابَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا] (6421) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حَلَبَتْ مِمَّنْ يَلْحَقُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِهِ، فَثَابَ لَهَا لَبَنٌ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، فِي حَوْلَيْنِ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَبَنَاتُهَا مِنْ أَبِي هَذَا الْحَمْلِ، وَمِنْ غَيْرِهِ، وَبَنَاتُ أَبِي هَذَا الْحَمْلِ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ أَرْضَعَتْ صَبِيَّةً، فَقَدْ صَارَتْ ابْنَةً لَهَا وَلِزَوْجِهَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ الْحَمْلِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَمَلَتْ مِنْ رَجُلٍ وَثَابَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا رَضَاعًا مُحَرِّمًا، صَارَ الطِّفْلُ الْمُرْتَضِعُ ابْنًا لِلْمُرْضِعَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَصَارَ أَيْضًا ابْنًا لِمَنْ يُنْسَبُ الْحَمْلُ إلَيْهِ، فَصَارَ فِي التَّحْرِيمِ وَإِبَاحَةِ الْخَلْوَةِ ابْنًا لَهُمَا، وَأَوْلَادُهُ مِنْ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ أَوْلَادَ أَوْلَادِهِمَا، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَمِنْ غَيْرِهِ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِ الرَّجُلِ الَّذِي انْتَسَبَ الْحَمْلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُرْضِعَةِ وَمِنْ غَيْرِهَا، إخْوَةَ الْمُرْتَضِعِ، وَأَخَوَاتِهِ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهَا أَوْلَادَ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ، وَأُمُّ الْمُرْضِعَةِ جَدَّتَهُ وَأَبُوهَا جَدَّهُ، وَإِخْوَتُهَا أَخْوَالَهُ، وَأَخَوَاتُهَا خَالَاتِهِ، وَأَبُو الرَّجُلِ جَدَّهُ، وَأُمُّهُ جَدَّتَهُ، وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامَهُ، وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتُهُ، وَجَمِيعُ أَقَارِبِهِمَا يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُرْتَضِعِ كَمَا يَنْتَسِبُونَ إلَى وَلَدِهِمَا مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي ثَابَ لِلْمَرْأَةِ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَنَشَرَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِمَا، وَنَشَرَ الْحُرْمَةَ إلَى الرَّجُلِ وَإِلَى أَقَارِبِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى لَبَنَ الْفَحْلِ. وَفِي التَّحْرِيمِ بِهِ اخْتِلَافٌ، ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ، وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ فِيهِ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ «، أَنَّ أَفْلَحَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ. فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ. قَالَ: ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك. قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ بِقَوْلِ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ رَجُلِ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ، فَأَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةً، وَالْأُخْرَى غُلَامًا، هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلَامُ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ: لَا، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ. قَالَ مَالِكٌ: اُخْتُلِفَ قَدِيمًا فِي الرَّضَاعَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَنَزَلَ بِرِجَالِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَزْوَاجِهِمْ؛ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، فَاسْتَفْتَوْا فِي ذَلِكَ، فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِمْ، فَفَارَقُوا زَوْجَاتِهِمْ. فَأَمَّا الْمُرْتَضِعُ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَشِرُ إلَيْهِ وَإِلَى أَوْلَادِهِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلَا تَنْتَشِرُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَلَا إلَى أَعْلَى مِنْهُ، كَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَأَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ نِكَاحُ أَبِي الطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ، وَلَا أَخِيهِ، وَلَا عَمِّهِ، وَلَا خَالِهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا نِكَاحُ أُمِّ الطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ، وَلَا أُخْتِهِ، وَلَا عَمَّتِهِ، وَلَا خَالَتِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ، وَأَوْلَادُ زَوْجِهَا إخْوَةَ الطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ وَأَخَوَاتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، لَيْسَ بَيْنهمَا رَضَاعٌ وَلَا نَسَبٌ، وَإِنَّمَا الرَّضَاعُ بَيْن الْجَارِيَةِ وَأُخْتِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَوْلَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَى عَائِشَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ، إنْ زَادَ شَهْرًا جَازَ، وَرُوِيَ شَهْرَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحَرِّمُ الرَّضَاعُ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . وَلَمْ يُرِدْ بِالْحَمْلِ حَمْلَ الْأَحْشَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَنَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَمْلَ فِي الْفِصَالِ. وَقَالَ زُفَرُ: مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُ سِنِينَ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَرَى رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ تُحَرِّمُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَاللَّيْثِ، وَدَاوُد؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، فَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْت فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِيهِ. فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا. فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ، تَأْمُرُ بَنَاتِ أَخَوَاتِهَا، وَبَنَاتِ إخْوَتِهَا يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا، وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ، وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي، لَعَلَّهَا رُخْصَةٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَالِمٍ دُونَ النَّاسِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُمَا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] . فَجَعَلَ تَمَامَ الرَّضَاعَةِ حَوْلَيْنِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا بَعْدَهُمَا. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» الشَّافِعِيُّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ، إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعِنْدَ هَذَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ خَبَرِ أَبِي حُذَيْفَة عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ لَهُ دُونَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَقَوْلَ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْلِ حَمْلُ الْبَطْنِ. وَبِهِ اسْتَدَلَّ عَلِيٌّ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . فَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لَكَانَ مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْآيَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالِاعْتِبَارُ بِالْعَامَيْنِ لَا بِالْفِطَامِ، فَلَوْ فُطِمَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، ثُمَّ ارْتَضَعَ فِيهِمَا، لَحَصَلَ التَّحْرِيمُ، وَلَوْ لَمْ يُفْطَمْ حَتَّى تَجَاوَزَ الْحَوْلَيْنِ، ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَهُمَا قَبْلَ الْفِطَامِ. لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، صَاحِبُ مَالِكٍ: لَوْ ارْتَضَعَ بَعْدَ الْفِطَامِ فِي الْحَوْلَيْنِ، لَمْ تُحَرِّمْ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» . وَالْفِطَامُ مُعْتَبَرٌ بِمُدَّتِهِ لَا بِنَفْسِهِ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَوْ ارْتَضَعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسَاعَةٍ، لَمْ يُحَرِّمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَوْ شَرَعَ فِي الْخَامِسَةِ، فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ كَمَالِهَا، لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ مِنْ الرَّضْعَةِ فِي الْحَوْلَيْنِ كَافٍ فِي التَّحْرِيمِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْفَصَلَ مِمَّا بَعْدَهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ حُكْمٌ بِإِيصَالِ مَا لَا أَثَرَ لَهُ بِهِ. وَاشْتَرَطَ الْخِرَقِيِّ فِي نَشْرِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الْمُرْتَضِعِ وَبَيْنَ الرَّجُلِ الَّذِي ثَابَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ، أَنْ يَكُونَ لَبَنَ حَمْلٍ يَنْتَسِبُ إلَى الْوَاطِئِ، إمَّا لِكَوْنِ الْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، أَوْ بِشُبْهَةٍ، فَأَمَّا لَبَنُ الزَّانِي أَوْ النَّافِي لِلْوَلَدِ بِاللِّعَانِ، فَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَهُمَا، فِي مَفْهُومِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيز: تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، فَاسْتَوَى فِي ذَلِكَ مُبَاحُهُ وَمَحْظُورُهُ، كَالْوَطْءِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَاطِئَ حَصَلَ مِنْهُ لَبَنٌ وَوَلَدٌ، ثُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 إنَّ الْوَلَدَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاطِئِ، كَذَلِكَ اللَّبَنُ، وَلِأَنَّهُ رَضَاعٌ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إلَى الْمُرْضِعَةِ، فَنَشْرِهَا إلَى الْوَاطِئِ، كَصُورَةِ الْإِجْمَاعِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ التَّحْرِيمَ بَيْنَهُمَا فَرْعٌ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، فَلَمَّا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الْأُبُوَّةِ، لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ فَرْعٌ لَهَا. وَيُفَارِقُ تَحْرِيمَ ابْنَتِهِ مِنْ الزِّنَى؛ لِأَنَّهَا مِنْ نُطْفَتِهِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَيُفَارِقُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ ثَمَّ لَا يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلِهَذَا تَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَابْنَتُهَا مِنْ غَيْرِ نَسَبٍ، وَتَحْرِيمُ الرَّضَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّسَبِ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . فَأَمَّا الْمُرْضِعَةُ، فَإِنَّ الطِّفْلَ الْمُرْتَضِعَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا، وَمَنْسُوبٌ إلَيْهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ جَمِيعُ أَوْلَادِهَا، وَأَقَارِبهَا الَّذِينَ يَحْرُمُونَ عَلَى أَوْلَادِهَا، عَلَى هَذَا الْمُرْتَضِعِ، كَمَا فِي الرَّضَاعِ بِاللَّبَنِ الْمُبَاحِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَضِعُ جَارِيَةً، حَرُمَتْ عَلَى الْمُلَاعِنِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ، فَإِنَّهَا بِنْتُ امْرَأَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَتَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي، عِنْدَ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ بَنَاتُهَا وَبَنَاتُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ الْغِلْمَانِ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً فَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ طِفْلًا] (6422) فَصْلٌ: وَإِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ طِفْلًا، صَارَ ابْنًا لِمَنْ ثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ مِنْهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِالْقَافَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا، صَارَ الْمُرْتَضِعُ ابْنًا لَهُمَا، فَالْمُرْتَضِعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَبَعٌ لِلْمُنَاسِبِ، فَمَتَى لَحِقَ الْمُنَاسِبُ بِشَخْصٍ، فَالْمُرْتَضِعُ مِثْلُهُ، وَإِنْ انْتَفَى الْمُنَاسِبُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَالْمُرْتَضِعُ مِثْلُهُ، لِأَنَّهُ بِلَبَنِهِ ارْتَضَعَ، وَحُرْمَتُهُ فَرْعٌ عَلَى حُرْمَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُمَا؛ لِتَعَذُّرِ الْقَافَةِ، أَوْ لِاشْتِبَاهِهِ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَرُمَ عَلَيْهِمَا، تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَحَدِهِمَا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَقَارِبُهُ دُونَ أَقَارِبِ الْآخَرِ، وَقَدْ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِغَيْرِهَا، فَحَرُمَ الْجَمِيعُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ أُخْتَهُ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّاتِ. وَإِنْ انْتَفَى عَنْهُمَا جَمِيعًا، بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِمَا، أَوْ لِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، أَوْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ أَحَدِهِمَا، أَوْ لِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَطْءِ الْآخَرِ، انْتَفَى الْمُرْتَضِعُ عَنْهُمَا أَيْضًا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَضِعُ جَارِيَةً، حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ، وَيَحْرُمُ أَوْلَادُهَا عَلَيْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ مَوْطُوءَتهمَا، فَهِيَ رَبِيبَةٌ لَهُمَا. [فَصْلٌ ارْتَضَعَ اثْنَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ] (6423) فَصْلٌ: وَلَا تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِغَيْرِ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِحَالٍ، فَلَوْ ارْتَضَعَ اثْنَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ، لَمْ يَصِيرَا أَخَوَيْنِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَوْ ارْتَضَعَا مِنْ رَجُلٍ، لَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 يَصِيرَا أَخَوَيْنِ، وَلَمْ تَنْتَشِرْ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، فِي قَوْل عَامَّتِهِمْ. وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَبَنُ آدَمِيٍّ، أَشْبَهَ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّهُمَا إذَا ارْتَضَعَا مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ، صَارَا أَخَوَيْنِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْأُمُومَةِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْأُخُوَّةِ، لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ فَرْعٌ عَلَى الْأُمُومَةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْأُبُوَّةِ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَمْ يُخْلَقْ لِغِذَاءِ الْمَوْلُودِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَسَائِرِ الطَّعَامِ. فَإِنْ ثَابَ لِخُنْثَى مُشْكِلٍ لَبَنٌ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ امْرَأَةً، فَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مَعَ الشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ:: يَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُ الْخُنْثَى. فَعَلَى قَوْلِهِ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ كَوْنُهُ رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ كَوْنَهُ مُحَرِّمًا. (6424) فَصْلٌ: وَإِنْ ثَابَ لَامْرَأَةٍ لَبَنٌ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا، نَشَرَ الْحُرْمَةَ، فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَكُلِّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] . وَلِأَنَّهُ لَبَنُ امْرَأَةٍ فَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ ثَابَ بِوَطْءٍ، وَلِأَنَّ أَلْبَانَ النِّسَاءِ خُلِقَتْ لِغِذَاءِ الْأَطْفَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا نَادِرًا، فَجِنْسُهُ مُعْتَادٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ، لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ لِتَغْذِيَةِ الْأَطْفَالِ، فَأَشْبَهَ لَبَنَ الرِّجَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [فَصْلٌ لَرَجُلٍ خَمْسُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ لَهُ مِنْهُنَّ لَبَنٌ فَارْتَضَعَ طِفْلٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً] (6425) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لَرَجُلٍ خَمْسُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ، لَهُ مِنْهُنَّ لَبَنٌ، فَارْتَضَعَ طِفْلٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً، لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتٍ لَهُ، وَصَارَ الْمَوْلَى أَبًا لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا تَثْبُتُ الْأُبُوَّةُ؛ لِأَنَّهُ رَضَاعٌ لَمْ يُثْبِتْ الْأُمُومَةَ، فَلَمْ يُثْبِتْ الْأُبُوَّةَ، كَالِارْتِضَاعِ بِلَبَنِ الرَّجُلِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِكَوْنِهِ رَضَعَ مِنْ لَبَنِهِ، لَا لِكَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمًّا لَهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَإِذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ الْأُبُوَّةِ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَاتُ؛ لِأَنَّهُ رَبِيبُهُنَّ، وَهُنَّ مَوْطُوءَاتُ أَبِيهِ. وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُ بَنَاتٍ، فَأَرْضَعْنَ طِفْلًا، كُلُّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةً، لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتٍ لَهُ. وَهَلْ يَصِيرُ الرَّجُلُ جَدًّا لَهُ، وَأَوْلَادُهُ أَخْوَالًا لَهُ وَخَالَاتٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: يَصِيرُ جَدًّا، وَأَخُوهُنَّ خَالًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَمَّلَ لِلْمُرْتَضِعِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ أَوْ أَخَوَاتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مِنْ وَاحِدَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 وَالْآخَرُ: لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ جَدًّا فَرْعُ كَوْنِ ابْنَتِهِ أُمًّا، وَكَوْنَهُ خَالًا فَرْعُ كَوْنِ أُخْتِهِ أُمًّا، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ الْفَرْعُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَرَجَّحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعِيَّةَ مُتَحَقِّقَةٌ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ أَخُوهُنَّ خَالًا. لَمْ تَثْبُتْ الْخُئُولَةُ فِي حَقِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ لَبَنِ أَخَوَاتِهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ مِنْ اللَّبَنِ الْمُحَرِّمِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ. وَلَوْ كَمَّلَ لِلطِّفْلِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ وَزَوْجَتِهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةٌ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. (6426) فَصْلٌ: إذَا كَانَ لِامْرَأَةٍ لَبَنٌ مِنْ زَوْجٍ، فَأَرْضَعَتْ طِفْلًا ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ، وَانْقَطَعَ لَبَنُهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَصَارَ لَهَا مِنْهُ لَبَنٌ، فَأَرْضَعَتْ مِنْهُ الصَّبِيَّ رَضْعَتَيْنِ، صَارَتْ أُمًّا لَهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْسَ مُحَرِّمَاتٌ، وَلَمْ يَصِرْ وَاحِدٌ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ عَدَدَ الرَّضَاعِ مِنْ لَبَنِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ؛ لِكَوْنِهِ رَبِيبَهَا، لَا لِكَوْنِهِ وَلَدَهُمَا. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَهِيَ تُرْضِعُ مِنْ لَبَنِ وَلَدِهِ] (6427) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، وَهِيَ تُرْضِعُ مِنْ لَبَنِ وَلَدِهِ، فَتَزَوَّجَتْ بِصَبِيٍّ مُرْضِعٍ، فَأَرْضَعَتْهُ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ، وَدَخَلَ بِهَا وَوَطِئَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ لَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ الَّذِي تَزَوَّجَتْ بِهِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَضِعَ يَصِيرُ ابْنًا لِلرَّجُلِ الَّذِي ثَابَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ. فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمَّا تَزَوَّجَتْ صَبِيًّا، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ مُطَلِّقِهَا، صَارَ ابْنًا لِمُطَلِّقِهَا فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا أُمُّهُ، وَبَانَتْ مِنْهُ، وَكَانَتْ زَوْجَةً لَهُ، فَصَارَتْ زَوْجَةً لِابْنِ مُطَلِّقِهَا، فَحَرُمَتْ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِكَوْنِهَا صَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَوَجَدَتْ بِهِ عَيْبًا، فَفَسَخَتْ نِكَاحَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كَبِيرًا، فَصَارَ لَهَا مِنْهُ لَبَنٌ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ الصَّبِيَّ خَمْسَ رَضَعَات، حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ حَلَائِل أَبْنَائِهِ. وَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ أَمَتَهُ بِصَبِيٍّ مَمْلُوكٍ، فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ سَيِّدِهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وَحَرُمَتْ عَلَى سَيِّدِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ حَلَائِل أَبْنَائِهِ. فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ حُرًّا، لَمْ يُتَصَوَّرْ هَذَا الْفَرْعُ، لَمْ يَصِحَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 نِكَاحُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْحُرِّ الْأَمَةَ، خَوْفَ الْعَنَتِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الطِّفْلِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَى سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ فِي الْحَقِيقَةِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَلَهَا مِنْهُ لَبَنٌ فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ] (6428) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَلَهَا مِنْهُ لَبَنٌ فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدهَا، أَنْ يَبْقَى لَبَنُ الْأَوَّلِ بِحَالِهِ، لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، سَوَاءٌ حَمَلَتْ مِنْ الثَّانِي أَوْ لَمْ تَحْمِلْ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ كَانَ لِلْأَوَّلِ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مَا يَجْعَلُهُ مِنْ الثَّانِي، فَبَقِيَ لِلْأَوَّلِ. الثَّانِي: أَنْ لَا تَحْمِلَ مِنْ الثَّانِي، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، سَوَاءٌ زَادَ أَوْ لَمْ يَزِدْ، أَوْ انْقَطَعَ ثُمَّ عَادَ، أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ. الثَّالِثُ: أَنْ تَلِدَ مِنْ الثَّانِي، فَاللَّبَنُ لَهُ خَاصَّةً. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، سَوَاءٌ زَادَ أَوْ لَمْ يَزِدْ، انْقَطَعَ أَوْ اتَّصَلَ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْأَوَّلِ يَنْقَطِعُ بِالْوِلَادَةِ مِنْ الثَّانِي، فَإِنَّ حَاجَةَ الْمَوْلُودِ إلَى اللَّبَنِ تَمْنَعُ كَوْنَهُ لِغَيْرِهِ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُ الْأَوَّلِ بَاقِيًا، وَزَادَ بِالْحَمْلِ مِنْ الثَّانِي، فَاللَّبَنُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْأَوَّلِ، مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَمْلُ إلَى حَالٍ يَنْزِلُ مِنْهُ اللَّبَنُ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ بَلَغَ إلَى حَالٍ يَنْزِلُ بِهِ اللَّبَنُ، فَزَادَ بِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هُوَ لِلْأَوَّلِ. وَالثَّانِي، هُوَ لَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ زِيَادَتَهُ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَمْلِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا مِنْهُ، وَبَقَاءُ لَبَنِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي كَوْنَ أَصْلِهِ مِنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْهُمَا. الْحَالُ الْخَامِسُ: انْقَطَعَ مِنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ ثَابَ بِالْحَمْلِ مِنْ الثَّانِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مِنْهُمَا. وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ إذَا انْتَهَى الْحَمْلُ إلَى حَالٍ يَنْزِلُ بِهِ اللَّبَنُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّبَنَ كَانَ لِلْأَوَّلِ، فَلَمَّا عَادَ بِحُدُوثِ الْحَمْلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَبَنَ الْأَوَّلِ ثَابَ بِسَبَبِ الْحَمْلِ الثَّانِي، فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْأَوَّلِ انْقَطَعَ، فَزَالَ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِهِ، وَحَدَثَ بِالْحَمْلِ مِنْ الثَّانِي، فَكَانَ لَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ مِنْ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْأَوَّلِ، مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِي؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَقْتَضِي اللَّبَنَ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَلَدِ عِنْدَ وُجُودِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ قَدْ سَبَقَ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا] (6429) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَةً، فَلَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ حَتَّى أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فِي الْحَوْلَيْنِ، حَرُمَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 عَلَيْهِ الْكَبِيرَةُ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْكَبِيرَةِ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ: (6430) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَةً، فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَسَدَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ فِي الْحَالِ، وَحَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ ثَابِتٌ، وَتُنْزَعُ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، فَتَحْرُمُ أَبَدًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] . وَلَمْ يَشْتَرِطْ دُخُولَهُ بِهَا، فَأَمَّا الصَّغِيرَةُ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، نِكَاحُهَا ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا، فَلَا تَحْرُمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا، وَاجْتَمَعَتَا فِي نِكَاحِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَرَّمٌ، فَانْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، كَمَا لَوْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ، وَكَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الرَّضَاعِ عَقْدًا وَاحِدًا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَمْعِ بِانْفِسَاخِ نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ، وَهِيَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا مُحَرَّمٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُمَا بِهِ، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ عَلَى أُخْتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ طَرَأَ عَلَى نِكَاحِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، فَاخْتَصَّ الْفَسْخُ بِنِكَاحِ الْأُمِّ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ امْرَأَةٌ وَبِنْتُهَا. وَفَارَقَ الْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِالْفَسْخِ مِنْ الْأُخْرَى، وَفَارَقَ مَا لَوْ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ. (6431) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَتَا جَمِيعًا عَلَى الْأَبَدِ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَالصَّغِيرَةَ رَبِيبَةٌ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا، فَتَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَإِنْ كَانَ الرَّضَاعُ بِلَبَنِهِ، صَارَتْ الصَّغِيرَةُ بِنْتًا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ؛ لِكَوْنِهَا بِنْتَه، وَرَبِيبَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِأُمِّهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 (6432) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا انْفَسَخَ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا، وَالْفَسْخُ إذَا جَاءَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ كَانَ كَطَلَاقِ الزَّوْجِ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا، فَسَقَطَ صَدَاقُهَا، كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ بِدُخُولِهِ بِهَا اسْتِقْرَارًا لَا يُسْقِطُهُ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِرِدَّتِهَا وَلَا بِغَيْرِهَا. (6433) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ صَدَاقِ الصَّغِيرَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ صَدَاقِهَا؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ الْبُضْعَ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ أَرَادَتْ الْفَسَادَ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ، وَإِلَّا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. وَلَنَا أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ، أَنَّهَا قَرَّرَتْهُ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمَتْهُ إيَّاهُ، وَأَتْلَفَتْ عَلَيْهِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهَا الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ. وَلَنَا، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ مَا ضَمِنَ فِي الْعَمْدِ ضَمِنَ فِي الْخَطَأِ، كَالْمَالِ، وَلِأَنَّهَا أَفْسَدَتْ نِكَاحَهُ، وَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَلَزِمَهَا ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ قَصَدَتْ الْإِفْسَادَ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ، أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَغْرَمْ إلَّا النِّصْفَ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا غَرِمَ، وَلِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ يُرْجَعُ إلَيْهِ بَدَلُ النِّصْفِ الْآخَرِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ بَدَلُ مَا أَخَذَ بَدَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا ضَمِنَتْ الْمُرْضِعَةُ هَاهُنَا لَمَّا أَلْزَمَتْ الزَّوْجَ مَا كَانَ مُعَرَّضًا لِلسُّقُوطِ بِسَبَبٍ يُوجَدُ مِنْ الزَّوْجَةِ، فَلَمْ يَرْجِعْ هَاهُنَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَلْزَمَتْهُ. فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى، لَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، وَاَلَّذِي غَرِمَ نِصْفُ مَا فَرَضَ لَهَا، فَرَجَعَ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مُتْلَفٍ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِقِيمَتِهِ، دُونَ مَا مَلَكَهُ بِهِ، كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ. وَلَنَا، أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، أَوْ ارْتَدَّتْ، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِإِرْضَاعِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ هَاهُنَا بِمَا غَرِمَ، فَلَا يَرْجِعُ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ، لَرَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ لَمْ يَخْتَصَّ بِالنِّصْفِ، وَلِأَنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا لَزِمَهُمْ نِصْفُ الْمُسَمَّى، كَذَا هَاهُنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 [فَصْلٌ كُلُّ امْرَأَةٍ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا إذَا أَرْضَعَتْ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَفْسَدَتْ نِكَاحَهُ] (6435) فَصْلٌ: وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا إذَا أَرْضَعَتْ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ، أَفْسَدَتْ نِكَاحَهُ، وَحَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ، وَلَزِمَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ، صَارَتْ أُخْتَهُ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا جَدَّتُهُ، صَارَتْ عَمَّتَهُ أَوْ خَالَتَهُ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا بِنْتُهُ، صَارَتْ بِنْتَ بِنْتِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ، صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِهِ وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَحْرُمُ بِنْتُ زَوْجِهَا عَلَيْهِ، إذَا أَرْضَعَتْهَا بِلَبَنِ زَوْجِهَا، حَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا نِصْفُ مَهْرِهَا، كَامْرَأَةِ ابْنِهِ، وَامْرَأَةِ أَبِيهِ، وَامْرَأَةِ أَخِيهِ، وَامْرَأَةِ جَدِّهِ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ بِلَبَنِهِ، صَارَتْ أُخْتَهُ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ ابْنِهِ، صَارَتْ بِنْتَ ابْنِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَخِيهِ، صَارَتْ بِنْتَ أَخِيهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ جَدِّهِ بِلَبَنِهِ، صَارَتْ عَمَّتَهُ أَوْ خَالَتَهُ. وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَحَدِ هَؤُلَاءِ بِلَبَنِ غَيْرِهِ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَبِيبَةَ زَوْجِهَا. وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا مَنْ لَا تُحَرَّمُ بِنْتُهَا، كَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ، لَمْ تُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ، فَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا أَحَدَهُمَا صَغِيرًا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعَتْ الزَّوْجَ صَارَ عَمَّ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ أَرْضَعْت الزَّوْجَةَ صَارَتْ عَمَّةً، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا جَمِيعًا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّ الْآخَرِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَمَّتِهِ، فَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا أَحَدَهُمَا صَغِيرًا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعْت الزَّوْجَ صَارَ خَالًا لَهَا، وَإِنْ أَرْضَعْت الزَّوْجَةَ صَارَتْ عَمَّتَهُ. وَإِنْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ خَالِهِ، فَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا الزَّوْجَ صَارَ عَمَّ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا صَارَتْ خَالَتَهُ. وَإِنْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ خَالَتِهِ، فَأَرْضَعَتْ جَدَّتُهُمَا الزَّوْجَ صَارَ خَالَ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا صَارَتْ خَالَةَ زَوْجِهَا. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَأَرْضَعَتْ صَغِيرَةً] (6436) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَأَرْضَعَتْ صَغِيرَةً بِلَبَنِهِ، صَارَتْ بِنْتًا لَهُ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا بِلَبَنِ غَيْرِهِ صَارَتْ رَبِيبَةً، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَتْ الصَّغِيرَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ تَحْرُمْ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا. وَإِنْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ، حَرُمَتْ الْمُرْضِعَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَةً، ثُمَّ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ، فَأَرْضَعَتْهَا الْكَبِيرَةُ، حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَهُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا مَهْرُهَا، وَتَحْرُمُ هِيَ وَالصَّغِيرَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَإِنْ طَلَّقَ الْكَبِيرَةَ وَحْدَهَا قَبْلَ الرَّضَاعِ، فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، ثَبَتَ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، حَرُمَتْ الصَّغِيرَةُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بِنِصْفِ صَدَاقِهَا. وَإِنْ طَلَّقَهُمَا جَمِيعًا فَالْحُكْمُ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا مَضَى. وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ كَبِيرَةً، وَآخَرُ صَغِيرَةً، ثُمَّ طَلَّقَاهُمَا، وَنَكَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَةَ الْآخَرِ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ، حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا الْكَبِيرَةُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَإِنْ كَانَ زَوْجُ الصَّغِيرَةِ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 (6437) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرْضَعَتْ بِنْتُ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ، فَالْحُكْمُ فِي التَّحْرِيمِ وَالْفَسْخِ حُكْمُ مَا لَوْ أَرْضَعَتْهَا الْكَبِيرَةُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جَدَّتَهَا، وَالرُّجُوعُ بِالصَّدَاقِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الَّتِي أَفْسَدَتْ النِّكَاحَ. وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا أُمُّ الْكَبِيرَةِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَرْجِعَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِنِصْفِ صَدَاقِهِمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، فَلَهُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أُخْتَهَا، فَلَا يَنْكِحُهَا فِي عِدَّتِهَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ أَرْضَعَتْهَا جَدَّةُ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ عَمَّةَ الْكَبِيرَةِ أَوْ خَالَتَهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَرَّمٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهَا أَوْ زَوْجَةُ أَخِيهَا بِلَبَنِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِ الْكَبِيرَةِ أَوْ بِنْتَ أَخِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرْضَعَتْهَا بِنْتُ أَخِيهَا أَوْ بِنْتُ أُخْتِهَا. وَلَا يَحْرُمُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ، إلَّا إذَا أَرْضَعَتْهَا بِنْتُ الْكَبِيرَةِ وَقَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا. [فَصْلٌ أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ بِالرَّضَاعِ قَبْلَ الدُّخُولِ] (6438) فَصْلٌ: وَمَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ بِالرَّضَاعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، غَرِمَ نِصْفَ صَدَاقِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ كُلِّهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ كُلَّهُ عَلَى زَوْجِهَا، فَيَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ، كَنِصْفِ الْمَهْرِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَرِّرْ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا، وَلَمْ تُلْزِمْهُ إيَّاهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الرُّجُوعَ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَسَقَطَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُفْسِدَةَ لِلنِّكَاحِ، كَالنِّصْفِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا رَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا قَرَّرَتْهُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَسْقُطُ إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُفْسِدَةَ لِنِكَاحِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَاهُنَا. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ بِبَدَلِ الْبُضْعِ الَّذِي فَوَّتَتْهُ، أَوْ بِالْمَهْرِ الَّذِي أَدَّاهُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِبَدَلِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بَدَلُهُ، لَوَجَبَ لَهُ عَلَى الزَّوْجَةِ إذَا فَاتَ بِفِعْلِهَا أَوْ بِقَتْلِهَا، وَلَكَانَ الْوَاجِبُ لَهُ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ بَدَلُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهَا لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا مَا أَوْجَبَتْهُ، وَلَا لَهَا أَثَرٌ فِي إيجَابِهِ وَلَا أَدَائِهِ وَلَا تَقْرِيرِهِ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي أَنَّهَا إذَا أَفْسَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ إنْ كَانَ أَدَّاهُ إلَيْهَا، وَلَا فِي أَنَّهَا إذَا أَفْسَدَتْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ يَسْقُطُ صَدَاقُهَا، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا، فَلَوْ دَبَّتْ صَغِيرَةٌ إلَى كَبِيرَةٍ، فَارْتَضَعَتْ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَهِيَ نَائِمَةٌ، وَهُمَا زَوْجَتَا رَجُلٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 انْفَسَخَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ، وَحَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَتْ الصَّغِيرَةُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَلَا مَهْرَ لِلصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسَخَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا، وَعَلَيْهِ مَهْرُ الْكَبِيرَةِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ، عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَدَاقِهَا، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَالِ الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسَخَتْ نِكَاحَهَا. وَإِنْ ارْتَضَعَتْ الصَّغِيرَةُ مِنْهَا رَضْعَتَيْنِ، وَهِيَ نَائِمَةٌ، ثُمَّ انْتَبَهْت الْكَبِيرَةُ، فَأَتَمَّتْ لَهَا ثَلَاثَ رَضَعَات، فَقَدْ حَصَلَ الْفَسَادُ {بِفِعْلِهِمَا، فَيَتَقَسَّطُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا، وَعَلَيْهِ مَهْرُ الْكَبِيرَةِ، وَثَلَاثَةُ أَعْشَارِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، فَعَلَيْهِ خُمْسُ مَهْرِهَا، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الصَّغِيرَةِ. وَهَلْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ أَفْسَدَ النِّكَاحَ جَمَاعَةٌ] (6439) فَصْلٌ: وَإِنْ أَفْسَدَ النِّكَاحَ جَمَاعَةٌ، تُقَسَّطْ الْمَهْرُ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ جَاءَ خَمْسٌ فَسَقَيْنَ زَوْجَةً صَغِيرَةً مِنْ لَبَنِ أُمِّ الزَّوْجِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَلَزِمَهُنَّ نِصْفُ مَهْرِهَا بَيْنَهُنَّ. فَإِنْ سَقَتْهَا وَاحِدَةٌ شَرْبَتَيْنِ، وَأُخْرَى ثَلَاثًا، فَعَلَى الْأُولَى الْخُمْسُ، وَعَلَى الثَّانِيَة خُمْسٌ وَعُشْرٌ. وَإِنْ سَقَتْهَا وَاحِدَةٌ شَرْبَتَيْنِ، وَسَقَاهَا ثَلَاثٌ ثَلَاثَ شَرَبَاتٍ، فَعَلَى الْأُولَى الْخُمْسُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ عُشْرٌ. وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ كِبَارٌ، وَوَاحِدَةٌ صَغِيرَةٌ، فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ الصَّغِيرَةَ أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ حَلَبْنَ فِي إنَاءٍ، وَسَقَيْنَهُ الصَّغِيرَةَ، حَرُمَ الْكِبَارُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ، فَنِكَاحُ الصَّغِيرَةِ ثَابِتٌ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثُلُثُ صَدَاقِهَا، تَرْجِعُ بِهِ عَلَى ضَرَّتَيْهَا؛ لِأَنَّ فَسَادَ نِكَاحِهَا حَصَلَ بِفِعْلِهَا وَفِعْلِهِمَا، فَسَقَطَ مَا قَابَلَ فَعَلَهَا، وَهُوَ سُدُسُ الصَّدَاقِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ الثُّلُثُ، فَرَجَعَ بِهِ عَلَى ضَرَّتَيْهَا، فَإِنْ كَانَ صَدَاقُهُنَّ مُتَسَاوِيًا، سَقَطَ، وَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَاصُّ مَا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، بِمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَجِبَ لَهَا عَلَيْهِ مَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا، وَهُوَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، تَقَاصَّا مِنْهُ بِقَدْرِ أَقَلِّهِمَا، وَوَجَبَتْ الْفَضْلَةُ بِهِ لِصَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَاسٍ، ثَبَتَ التَّرَاجُعُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِإِحْدَى الْكِبَارِ، حُرِّمَتْ الصَّغِيرَةُ أَيْضًا، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَوَجَبَ لَهَا نِصْفُ صَدَاقِهَا، تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِنَّ أَثْلَاثًا، وَلِلَّتِي دَخَلَ بِهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، وَفِي الرُّجُوعِ بِهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ حَلَبْنَ فِي إنَاءٍ، فَسَقَتْهُ إحْدَاهُنَّ الصَّغِيرَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، كَانَ صَدَاقُ ضَرَّاتِهَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا، إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهِنَّ؛ لِأَنَّهَا أَفْسَدَتْ نِكَاحَهُنَّ، وَيَسْقُطُ مَهْرُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا مَهْرُهَا، وَلَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكِبَارِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، حَرُمَ الثَّلَاثُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ، فَلَا مَهْرَ لَهُنَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرُهَا، لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَتَحْرُمُ الصَّغِيرَةُ، وَيَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ صَدَاقِهَا عَلَى الْمُرْضِعَة الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا الَّتِي حَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ، وَفَسَخَتْ نِكَاحَهَا. وَلَوْ أَرْضَعَ الثَّلَاثُ الصَّغِيرَةَ بِلَبَنِ الزَّوْجِ، فَأَرْضَعَتْهَا كُلُّ وَاحِدَةٍ رَضْعَتَيْنِ، صَارَتْ بِنْتًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 لِزَوْجِهَا، فِي الصَّحِيحِ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ صَدَاقِهَا عَلَيْهِنَّ، عَلَى الْمُرْضِعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَعَلَى الثَّالِثَةِ خُمْسُهُ؛ لِأَنَّ رَضْعَتَهَا الْأُولَى حَصَلَ بِهَا التَّحْرِيمُ، لِكَمَالِ الْخَمْسِ بِهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي التَّحْرِيمِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا بِهَا شَيْءٌ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَكَابِرِ، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتٍ لَهَا. وَلَوْ كَانَ لِامْرَأَتِهِ الْكَبِيرَةِ خَمْسُ بَنَاتٍ، لَهُنًّ لَبَنٌ، فَأَرْضَعْنَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ رَضَاعًا تَصِيرُ بِهِ إحْدَاهُنَّ أُمًّا لَهَا، لَحَرُمَتْ أُمُّهَا، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَهَلْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الصَّغِيرَةَ رَضْعَةً، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تَحْرُمُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا جَدَّةً يَنْبَنِي عَلَى كَوْنِ ابْنَتِهَا أُمًّا، وَمَا صَارَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِهَا أُمًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَحْرُمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَمُلَ لَهَا مِنْ بَنَاتِهَا خَمْسُ رَضَعَاتٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِنْتُهَا رَضْعَةً، وَبِنْتُ ابْنِهَا رَضْعَةً، وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ. وَلَوْ كَمُلَ لَهَا مِنْ زَوْجَتِهِ بِلَبَنِهِ وَمِنْ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ وَابْنَةِ ابْنِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ أَصَحُّهُمَا، لَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُهَا. وَفِي الْآخَرِ، يَثْبُتُ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِنَّ بِمَا غَرِمَ مِنْ صَدَاقِهَا، عَلَى قَدْرِ رَضَاعِهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِنَّ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ؛ لِكَوْنِ الرَّضَاعِ مُفْسِدًا، فَيَسْتَوِي قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَمَا لَوْ طَرَحَ النَّجَاسَةَ جَمَاعَةٌ فِي مَائِعٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، فَكَانَ الضَّمَانُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَدَدِ، بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّ التَّنْجِيسَ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَدْرٍ، فَيَسْتَوِي قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؛ لِكَوْنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً فِي الْإِفْسَادِ، فَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَشْرَبَ فِي الرَّضْعَةِ مِنْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَشْرَبُ مِنْ الْأُخْرَى. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ أَمَةً فَأَرْضَعَتْ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ] (6440) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أَمَةٌ، فَأَرْضَعَتْ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ، فَحَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ، وَفَسَخَتْ نِكَاحَهَا، كَانَ مَا لَزِمَهُ مِنْ صَدَاقِ الصَّغِيرَةِ لَهُ فِي رَقَبَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنَايَتِهَا. وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا أُمُّ وَلَدِهِ، أَفْسَدَتْ نِكَاحَهَا، وَحَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ دَخَلَ بِأُمِّهَا، وَتَحْرُمُ أُمُّ الْوَلَدِ عَلَيْهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَلَا غَرَامَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَفْسَدَتْ عَلَى سَيِّدِهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ كَاتَبَهَا، رَجَعَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ يَلْزَمُهَا أَرْشُ جِنَايَتِهَا. وَإِنْ أَرْضَعَتْ أُمُّ وَلَدِهِ امْرَأَةَ ابْنِهِ بِلَبَنِهِ، فَسَخَتْ نِكَاحَهَا وَحَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ. وَإِنْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةَ أَبِيهِ بِلَبَنِهِ، حَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ ابْنِهِ، وَيَرْجِعُ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا غَرِمَهُ لِزَوْجَتِهِ أَوْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنَايَةِ أُمِّ وَلَدِهِ. وَإِنْ أَرْضَعَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِغَيْرِ لَبَنِ سَيِّدِهَا، لَمْ تُحَرِّمْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَارَتْ بِنْتَ أُمِّ وَلَدِهِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِكَبِيرَةٍ وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَتَيْنِ] (6441) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَ بِكَبِيرَةٍ وَصَغِيرَتَيْنِ، فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَتَيْنِ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْكَبِيرَةُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الصَّغِيرَتَيْنِ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ لِلْكَبِيرَةِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ صَدَاقِ الصَّغِيرَتَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا) أَمَّا تَحْرِيمُ الْكَبِيرَةِ فَلِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا انْفِسَاخُ نِكَاحِ الصَّغِيرَتَيْنِ، فَلِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ، وَاجْتَمَعَتَا فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا، كَمَا لَوْ ارْتَضَعَتَا مَعًا، وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ صَدَاقِ الصَّغِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا أَفْسَدَتْ نِكَاحَهُمَا، وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ انْفِسَاخَ نِكَاحِهِمَا لِلْجَمْعِ، وَلَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا: إنَّهَا إذَا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ، اخْتَصَّ الْفَسْخُ بِالْكَبِيرَةِ. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا مَعًا. فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْأَخِيرَةِ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى، انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى، فَلَمْ تَجْتَمِعْ مَعَهُمَا فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَتْ، وَحَرُمَتْ الصَّغِيرَتَانِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّهُمَا رَبِيبَتَانِ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهِمَا. (6442) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَتَيْنِ أَجْنَبِيَّةٌ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَخِيرَة وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْبُطْلَانِ حَصَلَ بِهَا، وَهُوَ الْجَمْعُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ الْأُخْرَى. وَلَنَا، أَنَّهُ جَامِعٌ بَيْن الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، فَانْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا، وَفَارَقَ مَا لَوْ عَقَدَ عَلَى وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْأُخْرَى، فَإِنَّ عَقْدَ الثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ، فَلَمْ يَصِرْ بِهِ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَهَاهُنَا حَصَلَ الْجَمْعُ بِرَضَاعِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، فَحَصَلَتَا مَعًا فِي نِكَاحِهِ، وَهُمَا أُخْتَانِ لَا مَحَالَةَ. (6443) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا بِنْتُ الْكَبِيرَةِ، فَالْحُكْمُ فِي الْفَسْخِ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهُنَّ الْكَبِيرَةُ نَفْسُهَا؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ تَصِيرُ جَدَّةً لَهُمَا، وَلَكِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْمُفْسِدَةِ لِنِكَاحِهِنَّ. [مَسْأَلَةٌ أَرْضَعَتْ امْرَأَتُهُ الْكَبِيرَةُ زَوْجَاتِهِ الثَّلَاثَةِ مُنْفَرِدَاتٍ] (6444) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كُنَّ الْأَصَاغِرُ ثَلَاثًا، فَأَرْضَعَتْهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ، حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْمُرْتَضِعَتَيْنِ أَوَّلًا، وَثَبَتَ نِكَاحُ آخِرِهِنَّ رَضَاعًا. فَإِنْ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُنَّ مُنْفَرِدَةً، وَاثْنَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعًا، حَرُمَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 الْكَبِيرَةُ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَصَاغِرِ، وَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَصَاغِرِ. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَ الْكُلُّ عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ) إنَّمَا حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْمُرْضِعَتَيْنِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فِي نِكَاحِهِ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ رَضَاعَهَا بَعْدَ انْفِسَاخِ نِكَاحِ الصَّغِيرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، فَلَمْ يُصَادِفْ إخْوَتُهَا جَمْعًا فِي النِّكَاحِ. وَإِنْ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُنَّ مُنْفَرِدَةً، وَاثْنَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعًا، بِأَنْ تُلْقِمَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَدْيًا، فَيَمْتَصَّانِ مَعًا، أَوْ تَحْلُبَ مِنْ لَبَنِهَا فِي إنَاءٍ فَتَسْقِيَهُمَا، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ فِي نِكَاحِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَصَاغِرِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ جَمْعٍ، لَا تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ، فَإِنَّهُنَّ رَبَائِبُ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهِنَّ. وَإِنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَ الْكُلُّ عَلَى الْأَبَدِ؛ لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ مَدْخُولٌ بِأُمِّهِنَّ. هَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَعَلَى الْأُخْرَى، لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا وَنِكَاحُ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّهَا، وَاجْتَمَعَتَا فِي نِكَاحِهِ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهَا مُنْفَرِدَةٌ بِالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ،، فَلَمَّا أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ، صَارَتَا أُخْتَيْنِ، فَانْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا. (6445) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ بِنْتُ الْكَبِيرَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهُنَّ أُمُّهَا. وَإِنْ كَانَ لَهَا ثَلَاثُ بَنَاتٍ، فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ زَوْجَةً مِنْ الْأَصَاغِرِ، حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ بِإِرْضَاعِ أُولَاهُنَّ، وَيَرْجِعُ عَلَى مُرْضِعَتِهَا بِمَا لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّهَا أَفْسَدَتْ نِكَاحَهَا، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَصَاغِرِ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَصِرْنَ أَخَوَاتٍ، وَإِنَّمَا هُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى؛ لِاجْتِمَاعِهَا مَعَ جَدَّتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِ الَّتِي فَسَدَ نِكَاحُهَا عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، حَرُمَ الْكُلُّ عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ، وَرَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْكَبِيرَةِ. رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا الَّتِي أَفْسَدَتْ نِكَاحَهَا. [مَسْأَلَةٌ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ] (6446) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ، حَرُمَ النِّكَاحُ إذَا كَانَتْ مُرْضِيَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنْ كَانَتْ مُرْضِيَةً اُسْتُحْلِفَتْ، فَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ حَتَّى تَبْيَضَّ ثَدْيَاهَا، وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مَقْبُولَةٌ فِي الرَّضَاعِ، إذَا كَانَتْ مُرْضِيَةً. وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٌ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَسَعِيدُ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَكْمَلُ مِنْ النِّسَاءِ؛ وَلَا يُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، فَالنِّسَاءُ أَوْلَى. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مَقْبُولَةٌ، وَتُسْتَحْلَفُ مَعَ شَهَادَتِهَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ، فِي امْرَأَةٍ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ رَجُلًا وَأَهْلَهُ، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ مُرْضِيَةً، اُسْتُحْلِفَتْ، وَفَارَقَ امْرَأَتَهُ. وَقَالَ: إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْيَضَّ ثَدْيَاهَا. يَعْنِي يُصِيبُهَا فِيهَا بَرَصٌ، عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهَا. وَهَذَا لَا يَقْتَضِيه قِيَاسٌ، وَلَا يَهْتَدِي إلَيْهِ رَأْيٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ مِنْ النِّسَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ كَرَجُلِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: «تَزَوَّجْت أُمُّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَكَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ، قَالَ: «فَأَتَيْته مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْت: إنَّهَا كَاذِبَةٌ. قَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، خَلِّ سَبِيلَهَا» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِ أَبْيَاتٍ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ فِي الرَّضَاعِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَرَّقَ عُثْمَانُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ، بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ فِي الرَّضَاعِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَتْ الْقُضَاةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّضَاعِ. وَلِأَنَّ هَذَا شَهَادَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ، فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ، كَالْوِلَادَةِ. وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ، بِأَنَّهُ مَعْنًى يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَالْخَبَرِ. [فَصْلٌ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا] (6447) فَصْلٌ: وَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ، مِنْ أَنَّ الْأَمَةَ السَّوْدَاءَ قَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَقَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَتَهَا. وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَحْصُلُ لَهَا بِهِ نَفْعٌ مَقْصُودٌ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا بِهِ ضَرَرًا، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهَا بِهِ، كَفِعْلِ غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهَا تَسْتَبِيحُ الْخَلْوَةَ بِهِ، وَالسَّفَرَ مَعَهُ، وَتَصِيرُ مَحْرَمًا لَهُ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْمَقْصُودَةِ، الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، وَأَعْتَقَ أَمَتَهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُمَا نِكَاحُهُمَا بِذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 [فَصْلٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ] (6448) فَصْلٌ: وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ إلَّا مُفَسَّرَةً، فَلَوْ قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ابْنُ هَذِهِ مِنْ الرَّضَاعِ. لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ الرَّضَاعَ الْمُحَرَّمَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ بِالْقَلِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَزِمَ الشَّاهِدَ تَبْيِينُ كَيْفِيَّتِهِ، لِيَحْكُمَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، فَيَحْتَاجُ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ مِنْ ثَدْيِ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ إلَى جَوْفِهِ، فِي الْحَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: خُلُوصُ اللَّبَنِ إلَى جَوْفِهِ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مُشَاهَدَتِهِ، فَكَيْفَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ؟ قُلْنَا: إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ ذَاتُ لَبَنٍ، وَرَأْي الصَّبِيَّ قَدْ الْتَقَمَ ثَدْيَهَا، وَحَرَّكَ فَمَه فِي الِامْتِصَاصِ، وَحَلْقَهُ فِي الِاجْتِرَاعِ، حَصَلَ ظَنٌّ يَقْرُبُ إلَى الْيَقِينِ أَنَّ اللَّبَنَ قَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ، وَمَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالْمُشَاهَدَةِ، اُكْتُفِيَ فِيهِ بِالظَّاهِرِ، كَالشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ، وَثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَدْخَلَ رَأْسَهُ تَحْتَ ثِيَابِهَا، وَالْتَقَمَ ثَدْيَهَا. لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُدْخِلُ رَأْسَهُ وَلَا يَأْخُذُ الثَّدْيَ، وَقَدْ يَأْخُذُ الثَّدْيَ وَلَا يَمُصُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَرْضَعَتْ هَذَا. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. اُكْتُفِيَ بِقَوْلِهَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ قَالَ قَبْلَ الدُّخُولِ هِيَ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعَةِ] (6449) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ الدُّخُولِ: هِيَ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. انْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَقَرَّ أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ: وَهَمَّتْ، أَوْ أَخْطَأَتْ. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ، وَلَوْ جَحَدَ النِّكَاحَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ، قُبِلَ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعَ، أَوْ أَقَرَّ أَنَّ أَمَتَهُ أُخْتُهُ مِنْ النَّسَبِ، وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَقَوْلُهُ كَذِبٌ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ حَقِيقَةُ الرَّضَاعِ، لَا الْقَوْلُ. وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، لَمْ تَزُلْ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ. وَقِيلَ فِي حِلِّهَا لَهُ إذَا عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ رِوَايَتَانِ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَذِبًا، لَمْ يُثْبِتْ التَّحْرِيمَ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ: هِيَ ابْنَتِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ مِنْ أَصْلِهِ، لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةِ، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهَا فِي إسْقَاطِ حُقُوقِهَا، فَلَزِمَهُ إقْرَارُهُ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لَهُ، وَهُوَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَفَسْخُ نِكَاحِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ. (6450) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: هِيَ عَمَّتِي، أَوْ خَالَتِي أَوْ ابْنَةُ أَخِي أَوْ أُخْتِي أَوْ أُمِّيِّ مِنْ الرَّضَاعِ. وَأَمْكَنَ صِدْقُهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ: هِيَ أُخْتِي. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِدْقُهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِأَصْغَرِ مِنْهُ أَوْ لِمِثْلِهِ: هَذِهِ أُمِّيِّ. أَوْ لِأَكْبَرِ مِنْهُ أَوْ لِمِثْلِهِ: هَذِهِ ابْنَتِي. لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا تَحَقَّقَ كَذِبُهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَرْضَعَتْنِي وَإِيَّاهَا حَوَّاءُ. أَوْ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ حَوَّاءُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِهَذِهِ الصُّوَرِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا أَمْكَنَ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ كَذِبُهُ، وَالْحُكْمُ فِي الْإِقْرَارِ بِقَرَابَةٍ مِنْ النَّسَبِ تُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ، كَالْحُكْمِ فِي الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. [فَصْلٌ ادَّعَى أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَأَنْكَرَتْهُ فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ أُمُّهُ أَوْ ابْنَتُهُ] فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَأَنْكَرَتْهُ، فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ أُمُّهُ أَوْ ابْنَتُهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدَةِ لِوَلَدِهَا وَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَإِنْ شَهِدَتْ بِذَلِكَ أُمُّهَا أَوْ ابْنَتُهَا، قُبِلَتْ. وَعَنْهُ، لَا يُقْبَلُ؛ بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ وَالْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ. وَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ ادَّعَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ، وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ، فَشَهِدَتْ لَهَا أُمُّهَا أَوْ ابْنَتُهَا، لَمْ تُقْبَلْ، وَإِنْ شَهِدَتْ لَهَا أُمُّ الزَّوْجِ أَوْ ابْنَتُهُ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. (6452) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: هُوَ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. فَأَكْذَبَهَا، وَلَمْ تَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا وَصَفَتْ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي الْحُكْمِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَقَرَّتْ أَنَّ زَوْجَهَا أَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَأَكْذَبَهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تُقِرُّ بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّهُ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ، لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَخْذُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَأَقَرَّتْ أَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهَا أُخْتُهُ وَبِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَمُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْوَطْءِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَيْضًا، لِإِقْرَارِهَا بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةِ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عَلِمَتْ صِحَّةَ مَا أَقَرَّتْ بِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهَا مُسَاكَنَتُهُ وَتَمْكِينُهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تَفِرَّ مِنْهُ، وَتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا بِمَا أَمْكَنَهَا؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ لَهَا زِنًى، فَعَلَيْهَا التَّخَلُّصُ مِنْهُ مَهْمَا أَمْكَنَهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَجَحَدَهَا ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي وُجُوبِ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ مَهْرَ الْمِثْلِ، لَمْ تَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِاعْتِرَافِهَا بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لَهُ بِوَطْئِهَا لَا بِالْعَقْدِ، فَلَا تَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهَا بِأُخُوَّتِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ لَهَا نِكَاحُهُ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهَا عَنْ إقْرَارِهَا، فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا لَمْ يُصَادِفْ زَوْجِيَّةً عَلَيْهَا يُبْطِلُهَا، فَقُبِلَ إقْرَارُهَا عَلَى نَفْسِهَا بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذِهِ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِرِضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَمْكَنَ صِدْقُهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَزَوُّجُهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَنِي عَلَى عِلْمِهِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. (6453) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخُو صَاحِبِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، فَأَنْكَرَ، لَمْ يُقْبَلْ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ، فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ نَفْسه. [فَصْلٌ الِارْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْفُجُورِ وَالْمُشْرِكَاتِ] (6454) فَصْلٌ: كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الِارْتِضَاعَ بِلَبَنِ الْفُجُورِ وَالْمُشْرِكَاتِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: اللَّبَنُ يُشْتَبَهُ، فَلَا تَسْتَقِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ وَلَا زَانِيَةٍ. وَلَا يَقْبَلُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمُسْلِمَةَ، وَلَا يَرَى شُعُورَهُنَّ وَلِأَنَّ لَبَنَ الْفَاجِرَةِ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى شَبَهِ الْمُرْضِعَةِ فِي الْفُجُورِ، وَيَجْعَلُهَا أُمًّا لِوَلَدِهِ، فَيَعْتَبِرُ بِهَا، وَيَتَضَرَّرُ طَبْعًا وَتَعَيُّرًا، وَالِارْتِضَاعُ مِنْ الْمُشْرِكَةِ يَجْعَلُهَا أُمًّا، لَهَا حُرْمَةُ الْأُمِّ مَعَ شِرْكِهَا، وَرُبَّمَا مَالَ إلَيْهَا فِي مَحَبَّةِ دِينهَا. وَيُكْرَهُ الِارْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْحَمْقَاءِ، كَيْلًا يُشْبِهَهَا الْوَلَدُ فِي الْحُمْقِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ الرَّضَاعَ يُغَيِّرُ الطِّبَاعَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 [كِتَابُ النَّفَقَاتِ] ِ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّه تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] . وَمَعْنَى: (قُدِرَ عَلَيْهِ) أَيْ: ضُيِّقَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] . أَيْ: يُوَسِّعُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاء. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ، وَقَالَ: «أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلَا يُوَطِّئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. «وَجَاءَتْ هِنْدٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي. فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِكِفَايَتِهَا، وَأَنَّ نَفَقَةَ وَلَدِهِ عَلَيْهِ دُونَهَا مُقَدَّرٌ بِكِفَايَتِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْر عِلْمِهِ إذَا لَمْ يُعْطِهَا إيَّاهُ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَات عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، إذَا كَانُوا بَالِغِينَ، إلَّا النَّاشِزَ مِنْهُنَّ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُ. وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْعِبْرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، يَمْنَعُهَا مِنْ التَّصَرُّفِ وَالِاكْتِسَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، كَالْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ. [مَسْأَلَةٌ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ] (6455) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ، مَا لَا غِنَاءَ بِهَا عَنْهُ، وَكِسْوَتُهَا) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ، عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، فَلَهَا عَلَيْهِ جَمِيعُ حَاجَتِهَا؛ مِنْ مَأْكُولٍ، وَمَشْرُوبٍ، وَمَلْبُوسٍ، وَمَسْكَنٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَنَفَقَتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا؛ فَإِنْ كَانَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 مُوسِرَيْنِ، فَعَلَيْهِ لَهَا نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرِينَ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ، فَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، أَيُّهُمَا كَانَ الْمُوسِرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يُعْتَبَرُ حَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وَالْمَعْرُوفُ الْكِفَايَةُ، وَلِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَالْكِسْوَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهَا، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . فَاعْتَبَرَ كِفَايَتَهَا دُونَ حَالِ زَوْجِهَا، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ لِدَفْعِ حَاجَتِهَا، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهَا، دُونَ حَالِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، كَنَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُقَدَّرْ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهَا، كَمَهْرِهَا وَكِسْوَتِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] . وَلَنَا، أَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَعَمَلًا بِكِلَا النَّصَّيْنِ، وَرِعَايَةً لِكِلَا الْجَانِبَيْنِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. [فَصْلٌ مِقْدَارُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ] (6456) فَصْلٌ: وَالنَّفَقَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فِي مِقْدَارِهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْوَاجِبُ رِطْلَانِ مِنْ الْخُبْزِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فِي حَقِّ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، اعْتِبَارًا بِالْكَفَّارَاتِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَتِهِ وَجَوْدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ وَالْمُعْسِرُ سَوَاءٌ فِي قَدْرِ الْمَأْكُولِ، وَفِيمَا تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي جَوْدَتِهِ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: نَفَقَةُ الْمُقْتِرِ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُدْفَعُ فِي الْكَفَّارَةِ إلَى الْوَاحِدِ مُدٌّ. وَاَللَّه سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ الْكَفَّارَةَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ، فَقَالَ سُبْحَانه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَعَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْوَاحِدِ مُدَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، نِصْفُ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ، وَنِصْفُ نَفَقَةِ الْفَقِيرِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . فَأَمَرَهَا بِأَخْذِ مَا يَكْفِيهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَرَدَّ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إلَيْهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمُدَّيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ عَنْهُمَا وَلَا يَنْقُصُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَإِيجَابُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 أَقَلِّ مِنْ الْكِفَايَةِ مِنْ الرِّزْقِ تَرْكٌ لِلْمَعْرُوفِ، وَإِيجَابُ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ أَوْ مِنْ رِطْلَيْ خُبْزٍ، إنْفَاقٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَاعْتِبَارُ النَّفَقَةِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْقَدْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بِهَا فِي الْجِنْسِ دُونَ الْقَدْرِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهَا الْأُدْمُ. [فَصْلٌ لَا يَجِبُ فِي النَّفَقَةِ الْحَبُّ] (6457) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ فِيهَا الْحَبُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ فِيهَا الْحَبُّ، اعْتِبَارًا بِالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَيْهَا دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا أَوْ خُبْزًا، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمِسْكِينَ فِي الْكَفَّارَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ تَرَاضَيَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ حِنْطَةٍ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . قَالَ: الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالتَّمْرُ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَهُنَّ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ. فَفَسَّرَ إطْعَامَ الْأَهْلِ بِالْخُبْزِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُدْمِ. وَلِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْإِنْفَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَدَّ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ إنَّمَا يَتَعَارَفُونَ فِيمَا بَيْنهمْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَهْلَيْهِمْ الْخُبْزَ وَالْأُدْمَ، دُونَ الْحَبِّ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتُهُ إنَّمَا كَانُوا يُنْفِقُونَ ذَلِكَ، دُونَ مَا ذَكَرُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَلِأَنَّهَا نَفَقَةٌ قَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْكِفَايَةِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ الْخُبْزَ، كَنَفَقَةِ الْعَبِيدِ، وَلِأَنَّ الْحَبَّ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ، فَمَتَى احْتَاجَتْ إلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا لَمْ تَحْصُلْ الْكِفَايَةُ بِنَفَقَتِهِ، وَفَارَقَ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقَدَّرُ بِالْكِفَايَةِ، وَلَا يَجِبُ فِيهَا الْأُدْمُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَبَتْ مَكَانَ الْخُبْزِ دَرَاهِمَ، أَوْ حَبًّا، أَوْ دَقِيقًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ، وَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهَا بَدَلَ الْوَاجِبِ لَهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى قَبُولِهِ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَجَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، كَالطَّعَامِ فِي الْقَرْضِ، وَيُفَارِقُ الطَّعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هُوَ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَيَرْضَى بِالْعِوَضِ عَنْهُ. وَإِنْ أَعْطَاهَا مَكَانَ الْخُبْزِ حَبًّا، أَوْ دَقِيقًا، جَازَ إذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَيِّنْ الْوَاجِبَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْكِفَايَةِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْخُبْزِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، لِتَرَجُّحِهِ بِكَوْنِهِ الْقُوتَ الْمُعْتَادَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 [فَصْلٌ تَقْدِيرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا] (6458) فَصْلٌ: وَيُرْجَعُ فِي تَقْدِيرِ الْوَاجِبِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، أَوْ نَائِبِهِ، إنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ، فَيَفْرِضُ لِلْمَرْأَةِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا مِنْ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ، فَيَفْرِضُ لِلْمُوسِرَةِ تَحْتَ الْمُوسِرِ قَدْرَ حَاجَتِهَا، مِنْ أَرْفَعِ خُبْزِ الْبَلَدِ الَّذِي يَأْكُلهُ أَمْثَالُهُمَا، وَلِلْمُعْسِرَةِ تَحْتَ الْمُعْسِرِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا، مِنْ أَدْنَى خُبْزِ الْبَلَدِ، وَلِلْمُتَوَسِّطَةِ تَحْتَ الْمُتَوَسِّطِ مِنْ أَوْسَطِهِ، لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي حَقِّ أَمْثَالِهِ. وَكَذَلِكَ الْأُدْمُ لِلْمُوسِرَةِ تَحْتَ الْمُوسِرِ قَدْرَ حَاجَتِهَا مِنْ أَرْفَعِ الْأُدْمِ، مِنْ اللَّحْمِ وَالْأُرْزِ وَاللَّبَنِ، وَمَا يُطْبَخُ بِهِ اللَّحْمُ، وَالدُّهْنُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فِي بُلْدَانِهِ؛ السَّمْنُ فِي مَوْضِعٍ، وَالزَّيْتُ فِي آخَرَ، وَالشَّحْمُ، وَالشَّيْرَجُ فِي آخَرَ. وَلِلْمُعْسِرَةِ تَحْتَ الْمُعْسِرِ مِنْ الْأُدْمِ أَدْوَنُهُ، كَالْبَاقِلَّا، وَالْخَلِّ، وَالْبَقْلِ، وَالْكَامَخِ، وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدُّهْنِ، وَلِلْمُتَوَسِّطَةِ تَحْتَ الْمُتَوَسِّطِ أَوْسَطِ ذَلِكَ، مِنْ الْخُبْزِ، وَالْأُدْمِ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِ قُوتِ الْبَلْدَةِ، لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ سِوَى الْمِقْدَارِ. وَالْأُدْمُ هُوَ الدُّهْنُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْأَبْدَانِ، وَأَجْوَدُ فِي الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَبْخٍ وَكُلْفَةٍ، وَيُعْتَبَرُ الْأُدْمُ بِغَالِبِ عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ، كَالزَّيْتِ بِالشَّامِ، وَالشَّيْرَجِ بِالْعِرَاقِ، وَالسَّمْنِ بِخُرَاسَانَ. وَيُعْتَبَرُ قَدْرُ الْأُدْمِ بِالْقُوتِ، فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرِّطْلَ تَكْفِيه الْأُوقِيَّةُ مِنْ الدُّهْنِ. فَرَضَ ذَلِكَ. وَفِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ رِطْلُ لَحْمٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَرْخُصُ اللَّحْمُ، زَادَهَا عَلَى الرِّطْلِ شَيْئًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْأُدْمِ مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَمَتَى أَنْفَقَ الْمُوسِرُ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ، فَمَا أَنْفَقَ مِنْ سَعَتِهِ، وَلَا رَزَقَهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقْدِيرُ الْأُدْمِ بِمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَخِلَافُ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ بَيْنَ النَّاسِ فِي إنْفَاقِهِمْ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ رَدِّ النَّفَقَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرْعِ إلَى الْعُرْفِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي نَفَقَاتِهِمْ، فِي حَقِّ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ، كَمَا رَدَدْنَاهُمْ فِي الْكِسْوَةِ إلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ مُؤْنَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَاخْتَلَفَ جِنْسُهَا بِالْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ، كَالْكِسْوَةِ. (6459) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ حُكْمُ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَ بِأَحْسَنِ حَالًا مِنْهُ. وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، إنْ كَانَ مُوسِرًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَوَسِّطِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ، نِصْفُهُ مُوسِرٌ، وَنِصْفُهُ مُعْسِرٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 [فَصْل يَجِبُ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُشْطِ وَالدُّهْنِ لِرَأْسِهَا وَالسِّدْرِ] (6460) فَصْل: وَيَجِبُ لِلْمَرْأَةِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، مِنْ الْمُشْطِ، وَالدُّهْنِ لِرَأْسِهَا، وَالسِّدْرِ، أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَغْسِلُ بِهِ رَأْسَهَا، وَمَا يَعُودُ بِنَظَافَتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَنْسَ الدَّارِ وَتَنْظِيفَهَا. فَأَمَّا الْخِضَابُ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الزَّوْجُ مِنْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلزِّينَةِ، وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْهَا، فَهُوَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الطِّيبُ، فَمَا يُرَادُ مِنْهُ لِقَطْعِ السُّهُولَةِ، كَدَوَاءِ الْعَرَقِ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّطَيُّبِ، وَمَا يُرَادُ مِنْهُ لِلتَّلَذُّذِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَدْعُوهُ إلَيْهِ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاءُ الْأَدْوِيَةِ، وَلَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِإِصْلَاحِ الْجِسْمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ بِنَاءُ مَا يَقَعُ مِنْ الدَّارِ، وَحِفْظُ أُصُولِهَا، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَجَّامِ وَالْفَاصِدِ. (6461) فَصْلٌ: وَتَجِبُ عَلَيْهِ كِسْوَتُهَا، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّهَا لَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَزِمَتْهُ، كَالنَّفَقَةِ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَتِهَا، وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ، كَمَا قُلْنَا فِي النَّفَقَةِ، وَوَافَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ لَهَا عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا، عَلَى قَدْرِ يُسْرِهِمَا وَعُسْرِهِمَا، وَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمَا بِهِ، مِنْ الْكِسْوَةِ، فَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ، كَنَحْوِ اجْتِهَادِهِ فِي الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ، وَكَمَا قُلْنَا فِي النَّفَقَةِ، فَيَفْرِضُ لِلْمُوسِرَةِ تَحْتَ الْمُوسِرِ مِنْ أَرْفَعَ ثِيَابِ الْبَلَدِ، مِنْ الْكَتَّانِ وَالْخَزِّ وَالْإِبْرَيْسَمِ، وَلِلْمُعْسِرَةِ تَحْتَ الْمُعْسِرِ، غَلِيظُ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَلِلْمُتَوَسِّطَةِ تَحْتَ الْمُتَوَسِّطِ، مِنْ ذَلِكَ، فَأَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ قَمِيصٌ، وَسَرَاوِيلُ، وَمُقَنَّعَة، وَمَدَاسٌ، وَجُبَّةٌ لِلشِّتَاءِ، وَيَزِيدُ مِنْ عَدَدِ الثِّيَابِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ، مِمَّا لَا غِنَى عَنْهُ، دُونَ مَا لِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ هِيَ الْكِسْوَةُ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهَا بِلُبْسِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» (6462) فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ لَهَا مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلنَّوْمِ، مِنْ الْفِرَاشِ وَاللِّحَافِ وَالْوِسَادَةِ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 عَادَتُهُ النَّوْمُ فِي الْأَكْسِيَةِ وَالْبِسَاطِ، فَعَلَيْهِ لَهَا لِنَوْمِهَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِهِ، وَلِجُلُوسِهَا بِالنَّهَارِ الْبِسَاطُ، وَالزُّلِّي، وَالْحَصِيرُ الرَّفِيعُ أَوْ الْخَشِنُ، الْمُوسِرُ عَلَى حَسَبِ يَسَارِهِ، وَالْمُعْسِرُ عَلَى قَدْرِ إعْسَارِهِ، عَلَى حَسَبِ الْعَوَائِدِ. فَصْلٌ: وَيَجِبُ لَهَا مَسْكَنٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] . فَإِذَا وَجَبَتْ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ، فَلِلَّتِي فِي صُلْبِ النِّكَاحِ أَوْلَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وَمِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَسْكَنٍ، وَلِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الْمَسْكَنِ لِلِاسْتِتَارِ عَنْ الْعُيُونِ، وَفِي التَّصَرُّفِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَحِفْظِ الْمَتَاعِ، وَيَكُونُ الْمَسْكَنُ عَلَى قَدْرِ يَسَارِهِمَا وَإِعْسَارِهِمَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] . وَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهَا لِمَصْلَحَتِهَا فِي الدَّوَامِ، فَجَرَى مَجْرَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. [فَصْل كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا تَخْدِمُ نَفْسَهَا هَلْ يَجِبُ لَهَا خَادِمٌ] (6464) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا تَخْدِمُ نَفْسَهَا؛ لِكَوْنِهَا مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ، أَوْ مَرِيضَةً، وَجَبَ لَهَا خَادِمٌ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وَمِنْ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، أَنْ يُقِيمَ لَهَا خَادِمًا، وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الدَّوَامِ، فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ. وَلَا يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ خِدْمَتُهَا فِي نَفْسِهَا، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِلْمَرْأَةِ إلَّا أَكْثَرُ مِنْ خَادِمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَنَحْوَهُ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا احْتَمَلَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، فَرَضَ لِخَادِمَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ يَكْفِيهَا لِنَفْسِهَا، وَالزِّيَادَةُ تُرَادُ لِحِفْظِ مِلْكِهَا، أَوْ لِلتَّجَمُّلِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَكُونُ الْخَادِمُ إلَّا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا، إمَّا امْرَأَةٌ، وَإِمَّا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٌ؛ لِأَنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَسْلَمُ مِنْ النَّظَرِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ مِنْهُمَا جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَهُمْ مُبَاحٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الصَّحِيحَ إبَاحَةُ النَّظَرِ لَهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي إبَاحَةِ نَظَرِهِمْ اخْتِلَافًا، وَتَعَافُهُمْ النَّفْسُ، وَلَا يَتَنَظَّفُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أَنْ يُمَلِّكَهَا خَادِمًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْخِدْمَةُ، فَإِذَا حَصَلَتْ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ، جَازَ كَمَا أَنَّهُ إذَا أُسْكَنْهَا دَارًا بِأُجْرَةِ جَازَ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَمْلِيكُهَا مَسْكَنًا، فَإِنْ مَلَّكَهَا الْخَادِمَ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ أَخْدَمَهَا مَنْ يُلَازِمُ خِدْمَتهَا مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ، جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ لَهَا، فَرَضِيَتْ بِخِدْمَتِهِ لَهَا، وَنَفَقَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ، جَازَ. وَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَجْرَ خَادِمِهَا فَوَافَقَهَا، جَازَ. ` وَإِنْ قَالَ: لَا أُعْطِيك أَجْرَ هَذَا، وَلَكِنْ أَنَا آتِيك بِخَادِمٍ سِوَاهُ. فَلَهُ ذَلِكَ إذَا أَتَاهَا بِمَنْ يَصْلُحُ لَهَا. وَإِنْ قَالَتْ: أَنَا أَخْدِمُ نَفْسِي، وَآخُذُ أَجْرَ الْخَادِمِ. لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ قَبُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، فَتَعْيِينُ الْخَادِمِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي إخْدَامِهَا تَوْفِيرَهَا عَلَى حُقُوقِهِ، وَتَرْفِيهَهَا، وَرَفْعَ قَدْرِهَا، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِخِدْمَتِهَا لِنَفْسِهَا. وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أَخْدُمُك بِنَفْسِي. لَمْ يَلْزَمْهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَشِمُهُ، وَفِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهَا، لِكَوْنِ زَوْجِهَا خَادِمًا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الرِّضَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ تَحْصُلُ بِهِ. (6465) فَصْلٌ: وَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ الْخَادِمِ، وَمُؤْنَتُهُ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، مِثْلَ مَا لِامْرَأَةِ الْمُعْسِرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا الْمُشْطُ، وَالدُّهْنُ لِرَأْسِهَا، وَالسِّدْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرَادُ لِلزِّينَةِ وَالتَّنْظِيفِ، وَلَا يُرَادُ ذَلِكَ مِنْ الْخَادِمِ، لَكِنْ إنْ احْتَاجَتْ إلَى خُفٍّ لِتَخْرُجَ إلَى شِرَاءِ الْحَوَائِجِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ مَنَعَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ مِمَّا يَجِبُ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَقَدَرَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ مَنَعَهَا مَا يَجِبُ لَهَا، أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدَرَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ، أَخَذَتْ مِنْهُ مِقْدَارَ حَاجَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ حِينَ قَالَتْ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي. فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَى امْرَأَتِهِ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهَا أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهَا، فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الْوَاجِبَ أَوْ تَمَامَهُ، بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . وَهَذَا إذْنٌ لَهَا فِي الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَرَدٌّ لَهَا إلَى اجْتِهَادِهَا فِي قَدْرِ كِفَايَتِهَا وَكِفَايَةِ وَلَدِهَا، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِأَخْذِ تَمَامِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُعْطِيهَا بَعْضَ الْكِفَايَةِ، وَلَا يُتَمِّمُهَا لَهَا، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا فِي أَخْذِ تَمَامِ الْكِفَايَةِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا غِنَى عَنْهَا، وَلَا قَوَامَ إلَّا بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهَا الزَّوْجُ وَلَمْ تَأْخُذْهَا، أَفْضَى إلَى ضَيَاعِهَا وَهَلَاكِهَا، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا فِي أَخْذِ قَدْرِ نَفَقَتِهَا، دَفْعًا لِحَاجَتِهَا، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَشُقُّ الْمُرَافَعَةُ إلَى الْحَاكِمِ، وَالْمُطَالَبَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 بِهَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؛ فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَهَا فِي أَخْذِهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّيْنِ فَرْقًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَا لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ فَرَضَهَا لَهَا، فَلَوْ لَمْ تَأْخُذْ حَقَّهَا أَفْضَى إلَى سُقُوطِهَا، وَالْإِضْرَارِ بِهَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عِنْدَ أَحَدٍ بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ، فَلَا يُؤَدِّي تَرْكُ الْأَخْذِ إلَى الْإِسْقَاطِ. [فَصْلٌ وَقْتُ دَفْعِ النَّفَقَة لِلزَّوْجَةِ] (6467) فَصْلٌ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ نَفَقَتِهَا إلَيْهَا فِي صَدْرِ نَهَارِ كُلِّ يَوْمٍ إذَا طَلَعْت الشَّمْسُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَأْخِيرِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِهِ جَازَ، كَالدَّيْنِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَعْجِيلِ نَفَقَةِ عَامٍ أَوْ شَهْرٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ تَأْخِيرِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَجَازَ مِنْ تَعْجِيلِهِ وَتَأْخِيرِهِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَالدَّيْنِ. وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافٌ عَلِمْنَاهُ. فَإِنْ سَلَّمَ إلَيْهَا نَفَقَةَ يَوْمٍ، ثُمَّ مَاتَتْ فِيهِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إلَيْهَا، وَإِنْ أَبَانَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الدَّفْعِ إلَيْهَا، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا فِيهِ، وَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالطَّلَاقِ، كَالدَّيْنِ. وَإِنْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ أَوْ عَامٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، أَوْ بَانَتْ بِفَسْخِ أَوْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا أَوْ رِدَّتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ نَفَقَةَ سَائِرِ الشَّهْرِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْتَرْجِعُهَا؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ، فَإِذَا قَبَضَتْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهَا النَّفَقَةَ سَلَفًا عَمَّا يَجِبُ فِي الثَّانِي، فَإِذَا وُجِدَ مَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، ثَبَتَ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ أَسْلَفَهَا إيَّاهَا فَنَشَزَتْ، أَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ إلَى السَّاعِي فَتَلَفَ مَالُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا صِلَةٌ. قُلْنَا: بَلْ هِيَ عِوَضٌ عَنْ التَّمْكِينِ، وَقَدْ فَاتَ التَّمْكِينُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ زَوْجَ الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، إذَا دَفَعَ إلَيْهَا نَفَقَةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ بَانَتْ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَمَهَا أَنَّهَا نَفَقَةٌ عَجَّلَهَا لَهَا، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهَا، وَإِنْ أَعْلَمَهَا ذَلِكَ، انْبَنَى عَلَى مُعَجِّلِ الزَّكَاةِ إذَا أَعْلَمَ الْفَقِيرَ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ ثُمَّ تَلِفَ الْمَالُ، وَفِي الرُّجُوعِ بِهَا وَجْهَانِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ مِثْلُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِدَفْعِ مَا لَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ إعْلَامِ الْآخِذِ بِتَعْجِيلِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ، كَمُعَجِّلِ الزَّكَاةِ. وَلَوْ سَلَّمَ إلَيْهَا نَفَقَةَ الْيَوْمِ، فَسُرِقَتْ أَوْ تَلِفَتْ، لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهَا؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْ الْوَاجِبِ بِدَفْعِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلْفِت الزَّكَاةُ بَعْدَ قَبْضِ السَّاعِي لَهَا، أَوْ الدَّيْنُ بَعْدَ أَخْذِ صَاحِبِهِ لَهُ. (6468) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهَا نَفَقَتَهَا، فَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا أَحَبَّتْ، مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، مَا لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 عَلَيْهَا بِضَرَرٍ فِي بَدَنِهَا، وَضَعْفٍ فِي جِسْمِهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا، فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَتْ كَالْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ مِنْهَا، وَنَقْصًا فِي اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. [فَصْلٌ وَقْتُ دَفْعِ الْكِسْوَةِ لِلزَّوْجَةِ] (6469) فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ دَفْعُ الْكِسْوَةِ إلَيْهَا فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً؛ لِأَنَّهَا الْعَادَةُ، وَيَكُونُ الدَّفْعُ إلَيْهَا فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَقْتِ الْوُجُوبِ. فَإِنْ بَلِيَتْ الْكِسْوَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَبْلَى فِيهِ مِثْلُهَا، لَزِمَهُ أَنَّ يَدْفَعَ إلَيْهَا كِسْوَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَإِنْ بَلِيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، لِكَثْرَةِ دُخُولِهَا وَخُرُوجِهَا أَوْ اسْتِعْمَالِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ إبْدَالُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْكِسْوَةِ فِي الْعُرْفِ. وَإِنْ مَضَى الزَّمَانُ الَّذِي تَبْلَى فِي مِثْلِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ الْمُعْتَادِ وَلَمْ تَبْلَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْكِسْوَةِ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ بَلِيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا. وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيْهَا كِسْوَةٌ، لَمْ تَسْقُطْ كِسْوَتُهَا. وَإِنْ أُهْدِيَ إلَيْهَا طَعَامٌ فَأَكَلَتْهُ، وَبَقِيَ قُوتُهَا إلَى الْغَدِ، لَمْ يَسْقُطْ قُوتُهَا فِيهِ وَإِنْ كَسَاهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلَى، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ مُضِيِّهِ، كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهَا نَفَقَةَ مُدَّةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهَا الْكِسْوَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهَا النَّفَقَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَكْلِهَا، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. (6470) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهَا كِسْوَتَهَا، فَأَرَادَتْ بَيْعهَا، أَوْ التَّصَدُّقَ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهَا، أَوْ يُخِلُّ بِتَجَمُّلِهَا بِهَا، أَوْ بِسُتْرَتِهَا، لَمْ تَمْلِكْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَرَادَتْ الصَّدَقَةَ بِقُوتِهَا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهَا، فَأَشْبَهَتْ النَّفَقَةَ، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَهَا لَوْ طَلَّقَهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، بِخِلَافِ النَّفَقَة. (6471) فَصْلٌ: وَالذِّمِّيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ فِي النَّفَقَةِ وَالْمَسْكَنِ وَالْكِسْوَةِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ وَالْمَعْنَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 [مَسْأَلَةٌ مَنَعَ امْرَأَتَهُ النَّفَقَةَ لِعُسْرَتِهِ] (6472) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا مَنَعَهَا، وَلَمْ تَجِدْ مَا تَأْخُذُهُ، وَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَنَعَ امْرَأَتَهُ النَّفَقَةَ، لِعُسْرَتِهِ، وَعَدَمِ مَا يُنْفِقُهُ، فَالْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ فِرَاقِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَبِيعَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، إلَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ فِرَاقَهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَرْفَعُ يَدَهُ عَنْهَا لِتَكْتَسِبَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا عَلَيْهِ، فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، كَالدَّيْنِ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: يُحْبَسُ إلَى أَنْ يُنْفِقَ وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَلَيْسَ الْإِمْسَاكُ مَعَ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ، فَيَتَعَيَّنُ التَّسْرِيحُ. وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: سُنَّةٌ؟ قَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى. وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ بِالْعَجْزِ عَنْ الْوَطْءِ، وَالضَّرَرُ فِيهِ، أَقَلُّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ فَقْدُ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِالْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إلَّا بِهَا أَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْإِعْسَارُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلِلْمَرْأَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَسْخِ، مِنْ غَيْرِ إنْظَارٍ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يُؤَجَّلُ سَنَةً قِيَاسًا عَلَى الْعِنِّينِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اضْرِبُوا لَهُ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: يُؤَجَّلُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ. وَلَنَا، ظَاهِرُ حَدِيثِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ مَعْنَى يُثْبِتُ الْفَسْخَ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالْإِنْظَارِ فِيهِ، فَوَجَبَ، أَنْ يَثْبُتَ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ، كَالْعَيْبِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ الْإِعْسَارُ، وَقَدْ وُجِدَ، فَلَا يَلْزَمُ التَّأْخِيرُ. [فَصْلٌ لَمْ تَجِدْ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ إلَّا يَوْمًا بِيَوْمٍ] (6473) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّفَقَةَ إلَّا يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إعْسَارًا يَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَجَدَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَا يُغَدِّيهَا، وَفِي آخِرِهِ مَا يُعَشِّيهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهَا تَصِلُ إلَى كِفَايَتِهَا، وَمَا يَقُومُ بِهِ بَدَنُهَا. وَإِنْ كَانَ صَانِعًا يَعْمَلُ فِي الْأُسْبُوعِ مَا يَبِيعُهُ فِي يَوْمٍ بِقَدْرِ كِفَايَتهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 فِي الْأُسْبُوعِ كُلِّهِ، لَمْ يَثْبُتْ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَحْصُلُ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ زَمَانِهِ. وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْكَسْبُ فِي بَعْضِ زَمَانِهِ، أَوْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ لَمْ يَثْبُتْ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاقْتِرَاضُ إلَى زَوَالِ الْعَارِضِ، وَحُصُولِ الِاكْتِسَابِ. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الِاقْتِرَاضِ أَيَّامًا يَسِيرَةً لَمْ يَثْبُتْ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزُولُ عَنْ قُرْبٍ، وَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَإِنْ مَرِضَ مَرَضًا يُرْجَى زَوَالُهُ فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، لَمْ يُفْسَخْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَطُولُ، فَلَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْغَالِبَ يَلْحَقُهَا، وَلَا يُمْكِنُهَا الصَّبْرُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَجِدُ مِنْ النَّفَقَةِ إلَّا يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ، فَلَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الصَّبْرُ عَلَى هَذَا، وَيَكُونُ بِمَثَابَةِ مَنْ لَا يَجِدُ إلَّا بَعْضَ الْقُوتِ. وَإِنْ أَعْسَرَ بِبَعْضِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ، ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ لَا يَقُومُ بِمَا دُونَهَا. وَإِنْ أَعْسَرَ بِمَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ، وَيُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهَا، وَيَقُومُ الْبَدَنُ بِمَا دُونِهَا. وَإِنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا خِيَارٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْسَرَ بِالْأُدْمِ. وَإِنْ أَعْسَرَ بِالْكِسْوَةِ، فَلَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهَا، وَلَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهَا. وَإِنْ أَعْسَرَ بِأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. وَالثَّانِي، لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ تَقُومُ بِدُونِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَره الْقَاضِي. وَإِنْ أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهَا دَيْنٌ يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهَا، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الدُّيُونِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ مَعَ يَسَارِهِ؛ فَإِنْ قَدَرَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ، أَخَذَتْ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ هِنْدًا بِالْأَخْذِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا الْفَسْخَ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ، رَافَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ، أَخَذَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا، بَاعَهَا فِي ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلَا يَبِيعُ عَرْضًا إلَّا بِتَسْلِيمٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ إذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَى الرَّشِيدِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ " خُذِي مَا يَكْفِيك ". وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ لَهُ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُ النَّفَقَةُ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلِلْحَاكِمِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ، بِدَلِيلِ وِلَايَته عَلَى دَرَاهِمِهِ وَدَنَانِيرِهِ. وَإِنْ تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ، وَلَهُ وَكِيلٌ، فَحُكْمُ وَكِيلِهِ حُكْمُهُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالْأَخْذِ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ، وَلَمْ تَقْدِرْ الْمَرْأَةُ عَلَى الْأَخْذِ، أَخَذَ لَهَا الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ عَقَارِهِ وَعُرُوضِهِ فِي ذَلِكَ، إذَا لَمْ تَجِدْ مَا تُنْفِقُ سِوَاهُ. وَيُنْفِقُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَوْمًا بِيَوْمٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَفْرِضُ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 وَلَنَا، أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلنَّفَقَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةً زِيَادَةً عَلَى شَهْرٍ. [فَصْلٌ غَيَّبَ مَالَهُ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ وَلَمْ يَقْدِرْ الْحَاكِمُ لَهُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ فَهَلْ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَةٌ] (6474) فَصْل: وَإِنْ غَيَّبَ مَالُهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْحَاكِمُ لَهُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارِ أَبِي الْخَطَّابِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفَسْخَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ فِي الْمُعْسِرِ لِعَيْبِ الْإِعْسَارِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، وَلِأَنَّ الْمُوسِرَ فِي مَظِنَّةِ إمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ فِي يَوْمٍ، فَرُبَّمَا لَا يَمْتَنِعُ فِي الْغَدِ، بِخِلَافِ الْمُعْسِرِ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا. وَهَذَا إجْبَارٌ عَلَى الطَّلَاقِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ مُتَعَذِّرٌ، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ، كَحَالِ الْإِعْسَارِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالْفَسْخِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ الْفَسْخُ عَلَى الْمَعْذُورِ، فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ فِي الصَّبْرِ ضَرَرًا أَمْكَنَ إزَالَتُهُ بِالْفَسْخِ، فَوَجَبَتْ إزَالَتُهُ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَعَذُّرٍ يَجُوزُ الْفَسْخُ، فَلَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْن الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، كَأَدَاءِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا، وَبَيْنَ أَنْ يَهْرُبَ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ، وَعَيْبُ الْإِعْسَارِ إنَّمَا جَوَّزَ الْفَسْخَ لِتَعَذُّرِ الْإِنْفَاقِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَرَضَ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، أَوْ تَبَرَّعَ لَهُ إنْسَانٌ بِدَفْعِ مَا يُنْفِقُهُ لَمْ تَمْلِكْ الْفَسْخَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُنْفِقَ فِيمَا بَعْدَ هَذَا. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ الْمُعْسِرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُغْنِيَهُ اللَّهُ، وَأَنْ يَقْتَرِضَ، أَوْ يُعْطَى مَا يُنْفِقُهُ، فَاسْتَوَيَا. [فَصْلٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ] (6475) فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَيْهَا بِدَيْنِهِ مَكَانَ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، وَهَذَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَاضِلِ مِنْ قُوتِهِ، وَهَذَا لَا يَفْضُلُ عَنْهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فَيَجِبُ إنْظَارُهَا بِمَا عَلَيْهَا. [فَصْلٌ كُلُّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحِقُّ لِلزَّوْجَةِ فَسْخُ النِّكَاحِ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ تَرْجِعُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ] (6476) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَافْتَقَرَ إلَى الْحَاكِمِ، كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّفْرِيقُ إلَّا أَنْ تَطْلُبَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لِحَقِّهَا، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا، كَالْفَسْخِ لِلْعُنَّةِ. فَإِذَا فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فَسْخٌ لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ تَطْلِيقَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا إنْ أَيْسَرَ فِي عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَهَا، فَأَشْبَهَ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَامْرَأَتِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْفَيْئَةِ وَالطَّلَاقِ. وَلَنَا، أَنَّهَا فُرْقَةٌ لِعَجْزِهِ عَنْ الْوَاجِبِ لَهَا عَلَيْهِ أَشْبَهَتْ فُرْقَةَ الْعُنَّةِ. فَأَمَّا إنْ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَطَلَّقَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا، وَهُوَ مُعْسِرٌ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْقَاقِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ الْأَخْذُ مِنْ مَالِهِ، فَطَلَبْت الْمَرْأَةُ الْفَسْخَ، فَلِلْحَاكِمِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَهُ بَاقٍ، أَشْبَهَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ رَضِيَتْ الزَّوْجَةُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ عُسْرَتِهِ أَوْ تَرْكِ إنْفَاقِهِ ثُمَّ بَدَا لَهَا الْفَسْخُ] (6477) فَصْلٌ: وَإِنْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ عُسْرَتِهِ أَوْ تَرْكِ إنْفَاقِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهَا الْفَسْخُ، أَوْ تَزَوَّجَتْ مُعْسِرًا عَالِمَةً بِحَالِهِ، رَاضِيَةً بِعُسْرَتِهِ، وَتَرْكِ إنْفَاقِهِ، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَنَّ لَهَا الْفَسْخُ، فَلَهَا ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِعَيْبِهِ، وَدَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عَالِمَةً بِهِ، فَلَمْ تَمْلِكْ الْفَسْخَ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عِنِّينًا. عَالِمَةً بِعُنَّتِهِ، أَوْ قَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ: قَدْ رَضِيت بِهِ عِنِّينًا. وَلَنَا، أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَيَتَجَدَّدُ لَهَا الْفَسْخُ، وَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ حَقِّهَا فِيمَا لَمْ يَجِبْ لَهَا، كَإِسْقَاطِ شُفْعَتِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتْ، النَّفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَمْ تَسْقُطْ، وَلَوْ أَسْقَطَتْهَا أَوْ أَسْقَطَتْ الْمَهْرَ قَبْلَ النِّكَاحِ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهَا، لَمْ يَسْقُطْ الْفَسْخُ الثَّابِتُ بِهِ. وَإِنْ أَعْسَرَ بِالْمَهْرِ، وَقُلْنَا: لَهَا الْفَسْخُ لِإِعْسَارِهِ بِهِ. فَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ، عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ بِالْمَهْرِ، رَاضِيَةً بِذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَمْلِكَ الْفَسْخَ بِإِعْسَارِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَوْ أَسْقَطَتْهُ فِيهِ سَقَطَ. (6478) فَصْلٌ: إذَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهَا التَّمْكِينُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهَا عِوَضَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُهُ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِ الْمَبِيعِ، لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، وَعَلَيْهِ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا، لِتَكْتَسِبَ لَهَا، وَتُحَصِّلَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ فِي حَبْسِهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ إضْرَارًا بِهَا. وَلَوْ كَانَتْ مُوسِرَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ حَبْسهَا إذَا كَفَاهَا الْمُؤْنَةَ، وَأَغْنَاهَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ، وَلِحَاجَتِهِ إلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، فَإِذَا انْتَفَى الْأَمْرَانِ، لَمْ يَمْلِكْ حَبْسِهَا. [فَصْلٌ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لِامْرَأَتِهِ مُدَّةً] (6479) فَصْلٌ: وَمَنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لَامْرَأَته مُدَّةً، لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ، وَكَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا لَعُذْرٍ أَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 غَيْرِ عُذْرٍ، فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا، مَا لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا لَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَتَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهَا إذَا لَمْ يَفْرِضْهَا الْحَاكِمُ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَاضِي قَدْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهَا بِمُضِيِّ وَقْتِهَا، فَتَسْقُطُ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ، يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى. وَلِأَنَّهَا حَقٌّ يَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَالدُّيُونِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذِهِ نَفَقَةٌ وَجَبَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَزُولُ مَا وَجَبَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ إلَّا بِمِثْلِهَا. وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ وَاجِبٌ فَأَشْبَهْت الْأُجْرَةَ. وَفَارَقَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ، فَإِنَّهَا صِلَةٌ يَعْتَبِرُ فِيهَا الْيَسَارُ مِنْ الْمُنْفِقِ وَالْإِعْسَارُ مِمَّنْ تَجِبُ لَهُ، وَجَبَتْ لِتَزْجِيَةِ الْحَالِ، فَإِذَا مَضَى زَمَنُهَا اسْتَغْنَى عَنْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِيَسَارِهِ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا مَعَ يَسَارِهِ، فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِكَمَالِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا لِإِعْسَارِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ [إلَّا] نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ سَقَطَ بِإِعْسَارِهِ. [فَصْلٌ ضَمَانُ النَّفَقَةِ مَا وَجَبَ مِنْهَا وَمَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ] (6480) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ ضَمَانُ النَّفَقَةِ، مَا وَجَبَ مِنْهَا وَمَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إذَا قُلْنَا: إنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا وَجَبَ، وَفِي ضَمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ هَلْ تَجِبُ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالتَّمْكِينِ؟ وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ إذَا كَانَ مَالُهُ إلَى الْوُجُوبِ، فَعِنْدنَا يَصِحُّ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي بَابِ الضَّمَانِ. [فَصْلٌ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ أَوْ الْأُدْمِ أَوْ الْمَسْكَنِ] (6481) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ أَوْ الْأُدْمِ أَوْ الْمَسْكَنِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الزَّوَائِدِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ، كَالزَّائِدِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ فَتَثْبُتُ فِي الذِّمَّة، كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْمَرْأَةِ قُوتًا، وَفَارَقَ الزَّائِدَ عَنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ. [فَصْلٌ أَنْفَقْت الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا الْغَائِبِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ إنْفَاقِهَا] (6482) فَصْلٌ: وَإِذَا أَنْفَقْت الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا الْغَائِبِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ إنْفَاقِهَا، حُسِبَ عَلَيْهَا مَا أَنْفَقَتْهُ مِنْ مِيرَاثِهَا، سَوَاءٌ أَنْفَقَتْهُ بِنَفْسِهَا، أَوْ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ لِأَنَّهَا أَنْفَقَتْ مَا لَا تَسْتَحِقُّ. وَإِنْ فَضَلَ لَهَا شَيْءٌ فَهُوَ لَهَا وَإِنْ فَضَلَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَكَانَ لَهَا صَدَاقٌ أَوْ دَيْنٌ عَلَى زَوْجِهَا، حُسِبَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ الْفَضْلُ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ] (6483) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَصَحُّهَا، لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَالثَّانِي، لَهَا الْفَسْخُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرَ بِالْعِوَضِ، فَكَانَ لَهَا الرُّجُوعُ فِي الْمُعَوَّضِ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ بِثَمَنِ مَبِيعِهَا. وَالثَّالِثُ، إنْ أَعْسَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْفَسْخُ كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَمْ تَمْلِكْ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ اُسْتُوْفِيَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ، فَلَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ لِلْإِعْسَارِ بِهِ، كَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ مُجْحِفٌ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الْخَادِمِ وَالنَّفَقَةَ الْمَاضِيَةَ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ كُلُّ مَقْصُودِ الْبَائِعِ، وَالْعَادَةُ تَعْجِيلُهُ، وَالصَّدَاقُ فَضْلَةٌ وَنِحْلَةٌ، لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ، وَلِذَلِكَ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِهِ، وَلَا بِتَرْكِ ذِكْرِهِ، وَالْعَادَةُ تَأْخِيرُهُ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَشْتَرِي بِثَمَنٍ حَالٍّ يَكُونُ مُوسِرًا بِهِ، وَلَيْسَ الْأَكْثَرُ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِمَهْرٍ يَكُونُ مُوسِرًا بِهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِهَا، بِخِلَافِ الصَّدَاقِ، فَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ النَّفَقَةُ الْمَاضِيَةُ. وَلِلشَّافِعِيِّ نَحْوُ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَهَا الْفَسْخُ لِلْإِعْسَارِ بِهِ. فَتَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِهِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَتْ عُسْرَتَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْفَسْخِ، لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَسَقَطَ كَمَا لَوْ رَضِيَتْ بِعُنَّتِهِ. [فَصْلٌ نَفَقَةُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ] (6484) فَصْلٌ: وَنَفَقَةُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ حَقٌّ لَهَا وَلِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَبُهَا إنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ أَدَائِهَا، وَلَا يَمْلِكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إسْقَاطَهَا؛ لِأَنَّ فِي سُقُوطِهَا بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا ضَرَرًا بِالْآخَرِ. وَإِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِهَا، فَلَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا، فَمَلَكَتْ الْفَسْخَ، كَالْحُرَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ، فَقَالَ الْقَاضِي: لِسَيِّدِهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي عَدَمِهَا، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهَا مِنْ فَوَاتِ مِلْكِهِ وَتَلَفِهِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ، رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ كَرِهَتْ؛ لِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 الدَّيْنَ خَالِصُ حَقِّهِ، لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِالنَّفَقَةِ الْحَاضِرَةِ، لِوُجُوبِ صَرْفِهَا إلَيْهَا، وَقِوَامِ بَدَنِهَا بِهَا، بِخِلَافِ الْمَاضِيَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّاب، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لِسَيِّدِهَا الْفَسْخُ لِعُسْرَةِ زَوْجِهَا بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ سَيِّدُهَا الْفَسْخَ دُونَهَا، كَالْفَسْخِ لِلْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْتُوهَةً، أَنْفَقَ الْمَوْلَى، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً قَالَ لَهَا السَّيِّدُ: إنْ أَرَدْت النَّفَقَةَ، فَافْسَخِي النِّكَاحَ، وَإِلَّا فَلَا نَفَقَةَ لَك عِنْدِي. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ فِي تَقْبِيضِهَا نَفَقَتَهَا] (6485) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، أَوْ فِي تَقْبِيضِهَا نَفَقَتَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ، وَالْأَصْلُ مَعَهَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّمْكِينِ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ فِي وَقْتِهِ، فَقَالَتْ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَهْرٍ. فَقَالَ: بَلْ مِنْ يَوْمٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي يَسَارِهِ فَادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ لِيَفْرِضَ لَهَا نَفَقَةَ الْمُوسِرِينَ، أَوْ قَالَتْ: كُنْت مُوسِرًا. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي فَرْضِ الْحَاكِمِ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ فِي وَقْتِهَا، فَقَالَ: فَرَضَهَا مُنْذُ شَهْرٍ. فَقَالَتْ: بَلْ مُنْذُ عَامٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ مُقِيمًا مَعَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ يَوْمِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ. وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَهُ يُوَافِقُ الْأَصْلَ، فَقُدِّمَ، كَمَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا مَعَهَا، وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ فَلِخَصْمِهِ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهَا دَعَاوَى فِي الْمَالِ، فَأَشْبَهَتْ دَعْوَى الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.» وَإِنْ دَفَعَ الزَّوْجُ إلَى امْرَأَتِهِ نَفَقَةً وَكِسْوَةً، أَوْ بَعَثَ بِهِ إلَيْهَا فَقَالَتْ إنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ تَبَرُّعًا وَهِبَةً. وَقَالَ: بَلْ وَفَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَيَّ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ وَاخْتَلَفَ هُوَ وَغَرِيمُهُ فِي نِيَّتِهِ. وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ، فَقَالَ: طَلَّقْتُك حَامِلًا، فَانْقَضَتْ عِدَّتُك بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَانْقَطَعَتْ نَفَقَتُك وَرَجْعَتُك. وَقَالَتْ: بَلْ بَعْدَ الْوَضْعِ، فَلِيَ النَّفَقَةُ، وَلَك الرَّجْعَةُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّفَقَةِ، وَعَدَمُ الْمُسْقِطِ لَهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِعَدَمِهَا. وَإِنْ رَجَعَ فَصَدَّقَهَا، فَلَهُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ لَهُ بِهَا. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُك بَعْدَ الْوَضْعِ، فَلِيَ الرَّجْعَةُ، وَلَك النَّفَقَةُ. وَقَالَتْ: بَلْ وَأَنَا حَامِلٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرَّجْعَةِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيهَا. وَإِنْ عَادَ فَصَدَّقَهَا، سَقَطَتْ رَجْعَتُهُ، وَوَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ. هَذَا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَنِي عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ دُونَ مَا قَالَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 [فَصْلٌ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَادَّعَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ لِتَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ] (6486) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَادَّعَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ، لِتَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تُرَى الْقَوَابِلَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَبِينُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، إلَّا أَنْ تَظْهَرَ بَرَاءَتُهَا مِنْ الْحَمْلِ بِالْحَيْضِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَتَنْقَطِعَ نَفَقَتُهَا، كَمَا تَنْقَطِعُ إذَا قَالَ الْقَوَابِلُ: لَيْسَتْ حَامِلًا. وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أُنْفِقَ؛ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ مِنْهُ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ، فَرَجَعَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا وَأَخَذَتْهُ مِنْهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذِبُهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِحُكْمِ آثَارِ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ، كَالنَّفَقَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إذَا تَبَيَّنَ فَسَادُهُ وَإِنْ عَلِمَتْ بَرَاءَتَهَا مِنْ الْحَمْلِ بِالْحَيْضِ، فَكَتَمَتْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ النَّفَقَةَ مَعَ عِلْمِهَا بِبَرَاءَتِهِ مِنْهَا كَمَا لَوْ أَخَذَتْهَا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. وَإِنْ ادَّعَتْ الرَّجْعِيَّةُ الْحَمْلَ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ عِدَّتِهَا، رَجَعَ عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَيُرْجَعُ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْلَمُ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيهَا مَعَ يَمِينِهَا. فَإِنْ قَالَتْ: قَدْ ارْتَفَعَ حَيْضِي، وَلَمْ أَدْرِ مَا رَفَعَهُ. فَعِدَّتُهَا سَنَةٌ إنْ كَانَتْ حُرَّةً. وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. وَذَكَرَتْ آخِرَهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ إلَى ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالزَّائِدِ. وَإِنْ قَالَتْ: لَا أَدْرِي مَتَى آخِرُهَا. رَجَعْنَا إلَى عَادَتِهَا، فَحَسَبَنَا لَهَا بِهَا. وَإِنْ قَالَتْ: عَادَتِي تَخْتَلِفُ فَتَطُولُ وَتَقْصُرُ. انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْصَرِ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ. وَإِنْ قَالَتْ: عَادَتِي تَخْتَلِفُ، وَلَا أَعْلَمُ. رَدَدْنَاهَا إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ، فِي كُلِّ شَهْرٍ قُرْءٌ؛ لِأَنَّا رَدَدْنَا الْمُتَحَيِّرَةَ إلَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِهَا، فَكَذَلِكَ هَذِهِ. وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ غَيْرِهِ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَهُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِمُدَّةِ حَمْلِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ انْقَضَتْ قَبْلَ حَمْلِهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ إلَى انْقِضَائِهَا، وَإِنْ حَمَلَتْ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ إلَى الْوَطْءِ الَّذِي حَمَلَتْ، ثُمَّ لَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، ثُمَّ تَكُونُ لَهَا النَّفَقَةُ فِي تَمَامِ عِدَّتِهَا. وَإِنْ وَطِئَهَا زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، حَصَلَتْ الرَّجْعَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَحْصُلُ. فَالنَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِمُدَّةِ حَمْلِهَا. وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَوْ وَطِئَ الْبَائِنَ، عَالِمًا بِذَلِكَ وَبِتَحْرِيمِهِ، فَهُوَ زِنًى، لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ. وَإِنْ جَهِلَ بَيْنُونَتَهَا، أَوْ انْقِضَاءَ عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، أَوْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ رِوَايَتَانِ. [مَسْأَلَةٌ إجْبَارُ الرَّجُلِ عَلَى نَفَقَةِ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ] (6487) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيُجْبَرُ الرَّجُلُ عَلَى نَفَقَةِ وَالِدَيْهِ، وَوَلَدِهِ، الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَكَانَ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ) الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . أَوْجَبَ أَجْرَ رَضَاعِ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] . وَمِنْ الْإِحْسَانِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا. وَمِنْ السُّنَّةِ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا كَسْبَ لَهُمَا، وَلَا مَالَ، وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ نَفَقَةَ أَوْلَادِهِ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ. وَلِأَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُ، وَهُوَ بَعْضُ وَالِدِهِ، فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كَذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِ وَأَصْلِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأُمَّ تَجِبُ نَفَقَتُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهَا، وَلَا لَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَصَبَةً لِوَلَدِهَا. وَلَنَا، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ سَأَلَهُ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّك، ثُمَّ أُمَّك، ثُمَّ أُمَّك، ثُمَّ أَبَاك، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَبَ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَوُجُوبَ الْعِتْقِ، فَأَشْبَهْت الْأَبَ. فَإِنْ أَعْسَرَ الْأَبُ، وَجَبَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْأُمِّ، وَلَمْ تَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ إنْ أَيْسَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَرْجِعُ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ بِالْقَرَابَةِ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، كَالْأَبِ. [فَصْلٌ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا وَوَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلُوا] (6488) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ وَلَا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ حَقِيقِيٍّ. وَلَنَا، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ اسْمِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . فَيَدْخُلُ فِيهِمْ وَلَدُ الْبَنِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ. وَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً تُوجِبُ الْعِتْقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ، فَأَشْبَهَ الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ الْقَرِيبَيْنِ. [فَصْلٌ وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ] (6489) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ، لَا مَالَ لَهُمْ، وَلَا كَسْبَ يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْ إنْفَاقِ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مُوسِرِينَ بِمَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَسْتَغْنُونَ بِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، وَالْمُوسِرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْمُوَاسَاةِ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ لِمَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ، إمَّا مِنْ مَالِهِ، وَإِمَّا مِنْ كَسْبِهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا، فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَضَلَ، فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلٌ، فَعَلَى قَرَابَتِهِ.» وَفِي لَفْظٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، كَالزَّكَاةِ. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ وَارِثًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . وَلِأَنَّ بَيْنَ الْمُتَوَارِثِينَ قَرَابَةً تَقْتَضِي كَوْنَ الْوَارِثِ أَحَقَّ بِمَالِ الْمَوْرُوثِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِوُجُوبِ صِلَتِهِ بِالنَّفَقَةِ دُونَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِذَلِكَ. وَإِنْ امْتَنَعَ الْمِيرَاثُ مَعَ وُجُودِ الْقَرَابَةِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، فَلَا نَفَقَةَ لَأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا إرْثَ، فَأَشْبَهَا الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَكَسْبُهُ لِسَيِّدِهِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ فَيَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ نَفَقَةِ غَيْرِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دِينُهُمَا مُخْتَلِفًا، فَلَا نَفَقَة لَأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي عَمُودِي النَّسَبِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ، فَتَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِهِ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ، وَلِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى قَرِيبِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ دِينُهُمَا. وَلَنَا، أَنَّهَا مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيْ النَّسَبِ، وَلِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ فَلَمْ يَجِبْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَفَقَةٌ بِالْقَرَابَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، وَتُفَارِقُ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ؛ لِأَنَّهَا عِوَضٌ يَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ، فَلَمْ يُنَافِهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ، كَالصَّدَاقِ وَالْأُجْرَةِ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ مَعَ الرِّقِّ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمَمَالِيكِ، وَالْعِتْقُ عَلَيْهِ يَبْطُلُ بِسَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتِقُونَ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ مَعَهُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ وَمُوَاسَاةٌ، فَلَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، كَأَدَاءِ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، وَعَقْلِهِ عَنْهُ، وَإِرْثِهِ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَرِيبُ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مُوسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَحْجُوبِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُ، فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْإِنْفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مُعْسِرًا، وَكَانَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ عَمُودَيْ النَّسَبِ، وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُوسِرِ. ذَكَرَ الْقَاضِي، فِي أَبِ مُعْسِرٍ وَجَدٍّ مُوسِرٍ، أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْجَدِّ. وَقَالَ، فِي أُمٍّ مُعْسِرَةٍ وَجَدَّةٍ مُوسِرَةٍ: النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدَّةِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى وَلَدِ ابْنَتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . فَسَمَّاهُ ابْنَهُ، وَهُوَ ابْنُ ابْنَتِهِ، وَإِذَا مُنِعَ مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ لَقَرَابَتِهِمْ، يَجِبْ أَنْ تَلْزَمَهُ نَفَقَتُهُمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَمُودِي النَّسَبِ، لَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَحْجُوبًا. قَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، فِي ابْنٍ فَقِيرٍ وَأَخٍ مُوسِرٍ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِعُسْرَتِهِ وَالْأَخَ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ إرْثه؛ وَلِأَنَّ قَرَابَتَهُ ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ شَهَادَتَهُ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ كَذَوِي الرَّحِمِ. وَيَتَخَرَّجُ فِي كُلِّ وَارِثٍ، لَوْلَا الْحُجُب، إذَا كَانَ مَنْ يَحْجُبُهُ مُعْسِرًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ، أَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَالثَّانِي، عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِوُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 لِلْإِرْثِ وَالْإِنْفَاقِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْإِرْثِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا يُمْكِنُهُ الْإِنْفَاقُ، فَوُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِنْفَاقِ كَعَدَمِهِ. [فَصْلٌ نَفَقَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ] (6490) فَصْلٌ: فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ عَمُودِي النَّسَبِ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: الْخَالَةُ وَالْعَمَّةُ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْقَاضِي: لَا نَفَقَةَ لَهُمْ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ مَالَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ، فَهُمْ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمَالَ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، وَذَلِكَ الَّذِي يَأْخُذُهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ وَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُخَرَّجُ فِيهِمْ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ النَّفَقَةَ تَلْزَمُهُمْ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْفُرُوضِ؛ لِأَنَّهُمْ وَارِثُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: هَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ. فَأَمَّا عَمُودُ النَّسَبِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَأَبِي الْأُمِّ وَابْنِ الْبِنْتِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مَحْجُوبِينَ أَوْ وَارِثِينَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ قَرَابَةٌ جُزْئِيَّةٌ وَبَعْضِيَّةٌ، وَتَقْتَضِي رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَتَمْنَعُ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَالِدِ بِقَتْلِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، فَأَوْجَبَتْ النَّفَقَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَقَرَابَةِ الْأَبِ الْأَدْنَى. [فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ] (6491) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ نَقْصُ الْخِلْقَةِ، وَلَا نَقْصُ الْأَحْكَامِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ نَفَقَتَهُمْ مُطْلَقًا إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَالِدَيْنِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْوَلَدِ؟ فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تَلْزَمهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ. وَالثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ يَكْتَسِبُ فَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ تَلْزَمْ نَفَقَتُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَقُومُ بِهِ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ، رِوَايَةً، وَاحِدَةً، سَوَاءٌ كَانَ نَاقِصَ الْأَحْكَامِ، كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ كَالزَّمِنِ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِي مَنْ لَا حِرْفَةَ لَهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ بِبَدَنِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُشْتَرَطُ نُقْصَانُهُ، إمَّا، مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُنْفَقُ عَلَى الْغُلَامِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَ صَحِيحًا، انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُ، وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْجَارِيَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ. وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يُنْفَقُ عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى يَتَزَوَّجْنَ، وَيَدْخُلَ بِهِنَّ الْأَزْوَاجُ، ثُمَّ لَا نَفَقَةَ لَهُنَّ، وَإِنْ طُلِّقْنَ، وَلَوْ طُلِّقْنَ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِهِنَّ، فَهُنَّ عَلَى نَفَقَتِهِنَّ. وَلَنَا، «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ.» لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُمْ بَالِغًا وَلَا صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ وَالِدٌ أَوْ وَلَدٌ فَقِيرٌ، فَاسْتَحَقَّ النَّفَقَةَ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ الْغَنِيِّ، كَمَا لَوْ كَانَ زَمِنًا أَوْ مَكْفُوفًا، فَأَمَّا الْوَالِدُ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَنَا عَلَى وُجُوب نَفَقَتِهِ صَحِيحًا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَا كَسْبٍ، وَلِلشَّافِعِي فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَالِدٌ مُحْتَاجٌ، فَأَشْبَهَ الزَّمِنَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 [فَصْلٌ كَانَ لَهُ أَبٌ مِنْ أَهْلِ الْإِنْفَاقِ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى سِوَاهُ] (6492) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مِنْ أَهْلِ الْإِنْفَاقِ، لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى سِوَاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَقَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ.» فَجَعَلَ النَّفَقَةَ عَلَى أَبِيهِمْ دُونَهَا. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، إلَّا أَنَّ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ لِلْفَقِيرِ أَبٌ وَابْنٌ مُوسِرَانِ، وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَب وَحْدَهُ. وَالثَّانِي، عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْب. وَلَنَا، أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ النَّصِّ، وَتَرْكُ مَا عَدَاهُ. [فَصْلٌ يَلْزَمُ الرَّجُلَ إعْفَافُ أَبِيهِ إذَا احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ] (6493) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الرَّجُلَ إعْفَافُ أَبِيهِ، إذَا احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُمْ فِي إعْفَافِ الْأَبِ الصَّحِيحِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ إعْفَافُ أَبِيهِ، سَوَاءٌ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَاذِ، فَلَمْ تَجِبْ لِلْأَبِ، كَالْحَلْوَاءِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ ذَلِكَ كَالْأُمِّ. وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو حَاجَتُهُ إلَيْهِ، وَيَسْتَضِرُّ بِفَقْدِهِ، فَلَزِمَ ابْنَهُ لَهُ، كَالنَّفَقَةِ، وَلَا يُشْبِهُ الْحَلْوَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَضِرُّ بِفَقْدِهَا، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ الطَّعَامَ وَالْأُدْمَ، وَأَمَّا الْأُمُّ فَإِنْ إعْفَافَهَا إنَّمَا هُوَ تَزْوِيجُهَا إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَخَطَبَهَا كُفْؤُهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يُوَافِقُونَنَا فِي ذَلِكَ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ إعْفَافُ مَنْ لَزِمَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، فَإِنْ اجْتَمَعَ جَدَّانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ إلَّا إعْفَافُ أَحَدِهِمَا، قُدِّمَ الْأَقْرَبُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْآخَرُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَيُقَدَّمُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَإِنْ بَعُدَ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَالشَّرْعُ قَدْ اعْتَبَرَ جِهَتَهُ فِي التَّوْرِيثِ وَالتَّعْصِيبِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِنْفَاقِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. (6494) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ إعْفَافُ أَبِيهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ زَوَّجَهُ حُرَّةً، وَإِنْ شَاءَ مَلَّكَهُ أَمَةً، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ حُرَّةً أَوْ يَشْتَرِي بِهِ أَمَةً، وَلَيْسَ لِلْأَبِ التَّخْيِيرُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْأَبَ إذَا عَيَّنَ امْرَأَةً، وَعَيَّنَ الِابْنُ أُخْرَى، وَصَدَاقُهُمَا وَاحِدٌ، قُدِّمَ تَعْيِينُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَهُ، وَالْمُؤْنَةَ وَاحِدَةٌ، فَقُدِّمَ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ عَيَّنَتْ الْبِنْتُ كُفُؤًا، وَعَيَّنَ الْأَبُ كُفُؤًا، قُدِّمَ تَعْيِينُهَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الصَّدَاقِ لَمْ يَلْزَمْ الِابْنَ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ أَقَلُّ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَوْ يُمَلِّكَهُ قَبِيحَةً أَوْ كَبِيرَةً لَا اسْتِمْتَاعَ فِيهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَةً؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ، وَهُوَ إرْقَاقُ وَلَدِهِ، وَالنَّقْصُ فِي اسْتِمْتَاعِهِ. وَإِنْ رَضِيَ الْأَبُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْوَلَدُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوسِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً. وَإِذَا زَوَّجَهُ زَوْجَةً أَوْ مَلَّكَهُ أَمَةً، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَتُهَا. وَمَتَى أَيْسَرَ الْأَبُ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَا عِوَضَ مَا زَوَّجَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ فِي حَالِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ اسْتِرْجَاعَهُ، كَالزَّكَاةِ. وَإِنْ زَوَّجَهُ أَوْ مَلَّكَهُ أَمَةً فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَوْ يُمَلِّكَهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ مَاتَتَا، فَعَلَيْهِ إعْفَافُهُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ إعْفَافُهُ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ] فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْأَبِ إعْفَافُ ابْنِهِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ، نَفَقَتُهُ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى إعْفَافِهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، كَأَبِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ؛ مِنْ أَخٍ، أَوْ عَمٍّ، أَوْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي الْعَبْدِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ مِنْ لَزِمَهُ إعْفَافُهُ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِعْفَافِ إلَّا بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ الصَّبِيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ أُجْبِرَ وَارِثُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ] (6496) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، أُجْبِرَ وَارِثُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ، عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ مِنْهُ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ لِمَوْرُوثِهِ، إذَا اجْتَمَعْت الشُّرُوطُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي الصَّبِيِّ الْمُرْضِعِ لَا أَبَ لَهُ وَلَا جَدَّ، نَفَقَتَهُ وَأَجْرَ رَضَاعِهِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ رَوَى بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ: النَّفَقَةُ عَلَى الْعَصَبَاتِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى عَلَى بَنِي عَمِّ مَنْفُوسٍ بِنَفَقَتِهِ. احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَبَسَ عَصَبَةً يُنْفِقُونَ عَلَى صَبِيِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَلِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ وَمَعُونَةٌ تَخْتَصُّ الْقَرَابَةَ، فَاخْتَصَّتْ بِهَا الْعَصَبَاتُ، كَالْعَقْلِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَفَقَةَ إلَّا عَلَى الْمَوْلُودِينَ وَالْوَالِدَيْنِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَرَجُلٍ سَأَلَهُ: عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ . قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ» . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِنَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ لَا يَلْحَقُ بِهِمْ فِي الْوِلَادَةِ وَأَحْكَامِهَا، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِمْ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . ثُمَّ قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . فَأَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ، ثُمَّ عَطَفَ الْوَارِثَ عَلَيْهِ، فَأَوْجَبَ عَلَى الْوَارِثِ مِثْلَ مَا أَوْجَبَ عَلَى الْوَالِدِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّك وَأَبَاك، وَأُخْتَك وَأَخَاك. وَفِي لَفْظٍ: وَمَوْلَاك الَّذِي هُوَ أَدْنَاك، حَقًّا وَاجِبًا، وَرَحِمًا مَوْصُولًا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا نَصٌّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْزَمَهُ الصِّلَةَ وَالْبِرَّ وَالنَّفَقَةُ مِنْ الصِّلَةِ، جَعَلَهَا حَقًّا وَاجِبًا، وَمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي كُلِّ ذِي رَحِمٍ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي عِدَادِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَقَدْ اخْتَصَّتْ بِالْوَارِثِ فِي الْإِرْثِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِنْفَاقِ. وَأَمَّا خَبَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ مِنْ أُمِرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَالِدَ وَالْأَجْدَادَ وَأَوْلَادَ الْأَوْلَادِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ. قُلْنَا: إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّصِّ، ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ بِالْأَوْلَادِ، مَعَ التَّفَاوُتِ، فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوَارِثِ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ، لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ، فَإِنْ كَانَ اثْنَانِ يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَرِثُهُ الْآخَرُ، كَالرَّجُلِ مَعَ عَمَّتِهِ أَوْ ابْنَةِ عَمِّهِ وَابْنَةِ أَخِيهِ، وَالْمَرْأَةِ مَعَ ابْنَةِ بِنْتِهَا وَابْنِ بِنْتِهَا، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْمَوْرُوثِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَةُ بِنْتِ عَمِّهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ بِنْتِ أُخْتِهِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ هَاهُنَا؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ: الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ لَا نَفَقَةَ لَهُمَا. إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَمَّةِ مِنْ الْأُمِّ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهَا؛ لِكَوْنِهِ ابْنَ أَخِيهَا مِنْ أُمِّهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَةَ مُعْتِقِهِ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَقَ لَا يَرِثُ مُعْتِقَهُ، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَةُ عَمَّتِهِ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَبِيهِ وَابْنَةِ عَمِّهِ وَابْنَةِ أُخْتِهِ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُنَّ نَفَقَتُهُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَارِثٌ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ لِلصَّبِيِّ أُمٌّ وَجَدٌّ فَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ النَّفَقَةِ] (6497) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ أُمٌّ وَجَدٌّ فَعَلَى الْأُمِّ ثُلُثُ النَّفَقَةِ، وَعَلَى الْجَدِّ ثُلُثَا النَّفَقَةِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ أَبٌ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى وَارِثِهِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ مِنْهُ؛ فَإِذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ، فَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ كَذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّفَقَةُ كُلُّهَا عَلَى الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدَ بِالتَّعْصِيبِ، فَأَشْبَهَ الْأَبَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَالْأُمُّ وَارِثَةٌ، فَكَانَ عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ الْجَدُّ دُونَ الْأُمِّ كَالْوِرَاثَةِ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ ابْنٌ وَبِنْتٌ فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا] (6498) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُرْبِ. وَإِنْ كَانَ أُمٌّ وَابْنٌ، فَعَلَى الْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي عَلَى الِابْنِ. وَإِنْ كَانَتْ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ: النَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ الْعَصْبَةُ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أُمٌّ وَبِنْتٌ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ كَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَصَبَةً مَعَ أَخِيهَا. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ بِنْتٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: النَّفَقَةُ عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرٌ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . فَرَتَّبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْإِرْثِ، فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَتَّبَ فِي الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ، وَإِيجَابُهَا عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ وَلَا وَارِثٍ، فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِهَا عَلَيْهِ دُونَ الْبِنْتِ الْوَارِثَةِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ جَدَّةً وَأَخًا فَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ النَّفَقَةِ] (6499) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ جَدَّةً وَأَخًا، فَعَلَى الْجَدَّةِ سُدُسُ النَّفَقَةِ وَالْبَاقِي عَلَى الْأَخِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حِسَابُ النَّفَقَات) يَعْنِي أَنَّ تَرْتِيبَ النَّفَقَاتِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْجَدَّةِ هَاهُنَا سُدُسَ الْمِيرَاثِ، فَعَلَيْهَا سُدُسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 النَّفَقَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَخِ فَكَذَلِكَ الْبَاقِي مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَعَنَدَ مَنْ لَا يَرَى النَّفَقَةَ عَلَى غَيْر عَمُودِي النَّسَبِ، يَجْعَلُ النَّفَقَةَ كُلَّهَا عَلَى الْجَدَّةِ. وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ. فَإِنْ اجْتَمَعَ بِنْتٌ وَأُخْتٌ، أَوْ بِنْتٌ وَأَخٌ، أَوْ بِنْتٌ وَعَصَبَةٌ، أَوْ أُخْتٌ وَعَصَبَةٌ، أَوْ أُخْتٌ وَأُمٌّ، أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ، أَوْ أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنهمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ فِي ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رَدٌّ أَوْ عَوْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَعَلَى هَذَا تَحْسِبُ مَا أَتَاك مِنْ الْمَسَائِلِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي النَّفَقَةِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ أَبَوَا أُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ] (6500) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَ أَبَوَا أُمٍّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا الْوَارِثَةُ. وَإِنْ اجْتَمَعَ أَبَوَا أَبٍ، فَعَلَى أُمِّ الْأَبِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ. وَإِنْ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَأَخٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَإِنْ اجْتَمَعَتْ أُمٌّ وَأَخٌ وَجَدٌّ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، إلَّا الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ كَانَ فِيمَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ خُنْثَى مُشْكِلٌ] (6501) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِيمَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ خُنْثَى مُشْكِلٌ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ، فَإِنْ انْكَشَفَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالُهُ، فَبَانَ أَنَّهُ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، رَجَعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ أَنْفَقَ أَقَلَّ، رَجَعَ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ ابْنٌ وَوَلَدٌ خُنْثَى، عَلَيْهِمَا نَفَقَتُهُ، فَأَنْفَقَا عَلَيْهِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى ابْنٌ رَجَعَ عَلَيْهِ أَخُوهُ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ بَانَ بِنْتًا، رَجَعَتْ عَلَى أَخِيهَا بِفَضْلِ نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْفَضْلُ أَدَّى مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، مُعْتَقِدًا وُجُوبَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ خِلَافُهُ، رَجَعَ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ أَدَّى مَا يَعْتَقِدُهُ دَيْنًا فَبَانَ خِلَافُهُ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ قَرَابَتَانِ مُوسِرَانِ وَأَحَدُهُمَا مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ بِفَقِيرٍ فَعَلَى مَنْ تَجِبُ النَّفَقَةُ] (6502) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ قَرَابَتَانِ مُوسِرَانِ، وَأَحَدُهُمَا مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ بِفَقِيرٍ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَحْجُوبُ مِنْ عَمُودِي النَّسَبِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَجْبَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا كَانَ لَهُ أَبَوَانِ وَجَدٌّ، وَالْأَبُ مُعْسِرٌ، كَانَ الْأَبُ كَالْمَعْدُومِ، فَيَكُونُ عَلَى الْأُمِّ ثُلُثُ النَّفَقَةِ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ زَوْجَةٌ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا نَفَقَةَ عَلَى الْمَحْجُوبِ. فَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ هَاهُنَا إلَّا رُبْعُ النَّفَقَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ. وَإِنْ كَانَ أَبَوَانِ وَأَخَوَانِ وَجَدٌّ، وَالْأَبُ مُعْسِرٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مَحْجُوبَانِ، وَلَيْسَا مِنْ عَمُودِي النَّسَبِ، وَيَكُونُ عَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرَهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْأُمِّ إلَّا السُّدُسُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَبُ مَعْدُومًا، لَمْ تَرِثْ إلَّا السُّدُسَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ كُلَّ مَحْجُوبٍ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ. فَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ إلَّا السُّدُسُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ جَدٌّ، فَالنَّفَقَةُ كُلُّهَا عَلَى الْأُمِّ. عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي، لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا السُّدُسُ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ عَلَى الْمَحْجُوبِ بِالْمُعْسِرِ النَّفَقَةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَمُودِي النَّسَبِ. فَعَلَى الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ وَالْأَخَوَيْنِ أَثْلَاثًا، كَمَا يَرِثُونَ إذَا كَانَ الْأَبُ مَعْدُومًا. وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ غَائِبًا، وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ، أَنْفَقَ الْحَاكِمُ مِنْهُ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ، فَأَمْكَنَ الْحَاكِمَ الِاقْتِرَاضُ عَلَيْهِ، اقْتَرَضَ، فَإِذَا قَدِمَ، فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ. [فَصْلٌ وَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ قُوتِهِ إلَّا نَفَقَةُ شَخْصٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ] (6503) فَصْلٌ: وَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ قُوتِهِ إلَّا نَفَقَةُ شَخْصٍ، وَلَهُ امْرَأَةٌ، فَالنَّفَقَةُ لَهَا دُونَ الْأَقَارِبِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا، فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ، فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ، فَعَلَى قَرَابَتِهِ.» وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ مُوَاسَاةٌ، وَنَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُوَاسَاةِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ مَعَ يَسَارِهِمَا وَإِعْسَارِهِمَا، وَنَفَقَةُ الْقَرِيبِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ لِحَاجَتِهِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا نَفَقَةُ الرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُوَاسَاةِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ. فَإِنْ اجْتَمَعَ أَبٌ وَجَدٌّ، أَوْ وَابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ، قُدِّمَ الْأَبُ عَلَى الْجَدِّ، وَالِابْنُ عَلَى ابْنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يَسْتَوِي الْأَبُ وَالْجَدُّ، وَالِابْنُ وَابْنُهُ؛ لِتَسَاوِيهِمْ فِي الْوِلَادَةِ وَالتَّعْصِيبِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ أَقْرَبُ وَأَحَقُّ بِمِيرَاثِهِ، فَكَانَا أَحَقَّ، كَالْأَبِ مَعَ الْأَخِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ ابْنٌ وَجَدٌّ، أَوْ أَبٌ وَابْنُ ابْنٍ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، تَقْدِيمُ الِابْنِ؛ وَالْأَبِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ، فَإِنَّهُمَا يَلِيَانِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَا يَسْقُطُ إرْثُهُمَا بِحَالٍ، وَالْجَدُّ وَابْنُ الِابْنِ بِخِلَافِهِمَا، وَيَحْتَمِلُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْإِرْثِ وَالتَّعْصِيبِ وَالْوِلَادَةِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ، فَهُمَا سَوَاءٌ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ وَالْإِرْثُ وَالْوِلَادَةِ وَالتَّعْصِيبِ. وَيَحْتَمِلُ فِيهِمَا مَا يَحْتَمِلُ فِي الْأَبِ وَالِابْنِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ أَبٌ وَابْنٌ فَعَلَى مَنْ تَجِبُ النَّفَقَةُ] (6504) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ أَبٌ وَابْنٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، قُدِّمَ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 مَعَ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ، وَالْأَبُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ كَبِيرًا، وَالْأَبُ زَمِنٌ، فَهُوَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ آكَدُ، وَحَاجَتَهُ أَشَدُّ. وَيَحْتَمِلُ تَقْدِيمَ الِابْنِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ. وَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ فَقِيرَيْنِ، فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا، التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ، وَتَقَابُلِ مَرْتَبَتِهِمَا. وَالثَّانِي، تَقْدِيمُ الِابْنِ؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ بِالنَّصِّ. وَالثَّالِثُ. تَقْدِيمُ الْأَبِ، لِتَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ أَبَوَانِ، فَفِيهِمَا الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ؛ أَحَدُهَا، التَّسْوِيَةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، تَقْدِيمُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِالْبِرِّ، وَلَهَا فَضِيلَةُ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَزِيَادَةُ الشَّفَقَةِ، وَهِيَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ. وَالثَّالِثُ، تَقْدِيمُ الْأَبِ، لِفَضِيلَتِهِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ، وَإِضَافَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَدَ وَمَالَهُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك.» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنْ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَأَخٌ احْتَمَلَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَدَّ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ لَهُ مَزِيَّةَ الْوِلَادَةِ وَالْأُبُوَّةِ، وَلِأَنَّ ابْنَ ابْنِهِ يَرِثُهُ مِيرَاثَ ابْنٍ، وَيَرِثُ الْأَخُ مِيرَاثَ أَخٍ، وَمِيرَاثُ الِابْنِ آكَدُ فَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ بِهِ تَكُونُ آكَدَ. وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأَخِ ابْنُ أَخٍ أَوْ عَمٌّ فَالْجَدُّ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ. [فَصْلٌ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ] (6505) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ قَدْرُ الْكِفَايَةِ مِنْ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ وَالْكِسْوَةِ، بِقَدْرِ الْعَادَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ، فَتَقَدَّرَتْ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ فَقَدَّرَ نَفَقَتَهَا وَنَفَقَةَ وَلَدِهَا بِالْكِفَايَةِ. فَإِنْ احْتَاجَ إلَى خَادِمٍ فَعَلَيْهِ إخْدَامُهُ» ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كِفَايَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ عَلَى الْمُعْتِقِ نَفَقَةُ مُعْتَقِهِ إذَا كَانَ فَقِيرًا] (6506) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَعَلَى الْمُعْتِقِ نَفَقَةُ مُعْتَقِهِ، إذَا كَانَ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ وَارِثُهُ) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ، وَالْمُعْتِقُ وَارِثُ عَتِيقِهِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إذَا كَانَ فَقِيرًا، وَلِمَوْلَاهُ يَسَارٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ، بِنَاءً عَلَى أُصُولِهِمْ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّك وَأَبَاك، وَأُخْتَك وَأَخَاك، ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك، وَمَوْلَاك الَّذِي يَلِي ذَاكَ، حَقًّا وَاجِبًا، وَرَحِمًا مَوْصُولًا» . وَلِأَنَّهُ يَرِثُهُ بِالتَّعْصِيبِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَالْأَبِ. وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي غَيْرِهِ. (6507) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهُ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ مِنْ عَصَبَاتِهِ، عَلَى مَا بُيِّنَ فِي بَاب الْوَلَاءِ وَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ أَوْلَادِ عَتِيقِهِ، إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُمْ وَوَارِثُهُمْ، وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ أَوْلَادِ مُعْتَقَتِهِ إذَا كَانَ أَبُوهُمْ عَبْدًا كَذَلِكَ، فَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُمْ فَانْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مُعْتَقِهِ، صَارَ وَلَاؤُهُمْ لِمُعْتِقِ أَبِيهِمْ، وَنَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ، إذَا كَمُلَتْ الشُّرُوطُ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَتِيقَ نَفَقَةُ مُعْتِقِهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى صَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدًا، ثُمَّ يَسْبِي الْعَبْدُ سَيِّدَهُ فَيَعْتِقُهُ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَقَةُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ. [مَسْأَلَةٌ زُوِّجَتْ الْأَمَةُ لَزِمَ زَوْجَهَا أَوْ سَيِّدَهُ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا نَفَقَتُهَا] (6508) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا زُوِّجَتْ الْأَمَةُ، لَزِمَ زَوْجَهَا أَوْ سَيِّدَهُ، إنْ كَانَ مَمْلُوكًا، نَفَقَتُهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ زَوْجَ الْأَمَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، أَوْ بَعْضُهُ حُرًّا وَبَعْضُهُ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، لِلنَّصِّ، وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْبَالِغِينَ، وَالْأَمَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِهِنَّ، وَلِأَنَّهَا زَوْجَةٌ مُمَكِّنَةٌ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا نَفَقَتُهَا، كَالْحُرَّةِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا مَمْلُوكًا، فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِزَوْجَتِهِ لِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ. هَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالشَّافِعِيِّ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إذَا بَوَّأَهَا بَيْتًا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُوَاسَاةٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ، وَلَا زَكَاةُ مَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا عِوَضٌ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْمَهْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عِوَضٌ، أَنَّهَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ؛ وَلِهَذَا تَسْقُطُ عَنْ الْحُرِّ بِفَوَاتِ التَّمْكِينِ، وَفَارَقَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ. إذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ سَيِّدَهُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ الْمُفْضِي إلَى إيجَابِهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تَجِبُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا رَقَبَتِهِ، وَلَا ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، وَلَا إسْقَاطُهَا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ، وَأَرْشُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، يُبَاعُ فِيهَا، أَوْ يَفْدِيه سَيِّدُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْي. وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ أَذِنَ السَّيِّدُ فِيهِ، فَلَزِمَ ذِمَّتَهُ، كَاَلَّذِي اسْتَدَانَهُ وَكِيلُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، وَيَجِبُ لِلرَّتْقَاءِ، وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَزَوْجَةِ الْمَجْبُوبِ وَالصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّمْكِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجِنَايَةٍ وَلَا قَائِمٍ مَقَامَهَا. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُهُ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إيجَابِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُودَ مُقْتَضِيه، فَلَا مَعْنَى لِدَعْوَى التَّعَذُّرِ. [مَسْأَلَةٌ أَمَةٌ تَأْوِي بِاللَّيْلِ عِنْدَ الزَّوْجِ وَبِالنَّهَارِ عِنْدَ الْمَوْلَى فَمِنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا] (6509) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً تَأْوِي بِاللَّيْلِ عِنْدَ الزَّوْجِ، وَبِالنَّهَارِ عِنْدَ الْمَوْلَى، أَنْفَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّةَ مُقَامِهَا عِنْدَهُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرْنَا أَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا فِي اللَّيْلِ، فَتَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ فِيهِ، وَالْبَاقِي مِنْهَا عَلَى السَّيِّدِ، بِحُكْمِ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ لَمْ تَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ النَّفَقَةِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ، كَالْحُرَّةِ إذَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وُجِدَ التَّمْكِينُ الْوَاجِبُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَاسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ كَالْحُرَّةِ إذَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالصَّوْمِ الْوَاجِبِ، وَالْحَجِّ الْمَفْرُوضِ. وَفَارَقَ الْحُرَّةَ إذَا امْتَنَعَتْ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَبْذُلْ الْوَاجِبَ، فَتَكُونَ نَاشِزًا، وَهَذِهِ لَيْسَتْ نَاشِزًا وَلَا عَاصِيَةً. (6510) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ، لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَةُ وَلَدِهِ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَنَفَقَتُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ) يَعْنِي الْأَمَةَ لَيْسَ عَلَى زَوْجِهَا نَفَقَةُ وَلَدِهَا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ عَبْدٌ لِسَيِّدِهَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ دُونَ أَبِيهِمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ أَخَصُّ بِسَيِّدِهِ مِنْ أَبِيهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا وِلَايَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَلَا مِيرَاثَ، وَلَا إنْفَاقَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ، وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ وَلَدَ الْعَرَبِيِّ يَكُونُ حُرًّا، وَعَلَى أَبِيهِ فِدَاؤُهُ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ سَيِّدُهُ، أَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِوِلَادَتِهِ، أَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَوَلَدُهُ مِنْهَا أَحْرَارٌ، وَعَلَى أَبِيهِمْ نَفَقَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، إذَا كَانَ حُرًّا، وَتَحَقَّقَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْإِنْفَاقِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْأَمَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا هَلْ لَهَا النَّفَقَة] فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَ الْأَمَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ. وَإِنْ أَبَانَهَا وَهِيَ حَائِلٌ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً، لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فَالْأَمَةُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ رِوَايَتَانِ، هَلْ هِيَ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ بِسَبَبِهِ؟ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هِيَ لِلْحَمْلِ. فَعَلَى هَذَا لَا تَجِبُ لِلْمَمْلُوكَةِ الْحَامِلِ الْبَائِنِ نَفَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ الْحَامِلَ طَلَاقًا بَائِنًا هَلْ لَهَا النَّفَقَةُ] (6512) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ الْحَامِلَ طَلَاقًا بَائِنًا، انْبَنَى عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي النَّفَقَةِ، هَلْ هِيَ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ لِلْحَمْلِ. فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْعَبْدِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ لِلْحَامِلِ بِسَبَبِهِ. وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَلِأَنَّهَا حَامِلٌ، فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. [فَصْلٌ وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ] (6513) فَصْلٌ: وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَبَاقِيهَا عَلَى سَيِّدِهِ، أَوْ فِي ضَرِيبَتِهِ، أَوْ فِي رَقَبَتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ. وَالْقَدْرُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ، يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُهُ؛ إنْ كَانَ مُوسِرًا فَنَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَالْبَاقِي تَجِبُ فِيهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِمَّا يَتَبَعَّضُ، وَمَا يَتَبَعَّضُ بَعَّضْنَاهُ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ كَالْمِيرَاثِ وَالدِّيَاتِ، وَمَا لَا يَتَبَعَّضُ، فَهُوَ فِيهِ كَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ إمَّا شَرْطٌ فِيهِ، أَوْ سَبَبٌ لَهُ، فَلَمْ يَكْمُلْ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ فِي الْجَمِيعِ، إلْحَاقًا لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِالْآخَرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 وَلَنَا، أَنَّهُ يَمْلِكُ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مِلْكًا تَامًّا؛ وَلِهَذَا يُورَثُ عَنْهُ، وَيُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ، وَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَبَعَّضَ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الْقَابِلَةِ لِلتَّبْعِيضِ، فَأَمَّا نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ، فَيَلْزَمُهُ مِنْهَا بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْمِيرَاثِ. وَعِنْدَ الْمُزَنِيّ، تَلْزَمُهُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَبِيدِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ] (6514) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ، حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ أَمَةً) أَمَّا إذَا كَانَتْ زَوْجَةُ الْعَبْدِ حُرَّةً فَوَلَدُهَا أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ مَمْلُوكَةً، فَوَلَدُهَا عَبِيدٌ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهَا، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ] فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ، فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ، حُكْمُ الْعَبْدِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ لَا تَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ، فَنَفَقَةُ امْرَأَتِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ وَأَقَارِبِهِ الْأَحْرَارِ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا؛ وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ، وَلَا الْفِطْرَةُ فِي بَدَنِهِ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً، فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهَا فِي الْحُرِّيَّةِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَقَارِبُ أَحْرَارٌ، كَجَدٍّ حُرٍّ وَأَخٍ حُرٍّ مَعَ الْأُمِّ، أَنْفَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِ، وَالْمُكَاتَبُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّفَقَةِ. [مَسْأَلَةٌ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ نَفَقَةُ وَلَدِهَا دُونَ أَبِيهِ الْمُكَاتَبِ] (6516) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَعَلَى الْمُكَاتَبَةِ نَفَقَةُ وَلَدِهَا دُونَ أَبِيهِ الْمُكَاتَبِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ، لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ مِنْ أَمَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً، فَوَلَدُهَا يَتْبَعُونَهَا فِي الْكِتَابَة، وَيَكُونُونَ مَوْقُوفِينَ عَلَى كِتَابَتِهَا؛ إنْ رَقَّتْ رَقُّوا، وَإِنْ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ عَتَقُوا، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهَا مِمَّا فِي يَدَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ نَفْسِهَا، وَنَفَقَتُهَا مِمَّا فِي يَدَيْهَا، فَكَذَلِكَ عَلَى وَلَدِهَا. وَأَمَّا زَوْجُهَا الْمُكَاتَبُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبَةِ. وَإِنْ كَانَتْ، زَوْجَتُهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، فَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُمْ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُكَاتَبُ التَّبَرُّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ، وَكَانَ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 أَمَةٍ أَوْ مُكَاتَبَةٍ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ، أَوْ حُرَّةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ لِسَيِّدِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهِ، فَهُوَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ سَيِّده، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُكَاتَبَةٍ لِسَيِّدِهِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ، وَأُمُّهُ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا، إذْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْجِزَ هُوَ، وَتُؤَدِّي الْمُكَاتَبَةُ، فَيَعْتِقُ وَلَدُهَا، فَيَحْصُلُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَيَصِيرُ حُرًّا. [مَسْأَلَةٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ] (6517) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَعَلَى الْمُكَاتَبِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ) أَمَّا وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ، فَنَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ مِنْ أَمَتِهِ تَابِعٌ لَهُ، يَرِقُّ بِرِقِّهِ، وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهِ، فَجَرَى مَجْرَى نَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي هَذَا حَالُهُ، وَلِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ سِوَى أَبِيهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ أَمَةٌ لِلْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَحْرَارِ أَقَارِبٌ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، كَأُمِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى السَّيِّدِ فِي إنْفَاقِ الْمُكَاتَبِ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى وَعَتَقَ، فَقَدْ وَفَّى مَالَ الْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَإِنْ عَجَزَ وَرَقَّ، عَادَ إلَيْهِ الْمُكَاتَبُ وَوَلَدُهُ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِهِ، وَتَصِيرُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ كَنَفَقَتِهِ عَلَى سَائِرِ رَقِيقِهِ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّده] (6518) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ، وَعَلَى السَّيِّدِ ضَرَرٌ فِي تَسَرِّيهِ بِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِهَا. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعِ لِحَقِّهِ، فَجَازَ بِإِذْنِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْقِنِّ. وَإِنْ وَطِئَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا، وَلَا يَبِعْ وَلَدَهُ، فَإِنْ عَتَقَ، عَتَقَ وَلَدُهَا، وَصَارَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ رَقَّ، رَقَّتْ هِيَ وَوَلَدُهَا، وَصَارَتْ أَمَةً لَسَيِّدِهِ، وَالْمُكَاتَبُ وَوَلَدُهُ عَبْدَانِ لَهُ. وَيَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ الْإِنْفَاقُ عَلَى عَبِيدِهِ، وَإِمَائِهِ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مِلْكٌ لَهُ، فَلَزِمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ، كَبَهَائِمِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 [بَابٌ الْحَالُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ.] [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِشَرْطَيْنِ] ِ. (6519) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِثْلُهَا يُوطَأُ، فَلَمْ تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا، وَلَا مَنَعَهُ أَوْلِيَاؤُهَا، لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ قِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ. كَانَ مَذْهَبًا. وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَهَا، كَالْمَرَضِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ، فَلَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا، كَمَا لَوْ مَنَعَهُ أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ، وَيُفَارِقُ الْمَرِيضَةَ، فَإِنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا نَقَصَ بِالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا تُمَكِّنُ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا، لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ نَفَقَتُهَا، فَهَذِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تِلْكَ يُمْكِنُ الزَّوْجُ قَهْرَهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا كُرْهًا، وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا بِحَالٍ. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ تَبْذُلَ التَّمْكِينَ التَّامَّ مِنْ نَفْسِهَا لِزَوْجِهَا، فَأَمَّا إنْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا أَوْ مَنَعَهَا أَوْلِيَاؤُهَا، أَوْ تَسَاكَتَا بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَبْذُلْ وَلَمْ يَطْلُبْ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ أَقَامَا زَمَنًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ عَائِشَةَ وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَلَمْ يُنْفِقْ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ نَفَقَتَهَا لِمَا مَضَى. وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا وُجِدَ اسْتَحَقَّتْ، وَإِذَا فُقِدَ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَوْ بَذَلَتْ تَسْلِيمًا غَيْرَ تَامٍّ، بِأَنْ تَقُولَ: أُسَلِّمُ إلَيْك نَفْسِي فِي مَنْزِلِي دُونَ غَيْرِهِ. أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ دُونَ غَيْرِهِ. لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا، إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ اشْتَرَطَتْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْذُلْ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ، كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أُسَلِّمُ إلَيْك السِّلْعَةَ عَلَى أَنْ تَتْرُكَهَا فِي مَوْضِعِهَا، أَوْ فِي مَكَان بِعَيْنِهِ. وَإِنْ شَرَطَتْ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا، فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ، اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا؛ وَلِذَلِكَ لَوْ سَلَّمَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ، اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ، وَفَارَقَ الْحُرَّةَ، فَإِنَّهَا لَوْ بَذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُسَلِّمْ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَمْكَنَتْهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَمَنَعَتْهُ اسْتِمْتَاعًا، لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 [فَصْلٌ غَابَ الزَّوْجُ بَعْدَ تَمْكِينِهَا وَوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ] (6520) فَصْلٌ: وَإِنْ غَابَ الزَّوْجُ بَعْدَ تَمْكِينِهَا وَوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ، بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا يُسْقِطُهَا. وَإِنْ غَابَ قَبْلَ تَمْكِينِهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدُ الْمُوجِبُ لَهَا. فَإِنْ بَذَلَتْ التَّسْلِيمَ وَهُوَ غَائِبٌ، لَمْ تَسْتَحِقَّ نَفَقَةً؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْهُ فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ فِيهِ، لَكِنْ إنْ مَضَتْ إلَى الْحَاكِمِ، فَبَذَلَتْ التَّسْلِيمَ، كَتَبَ الْحَاكِمُ إلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لِيَسْتَدْعِيَهُ وَيُعْلِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ سَارَ إلَيْهَا، أَوْ وَكَّلَ مَنْ يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ، فَوَصَلَ، وَتَسَلَّمْهَا هُوَ أَوْ نَائِبُهُ، وَجَبَتْ النَّفَقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ نَفَقَتَهَا مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا وَتَسَلُّمُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا مَعَ إمْكَانِ ذَلِكَ، وَبَذْلِهَا إيَّاهُ لَهُ، فَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا. وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ صَغِيرَةً، يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، أَوْ مَجْنُونَةً، فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ، فَتَسَلَّمْهَا، لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا كَالْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهَا، لِمَنْعِهَا نَفْسَهَا، أَوْ مَنْعِ أَوْلِيَائِهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ غَابَ الزَّوْجُ، فَبَذَلَ وَلِيُّهَا تَسْلِيمَهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَذَلَتْ الْمُكَلَّفَةُ التَّسْلِيمَ، فَإِنَّ وَلِيَّهَا يَقُومُ مَقَامَهَا. وَإِنْ بَذَلَتْ هِيَ دُونَ وَلِيِّهَا، لَمْ يَفْرِضْ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِكَلَامِهَا. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ كَبِيرَةً يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَمَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا] (6521) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْحَالِ الَّتِي وَصَفْت، وَزَوْجُهَا صَبِيٌّ، أُجْبِرَ وَلِيُّهُ عَلَى نَفَقَتِهَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 بَيْنَهُمَا) يَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ كَبِيرَةً، يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَمَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا، أَوْ بَذَلَتْ تَسْلِيمَهَا، وَلَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا، وَلَا مَنَعَهَا أَوْلِيَاؤُهَا، فَعَلَى زَوْجِهَا الصَّبِيِّ نَفَقَتُهَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَلَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً أَوْ صَغِيرَةً وَلَنَا، أَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَسْلِيمًا صَحِيحًا، فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا، وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَرَضِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا غَابَتْ، أَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً، فَإِنَّهَا لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا تَسْلِيمًا صَحِيحًا، وَلَمْ تَبْذُلْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يُجْبَرُ الْوَلِيُّ عَلَى نَفَقَتِهَا مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا الْوَلِيُّ يَنُوبُ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ، كَمَا يُؤَدِّي أُرُوشَ جِنَايَاتِهِ، وَقِيَمَ مُتْلَفَاتِهِ، وَزَكَوَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ مِنْ الْإِنْفَاقِ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ، أَخَذَ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَصَبَرَ الْوَلِيُّ عَلَى الْحَبْسِ، وَتَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْكَبِيرِ، أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ فِي أَحْكَامِهِ. [فَصْلٌ بَذَلَتْ الرَّتْقَاءُ أَوْ الْحَائِضُ أَوْ النُّفَسَاءُ أَوْ النِّضْوَةُ الْخَلْقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا أَوْ الْمَرِيضَةُ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا] (6522) فَصْلٌ: وَإِنْ بَذَلَتْ الرَّتْقَاءُ، أَوْ الْحَائِضُ، أَوْ النُّفَسَاءُ، أَوْ النِّضْوَةُ الْخَلْقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا، أَوْ الْمَرِيضَةُ، تَسْلِيمَ نَفْسِهَا، لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ حَدَثَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مُمْكِنٌ، وَلَا تَفْرِيطَ مِنْ جِهَتهَا وَإِنْ مَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ، وَيُفَارِقُ الصَّغِيرَةَ، فَإِنَّ لَهَا حَالًا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيهَا اسْتِمْتَاعًا تَامًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا انْتِظَارًا لِتِلْكَ الْحَالِ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَلَبَ تَسْلِيمَ هَؤُلَاءِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُنَّ، وَلَوْ طَلَبَ تَسْلِيمَ الصَّغِيرَةِ لَمْ يَجِبْ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ بَذَلَتْ الصَّحِيحَةُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا دُونَ الْوَطْءِ، لَمْ تُجِبْ لَهَا النَّفَقَةُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ قُلْنَا: لِأَنَّ تِلْكَ مَنَعَتْ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ التَّمْكِينُ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي وَطْئِهِ لِضِيقِ فَرْجِهَا، أَوْ قُرُوحٍ بِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ هُوَ، أُرِيَتْ امْرَأَةً ثِقَةً، وَعُمِلَ بُقُولِهَا وَإِنْ ادَّعَتْ عَبَالَةَ ذَكَرِهِ وَعِظَمَهُ، جَازَ أَنْ تَنْظُرَ الْمَرْأَةُ إلَيْهِمَا حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ لِلْحَاجَةِ وَالشَّهَادَةِ. [مَسْأَلَةٌ طَالَبَ الزَّوْجُ بِالدُّخُولِ وَقَالَتْ لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي حَتَّى أَقْبِضَ صَدَاقِي] (6523) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجُ بِالدُّخُولِ، وَقَالَتْ: لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي حَتَّى أَقْبِضَ صَدَاقِي كَانَ ذَلِكَ لَهَا، وَلَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ إلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهَا صَدَاقَهَا) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَتَسَلَّمَ صَدَاقَهَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا قَبْلَ تَسْلِيمِ صَدَاقِهَا يُفْضِي إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا بِالْوَطْءِ، ثُمَّ لَا يُسَلِّمَ صَدَاقَهَا، فَلَا يُمْكِنُهَا الرُّجُوعُ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْهَا، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ إذَا تَسَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْسَرَ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُ تَسْلِيمَ صَدَاقِهَا أَوَّلًا، وَجَعَلْنَا لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ إلَيْهَا الصَّدَاقَ ثُمَّ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، أَمْكَنَ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِتَقْبِضَ صَدَاقَهَا، فَلَهَا نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ بِحَقٍّ فَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 قِيلَ: فَلَوْ امْتَنَعَتْ لَصِغَرٍ أَوْ مَرَضٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ امْتِنَاعَهَا لَمَرَضٍ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا، وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ لِلصِّغَرِ، وَهَا هُنَا الِامْتِنَاعُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَهُوَ مَنْعُهُ لِمَا وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِمْتَاعُ لِصِغَرِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْهُ، وَلَوْ تَعَذَّرَ لِصِغَرِهَا، لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا. [فَصْلٌ سَافَرَتْ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (6524) فَصْلٌ: إذَا سَافَرَتْ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ وَكَذَلِكَ إنْ انْتَقَلَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ، فِي حَاجَتِهِ، فَهِيَ عَلَى نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّهَا سَافَرَتْ فِي شُغْلِهِ وَمُرَادِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهَا، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ التَّمْكِينَ لَحَظِّ نَفْسِهَا، وَقَضَاءِ حَاجَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَنْظَرَتْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مُدَّةً فَأَنْظَرَهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا مَعَهَا، مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا، فَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُفَوِّتْ التَّمْكِينَ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَ الْمُسَافِرَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا؛ لِأَنَّهَا مُسَافِرَةٌ بِإِذْنِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَافَرَتْ فِي حَاجَتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهَا لِتِجَارَةٍ، أَوْ حَجِّ تَطَوُّعٍ، أَوْ زِيَارَةٍ وَلَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسَافِرَةِ وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِهِ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهَا النَّفَقَةُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالْمُسَافِرَةِ؛ لِأَنَّهَا بِإِحْرَامِهَا مَانِعَةٌ لَهُ مِنْ التَّمْكِينِ، فَهِيَ كَالْمُسَافِرَةِ لِحَاجَةِ نَفْسِهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَوْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ، فِي الْوَقْتِ الْوَاجِبِ، مِنْ الْمِيقَاتِ، فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي وَقْتِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا، كَمَا لَوْ صَامَتْ رَمَضَانَ وَإِنْ قَدَّمَتْ الْإِحْرَامَ عَلَى الْمِيقَاتِ، أَوْ قَبْلَ الْوَقْتِ خُرِّجَ فِيهَا مِنْ الْقَوْلِ مَا فِي الْمُحْرِمَةِ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِ التَّمْكِينَ بِشَيْءٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. [فَصْلٌ صَامَتْ الزَّوْجَةُ رَمَضَانَ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا] (6525) فَصْلٌ: فَإِنْ اعْتَكَفَتْ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَسَفَرِهَا، إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهِيَ نَاشِزٌ؛ لِخُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَقَالَ الْقَاضِي: لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ صَامَتْ رَمَضَانَ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُضَيَّقٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، لَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا مِنْهُ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا، كَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ صَائِمًا مَعَهَا، فَيَمْتَنِعُ الِاسْتِمْتَاعُ لِمَعْنًى وُجِدَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ قَبْضَتِهِ، وَلَمْ تَأْتِ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَفْطِيرُهَا وَوَطْؤُهَا، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهَا فَمَنَعَتْهُ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا بِامْتِنَاعِهَا مِنْ التَّمْكِينِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ صَوْمًا مَنْذُورًا مُعَلَّقًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ نَذْرُهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، أَوْ كَانَ النَّذْرُ بِإِذْنِهِ، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا بِحَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 نِكَاحِهِ، أَوْ وَاجِبٍ أَذِنَ فِي سَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِاخْتِيَارِهَا بِالنَّذْرِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ الشَّرْعُ عَلَيْهَا، وَلَا نَدَبَهَا إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا، أَوْ كَانَ صَوْمَ كَفَّارَةٍ، فَصَامَتْ بِإِذْنِهِ، فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا أَدَّتْ الْوَاجِبَ بِإِذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَامَتْ الْمُعَيَّنَ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا يُمْكِنُهَا تَأْخِيرُهُ، فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَحَقُّ الزَّوْجَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِنْ كَانَ قَضَاءَ رَمَضَانَ قَبْلَ ضِيقِ وَقْتِهِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا، مِثْلَ أَنْ قَرُبَ رَمَضَانُ الْآخَرُ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُضَيَّقٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَشْبَهَ أَدَاءَ رَمَضَانَ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ] (6526) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، فَلَا سُكْنَى لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا، أَوْ بِخُلْعِ، أَوْ بَانَتْ بِفَسْخٍ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَفِي بَعْضِ أَخْبَارِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «لَا نَفَقَةَ لَك إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا» وَلِأَنَّ الْحَمْلَ وَلَدُهُ، فَيَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، إلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ، كَمَا وَجَبَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَفِي السُّكْنَى رِوَايَتَانِ:؛ إحْدَاهُمَا: لَهَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِلْآيَةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا سُكْنَى لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعِرَاقِيِّينَ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَبِهِ قَالَ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْبَتِّيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، كَالرَّجْعِيَّةِ وَرَدُّوا خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَتَأَوَّلُوهُ وَلَنَا، مَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، «أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَك عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لَك عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُنْظُرِي يَا ابْنَةَ قَيْسٍ إنَّمَا النَّفَقَةُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 فَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْأَثْرَمُ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ الْحُجَّةِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهَا، قَوْلُ أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَصَحُّ وَأَحَجُّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصًّا صَرِيحًا، فَأَيُّ شَيْءٍ يُعَارِضُ هَذَا إلَّا مِثْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الَّذِي هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ مُرَادَهُ؟ وَلَا شَيْءَ يَدْفَعُ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَالْحُجَّةُ مَعَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، لِمَا قُبِلَ قَوْلُهُ الْمُخَالِفُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ عَلَى عُمَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَإِنَّ أَحْمَدَ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَلَا، وَلَكِنْ قَالَ: لَا نَقْبَلُ فِي دِيننَا قَوْلَ امْرَأَةٍ وَهَذَا أَمْرٌ يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ فِي الرِّوَايَةِ، فَأَيُّ حُجَّةٍ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُهُ الْإِجْمَاعُ، وَتَرُدُّهُ السَّنَةُ، وَيُخَالِفُهُ فِيهِ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ لَا يَقُولُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا إلَّا لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَاَلَّذِي فِي الْكِتَابِ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَأَمَّا غَيْرُ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَلَا يَدُلُّ الْكِتَابُ إلَّا عَلَى أَنَّهُنَّ لَا نَفَقَةَ لَهُنَّ؛ لِاشْتِرَاطِهِ الْحَمْلَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا يَعْنِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَضَى أَنْ لَا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا قُوتَ» وَلِأَنَّ هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا لَا تُزِيلُهُ الرَّجْعَةُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ، كَالْمُلَاعَنَةِ أَوْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَفَارَقَتْ الرَّجْعِيَّةَ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ، فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهَا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ. [فَصْلٌ الْمُلَاعَنَةُ فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ إنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ] (6527) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُلَاعِنَةُ فَلَا سُكْنَى لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ، إنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ، لِلْخَبَرِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَامِلًا فَنَفَى حَمْلَهَا، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ أَوْ قُلْنَا: إنَّهُ يَنْتَفِي بِزَوَالِ الْفِرَاشِ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ أَوْ لَمْ يَنْفِهِ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْحَمْلِ، أَوْ لَهَا بِسَبَبِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَأَشْبَهْت الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ فَإِنْ نَفَى الْحَمْلَ، فَأَنْفَقَتْ أُمُّهُ، وَسَكَنَتْ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَأَرْضَعَتْ، ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ الْمُلَاعِنُ، لَحِقَهُ، وَلَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ وَأُجْرَةُ الْمَسْكَنِ وَالرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ أَبٌ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَرُجِعَ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: النَّفَقَةُ لِأَجْلِ الْحَمْلِ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ، وَهِيَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 يَسْقُطُ عَنْهُ؟ قُلْنَا: بَلْ النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَلَا تَسْقُطُ، كَنَفَقَتِهَا فِي الْحَيَاةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْحَمْلِ، إلَّا أَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَيْهَا، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّهَا، فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَنَفَقَتِهَا. [فَصْلٌ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْوَفَاةِ إنْ كَانَتْ حَائِلًا] فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْوَفَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زَوْجِهَا، فَكَانَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، كَالْمُفَارِقَةِ فِي الْحَيَاةِ وَالثَّانِيَةُ، لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ صَارَ لِلْوَرَثَةِ، وَنَفَقَةُ الْحَامِلِ وَسُكْنَاهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحَمْلِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْوَرَثَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مِيرَاثٌ، فَنَفَقَةُ الْحَمْلِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثٌ، لَمْ يَلْزَمْ وَارِثَ الْمَيِّتِ الْإِنْفَاقُ عَلَى حَمْلِ امْرَأَتِهِ، كَمَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ. [فَصْلٌ نَفَقَةُ الْحَامِلِ] (6529) فَصْلٌ: وَهَلْ تَجِبُ نَفَقَةُ الْحَمْلِ لِلْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ أَوْ لِلْحَمْلِ، فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: تَجِبُ لِلْحَمْلِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِوُجُودِهِ، وَتَسْقُطُ عِنْدَ انْفِصَاله، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَهُ وَالثَّانِيَةُ، تَجِبُ لَهَا مِنْ أَجْلِهِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَكَانَتْ لَهُ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَأَشْبَهَتْ نَفَقَتَهَا فِي حَيَاتِهِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فُرُوعٌ؛ مِنْهَا، أَنَّهَا إذَا كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ الْحَامِلُ أَمَةً، وَقُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ فَنَفَقَتُهَا عَلَى سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَإِنْ قُلْنَا: لَهَا فَعَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَقُلْنَا: هِيَ لِلْحَمْلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ وَلَدِهِ وَإِنْ قُلْنَا: لَهَا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَقُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ فَعَلَى الزَّوْجِ وَالْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ، فَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ كَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ وَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَامِلِ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا وَإِنْ نَشَزَتْ امْرَأَةُ إنْسَانٍ، وَهِيَ حَامِلٌ، وَقُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ وَلَدِهِ لَا تَسْقُطُ بِنُشُوزِ أُمِّهِ وَإِنْ قُلْنَا: لَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ. [فَصْلٌ وَقْتُ دَفْعِ نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ إلَيْهَا] (6530) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ دَفْعُ نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ إلَيْهَا يَوْمًا فَيَوْمًا، كَمَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ نَفَقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُتَحَقِّقِ؛ وَلِهَذَا: وَقَفْنَا الْمِيرَاثَ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلِأَنَّهَا مَحْكُومٌ لَهَا بِالنَّفَقَةِ، فَوَجَبَ دَفْعُهَا إلَيْهَا، كَالرَّجْعِيَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْحَمْلَ يَثْبُتُ بِالْأَمَارَاتِ، وَتَثْبُتُ أَحْكَامُهُ فِي النِّكَاحِ، وَالْحَدِّ، وَالْقِصَاصِ، وَفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ، وَالْمَنْعِ مِنْ الْأَخْذِ فِي الزَّكَاةِ، وَوُجُوبِ الدَّفْعِ فِي الدِّيَةِ، فَهُوَ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمِيرَاثَ؛ فَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْحَمْلِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ الْوَضْعُ وَالِاسْتِهْلَالُ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ صِفَةَ الْحَمْلِ وَقَدْرَهُ وَوُجُودَ شَرْطِ تَوْرِيثِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحَمْلِ، وَلَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى ادَّعَتْ الْحَمْلَ فَصَدَّقَهَا، دَفَعَ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ حَمْلًا، فَقَدْ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا، وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَامِلًا، رَجَعَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ دَفَعَ إلَيْهَا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّهَا نَفَقَةٌ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَعَنْهُ: لَا يَرْجِعُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، فَإِذَا بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، اسْتَرْجَعَهُ، كَمَا لَوْ قَضَاهَا دَيْنًا، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ أَنْكَرَ حَمْلهَا، نَظَرَ النِّسَاءُ الثِّقَاتُ، فَرُجِعَ إلَى قَوْلِهِنَّ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، أَشْبَهَ الرَّضَاعَ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ بِالْخَبَرِ. [فَصْلٌ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ] (6531) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْوَطْءِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوَطْءِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، إنْ كَانَتْ حَائِلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ، فَبَعْدَهُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَهَا النَّفَقَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا ذَلِكَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ بَعْدَ التَّفْرِيقِ، فَقَبْلَهُ أَوْلَى وَمَتَى أَنْفَقَ عَلَيْهَا قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَهُوَ مُفَرِّطٌ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ، كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى أَجْنَبِيَّةٍ وَكُلُّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ الْوَطْءِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ وَغَيْرِهَا، إنْ كَانَ يَلْحَقُ الْوَاطِئَ نَسَبُ وَلَدِهَا، فَهِيَ كَالْمَوْطُوءَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا، كَالزَّانِي، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَلَا بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ حَمْلِهَا] (6532) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ حَمْلِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَا لِلْوَلَدِ، حَتَّى تَفْطِمَهُ) أَمَّا إذَا خَالَعَتْهُ وَلَمْ تُبْرِئْهُ مِنْ حَمْلِهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهِيَ حَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ وَلَدُهُ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ الْحَمْلِ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ، صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْخُلْعِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 وَيَبْرَأُ حَتَّى تَفْطِمَهُ، إذَا كَانَتْ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَمْلِ وَكَفَالَةِ الْوَلَدِ إلَى ذَلِكَ، أَوْ أَطْلَقَتْ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفَقَةِ الْحَمْلِ وَكَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُدَّةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَهِيَ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ، انْصَرَفَ إلَى الْعُرْفِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، انْصَرَفَ إلَى حَوْلَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِصَالُهُ قَبْلَ الْعَامَيْنِ إلَّا بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ وَإِنْ قَدَّرَا مُدَّةَ الْبَرَاءَةِ بِزَمَنِ الْحَمْلِ، أَوْ بِعَامِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى مَا قَدَّرَاهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَبْعَدُ مِنْ اللَّبْسِ وَالِاشْتِبَاه وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَمْلِ، انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ الْحَمْلِ قَبْلَ وَضْعِهِ قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا صَحَّ مُخَالَعَتُهَا عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ، وَهِيَ لِلْوَلَدِ دُونَهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَالِكَةِ لَهَا، لِأَنَّهَا هِيَ الْقَابِضَةُ لَهَا، الْمُسْتَحِقَّةُ لَهَا، الْمُتَصَرِّفَةُ فِيهَا، فَإِنَّهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ هِيَ الْآكِلَةُ لَهَا، الْمُنْتَفِعَةُ بِهَا، وَبَعْدَ الْوِلَادَةِ هِيَ أَجْرُ رَضَاعِهَا لَهُ، وَهِيَ الْآخِذَةُ لَهَا، الْمُتَصَرِّفَةُ فِيهَا أَيْضًا، فَصَارَتْ كَمِلْكٍ مِنْ أَمْلَاكِهَا، فَصَحَّ جَعْلُهَا عِوَضًا فَأَمَّا النَّفَقَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى هَذَا، مِنْ كِسْوَةِ الطِّفْلِ وَدُهْنِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَاوَضَ بِهِ فِي الْخُلْعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ لَهَا، وَلَا هُوَ فِي حُكْمِ مَا هُوَ لَهَا. [مَسْأَلَةٌ النَّاشِزُ لَا نَفَقَةَ لَهَا] (6533) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالنَّاشِزُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَعْطَاهَا نَفَقَةَ وَلَدِهَا) مَعْنَى النُّشُوزِ مَعْصِيَتُهَا لِزَوْجِهَا فِيمَا لَهُ عَلَيْهَا، مِمَّا أَوْجَبَهُ لَهُ النِّكَاحُ، وَأَصْلُهُ مِنْ الِارْتِفَاعِ، مَأْخُوذٌ مِنْ النَّشْزِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، فَكَأَنَّ النَّاشِزَ ارْتَفَعَتْ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا، فَسُمِّيَتْ نَاشِزًا فَمَتَى امْتَنَعَتْ مِنْ فِرَاشِهِ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ الِانْتِقَالِ مَعَهُ إلَى مَسْكَنِ مِثْلِهَا، أَوْ مِنْ السَّفَرِ مَعَهُ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ الْحَكَمُ: لَهَا النَّفَقَةُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَؤُلَاءِ إلَّا الْحَكَمَ، وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِأَنَّ نُشُوزَهَا لَا يُسْقِطُ مَهْرَهَا، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهَا وَلَنَا، أَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَيْهِ، وَإِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ كَانَ لَهَا مَنْعُهُ التَّمْكِينَ، فَإِذَا مَنَعَتْهُ التَّمْكِينَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ النَّفَقَةِ، كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتُخَالِفُ الْمَهْرَ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلِذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَعْصِيَتِهَا، كَالْكَبِيرِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 إذَا كَانَتْ هِيَ الْحَاضِنَةَ لَهُ، أَوْ الْمُرْضِعَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ رَضَاعِهَا، يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَجْرٌ مَلَكَتْهُ عَلَيْهِ بِالْإِرْضَاعِ، لَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، فَلَا يَزُولُ بِزَوَالِهِ. [فَصْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ بِنُشُوزِهَا فَعَادَتْ عَنْ النُّشُوزِ وَالزَّوْجُ حَاضِرٌ] (6534) فَصْلٌ: وَإِذَا سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ بِنُشُوزِهَا، فَعَادَتْ عَنْ النُّشُوزِ وَالزَّوْجُ حَاضِرٌ، عَادَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِزَوَالِ الْمُسْقِطِ لَهَا، وَوُجُودِ التَّمْكِينِ الْمُقْتَضِي لَهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، لَمْ تَعُدْ نَفَقَتُهَا حَتَّى يَعُودَ التَّسْلِيمُ بِحُضُورِهِ، أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ، أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالْوُجُوبِ إذَا مَضَى زَمَنُ الْإِمْكَانِ وَلَوْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ، عَادَتْ نَفَقَتُهَا بِمُجَرَّدِ عَوْدِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ إنَّمَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا بِخُرُوجِهَا عَنْ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا عَادَتْ إلَيْهِ، زَالَ الْمَعْنَى الْمُسْقِطُ، فَعَادَتْ النَّفَقَةُ، وَفِي النُّشُوزِ، سَقَطَتْ النَّفَقَةُ بِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ، أَوْ مَنْعِهَا لَهُ مِنْ التَّمْكِينِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ إلَّا بِعَوْدِهَا إلَى يَدِهِ، وَتَمْكِينِهِ مِنْهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ بَذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِ، لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ بِمُجَرَّدِ الْبَذْلِ، كَذَا هَاهُنَا، وَاَللَّه أَعْلَمُ. [بَابُ مَنْ أَحَقُّ بِكَفَالَةِ الطِّفْلِ] ِ كَفَالَةُ الطِّفْلِ وَحَضَانَتُهُ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ بِتَرْكِهِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ عَنْ الْهَلَاكِ، كَمَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِنْجَاؤُهُ مِنْ الْمَهَالِكِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِقَرَابَتِهِ، لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً عَلَى الطِّفْلِ وَاسْتِصْحَابًا لَهُ، فَتَعَلَّقَ بِهَا الْحَقُّ، كَكَفَالَةِ اللَّقِيطِ وَلَا تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ لَطِفْلٍ، وَلَا مَعْتُوهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَكَيْفَ يَكْفُلُ غَيْرَهُ، وَلَا فَاسِقٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ الْحَضَانَةِ، وَلَا حَظَّ لِلْوَلَدِ فِي حَضَانَتِهِ، لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَا الرَّقِيقِ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ مَالِكٌ، فِي حُرٍّ لَهُ وَلَدٌ حُرٌّ مِنْ أَمَةٍ: الْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ، إلَّا أَنْ تُبَاعَ فَتُنْقَلَ، فَيَكُونَ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّهَا أُمٌّ مُشْفِقَةٌ، فَأَشْبَهْت الْحُرَّةَ وَلَنَا، أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا الَّتِي تَحْصُلُ الْكَفَالَةُ بِهَا، لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لِسَيِّدِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا حَضَانَةٌ، كَمَا لَوْ بِيعَتْ وَنُقِلَتْ وَلَا تَثْبُتُ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوَّارٌ، وَالْعَنْبَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ تَثْبُتُ لَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ، «أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 فَقَالَتْ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ أَوْ شِبْهُهُ، وَقَالَ رَافِعٌ: ابْنَتِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُقْعُدْ نَاحِيَةً، وَقَالَ لَهَا: اُقْعُدِي نَاحِيَةً، وَقَالَ: اُدْعُوَاهَا فَمَالَتْ الصَّبِيَّةُ إلَى أُمِّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا، فَأَخَذَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَنَا، أَنَّهَا وِلَايَةٌ، فَلَا تَثْبُتُ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْمَالِ، وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ لِلْفَاسِقِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى، فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، وَيُخْرِجُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِتَعْلِيمِهِ الْكُفْرَ، وَتَزْيِينِهِ لَهُ، وَتَرْبِيَتِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الضَّرَرِ وَالْحَضَانَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لَحَظِّ الْوَلَدِ، فَلَا تُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ هَلَاكُهُ وَهَلَاكُ دِينِهِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَدْ رُوِيَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ، وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّهَا تَخْتَارُ أَبَاهَا بِدَعْوَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا فِي حَقِّهِ فَأَمَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَلَا حَضَانَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، لِكَوْنِ مَنَافِعِهِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ الْحَضَانَةَ فِي أَيَّامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا يَتَجَزَّأُ، فَعَلَيْهِ النِّصْفُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَضَانَةَ لَهُ لِأَنَّهُ كَالْقِنِّ عِنْدَهُ وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ أَحَقُّ بِكَفَالَةِ الطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ] (6535) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأُمُّ أَحَقُّ بِكَفَالَةِ الطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ، إذَا طَلُقَتْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا افْتَرَقَا، وَلَهُمَا وَلَدٌ طِفْلٌ أَوْ مَعْتُوهٌ، فَأُمُّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِكَفَالَتِهِ إذَا كَمُلَتْ الشَّرَائِطُ فِيهَا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَيَرْوِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، حَكَمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَاصِمٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 لِأُمِّهِ أُمِّ عَاصِمٍ، وَقَالَ: رِيحُهَا وَشْمُهَا وَلُطْفُهَا، خَيْرٌ لَهُ مِنْك رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يُشَارِكُهَا فِي الْقُرْبِ إلَّا أَبُوهُ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلُ شَفَقَتِهَا، وَلَا يَتَوَلَّى الْحَضَانَةَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ إلَى امْرَأَتِهِ، وَأُمُّهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ امْرَأَةِ أَبِيهِ. [فَصْلٌ لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ] (6536) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، لِفِقْدَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِيهَا، أَوْ بَعْضِهَا، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَتَنْتَقِلُ إلَى مَنْ يَلِيهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، انْتَقَلَتْ إلَى مِنْ يَلِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَالْمَعْدُومَيْنِ. [فَصْلٌ وَلَا تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ إلَّا عَلَى الطِّفْلِ أَوْ الْمَعْتُوهِ] (6537) فَصْلٌ: وَلَا تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ إلَّا عَلَى الطِّفْلِ أَوْ الْمَعْتُوهِ، فَأَمَّا الْبَالِغُ الرَّشِيدُ، فَلَا حَضَانَةَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْخِيرَةُ فِي الْإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَبَوَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا، فَلَهُ الِانْفِرَادُ بِنَفْسِهِ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ عَنْهُمَا، وَلَا يَقْطَعَ بِرَّهُ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا الِانْفِرَادُ وَلِأَبِيهَا مَنْعُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مَنْ يُفْسِدُهَا، وَيُلْحِقُ الْعَارَ بِهَا وَبِأَهْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ، فَلِوَلِيِّهَا وَأَهْلِهَا مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ] (6538) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ، خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ مَعَ مَنْ اخْتَارَ مِنْهُمَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغُلَامَ إذَا بَلَغَ سَبْعًا، وَلَيْسَ بِمَعْتُوهٍ، خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، إذَا تَنَازَعَا فِيهِ، فَمَنْ اخْتَارَهُ مِنْهُمَا، فَهُوَ أَوْلَى بِهِ قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَشُرَيْحٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُخَيَّرُ لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، فَأَكَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَبِسَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَنْجَى بِنَفْسِهِ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ وَمَالِكٌ يَقُولُ: الْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُثْغِرَ، وَأَمَّا التَّخْيِيرُ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ لَا قَوْلَ لَهُ، وَلَا يَعْرِفُ حَظَّهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 وَرُبَّمَا اخْتَارَ مَنْ يَلْعَبُ عِنْدَهُ وَيَتْرُكُ تَأْدِيبَهُ، وَيُمَكِّنُهُ مِنْ شَهَوَاتِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى فَسَادِهِ، وَلِأَنَّهُ دُونَ الْبُلُوغِ، فَلَمْ يُخَيَّرْ، كَمَنْ دُونَ السَّبْعِ وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ وَالشَّافِعِيُّ وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» هَذَا أَبُوك، وَهَذِهِ أُمُّك فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْت «فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ الْجَرْمِيُّ، أَنَّهُ قَالَ: خَيَّرَنِي عَلِيٌّ بَيْنَ عَمِّي وَأُمِّيِّ، وَكُنْت ابْنَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذِهِ قِصَصٌ فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، وَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْحَضَانَةِ لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَيُقَدَّمُ مَنْ هُوَ أَشْفَقُ؛ لِأَنَّ حَظَّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ أَكْثَرُ، وَاعْتَبَرْنَا الشَّفَقَةَ بِمَظِنَّتِهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهَا بِنَفْسِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ حَدًّا يُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْإِكْرَامِ وَضِدِّهِ، فَمَالَ إلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، فَقُدِّمَ بِذَلِكَ وَقَيَّدْنَاهُ بِالسَّبْعِ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَالٍ أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهَا بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّ قُدِّمَتْ فِي حَالِ الصِّغَرِ، لِحَاجَتِهِ إلَى حَمْلِهِ، وَمُبَاشَرَةِ خِدْمَتِهِ، لِأَنَّهَا أَعْرَفُ بِذَلِكَ، وَأَقْوَمُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ، تَسَاوَى وَالِدَاهُ، لَقُرْبِهِمَا مِنْهُ، فَرَجَّحَ بِاخْتِيَارِهِ. [فَصْلٌ وَمَتَى اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَسُلِّمَ إلَيْهِ ثُمَّ اخْتَارَ الْآخِرَ رُدَّ إلَيْهِ فِي الْحَضَانَةِ] (6539) فَصْلٌ: وَمَتَى اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَسُلِّمَ إلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ، رُدَّ إلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ، أُعِيدَ إلَيْهِ، هَكَذَا أَبَدًا كُلَّمَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا صَارَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارُ شَهْوَةٍ، لَحَظِّ نَفْسِهِ، فَاتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيه، كَمَا يَتَّبِعُ مَا يَشْتَهِيه فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَقَدْ يَشْتَهِي الْمُقَامَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فِي وَقْتٍ، وَعِنْدَ الْآخَرِ فِي وَقْتٍ، وَقَدْ يَشْتَهِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَأَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْهُمَا وَإِنْ خَيَّرْنَاهُ، فَلَمْ يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَوْ اخْتَارَهُمَا مَعًا، قُدِّمَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لَأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى حَضَانَتِهِ، فَقُدِّمَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، فَإِذَا قُدِّمَ بِهَا، ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ، رُدَّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا قَدَّمْنَا اخْتِيَارَهُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، فَعَلَى الْقُرْعَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ أَوْلَى. [فَصْلٌ كَانَ الْأَبُ مَعْدُومًا أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ] (6540) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَعْدُومًا، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، وَحَضَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْعَصَبَاتِ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ، قَامَ مَقَامَ الْأَبِ فَيُخَيَّرُ الْغُلَامُ بَيْنَ أُمِّهِ وَعَصَبَتِهِ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَيَّرَ عُمَارَةَ الْجَرْمِيَّ بَيْنَ أُمِّهِ وَعَمِّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 وَلِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، فَأَشْبَهَ الْأَبَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَعْدُومَةً، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، فَسُلِّمَ إلَى الْجَدَّةِ، خُيِّرَ الْغُلَامُ بَيْنهَا وَبَيْنَ أَبِيهِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْعَصَبَاتِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَعْدُومَيْنِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، فَسُلِّمَ إلَى امْرَأَةٍ كَأُخْتِهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ خَالَتِهِ، قَامَتْ مَقَامَ أُمِّهِ، فِي التَّخْيِيرِ بَيْنهَا وَبَيْنَ عَصَبَاتِهِ، لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَبَوَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ رَقِيقَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبه سِوَاهُمَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا حَضَانَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا، وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُسَلَّمُ إلَى مِنْ يَحْضُنُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ فِي الْحَضَانَة بِشَرْطَيْنِ] (6541) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ الْغُلَامُ بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، كَانَ كَالْمَعْدُومِ، وَيُعَيَّنُ الْآخَرُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْغُلَامُ مَعْتُوهًا، فَإِنْ كَانَ مَعْتُوهًا كَانَ عِنْدَ الْأُمِّ، وَلَمْ يُخَيَّرْ؛ لِأَنَّ الْمَعْتُوهَ بِمَنْزِلَةِ الطِّفْلِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَةِ وَلَدِهَا الْمَعْتُوهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَلَوْ خُيِّرَ الصَّبِيُّ، فَاخْتَارَ أَبَاهُ، ثُمَّ زَالَ عَقْلُهُ، رُدَّ إلَى الْأُمِّ، وَبَطَلَ اخْتِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خُيِّرَ حِينَ اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا زَالَ اسْتِقْلَالُهُ بِنَفْسِهِ، كَانَتْ الْأُمُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَقْوَمُ بِمَصَالِحِهِ، كَمَا فِي حَالِ طُفُولِيَّتِهِ. [مَسْأَلَةٌ بَلَغْت الْجَارِيَةُ سَبْعَ سِنِينَ عَلَى مِنْ الْحَضَانَةِ] (6542) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا بَلَغْت الْجَارِيَةُ سَبْعَ سِنِينَ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُخَيَّرُ كَالْغُلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ سِنٍّ خُيِّرَ فِيهِ الْغُلَامُ خُيِّرَتْ فِيهِ الْجَارِيَةُ، كَسِنِّ الْبُلُوغِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا، حَتَّى تُزَوَّجَ أَوْ تَحِيضَ وَقَالَ مَالِكٌ: الْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تُزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا لَا حُكْمِ لِاخْتِيَارِهَا، وَلَا يُمْكِنُ انْفِرَادُهَا، فَكَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِهَا، كَمَا قَبْلَ السَّبْعِ وَلَنَا، أَنَّ الْغَرَضَ بِالْحَضَانَةِ الْحَظُّ، وَالْحَظُّ لِلْجَارِيَةِ بَعْدَ السَّبْعِ فِي الْكَوْنِ عِنْدَ أَبِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ، وَالْأَبُ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأُمَّ تَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْفَظُهَا وَيَصُونُهَا، وَلِأَنَّهَا إذَا بَلَغْت السَّبْعَ، قَارَبَتْ الصَّلَاحِيَةَ لِلتَّزْوِيجِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ، وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعٍ، وَإِنَّمَا تُخْطَبُ الْجَارِيَةُ مِنْ أَبِيهَا؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهَا، وَالْمَالِكُ لِتَزْوِيجِهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْكَفَاءَةِ، وَأُقْدَرُ عَلَى الْبَحْثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُصَارُ إلَى تَخْيِيرِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فِيهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَالتَّزْوِيجِ، كَحَاجَتِهَا إلَيْهِ، وَلَا عَلَى سِنِّ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا حِينَئِذٍ مُعْتَبَرٌ فِي إذْنِهَا، وَتَوْكِيلِهَا، وَإِقْرَارِهَا، وَاخْتِيَارِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ مَا بَعْدَ السَّبْعِ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي دَلِيلِنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 [فَصْل كَانَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْأُمِّ أَوْ عِنْدَ الْأَبِ] (6543) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْأُمِّ أَوْ عِنْدَ الْأَبِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ تَأْدِيبَهَا وَتَخْرِيجَهَا فِي جَوْفِ الْبَيْتِ، مِنْ تَعْلِيمِهَا الْغَزْلَ وَالطَّبْخَ وَغَيْرَهُمَا، وَلَا حَاجَةَ بِهَا إلَى الْإِخْرَاجِ مِنْهُ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدُهُمَا مِنْ زِيَارَتِهَا عِنْدَ الْآخَرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ الزَّوْجُ بِأُمِّهَا، وَلَا يُطِيلُ، وَلَا يَتَبَسَّطُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا تَمْنَعُ تَبَسُّطَ أَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلِ الْآخَرِ وَإِنْ مَرِضَتْ، فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِتَمْرِيضِهَا فِي بَيْتِهَا وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ عِنْدَ الْأُمِّ بَعْدَ السَّبْعِ، لِاخْتِيَارِهِ لَهَا، كَانَ عِنْدَهَا لَيْلًا، وَيَأْخُذُهُ الْأَبُ نَهَارًا لِيُسَلِّمَهُ فِي مَكْتَبٍ، أَوْ فِي صِنَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ حَظُّ الْغُلَامِ وَحَظُّهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْأَبِ، كَانَ عِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ إغْرَاءٌ بِالْعُقُوقِ، وَقَطِيعَةٌ لِلرَّحِمِ وَإِنْ مَرِضَ، كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِتَمْرِيضِهِ فِي بَيْتِهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْمَرَضِ كَالصَّغِيرِ، فِي الْحَاجَةِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِهِ كَالصَّغِيرِ وَإِنْ مَرِضَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَالْوَلَدُ عِنْدَ الْآخَرِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ عِيَادَتِهِ، وَحُضُورِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ يَمْنَعُ الْمَرِيضَ مِنْ الْمَشْيِ إلَى وَلَدِهِ، فَمَشْيُ وَلَدِهِ إلَيْهِ أَوْلَى فَأَمَّا فِي حَالِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الْغُلَامَ يَزُورُ أُمَّهُ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، فَسَتْرُهَا أَوْلَى، وَالْأُمُّ تَزُورُ ابْنَتَهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَوْرَةٌ، تَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةٍ وَسَتْرٍ، وَسَتْرُ الْجَارِيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَخَرَّجَتْ وَعَقَلَتْ، بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ. [فَصْلٌ أَيُّ الْأَبَوَيْنِ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا السَّفَرَ] (6544) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ السَّفَرَ لَحَاجَةٍ ثُمَّ يَعُودُ، وَالْآخَرُ مُقِيمٌ، فَالْمُقِيمُ أَوْلَى بِالْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُسَافَرَةِ بِالْوَلَدِ إضْرَارًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَقِلًا إلَى بَلَدٍ لِيُقِيمَ بِهِ، وَكَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَوْ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مَخُوفًا، فَالْمُقِيمُ أَوْلَى بِالْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِهِ خَطَرًا بِهِ، وَلَوْ اخْتَارَ الْوَلَدُ السَّفَرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَيْهِ آمِنًا، وَطَرِيقُهُ آمِنٌ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُقِيمَ أَوْ الْمُنْتَقِلَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبٌ، بِحَيْثُ يَرَاهُمْ الْأَبُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَرَوْنَهُ، فَتَكُونَ الْأُمُّ عَلَى حَضَانَتِهَا وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا كَانَ السَّفَرُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْأَبِ لَهُ مُمْكِنَةٌ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبُعْدَ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ، يَمْنَعُهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ، وَتَعْلِيمِهِ، وَمُرَاعَاةِ حَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَبِ عِنْدَ افْتِرَاقِ الدَّارِ بِهِمَا، قَالَ شُرَيْحٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ انْتَقَلَ الْأَبُ، فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ انْتَقَلْت الْأُمُّ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَصْلُ النِّكَاحِ، فَهِيَ أَحَقُّ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِ، فَالْأَبُ أَحَقُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ انْتَقَلَتْ مِنْ بَلَدٍ إلَى قَرْيَةٍ، فَالْأَبُ أَحَقُّ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَهِيَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ فِي الْبَلَدِ يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ وَتَخْرِيجُهُ وَلَنَا، أَنَّهُ اخْتَلَفَ مَسْكَنُ الْأَبَوَيْنِ، فَكَانَ الْأَبُ أَحَقَّ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ مِنْ بَلَدٍ إلَى قَرْيَةٍ، أَوْ إلَى بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَصْلُ النِّكَاحِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ فِي الْعَادَةِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَأْدِيبِ ابْنِهِ وَتَخْرِيجِهِ وَحِفْظِ نَسَبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ ضَاعَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ وَإِنْ انْتَقَلَا جَمِيعًا إلَى بَلَدٍ وَاحِدٍ، فَالْأُمُّ بَاقِيَةٌ عَلَى حَضَانَتِهَا وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَهُ الْأَبُ لِافْتِرَاقِ الْبَلَدَيْنِ، ثُمَّ اجْتَمَعَا، عَادَتْ إلَى الْأُمِّ حَضَانَتُهَا وَغَيْرُ الْأُمِّ مِمَّنْ لَهُ الْحَضَانَةُ مِنْ النِّسَاءِ، يَقُومُ مَقَامَهَا، وَغَيْرُ الْأَبِ مِنْ عَصَبَاتِ الْوَلَدِ، يَقُومُ مَقَامَهُ، عِنْدَ عَدَمِهِمَا، أَوْ كَوْنِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ تَكُنْ أُمٌّ أَوْ تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ عَلَى مَنْ الْحَضَانَةُ] (6545) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمٌّ، أَوْ تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ، فَأُمُّ الْأَبِ أَحَقُّ مِنْ الْخَالَةِ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَصْلَانِ: (6546) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَّ إذَا تَزَوَّجَتْ، سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَضَى بِهِ شُرَيْحٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالتَّزْوِيجِ وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ: إذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ، وَابْنُهَا صَغِيرٌ، أُخِذَ مِنْهَا قِيلَ لَهُ: فَالْجَارِيَةُ مِثْلُ الصَّبِيِّ؟ قَالَ: لَا، الْجَارِيَةُ تَكُونُ مَعَهَا إلَى سَبْعِ سِنِينَ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ الْحَضَانَةَ عَنْ الْجَارِيَةِ لِتَزْوِيجِ أُمِّهَا، وَأَزَالَهَا عَنْ الْغُلَامِ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ، أَنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، تَنَازَعُوا فِي حَضَانَةِ ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: ابْنَةُ عَمِّي، وَأَنَا أَخَذْتُهَا وَقَالَ زَيْدٌ: بِنْتُ أَخِي؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى بَيْنَ زَيْدٍ وَحَمْزَةَ وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي، وَعِنْدِي خَالَتُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَالَةُ أُمٌّ» وَسَلَّمَهَا إلَى جَعْفَرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى، فَجَعَلَ لَهَا الْحَضَانَةَ وَهِيَ مُزَوَّجَةٌ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَةُ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ؛ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ تَنْكِحِي» وَلِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ، اشْتَغَلَتْ حُقُوقُ الزَّوْجِ عَنْ الْحَضَانَةِ، فَكَانَ الْأَبُ أَحْظَ لَهُ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَهَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهَا، فَأَشْبَهْت الْمَمْلُوكَةَ فَأَمَّا بِنْتُ حَمْزَةَ، فَإِنَّمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُسَاوِيه فِي الِاسْتِحْقَاقِ إلَّا عَلِيٌّ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَعْفَرٌ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، فَكَانَ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا، مَتَى كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً لَرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، كَالْجَدَّةِ تَكُونُ مُتَزَوِّجَةً لِلْجَدِّ، لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا؛ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهَا فِي الْوِلَادَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ، فَأَشْبَهَ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً لِلْأَبِ وَلَوْ تَنَازَعَ الْعَمَّانِ فِي الْحَضَانَةِ، وَأَحَدُهُمَا مُتَزَوِّجٌ لِلْأُمِّ، أَوْ الْخَالَةِ، فَهُوَ أَحَقُّ، لِحَدِيثِ بِنْتِ حَمْزَةَ وَكَذَلِكَ كُلُّ عَصَبَتَيْنِ تَسَاوَيَا، وَأَحَدُهُمَا مُتَزَوِّجٌ بِمَنْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، قُدِّمَ بِهَا لِذَلِكَ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ التَّزْوِيجَ بِأَجْنَبِيٍّ يُسْقِطُ الْحَضَانَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَإِنْ عَرِيَ عَنْ الدُّخُولِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ إلَّا بِالدُّخُولِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ بِهِ تَشْتَغِلُ عَنْ الْحَضَانَةِ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» وَقَدْ وُجِدَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَنَّ بِالْعَقْدِ يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا، وَيَسْتَحِقُّ زَوْجُهَا مَنْعَهَا مِنْ حَضَانَتِهِ، فَزَالَ حَقُّهَا، كَمَا لَوْ دَخَلَ بِهَا (6547) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ إذَا عُدِمَتْ، أَوْ تَزَوَّجَتْ، أَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، وَاجْتَمَعَتْ أُمُّ أَبٍ وَخَالَةٍ، فَأُمُّ الْأَبِ أَحَقُّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْأُخْتَ وَالْخَالَةَ أَحَقُّ مِنْ الْأَبِ فَعَلَى هَذَا، يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْخَالَةُ أَحَقَّ مِنْ أُمِّ الْأَبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِأُمٍّ، وَأُمُّ الْأَبِ تُدْلِي بِهِ، فَقُدِّمَ مَنْ يُدْلِي بِالْأُمِّ، كَتَقْدِيمِ أُمِّ الْأُمِّ عَلَى أُمِّ الْأَبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِبِنْتِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الْخَالَةُ أُمٌّ» وَلَنَا، أَنَّ أُمَّ الْأَبِ جَدَّةٌ وَارِثَةٌ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْخَالَةِ، كَأُمِّ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ لَهَا وِلَادَةً وَوِرَاثَةً، فَأَشْبَهَتْ أُمَّ الْأُمِّ فَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْخَالَةِ حَقًّا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، إنَّمَا النِّزَاعُ فِي التَّرْجِيحِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَقَوْلُهُمْ: تُدْلِي بِأُمٍّ قُلْنَا: لَكِنْ لَا وِلَادَةَ لَهَا، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ وِلَادَةٌ، كَتَقْدِيمِ أُمِّ الْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ فَعَلَى هَذَا، مَتَى وُجِدَتْ جَدَّةٌ وَارِثَةٌ، فَهِيَ أَوْلَى مِمَّنْ هُوَ مِنْ غَيْرِ عَمُودِي النَّسَبِ بِكُلِّ حَالٍ وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهَا؛ لِفَضِيلَةِ الْوِلَادَةِ وَالْوِرَاثَةِ، فَأَمَّا أُمُّ أَبِي الْأُمِّ فَلَا حَضَانَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِأَبِي الْأُمِّ، وَلَا حَضَانَةَ لَهُ، وَلَا مَنْ أَدْلَى بِهِ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ فَأَيُّهُمْ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ] (6548) فَصْلٌ: فَإِنْ اجْتَمَعَتْ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ، فَأُمُّ الْأُمِّ أَحَقُّ، وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهَا؛ لِأَنَّ لَهَا وِلَادَةً، وَهِيَ تُدْلِي بِالْأُمِّ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا، كَتَقْدِيمِ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ أَحَقُّ وَهُوَ قِيَاسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ خَالَةَ الْأَبِ عَلَى خَالَةِ الْأُمِّ، وَخَالَةُ الْأَبِ أُخْتُ أُمِّهِ، وَخَالَةُ الْأُمِّ أُخْتُ أُمِّهَا، فَإِذَا قَدَّمَ أُخْتَ أُمِّ الْأَبِ، دَلَّ عَلَى تَقْدِيمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِعَصَبَةٍ، مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِلْأُخْرَى فِي الْوِلَادَةِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا أُنْثَى تَلِي الْحَضَانَةَ بِنَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ أُمُّهُ، فَإِنَّهَا أُنْثَى تَلِي بِنَفْسِهَا، فَقُدِّمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ عَدَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا] (6549) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ أَحَقُّ مِنْ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ، وَأَحَقُّ مِنْ الْخَالَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا عُدِمَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا، انْتَقَلَتْ إلَى الْأَخَوَاتِ، وَقُدِّمْنَ عَلَى سَائِرِ الْقَرَابَاتِ، كَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ شَارَكْنَ فِي النَّسَبِ، وَقُدِّمْنَ فِي الْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ إنَّمَا يُدْلِينَ بِأُخُوَّةِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُنَّ مَعَ ذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ، فَالْمُدْلِي إلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ وَيَرِثُهُ أَقْرَبُ وَأَشْفَقُ، فَكَانَ أَوْلَى وَأَوْلَى الْأَخَوَاتِ مَنْ كَانَ لِأَبَوَيْنِ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأُمٍّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ لِأَنَّهَا أَدْلَتْ بِالْأُمِّ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْمُدْلِيَةِ بِالْأَبِ، كَأُمِّ الْأُمِّ مَعَ أُمِّ الْأَبِ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ تُقَدَّمُ الْخَالَةُ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ؛ لِذَلِكَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَلَنَا، أَنَّ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ، فَقُدِّمَتْ، كَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَلَا تَخْفَى قُوَّتُهَا، فَإِنَّهَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَتَكُونُ عَصَبَةٌ مَعَ الْبَنَاتِ وَتُقَاسِمُ الْجَدَّ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْإِدْلَاءِ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ تُدْلِي بِنَفْسِهَا؛ لِكَوْنِهِمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَهُمَا تَعْصِيبٌ، فَكَانَتْ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ عُدِمَتْ الْأُمَّهَاتُ وَالْآبَاءُ وَالْأَخَوَاتُ عَلَى مَنْ تَكُونُ الْحَضَانَةُ] (6550) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَخَالَةُ الْأَبِ أَحَقُّ مِنْ خَالَةِ الْأُمِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا عُدِمَتْ الْأُمَّهَاتُ وَالْآبَاءُ وَالْأَخَوَاتُ، انْتَقَلْت الْحَضَانَةُ إلَى الْخَالَاتِ، وَيُقَدَّمْنَ عَلَى الْعَمَّاتِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ تَقْدِيمَ الْعَمَّاتِ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ خَالَةَ الْأَبِ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّهِ، عَلَى خَالَةِ الْأُمِّ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّهَا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ قَرَابَةِ الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِعَصَبَةٍ، فَقُدِّمْنَ، كَتَقْدِيمِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَقَالَ الْقَاضِي: مُرَادُ الْخِرَقِيِّ بِقَوْلِهِ: خَالَةُ الْأَبِ أَيْ الْخَالَةُ مِنْ الْأَبِ تُقَدَّمُ عَلَى الْخَالَةِ مِنْ الْأُمِّ، كَتَقْدِيمِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْخَالَاتِ أَخَوَاتُ الْأُمِّ، فَيَجْرِينَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّقْدِيمِ فِيمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 بَيْنَهُنَّ مَجْرَى الْأَخَوَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعَمَّاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ فَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْخَالَاتِ، فَإِذَا انْقَرَضْنَ فَالْعَمَّاتُ بَعْدَهُنَّ، وَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْعَمَّاتِ، فَالْخَالَاتُ بَعْدَهُنَّ، فَإِذَا عُدِمْنَ، انْتَقَلَتْ إلَى خَالَاتِ الْأَبِ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، إلَى خَالَاتِ الْأُمِّ وَهَلْ يُقَدَّمُ خَالَاتُ الْأَبِ عَلَى عَمَّاتِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَأَمَّا عَمَّاتُ الْأُمِّ، فَلَا حَضَانَةَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِأَبِي الْأُمِّ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، لَا حَضَانَةَ لَهُ، وَلَا لِمَنْ أَدْلَى بِهِ. [فَصْلٌ وَلِلرِّجَالِ مِنْ الْعَصَبَاتِ مَدْخَلٌ فِي الْحَضَانَةِ] (6551) فَصْلٌ: وَلِلرِّجَالِ مِنْ الْعَصَبَاتِ مَدْخَلٌ فِي الْحَضَانَةِ، وَأَوْلَاهُمْ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ الْعُمُومَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ كَذَلِكَ، ثُمَّ عُمُومَةُ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَا حَضَانَةَ لِغَيْرِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْحَضَانَةِ، وَلَا لَهُمْ وِلَايَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَضَانَةٌ، كَالْأَجَانِبِ وَلَنَا، أَنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا اخْتَصَمَا فِي حَضَانَةِ ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادِّعَاءَ الْحَضَانَةِ وَلِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةً وَتَعْصِيبًا بِالْقَرَابَةِ، فَتَثْبُتُ لَهُمْ الْحَضَانَةُ، كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَفَارَقَ الْأَجَانِبَ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ قَرَابَةٌ وَلَا شَفَقَةٌ، وَلِأَنَّ الْأَجَانِبَ تَسَاوَوْا فِي عَدَمِ الْقَرَابَةِ، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْ الْآخَرِ، وَالْعَصَبَاتِ لَهُمْ قَرَابَةٌ يَمْتَازُونَ بِهَا، وَأَحَقُّهُمْ بِالْحَضَانَةِ أَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَيَقُومُونَ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّخْيِيرِ لِلصَّبِيِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ الْحَضَانَةُ مِنْ النِّسَاءِ، وَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِالْجَارِيَةِ إذَا بَلَغَتْ سَبْعًا، إلَّا ابْنَ الْعَمِّ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ إذَا بَلَغَتْ سَبْعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا. [فَصْلٌ الرِّجَالُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا حَضَانَةَ لَهُمْ مَعَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ سِوَاهُمْ] (6552) فَصْلٌ: فَأَمَّا الرِّجَالُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَالْخَالِ، وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ، وَأَبِي الْأُمِّ، وَابْنِ الْأُخْتِ، فَلَا حَضَانَةَ لَهُمْ مَعَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ سِوَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِامْرَأَةٍ يَتَوَلَّى الْحَضَانَةَ، وَلَا لَهُ قُوَّةُ قَرَابَةٍ كَالْعَصَبَاتِ، وَلَا حَضَانَةَ إلَّا يُدْلِي بِهِمْ، كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ، وَابْنَةِ الْخَالِ، وَابْنَةِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِمَنْ لَا حَضَانَةَ لَهُ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لِلْمُدْلِي، فَلِلْمُدْلِينَ بِهِ أَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُمْ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:، هُمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَقَرَابَةً يَرِثُونَ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْحَضَانَةُ تَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْهُمْ وَالثَّانِي، لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْحَضَانَةِ، وَيَنْتَقِلُ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 [فَصْلٌ بَيَانِ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ] (6553) فَصْلٌ: فِي بَيَانِ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَوْلَى الْكُلِّ بِهَا الْأُمُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ، يُقَدَّمُ مِنْهُنَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُنَّ نِسَاءٌ وِلَادَتُهُنَّ مُتَحَقِّقَةٌ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْأُمِّ وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ أُمَّ الْأَبِ وَأُمَّهَاتِهَا مُقَدَّمَاتٌ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَكُونُ الْأَبُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ؛ لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِهِ، فَيَكُونُ الْأَبُ بَعْدَ الْأُمِّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ وَالْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّ الْمُقَدَّمَ الْأُمُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ، ثُمَّ جَدُّ الْأَبِ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ وَإِنْ كُنَّ غَيْرَ وَارِثَاتٍ؛ لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِعَصَبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، بِخِلَافِ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ أَنَّ الْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ وَالْخَالَةَ أَحَقُّ مِنْ الْأَبِ فَتَكُونُ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَحَقَّ مِنْهُ وَمِنْهُمَا وَمِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ وَالْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ فَإِذَا انْقَرَضَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ، انْتَقَلْت الْحَضَانَةُ إلَى الْأَخَوَاتِ، وَتُقَدَّمُ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ، ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ، وَتُقَدَّمُ الْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ؛ لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهَا مِنْ الرِّجَالِ، كَالْأُمِّ تُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ، وَأُمِّ الْأَبِ عَلَى أَبِي الْأَبِ، وَكُلُّ جَدَّةٍ فِي دَرَجَةِ جَدٍّ تُقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَلِي الْحَضَانَةَ بِنَفْسِهَا، وَالرَّجُلُ لَا يَلِيهَا بِنَفْسِهِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَفِي تَقْدِيمِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ، وَجْهَانِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ أُخْتٌ، فَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى، ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ، ثُمَّ أَبْنَاؤُهُمَا، وَلَا حَضَانَةَ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا عُدِمُوا، صَارَتْ الْحَضَانَةُ لِلْخَالَاتِ، عَلَى الصَّحِيحِ، وَتَرْتِيبُهُنَّ فِيهَا كَتَرْتِيبِ الْأَخَوَاتِ وَلَا حَضَانَةَ لِلْأَخْوَالِ، فَإِذَا عُدِمْنَ صَارَتْ لِلْعَمَّاتِ، وَيُقَدَّمْنَ عَلَى الْأَعْمَامِ، كَتَقْدِيمِ الْأَخَوَاتِ عَلَى الْإِخْوَةِ، ثُمَّ لِلْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لِلْعَمِّ لِلْأَبِ، وَلَا حَضَانَةَ لِلْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ، ثُمَّ أَبْنَاؤُهُمَا، ثُمَّ إلَى خَالَاتِ الْأَبِ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، إلَى خَالَاتِ الْأُمِّ، ثُمَّ إلَى عَمَّاتِ الْأَبِ، وَلَا حَضَانَةَ لِعَمَّاتِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِأَبِي الْأُمِّ، وَلَا حَضَانَةَ لَهُ وَإِنْ اجْتَمَعَ شَخْصَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ، قُدِّمَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ. [فَصْلٌ تَرَكْت الْأُمُّ الْحَضَانَةَ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا لَهَا] (6554) فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكْت الْأُمُّ الْحَضَانَةَ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا لَهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَنْتَقِلُ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ أُمَّهَاتِهَا فَرْعٌ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا، سَقَطَ فُرُوعُهَا وَالثَّانِي: تَنْتَقِلُ إلَى أُمِّهَا وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَبْعَدُ، فَلَا تَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 كَمَا لَا تَنْتَقِلُ إلَى الْأُخْتِ، وَكَوْنُهُنَّ فُرُوعًا لَهَا، لَا يُوجِبُ سُقُوطَ حُقُوقِهِنَّ بِسُقُوطِ حَقِّهَا، كَمَا لَوْ سَقَطَ حَقُّهَا لِكَوْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، أَوْ لِتَزَوُّجِهَا وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْأَبِ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ، هَلْ يَسْقُطُ حَقُّ أُمَّهَاتِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ أُخْتٌ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَأُخْتٌ مِنْ أَبٍ، فَأَسْقَطَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ حَقَّهَا، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا، وَلَيْسَتْ فَرْعًا عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ أُخِذَ الْوَلَدُ مِنْ الْأُمِّ إذَا تَزَوَّجَتْ ثُمَّ طَلُقَتْ هَلْ تَرْجِعُ حَضَانَتُهَا] (6555) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَإِذَا أُخِذَ الْوَلَدُ مِنْ الْأُمِّ إذَا تَزَوَّجَتْ، ثُمَّ طَلُقَتْ، رَجَعَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنْ كَفَالَتِهِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِّي قَالَا: إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، لَمْ يَعُدْ حَقُّهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ وَلَنَا، أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، فَعَادَ حَقُّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ، كَالْبَائِنِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا زَوْجَةٌ قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَزَلَهَا عَنْ فِرَاشِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا عَلَيْهِ قَسْمٌ، وَلَا لَهَا بِهِ شُغْلٌ، وَعُقِدَ سَبَبُ زَوَالِ نِكَاحِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْبَائِنَ فِي عِدَّتِهَا وَيُخَرَّجُ عِنْدَنَا مِثْلُ قَوْلِهِمَا، لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُزِيلًا لِحَقِّ الْحَضَانَةِ، مَعَ عَدَمِ الْقَسْمِ وَالشُّغْلِ بِالزَّوْجِ. [فَصْلٌ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْحَضَانَةِ] (6556) فَصْلٌ: وَكُلُّ قَرَابَةٍ تُسْتَحَقُّ بِهَا الْحَضَانَةُ، مَنَعَ مِنْهَا مَانِعٌ، كَرِقٍّ، أَوْ كُفْرٍ، أَوْ فُسُوقٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ صِغَرٍ، إذَا زَالَ الْمَانِعُ، مِثْلُ أَنْ عَتَقَ الرَّقِيقُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَعَدَلَ الْفَاسِقُ، وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَبَلَغَ الصَّغِيرُ، عَادَ حَقُّهُمْ مِنْ الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبهَا قَائِمٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ، عَادَ الْحَقُّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ الْمُلَازِمِ، كَالزَّوْجَةِ إذَا طَلُقَتْ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فَهَلْ لِزَوْجِهَا مَنَعَهَا مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا] (6557) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ، فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا، وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ امْرَأَتِهِ مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ رَضَاعِ وَلَدِ غَيْرِهَا، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعَ فِي كُلِّ الزَّمَانِ، مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، سِوَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَالرَّضَاعُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَكَانَ لَهُ الْمَنْعُ كَالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِله فَإِنْ اُضْطُرَّ الْوَلَدُ، بِأَنْ لَا تُوجَدَ مُرْضِعَةٌ سِوَاهَا، أَوْ لَا يَقْبَلُ الْوَلَدُ الِارْتِضَاعَ مِنْ غَيْرِهَا، وَجَبَ التَّمْكِينُ مِنْ إرْضَاعِهِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، وَحِفْظٌ لِنَفْسِ وَلَدِهَا، فَقُدِّمَ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ، كَتَقْدِيمِ الْمُضْطَرِّ عَلَى الْمَالِكِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَالِكِ مِثْلُ ضَرُورَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 [فَصْلٌ فَإِنْ أَرَادَتْ إرْضَاعَ وَلَدِهَا مِنْهُ هَلْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا] (6558) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرَادَتْ إرْضَاعَ وَلَدِهَا مِنْهُ، فَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ رَضَاعِهِ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِاسْتِمْتَاعِهِ مِنْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ أَرَادَتْ رَضَاعَ وَلَدِهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَةً، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَهَذَا خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ أَمْرٌ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَالِدَةٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ رِزْقَهُنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ جَعْلَ ذَلِكَ أَجْرَ الرَّضَاعِ وَلَا غَيْرَهُ، وَقَوْلُنَا، فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إنَّهُ يُخِلُّ بِاسْتِمْتَاعِهِ قُلْنَا: وَلَكِنْ لِإِيفَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا، كَمَا أَنَّ قَضَاءَ دَيْنِهِ بِدَفْعِ مَالِهِ فِيهِ وَاجِبٌ، لَا سِيَّمَا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ، فِي كَوْنِهِ مَعَ أُمِّهِ، وَحَقُّ الْأُمِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. [فَصْلٌ وَإِنْ أَجَّرَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِلرَّضَاعِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ] (6559) فَصْلٌ: وَإِنْ أَجَّرَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِلرَّضَاعِ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ، وَلَا مَنْعَهَا مِنْ الرَّضَاعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مُلِكَتْ بِعَقْدٍ سَابِقٍ عَلَى نِكَاحِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً مُسْتَأْجَرَةً، أَوْ دَارًا مَشْغُولَةً فَإِنْ نَامَ الصَّبِيُّ، أَوْ اشْتَغَلَ بِغَيْرِهَا، فَلِلزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعُ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ مَنْعُهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا إلَّا بِرِضَاءِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْقِصُ اللَّبَنَ وَلَنَا، أَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، فَلَا يَسْقُطُ بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ مَعَ إذْنِ الْوَلِيِّ، فَجَازَ مَعَ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْإِذْنُ فِيمَا يَضُرُّ الصَّبِيَّ، وَيُسْقِطُ حُقُوقَهُ. [فَصْلٌ أَجَّرَتْ الْمَرْأَةُ الْمُزَوِّجَة نَفْسَهَا لِلرَّضَاعِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا] (6560) فَصْلٌ: وَإِنْ أَجَّرَتْ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ نَفْسَهَا لِلرَّضَاعِ، بِإِذْنِ زَوْجِهَا، جَازَ، وَلَزِمَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا وَإِنْ أَجَرَتْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ زَوْجِهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْآخَرُ، يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحِلًّا غَيْرَ مَحَلِّ النِّكَاحِ، لَكِنْ لِلزَّوْجِ فَسْخُهُ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ وَيَخْتَلُّ وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ يَفُوتُ بِهِ حَقُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ بِعَقْدٍ سَابِقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَإِجَارَةِ الْمُسْتَأْجَرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 [مَسْأَلَةٌ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِهِ إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ رَضَاعَ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ وَحْدَهُ] (6561) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِهِ، إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، فَتَكُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ، أَوْ مُطَلَّقَةً) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (6562) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَضَاعَ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ إجْبَارُ أُمِّهِ عَلَى رَضَاعِهِ، دَنِيئَةً كَانَتْ أَوْ شَرِيفَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَةً وَلَا نَعْلَمُ فِي عَدَمِ إجْبَارِهَا عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُفَارَقَةً خِلَافًا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَعَ الزَّوْجِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَهُ إجْبَارُهَا عَلَى رَضَاعِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهَا إنْ كَانَتْ شَرِيفَةً لَمْ تَجْرِ عَادَةُ مِثْلِهَا بِالرَّضَاعِ لِوَلَدِهَا، لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تُرْضِعُ فِي الْعَادَةِ، أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَدْ تَعَاسَرَا، وَلِأَنَّ الْإِجْبَارَ عَلَى الرَّضَاعِ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْوَلَدِ، أَوْ لِحَقِّ الزَّوْجِ، أَوْ لَهُمَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إجْبَارَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَا عَلَى خِدْمَتِهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ، لَلَزِمَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَلْزَمُ الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ، فَلَزِمَ الْأَبَ عَلَى الْخُصُوصِ، كَالنَّفَقَةِ، أَوْ كَمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ، لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِانْضِمَامِ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمَا، لَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِ الْإِنْفَاقِ وَعَدَمِ التَّعَاسُرِ [الْفَصْلُ الثَّانِي الْأُمَّ إذَا طَلَبَتْ إرْضَاعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا] (6563) الْفَصْلُ الثَّانِي: إنَّ الْأُمَّ إذَا طَلَبَتْ إرْضَاعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَسَوَاءٌ وَجَدَ الْأَبُ مُرْضِعَةً مُتَبَرِّعَةً أَوْ لَمْ يَجِدْ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَتْ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ، فَلِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْ إرْضَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا عَلَى رَضَاعِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 لِأَنَّ الْمَنَافِعَ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهَا مَا هُوَ أَوْ بَعْضُهُ حَقٌّ لَهُ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ الْوَلَدَ، فَهَلْ لَهَا أَجْرُ الْمِثْلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً، فَطَلَبَتْ أَجْرَ الْمِثْلِ، فَأَرَادَ انْتِزَاعَهُ مِنْهَا لِيُسَلِّمَهُ إلَى مَنْ تُرْضِعُهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدَ مُتَبَرِّعَةً، أَوْ مَنْ تُرْضِعُهُ بِدُونِ أَجْرِ الْمِثْلِ، فَلَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْتِزَامُ الْمُؤْنَةِ مَعَ دَفْعِ حَاجَةِ الْوَلَدِ بِدُونِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ طَلَبَتْ الْأَجْرَ، لَمْ يَلْزَمْ الْأَبَ بَذْلُهَا لَهَا، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ، وَتَأْتِي الْمُرْضِعَةُ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِأَحَدِهِمَا وَلَنَا، عَلَى الْأَوَّلِ، مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ، أَنَّهُ عَقْدُ إجَارَةٍ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ إذَا أَذِنَ فِيهِ، فَجَازَ مَعَ الزَّوْجِ، كَإِجَارَةِ نَفْسِهَا لِلْخِيَاطَةِ أَوْ الْخِدْمَةِ وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَنَافِعَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ الْحَضَانَةِ، لَمَلَكَ إجْبَارَهَا عَلَيْهَا، وَلَمْ تَجُزْ إجَارَةُ نَفْسِهَا لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ إجَارَةُ نَفْسِهَا لِأَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ بِإِذْنِهِ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا، فَقَدْ أَذِنَ لَهَا فِي إجَارَةِ نَفْسِهَا، فَصَحَّ، كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْأُمِّ، إذَا طَلَبَتْ أَجْرَ مِثْلِهَا، عَلَى الْمُتَبَرِّعَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَحْنَى وَأَشْفَقُ، وَلَبَنَهَا أَمْرَأُ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا، فَكَانَتْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ طَلَبَتْ الْأَجْنَبِيَّةُ رَضَاعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا؛ وَلِأَنَّ فِي رَضَاعِ غَيْرِهَا تَفْوِيتًا لِحَقِّ الْأُمِّ مِنْ الْحَضَانَةِ، وَإِضْرَارًا بِالْوَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ حَقِّ الْحَضَانَةِ الْوَاجِبِ، وَالْإِضْرَارُ بِالْوَلَدِ لِغَرَضِ إسْقَاطِ حَقٍّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ حَقِّ الْوَلَدِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، وَتَفْوِيتِ [حَقِّ] الْأُمِّ فِي إرْضَاعِهِ لَبَنَهَا، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَتْ بِرَضَاعِهِ فَأَمَّا إنْ طَلَبْت الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهَا، وَوَجَدَ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا، أَوْ مُتَبَرِّعَةً، جَازَ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا بِاشْتِطَاطِهَا، وَطَلَبِهَا مَا لَيْسَ لَهَا، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ قَوْله: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُرْضِعَةً إلَّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْأُجْرَةِ، فَالْأُمُّ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الْأَجْرِ، فَكَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ، كَمَا لَوْ طَلَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَجْرَ مِثْلِهَا. [فَصْلٌ طَلَبَتْ ذَاتُ الزَّوْجِ الْأَجْنَبِيِّ إرْضَاعَ وَلَدِهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، بِإِذْنِ زَوْجِهَا] (6564) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَبَتْ ذَاتُ الزَّوْجِ الْأَجْنَبِيِّ إرْضَاعَ وَلَدِهَا، بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، بِإِذْنِ زَوْجِهَا، ثَبَتَ حَقُّهَا، وَكَانَتْ أَحَقَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 بِهِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الْإِرْضَاعِ لِحَقِّ الزَّوْجِ، فَإِذَا أَذِنَ فِيهِ، زَالَ الْمَانِعُ، فَصَارَتْ كَغَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ، وَإِنْ مَنَعَهَا الزَّوْجُ، سَقَطَ حَقُّهَا؛ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهَا إلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا وَهِيَ فِي حِبَالِ وَالِدِهِ فَاحْتَاجَتْ إلَى زِيَادَةِ نَفَقَةٍ] (6565) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، وَهِيَ فِي حِبَالِ وَالِدِهِ، فَاحْتَاجَتْ إلَى زِيَادَةِ نَفَقَةٍ، لَزِمَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَلِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا، فَإِذَا زَادَتْ حَاجَتُهَا، زَادَتْ كِفَايَتُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ نَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ] [مَسْأَلَةٌ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَةُ الْمَمَالِيكِ] مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَعَلَى مُلَّاكِ الْمَمْلُوكِينَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ وَيَكْسُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِينَ عَلَى مُلَّاكِهِمْ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَفَقَةٍ، وَمَنَافِعُهُ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، كَبَهِيمَتِهِ وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتَ سَيِّدِهِ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ فَوْقَهُ، وَأُدْمِ مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْ جِنْسِ طَعَامِهِ؛ لِقَوْلِهِ: " فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ " فَجَمَعْنَا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ، وَحَمَلْنَا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْإِجْزَاءِ، وَحَدِيثَ خَبَرِ أَبِي ذَرٍّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ نَفَقَتَهُ مِنْ كَسْبِهِ، إنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ، وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَيَأْخُذَ كَسْبَهُ، أَوْ يَجْعَلَهُ بِرَسْمِ خِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَالُهُ، فَإِنْ جَعَلَ نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ، فَكَانَتْ وَفْقَ الْكَسْبِ، صَرَفَهُ إلَيْهَا، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْكَسْبِ شَيْءٌ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَوَزٌ، فَعَلَى سَيِّدِهِ تَمَامُهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَبِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَالِبِ الْكِسْوَةِ لِأَمْثَالِ الْعَبْدِ، فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُلْبِسَهُ مِنْ لِبَاسِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ عَبِيدِهِ الذُّكُورِ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ، وَبَيْنَ إمَائِهِ إنْ كُنَّ لِلْخِدْمَةِ أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ هُوَ لِلْخِدْمَةِ، وَفِيهِنَّ مَنْ هُوَ لِلِاسْتِمْتَاعِ، فَلَا بَأْسَ بِزِيَادَةِ مِنْ يَزِيدُهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ فِي الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ غَرَضَهُ تَحْمِيلُ مَنْ يَزِيدُهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ، بِخِلَافِ الْخَادِمَةِ. [فَصْلٌ تَوَلَّى أَحَدُهُمْ طَعَامَهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ فَيَأْكُلَ الْخَادِمُ] (6567) فَصْلٌ: إذَا تَوَلَّى أَحَدُهُمْ طَعَامَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ، فَيَأْكُلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْهُ، وَلَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَفَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ، حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، فَلْيَدْعُهُ، وَلْيُجْلِسْهُ فَإِنْ أَبَى، فَلْيُرَوِّغْ لَهُ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَعْنَى تَرْوِيغِ اللُّقْمَةِ، غَمْسُهَا فِي الْمَرَقِ وَالدَّسَمِ، وَتَرْوِيَتُهَا بِذَلِكَ، وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يَشْتَهِيه لِحُضُورِهِ فِيهِ، وَتَوَلِّيه إيَّاهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] الْآيَةَ، وَلِأَنَّ نَفْسَ الْحَاضِرِ تَتُوقُ مَا لَا تَتُوقُ نَفْسُ الْغَائِبِ. [فَصْلٌ التَّرَفُّق فِي مُعَامَلَةِ الْخَادِمِ] (6568) فَصْلٌ: وَلَا يُكَلِّفَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ، وَهُوَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَيَقْرُبُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيُؤْذِيه، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ. [فَصْلٌ لَا يُجْبَرُ الْمَمْلُوكُ عَلَى الْمُخَارَجَةِ] (6569) فَصْلٌ: وَلَا يُجْبَرُ الْمَمْلُوكُ عَلَى الْمُخَارَجَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِ خَرَاجًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيه، وَمَا فَضَلَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَالْكِتَابَةِ. وَإِنْ طَلَبَ الْعَبْدُ ذَلِكَ، وَأَبَاهُ السَّيِّدُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، جَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «أَبَا ظَبْيَةَ حَجَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ، وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ» . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَضْرِبُونَ عَلَى رَقِيقِهِمْ خَرَاجًا، فَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ لَهُ أَلْفُ مَمْلُوكٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمٌ. وَجَاءَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَسَأَلَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 أَنْ يَسْأَلَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُخَفِّفُ عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ. ثُمَّ يَنْتَظِرُ، فَإِنْ كَانَ ذَا كَسْبٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَفْضُلُ مِنْ كَسْبِهِ عَنْ نَفَقَتِهِ وَخَرَاجِهِ شَيْءٌ، جَازَ، فَإِنَّ لَهُمَا بِهِ نَفْعًا، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَحْرِصُ عَلَى الْكَسْبِ، وَرُبَّمَا فَضَلَ مَعَهُ شَيْءٌ يَزِيدُهُ فِي نَفَقَتِهِ، وَيَتَّسِعُ بِهِ. وَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ نَفَقَتِهِ، لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ إنْ كَلَّفَ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ الْمُخَارَجَةَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهُ الْكَسْبَ سَرَقَ، وَلَا تُكَلِّفُوا الْمَرْأَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا الْكَسْبَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا. وَلِأَنَّهُ مَتَى كَلَّفَ غَيْرَ ذِي الْكَسْبِ خَرَاجًا، كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ". وَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهُ. [فَصْلٌ مَرِضَ الْمَمْلُوكُ أَوْ زَمِنَ أَوْ عَمِيَ أَوْ انْقَطَعَ كَسْبُهُ عَلَى مِنْ تَلْزَم نَفَقَته] (6570) فَصْلٌ: وَإِذَا مَرِضَ الْمَمْلُوكُ، أَوْ زَمِنَ، أَوْ عَمِيَ، أَوْ انْقَطَعَ كَسْبُهُ، فَعَلَى سَيِّدِهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ بِالْمِلْكِ، وَلِهَذَا تَجِبُ مَعَ الصِّغَرِ، وَالْمِلْكُ بَاقٍ مَعَ الْعَمَى وَالزَّمَانَةِ، فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مَعَهُمَا، مَعَ عُمُومِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. [مَسْأَلَة لِلسَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَمْلُوكَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ] (6571) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَنْ يُزَوِّجَ الْمَمْلُوكَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إعْفَافُ مَمْلُوكِهِ، إذَا طَلَبَ ذَلِكَ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَإِطْعَامِ الْحَلْوَاءِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَا يَجِبُ إلَّا عِنْد الطَّلَبِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ، فَلَمْ يُزَوِّجْهَا، وَلَمْ يُصِبْهَا، أَوْ عَبْدٌ فَلَمْ يُزَوِّجْهُ، فَمَا صَنَعَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ. وَلَوْلَا وُجُوبُ إعْفَافِهِمَا لَمَا لَحِقَ السَّيِّدَ الْإِثْمُ بِفِعْلِهِمَا، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، دَعَا إلَى تَزْوِيجِهِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 فَلَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ غَالِبًا، وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ، فَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَالنَّفَقَةِ، بِخِلَافِ الْحَلْوَاءِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْن تَزْوِيجِهِ، أَوْ تَمْلِيكِهِ أَمَةً يَتَسَرَّاهَا. وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُبَاحٌ لِلْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ، وَفِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا تُعْلَمُ حَاجَتُهُ إلَّا بِطَلَبِهِ. وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنَّ إجْبَارَ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ عَلَى النِّكَاحِ غَيْرُ جَائِزٍ. فَأَمَّا الْأَمَةُ، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْن تَزْوِيجِهَا إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، فَيُغْنِيَهَا بِاسْتِمْتَاعِهِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَإِزَالَةُ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَحَدِهِمَا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا. [فَصْلٌ لِلسَّيِّدِ تَمْكِين الْعَبْد مِنْ الِاسْتِمْتَاع مِنْ زَوْجَته] (6572) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ زَوْجَةٌ فَعَلَى سَيِّدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَيْلًا لِأَنَّ إذْنَهُ فِي النِّكَاحِ إذْنٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الْمُعْتَادِ وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ لَيْلًا وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. [مَسْأَلَةٌ لِلْعَبْدِ طَلَبُ بَيْعِهِ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ] (6573) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنَّ امْتَنَعَ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ إذَا طَلَبَ الْمَمْلُوكُ ذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا امْتَنَعَ مِمَّا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ، مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ، فَطَلَبَ الْعَبْدُ الْبَيْعَ، أُجْبِرَ سَيِّدُهُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ امْتِنَاعُ السَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ عَلَيْهِ مَعَ الْإِخْلَالِ بِسَدِّ خَلَّاتِهِ إضْرَارٌ بِهِ، وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَتْ إزَالَتُهُ؛ وَلِذَلِكَ أَبَحْنَا لِلْمَرْأَةِ فَسْخَ النِّكَاحِ عِنْدَ عَجْزِ زَوْجِهَا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَبْدُك يَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَبِعْنِي. وَامْرَأَتُك تَقُولُ: أَطْعِمْنِي أَوْ طَلِّقْنِي» . وَهَذَا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ مَتَى وَفَّى بِحُقُوقِ عَبْدِهِ، فَطَلَبَ الْعَبْدُ بَيْعَهُ، لَمْ يُجْبَرْ السَّيِّدُ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَبَاعَتْ الْمَمْلُوكَةُ، وَهُوَ يَكْسُوهَا مِمَّا يَلْبَسُ، وَيُطْعِمُهَا مِمَّا يَأْكُلُ. قَالَ لَا تُبَاعُ، وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ تَحْتَاجَ إلَى زَوْجٍ، فَتَقُولَ: زَوِّجْنِي. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِسْحَاقُ، فِي الْعَبْدِ يُحْسِنُ إلَيْهِ سَيِّدُهُ، وَهُوَ يَسْتَبِيعُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 لَا يَبِعْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ، وَالْحَقَّ لَهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إزَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَبْدِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا، وَلَا عَلَى بَيْعِ بَهِيمَتِهِ مَعَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مُكَاتَبه إلَّا أَنْ يَعْجِزَ] (6574) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مُكَاتَبِهِ، إلَّا أَنْ يَعْجِزَ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا تَلْزَمُ سَيِّدَهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ أَوْجَبَ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ إكْسَابَ نَفْسِهِ وَمَنَافِعَهُ، وَمَنَعَ السَّيِّدَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا، فَلَا يَمْلِكُ اسْتِخْدَامَهُ، وَلَا إجَارَتَهُ، وَلَا إعَارَتَهُ، وَلَا أَخْذَ كَسْبِهِ، وَلَا أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ، عَنْهُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، فَإِذَا عَجَزَ، عَادَ رَقِيقًا قِنًّا، وَعَادَ إلَيْهِ مِلْكُ نَفْعِهِ، وَأَكْسَابُهُ، فَعَادَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْأَمَة لِغَيْرِ وَلَدِهَا] (6575) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْأَمَةَ) لِغَيْرِ وَلَدِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ رَيِّهِ أَمَّا إذَا أَرَادَ اسْتِرْضَاعَ أَمَتِهِ لِغَيْرِ وَلَدِهَا، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِوَلَدِهَا؛ لِنَقْصِهِ مِنْ كِفَايَتِهِ، وَصَرْفِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ لِوَلَدِهَا إلَى غَيْرِهِ، مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُنْقِصَ الْكَبِيرَ مِنْ كِفَايَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ رَيِّ وَلَدِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ الْوَلَدُ، فَكَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ، كَالْفَاضِلِ مِنْ كَسْبِهَا عَنْ مُؤْنَتِهَا، أَوْ كَمَا لَوْ مَاتَ وَلَدُهَا، وَبَقِيَ لَبَنُهَا. [مَسْأَلَةٌ رُهِنَ الْمَمْلُوكُ عَلَى مَنْ نَفَقَته] (6576) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا رُهِنَ الْمَمْلُوكُ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ) وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. وَنَفَقَتُهُ مِنْ غُرْمِهِ» . وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ، وَنَمَاؤُهُ لَهُ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ. وَقَدْ ذَكَرْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الرَّهْنِ. [مَسْأَلَةٌ أَبَقَ الْعَبْدُ فَلِمَنْ جَاءَ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ] (6577) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ، فَلِمَنْ جَاءَ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَقَدْ قَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَقَامَ سَيِّدِهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِإِنْفَاقٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَدَائِهِ مِنْهُ، فَرَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَدَّى الْحَاكِمُ عَنْ الْمُمْتَنِعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى امْرَأَتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَرْجِعَ بِشَيْءِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فِي مَنْ أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ الَّذِي عِنْدَهُ، أَوْ الْوَدِيعَةِ، أَوْ الْجِمَالِ إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ وَتَرَكَهَا مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ. [فَصْل لسَّيِّدِ تَأْدِيبُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ] (6578) فَصْلٌ: وَلَهُ تَأْدِيبُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ إذَا أَذْنَبَا، بِالتَّوْبِيخِ، وَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ، كَمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ، وَامْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ، وَلَيْسَ لَهُ ضَرْبُهُ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا ضَرْبُهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا وَإِنْ أَذْنَبَ، وَلَا لَطْمُهُ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيّ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، لَيْسَ لَنَا إلَّا خَادِمٌ وَاحِدٌ، فَلَطَمَهَا أَحَدُنَا، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْتَاقِهَا، فَأَعْتَقْنَاهَا» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: «كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا الْغُلَامِ.» [فَصْل مَنْ مَلَكَ بَهِيمَةً فَلَهُ نَفَقَتُهَا] (6579) فَصْلٌ وَمَنْ مَلَكَ بَهِيمَةً، لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِهَا، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، مِنْ عَلْفِهَا، أَوْ إقَامَةِ مَنْ يَرْعَاهَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَبَى أَوْ عَجَزَ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا، أَوْ ذَبْحِهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يُذْبَحُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ، بَلْ يَأْمُرُهُ، كَمَا يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقٌّ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا الْخُصُومَةُ، وَلَا يُنْصَبُ عَنْهَا خَصْمٌ، فَصَارَتْ كَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ. وَلَنَا، أَنَّهَا نَفَقَةُ حَيَوَانٍ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ لِلسُّلْطَانِ إجْبَارُهُ عَلَيْهَا، كَنَفَقَةِ الْعَبِيدِ، وَيُفَارِقُ نَفَقَةَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِنْفَاقِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ، بِيعَتْ عَلَيْهِ، كَمَا يُبَاعُ الْعَبْدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 إذَا طَلَبَ الْبَيْعَ عِنْدَ إعْسَارِ سَيِّدِهِ بِنَفَقَتِهِ، وَكَمَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُ إذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ. وَإِنْ عَطِبَتْ الْبَهِيمَةُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ، خُيِّرَ بَيْنَ ذَبْحِهَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، أُجْبِرَ عَلَى الْإِنْقَاقِ عَلَيْهَا، كَالْعَبْدِ الزَّمِنِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَمِّلَ الْبَهِيمَةَ مَا لَا تُطِيقُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعَبْدِ، وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْلِيفَ الْعَبْدِ مَا لَا يُطِيقُ. وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لِلْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ حُرْمَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِضْرَارًا بِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَا يَحْلِبُ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا مَا يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَةِ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ كِفَايَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِهِ، وَلَبَنُ أُمِّهِ مَخْلُوقٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْأَمَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 [كِتَابُ الْجِرَاحِ] [فَصْلٌ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ] ِ يَعْنِي كِتَابَ الْجِنَايَاتِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْجِرَاحِ لِغَلَبَةِ وُقُوعِهَا بِهِ، وَالْجِنَايَةُ: كُلُّ فِعْلِ عُدْوَانٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ. لَكِنَّهَا فِي الْعُرْفِ مَخْصُوصَةٌ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّعَدِّي عَلَى الْأَبْدَانِ، وَسَمَّوْا الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ غَصْبًا، وَنَهْبًا، وَسَرِقَةً، وَخِيَانَةً، وَإِتْلَافًا. (6580) فَصْلٌ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] . وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] . الْآيَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى عُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذِهِ كَثِيرَةٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا، فَسَقَ، وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ. لِلْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. وَلِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ وَلَا تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا صِدْقًا. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فَجَعَلَهُ دَاخِلًا فِي الْمَشِيئَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] . وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: إنَّ رَجُلًا قَتَلَ مِائَةَ رَجُلٍ ظُلْمًا، ثُمَّ سَأَلَ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، وَلَكِنْ اُخْرُجْ مِنْ قَرْيَةِ السَّوْءِ، إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، فَاعْبُدْ اللَّهَ فِيهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 فَخَرَجَ تَائِبًا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مَلَكًا، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ، فَاجْعَلُوهُ مِنْ أَهْلِهَا. فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ بِشِبْرٍ، فَجَعَلُوهُ مِنْ أَهْلِهَا» . وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ الْكُفْرِ، فَمِنْ الْقَتْلِ أَوْلَى. وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، أَوْ عَلَى أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إنْ جَازَاهُ، وَلَهُ الْعَفْوُ إذَا شَاءَ. وَقَوْلُهُ: لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ. قُلْنَا: لَكِنْ يَدْخُلُهَا التَّخْصِيصُ وَالتَّأْوِيلُ. [مَسْأَلَةٌ وَالْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ] (6581) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ عَمْدٌ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ، وَخَطَأٌ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْقَتْلَ مُنْقَسِمًا إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. وَأَنْكَرَ مَالِكٌ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، فَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَنَا. وَجَعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْعَمْدِ. وَحُكِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا إنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ شِبْهَ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ: " قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ ". وَهَذَا نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. وَقَسَّمَهُ أَبُو الْخَطَّابِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، فَزَادَ قِسْمًا رَابِعًا، وَهُوَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَإِ، نَحْوَ أَنْ يَنْقَلِبَ نَائِمٌ عَلَى شَخْصٍ فَيَقْتُلَهُ، أَوْ يَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ، وَالْقَتْلُ بِالسَّبَبِ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَصْبِ السِّكِّينِ، وَقَتْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَإِ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا. وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ قِسْمِ الْخَطَإِ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَعْمِدْ الْفِعْلَ، أَوْ عَمَدَهُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ، فَسَمَّوْهُ خَطَأً، فَأَعْطَوْهُ حُكْمَهُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْخِرَقِيِّ بِذَلِكَ، فَقَالَ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ: عَمْدُهُمَا خَطَأٌ. [مَسْأَلَةٌ الْقَتْلُ الْعَمْدُ] (6582) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَالْعَمْدُ مَا ضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، أَوْ حَجَرٍ كَبِيرٍ الْغَالِبُ أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهُ، أَوْ أَعَادَ الضَّرْبَ بِخَشَبَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا الْغَالِبُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَنَّهُ يُتْلِفُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمْدَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَضْرِبَهُ بِمُحَدِّدِ، وَهُوَ مَا يَقْطَعُ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَدَنِ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَالسِّنَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يُحَدِّدُ فَيَجْرَحُ، مِنْ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْحَجَرِ، وَالْقَصَبِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 وَالْخَشَبِ، فَهَذَا كُلُّهُ إذَا جَرَحَ بِهِ جُرْحًا كَبِيرًا، فَمَاتَ، فَهُوَ قَتْلٌ عَمْدٌ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَغِيرًا، كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ، أَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةِ، أَوْ شَوْكَةٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلِ، كَالْعَيْنِ، وَالْفُؤَادِ، وَالْخَاصِرَةِ، وَالصُّدْغِ، وَأَصْلِ الْأُذُنِ، فَمَاتَ، فَهُوَ عَمْدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِذَلِكَ فِي الْمَقْتَلِ، كَالْجُرْحِ بِالسِّكِّينِ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ؛ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَغَ فِي إدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ، فَهُوَ كَالْجُرْحِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ، كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْغَوْرُ يَسِيرًا، أَوْ جَرَحَهُ بِالْكَبِيرِ جُرْحًا لَطِيفًا، كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ فَمَا دُونَهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ ضَمَّنَّا حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْحَالِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا قِصَاصَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الْعَصَا وَالسَّوْطَ، وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ حُصُولَ الْمَوْتِ بِغَيْرِهِ ظَاهِرًا، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي الْحَالِ، وَمَوْتِهِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ وَالثَّانِي، فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمُحَدَّدَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَطَعَ شَحْمَةَ أُذُنِهِ، أَوْ قَطَعَ أُنْمُلَتَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إدَارَةُ الْحُكْمِ، وَضَبْطُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَجَبَ رَبْطُهُ بِكَوْنِهِ مُحَدَّدًا، وَلَا يُعْتَبَرُ ظُهُورُ الْحِكْمَةِ فِي آحَادِ صُوَرِ الْمَظِنَّةِ، بَلْ يَكْفِي احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فِيمَا إذَا بَقِيَ ضِمْنًا، مَعَ أَنَّ الْعَمْدَ لَا يَخْتَلِفُ مَعَ اتِّحَادِ الْآلَةِ وَالْفِعْلِ، بِسُرْعَةِ الْإِفْضَاءِ وَإِبْطَائِهِ، وَلِأَنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلَ خَفِيَّةً، وَهَذَا لَهُ سِرَايَةٌ وَمَوْرٌ، فَأَشْبَهَ الْجُرْحَ الْكَبِيرَ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةُ، وَلِلشَّافِعِيِّ، مِنْ التَّفْصِيلِ نَحْوٌ مَا ذَكَرْنَا. النَّوْعُ الثَّانِي، الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الزَّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ فَهَذَا عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ: الْعَمْدُ مَا كَانَ بِالسِّلَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بِالنَّارِ. وَعَنْهُ فِي مُثْقَلِ الْحَدِيدِ رِوَايَتَانِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَإِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ، مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . فَسَمَّاهُ عَمْدَ الْخَطَإِ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمْدَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَبْطُهُ بِمَظِنَّتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لِحُصُولِ الْعَمْدِ بِدُونِهِ فِي الْجُرْحِ الصَّغِيرِ، فَوَجَبَ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وَهَذَا مَقْتُولٌ ظُلْمًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . وَرَوَى أَنَسٌ «، أَنْ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ حَجَرَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا يُودِي، وَإِمَّا يُقَادُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الْمُحَدَّدَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُثْقَلِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعَصَا وَالسَّوْطَ، وَقَرَنَ بِهِ الْحَجَرَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يُشْبِهُهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّنَا نُوجِبُ الْقِصَاصَ بِمَا نَتَيَقَّنُ حُصُولَ الْغَلَبَةِ بِهِ، وَإِذَا شَكَكْنَا، لَمْ نُوجِبْهُ مَعَ الشَّكِّ، وَصَغِيرُ الْجُرْحِ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِالنَّارِ، أَوْ بِمُثْقَلِ الْحَدِيدِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَضْرِبَهُ بِمُثْقَلٍ كَبِيرٍ، يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، كَاللَّتِّ، وَالسِّنْدَانِ، وَالْمِطْرَقَةِ، أَوْ حَجَرٍ ثَقِيلٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ، وَحَدَّ الْخِرَقِيِّ الْخَشَبَةَ الْكَبِيرَةَ، بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، يَعْنِي الْعَمْدَ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْأَعْرَابُ لِبُيُوتِهَا، وَفِيهَا دِقَّةٌ، فَأَمَّا عَمَدُ الْخِيَامِ فَكَبِيرَةٌ، تَقْتُلُ غَالِبًا، فَلَمْ يُرِدْهَا الْخِرَقِيِّ وَإِنَّمَا حَدَّ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي ضَرَبَتْ جَارِيَتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» . وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ لَيْسَ بِعَمْدٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ، فَهُوَ عَمْدٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا، أَوْ صَخْرَةً، أَوْ خَشَبَةً عَظِيمَةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ مِمَّا يُهْلِكُهُ غَالِبًا، فَيُهْلِكَهُ، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يَضْرِبَهُ بِمُثْقَلٍ صَغِيرٍ، كَالْعَصَا، وَالسَّوْطِ، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، أَوْ يَلْكُزَهُ بِيَدَيْهِ فِي مَقْتَلٍ، أَوْ فِي حَالِ ضَعْفٍ مِنْ الْمَضْرُوبِ؛ لَمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ فِي زَمَنٍ مُفْرِطِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ، بِحَيْثُ تَقْتُلُهُ تِلْكَ الضَّرْبَةُ، أَوْ كَرَّرَ الضَّرْبَ حَتَّى قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِمُثْقَلٍ كَبِيرٍ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ، لَوْ عَصَرَ خُصْيَتَهُ عَصْرًا شَدِيدًا فَقَتَلَهُ بِعَصْرٍ يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ، إلَّا أَنْ يَصْغُرَ جِدًّا، كَالضَّرْبَةِ بِالْقَلَمِ وَالْإِصْبَعِ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ الْقَتْلُ بِهِ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 وَكَذَلِكَ إنْ مَسَّهُ بِالْكَبِيرِ، وَلَمْ يَضْرِبْهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَتْلِ، وَلَيْسَ هَذَا بِقَتْلٍ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْنَعَ خُرُوجَ نَفَسِهِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ فِي عُنُقِهِ خِرَاطَةً، ثُمَّ يُعَلِّقَهُ فِي خَشَبَةٍ أَوْ شَيْءٍ، بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ، فَيَخْتَنِقُ وَيَمُوتُ، فَهَذَا عَمْدٌ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْحَالِ، أَوْ بَقِيَ زَمَنًا، لِأَنَّ هَذَا أَوْحَى أَنْوَاعِ الْحَنَقِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ مِنْ الْوُلَاةِ فِي اللُّصُوصِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنْ الْمُفْسِدِينَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْنُقَهُ وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ، أَوْ مِنْدِيلٍ، أَوْ حَبْلٍ، أَوْ يُغَمِّهِ بِوِسَادَةٍ، أَوْ شَيْءٍ يَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَأَنْفِهِ، أَوْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا فَيَمُوتَ، فَهَذَا إنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ مُدَّةً يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ، فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي مُدَّةٍ لَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَسِيرًا فِي الْعَادَةِ، بِحَيْثُ لَا يُتَوَهَّمُ الْمَوْتُ مِنْهُ، فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ لَمْسِهِ. وَإِنْ خَنَقَهُ، وَتَرَكَهُ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَتِهِ، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ مِنْ سِرَايَةِ الْجُرْحِ، وَإِنْ تَنَفَّسَ وَصَحَّ، ثُمَّ مَاتَ، فَلَا قَوَدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْدَمَلَ الْجُرْحُ ثُمَّ مَاتَ النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يُلْقِيه فِي مَهْلَكَةٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ كَرَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ حَائِطٍ عَالٍ، يَهْلِكُ بِهِ غَالِبًا، فَيَمُوتَ، فَهُوَ عَمْدٌ. الثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَارٍ، أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَاءِ وَالنَّارِ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ التَّخَلُّصِ، لَمَرَضٍ، أَوْ ضَعْفٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا، أَوْ مَنَعَهُ الْخُرُوجَ، أَوْ كَوْنِهِ فِي حُفْرَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ مِنْهَا، وَنَحْوُ هَذَا، أَوْ أَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ ذَاتِ نَفَسٍ، فَمَاتَ بِهِ، عَالِمًا بِذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَلَبِثَ فِيهِ اخْتِيَارًا حَتَّى مَاتَ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ مَوْتُهُ بِلُبْثِهِ فِيهِ، وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ. وَإِنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا، أَوْ كَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ؛ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ، فَلَا قَوَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهَلْ يَضْمَنُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ مُهْلِكٌ لِنَفْسِهِ بِإِقَامَتِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، لَكِنْ يَضْمَنُ مَا أَصَابَتْ النَّارُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِالْإِلْقَاءِ الْمُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ، وَتَرْكُ التَّخَلُّصِ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ، كَمَا لَوْ فَصَدَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 فَتَرَك شَدَّ فَصَادِهِ مَعَ إمْكَانِهِ، أَوْ جَرَحَهُ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ، وَفَارَقَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلْغُسْلِ وَالسِّبَاحَةِ وَالصَّيْدِ، وَأَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ. وَإِنَّمَا تُعْلَمُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّخَلُّصِ بِقَوْلِهِ: أَنَا قَادِرٌ عَلَى التَّخَلُّصِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا. وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي لُجَّةٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ أَلْقَاهُ فِي مَهْلَكَةٍ فَهَلَكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَرِقَ فِيهَا. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ بِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ آدَمِيُّ آخَرُ. وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، فَأَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ الْتَقَمَهُ حُوتٌ أَوْ تِمْسَاحٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِفِعْلِهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدٍ أَوْ نَمِرٍ، فِي مَكَان ضَيِّقٍ، كَزُبْيَةِ وَنَحْوِهَا، فَيَقْتُلَهُ، فَهَذَا عَمْدٌ، فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا فَعَلَ السَّبُعُ بِهِ فِعْلًا يَقْتُلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ الْآدَمِيُّ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ صَارَ آلَةً لِلْآدَمِيِّ، فَكَانَ فِعْلُهُ. كَفِعْلِهِ. وَإِنْ أَلْقَاهُ مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيْ الْأَسَدِ، أَوْ النَّمِرِ، فِي فَضَاءٍ، فَأَكَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، فَنَهَشَتْهُ فَقَتَلَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ وَالْحَيَّةَ يَهْرُبَانِ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَكَانَ عَمْدًا مَحْضًا، كَسَائِرِ الصُّوَرِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمَا يَهْرُبَانِ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَسَدَ يَأْخُذُ الْآدَمِيَّ الْمُطْلَقَ، فَكَيْفَ يَهْرُبُ مِنْ مَكْتُوفٍ أُلْقِيَ إلَيْهِ لِيَأْكُلَهُ، وَالْحَيَّةُ إنَّمَا تَهْرُبُ فِي مَكَان وَاسِعٍ، أَمَّا إذَا ضَاقَ الْمَكَانُ، فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا بِالنَّهْشِ، عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ أُلْقِيَ مَكْتُوفًا فِي أَرْضٍ مُسَبَّعَةٍ، أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ، فَقَتَلَتْهُ، أَنَّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ؛ فَإِنَّهُ نَفَى الضَّمَانَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي صُورَةٍ كَانَ الْقَتْلُ فِيهَا أُغْلَبَ، وَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي صُورَةٍ كَانَ فِيهَا أَنْدَرَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ هَاهُنَا، وَيَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا مُتَعَمِّدًا تَلِفَ بِهِ. لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا. وَإِنْ أَنْهَشَهُ حَيَّةً أَوْ سَبُعًا فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، كَثُعْبَانِ الْحِجَازِ، أَوْ سَبُعٍ صَغِيرٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، فِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، وَهَذَا جُرْحٌ، وَلِأَنَّ الْحَيَّةَ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 وَالثَّانِي: هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، أَشْبَهَ الضَّرْبَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ. وَإِنْ كَتَّفَهُ وَأَلْقَاهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُسَبَّعَةٍ فَأَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا عَمْدًا، فَأَفْضَى إلَى هَلَاكِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَمَاتَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَلْقَاهُ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَعْهَدْ وُصُولَ زِيَادَةِ الْمَاءِ إلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَعْلَمُ وُصُولِ زِيَادَةِ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَاتَ بِهَا، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، إمَّا لِكَوْنِهَا تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَعَدَمَهُ، أَوْ لَا تُعْهَدُ أَصْلًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَكَان، وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُدَّةً لَا يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا كَانَ عَطْشَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ، لَمْ يَمُتْ إلَّا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَفِيهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ. وَإِنْ شَكَكْنَا فِيهَا، لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّنَا شَكَكْنَا فِي السَّبَبِ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ، لَا سِيَّمَا الْقِصَاصُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ النَّوْعُ الْخَامِسُ: أَنْ يَسْقِيَهُ سُمًّا، أَوْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا قَاتِلًا، فَيَمُوتَ بِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، إذَا كَانَ مِثْلُهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَإِنْ خَلَطَهُ بِطَعَامٍ، وَقَدَّمَهُ إلَيْهِ، فَأَكَلَهُ أَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِ رَجُلٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَكَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ مُخْتَارًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ سِكِّينًا، فَطَعَنَ بِهَا نَفْسَهُ، وَلِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى «، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْتُلْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَالَ: وَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَلَنَا، خَبَرُ الْيَهُودِيَّةِ، فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ فِيهِ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلَتْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَيُتَّخَذُ طَرِيقًا إلَى الْقَتْلِ كَثِيرًا، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ مِنْهُ. وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلْهَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ فَلَمَّا مَاتَ، أَرْسَلَ إلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَقَتَلَهَا، فَنَقَلَ أَنَسٌ صَدْرَ الْقِصَّةِ دُونَ آخِرِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، جَمْعًا بَيْن الْخَبَرَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ قَتْلَهَا؛ لِكَوْنِهَا مَا قَصَدَتْ بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ، إنَّمَا قَصَدَتْ قَتَلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَلَّ الْعَمْدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى بِشْرٍ، وَفَارَقَ تَقْدِيمَ السِّكِّينِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَدَّمُ إلَى الْإِنْسَانِ لِيَقْتُلَ بِهَا نَفْسَهُ، إنَّمَا تُقَدَّمُ إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَضَرَّتِهَا وَنَفْعِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُدِّمَ إلَيْهِ السُّمُّ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ. فَأَمَّا إنْ خَلَطَ السُّمَّ بِطَعَامِ نَفْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَدَخَلَ إنْسَانٌ فَأَكَلَهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَوَقَعَ فِيهَا، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِذَلِكَ قَتْلَ الْآكِلِ، مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ظَالِمًا يُرِيدُ هُجُومَ دَارِهِ، فَتَرَكَ السُّمَّ فِي الطَّعَامِ لِيَقْتُلهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِهِ لِيَقَعَ فِيهَا اللِّصُّ إذَا دَخَلَ لِيَسْرِقَ مِنْهَا، وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ بِإِذْنِهِ، فَأَكَلَ الطَّعَامَ الْمَسْمُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ لِذَلِكَ. وَإِنْ خَلَطَهُ بِطَعَامِ رَجُلٍ، أَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ طَعَامًا مَسْمُومًا، وَأَخْبَرَهُ بِسُمِّهِ فَأَكَلَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ عَالِمًا بِحَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهَا نَفْسَهُ. وَإِنْ سَقَى إنْسَانًا سُمًّا، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِهِ، فَأَكَلَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَكَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. فَإِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا أَوْ لَا؟ وَثَمَّ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ، عُمِلَ بِهَا. وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ: هُوَ يَقْتُلُ النِّضْوَ الضَّعِيفَ دُونَ الْقَوِيِّ. أَوْ غَيْرَ هَذَا، عُمِلَ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاقِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصِفَةِ مَا سَقَى. وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَاتِلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَاتِلٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ السُّمَّ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَهُ، وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاتِلٌ. وَهَذِهِ شُبْهَةٌ يَسْقُطُ بِهَا الْقَوَدُ. النَّوْعُ السَّادِسُ: أَنْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِسِكِّينِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، أَوْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ وَلَا يَقْتُلُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدُ الْخَطَإِ، فَأَشْبَهَ ضَرْبَ الْعَصَا النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنْ يَتَسَبَّبَ إلَى قَتْلِهِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُكْرِهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ، فَيَقْتُلَهُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُبَاشِرِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 : «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَنَقْلِ فِعْلِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُكْرَهِ، كَمَا لَوْ رَمَى بِهِ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّبَبِ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ، وَالْآمِرِ مَعَ الْقَاتِلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَفِي الْمُكْرَهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، فَهُوَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ، وَالْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ، فَأَشْبَهَ الْمَرْمِيَّ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ، أَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى قَتْلِهِ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْسَعَهُ حَيَّةً، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَى أَسَدٍ فِي زُبْيَةٍ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ، أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا ظُلْمًا لِاسْتِبْقَاءِ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ لِيَأْكُلَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِامْتِنَاعِ، وَلِذَلِكَ أَثِمَ بِقَتْلِهِ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ عِنْد الْإِكْرَاهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ فِي قَتْلِهِ نَجَاةَ نَفْسِهِ، وَخَلَاصَهُ مِنْ شَرِّ الْمُكْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْقَاتِلَ فِي الْمَخْمَصَةِ لِيَأْكُلَهُ. وَإِنْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا دِيَةَ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ بِنَاءً مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ آلَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ، وَإِنَّمَا هُمَا شَرِيكَانِ، يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا، كَالشَّرِيكَيْنِ بِالْفِعْلِ، وَكَمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْمُبَاشِرِ، وَالرِّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ فِي الْمُحَارَبَةِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَحَبَّ الْوَلِيُّ قَتْلَ أَحَدِهِمَا، وَأَخْذَ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ الْعَفْوَ عَنْهُ، فَلَهُ ذَلِكَ. الضَّرْب الثَّانِي: إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَاعْتَرَفَا بِتَعَمُّدِ الْقَتْلِ ظُلْمًا، وَكَذِبِهِمَا فِي شَهَادَتِهِمَا، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا، لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا. وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ. وَلِأَنَّهُمَا تَوَصَّلَا إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، كَالْمُكْرِهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ، الْحَاكِمُ إذَا حَكَمَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ، عَالِمًا بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَقَتَلَهُ، وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الشَّاهِدَيْنِ، وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ أَقَرَّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِ الشُّهُودِ، وَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ أَقَرَّ الشَّاهِدَانِ وَالْحَاكِمُ وَالْوَلِيُّ جَمِيعًا بِذَلِكَ، فَعَلَى الْوَلِيِّ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْلَ عَمْدًا وَعُدْوَانًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَسَبِّبُونَ، وَالْمُبَاشَرَةُ تُبْطِلُ حُكْمَ السَّبَبِ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا لَمْ يُقِرَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِ ظُلْمًا، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ وَالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَسَبِّبُونَ. وَإِنْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْحَاكِمِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَسَبُّبَهُ أَخَصُّ مِنْ تَسَبُّبِهِمْ؛ فَإِنَّ حُكْمَهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ وَقَتْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاشِرَ مَعَ الْمُتَسَبِّبِ. وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ الْمُقِرُّ بِالتَّعَمُّدِ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا وَكَّلَ فِيهِ، نَظَرْت فِي الْوَكِيلِ؛ فَإِنْ أَقَرَّ بِالْعِلْمِ، وَتَعَمَّدَ الْقَتْلَ ظُلْمًا، فَهُوَ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْقَتْلِ عَمْدًا ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالْقَتْلِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، فَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَلِيِّ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْقَتْلُ الْعَمْدُ فِيهِ الْقَوَدُ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ] (6583) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَفِيهِ الْقَوَدُ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمْدِ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنهمْ فِي وُجُوبِهِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ خِلَافًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ بِعُمُومِهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ مِنْهُ، شَفَقَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْقَتْلِ، فَتَبْقَى الْحَيَاةُ فِي مَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ. وَقِيلَ: إنَّ الْقَاتِلَ تَنْعَقِدُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبِيلَةِ الْمَقْتُولِ، فَيُرِيدُ قَتْلَهُمْ خَوْفًا مِنْهُمْ. وَيُرِيدُونَ قَتْلَهُ وَقَتْلَ قَبِيلَتِهِ اسْتِيفَاءً، فَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ قَطْعٌ لِسَبَبِ الْهَلَاكِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ، أَوْ خَبَلٍ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ؛ فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ أَنْ يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، أَوْ يَقْتُلُوا» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْعَمْدُ قَوَدٌ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ» . وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ قَتَلَ عَامِدًا، فَهُوَ قَوَدٌ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: «مَنْ قَتَلَ عَامِدًا، فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» . وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ. يَعْنِي إذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ أَوْلِيَاءُ يَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ، فَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَلَبِهِ، وَلَوْ عَفَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، سَقَطَ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا، أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، لَمْ يَكُنْ لِشُرَكَائِهِ الْقِصَاصُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَيَخْتَارَ الْقِصَاصَ، أَوْ يُوَكِّلَ، وَيَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ وَيَخْتَارَاهُ. وَقَوْلُهُ: إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا. يَعْنِي مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا مُسْلِمًا. اُشْتُرِطَ كَوْنُ الْمَقْتُولِ حُرًّا مُسْلِمًا لِتَتَحَقَّقَ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُكَافِئُ الْمُسْلِمَ، وَالْعَبْدَ لَا يُكَافِئُ الْحُرَّ. [فَصْلٌ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ يُقَادُ بِهِ قَاتِلُهُ] فَصْلٌ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ يُقَادُ بِهِ قَاتِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ، مَعْدُومَ الْحَوَاسِّ، وَالْقَاتِلُ صَحِيحٌ سَوِيُّ الْخَلْقِ، أَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ إنْ تَفَاوَتَا فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَالسُّلْطَانِ وَالسُّوقَةِ، وَنَحْوِ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ، لَمْ يَمْنَعْ الْقِصَاصَ، بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُمُومَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّسَاوِي فِي الصِّفَات وَالْفَضَائِلِ، يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ الْقِصَاصِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفَوَاتِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ، كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. [فَصْلٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَوْنُ الْقَتْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ] فَصْلٌ: (6585) وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَوْنُ الْقَتْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بَلْ مَتَى قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا عَامِدًا عَالِمًا بِإِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يُهَاجِرْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ هَاجَرَ، لَمْ يَضْمَنْهُ بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ، عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ قَدْ هَاجَرَ، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، كَرَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَقَتَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقَوْلِهِ. وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ أَسِيرًا مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَضْمَنْهُ إلَّا بِالدِّيَةِ، عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُ قَتَلَ مِنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا ظُلْمًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ دَارٍ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ إذَا كَانَ فِيهَا إمَامٌ، يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إمَامٌ، كَدَارِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ قَتْلُ الْغِيلَةِ] (6586) فَصْلٌ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ. وَالْغِيلَةُ عِنْدَهُ، أَنْ يُخْدَعَ الْإِنْسَانُ، فَيُدْخَلَ بَيْتًا أَوْ نَحْوَهُ، فَيُقْتَلَ أَوْ يُؤْخَذَ مَالُهُ. وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ عُمَرَ، فِي الَّذِي قُتِلَ غِيلَةً: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَأَقَدْتُهُمْ. بِهِ وَبِقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَارِبِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» . وَلِأَنَّهُ قَتِيلٌ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ، فَكَانَ أَمْرُهُ إلَى وَلِيِّهِ، كَسَائِرِ الْقَتْلَى، وَقَوْلُ عُمَرَ: لَأَقَدْتُهُمْ بِهِ. أَيْ أَمْكَنْت الْوَلِيَّ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُمْ. [فَصْلٌ قَتَلَ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ] (6587) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ أَنَّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ يُكَابِرهُ عَلَى مَالِهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إلَّا بِقَتْلِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي دَارِ الْقَاتِلِ، أَوْ فِي غَيْرِهَا، أَوْ وُجِدَ مَعَهُ سِلَاحٌ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَدَّعِيه، فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَإِنْ اعْتَرَفَ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَتَغَدَّى، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ يَعْدُو، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَوَرَاءَهُ قَوْمٌ يَعْدُونَ خَلْفَهُ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ مَعَ عُمَرَ، فَجَاءَ الْآخَرُونَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا يَقُولُونَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي ضَرَبْت فَخِذِي امْرَأَتِي، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهُ ضَرَبَ بِالسَّيْفِ، فَوَقَعَ فِي وَسَطِ الرَّجُلِ وَفَخِذِي الْمَرْأَةِ. فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 فَهَزَّهُ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَقَالَ: إنَّ عَادُوا فَعُدْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ "، وَرُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَيْشِ، وَمَعَهُ جَارِيَةٌ لَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلَانِ فَقَالَا: أَعْطِنَا شَيْئًا. فَأَلْقَى إلَيْهِمَا طَعَامًا كَانَ مَعَهُ، فَقَالَا: خَلِّ عَنْ الْجَارِيَةِ. فَضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ، فَقَطَعَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلِأَنَّ الْخَصْمَ اعْتَرَفَ بِمَا يُبِيحُ قَتْلَهُ، فَسَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ قِصَاصًا، أَوْ فِي حَدٍّ يُوجِبُ قَتْلَهُ. وَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَكَذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ شَبَهِ الْعَمْدِ] (6588) فَصْلٌ قَالَ: (وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا ضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ، أَوْ لَكَزَهُ، أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا، الْأَغْلَبُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ، فَلَا قَوَدَ فِي هَذَا، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ) شِبْهُ الْعَمْدِ أَحَدُ أَقْسَامِ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا؛ إمَّا لِقَصْدِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقَصْدِ التَّأْدِيبِ لَهُ، فَيُسْرِفُ فِيهِ، كَالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، وَالْوَكْزِ وَالْيَدِ، وَسَائِرِ مَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا إذَا قَتَلَ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الضَّرْبَ دُونَ الْقَتْلِ، وَيُسَمَّى عَمْدَ الْخَطَإِ وَخَطَأَ الْعَمْدِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِيهِ، فَإِنَّهُ عَمَدَ الْفِعْلَ، وَأَخْطَأَ فِي الْقَتْلِ، فَهَذَا لَا قَوَدَ فِيهِ. وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَجَعَلَهُ مَالِكٌ عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، فَمَنْ زَادَ قِسْمًا ثَالِثًا، زَادَ عَلَى النَّصِّ، وَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِفِعْلٍ عَمَدَهُ، فَكَانَ عَمْدًا، كَمَا لَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةِ فَقَتَلَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ فِعْلِ عَمْدٍ، فَكَانَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ. وَلَنَا. مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَوْجَبَ دِيَتَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ عَمْدًا، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» . وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ: «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ، مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا نَصٌّ، وَقَوْلُهُ هَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ. قُلْنَا: نَعَمْ، هَذَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ ثَبَتَا بِالْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَكَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، كَقَتْلِ الْخَطَإِ. [مَسْأَلَةٌ الْقَتْلُ الْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ] (6589) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْمِيَ الصَّيْدَ، أَوْ يَفْعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَيَئُولَ إلَى إتْلَافِ حُرٍّ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَتَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَطَأَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لَا يُرِيدُ بِهِ إصَابَةَ الْمَقْتُولِ، فَيُصِيبَهُ وَيَقْتُلَهُ، مِثْلَ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا أَوْ هَدَفًا، فَيُصِيبَ إنْسَانًا فَيَقْتُلَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرَ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ، أَنْ يَرْمِيَ الرَّامِي شَيْئًا، فَيُصِيبَ غَيْرَهُ، لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْن عَبْد الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْخَطَإِ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لَهُ عَهْدٌ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ بِهِ الدِّيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَاصًا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ، فَفِي الْخَطَأِ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَصَدَ فِعْلًا مُحَرَّمًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا] (6590) فَصْلٌ: وَإِنْ قَصَدَ فِعْلًا مُحَرَّمًا، فَقَتَلَ آدَمِيًّا، مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ بَهِيمَةٍ، أَوْ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، فَيُصِيبَ غَيْرَهُ، فَيَقْتُلَهُ، فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ، أَنْ يَرْمِيَ الرَّامِي شَيْئًا، فَيُصِيبَ غَيْرَهُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ هَذَا عَمْدٌ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ رَمَى نَصْرَانِيًّا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى أَسْلَمَ، أَنَّهُ عَمْدٌ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ فِعْلًا مُحَرَّمًا، قَتَلَ بِهِ إنْسَانًا. [مَسْأَلَةٌ وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ] (6591) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَ فِي بِلَادِ الرُّومِ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَيَكُونُ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَتَمَ إسْلَامَهُ، إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّخَلُّصِ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، بِلَا دِيَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] هَذَا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْخَطَإِ، وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ مَنْ يَظُنُّهُ كَافِرًا، وَيَكُونُ مُسْلِمًا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، لَا يُوجِبُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ مُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّهُ صَيْدًا فَبَانَ آدَمِيًّا وَإِلَّا أَنَّ هَذَا لَا تَجِبُ بِهِ دِيَةٌ أَيْضًا، وَلَا يَجِبُ إلَّا الْكَفَّارَةُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» . وَلِأَنَّهُ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً، وَتَرْكُهُ ذِكْرَهَا فِي هَذَا الْقِسْمِ، مَعَ ذِكْرِهَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَذِكْرُهُ لِهَذَا قِسْمًا مُفْرَدًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، وَيُخَصُّ بِهَا عُمُومُ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْمُسْلِمِ بِكَافِرٍ] (6592) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُوجِبُونَ عَلَى مُسْلِمٍ قِصَاصًا بِقَتْلِ كَافِرٍ، أَيَّ كَافِرٍ كَانَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ خَاصَّةً. قَالَ أَحْمَدُ: الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ قَالَا: دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ. هَذَا عَجَبٌ، يَصِيرُ الْمَجُوسِيُّ مِثْلَ الْمُسْلِمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَا الْقَوْلُ، وَاسْتَبْشَعَهُ. وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَهُوَ يَقُولُ: يُقْتَلُ بِكَافِرٍ. فَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، وَاحْتَجُّوا بِالْعُمُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَبِمَا رَوَى ابْن الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» . وَلِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عِصْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَيُقْتَلُ بِهِ قَاتِلُهُ، كَالْمُسْلِمِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ مَنْقُوصٌ بِالْكُفْرِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، كَالْمُسْتَأْمَنِ، وَالْعُمُومَاتُ مَخْصُوصَاتٌ بِحَدِيثِنَا، وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ. قَالَهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ. يَرْوِيه ابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ إذَا أَسْنَدَ، فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ؟ وَالْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ أَنَّهُ مُكَافِئٌ لِلْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ، فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ، فَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمَاعَةَ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقَادُ بِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْهُ: يُقْتَلُ بِهِ؛ لِمَا سَبَقَ فِي الذِّمِّيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ] (6593) فَصْلٌ فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ، أَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الْجَارِحُ، وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا، كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ إسْلَامِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ، كَالدَّيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَلَا يُقْتَلُ بِكَافِرٍ، كَمَا لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا حَالَ قَتْلِهِ، وَلِأَنَّ إسْلَامَهُ لَوْ قَارَنَ السَّبَبَ، مَنَعَ عَمَلَهُ، فَإِذَا طَرَأَ أَسْقَطَ حُكْمَهُ. [فَصْلٌ جَرَحَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَأَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ ثُمَّ مَاتَ مُسْلِمًا] (6594) فَصْلٌ وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ كَافِرًا، فَأَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ، ثُمَّ مَاتَ مُسْلِمًا بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَاتِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مَعْدُومٌ حَالَ الْجِنَايَةِ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَرْشِ بِحَالَةِ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ، فَسَرَى إلَى نَفْسِهِ، دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ اُعْتُبِرَ حَالَ الْجُرْحِ، وَجَبَ دِيَتَانِ، وَلَوْ قَطَعَ حُرٌّ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ عَتَقَ وَمَاتَ، لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ؛ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ حَالَ الْجِنَايَةِ، وَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ حُرٍّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الِاسْتِقْرَارِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ، مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، أَوْ نِصْفِ دِيَةِ حُرٍّ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ، فَهِيَ الَّتِي وُجِدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ حَصَلَ بَحْرِيَّته، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا حَصَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ الدِّيَةَ، لَمْ يَسْتَحِقّ أَكْثَرِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْقِيمَةِ حَصَلَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ، وَإِعْتَاقُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ، أَنَّ عَلَى الْجَانِي قِيمَتَهُ لِلسَّيِّدِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْجِنَايَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ. أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ قَطَعَ يَدَ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، ضَمِنَهُ بِدِيَةِ ذِمِّيٍّ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ وَمَاتَ، فَعَلَى الْجَانِي قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، دُونَ حَالِ السِّرَايَةِ، فَكَذَلِكَ الدِّيَةُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْجُرْحِ مَضْمُونَةٌ، فَإِذَا أَتْلَفَتْ حُرًّا مُسْلِمًا، وَجَبَ ضَمَانُهُ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ ثَانٍ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ. لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى الْقِيمَةِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ لِلْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِمَا تُفْضِي إلَيْهِ السِّرَايَةُ دُونَ مَا تُتْلِفُهُ الْجِنَايَةُ بِدَلِيلِ أَنَّ مِنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَلْزَمْ الْجَانِيَ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، وَلَوْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَسَرَى إلَى نَفْسِهِ، لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَتْ إلَى نَفْسِ حُرٍّ مُسْلِمٍ، تَجِبُ دِيَتُهُ كَامِلَةً. فَأَمَّا إنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا، أَوْ حَرْبِيًّا فَسَرَى الْجُرْحُ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ السِّرَايَةِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتَهُ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ] (6595) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، لَمْ يَجِبْ فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَفْسُ مُرْتَدٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَلَا مَضْمُونٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ ذِمِّيٍّ فَصَارَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ مَاتَ مِنْ جِرَاحِهِ. وَأَمَّا الْيَدُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهَا. وَذَكَرِ الْقَاضِي وَجْهًا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِ حُكْمِ سِرَايَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ، وَلِلشَّافِعِي فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَطْعٌ هُوَ قَتْلٌ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَصِرْ قَتْلًا. وَهَلْ تَجِبُ دِيَةُ الطَّرَفِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ لِغَيْرِ مَعْصُومٍ. وَالثَّانِي: تَجِبُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ سِرَايَةِ الْجُرْحِ لَا يُسْقِطَ ضَمَانَهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَجِبُ ضَمَانُهُ بِدِيَةِ الْمَقْطُوعِ، أَوْ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ دِيَةِ النَّفْسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ دِيَةُ الْمَقْطُوعِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ، فَفِيهِ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَطَعَتْ حُكْمَ السِّرَايَةِ، فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَ حُكْمِهَا بِانْدِمَالِهَا، أَوْ بِقَتْلِ آخَرَ لَهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، فَمَعَ الرِّدَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ صَارَ قَتْلًا، فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَفَارَقَ أَصْلَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ قَتْلًا؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 وَلِأَنَّ الِانْدِمَالَ وَالْقَتْلَ مَنَعَ وُجُودَ السِّرَايَةِ، وَالرِّدَّةَ مَنَعَتْ ضَمَانَهَا، وَلَمْ تَمْنَعْ جَعَلَهَا قَتْلًا. وَلِلشَّافِعِي مِنْ التَّفْصِيلِ نَحْوٌ مِمَّا قُلْنَا. [فَصْلٌ قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ نَصْرَانِيٍّ فَتَمَجَّسَ] فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ نَصْرَانِيٍّ فَتَمَجَّسَ، وَقُلْنَا: لَا يُقَرُّ. فَهُوَ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ. وَإِنْ قُلْنَا: يُقَرُّ عَلَيْهِ. وَجَبَتْ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَ مَجُوسِيٍّ، فَتَنَصَّرَ، ثُمَّ مَاتَ، وَقُلْنَا: يُقَرُّ. وَجَبَتْ دِيَةُ نَصْرَانِيٍّ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي، أَنْ تَجِبَ دِيَةُ نَصْرَانِيٍّ فِي الْأُولَى، وَدِيَةُ مَجُوسِيٍّ فِي الثَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِمْ فِي مَنْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ ذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَ وَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ ضَمِنَهُ بِقِيمَةِ عَبْدٍ ذِمِّيٍّ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ] (6597) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَوَجَّهُ عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ تَسْرِي فِي مِثْلِهِ الْجِنَايَةُ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. وَهَلْ يَجِبُ فِي الطَّرَفِ الَّذِي قُطِعَ فِي إسْلَامِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ كُلِّهَا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ جَمِيعُهَا فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي الْإِسْلَامِ، وَالْآخَرُ: فِي الرِّدَّةِ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. وَلَنَا، أَنَّهُ مُسْلِمٌ حَالَ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْتِ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَاحْتِمَالُ السِّرَايَةِ حَالَ الرِّدَّةِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ السَّبَبِ الْمَعْلُومِ بِاحْتِمَالِ الْمَانِعِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ بِمَرَضٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، أَوْ بِالْجُرْحِ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ، فَأَمَّا الدِّيَةُ، فَتَجِبُ كَامِلَةً، وَيُحْتَمَلُ وُجُوبُ نِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحٍ مَضْمُونٍ وَسِرَايَةٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ، فَوَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ إنْسَانٌ وَجَرَحَ نَفْسَهُ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ لَا تَسْرِي فِي مِثْلِهِ الْجِنَايَةُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى إلَى حَالٍ لَوْ مَاتَ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مُتَكَافِئَانِ حَالَ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ وَالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ خَطَأً وَجَبْت الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ نَفْسًا مَعْصُومَةً. [فَصْلٌ جَرَحَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ ثُمَّ جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ] (6598) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ، ثُمَّ جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، وَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِذَلِكَ. وَسَوَاءٌ تَسَاوَى الْجُرْحَانِ، أَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا، مِثْلَ إنْ قَطَعَ يَدَيْهِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ، فَقَطَعَ رِجْلَهُ، أَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ فِي الْحَالَيْنِ كَجُرْحِ رَجُلَيْنِ. وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ الَّذِي قَطَعَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 مَنْ قَطَعَ طَرَفَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَارْتَدَّ، وَمَاتَ فِي رِدَّتِهِ. وَلَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فِي رِدَّتِهِ أَوَّلًا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَطَعَ طَرَفَهُ الْآخَرَ، وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ] (6599) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَتَلَ الْيَهُودِيَّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا» وَلِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ فَبِمَنْ فَوْقَهُ أَوْلَى. وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ أَدْيَانُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ. فَلَوْ قَتَلَ النَّصْرَانِيُّ مَجُوسِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا، قُتِلَ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي النَّصْرَانِيِّ يُقْتَلُ بِالْمَجُوسِيِّ إذَا قَتَلَهُ، قِيلَ: فَكَيْفَ يُقْتَلُ بِهِ، وَدِيَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ؟ فَقَالَ: أَذْهَبُ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رَجُلًا بِامْرَأَةٍ. يَعْنِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِهَا مَعَ اخْتِلَافِ دِيَتِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا تَكَافَآ فِي الْعِصْمَةِ بِالذِّمَّةِ وَنَقِيصَةِ الْكُفْرِ، فَجَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ تَسَاوَى دِينُهُمَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْل لَا يُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيٍّ] (6600) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيٍّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ، وَلَا دِيَةَ فِيهِ لِذَلِكَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَلَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الذِّمِّيُّ بِقَتْلِهِ، وَالِدَيْهِ إذَا عَفَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ فِي قَتْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْقِصَاصُ دُونِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ أَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَضْمَنُهُ الْمُسْلِمُ لَا يَضْمَنُهُ الذِّمِّيُّ، كَالْحَرْبِيِّ. [فَصْل قَاتِلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ] (6601) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى قَاتِلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ وَجْهًا، أَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ إلَى الْإِمَامِ، فَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ سِوَاهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقِّهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ، وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ، فَلَمْ يَضْمَنْ كَالْحَرْبِيِّ، وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِالْمُرْتَدِّ، وَفَارَقَ الْقَاتِلَ، فَإِنَّ قَتْلَهُ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ. وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، فَاخْتَصَّ بِمُسْتَحِقِّهِ، وَهَا هُنَا يَجِبُ قَتْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ الْمُرْتَدَّ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي تَحَتَّمَ قَتْلُهُ. [فَصْلٌ يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ] (6602) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 الْقِصَاصِ، فَلَهُ دِيَةُ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ، تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ. وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ؛ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَتِهِ بِالْإِسْلَامِ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ، فَيُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، كَالْأَصْلِيِّ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ قَدْ زَالَتْ عِصْمَتُهُ وَحُرْمَتُهُ، وَحِلُّ نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ، وَشِرَاءُ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ، وَصِحَّةُ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا مُطَالَبَتُهُ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ؛ لِسُوءِ حَالِهِ، فَإِذَا قُتِلَ بِالذِّمِّيِّ مِثْلُهُ فَمِنْ هُوَ دُونَهُ أَوْلَى. [فَصْلٌ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ] (6603) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مُشْتَرَطٌ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قَتَلَ مَنْ يَعْرِفُهُ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَعَتَقَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ، وَفَارَقَ مِنْ عَلِمَهُ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ إلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ. [مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الْحَرِّ بِالْعَبْدِ] (6604) فَصْلٌ: (وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ) وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِعُمُومِ الْآيَات وَالْأَخْبَارِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَلِأَنَّهُ آدَمِيُّ مَعْصُومٌ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي السَّلَامَةِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ الْحُرُّ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، وَالْعُمُومَاتُ مَخْصُوصَاتٌ بِهَذَا، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ] (6605) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَدَاوُد، أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِمَا رَوَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 قَتَادَةُ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. مَعَ الْعُمُومَاتِ وَالْمَعْنَى فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يُقَادُ الْمَمْلُوكُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَالْوَلَدُ مِنْ وَالِدِهِ لَأَقَدْته مِنْك» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ، فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَنَفَاهُ عَامًا، وَمَحَا اسْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْخَلَّالُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ قِبَلِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ. وَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ، جُلِدَ مِائَةً، وَحُرِمَ سَهْمُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ، فَلَمْ يَثْبُتْ. قَالَ أَحْمَدُ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ، إنَّمَا هِيَ صَحِيفَةٌ. وَقَالَ عَنْهُ أَحْمَدُ: إنَّمَا سَمِعَ الْحَسَنُ مِنْ سَمُرَةَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَلِأَنَّ الْحَسَنَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَقَالَ: إذَا قَتَلَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ يُضْرَبُ. وَمُخَالَفَتُهُ لَهُ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ. [فَصْلٌ لَا يُقْطَعُ طَرَفٌ بِطَرَفِ الْعَبْدِ] (6606) فَصْلٌ: وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْحُرِّ بِطَرَفِ الْعَبْدِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنهمْ، وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَيُقْتَلُ بِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ، فَبِمَنْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ أَوْلَى، مَعَ عُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. وَمَتَى وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَبْدِ، فَعَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ إلَى الْمَالِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَتَعَلَّقُ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، فَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، كَالْقِصَاصِ. ثُمَّ إنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهِ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: بِعْهُ، وَادْفَعْ إلَيَّ ثَمَنَهُ. لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا، فَبَرِئَ مِنْهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الرَّهْنِ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ، وَاخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَوْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ جَمِيعًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ لِيَمْلِكَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إتْلَافَهُ، فَكَانَ مِلْكًا لَهُ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ تَعَلَّقَ بِهِ الْقِصَاصُ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْعَفْوِ كَالْحُرِّ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَتَعَلَّقُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ، كَمَا لَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الَّذِي عَفَا لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ، فَكَانَ لَهُ عِوَضُهُ، كَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 [فَصْلٌ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ] فَصْلٌ: وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَالِمٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ تَسَاوِي قِيمَتِهِمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ لَمْ يَجْرِ بَيْنهمْ قِصَاصٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ هَذَا بِمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ، فِي نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] . وَهَذَا نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ كَتَفَاوُتِ الدِّيَةِ وَالْفَضَائِلِ، فَلَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ كَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ، وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ. (6608) فَصْلٌ: وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنهمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَالِمٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنهمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ مَالٌ، فَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا، كَالْبَهَائِمِ، وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْأَطْرَافِ مُعْتَبَرٌ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ، بِدَلِيلِ أَنَّا لَا نَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ بِالنَّاقِصَةِ، وَأَطْرَافُ الْعَبِيدِ لَا تَتَسَاوَى. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّه تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] ، الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَجَرَى بَيْنَ الْعَبِيدِ، كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ (6609) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِ الْعَبْدِ، وَجَبَ لِلْعَبْدِ، وَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ. [فَصْلٌ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ] (6610) فَصْلٌ: وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا، ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ، قُتِلَ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ عَبْدٌ عَبْدًا، ثُمَّ عَتَقَ الْجَارِحُ، وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ، قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعِتْقِ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ التَّكَافُؤَ مَوْجُودٌ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ السَّبَبُ، فَاكْتُفِيَ بِهِ. وَلَوْ جَرَحَ حُرٌّ ذِمِّيٌّ عَبْدًا ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأُسِرَ وَاسْتُرِقَّ، لَمْ يُقْتَلْ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ حُرٌّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 [فَصْلٌ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا عَمْدًا] (6611) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا عَمْدًا، فَسَيِّدُ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، فَإِنْ عَفَا إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ الْمَالُ بِرَقَبَةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ، وَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَدَاهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَقَلُّ قِيمَتَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ سَيِّدَهُ إنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، لَزِمَهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ، رُبَّمَا زَادَ فِيهِ مُزَايِدٌ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. فَإِنْ قَتَلَ عَشْرَةُ أَعْبُدٍ عَبْدًا لِرَجُلِ عَمْدًا، فَعَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ، فَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ قَتْلَهُمْ، فَلَهُ قَتْلُهُمْ، وَإِنْ عَفَا إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ عَبْدِهِ بِرِقَابِهِمْ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهَا، يُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِهَا أَوْ يَفْدِيه سَيِّدُهُ، فَإِنْ اخْتَارَ قَتْلَ بَعْضِهِمْ وَالْعَفْوَ عَنْ الْبَعْضِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ قَتْلَ جَمِيعِهِمْ وَالْعَفْوَ عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدَيْنِ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَهُ قَتْلُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ، سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ عَفَا إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ كَانَا لِرَجُلَيْنِ فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْأَوَّلُ، قُتِلَ بِالثَّانِي. وَإِنْ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَقْرَعَ بَيْنَ السَّيِّدَيْنِ، فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، اقْتَصَّ، وَسَقَطَ حَقُّ الْآخَرِ. وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، أَوْ عَفَا سَيِّدُ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ عَنْ الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِلثَّانِي أَنْ يَقْتَصَّ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمَالِ بِالرَّقَبَةِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْقِصَاصِ، كَمَا لَوْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ. فَإِنْ قَتَلَهُ الْآخَرُ، سَقَطَ حَقُّ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَإِنْ عَفَا الثَّانِي، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ الْقَتِيلِ الثَّانِي بِرَقَبَتِهِ أَيْضًا، وَيُبَاعُ فِيهِمَا، وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، وَلَمْ نُقَدِّمْ الْأَوَّلَ بِالْقِيمَةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَبَعَّضُ بَيْنَهُمَا، وَالْقِيمَةُ يُمْكِنُ تَبَعُّضُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَحَقُّ الْأَوَّلِ أَسْبَقُ. قُلْنَا: لَا يُرَاعَى السَّبْقُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ أَمْوَالًا لَجَمَاعَةٍ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَأَمَّا إنْ قَتَلَ الْعَبْدُ عَبْدًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ كَانَ لَهُمَا الْقِصَاصُ وَالْعَفْوُ، فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّهُمَا إلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَبَعَّضُ. وَإِنْ قَتَلَ عَبْدَيْنِ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لَأَحَدِهِمَا، أَيِّهِمَا كَانَ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الْآخَرِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إلَى مَالٍ، وَتَتَعَلَّقُ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا بِرَقَبَتِهِ. [فَصْلٌ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا] (6612) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَد، وَيُقْتَلُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 وَقَدْ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمُكَاتَبِ عَبْدًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ، مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا، أَوْ لَمْ يُؤَدِّ، وَسَوَاءٌ مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، أَوْ لَمْ يَمْلِكْ، إلَّا إذَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي فَقَدْ صَارَ حُرًّا. فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، فَلَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ. وَإِنْ أَدَّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَالِ الْكِتَابَةِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا، وَمِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِحُرِّيَّتِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ، أَجَازَ قَتْلَهُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا، لَهُ وَفَاءٌ وَوَارِثٌ سِوَى مَوْلَاهُ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْجُرْحِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ الْمَوْلَى، وَحِينَ الْمَوْتِ الْوَارِثَ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا لِمَنْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قِنًّا، لَوَجَبَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا، كَانَ أَوْلَى، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا. وَمَا ذَكَرُوهُ شَيْءٌ بَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ، وَلَا نُسَلِّمُهُ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ عَمْدًا] (6613) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ يَعْنِي الْكَافِرَ الْحُرَّ، لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، لِفِقْدَانِ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَحُدُّ بِقَذْفِهِ، فَلَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ؛ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ ذِمِّيًّا كَانَ يَسُوقُ حِمَارًا بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ، فَنَخَسَهُ بِهَا فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَرَادَ إكْرَاهَهَا عَلَى الزِّنَى، فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاهُمْ. فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ. وَرُوِيَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: أَنْ أَلْحِقْ بِالشُّرُوطِ: مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا، فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ. وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُنَافِي الْأَمَانَ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا، عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ. [فَصْل قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ حُرًّا كَافِرًا] (6614) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ حُرًّا كَافِرًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ. وَإِنْ قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَقْتُلُ نِصْفَ الْحُرِّ بِعَبْدٍ. وَإِنْ قَتَلَهُ حُرٌّ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الرَّقِيقَ لَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ. وَإِنْ قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَقَعُ بَيْن الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 [فَصْلٌ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْوُلَاةِ وَالْعُمَّالِ وَبَيْن رَعِيَّتِهِمْ] (6615) فَصْلٌ: وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْن الْوُلَاةِ وَالْعُمَّالِ وَبَيْنَ رَعِيَّتِهِمْ؛ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ؛ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ لَرَجُلٍ شَكَا إلَيْهِ عَامِلًا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ ظُلْمًا: لَئِنْ كُنْت صَادِقًا، لِأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ. وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُقِيدُ مِنْ نَفْسِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ، أَقُصُّهُ مِنْهُ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، أَتَقُصُّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: أَيْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، أَقُصُّهُ مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَصَّ مِنْ نَفْسِهِ. وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهَذَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا إيلَادٌ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، كَسَائِرِ الرَّعِيَّةِ. [فَصْل قَتَلَ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَلِيِّ الدَّمِ] (6616) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَلِيِّ الدَّمِ، فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقِصَاصُ، وَلِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي الْأَوَّلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ: يُقْتَلُ قَاتِلُهُ، وَيَبْطُلُ دَمُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ: لَا قَوَدَ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُبَاحَ الدَّمِ، فَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِهِ، أَنَّهُ مَحَلٌّ لَمْ يَتَحَتَّمْ قَتْلُهُ، وَلَمْ يُبَحْ لِغَيْرِ وَلِيِّ الدَّمِ قَتْلُهُ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا تَعَذَّرَ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ مَاتَ، أَوْ عَفَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ، أَوْ حَدَثَ مَانِعٌ. وَفَارَقَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الثَّانِي عَلَى الدِّيَةِ، أَخَذُوهَا وَدَفَعُوهَا إلَى وَرَثَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ، ضُمَّ مَا قَبَضُوا مِنْ الدِّيَةِ إلَى سَائِرِ تَرِكَتِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الدُّيُونِ فِي تَرِكَتِهِ وَدِيَتِهِ، وَإِنْ أَحَالَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الثَّانِي وَرَثَةَ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي، صَحَّتْ الْحَوَالَةُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ دِيَةُ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى قَاتِلِ قَاتِلِهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّ وَرَثَتِهِ، فَكَانَ غَرَامَتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِي، وَإِنْ مَاتَ الْقَاتِلُ عَمْدًا، وَجَبْت الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ. بِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَسْقُطُ حَقُّ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ. وَتَوْجِيه الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 [مَسْأَلَةٌ لَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ] (6617) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالطِّفْلُ، وَالزَّائِلُ الْعَقْلِ، لَا يُقْتَلَانِ بِأَحَدٍ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ زَائِلِ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ، مِثْلَ النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَنَحْوِهِمَا. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَزَائِلِ الْعَقْلِ كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَهُمْ كَالْقَاتِلِ خَطَأً. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فِي الْقِصَاصِ] (6618) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ، فَقَالَ الْجَانِي: كُنْت صَبِيًّا حَالَ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: كُنْت بَالِغًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ، إذَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ، وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْقِصَاصِ. وَإِنْ قَالَ: قَتَلْته وَأَنَا مَجْنُونٌ. وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ جُنُونَهُ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ حَالُ جُنُونٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا لِذَلِكَ، إنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ حَالُ جُنُونٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ عُرِفَ لَهُ جُنُونٌ، ثُمَّ عُلِمَ زَوَالُهُ قَبْلَ الْقَتْلِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ، حُكِمَ لَهُ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا، فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: كُنْتَ سَكْرَانَ. وَقَالَ الْقَاتِلُ: كُنْت مَجْنُونًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَاجْتِنَابُ الْمُسْلِمِ فِعْلَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ. [فَصْل قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ] (6619) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ، ثُمَّ جُنَّ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ. وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ جُنَّ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَالَ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ يُقْبَلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا رَجَعَ. [فَصْلٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى السَّكْرَانِ إذَا قَتَلَ حَالَ سُكْرِهِ] (6620) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى السَّكْرَانِ إذَا قَتَلَ حَالَ سُكْرِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، أَشْبَهَ الْمَجْنُونَ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، أَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَقَامُوا سُكْرَهُ مُقَامَ قَذْفِهِ، فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْقَاذِفِ، فَلَوْلَا أَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 قَذْفَهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، لَمَا وَجَبَ الْحَدُّ بِمَظِنَّتِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ، فَالْقِصَاصُ الْمُتَمَحَّضُ حَقُّ آدَمِيٍّ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ لَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ، لَأَفْضَى إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى، شَرِبَ مَا يُسْكِرُهُ، ثُمَّ يَقْتُلُ وَيَزْنِي وَيَسْرِقُ، وَلَا يَلْزَمُهُ عُقُوبَةٌ وَلَا مَأْثَمٌ، وَيَصِيرُ عِصْيَانُهُ سَبَبًا لِسُقُوطِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا. وَفَارَقَ هَذَا الطَّلَاقَ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ. فَأَمَّا إنْ شَرِبَ أَوْ أَكَلَ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ غَيْرَ الْخَمْرِ، عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِحَيْثُ صَارَ مَجْنُونًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَزُولُ قَرِيبًا وَيَعُودُ مِنْ غَيْرِ تَدَاوٍ، فَهُوَ كَالسُّكْرِ، عَلَى مَا فُصِّلَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ فِي الْقِصَاصِ] (6621) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِنْ سَفَلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، وَالْجَدُّ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ أَوْ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْتَلُ بِهِ؛ لِظَاهِرِ آيِ الْكِتَابِ، وَالْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَدْ رَوَوْا فِي هَذَا الْبَابِ أَخْبَارًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ قَتَلَهُ حَذْفًا بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِنْ ذَبَحَهُ، أَوْ قَتَلَهُ قَتْلًا لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ عَمَدَ إلَى قَتْلِهِ دُونَ تَأْدِيبِهِ، أُقِيدَ بِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» . أَخْرَجَ النَّسَائِيّ حَدِيثَ عُمَرَ، وَرَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، مُسْتَفِيضٌ عِنْدَهُمْ، يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهِ وَقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عَنْ الْإِسْنَادِ فِيهِ، حَتَّى يَكُونَ الْإِسْنَادُ فِي مِثْلِهِ مَعَ شُهْرَتِهِ تَكَلُّفًا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَمْلِيكُهُ إيَّاهُ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِيَّةِ، بَقِيَتْ الْإِضَافَةُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبُ إيجَادِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَلَّطَ بِسَبَبِهِ عَلَى إعْدَامِهِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَخُصُّ الْعُمُومَاتِ، وَيُفَارِقُ الْأَبُ سَائِرَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا بِالْحَذْفِ بِالسَّيْفِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ، وَالْأَبُ بِخِلَافِهِ. (6622) فَصْلٌ: وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا كَالْأَبِ فِي هَذَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ مُسْقِطِي الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ: يُقْتَلُ بِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 وَلَنَا أَنَّهُ وَالِدٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، كَالْمَحْرَمِيَّةِ، وَالْعِتْقِ إذَا مَلَكَهُ، وَالْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ كَالْجَدِّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْبِنْتِ يُسَمَّى ابْنًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . [مَسْأَلَةٌ الْأُمُّ فِي الْقِصَاصِ كَالْأَبِ] (6623) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأُمُّ فِي ذَلِكَ كَالْأَبِ) هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْد مُسْقِطِي الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْأُمِّ فَإِنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عَنْهُ، فِي أُمِّ وَلَدٍ قَتَلَتْ سَيِّدَهَا عَمْدًا: تُقْتَلُ. قَالَ: مَنْ يَقْتُلُهَا؟ قَالَ: وَلَدُهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْأُمِّ بِقَتْلِ وَلَدِهَا. وَخَرَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ تُقْتَلُ بِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَيْهِ، فَتُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَخِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» . وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَأَشْبَهْت الْأَبَ، وَلِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْبِرِّ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِنَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْهَا، وَالْوِلَايَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ بِقَتْلِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، وَعَنْ الْجَدِّ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ، وَعَنْ الْأَبِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، أَوْ الرَّقِيقِ. وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ فِي ذَلِكَ كَالْأُمِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَدِّ. (6624) فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَالِدُ مُسَاوِيًا لِلْوَلَدِ فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ، أَوْ مُخَالِفًا لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقِصَاصِ لِشَرَفِ الْأُبُوَّةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ حَالٍ، فَلَوْ قَتَلَ الْكَافِرُ وَلَدَهُ الْمُسْلِمَ، أَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ، أَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ وَلَدَهُ الْحُرَّ، أَوْ قَتَلَ الْحُرُّ وَلَدَهُ الْعَبْدَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِشَرَفِ الْأُبُوَّةِ فِيمَا إذَا قَتَلَ وَلَدَهُ، وَانْتِفَاءُ الْمُكَافَأَةِ فِيمَا إذَا قَتَلَ وَالِدَهُ. [فَصْلٌ ادَّعَى نَفَرَانِ نَسَبَ صَغِيرٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ ثُمَّ قَتَلَاهُ قَبْلَ إلْحَاقِهِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا] (6625) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى نَفَرَانِ نَسَبَ صَغِيرٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ، ثُمَّ قَتَلَاهُ قَبْلَ إلْحَاقِهِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ ابْنَهُمَا. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ، قَتَلَاهُ، لَمْ يُقْتَلْ أَبُوهُ، وَقُتِلَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْأَبِ فِي قَتْلِ ابْنِهِ. وَإِنْ رَجَعَا جَمِيعًا عَنْ الدَّعْوَى، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لِلْوَلَدِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا عَنْ إقْرَارِهِمَا بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِحَقِّ سِوَاهُ، أَوْ كَمَا لَوْ ادَّعَاهُ وَاحِدٌ، فَأُلْحِقَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 بِهِ، ثُمَّ جَحَدَهُ. وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا، صَحَّ رُجُوعُهُ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ لَمْ يُبْطِلْ نَسَبَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الَّذِي لَمْ يَرْجِعْ، وَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ الْأَبَ، وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، فَقَتَلَاهُ قَبْلَ إلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَفَيَا نَسَبَهُ، لَمْ يَنْتَفِ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ نَفَاهُ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَنْتَفِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ بِالْفِرَاشِ، فَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللَّعَّانِ. وَفَارَقَ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا رَجَعَ عَنْ دَعْوَاهُ، لَحِقَ الْآخَرَ، وَهَا هُنَا لَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي، أَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ ثَمَّ بِالِاعْتِرَافِ، فَيَسْقُطُ بِالْجَحْدِ، وَهَا هُنَا يَثْبُتُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْوَطْءِ، فَلَا يَنْتَفِي بِالْجَحْدِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَا قُلْنَا، سَوَاءٌ. [فَصْل قَتَلَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ صَاحِبَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ] (6626) فَصْلٌ: وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ صَاحِبَهُ، وَلَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ، لِوَلَدِهِ، وَلَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ قِصَاصٌ عَلَى وَالِده؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَلَدٌ سِوَاهُ، أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ، لَوَجَبَ لَهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ وُجُوبُهُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بَعْضُهُ، سَقَطَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ. وَصَارَ كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَلَدٌ مِنْهُمَا، وَجَبَ الْقِصَاصُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُقْتَلُ الزَّوْجُ بِامْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْأَمَةَ. وَلَنَا، عُمُومَاتُ النَّصِّ، وَلِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ مُتَكَافِئَانِ، يُحَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَذْفِ صَاحِبِهِ، فَيُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَلَكَهَا. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهَا حُرَّةٌ، وَإِنَّمَا مَلَكَ مَنْفَعَةَ الِاسْتِمْتَاعِ، فَأَشْبَهَ الْمُسْتَأْجَرَةَ؛ وَلِهَذَا تَجِبْ دِيَتُهَا عَلَيْهِ، وَيَرِثُهَا وَرَثَتُهَا، وَلَا يَرِثُ مِنْهَا إلَّا قَدْرَ مِيرَاثِهِ، وَلَوْ قَتَلَهَا غَيْرُهُ، كَانَ دِيَتُهَا أَوْ الْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهَا، بِخِلَافِ الْأَمَةِ. [فَصْلٌ قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ فَوَرِثَهُ ابْنُهُ أَوْ أَحَدًا يَرِثُ ابْنُهُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مِيرَاثِهِ] (6627) فَصْلٌ: وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ، فَوَرِثَهُ ابْنُهُ، أَوْ أَحَدًا يَرِثُ ابْنُهُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مِيرَاثِهِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ قَتَلَ خَالَ ابْنِهِ، فَوَرِثَتْ أُمُّ ابْنِهِ الْقِصَاصَ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ بِقَتْلِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، فَوَرِثَهَا ابْنُهُ، سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مُقَارِنًا أُسْقِطَ طَارِئًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَلَوْ قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ أَخَا زَوْجِهَا، فَصَارَ الْقِصَاصُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ لِابْنِهَا، سَقَطَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ صَارَ إلَيْهِ ابْتِدَاءً، أَوْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 [فَصْل قَتَلَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْمُكَاتَبِ الْمُكَاتَبَ أَوْ عَبْدًا لَهُ] (6628) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْمُكَاتَبِ الْمُكَاتَبَ، أَوْ عَبْدًا لَهُ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ قِصَاصٌ. وَإِنْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَحَدَ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدِهِ. [فَصْل ابْنَانِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَبَاهُ وَالْآخَرُ أُمَّهُ] (6629) فَصْلٌ: ابْنَانِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَبَاهُ، وَالْآخَرُ أُمَّهُ، فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةً حَالَ قَتْلِ الْأَوَّلِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ الثَّانِي وَرِثَ جُزْءًا مِنْ دَمِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا قُتِلَ وَرِثَهُ قَاتِلُ الْأَوَّلِ، فَصَارَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ، فَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَوَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى أَخِيهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ، وَرِثَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِحَقٍّ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ، وَتَقَاصَّا بِمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فَضَلَ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزَّوْجِيَّةُ بَيْن الْأَبَوَيْنِ قَائِمَةً، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ الَّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ وَحْدَهُ دُونَ قَاتِلِهِ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَ صَاحِبَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ أَخَاهُ؛ لِكَوْنِهِ قَتْلًا بِحَقٍّ، فَلَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَقْتُولِ ابْنٌ، أَوْ ابْنُ ابْنٍ يَحْجُبُ الْقَاتِلَ، فَيَكُونَ لَهُ قَتْلُ عَمِّهِ، وَيَرِثُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ. وَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ، احْتَمَلَ أَنْ يُبْدَأَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا تُسَاوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَيَصِيرَا إلَى الْقُرْعَةِ، وَأَيُّهُمَا قَتَلَ صَاحِبَهُ أَوَّلًا، إمَّا بِمُبَادَرَةٍ أَوْ قُرْعَةٍ، وَرِثَهُ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ مِيرَاثِهِ كُلِّهِ، فَلَوْ وَرِثَ الْقَتِيلُ قُتِلَ الْآخَرُ. وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، ثُمَّ قَتَلَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ الْعَافِيَ، وَرِثَهُ أَيْضًا، وَسَقَطَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ تَعَافَيَا جَمِيعًا عَلَى الدِّيَةِ، تَقَاصَّا بِمَا اسْتَوَيَا فِيهِ، وَوَجَبَ لِقَاتِلِ الْأُمِّ الْفَضْلُ عَلَى قَاتِلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عَقْلَ الْأُمِّ نِصْفُ عَقْلِ الْأَبِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَسْقُطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ، كَسُقُوطِ الدِّيَتَيْنِ إذَا تَسَاوَتَا، وَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَائِهِمَا مَعًا، وَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حَيْفٌ، فَلَا يَجُوزُ، فَتَعَيَّنَ السُّقُوطُ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ يَحْجُبُ عَمَّهُ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَرِثَهُ ابْنُهُ، ثُمَّ لِابْنِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَرِثُهُ ابْنُهُ، وَيَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ مَالَ أَبِيهِ وَمَالَ جَدِّهِ الَّذِي قَتَلَهُ عَمُّهُ دُونَ الَّذِي قَتَلَهُ أَبُوهُ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنْتٌ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ نِصْفَ مَالِ أَخِيهِ وَنِصْفَ قِصَاصِ نَفْسِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ، وَوَرِثَ مَالَ أَبِيهِ الَّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ وَنِصْفَ مَالِ أَخِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 وَنِصْفَ مَالِ أَبِيهِ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ، وَوَرِثَتْ الْبِنْتُ الَّتِي قُتِلَ أَبُوهَا نِصْفَ مَالِ أَبِيهَا وَنِصْفَ مَالِ جَدِّهَا الَّذِي قَتَلَهُ عَمُّهَا، وَلَهَا عَلَى عَمِّهَا نِصْفُ دِيَةِ قَتِيلِهِ. [فَصْلٌ أَرْبَعَةُ إخْوَةٍ قَتَلَ الْأَوَّلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ الرَّابِعَ] (6630) فَصْلٌ: أَرْبَعَةُ إخْوَةٍ، قَتَلَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ، وَالثَّالِثُ الرَّابِعَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ الرَّابِعَ، لَمْ يَرِثْهُ، وَوَرِثَهُ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ كَانَ لِلرَّابِعِ نِصْفُ قِصَاصِ الْأَوَّلِ، فَرَجَعَ نِصْفُ قِصَاصِهِ إلَيْهِ، فَسَقَطَ، وَوَجَبَ لِلثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَانَ لِلْأَوَّلِ قَتْلُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِثْ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِنْ قَتَلَهُ، وَرِثَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَيَرِثُ مَا يَرِثُهُ عَنْ أَخِيهِ الثَّانِي، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِكَمَالِهَا يُقَاصُّهُ بِنِصْفِهَا. وَإِنْ كَانَ لَهُمَا وَرَثَةٌ، كَانَ فِيهَا مِنْ التَّفْصِيلِ مِثْلُ الَّذِي فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [مَسْأَلَة يُقْتَلُ الْوَلَدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِدَيْنِ] (6631) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً ثَانِيَةً، أَنَّ الِابْنَ لَا يُقْتَلُ بِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِحَقِّ النَّسَبِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِلْآيَاتِ، وَالْأَخْبَارِ، وَمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَعْظَمُ حُرْمَةً وَحَقًّا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا قُتِلَ بِالْأَجْنَبِيِّ، فَبِالْأَبِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، فَيُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ آكَدُ، وَالِابْنُ مُضَافٌ إلَى أَبِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ مَعَ الْوَلَدِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ عَنْ سُرَاقَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقَادُ الْأَبُ مِنْ ابْنِهِ، وَلَا الِابْنُ مِنْ أَبِيهِ» . وَالثَّانِي: أَنَّهُ «كَانَ يُقِيدُ الْأَبَ مِنْ ابْنِهِ، وَلَا يُقِيدُ الِابْنَ مِنْ أَبِيهِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ؛ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ نَجِدْهُ فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا أَظُنُّ لَهُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ مُتَدَافِعَانِ، يَجِبُ اطِّرَاحُهُمَا، وَالْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ الْوَاضِحَةِ الثَّابِتَةِ، وَالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. [مَسْأَلَةٌ يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ] (6632) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقِصَاصُ، إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ انْفَرَدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يُقْتَلُونَ بِهِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ، فَلَا تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبَدِّلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ لَمَقْتُولٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] . وَقَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوْصَافِ يَمْنَعُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُؤْخَذُ بِالْعَبْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ أَوْجَبَ قَتْلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَتَلَ ثَلَاثَةً قَتَلُوا رَجُلًا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَوَجَبَتْ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ. وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ، فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَبَعَّضُ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ سَقَطَ بِالِاشْتِرَاكِ، أَدَّى إلَى التَّسَارُعِ إلَى الْقَتْلِ بِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ. (6633) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ التَّسَاوِي فِي سَبَبِهِ، فَلَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جُرْحًا وَالْآخَرُ مِائَةً، أَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مُوضِحَةً وَالْآخَرُ آمَّةً، أَوْ أَحَدُهُمَا جَائِفَةً وَالْآخَرُ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَمَاتَ، كَانَا سَوَاءً فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّسَاوِي يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْ الْمُشْتَرِكِينَ، إذْ لَا يَكَادُ جُرْحَانِ يَتَسَاوَيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ احْتَمَلَ التَّسَاوِي لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ، بَلْ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْجُرْحَ الْوَاحِدَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ مِنْهُ دُونَ الْمِائَةِ، كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْمُوضِحَةِ دُونَ الْآمَّةِ، وَمِنْ غَيْرِ الْجَائِفَةِ دُونَ الْجَائِفَةِ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ إذَا صَارَتْ نَفْسًا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا، فَكَانَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ كَحُكْمِ الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ كُلَّهَا فَمَاتَ، وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 [فَصْلٌ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ فَقَطَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ وَالْآخَرُ رِجْلَهُ وَأَوْضَحَهُ الثَّالِثُ فَمَاتَ] (6634) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَقَطَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ، وَالْآخَرُ رِجْلَهُ، وَأَوْضَحَهُ الثَّالِثُ، فَمَاتَ، فَلِلْوَلِيِّ قَتْلُ جَمِيعِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَنْهُمْ إلَى الدِّيَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهَا، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ وَاحِدٍ، فَيَأْخُذَ مِنْهُ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَيَقْتُلَ الْآخَرَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ اثْنَيْنِ، فَيَأْخُذَ مِنْهُمَا ثُلُثِي الدِّيَةِ، وَيَقْتُلَ الثَّالِثَ، فَإِنْ بَرَأَتْ جِرَاحَةُ أَحَدِهِمْ، وَمَاتَ مِنْ الْجُرْحَيْنِ الْآخَرَيْنِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الَّذِي بَرَأَ جُرْحُهُ بِمِثْلِ جُرْحِهِ، وَيَقْتُلَ الْآخَرَيْنِ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا دِيَةً كَامِلَةً، أَوْ يَقْتُلَ أَحَدَهُمَا وَيَأْخُذَ مِنْ الْآخَرِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الَّذِي بَرَأَ جُرْحُهُ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ دِيَةَ جُرْحِهِ. فَإِنْ ادَّعَى الْمُوضِحُ أَنَّ جُرْحَهُ بَرَأَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَكَذَّبَهُ شَرِيكَاهُ، نَظَرْت فِي الْوَلِيِّ، فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ حُكْمُ الْبُرْءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، فَلَا يَمْلِكُ قَتْلَهُ، وَلَا مُطَالَبَتَهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ مُوضِحَهُ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَرْشَهَا، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْبُرْءِ فِيهَا، لَكِنْ إنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا فِي إنْكَارِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا، سَوَاءٌ بَرَأَتْ أَوْ لَمْ تَبْرَأْ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثَيْهَا. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، حَلَفَ، وَلَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ، أَوْ مُطَالَبَتُهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ شَرِيكِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثهَا. فَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَرِيكَاهُ بِبُرْئِهَا، لَزِمَهُمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِإِقْرَارِهِمَا بِوُجُوبِهَا، وَلِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا مِنْهُمَا إنْ صَدَّقَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا، وَعَفَا وَلِيُّ الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ، إنْ كَانَا قَدْ تَابَا وَعُدِّلَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا بِذَلِكَ نَفْعًا، فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ مُوضِحَةٍ. [فَصْل قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ مِنْ الْكُوعِ ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ ثُمَّ مَاتَ] (6635) فَصْلٌ: إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ مِنْ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ، ثُمَّ مَاتَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ بَرَأَتْ قَبْلَ قَطْعِ الثَّانِي، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ الدِّيَةُ كَامِلَةً، إنْ عَفَا عَنْ قَتْلِهِ، وَلَهُ قَطْعُ يَدِ الْأَوَّلِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ تَبْرَأْ، فَهُمَا قَاتِلَانِ، وَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي وَحْدَهُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الثَّانِي قَطْعُ سِرَايَةٍ، قَطَعَهُ وَمَاتَ بَعْدَ زَوَالِ جِنَايَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْدَمَلَ جُرْحُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ قَطَعَهُ الثَّانِي عَقِيبَ قَطْعِ الْأَوَّلِ، قُتِلَا جَمِيعًا، وَإِنْ عَاشَ بَعْدَ قَطْعِ الْأَوَّلِ حَتَّى أَكَلَ وَشَرِبَ، وَمَاتَ عَقِيبَ قَطْعِ الثَّانِي، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ، وَإِنْ عَاشَ بَعْدَهُمَا حَتَّى أَكَلَ وَشَرِبَ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءُوا وَيَقْتُلُوهُ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا قَطْعَانِ لَوْ مَاتَ بَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ بَعْدَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ الثَّانِيَ لَا يَمْنَعُ جِنَايَتَهُ بَعْدَهُ، فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدَيْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ زَوَالَ جِنَايَتِهِ، وَلَا قَطْعَ سِرَايَته، فَإِنَّ الْأَلَمَ الْحَاصِلَ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ لَمْ يَزُلْ، وَإِنَّمَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْأَلَمُ الثَّانِي، فَضَعُفَتْ النَّفْسُ عَنْ احْتِمَالِهِمَا، فَزَهَقَتْ بِهِمَا، فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِمَا. وَيُخَالِفُ الِانْدِمَالَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْأَلَمُ الَّذِي حَصَلَ فِي الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ، فَاخْتَلَفَا. فَإِنْ ادَّعَى الْأَوَّلُ أَنَّ جُرْحَهُ انْدَمَلَ، فَصَدَّقَهُ الْوَلِيُّ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ، وَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ شَرِيكُهُ، وَاخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِي تَكْذِيبِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَذَّبَ الْوَلِيُّ الْأَوَّلَ، حَلَفَ، وَكَانَ لَهُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ. وَلَوْ ادَّعَى الثَّانِي انْدِمَالَ جُرْحِهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَوَّلِ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ قَطَعَ يَدًا جَمَاعَةٌ] (6636) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَطَعُوا يَدًا، قُطِعَتْ نَظِيرَتُهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَطْرَافَ لَا تُؤْخَذُ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهَا، بِدَلِيلِ أَنَّا لَا نَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَتِهَا، وَلَا أَصْلِيَّةً بِزَائِدَةٍ، وَلَا زَائِدَةً بِأَصْلِيَّةٍ، وَلَا يَمِينًا بِيَسَارٍ، وَلَا يَسَارًا بِيَمِينٍ، وَلَا نُسَاوِي بَيْنَ الطَّرَفِ وَالْأَطْرَافِ، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي النَّفْسِ، فَإِنَّنَا نَأْخُذُ الصَّحِيحَ بِالْمَرِيضِ، وَصَحِيحَ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِهَا وَأَشَلَّهَا، وَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الْقَطْعِ، بِحَيْثُ لَوْ قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبٍ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ النَّفْسِ، وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ يَقَعُ كَثِيرًا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ زَجْرًا عَنْهُ، كَيْ لَا يُتَّخَذَ وَسِيلَةً إلَى كَثْرَةِ الْقَتْلِ، وَالِاشْتِرَاكُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا يَقَعُ إلَّا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ. وَلِأَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ فِي النَّفْسِ يَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ عَنْ كُلِّ اشْتِرَاكٍ، أَوْ عَنْ الِاشْتِرَاكِ الْمُعْتَادِ، وَإِيجَابُهُ عَنْ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الطَّرَفِ، لَا يَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ عَنْ الِاشْتِرَاكِ الْمُعْتَادِ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، إلَّا عَلَى صُورَةٍ نَادِرَةِ الْوُقُوعِ بَعِيدَةِ الْوُجُودِ، يُحْتَاجُ فِي وُجُودِهَا إلَى تَكَلُّفٍ، فَإِيجَابُ الْقِصَاصِ لِلزَّجْرِ عَنْهَا يَكُونُ مَنْعًا لَشَيْءٍ مُمْتَنِعٍ بِنَفْسِهِ لِصُعُوبَتِهِ، وَإِطْلَاقًا فِي الْقَطْعِ السَّهْلِ الْمُعْتَادِ بِنَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْ فَاعِلِهِ، وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ فِي النَّفْسِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِوَاحِدٍ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 فِي الِاسْتِيفَاءِ زِيَادَةً عَلَى مَا فَوَّتَ عَلَيْهِ، وَيُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى النَّهْيِ عَمَّا عَدَاهُ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِي الْأَنْفُسِ، زَجْرًا عَنْ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي يَقَعُ الْقَتْلُ بِهِ غَالِبًا، فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ النَّفْسَ أَشْرَفُ مِنْ الطَّرَفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَخْذِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا دُونَهَا بِذَلِكَ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ، فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ. فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي، وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا، لَقَطَعْتُكُمَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالْأَنْفُسِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّسَاوِي، فَمِثْلُهُ فِي الْأَنْفُسِ، فَإِنَّنَا نَعْتَبِرُ التَّسَاوِي فِيهَا، فَلَا نَأْخُذُ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، وَلَا حُرًّا بِعَبْدٍ، وَأَمَّا أَخْذُ صَحِيحِ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِهَا، فَلِأَنَّ الطَّرَفَ لَيْسَ هُوَ مِنْ النَّفْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَفُوتُ تَبَعًا؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ دِيَتُهُمَا وَاحِدَةً، بِخِلَافِ الْيَدِ النَّاقِصَةِ وَالشَّلَّاءِ مَعَ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ دِيَتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّسَاوِي فِي الْفِعْلِ، فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ فِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهَا بِالْقَطْعِ، فَإِذَا قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جَانِبٍ، كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنْ فِعْلِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى إنْسَانٍ قَطْعُ مَحَلٍّ لَمْ يَقْطَعْ مِثْلَهُ، وَأَمَّا النَّفْسُ، فَلَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا أَفْعَالُهُمْ فِي الْبَدَنِ، فَيُفْضِي أَلَمُهُ إلَيْهَا فَتَزْهَقُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ أَلَمُ فِعْلِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَلَمِ فِعْلِ الْآخَرِ، فَكَانَا كَالْقَاطِعَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَوْفِي مِنْ الطَّرَفِ إلَّا فِي الْمَفْصِلِ الَّذِي قَطَعَ الْجَانِي مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ تَجَاوُزُهُ، وَفِي النَّفْسِ لَوْ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ فِي بَطْنِهِ أَوْ جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ الْعُنُقِ دُونَ الْمَحَلِّ الَّذِي وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ فِي الطَّرَفِ، إذَا اشْتَرَكُوا فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ فِعْلُ أَحَدِهِمْ عَنْ فِعْلِ الْآخَرِ؛ إمَّا بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ قَطْعَهُ، فَيُقْطَعُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ يُكْرِهُوا إنْسَانًا عَلَى قَطْعِ طَرَفٍ، فَيَجِبُ قَطْعُ الْمُكْرِهِينَ كُلِّهِمْ وَالْمُكْرَهُ، أَوْ يُلْقُوا صَخْرَةً عَلَى طَرَفِ إنْسَانٍ، فَيَقْطَعُهُ، أَوْ يَقْطَعُوا يَدًا يَقْلَعُوا عَيْنًا، بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَضَعُوا حَدِيدَةً عَلَى مَفْصِلٍ، وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْهَا جَمِيعًا، أَوْ يَمُدُّوهَا، فَتَبِينُ، فَإِنْ قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمْ بَعْضَ الْمَفْصِلِ، وَأَتَمَّهُ غَيْرُهُ أَوْ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ ضَرْبَةً، أَوْ وَضَعُوا مِنْشَارًا عَلَى مَفْصِلِهِ، ثُمَّ مَدَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَيْهِ مَرَّةً حَتَّى بَانَتْ الْيَدُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعْ الْيَدَ، وَلَمْ يُشَارِكْ فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ بِمُفْرَدِهِ، اُقْتُصَّ مِنْهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْأَبُ وَغَيْرُهُ عَمْدًا] (6637) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْأَبُ وَغَيْرُهُ عَمْدًا. قُتِلَ مَنْ سِوَى الْأَبِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، فَلَمْ يُوجِبْ، كَقَتْلِ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ، وَالصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِيمَنْ يُقْتَلُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ غَيْرُ مُوجِبٍ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ لِكَوْنِهِ تَمَحَّضَ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَالْجِنَايَةُ بِهِ أَعْظَمُ إثْمًا، وَأَكْثَرُ جُرْمًا؛ وَلِذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ، فَقَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام: 151] . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] . وَلَمَّا «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَعْظَمِ الذَّنْبِ، قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك» . فَجَعَلَهُ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهُ قَطَعَ الرَّحِمَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَتِهَا، وَوَضَعَ الْإِسَاءَةَ مَوْضِعَ الْإِحْسَانِ، فَهُوَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْأَبِ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِالْمَحَلِّ، لَا لِقُصُورٍ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَمَلُهُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَا مَانِعَ فِيهِ، وَأَمَّا شَرِيكُ الْخَاطِئِ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ، وَمَعَ التَّسْلِيمِ فَامْتِنَاعُ الْوُجُوبِ فِيهِ لِقُصُورِ السَّبَبِ عَنْ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ، وَلَا صَالِحٍ لَهُ وَالْقَتْلُ مِنْهُ وَمِنْ شَرِيكِهِ غَيْرُ مُتَمَحِّضٍ عَمْدًا؛ لِوُقُوعِ الْخَطَأِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ زَهُوقُ النَّفْسِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ كُلُّ شَرِيكَيْنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى فِيهِ] (6638) فَصْلٌ: وَكُلُّ شَرِيكَيْنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَهُوَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِهِ كَالْأَبِ وَشَرِيكِهِ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِكَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فِي قَتْلِ عَبْدٍ، عَمْدًا عُدْوَانًا، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ، وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ، إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ عَنْ الْمُسْلِمِ لِإِسْلَامِهِ، وَعَنْ الْحُرِّ لِحُرِّيَّتِهِ، وَانْتِقَاءِ مُكَافَأَةِ الْمَقْتُولِ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى إلَى فِعْلِهِ، وَلَا إلَى شَرِيكِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ عَنْهُ. وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: سَأَلْت أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ قَتَلَا عَبْدًا عَمْدًا، قَالَ: أَمَّا الْحُرُّ فَلَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ، وَالْعَبْدُ إنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَسْلَمَهُ، وَإِلَّا فَدَاهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْعَبْدِ، فَيُخَرَّجُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ قَتْلٍ شَارَكَ فِيهِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 [مَسْأَلَة اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَبَالِغٌ] (6639) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَبَالِغٌ، لَمْ يُقْتَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْعَاقِلِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَعِتْقُ رَقَبَتَيْنِ فِي أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ) أَمَّا إذَا شَارَكُوا فِي الْقَتْلِ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ؛ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ. حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءً لِفِعْلِهِ، فَمَتَى كَانَ فِعْلُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَلَا نَنْظُرُ إلَى فِعْلِ شَرِيكِهِ بِحَالٍ، وَلِأَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا، يُعْتَبَرُ فِعْلُ الشَّرِيكِ مُنْفَرِدًا، فَمَتَى تَمَحَّضَ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَكَانَ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَبَنَى الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا تَعَمَّدَاهُ عَمْدٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا سُقُوطُ الْقِصَاصِ عَنْهُمَا لِمَعْنًى فِيهِمَا، وَهُوَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ، فَلَمْ يَقْتَضِ سُقُوطَهُ عَنْ شَرِيكِهِمَا، كَالْأُبُوَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ، كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا قَصْدَ لَهُمَا صَحِيحٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا، فَكَانَ حُكْمُ فِعْلِهِمَا حُكْمَ الْخَطَأِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: عَمْدُهُمَا خَطَأٌ أَيْ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ فِي انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْهُ، وَمَدَارِ دِيَتِهِ، وَحَمْلِ عَاقِلَتِهِمَا إيَّاهَا، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِهِ، وَالْمَحَلُّ الْمُتْلَفُ وَاحِدٌ، فَكَانَتْ دِيَتُهُ وَاحِدَةً، وَلِأَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، أَمَّا الْقِصَاصُ، فَإِنَّمَا كَمُلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَأَفْعَالُهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ، فَتَعَدَّدَ فِي حَقِّهِمْ، وَكَمُلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، إلَّا أَنَّ الثُّلُثَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَلْزَمُ فِي مَالِهِ حَالًّا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، وَمَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا؛ لِأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ، وَالْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ جِنَايَةَ الْخَطَأِ إذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَتَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَامًا، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مَتَى كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، كَانَ أَجَلُهُ عَامًا، وَيَلْزَمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكَفَّارَةُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا خَطَأٌ، وَالْقَاتِلُ الْخَاطِئُ وَالْمُشَارِكُ فِي الْقَتْلِ خَطَأً، يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْمَحَلِّ، وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ تَكْفِيرًا لِلْفِعْلِ، وَمَحْوًا لِأَثَرِهِ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُهَا، كَالْقِصَاصِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 [مَسْأَلَة يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ فِي الْقِصَاصِ] (6640) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَيُعْطِي أَوْلِيَاؤُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَحُكِيَ عَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَلَعَلَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَحْتَجُّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ عَقْلَهَا نِصْفُ عَقْلِهِ، فَإِذَا قُتِلَ بِهَا بَقِيَ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَاسْتُوْفِيَتْ مِمَّنْ قَتَلَهُ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . وَقَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] . مَعَ عُمُومِ سَائِرِ النُّصُوصِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَتَلَ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ» . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْأَسْنَانُ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ.» وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْد أَهْلِ الْعِلْمِ، مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ عِنْدَهُمْ، وَلِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ يُحَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَذْفِ صَاحِبِهِ، فَقُتِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، كَالرَّجُلَيْنِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قِصَاصٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَهُ شَيْءٌ عَلَى الْمُقْتَصِّ، كَسَائِرِ الْقِصَاصِ، وَاخْتِلَافُ الْأَبْدَالِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِصَاصِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَالنَّصْرَانِيَّ يُؤْخَذُ بِالْمَجُوسِيِّ، مَعَ اخْتِلَافِ دِينَيْهِمَا، وَيُؤْخَذُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، مَعَ اخْتِلَافِ قِيمَتِهِمَا. [فَصْلٌ يُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى وَيُقْتَلُ بِهِمَا] (6641) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى، وَيُقْتَلُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. [مَسْأَلَةٌ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فِي الْجِرَاحِ] (6642) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا فِي الْجِرَاحِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَيُقْطَعُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، وَيُقْطَعُ النَّاقِصُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 بِالْكَامِلِ، كَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَالْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ. وَمَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، فَلَا يُقْطَعُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا وَالِدٌ بِوَلَدٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ فِي الطَّرَفِ بَيْن مُخْتَلِفِي الْبَدَلِ، فَلَا يُقْطَعُ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ، وَلَا النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، وَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ، فَكَذَا لَا يُؤْخَذ طَرَفُ الرَّجُلِ بِطَرَفِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا بِطَرَفِهِ، كَمَا لَا تُؤْخَذُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، جَرَى، فِي الطَّرَفِ، كَالْحُرَّيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِمُسْتَأْمِنٍ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّاقِصَةَ بِالْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ وُجِدَتْ وَزِيَادَةٌ، فَوَجَبَ أَخْذُهَا بِهَا إذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ، كَمَا تُؤْخَذُ نَاقِصَةُ الْأَصَابِعِ بِكَامِلَةِ الْأَصَابِعِ، وَأَمَّا الْيَسَارُ وَالْيَمِينُ، فَيَجْرِيَانِ مَجْرَى النَّفْسِ، لِاخْتِلَافِ مَحَلَّيْهِمَا؛ وَلِهَذَا اسْتَوَى بَدَلُهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَاقِصَةً عَنْهَا شَرْعًا، وَلَا الْعِلَّةُ فِيهِمَا ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَاهُ وَأَحَدُهُمَا مُخْطِئٌ وَالْآخَرُ مُتَعَمِّدٌ] (6643) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَاهُ، وَأَحَدُهُمَا مُخْطِئٌ، وَالْآخَرُ مُتَعَمِّدٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ نِصْفُهَا، وَعَلَيْهِ فِي مَالِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أَمَّا الْمُخْطِئُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] . وَأَمَّا السُّنَّةِ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا شَرِيكُهُ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ قِصَاصًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْعَامِدِ؛ وَلِأَنَّ مُؤَاخَذَتَهُ بِفِعْلِهِ، وَفِعْلُهُ عَمْدٌ وَعُدْوَانٌ لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ وَلَنَا، أَنَّهُ قَتْلٌ لَمْ يَتَمَحَّضُ عَمْدًا، فَلَمْ يُوجِبْ الْقِصَاصَ، كَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَهُ وَاحِدٌ بِجُرْحَيْنِ عَمْدًا وَخَطَأً، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُبَاشِرٌ وَمُتَسَبِّبٌ، فَإِذَا كَانَا عَامِدَيْنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُتَسَبِّبٌ إلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ، فَقَامَ فِعْلُ شَرِيكِهِ مَقَامَ فِعْلِهِ لِتَسَبُّبِهِ إلَيْهِ، وَهَا هُنَا إذَا أَقَمْنَا الْمُخْطِئَ مُقَامَ الْعَامِدِ، صَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِعَمْدٍ وَخَطَأٍ، وَهَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ. [فَصْل هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ نَفْسِهِ وَشَرِيكِ السَّبْعِ] (6644) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ نَفْسِهِ وَشَرِيكِ السَّبْع؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَصُورَةُ ذَلِكَ، أَنْ يَجْرَحَهُ سَبُعٌ أَوْ يَجْرَحَهُ إنْسَانٌ عَمْدًا، إمَّا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَمُوتَ مِنْهُمَا، أَوْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا، ثُمَّ يَجْرَحَهُ غَيْرُهُ عَمْدًا، فَيَمُوتَ مِنْهُمَا، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ قِصَاصٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَاخْتُلِفَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمَهُ قِصَاصٌ، كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، فَلَمْ يُوجِبْ، كَالْقَتْلِ الْحَاصِلِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجِبْ عَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ وَفِعْلُهُ مَضْمُونٌ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى شَرِيكِ مَنْ لَا يُضْمَنُ فِعْلُهُ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ جَرَحَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، فَمَاتَ، فَعَلَى شَرِيكِهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهِ، كَشَرِيكِ الْأَبِ، فَأَمَّا إنْ جَرَحَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ خَطَأً، كَأَنَّهُ أَرَادَ ضَرْبَ جَارِحَةٍ، فَأَصَابَ نَفْسَهُ، أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ، فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شَرِيكِ الْخَاطِئِ. [فَصْلٌ جَرَحَهُ إنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ فَمَاتَ] (6645) فَصْلٌ: فَإِنْ جَرَحَهُ إنْسَانٌ، فَتَدَاوَى بِسُمٍّ فَمَاتَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ سُمَّ سَاعَةٍ يَقْتُلُ فِي الْحَالِ، فَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، وَنَنْظُرُ فِي الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ، فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لَهُ، فَلِوَلِيِّهِ الْأَرْشُ، وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَقْتُلُ، بِفِعْلِ الرَّجُلِ فِي نَفْسِهِ عَمْدُ خَطَأٍ، وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي شَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُلُ غَالِبًا بَعْدَ مُدَّةٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَمْدَ الْخَطَأِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ، إنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ، فَيَكُونُ كَاَلَّذِي قَتَلَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ، فَيَكُونَ فِي شَرِيكِهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَإِنْ جُرِحَ رَجُلٌ، فَخَاطَ جُرْحَهُ، أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَخَاطَهُ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ شَرِبَ سُمًّا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ، عَلَى مَا مَضَى فِيهِ. وَإِنْ خَاطَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كُرْهًا، فَهُمَا قَاتِلَانِ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ. وَإِنْ خَاطَهُ وَلِيُّهُ، أَوْ الْإِمَامُ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَهُمَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا جَائِزٌ لَهُمَا، إذْ لَهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 مُدَاوَاتُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً. وَهَلْ عَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْعَبْدِ] (6646) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ بَلَغَتْ دِيَاتٌ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْعَبْدِ، الَّذِي لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ دِيَةَ الْحُرِّ، قِيمَتَهُ. وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ دِيَةَ الْحُرِّ أَوْ زَادَتْ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلَى أَنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ بَلَغَتْ دِيَاتٍ، عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً، سَوَاءٌ ضَمِنَ بِالْيَدِ أَوْ بِالْجِنَايَةِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا تَبْلُغُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُنْتَقَصُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ دِينَارًا، أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، الْقَدْرَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ، وَهَذَا إذَا ضَمِنَ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ، بِأَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا فَيَمُوتَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ قِيمَتَهُ تَجِبُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، كَضَمَانِ الْحُرِّ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْحُرِّ دِيَةً لَا تَزِيدُ، وَهُوَ أَشْرَفُ لِخُلُوصِهِ مِنْ نَقِيصَةِ الرِّقِّ، كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْعَبْدِ الْمَنْقُوصِ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، فَنَجْعَلُ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِعْيَارًا لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ، عَلِمْنَا خَطَأَ ذَلِكَ، فَنَرُدُّهُ إلَى دِيَةِ الْحُرِّ، كَأَرْشِ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، يَجِبُ فِيهِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، فَنَرُدُّهُ إلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَيُضْمَنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، كَالْفَرَسِ، أَوْ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ، فَكَانَتْ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ، وَيُخَالِفُ الْحُرَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونِ بِالْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْحُرِّ لَيْسَ بِضَمَانِ مَالٍ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ، وَهَذَا ضَمَانُ مَالٍ، يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا، فَاخْتَلَفَا. وَقَدْ حَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ بِالْعَبْدِ دِيَةُ الْحُرِّ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. [بَاب الْقَوَدِ] ِ الْقَوَدُ: الْقِصَاصُ. وَلَعَلَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ يُقَادُ بِشَيْءٍ يُرْبَطُ فِيهِ أَوْ بِيَدِهِ إلَى الْقَتْلِ، فَسُمِّيَ الْقَتْلُ قَوَدًا لِذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 (6647) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ شَقَّ بَطْنَهُ، فَأَخْرَجَ حَشْوَتَهُ، فَقَطَعَهَا، فَأَبَانَهَا مِنْهُ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَلَوْ شَقَّ بَطْنَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ، وَالثَّانِيَ قَدْ يَعِيشُ مِثْلُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جَنَى عَلَيْهِ اثْنَانِ جِنَايَتَيْنِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْحَيَاةِ، مِثْلُ قَطْعِ حَشْوَتِهِ، أَيْ مَا فِي بَطْنِهِ، وَإِبَانَتِهَا مِنْهُ، أَوْ ذَبْحِهِ، ثُمَّ ضَرْبِ عُنُقِهِ الثَّانِي فَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ حَيَاةٌ، وَالْقَوَدُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَعَلَى الثَّانِي التَّعْزِيرُ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى مَيِّتٍ. وَإِنْ عَفَا الْوَلِيُّ إلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَى الْأَوَّلِ وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ جُرْحُ الْأَوَّلِ يَجُوزُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ مَعَهُ، مِثْلُ شَقِّ الْبَطْنِ مِنْ غَيْرِ إبَانَةِ الْحَشْوَةِ، أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُ مِنْ حُكْمِ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْمُفَوِّتُ لَهَا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَالدِّيَةُ كَامِلَةً وَإِنْ عَفَا عَنْهُ. ثُمَّ نَنْظُرُ فِي جُرْحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ، كَقَطْعِ الطَّرَفِ، فَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَطْعِ طَرَفِهِ وَالْعَفْوِ عَنْ دِيَتِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَالْجَائِفَةِ وَنَحْوِهَا، فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ. وَإِنَّمَا جَعَلْنَا عَلَيْهِ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي قَطَعَ سِرَايَةِ جِرَاحِهِ، فَصَارَ كَالْمُنْدَمِلِ الَّذِي لَا يَسْرِي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَلَوْ كَانَ جُرْحُ الْأَوَّلِ يُفْضِي إلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْحَيَاةِ، وَتَبْقَى مَعَهُ الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ، مِثْلَ خَرْقِ الْمِعَى، أَوْ أُمِّ الدِّمَاغِ، فَضَرَبَ الثَّانِي عُنُقَهُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً. وَقِيلَ: هُوَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ، لَمَّا جُرِحَ دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّبِيبُ فَسَقَاهُ لَبَنًا، فَخَرَجَ يَصْلُدُ، فَعَلِمَ الطَّبِيبُ أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَقَالَ: اعْهَدْ إلَى النَّاسِ. فَعَهِدَ إلَيْهِمْ، وَأَوْصَى، وَجَعَلَ الْخِلَافَةَ إلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَ الصَّحَابَةُ عَهْدَهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ وَصَايَاهُ وَعَهْدِهِ. فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْحَيَاةِ بَاقِيًا، كَانَ الثَّانِي مُفَوِّتًا لَهَا، فَكَانَ هُوَ الْقَاتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ عَلِيلًا لَا يُرْجَى بُرْءُ عِلَّتِهِ. [فَصْلٌ أُلْقِي رَجُلٌ مِنْ شَاهِقٍ فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفِ فَقَتَلَهُ] (6648) فَصْلٌ: إذَا أُلْقِي رَجُلٌ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفِ فَقَتَلَهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ حَيَاتَهُ قَبْلَ الْمَصِيرِ إلَى حَالٍ يَئِسُوا فِيهَا مِنْ حَيَاتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَاهُ إنْسَانٌ بِسَهْمٍ قَاتِلٍ، فَقَطَعَ آخَرُ عُنُقَهُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَأَطَارَ آخَرُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ وُقُوعِهَا عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ رَمَاهُ مِنْ مَكَان يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ، وَإِنْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْوَاقِعُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ سُقُوطِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلْإِتْلَافِ. وَلَنَا، أَنَّ الرَّمْيَ سَبَبٌ وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ، فَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّبَبِ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ، وَالْجَارِحِ مَعَ الذَّابِحِ، وَكَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ. [مَسْأَلَةٌ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ، قُتِلَ، وَلَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ وَلَا رِجْلَاهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ: إنَّهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ. فَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا جَرَحَ رَجُلًا، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ، فَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ؛ لَا يَسْتَوْفِي إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَدَخَلَ الطَّرَفُ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ، كَالدِّيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ تَعْطِيلُ الْكُلِّ، وَإِتْلَافُ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَذَا بِضَرْبِ الْعُنُقِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ بِإِتْلَافِ أَطْرَافِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ كَالٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِمِثْلِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: إنَّهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ. يَعْنِي أَنَّ لِلْمُسْتَوْفِي أَنْ يَقْطَعَ أَطْرَافَهُ، ثُمَّ يَقْتُلَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَضَّ رَأْسَ يَهُودِيٍّ لِرَضِّهِ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.» وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَهَذَا قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ، فَيَجِبُ أَنْ تُقْلَعَ عَيْنُهُ، لِلْآيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَلَفْظُهُ مُشْعِرٌ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 مِثْلُ مَا فَعَلَ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ الْعُنُقَ آخَرُ غَيْرُهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» . فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِجَيِّدِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، إمَّا بِعَفْوِ الْوَلِيِّ، أَوْ كَوْنِ الْفِعْلِ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ دِيَةُ الْأَطْرَافِ الْمَقْطُوعَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ بِقَتْلِهِ صَارَ كَالْمُسْتَقِرِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُط الْقِصَاصُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَاتِلٌ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَلَ أَرْشُ الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ، كَمَا لَوْ سَرَتْ إلَى نَفْسِهِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَجِبُ، وَإِنْ وَجَبَ فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يُشْبِهُ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْجُرْحِ لَا تُسْقِطُ الْقِصَاصَ فِيهِ، وَتُسْقِطُ دِيَتَهُ. (6650) فَصْلٌ: وَمَتَى قُلْنَا: لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ بِوَلِيِّهِ. فَأَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَفْضَلُ. وَإِنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ الَّتِي قَطَعَهَا الْجَانِي، أَوْ بَعْضَهَا، ثُمَّ عَفَا عَنْ قَتْلِهِ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ بَعْضَ حَقِّهِ. وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فَعَلَ بِوَلِيِّهِ لَا يَجِبُ بِهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَهُ وَيَسْتَحِقَّ كَمَالَ الدِّيَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إلَّا بِضَرْبِ الْعُنُقِ. فَاسْتَوْفَى مِنْهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْمَأْثَمِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَانِي فِي الْأَطْرَافِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِهَا، فَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمُسْتَوْفِي، إنْ قَطَعَ الْجَانِي طَرَفًا وَاحِدًا، ثُمَّ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا تَمَامُهَا، وَإِنْ قَطَعَ مَا تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ، ثُمَّ عَفَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ قَطَعَ مَا يَجِبُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ عَفَا، احْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا زَادَ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةٍ، وَقَدْ فَعَلَ مَا يُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا تَرَكَ قَتْلَهُ، وَعَفَا عَنْهُ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ مَا فَعَلَ بِوَلِيِّهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قُلْنَا: إنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا انْفَرَدَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ] (6651) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا انْفَرَدَ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَطْعَ قَبْلَ الْقَتْلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي، وَبَنَاهُمَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 وَإِحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ قَطْعُ الطَّرَفِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا جَنَاهُ الْأَوَّلُ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ، فَمَتَى خِيفَ فِيهِ الزِّيَادَةُ سَقَطَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ. وَالثَّانِيَةُ، يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، فَإِنْ مَاتَ بِهِ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الطَّرَفِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِإِفْضَاءِ هَذَا إلَى الزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ. وَالصَّحِيحُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا بِزِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ النَّفْسِ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ، وَسِرَايَةُ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْفِعْلِ فِي الصُّورَةِ مُحْتَمِلٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِضَرْبَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِضَرْبَتَيْنِ. [فَصْلٌ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ] (6652) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ فَوَاتِ الْحَيَاةِ بِهِ، مِثْلُ إنْ أَجَافَهُ، أَوْ أَمَّهُ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ ذِرَاعِهِ، أَوْ رِجْلَهُ مِنْ نِصْفِ سَاقِهِ، فَمَاتَ مِنْهُ، أَوْ قَطَعَ يَدًا نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ زَائِدَةً، وَيَدُ الْقَاطِعِ أَصْلِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ مِثْلِ مَا فَعَلَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ إلَّا فِي الْعُنُقِ بِالسَّيْفِ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ بِمِثْلِ مَا فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَتْلًا، فَكَانَ لَهُ الْقِصَاصُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، كَمَا لَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَهُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ، فَلَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ فِيهِ مَعَ الْقَتْلِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَمِينَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ يَمِينٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ يَسَاره. وَفَارَقَ مَا إذَا رَضَّ رَأْسَهُ فَمَاتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَتْلٌ مُفْرَدٌ، وَهَا هُنَا قَتْلٌ وَقَطْعٌ، وَالْقَطْعُ لَا يُوجِبُ قِصَاصًا، فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْقَتْلِ، فَإِذَا جَمَعَ الْمُسْتَوْفِي بَيْنَهُمَا، فَقَدْ زَادَ قَطْعًا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِاسْتِيفَائِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا إذَا قَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ عَقِيبَهُ، وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَلَا يُمْنَى لِلْقَاطِعِ] فَصْلٌ: فَأَمَّا قَطْعُ الْيُمْنَى وَلَا يُمْنَى لِلْقَاطِعِ، أَوْ الْيَدَ وَلَا يَدَ لَهُ، أَوْ قَلَعَ الْعَيْنَ وَلَا عَيْنَ لَهُ، فَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ، وَلَا قِصَاصَ فِي طَرَفِهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِ الْعُضْوِ الْمُتْلَفِ، وَهُوَ هَاهُنَا مَعْدُومٌ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِعْلُ مِثْلِ مَا فَعَلَ الْجَانِي، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ ثُمَّ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ، لَصَارَ مُسْتَوْفِيًا رِجْلًا مِمَّنْ لَمْ يَقْطَعْ لَهُ مِثْلَهَا، أَوْ أُذُنًا بَدَلًا عَنْ عَيْنٍ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْوَجْهِ الثَّانِي فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 [فَصْلٌ قَتَلَهُ بِغَيْرِ السَّيْفِ فَهَلْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ] (6654) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ السَّيْفِ، مِثْلُ أَنْ قَتَلَهُ بِحَجَرٍ، أَوْ هَدْمٍ أَوْ تَغْرِيقٍ، أَوْ خَنْقٍ، فَهَلْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَسْتَوْفِي إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِيمَا إذَا قَتَلَهُ بِمُثْقَلِ الْحَدِيدِ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ جَرَحَهُ فَمَاتَ. وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا فَعَلَهُ الْجَانِي، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِمِثْلِ آلَتِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الطَّرَفَ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، أَوْ مَسْمُومَةٍ، أَوْ بِالسَّيْفِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُرْتَدُّ، فَلَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِتَجْرِيعِ الْخَمْرِ، أَوْ بِالسِّحْرِ، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ فَلَمْ يَمُتْ، قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلَ حَتَّى يَمُوتَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِذَلِكَ، فَلَهُ قَتْلُهُ بِمِثْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ طَرَفًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْوَلِيُّ مِثْلَهُ فَلَمْ يَمُتْ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْجُرْحَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَيَعْدِلُ إلَى ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ قَتَلَهُ بِمَا لَا يَحِلُّ لِعَيْنِهِ] (6655) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَهُ بِمَا لَا يَحِلُّ لِعَيْنِهِ، مِثْلَ إنْ لَاطَ بِهِ فَقَتَلَهُ، أَوْ جَرَّعَهُ خَمْرًا أَوْ سَحَرَهُ، لَمْ يُقْتَلْ بِمِثْلِهِ اتِّفَاقًا، وَيَعْدِلُ إلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ. وَحَكَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي مَنْ قَتَلَهُ بِاللِّوَاطِ وَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ، وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يُدْخِلُ فِي دُبُرِهِ خَشَبَةً يَقْتُلُهُ بِهَا، وَيُجَرِّعُهُ الْمَاءَ حَتَّى يَمُوتَ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ، فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِالسِّحْرِ. وَإِنْ حَرَّقَهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُحَرَّقُ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيقَ مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» . وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيحُ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، كَالتَّغْرِيقِ؛ إحْدَاهُمَا، يُحَرَّقُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ «حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» . وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ عَلَى غَيْرِ الْقِصَاصِ فِي الْمُحْرَقِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 [فَصْلٌ زَادَ مُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ عَلَى حَقِّهِ] (6656) فَصْلٌ: إذَا زَادَ مُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ عَلَى حَقِّهِ، مِثْلَ أَنْ يُقْتَلَ وَلِيُّهُ، فَيَقْطَعَ الْمُقْتَصُّ أَطْرَافَهُ أَوْ بَعْضَهَا، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ بَعْدَ قَطْعِ طَرَفِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ بِدِيَتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَدْ أَسَاءَ، وَيُعَزَّرُ، وَسَوَاءٌ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ أَوْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ جُمْلَةٍ اسْتَحَقَّ إتْلَافَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ يَدٍ يَسْتَحِقُّ قَطْعَهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا لَهُ قِيمَةٌ حَالَ الْقَطْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ عَفَا عَنْهُ ثُمَّ قَطَعَهُ، أَوْ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ أَجْنَبِيٌّ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ إذَا عَفَا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مُتَعَدِّيًا ثُمَّ قَتَلَ، لَمْ يَضْمَنْ الطَّرَفَ، فَلَأَنْ يَضْمَنَهُ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مُسْتَحَقًّا أَوْلَى. فَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَلَا يَجِبُ فِي الْعُرْفِ بِحَالٍ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشُّبْهَةُ هَاهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ، لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لِإِتْلَافِ هَذَا الطَّرَفِ ضِمْنًا لِاسْتِحْقَاقِهِ إتْلَافَ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ لَا تَجِبَ الدِّيَةُ، بِدَلِيلِ امْتِنَاعِهِ لِعَدَمِ الْمُكَافَآتِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْجَانِي قَطَعَ طَرَفَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا غَيْرَ الَّذِي قَطَعَهُ الْجَانِي، كَانَ الْجَانِي قَطَعَ يَدَهُ؛ فَقَطَعَ الْمُسْتَوْفِي رِجْلَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَلْزَمَهُ دِيَةُ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ لَمْ يَقْطَعْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ. [فَصْلٌ اسْتَحَقَّ قَطْعَ إصْبَعٍ فَقَطَعَ اثْنَتَيْنِ] (6657) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الطَّرَفِ، مِثْلُ أَنْ اسْتَحَقَّ قَطْعَ إصْبَعٍ، فَقَطَعَ اثْنَتَيْنِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَاطِعِ ابْتِدَاءً، إنْ كَانَ عَمْدًا مِنْ مَفْصِلٍ، أَوْ شَجَّةٍ يَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْقِصَاصُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً أَوْ جُرْحًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِثْلُ مَنْ يَسْتَحِقُّ مُوضِحَةً فَاسْتَوْفَهَا هَاشِمَةً، فَعَلَيْهِ أَرْشُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 الزِّيَادَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ الْجَانِي، كَاضْطِرَابِهِ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِ الْجَانِي. فَإِنْ اخْتَلَفَا هَلْ فَعَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنْ الْخَطَأُ فِيهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ، وَإِنْ قَالَ الْمُقْتَصُّ: حَصَلَ هَذَا بِاضْطِرَابِك، أَوْ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِك. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. فَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ إلَى نَفْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، فَمَاتَ، أَوْ إلَى بَعْض أَعْضَائِهِ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ إصْبَعَهُ، فَسَرَى إلَى جَمِيعِ يَدِهِ، أَوْ اقْتَصَّ مِنْهُ بِآلَةٍ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، أَوْ فِي حَالِ حَرٍّ مُفْرِطٍ، أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ، فَسَرَى، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَى الْمُقْتَصِّ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلَيْنِ؛ جَائِزٍ وَمُحَرَّمٍ، وَمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَانْقَسَمَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَجُرْحًا بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ السِّرَايَةِ كُلِّهَا، فِيمَا إذَا اقْتَصَّ بِآلَةِ مَسْمُومَةٍ أَوْ كَالَّةٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مُحَرَّمٌ، بِخِلَافِ قَطْعِ الْإِصْبَعَيْنِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مُبَاحٌ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ] (6658) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ. وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَيَحْرُمُ الْحَيْفُ فِيهِ، فَلَا يُؤْمَنُ الْحَيْفُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي. فَإِنْ اسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ، وَقَعَ الْمَوْقِعَ، وَيُعَزَّرُ؛ لِافْتِيَاتِهِ بِفِعْلِ مَا مُنِعَ فِعْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ، إذَا كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ يَقُودُهُ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَاعْتَرَفَ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ، فَاقْتُلْهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُضُورِ السُّلْطَانِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْضِرَ شَاهِدَيْنِ، لِئَلَّا يَجْحَدَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءَ. وَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ الِاسْتِيفَاءَ، فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْآلَةَ الَّتِي يَسْتَوْفِي بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَالَّةً مَنَعَهُ الِاسْتِيفَاءَ بِهَا، لِئَلَّا يُعَذِّبَ الْمَقْتُولَ. وَقَدْ رَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلِيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 وَإِنْ كَانَتْ مَسْمُومَةً، مَنَعَهُ الِاسْتِيفَاءَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْبَدَنَ، وَرُبَّمَا مَنَعَتْ غُسْلَهُ. وَإِنْ عَجَّلَ فَاسْتَوْفَى بِآلَةِ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، عُزِّرَ. وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ صَارِمًا غَيْرَ مَسْمُومٍ، نَظَرَ فِي الْوَلِيِّ؛ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيُكْمِلُهُ بِالْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، مَكَّنَهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ مُتَمَيِّزٌ، فَكَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ إذَا أَمْكَنَهُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْمَعْرِفَةَ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَأَمْكَنَهُ السُّلْطَانُ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَأَبَانَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ، وَأَقَرَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، عُزِّرَ. وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتَ. وَكَانَتْ الضَّرْبَةُ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الْعُنُقِ، كَالرَّأْسِ وَالْمَنْكِبِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ الْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، كَالْوَسْطِ وَالرِّجْلَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِيهِ. ثُمَّ إنْ أَرَادَ الْعَوْدَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: يُمَكَّنُ مِنْهُ. قَالَهُ الْقَاضِي: لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَحَرُّزُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ ثَانِيًا. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَكَانَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَكِّلُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، أَخَذَ الْعِوَضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ رَجُلٌ يَسْتَوْفِي الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، فَالْأُجْرَةُ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ لِإِيفَاءِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ، كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى مُوَكِّلِهِ، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَاَلَّذِي عَلَى الْجَانِي التَّمْكِينُ دُونَ الْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ التَّوْكِيلِ، لَلَزِمَتْهُ أُجْرَةُ الْوَلِيِّ إذَا اسْتَوْفَى بِنَفْسِهِ. وَإِنْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أَقْتَصُّ لَك مِنْ نَفْسِي. لَمْ يَلْزَمْ تَمْكِينُهُ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ كَالْبَائِعِ لَا يَسْتَوْفِي مِنْ نَفْسِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 [فَصْل كَانَ الْقِصَاصُ لَجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَتَشَاحُّوا فِي الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ لِلِاسْتِيفَاءِ] (6659) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ لَجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَشَاحُّوا فِي الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ لِلِاسْتِيفَاءِ، أُمِرُوا بِتَوْكِيلِ أَحَدِهِمْ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرهمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّاهُ جَمِيعُهُمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْجَانِي، وَتَعَدُّدِ أَفْعَالِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ، وَتَشَاحُّوا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ إذَا تَسَاوَتْ وَعَدَمُ التَّرْجِيحِ، صِرْنَا إلَى الْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ تَشَاحُّوا فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، أُمِرَ الْبَاقُونَ بِتَوْكِيلِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَوْكِيلِ وَاحِدٍ، مُنِعُوا الِاسْتِيفَاءَ حَتَّى يُوَكَّلُوا. [مَسْأَلَةٌ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرَأَتْ جِرَاحُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ] (6660) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحُ بَرَأَتْ قَبْلَ قَتْلِهِ، فَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ثَلَاثُ دِيَاتٍ، إلَّا أَنْ يُرِيدُوا الْقَوَدَ، فَيُقِيدُوا وَيَأْخُذُوا مِنْ مَالِهِ دِيَتَيْنِ) أَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرَأَتْ جِرَاحُهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعِ، وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ عَفَا وَأَخَذَ ثَلَاثَ دِيَاتٍ؛ دِيَةً لِنَفْسِهِ، وَدِيَةً لِيَدَيْهِ، وَدِيَةً لِرِجْلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ قِصَاصًا بِالْقَتْلِ، وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ لِأَطْرَافِهِ. وَإِنْ أَحَبَّ قَطَعَ أَطْرَافَهُ الْأَرْبَعَةَ، وَأَخَذَ دِيَةً لِنَفْسِهِ. وَإِنْ أَحَبَّ قَطَعَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ لِنَفْسِهِ وَرِجْلَيْهِ. وَإِنْ أَحَبَّ قَطْعَ رِجْلَيْهِ، وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ لِنَفْسِهِ وَيَدَيْهِ. وَإِنْ أَحَبَّ قَطَعَ طَرَفًا وَاحِدًا، وَأَخَذَ دِيَةَ الْبَاقِي. وَإِنْ أَحَبَّ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَطْرَافٍ، وَأَخَذَ دِيَةَ الْبَاقِي. وَكَذَلِكَ سَائِرُ فُرُوعِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَطْعِ اسْتَقَرَّ قَبْلَ الْقَتْلِ بِالِانْدِمَالِ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ بِالْقَتْلِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا. (6661) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ فِي انْدِمَالِ الْجُرْحِ قَبْلَ الْقَتْلِ، وَكَانَتْ الْمُدَّةُ بَيْنَهُمَا يَسِيرَةً، لَا يَحْتَمِلُ انْدِمَالَهُ فِي مِثْلِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مُضِيِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبُرْءَ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ دِيَةِ الْيَدَيْنِ بِقَطْعِهِمَا، وَالْجَانِي يَدَّعِي سُقُوطَ دِيَتِهِمَا بِالْقَتْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ لِلْجَانِي بَيِّنَةٌ بِبَقَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ضِمْنًا حَتَّى قَتَلَهُ، حُكِمَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ بِبُرْئِهِ، حُكِمَ لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ تَعَارَضَتَا، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلْبُرْءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْجِرَاحَةِ، وَعَدَمُ انْدِمَالِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 وَإِنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ فَمَاتَ، وَاخْتَلَفَا، هَلْ بَرَأَ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَوْ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ؟ أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: إنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، كَأَنْ لُدِغَ، أَوْ ذَبَحَ نَفْسَهُ، أَوْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُ. فَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا قَتَلَهُ، سَوَاءً. وَأَمَّا إذَا مَاتَ بِقَتْلٍ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَقْدِيمُ قَوْلِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ الْجِنَايَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الظَّاهِرُ مَعَهُ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الدِّيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وُجِدَ سَبَبُهُمَا، حَتَّى يُوجَدَ مَا يُزِيلُهُمَا. فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا بِالْعَكْسِ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ قَطْعِك، فَعَلَيْك الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. فَقَالَ الْجَانِي: بَلْ انْدَمَلَتْ جِرَاحُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. أَوْ ادَّعَى مَوْتَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِانْدِمَالِ، وَعَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ يَحْصُلُ الزَّهُوقُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجُرْحُ فِيمَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، كَقَطْعِ الْيَدِ مِنْ مَفْصِلٍ وَلَا يُوجِبُهُ، كَالْجَائِفَةِ وَالْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَةٌ رَمَى وَهُوَ مُسْلِمٌ كَافِرًا عَبْدًا فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ] (6662) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَوْ رَمَى، وَهُوَ مُسْلِمٌ كَافِرًا عَبْدًا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ، فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، إذَا مَاتَ مِنْ سَهْمِهِ هَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِبُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ ظُلْمًا عَمْدًا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا حَالَ الرَّمْيِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ رَمَى مُسْلِمًا حَيًّا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى ارْتَدَّ أَوْ مَاتَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ رَمَى عَبْدًا كَافِرًا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ فِي الْعَبْدِ دِيَةُ عَبْدٍ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ نَاشِئَةٌ عَنْ إرْسَالِ السَّهْمِ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهَا، كَحَالَةِ الْجُرْحِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ، فَمَذْهَبُهُ أَنَّ دِيَتَهُ دِيَةُ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، وَكَذَلِكَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَلَنَا عَلَى دَرْءِ الْقِصَاصِ، أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى نَفْسٍ مُكَافِئَتِهِ لَهُ حَالَ الرَّمْيِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، كَمَا لَوْ رَمَى حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ أَتْلَفَ حُرًّا، فَضَمِنَهُ ضَمَانَ الْأَحْرَارِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ صَيْدًا. وَمَا قَالَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا رَمَى حَيًّا فَأَصَابَهُ مَيِّتًا، أَوْ صَحِيحًا فَأَصَابَهُ مَعِيبًا. وَلَنَا عَلَى أَنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ، وَأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَجِبُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونِ الْكُفَّارِ، إنْ مَاتَ مُسْلِمًا حُرًّا، فَكَانَتْ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ حَالَ رَمْيِهِ، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 يُسْتَحَقُّ بِالْمَوْتِ، فَتُعْتَبَرُ حَالُهُ حِينَئِذٍ، لَا حِينَ سَبَبِ الْمَوْتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَرِضَ وَهُوَ عَبْدٌ كَافِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَالْوَاجِبُ بَدَلُ الْمَحَلِّ، فَيُعْتَبَرُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي فَاتَ بِهَا، فَيَجِبُ بِقَدْرِهِ، وَقَدْ فَاتَ بِهَا نَفْسُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، وَالْقِصَاصُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، فَيُعْتَبَرُ الْفِعْلُ فِيهِ وَالْإِصَابَةُ مَعًا؛ لِأَنَّهُمَا طَرَفَاهُ، فَلِذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ. (6663) فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ كَوْنِ الْكَافِرِ ذِمِّيًّا أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّفْرِيقُ فِيهِ، فَمَتَى رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ وُقُوعِ الرَّمْيَةِ بِهِ، فَلَا دِيَةَ لَهُ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، مَأْمُورٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَمَ إسْلَامَهُ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ خَطَأٍ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَوْ رَمَى مُرْتَدًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِإِرْسَالِ سَهْمِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ، لَا إلَى آحَادِ النَّاسِ، وَقَتْلُهُ بِالسَّيْفِ لَا بِالسَّهْمِ. [فَصْلٌ رَمَى حَرْبِيًّا فَتَتَرُّسَ بِمُسْلِمِ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ] (6664) فَصْلٌ: وَلَوْ رَمَى حَرْبِيًّا، فَتَتَرَّسَ بِمُسْلِمٍ، فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ تَتَرَّسَ بِهِ بَعْدَ الرَّمْيِ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّامِي رِوَايَتَانِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ تَتَرَّسَ بِهِ قَبْلَ الرَّمْيِ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ، إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْمِيَ الْكَافِرَ، وَلَا يَقْصِدُ الْمُسْلِمَ، فَإِذَا قَتَلَهُ، فَفِي دِيَتِهِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ، وَإِنْ رَمَاهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ رَمْيُهُ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ أَوْ يَدَ ذِمِّيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ] (6665) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ، أَوْ يَدَ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، لِوَرَثَتِهِ وَلِسَيِّدِهِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو بَكْرٍ: تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، مَصْرُوفَةً إلَى السَّيِّدِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ، فَاعْتُبِرَتْ حَالَ وُجُودِهَا. وَمُقْتَضَى قَوْلِهِمَا ضَمَانُ الذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ بِدِيَةِ ذِمِّيٍّ، وَيَلْزَمُهُمَا عَلَى هَذَا أَنْ يَصْرِفَاهَا إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ، كَاَلَّذِي كَسَبَهُ بَعْد جُرْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ، فَوَرَثَتُهُ هُمْ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكُفَّارِ. [فَصْلٌ قَطَعَ أَنْفَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَانْدَمَلَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ] (6666) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ أَنْفَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، فَانْدَمَلَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ. وَجَبَتْ قِيمَتُهُ بِكَمَالِهَا لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ انْدَمَلَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَقَرَّ بِالِانْدِمَالِ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ كَانَتْ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ مَاتَ مِنْ سِرَايَة الْجُرْحِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ يُرَاعَى فِيهَا حَالُ وُجُودِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ لَا الدِّيَةُ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دِيَةُ حُرٍّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ بِحَالَةِ الِاسْتِقْرَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَتُصْرَفُ إلَى السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَرْشِ الْجُرْحِ، وَالدِّيَةُ هَاهُنَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَمَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ النَّفْسِ، لَا دِيَةَ الْجُرْحِ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأُعْتِقَ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ وَانْدَمَلَ الْقِطْعَانِ] (6667) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَأُعْتِقَ، ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، وَانْدَمَلَ الْقَطْعَانِ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا قُطِعَتْ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَيَجِبُ فِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ، أَوْ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ لِسَيِّدِهِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ الَّتِي قَطَعَهَا حَالَ حُرِّيَّتِهِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ إنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ انْدَمَلَ قَطْعُ الْيَدِ، وَسَرَى قَطْعُ الرِّجْلِ إلَى نَفْسِهِ، فَفِي الْيَدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، أَوْ الدِّيَةُ كَامِلَةً لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ انْدَمَلَ قَطْعُ الرِّجْلِ، وَسَرَى قَطْعُ الْيَدِ، فَفِي الرِّجْلِ الْقِصَاصُ بِقَطْعِهَا، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْيَدِ، وَلَا فِي سِرَايَتهَا، وَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ حُرٍّ، لِسَيِّدِهِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْقَطْعِ أَوْ دِيَةُ الْحُرِّ، عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي، تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ سَرَى الْجُرْحَانِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَلَا الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَمْدًا وَخَطَأً، وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا مِنْ حُرٍّ، فَإِنْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَإِنْ زَادَ نِصْفُ الدِّيَةِ. عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، كَانَ الزَّائِدُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ عَفَا وَرَثَتُهُ عَنْ الْقِصَاصِ، فَلَهُمْ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ قَاطِعُ الرِّجْلِ غَيْرَ قَاطِعِ الْيَدِ، وَانْدَمَلَ الْجُرْحَانِ، فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى قَاطِعِ الرِّجْلِ الْقِصَاصُ فِيهَا أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ سَرَى الْجُرْحَانِ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ حُرٌّ فِي حَالِ قَرَارِ الْجِنَايَةِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إذَا كَانَا عَمَدَا الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَهُوَ كَشَرِيكِ الْأَبِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ خَرَجَتْ مِنْ سِرَايَةِ قَطْعَيْنِ؛ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، بِنَاءً عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، خُرِّجَ فِي وُجُوبِهِ فِي الطَّرَفِ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَجِبُ فِي النَّفْسِ. وَجَبَ فِي الرِّجْلِ. [فَصْلٌ قَلَعَ عَيْنَ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ] (6668) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ عَيْنَ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ انْدَمَلَ جُرْحُهُ أَوْ سَرَى، وَأَمَّا الْآخَرَانِ، فَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ فِي الطَّرَفَيْنِ إنْ وَقَفَ قَطْعُهُمَا، أَوْ دِيَتُهُمَا إنْ عَفَا عَنْهُمَا. وَإِنْ سَرَتْ الْجِرَاحَاتُ كُلُّهَا، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُمَا صَارَتْ نَفْسًا. وَفِي ذَلِكَ وَفِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا، فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا، وَجَبَ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَكَانَ لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا صَارَتْ نَفْسًا، كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا آلَتْ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى الْجَانِيَانِ الْآخَرَانِ قَبْلَ الْعِتْقِ أَيْضًا، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَوَّلِ إلَّا ثُلُثُ الْقِيمَةِ، فَلَا يَزِيدُ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ، كَمَا لَوْ قَلَعَ رَجُلٌ عَيْنَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ، وَآخَرُ رِجْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْأَوَّلِ ثُلُثُ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَطَعَ إصْبَعَيْهِ، أَوْ هَشَّمَهُ، وَالْجَانِيَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ قَطَعَا يَدَهُ، فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْإِصْبَعِ وَهُوَ عُشْرُ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. وَلَوْ كَانَ الْجَانِي فِي حَالِ الرِّقِّ قَطَعَ يَدَيْهِ، وَالْجَانِيَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ قَطَعَا رِجْلَيْهِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَكُونُ لَهُ فِي الْفَرْعَيْنِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. (6669) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْجَانِيَانِ فِي حَالِ الرِّقِّ، وَالْوَاحِدُ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ، فَمَاتَ، فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَتَيْنِ أَوْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْآخَرِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ. (6670) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْجُنَاةُ أَرْبَعَةً؛ وَاحِدٌ فِي الرِّقِّ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَمَاتَ، كَانَ لِلسَّيِّدِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ رُبْعِ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْآخَرِ الْأَقَلُّ مِنْ رُبْعِ الْقِيمَةِ أَوْ رُبْعِ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّلَاثَةُ فِي الرِّقِّ، وَالْوَاحِدُ فِي الْحُرِّيَّةِ، كَانَ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ الْأَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً، وَاحِدٌ فِي الرِّقِّ، وَتِسْعَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، وَلِلسَّيِّدِ فِيهَا بِحِسَابِ مَا ذَكَرْنَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ. [فَصْل قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُعْتِقَ فَقَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ] (6671) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَقَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ، ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَعَلَى الْآخَرِ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ فِي الرِّجْلِ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَى الْجَانِي الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا فِي رِقِّهِ. فَإِنْ اخْتَارَ الْوَرَثَةُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، سَقَطَ حَقُّ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ النَّفْسُ وَأَرْشُ الطَّرَفِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَإِنَّ الطَّرَفَ دَاخِلٌ فِي النَّفْسِ فِي الْأَرْشِ. وَإِنْ اخْتَارُوا الْعَفْوَ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ أَرْشِ الطَّرَفِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الطَّرَفِ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ، وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ الطَّرَفِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَطَعَ سِرَايَتهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ انْدَمَلَتْ. فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الَّذِي قَتَلَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. وَهَلْ يُقْطَعُ طَرَفُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَإِنْ عَفَا الْوَرَثَةُ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ ثَالِثًا، فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْقَطْعَانِ، وَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ، وَعَلَى الثَّالِثِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوْ الدِّيَةُ. [فَصْلٌ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ انْدَمَلَ جُرْحُهُ] (6672) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ انْدَمَلَ جُرْحُهُ، فَلَا قِصَاصِ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ بِالِانْدِمَالِ مَا وَجَبَ بِالْجِرَاحِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِتْقِ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ عَلَى مَمْلُوكِهِ. وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسِرَايَةِ جُرْحٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْقَطْعِ فِي الْحَدِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 وَسِرَايَة الْقَوَدِ، وَلِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ قَتْلًا، فَيَكُونُ قَاتِلًا لَعَبْدِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ. وَهَذَا بِمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ بِمَا زَادَ عَلَى أَرْشِ الْقَطْعِ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ حُرٌّ بِسِرَايَةِ قَطْعِ عُدْوَانٍ، فَيَضْمَنُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ أَجْنَبِيًّا، لَكِنْ يَسْقُطُ أَرْشُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَيَجِبُ الزَّائِدُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ، وَجَبَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَرِثُ السَّيِّدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ. [مَسْأَلَة قَتَلَ رَجُلٌ اثْنَيْنِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ] (6673) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ اثْنَيْنِ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَاتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ الْجَمِيعِ عَلَى الْقَوَدِ، أُقِيدَ لَهُمَا. وَإِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ الْقَوَدَ، وَالثَّانِي الدِّيَةَ، أُقِيدَ لِلْأَوَّلِ، وَأُعْطِيَ أَوْلِيَاءُ الثَّانِي الدِّيَةَ مِنْ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَوْلِيَاءُ الْأَوَّلِ الدِّيَةَ، وَالثَّانِي الْقَوَدَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ اثْنَيْنِ، فَاتَّفَقَ أَوْلِيَاؤُهُمَا عَلَى قَتْلِهِ بِهِمَا، قُتِلَ بِهِمَا. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْقَوَدَ، وَالْآخَرُ الدِّيَةَ، قُتِلَ لِمَنْ اخْتَارَ أَرَادَ الْقَوَدَ، وَأُعْطِيَ أَوْلِيَاءُ الثَّانِي الدِّيَةَ مِنْ مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْتَارُ لِلْقَوَدِ الثَّانِيَ أَوْ الْأَوَّلَ، وَسَوَاءٌ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ دَفْعَتَيْنِ. فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ، وَجَبَ لِلْآخَرِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، أَيِّهِمَا كَانَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ، لَيْسَ لَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمْ الدِّيَةَ، فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ، سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُمْ وَاحِدٌ قُتِلَ بِهِمْ، كَالْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ إلَّا بِوَاحِدٍ، سَوَاءٌ اتَّفَقُوا عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يَتَّفِقُوا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ، فَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا يُوجِبُ تَدَاخُلَ حُقُوقِهِمْ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ» . فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَهْلَ كُلِّ قَتِيلٍ يَسْتَحِقُّونَ مَا اخْتَارُوهُ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الدِّيَةِ، فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْقَتْلِ وَجَبَ لَهُمْ، وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ الدِّيَةَ، وَجَبَ لَهُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ لَا يَتَدَاخَلَانِ إذَا كَانَتَا خَطَأً أَوْ إحْدَاهُمَا، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا فِي الْعَمْدِ، كَالْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَطْرَافِ، وَقَدْ سَلَّمُوهَا. وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مَحَلٌّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقَّانِ، لَا يَتَّسِعُ لَهُمَا مَعًا، رَضِيَ الْمُسْتَحِقَّانِ بِهِ عَنْهُمَا، فَيَكْتَفِي بِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدَيْنِ خَطَأً فَرَضِيَ بِأَخْذِهِ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِدُونِ حَقِّهِمَا فَجَازَ، كَمَا لَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ، أَوْ وَلِيُّ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَوَلِيُّ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ. وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَالذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لَحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ. وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ قُتِلُوا بِالْوَاحِدِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ الِاشْتِرَاكُ إلَى إسْقَاطِ الْقِصَاصِ، تَغْلِيظًا لِلْقِصَاصِ، وَمُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 يَنْعَكِسُ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِقَتْلِ وَاحِدٍ، وَأَنَّ قَتْلَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَزْدَادُ بِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، بَادَرَ إلَى قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَفَعَلَ مَا يَشْتَهِي فِعْلَهُ، فَيَصِيرُ هَذَا كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنْهُ ابْتِدَاءً مَعَ الدِّيَةِ. (6674) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَلِيٍّ قَتْلَهُ بِوَلِيِّهِ، مُسْتَقِلًّا مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ، قُدِّمَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْقَتْلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْأَوَّلِ، فَلِوَلِيِّ الثَّانِي قَتْلُهُ. وَإِنْ طَالَبَ وَلِيُّ الثَّانِي قَبْلَ طَلَبِ الْأَوَّلِ، بَعَثَ الْحَاكِمُ إلَى وَلِيِّ الْأَوَّلِ فَأَعْلَمَهُ. وَإِنْ بَادَرَ الثَّانِي فَقَتَلَهُ، أَسَاءَ، وَسَقَطَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ غَائِبًا أَوْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، اُنْتُظِرَ. وَإِنْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الْجَمِيعِ إلَى الدِّيَاتِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَتَلَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَتَشَاحُّوا فِي الْمُسْتَوْفِي، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ؛ لِتَسَاوِي حُقُوقِهِمْ. وَإِنْ بَادَرَ غَيْرُهُ فَقَتَلَهُ، اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ إلَى الدِّيَةِ. وَإِنْ قَتَلَهُمْ مُتَفَرِّقًا، وَأَشْكَلَ الْأَوَّلُ، أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَلِيٍّ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ، فَأَقَرَّ الْقَاتِلُ لَأَحَدِهِمْ، قُدِّمَ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ، أَقْرَعَنَا بَيْنَهُمْ؛ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ] (6675) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَنْفُسِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: يُقَادُ لَهُمَا جَمِيعًا، وَيَغْرَمُ لَهُمَا دِيَةَ الْيَدِ فِي مَالِهِ نِصْفَيْنِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إيجَابِ الْقَوَدِ فِي بَعْضِ الْعُضْوِ وَالدِّيَةِ فِي بَعْضِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرُ ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِ الْمَقْطُوعِ فَمَاتَ] (6676) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ، ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِ الْمَقْطُوعِ فَمَاتَ، فَهُوَ قَاتِلٌ لَهُمَا، فَإِذَا تَشَاحَّا فِي الْمُسْتَوْفِي لِلْقَتْلِ، قُتِلَ بِاَلَّذِي قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَيْهِ أَسْبَقُ، فَإِنَّ الْقَتْلَ بِاَلَّذِي قَطَعَهُ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ السِّرَايَةِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ قَتْلِ الْآخَرِ، وَأَمَّا الْقَطْعُ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مِثْلُ مَا فَعَلَ. فَإِنَّهُ يُقْطَعُ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْتَلُ لِلَّذِي قَتَلَهُ، وَيَجِبُ لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْتَوْفِي الْقَطْعُ. وَجَبَتْ لَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلَمْ يُقْطَعْ طَرَفُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَتْلِ، وَجَبَ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ لِوُجُوبِ مُقْتَضِيه، وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَسْرِ. وَلَوْ كَانَ قَطْعُ الْيَدِ لَمْ يَسْرِ إلَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْتَلُ، وَسَوَاءٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 تَقَدَّمَ الْقَطْعُ أَوْ تَأَخَّرَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ تَلِفَ الطَّرَفُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْقَطْعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا لَوَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا، كَقَطْعِ يَدَيْ رَجُلَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ يَقْصِدُ الْمُثْلَةَ بِهِ، قُطِعَ وَقُتِلَ. وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ مِنَّا وَمِنْهُمْ عَلَى انْتِفَاءِ التَّدَاخُلِ فِي الْأَصْلِ، فَكَيْفَ يَقِيسُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْقَلِبُ دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: قَطَعَ وَقَتَلَ، فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلُ مَا فَعَلَ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ يَقْصِدُ الْمُثْلَةَ بِهِ، وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَدَاخَلْ حَقُّ الْوَاحِد، فَحَقُّ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى، وَيَبْطُلُ بِهَذَا مَا قَالَهُ مِنْ الْمَعْنَى. [فَصْلٌ قَطَعَ إصْبَعًا مِنْ يَمِينِ رَجُلٍ وَيَمِينًا لِآخَرَ] (6677) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا مِنْ يَمِينِ رَجُلٍ، وَيَمِينًا لِآخَرَ، وَكَانَ قَطْعُ الْإِصْبَعِ أَسْبَقِ، قُطِعَتْ إصْبَعُهُ قِصَاصًا، وَخُيِّرَ الْآخَرُ بَيْنَ الْعَفْوِ إلَى الدِّيَةِ، وَبَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ دِيَةِ الْإِصْبَعِ. ذَكَره الْقَاضِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ بَعْضَ حَقِّهِ، فَكَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَوْجُودِ، وَأَخْذُ بَدَلِ الْمَفْقُودِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا لِرَجُلٍ، فَوَجَدَ بَعْضَ الْمِثْلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُخَيَّرُ بَيْن الْقِصَاصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعَهُ، وَبَيْنَ الدِّيَةِ. هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ كَالنَّفْسِ. وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْيَدِ سَابِقًا عَلَى قَطْعِ الْإِصْبَعِ، قُطِعَتْ يَمِينُهُ قِصَاصًا، وَلِصَاحِبِ الْإِصْبَعِ أَرْشُهَا. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا قَتَلَ رَجُلًا، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ، حَيْثُ قَدَّمْنَا اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ مَعَ تَأَخُّرِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَا يَمْنَعُ التَّكَافُؤَ فِي النَّفْسِ، بِدَلِيلِ أَنَّا نَأْخُذُ كَامِلَ الْأَطْرَافِ بِنَاقِصِهَا، وَأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَنَقْصَ الْإِصْبَعِ يَمْنَعُ التَّكَافُؤَ فِي الْيَدِ، بِدَلِيلِ أَنَّا لَا نَأْخُذُ الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ، وَاخْتِلَافِ دِيَتِهِمَا. وَإِنْ عَفَا صَاحِبُ الْيَدِ، قُطِعَتْ الْإِصْبَعُ لِصَاحِبِهَا، إنْ اخْتَارَ قَطَعَهَا. [مَسْأَلَةٌ جَرَحَهُ جُرْحًا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِلَا حَيْفٍ] (6678) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِلَا حَيْفٍ، اُقْتُصَّ مِنْهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْجُرُوحِ، إذَا أَمْكَنَ؛ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضِرِ بْنِ أَنَسٍ، «كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْأَرْشَ، فَأَبَوْا إلَّا الْقِصَاصَ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ. قَالَ: فَعَفَا الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا أَمْكَنَ، وَلِأَنَّ مَا دُون النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِهِ. [فَصْلٌ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاء] (6679) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ إجْمَاعًا، لِأَنَّ الْخَطَأ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، وَهِيَ الْأَصْلُ، فَفِيمَا دُونَهَا أَوْلَى. وَلَا يَجِبُ بِعَمْدِ الْخَطَأِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةِ لَا يُوضِحُ مِثْلُهَا، فَتُوضِحَهُ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ. الثَّانِي: التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَارِحِ وَالْمَجْرُوحِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي يُقَادُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ قَتَلَهُ، كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ مَعَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ، وَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلَا يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمِنِ. الثَّالِثُ: إمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَلِأَنَّ دَمَ الْجَانِي مَعْصُومٌ إلَّا فِي قَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَبْقَى عَلَى الْعِصْمَةِ، فَيَحْرُمُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، كَتَحْرِيمِهِ قَبْلَهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمَنْعِ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَنْعُ مِنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْمَنْعُ مِنْهَا إلَّا بِالْمَنْعِ مِنْهُ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ. وَمِمَّنْ مَنَعَ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَمَنَعَهُ فِي الْعِظَامِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْجُرْحَ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، هُوَ كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، كَالْمُوضِحَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ الْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ خِلَافًا، وَهِيَ كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إلَى الْعَظْمِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا، لَسَقَطَ حُكْمُ الْآيَةِ، وَفِي مَعْنَى الْمُوضِحَةِ كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، كَالسَّاعِدِ، وَالْعَضُدِ، وَالسَّاقِ، وَالْفَخِذِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَا قِصَاصَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ فِيهَا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا بِغَيْرِ حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ، لِانْتِهَائِهَا إلَى عَظْمٍ، فَهِيَ كَالْمُوضِحَةِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْمُوضِحَةِ لَيْسَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلْقِصَاصِ، وَلَا عَدَمُهُ مَانِعًا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي الْمُوضِحَةِ لِكَثْرَةِ شَيْنِهَا، وَشَرَفِ مَحَلِّهَا؛ وَلِهَذَا قُدِّرَ مَا فَوْقَهَا مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْجَائِفَةُ أَرْشُهَا مُقَدَّرٌ، لَا قِصَاصَ فِيهِ. [فَصْلٌ لَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسَّيْفِ] (6680) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسَّيْفِ، وَلَا بِآلَةٍ يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْجُرْحُ بِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا اُسْتُوْفِيَ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَيْءٌ يُخْشَى التَّعَدِّي إلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَوْفَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِآلَتِهِ، وَيُتَوَقَّى مَا يُخْشَى مِنْهُ الزِّيَادَةُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلِأَنَّنَا مَنَعْنَا الْقِصَاصَ بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا تُخْشَى الزِّيَادَةُ فِي اسْتِيفَائِهِ. فَلَأَنْ نَمْنَعَ الْآلَةَ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا ذَلِكَ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مُوضِحَةً أَوْ مَا أَشْبَهَهَا، فَبِالْمُوسَى أَوْ حَدِيدَةٍ مَاضِيَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَوْفِي ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ، كَالْجَرَائِحِيِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ عِلْمٌ بِذَلِكَ، أُمِرَ بِالِاسْتِبَانَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَيُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ، كَالْقَتْلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَلِيهِ إلَّا نَائِبُ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ يَسْتَنِيبُهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَقَصْدِ التَّشَفِّي الْحَيْفُ فِي الِاسْتِيفَاءِ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَلَافِيه، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى النِّزَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْجَانِي الزِّيَادَةَ وَيُنْكِرَهَا الْمُسْتَوْفِي. [فَصْل أَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ مُوضِحَةٍ وَشِبْهِهَا] (6681) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ مُوضِحَةٍ وَشِبْهِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَوْضِعِهَا شَعْرٌ حَلَقَهُ، وَيَعْمِدُ إلَى مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ، فَيَعْلَمُ مِنْهُ طُولَهَا بِخَشَبَةٍ أَوْ خَيْطٍ، وَيَضَعُهَا عَلَى رَأْسِ الشَّاجِّ، وَيُعَلِّمُ طَرَفَيْهِ بِخَطٍّ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَأْخُذُ حَدِيدَةً عَرْضُهَا كَعَرْضِ الشَّجَّةِ، فَيَضَعُهَا فِي أَوَّلِ الشَّجَّةِ، وَيَجُرُّهَا إلَى آخِرِهَا، وَيَأْخُذُ مِثْلَ الشَّجَّةِ طُولًا وَعَرْضًا، وَلَا يُرَاعِي الْعُمْقَ؛ لِأَنَّ حَدَّهُ الْعَظْمُ، وَلَوْ رُوعِيَ الْعُمْقُ لَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي قِلَّةِ اللَّحْمِ وَكَثْرَتِهِ، وَهَذَا كَمَا يَسْتَوْفِي فِي الطَّرَفِ مِثْلِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالدِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، وَيُرَاعِي الطُّولَ وَالْعَرْضَ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ سَوَاءً، اسْتَوْفَى قَدْرَ الشَّجَّةِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، لَكِنَّهُ يَتَّسِعُ لِلشَّجَّةِ، اُسْتُوْفِيَتْ إنْ اسْتَوْعَبَ رَأْسَ الشَّاجِّ كُلَّهُ، وَهِيَ بَعْضُ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهَا بِالْمِسَاحَةِ، وَلَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ زِيَادَتُهَا عَلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ رَأْسُهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْرُ الشَّجَّةِ يَزِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجَانِي، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الشَّجَّةَ مِنْ جَمِيعِ رَأْسِ الشَّاجِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ إلَى جَبْهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ فِي عُضْوٍ آخَرَ غَيْرِ الْعُضْوِ الَّذِي جَنَى عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَنْزِلُ إلَى قَفَاهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الشَّجَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِمُوضِحَتَيْنِ، وَوَاضِعًا لِلْحَدِيدَةِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا فِيهِ الْجَانِي. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاذَا يَصْنَعُ؟ فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ؛ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ قِصَاصٌ وَدِيَةٌ فِي جُرْحٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَعَلَى هَذَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ فِي جَمِيعِ رَأْسِ الشَّاجِّ وَلَا أَرْشَ لَهُ، وَبَيْنَ الْعَفْوِ إلَى دِيَةِ مُوضِحَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَهُ أَرْشُ مَا بَقِيَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيمَا جَنَى عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَرْشُهُ، كَمَا لَوْ تَعَذُّرَ فِي الْجَمِيعِ. فَعَلَى هَذَا، تُقَدَّرُ شَجَّةُ الْجَانِي مِنْ الشَّجَّةِ فِي رَأْسِ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْفِي أَرْشَ الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ ثُلُثِهَا فَلَهُ ثُلُثُ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، وَإِنْ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ عَنْ هَذَا فَبِالْحِسَابِ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ. وَلَا يَجِبُ لَهُ أَرْشُ مُوضِحَةٍ كَامِلَةٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إيجَابِ الْقِصَاصِ وَدِيَةِ مُوضِحَةٍ فِي مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ، وَرَأْسُ الْجَانِي أَكْبَرُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يُوضِحَ مِنْهُ بِقَدْرِ مِسَاحَةِ مُوضِحَتِهِ مِنْ أَيِّ الطَّرَفَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كُلِّهِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى قَدْرَ مُوضِحَتِهِ، ثُمَّ تَجَاوَزَهَا، وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ عَمَدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَإِذَا انْدَمَلَتْ مُوضِحَتُهُ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي مَوْضِعِ الِانْدِمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ ادَّعَى الْخَطَأَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْمُوضِحَةُ كُلُّهَا لَوْ كَانَتْ عُدْوَانًا لَمْ يَجِبْ فِيهَا إلَّا دِيَةُ مُوضِحَةٍ، فَكَيْفَ يَجِبُ فِي بَعْضِهَا دِيَةُ مُوضِحَةٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِي، لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً، إنَّمَا الْجِنَايَةُ الزَّائِدُ، وَالزَّائِدُ لَوْ انْفَرَدَ لَكَانَ مُوضِحَةً، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ مَا لَيْسَ بِجِنَايَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا عُدْوَانًا؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ. [فَصْلٌ أَوْضَحَهُ فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ وَرَأْسُ الْجَانِي أَكْبَرُ] فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْضَحَهُ فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ، وَرَأْسُ الْجَانِي أَكْبَرُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ بَعْضَهُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 وَبَعْضَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، احْتَمَلَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بِوَاحِدَةٍ، وَدِيَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَاحْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ مَوْضِعَ الْجِنَايَةِ وَلَا قَدْرَهَا، إلَّا أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ ضَرَرٍ أَوْ شَيْنٍ، فَلَا يَفْعَلُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَهَذَيْنِ. فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَكْبَرَ، فَأَوْضَحَهُ الْجَانِي فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ مُوضِحَتَيْنِ، قَدْرُهُمَا جَمِيعُ رَأْسِ الْجَانِي، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُوضِحَهُ مُوضِحَةً وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ، أَوْ يُوضِحَهُ مُوضِحَتَيْنِ، يَقْتَصِرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى قَدْرِ مُوضِحَتِهِ، وَلَا أَرْشَ لِذَلِكَ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِيفَاءَ مَعَ إمْكَانِهِ. وَإِنْ عَفَا إلَى الْأَرْشِ، فَلَهُ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَأَخَذَ دِيَةَ الْأُخْرَى. [فَصْلٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ] (6683) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَكَانَتْ فِي سَاعِدٍ، فَزَادَتْ عَلَى سَاعِدِ الْجَانِي، لَمْ يَنْزِلْ إلَى الْكَفِّ، وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى الْعَضُدِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّاقِ، لَمْ يَنْزِلْ إلَى الْقَدَمِ، وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى الْفَخِذِ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ آخَرُ، فَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُ، كَمَا لَمْ يَنْزِلْ مِنْ الرَّأْسِ إلَى الْوَجْهِ، وَلَمْ يَصْعَدْ مِنْ الْوَجْهِ إلَى الرَّأْسِ. [فَصْلٌ شُجَّ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ عَرْضًا شَجَّةً لَا يَتَّسِعُ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ] (6684) فَصْلٌ: وَإِذَا شُجَّ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ عَرْضًا شَجَّةً لَا يَتَّسِعُ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ وَسَطِ الرَّأْسِ، فِيمَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، لِكَوْنِهِ يَتَّسِعُ لِمِثْلِ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَوْضِعِ الَّذِي شَجَّهُ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ مَحَلِّ شَجَّتِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ مَحَلِّ شَجَّتِهِ، جَازَ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ شَجَّهُ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ شَجَّةً قَدْرُهَا جَمِيعُ رَأْسِ الشَّاجِّ، جَازَ إتْمَامُ اسْتِيفَائِهَا فِي مُؤَخَّرِ رَأْسِ الْجَانِي. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَهَكَذَا يُخَرَّجُ فِيمَا إذَا كَانَ الْجُرْحُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَالذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ. وَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. [مَسْأَلَةٌ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ] (6685) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ مِنْهُ طَرَفًا مِنْ مَفْصِلٍ، قَطَعَ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ، إذَا كَانَ الْجَانِي يُقَادُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ قَتَلَهُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 وَبِخَبَرِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضِرِ بْنِ أَنَسٍ، وَيُشْتَرَطُ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيهَا شُرُوطٌ خَمْسَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي بِحَيْثُ يُقَادُ بِهِ لَوْ قَتَلَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الطَّرَفُ مُسَاوِيًا لِلطَّرَفِ، فَلَا يُؤْخَذُ صَحِيحٌ بِأَشَلَّ، وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ، وَلَا أَصْلِيَّةٌ بِزَائِدَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي الدِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالرَّابِعُ: الِاشْتِرَاكُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ، فَلَا تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ، وَلَا يَسَارٌ بِيَمِينٍ، وَلَا إصْبَعٌ بِمُخَالِفَةٍ لَهَا، وَلَا جَفْنٌ أَوْ شَفَةٌ إلَّا بِمِثْلِهَا. وَالْخَامِسُ: إمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْر مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ. قَالَ: خُذْ الدِّيَةَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» . وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ فِي قَطْعِ الْيَدِ ثَمَانِ مَسَائِلَ] (6686) فَصْلٌ: وَفِي قَطْعِ الْيَدِ ثَمَانِ مَسَائِلَ؛ أَحَدُهَا: قَطْعُ الْأَصَابِعِ مِنْ مَفَاصِلِهَا، فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ لَهَا مَفَاصِلَ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ فَلَهُ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ إصْبَعٍ عُشْرَ الدِّيَةِ. الثَّانِيَةُ: قَطْعِهَا مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ، فَلَيْسَ لَهُ الْقِصَاصُ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَفْصِلٍ، فَلَا يُؤْمَنُ الْحَيْفُ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ قَطْعَ الْأَصَابِع فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ امْتِنَاعَ قَطْعِ الْأَصَابِعِ إذَا قَطَعَ مِنْ الْكُوعِ، إنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ إذَا كَانَ الْقَطْعُ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ. وَالثَّانِي: لَهُ قَطْعُ الْأَصَابِعِ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ دُونَ حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَجَّهُ هَاشِمَةً، فَاسْتَوْفَى مُوضِحَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 وَيُفَارِقُ مَا إذَا قَطَعَ مِنْ الْكُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي نِصْفِ الْكَفِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ الْكُوعِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَرْشُ نِصْفِ الْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، فَوَجَبَ أَرْشُهُ، كَسَائِرِ مَا هَذَا حَالُهُ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ نِصْفُهَا، لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ مِنْ الْكُوعِ لَا يُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى. الثَّالِثَةُ: قَطَعَ مِنْ الْكُوعِ، فَلَهُ قَطْعُ يَدِهِ مِنْ الْكُوعِ، لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَحَلِّهَا. الرَّابِعَةُ: قَطَعَ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَفْصِلٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِيهِ، وَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَحُكُومَةٌ فِي الْمَقْطُوعِ مِنْ الذِّرَاعِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ الْكُوعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَنْ قَطَعَ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ. وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ الْقَطْعَ مِنْ الْكُوعِ، فَعِنْدَهُ فِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ لِمَا قُطِعَ مِنْ الذِّرَاعِ وَجْهَانِ. وَيُخَرَّج أَيْضًا فِي جَوَازِ قَطْعِ الْأَصَابِعِ وَجْهَانِ. فَإِنْ قَطَعَ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ قِصَاصًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَلَبُ أَرْشِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْكُوعِ. الْخَامِسَةُ: قَطَعَ مِنْ الْمَرْفِقِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ، وَالِاقْتِصَاصُ مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ، وَحُكُومَةٌ لِلسَّاعِدِ. السَّادِسَةُ: قَطَعَهَا مِنْ الْعَضُدِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ، وَحُكُومَةٌ لِلسَّاعِدِ وَبَعْضِ الْعَضُدِ. وَالثَّانِي: لَهُ الْقِصَاصُ مِنْ الْمَرْفِقِ. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِد؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَهَلْ لَهُ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. السَّابِعَةُ: قَطَعَ مِنْ الْمَنْكِبِ، فَالْوَاجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ، وَحُكُومَةٌ لِمَا زَادَ. الثَّامِنَةُ: خَلَعَ عَظْمَ الْمَنْكِبِ، وَيُقَال لَهُ: مِشْطُ الْكَتِفِ، فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى اثْنَيْنِ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَصِيرَ جَائِفَةً. اُسْتُوْفِيَ، وَإِلَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ. وَفِي جَوَاز الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْمَرْفِقِ أَوْ مَا دُونَهُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي نَظَائِرِهِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الرِّجْلِ، وَالسَّاقُ كَالذِّرَاعِ، وَالْفَخِذُ كَالْعَضُدِ، وَالْوَرِكُ كَعَظْمِ الْكَتِفِ، وَالْقَدَمُ كَالْكَفِّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَلَا فِي الْجَائِفَةِ قِصَاصٌ] (6687) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلَا فِي الْجَائِفَةِ قِصَاصٌ) الْمَأْمُومَةُ: شِجَاجُ الرَّأْسِ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ أُمَّ الدِّمَاغِ؛ لِأَنَّهَا تَجْمَعُهُ، فَالشَّجَّةُ الْوَاصِلَةُ إلَيْهَا تُسَمَّى مَأْمُومَةً وَآمَّةً، لِوُصُولِهَا إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ. وَالْجَائِفَةُ فِي الْبَدَنِ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ. وَلَيْسَ فِيهِمَا قِصَاصٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَصَّ مِنْ الْمَأْمُومَةِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: مَا سَمِعْنَا أَحَدًا قَصَّ مِنْهَا قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ فِي ذَلِكَ قِصَاصًا مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا قِصَاصَ فِي الْمَأْمُومَةِ. وَقَالَهُ مَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ: لَا قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلَا فِي الْجَائِفَةِ، وَلَا فِي الْمُنَقِّلَةِ» . وَلِأَنَّهُمَا جُرْحَانِ لَا تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِمَا قِصَاصٌ، كَكَسْرِ الْعِظَامِ. [فَصْلٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ قِصَاصٌ سِوَى الْمُوضِحَةِ] (6688) فَصْلٌ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ قِصَاصٌ سِوَى الْمُوضِحَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا دُون الْمُوضِحَةِ، كَالْحَارِصَةِ، وَالْبَازِلَةِ، وَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، وَمَا فَوْقَهَا، وَهِيَ الْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ وَالْآمَّةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. فَأَمَّا مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِيهَا الْقِصَاصَ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ أَقَادَ مِنْ الْمُنَقَّلَةِ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ؛ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُمَا جِرَاحَتَانِ لَا تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا، أَشْبَهَا الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ. وَأَمَّا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ فِي الدَّامِيَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالسِّمْحَاقِ. وَلَنَا، أَنَّهَا جِرَاحَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ، كَالْمَأْمُومَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا الزِّيَادَةُ، فَأَشْبَهَ كَسْرَ الْعِظَامِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إنْ اقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، أَفْضَى إلَى أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرِ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ الْعُمْقِ، أَفْضَى إلَى أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْبَاضِعَةِ وَالسِّمْحَاقِ مُوضِحَةً، وَمِنْ الْبَاضِعَةِ سِمْحَاقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَحْمُ الْمَشْجُوجِ كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَكُونُ عُمْقُ بَاضِعَتِهِ كَعُمْقِ مُوضِحَةِ الشَّاجِّ، أَوْ سِمْحَاقِهِ، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَعْتَبِرْ فِي الْمُوضِحَةِ قَدْرَ عُمْقِهَا، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 [فَصْل كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ] (6689) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً، جَازَ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ، وَيَقْتَصُّ مِنْ مَحَلِّ جِنَايَتِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَضَعُ السِّكِّينَ فِي مَوْضِعٍ وَضَعَهَا الْجَانِي؛ لِأَنَّ سِكِّينَ الْجَانِي وَصَلَتْ إلَى الْعَظْمِ، ثُمَّ تَجَاوَزَتْهُ، بِخِلَافِ قَاطِعِ السَّاعِدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَضَعْ سِكِّينَهُ فِي الْكُوعِ. وَهَلْ لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:؛ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ جُرْحٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْن قِصَاصٍ وَدِيَةٍ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الشَّلَّاءَ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَمَا فِي الْأَنْفُسِ إذَا قُتِلَ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ. وَالثَّانِي: لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ، اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهِ، فَانْتَقَلَ إلَى الْبَدَلِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إصْبَعَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِيفَاءُ إلَّا مِنْ وَاحِدَةٍ. وَفَارَقَ الشَّلَّاءَ بِالصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ثَمَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَيْسَتْ مُتَمَيِّزَةً، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةٌ تُقْطَعُ الْأُذُنُ بِالْأُذُنِ] (6690) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُقْطَعُ الْأُذُنُ بِالْأُذُنِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ تُؤْخَذُ بِالْأُذُنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتْ الْيَدَ. وَتُؤْخَذُ الْكَبِيرَةُ بِالصَّغِيرَةِ، وَتُؤْخَذُ أُذُنُ السَّمِيعِ بِأُذُنِ السَّمِيعِ، وَتُؤْخَذُ أُذُنُ الْأَصَمِّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهِمَا. وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الثَّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ مَخْرُومَةً، أُخِذَتْ بِالصَّحِيحَةِ، وَلَمْ تُؤْخَذْ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ إذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثَّقْبُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ عَيْبٌ، وَيُخَيَّرُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ إلَّا قَدْرَ النَّقْصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ فِيمَا سِوَى الْمَعِيبِ وَيَتْرُكَهُ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي. وَفِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ لَهُ فِي قَدْرِ الثُّقْبِ وَجْهَانِ. وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْضُ أُذُنِهِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُجْزِئُ الْقِصَاصُ فِي الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمَقْطُوعِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَسْرُ عَظْمٍ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِي بَعْضِهَا، كَالذَّكَرِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 [فَصْلٌ تُؤْخَذُ الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ بِالصَّحِيحَةِ] (6691) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ بِالصَّحِيحَةِ. وَهَلْ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا تُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ مَعِيبَةٌ، فَلَمْ تُؤْخَذْ بِهَا الصَّحِيحَةُ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَالثَّانِي: تُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ، وَالْجَمَالُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا كَحُصُولِهِ بِالصَّحِيحَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. [فَصْلٌ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَبَانَهَا فَأَلْصَقَهَا صَاحِبُهَا فَالْتَصَقَتْ وَثَبَتَتْ] (6692) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَبَانَهَا، فَأَلْصَقَهَا صَاحِبُهَا فَالْتَصَقَتْ وَثَبَتَتْ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ الْقِصَاصُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِبَانَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْإِبَانَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا قِصَاصَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبِنْ عَلَى الدَّوَامِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ إبَانَةَ أُذُنِ الْجَانِي دَوَامًا. وَإِنْ سَقَطَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، فَلَهُ الْقِصَاصُ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، إذَا لَمْ تَسْقُطْ: لَهُ دِيَةُ الْأُذُنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَوَّلِينَ إذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا عَقْلَ لَهَا إذَا عَادَتْ مَكَانَهَا، فَأَمَّا إنْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ فَالْتَصَقَ، فَلَهُ أَرْشُ الْجُرْحِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ. وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَ إنْسَانٍ، فَاسْتُوْفِيَ مِنْهُ، فَأَلْصَقَ الْجَانِي أُذُنَهُ فَالْتَصَقَتْ، وَطَلَبَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إبَانَتَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَدْ حَصَلَتْ، وَالْقِصَاصُ قَدْ اُسْتُوْفِيَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَمْ يَقْطَعْ جَمِيعَ الْأُذُنِ، إنَّمَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَالْتَصَقَ، كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَطْعُ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إبَانَةَ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ إبَانَةٌ. وَالْحُكْمُ فِي السِّنِّ كَالْحُكْمِ فِي الْأُذُنِ. [فَصْلٌ أَلْصَقَ أُذُنَهُ بَعْدَ إبَانَتِهَا أَوْ سِنَّهُ فَهَلْ تَلْزَمُهُ إبَانَتُهَا] (6693) فَصْلٌ: وَمَنْ أَلْصَقَ أُذُنَهُ بَعْدَ إبَانَتِهَا، أَوْ سِنَّهُ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ إبَانَتُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِيمَا بَانَ مِنْ الْآدَمِيِّ، هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَوْ طَاهِرٌ؟ إنْ قُلْنَا: هُوَ نَجِسٌ. لَزِمَتْهُ إزَالَتُهَا، مَا لَمْ يَخَفْ الضَّرَرَ بِإِزَالَتِهَا، كَمَا لَوْ جَبَرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهَا. لَمْ تَلْزَمْهُ إزَالَتُهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ آدَمِيٍّ طَاهِرٍ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ، فَكَانَ طَاهِرًا كَحَالَةِ اتِّصَالِهِ، فَأَمَّا إنْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ فَالْتَصَقَ، لَمْ تَلْزَمْهُ إبَانَتُهَا؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَيْتَةً، لِعَدَمِ إبَانَتِهَا. وَلَا قِصَاصَ فِيهَا. قَالَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَقْطُوعِ مِنْهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 [مَسْأَلَةٌ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ] (6694) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ) وَأَجْمَعُوا عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفِ أَيْضًا؛ لِلْآيَةِ وَالْمَعْنَى. وَيُؤْخَذُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَأَنْفُ الْأَشَمِّ بِأَنْفِ الْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَشُمُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ وَالْأَنْفُ صَحِيحٌ. كَمَا تُؤْخَذُ أُذُنُ السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ. وَإِنْ كَانَ بِأَنْفِهِ جُذَامٌ، أُخِذَ بِهِ الْأَنْفُ الصَّحِيحُ، مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَقْطَعْ بِهِ الصَّحِيحَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ. فَيَأْخُذَ مِنْ الصَّحِيحِ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ يَأْخُذَ أَرْشَ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ هُوَ الْمَارِنُ، وَهُوَ مَالَانِ مِنْهُ، دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْيَدِ، يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا انْتَهَى إلَى الْكُوعِ. وَإِنْ قَطَعَ الْأَنْفَ كُلَّهُ مَعَ الْقَصَبَةِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمَارِنِ، وَحُكُومَةٌ لِلْقَصَبَةِ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ حُكُومَةٌ؛ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قِصَاصٌ وَدِيَةٌ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيدَةَ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا الْجَانِي فِيهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي مَنْ قَطَعَ الْيَدَ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ أَوْ الْكَفِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي هَاهُنَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي نَظَائِرِهِ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، وَلَا يَصِحُّ التَّفْرِيقُ مَعَ التَّسَاوِي. وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ الْأَنْفِ، قُدِّرَ بِالْأَجْزَاءِ، وَأُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِنَا فِي الْأُذُنِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالْمِسَاحَةِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطْعِ جَمِيعِ أَنْفِ الْجَانِي لِصِغَرِهِ بِبَعْضِ أَنْفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِكِبَرِهِ، وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الْأَيْمَنُ بِالْأَيْمَنِ، وَالْأَيْسَرُ بِالْأَيْسَرِ، وَلَا يُؤْخَذُ أَيْمَنُ بِأَيْسَرَ، وَلَا أَيْسَرُ بِأَيْمَنَ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ بِالْحَاجِزِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ، لِانْتِهَائِهِ إلَى حَدٍّ. [مَسْأَلَةٌ الذَّكَرُ بِالذَّكَرِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالذَّكَرُ بِالذَّكَرِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِي الذَّكَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ، كَالْأَنْفِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ، وَالذَّكَرُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالصَّحِيحُ وَالْمَرِيضُ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ الْأَطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَذَلِكَ الذَّكَرُ. وَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَخْتُونِ وَالْأَغْلَفِ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْغُلْفَةَ زِيَادَةٌ تَسْتَحِقُّ إزَالَتَهَا، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 وَأَمَّا ذَكَرُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ، فَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْعِنِّينَ لَا يَطَأُ وَلَا يُنْزِلُ، وَالْخَصِيُّ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَا يُنْزِلُ، وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ، فَهُمَا كَالْأَشَلِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ الْكَامِلُ، كَالْيَدِ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُؤْخَذُ غَيْرُهُمَا بِهِمَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ صَحِيحَانِ، يَنْقَبِضَانِ وَيَنْبَسِطَانِ، وَيُؤْخَذُ بِهِمَا غَيْرُهُمَا، كَذَكَرِ الْفَحْلِ غَيْرِ الْعِنِّينِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ الْإِنْزَالِ لِذَهَابِ الْخُصْيَةِ، وَالْعُنَّةُ لَعِلَّةٍ فِي الظَّهْرِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الْقِصَاصِ بِهِمَا، كَأُذُنِ الْأَصَمِّ وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُؤْخَذُ ذَكَرُ الْفَحْلِ بِالْخَصِيِّ؛ لِتَحَقُّقِ نَقْصِهِ، وَالْإِيَاسِ مِنْ بُرْئِهِ. وَفِي أَخْذِهِ بِذَكَرِ الْعِنِّينِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُؤْخَذُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَيْئُوسٍ مِنْ زَوَالِ عُنَّتِهِ، وَلِذَلِكَ يُؤَجَّلُ سَنَةً، بِخِلَافِ الْخَصِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّهُ إذَا تَرَدَّدَتْ الْحَالُ بَيْن كَوْنِهِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ وَعَدَمِهِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، سِيَّمَا وَقَدْ حَكَمْنَا بِانْتِفَاءِ التَّسَاوِي، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عُنَّتِهِ، وَثُبُوتِ عَيْبِهِ. وَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ بِمِثْلِهِ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ. (6696) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ بَعْضُهُ بِبَعْضِهِ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَالرُّبْعُ بِالرُّبْعِ، وَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ. [مَسْأَلَةٌ الْأُنْثَيَانِ بِالْأُنْثَيَيْنِ] (6697) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأُنْثَيَانِ بِالْأُنْثَيَيْنِ) وَيَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّصِّ وَالْمَعْنَى. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، إنَّهُ مُمْكِنٌ أَخْذُهَا مَعَ سَلَامَةِ الْأُخْرَى جَازَ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْأُخْرَى. لَمْ تُؤْخَذْ خَشْيَةَ الْحَيْفِ، وَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ أُمِنَ تَلَفُ الْأُخْرَى، أُخِذَتْ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى بِالْيُسْرَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهِمَا. [فَصْلٌ الْقِصَاصِ فِي شَفْرَيْ الْمَرْأَةِ] (6698) فَصْلٌ: وَفِي الْقِصَاصِ فِي شَفْرَيْ الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 أَحَدُهُمَا: لَا قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَا مَفْصِلَ لَهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ، كَلَحْمِ الْفَخِذَيْنِ. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: فِيهِمَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَهُمَا مَعْرُوفٌ، فَأَشْبَهَا الشَّفَتَيْنِ وَجَفْنَيْ الْعَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ قَطَعَ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ شَفْرَيْهِ] (6699) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أَوْ أُنْثَيَيْهِ، أَوْ شَفْرَيْهِ، فَاخْتَارَ الْقِصَاصَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قِصَاصٌ فِي الْحَالِ، وَيَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْطُوعَ عُضْوٌ أَصْلِيٌّ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، وَكَانَ يُرْجَى انْكِشَافُ حَالِهِ، أَعْطَيْنَاهُ الْيَقِينَ، فَيَكُونُ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الْمَقْطُوعِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ جَمِيعَهَا، فَلَهُ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشَّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ يَئِسَ مِنْ انْكِشَافِ حَالِهِ، أُعْطِيَ نِصْفَ دِيَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَنِصْفَ دِيَةِ الشَّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةً فِي نِصْفِ ذَلِكَ كُلِّهِ. [فَصْلٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَلْيَتَيْنِ النَّاتِئَتَيْنِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَالظَّهْرِ بِجَانِبِيِّ الدُّبُرِ] (6700) فَصْلٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَلْيَتَيْنِ النَّاتِئَتَيْنِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَالظَّهْرِ بِجَانِبَيْ الدُّبُرِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمِ، فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ لَهُمَا حَدًّا يَنْتَهِيَانِ إلَيْهِ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهِمَا، كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ تُقْلَعُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ] (6701) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُقْلَعُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ، وَمِمَّنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَسْرُوقٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ. وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ الْمَرِيضَةِ، وَعَيْنُ الْكَبِيرِ بِعَيْنِ الصَّغِيرِ وَالْأَعْمَشِ، وَلَا تُؤْخَذُ صَحِيحَةٌ بِقَائِمَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 [فَصْلٌ قَلَعَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ] (6702) فَصْلٌ: فَإِنْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ. وَإِنْ لَطَمَهُ فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِاللَّطْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ انْفَرَدَتْ مِنْ إذْهَابِ الضَّوْءِ، لَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْبَصَرِ، فَيُعَالَجُ بِمَا يَذْهَبُ بِبَصَرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْلَعَ عَيْنَهُ، كَمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَدِمَ بِحَلُوبَةٍ لَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، فَسَاوَمَهُ فِيهَا مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَازَعَهُ، فَلَطَمَهُ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: هَلْ لَك أَنْ أُضَعِّفَ لَك الدِّيَةَ، وَتَعْفُوَ عَنْهُ؟ فَأَبَى، فَرَفَعَهُمَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَدَعَا عَلِيٌّ بِمِرْآةِ فَأَحْمَاهَا، ثُمَّ وَضَعَ الْقُطْنَ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ أَخَذَ الْمِرْآةَ بِكَلْبَتَيْنِ، فَأَدْنَاهَا مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ إنْسَانُ عَيْنِهِ. وَإِنْ وَضَعَ فِيهَا كَافُورًا يَذْهَبُ بِضَوْئِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى الْحَدَقَةِ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعُضْوِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْهُ بِاللَّطْمَةِ، فَيَلْطِمُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ لَطْمَتِهِ، فَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يُذْهِبَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ اللَّطْمَةَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا مُنْفَرِدَةً، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا إذَا سَرَتْ إلَى الْعَيْنِ، كَالشَّجَّةِ إنْ كَانَتْ دُونَ الْمُوضِحَةِ، وَلِأَنَّ اللَّطْمَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْعَيْنِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا بِمِثْلِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنْ إفْسَادِ الْعُضْوِ، فِي الْعَيْنِ فَمَعَ خَوْفِ ذَلِكَ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ الْآلَةِ الْمُعَدَّةِ كَالْمُوضِحَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ اللَّطْمَةُ تَذْهَبُ بِذَلِكَ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَذْهَبُ بِهِ غَالِبًا فَذَهَبَ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ لَا قِصَاصَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا يُفْضِي إلَى الْفَوَاتِ غَالِبًا، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْقِصَاصُ، كَشِبْهِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ اللَّطْمَةَ إذَا أَسَالَتْ إنْسَانَ الْعَيْنِ، كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجُرْحِ الْإِفْضَاءُ إلَى التَّلَفِ غَالِبًا. [فَصْلٌ لَطَمَ عَيْنَهُ فَذَهَبَ بَصَرُهَا وَابْيَضَّتْ وَشَخَصَتْ] (6703) فَصْلٌ: فَلَوْ لَطَمَ عَيْنَهُ، فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَابْيَضَّتْ، وَشَخَصَتْ، فَإِنْ أَمْكَنَ مُعَالَجَةُ عَيْنِ الْجَانِي حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهَا وَتَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ، مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى الْحَدَقَةِ، فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَهَابُ بَعْضِ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ الْبَصَرُ دُونَ أَنْ تَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِلَّذِي لَمْ يُمْكِنْ الْقِصَاصُ فِيهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ هَاشِمَةً، فَإِنَّهُ يَقْتَصُّ مُوضِحَةً، وَيَأْخُذُ أَرْشَ بَاقِي جُرْحِهِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا يُسْتَحَقُّ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا اقْتَصَّ مِنْهُ يَعْنِي لَطَمَهُ مِثْلَ لَطْمَتِهِ فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ، وَلَمْ تَبْيَضَّ، وَلَمْ تَشْخَصْ، فَإِنْ أَمْكَنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 مُعَالَجَتُهَا حَتَّى تَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ، مِنْ غَيْرِ ذَهَابِ الْحَدَقَةِ، فَعَلَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ انْدَمَلَتْ مُوضِحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَحْشَةً قَبِيحَةً، وَمُوضِحَةُ الْجَانِي حَسَنَةً جَمِيلَةً، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ اللَّطْمَةَ حَصَلَ بِهَا الْقِصَاصُ، كَمَا حَصَلَ بِجُرْحِ الْمُوضِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا. [فَصْلٌ شَجَّهُ شَجَّةً دُونَ الْمُوضِحَةِ فَأَذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِهِ الْقِصَاص] (6704) فَصْلٌ: وَإِنْ شَجَّهُ شَجَّة دُون الْمُوضِحَةِ، فَأَذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِهِ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مِثْلَ شَجَّتِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا إذَا لَمْ يَذْهَبْ ضَوْءُ الْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَ، وَيُعَالَجُ ضَوْءُ الْعَيْنِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي اللَّطْمَةِ. وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً. وَهَلْ لَهُ أَرْشُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْعَيْنِ، وَإِلَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ مَا يُزِيلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى الْحَدَقَةِ. وَإِنْ شَجَّهُ مُوضِحَةً، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا. وَحُكْمُ الْقِصَاصِ فِي الْبَصَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِصَاصِ فِي الْبَصَرِ، فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالسِّرَايَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إصْبَعَهُ، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى الَّتِي تَلِيهَا، فَأَذْهَبَهَا عِنْدهمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْقِصَاصُ هَاهُنَا، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنِ لَا تُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ، فَيَقْتَصُّ مِنْهُ بِالسِّرَايَةِ، كَالنَّفْسِ، فَيَقْتَصُّ مِنْ الْبَصَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا. [فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ الْقِصَاص] (6705) فَصْلٌ: إذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ، فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً. وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهُ الْقِصَاصُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَفَا، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ. وَلِأَنَّهَا إحْدَى شَيْئَيْنِ فِيهِمَا الدِّيَةُ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ مِمَّنْ لَهُ وَاحِدَةٌ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَ الْأَقْطَعِ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ، وَمَعَ التَّسْلِيمِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ يَدَ الْأَقْطَعِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْيَدَيْنِ فِي النَّفْعِ الْحَاصِلِ بِهِمَا، بِخِلَافِ عَيْنِ الْأَعْوَرِ، فَإِنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ بِالْعَيْنَيْنِ حَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، يَثْبُتُ فِي الْأَعْوَرِ مِثْلُهُ؛ وَلِهَذَا صَحَّ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ دُونَ الْأَقْطَعِ. فَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ كَامِلَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ عَنْهُ الْقِصَاصُ مَعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 إمْكَانِهِ لِفَضِيلَتِهِ، ضُوعِفَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا عَمْدًا. وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ إحْدَى عَيْنَيْ الصَّحِيحِ خَطَأً، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ؛ لِعَدَمِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِتَضْعِيفِ الدِّيَةِ. [فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ الْقِصَاص] (6706) فَصْلٌ: وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ، فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا. وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ جَمِيعُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَلَعَهَا خَطَأً، أَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ عَيْنَيْ صَحِيحٍ. [فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ الْقِصَاص] (6707) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْقِصَاصُ، فَلَمْ تَتَضَاعَفْ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدَ صَحِيحٍ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَقْتَضِي الْفِقْهُ أَنْ يَلْزَمَهُ دِيَتَانِ، إحْدَاهُمَا لِلْعَيْنِ الَّتِي تُقَابِلُ عَيْنَهُ، وَالدِّيَةُ الثَّانِيَة لِأَجْلِ الْعَيْنِ النَّاتِئَةِ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ أَعْوَرَ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَشَدُّ مُوَافَقَةً لِلنُّصُوصِ، وَأَصَحُّ فِي الْمَعْنَى. [فَصْلٌ قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ أَعْوَرَ الْقِصَاص] (6708) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ أَعْوَرَ، فَلَهُ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَخْذُ يَمِينٍ بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَدَلٌ، كَزِيَادَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الشَّلَّاءِ، هَذَا مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . [فَصْلٌ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ الْقِصَاصُ] فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قُطِعَتْ رِجْلُ الْأَقْطَعِ أَوْ يَدُهُ، فَلَهُ الْقِصَاصُ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ يَدَ الْأَقْطَعِ لَا تَقُومُ مَقَامَ يَدَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالْبَطْشِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْعِتْقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 بِخِلَافِ عَيْنِ الْأَعْوَرِ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ عَيْنَيْهِ جَمِيعًا وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ أَوَّلًا قُطِعَتْ ظُلْمًا أَوْ قِصَاصًا، فَفِي الْبَاقِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّه فَفِي الثَّانِيَةِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالثَّانِيَةُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنَافِعَهُ مِنْ الْعُضْوَيْنِ جُمْلَةً، وَأَمَّا إنْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَيْسَ بِأَقْطَعَ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ فِي يَدِ الْأَقْطَعِ دِيَةً كَامِلَةً فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ فِيهَا، وَاللَّائِقُ بِالْفِقْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَالتَّعْلِيلُ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوَيْنِ يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا قُطِعَتْ الْأُولَى قِصَاصًا، وَالْقِيَاسُ عَلَى عَيْنِ الْأَعْوَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ، فَأَمَّا إنْ قُطِعَتْ أُذُنُ مَنْ قُطِعَتْ إحْدَى أُذُنَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ قَطَعَ هُوَ أُذُنَ ذِي أُذُنَيْنِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ، لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ كُلِّ أُذُنٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى. [فَصْلٌ يُؤْخَذُ الْجَفْنُ بِالْجَفْنِ] (6710) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ الْجَفْنُ بِالْجَفْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ، لِانْتِهَائِهِ إلَى مَفْصِلٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ، بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلَامَةِ مِنْ النَّقْصِ، وَعَدَمُ الْبَصَرِ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ، لَا يَمْنَعُ أَخْذَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالْأُذُنِ إذَا عَدِمَ السَّمْعَ مِنْهَا. [مَسْأَلَةٌ السِّنُّ بِالسِّنِّ] (6711) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ لِلْآيَةِ وَحَدِيثِ الرُّبَيِّعِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهَا مُمْكِنٌ، لِأَنَّهَا مَحْدُودَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَالْعَيْنِ.، وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ بِالصَّحِيحَةِ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَهَلْ يَأْخُذُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشَ الْبَاقِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى. [فَصْلٌ لَا يُقْتَصُّ إلَّا مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ] (6712) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَصُّ إلَّا مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ، أَيْ سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ، ثُمَّ نَبَتَتْ، يُقَالُ لِمَنْ سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ: ثَغْرٌ، فَهُوَ مَثْغُورٌ، فَإِذَا نَبَتَتْ قِيلَ: أَثْغَرَ وَأُثْغَرَ. لُغَتَانِ، وَإِنْ قُلِعَ سِنُّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي فِي الْحَالِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا كَالشَّعْرِ، ثُمَّ إنَّ عَادَ بَدَلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 السِّنِّ فِي مَحَلِّهَا مِثْلُهَا عَلَى صِفَتِهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً ثُمَّ نَبَتَتْ، وَإِنْ عَادَتْ مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ مُتَغَيِّرَةً عَنْ صِفَتِهَا، كَانَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَعُدْ ضَمِنَ السِّنَّ، فَإِذَا عَادَتْ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَ. مِنْهَا بِالْحِسَابِ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي رُبْعِهَا رُبْعُهَا وَعَلَى هَذَا، وَإِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيلُ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ مَضَى زَمَنُ عَوْدِهَا وَلَمْ تَعُدْ، سُئِلَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَئِسَ مِنْ عَوْدِهَا. فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوْ دِيَةِ السِّنِّ، فَإِنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِيَاسِ مِنْ عَوْدِهَا، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْئِهِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ، وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ عَوْدِهَا، أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ عَوْدُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ فَمَاتَ قَبْلَ نَبَاتِهِ، فَأَمَّا إنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ لَهُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ عَوْدِهَا، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: لَا تَعُودُ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهَا إلَى وَقْتٍ ذَكَرُوهُ، لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، فَأَشْبَهَتْ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَعُدْ بَعْدُ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ عَادَتْ، لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ، لِأَنَّ هَذِهِ السِّنَّ لَا تَسْتَخْلِفُ عَادَةً، فَإِذَا عَادَتْ كَانَتْ هِبَةً مُجَدَّدَةً؛ وَلِذَلِكَ لَا يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا فِي الضَّمَانِ وَلَنَا، أَنَّهَا سِنٌّ عَادَتْ، فَسَقَطَ الْأَرْشُ، كَسِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ، وَنُدْرَةُ وُجُودِهَا لَا يَمْنَع ثُبُوتَ حُكْمِهَا إذَا وُجِدَتْ، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَخَذَ الْأَرْشَ، رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، لَمْ يَجُزْ قَلْعُ هَذِهِ قِصَاصًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعُدْوَانَ، وَإِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي دُونَ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، تُقْلَعُ، لِئَلَّا يَأْخُذَ سِنَّيْنِ بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] وَالثَّانِي، تُقْلَعُ وَإِنْ عَادَتْ مَرَّاتٍ، لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنَّهُ وَأَعْدَمَهَا، فَكَانَ لَهُ إعْدَامُ سِنِّهِ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ قَلَعَ سِنًّا فَاقْتَصَّ مِنْهُ ثُمَّ عَادَتْ سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَلَعَهَا الْجَانِي ثَانِيَةً] (6713) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَتْ سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَقَلَعَهَا الْجَانِي ثَانِيَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمَّا عَادَتْ، وَجَبَ لِلْجَانِي عَلَيْهِ دِيَةُ سِنِّهِ، فَلَمَّا قَلَعَهَا، وَجَبَ عَلَى الْجَانِي دِيَتُهَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَقَدْ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ سِنٍّ، فَيَتَقَاصَّانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 [مَسْأَلَةٌ الْقِصَاصَ جَارٍ فِي بَعْضِ السِّنِّ] (6714) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَهَا، بَرَدَ مِنْ سِنِّ الْجَانِي مِثْلَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ جَارٍ فِي بَعْضِ السِّنِّ لِأَنَّ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ، جَرَى فِي بَعْضِهِ إذَا أَمْكَنَ كَالْأُذُنِ، فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَكُلُّ جُزْءٍ بِمِثْلِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالْمِسَاحَةِ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى أَخْذِ جَمِيعِ سِنِّ الْجَانِي بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ، لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، فَإِنَّا لَوْ أَخَذْنَاهَا بِالْكَسْرِ، لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَنْصَدِعَ، أَوْ تَنْقَلِعَ، أَوْ تَنْكَسِرَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْقِصَاصِ، وَلَا يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّهُ يُؤْمَنُ انْقِلَاعُهَا، أَوْ السَّوَادُ فِيهَا لِأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فِي الْأَعْضَاءِ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجَزْتُمْ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ تَوَهُّمِ سِرَايَتهَا إلَى النَّفْسِ، فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْهُ لِتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ إلَى بَعْضِ الْعُضْوِ؟ قُلْنَا: وَهْمُ السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَرُّزِ مِنْهُ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْمَنْعِ، لَسَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَأَمَّا السِّرَايَةُ إلَى بَعْضِ الْعُضْوِ، فَتَارَةً نَقُولُ إنَّمَا مَنَعَ الْقِصَاصَ فِيهَا احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْفِعْلِ، لَا فِي السِّرَايَةِ، مِثْلُ مَنْ يَسْتَوْفِي بَعْضَ الذِّرَاعِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْثَرَ مِمَّا فُعِلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ سِنًّا وَلَمْ يَصْدَعْهَا، فَكَسَرَ الْمُسْتَوْفِي سِنَّهُ وَصَدَعَهَا، أَوْ قَلَعَهَا، أَوْ كَسَرَ أَكْثَرَ مِمَّا كَسَرَ، فَقَدْ زَادَ عَلَى الْمِثْلِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ، وَتَارَةً نَقُولُ: إنَّ السِّرَايَةَ فِي بَعْضِ الْعُضْوِ إنَّمَا تَمْنَعُ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَمِثْلُ هَذَا يَمْنَعُ فِي النَّفْسِ، وَلِهَذَا مَنَعْنَاهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، أَوْ مَسْمُومَةٍ، وَفِي وَقْتِ إفْرَاطِ الْحَرَارَةِ أَوْ الْبُرُودَةِ، تَحَرُّزًا مِنْ السِّرَايَة. [فَصْلٌ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً] (6715) فَصْلٌ: وَمَنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً وَهِيَ الَّتِي تَنْبُتُ فَضْلَةً فِي غَيْرِ سَمْتِ الْأَسْنَانِ، خَارِجَةً عَنْهَا، إمَّا إلَى دَاخِلِ الْفَمِ، وَإِمَّا إلَى الشَّفَةِ، وَكَانَتْ لِلْجَانِي مِثْلُهَا فِي مَوْضِعهَا، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، الْقِصَاصُ، أَوْ أَخْذُ حُكُومَةٍ فِي سِنِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهَا فِي مَحَلِّهَا، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الزَّائِدَتَيْنِ أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا لَا تُؤْخَذُ الْكُبْرَى بِالصُّغْرَى، لِأَنَّ الْحُكُومَةَ فِيهَا أَكْبَرُ، فَلَا يُقْلَعُ بِهَا مَا هُوَ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْهَا وَالثَّانِي، تُؤْخَذُ بِهَا، لِأَنَّهُمَا سِنَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَوْضِعِ، فَتُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 كَالْأَصْلِيَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] عَامٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ الْقِيَاسُ فِي الزَّائِدَتَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ، فَالثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَاخْتِلَافُ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، بِدَلِيلِ جَرَيَانِهِ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ، عَلَى أَنَّ كِبَرَ السِّنِّ لَا يُوجِبُ كَثْرَةُ قِيمَتِهَا، فَإِنَّ السِّنَّ الزَّائِدَةَ نَقْصٌ وَعَيْبٌ، وَكَثْرَةُ الْعَيْبِ زِيَادَةٌ فِي النَّقْصِ، لَا فِي الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ كِبَرَ السِّنِّ الْأَصْلِيَّةِ لَا يَزِيدُ قِيمَتَهَا، فَالزَّائِدَةُ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ الْقِصَاصُ] (6716) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَلَا يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ الْأَخْرَسُ بِالنَّاطِقِ، لِأَنَّهُ بَعْضُ حَقِّهِ، وَيُؤْخَذُ بَعْضُ اللِّسَانِ بِبَعْضٍ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِي جَمِيعِهِ، فَأَمْكَنَ فِي بَعْضِهِ، كَالسِّنِّ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِالْحِسَابِ [فَصْلٌ تُؤْخَذُ الشَّفَةُ بِالشَّفَةِ الْقِصَاصُ] (6717) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الشَّفَةُ بِالشَّفَةِ وَهِيَ مَا جَاوَزَ الذَّقَنَ وَالْخَدَّيْنِ عُلْوًا وَسُفْلًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ فَوَجَبَ، كَالْيَدَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ لَا تُؤْخَذُ يَدٌ يَمِينٌ بِيَسَارٍ الْقِصَاصُ] (6718) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ، وَلَا يَسَارٌ بِيَمِينٍ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَشَرِيكٍ أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَالْمَنْفَعَةِ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَخْتَصُّ بَاسِمٍ، فَلَا تُؤْخَذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَالْيَدِ مَعَ الرِّجْلِ. فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا انْقَسَمَ إلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْأَلْيَتَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، لَا تُؤْخَذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى (6719) فَصْلٌ: وَمَا انْقَسَمَ إلَى أَعْلَى وَأَسْفَلِ، كَالْجَفْنَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ، لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ، وَلَا الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا تُؤْخَذُ إصْبَعٌ بِإِصْبَعِ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الِاسْمِ وَالْمَوْضِعِ، وَلَا تُؤْخَذُ أُنْمُلَةٌ بِأُنْمُلَةِ، إلَّا أَنَّ يَتَّفِقَا فِي ذَلِكَ، وَلَا تُؤْخَذُ عُلْيَا بِسُفْلَى وَلَا وُسْطَى، وَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لَا تُؤْخَذَانِ بِغَيْرِهِمَا، وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ بِالسِّنِّ إلَّا أَنْ يُتَّفَقَ مَوْضِعُهُمَا وَاسْمُهُمَا. وَلَا تُؤْخَذُ إصْبَعٌ وَلَا سِنٌّ أَصْلِيَّةٌ بِزَائِدَةِ، وَلَا زَائِدَةٌ بِأَصْلِيَّةٍ، وَلَا زَائِدَةٌ بِزَائِدَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ قِصَاصًا] (6720) فَصْلٌ: وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ قِصَاصًا، لَا يَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالِاسْتِبَاحَةِ وَالْبَذْلِ، وَلِذَلِكَ لَوْ بَذَلَهَا لَهُ ابْتِدَاءً، لَا يَحِلُّ أَخْذُهَا، وَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ قَتْلُ نَفْسِهِ، وَلَا قَطْعُ طَرَفِهِ، فَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ بِبَذْلِهِ، فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى، فَقَطَعَهَا الْمُقْتَصُّ، سَقَطَ الْقَوَدُ، لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ فِي الْأُولَى بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فِي قَطْعِهَا، وَدِيَاتُهُمَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَوْ قَطَعَ الْمُقْتَصُّ الْيَدَ الْأُخْرَى عُدْوَانًا، لَسَقَطَ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْأَلَمِ وَالدِّيَةِ وَالِاسْمِ، فَتُقَاصَّا وَتَسَاقَطَا، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذْهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَإِلْحَاقِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِمَا جَمِيعًا. وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوُضُوحِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَطْعَيْنِ مَضْمُونٌ بِسِرَايَتِهِ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ أَخَذَهَا عُدْوَانًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِتَرَاضِيهِمَا، فَلَا قِصَاصَ فِي الثَّانِيَةِ، لِرِضَا صَاحِبِهَا بِبَذْلِهَا، وَإِذْنِهِ فِي قَطْعِهَا، وَفِي وُجُوبِهِ فِي الْأُولَى وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، لَا يَسْقُطُ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتَرْكِهِ بِعِوَضٍ لَمْ يَثْبُتْ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى حَقِّهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِخَمْرٍ وَقَبَّضَهُ إيَّاهُ. فَعَلَى هَذَا، لَهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتَصُّ إلَّا بَعْدَ انْدِمَال الْأُخْرَى، وَلِلْجَانِي دِيَةُ يَدِهِ، فَإِذَا وَجَبَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دِيَةُ يَدِهِ، وَكَانَتْ الدِّيَتَانِ وَاحِدَةً، تَقَاصَّا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى، كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ لِصَاحِبِهِ. [فَصْلٌ طَلَب الْمُقْتَصُّ مِنْ الْجَانِي إخْرَاجَ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ الْيُسْرَى] (6721) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ الْمُقْتَصُّ لِلْجَانِي: أَخْرِجْ يَمِينَك لِأَقْطَعْهَا. فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ يُجْزِئُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا عَالِمًا بِهَا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ إنْ أَخْرَجَهَا عَمْدًا عَالِمًا بِأَنَّهَا يَسَارُهُ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاطِعِهَا وَلَا قَوَدَ. لِأَنَّهُ بَذَلَهَا بِإِخْرَاجِهِ لَهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، وَقَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 فِي ذَلِكَ مَقَامَ النُّطْقِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: خُذْ هَذَا فَكُلْهُ، وَبَيْنَ اسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَيُعْطِيه إيَّاهُ، وَيُفَارِقُ هَذَا مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْبَذْلُ، وَيُنْظَرُ فِي الْمُقْتَصِّ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِالْحَالِ عُزِّرَ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الْيَمِينِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ، لِأَنَّ قَاطِعَ الْيَسَارِ تَعَدَّى بِقَطْعِهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ قَطْعَ الْيَدِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى مَكَانَ يَمِينِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَطْعَ يَمِينِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَقَطْعِ السَّارِقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَالثَّانِي، أَنَّ الْيَسَارَ لَا تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ عَدِمَتْ يَمِينُهُ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ فِي الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْيَدَ لَوْ سَقَطَتْ بِأَكَلَةٍ أَوْ قِصَاصٍ سَقَطَ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِقَطْعِ الْيَسَارِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَيَنْتَقِلُ إلَى الْبَدَلِ، لَكِنْ لَا تُقْطَعُ يَمِينُهُ حَتَّى تَنْدَمِلَ يَسَارُهُ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى ذَهَابِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ وَيَسَارَ آخَرَ، لَمْ يُؤَخَّرْ أَحَدُهُمَا إلَى انْدِمَالِ الْآخَرِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَيْنِ مُسْتَحَقَّانِ قِصَاصًا؛ فَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَلَمْ نَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا انْدَمَلَتْ الْيَسَارُ قَطَعْنَا الْيَمِينَ، فَإِنْ سَرَى قَطْعُ الْيَسَارِ إلَى نَفْسِهِ، كَانَتْ هَدْرًا، وَيَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ دِيَةُ الْيَمِينِ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهَا بِمَوْتِهِ. وَإِنْ قَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا الْيَسَارُ، أَوْ ظَنَنْت أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ الْيَمِينِ، نَظَرْت فِي الْمُسْتَوْفِي، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا يَسَارُهُ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ قِصَاصًا، ضَمِنَهَا بِدِيَتِهَا وَيُعَزَّرُ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ قَطَعَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَطْعُهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ قَطَعَهَا بِبَذْلِ صَاحِبِهَا، فَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ بَاذِلُهَا. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ، لِأَنَّهُ بَذَلَهَا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ عَالِمًا بِهَا، وَمَا وَجَبَ ضَمَانُهُ فِي الْعَمْدِ، وَجَبَ فِي الْخَطَأ، كَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصُ بَاقٍ لَهُ فِي الْيَمِينِ، وَلَا تُقْطَعُ حَتَّى تَنْدَمِلَ الْيَسَارُ، فَإِذَا انْدَمَلَتْ، فَلَهُ قَطْعُ الْيَمِينِ، فَإِنْ عَفَا، وَجَبَ بَدَلُهَا، وَيَتَقَاصَّانِ، وَإِنْ سَرَتْ الْيَسَارُ إلَى نَفْسِهِ، كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ قَطْعُ الْيَمِينِ، وَوَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَيَتَقَاصَّانِ بِهِ، وَيَبْقَى نِصْفُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْجَانِي. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَذْلِهَا فَقَالَ الْجَانِي: إنَّمَا بَذَلْتهَا بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَذَلْتهَا فِي غَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ قَالَ: أَخْرَجْتهَا دَهْشَةً، فَقَالَ: بَلْ عَالِمًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْذُلُ طَرَفَهُ لِلْقَطْعِ تَبَرُّعًا، مَعَ أَنَّ عَلَيْهِ قَطْعًا مُسْتَحَقًّا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْيَسَارِ مَجْنُونًا مِثْلَ أَنْ يُجَنَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، فَعَلَى قَاطِعِهَا ضَمَانُهَا بِالْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَالِمًا، وَبِالدِّيَةِ إنْ كَانَ مُخْطِئًا لِأَنَّ بَذْلَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِشُبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مَجْنُونًا وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عَاقِلًا، فَأَخْرَجَ إلَيْهِ يَسَارَهُ أَوْ يَمِينِهِ فَقَطَعَهَا ذَهَبَتْ هَدْرًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ، وَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ لَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِبَذْلِ صَاحِبِهَا، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا لِتَلَفِهَا، فَيَكُونُ لِلْمَجْنُونِ دِيَتُهَا. وَإِنْ وَثَبَ الْمَجْنُونُ عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهَا، وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الْأُخْرَى، وَإِنْ قَطَعَ الْأُخْرَى، فَهُوَ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا قَهْرًا، سَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ وَدِيعَتَهُ، وَالثَّانِي، لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَهُ عَقْلُ يَدِهِ، وَعَقْلُ يَدِ الْجَانِي عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ إذَا أَتْلَفْهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَيْسَ لَهَا بَدَلٌ إذَا تَلِفَتْ بِذَلِكَ، وَالْيَدُ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِمَا إذَا قَتَلَا قَاتِلَ أَبِيهِمَا عَمْدًا، وَإِنْ اقْتَصَّا مِنْ الْجَانِي مَا لَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ، كَمَا دُونَ الثُّلُثِ، كَقَطْعِ إصْبَعٍ وَنَحْوِهَا، سَقَطَ حَقُّهُمَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الدِّيَةَ فِي ذِمَّتِهِمَا، وَلَهُمَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَتَقَاصَّانِ، وَإِنْ كَانَتْ دِيَتُهُمَا مُخْتَلِفَةً، كَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَكُونَانِ مُسْتَوْفِيَيْنِ، لِحَقِّهِمَا بِالْقَطْعِ، لَمْ يَبْقَ لَهُمَا حَقٌّ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَا وَدِيعَتَهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونَانِ مُسْتَوْفِيَيْنِ، يُقَاصُّ مِنْ الدِّيَتَيْنِ بِقَدْرِ الْأَدْنَى مِنْهُمَا، وَوَجَبَ الْفَضْلُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهِمَا خَطَأً تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَاسْتَوْفَيَا الْقِصَاصَ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمَا، وَجْهًا وَاحِدًا، وَكَانَتْ دِيَةُ مَنْ اسْتَوْفَيَا مِنْهُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا مُؤَجَّلَةً، وَدِيَةُ الْجِنَايَة عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهِمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً. [فَصْلٌ سِرَايَةُ الْقَوَدِ لَيْسَ لَهَا ضَمَانُ] (6722) فَصْلٌ: وَسِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفًا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي بِسِرَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَوْفِيَ شَيْءٌ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا طَرَفَهُ فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهُ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَلِأَنَّهَا سِرَايَةُ قَطْعٍ مَضْمُونٍ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً، كَسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ، أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَا: مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَا دِيَةَ لَهُ، الْحَقُّ قَتَلَهُ رَوَاهُ سَعِيدٌ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ، فَلَا تُضْمَنَ سِرَايَتُهُ، كَقَطْعِ السَّارِقِ. وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا فَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ سِرَايَتِهِ إلَى النَّفْسِ، بِأَنْ يَمُوتَ مِنْهَا، أَوْ إلَى مَا دُونَهَا، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ إصْبَعًا فَتَسْرِيَ إلَى كَفِّهِ. [فَصْلٌ سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ] (6723) فَصْلٌ: وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ، فَكَذَلِكَ أَثَرُهَا. ثُمَّ إنْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْإِتْلَافِ، مِثْلَ أَنْ يُهَشِّمَهُ فِي رَأْسِهِ فَيَذْهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَفِي ضَوْءِ الْعَيْنِ خِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْإِتْلَافِ، مِثْلَ إنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَتَآكَلَتْ أُخْرَى وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ أَيْضًا، فِي قَوْلِ إمَامِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا قِصَاصَ فِي الثَّانِيَةِ، وَتَجِبُ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ بِالسِّرَايَةِ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا فَمَرَقَ مِنْهُ إلَى آخَرَ. وَلَنَا، أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ، كَالنَّفْسِ وَضَوْءِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا، وَفَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ وَلَيْسَ بِسِرَايَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ضَرْبَ رَجُلٍ فَأَصَابَ آخَرَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَصَدَ قَطْعَ إبْهَامِهِ فَقَطَعَ سَبَّابَتَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوْ ضَرَبَ إبْهَامَهُ فَمَرَقَ إلَى سَبَّابَتِهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَلِفَتْ بِفِعْلٍ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا، كَمَا لَوْ رَمَى إحْدَاهُمَا فَمَرَقَ إلَى الْأُخْرَى. فَأَمَّا إنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَشُلَّتْ إلَى جَانِبِهَا أُخْرَى، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْمَقْطُوعَةِ وَحَسْبُ وَالْأَرْشُ فِي الشَّلَّاءِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا قِصَاصَ فِيهِمَا وَيَجِبُ أَرْشُهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ حُكْمَ السِّرَايَةِ لَا يَنْفَرِدُ عَنْ الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي إحْدَاهُمَا، لَمْ يَجِبْ فِي الْأُخْرَى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 وَلَنَا أَنَّهَا جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ لَوْ لَمْ تَسْرِ، فَأَوْجَبَتْهُ إذَا سَرَتْ، كَاَلَّتِي تَسْرِي إلَى سُقُوطِ أُخْرَى، وَكَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ حُبْلَى فَسَرَى إلَى جَنِينِهَا. وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ. وَفَارَقَ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْقِصَاصِ، كَاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ لَهُ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَوَجَبَ فِي النَّفْسِ، فَخَالَفَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ حُكْمَ السِّرَايَةِ، فَسَقَطَ مَا قَالَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ فِي مَالِهِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، لِأَنَّهُ جِنَايَةُ عَمْدٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَطْعِ وَالشَّلَلِ، فَإِذَا قَطَعَ إصْبَعَهُ فَشُلَّتْ أَصَابِعُهُ الْبَاقِيَةُ وَكَفُّهُ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ الْإِصْبَعِ، فَلَهُ فِي الْأَصَابِعِ الْبَاقِيَةِ أَرْبَعُونَ مِنْ الْإِبِلِ، وَيَتْبَعُهَا مَا حَاذَاهَا مِنْ الْكَفِّ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، فَيَدْخُلُ أَرْشُهُ فِيهَا، وَيَبْقَى خُمْسُ الْكَفِّ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَتْبَعُهَا فِي الْأَرْشِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَالثَّانِي، فِيهِ الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْأَرْبَعَ تَبِعَهَا فِي الْأَرْشِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَحُكْمُ الَّتِي اقْتَصَّ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَرْشِ، فَلَمْ يَتْبَعْهَا. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ] (6724) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الِانْتِظَارَ بِالْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ قَبْلَ الْبُرْءِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا: إنَّهُ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ، يَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَلَوْ سَأَلَ الْقَوَدَ سَاعَةَ قُطِعَتْ إصْبَعُهُ، أَقَدْتُهُ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِدْنِي. قَالَ: حَتَّى تَبْرَأَ. فَأَبَى، وَعَجَّلَ، فَاسْتَقَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَيِيَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقِيدِ، وَبَرَأَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ لَك شَيْءٌ عَجَّلَتْ» رَوَاهُ سَعِيدٌ مُرْسَلًا. وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ الطَّرَفِ لَا يَسْقُطُ بِالسِّرَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ بَرَأَ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يُسْتَقَادَ مِنْ الْجُرُوحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ.» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ الْجُرْحَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 لَا يُدْرَى أَقَتْلٌ هُوَ أَمْ لَيْسَ بِقَتْلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ لِيُعْلَمَ مَا حُكْمُهُ؟ فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي سِيَاقِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَجْت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي، فَأَبْعَدَك اللَّهُ، وَبَطَلَ عَرَجُك ". ثُمَّ نَهَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الِاقْتِصَاصِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ. وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقَادَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ مَعْصِيَةٌ؛ لِقَوْلِهِ: " قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي ". وَمَا ذَكَرُوهُ مَمْنُوعٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ. [فَصْلٌ اقْتَصَّ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ] (6725) فَصْلٌ: فَإِنْ اقْتَصَّ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، هُدِرَتْ سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: بَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّهَا سِرَايَةُ جِنَايَةٍ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يُقْتَصَّ. وَلَنَا، الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ، فَبَطَلَ حَقُّهُ، كَقَاتِلِ مَوْرُوثِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ لَمْ يَقْتَصَّ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ سَرَى الْقَطْعَانِ جَمِيعًا، فَمَاتَ الْجَانِي وَالْمُسْتَوْفِي، فَهُمَا هَدْرٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ ضَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ سِرَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونَةٌ، ثُمَّ يَتَقَاصَّانِ فَيَسْقُطَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي، كَانَ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعِ، فَقَدْ مَاتَ بِفِعْلِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ الْجَانِي، فَكَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يَكُونُ مَوْتُ الْجَانِي هَدْرًا، وَلِوَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. فَأَمَّا إنْ سَرَى أَحَدُ الْقَطْعَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ، فَعِنْدَنَا هُوَ هَدْرٌ، لَا ضَمَانَ فِيهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَجِبُ ضَمَانُ سِرَايَتِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، إنْ سَرَتْ الْجِنَايَةُ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ، وَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ، لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ. وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ. [فَصْلٌ انْدَمَلَ جُرْحُ الْجِنَايَةِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ انْتَقَضَ فَسَرَى] (6726) فَصْلٌ: وَإِنْ انْدَمَلَ جُرْحُ الْجِنَايَةِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، ثُمَّ انْتَقَضَ فَسَرَى، فَسِرَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ، وَسِرَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَّ بَعْدَ جَوَازِ الِاقْتِصَاصِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، فَبَرَأَ، فَاقْتُصَّ، ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَمَاتَ، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْجَانِي، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بِالْقَطْعِ مَا قِيمَتُهُ دِيَةٌ، وَهُوَ يَدَاهُ، وَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ، لَمْ يَجِبْ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَالدِّيَةُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بِالْجِنَايَةِ يَدًا، فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ إلَى نِصْفِ الدِّيَةِ، وَمَتَى سَقَطَ الْقِصَاصُ بِمَوْتِ الْجَانِي أَوْ غَيْرِهِ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، أَوْ مَالِهِ إنْ كَانَ حَيًّا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 [فَصْلٌ قَطَعَ كِتَابِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ فَبَرَأَ أَوْ اقْتَصَّ ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحَ الْمُسْلِمِ فَمَاتَ] (6727) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ كِتَابِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ، فَبَرَأَ أَوْ اقْتَصَّ، ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحُ الْمُسْلِمِ فَمَاتَ، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْكِتَابِيِّ، وَالْعَفْوُ إلَى أَرْشِ الْجُرْحِ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدِهِ بِالْقِصَاصِ، وَبَدَلُهَا نِصْفُ دِيَتِهِ، فَبَقِيَ لَهُ نِصْفُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ مُسْلِمًا. وَالثَّانِي، لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْيَهُودِيِّ تَعْدِلُ نِصْفَ دِيَتِهِ، وَذَلِكَ رُبْعُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَقَدْ اسْتَوْفَى رُبْعَ دِيَتِهِ، وَبَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا. وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَيْ الْمُسْلِمِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ، فَعَفَا وَلِيُّهُ إلَى مَالٍ، انْبَنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ إنَّ قُلْنَا: تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْيَهُودِيِّ. فَلَهُ هَاهُنَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَدِ الْمُسْلِمِ. فَلَا شَيْءَ لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدَيْهِ، وَهُمَا جَمِيعُ دِيَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَعَفَا إلَى الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ دِيَةَ ذَلِكَ دِيَةُ مُسْلِمٍ. وَلَوْ كَانَ الْجَانِي امْرَأَةً عَلَى رَجُلٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ دِيَتَهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْكُوعِ ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ فَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمَا] (6728) فَصْلٌ: إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ، فَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمَا، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْقَاطِعَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَيْهِمَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، لَهُ قَطْعُ يَدِ الْقَاطِعِ مِنْ الْكُوعِ. فَإِنْ قَطَعَهَا، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ مَقْطُوعَةً مِنْ الْكُوعِ، فَقَطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ، ثُمَّ عَفَا، فَلَهُ دِيَةٌ، إلَّا قَدْرَ الْحُكُومَةِ فِي الذِّرَاعِ. وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ مِنْ الْمَرْفِقِ صَحِيحَةً، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ صَحِيحَةً بِمَقْطُوعَةٍ. وَإِنْ قَطَعَ أَيْدِيَهُمَا، وَهُمَا صَحِيحَتَانِ، أَوْ قَطَعَ رَجُلَانِ يَدَيْهِ، فَقَطَعَ يَدَيْهِمَا، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ، فَمَاتَ مِنْ قَطْعِهِمَا، فَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مَا قِيمَتُهُ دِيَةٌ. وَإِنْ اخْتَارَ قَتْلَهُمَا، فَلَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ قَبْلَ وَضْعِهَا] (6729) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ قَبْلَ وَضْعِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الْجِنَايَة، أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَهَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوْ فِي الطَّرَفِ؛ أَمَّا فِي النَّفْسِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . وَقَتْلُ الْحَامِلِ قَتْلٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، فَيَكُونُ إسْرَافًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، قَالَ: ثنا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 الْجَرَّاحِ، وَعُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، قَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ عَمْدًا، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا، وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا، وَإِنْ زَنَتْ، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا» وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ الْمُقِرَّةِ بِالزِّنَى: «ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك. ثُمَّ قَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ» . وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، فَلِأَنَّنَا مَنَعْنَا الِاسْتِيفَاءَ فِيهِ خَشْيَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْجَانِي، أَوْ إلَى زِيَادَةٍ فِي حَقِّهِ، فَلَأَنْ تُمْنَعَ مِنْهُ خَشْيَةَ السِّرَايَةِ إلَى غَيْرِ الْجَانِي، وَتَفْوِيتِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ، أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ مِنْهَا قَتْلًا لِغَيْرِ الْجَانِي، وَهُوَ حَرَامٌ. وَإِذَا وَضَعَتْ، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَسْقِيَ الْوَلَدَ اللِّبَأَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ فِي الْغَالِبِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَنْ يُرْضِعُهُ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا حَتَّى يَجِيءَ أَوَانُ فِطَامِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أُخِّرَ الِاسْتِيفَاءُ لَحِفْظِهِ وَهُوَ حَمْلٌ، فَلَأَنْ يُؤَخَّرَ لِحِفْظِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَكُونَ الْغَالِبُ بَقَاءَهَا، وَعَدَمَ ضَرَرِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا، فَيُسْتَوْفَى. وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مُرْضِعَةٌ رَاتِبَةٌ، جَازَ قَتْلُهَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي بِلَبَنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً، أَوْ جَمَاعَةً يَتَنَاوَبْنَهُ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُسْقَى مِنْ لَبَنِ شَاةٍ أَوْ نَحْوِهَا، جَازَ قَتْلُهَا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ تَأْخِيرُهَا؛ لِمَا عَلَى الْوَلَدِ، مِنْ الضَّرَرِ، لِاخْتِلَافِ اللَّبَنِ عَلَيْهِ، وَشُرْبِ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ (6730) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَتْ الْحَمْلَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تُحْبَسُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا؛ لِأَنَّ لِلْحَمْلِ أَمَارَاتٌ خَفِيَّةً، تَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْتَاطَ لِلْحَمْلِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ انْتِفَاءُ مَا ادَّعَتْهُ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ، كَالْحَيْضِ. وَالثَّانِي، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، أَنَّهَا تُرَى أَهْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِحَمْلِهَا أُخِّرَتْ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهَا لَمْ تُؤَخَّرْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ حَالٌ عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَخَّرُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا. [فَصْلٌ اقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ] (6731) فَصْلٌ: وَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَخْطَأَ السُّلْطَانُ الَّذِي مَكَّنَهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَعَلَيْهِمَا الْإِثْمُ إنْ كَانَا عَالِمَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ، وَإِنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا أَوْ فَرَّطَ، فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ لَمْ تُلْقِ الْوَلَدَ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ وُجُودَهُ وَحَيَاتَهُ، وَإِنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا لَوَقْتٍ لَا يَعِيشُ فِي مِثْلِهِ، فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِنْ انْفَصَلَ حَيًّا لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ، وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ. وَعَلَى مَنْ يَجِبُ ضَمَانُهُ؟ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ عَالِمَيْنِ بِالْحَمْلِ وَتَحْرِيمِ الِاسْتِيفَاءِ، أَوْ جَاهِلَيْنِ بِالْأَمْرَيْنِ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا، أَوْ كَانَ الْوَلِيُّ عَالِمًا بِذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 دُونَ الْمُمَكَّنِ لَهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ، وَالْحَاكِمُ الْمُمَكِّنُ لَهُ صَاحِبُ سَبَبٍ، وَمَتَى اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ مَعَ الْمُتَسَبِّبِ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُتَسَبِّبِ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ، وَإِنْ عَلِمَ الْحَاكِمُ دُونَ الْوَلِيِّ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ مَعْذُورٌ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ، كَالسَّيِّدِ إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِالْقَتْلِ، وَالْعَبْدُ أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ، وَكَشُهُودِ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا وَحْدَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ، وَالْوَلِيُّ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى حُكْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ، كَمَا لَوْ كَانَا عَالِمَيْنِ. وَالثَّانِي، عَلَى الْوَلِيِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ، وَالسَّبَبُ، غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ، وَكَمَا لَوْ أَمَرَ مِنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ بِهِ فَقَتَلَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْقَاطِعُ سَالِمَ الطَّرَفِ وَالْمَقْطُوعَةُ شَلَّاءُ] (6732) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ سَالِمَ الطَّرَفِ، وَالْمَقْطُوعَةُ شَلَّاءُ، فَلَا قَوَدَ) لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ بِوُجُوبِ قَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ لِسَانٍ صَحِيحٍ بِأَشَلَّ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى بِاسْمِ صَاحِبِهِ، فَيُؤْخَذُ بِهِ كَالْأُذُنَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّلَّاءَ لَا نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعُ، كَالصَّحِيحَةِ لَا تُؤْخَذُ بِالْقَائِمَةِ، وَمَا ذُكِرَ لَهُ قِيَاسٌ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْقِصَاصَ فِي الْعَيْنَيْنِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . لِأَجْلِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْعَمَى، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ قَطَعَ أُذُنًا شَلَّاءَ أَوْ أَنْفًا أَشَلَّ فَهَلْ يُؤْخَذُ بِهِ الصَّحِيحُ] (6733) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أُذُنًا شَلَّاءَ، أَوْ أَنْفًا أَشَلَّ، فَهَلْ يُؤْخَذُ بِهِ الصَّحِيحُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يُؤْخَذُ بِهِ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَالثَّانِي، يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَذْهَبُ بِشَلَلِهِ، فَإِنَّ نَفْعَ الْأُذُنِ جَمْعُ الصَّوْتِ، وَرَدُّ الْهَوَامِّ، وَسَتْرُ مَوْضِعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 السَّمْعِ، وَنَفْعَ الْأَنْفِ جَمْعُ الرِّيحِ، وَرَدُّ الْهَوَاءِ أَوْ الْهَوَامِّ، فَقَدْ سَاوَى الصَّحِيحَ فِي الْجَمَالِ وَالنَّفْعِ، فَوَجَبَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، كَالصَّحِيحِ بِالصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ لَا تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْقِصَاصِ] (6734) فَصْلٌ: وَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ يَدَ مَنْ لَهُ أَرْبَعٌ أَوْ ثَلَاثٌ، أَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ يَدَ مَنْ لَهُ ثَلَاثٌ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إذَا قَطَعَ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ. وَإِنْ قَطَعَ ذُو الْيَدِ الْكَامِلَةِ يَدًا فِيهَا إصْبَعٌ شَلَّاءُ وَبَاقِيهَا صِحَاحٌ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الصَّحِيحَةِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْذُ كَامِلٍ بِنَاقِصِ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ الْأَصَابِعِ الصِّحَاحِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ. فَلَهُ الْحُكُومَةُ فِي الشَّلَّاءِ، وَأَرْشُ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْكَفِّ. وَهَلْ يَدْخُلُ مَا تَحْتَ الْأَصَابِعِ الصِّحَاحِ فِي قِصَاصِهَا، أَوْ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ قَطَعَ الْيَدَ الْكَامِلَةَ ذُو يَدٍ فِيهَا إصْبَعٌ زَائِدٌ الْقِصَاصُ] (6735) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ الْكَامِلَةَ ذُو يَدٍ فِيهَا إصْبَعٌ زَائِدٌ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الْمَعْنَى، يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُودُهَا الْقِصَاصَ مِنْهَا، كَالسِّلْعَةِ فِيهَا وَالْخُرَاجِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ. فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَيْضًا إصْبَعٌ زَائِدَةٌ فِي مَحَلِّ الزَّائِدَةِ مِنْ الْجَانِي، وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ، لَمْ تُؤْخَذْ يَدُ الْجَانِي. وَهَلْ يَمْلِكُ قَطْعَ الْإِصْبَعِ؟ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَتْ الزَّائِدَةُ مُلْصَقَةً بِأَحَدِ الْأَصَابِعِ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ تِلْكَ الْأَصَابِعِ، لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا إضْرَارًا بِالزَّائِدَةِ. وَهَلْ لَهُ قَطْعُ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلْصَقَةً بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَهَلْ لَهُ قَطْعُ الْخَمْسِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ الزَّائِدَةُ ثَابِتَةً فِي إصْبَعٍ فِي أُنْمُلَتِهَا الْعُلْيَا، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي السُّفْلَى أَوْ الْوُسْطَى، فَلَهُ قَطْعُ مَا فَوْقَهَا مِنْ الْأَنَامِلِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْأُنْمُلَةِ الَّتِي تَعَذَّرَ قَطْعُهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ خُمُسُ الْكَفِّ. [فَصْلٌ قَطَعَ ذُو يَدٍ لَهَا أَظْفَارٌ يَدَ مَنْ لَا أَظْفَارَ لَهُ الْقِصَاصُ] (6736) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ ذُو يَدٍ لَهَا أَظْفَارٌ يَدَ مَنْ لَا أَظْفَارَ لَهُ لَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالنَّاقِصَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 وَإِنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ ذَاتَ أَظْفَارٍ، إلَّا أَنَّهَا خَضْرَاءُ، أَوْ مُسْتَحْشِفَةٌ، أَخَذْنَا بِهَا السَّلِيمَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، بِدَلِيلِ أَنَّا نَأْخُذُ الصَّحِيحَ بِالسَّقِيمِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً الْقِصَاصُ] (6737) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَشَاءَ الْمَظْلُومُ أَخْذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ) أَمَّا إذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ دِيَةُ يَدِهِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَى الْكَمَالِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَتْ لَهُ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ يَدٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ إذَا قُطِعَ لَمْ تَنْسَدَّ الْعُرُوقُ، وَدَخَلَ الْهَوَاءُ إلَى الْبَدَنِ فَأَفْسَدَهُ. سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ نَفْسٍ بِطَرَفٍ. وَإِنْ أُمِنَ هَذَا، فَلَهُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِالْقِصَاصِ مِنْ الذِّمِّيِّ، وَالرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْحُرُّ مِنْ الْعَبْدِ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ؛ لِأَنَّ الشَّلَّاءَ كَالصَّحِيحَةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَإِنَّمَا نَقَصَتْ فِي الصِّفَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ، كَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي لَهُ أَرْشٌ مَعَ الْقِصَاصِ. عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ إلْحَاقَ هَذَا الْفَرْعِ بِالْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِفَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، خَارِجٍ عَنْ الْأُصُولِ، مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ. [فَصْلٌ تُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ الْقِصَاصُ] (6738) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ، إذَا أُمِنَ فِي الِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، لَا تُؤْخَذُ بِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَن، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي ذَاتِ الْعُضْوِ وَصِفَتِهِ، فَجَازَ أَخْذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَالصَّحِيحَةِ بِالصَّحِيحَةِ. [فَصْلٌ تُؤْخَذُ فِي الْقِصَاصِ الْيَدُ النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ] (6739) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، إذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ. فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَا، فَكَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الْإِبْهَامَ، وَمِنْ الْأُخْرَى إصْبَعَ غَيْرِهَا، لَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَخْذَ إصْبَعٍ بِغَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا نَاقِصَةً إصْبَعًا، وَالْأُخْرَى نَاقِصَةً تِلْكَ الْإِصْبَعُ وَأُخْرَى، جَازَ أَخْذُ النَّاقِصَةِ إصْبَعَيْنِ بِالنَّاقِصَةِ إصْبَعًا. وَهَلْ لَهُ أَرْشُ إصْبَعِهِ الزَّائِدَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُخْرَى بِهَا؛ لِأَنَّ الْكَامِلَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالنَّاقِصَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 [فَصْلٌ يَجُوزُ أَخْذُ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ الْقِصَاصُ] (6740) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَخْذُ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّهَا دُونَ حَقِّهِ. وَهَلْ لَهُ أَخْذُ دِيَةٍ لِأَصَابِعِ النَّاقِصَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْجَمْعِ بَيْن قِصَاصٍ وَدِيَةٍ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِهِ سُقُوطُ الْقِصَاصِ، كَقَوْلِهِ فِي مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ، وَيَضَعُ الْحَدِيدَةَ فِي مَوْضِعٍ وَضَعَهَا الْجَانِي، فَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، أَوْ أَخَذَ الشَّلَّاءَ بِالصَّحِيحَةِ. وَيُفَارِقُ الْقَاطِعَ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِصَاصُ مِنْ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ. هَكَذَا حَكَاهُ الشَّرِيفُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. [فَصْلٌ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَامِلَتَيْنِ وَفِي يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ] (6741) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَامِلَتَيْنِ، [وَ] فِي يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، لَا عِبْرَةَ بِالزَّائِدَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ وَالسِّلْعَةِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، لَهُ قَطْعُ يَدِ الْجَانِي. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِدَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.، وَإِنْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ، كَفَّ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ وَإِصْبَعٌ زَائِدَةٌ، أَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ وَإِصْبَعٌ زَائِدَةٌ، كَفَّ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ، فَلَا قِصَاصَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلِيَّةَ لَا تُؤْخَذُ بِالزَّائِدَةِ. وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: إنْ لَمْ تَكُنْ الزَّائِدَةُ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِصْبَعَيْنِ مُخْتَلِفَانِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجْرِي الْقِصَاصُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ لِنَقْصِ الزَّائِدَةِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ، كَانَتْ أَصْلِيَّةً، لِأَنَّ الزَّائِدَةَ هِيَ الَّتِي زَادَتْ عَنْ عَدَدِ الْأَصَابِع، أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْأَصَابِعِ، وَهَذَا لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ فِي مَحَلِّهَا، فَكَانَتْ كُلُّهَا أَصْلِيَّةً. فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى كَوْنِهَا زَائِدَةً، أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ مَائِلَةٌ عَنْ سَمْتِ الْأَصَابِعِ. قُلْنَا: ضَعْفُهَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا زَائِدَةً، كَذَكَرِ الْعِنِّينِ، وَأَمَّا مَيْلُهَا عَنْ الْأَصَابِعِ، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ نَابِتَةً فِي مَحَلِّ الْإِصْبَعِ الْمَعْدُومَةِ، فَسَدَ قَوْلُهُمْ إنَّهَا فِي مَحَلِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا مَالَ رَأْسُهَا وَاعْوَجَّتْ، فَهَذَا مَرَضٌ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَصْلِيَّةً. [فَصْلٌ قَطَعَ إصْبَعَهُ فَأَصَابَهُ مِنْ جُرْحِهَا أَكَلَةٌ فِي يَدِهِ وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ] (6742) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ إصْبَعَهُ، فَأَصَابَهُ مِنْ جُرْحِهَا أَكَلَةٌ فِي يَدِهِ، وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ. وَإِنْ بَادَرَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 صَاحِبُهَا، فَقَطَعَهَا مِنْ الْكُوعِ، لِئَلَّا تَسْرِيَ إلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ انْدَمَلَ جُرْحُهُ، فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْإِصْبَعِ، وَالْحُكُومَةُ فِيمَا تَآكَلَ مِنْ الْكَفِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا قَطَعَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْجَانِي شَرِيكُ نَفْسِهِ، فَيَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْمَصْلَحَةَ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ، وَشَرِيكُ الْخَاطِئِ لَا قِصَاصِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَطَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْأَكَلَةِ، نَظَرْت؛ فَإِنَّ قَطَعَ لَحْمًا مَيِّتًا، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ سِرَايَةُ جُرْحِهِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي لَحْمٍ حَيٍّ، فَمَاتَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا خَوْفًا مِنْ سِرَايَتهَا. [فَصْلٌ قَطَعَ أُنْمُلَةً لَهَا طَرَفَانِ إحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ وَالْأُخْرَى أَصْلِيَّةٌ] (6743) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ أُنْمُلَةً لَهَا طَرَفَانِ، إحْدَاهُمَا: زَائِدَةٌ وَالْأُخْرَى أَصْلِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أُنْمُلَةُ الْقَاطِعِ ذَاتَ طَرَفَيْنِ أَيْضًا، أُخِذَتْ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ طَرَفَيْنِ. قُطِعَتْ، وَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِدَةِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ ذَاتَ طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَأُنْمُلَةُ الْقَاطِعِ ذَاتُ طَرَفَيْنِ، أُخِذَتْ بِهَا، فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ؛ لَا قِصَاصَ فِيهَا، وَلَهُ دِيَةُ أُنْمُلَتِهِ. وَإِنْ ذَهَبَ الطَّرَفُ الزَّائِدُ، فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا أَصْبِرُ حَتَّى يَذْهَبَ الزَّائِدُ ثُمَّ أَقْتَصُّ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِ اسْتِيفَائِهِ. [فَصْلٌ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَةَ آخَرَ الْوُسْطَى ثُمَّ قَطَعَ السُّفْلَى مِنْ ثَالِثٍ] (6744) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا، ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَةَ آخَرَ الْوُسْطَى، ثُمَّ قَطَعَ السُّفْلَى مِنْ ثَالِثٍ، فَلِلْأَوَّلِ الْقِصَاصُ مِنْ الْعُلْيَا، ثُمَّ لِلثَّانِي أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْوُسْطَى، ثُمَّ لِلثَّالِثِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ السُّفْلَى، سَوَاءٌ جَاءُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ إلَّا فِي الْعُلْيَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهَا حَالَ الْجِنَايَةِ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَافِئٍ حَالَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ صَارَ مُكَافِئًا بَعْدَهُ. وَلَنَا، أَنَّ تَعَذُّرَ الْقِصَاصِ لِاتِّصَالِ مَحَلِّهِ بِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُهُ إذَا زَالَ الِاتِّصَالُ، كَمَا لَوْ جَنَتْ الْحَامِلُ. وَيُفَارِقُ عَدَمَ التَّكَافُؤِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ لِمَعْنًى فِيهِ، وَهَا هُنَا تَعَذَّرَ لِاتِّصَالِ غَيْرِهِ بِهِ. فَأَمَّا إنْ جَاءَ صَاحِبُ الْوُسْطَى أَوْ السُّفْلَى يَطْلُبُ الْقِصَاصَ قَبْلَ صَاحِبِ الْعُلْيَا، لَمْ يُعْطِهِ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ إتْلَافَ أُنْمُلَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَقِيلَ لَهُمَا: إمَّا أَنْ تَصْبِرَا حَتَّى تَعْلَمَا مَا يَكُونُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ اقْتَصَّ فَلَكُمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ عَفَا فَلَا قِصَاصَ لَكُمَا، وَإِمَّا أَنْ تَرْضَيَا بِالْعَقْلِ. فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الْعُلْيَا فَاقْتَصَّ، فَلِلثَّانِي الِاقْتِصَاصُ، وَحُكْمُ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي كَحُكْمِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ عَفَا، فَلَهُمَا الْعَقْلُ، فَإِنْ قَالَا: نَحْنُ نَصْبِرُ وَنَنْظُرُ بِالْقِصَاصِ أَنْ تَسْقُطَ الْعُلْيَا بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، ثُمَّ نَقْتَصُّ. لَمْ يُمْنَعَا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَطَعَ صَاحِبُ الْوُسْطَى الْوُسْطَى وَالْعُلْيَا، فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْعُلْيَا، تُدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الْعُلْيَا. وَإِنْ قَطَعَ الْإِصْبَعَ كُلَّهَا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْأُنْمُلَةِ الثَّالِثَةِ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 الْعُلْيَا لِلْأَوَّلِ، وَأَرْشُ السُّفْلَى عَلَى الْجَانِي لَصَاحِبِهَا، وَإِنْ عَفَا الْجَانِي عَنْ قِصَاصِهَا، وَجَبَ أَرْشُهَا، يَدْفَعُهُ إلَيْهِ، لِيَدْفَعَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَتَيْ آخَرَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى مِنْ تِلْكَ الْإِصْبَعِ] (6745) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا، ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَتَيْ آخَرَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى مِنْ تِلْكَ الْإِصْبَعِ، فَلِلْأَوَّلِ قَطْعُ الْعُلْيَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، ثُمَّ يَقْطَعُ الثَّانِي الْوُسْطَى، وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْعُلْيَا مِنْهُ. فَإِنْ بَادَرَ الثَّانِي فَقَطَعَ الْأُنْمُلَتَيْنِ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْأَوَّلِ، وَلَهُ الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ قَطَعَ الْأُنْمُلَتَيْنِ أَوَّلًا، قَدَّمْنَا صَاحِبَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، لِلْأَوَّلِ، وَلَهُ الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي. وَإِنْ بَادَرَ صَاحِبُهَا فَقَطَعَهَا، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَتُقْطَعُ الْوُسْطَى لِلْأَوَّلِ، وَيَأْخُذُ الْأَرْشَ لِلْعُلْيَا. وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ عُلْيَا، فَاسْتَوْفَى الْجَانِي مِنْ الْوُسْطَى، فَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، تَقَاصَّا وَتَسَاقَطَا؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْجَانِي الْقِصَاصَ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَدْفَعُ أَرْشَ الْعُلْيَا. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَاسْمُ الْأُنْمُلَةِ يَشْمَلُهُمَا، فَتَسَاقَطَا، كَقَوْلِهِ فِي إحْدَى الْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى. [مَسْأَلَةٌ قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ بَالِغٌ وَطِفْلٌ أَوَغَائِب] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ؛ بَالِغٌ، وَطِفْلٌ أَوْ غَائِبٌ، لَمْ يَقْتُلْ، حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ وَيَبْلُغَ الطِّفْلُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَرَثَةَ الْقَتِيلِ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، لَمْ يَجُزْ لَبَعْضِهِمْ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ إلَّا بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا، اُنْتُظِرَ قُدُومُهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاضِرِ الِاسْتِقْلَالُ بِالِاسْتِيفَاءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَغَيْرِهِمَا الِاسْتِيفَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لِلْكِبَارِ الْعُقَلَاءِ اسْتِيفَاؤُهُ. وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَتَلَ ابْنَ مُلْجِمٍ، قِصَاصًا، وَفِي الْوَرَثَةِ صِغَارٌ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِصَاصِ هِيَ اسْتِحْقَاقُ اسْتِيفَائِهِ، وَلَيْسَ لِلصَّغِيرِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ قِصَاصٌ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، ثَبَتَ لَجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمْ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِقْلَالًا، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، أَوْ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَعْضُهُمْ كَالدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فِيهِ حَقًّا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَاسْتَحَقَّهُ، وَلَوْ نَافَاهُ الصِّغَرُ مَعَ غَيْرِهِ لَنَافَاهُ مُنْفَرِدًا، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 عِنْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا بَعْدَهُ، كَالرَّقِيقِ إذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وَالثَّالِث: أَنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْمَالِ، لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْقِصَاصِ لَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّغِيرُ لَاسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَمْ يَرِثْهُ، كَسَائِرِ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَأَمَّا ابْنُ مُلْجِمٍ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ قَتَلَهُ بِكُفْرِهِ، لِأَنَّهُ قَتَلَ عَلِيًّا مُسْتَحِلًّا لِدَمِهِ، مُعْتَقِدًا كُفْرَهُ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: قَتَلَهُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ، فَيَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ. وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ، وَهُوَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْإِمَامُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَظِرْ الْغَائِبِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَلَا خِلَافَ بَيْننَا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِهِمْ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. [فَصْلٌ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا صَغِيرًا] (6747) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا صَغِيرًا، كَصَبِيٍّ قُتِلَتْ أُمُّهُ، وَلَيْسَتْ زَوْجَةً لِأَبِيهِ، فَالْقِصَاصُ لَهُ، وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وَلَا غَيْرِهِ اسْتِيفَاؤُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ، فِي الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ فِي الْأَبِ رِوَايَتَيْنِ، وَفِي مَوْضِعٍ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: كَقَوْلِنَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَكَانَ لِلْأَبِ اسْتِيفَاؤُهُ، كَالدِّيَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِزَوْجَتِهِ، فَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَهُ، كَالْوَصِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الْغَيْظِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ. وَيُخَالِفُ الدِّيَةَ، فَإِنَّ الْغَرَضَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الْأَبِ لَهُ، فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهَا إذَا تَعَيَّنَتْ، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَعَيَّنُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى مَالٍ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَقَلُّ، وَالدِّيَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ يَحْبِس الْقَاتِل عِنْدَ تَأْخِيرُ الِاسْتِيفَاءِ] فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ تَأْخِيرُ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ الْقَاتِلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، وَيَعْقِلَ الْمَجْنُونُ، وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَقَدْ حَبَسَ مُعَاوِيَةُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ فِي قِصَاصٍ حَتَّى بَلَغَ ابْنُ الْقَتِيلِ، فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، وَبَذَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِ الْقَتِيلِ سَبْعَ دِيَاتٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يُخْلَى سَبِيلُهُ كَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي تَخَلَّيْتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ هَرَبُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْسِرِ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَا يَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ، فَلَا يُحْبَسُ بِمَا لَا يَجِبُ، وَالْقِصَاصُ هَاهُنَا وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الْمُسْتَوْفِي. الثَّانِي، أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا حَبَسْنَاهُ تَعَذَّرَ الْكَسْبُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يُفِيدُ، بَلْ يَضُرُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهَا هُنَا الْحَقُّ نَفْسُهُ يَفُوتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالْحَبْسِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ قَتْلُهُ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ وَنَفْعِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ، جَازَ تَفْوِيتُ نَفْعِهِ لِإِمْكَانِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يُحْبَسُ مِنْ أَجْلِ الْغَائِبِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا؛ وَلِذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَالِهِ مَغْصُوبًا لَمْ يَمْلِكْ انْتِزَاعَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْمَيِّتِ، وَلِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَلِهَذَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا، فَنَظِيرُهُ أَنْ يَجِدَ الْحَاكِمُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي يَدِ إنْسَانٍ شَيْئًا غَصْبًا، وَالْوَارِثُ غَائِبٌ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ. وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ لِحَيِّ فِي طَرَفِهِ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّ فَائِدَتَهَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ تَعَذَّرَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَلَّى سَبِيلَهُ فَهَرَبَ، فَضَاعَ الْحَقُّ. [فَصْلٌ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ] (6749) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَخِيرُ، عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِهِ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ، وَقَدْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُشَارِكٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ مُشَارِكًا فِي مِلْكِ الْجَارِيَةِ وَوَطْئِهَا، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ يَمْلِكُ بَعْضَهُ، فَلَمْ تَجِبْ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالْأَصْلِ. وَيُفَارِقُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا، فَإِنَّا لَا نُوجِبُ الْقِصَاصَ بِقَتْلِ بَعْضِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا نَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا لِجَمِيعِهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ لِقَتْلِهِ بَعْضَ النَّفْسِ، فَمِنْ شَرْطِهِ الْمُشَارَكَةُ لِمَنْ فَعَلَهُ، كَفِعْلِهِ فِي الْعَمْدِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَاهُنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ. وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي، أَوْ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ نَصِيبَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ فَأَتْلَفَهَا. وَالثَّانِي، يَرْجِعُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ عَفَا شَرِيكُهُ عَنْ الْقِصَاصِ، وَقَوْلُنَا: أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ، يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مُسْتَأْجَرَهُ أَوْ غَرِيمَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ، أَوْ كَانَ الْمُتْلَفُ أَجْنَبِيًّا، وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا، فَوَجَبَ عِوَضُ مِلْكِهِ، أَمَّا الْجَانِي فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ غَرِيمَهُ. فَعَلَى هَذَا، يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْجَانِي عَلَى قَاتِلِهِ بِدِيَةِ مُوَرِّثِهِمْ إلَّا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهَا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ دِيَةً مِنْ قَاتِلِهِ، مِثْلَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا لَهُ ابْنَانِ، فَقَتَلَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ، فَلِلْآخَرِ نِصْفُ دِيَةِ أَبِيهِ فِي تَرِكَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتْهُ، وَيَرْجِعُ وَرَثَتُهَا بِنِصْفِ دِيَتِهَا عَلَى قَاتِلِهَا، وَهُوَ رُبْعُ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَرْجِعُ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ عَلَى أَخِيهِ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى أَخِيهِ إلَّا نِصْفَ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى وَرَثَةِ الْمَرْأَةِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ الَّذِي قَتَلَهَا أَتْلَفَ جَمِيعَ الْحَقِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا، صِحَّةُ إبْرَاءِ مَنْ حَكَمْنَا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَمِلْكُ مُطَالَبَتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى وَرَثَةِ الْجَانِي. صَحَّ إبْرَاؤُهُمْ، وَمَلَكُوا الرُّجُوعَ عَلَى قَاتِلِ مَوْرُوثِهِمْ بِقِسْطِ أَخِيهِ الْعَافِي. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى تَرِكَةِ الْجَانِي. وَلَهُ تَرِكَةٌ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا، سَوَاءٌ أَمْكَنَ وَرَثَتَهُ أَنْ يَسْتَوْفُوا مِنْ الشَّرِيكِ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ وَرَثَةِ الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُهُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا. [مَسْأَلَةٌ عَفَا بَعْضٌ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقِصَاصِ] (6750) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَمَنْ عَفَا مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقِصَاصِ، لَمْ يَكُنْ إلَى الْقِصَاصِ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَافِي زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إجَازَةِ الْعَفْو عَنْ الْقِصَاصِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وَقَالَ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . إلَى قَوْله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي، يَعْفُو صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْهُ. وَقِيلَ: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْعَافِيَّ بِصَدَقَتِهِ وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ، إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضْرِ، حِينَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ، فَعَفَا الْقَوْمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْقِصَاصُ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَبْقَ لَأَحَدٍ إلَيْهِ سَبِيلٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَفْوٌ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ. كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ لِذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ» . وَأَهْلُهُ ذَوُو رَحِمِهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَيْرِ الْعَافِي لَا يَرْضَى بِإِسْقَاطِهِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ النَّفْسُ بِبَعْضِ النَّفْسِ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ". وَهَذَا عَامٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ يَبْلُغُنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَمَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي. يُرِيدُ عَائِشَةَ. وَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلَك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا» . وَرَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِرَجُلِ قَتَلَ قَتِيلًا، فَجَاءَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَتْ امْرَأَةُ الْمَقْتُولِ، وَهِيَ أُخْتُ الْقَاتِلِ: قَدْ عَفَوْت عَنْ حَقِّي. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، عَتَقَ الْقَتِيلُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا، فَقَتَلَهَا، فَاسْتَعْدَى إخْوَتُهَا عُمَرَ، فَقَالَ بَعْضُ إخْوَتِهَا: قَدْ تَصَدَّقْت. فَقَضَى لِسَائِرِهِمْ بِالدِّيَةِ. وَرَوَى قَتَادَةُ، أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا، فَجَاءَ أَوْلَادُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ عَفَا بَعْضُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إنَّهُ قَدْ أُحْرِزَ مِنْ الْقَتْلِ. فَضَرَبَ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ: كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْمًا. وَالدَّلِيلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلِأَنَّ مِنْ وَرِثَ الدِّيَةَ وَرِثَ الْقِصَاصَ كَالْعُصْبَةِ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ، صَحَّ عَفْوُهُ، كَعَفْوِهِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَزَوَالُ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ، وَسَائِرِ حُقُوقِهِ الْمَوْرُوثَةِ. وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْن جَمِيعِهِمْ، سَقَطَ بِإِسْقَاطِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْهُ لَهُ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، فَإِذَا سَقَطَ سَقَطَ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَبَعَّضُ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ، مَبْنَاهُ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ، فَإِذَا أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ، سَرَى إلَى الْبَاقِي كَالْعِتْقِ، وَالْمَرْأَةُ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهَا كَالرَّجُلِ. وَمَتَى عَفَا أَحَدُهُمْ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّهُمْ مِنْ الدِّيَةِ سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ إلَى الدِّيَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا أَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِمَّنْ قَالَ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَثَبَتَ لَهُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ وَرِثَ الْقَاتِلُ بَعْضَ دَمِهِ أَوْ مَاتَ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [فَصْلٌ قَتَلَهُ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَالِمًا بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ] (6751) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَالِمًا بِعَفْوِ شَرِيكِهِ، وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: لَهُ قَوْلٌ آخَرُ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ وَلَنَا. أَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا مُكَافِئًا لَهُ عَمْدًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِالْعَفْوِ حَاكِمٌ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، قَتَلْنَاهُ، بِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي قَتْلِهِ. وَأَمَّا إنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَفْوِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ عُدْوَانٌ لِمَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي قَتْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَتَلَهُ مُعْتَقِدًا ثُبُوتَ حَقِّهِ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ، كَالْوَكِيلِ إذَا قَتَلَ بَعْدَ عَفْوِ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَفْوِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِالْعَفْوِ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَوْجُودَةٌ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مَعْدُومَةٌ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَتَى قَتَلَهُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، عَلِمَ بِالْعَفْوِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَمَتَى حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَإِمَّا لِلْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْهَا مَا قَابَلَ حَقَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ قِصَاصًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ عَفَا إلَى غَيْرِ مَالٍ، فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 وَعَلَيْهِمْ نَصِيبُ الْعَافِي مِنْ الدِّيَةِ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ حَقَّ الْعَافِي، مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الْقَاتِلِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَرِيمَهُ. [فَصْلٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْعَافِي فِي الْقِصَاصُ] (6752) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْعَافِي، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ إلَى مَالٍ. وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: تُؤْخَذْ مِنْهُ الدِّيَةُ، وَلَا يُقْتَلُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْحُكْمُ فِيهِ إلَى السُّلْطَانِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: أَيْ بَعْدَ أَخْذِهِ الدِّيَةَ. وَعَنْ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أُعْفِي مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِهِ الدِّيَةَ» . وَلِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا مُكَافِئًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَ. [فَصْلٌ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا] (6753) فَصْلٌ: وَإِذَا عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا، صَحَّ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُضْرَبُ، وَيُحْبَسُ سَنَةً. وَلَنَا، أَنَّهُ، إنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الدِّيَةَ عَنْ الْقَاتِلِ خَطَأً. [فَصْلٌ تَوْكِيلَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ] (6754) فَصْلٌ: وَإِذَا وَكَّلَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ، صَحَّ تَوْكِيلُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ وَكَّلَهُ، ثُمَّ غَابَ، وَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَاسْتَوْفَى الْوَكِيلُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ عَفْوُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ اسْتَوْفِي، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ وَقَدْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِهِ، فَقَدْ قَتَلَهُ ظُلْمًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً. وَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِعَفْوِ الْمُوَكِّلِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَكِّنُ الْوَكِيلَ اسْتِدْرَاكَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْدَ مَا رَمَاهُ. وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الضَّمَانُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُصُولِهِ فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُ الْفِعْلِ، فَوَقَعَ الْقَتْلُ مُسْتَحَقًّا لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ؛ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ، فَلَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 وَالثَّانِي، عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَتَسْلِيطِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا ذَنْبَ لِلْمُبَاشِرِ فِيهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ الْأَعْجَمِيَّ بِقَتْلِ مَعْصُومٍ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ: فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَكِيلِ، هَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَا؟ وَلِلشَّافِعَيَّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ بِأَمْرٍ يَسْتَحِقُّهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْعَفْوُ. فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا. وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى الْقَتْلِ بِتَفْرِيطِهِ فِي تَرْكِ إعْلَامِهِ بِالْعَفْوِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَالْغَارِ فِي النِّكَاحِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، أَوْ تَزَوُّجِ مَعِيبَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ مِنْهُ، فَلَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَكِيلِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ هَذَا جَرَى مَجْرَى الْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ فِي مَالِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَمْدٍ مَحْضٍ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا لَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِ الْمَحَلِّ، وَكَوْنِهِ مَعْصُومًا، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: هُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ. فَعَمْدُ الْخَطَأِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَدَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتْ جَارِيَتهَا وَجَنِينَهَا بِمُسَطَّحِ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَلِوَرَثَةِ الْجَانِي مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِدِيَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ لِأَخَوَيْنِ فَقَتَلَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلِأَخِيهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ، فِي وَجْهٍ. قُلْنَا: ثُمَّ أَتْلَفَ حَقَّهُ، فَرَجَعَ بِبَدَلِهِ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا أَتْلَفَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَنْهُ، فَافْتَرَقَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. احْتَمَلَ أَنْ تَسْقُطَ الدِّيَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ الْوَكِيلِ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ لِغَيْرِ مِنْ لِلْوَكِيلِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَتَسَاقَطُ الدِّيَتَانِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الدِّيَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَقْتُولَيْنِ رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ وَرَثَةُ الْجَانِي دِيَتَهُ مِنْ الْوَكِيلِ، وَيَدْفَعُونَ إلَى الْمُوَكِّلِ دِيَةَ وَلِيِّهِ، ثُمَّ يَرُدُّ الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ قَدْرَ مَا غَرِمَهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 وَإِنْ أَحَالَ وَرَثَةُ الْجَانِي الْمُوَكِّلَ عَلَى الْوَكِيلِ بِدِيَةِ وَلِيِّهِمْ، صَحَّ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ دِيَةً، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ قَتَلَتْ رَجُلًا، فَقَتَلَهَا الْوَكِيلُ، فَلِوَرَثَتِهَا إحَالَةُ الْمُوَكَّلِ بِدِيَتِهَا؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ لَهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ، فَيَسْقُطُ عَنْ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ جَمِيعًا، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى وَرَثَتِهَا بِنِصْفِ دِيَةِ وَلِيِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي رَجُلًا قَتَلَ امْرَأَةً، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ، فَلِوَرَثَةِ الْجَانِي إحَالَةُ الْمُوَكِّلِ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهَا، وَيُطَالِبُونَ الْوَكِيلَ بِنِصْفِ دِيَةِ الْجَانِي، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْقِصَاصِ إذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ] فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى نَفْسِهِ، فَمَاتَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ نَفْسًا، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ دُونَ مَا عَفَا عَنْهُ، فَسَقَطَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِصَاصٌ مَعَ إمْكَانِهِ، لَمْ يَجِبْ فِي سِرَايَتهَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ عَفَا عَلَى مَالٍ، فَلَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ إلَّا أَرْشَ الْجُرْحِ الَّذِي عَفَا عَنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ نَفْسًا، وَحَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَا فِيمَا عَفَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ. وَإِنْ قَالَ: عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ. لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْقَطْعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَكَذَلِكَ سِرَايَتُهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا سِرَايَةُ جِنَايَةٍ أَوْجَبَتْ الضَّمَانَ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْفُ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ دِيَتُهَا بِعَفْوِهِ عَنْهَا، فَيَخْتَصُّ السُّقُوطُ بِمَا عَفَا عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ أَوْجَبَتْ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَإِذَا عَفَا، سَقَطَ مَا وَجَبَ دُونَ مَا لَمْ يَجِبْ، فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا، وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَرْشُ الْجُرْحِ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْفُ، وَإِنَّمَا تَكَمَّلْت الدِّيَةُ بِالسِّرَايَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْجُرْحُ لَا قِصَاصَ فِيهِ فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ] (6756) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، كَالْجَائِفَةِ، وَنَحْوِهَا، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ، فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَجِبْ فِي الْجُرْحِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بَعْدَ عَفْوِهِ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ، وَلَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ. وَإِنْ عَفَا عَنْ دِيَةِ الْجُرْحِ، صَحَّ، وَلَهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا أَرْشَ الْجُرْحِ. وَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا، فَانْدَمَلَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 وَاقْتَصَّ مِنْهَا، ثُمَّ انْتَقَضَتْ وَسَرَتْ إلَى النَّفْسِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ إلَّا عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَجِبْ، فَهُوَ كَالْجَائِفَةِ. وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ الْكُوعِ، أَسْقَطَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْ دِيَةِ الْجُرْحِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدًا، فَعَفَا عَنْ دِيَتِهَا وَقِصَاصِهَا، ثُمَّ انْدَمَلَتْ، لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهَا، وَسَقَطَ قِصَاصُهَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ وَجَبَ فِيهَا، فَصَحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الْجُرْحِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ، إذْ هِيَ السَّبَبُ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِ عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ بُرْئِهِ، كَانَ أَرْشُ الطَّرَفِ لِبَائِعِهِ لَا لِمُشْتَرِيهِ، وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ بِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ الْعَفْوِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لَا تُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ عَادَ الْجَانِي فَقَتَلَهُ] (6757) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ، فَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ الْجَانِي فَقَتَلَهُ فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضِهِمْ: لَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ عَنْ بَعْضِهِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ، كَمَا لَوْ سَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَتْلَ انْفَرَدَ عَنْ الْقَطْعِ، فَعَفْوُهُ عَنْ الْقَطْعِ لَا يَمْنَعُ مَا يَلْزَمُ بِالْقَتْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ غَيْرَهُ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الطَّرَفِ إلَى غَيْرِ دِيَةٍ، فَلَهُ بِالْقَتْلِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا تَعَقَّبَ الْجِنَايَةَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، كَانَ كَالسِّرَايَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْفُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، وَالْقَطْعُ يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ فِي الدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْقِصَاصَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ ثُمَّ يَقْتُلَ، وَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ لَمْ يَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ الْعَفْوُ إلَى دِيَةٍ كَامِلَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مُنْفَرِدٌ عَنْ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَدْخُلْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، كَمَا لَوْ انْدَمَلَ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ، فَأَوْجَبَ الدِّيَةَ كَامِلَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَفْوٌ. وَفَارَقَ السِّرَايَةَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُوجِبْ قَتْلًا، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ عُفِيَ عَنْ سَبَبِهَا، وَالْقَتْلُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا عَنْ سَبَبِهِ، سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ الْعَافِي عَنْ الْجُرْحِ أَخَذَ دِيَةَ طَرَفِهِ أَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا. [فَصْلٌ قَطَعَ إصْبَعًا فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَة إلَى الْكَفّ ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ] (6758) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ، ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ فِي الْإِصْبَعِ بِالْعَفْوِ، فَصَارَتْ الْيَدُ نَاقِصَةً لَا تُؤْخَذُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 بِهَا [اليد] الْكَامِلَةُ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْيَدِ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، خُرِجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَرَى إلَى نَفْسِهِ. فَعَلَى هَذَا، تَجِبُ هَاهُنَا دِيَةُ الْكَفِّ إلَّا دِيَةَ الْإِصْبَعِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي: إنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا قَطَعَ الْيَدَ، ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ، أَنْ يَجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ هَاهُنَا. . [فَصْلٌ الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ] (6759) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، صَحَّ عَفْوُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي سِرَايَتِهَا قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَسَوَاءٌ عَفَا بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِصِحَّةِ عَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَنْ دَمِهِ؛ مَالِكٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَالَ: عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا. فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصِيَّةٌ، فَيُبْنَى عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، فَتَجِبُ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الْجُرْحِ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ، وَإِلَّا سَقَطَ مِنْهَا مَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، وَوَجَبَ الْبَاقِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، لَيْسَ بِوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَصِحُّ، وَتَلْزَمُهُ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الْجُرْحِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ، فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَمَا تَعَيَّنَتْ الدِّيَةُ، وَلَا تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ،؛ وَلِذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ مِنْ الْمُفْلِسِ إلَى غَيْرِ مَالٍ. وَأَمَّا جِنَايَةُ الْخَطَأِ، فَإِذَا عَفَا عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا، اُعْتُبِرَ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ عَفَا بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ، صَحَّ عَفْوُهُ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، سَقَطَ عَنْهُ مِنْ دِيَتِهَا مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَنَحْوَهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هَاهُنَا بِمَالٍ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ أَوْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ الْجَانِي عَفَوْت مُطْلَقًا وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَلْ عَفَوْت إلَى مَالٍ] (6760) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ، ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ، ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ أَوْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.، فَقَالَ الْجَانِي: عَفَوْت مُطْلَقًا. وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ عَفَوْت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 إلَى مَالٍ. أَوْ قَالَ: عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا. قَالَ: بَلْ عَفَوْت عَنْهَا دُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ الْخِلَافُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَفْوِ عَنْ الْجَمِيعِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَفْوُ عَنْ الْبَعْضِ بِإِقْرَارِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ سُقُوطِهِ قَوْلَهُ. . [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَة فِي الْقَتْلِ فَأُحِبّ الْأَوْلِيَاء أَنْ يَقْتُلُوا الْجَمِيعَ] (6761) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَتْلِ، فَأَحَبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَقْتُلُوا الْجَمِيعَ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا الْبَعْضَ، وَيَعْفُوا عَنْ الْبَعْضِ، وَيَأْخُذُوا الدِّيَةَ مِنْ الْبَاقِينَ، فَلَهُمْ ذَلِكَ) أَمَّا قَتْلُهُمْ لِلْجَمِيعِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَأَمَّا إنْ أَحَبُّوا قَتْلَ الْبَعْضِ فَلَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُمْ قَتْلُهُ فَلَهُمْ الْعَفْوُ عَنْهُ، كَالْمُنْفَرِدِ، وَلَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْبَعْضِ بِعَفْوِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ، فَلَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِسْقَاطِهِ عَنْ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا. وَأَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ الْقَاتِلِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْقَتَلَةِ، فَإِنَّ لَهُمْ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ إلَّا الْقَتْلُ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى الدِّيَةِ بِرِضَى الْجَانِي. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى، كَقَوْلِنَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] . وَالْمَكْتُوبُ لَا يَتَخَيَّر فِيهِ، وَلِأَنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَلُ، فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا، كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . الْآيَة، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] . فَالْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ فِي الْعَمْدِ الدِّيَةُ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] يَتْبَعُ الطَّالِبُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُؤَدِّي إلَيْهِ الْمَطْلُوبُ {بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] . مِمَّا كَتَبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ «قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا يُقَادُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ، قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. وَلِأَنَّ الْقَتْلَ الْمَضْمُونَ إذَا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ إبْرَاءٍ، ثَبَتَ الْمَالُ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَيُخَالِفُ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ؛ لِأَنَّ بَدَلَهَا يَجِبُ مِنْ جِنْسِهَا، وَهَا هُنَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَإِذَا رَضِيَ فِي الْعَمْدِ بِبَدَلِ الْخَطَأِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ أَمْكَنَهُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِبَذْلِ الدِّيَةِ، فَلَزِمَهُ وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا فِيهِمَا. [فَصْلٌ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ] (6762) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُوجَبَهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ عَمْدًا، فَهُوَ قَوَدٌ» . وَلِمَا ذَكَرُوهُ فِي دَلِيلِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ مُوجَبَهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ؛ الْقِصَاصِ، أَوْ الدِّيَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَكَانَتْ بَدَلًا عَنْهَا، لَا عَنْ بَدَلِهَا، كَالْقِصَاصِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَالْمُرَادُ بِهِ وُجُوبُ الْقَوَدِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَيُخَالِفُ الْقَتْلُ سَائِرَ الْمُتْلَفَات؛ لِأَنَّ بَدَلَهَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، وَالْقَتْلُ بِخِلَافِهِ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَإِذَا قُلْنَا مُوجَبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَلَهُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، وَالْعَفْوُ مُطْلَقًا، فَإِذَا عَفَا مُطْلَقًا، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِئَلَّا يُطَلَّ الدَّمُ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا، صَحَّ عَفْوُهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ مَالٍ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، فَأَمَّا إنْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ. فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ مُطْلَقًا، أَوْ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا وَجَبَ الْآخَرُ، وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ، تَعَيَّنَ. وَهَلْ لَهُ بَعْد ذَلِكَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ؟ قَالَ الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَعْلَى، فَكَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْأَدْنَى، وَيَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَتْ الَّتِي وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ، كَمَا قُلْنَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: إنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ عَيْنًا، وَلَهُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا بِاخْتِيَارِهِ الْقَوَدَ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 [فَصْلٌ جَنَى عَبْد عَلَى حُرٍّ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ فَاشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَة] (6763) فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى عَبْدٌ عَلَى حُرٍّ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَاشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ عُدُولَهُ إلَى الشِّرَاءِ اخْتِيَارٌ لِلْمَالِ، وَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ لَمْ يَعْرِفَا قَدْرَ الْأَرْشِ فَالثَّمَنُ مَجْهُولٌ، وَإِنْ عَرَفَا عَدَدَ الْإِبِلِ وَأَسْنَانَهَا فَصِفَتُهَا مَجْهُولَةٌ، وَالْجَهْلُ بِالصِّفَةِ كَالْجَهْلِ بِالذَّاتِ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِجَمَلٍ جَذْعٍ غَيْرِ مَعْرُوفِ الصِّفَةِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ قَدَّرَ الْأَرْشَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَبَاعَهُ بِهِ صَحَّ. [فَصْلٌ الْقِصَاصُ لِصَغِيرٍ هَلْ لِوَلِيِّهِ الْعَفْو] (6764) فَصْلٌ: إذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لَصَغِيرٍ، لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ إلَى غَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهِ. وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ إلَى مَالٍ، وَلِلصَّبِيِّ كِفَايَةٌ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَالِ لِحِفْظِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَصَحُّ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ قِصَاصِهِ، وَأَمَّا حَاجَتُهُ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُغْنِيه إذَا لَمْ يَحْصُلْ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ مَجْنُونًا فَقِيرًا فَلِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ حَالَةً مُعْتَادَةً يُنْتَظَرُ فِيهَا إفَاقَتُهُ. . [فَصْلٌ يَصِحُّ عَفْو الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُور عَلَيْهِ لَسَفَّهُ عَنْ الْقِصَاصِ] فَصْلٌ: وَيَصِحُّ عَفْوُ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ الْقِصَاصَ، لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ. وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ عَنْهُ إلَى مَالٍ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْغُرَمَاءِ. وَإِنْ أَرَادَ الْعَفْوَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ إنَّ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ. لَمْ يَمْلِكْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجِبُ بِقَوْلِهِ: عَفَوْت عَنْ الْقِصَاصِ. فَقَوْلُهُ: عَلَى غَيْرِ مَالٍ. إسْقَاطٌ لَهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَتَعْيِينِهِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّفِيهِ وَوَارِثِ الْمُفْلِسِ. وَإِنْ عَفَا الْمَرِيضُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ، أَنَّهُ يَصِحُّ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ. وَذَكَر أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى هَذَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَعَلَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلٌ قَتَلَ مِنْ لَا وَارِث لَهُ] (6766) فَصْلٌ: وَإِذَا قُتِلَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَالْأَمْرُ إلَى السُّلْطَانِ؛ فَإِنْ أَحَبَّ الْقِصَاصَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ إلَى غَيْرِ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَذَا. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَلَى مَالٍ إلَّا بِرِضَى الْجَانِي. [فَصْلٌ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَة فِي الْقَتْل فَعَفَا عَنْهُمْ إلَى الدِّيَة] (6767) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَتْل، فَعَفَا عَنْهُمْ إلَى الدِّيَةِ، فَعَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ، فَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ وَاحِدَةً، سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةً كَامِلَةً لِأَنَّ لَهُ قَتْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ عَيْنِهِ، وَهُوَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الْمُتْلَفِ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلَفِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ حُرًّا، لَمْ يَمْلِكْ الْعَفْوَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ الدِّيَةِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ قَتَلَ مِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقِيدُوا بِهِ فَبَذَلَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ] (6768) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ قُتِلَ مَنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقِيدُوا بِهِ، فَبَذَلَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَنْ لَا يُقَادَ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ قَبُولُ ذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ، وَبِقَدْرِهَا وَأَقَلِّ مِنْهَا، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ عَمْدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ؛ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ. وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَيْنَا أَنَّ هُدْبَةَ بْن خَشْرَمٍ قَتَلَ قَتِيلًا، فَبَذَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ لِابْنِ الْمَقْتُولِ سَبْعَ دِيَاتٍ، لِيَعْفُوَ عَنْهُ، فَأَبَى ذَلِكَ، وَقَتَلَهُ. وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ، فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، كَالصَّدَاقِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، فَأَشْبَهَ الصُّلْحَ عَنْ الْعُرُوضِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 [مَسْأَلَةٌ أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَر] (6769) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَرُ، قُتِلَ الْقَاتِلُ، وَحُبِسَ الْمَاسِكُ حَتَّى يَمُوتَ) يُقَالُ أَمْسَكَ وَمَسَكَ وَمَسَّكَ. وَقَدْ جَمَعَ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، فَقَالَ: إذَا أَمْسَكَ، وَحُبِسَ الْمَاسِكُ. وَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ مَسَكَ مُخَفَّفًا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَمَّا الْمُمْسِكُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَاتِلَ يَقْتُلُهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَالْقَاتِلُ مُبَاشِرٌ، فَسَقَطَ حُكْمُ الْمُتَسَبِّبِ بِهِ. وَإِنْ أَمْسَكَهُ لَهُ لِيَقْتُلهُ، مِثْلَ إنْ ضَبَطَهُ لَهُ حَتَّى ذَبَحَهُ لَهُ. فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَرَبِيعَة. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْتَلُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُوسَى: الْإِجْمَاعُ فِينَا أَنْ يُقْتَلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْسِكْهُ، مَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِهِ، وَبِإِمْسَاكِهِ تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ، فَالْقَتْلُ حَاصِلٌ بِفِعْلِهِمَا، فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ جَرَحَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُعَاقَبُ، وَيَأْثَمُ، وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ، مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ". وَالْمُمْسِكُ غَيْرُ قَاتِلٍ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَهُ الْمُبَاشَرَةُ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُمْسِكُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، وَلَنَا، مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلَ، وَقَتَلَهُ الْآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» وَلِأَنَّهُ حَبَسَهُ إلَى الْمَوْتِ، فَيُحْبَسُ الْآخَرُ إلَى الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ حَبَسَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّنَا نَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ. [فَصْلٌ اتَّبَعَ رَجُلًا لِيَقْتُلهُ فَأَدْرَكَهُ أَخَّرَ] (6770) فَصْلٌ: وَإِنْ اتَّبَعَ رَجُلًا لِيَقْتُلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ، فَأَدْرَكَهُ آخَرُ، فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْأَوَّلِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ لِيَقْتُلَهُ الثَّانِي، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَحُكْمُهُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ حُكْمُ الْمُمْسِكِ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ عَلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ حَبْسَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ دُونَ الْقَتْلِ، كَاَلَّذِي أَمْسَكَهُ غَيْرَ عَالِمٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَطْعُ بِكُلِّ حَالٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ الْحَابِسُ لَهُ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَابِسَ بِإِمْسَاكِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ قَصْدَ الْإِمْسَاكِ هَاهُنَا وَأَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَ إرَادَةَ الْقَتْلِ فِي الْجَارِحِ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 قُلْنَا إذَا مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ، فَقَدْ مَاتَ مِنْ سِرَايَتِهِ وَأَثَرِهِ، فَنَعْتَبِرُ قَصْدَ الْجُرْحِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ دُونَ قَصْدِ الْأَثَرِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إنَّمَا كَانَ مَوْتُهُ بِأَمْرِ غَيْرِ السِّرَايَةِ، وَالْفِعْلُ مُمَكِّنٌ لَهُ عَلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ قَصْدُهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ أَمْسَكَهُ. [مَسْأَلَةٌ أَمَرَ عَبْده أَنْ يَقْتُل رَجُلًا وَكَانَ الْعَبْد أَعْجَمِيًّا] (6771) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ (أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا، وَكَانَ الْعَبْدُ أَعْجَمِيًّا، لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ مُحَرَّمٌ قُتِلَ السَّيِّدُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ خَطَرَ الْقَتْلِ، قُتِلَ الْعَبْدُ، وَأُدِّبَ السَّيِّدُ) إنَّمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ كَوْنَهُ أَعْجَمِيًّا، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ، لِيَتَحَقَّقَ مِنْهُ الْجَهْلُ، وَإِنَّمَا يَكُنْ الْجَهْلُ فِي حَقِّ مِنْ نَشَأَ فِي غَيْرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْقَتْلِ، وَلَا يَعْذِرُ فِي فِعْلِهِ، وَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُؤَدَّبُ سَيِّدُهُ؛ لِأَمْرِهِ بِمَا أَفْضَى إلَى الْقَتْلِ، بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِخَطَرِهِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَيُؤَدَّبُ الْعَبْدُ. قَالَ أَحْمَدُ يُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: يُقْتَلُ الْوَلِيُّ وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ سَوْطُ الْمَوْلَى وَسَيْفُهُ. كَذَا قَالَ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّافِعِيُّ وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّ السَّيِّدَ يُقْتَلُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقْتَلَانِ جَمِيعًا. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: لَأَنْ يُقْتَلَ الْآمِرُ، وَلَكِنْ يَدَيْهِ، وَيُعَاقَبُ وَيُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، وَلَا أَلْجَأَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ خَطَرَ الْقَتْلِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِخَطَرِ الْقَتْلِ، فَهُوَ مُعْتَقِدٌ إبَاحَتَهُ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ الْقِصَاصَ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ، فَبَانَ إنْسَانًا، وَلِأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ، لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ بِهِ، كَمَا لَوْ أَنْهَشَهُ حَيَّةً أَوْ كَلْبًا أَوْ أَلْقَاهُ فِي زُبْيَةِ أَسَدٍ فَأَكَلَهُ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا عَلِمَ خَطَرَ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِإِمْكَانِ إيجَابِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبَاشِرٌ لَهُ، فَانْقَطَعَ حُكْمُ الْآمِرِ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ، وَيَكُونُ عَلَى السَّيِّدِ الْأَدَبُ؛ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى الْقَتْلِ. [فَصْلٌ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّز أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْلَمُ خَطَر الْقَتْل يَقْتُل] (6772) فَصْلٌ: وَلَوْ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْلَمُ خَطَرَ الْقَتْلِ، فَقَتَلَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ، يُقْتَلُ الْآمِرُ دُونَ الْمُبَاشِرِ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِزِنًى، أَوْ سَرِقَةٍ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالشُّهُودِ فِي الْقِصَاصِ. [فَصْلٌ أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا فَقَتَلَ آخَرَ] (6773) فَصْلٌ: وَلَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا، فَقَتَلَ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَتْلَهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي فِعْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْ الْوُلَاةِ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تُطِيعُوهُ» . فَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورِ؛ مَعْذُورٌ، لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْحَقِّ. وَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ مِنْ الرَّعِيَّةِ بِالْقَتْلِ، فَقَتَلَ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِكُلِّ حَالٍ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ بِحَالٍ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ إلَيْهِ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ، وَالزِّنَى وَقَطْعِ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ، وَيَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ لِلنَّاسِ، وَهَذَا لَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ، أَوْ جَلْدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمَاتَ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَانَتْ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الْقَتْلِ دُونَ الْمَأْمُورِ، كَمُسْلِمٍ قَتَلَ ذِمِّيًّا، أَوْ حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ؛ أَمَرَهُ بِمَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَالْمَأْمُورُ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ أَمْرَهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَالْمُجْتَهِدِ؛ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ الْإِمَامِ فِيمَا رَآهُ. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، وَالْقَاتِلُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ السَّيِّدَ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 [كِتَاب الدِّيَات] ِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] الْآيَة. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَقَالَ فِيهِ: «وَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، فِي سُنَنِهِ، وَمَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْد أَهْلِ السِّيَرِ، وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهَا عَنْ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ، فِي مَجِيئِهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. تَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْبَابِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ. [مَسْأَلَةُ دِيَة الْحُرِّ الْمُسْلِمِ] (6774) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَدِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، وَأَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ؛ مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي دِيَةِ خَطَأِ الْعَمْدِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ، وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ لَا غَيْرُ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ أُصُولَ الدِّيَةِ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَهَذِهِ خَمْسَةٌ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهَا. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رَوَى فِي كِتَابِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيُمْنِ: «وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَلْفُ دِينَارٍ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ، أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَلَا إنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ.: فَقَوَّمَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتِي حُلَّةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَغَلَّظَ بَعْضَهَا، وَخَفَّفَ بَعْضَهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي غَيْرِ الْإِبِلِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا كَعِوَضِ الْأَمْوَالِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ الْوَرِقَ بَدَلًا عَنْ الْإِبِلِ، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهَا أَصْلًا. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبِلُ، فَإِنَّ إيجَابَهُ لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْوِيمِ، لِغَلَاءِ الْإِبِلِ، وَلَوْ كَانَتْ أُصُولًا بِنَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ إيجَابُهَا تَقْوِيمًا لِلْإِبِلِ، وَلَا كَانَ لِغَلَاءِ الْإِبِلِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا لِذِكْرِهِ مَعْنًى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُقَوِّمُ الْإِبِلَ قَبْلَ أَنْ تَغْلُوَ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَتُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ حِينَ كَانَتْ الدِّيَةُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. (6775) فَصْلٌ: فَإِذَا قُلْنَا هِيَ خَمْسَةُ أُصُولٍ، فَإِنَّ قَدْرَهَا مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ مِثْقَالٍ، وَمِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْحُلَلِ مِائَتَانِ، وَمِنْ الشَّاءِ أَلْفَانِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ فِي قَدْرِهَا مِنْ الذَّهَبِ، وَلَا مِنْ سَائِرِهَا، إلَّا الْوَرِقِ، فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ قَالُوا: قَدْرُهَا عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ الْوَرِقِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ؛ لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ، أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْدُولٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، بِدَلِيلِ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَنِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَانِ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَعُرْوَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ وَابْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 عَبَّاسٍ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ، وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْدُولٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ فَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ أَوْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ، أَوْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نِصَابُ أَحَدِهِمَا مَعْدُولًا بِنِصَابِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ السَّائِمَةَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ نِصَابُ شَيْءٍ مِنْهَا مَعْدُولًا بِنِصَابِ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ عَشَرَةَ آلَافٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثٌ مُسْنَدٌ وَلَا مُرْسَلٌ، وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ، يُخَالِفُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْهُ. [فَصْلٌ الدِّيَة مَتَى وَجَدَتْ عَلَى الصُّفَّة الْمَشْرُوطَة وَجَبَ أَخَذَهَا] (6776) فَصْلٌ: وَعَلَى هَذَا، أَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، لَزِمَ الْوَلِيَّ أَخْذُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ النَّوْعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا أُصُولٌ فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ، يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَكَانَتْ الْخِيَرَةُ إلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَكَشَاتَيْ الْجُبْرَانِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ الدَّرَاهِمِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْأَصْلُ الْإِبِلُ خَاصَّةً. فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْعُدُولَ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا، فَلِلْآخَرِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا، فَاسْتُحِقَّتْ، كَالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ. وَإِنْ أَعْوَزَتْ الْإِبِلُ، وَلَمْ تُوجَدْ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَلَهُ الْعُدُولُ إلَى أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: تَجِبُ قِيمَةُ الْإِبِلِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عُمَرَ فِي تَقْوِيمِ الْإِبِلِ، وَلِأَنَّ مَا ضَمِنَ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، كَذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ إذَا أَجْزَأَتْ إذَا قَلَّتْ قِيمَتُهَا، يَنْبَغِي أَنْ تُجْزِئَ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا، كَالدَّنَانِيرِ إذَا غَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ إذَا غَلَتْ الْإِبِلُ كُلُّهَا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْإِبِلُ مَوْجُودَةً بِثَمَنِ مِثْلِهَا، إلَّا أَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 هَذَا لَمْ يَجِدْهَا، لِكَوْنِهَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ عُمَرَ قَوَّمَ الدِّيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَأَلْفَ دِينَارٍ. (6777) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْإِبِلِ، بَلْ مَتَى وُجِدَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَجَبَ أَخْذُهَا، قَلَّتْ قِيمَتُهَا أَوْ كَثُرَتْ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنْ تُؤْخَذَ مِائَةٌ، قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَدَّى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَوَّمَ الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ مِثْقَالٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قِيمَتُهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ إبْدَالُ مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَيَجِبُ أَنْ تَتَسَاوَى فِي الْقِيمَةِ، كَالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ، وَالْمُتْلَفِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَهَذَا مُطْلَقٌ فَتَقْيِيدُهُ يُخَالِفُ إطْلَاقَهُ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا بِدَلِيلِ؛ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْخَذُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيمَتُهَا ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَقَوْلُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: إنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ. فَقَوْمهَا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي حَالِ رُخْصِهَا أَقَلُّ قِيمَة مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَتْ تُؤْخَذُ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ وِلَايَةِ عُمَرَ، مَعَ رُخْصِهَا وَقِلَّةِ قِيمَتِهَا وَنَقْصِهَا عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِيجَابُ ذَلِكَ فِيهَا خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، فَغَلَّظَ دِيَةَ الْعَمْدِ، وَخَفَّفَ دِيَةَ الْخَطَأِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَاعْتِبَارُهَا بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهُمَا، وَجَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَهُ الشَّارِعُ، وَإِزَالَةٌ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ جَمِيعًا، بَلْ هُوَ تَغْلِيظٌ لِدِيَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ابْنِ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ ثَنِيَّةٍ أَوْ جَذَعَةٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 يَشُقُّ جِدًّا، فَيَكُونُ تَغْلِيظًا لِلدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَتَخْفِيفًا لِدِيَةِ الْعَمْدِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَوَرَدَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ نَقْصُ قِيمَةِ بَنَاتِ الْمَخَاضِ عَنْ قِيمَةِ الْحِقَاقِ وَالْجَذَعَاتِ، فَلَوْ كَانَتْ تُؤَدَّى عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهَا لَنُقِلَ، وَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ، وَجَبَ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ تَلْبِيسًا فِي الشَّرِيعَةِ وَإِيهَامَهُمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِلَافُ مَا هُوَ حُكْمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِلْبَيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . فَكَيْفَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْإِلْبَاسِ وَالْإِلْغَازِ، هَذَا مِمَّا لَا يَحِلُّ. ثُمَّ لَوْ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْأَسْنَانُ عَبَثًا غَيْرَ مُفِيدٍ، فَإِنَّ فَائِدَة ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ اخْتِلَافِ أَسْنَانِهَا مَظِنَّةَ اخْتِلَافِ الْقِيَمِ، فَأُقِيمَ مُقَامَهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِغَيْرِهَا، كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَلِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، كَالْإِبِلِ فِي السِّلْمِ وَشَاةِ الْجُبْرَانِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّ الْإِبِلَ كَانَتْ تُؤْخَذُ قَبْلَ أَنْ تَغْلُوَ وَيُقَوِّمَهَا عُمَرُ، وَقِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ قِيمَتَهَا كَانَتْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: دِيَةُ الْكِتَابِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أَبْدَالُ مَحَلٍّ وَاحِدٍ. فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ، وَنَقُولَ: الْبَدَلُ إنَّمَا هُوَ الْإِبِلُ، وَغَيْرُهَا مُعْتَبَرٌ بِهَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَهُوَ مُنْتَقِضٌ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَسَاوِيهِمَا، وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِشَاةِ الْجُبْرَانِ مَعَ الدَّرَاهِمِ. وَأَمَّا بَدَلُ الْقَرْضِ وَالْمُتْلَفِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْمِثْلُ خَاصَّةً، وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْهُ؛ وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِقَوْلِكُمْ: إنَّ الْإِبِلَ هِيَ الْأَصْلُ، وَغَيْرُهَا بَدَلٌ عَنْهَا فَيَجِبُ أَنْ يُسَاوِيَهَا كَالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ. قُلْنَا: إذَا ثَبَتَ لَنَا هَذَا، يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ غَيْرُهَا بِهَا، وَلَا تُقَوَّمُ هِيَ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَلَا يَتْبَعُ الْأَصْلُ الْبَدَلَ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا صَيَّرَ إلَى التَّقْدِيرِ بِهَذَا؛ لِأَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوَّمَهَا فِي وَقْتِهِ بِذَلِكَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، كَيْلًا يُؤَدِّيَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي قِيمَةِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ، كَمَا قُدِّرَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ بِصَاعٍ مِنْ التَّمْرِ، نَفْيًا لِلتَّنَازُعِ فِي قِيمَتِهِ، فَلَا يُوجِبُ هَذَا أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلَ إلَى التَّقْوِيمِ، فَيُفْضِيَ إلَى عَكْسِ حِكْمَةِ الشَّرْعِ، وَوُقُوعِ التَّنَازُعِ فِي قِيمَةِ الْإِبِلِ مَعَ وُجُوبِهَا بِعَيْنِهَا، عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَدَلَيْ الْقَرْضِ مُسَاوَاةُ الْمَحَلِّ الْمُقْرَضِ، فَاعْتُبِرَ مُسَاوَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْهِ لَهُ. وَالدِّيَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ؛ وَلِهَذَا لَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُهُ. وَهَكَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْوِيمِ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالْحُلَلِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَبْلَغُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَتَكُونُ قِيمَةُ كُلِّ بَقَرَةٍ أَوْ حُلَّةٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، لِتَتَسَاوَى الْأَبْدَالُ كُلُّهَا، وَكُلُّ حُلَّةٍ بُرْدَتَانِ، فَيَكُونَ أَرْبَعمِائَةِ بُرْدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 [فَصْلٌ مَا لَا يَقْبَل فِي الْأَبِل] (6778) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ فِي الْإِبِلِ مَعِيبٌ، وَلَا أَعْجَفُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ إبِلِهِ، وَلَا إبِلِ بَلَدِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ إبِلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلَ أَوْ الْعَاقِلَةَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَيَجِبُ كَوْنُهَا مِنْ جِنْسِ مَالِهِمْ، كَالزَّكَاةِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ عِرَابٌ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَخَاتِي، أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ وَاحِدٍ صِنْفَانِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِقِسْطِهِ. وَالثَّانِي، يُؤْخَذُ مِنْ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا، دَفَعَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. فَإِنْ دَفَعَ مِنْ غَيْرِ إبِلِهِ خَيْرًا مِنْ إبِلِهِ أَوْ مِثْلَهَا، جَازَ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ فِي الزَّكَاةِ خَيْرًا مِنْ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ أَدْوَنَ، لَمْ يُقْبَلْ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُسْتَحِقُّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ، فَمِنْ غَالِبِ إبِلِ الْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إبِلٌ، وَجَبَ مِنْ غَالِبِ إبِلِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ إبِلُهُ عِجَافًا أَوْ مِرَاضًا، كُلِّفَ تَحْصِيلَ صِحَاحٍ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَلَا تُؤْخَذُ فِيهِ مَعِيبَةٌ، كَقِيمَةِ الثَّوْبِ الْمُتْلَفِ، وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . أَطْلَقَ الْإِبِلَ، فَمَنْ قَيَّدَهَا احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ وَلِأَنَّهَا بَدَلُ الْمُتْلَفِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِجِنْسِ مَالِهِ، كَبَدَلِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لَيْسَ سَبَبُهُ الْمَالَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ كَوْنُهُ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْقَرْضِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدِّيَةِ جَبْرُ الْمَفُوتِ، وَالْجَبْرُ لَا يَخْتَصُّ بِجِنْسِ مَالِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَفَارَقَ الزَّكَاةَ؛ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، لِيُشَارِكَ الْفُقَرَاءُ الْأَغْنِيَاءَ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ، فَاقْتَضَى كَوْنَهُ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِمَالِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا مُوَاسَاةٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كَبَدَلِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تُوَاسِي الْقَاتِلَ فِيمَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا ذَوِي إبِلٍ، وَالْوَاجِبُ بِجِنَايَتِهِ إبِلٌ مُطْلَقَةٌ، فَتُوَاسِيه فِي تَحَمُّلِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ مِنْ جِنْسِ مَالِهِمْ، لَوَجَبَتْ الْمَرِيضَةُ مِنْ الْمِرَاضِ، وَالصَّغِيرَةُ مِنْ الصِّغَارِ، كَالزَّكَاةِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْقَتْل عَمْدًا فَالدِّيَة عَلَى مَال الْقَاتِل] (6779) مَسْأَلَةٌ: (قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا، فَهِيَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، حَالَّةً أَرْبَاعًا؛ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ. وَهَذَا قَضِيَّةُ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ بَدَلَ الْمُتْلَفِ، يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَانِي، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» . وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابه، حِينَ رَأَى مَعَهُ وَلَدَهُ: " ابْنُك هَذَا؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «أَمَّا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ أَثَرُ فِعْلِ الْجَانِي، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ بِضَرَرِهَا، كَمَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَسَبَ كَانَ كَسْبُهُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَالْأَكْسَابِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِي قَتْلِ الْمَعْذُورِ فِيهِ، لِكَثْرَةِ الْوَاجِبِ، وَعَجْزِ الْجَانِي فِي الْغَالِبِ عَنْ تَحَمُّلِهِ، مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، وَقِيَامِ عُذْرِهِ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَرِفْقًا بِهِ، وَالْعَامِدُ لَا عُذْرَ لَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْمُوَاسَاةِ فِي الْخَطَأِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ حَالَّةً. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ آدَمِيٍّ، فَكَانَتْ مُؤَجَّلَةً، كَدِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا وَجَبَ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ كَانَ حَالًّا، كَالْقِصَاصِ، وَأَرْشُ أَطْرَافِ الْعَبْدِ، وَلَا يُشْبِهُ شِبْهَ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مَعْذُورٌ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا أَفْضَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ؛ وَلِهَذَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ التَّخْفِيفُ عَلَى الْعَاقِلَة الَّذِينَ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ جِنَايَةٌ، وَحَمَلُوا أَدَاءَ مَالٍ مُوَاسَاةً، فَالْأَرْفَقُ بِحَالِهِمْ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَمَّا الْعَمْدُ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ الْجَانِي فِي غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِبَدَلِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ مَعَهُ، فِيمَا إذَا قَتَلَ ابْنَهُ، أَوْ قَتَلَ أَجْنَبِيًّا، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ، لِعَفْوِ بَعْضِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي مِقْدَارِهَا، فَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا أَرْبَاعٌ، كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَالْمُغِيرَةِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّ: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا، دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ» . وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُمْ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: قَتَادَةَ حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلَهُ فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْهُ الدِّيَةَ؛ ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَاعًا خَمْسًا وَعُشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسًا وَعُشْرِينَ حِقَّةً، وَخَمْسًا وَعُشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسًا وَعُشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ الْحَيَوَانِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَمْلُ، كَالزَّكَاةِ وَالْأُضْحِيَّةِ. (6780) فَصْلٌ: وَالْخَلِفَةُ: الْحَامِلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» تَأْكِيدٌ، وَقَلَّمَا تَحْمِلُ إلَّا ثَنِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ، وَأَيُّ نَاقَةٍ حَمَلَتْ فَهِيَ خَلِفَةً، تُجْزِئُ فِي الدِّيَةِ، وَقَدْ قِيلَ: لَا تُجْزِئُ إلَّا ثَنِيَّةٌ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «أَرْبَعُونَ خَلِفَةً، مَا بَيْنَ ثَنِيَّةِ عَامِهَا إلَى بَازِلٍ» . وَلِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْإِبِلِ مُقَدَّرَةُ السِّنِّ، فَكَذَلِكَ الْخَلِفَةُ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي هُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ الْخَلِفَةَ، وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَامِلُ، فَيَقْتَضِي أَنْ تُجْزِئَ كُلُّ حَامِلٍ. وَلَوْ أَحْضَرَهَا خَلِفَةً، فَأَسْقَطَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا، فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا، فَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ قَبْضِهَا أَجْزَأَتْ؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْهَا بِدَفْعِهَا. [فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي حَمَلَهَا الدِّيَة فِي الْقَتْل الْعَمْد] (6781) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي حَمْلِهَا، رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، كَمَا يُرْجَعُ فِي حَمْلِ الْمَرْأَةِ إلَى الْقَوَابِلِ. وَإِنْ تَسَلَّمْهَا الْوَلِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ تَكُنْ حَوَامِلَ، وَقَدْ ضَمَرَتْ أَجْوَافُهَا، فَقَالَ الْجَانِي بَلْ قَدْ وَلَدَتْ عِنْدَك. نَظَرْت؛ فَإِنْ قَبَضَهَا بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَتُهُمْ، وَإِنْ قَبَضَهَا بِغَيْرِ قَوْلِهِمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْقَوْل فِي أَسْنَان دِيَة شَبَه الْعَمْد] (6782) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ شِبْهَ عَمْدٍ فَكَمَا وَصَفْت فِي أَسْنَانِهَا، إلَّا أَنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَسْنَانِ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، كَالْقَوْلِ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ، سَوَاءٌ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهَا، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُ الْعَمْدَ فِي أَمْرَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا أَنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: هِيَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهَا مُوجِبُ فِعْلٍ قَصَدَهُ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَالْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَلِأَنَّهَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَأَشْبَهَتْ دِيَةَ الْعَمْدِ. وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْعَمْدِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ نَوْعُ قَتْلٍ لَا يُوجِبُ قِصَاصًا فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، كَالْخَطَأِ، وَيُخَالِفُ الْعَمْدَ الْمَحْضَ؛ لِأَنَّهُ يُغَلَّظُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِقَصْدِهِ الْفِعْلَ، وَإِرَادَتِهِ الْقَتْلَ، وَعَمْدُ الْخَطَأِ يُغَلَّظُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ قَصْدُهُ الْفِعْلَ، وَيُخَفَّفُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَمْ يُرِدْ الْقَتْلَ، فَاقْتَضَى تَغْلِيظَهَا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْأَسْنَانُ، وَتَخْفِيفَهَا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ لَهَا وَتَأْجِيلُهَا. وَلَا أَعْلَمُ فِي أَنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْخَوَارِجِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الدِّيَةُ حَالَّةٌ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ. وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا ذَلِكَ عَنْ مَنْ يُعَدُّ خِلَافُهُ خِلَافًا. وَتُخَالِفُ الدِّيَةُ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاة لَهُ فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ تَخْفِيفهَا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا، فَكَانَ إجْمَاعًا. [فَصْلٌ يَجِب فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ ثُلُثُهَا الدِّيَة] (6783) فَصْلٌ: وَيَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ ثُلُثُهَا، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السَّنَةِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الدِّيَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ حَكَمَ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ حَكَمَ الْحَاكِمُ، كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ مُؤَجَّلٌ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ أَجَلِهِ مِنْ حِينِ وُجُوبِهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالسَّلَمِ، وَلَا نُسَلِّمُ الْخِلَافَ فِيهَا، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ نَفْسٍ، فَابْتِدَاءُ حَوْلِهَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، سَوَاءٌ كَانَ قَتْلًا مُوجِبًا، أَوْ عَنْ سِرَايَةِ جُرْحٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ جُرْحٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ عَنْ جُرْحٍ انْدَمَلَ مِنْ غَيْرِ سِرَايَةٍ، مِثْلَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فَبَرَأَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ حَالَةُ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ وَهُوَ ذِمِّيٌّ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ انْدَمَلَتْ، وَجَبَ نِصْفُ دِيَةِ يَهُودِيٍّ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْجُرْحُ سَارِيًا، مِثْلَ أَنْ قَطَعَ إصْبَعَهُ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى كَفِّهِ، ثُمَّ انْدَمَلَ، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الِانْدِمَالِ؛ لِأَنَّهَا إذَا سَرَتْ، فَمَا اسْتَقَرَّ الْأَرْشُ إلَّا عِنْدَ الِانْدِمَالِ. هَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ الِانْدِمَالِ فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالِانْدِمَالِ فِيهِمَا. [فَصْلٌ تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ] (6784) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةً فَإِنَّهَا تُقْسَمُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ دِيَةَ النَّفْسِ أَوْ دِيَةَ الطَّرَفِ، كَدِيَةِ جَدْعِ الْأَنْفِ أَوْ الْأُذُنَيْنِ، أَوْ قَطْعِ الذَّكَرِ أَوْ الْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ كَانَ دُونَ الدِّيَةِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، كَدِيَةِ الْمَأْمُومِ أَوْ الْجَائِفَةِ، وَجَبَ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَجِبُ مِنْهُ شَيْءٌ حَالًّا لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ حَالًّا وَإِنْ كَانَ نِصْفَ الدِّيَة أَوْ ثُلُثَهَا، كَدِيَةِ الْيَدِ أَوْ دِيَةِ الْمَنْخِرَيْنِ، وَجَبَ الثُّلُثُ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَالْبَاقِي فِي آخِرِ السَّنَةِ الثَّانِيَة. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ كَدِيَةِ ثَمَانِ أَصَابِعَ، وَجَبَ الثُّلُثَانِ فِي السَّنَتَيْنِ، وَالْبَاقِي فِي آخِرِ الثَّالِثَةِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةٍ مِثْلَ أَنْ ذَهَبَ سَمْعُ إنْسَانٍ وَبَصَرُهُ، فَفِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَوْ كَانَ دُونَ الدِّيَةِ، لَمْ يَنْقُصْ فِي السَّنَةِ عَنْ الثُّلُثِ، فَكَذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى اثْنَيْنِ، وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ دِيَةٌ، فَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَهَا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ حَقُّهُ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، كَدِيَةِ الْإِصْبَعِ، لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَيَجِبُ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا تَحْمِلُهُ، فَكَانَ حَالًّا؛ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ. [فَصْلٌ الدِّيَة النَّاقِصَة] (6785) فَصْلٌ: وَفِي الدِّيَةِ النَّاقِصَةِ، كَدِيَةِ الْمَرْأَةِ وَالْكِتَابِيِّ، وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تُقْسَمُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ، فَأَشْبَهْت الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ. وَالثَّانِي، يَجِبُ مِنْهَا فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَبَاقِيهَا فِي الْعَامِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَنْقُصُ عَنْ الدِّيَةِ، فَلَمْ تُقْسَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، كَأَرْشِ الطَّرَفِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِلشَّافِعِي كَالْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ الدِّيَةُ لَا تَبْلُغُ ثُلُثَ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَهُوَ ثَمَانمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةِ الْجَنِينِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، لَمْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ، فَأَشْبَهَ دِيَةَ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ، إلَّا أَنْ يُقْتَلَ الْجَنِينُ مَعَ أُمِّهِ، فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَكُونُ دِيَةُ الْأُمِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ فِي عَامَيْنِ. كَانَتْ دِيَةُ الْجَنِينِ وَاجِبَةً مَعَ ثُلُثِ دِيَةِ الْأُمِّ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا دِيَةٌ أُخْرَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ مَعَ بَاقِي دِيَةِ الْأُمِّ فِي الْعَامِ الثَّانِي. وَإِنْ قُلْنَا دِيَةُ الْأُمِّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. فَهَلْ يَجِبُ دِيَةُ الْجَنِينِ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ فَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَجَبَتْ فِي السِّنِينَ الَّتِي وَجَبَتْ فِيهَا دِيَةُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمَا دِيَتَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ دِيَتِهَا وَثُلُثُ دِيَتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أُخْرَى؛ لِأَنَّ تَلَفَهَا مُوجِبُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ. . [مَسْأَلَةٌ الْقَتْل الْخَطَأِ] (6786) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، كَانَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، تُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَخْمَاسًا، عِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا، كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ أَخْمَاسٌ، إلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَكَانِ بَنِي مَخَاضٍ بَنِي لَبُونٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ النَّخَعِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ: الْخَطَّابِيُّ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَة. وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيُّ وَإِسْحَاقَ، أَنَّهَا أَرْبَاعٌ، كَدِيَةِ الْعَمْدِ سَوَاءً. وَعَنْ زَيْدٍ، أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ «رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً، فَدِيَتُهُ مِنْ الْإِبِلِ ثَلَاثُونَ بِنْتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَعَشَرَةٌ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الدِّيَاتُ كُلُّهَا أَخْمَاسٌ، كَدِيَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَلَا تَخْتَلِفُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. وَحُكِيَ عَنْهُ، أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ، وَدِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَخْمَاسٌ؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَكَانَ أَخْمَاسًا، كَدِيَةِ الْخَطَأِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ ابْنَ لَبُونٍ يَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ ابْنَةِ مَخَاضٍ فِي الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَجِدْهَا، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ ابْنَةَ مَخَاضٍ؛ وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ الْأَقَلُّ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، يَجِبُ عَلَى مِنْ ادَّعَاهُ الدَّلِيلُ، فَأَمَّا دِيَةُ قَتِيلِ خَيْبَرَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ قَتْلَهُ إلَّا عَمْدًا، فَتَكُونُ دِيَتُهُ دِيَةَ الْعَمْدِ، وَهِيَ مِنْ أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ، وَالْخِلَافُ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ. وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ يُخَالِفُ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ الدِّيَة الْخَطَأ عَلَى الْعَاقِلَة] فَصْلٌ: وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ عَمْدِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ تَكْثُرُ، وَدِيَةَ الْآدَمِيِّ كَثِيرَةٌ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ، فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ إيجَابَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ، وَالْإِعَانَةِ لَهُ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، إذْ كَانَ مَعْذُورًا فِي فِعْلِهِ، وَيَنْفَرِدُ هُوَ بِالْكَفَّارَةِ. [فَصْلٌ كُلُّ دِيَةٍ تَحْمِلهَا الْعَاقِلَةُ مُؤَجَّلَةٍ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ] (6788) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ، وَعَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، جَعَلَا دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَلَمْ يَجِبْ حَالًّا كَالزَّكَاةِ، وَكُلُّ دِيَةٍ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، تَجِبُ مُؤَجَّلَةً؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا لَا تَحْمِلُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 الْعَاقِلَةُ يَجِبُ حَالًّا، لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَلَزِمَ الْمُتْلِفَ حَالًّا، كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَفَارَقَ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ مُوَاسَاةً، فَأُلْزِمَ التَّأْجِيلُ تَخْفِيفًا عَلَى مُتَحَمِّلِهِ، وَعَدَلَ بِهِ عَنْ الْأَصْلِ فِي التَّأْجِيلِ، كَمَا عَدَلَ بِهِ عَنْ الْأَصْلِ فِي إلْزَامِهِ غَيْرِ الْجَانِي. [فَصْلٌ لَا يَلْزَمُ الْقَاتِلَ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ] (6789) فَصْلٌ: وَلَا يَلْزَمُ الْقَاتِلَ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ إعَانَةً لَهُ، فَلَا يَزِيدُونَ عَلَيْهِ فِيهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَضَى بِجَمِيعِهَا عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ لَمْ تَلْزَمْهُ الدِّيَةُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَعْضُهَا، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِقَتْلِ رَجُلٍ، فَقَتَلَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِحَقٍّ، فَبَانَ مَظْلُومًا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ الْقَاتِلَ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ الْكَفَّارَة فِي مَال الْقَاتِل] (6790) فَصْلٌ: وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا يَدْخُلُهَا تَحَمُّلٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ، فَإِيجَابُهَا فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا كَفَّارَةٌ، فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُهَا، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ صَوْمًا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ الْجَانِي، وَلَا يُكَفَّرُ عَنْهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ، فَإِنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ لِجَبْرِ الْمَحَلِّ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهَا كَيْفَمَا كَانَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْقَاتِلَةِ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الدِّيَةِ لَوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الدِّيَةَ لَمْ تَجِبْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ. الثَّانِي: أَنَّ الدِّيَةَ كَثِيرَةٌ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْقَاتِلِ يُجْحِفُ بِهِ، وَالْكَفَّارَةُ بِخِلَافِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الدِّيَةَ وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْقَاتِلِ، وَجُعِلَ حَظُّ الْقَاتِلِ مِنْ الْوَاجِبِ الْكَفَّارَةَ، فَإِيجَابُهَا عَلَى غَيْرِهِ يَقْطَعُ الْمُوَاسَاةَ، وَيُوجِبُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 [فَصْلٌ الدِّيَة تَغْلُظ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاء] (6791) فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، وَالشُّهُورِ الْحُرُمِ، وَإِذَا قَتَلَ مُحْرِمًا. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ، مَحْرَمٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَغْلُظ دِيَتُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تُغَلَّظُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُغَلَّظُ بِالْحَرَمِ، وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَفِي التَّغْلِيظِ بِالْإِحْرَامِ وَجْهَانِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّغْلِيظُ؛ عُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسَّعِيدَانِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّغْلِيظِ فِي صِفَتِهِ؛ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تُغَلَّظُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُرُمَاتِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعْت الْحُرُمَاتُ الثَّلَاثُ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، فِي مَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ، وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَهَذَا قَوْلُ التَّابِعِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّغْلِيظِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: صِفَةُ التَّغْلِيظِ، إيجَابُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي الْخَطَأِ لَا غَيْرُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْخَطَأِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ تَغْلِيظَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، إلَّا أَنَّهُ يُغَلَّظُ فِي الْعَمْدِ، فَإِذَا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَتَغْلِيظُهَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَنْ نَنْظُرَ قِيمَةَ أَسْنَانِ الْإِبِلِ غَيْرَ مُغَلَّظَةٍ، وَقِيمَتَهَا مُغَلَّظَةً، ثُمَّ يُحْكَمُ بِزِيَادَةِ مَا بَيْنَهُمَا، كَانَ قِيمَتُهَا مُخَفَّفَةً سِتُّمِائَةٍ، وَفِي الْعَمْدِ ثَمَانُمِائَةٍ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ تُغَلَّظُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ، دُونَ غَيْرِهِمْ. وَاحْتَجَّا عَلَى صِفَةِ التَّغْلِيظِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَتَادَةَ الْمُدْلِجِي دِيَةَ ابْنِهِ حِينَ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِ شَيْئًا. وَهَذِهِ قِصَّةٌ اشْتَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ أَوْجَبَهُ فِي الْأَسْنَانِ دُونَ الْقَدْرِ، كَالضَّمَانِ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ تَغْلِيظَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ بِالضَّمَانِ إذَا اجْتَمَعَ سَبَبَانِ تَدَاخَلَا، كَالْحُرِّ وَالْإِحْرَامِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُغَلَّظُ بِالْإِحْرَامِ، أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِتَغْلِيظِهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّ امْرَأَةً وَطِئَتْ فِي الطَّوَافِ فَقَضَى عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهَا بِسِتَّةِ آلَافٍ وَأَلْفَيْنِ تَغْلِيظًا لِلْحَرَمِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ ذَا رَحِمٍ، أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ: دِيَتُهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَلِلشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلِلْبَلَدِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَهَذَا مِمَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ. وَلَمْ يُنْكَرْ، فَيَثْبُتُ إجْمَاعًا. وَهَذَا فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ تَغْلِيظَاتٍ ثَلَاثٍ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ التَّابِعِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّغْلِيظِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى التَّغْلِيظِ فِي الْعَمْدِ، أَنَّهُ إذَا غُلِّظَ الْخَطَأُ مَعَ الْعُذْرِ فِيهِ، فَفِي الْعَمْدِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَوْلَى. وَكُلُّ مَنْ غَلَّظَ الدِّيَةَ أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ فِي بَدَلِ الطَّرَفِ، بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ النَّفْسِ، أَوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ الطَّرَفِ، كَالْعَمْدِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تُغَلَّظُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْجُورْجَانِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. (وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ مِثْقَالٍ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَأَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلُهُ، مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . وَهَذَا الْقَتْلُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَزِدْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدِّيَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] يَقْتَضِي أَنَّ الدِّيَةَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ قَتَادَةَ الْمُدْلِجِيِّ دِيَةَ ابْنِهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مِائَةٍ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبَى الزِّنَادِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْد الْعَزِيزِ، كَانَ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءِ، فَكَانَ مِمَّا أُحْيِي مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ بُقُولِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَنُظَرَائِهِمْ، أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَلْغَى عُمَرُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذَلِكَ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ، وَأَثْبَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَغَيْرِهِمَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَيْسَ بِثَابِتٍ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا. وَلَوْ صَحَّ فَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ، وَقَوْلُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي الرِّوَايَةِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْقِيَاسَ. [فَصْلٌ لَا تَغْلُظ الدِّيَة بِمَوْضِعِ غَيْر الْحَرَم] (6792) فَصْلٌ: وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ الْحَرَمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بِالْقَتْلِ فِي الْمَدِينَةِ. عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهَا مَكَانٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ، فَأَشْبَهْت الْحَرَمَ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْمَنَاسِكِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 الْبُلْدَانِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْحَرَمِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ أَلَيْسَتْ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ؟ قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْبِلَادِ حُرْمَةً، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ بِدَخْلِ الْجَاهِلِيَّةِ» . وَتَحْرِيمُ الصَّيْدِ لَيْسَ هُوَ الْعِلَّةَ فِي التَّغْلِيظِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤَثِّرِ فَقَدْ خَالَفَ تَحْرِيمُهُ تَحْرِيمَ الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ قَتَلَ فِيهِ صَيْدًا. وَلَا يَحْرُمُ الرَّعْيُ فِيهِ، وَلَا الِاحْتِشَاشُ مِنْهُ، وَلَا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرَّحْلِ وَالْعَارِضَةِ وَالْقَائِمَةِ وَشِبْهِهِ. [مَسْأَلَةٌ فِي تَحْمِل الْعَاقِلَة الدِّيَة خَمْسُ مَسَائِل] [الْمَسْأَلَة الْأُولَى الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ] (6793) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ، وَلَا الْعَمْدَ، وَلَا الصُّلْحَ، وَلَا الِاعْتِرَافَ، وَمَا دُونَ الثُّلُثِ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسُ مَسَائِلَ: (6794) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ. يَعْنِي إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ قَاتِلٌ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، خَطَأً كَانَ أَوْ عَمْدًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْبَتِّيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ، فَحَمَلَتْ الْعَاقِلَةُ بَدَلَهُ، كَالْحُرِّ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي دِيَةِ أَطْرَافِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا صُلْحًا، وَلَا اعْتِرَافًا.» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِيمَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَسَائِرِ الْقِيَمِ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ قِيمَةَ أَطْرَافِهِ، فَلَمْ تَحْمِلْ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِهِ، كَالْفَرَسِ. وَبِهَذَا فَارَقَ الْحُرَّ. [الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةَ دِيَة مَا يَجِبُ فِي الْقِصَاصِ] (6795) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ، أَوْ لَا يَجِبُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ دِيَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِكُلِّ حَالٍ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهَا تَحْمِلُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا، كَالْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ لَا قِصَاصَ فِيهَا، أَشْبَهَتْ جِنَايَةَ الْخَطَأِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ عَمْدٍ، فَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، كَالْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَجِنَايَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْخَطَأِ، لِكَوْنِ الْجَانِي مَعْذُورًا، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَمُوَاسَاةً لَهُ، وَالْعَامِدُ غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ وَلَا الْمُعَاوَنَةَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمُقْتَضِي. وَبِهَذَا فَارَقَ الْعَمْدُ الْخَطَأَ. ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. [فَصْلٌ اقْتَصَّ بِحَدِيدَةِ مَسْمُومَة فَسَرَّى إلَى النَّفْسِ] (6796) فَصْلٌ: وَإِنْ اقْتَصَّ بِحَدِيدَةٍ مَسْمُومَةٍ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، أَشْبَهَ عَمْدَ الْخَطَأِ. وَالثَّانِي: لَا تَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِآلَةٍ يَقْتُلُ مِثْلُهَا غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا قِصَاصَ لَهُ. وَلَوْ وَكَّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَفْوِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ عَمَدَ قَتْلَهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِد الْجِنَايَةَ، وَمِثْلُ هَذَا يُعَدُّ خَطَأً، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا، فَإِنَّهُ عَمَدَ قَتْلَهُ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْلٌ عَمْد الصَّبِيّ وَالْمَجْنُون خَطَأ تَحْمِلهُ الْعَاقِلَةُ] (6797) فَصْلٌ: وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ يَجُوزُ تَأْدِيبُهُمَا عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ مِنْ الْبَالِغِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْقَصْدِ، فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، كَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، لِأَجْلِ الْعُذْرِ، فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ وَشِبْهَ الْعَمْدِ. وَبِهَذَا فَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ. [الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الصُّلْحَ] (6798) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الصُّلْحَ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ، فَيُنْكِرَهُ وَيُصَالِحَ الْمُدَّعِي عَلَى مَالٍ، فَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ بِمُصَالَحَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَاَلَّذِي ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنْ يُصَالِحَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إلَى الدِّيَةِ. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا عَمْدٌ، فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِذِكْرِ الْعَمْدِ. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الصُّلْحَ. ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ، أَدَّى إلَى أَنْ يُصَالِحَ بِمَالِ غَيْرِهِ، وَيُوجِبَ عَلَيْهِ حَقًّا بِقَوْلِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الِاعْتِرَافَ] (6799) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَتْلِ خَطَأٍ، أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ، لَوَجَبَ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِمْ، وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ شَخْصٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يُوَاطِئَ مَنْ يُقِرُّ لَهُ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنْ عَاقِلَتِهِ، فَيُقَاسِمَهُ إيَّاهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ حَالَّةً فِي مَالِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مُوجِبُ إقْرَارِهِ، فَكَانَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ مَالٍ، أَوْ بِمَا لَا تَحْمِلُ دِيَتَهُ الْعَاقِلَةُ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَضْمُونٌ، فَيَضْمَنُ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ، كَسَائِرِ الْمَحَالِّ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ الدِّيَةُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لَهَا، فَإِذَا لَمْ تَحْمِلْهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهِ، كَجِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ. [الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة لَا تَحْمِل الْعَاقِلَة مَا دُونَ الثُّلُث] (6800) الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَعَبْدُ الْعَزِيز، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَالَ: لَا تَحْمِلُ الثُّلُثَ أَيْضًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَحْمِلُ السِّنَّ، وَالْمُوضِحَةَ، وَمَا فَوْقَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْغُرَّةَ الَّتِي فِي الْجَبِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَلَا تَحْمِلُ مَا دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ. وَالصَّحِيحُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهَا تَحْمِلُ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَمَلَ الْكَثِيرَ حَمَلَ الْقَلِيلَ، كَالْجَانِي فِي الْعَمْدِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الدِّيَةِ أَنْ لَا يُحْمَلَ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَقْلَ الْمَأْمُومَةِ. وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَصْلِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، وَبَدَلُ مُتْلَفِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي الثُّلُثِ فَصَاعِدًا، تَخْفِيفًا عَنْ الْجَانِي، لِكَوْنِهِ كَثِيرًا يُجْحَفُ بِهِ، قَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الثُّلُثُ كَثِيرٌ. فَفِي مَا دُونَهُ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْأَصْلِ وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الثُّلُثَ كَثِيرًا، فَأَمَّا دِيَةُ الْجَنِينِ، فَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، إلَّا إذَا مَاتَ مَعَ أُمِّهِ مِنْ الضَّرْبَةِ؛ لِكَوْنِ دِيَتِهِمَا، جَمِيعًا مُوجَبُ جِنَايَةٍ، تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ فَلِأَنَّهَا دِيَةُ آدَمِيٍّ كَامِلَةٌ. [فَصْلٌ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الطَّرَفِ إذَا بَلَغَ الثُّلُثَ] (6801) فَصْلٌ: وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الطَّرَفِ إذَا بَلَغَ الثُّلُثَ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ. وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ جِنَايَةٍ عَلَى حُرٍّ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَحَمَلَتْهَا الْعَاقِلَةُ، كَدِيَةِ النَّفْسِ، وَلِأَنَّهُ كَثِيرٌ يَجِبُ ضَمَانًا لَحُرٍّ أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا جَنَى عَلَى الْأَطْرَافِ بِمَا يُوجِبُ الدِّيَةَ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهَا. [فَصْلٌ تَحْمِل الْعَاقِلَة دِيَة الْمَرْأَة] (6802) فَصْلٌ: وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْمَرْأَةِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهَا. وَتَحْمِلُ مِنْ جِرَاحِهَا مَا بَلَغَ أَرْشُهُ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ كَدِيَةِ أَنْفِهَا، وَمَا دُونَ ذَلِكَ كَدِيَةِ يَدِهَا، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي دِيَةِ الْكِتَابِيِّ. وَلَا تَحْمِلُ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّهَا دُونَ الثُّلُثِ، وَلَا دِيَةَ الْجَنِينِ إنَّ مَاتَ مُنْفَرِدًا، أَوْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ دُونَ الثُّلُثِ. وَإِنْ مَاتَ مَعَ أُمِّهِ، حَمَلَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دِيَتِهِمَا حَصَلَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ زِيَادَتِهِمَا عَلَى الثُّلُثِ، فَحَمَلَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ كَالدِّيَةِ الْوَاحِدَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْجَانَّيْ ذِمِّيًّا فَعَقَلَتْهُ عَلَى مِنْ] (6803) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْجَانِي ذِمِّيًّا، فَعَقْلُهُ عَلَى عَصَبَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيَتِهِ الْمُعَاهَدِينَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَفِي الْأُخْرَى، لَا يَتَعَاقَلُونَ؛ لِأَنَّ الْمُعَاقَلَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَمَعُونَةً لَهُ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ الْكَافِرُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَعْظَمُ حُرْمَةً، وَأَحَقُّ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمَعُونَةِ مِنْ الذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُوَاسَاةً لِفُقَرَائِهِمْ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِفُقَرَائِهِمْ، فَتَبْقَى فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ عَلَى الْأَصْلِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهُمْ عَصَبَةٌ يَرِثُونَهُ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُ، كَعَصَبَةِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ عَصَبَتُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَهُ، وَلَا الْحَرْبِيُّونَ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ وَالنُّصْرَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُ؛ إذَا قُلْنَا: إنَّهُمْ يَرِثُونَهُ. لِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ، يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَلَا يَعْقِلُ يَهُودِيٌّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، عَنْ يَهُودِيٍّ؛ لِأَنَّهُمْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنهمْ، وَهُمْ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَاقَلَا، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَوَارُثِهِمَا. [فَصْلٌ تَنْصُر يَهُودِيٌّ أَوْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ عَقَلَتْهُ عَلَى مِنْ] (6804) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَصَّرَ يَهُودِيٌّ، أَوْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ. عَقَلَ عَنْهُ عَصَبَتُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ. وَهَلْ يَعْقِلُ عَنْهُ الَّذِينَ انْتَقَلَ عَنْ دِينِهِمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقَرُّ. لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ فَيَعْقِلَ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا ذِمِّيٍّ فَيَعْقِلَ عَنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَتَكُونُ جِنَايَتُهُ فِي مَالِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا تَحْمِلُ عَاقِلَتُهُ جِنَايَتَهُ، يَكُونُ مُوجَبُهَا فِي مَالِهِ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ. [فَصْلٌ رَمَى ذِمِّيٌّ صَيْدًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ أَصَابَ السَّهْم آدَمِيًّا فَقَتَلَهُ] (6805) فَصْلٌ: وَلَوْ رَمَى ذِمِّيٌّ صَيْدًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ آدَمِيًّا فَقَتَلَهُ، لَمْ يَعْقِلْهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حَالَ رَمْيِهِ، وَلَا الْمُعَاهَدُونَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَيَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي. وَهَكَذَا لَوْ رَمَى وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ قَتَلَ السَّهْمُ إنْسَانًا، لَمْ يَعْقِلْهُ أَحَدٌ. وَلَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْجَارِحُ وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ، وَكَانَ أَرْشُ جِرَاحِهِ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ، فَعَقْلُهُ عَلَى عَصَبَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَا زَادَ عَلَى أَرْشِ الْجُرْحِ لَا يَحْمِلُهُ أَحَدٌ، وَيَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْجُرْحِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَجَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا جُرِحَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَحْمِلَ الدِّيَةَ كُلَّهَا الْعَاقِلَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ وَهُوَ مِمَّنْ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَتَهُ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ عَمْدًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِانْدِمَالِ الْجُرْحِ أَوْ سِرَايَتِهِ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً فَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا] (6806) فَصْلٌ: إذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً، فَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا، فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوْلَى أُمِّهِمْ، فَإِنْ جَنَى أَحَدُهُمْ، فَالْعَقْلُ عَلَى مَوْلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَوَارِثُهُ، فَإِنْ أُعْتِقْ أَبُوهُ ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ، أَوْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَقَعْ السَّهْمُ حَتَّى أُعْتِقَ أَبُوهُ، لَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 يَحْمِلْ عَقْلَهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ مَوَالِيَ الْأُمِّ قَدْ زَالَ وَلَاؤُهُمْ عَنْهُ قَبْلَ قَتْلِهِ، وَمَوَالِي الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ حَالَ جِنَايَتِهِ، فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْشُ الْجُرْحِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ مُنْفَرِدًا، فَيُخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسه خَطَأ أَوْ عَلِيّ أَطْرَافه] (6807) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً، أَوْ عَلَى أَطْرَافِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ الْقَاضِي: أَظْهَرُهُمَا أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ إنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ أَرْشَ جُرْحِهِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَاقَ حِمَارًا فَضَرَبَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فَطَارَتْ مِنْهَا شَظِيَّةٌ، فَأَصَابَتْ عَيْنَهُ فَفَقَأَتْهَا فَجَعَلَ عُمَرُ، دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَالَ: هِيَ يَدٌ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُصِبْهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ. وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، فَكَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا، سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ، وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَهُ مَا بَقِيَ إنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، جِنَايَتُهُ هَدْرٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَاتَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، كَالْعَمْدِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا كَانَ مُوَاسَاةً لِلْجَانِي، وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ فِيهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، لَأَجْحَفَ بِهِ وُجُوبُ الدِّيَةِ لِكَثْرَتِهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ شِبْهَ عَمْدٍ، فَهَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ كَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيه فِيمَا إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْعَمْدَ الْمَحْضَ. [فَصْلٌ خَطَأ الْإِمَام وَالْحَاكِم فِي غَيْر الْحَكَم وَالِاجْتِهَاد] (6808) فَصْلٌ: وَأَمَّا، خَطَأُ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ وَالِاجْتِهَادِ، فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ، إذَا كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا حَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ أَيْضًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَعَثَ إلَى امْرَأَةٍ ذُكِرَتْ بِسُوءٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 فَأَجْهَضَتْ جَنِينَهَا، فَقَالَ عُمَرُ لَعَلِيٍّ: عَزَمْت عَلَيْك، لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَقْسِمَهَا عَلَى قَوْمِك. وَلِأَنَّهُ جَانٍ، فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَغَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ يَكْثُرُ فِي أَحْكَامِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَإِيجَابُ عَقْلِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ يُجْحِفُ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ فِي مَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. [مَسْأَلَة جِنَايَة الْعَبْد] (6809) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ، فَعَلَى سَيِّدِهِ أَنْ يَفْدِيَهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ) . هَذَا فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تُودَى بِالْمَالِ، إمَّا لِكَوْنِهَا لَا تُوجِبُ إلَّا الْمَالَ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَعَفَا عَنْهَا إلَى الْمَالِ، فَإِنَّ، جِنَايَةَ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ إذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، أَوْ ذِمَّتِهِ، أَوْ ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، أَوْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ، وَلَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ آدَمِيٍّ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا كَجِنَايَةِ الْحُرِّ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُلْغَاةٍ، مَعَ عُذْرِهِ، وَعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، فَجِنَايَةُ الْعَبْدِ أَوْلَى، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيَّ إلْغَائِهَا، أَوْ تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَلَا بِذِمَّةِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ، فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، فَتَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، كَالْقِصَاصِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ، أَوْ أَكْثَرَ؛ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِهَا فَمَا دُونَ، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعُرْوَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ دَفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ، فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ، فَقَدْ أَدَّى الْمَحَلَّ الَّذِي تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرَ مِنْ الرَّقَبَةِ وَقَدْ أَدَّاهَا. وَإِنْ طَالَبَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، وَأَبَى ذَلِكَ سَيِّدُهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ دَفَعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، فَأَبَى الْجَانِي قَبُولَهُ، وَقَالَ: بِعْهُ، وَادْفَعْ إلَيَّ ثَمَنَهُ. فَهَلْ يَلْزَمُ السَّيِّدَ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّ سَيِّدَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 قِيمَتَهُ، فَقَدْ أَدَّى قَدْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا أَدَّى قِيمَتَهُ، فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا إذَا عُرِضَ لِلْبَيْعِ رَغِبَ فِيهِ رَاغِبٌ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِذَا أَمْسَكَهُ فَقَدْ فَوَّتَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ لَهُ فِدَاءَهُ، فَكَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ، فَكَانَ الْوَاجِبُ قَدْرَ قِيمَتِهِ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. [فَصْل كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ] (6810) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَعَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَهُ بِالْعَفْوِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْعَفْوِ، كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ. انْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى الْمَالِ، فَصَارَ كَالْجَانِي جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ اسْتَحَقَّ إتْلَافَهُ، فَاسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ عَلَى مِلْكِهِ، كَعَبْدِهِ الْجَانِي عَلَيْهِ. [فَصْل أَمَرَ غُلَامه بِجِنَايَةِ] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إذَا أَمَرَ غُلَامَهُ فَجَنَى، فَعَلَيْهِ مَا جَنَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، إنْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ يَدِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ، وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ أَنْ يَجْرَحَ رَجُلًا، فَمَا جَنَى، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ. وَكَانَ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ: إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ، فَإِنَّمَا هُوَ سَوْطُهُ، وَيُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ خِلَاسٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إذَا أَمَرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ فَقَتَلَ، إنَّمَا هُوَ كَسَوْطِهِ أَوْ كَسَيْفِهِ، يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ يُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ. وَلِأَنَّهُ فَوَّتَ شَيْئًا بِأَمْرِهِ، فَكَانَ عَلَى السَّيِّدِ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ اسْتَدَانَ بِأَمْرِهِ. [فَصْلٌ: جَنَى جِنَايَات بَعْضهَا بَعْدَ بَعْضٍ] (6812) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى جِنَايَاتٍ، بَعْضَهَا بَعْدَ بَعْضٍ، فَالْجَانِي بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ بِالْحِصَصِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَرَبِيعَةُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُقْضَى بِهِ لِآخِرِهِمْ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مُسْتَحِقٍّ، فَقُدِّمَ صَاحِبُهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ قَبْلَهُ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَمْ يَجْنِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، فِي عَبْدٍ شَجَّ رَجُلًا، ثُمَّ آخَرَ، ثُمَّ آخَرَ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: يُدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى الثَّانِي، ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى الثَّالِثِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْأَوْسَطُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 وَلَنَا، أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ، فَتَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ لَوْ قُدِّمَ بَعْضُهُمْ، كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمِلْكِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقْوَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ وَجَدَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، قُدِّمَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ عِوَضًا، وَحَقُّ الْمَالِكِ ثَبَتَ بِرِضَاهُ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَافْتَرَقَا. [فَصْل أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْجَانِي] (6813) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْجَانِي، عَتَقَ، وَضَمِنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ، فَلَزِمَهُ غَرَامَتُهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ. وَيَنْبَنِي قَدْرُ الضَّمَانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِيمَا إذَا اخْتَارَ إمْسَاكَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ بِإِعْتَاقِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ تَسْلِيمِهِ بِاخْتِيَارِ فِدَائِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إنْ أَعْتَقَهُ، عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، يَعْنِي دِيَةَ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ مَعَ الْعِلْمِ، كَانَ مُخْتَارًا لِفِدَائِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ الْفِدَاءَ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ مَا فَوَّتَهُ. [فَصْلٌ بَاعَ الْعَبْد أَوْ وَهَبَهُ] (6814) فَصْلٌ: فَإِنْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، صَحَّ بَيْعُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَزُلْ تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ عَنْ رَقَبَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِحَالِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ فِي فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، كَالسَّيِّدِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ، كَسَائِرِ الْمَعِيبَاتِ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ هُمْ الْعَاقِلَةُ] (6815) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْعَاقِلَةُ الْعُمُومَةُ، وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَالْإِخْوَةُ، وَكُلُّ الْعَصَبَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ) . الْعَاقِلَةُ: مَنْ يَحْمِلُ الْعَقْلَ. وَالْعَقْلُ: الدِّيَةُ، تُسَمَّى عَقْلًا؛ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ لِسَانَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ. وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَتْ الْعَاقِلَةُ، لِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ عَنْ الْقَاتِلِ، وَالْعَقْلُ: الْمَنْعُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ بَعْضُ الْعُلُومِ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَضَارِّ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ الْعَصَبَاتُ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَسَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَالزَّوْجِ، وَكُلِّ مَنْ عَدَا الْعَصَبَاتِ، لَيْسَ هُمْ مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْآبَاءِ وَالْبَنِينَ، هَلْ هُمْ مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَا. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ كُلَّ الْعَصَبَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ، يَدْخُلُ فِيهِ آبَاءُ الْقَاتِلِ، وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِخْوَتُهُ، وَعُمُومَتُهُ، وَأَبْنَاؤُهُمْ. وَهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ عَصَبَتِهَا، مَنْ كَانُوا، لَا يَرِثُونَ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا، وَإِنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ، فَأَشْبَهُوا الْإِخْوَةَ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعَقْلَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّنَاصُرِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّ الْعَصَبَةَ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ كَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ، فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَآبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِمِيرَاثِهِ، فَكَانُوا أَوْلَى بِتَحَمُّلِ عَقْلِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَيْسَ آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ مِنْ الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، فَقَتَلَتْهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ مَاتَتْ الْقَاتِلَةُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا، وَالْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا. قَالَ: فَقَالَتْ عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ: مِيرَاثُهَا لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَوْلَادِ، قِسْنَا عَلَيْهِ الْوَالِدَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ مَالَ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ كَمَالِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ، وَلَا شَهَادَتُهُ لَهُمَا، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِنْفَاقُ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَالْآخَرُ مُوسِرًا، وَعَتَقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، فَلَا تَجِبُ فِي مَالِهِ دِيَةٌ، كَمَا لَمْ يَجِبْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ فِي الْإِخْوَةِ رِوَايَتَيْنِ، كَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُونَهُمْ مِنْ الْعَاقِلَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافًا. [فَصْلٌ يَعْقِل الْوَلَد ابْن ابْن عَمَّ] (6816) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ ابْنِ عَمٍّ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ أَوْ الْوَلَدُ مَوْلَى أَوْ عَصَبَةُ مَوْلًى، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ قَالَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ وَالِدٌ أَوْ وَلَدٌ، فَلَمْ يَعْقِلْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ أَوْ مَوْلًى، فَيَعْقِلُ، كَمَا لَوْ يَكُنْ وَلَدًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ أَوْ الْوَلَاءَ سَبَبٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ مُنْفَرِدًا، فَإِذَا وُجِدَ مَعَ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ أَثْبَتَهُ، كَمَا لَوْ وُجِدَ مَعَ الرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مَعَ الْقَرَابَةِ الْأُخْرَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلِي نِكَاحَهَا، مَعَ أَنَّ الِابْنَ لَا يَلِي النِّكَاحَ عِنْدَهُمْ. [فَصْلٌ سَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْعَاقِلَةِ بَعُدُوا أَوْ قَرُبُوا مِنْ النَّسَبِ] (6817) فَصْلٌ: وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْعَاقِلَةِ بَعُدُوا أَوْ قَرُبُوا مِنْ النَّسَبِ، وَالْمَوْلَى وَعَصَبَتُهُ، وَمَوْلَى الْمَوْلَى وَعَصَبَتُهُ، وَغَيْرُهُمْ. وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ يَرِثُونَ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ أَقْرَبَ مِنْهُمْ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْعَقْلِ كَالْقَرِيبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونُوا وَارِثِينَ فِي الْحَالِ، بَلْ مَتَى كَانُوا يَرِثُونَ لَوْلَا الْحَجْبُ عَقَلُوا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدِّيَةِ بَيْنَ عَصَبَةِ الْمَرْأَةِ مَنْ كَانُوا، لَا يَرِثُونَ مِنْهَا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَوَالِيَ مِنْ الْعَصَبَاتِ، فَأَشْبَهُوا الْمُنَاسِبِينَ. [فَصْل لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْل مِنْ لَيْسَ بِعَصَبَةِ وَلَا يَعْقِل الْمَوْلَى مِنْ أَسْفَل] (6818) فَصْلٌ: وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا يَعْقِلُ الْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ يَعْقِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَيَعْقِلُ الْآخَرُ عَنْهُ، كَالْأَخَوَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهُ وَلَا وَارِثٍ، فَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالذَّكَرِ مَعَ الْأُنْثَى، وَالْكَبِيرِ مَعَ الصَّغِيرِ، وَالْعَاقِلِ مَعَ الْمَجْنُونِ. [فَصْلٌ لَا يَعْقِل مَوْلَى الْمُوَالَاة] (6819) فَصْلٌ: وَلَا يَعْقِلُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَهُوَ الَّذِي يُوَالِي رَجُلًا يَجْعَلُ لَهُ وَلَاءَهُ وَنُصْرَتَهُ، وَلَا الْحَلِيفُ، وَهُوَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الْآخَرَ عَلَى أَنْ يَتَنَاصَرَا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ، وَيَتَضَافَرَا عَلَى مَنْ قَصَدَهُمَا أَوْ قَصَدَ أَحَدَهُمَا، وَلَا الْعَدِيدُ، وَهُوَ الَّذِي لَا عَشِيرَةَ لَهُ، يَنْضَمُّ إلَى عَشِيرَةٍ، فَيَعُدُّ نَفْسَهُ مَعَهُمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْقِلُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَيَرِثُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي غَيْرِ عَشِيرَتِهِ، فَعَقْلُهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِي هُوَ مَعَهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالْعَصَبَةِ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِذَلِكَ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. [فَصْلٌ لَا مَدْخَل لِأَهْلِ الدِّيوَانِ فِي الْمُعَاقَلَة] (6820) فَصْلٌ: وَلَا مَدْخَلَ لِأَهْلِ الدِّيوَانِ فِي الْمُعَاقَلَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَحَمَّلُونَ جَمِيعَ الدِّيَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 فَإِنْ عَدِمُوا فَالْأَقَارِبُ حِينَئِذٍ يَعْقِلُونَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فِي الْأُعْطِيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ، فَلَمْ يُحْمَلْ بِهِ الْعَقْلُ كَالْجِوَارِ وَاتِّفَاقُ الْمَذَاهِبِ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ، عَلَى أَنَّهُ إنْ صَحَّ مَا ذُكِرَ عَنْهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشِيرَةَ الْقَاتِلِ. [فَصْلٌ يَشْتَرِك فِي الْعَقْل الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ] (6821) فَصْلٌ: وَيَشْتَرِكُ فِي الْعَقْلِ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْتَصُّ بِهِ الْحَاضِرُ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِالنُّصْرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ بَيْن الْحَاضِرِينَ، وَلِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ عَلَى الْجَمِيعِ مَشَقَّةٌ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، الْخَبَرُ، وَأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِرْثِ، فَاسْتَوَوْا فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ، كَالْحَاضِرِينَ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْصِيبِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ، كَالْمِيرَاثِ وَالْوِلَايَةِ. [فَصْل الْقِسْمَة بَيْنَ الْعَاقِلَة] (6822) فَصْلٌ: وَيَبْدَأُ فِي قِسْمَتِهِ بَيْن الْعَاقِلَةِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، يُقْسَمُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ بَنِيهِمْ، ثُمَّ أَعْمَامِ الْجَدِّ، ثُمَّ بَنِيهِمْ، كَذَلِكَ أَبَدًا، حَتَّى إذَا انْقَرَضَ الْمُنَاسِبُونَ، فَعَلَى الْمَوْلَى الْمُعْتِقِ، ثُمَّ عَلَى عَصَبَاته، ثُمَّ عَلَى مَوْلَى الْمَوْلَى، ثُمَّ عَلَى عَصَبَاته، الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، كَالْمِيرَاثِ سَوَاءً. وَإِنْ قُلْنَا: الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ مِنْ الْعَاقِلَةِ، بُدِئَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ. وَمَتَى اتَّسَعَتْ أَمْوَالُ قَوْمٍ لِلْعَقْلِ، لَمْ يَعْدُهُمْ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، كَالْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَهَلْ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِالْأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِالْأَبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الْمِيرَاثِ، فَقُدِّمَ فِي الْعَقْلِ، كَتَقْدِيمِ الْأَخِ عَلَى ابْنِهِ. وَالثَّانِي، يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ بِالتَّعْصِيبِ، وَلَا أَثَرَ لِلْأُمِّ فِي التَّعْصِيبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ تُؤَثِّرُ فِي التَّرْجِيحِ وَالتَّقْدِيمِ وَقُوَّةِ التَّعْصِيبِ، لِاجْتِمَاعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِحُكْمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَابَتَيْنِ تَنْقَسِمُ إلَى مَا تَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، كَابْنِ الْعَمِّ إنْ كَانَ أَخًا مِنْ أُمٍّ، فَإِنَّهُ يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقَرَابَتَيْنِ مِيرَاثًا مُنْفَرِدًا، يَرِثُ السُّدُسَ بِالْأُخُوَّةِ، وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ بِبُنُوَّةِ الْعَمِّ، وَحَجْبُ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَجْبِ الْأُخْرَى، فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي قُوَّةٍ وَلَا تَرْجِيحٍ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَدَّمُ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَا يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، كَابْنِ الْعَمِّ مِنْ أَبَوَيْنِ مَعَ ابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبٍ، لَا تَنْفَرِدُ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ بِمِيرَاثٍ عَنْ الْأُخْرَى، فَتُؤَثِّرُ فِي التَّرْجِيحِ وَقُوَّةِ التَّعْصِيبِ؛ وَلِذَلِكَ أَثَّرَتْ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَيُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ» . وَلَنَا، أَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، كَالْمِيرَاثِ، وَالْخَبَرُ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّنَا نَقْسِمُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ يَفِ بِهِ الْأَقْرَبُ، فَنَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ لَا يَحْمِل الْعَقْل إلَّا مِنْ يَعْرِفُ نَسُبّهُ مِنْ الْقَاتِل] (6823) فَصْلٌ: وَلَا يَحْمِلُ الْعَقْلَ إلَّا مَنْ يُعْرَفُ نَسَبُهُ مِنْ الْقَاتِلِ، أَوْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ كُلُّهُمْ فِي الْعَقْلِ، وَمَنْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ لَا يَحْمِلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ قُرَشِيًّا، لَمْ يَلْزَمْ قُرَيْشًا كُلَّهُمْ التَّحَمُّلُ، فَإِنَّ قُرَيْشًا وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ قَبَائِلَهُمْ تَفَرَّقَتْ، وَصَارَ كُلُّ قَوْمٍ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبٍ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ، فَيَعْقِلُ عَنْهُمْ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بَنُو آدَمَ، فَهُمْ رَاجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ إنْ كَانَ مِنْ فَخِذٍ وَاحِدٍ، يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَهُمْ يَتَحَمَّلُونَ، وَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ جَمِيعُهُمْ، سَوَاءٌ عَرَفَ أَحَدُهُمْ نَسَبَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْقَاتِلِ مِنْ أَحَدٍ، فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ يَعْقِلُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مَنْ يَحْمِلُ بَعْضَ الْعَقْلِ، فَالْبَاقِي فِي بَيْتِ الْمَالِ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ عَدَم الْإِجْحَاف عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْمَالِ] (6824) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تُكَلَّفُ مِنْ الْمَالِ مَا يُجْحِفُ بِهَا، وَيَشُقُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ، وَالتَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلَا يُخَفِّفُ عَنْ الْجَانِي بِمَا يُثْقِلُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُجْحِفُ بِهِ، كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِجْحَافُ مَشْرُوعًا، كَانَ الْجَانِي أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، وَجَزَاءُ فِعْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي حَقِّهِ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْمِلُونَ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَ. فَعَلَى هَذَا لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ وَلَا يُؤْذِي. وَهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، كَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ مِثْقَالٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ يَتَقَدَّرُ فِي الزَّكَاةِ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبْعُ مِثْقَالٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ، لِكَوْنِ الْيَدِ لَا تُقْطَعُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَمَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ لَا قَطْعَ فِيهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مَا يُجْعَلُ عَلَى الْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَرَابَةِ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهُ، كَالنَّفَقَةِ. قَالَ: وَيُسَوَّى بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ لِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْدِيرِ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرُبْعِهِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ فِي الْأَعْوَامِ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا عَلَى الْغَنِيِّ دِينَارًا وَنِصْفًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ، كَالزَّكَاةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَكَرَّرُ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى النِّصْفِ، إيجَابًا لَزِيَادَةٍ عَلَى أَقَلِّ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ مُضِرًّا. وَيُعْتَبَرُ الْغِنَى وَالتَّوَسُّطُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْوُجُوبِ، فَاعْتُبِرَ الْحَالُ عِنْدَهُ، كَالزَّكَاةِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ مِنْ عَدَدِ الْعَاقِلَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ عَدَدٌ كَثِيرٌ، قُسِمَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَرَاهُ وَإِنْ قَلَّ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَجْعَلُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ نِصْفَ مَا عَلَى الْغَنِيِّ، وَيَعُمُّ بِذَلِكَ جَمِيعَهُمْ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَخُصُّ الْحَاكِمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، لِئَلَّا يَنْقُصَ عَنْ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَيَصِيرَ إلَى الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ، فَرُبَّمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ قِيرَاطٌ، فَيَشُقُّ جَمْعُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ فَكَانُوا سَوَاءً، كَمَا لَوْ قَلُّوا، وَكَالْمِيرَاثِ. وَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِمَشَقَّةِ الْجَمْعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ زِيَادَةِ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ هَذَا تَعَلُّقٌ بِالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهَا، فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الدَّلِيلُ، ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِخِفَّةِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَسُهُولَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخُصَّ الْحَاكِمُ بَعْضَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ خَصَّهُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَرُبَّمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَعْرِفَةُ الْأَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ الْإِيجَابُ، وَإِنْ خَصَّهُ بِالتَّحَكُّمِ أَفْضَى إلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا بِشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجِبَ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَرُبَّمَا ارْتَشَى مِنْ بَعْضِهِمْ وَاتُّهِمَ، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَدَائِهِ؛ لِكَوْنِهِ يَرَى مِثْلَهُ لَا يُؤَدِّي شَيْئًا مَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 [فَصْلٌ مَاتَ مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ افْتَقَرَ أَوْ جُنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ] (6825) فَصْلٌ: وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْعَاقِلَةِ، أَوْ افْتَقَرَ، أَوْ جُنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلِ، لَمْ يَسْقُطْ الْوَاجِبُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَأَشْبَهَ الدُّيُونَ، وَفَارَقَ مَا قَبْلَ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ الشَّرْطُ إلَى حِينِ الْوُجُوبِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فَقِيرًا حَالَ الْقَتْلِ، فَاسْتَغْنَى عِنْدَ الْحَوْلِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ. وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَنْ كَانَ صَبِيًّا فَبَلَغَ، أَوْ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ، عِنْدَ الْحَوْلِ، وَجَبَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ حَالَةَ السَّبَبِ، فَلَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِيهِ حَالَةَ الشَّرْطِ، كَالْكَافِرِ إذَا مَلَكَ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمَ عِنْدَ الْحَوْلِ، لَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا يَعْقِلَانِ مَعَ الْعَاقِلَةِ] (6826) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا صَبِيٍّ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ، حَمْلُ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ، وَالصَّبِيَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، لَا يَعْقِلَانِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ لِلْفَقِيرِ مَدْخَلًا فِي التَّحَمُّلِ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، فَكَانَ مِنْ الْعَاقِلَةِ كَالْغَنِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ مُوَاسَاةٌ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَنْ الْقَاتِلِ، فَلَا يَجُوزُ التَّثْقِيلُ بِهَا عَلَى مَنْ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَفِي إيجَابِهَا عَلَى الْفَقِيرِ تَثْقِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَكْلِيفٌ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ أَحَدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَيُجْحِفُ بِهِ، وَتَحْمِيلُ الْفَقِيرِ شَيْئًا مِنْهَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَيُجْحِفُ بِمَالِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَالِهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا. وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَرْأَةُ، فَلَا يَحْمِلُونَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّنَاصُرِ، وَلَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 [فَصْل يَعْقِل الْمَرِيض إذَا لَمْ يَبْلُغ حَدّ الزَّمَانَةِ] (6827) فَصْلٌ: وَيَعْقِلُ الْمَرِيضُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الزَّمَانَةِ، وَالشَّيْخُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْهَرَمِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَفِي الزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَعْقِلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْجِهَادُ، وَلَا يُقْتَلَانِ إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالثَّانِي، يَعْقِلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ؛ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ. وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَة الْقَاتِل] (6828) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ، أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي فَصْلَيْنِ: (6829) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ، هَلْ يُؤَدِّي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا، يُؤَدَّى عَنْهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَى الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي زِحَامٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لَعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. فَأَدَّى دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ عَاقِلَتِهِ، كَعَصَبَاتِهِ وَمَوَالِيهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ فِيهِ حَقٌّ لِلنِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَلَا عَقْلَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِيمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَاتِ، وَلَيْسَ بَيْتُ الْمَالِ عَصَبَةً، وَلَا هُوَ كَعَصَبَةِ هَذَا، فَأَمَّا قَتِيلُ الْأَنْصَارِ، فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَتِيلُ الْيَهُودِ، وَبَيْتُ الْمَالِ لَا يَعْقِلُ عَنْ الْكُفَّارِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ يَرِثُونَهُ. قُلْنَا: لَيْسَ صَرْفُهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا، بَلْ هُوَ فَيْءٌ، وَلِهَذَا يُؤْخَذُ مَالُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ لَا يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى الْوَارِثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً، وَيَجِبُ عَلَى الْعَصَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ، أُدِّيَتْ الدِّيَةُ عَنْهُ كُلُّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ لَا تَحْمِلُ الْجَمِيعَ، أُخِذَ الْبَاقِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 وَهَلْ تُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، عَلَى حَسْبِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي، يُؤَدِّي دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَّى دِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا تُؤَدِّيه الْعَاقِلَةُ، فَيَجِبُ كُلُّهُ فِي الْحَالِ، كَسَائِرِ بَدَلِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِنَّمَا أَجَّلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلِهَذَا يُؤَدَّى الْجَمِيعُ (6830) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ لَزِمَتْ الْعَاقِلَةَ ابْتِدَاءً، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَحَمُّلُهُمْ وَلَا رِضَاهُمْ بِهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ عَدِمَ الْقَاتِلُ، فَإِنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ، كَذَا هَاهُنَا. فَعَلَى هَذَا، إنَّ وُجِدَ بَعْضُ الْعَاقِلَةِ، حُمِّلُوا بِقِسْطِهِمْ، وَسَقَطَ الْبَاقِي، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ وُجُوبُهَا عَلَى الْجَانِي جَبْرًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي فَوَّتَهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْقَاتِلِ لِقِيَامِ الْعَاقِلَةِ مَقَامَهُ فِي جَبْرِ الْمَحَلِّ، فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذْ ذَلِكَ، بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَلَّ دَمُ الْمَقْتُولِ، وَبَيْنَ إيجَابِ دِيَتِهِ عَلَى الْمُتْلِفِ، لَا يَحُوزُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقِيَاسِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَلِأَنَّ إهْدَارَ الدَّمِ الْمَضْمُونِ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَإِيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ لَهُ نَظَائِرُ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَالذِّمِّيَّ الَّذِي لَا عَاقِلَةَ لَهُ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، وَمَنْ رَمَى سَهْمًا ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي أُمِّهِ فَانْجَرَّ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ، ثُمَّ أَصَابَ بِسَهْمٍ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ، كَانَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ عَاقِلَتِهِ عَقْلَهُ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَنُحَرِّرُ مِنْهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ: قَتِيلٌ مَعْصُومٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، تَعَذَّرَ حَمْلُ عَاقِلَتِهِ عَقْلَهُ، فَوَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ، كَهَذِهِ الصُّورَةِ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ دِمَاءِ الْأَحْرَارِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَاقِلَةٌ تَحْمِلُ الدِّيَةَ كُلَّهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَخْذِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَتَضِيعُ الدِّمَاءُ، وَيَفُوتُ حُكْمُ إيجَابِ الدِّيَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً. مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ مَعَ وُجُودِهِمْ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِمْ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مَنْقُوضٌ بِمَا أَبْدَيْنَاهُ مِنْ الصُّوَرِ. فَعَلَى هَذَا، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ إنْ تَعَذَّرَ حَمْلُ جَمِيعِهَا، أَوْ بَاقِيهَا إنْ حَمَلَتْ الْعَاقِلَةُ بَعْضَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْحُرِّ الْكِتَابِيِّ] (6831) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْحُرِّ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَنِسَاؤُهُمْ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةَ، وَمَالِكٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. إلَّا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهَا، فَإِنَّ صَالِحًا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَقُولُ: دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَأَنَا الْيَوْمَ أَذْهَبُ إلَى نِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ الَّذِي يَرْوِيه الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، أَنَّ دِيَتَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ.» وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ دِيَةَ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَقَالَ فِي الذِّمِّيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ حُرٌّ مَعْصُومٌ، فَتَكْمُلُ دِيَتُهُ كَالْمُسْلِمِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» . وَفِي لَفْظٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ عَقْلَ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِم» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَفِي لَفْظٍ: «دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ فِي دِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ شَيْءٌ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا، وَلَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ مُؤَثِّرٌ فِي الدِّيَةِ، فَأَثَّرَ فِي تَنْصِيفِهَا كَالْأُنُوثَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حِينَ كَانَتْ الدِّيَةُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، فَأَوْجَبَ فِيهِ نِصْفَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ. فَهَذَا بَيَانٌ وَشَرْحٌ مُزِيلٌ لِلْإِشْكَالِ، فَفِيهِ جَمْعٌ لِلْأَحَادِيثِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَكَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، بِغَيْرِ إشْكَالٍ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا بَلَغَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ، تَرَكَ قَوْلَهُ، وَعَمِلَ بِهَا، فَكَيْفَ، يَسُوغُ لَأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي تَرْكِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْآخَرُونَ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَا رَوَيْنَاهُ، أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، دُونَ مَا رَوَوْهُ. وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَنَحْمِلُ قَوْلَهُمْ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ كَامِلَةً عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا غَلَّظَ عُثْمَانُ الدِّيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَمْدًا، فَلَمَّا تَرَكَ الْقَوَدَ غَلَّظَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ، وَمِثْلُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ نَحَرَ رَقِيقُ حَاطِبٍ نَاقَةً لَرَجُلٍ مُزَنِيٍّ، فَقَالَ لَحَاطِبٍ: إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ، لَأُغَرِّمَنَّك غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك. فَأَغْرَمَهُ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا. فَأَمَّا دِيَاتُ نِسَائِهِمْ، فَعَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ دِيَةُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ، كَذَلِكَ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ. [فَصْلٌ جِرَاحَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ] (6832) فَصْلٌ: وَجِرَاحَاتُهُمْ مِنْ دِيَاتِهِمْ كَجِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِهِمْ، وَتُغَلَّظُ دِيَاتُهُمْ بِاجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى تَغْلِيظَ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ، بِهَا كَتَغْلِيظِ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ: يُزَادُ أَيْضًا عَلَى قَدْرِهِ، كَمَا يُزَادُ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدَ اللَّهِ: جَنَى عَلَى مَجُوسِيٍّ فِي عَيْنِهِ وَفِي يَدِهِ؟ قَالَ: يَكُونُ بِحِسَابِ دِيَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْخَذُ بِالْحِسَابِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. قِيلَ: قَطَعَ يَدَهُ؟ قَالَ: بِالنِّصْفِ مِنْ دِيَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ مُسْلِم رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمْدًا] (6833) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ قَتَلُوهُ عَمْدًا، أُضْعِفَتْ الدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ الْمُسْلِمِ؛ لِإِزَالَةِ الْقَوَدِ) هَكَذَا حَكَمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. هَذَا يُرْوَى عَنْ عُثْمَانَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَرُفِعَ إلَى عُثْمَانَ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَغَلَّظَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ. فَصَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ اتِّبَاعًا وَلَهُ. نَظَائِرُ فِي مَذْهَبِهِ؛ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْأَعْوَرِ لَمَّا قَلَعَ عَيْنَ الصَّحِيحِ دِيَةً كَامِلَةً، حِينَ دَرَأَ الْقِصَاصَ عَنْهُ، وَأَوْجَبَ عَلَى سَارِقِ التَّمْرِ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ، حِينَ دَرَأَ عَنْهُ الْقَطْعَ. وَهَذَا حُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَارِقِ التَّمْرِ. فَيَثْبُتُ مِثْلُهُ هَاهُنَا. وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا، أَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا، لَمْ تُضَعَّفْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ لَا تُضَاعَفُ بِالْعَمْدِ؛ لِعُمُومِ الْأَثَرِ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا دِيَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَمْ تُضَاعَفْ، كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا. وَلَا فَرْقَ فِي الدِّيَةِ بَيْن الذِّمِّيِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِتَابِيٌّ مَعْصُومُ الدَّمِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ وَالْحَرْبِيُّ، فَلَا دِيَةَ لَهُمَا؛ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِيهِمَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 [مَسْأَلَةٌ دِيَة الْمَجُوسِيّ] (6834) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَقَلَّ مَا اُخْتُلِفَ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ قَالَ: دِيَتُهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ حُرٌّ مَعْصُومٌ، فَأَشْبَهَ الْمُسْلِمَ. وَلَنَا، قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . يَعْنِي فِي أَخْذِ جِزْيَتِهِمْ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لَا تَحِلُّ لَنَا، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْمُسْلِمِ وَلَا الْكِتَابِيِّ، لِنُقْصَانِ دِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ عَنْهُمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْقُصَ دِيَتُهُ، كَنَقْصِ الْمَرْأَةِ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَجُوسِيُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمِنًا؛ لِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ. وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ بِإِجْمَاعٍ. وَجِرَاحُ كُلِّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ دِيَتِهِ. وَإِنْ قُتِلُوا عَمْدًا، أُضْعِفَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُسْلِمِ؛ لِإِزَالَةِ الْقَوَدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قِيَاسًا عَلَى الْكِتَابِيِّ. [فَصْلٌ دِيَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ مِنْ لَا كِتَابَ لَهُ] (6835) فَصْلٌ: فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَسَائِرِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ، كَالتُّرْكِ، وَمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ، فَلَا دِيَةَ لَهُمْ وَإِنَّمَا تُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَإِذَا قُتِلَ مَنْ لَهُ أَمَانٌ مِنْهُمْ، فَدِيَتُهُ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الدِّيَاتِ، فَلَا تَنْقُصُ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ ذُو عَهْدٍ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ، فَأَشْبَهَ الْمَجُوسِيَّ. [فَصْلٌ دِيَةُ مَنْ لَمْ تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ مِنْ الْكُفَّارِ] (6836) فَصْلٌ: وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ الْكُفَّارِ إنْ وُجِدَ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ حَتَّى يُدْعَى، فَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطَى أَمَانًا، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَيْمَانَ، فَأَشْبَهَ امْرَأَةَ الْحَرْبِيِّ وَابْنَهُ الصَّغِيرَ، وَإِنَّمَا حَرُمَ قَتْلُهُ لِتَبْلُغَهُ الدَّعْوَةُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَضْمَنُ بِمَا يَضْمَنُ بِهِ أَهْلُ دِينِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ، أَشْبَهَ مَنْ لَهُ أَمَانٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَقِضُ بِصِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَجَانِينِهِمْ، وَلِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 كَافِرٌ لَا عَهْدَ لَهُ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ، فَلَهُ دِيَةُ أَهْلِ دِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ دِينُهُ، فَفِيهِ دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ] (6837) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَدِيَةُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَحَكَى غَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَالْأَصَمِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: دِيَتُهَا كَدِيَةِ الرَّجُلِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، يُخَالِفُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَسُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ» . وَهِيَ أَخَصُّ مِمَّا ذَكَرُوهُ، وَهُمَا فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ مَا ذَكَرْنَا مُفَسِّرًا لِمَا ذَكَرُوهُ، مُخَصَّصًا لَهُ، وَدِيَةُ نِسَاءِ كُلِّ أَهْلِ دِينٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ رِجَالِهِمْ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَوْضِعه. [مَسْأَلَةٌ جِرَاح الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ فِي الدِّيَةِ] (6838) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُسَاوِي جِرَاحُ الْمَرْأَةِ جِرَاحَ الرَّجُلِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِنْ جَاوَزَ الثُّلُثَ، فَعَلَى النِّصْفِ) وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ يَسْتَوِيَانِ إلَى النِّصْفِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهُمَا، فَاخْتَلَفَ أَرْشُ أَطْرَافِهِمَا، كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَكَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ، كَالْيَدِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَهِيَ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيه فِي الْمُوضِحَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَهُوَ نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمْ فِي إصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ. قُلْت: فَفِي إصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قُلْت: فَفِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ. قُلْت: فَفِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قَالَ: قُلْت: لَمَّا عَظُمَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 مُصِيبَتُهَا. قَلَّ عَقْلُهَا، قَالَ: هَكَذَا السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي. وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ، إلَّا عَنْ عَلِيٍّ، وَلَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ الثُّلُثِ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، بِدَلِيلِ الْجَنِينِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. فَأَمَّا الثُّلُثُ نَفْسُهُ، فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَسْتَوِيَانِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ حَدَّ الْقِلَّةِ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ» . وَحَتَّى لِلْغَايَةِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا قَبْلَهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ.» [فَصْلٌ دِيَةُ نِسَاءِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ] (6839) فَصْلٌ: فَأَمَّا دِيَةُ نِسَاءِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تُسَاوِي دِيَاتُهُنَّ دِيَاتِ رِجَالِهِمْ إلَى الثُّلُثِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» . وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ امْرَأَةٍ، فَسَاوَتْ دِيَةُ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ دِينِهَا، كَالْمُسْلِمِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُسَاوِيَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى قَدْرِ ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ التَّنْصِيفُ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ دِيَةُ الْمُسْلِمِ. [مَسْأَلَة دِيَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ] (6840) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ قِيمَتُهُمَا، بَالِغَةً مَا بَلَغَ ذَلِكَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا مَضَى. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْقِنِّ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَجْمَعَ عَوَامُّ الْفُقَهَاءِ، عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فِي جِنَايَتِهِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، إلَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ: يُؤَدِّي بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ الْحُرِّ، وَمَا بَقِيَ دِيَةُ الْعَبْدِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ "، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدّ ثِنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ " حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُكَاتَبِ يَقْتُلُ، أَنَّهُ يُؤَدَّى مَا أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ الْحُرِّ، وَمَا بَقِيَ دِيَةُ الْعَبْدِ» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا أَوْ مُعَارِضًا بِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 [مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْجَنِينِ إذَا سَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ مَيِّتًا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ] (6841) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْجَنِينِ إذَا سَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ مَيِّتًا، وَكَانَ مِنْ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، غُرَّةٌ، عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، قِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ، كَأَنَّهُ سَقَطَ حَيًّا) يُقَالُ: غُرَّةُ عَبْدٍ بِالصِّفَةِ. وَغُرَّةُ عَبْدٍ بِالْإِضَافَةِ. وَالصِّفَةُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ اسْمٌ لِلْعَبْدِ نَفْسِهِ، قَالَ مُهَلْهَلٌ: كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ ... حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: (6842) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ غُرَّةً. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. قَالَ: لِتَأْتِينَ بِمِنْ يَشْهَدُ مَعَك. فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْغُرَّةُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ؛ سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَصْلُ فِي الْغُرَّةِ الْخِيَارُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ. قُلْنَا: هَذَا لَا يَثْبُتُ، رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَوَهَمَ فِيهِ. قَالَهُ أَهْلُ النَّقْلِ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ إنَّمَا فِيهِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. فَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: مِنْ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ. فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لَا يَكُونُ إلَّا حُرًّا مُسْلِمًا، فَمَتَى كَانَ الْجَنِينُ حُرًّا مُسْلِمًا، فَفِيهِ الْغُرَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً أَوْ أَمَةً، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً، فَإِنَّ جَنِينَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 مِنْهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَفِيهِ الْغُرَّةُ، وَلَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَوَلَدُ السَّيِّدِ مِنْ أَمَتِهِ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ مِنْ أَمَةٍ حُرٌّ. وَكَذَلِكَ لَوْ وُطِئَتْ الْأَمَةُ بِشُبْهَةٍ، فَوَلَدُهَا حُرٌّ، وَفِيهِ الْغُرَّةُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْجَنِينُ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْغُرَّةُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ. وَأَمَّا جَنِينُ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ إذَا كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ، فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَضْمُونٌ بِعُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ، فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْكَافِرَةِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ يَرَوْنَ أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرَةِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمَةِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ، فَإِنْ كَانَ أَبَوَا الْجَنِينِ كَافِرَيْنِ مُخْتَلِفًا دِينُهُمَا، كَوَلَدِ الْكِتَابِيِّ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ، وَالْمَجُوسِيِّ مِنْ الْكِتَابِيَّةِ، اعْتَبَرْنَاهُ بِأَكْثَرِهِمَا دِيَةً، فَنُوجِبُ فِيهِ عُشْرَ دِيَةِ كِتَابِيَّةٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْكَافِرَةِ مُعْتَبَرٌ بِأَكْثَرِهِمَا دِيَةً، كَذَا هَاهُنَا. وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ كَوْنِ الْجَنِينِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ كِتَابِيَّةٍ حَامِلًا مِنْ كِتَابِيٍّ، فَأَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ أَسْقَطَتْهُ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ. فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ، وَالْجَنِينُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهَا. وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الْخَطَّابِ: فِيهِ عُشْرُ دِيَةِ كِتَابِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْغُرَّةِ. وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ فَأُعْتِقَتْ، ثُمَّ أَلْقَتْ الْجَنِينَ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، فِيهِ غُرَّةٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ، فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَبْدًا. وَيُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنِهِ عَبْدًا وَيُمْكِنُ مَنْعَ كَوْنِهِ صَارَ حُرًّا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَلَفُهُ بِالْجِنَايَةِ، وَبَعْدَ تَلَفِهِ لَا يُمْكِنُ تَحْرِيرُهُ. وَعَلَى قَوْلِ هَذَيْنِ، يَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهِ لِسَيِّدِهِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْغُرَّةِ أَوْ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهَا زَادَتْ بِالْحُرِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلِّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ، فَلَا يَضْمَنُ لَهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ، كَانَ لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ حُرٍّ أَوْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَمَا فَضَلَ عَنْ حَقِّ السَّيِّدِ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ. فَأَمَّا إنْ ضَرَبَ بَطْنَ الْأَمَةِ، فَأَعْتَقَ السَّيِّدُ جَنِينَهَا وَحْدَهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ أَسْقَطَتْهُ حَيًّا لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ، فَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَإِنْ كَانَ لَوَقْتٍ [لَا] يَعِيشُ مِثْلُهُ، فَفِيهِ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، عَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ. وَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ كَوْنَهُ حَيًّا حَالَ إعْتَاقِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ أُمَّهُ. [الْفَصْلُ الثَّانِي تَجِبُ الْغُرَّةُ إذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مِنْ الضَّرْبَةِ] (6843) الْفَصْلُ الثَّانِي: إنَّ الْغُرَّةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا سَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ يَسْقُطَ عَقِيبَ الضَّرْبِ، أَوْ بِبَقَائِهَا مُتَأَلِّمَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 إلَى أَنْ يَسْقُطَ. وَلَوْ قَتَلَ حَامِلًا لَمْ يَسْقُطْ جَنِينُهَا، أَوْ ضَرَبَ مَنْ [فِي] جَوْفِهَا حَرَكَةٌ أَوْ انْتِفَاخٌ، فَسَكَّنَ الْحَرَكَةَ وَأَذْهَبَهَا، لَمْ يَضْمَنْ الْجَنِينَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ الْغُرَّةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتَلَ الْجَنِينَ، فَلَزِمَتْهُ الْغُرَّةُ، كَمَا لَوْ أُسْقِطَتْ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَلَدِ إلَّا بِخُرُوجِهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ لَهُ وَصِيَّةٌ وَلَا مِيرَاثٌ، وَلِأَنَّ الْحَرَكَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَرِيحٍ فِي الْبَطْنِ سَكَنَتْ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا، فَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالظَّاهِرُ تَلَفُهُ مِنْ الضَّرْبَةِ، فَيَجِبُ ضَمَانُهُ، سَوَاءٌ أَلْقَتْهُ فِي حَيَاتِهَا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَعْضَائِهَا، وَبِمَوْتِهَا سَقَطَ حُكْمُ أَعْضَائِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ حَيًّا ضَمِنَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ مَيِّتًا، كَمَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ فِي حَيَاتِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ إذَا سَقَطَ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ، لَمْ يَضْمَنْهُ كَأَعْضَائِهَا، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ أُمِّهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا. فَأَمَّا إنْ ظَهَرَ بَعْضُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ بَاقِيه، فَفِيهِ الْغُرَّةُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ حَتَّى تُلْقِيَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَوْجَبَ الْغُرَّةَ فِي الْجَنِينِ الَّذِي أَلْقَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ وَهَذِهِ لَمْ تُلْقِ شَيْئًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَنَا، أَنَّهُ قَاتِلٌ لِجَنِينِهَا، فَلَزِمَتْهُ الْغُرَّةُ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ جَمِيعُهُ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ قَتْلَهُ وَلَا وُجُودَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَلْقَتْ يَدًا، أَوْ رِجْلًا، أَوْ رَأْسًا، أَوْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ، وَجَبَتْ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنْ جَنِينٍ. وَإِنْ أَلْقَتْ رَأْسَيْنِ، أَوْ أَرْبَعَ أَيْدٍ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ غُرَّةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَنِينٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَنِينَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ مَعَ الشَّكِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ؛ وَكَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِنْ أَسْقَطَتْ مَا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ آدَمِيٍّ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ جَنِينٌ. وَإِنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ الْقَوَابِلِ أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً، فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَ تَصَوَّرَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا، لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَصَوَّرْ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ، كَالْعَلَقَةِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَلَا نَشْغَلُهَا بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي، فِيهِ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَوَّرَ. وَهَذَا يَبْطُلُ بِالنُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ.، [الْفَصْلُ الثَّالِثُ غُرَّة الْعَبْد وَالْأَمَة] (6844) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغُرَّةَ عَبْدٌ أَوْ أُمَّةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عُرْوَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ: عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 أَوْ فَرَسٌ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ اسْمُ لِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ» . وَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ مَكَانَ الْفَرَسِ مِائَةَ شَاةٍ، وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ فِي وَلَدِهَا مِائَةَ شَاةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَنِينِ إذَا أُمْلِصَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً، فَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَ عَظْمًا سِتِّينَ، فَإِذَا كَانَ الْعَظْمُ قَدْ كُسِيَ لَحْمًا فَثَمَانِينَ، فَإِنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَكُسِيَ شَعْرُهُ فَمِائَةَ دِينَارٍ. قَالَ قَتَادَةُ: إذَا كَانَ عَلَقَةً فَثُلُثُ غُرَّةٍ، وَإِذَا كَانَ مُضْغَةً فَثُلُثَيْ غُرَّةٍ. وَلَنَا، «قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ بِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاضِيَةٌ عَلَى مَا خَالَفَهَا. وَذِكْرُ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ فِي الْحَدِيثِ وَهْمٌ انْفَرَدَ بِهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ سَائِرِ الرُّوَاةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ فِي الْبَغْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْفَرَسِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيهِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا خَالَفَهُ. وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، تَحَكُّمٌ بِتَقْدِيرِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، وَكَذَلِكَ قَتَادَةُ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ قَوْلِهِمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْغُرَّةُ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ بَدَلِهَا وَرَضِيَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَجَازَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الْبَدَلِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا، فَلَا يُقْبَلُ بَدَلُهَا إلَّا بِرِضَاهُمَا. وَتَجِبُ الْغُرَّةُ سَالِمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ، وَإِنْ قَلَّ الْعَيْبُ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ الْمَعِيبُ، كَالشَّاةِ فِي الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْغُرَّةَ الْخِيَارُ، وَالْمَعِيبُ لَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ. وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا هَرِمَةٌ، وَلَا ضَعِيفَةٌ، وَلَا خُنْثَى، وَلَا خَصِيٌّ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ. وَلَا يَتَقَدَّرُ سِنُّهَا، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْبَلُ فِيهَا مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مِنْ يَكْفُلُهُ لَهُ وَيَحْضُنُهُ، وَلَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا غُلَامٌ بَلَغَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَا ابْنَةُ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّهَا تَتَغَيَّرُ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْكَفَالَةِ بَاطِلٌ بِمَنْ لَهُ فَوْقَ السَّبْعِ، وَلِأَنَّ بُلُوغَهُ قِيمَةَ الْكَبِيرِ مَعَ صِغَرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خِيَارٌ، وَلَمْ يَشْهَدْ لِمَا ذَكَرُوهُ نَصٌّ، وَلَا لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالشَّابُّ الْبَالِغُ أَكْمَلُ مِنْ الصَّبِيِّ عَقْلًا وَبِنْيَةً، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَأَنْفَعُ فِي الْخِدْمَةِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَوْنُهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ إنْ أُرِيدَ بِهِ النِّسَاءُ الْأَجْنَبِيَّاتُ، بِلَا حَاجَةٍ إلَى دُخُولِهِ عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ سَيِّدَتُهُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] إلَى قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] . ثُمَّ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى النِّسَاءِ، لَحَصَلَ مِنْ نَفْعِهِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ دُخُولِهِ، وَفَوَاتُ شَيْءٍ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ لَا يُعَدُّ فَوَاتًا، كَمَنْ اشْتَرَى بِدِرْهَمِ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً، لَا يُعَدُّ فَوَاتًا وَلَا خُسْرَانًا، وَلَا يُعْتَبَرُ لَوْنُ الْغُرَّةِ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، أَنَّ الْغُرَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَيْضَاءَ، وَلَا يُقْبَلُ عَبْدٌ أَسْوَدُ، وَلَا جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَأَطْلَقَ مَعَ غَلَبَةِ السَّوَادِ عَلَى عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجِبُ دِيَةً، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لَوْنُهُ، كَالْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ قِيمَةُ الْغُرَّةُ] (6845) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْغُرَّةَ قِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الْجِنَايَاتِ، وَهُوَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَدِيَةُ السِّنِّ، فَرَدَدْنَاهُ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَجَبَ فِي الْأُنْمُلَةِ ثَلَاثُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَذَلِكَ دُونَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ. قُلْنَا: الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُرَّةً قِيمَتُهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَإِذَا كَانَ أَبَوَا الْجَنِينِ كِتَابِيَّيْنِ، فَفِيهِ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْغُرَّةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُسْلِمِ. وَفِي جَنِينِ الْمَجُوسِيَّةِ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَإِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ غُرَّةٍ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، وَجَبَتْ الدَّرَاهِمُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. وَإِذَا اتَّفَقَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ مِنْ الْأُصُولِ كُلِّهَا، بِأَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ وَخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ، فَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِهَا، مِثْلُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا أَوْ أَرْبَعمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْإِبِلِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، تُقَوَّمُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ، فَجَعَلَ قِيمَتَهَا خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ اخْتَلَفَا، قُوِّمَتْ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِهِ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جَمِيعًا، قَوَّمَهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْخِيَرَةَ إلَى الْجَانِي فِي دَفْعِ مَا شَاءَ مِنْ الْأُصُولِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقَوَّمَ بِأَدْنَاهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْغُرَّةَ، انْتَقَلَ إلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ. عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، يَنْتَقِلُ إلَى خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْغُرَّةُ مَوْرُوثَة عَنْ الْجَنِينِ] (6846) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْغُرَّةَ مَوْرُوثَةٌ عَنْ الْجَنِينِ، كَأَنَّهُ سَقَطَ حَيًّا؛ لِأَنَّهَا دِيَةٌ لَهُ، وَبَدَلٌ عَنْهُ، فَيَرِثُهَا وَرَثَتُهُ، كَمَا لَوْ قُتِلَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا تُورَثُ، بَلْ تَكُونُ بَدَلَهُ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَأَشْبَهَ يَدَهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 وَلَنَا، أَنَّهَا دِيَةُ آدَمِيٍّ حُرٍّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَوْرُوثَةً عَنْهُ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهَا. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عُضْوًا لَدَخَلَ بَدَلُهُ فِي دِيَةِ أُمِّهِ، كَيَدِهَا، وَلَمَّا مُنِعَ مِنْ الْقِصَاصُ مِنْ أُمِّهِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ، وَلَمَا صَحَّ عِتْقُهُ دُونَهَا، وَلَا عِتْقُهَا دُونَهُ، وَلَا تَصَوُّرُ حَيَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ تُضْمَنُ بِالدِّيَةِ تُورَثُ، كَدِيَةِ الْحَيِّ. فَعَلَى هَذَا، إذَا أَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، ثُمَّ مَاتَتْ، فَإِنَّهَا تَرِثُ نَصِيبَهَا مِنْ دِيَته، ثُمَّ يَرِثُهَا وَرَثَتُهُ. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَهَا، ثُمَّ مَاتَتْ، فَإِنَّهَا تَرِثُ نَصِيبَهَا مِنْ دِيَتِهِ، ثُمَّ يَرِثُهَا وَرَثَتُهَا. وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا، لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ، أَوْ مَاتَتْ ثُمَّ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، وَرِثَهَا، ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَ وُرَّاثُهُمَا فِي أَوَّلِهِمَا مَوْتًا، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَرْقَى. عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَابْنُهَا، أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَخْتَصُّوا بِمِيرَاثِهِ، وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، أَوْ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، ثُمَّ أَلْقَتْ آخَرَ حَيًّا، فَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ، وَفِي الْحَيِّ الْأَوَّلِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، إذَا كَانَ سُقُوطُهُ لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ، وَيَرِثُهُمَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ إنْ مَاتَ. وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ قَدْ مَاتَتْ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي، فَإِنَّ دِيَةَ الْأَوَّلِ تَرِثُ مِنْهَا الْأُمُّ وَالْجَنِينُ الثَّانِي، ثُمَّ إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ، وَرِثَهَا الثَّانِي ثُمَّ يَصِيرُ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَهُمَا، وَرِثَتْهُمَا جَمِيعًا. [فَصْلٌ ضَرَبَ بَطْن امْرَأَة فَأَلْقَتْ أَجِنَّة] (6847) فَصْلٌ: وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ أَجِنَّةً، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ غُرَّةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ: وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِهِ، كَالدِّيَاتِ. وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ فِي وَقْتٍ يَعِيشُونَ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ مَاتُوا، فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ. [فَصْلٌ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْجَنِينِ إذَا مَاتَ مَعَ أُمّه] (6848) فَصْلٌ: وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْجَنِينِ إذَا مَاتَ مَعَ أُمِّهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ. وَإِنْ كَانَ قَتْلُ الْأُمِّ عَمْدًا، أَوْ مَاتَ الْجَنِينُ وَحْدَهُ، لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ لَيْسَتْ بِعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِالضَّرْبِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا دُونَ الثُّلُثِ. وَإِذَا مَاتَ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 جِنَايَةِ عَمْدٍ، فِدْيَةُ أُمِّهِ عَلَى قَاتِلِهَا، فَكَذَلِكَ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا يَحْمِلُ بَعْضَ دِيَتِهَا الْجَانِي وَبَعْضَهَا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ عَلَى الْقَاتِلِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ عَمْدًا، فَسَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى النَّفْسِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْجَنِينُ مَمْلُوكًا] (6849) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ مَمْلُوكًا، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ جَنِينُ الْأَمَةِ مَمْلُوكًا، فَسَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ مَيِّتًا، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ. هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَبِنَحْوِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ غُرَّةٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ وَاجِبَةٌ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ هِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَعُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى، وَهَذَا مُتْلَفٌ، فَاعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِأُمِّهِ، وَلِأَنَّهُ جَنِينٌ مَضْمُونٌ، تَلِفَ بِالضَّرْبَةِ، فَكَانَ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ إذَا كَانَ ذَكَرًا كَبِيرًا، وَعُشْرُ الْوَاجِبِ إذَا كَانَ أُنْثَى، كَجَنِينِ الْحُرَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجِبَ فِي الْجَنِينِ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ إذَا كَانَ حَيًّا. وَلَنَا، أَنَّهُ جَنِينٌ مَاتَ بِالْجِنَايَةِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ ضَمَانُهُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، كَجَنِينِ الْحُرَّةِ، وَدَلِيلُهُمْ نَقْلِبُهُ عَلَيْهِمْ، فَنَقُولُ: جَنِينٌ مَضْمُونٌ، تَلِفَ بِالْجِنَايَةِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ عُشْرَ مَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ، كَجَنِينِ الْحُرَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ، مُعَارَضٌ بِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَلِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ بِنَفْسِهِ، لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ كُلُّهَا، كَسَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ بِالْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ أَشَدُّ مِنْ مُخَالَفَتِنَا؛ لِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَاهُ إذَا كَانَ مَيِّتًا بِأُمِّهِ، وَإِذَا كَانَ حَيًّا بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ تَزِيدَ قِيمَةُ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا جَازَ أَنْ يَزِيدَ الْبَعْضُ عَلَى الْكُلِّ فِي أَنَّ مَنْ قَطَعَ أَطْرَافَ إنْسَانٍ الْأَرْبَعَةَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كُلِّهَا، وَهُمْ فَضَّلُوا الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ، وَأَوْجَبُوا فِيمَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عُشْرَ قِيمَتِهِ تَارَةً، وَنِصْفَ عُشْرِهَا أُخْرَى، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ قِيمَةَ أُمِّهِ مُعْتَبَرَةٌ يَوْمَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: تُقَوَّمُ حِينَ أُسْقِطَتْ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ بِالِاسْتِقْرَارِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا وَجْهٌ كَذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الِاسْتِقْرَارِ مَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ بَدَلِ النَّفْسِ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ عَبْدًا، ثُمَّ نَقَصَتْ السُّوقُ؛ لِكَثْرَةِ الْجَلْبِ، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 وَلِأَنَّ قِيمَتَهَا تَتَغَيَّرُ بِالْجِنَايَةِ وَتَنْقُصُ، فَلَمْ تُقَوَّمْ فِي حَالِ نَقْصِهَا الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَمَاتَتْ مِنْ سِرَايَتِهَا، أَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَمَرِضَتْ بِذَلِكَ، ثُمَّ انْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهَا. [فَصْلٌ دِيَةُ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ] (6850) فَصْلٌ: وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ، وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا، حُكْمُهُ حُكْمُ وَلَدِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ عَبْدًا بِحَالٍ. فَأَمَّا جَنِينُ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا، فَهُوَ كَهِيَ، فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ مِثْلُ مَا فِيهَا، فَإِذَا كَانَ نِصْفُهَا حُرًّا، فَنِصْفُهُ حُرٌّ، فِيهِ نِصْفُ غُرَّةٍ لِوَرَثَتِهِ، وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِسَيِّدِهِ. [فَصْلٌ وَطِئَ أَمَة بِشُبْهَةِ أَوْ غُرّ بِأُمَّةِ] (6851) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ أَمَةً بِشُبْهَةٍ، أَوْ غُرَّ بِأَمَةٍ فَتَزَوَّجَهَا وَأَحْبَلَهَا، فَضَرَبَهَا ضَارِبٌ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا، فَهُوَ حُرٌّ، وَفِيهِ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ، وَعَلَى الْوَاطِئِ عُشْرُ قِيمَتِهَا لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا اعْتِقَادُ الْحُرِّيَّةِ، لَكَانَ هَذَا الْجَنِينُ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ، عَلَى ضَارِبِهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ، فَلَمَّا انْعَتَقَ بِسَبَبِ الْوَطْءِ، فَقَدْ حَالَ بَيْنَ سَيِّدِهَا وَبَيْنَ هَذَا الْقَدْرِ، فَأَلْزَمْنَاهُ ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَدْرِ الْغُرَّةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، أَوْ أَقَلَّ. [فَصْلٌ سَقَطَ جَنِين ذِمِّيَّة قَدْ وَطِئَهَا مُسْلِم وَذِمِّيّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ] (6852) فَصْلٌ: إذَا سَقَطَ جَنِينُ ذِمِّيَّةٍ، قَدْ وَطِئَهَا مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَجَبَ فِيهِ الْيَقِينُ، وَهُوَ مَا فِي جَنِينِ الذِّمِّيِّ، فَإِنْ أُلْحِقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذِّمِّيِّ، فَقَدْ وَفَّى مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِمُسْلِمٍ، فَعَلَيْهِ تَمَامُ الْغُرَّةِ. وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ نَصْرَانِيَّةٍ، فَأَسْقَطَتْ، وَادَّعَتْ أَوْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ مِنْ مُسْلِمٍ حَمَلَتْ بِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى، فَاعْتَرَفَ الْجَانِي، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَاعْتَرَفَ أَيْضًا، فَالْغُرَّةُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَنْكَرَتْ، حَلَفَتْ، وَعَلَيْهَا مَا فِي جَنِينِ الذِّمِّيَّيْنِ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا. وَإِنْ اعْتَرَفْت الْعَاقِلَةُ دُونَ الْجَانِي، فَالْغُرَّةُ عَلَيْهَا مَعَ دِيَةِ أُمِّهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي وَالْعَاقِلَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، مَعَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْجَنِينَ مِنْ مُسْلِمٍ، وَلَا تَلْزَمُهُمْ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى النَّفْيِ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِذَا حَلَفُوا، وَجَبَتْ دِيَةُ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ وَلَدَهَا تَابِعٌ لَهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي وَحْدَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَتْ النَّصْرَانِيَّةُ امْرَأَةَ مُسْلِمٍ، فَادَّعَى الْجَانِي أَنَّ الْجَنِينَ مِنْ ذِمِّيٍّ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَة بَيْن شَرِيكَيْنِ] (6853) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَحَمَلَتْ بِمَمْلُوكٍ، فَضَرَبَهَا أَحَدُهُمَا فَأَسْقَطَتْ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 آدَمِيًّا، وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. وَإِنْ أَعْتَقَهَا الضَّارِبُ بَعْدَ ضَرْبِهَا، وَكَانَ مُعْسِرًا، ثُمَّ أَسْقَطَتْ، عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهَا وَمِنْ وَلَدِهَا، وَعَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ غُرَّةٍ مِنْ أَجْلِ النِّصْفِ الَّذِي صَارَ حُرًّا، يُورَثُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْجَنِينِ، تَرِثُ أُمُّهُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ. وَالْبَاقِي لِبَاقِي وَرَثَتِهِ. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَقِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ، لَا يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ ضَمَانُ مَا أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الضَّمَانِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ الضَّرْبُ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا قِيمَةَ الْأُمِّ حَالَ الضَّرْبِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ، وَلِأَنَّ مَوْتَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ بِالضَّرْبِ، فَلَا يَتَجَدَّدُ ضَمَانُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، سَرَى الْعِتْقُ إلَيْهَا وَإِلَى جَنِينِهَا، وَفِي الضَّمَانِ الْوَجْهَانِ؛ فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْجَنِينِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَلَا يَضْمَنُ أُمَّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهَا بِإِعْتَاقِهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا بِتَلَفِهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقَ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يَضْرِبْ، وَكَانَ مُعْسِرًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَسْرِ إلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْجَنِينِ نِصْفُ غُرَّةٍ، يَرِثُهَا وَرَثَتُهُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ، يَكُونُ لِسَيِّدِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي ضَمَانِ الْأُمِّ إذَا مَاتَتْ مِنْ الضَّرْبَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، سَرَى الْعِتْقُ إلَيْهِمَا، وَصَارَا حُرَّيْنِ، وَعَلَى الْمُعْتَقِ ضَمَانُ نِصْفِ الْأُمِّ، وَلَا يَضْمَنُ نِصْفَ الْجَنِينِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْأُمِّ، كَمَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا، وَعَلَى الضَّارِبِ ضَمَانُ الْجَنِينِ بِغُرَّةِ مَوْرُوثَةٍ عَنْهُ، عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، يَضْمَنُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حَالَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا ضَمَانُ الْأُمِّ، فَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فِيهَا دِيَةُ حُرَّةٍ، لِسَيِّدِهَا مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهَا أَوْ قِيمَتِهَا. وَعَلَى الْآخَرِ، يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا لِسَيِّدِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ. [فَصْلٌ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا] (6854) فَصْلٌ: وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ أَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، لَمْ يَضْمَنْهُ. فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً فِي ابْتِدَائِهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتهَا، كَمَا لَوْ خَرَجَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ مَاتَ، وَلِأَنَّ مَوْتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 الْجَنِينِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَصَلَ بِالضَّرْبَةِ فِي مَمْلُوكِهِ. وَلَمْ يَتَجَدَّدْ بَعْدَ الْعِتْقِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، عَلَيْهِ غُرَّةٌ، لَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ بِحَالِ اسْتِقْرَارِهَا. وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ لِشَرِيكَيْنِ، فَضَرَبَاهَا، ثُمَّ أَعْتَقَاهَا مَعًا، فَوَضَعَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَنَى عَلَى الْجَنِينِ، وَنِصْفُهُ لَهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ، وَلَزِمَ ضَمَانُ نِصْفِهِ الَّذِي لِشَرِيكِهِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْغُرَّةِ، لِلْأُمِّ مِنْهَا الثُّلُثُ، وَبَاقِيهَا لِلْوَرَثَةِ، وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنْهَا شَيْئًا. [فَصْلٌ ضَرَبَ ابْنُ الْمُعْتَقَةِ الَّذِي أَبُوهُ عَبْدٌ بَطْنَ امْرَأَةٍ] (6855) فَصْلٌ: إذَا ضَرَبَ ابْنُ الْمُعْتَقَةِ الَّذِي أَبُوهُ عَبْدٌ بَطْنَ امْرَأَةٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ أَبُوهُ، ثُمَّ أَسْقَطَتْ جَنِينًا وَمَاتَتْ، احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُمَا فِي مَالِ الْجَانِي، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى مَوْلَى الْأُمِّ وَعَصَبَاتِهِ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، عَلَى مَوْلَى الْأَبِ وَأَقَارِبِهِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِسْقَاطِ. وَإِنْ ضَرَبَ ذِمِّيٌّ بَطْنَ امْرَأَتِهِ الذِّمِّيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ أَسْقَطَتْ، لَمْ تَحْمِلْهُ عَاقِلَتُهُ. وَإِنْ مَاتَتْ مَعَهُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَ الْجِنَايَةِ ذِمِّيًّا، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْإِسْقَاطِ مُسْلِمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَيَكُونَ فِي الْجَنِينِ مَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ الْكَافِر لِأَنَّهُ حِينَ الْجِنَايَة مَحْكُوم بِكُفْرِهِ، وَعَلَى قِيَاس قَوْلِ ابْنِ حَامِد تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ، وَيَكُون عَقْلُهُ وَعَقْلُ أُمِّهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الِاسْتِقْرَارِ. [مَسْأَلَة ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ] (6856) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الضَّرْبَةِ، فَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ إنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا، إذَا كَانَ سُقُوطُهُ لِوَقْتِ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ فِي الْجَنِينِ، يَسْقُطُ حَيًّا مِنْ الضَّرْبِ، دِيَةً كَامِلَةً، مِنْهُمْ؛ زَيْدُ بْن ثَابِتٍ، وَعُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَمَالِك، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ، فِي وَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، فَأَشْبَهَ قَتْلَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (6857) الْفَصْل الْأَوَّل: أَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَن بِالدِّيَةِ إذَا وَضَعَتْهُ حَيًّا، وَمَتَى عُلِمَتْ حَيَاتُهُ، ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ، سَوَاءٌ ثَبَتَتْ بِاسْتِهْلَالِهِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 أَوْ ارْتِضَاعِهِ، أَوْ بِنَفَسِهِ، أَوْ عُطَاسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمَارَات الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا حَيَاتُهُ. هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَالِ. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِك، وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَابِرٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ، وَرِثَ وَوُرِثَ» . مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلّ. وَالِاسْتِهْلَالُ: الصِّيَاحُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمُ، وَالنَّخَعِيّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ، إلَّا مَسَّهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا، إلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» . فَلَا يَجُوزُ غَيْرُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَصْلُ فِي تَسْمِيَةِ الصِّيَاحِ اسْتِهْلَالًا، أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ صَاحُوا، وَأَرَاهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَسُمِّيَ صِيَاحُ الْمَوْلُودِ اسْتِهْلَالًا؛ لِأَنَّهُ فِي ظُهُورِهِ بَعْدَ خَفَائِهِ كَالْهِلَالِ، وَصِيَاحُهُ كَصِيَاحِ مِنْ يَتَرَاءَاهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ، فَأَشْبَهَ الْمُسْتَهِلَّ، وَالْخَبَرُ يَدُلُّ بِمَعْنَاهُ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ شُرْبَهُ اللَّبَنَ أَدُلّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ صِيَاحِهِ، وَعُطَاسُهُ صَوْتٌ مِنْهُ كَصِيَاحِهِ، وَأَمَّا الْحَرَكَة وَالِاخْتِلَاجُ الْمُنْفَرِدُ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ؛ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَرَّك بِالِاخْتِلَاجِ وَسَبَبٍ أُخَرِ، وَهُوَ خُرُوجَهُ مِنْ مَضِيقٍ، فَإِنَّ اللَّحْمَ يَخْتَلِجُ سِيَّمَا إذَا عُصِرَ ثُمَّ تُرِك، فَلَمْ تَثْبُتْ بِذَلِكَ حَيَاتُهُ. (6858) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ إذَا عُلِمَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ الضَّرْبَةِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِسُقُوطِهِ فِي الْحَالِ وَمَوْتِهِ أَوْ بَقَائِهِ، مُتَأَلِّمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ، أَوْ بَقَاءِ أُمِّهِ مُتَأَلِّمَةً إلَى أَنْ تُسْقِطَهُ، فَيُعْلَمَ بِذَلِكَ مَوْتُهُ بِالْجِنَايَةِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ رَجُلًا فَمَاتَ عَقِيبَ ضَرْبِهِ، أَوْ بَقِيَ ضَمِنًا حَتَّى مَاتَ. وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا، فَجَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ إذَا كَانَ عَمْدًا، أَوْ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، بَلْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَعَلَى الثَّانِي الْأَدَبُ. وَإِنْ وَقَعَ الْجَنِينُ حَيًّا، ثُمَّ بَقِيَ زَمَنًا سَالِمًا لَا أَلَمَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الضَّارِبُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْ جِنَايَتِهِ. (6859) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ إذَا كَانَ سُقُوطُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ ذَلِكَ، فَفِيهِ غُرَّةٌ، كَمَا لَوْ سَقَطَ مُتَأَلِّمًا. وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا حَيَاتَهُ، وَقَدْ تَلِفَ مِنْ جِنَايَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ فِيهِ حَيَاةٌ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ بِهَا، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ، كَمَا لَوْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا، وَكَالْمَذْبُوحِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّنَا عَلِمْنَا حَيَاتَهُ. قُلْنَا: وَإِذَا سَقَطَ مَيِّتًا وَلَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَقَدْ عَلِمْنَا حَيَاتَهُ أَيْضًا. [فَصْلٌ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ ضَرَبَهَا فَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا فَأَنْكَرَ الضَّرْبَ] (6860) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ ضَرَبَهَا، فَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا، فَأَنْكَرَ الضَّرْبَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّرْبِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالضَّرْبِ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ أَسْقَطَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَإِنْ ثَبَتَ الْإِسْقَاطُ وَالضَّرْبُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ، فَادَّعَى أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرْبِهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ أَسْقَطَتْ عَقِيبَ ضَرْبِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْهُ، لِوُجُودِهِ عَقِيبَ شَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهَا ضَرَبَتْ نَفْسَهَا، أَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهَا، فَحَصَلَ الْإِسْقَاطُ بِهِ، فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ الضَّرْبِ بِأَيَّامٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ مُتَأَلِّمَةً إلَى حِينِ الْإِسْقَاطِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَأَلِّمَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ إنْسَانًا فَلَمْ يَبْقَ مُتَأَلِّمًا وَلَا ضَمِنًا، وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ التَّأَلُّمِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَلِّمَةً فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، فَادَّعَى أَنَّهَا بَرِئَتْ، وَزَالَ أَلَمُهَا، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ. وَإِنْ ثَبَتَ إسْقَاطُهَا مِنْ الضَّرْبَةِ، فَادَّعَتْ سُقُوطَهُ حَيًّا، وَأَنْكَرَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهَا بَيِّنَةٌ بِاسْتِهْلَالِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ. وَإِنْ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ، فَادَّعَتْ أَنَّهُ لِوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلَهُ، وَأَنْكَرَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ، كَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَوُجُودِ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا. وَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِاسْتِهْلَالِهِ، وَأَقَامَ الْجَانِي بَيِّنَةً بِعَدَمِ اسْتِهْلَالِهِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَى النَّافِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُثْبِتَةَ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ. وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ مَاتَ عَقِيبَ إسْقَاطِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ عَاشَ مُدَّةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ حَيَاتِهِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْجَانِي؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ. وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَاشَ مُدَّةً فَادَّعَتْ أَنَّهُ بَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأَلُّمِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ. وَيُقْبَلُ فِي اسْتِهْلَالِ الْجَنِينِ، وَسُقُوطِهِ، وَبَقَائِهِ مُتَأَلِّمًا، وَبَقَاءِ أُمِّهِ مُتَأَلِّمَةً، قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْوِلَادَةَ إلَّا النِّسَاءُ، وَالِاسْتِهْلَالُ يَتَّصِلُ بِهَا، وَهُنَّ يَشْهَدْنَ حَالَ الْمَرْأَةِ وَوِلَادَتَهَا، وَحَالَ الطِّفْلِ، وَيَعْرِفْنَ عِلَلَهُ وَأَمْرَاضَهُ، وَقُوَّتَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 وَضَعْفَهُ، دُونَ الرِّجَالِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ الْجَانِي بِاسْتِهْلَالِهِ، أَوْ مَا يُوجِبُ فِيهِ دِيَةً كَامِلَةً، لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، وَكَانَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ فِيهِ الْغُرَّةَ، فَعَلَى الْعَاقِلَةِ غُرَّةٌ، وَبَاقِي الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ. (6861) فَصْلٌ: وَإِنْ انْفَصَلَ مِنْهَا جَنِينَانِ، ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَهِلِّ، فَقَالَ الْجَانِي: هُوَ الْأُنْثَى. وَقَالَ وَارِثُ الْجَنِينِ: هُوَ الذَّكَرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاسْتِهْلَالِ مِنْ الذَّكَرِ، وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى دِيَةِ الْأُنْثَى، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، وَجَبَتْ دِيَةُ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ قَامَتْ بِاسْتِهْلَالِهِ، وَالْبَيِّنَةُ الْمُعَارِضَةُ لَهَا نَافِيَةٌ لَهُ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قُلْنَا: لَا تَجِبُ دِيَةُ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهَا لَمْ يَدَّعِهَا، وَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْبَيِّنَةِ الشَّاهِدَةِ بِهَا. وَإِنْ ادَّعَى الِاسْتِهْلَالَ مِنْهُمَا، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَاعْتَرَفَ الْجَانِي بِاسْتِهْلَالِ الذَّكَرِ، فَأَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، فَإِذَا حَلَفُوا، كَانَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةُ الْأُنْثَى وَغُرَّةٌ، إنْ كَانَتْ تَحْمِلُ الْغُرَّةَ، وَعَلَى الضَّارِبِ تَمَامُ دِيَةِ الذَّكَرِ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ. وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَهَلَّ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ، لَزِمَ الْعَاقِلَةَ دِيَةُ أُنْثَى؛ لِأَنَّهَا مُتَيَقِّنَةٌ، وَتَمَامُ دِيَةِ الذَّكَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهُ، فَلَمْ يَجِبْ بِالشَّكِّ، وَيَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الَّذِي لَمْ يَسْتَهِلَّ. (6862) فَصْلٌ: إذَا ضَرَبَهَا، فَأَلْقَتْ يَدًا، ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا، فَإِنْ كَانَ إلْقَاؤُهُمَا مُتَقَارِبًا، أَوْ بَقِيت الْمَرْأَةُ مُتَأَلِّمَةً إلَى أَنْ أَلْقَتْهُ، دَخَلَتْ الْيَدُ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الضَّرْبَ قَطَعَ يَدَهُ، وَسَرَى إلَى نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجَنِينُ سَقَطَ مَيِّتًا، أَوْ حَيًّا لَا يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ بَقِيَ حَيًّا فَلَمْ يَمُتْ، فَعَلَى الضَّارِبِ ضَمَانُ الْيَدِ بِدِيَتِهَا، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَانْدَمَلَتْ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُسْأَلُ الْقَوَابِلُ، فَإِنْ قُلْنَ: إنَّهَا يَدُ مَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ الْحَيَاةُ؛ فَفِيهَا نِصْفُ الْغُرَّةِ، وَإِنْ قُلْنَ: يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ؛ فَفِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَنِينَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِيهِ إذَا كَانَ حَيًّا قَبْلَ وِلَادَتِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، أَقَلُّهَا شَهْرَانِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، فِي أَنَّهُ تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَأَقَلُّ مَا يَبْقَى بَعْدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 ذَلِكَ شَهْرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَى إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الضَّرْبَةِ وَالْإِسْقَاطِ مُدَّةٌ تُزِيلُ ظَنَّ سُقُوطِهِ بِهَا، فَيُعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَأَمَّا إنْ أَلْقَتْ الْيَدَ، وَزَالَ الْأَلَمُ، ثُمَّ أَلْقَتْ الْجَنِينَ، ضَمِنَ الْيَدَ وَحْدَهَا، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَطَعَ يَدًا فَانْدَمَلَتْ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُهَا، ثُمَّ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا، أَوْ لِوَقْتٍ لَا يَعِيشُ مِثْلَهُ، فَفِي الْيَدِ نِصْفُ غُرَّةٍ؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِهِ غُرَّةً، فَفِي يَدِهِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ، ثُمَّ مَاتَ، أَوْ عَاشَ، وَكَانَ بَيْنَ إلْقَاءِ الْيَدِ وَبَيْنَ إلْقَائِهِ مُدَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ لَمْ تُخْلَقْ فِيهَا، أُرِيَ الْقَوَابِلَ هَاهُنَا، فَإِنْ قُلْنَ: إنَّهَا يَدُ مَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهَا الْحَيَاةُ. وَجَبَ نِصْفُ غُرَّةٍ، وَإِنْ قُلْنَ: إنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَمَضَى لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَلَمْ تَمْضِ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ غُرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا يَدُ مَنْ لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ غُرَّةٍ، فَأَشْبَهَتْ يَدَ مَنْ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ رُوحٌ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِنَّ، وَجَبَ نِصْفُ الْغُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ. [مَسْأَلَة عِتْق رَقَبَة مُؤْمِنَة إذَا كَانَ الْجَنِين حَيًّا أَوْ مَيِّتًا] (6863) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَعَلَى كُلِّ مَنْ ضَرَبَ مِمَّنْ ذَكَرْت، عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْجَبَ عَلَى ضَارِبِ بَطْنِ الْمَرْأَةِ تُلْقِي جَنِينًا الرَّقَبَةَ مَعَ الْغُرَّةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ حِينَ أَوْجَبَ الْغُرَّةَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَقَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَهَذَا الْجَنِينُ، إنْ كَانَ مِنْ مُؤْمِنَيْنِ، أَوْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ مَحْكُومٌ بِإِيمَانِهِ تَبَعًا، يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهُوَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَلِأَنَّهُ نَفْسٌ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الرَّقَبَةُ كَالْكَبِيرِ، وَتَرْكُ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَذَكَرَ الدِّيَةَ فِي مَوَاضِعَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 «قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، كَذَا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ أَغْنَتْ عَنْ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَاكْتُفِيَ بِهَا. وَإِنْ أَلْقَتْ الْمَضْرُوبَةُ أَجِنَّةً، فَفِي كُلِّ جَنِينٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا أَنَّ فِي كُلِّ جَنِينٍ غُرَّةً أَوْ دِيَةً. وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي ضَرْبِ امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا، فَدِيَتُهُ أَوْ الْغُرَّةُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ، كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا. وَإِنْ أَلْقَتْ أَجِنَّةً، فَدِيَاتُهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ جَنِينٍ كَفَّارَةٌ، فَلَوْ ضَرَبَ ثَلَاثَةٌ بَطْنَ امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ ثَلَاثَةَ أَجِنَّةً، فَعَلَيْهِمْ تِسْعُ كَفَّارَاتٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ. [مَسْأَلَة شَرِبَتْ الْحَامِلُ دَوَاءً فَأَلْقَتْ بِهِ جَنِينًا] (6864) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا شَرِبَتْ الْحَامِلُ دَوَاءً، فَأَلْقَتْ بِهِ جَنِينًا، فَعَلَيْهَا غُرَّةٌ، لَا تَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا، وَتُعْتِقُ رَقَبَةً لَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عِتْقَ الرَّقَبَةِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ الْجَنِينَ بِفِعْلِهَا وَجِنَايَتِهَا، فَلَزِمَهَا ضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا، وَلَا تَرِثُ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ، وَتَكُونُ الْغُرَّةُ لِسَائِرِ وَرَثَتِهِ، وَعَلَيْهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ؛ كَمَا قَدَّمْنَا. وَلَوْ كَانَ الْجَانِي الْمُسْقِطُ لِلْجَنِينِ أَبَاهُ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ، لَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا، وَيُعْتِقُ رَقَبَةً. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. (6865) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَى بَهِيمَةٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا، فَفِيهِ مَا نَقَصَهَا، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ فِيهِ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى حَيَوَانٍ يَمْلِك بَيْعَهُ أَسْقَطَتْ جَنِينَهُ، أَشْبَهَ جَنِينَ الْأَمَةِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَمَةِ تُقَدَّرُ مِنْ قِيمَتِهَا، فَفِي يَدِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَفِي مُوضِحَتِهَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهَا، بِقَدْرِ جَنِينِهَا مِنْ قِيمَتِهَا، كَبَعْضِ أَعْضَائِهَا، وَالْبَهِيمَةُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا قَدْرُ نَقْصِهَا، فَكَذَلِكَ فِي جَنِينِهَا، وَلِأَنَّ الْأَمَةَ آدَمِيَّةٌ، أُلْحِقَتْ بِالْأَحْرَارِ فِي تَقْدِيرِ أَعْضَائِهَا مِنْ دِيَتِهَا، وَالْبَهِيمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة رَمَى ثَلَاثَةٌ بِالْمَنْجَنِيقِ فَرَجَعَ الْحَجَرُ فَقَتَلَ رَجُلًا] (6866) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا رَمَى ثَلَاثَةٌ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَرَجَعَ الْحَجَرُ، فَقَتَلَ رَجُلًا، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي مَالِهِ أَمَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشَارِكٌ فِي إتْلَافِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَبَعَّضُ، فَكَمُلَتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 أَحَدُهُمَا، أَنْ يَقْتُلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِهِمْ. فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الثُّلُثَ فَمَا زَادَ، سَوَاءٌ قَصَدُوا رَمْيَ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ رَمْيَ جَمَاعَةٍ، أَوْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَقْصِدُوا قَتْلَ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ، فَهُوَ خَطَأٌ دِيَتُهُ دِيَةُ الْخَطَإِ، وَإِنْ قَصَدُوا رَمْيَ جَمَاعَةٍ أَوْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ بِالْمَنْجَنِيقِ لَا يَكَادُ يُفْضِي إلَى إتْلَافِهِ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، إلَّا أَنَّهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ، فَلَا تَحْمِلُهُ هَاهُنَا. الثَّانِي: أَنْ يُصِيبَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ أَيْضًا، وَلَا تَسْقُطُ عَمَّنْ أَصَابَهُ الْحَجَرُ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي قَتْلِ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْمُشَارَكَةِ فِي نَفْسِهِ، كَوُجُوبِهَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي قَتْلِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا، أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ دِيَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشَارِكٌ فِي قَتْلِ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ خَطَأً، فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهَا، كَالْأَجَانِبِ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ خَطَأً يَحْمِل عَقْلَهَا عَاقِلَتُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا قَابَلَ فِعْلَ الْمَقْتُولِ سَاقِطٌ، لَا يَضْمَنُهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي إتْلَافِ حَقِّهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا قَابَلَ فِعْلَهُ، كَمَا لَوْ شَارَكَ فِي قَتْلِ بَهِيمَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يُلْغَى فِعْلُ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ، وَتَجِبَ دِيَتُهُ بِكَمَالِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِينَ نِصْفَيْنِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُتَصَادِمَيْنِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَحْسَنُ، وَأَصَحُّ فِي النَّظَرِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْقَارِضَةِ وَالْقَابِضَةِ وَالْوَاقِصَةِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَ جَوَارٍ اجْتَمَعْنَ فَأَرِنَّ، فَرَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ عَلَى عُنُقِ أُخْرَى، وَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ، فَقَمَصَتْ، فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ، فَوُقِصَتْ عُنُقُهَا، فَمَاتَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا عَلَى عَوَاقِلِهِنَّ، وَأَلْغَى الثُّلُثَ الَّذِي قَابَلَ فِعْلَ الْوَاقِصَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَانَتْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهَا. وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ مُشَارِكٌ فِي الْقَتْلِ، فَلَمْ تَكْمُلْ الدِّيَةُ عَلَى شَرِيكَيْهِ، كَمَا لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَإِنْ رَجَعَ الْحَجَرُ، فَقَتَلَ اثْنَيْنِ مِنْ الرُّمَاةِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، تَجِبُ دِيَتُهُمَا عَلَى عَوَاقِلِهِمَا أَثْلَاثًا، وَعَلَى كُلّ وَاحِدٍ كَفَّارَتَانِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: تَجِبُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 عَلَى عَاقِلَةِ الْحَيِّ مِنْهُمْ، لِكُلِّ مَيِّتٍ ثُلُثُ دِيَتِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ ثُلُثُ دِيَةِ صَاحِبِهِ، وَيُلْغَى فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ، عَلَى عَاقِلَةِ الْحَيِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِصَاحِبِهِ. (6867) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَالدِّيَةُ حَالَّةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْهُمْ، يَكُونُ فِعْلُ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ هَدَرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ شَيْءٌ، وَيَكُونُ بَاقِي الدِّيَةِ فِي أَمْوَالِ شُرَكَائِهِ حَالًّا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَهَذَا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَالْقَدْرُ اللَّازِمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دُونَ الثُّلُثِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى: أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُهَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، أَوْجَبَ دِيَةً تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْتَصُّ بِمُوجَبِ فِعْلِهِ دُونَ فِعْلِ شُرَكَائِهِ، وَحَمْلُ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ الْجَانِي فِيمَا يَشُقُّ وَيَثْقُلُ، وَمَا دُونَ الثُّلُثِ يَسِيرٌ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: بَلْ هِيَ أَفْعَالٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ فِعْلِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ جُرْحًا فَاتَتْ النَّفْسُ بِجَمِيعِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ مَدَّ الْحِبَالَ، وَرَمَى الْحَجَرَ دُونَ مَنْ وَضَعَهُ فِي الْكِفَّةِ، وَأَمْسَكَ الْخَشَبَةَ، اعْتِبَارًا بِالْمُبَاشِرِ. كَمَنْ وَضَعَ سَهْمًا فِي قَوْسِ رَجُلٍ، وَرَمَاهُ صَاحِبُ الْقَوْسِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّامِي دُونَ الْوَاضِعِ. [فَصْلٌ سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ فَسَقَطَ عَلَيْهِ آخَرُ فَقَتَلَهُ] (6868) فَصْلٌ: إذَا سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ آخَرُ فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ رَمَى عَلَيْهِ حَجَرًا، ثُمَّ يُنْظَر؛ فَإِنْ كَانَ عَمَدَ رَمْيَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ وَقَعَ خَطَأً، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةً. وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُودُ أَعْمَى، فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ؛ خَرَّ الْبَصِيرُ، وَوَقَعَ الْأَعْمَى فَوْقَ الْبَصِيرِ، فَقَتَلَهُ، فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى، فَكَانَ الْأَعْمَى يُنْشِدُ فِي الْمَوْسِمِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا ... هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَشُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى ضَمَانُ الْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي قَادَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ، وَكَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْأَعْمَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ بِقَصْدِهِ. لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْأَعْمَى، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ بِإِذْنِهِ، فَتَلِفَ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ فِعْلٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، مَأْمُورٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي سَابِلَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهَا. [فَصْلٌ سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ فَوَقَعَا مَعًا] (6869) فَصْل: فَإِنْ سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ، فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، فَوَقَعَا مَعًا، فَدَمُ الْأَوَّلِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِهِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الثَّانِي إنَّ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِجَذْبَتِهِ. فَإِنْ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثِ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّالِثِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي دِيَتُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَذَبَهُ وَبَاشَرَهُ بِالْجَذْبِ، وَالْمُبَاشَرَةُ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّبَبِ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ، وَالثَّانِي دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ جَذَبَ الثَّانِيَ الْجَاذِبَ لِلثَّالِثِ، فَصَارَ مُشَارِكًا لِلثَّانِي فِي إتْلَافِهِ. وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِجَذْبَتِهِ، وَإِنْ هَلَكَ بِسُقُوطِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ، فَقَدْ هَلَكَ بِجَذْبَةِ الْأَوَّلِ وَجَذْبَةِ نَفْسِهِ لِلثَّالِثِ، فَسَقَطَ فِعْلُ نَفْسِهِ، كَالْمُصْطَدَمِينَ، وَتَجِبُ دِيَتُهُ بِكَمَالِهَا عَلَى الْأَوَّلِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا فِي مُقَابِلَةِ فِعْلِ نَفْسِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ وُجُوبُ نِصْفِ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ، كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا رَمَى ثَلَاثَةٌ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَقَتَلَ الْحَجَرُ أَحَدَهُمْ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ إذَا مَاتَ بِوُقُوعِهِمَا عَلَيْهِ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَذْبَتِهِ وَجَذْبَةِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ، فَتَجِبُ دِيَتُهُ كُلُّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي: وَيُلْغَى فِعْلُ نَفْسِهِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ الْمُقَابِلُ لِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي: وَعَلَى الثَّالِثِ، يَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ جَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا، فَمَاتَ جَمِيعُهُمْ بِوُقُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّابِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا فِي نَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ، وَفِي دِيَتِهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 أَحَدُهُمَا؛ أَنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ الْمُبَاشِرِ لِجَذْبِهِ. وَالثَّانِي: عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَذْبِ الثَّلَاثَةِ، فَكَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ مَاتَ بِجَذْبَتِهِ وَجَذْبَةِ الثَّانِي وَجَذْبَةِ الثَّالِثِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُلْغَى فِعْلُ نَفْسِهِ، وَتَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ نِصْفَيْنِ. الثَّانِي: يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا ثُلُثَاهَا، وَيَسْقُطُ مَا قَابَلَ فِعْلَ نَفْسِهِ، الثَّالِثُ: يَجِبُ ثُلُثهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ. وَأَمَّا الْجَاذِبُ الثَّانِي: فَقَدْ مَاتَ بِالْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَفِيهِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَوَّلِ سَوَاءً. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَفِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَوَجْهَانِ آخَرَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ دِيَتَهُ بِكَمَالِهَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِجَذْبِهِ، فَسَقَطَ فِعْلُ غَيْرِهِ بِفِعْلِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفَهَا، وَيَسْقُطُ النِّصْفُ الثَّانِي فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ فِي نَفْسِهِ. (6870) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَمَاتُوا، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُمْ بِغَيْرِ وُقُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ عَمِيقًا يَمُوتُ الْوَاقِعُ فِيهِ بِنَفْسِ الْوُقُوعِ، أَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ يُغْرِقُ الْوَاقِعَ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ أَسَدٌ يَأْكُلُهُمْ، فَلَيْسَ عَلَى بَعْضِهِمْ ضَمَانُ بَعْضٍ؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ فِعْلِ بَعْضِهِمْ فِي هَلَاكِ بَعْضٍ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضْمَنْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا نَشْغَلُهَا بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُمْ بِوُقُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَدَمُ الرَّابِعِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَيْهِ وَعَلَى الثَّالِثِ نِصْفَيْنِ، وَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا. (6871) فَصْلٌ: وَإِنْ هَلَكُوا بِأَمْرٍ فِي الْبِئْرِ، مِثْلِ أَسَدٍ كَانَ فِيهِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ جَذَبَ الثَّانِي، وَالثَّانِي جَذَبَ الثَّالِثَ، وَالثَّالِثُ جَذَبَ الرَّابِعَ، فَقَتَلَهُمْ الْأَسَدُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّابِعِ، وَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الثَّانِي: عَلَى عَوَاقِلِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا، وَدَمُ الْأَوَّلِ هَدَرٌ، عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الثَّانِي. وَأَمَّا دِيَةُ الثَّالِثِ، فَعَلَى الثَّانِي: فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ الزُّبْيَةِ، وَقَدْ رَوَى حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ، «أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، حَفَرُوا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِهَا، فَهَوَى فِيهَا وَاحِدٌ، فَجَذَبَ ثَانِيًا، فَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا، ثُمَّ جَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا، فَقَتَلَهُمْ الْأَسَدُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لِلْأَوَّلِ رُبْعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلثَّانِي ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ اثْنَانِ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ وَاحِدٌ، وَلِلرَّابِعِ كَمَالُ الدِّيَةِ. وَقَالَ: فَإِنِّي أَجْعَلُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَ رَأْسَ الْبِئْرِ. فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 أَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَنَشٍ، بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى ذَلِكَ تَوْقِيفًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ الضَّمَانُ بِالسَّبَبِ] (6872) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِالسَّبَبِ، كَمَا يَجِبُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ وَضَعَ فِي ذَلِكَ حَجَرًا أَوْ حَدِيدَةً، أَوْ صَبَّ فِيهِ مَاءً، أَوْ وَضَعَ فِيهِ قِشْرَ بِطِّيخٍ أَوْ نَحْوَهُ، وَهَلَكَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ. رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ ضَمَّنَ رَجُلًا حَفَرَ بِئْرًا، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَإِنْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا، وَحَفَرَ آخَرُ بِئْرًا، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا، فَعَثَرَ بِالْحَجَرِ، فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ، أَوْ عَلَى السِّكِّينِ، فَهَلَكَ، فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ دُونَ الْحَافِرِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ؛ لِأَنَّ وَاضِعَ الْحَجَرِ كَالدَّافِعِ لَهُ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَافِرُ وَالدَّافِعُ فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا، ثُمَّ حَفَرَ عِنْدَهُ آخَرُ بِئْرًا، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا، فَعَثَرَ بِالْحَجَرِ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمَا، فَهَلَكَ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ الْحَافِرُ وَنَاصِبُ السِّكِّينِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ فِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ زِقٌّ فِيهِ مَائِعٌ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَحَلَّ وِكَاءَهُ إنْسَانٌ، وَأَمَالَهُ آخَرُ، فَسَالَ مَا فِيهِ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِرِ مِنْهُمَا. وَإِنْ وَضَعَ إنْسَانٌ حَجَرًا أَوْ حَدِيدَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ حَفَرَ فِيهِ بِئْرًا، فَدَخَلَ إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهَلَكَ بِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ هَلَكَ بِعُدْوَانِ نَفْسِهِ، وَإِنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي مِلْكِهِ، وَنَصَبَ أَجْنَبِيٌّ فِيهِ سِكِّينًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ، فَوَقَعَ عَلَى السِّكِّينِ أَوْ فِي الْبِئْرِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ، لِتَعَدِّيهِمَا، إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الضَّمَانُ بِوَاضِعِ الْحَجَرِ؛ لِانْتِفَاءِ عُدْوَانِهِ. وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي عُدْوَانٍ تَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ وَضَعَ اثْنَانِ حَجَرًا، وَوَاحِدٌ حَجَرًا، فَعَثَرَ بِهِمَا إنْسَانٌ، فَهَلَكَ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ أَثْلَاثًا، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ حَصَلَ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا، فَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَفْعَالُهُمْ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ جُرْحَيْنِ، وَجَرَحَهُ اثْنَانِ جُرْحَيْنِ، فَمَاتَ بِهِمَا. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَى الِاثْنَيْنِ النِّصْفُ، وَعَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ وَحْدَهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُسَاوٍ لَفِعْلِهِمَا. وَإِنْ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا، وَنَصَبَ آخَرُ سِكِّينًا، فَوَقَعَ إنْسَانٌ فِي الْبِئْرِ عَلَى السِّكِّينِ، فَمَاتَ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ. وَهَذَا قِيَاسُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَنَصَّ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ، الْحَافِرُ كَالْمُمْسِكِ، وَنَاصِبُ السِّكِّينِ كَالْقَاتِلِ، فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى جَمِيعِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 (6873) فَصْلٌ: وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا. وَإِنْ حَفَرَهَا فِي مَوَاتٍ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ حَجَرًا، أَوْ نَصَبَ شَرَكًا، أَوْ شَبَكَةً، أَوْ مِنْجَلًا، لِيَصِيدَ بِهَا. وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَنْ هَلَكَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ. وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ؛ لِتَعَدِّيهِ. وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، فَحَفَرَ فِي مَكَان مِنْهَا مَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ كَذَلِكَ. وَإِنْ حَفَرَ فِي مَوْضِعٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا، سَوَاءٌ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فِيهِ، وَيُقْطِعَهُ لِمَنْ يَبِيعُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَلِفَ بِحَفْرِ حُفْرَةٍ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ، لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِمْ، فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا يَأْذَنُ فِي الْقُعُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ، وَتُمْكِنُ إزَالَتُهُ فِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ الْحَفْرِ. وَإِنْ حَفَرَ الْبِئْرَ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ أَنْ يَحْفِرَهُ لِيَنْزِلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ الطَّرِيقِ، أَوْ لِتَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ، وَنَحْوُهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِفِعْلِهِ، غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهِ، فَأَشْبَهَ بَاسِطَ الْحَصِيرِ فِي الْمَسْجِدِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يَضْمَنُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: إذَا أَحْدَثَ بِئْرًا لِمَاءِ الْمَطَرِ، فَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَرْجُو أَنْ لَا يَضْمَنَ وَالثَّانِيَةُ: يَضْمَنُ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ افْتَأَتَ عَلَى الْإِمَامِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي سِوَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَيَشُقُّ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ، وَتَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ، فَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ فِيهِ تَفْوِيتٌ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ مَنْ يَتَحَمَّلُ كُلْفَةَ اسْتِئْذَانِهِ وَكُلْفَةَ الْحَفْرِ مَعًا، فَتَضِيعُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ، فَوَجَبَ إسْقَاطُ اسْتِئْذَانِهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، مِنْ بَسْطِ حَصِيرٍ فِي مَسْجِدٍ، أَوْ تَعْلِيقِ قِنْدِيلٍ فِيهِ، أَوْ وَضْعِ سِرَاجٍ، أَوْ رَمِّ شَعَثٍ فِيهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَحُكْمُ الْبِنَاءِ فِي الطَّرِيقِ حُكْمُ الْحَفْرِ فِيهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى بَنَى بِنَاءً يَضُرُّ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، أَوْ فِي وَاسِعٍ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، أَوْ بَنَى لِنَفْسِهِ، فَقَدْ تَعَدَّى، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 بِهِ، وَإِنْ بَنَى فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ، فِي مَوْضِعٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءُ فِيهِ، لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، كَبِنَاءِ مَسْجِدٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فِي زَاوِيَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَبَرَ إذْنُ الْإِمَامِ فِي الْبِنَاءِ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِنَفْعِ الطَّرِيقِ وَإِصْلَاحِهَا، وَإِزَالَةِ الطِّينِ وَالْمَاءِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، فَجَرَى حَفْرُهَا مَجْرَى تَنْقِيَتِهَا، وَحَفْرِ هِدْفَةٍ مِنْهَا، وَقَلْعِ حَجَرٍ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، وَوَضْعِ الْحَصَا فِي حُفْرَةٍ مِنْهَا لِيَمْلَأَهَا وَيُسَهِّلَهَا بِإِزَالَةِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ مِنْهَا، وَتَسْقِيفِ سَاقِيَةٍ فِيهَا، وَوَضْعِ حَجَرٍ فِي طِينٍ فِيهَا لِيَطَأَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَوْ يَعْبُرُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ، لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَبَرَ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ لَا يَعُمُّ وُجُودُهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَإِنْ سَقَفَ مَسْجِدًا، أَوْ فَرَشَ بَارِيَّةً فِيهِ، أَوْ نَصَبَ عَلَيْهِ بَابًا، أَوْ جَعَلَ فِيهِ رَفًّا لِيَنْفَعَ أَهْلَهُ، أَوْ عَلَّقَ فِيهِ قِنْدِيلًا، أَوْ بَنَى فِيهِ حَائِطًا، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، ضَمِنَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْجِيرَانُ. وَلَنَا، أَنَّهُ فِعْلٌ أَحْسَنَ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْجِيرَانُ، وَلِأَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالتَّبَرُّعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانٌ، كَالْمَأْذُونِ فِيهِ نُطْقًا. [فَصْل حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (6874) فَصْلٌ: وَإِنْ حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ، بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ فِي طَرِيقٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ تَلِفَ بِهَا شَيْءٌ، ضَمِنَهُ الْعَبْدُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الضَّمَانُ عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هِيَ الْحَفْرُ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَكَانَ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ حِينَئِذٍ عَلَى سَيِّدِهِ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِعِتْقِهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ فِي حَالِ رِقِّهِ، ثُمَّ سَرَى جُرْحُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّلَفَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وُجِدَ بَعْدَ إعْتَاقِهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا فِي حَالِ رِقِّهِ، ثُمَّ قَتَلَ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وُجِدَ حَالَ رِقِّهِ، وَهَاهُنَا حَصَلَ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَصْبِ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الضَّمَانُ. [فَصْلٌ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (6875) فَصْلٌ: وَإِذَا حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، بِغَيْرِ إذْنِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ جَمِيعَهُ. وَهَذَا قِيَاسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ مَا قَابَلَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكَانِ، لَضَمِنَ ثُلُثَيْ التَّالِفِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي نَصِيبِ شَرِيكَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِجِهَتَيْنِ، فَكَانَ الضَّمَانُ نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ جُرْحًا، وَجَرَحَهُ آخَرُ جُرْحَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ، فَضَمِنَ الْوَاقِعَ فِيهَا، كَمَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَالشَّرِكَةُ أَوْجَبَتْ تَعَدِّيهِ بِجَمِيعِ الْحَفْرِ، فَكَانَ مُوجِبًا لِجَمِيعِ الضَّمَانِ. وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ، بِمَا لَوْ حَفَرَهُ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا، وَمَعَ ذَلِكَ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي الْحَفْرِ دُونَ بَعْضٍ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا حَفَرَ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُبَاحُ الْحَفْرُ وَلَا التَّصَرُّفُ حَتَّى يَأْذَنَ الْجَمِيعُ. [فَصْلٌ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ أَوْ وَضَعَ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ] (6876) فَصْلٌ: وَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ، أَوْ وَضَعَ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ، فَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَتْلَفُ بِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَذِنَ فِيهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، فَإِذَا أَبْرَأَهُ مِنْ الضَّمَانِ، وَأَذِنَ فِيهِ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ اقْتَرَنَ الْإِذْنُ بِالْحَفْرِ. وَالْآخَرُ، لَا يَنْتَفِي عَنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، فَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ بِالْإِبْرَاءِ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَلِأَنَّ حُصُولَ الضَّمَانِ بِهِ لِكَوْنِهِ تَعَدَّى بِحَفْرِهِ، وَالْإِبْرَاءُ لَا يُزِيلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا مَضَى لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لَيْسَ يَحِقُّ لِلْمَالِكِ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ، وَلِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَجِبْ، فَلَمْ يَصِحّ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَحَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَعَلِمَ الْأَجِيرُ ذَلِكَ] (6877) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَحَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَعَلِمَ الْأَجِيرُ ذَلِكَ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ بِأُجْرَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، فَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ، كَالْإِثْمِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا، أَوْ لِيَبْنِيَ لَهُ فِيهَا بِنَاءً، فَتَلِفَ الْأَجِيرُ بِذَلِكَ، لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْتَأْجِرُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِئْرُ جُبَارٌ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ الْأَجِيرُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ فِعْلًا أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 تَبَرُّعًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا اسْتَأْجَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ صَبِيًّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، فَيَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِاسْتِعْمَالِهِ، مُتَسَبِّبٌ إلَى إتْلَافِ حَقِّ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ حَفَرَ إنْسَانٌ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ فَهَلَكَ بِهِ] (6878) فَصْلٌ: فَإِنْ حَفَرَ إنْسَانٌ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، فَهَلَكَ بِهِ، وَكَانَ الدَّاخِلُ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُدْوَانَ مِنْهُ. وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِهِ، وَالْبِئْرُ بَيِّنَةٌ مَكْشُوفَةٌ، وَالدَّاخِلُ بَصِيرٌ يُبْصِرُهَا، فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الَّذِي أَهْلَك نَفْسَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُدِّمَ إلَيْهِ سَيْفٌ، فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ أَعْمَى، أَوْ كَانَتْ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُهَا الدَّاخِلُ، أَوْ غَطَّى رَأْسَهَا، فَلَمْ يَعْلَمْ الدَّاخِلُ بِهَا حَتَّى وَقَعَ فِيهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ لَهُ طَعَامًا مَسْمُومًا فَأَكَلَهُ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: مَا أَذِنْت لَك فِي الدُّخُولِ. وَادَّعَى وَلِيُّ الْهَالِكِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ قَالَ: كَانَتْ مَكْشُوفَةً. وَقَالَ الْآخَرُ: كَانَتْ مُغَطَّاةً. فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْشُوفَةً لَمْ يَسْقُطْ فِيهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَلَا تَشْتَغِلُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَغْطِيَتِهَا. [فَصْلٌ بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ أَوْ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ] (6879) فَصْلٌ: وَإِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، أَوْ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلْوُقُوعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ فِيهِ مِنْجَلًا يَصِيدُ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَوِيًا، أَوْ مَائِلًا إلَى مِلْكِهِ، فَسَقَطَ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْدَامٍ وَلَا مَيْلٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا تَلِفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ، وَلَا حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِإِبْقَائِهِ. وَإِنْ مَالَ وُقُوعُهُ إلَى مِلْكِهِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بِنَائِهِ مَائِلًا فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ مَال قَبْلَ وُقُوعِهِ إلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ، أَوْ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ، أَوْ مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ، وَلَا فَرَّطَ فِي تَرْكِ نَقْضِهِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ فَلَمْ يَنْقُضْهُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 أَحَدُهُمَا، أَنْ يُطَالَبَ بِنَقْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُطَالَبَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ، لَمْ يَضْمَنْ، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَيْلُ حَادِثٌ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَ قَبْلَ مَيْلِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا آخَر، أَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلًا، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، لَمْ يَضْمَنْ بِالْمُطَالَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلًا، أَوْ كَانَ مَائِلًا إلَى مِلْكِهِ. وَأَمَّا إنْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَضْمَنُ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَضْمَنَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَازِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَيْلُ الْحَائِطِ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ، فَلَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يُزِلْهُ ضَمِنَ، كَمَا لَوْ وَضَعَ عِدْلًا عَلَى الْحَائِطِ نَفْسِهِ، فَوَقَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَطُولِبَ بِرَفْعِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِنَقْضِهِ، أَوْ سَقَطَ قَبْلَ مَيْلِهِ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ، لَمْ تُشْتَرَطْ الْمُطَالَبَةُ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا طُولِبَ؛ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا كَانَ مَيْلُهُ إلَى الطَّرِيقِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ، كَمَا لَوْ مَال الْحَائِطُ إلَى مِلْكِ جَمَاعَةٍ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْمُطَالَبَةُ، وَإِذَا طَالَبَ وَاحِدٌ، فَاسْتَأْجَلَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ، أَوْ أَجَّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَمْلِكُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إسْقَاطَهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ، أَوْ مُرْتَهِنِهَا، أَوْ مُسْتَعِيرِهَا، أَوْ مُسْتَوْدَعِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ النَّقْضَ، وَلَيْسَ الْحَائِطُ مِلْكًا لَهُمْ. وَإِنْ طُولِبَ الْمَالِكُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ، وَنَقْضُ الْحَائِطِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، كَالْمُعِيرِ، وَالْمُودِعِ، وَالرَّاهِنِ إذَا أَمْكَنَهُ فِكَاكُ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ النَّقْضُ. وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لَسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، فَطُولِبَ هُوَ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ طُولِبَ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مَالُهُ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُتَصَرِّفِ، كَالْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ، فَطُولِبَ أَحَدُهُمْ بِنَقْضِهِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ بِدُونِ إذْنِهِمْ، فَهُوَ كَالْعَاجِزِ عَنْ نَقْضِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ بِمُطَالَبَةِ شُرَكَائِهِ، وَإِلْزَامِهِمْ النَّقْضَ، فَصَارَ بِذَلِكَ مُفَرِّطًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَيْلُ الْحَائِط إلَى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، إمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا جَمَاعَةٌ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لِلْمَالِكِ، أَوْ سَاكِنِ الْمِلْكِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ، وَجَبَ النَّقْضُ بِمُطَالَبَتِهِ، كَمَا لَوْ طَالَبَ وَاحِدٌ بِنَقْضِ الْمَائِلِ إلَى الطَّرِيقِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى طَالَبَ، ثُمَّ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُ الدَّارِ الَّتِي مَال إلَيْهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ. وَإِنْ مَالَ إلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَالْحَقُّ لِأَهْلِ الدَّرْبِ، وَالْمُطَالَبَةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ، وَيَلْزَمُ النَّقْضُ بِمُطَالَبَةِ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَبْرَأَ بِإِبْرَائِهِ وَتَأْجِيلِهِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ جَمِيعُهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمِيعِهِمْ. [فَصْلٌ تَقَدَّمَ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ بِنَقْضِهِ فَبَاعَهُ مَائِلًا] (6880) فَصْلٌ: وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ بِنَقْضِهِ، فَبَاعَهُ مَائِلًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَالَبْ بِنَقْضِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِلُزُومِ الْهِبَةِ، زَالَ الضَّمَانُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ، وَكَانَ التَّالِفُ بِهِ آدَمِيًّا، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَتْ عَاقِلَتُهُ كَوْنَ الْحَائِطِ لِصَاحِبِهِمْ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْعَقْلُ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ اعْتَرَفَ صَاحِبُ الْحَائِطِ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا. وَكَذَلِكَ إنْ أَنْكَرُوا مُطَالَبَتَهُ بِنَقْضِهِ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ فِي يَدِ صَاحِبِهِمْ، وَهُوَ سَاكِنٌ فِي الدَّارِ، لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى. (6881) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَمِلْ الْحَائِطُ، لَكِنْ تَشَقَّقَ، فَإِنْ لَمْ يُخْشَ سُقُوطُهُ، لِكَوْنِ شُقُوقِهِ بِالطُّولِ، لَمْ يَجِبْ نَقْضُهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي هَذَا حُكْمَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَفْ سُقُوطُهُ، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ، وَإِنْ خِيفَ وُقُوعُهُ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ شُقُوقُهُ بِالْعَرْضِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَائِلِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، فَأَشْبَهَ الْمَائِلَ. [فَصْلٌ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ جَنَاحًا أَوْ سَابَاطًا فَسَقَطَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفْهُ] (6882) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ جَنَاحًا، أَوْ سَابَاطًا، فَسَقَطَ، أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَأَتْلَفْهُ، فَعَلَى الْمُخْرِجِ ضَمَانُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ وَقَعَتْ خَشَبَةٌ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً عَلَى حَائِطِهِ، وَجَبَ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً عَلَى حَائِطِهِ، وَجَبَ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْره، فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَلِفَ بِمَا أَخْرَجَهُ إلَى حَقِّ الطَّرِيقِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ بَنَى حَائِطَهُ مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ فَأَتْلَفَ، أَوْ أَقَامَ خَشَبَةً فِي مِلْكِهِ مَائِلَةً إلَى الطَّرِيقِ، أَوْ كَمَا لَوْ سَقَطَتْ الْخَشَبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى الْحَائِطِ، وَلِأَنَّهُ إخْرَاجٌ يَضْمَنُ بِهِ الْبَعْضَ، فَضَمِنَ بِهِ الْكُلَّ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أَرْضِ الطَّرِيقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عُدْوَانِهِ، وُجُوبُ ضَمَانِ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَضْمَنْ بِهِ، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ خَشَبَةٌ، لَوْ انْقَصَفَ الْخَارِجُ مِنْهَا، وَسَقَطَ فَأَتْلَفَ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ مَا أَتْلَفَ جَمِيعُهَا، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ الضَّمَانُ فِيهَا، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَعْلَمْ مَوْضِعًا يَجِبُ الضَّمَانُ كُلُّهُ بِبَعْضِ الْخَشَبَةِ، وَيَجِبُ نِصْفُهُ بِجَمِيعِهَا. وَإِنْ كَانَ إخْرَاجُ الْجَنَاحِ إلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِمْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ. (6883) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخْرَجَ مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ، فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ، ضَمِنَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ سَقَطَ كُلُّهُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ. وَإِنْ انْقَصَفَ الْمِيزَابُ، فَسَقَطَ مِنْهُ مَا خَرَجَ عَنْ الْحَائِطِ، ضَمِنَ جَمِيعَ مَا تَلِفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. وَلَنَا، مَا سَبَقَ فِي الْجَنَاحِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إخْرَاجَهُ مُبَاحٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ إلَى هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ شَيْئًا يَضُرُّ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَ إلَى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ شَيْئًا مِنْ جَنَاحٍ، أَوْ سَابَاطٍ، أَوْ مِيزَابٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ بَالَتْ دَابَّتُهُ فِي طَرِيق فَزَلَقَ بِهِ حَيَوَانٌ فَمَاتَ بِهِ] (6884) فَصْلٌ: وَإِذَا بَالَتْ دَابَّتُهُ فِي طَرِيقٍ، فَزَلِقَ بِهِ حَيَوَانٌ، فَمَاتَ بِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ الضَّمَانُ، إذَا كَانَ رَاكِبًا لَهَا، أَوْ قَائِدًا، أَوْ سَائِقًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ دَابَّتِهِ الَّتِي يَدُهُ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَتْ بِيَدِهَا أَوْ فَمِهَا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ بِرِجْلِهَا، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ عَلَيْهَا، وَيُفَارِقُ هَذَا مَا أَتْلَفَتْ بِيَدِهَا وَفَمِهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حِفْظُهُمَا. [فَصْلٌ وَضَعَ جَرَّةً عَلَى سَطْحِهِ أَوْ حَائِطِهِ أَوْ حَجَرًا فَرَمَتْهُ الرِّيحُ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَوْ شَيْءٍ أَتْلَفَهُ] (6885) فَصْلٌ: وَإِذَا وَضَعَ جَرَّةً عَلَى سَطْحِهِ أَوْ حَائِطِهِ، أَوْ حَجَرًا، فَرَمَتْهُ الرِّيحُ عَلَى إنْسَانٍ، فَقَتَلَهُ، أَوْ شَيْءٍ أَتْلَفَهُ، لَمْ يَضْمَنْ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَوَضْعُهُ لَهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَضْمَنَ إذَا وَضَعَهَا مُتَطَرِّفَةً؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إلَى إلْقَائِهَا، وَتَعَدَّى بِوَضْعِهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ بَنَى حَائِطَهُ مَائِلًا. [فَصْلٌ سَلَّمَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ إلَى السَّابِحِ لِيُعَلِّمهُ السِّبَاحَةَ فَغَرِقَ] (6886) فَصْلٌ: وَإِنْ سَلَّمَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ إلَى السَّابِحِ، لِيُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ، فَغَرِقَ، فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ لِيَحْتَاطَ فِي حِفْظِهِ، فَإِذَا غَرِقَ نُسِبَ إلَى التَّفْرِيطِ فِي حِفْظِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ لِمَصْلَحَتِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا إذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ ضَرْبًا مُعْتَادًا، فَتَلِفَ بِهِ. فَأَمَّا الْكَبِيرُ إذَا غَرِقَ، فَلَيْسَ عَلَى السَّابِحِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ، لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، لَا يُنْسَبُ التَّفْرِيطُ فِي هَلَاكِهِ إلَى غَيْرِهِ. [فَصْلٌ طَلَبَ إنْسَانًا بِسَيْفِ مَشْهُورٍ فَهَرَبَ مِنْهُ فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ] (6887) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَبَ إنْسَانًا بِسَيْفِ مَشْهُورٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ، فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ، ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ، أَوْ خَرَّ فِي بِئْرٍ، أَوْ لَقِيَهُ سَبْعٌ فَافْتَرَسَهُ، أَوْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، أَوْ احْتَرَقَ بِنَارٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ صَبِيًّا أَوْ كَبِيرًا، أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضْمَنُ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ الْبَصِيرَ، إلَّا أَنْ يُخْسَفَ بِهِ سَقْفٌ، فَإِنَّ فِيهِ وَفِي الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَعْمَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ الطَّالِبُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ هَلَكَ بِسَبَبِ عُدْوَانِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ حَفَرَ لَهُ بِئْرًا، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا، أَوْ سَمَّ طَعَامَهُ وَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ، وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إهْلَاكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْخَسَفَ مِنْ تَحْتِهِ سَقْفٌ، أَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا. وَإِنْ طَلَبَهُ بِشَيْءِ يُخِيفُهُ بِهِ، كَاللَّيْثِ وَنَحْوِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ طَلَبِهِ بِسَيْفِ مَشْهُورٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. [فَصْلٌ شَهَرَ سَيْفًا فِي وَجْهِ إنْسَانٍ أَوْ دَلَّاهُ مِنْ شَاهِقٍ فَمَاتَ مِنْ رَوْعَتِهِ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ] (6888) فَصْلٌ: وَلَوْ شَهَرَ سَيْفًا فِي وَجْهِ إنْسَانٍ، أَوْ دَلَّاهُ مِنْ شَاهِقٍ، فَمَاتَ مِنْ رَوْعَتِهِ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ. وَإِنْ صَاحَ بِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ صَيْحَةً شَدِيدَةً، فَخَرَّ مِنْ سَطْحٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَمَاتَ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَوْ تَغَفَّلَ عَاقِلًا فَصَاحَ بِهِ، فَأَصَابَهُ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ، تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ. وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّبِيِّ، وَلَهُ فِي الْبَالِغِ قَوْلَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَبَبُ إتْلَافِهِ، فَضَمِنَهُ، كَالصَّبِيِّ. [فَصْلٌ قَدَّمَ إنْسَانًا إلَى هَدَفٍ يَرْمِيهِ النَّاسُ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ] (6889) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَّمَ إنْسَانًا إلَى هَدَفٍ يَرْمِيهِ النَّاسُ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي قَدَّمَهُ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ كَالْحَافِرِ، وَاَلَّذِي قَدَّمَهُ كَالدَّافِعِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَإِنْ عَمَدَ الرَّامِي رَمْيَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ، وَذَاكَ مُتَسَبِّبٌ، فَأَشْبَهَ الْمُمْسِكَ وَالْقَاتِلَ. وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ أَحَدٌ، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّامِي، وَتَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ إنْ كَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ. [فَصْلٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلِ أَوْ جَرْحٍ] (6890) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ، أَوْ سَرِقَةٍ قَدْ تُوجِبُ الْقَطْعَ، أَوْ زِنًى يُوجِبُ الرَّجْمَ أَوْ الْجَلْدَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، أَوْ قُطِعَ بِالسَّرِقَةِ، أَوْ حُدَّ فَأَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ، لَزِمَهُمَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْفِعْلِ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مَالِهِمَا، لَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا، وَهَذَا يَثْبُت بِاعْتِرَافِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ أَتَيَا بِآخَرَ، فَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ ذَاكَ السَّارِقَ، إنَّمَا هَذَا هُوَ السَّارِقُ، فَأَغْرَمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. وَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمَا فِي الثَّانِي. وَإِنْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ، فَقَتَلَهُ، فَصَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَالشَّرِيكَيْنِ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا، فَحَمَلَتْ فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبِ فِعْلِهِ، وَتَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، إلَّا أَنْ لَا يَثْبُتَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِرَافِهِ، فَتَكُونَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا. [فَصْلٌ بَعَثَ السُّلْطَانُ إلَى امْرَأَةٍ لِيُحْضِرهَا، فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا] فَصْلٌ: إذَا بَعَثَ السُّلْطَانُ إلَى امْرَأَةٍ لِيُحْضِرَهَا، فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، ضَمِنَهُ بِغُرَّةٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ إلَى امْرَأَةٍ مُغَيَّبَةٍ، كَانَ يُدْخَلُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، مَالَهَا وَلِعُمَرَ فَبَيْنَمَا هِيَ فِي الطَّرِيقِ إذْ فَزِعَتْ، فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَأَلْقَتْ وَلَدًا، فَصَاحَ الصَّبِيُّ صَيْحَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ، إنَّمَا أَنْتَ وَالٍ وَمُؤَدِّبٌ. وَصَمَتَ عَلِيٌّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانُوا قَالُوا بِرَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ رَأْيُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَالُوا فِي هَوَاكَ فَلَمْ يَنْصَحُوا لَك، إنَّ دِيَتَهُ عَلَيْك؛ لِأَنَّك أَفْزَعْتَهَا فَأَلْقَتْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَقْسَمْت عَلَيْك أَنْ لَا تَبْرَحَ حَتَّى تَقْسِمَهَا عَلَى قَوْمِك. وَلَوْ فَزِعَتْ الْمَرْأَةُ فَمَاتَتْ، لَوَجَبَتْ دِيَتُهَا أَيْضًا. وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ، وَقَالَ: لَا تُضْمَنُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ إلَى هَلَاكِهَا فِي الْعَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا نَفْسٌ هَلَكَتْ بِإِرْسَالِهِ إلَيْهَا، فَضَمِنَهَا، كَجَنِينِهَا، أَوْ نَفْسٌ هَلَكَتْ بِسَبَبِهِ، فَغَرِمَهَا، كَمَا لَوْ ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ عَادَةً. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْإِسْقَاطُ سَبَبٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 لِلْهَلَاكِ عَادَةً، ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الضَّمَانِ كَوْنُهُ سَبَبًا مُعْتَادًا، فَإِنَّ الضَّرْبَةَ وَالضَّرْبَتَيْنِ بِالسَّوْطِ، لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ فِي الْعَادَةِ، وَمَتَى أَفْضَتْ إلَيْهِ وَجَبَ الضَّمَانُ. وَإِنْ اسْتَعْدَى إنْسَانٌ عَلَى امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا، أَوْ مَاتَتْ فَزَعًا، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُسْتَعْدِي الضَّمَانُ، إنْ كَانَ ظَالِمًا لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةَ، فَأَحْضَرَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ إحْضَارِهَا بِظُلْمِهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا غَيْرُهَا، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَالْقِصَاصِ، وَيَضْمَنُ جَنِينَهَا؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ مِنْهَا. [فَصْلٌ أَخَذَ طَعَامَ إنْسَانٍ أَوْ شَرَابَهُ فِي بَرِّيَّةٍ] (6892) فَصْلٌ: وَمَنْ أَخَذَ طَعَامَ إنْسَانٍ أَوْ شَرَابَهُ فِي بَرِّيَّةٍ، أَوْ مَكَان لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَهَلَكَ بِذَلِكَ، أَوْ هَلَكَتْ بَهِيمَتُهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَلَاكِهِ. وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ لِغَيْرِهِ، فَطَلَبِهِ مِنْهُ، فَمَنَعَهُ إيَّاهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَمَاتَ بِذَلِكَ، ضَمِنَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ، صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَلَهُ أَخْذُهُ قَهْرًا، فَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهُ، تَسَبَّبَ إلَى إهْلَاكِهِ بِمَنْعِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَهَلَكَ بِذَلِكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَيَكُونُ شِبْهَ الْعَمْدِ. وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ تَسَبَّبَ بِهِ إلَى هَلَاكِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رَأَى إنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ، فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، وَقَدْ أَسَاءَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: قِيَاسُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وُجُوبُ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنْ الْهَلَاكِ مَعَ إمْكَانِهِ، فَيَضْمَنُهُ، كَمَا لَوْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ، وَقِيَاسُ هَذَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنَعَهُ مَنْعًا كَانَ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ، فَضَمِنَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يَكُونُ سَبَبًا. [فَصْلٌ ضَرَبَ إنْسَانًا حَتَّى أَحْدَثَ] فَصْلٌ: وَمَنْ ضَرَبَ إنْسَانًا حَتَّى أَحْدَثَ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِيهِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِإِتْلَافِ مَنْفَعَةٍ أَوْ عُضْوٍ، أَوْ إزَالَةِ جَمَالٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إلَى إيجَابِ الثُّلُثِ؛ لِقَضِيَّةِ عُثْمَانَ؛ لِأَنَّهَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهَا، فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الصَّحَابِيِّ بِمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ رِيحًا أَوْ غَائِطًا أَوْ بَوْلًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَفْزَعَهُ حَتَّى أَحْدَثَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 [فَصْلٌ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ عَبْدًا] (6894) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ عَبْدًا، أَوْ ضَرَبَ مَلْفُوفًا فَقَدَّهُ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ حَائِطًا، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَمَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ، فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَحُرِّيَّتُهُ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبَقَائِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَادَّعَى أَنَّهُ ارْتَدَّ قَبْلَ قَتْلِهِ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ. وَهَكَذَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إنْسَانًا، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا. وَإِنْ قَطَعَ عُضْوًا وَادَّعَى شَلَلَهُ، أَوْ قَلَعَ عَيْنًا وَادَّعَى عَمَاهَا، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ سَاعِدًا وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفٌّ، أَوْ قَطَعَ سَاقًا وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَدَمٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَصِيرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي شَلَلِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ وَمُعَامِلَتِهِ، وَصِفَةُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ كَانَ يُتْبِعُ الشَّخْصَ بَصَرَهُ، وَيَتَوَقَّى مَا يَتَوَقَّاهُ الْبَصِيرُ، وَيَتَجَنَّبُ الْبِئْرَ وَأَشْبَاهَهُ فِي طَرِيقِهِ، وَيَعْدِلُ فِي الْعَطَفَاتِ خَلْفَ مَنْ يَطْلُبُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي إسْلَامِ الْمَقْتُولِ وَحَيَاتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْجَانِي، فَإِيجَابُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْأَصْلُ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَلَّمُوهَا. فَإِنْ قَالُوا هَاهُنَا: مَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ وُجُودُ الْبَصَرِ. قُلْنَا: الظَّاهِرُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا رَجَّحْنَا قَوْلَ مِنْ يَدَّعِي حُرِّيَّتَهُ وَإِسْلَامَهُ. [فَصْلٌ زَادَ فِي الْقِصَاصِ مِنْ الْجِرَاحِ] (6895) فَصْلٌ: وَإِنْ زَادَ فِي الْقِصَاصِ مِنْ الْجِرَاحِ، وَقَالَ: إنَّمَا حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ بِاضْطِرَابِهِ. وَأَنْكَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاضْطِرَابِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي؛ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَمَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمِلٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْجُرْحَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ الْمَانِعِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ، الْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا وَادَّعَى أَنَّهُ جَرَحَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ قَتَلَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ قَتَلَ بَهِيمَةً وَادَّعَى أَنَّهَا صَالَتْ عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 [بَابُ دِيَاتِ الْجِرَاحِ] [مَسْأَلَة أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ] الْجِرَاحُ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا كَانَ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، قَطْعُ عُضْوٍ. وَالثَّانِي: قَطْعُ لَحْمٍ. وَالْمَضْمُونُ فِي الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، كَتَفْوِيتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ. (6896) مَسْأَلَةٌ: قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَا فِيهِ شَيْئَانِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ إلَّا وَاحِدًا كَاللِّسَانِ، وَالْأَنْفِ، وَالذَّكَرِ وَالصُّلْبِ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ إتْلَافَهُ إذْهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَإِذْهَابُهَا كَإِتْلَافِ النَّفْسِ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ؛ كَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ، وَالْمَنْخِرَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَالْخُصْيَتَيْنِ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْأَلْيَتَيْنِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِهِمَا إذْهَابَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفٌ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِهِ إذْهَابَ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ لَهُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمَا فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الْعُلَمَاء إلَّا قَلِيلًا. (6897) فَصْلٌ: وَمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَهُوَ أَجْفَانُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهَا. وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةٌ؛ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُهَا، وَهِيَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ. وَمَا فِيهِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي الْوَاحِدِ ثُلُثُهَا. وَهُوَ الْمَنْخِرَانِ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا. وَعَنْهُ، فِي الْمَنْخِرَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْحَاجِزِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْخِرَيْنِ شَيْئَانِ مِنْ جِنْسٍ، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَالشَّفَتَيْنِ. وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسٍ يَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ إلَّا الْأَسْنَانُ، فَإِنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَتَزِيدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 عَلَى الدِّيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الدِّيَةُ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَ بِإِيجَابِ خَمْسٍ فِي كُلِّ سِنٍّ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ. [مَسْأَلَة فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ] (6898) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ، إذَا أُصِيبَتَا خَطَأً، الدِّيَةَ، وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ مِنْهُمَا إلَّا شَيْئَانِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي كَذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ ". وَلِأَنَّ الْعَيْنَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَوَارِحِ نَفْعًا وَجَمَالًا؛ فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا كَالْيَدَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا كَبِيرَتَيْنِ أَوْ صَغِيرَتَيْنِ، أَوْ مَلِيحَتَيْنِ أَوْ قَبِيحَتَيْنِ، أَوْ صَحِيحَتَيْنِ أَوْ مَرِيضَتَيْنِ، أَوْ حَوْلَاوَيْنِ أَوْ رَمِصَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا بَيَاضٌ لَا يَنْقُصُ الْبَصَرَ، لَمْ تَنْقُصْ الدِّيَةُ، وَإِنْ نَقَصَ الْبَصَرَ نَقَصَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ. وَفِي ذَهَابِ الْبَصَرِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ بِذَهَابِهِمَا، وَجَبَتْ بِإِذْهَابِ نَفْعِهِمَا، كَالْيَدَيْنِ إذَا أَشَلَّهُمَا. وَفِي ذَهَاب بَصَرِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدًا وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِي إذْهَابِهِمَا بِنَفْعِهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، كَالْيَدَيْنِ. [فَصْلٌ جَنَى عَلَى رَأْسِهِ جِنَايَةً ذَهَبَ بِهَا بَصَرُهُ] (6899) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَى رَأْسِهِ جِنَايَةً ذَهَبَ بِهَا بَصَرُهُ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِهَا، فَدَاوَاهَا، فَذَهَبَ بِالْمُدَاوَاةِ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ، رُجِعَ إلَى اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، لَمُشَاهَدَتِهِمَا الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْبَصَرِ، وَمَعْرِفَةً بِحَالِهَا، بِخِلَافِ السَّمْعِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، أَوْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ، اُعْتُبِرَ بِأَنْ يُوقَفَ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، وَيُقَرَّبَ الشَّيْءُ مِنْ عَيْنِهِ فِي أَوْقَاتِ غَفْلَتِهِ؛ فَإِنْ طَرَفَ عَيْنَهُ، وَخَافَ مِنْ الَّذِي يُخَوَّفُ بِهِ، فَهُوَ كَاذِبٌ، وَإِلَّا حُكِمَ لَهُ. وَإِذَا عُلِمَ ذَهَابُ بَصَرِهِ، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: لَا يُرْجَى عَوْدُهُ. وَجَبَتْ الدِّيَةُ. وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهُ إلَى مُدَّةٍ عَيَّنُوهَا، اُنْتُظِرَ إلَيْهَا، وَلَمْ يُعْطَ الدِّيَةَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، فَإِنْ عَادَ الْبَصَرُ، سَقَطَتْ عَنْ الْجَانِي، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، اسْتَقَرَّتْ الدِّيَةُ. وَإِنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَوْدِ، اسْتَقَرَّتْ الدِّيَةُ، سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا. فَإِنْ ادَّعَى الْجَانِي عَوْدَ بَصَرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَنْكَرَ وَارِثُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ. وَإِنْ جَاءَ أَجْنَبِيٌّ، فَقَلَعَ عَيْنَهُ فِي الْمُدَّةِ، اسْتَقَرَّتْ عَلَى الْأَوَّلِ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْبَصَرَ فَلَمْ يَعُدْ، وَعَلَى الثَّانِي حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ عَيْنًا لَا ضَوْءَ لَهَا، يُرْجَى عَوْدُهَا. وَإِنْ قَالَ الْأَوَّلُ: عَادَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 ضَوْءُهَا. وَأَنْكَرَ الثَّانِي: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، فَإِنْ صَدَّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ، سَقَطَ حَقُّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: يُرْجَى عَوْدُهُ، لَكِنْ لَا نَعْرِفُ لَهُ مُدَّةً. وَجَبَتْ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْبَصَرِ عَدَمُ الْعَوْدِ، وَالْأَصْلُ يُؤَيِّدُهُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْوَاجِبِ سَقَطَ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، وَجَبَ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا. [فَصْلٌ جَنَى عَلَيْهِ فَنَقَصَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ] (6900) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَنَقَصَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ، فَفِي ذَلِكَ حُكُومَةٌ. وَإِنَّ ادَّعَى نَقْصَ ضَوْئِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ إحْدَاهُمَا نَقَصَتْ، عُصِبَتْ الْمَرِيضَةُ، وَأُطْلِقَتْ الصَّحِيحَةُ، وَنُصِبَ لَهُ شَخْصٌ فَيُبَاعِدُ عَنْهُ، فَكُلَّمَا قَالَ: رَأَيْتُهُ. فَوَصَفَ لَوْنَهُ، عُلِمَ صِدْقُهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ، فَإِذَا انْتَهَتْ عُلِمَ مَوْضِعُهَا، ثُمَّ تُشَدُّ الصَّحِيحَةُ، وَتُطْلَقُ الْمَرِيضَةُ، وَيُنْصَبُ لَهُ شَخْصٌ، ثُمَّ يَذْهَبُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رُؤْيَتُهُ، ثُمَّ يُدَارُ الشَّخْصُ إلَى جَانِبٍ آخَرَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَعْلَمُهُ عِنْدَ الْمَسَافَتَيْنِ، وَيُذْرَعَانِ، وَيُقَابَلُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً، فَقَدْ صَدَقَ، وَيُنْظَرُ كَمْ بَيْنَ مَسَافَةِ رُؤْيَةِ الْعَلِيلَةِ وَالصَّحِيحَةِ، وَيُحْكَمُ لَهُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَسَافَتَانِ، فَقَدْ كَذَبَ، وَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَّرَ مَسَافَةَ رُؤْيَةِ الْمَرِيضَةِ لِيَكْثُرَ الْوَاجِبُ لَهُ، فَيُرَدَّدُ حَتَّى تَسْتَوِيَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، مَا قَالَهُ عَلِيٌّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ بِعَيْنِهِ فَعُصِبَتْ، وَأَعْطَى رَجُلًا بَيْضَةً، فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ، ثُمَّ أَمَرَ فَخُطَّ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ فَعُصِبَتْ الْأُخْرَى، وَفُتِحَتْ الصَّحِيحَةُ، وَأَعْطَى رَجُلًا بَيْضَةً، فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يُبْصِرُ حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ، ثُمَّ خُطَّ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ حُوِّلَ إلَى مَكَان آخَرَ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَوَجَدُوهُ سَوَاءً، فَأَعْطَاهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ بَصَرِهِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا زَعَمَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ بَصَرَهُ يَقِلُّ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ، وَيَكْثُرُ إذَا قَرُبَتْ، وَأَمْكَنَ هَذَا فِي الْمُذَارَعَةِ، عُمِلَ عَلَيْهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ يُبْصِرُ إلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبْصِرَ إلَى مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، احْتَاجَ لِلْمِائَةِ الثَّانِيَةِ إلَى ضِعْفَيْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْمِائَةِ الْأُولَى مِنْ الْبَصَرِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا أَبْصَرَ بِالصَّحِيحَةِ إلَى مِائَتَيْنِ، وَأَبْصَرَ بِالْعَلِيلَةِ إلَى مِائَةٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ ثُلُثَا بَصَرِ عَيْنِهِ؛ فَيَجِبُ لَهُ ثُلُثَا دِيَتِهَا. وَهَذَا لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي الْغَالِبِ، وَكُلُّ مَا لَا يَنْضَبِطُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَإِنْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ، فَنَدَرَتَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 أَوْ احْوَلَّتَا، أَوْ عَمِشَتَا، فَفِي ذَلِكَ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَاعْوَجَّتْ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْبَالِغَ خَصْمٌ لِنَفْسِهِ، وَالْخَصْمُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَحْلِفَا، وَلَمْ يَحْلِفْ الْوَلِيُّ عَنْهُمَا، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، حَلَفَا حِينَئِذٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا. [فَصْلٌ دِيَة عَيْنِ الْأَعْوَرِ] (6901) فَصْلٌ: وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ» . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» . يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قَلَعَهُمَا وَاحِدٌ، أَوْ اثْنَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي وَقْتَيْنِ، وَقَالِعُ الثَّانِيَةِ قَالِعُ عَيْنِ أَعْوَرَ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ، لَوَجَبَ فِيهِمَا دِيَةٌ وَنِصْفٌ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ مَعَ بَقَاءِ نَظِيرِهِ، ضُمِنَ بِهِ مَعَ ذَهَابِهِ، كَالْأُذُنِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا كَلَامُ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَابْنَ عُمَرَ، قَضَوْا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ بِالدِّيَةِ. وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ قَلْعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ يَتَضَمَّنُ إذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنْ الْعَيْنَيْنِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِالْعَيْنَيْنِ، فَإِنَّهُ يَرَى الْأَشْيَاءَ الْبَعِيدَةَ، وَيُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ اللَّطِيفَةَ، وَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبُصَرَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَشَاهِدًا، وَيُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ وَفِي الْأُضْحِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعَوْرَاءُ مَخْسُوفَةً، فَوَجَبَ فِي بَصَرِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، كَذَا فِي الْعَيْنَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ صَحَّ هَذَا، لَمْ يَجِبْ فِي إذْهَابِ بَصَرِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ. قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ دِيَةِ الْعَيْنَيْنِ نَقْصُ دِيَةِ الثَّانِي؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَاحْوَلَّتَا، أَوْ عَمِشَتَا، أَوْ نَقَصَ ضَوْءُهُمَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ النَّقْصِ، وَلَا تَنْقُصُ دِيَتُهُمَا بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ أَحْكَامِهِ، وَلَا هُوَ مَضْبُوطٌ فِي تَفْوِيتِ النَّفْعِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ الدِّيَةِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَر عَيْن صَحِيح] (6902) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ قَلَعَ الْعَيْنَ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ عَيْنَهُ الصَّحِيحَةَ، أَوْ قَلَعَ الْمُمَاثِلَةَ لِلصَّحِيحَةِ خَطَأً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ قَلَعَ الْمُمَاثِلَةَ لِعَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ عَمْدًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 وَقَالَ فِي الْأُخْرَى: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَا قِصَاصَ. وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: لَهُ الْقِصَاصُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ نِصْفُهَا؛ لِلْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَلَعَهَا غَيْرُهُ لَمْ يَجِبْ فِيهَا إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُهَا، كَالْعَيْنِ الْأُخْرَى. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَضَيَا بِمِثْلِ مَذْهَبِنَا، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. [فَصْل قَلَعَ الْأَعْوَر عَيْنِي صَحِيح الْعَيْنَيْنِ] (6903) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةٌ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً. وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ دِيَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا فِي الْعَيْنِ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا قَلَعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ، وَالْأُخْرَى فِي الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ أَعْوَرَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ قَلَعَ عَيْنَيْنِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثُرُ مِنْ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَالِعُ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي إحْدَى عَيْنَيْهِ لَا يَجْعَلُ الْأُخْرَى عَيْنَ أَعْوَرَ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِقَلْعِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ قَضِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، صِرْنَا إلَيْهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهَا، فَفِيمَا عَدَا مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَالْبَقَاءُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ قَلَعَهُمَا عَمْدًا، فَاخْتَارَ الْقِصَاصَ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا قَلْعُ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ بَصَرَهُ كُلَّهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ إذْهَابِ بَصَرِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَضَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنَيْنِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ الْعَيْنِ، وَنِصْفَ الدِّيَةِ لِلْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَهُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَطَعَ يَد أَقْطَع أَوْ رَجُل أَقْطَع الرَّجُل] (6904) فَصْل: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ أَقْطَعَ، أَوْ رِجْلَ أَقْطَعَ الرِّجْلِ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَوْ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ دِيَةُ مِثْلِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَ مَنْ لَهُ أُذُنٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْأُولَى إنْ كَانَتْ قُطِعَتْ ظُلْمًا وَأَخَذَ دِيَتَهَا، أَوْ قُطِعَتْ قِصَاصًا، فَفِيهَا نِصْفُ دِيَتِهَا، وَإِنْ قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَفِي الْبَاقِيَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنَافِعَهُ مِنْ الْعُضْوَيْنِ جُمْلَةً، فَأَشْبَهَ قَلْعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحْصُلُ بِهِمَا مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْعُضْوَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُولَى أُخِذَتْ قِصَاصًا، أَوْ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى عَيْنِ الْأَعْوَرِ لَوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 أَحَدُهَا، أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ حَصَلَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِالْعَيْنَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ إلَّا تَفَاوُتًا يَسِيرًا، بِخِلَافِ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَالثَّانِي؛ أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ صِفَةِ ذَهَابِ الْأُولَى. وَهَا هُنَا اخْتَلَفَا. الثَّالِثُ؛ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ وَالتَّعْيِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمْرٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ فَيُصَارُ إلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهُ. وَإِنْ قُطِعَتْ أُذُنُ مِنْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ، أَوْ مَنْخِرُ مَنْ قُطِعَتْ مَنْخِرُهُ، لَمْ يَجِبْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ أُذُنٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة أَشْفَار الْعَيْنَيْنِ] (6905) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْأَشْفَارِ الْأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ) . يَعْنِي أَجْفَانَ الْعَيْنَيْنِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ تَجِبُ فِي جَمِيعِهِ الدِّيَةُ، تَجِبُ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ، كَالْيَدَيْنِ وَالْأَصَابِعِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي جَفْنِ الْعَيْنِ وَحِجَاجِهَا الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ تَقْدِيرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّقْدِيرُ لَا يَثْبُتُ قِيَاسًا. وَلَنَا أَنَّهَا أَعْضَاءٌ فِيهَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ، وَنَفْعٌ كَامِلٌ؛ فَإِنَّهَا تُكِنُّ الْعَيْنَ، وَتَحْفَظُهَا، وَتَقِيهَا الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَتَكُونُ كَالْغَلَقِ عَلَيْهَا، يُطْبِقُهُ إذَا شَاءَ، وَيَفْتَحُهُ إذَا شَاءَ، وَلَوْلَاهَا لَقَبُحَ مَنْظَرُهُ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ، كَالْيَدَيْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ قِيَاسًا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ فِي أَحَدِهَا رُبْعَ الدِّيَةِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَعْلَى ثُلُثَا دِيَةِ الْعَيْنِ، وَفِي الْأَسْفَلِ ثُلُثُهَا؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ نَفْعًا. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي جَمِيعِهِ، تَجِبُ بِالْحِصَّةِ فِي الْوَاحِدِ مِنْهُ، كَالْيَدَيْنِ وَالْأَصَابِعِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْيُمْنَى مَعَ الْيُسْرَى وَالْأَصَابِعِ. وَإِنْ قَلَعَ الْعَيْنَيْنِ بِأَشْفَارِهِمَا، وَجَبَتْ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، فَوَجَبَتْ بِإِتْلَافِهِمَا جُمْلَةً دِيَتَانِ، كَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ. وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أَشْفَارِ عَيْنِ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّ ذَهَابَ بَصَرِهِ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الْأَجْفَانِ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِيهَا، كَذَهَابِ الشَّمِّ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الْأَنْفِ (6906) فَصْلٌ: وَتَجِبُ فِي أَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ بِمُفْرَدِهَا الدِّيَةُ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْأَجْفَانِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ حُكُومَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 وَلَنَا، أَنَّ فِيهَا جَمَالًا وَنَفْعًا، فَإِنَّهَا تَقِي الْعَيْنَيْنِ، وَتَرُدُّ عَنْهُمَا، وَتُحَسِّنُ الْعَيْنَ وَتُجَمِّلُهَا، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ كَالْأَجْفَانِ، فَإِنْ قَطَعَ الْأَجْفَانَ بِأَهْدَابِهَا، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ يَزُولُ تَبَعًا لِزَوَالِ الْأَجْفَانِ، فَلَمْ تُفْرَدْ بِضَمَانٍ، كَالْأَصَابِعِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ وَهِيَ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ دِيَة الْأُذُنَيْنِ] (6907) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ فِي الْأُخْرَى: فِيهِمَا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا بِتَقْدِيرٍ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقْدِيرُ بِالْقِيَاسِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا قَضَيَا فِيهِمَا بِالدِّيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْأُذُنِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا. قُلْنَا: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلِأَنَّ مَا كَانَ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ عُضْوَانِ، كَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَالْيَدَيْنِ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِمَا، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ، وَإِنْ قُطِعَ بَعْضُ إحْدَاهُمَا، وَجَبَ بِقَدْرِ مَا قُطِعَ مِنْ دِيَتِهَا، فَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ دِيَتِهَا، وَفِي رُبْعِهَا رُبْعُهَا، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابُ، سَوَاءٌ قُطِعَ مِنْ أَعْلَى الْأُذُنِ أَوْ أَسْفَلِهَا، أَوْ اخْتَلَفَ فِي الْجَمَالِ، أَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ، كَمَا أَنَّ الْأَسْنَانَ وَالْأَصَابِعَ تَخْتَلِف فِي الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَدِيَاتُهَا سَوَاءٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ أَنَّ فِي شَحْمَةِ الْأُذُنِ ثُلُثَ الدِّيَةِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أُذُنِ الْأَصَمِّ؛ لِأَنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهَا. كَالْعَمَى لَا يُؤَثِّرُ فِي دِيَةِ الْأَجْفَانِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. [فَصْلٌ جَنَى عَلَى أُذُنِهِ فَاسْتَحْشَفَتْ] (6908) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى عَلَى أُذُنِهِ فَاسْتَحْشَفَتْ، وَاسْتِحْشَافُهَا كَشَلَلِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: فِي ذَلِكَ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ دِيَتُهُ بِقَطْعِهِ، وَجَبَتْ بِشَلَلِهِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَلَنَا، أَنَّ نَفْعَهَا بَاقٍ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا وَجَمَالَهَا، فَإِنَّ نَفْعَهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْعُ دُخُولِ الْمَاءِ وَالْهَوَامِّ فِي صِمَاخِهِ، وَهَذَا بَاقٍ بَعْدَ شَلَلِهَا، فَإِنْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا، فَفِيهَا دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ أُذُنًا فِيهَا جَمَالُهَا وَنَفْعُهَا، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا كَالصَّحِيحَةِ، وَكَمَا لَوْ قَلَعَ عَيْنًا عَمْشَاءَ أَوْ حَوْلَاءَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 [مَسْأَلَةٌ دِيَة السَّمْع إذَا ذَهَبَ مِنْ الْأُذُنَيْنِ] (6909) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي السَّمْعِ إذَا ذَهَبَ مِنْ الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ فِي السَّمْعِ الدِّيَةَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا أَعْلَم عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافًا لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ» . وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِحَجَرٍ فِي رَأْسِهِ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَنِكَاحُهُ، فَقَضَى عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَالرَّجُلُ حَيٌّ. وَلِأَنَّهَا حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِنَفْعٍ، فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ، كَالْبَصَرِ. وَإِنْ ذَهَبَ السَّمْعُ مِنْ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مِنْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ. وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ فِي غَيْرِهِمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ أَجْفَانَ عَيْنَيْهِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ إذَا قُلِعَتْ فَذَهَبَ بَصَرُهُ. فَإِنَّ الْبَصَرَ فِي الْعَيْنِ، فَأَشْبَهَ الْبَطْشَ الذَّاهِبَ بِقَطْعِ الْيَد. [فَصْل اخْتَلَفَا فِي ذَهَاب سَمِعَهُ] (6910) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَهَابِ سَمْعِهِ، فَإِنَّهُ يُتَغَفَّلُ وَيُصَاحُ بِهِ، وَيُنْظَرُ اضْطِرَابُهُ، وَيُتَأَمَّلُ عِنْدَ صَوْتِ الرَّعْدِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ انْزِعَاجٌ، أَوْ الْتِفَاتٌ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى السَّمْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْأَمَارَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِيعٌ، فَغُلِّبَتْ جَنَبَةُ الْمُدَّعِي، وَحُلِّفَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ غَيْرُ سَمِيعٍ، وَحَلَفَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ احْتَرَزَ وَتَصَبَّرَ. وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي إحْدَاهُمَا، سُدَّتْ الْأُخْرَى، وَتُغُفِّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ ادَّعَى نُقْصَانَ السَّمْعِ فِيهِمَا، فَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ، وَيُوجِبُ حُكُومَةً. وَإِنْ ادَّعَى نَقْصَهُ فِي إحْدَاهُمَا، سَدَدْنَا الْعَلِيلَةَ، وَأَطْلَقْنَا الصَّحِيحَةَ، وَأَقَمْنَا مَنْ يُحَدِّثُهُ وَهُوَ يَتَبَاعَدُ إلَى حَيْثُ يَقُولُ: إنِّي لَا أَسْمَعُ. فَإِذَا قَالَ إنِّي لَا أَسْمَعُ. غَيَّرَ عَلَيْهِ الصَّوْتَ وَالْكَلَامَ فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ يَسْمَعُ، وَإِلَّا فَقَدْ كَذَبَ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ سَمَاعِهِ، قَدَّرَ الْمَسَافَةَ، وَسَدَّ الصَّحِيحَةَ، وَأُطْلِقَتْ الْمَرِيضَةُ، وَحَدَّثَهُ وَهُوَ يَتَبَاعَدُ، حَتَّى يَقُولَ: إنِّي لَا أَسْمَعُ. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، غَيَّرَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ، حَلَفَ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ، وَمُسِحَتْ الْمَسَافَتَانِ، وَنُظِرَ مَا نَقَصَتْ الْعَلِيلَةُ، فَوَجَبَ بِقَدْرِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنِّي أَسْمَعُ الْعَالِي، وَلَا أَسْمَعُ الْخَفِيَّ. فَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ. (6911) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّهُ يُرْجَى عَوْدُ سَمْعِهِ إلَى مُدَّةٍ. اُنْتُظِرَ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ غَايَةٌ، لَمْ يُنْتَظَرْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 وَمَتَى عَادَ السَّمْعُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ، سَقَطَتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، رُدَّتْ. عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْبَصَرِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة قَرْع الرَّأْس إذَا لَمْ يَنْبُت الشَّعْر] (6912) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي قَرْعِ الرَّأْسِ إذَا لَمْ يَنْبُتْ الشَّعْرُ الدِّيَةُ. وَفِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ الدِّيَةُ، إذَا لَمْ يَنْبُتْ. وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ إذَا لَمْ تَنْبُتْ) هَذِهِ الشُّعُورُ الثَّلَاثَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دِيَةٌ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا مَعَهَا شَعْرًا رَابِعًا، وَهُوَ أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا. فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمِمَّنْ أَوْجَبَ فِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الشَّعْرِ: فِيهِ الدِّيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: فِيهِ حُكُومَةٌ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ؛ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، فَوَجَبَ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَأُذُنِ الْأَصَمِّ، وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنْ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ، وَهُدْبُ الْعَيْنِ يَرُدُّ عَنْهَا وَيَصُونُهَا، فَجَرَى مَجْرَى أَجْفَانِهَا. وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْأَصْلِ الَّذِي قِسْنَا عَلَيْهِ، وَيُفَارِقُ الْيَدَ الشَّلَّاءَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ جَمَالُهَا كَامِلًا (6913) فَصْلٌ: وَفِي أَحَدِ الْحَاجِبَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ فِيهِمَا الدِّيَةُ، فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ. وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ، أَوْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ الشُّعُورِ الْمَذْكُورَةِ، مِنْ الدِّيَةَ بِقِسْطِهِ مِنْ دِيَتِهِ، يُقَدَّرُ بِالْمِسَاحَةِ، كَالْأُذُنَيْنِ، وَمَارِنِ الْأَنْفِ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الشُّعُورِ بَيْن كَوْنِهَا كَثِيفَةً أَوْ خَفِيفَةً، أَوْ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةً، أَوْ كَوْنِهَا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّ سَائِرَ مَا فِيهِ الدِّيَةُ مِنْ الْأَعْضَاءِ، لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بِذَلِكَ. وَإِنْ أَبْقَى مِنْ لِحْيَتِهِ مَا لَا جَمَالَ فِيهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الشَّعْرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُؤْخَذُ بِالْقِسْطِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ يَجِبُ فِي بَعْضِهِ بِحِصَّتِهِ، فَأَشْبَهَ الْأُذُنَ وَمَارِنَ الْأَنْفِ. وَالثَّانِي: تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْمَقْصُودَ كُلَّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَذْهَبَ ضَوْءَ الْعَيْنَيْنِ؛ وَلِأَنَّ جِنَايَتَهُ رُبَّمَا أَحْوَجَتْ إلَى إذْهَابِ الْبَاقِي، لِزِيَادَتِهِ فِي الْقُبْحِ عَلَى ذَهَابِ الْكُلِّ، فَتَكُونُ جِنَايَتُهُ سَبَبًا لِذَهَابِ الْكُلِّ، فَأَوْجَبَتْ دِيَتَهُ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِسِرَايَةِ الْفِعْلِ، أَوْ كَمَا لَوْ احْتَاجَ فِي دَوَاءِ شَجَّةِ الرَّأْسِ إلَى مَا ذَهَبَ بِضَوْءِ عَيْنِهِ. [فَصْل دِيَة الشَّعْر الَّذِي لَا يُرْجَى عَوْدُهُ] (6914) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ إلَّا بِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ، مِثْلُ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 يَقْلِبَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً حَارًّا، فَتَلِفَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، فَيَنْقَلِعَ بِالْكُلِّيَّةِ،. بِحَيْثُ لَا يَعُودُ وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ إلَى مُدَّةٍ، اُنْتُظِرَ إلَيْهَا. وَإِنْ عَادَ الشَّعْرُ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ، لَمْ تَجِبْ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ أَخْذِهَا، رَدَّهَا. وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فِيمَا يُرْجَى عَوْدُهُ، وَفِيمَا لَا يُرْجَى (6915) فَصْلٌ: وَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَلَا تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاص فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة المشام] (6916) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ) يَعْنِي الشَّمَّ، فِي إتْلَافِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ حَاسَّةٌ، تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَتِهِ، فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ، كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ الْقَاضِي: فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ» . فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ شَمِّهِ، اغْتَفَلْنَاهُ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ أَوْ الْمُنْتِنَةِ، فَإِنْ هَشَّ لِلطَّيِّبِ، وَتَنَكَّرَ لِلْمُنْتِنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبِنْ مِنْهُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّمْعِ. وَإِنْ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَقْصَ شَمِّهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَيَجِبُ لَهُ مِنْ الدِّيَةِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ. وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ، سَقَطَتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهَا رَدَّهَا؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَهَبَ. وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُ شَمِّهِ إلَى مُدَّةٍ، اُنْتُظِرَ إلَيْهَا. وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ مِنْ أَحَدِ مَنْخِرَيْهِ، فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ بَصَرُهُ مِنْ إحْدَى عَيْنَيْهِ. [فَصْلٌ فِي الْأَنْف الدِّيَة إذَا كَانَ قَطَعَ مَارِنِهِ بِغَيْرِ خِلَاف بَيْنَهُمْ] (6917) فَصْلٌ: وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ إذَا كَانَ قُطِعَ مَارِنُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَمَّنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ» . وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، فِي " الْمُوَطَّإِ " «إذَا أُوعِيَ جَدْعًا» . يَعْنِي إذَا: اُسْتُوْعِبَ وَاسْتُؤْصِلَ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ فِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ، كَاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ فِي مَارِنِهِ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ. هَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الْأَنْفِ، إذَا أُوعِبَ مَارِنُهُ جَدْعًا الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ الْخَبَرُ إلَيْهِ. فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ، فَفِيهِ بِقَدْرِهِ مِنْ الدِّيَةِ، يُمْسَحُ وَيُعْرَفُ قَدْرُ ذَلِكَ مِنْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأُذُنَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَإِنْ قُطِعَ أَحَدُ الْمَنْخِرَيْنِ، فَفِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَنْخِرَيْنِ ثُلُثَاهَا، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا الثُّلُثُ: قَالَ أَحْمَدُ: فِي الْوَتَرَةِ الثُّلُثُ، وَفِي الْخَرَمَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَارِنَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسٍ، فَتَوَزَّعَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهَا، كَسَائِرِ مَا فِيهِ عَدَدٌ مِنْ جِنْسٍ، مِنْ الْيَدَيْنِ، وَالْأَصَابِعِ، وَالْأَجْفَانِ الْأَرْبَعَةِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّ فِي الْمَنْخِرَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا حُكُومَةٌ؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ: فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنْ الْإِنْسَانِ الدِّيَةُ. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْخِرَيْنِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ لَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْمَنْخِرَيْنِ أَذْهَبَ الْجَمَالَ كُلَّهُ، وَالْمَنْفَعَةَ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ الْيَدَيْنِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فِي قَطْعِ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَطَعَ مَعَهُ الْحَاجِزَ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ الْحَاجِزِ أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى حُكُومَةٍ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، فِي قَطْعِ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ وَنِصْفِ الْحَاجِزِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي قَطْعِ جَمِيعِهِ مَعَ الْمَنْخِرِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَفِي قَطْعِ جُزْءٍ مِنْ الْحَاجِزِ أَوْ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ بِقَدْرِهِ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ، يُقَدَّرُ بِالْمِسَاحَةِ، فَإِنْ شَقَّ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْمَنْخِرَيْنِ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ، فَإِنْ بَقِيَ مُنْفَرِجًا، فَالْحُكُومَةُ فِيهِ أَكْثَرُ. [فَصْلٌ دِيَة قَطَعَ الْمَارِن مَعَ الْقَصَبَة] (6918) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ مَعَ الْقَصَبَةِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمَارِنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الْقَصَبَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَارِنَ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ، فَوَجَبَتْ الْحُكُومَةُ فِي الزَّائِدِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْقَصَبَةَ وَحْدَهَا مَعَ قَطْعِ لِسَانِهِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، كَالذَّكَرِ إذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذَا، وَيُفَارِقُ مَا إذَا قُطِعَ لِسَانُهُ وَقَصَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ، فَلَا تَدْخُلُ دِيَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ. وَأَمَّا الْعُضْوُ الْوَاحِدُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ فِي جَمِيعِهِ مَا يَجِبُ فِي بَعْضِهِ، كَالذَّكَرِ تَجِبُ فِي حَشَفَتِهِ الدِّيَةُ الَّتِي تَجِبُ فِي جَمِيعِهِ، وَأَصَابِعِ الْيَدِ يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْيَدِ مِنْ الْكُوعِ، وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الرِّجْلِ، وَفِي الثَّدْيِ كُلِّهِ مَا فِي حَلَمَتِهِ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَ الْأَنْفَ وَمَا تَحْتَهُ مِنْ اللَّحْمِ، فَفِي اللَّحْمِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَنْفِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ وَاللَّحْمَ الَّذِي تَحْتَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 [فَصْلٌ دِيَة ضَرَبَ أَنْفه فَأَشَلّهُ] (6919) فَصْلٌ: فَإِنْ ضَرَبَ أَنْفَهُ فَأَشَلَّهُ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَإِنْ قَطَعَهُ قَاطِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَفِيهِ دِيَتُهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأُذُنِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا كَقَوْلِهِ فِي الْأُذُنِ، عَلَى مَا مَضَى شَرْحُهُ وَتِبْيَانُهُ. وَإِنْ ضَرَبَهُ فَعَوَجَهُ، أَوْ غَيَّرَ لَوْنَهُ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَفِي قَطْعِهِ بَعْدَ ذَلِكَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ قَطَعَهُ إلَّا جِلْدَةً بَقِيَ مُعَلَّقًا بِهَا فَلَمْ يَلْتَحِمْ، وَاحْتِيجَ إلَى قَطْعِهِ، فَفِيهِ دِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ جَمِيعَهُ، بَعْضَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَبَاقِيَهُ بِالتَّسَبُّبِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَى قَطْعُ بَعْضِهِ إلَى قَطْعِ جَمِيعِهِ. وَإِنْ رَدَّهُ فَالْتَحَمَ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِنْ. وَإِنْ أَبَانَهُ فَرَدَّهُ فَالْتَحَمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دِيَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَبَانَ أَنْفَهُ، فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَلْتَحِمْ، وَلِأَنَّ مَا أُبِينَ قَدْ نَجُسَ، فَلَزِمَهُ أَنْ يُبِينَهُ بَعْدَ الْتِحَامِهِ. وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، مَنَعَ نَجَاسَتَهُ، وَوُجُوبَ إبَانَتِهِ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْآدَمِيِّ كَجُمْلَتِهِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَجُمْلَتُهُ طَاهِرَةٌ، وَكَذَلِكَ أَجْزَاؤُهُ. [فَصْلٌ دِيَة قَطَعَ أَنْفه فَذَهَبَ شَمَّهُ] (6920) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ، فَذَهَبَ شَمُّهُ، فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّ الشَّمَّ فِي غَيْرِ الْأَنْفِ، فَلَا تَدْخُلُ دِيَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، كَالسَّمْعِ مَعَ الْأُذُنِ وَالْبَصَرِ مَعَ أَجْفَانِ الْعَيْنَيْنِ، وَالنُّطْقِ مَعَ الشَّفَتَيْنِ. وَإِنْ قَطَعَ أَنْفَ الْأَخْشَمِ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الْأَنْفِ فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الشَّفَتَيْنِ] (6921) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ، وَمَنْفَعَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنَّهُمَا طَبَقٌ عَلَى الْفَم يَقِيَانِهِ مَا يُؤْذِيهِ، وَيَسْتُرَانِ الْأَسْنَانَ، وَتَرُدَّانِ الرِّيقَ، وَيَنْفُخُ بِهِمَا، وَيَتِمُّ بِهِمَا الْكَلَامُ، فَإِنَّ فِيهِمَا بَعْضَ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ، فَتَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ فِي الْعُلْيَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيُّ. وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ، لِأَنَّهَا الَّتِي تَدُورُ، وَتَتَحَرَّكُ، وَتَحْفَظُ الرِّيقَ وَالطَّعَامَ، وَالْعُلْيَا سَاكِنَةٌ لَا حَرَكَةَ فِيهَا. وَلَنَا، قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ وَجَبَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ سُوِّيَ بَيْنَ جَمِيعِهِ فِيهَا، كَالْأَصَابِعِ وَالْأَسْنَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَةِ النَّفْعِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 (6922) فَصْلٌ: فَإِنْ ضَرَبَهُمَا فَأَشَلَّهُمَا، وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَتَهُمَا، فَوَجَبَتْ دِيَتُهُمَا، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ، وَإِنْ تَقَلَّصَتَا فَلَمْ تَنْطَبِقَا عَلَى الْأَسْنَانِ، أَوْ اسْتَرْخَتَا فَصَارَتَا لَا تَنْفَصِلَانِ عَنْ الْأَسْنَانِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنْفَعَتَهُمَا وَجَمَالَهُمَا. وَإِنْ تَقَلَّصَتَا بَعْضَ التَّقَلُّصِ، وَجَبَتْ الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ بِالْكُلِّيَّةِ (6923) فَصْلٌ: حَدُّ الشَّفَةِ السُّفْلَى مِنْ أَسْفَلِ مَا تَجَافَى عَنْ الْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ مِمَّا ارْتَفَعَ عَنْ جِلْدَةِ الذَّقَنِ، وَحَدُّ الْعُلْيَا مِنْ فَوْقِ مَا تَجَافَى عَنْ الْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ إلَى اتِّصَالِهِ بِالْمَنْخِرَيْنِ وَالْحَاجِزِ، وَحَدُّهُمَا طُولًا طُولُ الْفَمِ إلَى حَاشِيَةِ الشِّدْقَيْنِ، وَلَيْسَتْ حَاشِيَةُ الشِّدْقَيْنِ مِنْهُمَا. [مَسْأَلَةٌ دِيَة اللِّسَان الْمُتَكَلِّم] (6924) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ الدِّيَةُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَغَيْرُهُمْ. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً، فَأَشْبَهَ الْأَنْفَ؛ فَأَمَّا الْجَمَالُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْجَمَالِ، فَقَالَ: فِي اللِّسَانِ» . وَيُقَالُ: جَمَالُ الرَّجُلِ فِي لِسَانِهِ، «وَالْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ» . وَيُقَالُ مَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إلَّا صُورَةً مُمَثَّلَةً، أَوْ بَهِيمَةً مُهْمَلَةً. وَأَمَّا النَّفْعُ، فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الْأَغْرَاضُ، وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ، وَتُدْفَعُ الْآفَاتُ، وَتُقْضَى بِهِ الْحَاجَاتُ، وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ؛ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعْلِيمِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَبِهِ يَذُوقُ الطَّعَامَ، وَيَسْتَعِينُ فِي مَضْغِهِ وَتَقْلِيبِهِ، وَتَنْقِيَةِ الْفَمِ، وَتَنْظِيفِهِ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا، وَأَتَمُّهَا جَمَالًا، فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي غَيْرِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيجَابِهَا فِيهِ. وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ، فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِذَهَابِ نَفْعِهِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ. [فَصْلٌ دِيَة الْكَلَام إذَا جَنَى عَلَيْهِ فَخَرَس] (6925) فَصْلٌ: وَفِي الْكَلَامِ الدِّيَةُ، فَإِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَخَرِسَ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَتْ الدِّيَةُ بِإِتْلَافِهِ، تَعَلَّقَتْ بِإِتْلَافِ مَنْفَعَتِهِ، كَالْيَدِ. فَأَمَّا إنْ جَنَى عَلَيْهِ، فَأَذْهَبَ ذَوْقَهُ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ حَاسَّةٌ، فَأَشْبَهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 الشَّمَّ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي أَنَّ لِسَانَ الْأَخْرَسِ لَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَلَى أَنَّ فِيهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ. وَلَوْ وَجَبَ فِي الذَّوْقِ دِيَةٌ، لَوَجَبَتْ فِي ذَهَابِهِ مَعَ ذَهَابِ اللِّسَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نَصَّ لَهُ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةً، وَإِنْ ذَهَبَ الذَّوْقُ بِذَهَابِهِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِسَانَ الْأَخْرَسِ لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِيهِ؛ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَكْمُلُ فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ بِمُفْرَدِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِيهِ بِمَنْفَعَتِهِ، لَا تَكْمُلُ بِمَنْفَعَتِهِ دُونَهُ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. فَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا ذَهَبَ ذَوْقُهُ كُلُّهُ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ نَقَصَ نَقْصًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، بِأَنْ يُحِسَّ الْمَذَاقَ كُلَّهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ عَلَى الْكَمَالِ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ نَقَصَ بَصَرُهُ نَقْصًا لَا يَتَقَدَّرُ، وَإِنْ كَانَ نَقْصًا يَتَقَدَّرُ، بِأَنْ لَا يُدْرَكَ بِأَحَدِ الْمَذَاقِ الْخَمْسِ، وَهِيَ: الْحَلَاوَةُ، وَالْمَرَارَةُ، وَالْحُمُوضَةُ، وَالْمُلُوحَةُ، وَالْعُذُوبَةُ، وَيُدْرَكَ بِالْبَاقِي، فَفِيهِ خُمْسُ الدِّيَةِ، وَفِي اثْنَتَيْنِ خُمُسَاهَا، وَفِي ثَلَاثٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا. وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ بِوَاحِدَةٍ، وَنَقَصَ الْبَاقِي، فَعَلَيْهِ خُمْسُ الدِّيَةِ، وَحُكُومَةٌ لِنَقْصِ الْبَاقِي. وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ، فَذَهَبَ ذَوْقُهُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ؛ لِإِتْلَافِهِ الذَّوْقَ. وَإِنْ جَنَى عَلَى لِسَانِ نَاطِقٍ، فَأَذْهَبْ كَلَامَهُ وَذَوْقَهُ، فَفِيهِ دِيَتَانِ. وَإِنْ قَطَعَهُ، فَذَهَبَا مَعًا، فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَذْهَبَانِ تَبَعًا لِذَهَابِهِ فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ دُونَ دِيَتِهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا، لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ مَعَ بَقَائِهِ، فَفِي كُلِّ مَنْفَعَةٍ دِيَةٌ. [فَصْلٌ جَنَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ بَعْض كَلَامه] (6926) فَصْلٌ: وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ، وَجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا سِوَى " لَا "، فَإِنَّ مَخْرَجَهَا مَخْرَجُ اللَّازِمِ وَالْأَلِفِ، فَمَهْمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوف، وَجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَتِمُّ بِجَمِيعِهَا، فَالذَّاهِبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِوَضُهُ مِنْ الدِّيَةِ كَقَدْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ، فَفِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ رُبْعُ سُبْعِ الدِّيَةِ، وَفِي الْحَرْفَيْنِ نِصْفُ سُبْعِهَا، وَفِي الْأَرْبَعَةِ سُبْعُهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا خَفَّ مِنْ الْحُرُوفِ عَلَى اللِّسَانِ وَمَا ثَقُلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْمُقَدَّرُ لَمْ يُخْتَلَفْ لِاخْتِلَافِ قَدْرِهِ، كَالْأَصَابِعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقَسَّمَ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي لِلِّسَانِ فِيهَا عَمَلٌ، وَدُونَ الشَّفَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ؛ الْبَاءُ، وَالْمِيمُ، وَالْفَاءُ، وَالْوَاوُ. وَدُونَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ؛ الْهَمْزَةِ، وَالْهَاءِ، وَالْحَاءِ، وَالْخَاءِ، وَالْعَيْنِ، وَالْغَيْنِ. فَهَذِهِ عَشْرَةٌ، بَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا لِلِّسَانِ، تَنْقَسِمُ دِيَتُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِقَطْعِ اللِّسَانِ، وَذَهَابِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَحْدَهَا مَعَ بَقَائِهِ، فَإِذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهَا بِمُفْرَدِهَا، وَجَبَ فِي بَعْضِهَا بِقِسْطِهِ مِنْهَا، فَفِي الْوَاحِدِ نِصْفُ تُسْعِ الدِّيَةِ، وَفِي الِاثْنَيْنِ تُسْعُهَا، وَفِي الثَّلَاثَة سُدُسُهَا. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ جَنَى عَلَى شَفَتِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْحُرُوفِ، وَجَبَ فِيهِ بِقَدْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ ذَهَبَ بَعْضُ حُرُوفِ الْحَلْقِ بِجِنَايَتِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ ذَهَبَ حَرْفٌ فَعَجَزَ عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 كَلِمَةٍ، لَمْ يَجِبْ غَيْرُ أَرْشِ الْحَرْفِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ لِمَا تَلِفَ. وَإِنْ ذَهَبَ حَرْفٌ، فَأَبْدَلَ مَكَانَهُ حَرْفًا آخَرَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: دِرْهَمٌ. فَصَارَ يَقُولُ: دِلْهَمٌ. أَوْ: دِغْهَمٌ. أَوْ: دِيْهَمٌ. فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَرْفِ الذَّاهِبِ؛ لِأَنَّ مَا تَبَدَّلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذَّاهِبِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ الْبَدَلُ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ. وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنْ الْكَلَامِ، لَكِنْ حَصَلَتْ فِيهِ عَجَلَةٌ أَوْ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِمَا حَصَلَ مِنْ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ، وَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بَاقِيَةٌ. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ جَانٍ آخَرُ، فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ جَانٍ فَعَمِشَتْ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهَا آخَرُ، فَذَهَبَ بِبَصَرِهَا. وَإِنْ أَذْهَبَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الْحُرُوفِ، وَأَذْهَبَ الثَّانِي بَقِيَّةَ الْكَلَامِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِسْطِهِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ الْأَوَّلُ بِبَصَرِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَذَهَبَ الْآخَرُ بِبَصَرِ الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ أَلْثَغَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ إنْسَانٌ بِكَلَامِهِ كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْ زَوَالِ لُثْغَتِهِ، فَفِيهِ بِقِسْطِ مَا ذَهَبَ مِنْ الْحُرُوفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْيُوسٍ مِنْ زَوَالِهَا، كَالصَّبِيِّ، فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ زَوَالُهَا. وَكَذَلِكَ الْكَبِيرُ إذَا أَمْكَنَ إزَالَةُ لُثْغَتِهِ بِالتَّعْلِيمِ. [فَصْلٌ قَطَعَ بَعْض لِسَانِهِ فَذَهَبَ بَعْض كَلَامِهِ] (6927) فَصْلٌ: إذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَ رُبْعَ لِسَانِهِ، فَيَذْهَبَ رُبْعُ كَلَامِهِ، وَجَبَ رُبْعُ الدِّيَةِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ قَلَعَ إحْدَى عَيْنَيْهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا. وَإِنْ ذَهَبَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ، كَأَنْ قَطَعَ رُبْعَ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ، أَوْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ رُبْعُ كَلَامِهِ، وَجَبَ بِقَدْرِ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ مُنْفَرِدًا، فَإِذَا انْفَرَدَ نِصْفُهُ بِالذَّهَابِ، وَجَبَ النِّصْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ اللِّسَانِ شَيْءٌ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ ذَهَبَ نِصْفُ اللِّسَانِ، وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ الْكَلَامِ شَيْءٌ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَطَعَ رُبْعَ اللِّسَانِ، فَذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ قَطَعَ آخَرُ بَقِيَّةَ اللِّسَانِ، فَذَهَبَتْ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ السَّالِمَ نِصْفُ اللِّسَانِ، وَبَاقِيَهُ أَشَلُّ، بِدَلِيلِ ذَهَابِ نِصْفِ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةٌ لِلرُّبْعِ الْأَشَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ أَشَلَّ، لَكَانَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُ أَشَلَّ، فَفِي ذَلِكَ الْبَعْضِ حُكُومَةٌ أَيْضًا. الثَّالِثُ: عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ رُبْعُ وَنِصْفُ كَلَامِهِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ أَوَّلًا. وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهُ أَشَلُّ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 لِأَنَّ الْعُضْوَ مَتَى كَانَ فِيهِ بَعْضُ النَّفْعِ، لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُ أَشَلَّ، كَالْعَيْنِ إذَا كَانَ بَصَرُهَا ضَعِيفًا، وَالْيَدِ إذَا كَانَ بَطْشُهَا نَاقِصًا. وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ رُبْعُ كَلَامِهِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَتِهِ، فَإِنْ قَطَعَ الْآخَرُ بَقِيَّتَهُ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْآخَرُ، عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا نِصْفَ لِسَانِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ، فَلَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ بِقَطْعِ نِصْفِ اللِّسَانِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَذْهَبَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، فَلَأَنْ تَجِبَ بِقَطْعِ نِصْفِ اللِّسَانِ فِي الْأَوَّلِ أَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يَقْطَعْ الثَّانِي نِصْفَ اللِّسَانِ، لَكِنْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أَذْهَبَتْ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ لِسَانِهِ، لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَا فِيهِ الدِّيَةُ، فَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى صَحِيحٍ، فَذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ كَلَامِهِ، مَعَ بَقَاءِ لِسَانِهِ. [فَصْل قَطَعَ بَعْض لِسَانِهِ عَمْدًا] (6928) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ عَمْدًا، فَاقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ مِثْلِ مَا جَنَى عَلَيْهِ بِهِ، فَذَهَبَ مِنْ كَلَامِ الْجَانِي مِثْلُ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَلَا شَيْءَ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَوَدِ، وَسِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ، فَلِلْمُقْتَصِّ دِيَةُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ بَدَلَهُ. [فَصْلٌ قَطَعَ لِسَان صَغِير لَمْ يَتَكَلَّم لِطُفُولِيَّتِهِ] (6929) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ لِسَانَ صَغِيرٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ لِطُفُولِيَّتِهِ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لِسَانٌ لَا كَلَامَ فِيهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ، كَلِسَانِ الْأَخْرَسِ. وَلَنَا، أَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ، وَيُخَالِفُ الْأَخْرَسَ؛ فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَلُّ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَعْضَاءَهُ لَا يَبْطِشُ بِهَا، وَتَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ. وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَقَطَعَ لِسَانَهُ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ، وَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ. وَإِنْ كَبِرَ فَنَطَقَ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ، وَجَبَ فِيهِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ الْحُرُوفِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ نَاطِقًا. وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ إلَى حَدٍّ يَتَحَرَّك بِالْبُكَاءِ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَقَطَعَهُ قَاطِعٌ، فَلَا دِيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَتَحَرَّكَ. وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى حَدٍّ يَتَحَرَّكُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَتُهُ. وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَ كَبِيرٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ أَخْرَسَ، فَفِيهِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي شَلَلِ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 [فَصْلٌ جَنَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ كَلَامه أَوْ ذَوْقه ثُمَّ عَادَ] (6930) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ أَوْ ذَوْقُهُ، ثُمَّ عَادَ، لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ، وَلَوْ ذَهَبَ لَمْ يَعُدْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الدِّيَةَ رَدَّهَا. وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَهُ، فَعَادَ، لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا رَدَّهَا. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِعَوْدِهِ، وَاخْتِصَاصُ هَذَا بِعَوْدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هِبَةٌ مُجَدَّدَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَادَ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ، فَوَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ، كَالْأَسْنَانِ وَسَائِرِ مَا يَعُودُ. وَإِنْ قَطَعَ إنْسَانٌ نِصْفَ لِسَانِهِ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ كُلُّهُ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ بَقِيَّتَهُ، فَعَادَ كَلَامُهُ، لَمْ يَجِبْ رَدُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ بِاللِّسَانِ قَدْ ذَهَبَ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا عَادَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَهُ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ، ثُمَّ عَادَ اللِّسَانُ دُونَ الْكَلَامِ، لَمْ يَرُدَّ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ مَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ بِانْفِرَادِهِ. وَإِنْ عَادَ كَلَامُهُ دُونَ لِسَانِهِ، لَمْ يَرُدَّهَا أَيْضًا؛ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ كَانَ لِلِسَانِهِ طَرَفَانِ فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَذَهَبَ كَلَامه] (6931) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلِسَانِهِ طَرَفَانِ، فَقَطَعَ أَحَدَهُمَا، فَذَهَبَ كَلَامُهُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْكَلَامِ بِمُفْرَدِهِ يُوجِبُ الدِّيَةَ. وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الطَّرَفَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَكَانَ مَا قَطَعَهُ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ الْكَلَامِ، وَجَبَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ، وَجَبَ الْأَكْثَرُ، عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الْكَلَامِ شَيْءٌ، وَجَبَ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ اللِّسَانِ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ اللِّسَانِ، فَهُوَ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَإِنْ قَطَعَ جَمِيعَ اللِّسَانِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ اللِّسَانِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَحُكُومَةٌ فِي الْخِلْقَةِ الزَّائِدَةِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ، وَيَنْقُصُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ كَالسِّلْعَةِ فِي الْيَدِ. وَرُبَّمَا عَادَ الْقَوْلَانِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْحُكُومَةَ لَا يَخْرُجُ بِهَا شَيْءٌ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَيْبًا. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الْأَسْنَانِ] (6932) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، إذَا قُلِعَتْ مِمَّنْ قَدْ أَثْغَرَ، وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ كَالْأَسْنَانِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ دِيَةَ الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ فِي كُلِّ سِنٍّ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَأَمَّا الْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ الْأَسْنَانِ؛ وَمِنْهُمْ عُرْوَةُ وَطَاوُسٌ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَضَى فِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا، لَجَعَلْت فِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ، فَتِلْكَ الدِّيَةُ سَوَاءٌ. وَرَوَى ذَلِكَ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ " وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ فِي جَمِيعِ الْأَسْنَانِ وَالْأَضْرَاسِ الدِّيَةَ. فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ سَعِيدٍ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، وَوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ، فَيَكُونُ فِي الْأَسْنَانِ سِتُّونَ بَعِيرًا؛ لِأَنَّ فِيهِ اثْنَيْ عَشَرَ سِنًّا، أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رُبَاعِيَّاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، فِيهَا خَمْسٌ خَمْسٌ، وَفِيهِ عِشْرُونَ ضِرْسًا، فِي كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةٌ، خَمْسَةٌ مِنْ فَوْقُ، وَخَمْسَةٌ مِنْ أَسْفَلَ، فَيَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُونَ بَعِيرًا، فِي كُلِّ ضِرْسٍ بَعِيرَانِ، فَتَكْمُلُ الدِّيَةُ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ هَذَا، أَنَّهُ ذُو عَدَدٍ يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، فَلَمْ تَزِدْ دِيَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْإِنْسَانِ، كَالْأَصَابِعِ، وَالْأَجْفَانِ، وَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِل عَلَى مَنْفَعَةِ جِنْسٍ، فَلَمْ تَزِدْ دِيَتُهَا عَلَى الدِّيَةِ، كَسَائِرِ مَنَافِعِ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّ الْأَضْرَاسَ تَخْتَصُّ بِالْمَنْفَعَةِ دُونَ الْجَمَالِ، وَالْأَسْنَانُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ، فَاخْتَلَفَا فِي الْأَرْشِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ، الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ» ، هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ ". وَهَذَا نَصٌّ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ: فِي «الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ.» وَلَمْ يُفَصِّلْ، يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْأَضْرَاسُ؛ لِأَنَّهَا أَسْنَانٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ فِي جُمْلَةٍ كَانَتْ مَقْسُومَةً عَلَى الْعَدَدِ دُونَ الْمَنَافِعِ، كَالْأَصَابِعِ، وَالْأَجْفَانِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَقَدْ أَوْمَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى هَذَا، فَقَالَ: لَا أَعْتَبِرُهَا بِالْأَصَابِعِ فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى، فَلَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ فِيهِ، فَمَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِنَا، خَالَفَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِهِمْ، خَالَفَ التَّسْوِيَةَ الثَّابِتَةَ، بِقِيَاسِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ مُوَافَقَةِ الْأَخْبَارِ وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، أَنَّ فِي كُلِّ ضِرْسٍ بَعِيرًا، فَيُخَالِفُ الْقِيَاسَيْنِ جَمِيعًا، وَالْأَخْبَارَ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ ثَمَانِينَ بَعِيرًا، وَيُخَالِفُ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَجَانِسَةِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا الضَّمَانُ فِي سِنِّ مَنْ قَدْ ثُغِرَ، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَلَ أَسْنَانَهُ، وَبَلَغَ حَدًّا إذَا قُلِعَتْ سِنُّهُ لَمْ يَعُدْ بَدَلُهَا. وَيُقَالُ: ثُغِرَ، وَاثَّغَرَ، وَاتَّغَرَ. إذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 كَانَ كَذَلِكَ. فَأَمَّا سِنُّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُثْغَرْ، فَلَا يَجِبُ بِقَلْعِهَا فِي الْحَالِ شَيْءٌ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ عَوْدُ سِنِّهِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا فِي الْحَالِ شَيْءٌ، كَنَتْفِ شَعْرِهِ، وَلَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا؛ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَيْأَسُ مِنْ عَوْدِهَا، وَجَبَتْ دِيَتُهَا. قَالَ أَحْمَدُ، يَتَوَقَّفُ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ فِي نَبَاتِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا سَقَطَتْ أَخَوَاتُهَا وَلَمْ تَعُدْ هِيَ، أُخِذَتْ الدِّيَةُ. وَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى، لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ نُتِفَ شَعْرُهُ فَعَادَ مِثْلُهُ. لَكِنْ إنْ عَادَتْ قَصِيرَةً أَوْ مُشَوَّهَةً فَفِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا. وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ نَقْصِهَا عَنْ نَظِيرَتِهَا، فَفِيهَا مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا نَقَصَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِيهَا ثُلْمَةٌ أَمْكَنَ تَقْدِيرُهَا، فَفِيهَا بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْهَا، كَمَا لَوْ كَسَرَ مِنْ سِنِّهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ. وَإِنْ نَبَتَتْ أَكْبَرَ مِنْ أَخَوَاتِهَا، فَفِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ. وَقِيلَ فِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، لَا شَيْءَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْنٌ حَصَلَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، فَأَشْبَهَ نَقْصَهَا. وَإِنْ نَبَتَتْ مَائِلَةً عَنْ صَفِّ الْأَسْنَانِ، بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فَفِيهَا دِيَتُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَذَهَابِهَا، وَإِنْ كَانَتْ يُنْتَفَعُ بِهَا، فَفِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِلشَّيْنِ الْحَاصِلِ بِهَا، وَنَقْصِ نَفْعِهَا. وَإِنْ نَبَتَتْ صَفْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ مُتَغَيِّرَةً، فَفِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِنَقْصِ جَمَالِهَا. وَإِنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ خَضْرَاءَ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي؛ إحْدَاهُمَا، فِيهَا دِيَتُهَا. وَالثَّانِيَةُ، فِيهَا حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ سَوَّدَهَا مِنْ غَيْرِ قَلْعِهَا. وَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ عَوْدِ سِنِّهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ لَعَادَتْ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ نُتِفَ شَعْرُهُ. وَالثَّانِي: فِيهَا الدِّيَةُ لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنًّا وَأَيِسَ مِنْ عَوْدِهَا، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ مَضَى زَمَنٌ تَعُودُ فِي مِثْلِهِ فَلَمْ تَعُدْ. وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ ثُغِرَ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَا تَعُودُ، فَإِنْ عَادَتْ، لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا رَدَّهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرُدُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهَا لَا تَعُودُ، فَمَتَى عَادَتْ كَانَتْ هِبَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُجَدَّدَةً، فَلَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ مَا وَجَبَ لَهُ بِقَلْعِ سِنِّهِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَادَ لَهُ فِي مَكَانِهَا مِثْلُ الَّتِي قُلِعَتْ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ، كَاَلَّذِي لَمْ يُثْغَرْ. وَإِنْ عَادَتْ نَاقِصَةً، أَوْ مُشَوَّهَةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ سِنِّ الصَّغِيرِ إذَا عَادَتْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغَرْ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ يَيْأَسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 مِنْ عَوْدِهَا، وَحُكِمَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ، فَعَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، سَقَطَتْ الدِّيَةُ، وَرُدَّتْ إنْ كَانَتْ أُخِذَتْ، كَسِنِّ الْكَبِيرِ إذَا عَادَتْ. [فَصْلٌ دِيَة السِّنّ فِيمَا ظُهْر مِنْهَا مِنْ اللِّثَة] (6933) فَصْلٌ: وَتَجِبُ دِيَةُ السِّنِّ فِيمَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ اللَّثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى سِنًّا، وَمَا فِي اللِّثَةِ مِنْهَا يُسَمَّى سِنْخًا، فَإِذَا كُسِرَ السِّنُّ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَلَعَ السِّنْخَ، فَفِي السِّنِّ دِيَتُهَا، وَفِي السِّنْخِ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إنْسَانٌ أَصَابِعَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ كَفَّهُ. وَإِنْ قَلَعَهَا الْآخَرُ بِسِنْخِهَا، لَمْ يَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْيَدَ مِنْ كُوعِهَا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَرَّتَيْنِ، فَكَسَرَ السِّنَّ، ثُمَّ عَادَ فَقَلَعَ السِّنْخَ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا وَحُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ دِيَتَهَا وَجَبَتْ بِالْأَوَّلِ، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالثَّانِي حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ الْأَصَابِعَ، ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ. وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَ الظَّهْرِ، فَفِيهِ مِنْ دِيَةِ السِّنِّ بِقَدْرِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ النِّصْفُ، وَجَبَ نِصْفُ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ الثُّلُثَ، وَجَبَ الثُّلُثُ. وَإِنْ جَاءَ آخَرُ فَكَسَرَ بَقِيَّتَهَا، فَعَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَرْشِ. فَإِنْ قَلَعَ الثَّانِي بَقِيَّتَهَا بِسِنْخِهَا، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَسَرَهَا عَرْضًا، فَلَيْسَ عَلَى الثَّانِي لِلسِّنْخِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا قَلَعَهُ مِنْ ظَاهِرِ السِّنِّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ مِنْ كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ أُنْمُلَةً، ثُمَّ قَطَعَ الثَّانِي يَدَهُ مِنْ الْكُوعِ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَسَرَ نِصْفَ السِّنِّ طُولًا دُونَ سِنْخِهِ، فَجَاءَ الثَّانِي فَقَطَعَ الْبَاقِيَ بِالسِّنْخِ كُلِّهِ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ النِّصْفِ الْبَاقِي، وَحُكُومَةٌ لِنِصْفِ السِّنْخِ الَّذِي بَقِيَ لَمَّا كَسَرَهُ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ إصْبَعَيْنِ مِنْ يَدٍ، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي: فَقَطَعَ الْكَفَّ كُلَّهُ. فَإِنْ اخْتَلَفَ الثَّانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِيمَا قَلَعَهُ الْأَوَّلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَةُ السِّنِّ. وَإِنَّ انْكَشَفَتْ اللِّثَةُ عَنْ بَعْضِ السِّنِّ فَالدِّيَةُ فِي قَدْرِ الظَّاهِرِ عَادَةً، دُون مَا انْكَشَفَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الظَّاهِرِ، اُعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَخَوَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. [فَصْلٌ قَلَعَ سِنًّا مُضْطَرِبَة لِكِبَرٍ أَوْ مَرَض وَكَانَتْ مَنَافِعهَا بَاقِيَة] (6934) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا مُضْطَرِبَةً لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا بَاقِيَةً؛ مِنْ الْمَضْغِ، وَضَغْطِ الطَّعَامِ وَالرِّيقِ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا. وَكَذَلِكَ إنْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنَافِعِهَا، وَبَقِيَ بَعْضُهَا؛ لِأَنَّ جَمَالَهَا وَبَعْضَ مَنَافِعِهَا بَاقٍ، فَكَمَلَ دِيَتُهَا، كَالْيَدِ الْمَرِيضَةِ، وَيَدِ الْكَبِيرِ. وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا كُلُّهَا، فَهِيَ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا فِيهَا دَاءٌ أَوْ أَكَلَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَجَبَ فِيهَا دِيَةُ السِّنِّ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّهَا كَالْيَدِ الْمَرِيضَةِ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ أَجْزَائِهَا شَيْءٌ، سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ الذَّاهِبِ مِنْهَا، وَوَجَبَ الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ إحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ قَصِيرَةً، نَقَصَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ نَقْصِهَا، كَمَا لَوْ نَقَصَتْ بِكَسْرِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 [فَصْلٌ جَنَى عَلَى سِنّه جَانّ فَاضْطَرَبَتْ وَطَالَتْ] (6935) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ جَانٍ، فَاضْطَرَبَتْ، وَطَالَتْ عَلَى الْأَسْنَانِ، وَقِيلَ: إنَّهَا تَعُودُ إلَى مُدَّةٍ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. اُنْتُظِرَتْ إلَيْهَا، فَإِنْ ذَهَبَتْ وَسَقَطَتْ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَلَا شَيْءَ فِيهَا، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَمَرِضَتْ ثُمَّ بَرِئَتْ، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا اضْطِرَابٌ فَفِيهَا حُكُومَةٌ. وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا كَامِلَةً، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ حُكُومَةٌ لِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ تَعُدْ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ. وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، وَجَبَتْ الْحُكُومَةُ فِيهَا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إهْدَارِ الْجِنَايَةِ. فَإِنْ عَادَتْ، سَقَطَتْ الْحُكُومَةُ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِهَا. [فَصْلٌ قَلَعَ قَالِع سِنّه فَرَدَّهَا صَاحِبهَا فَنَبَتَتْ فِي مَوْضِعهَا] (6936) فَصْلٌ: فَإِنْ قَلَعَ قَالِعٌ سِنَّهُ، فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا، فَنَبَتَتْ فِي مَوْضِعِهَا، لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، تَجِبُ دِيَتُهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا فِيمَا إذَا قُطِعَ أَنْفُهُ فَرَدَّهُ، فَالْتَحَمَ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِنَقْصِهَا إنْ نَقَصَتْ، أَوْ ضَعْفِهَا إنَّ ضَعُفَتْ. وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَتْ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهَا سِنٌّ ذَاتُ جَمَالٍ وَمَنْفَعَةٍ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَنْقَلِعْ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يَنْبَنِي حُكْمُهَا عَلَى وُجُوبِ قَلْعِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ قَلْعُهَا. فَلَا شَيْءَ عَلَى قَالِعِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ بِقَلْعِهِ مَا يَجِبُ قَلْعُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ قَلْعُهَا. احْتَمَلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِدِيَتِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِدِيَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ دِيَتُهَا مَرَّةً، فَلَا تَجِبُ ثَانِيَةً، وَلَكِنْ فِيهَا حُكُومَةٌ. فَأَمَّا إنْ جَعَلَ مَكَانَهَا سِنًّا أُخْرَى، أَوْ سِنَّ حَيَوَانٍ، أَوْ عَظْمًا، فَنَبَتَتْ، وَجَبَ دِيَتُهَا، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ سِنَّهُ ذَهَبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْئًا. وَإِنْ قُلِعَتْ هَذِهِ الثَّانِيَةُ لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ سِنًّا لَهُ، وَلَا هِيَ مِنْ بَدَنِهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ أَزَالَتْ جَمَالَهُ وَمَنْفَعَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَ جُرْحَهُ بِخَيْطِ، فَالْتَحَمَ، فَقَطَعَ إنْسَانٌ الْخَيْطَ، فَانْفَتَحَ الْجُرْحُ، وَزَالَ الْتِحَامُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مَا لَيْسَ مِنْ بَدَنِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ الْأَنْفَ الذَّهَبَ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَجْدُوعُ مَكَانَ أَنْفِهِ. [فَصْلٌ جَنَى عَلَى سِنّه فَسُودهَا] (6937) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ فَسَوَّدَهَا، فَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجِبُ دِيَتُهَا كَامِلَةً. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَشُرَيْحٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالنَّخَعِيُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إنْ أَذْهَبَ مَنْفَعَتَهَا مِنْ الْمَضْغِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهِ، فَفِيهَا دِيَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ نَفْعَهَا، فَفِيهَا حُكُومَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهَا، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ اصْفَرَّتْ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَ الْأَصَمِّ وَأَنْفَ الْأَخْشَمِ. فَأَمَّا إنْ اصْفَرَّتْ أَوْ احْمَرَّتْ، لَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْهِبْ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ. وَإِنْ اخْضَرَّتْ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَتَسْوِيدِهَا؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِجَمَالِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهَا إلَّا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ جَمَالِهَا بِتَسْوِيدِهَا أَكْثَرُ، فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ حَمَّرَهَا. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ دِيَتَهَا، مَتَى قُلِعَتْ بَعْدَ تَسْوِيدِهَا، فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا أَوْ حُكُومَةٌ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ فِيهَا إلَّا حُكُومَةً، يَجِبُ فِي قَلْعِهَا دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ صَفَّرَهَا. [فَصْل جَنَى عَلَى سِنّه فَذَهَبَتْ حِدَتهَا] (6938) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ، فَذَهَبَتْ حِدَّتُهَا وَكَّلَتْ، فَفِي ذَلِكَ حُكُومَةٌ، وَعَلَى قَالِعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا سِنٌّ صَحِيحَةٌ، كَامِلَةٌ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا، كَالْمُضْطَرِبَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ مِنْهَا جُزْءٌ، فَفِي الذَّاهِبِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ، نَقَصَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ، كَمَا لَوْ كُسِرَ مِنْهَا جُزْءٌ. [فَصْلٌ دِيَة اللَّحْيَيْنِ] (6939) فَصْلٌ: وَفِي اللَّحْيَيْنِ الدِّيَةُ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ فِيهِمَا الْأَسْنَانُ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِمَا نَفْعًا وَجَمَالًا، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْوَاحِدِ مِمَّا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ. وَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ الْأَسْنَانِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الْأَسْنَانِ، وَلَمْ تَدْخُلْ دِيَةُ الْأَسْنَانِ فِي دِيَتِهِمَا، كَمَا تَدْخُلُ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فِي دِيَةِ الْوَجْهِ؛ لَوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الْأَسْنَانَ مَغْرُوزَةٌ فِي اللَّحْيَيْنِ، غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهِمَا، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّحْيَيْنِ وَالْأَسْنَانِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي اسْمِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ، فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَشْمَلُهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّحْيَيْنِ يُوجَدَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَسْنَانِ فِي الْخِلْقَةِ، وَتَبْقَيَانِ بَعْدَ ذَهَابِهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 وَمَنْ تَقَلَّعَتْ أَسْنَانُهُ عَادَتْ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الْيَدَيْنِ] (6940) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْيَدَيْنِ، وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي إحْدَاهُمَا. رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ» . وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ» . وَلِأَنَّ فِيهَا جَمَالًا ظَاهِرًا، وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَالْعَيْنَيْنِ. وَالْيَدُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ مِنْ الْكُوعِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . كَانَ الْوَاجِبُ قَطْعَهُمَا مِنْ الْكُوعِ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ يَجِبُ فِيهِ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ. فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ، أَوْ نِصْفِ السَّاعِدِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، أَنَّهُ يَجِبُ مَعَ دِيَةِ الْيَدِ حُكُومَةٌ لِمَا زَادَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ لَهَا إلَى الْكُوعِ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْيَدِ، مِنْ الْبَطْشِ وَالْأَخْذِ وَالدَّفْعِ بِالْكَفِّ، وَمَا زَادَ تَابِعٌ لِلْكَفِّ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ فِي قَطْعِهَا مِنْ الْكُوعِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، فَتَجِبُ فِي الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْكَفِّ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَلَنَا، أَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ إلَى الْمَنْكِبِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى. {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مَسَحَتْ الصَّحَابَةُ إلَى الْمَنَاكِبِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْيَدُ إلَى الْمَنْكِبِ. وَفِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يُسَمَّى يَدًا، فَإِذَا قَطَعَهَا مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ، فَمَا قَطَعَ إلَّا يَدًا، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا، فَأَمَّا قَطْعُهَا فِي السَّرِقَةِ؛ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ، وَقَطْعُ بَعْضِ الشَّيْءِ يُسَمَّى قَطْعًا لَهُ، كَمَا يُقَالُ: قَطَعَ ثَوْبَهُ. إذَا قَطَعَ جَانِبًا مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي قَطْعِهَا مِنْ الْكُوعِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ تَجِبُ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ مُنْفَرِدَةً، وَلَا يَجِبُ بِقَطْعِهَا مِنْ الْكُوعِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ، وَالذَّكَرُ يَجِبُ فِي قَطْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ مِثْلُ مَا يَجِبُ بِقَطْعِ حَشَفَتِهِ. فَأَمَّا إذَا قَطَعَ الْيَدَ مِنْ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ، وَجَبَ فِي الْمَقْطُوعِ ثَانِيًا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ، فَوَجَبَتْ بِالثَّانِي حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَصَابِعَ ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ، أَوْ قَطَعَ حَشَفَةَ الذَّكَرِ ثُمَّ قَطَعَ بَقِيَّتَهُ، أَوْ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ اثْنَانِ (6941) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا فَأَشَلَّهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهَا، فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهَا، كَمَا لَوْ أَعْمَى عَيْنَهُ مَعَ بَقَائِهَا، أَوْ أَخْرَسَ لِسَانَهُ. وَإِنْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَعَوَجَهَا، أَوْ نَقَصَ قُوَّتَهَا، أَوْ شَانَهَا، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِنَقْصِهَا. وَإِنْ كَسَرَهَا ثُمَّ انْجَبَرَتْ مُسْتَقِيمَةً، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ لِشَيْنِهَا إنْ شَانَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ عَادَتْ مُعْوَجَّةً، فَالْحُكُومَةُ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ. وَإِنْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أَكْسِرُهَا ثُمَّ أَجْبُرُهَا مُسْتَقِيمَةً. لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ. فَإِنْ كَسَرَهَا تَعَدِّيًا ثُمَّ جَبَرَهَا فَاسْتَقَامَتْ، لَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْ الْحُكُومَةِ فِي اعْوِجَاجِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ حِينَ انْجَبَرَتْ عَوْجَاءَ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ، وَالْجَبْرُ الثَّانِي لَهَا دُونَ الْأُولَى، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا ذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ ثُمَّ عَادَ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الضَّوْءَ لَمْ يَذْهَبْ، وَإِنَّمَا حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ، وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِي الْكَسْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ ضَرَرَ الْعِوَجِ مِنْهَا، فَكَانَ نَفْعًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بِقَطْعِ سِلْعَةٍ أَزَالَهَا عَنْهُ. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ كَفَّانِ فِي ذِرَاع أَوْ يَدَانِ عَلَى عَضُد وَإِحْدَاهُمَا بَاطِشَة دُون الْأُخْرَى] (6942) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ كَفَّانِ فِي ذِرَاعٍ، أَوْ يَدَانِ عَلَى عَضُدٍ، وَإِحْدَاهُمَا بَاطِشَةٌ دُونَ الْأُخْرَى، أَوْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرُ بَطْشًا، أَوْ فِي سَمْتِ الذِّرَاعِ وَالْأُخْرَى مُنْحَرِفَةٌ عَنْهُ، أَوْ إحْدَاهُمَا تَامَّةٌ وَالْأُخْرَى نَاقِصَةٌ، فَالْأُولَى هِيَ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ، فَفِي الْأَصْلِيَّةِ دِيَتُهَا وَالْقِصَاصُ بِقَطْعِهَا عَمْدًا، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ فِيهَا حُكُومَةٌ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا مُفْرَدَةً أَوْ قَطَعَهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، لَا شَيْءَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا عَيْبٌ، فَهِيَ كَالسِّلْعَةِ فِي الْيَدِ. وَإِنْ اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ بَاطِشَتَيْنِ، فَفِيهِمَا ثُلُثُ دِيَةِ الْيَدِ أَوْ حُكُومَةٌ، وَلَا تَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُمَا لَا نَفْعَ لَهُ فِيهِمَا، فَهُمَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَإِنْ كَانَتَا بَاطِشَتَيْنِ، فَفِيهِمَا جَمِيعًا دِيَةُ الْيَدِ. وَهَلْ تَجِبُ حُكُومَةٌ مَعَ ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّائِدَةَ هَلْ فِيهَا حُكُومَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا، فَلَا قَوَدَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّائِدَةَ، فَلَا تُقْطَعَ الْأَصْلِيَّةُ بِهَا، وَفِيهَا نِصْفُ مَا فِيهِمَا إذَا قُطِعَتَا لِتَسَاوِيهِمَا. وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا مِنْ إحْدَاهُمَا، وَجَبَ أَرْشُ نِصْفِ إصْبَعٍ، وَفِي الْحُكُومَةِ وَجْهَانِ. وَإِنْ قَطَعَ ذُو الْيَدِ الَّتِي لَهَا طَرَفَانِ يَدًا مُفْرَدَةً، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، كَالسِّلْعَةِ فِي الْيَدِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ: لَا يَجِبُ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَ يَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا تُقْطَعُ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 الْأَصْلِيَّةَ فَنَأْخُذَهَا، وَلَا نَأْخُذُ زَائِدَةً بِأَصْلِيَّةٍ. فَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ قَدَمَانِ فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَدَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ أَطْوَلَ مِنْ الْأُخْرَى، وَكَانَ الطَّوِيلُ مُسَاوِيًا لِلرِّجْلِ الْأُخْرَى، فَهُوَ الْأَصْلِيُّ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَنْهَا، وَالْآخَرُ مُسَاوٍ لِلرِّجْلِ الْأُخْرَى، فَهُوَ الْأَصْلِيُّ. وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ رِجْلٍ قَدَمَانِ، يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَى الطَّوِيلَتَيْنِ مَشْيًا مُسْتَقِيمًا، فَهُمَا الْأَصْلِيَّانِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَقُطِعَا، وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ عَلَى الْقَصِيرَتَيْنِ، فَهُمَا الْأَصْلِيَّانِ، وَالْآخَرَانِ زَائِدَانِ. وَإِنْ أَشَلَّ الطَّوِيلَتَيْنِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا الْأَصْلِيَّانِ، فَإِنْ قَطَعَهُمَا قَاطِعٌ، فَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ عَلَى الْقَصِيرَتَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا الْأَصْلِيَّانِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَالطَّوِيلَانِ هُمَا الْأَصْلِيَّانِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة ثَدْيِ الرَّجُل وَالْمَرْأَة] (6943) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ) أَمَّا ثَدْيَا الْمَرْأَةِ، فَفِيهِمَا دِيَتُهُمَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا ذَلِكَ عَنْهُ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِمَا، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ. وَفِي قَطْعِ حَلَمَتَيْ الثَّدْيَيْنِ دِيَتُهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَرَوَى نَحْوَ هَذَا الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ: إنْ ذَهَبَ اللَّبَنُ، وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا، وَإِلَّا وَجَبَتْ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ شَيْنِهِ. وَنَحْوَهُ قَالَ قَتَادَةُ: إذَا ذَهَبَ الرَّضَاعُ بِقَطْعِهِمَا، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْهُمَا مَا تَذْهَبُ الْمَنْفَعَةُ بِذَهَابِهِ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهُمَا، كَالْأَصَابِعِ مَعَ الْكَفِّ، وَحَشَفَةِ الذَّكَرِ، وَبَيَانُ ذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ أَنَّ بِهِمَا يَشْرَبُ الصَّبِيُّ وَيَرْتَضِعُ فَهُمَا كَالْأَصَابِعِ فِي الْكَفِّ. وَإِنْ قَطَعَ الثَّدْيَيْنِ كُلَّهُمَا، فَلَيْسَ فِيهِمَا إلَّا دِيَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ كُلَّهُ. وَإِنْ حَصَلَ مَعَ قَطْعِهِمَا جَائِفَةٌ، وَجَبَ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ مَعَ دِيَتِهِمَا. وَإِنْ حَصَلَ جَائِفَتَانِ، وَجَبَتْ دِيَةٌ وَثُلُثَانِ. وَإِنْ ضَرَبَهُمَا فَأَشَلَّهُمَا، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا، فَأَذْهَبَ لَبَنَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُلَّهُمَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: فِيهِمَا حُكُومَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ دِيَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِنَفْعِهِمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَشَلَّهُمَا؛ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا مِنْ صَغِيرَةٍ ثُمَّ وَلَدَتْ، فَلَمْ يَنْزِلْ لَهَا لَبَنٌ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْجِنَايَةَ سَبَبُ قَطْعِ اللَّبَنِ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَى مَنْ ذَهَبَ بِاللَّبَنِ بَعْدَ وُجُودِهِ. وَإِنْ قَالُوا: يَنْقَطِعُ بِغَيْرِ الْجِنَايَةِ. لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَرْشُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ بِالشَّكِّ. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا، فَنَقَصَ لَبَنُهُمَا، أَوْ جَنَى عَلَى ثَدْيَيْنِ نَاهِدَيْنِ فَكَسَرَهُمَا، أَوْ صَارَ بِهِمَا مَرَضٌ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِنَقْصِهِ الَّذِي نَقَصَهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 (6944) فَصْلٌ: فَأَمَّا ثَدْيَا الرَّجُلِ، وَهُمَا الثُّنْدُوَتَانِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَحُكِيَ ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: فِيهِمَا حُكُومَةٌ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْجَمَالِ مِنْ غَيْر مَنْفَعَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ وَالْيَدَ الشَّلَّاءَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: فِيهِ ثُمُنُ الدِّيَةِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَجَبَ فِيهِ مِنْ الرَّجُلِ، كَالْيَدَيْنِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِي الْبَدَنِ، يَحْصُلُ بِهِمَا الْجَمَالُ، لَيْسَ فِي الْبَدَنِ غَيْرُهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا، فَوَجَبَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَالشُّعُورِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَأُذُنَيْ الْأَصَمِّ وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَيُفَارِقُ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَمَالٌ كَامِلٌ، وَلِأَنَّهَا عُضْوٌ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ، كَالْيَدَيْنِ إذَا شَلَّتَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الْأَلْيَتَيْنِ] (6945) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْأَلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْم يَقُولُونَ: فِي الْأَلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا. مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مِنْ جِنْسٍ، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ، وَمَنْفَعَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنَّهُ يُجْلَسُ عَلَيْهِمَا كَالْوِسَادَتَيْنِ، فَوَجَبَ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ. وَالْأَلْيَتَانِ: هُمَا مَا عَلَا وَأَشْرَفَ مِنْ الظَّهْرِ عَنْ اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ. وَفِيهِمَا الدِّيَةُ إذَا أُخِذَتَا إلَى الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَهُمَا، وَفِي ذَهَابِ بَعْضِهِمَا بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِ، وَجَبَ فِي بَعْضِهِ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ جُهِلَ الْمِقْدَارُ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يُعْرَفْ قَدْرُهُ. [فَصْلٌ دِيَة الصُّلْب إذَا كَسِرِّ فَلَمْ يَنْجَبِر] (6946) فَصْلٌ: وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ إذَا كُسِرَ فَلَمْ يَنْجَبِرْ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ» . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ دِيَةٌ؛ إلَّا أَنْ يُذْهِبَ مَشْيَهُ أَوْ جِمَاعَهُ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَمْ تَذْهَبْ مَنْفَعَتُهُ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَلَنَا، الْخَبَرُ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، فِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِ بِمُفْرَدِهِ، كَالْأَنْفِ. وَإِنْ ذَهَبَ مَشْيُهُ بِكَسْرِ صُلْبِهِ، فَفِيهِ، الدِّيَةُ فِي قَوْلِ الْجَمِيع. وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تَلْزَمُ كَسْرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 الصُّلْبِ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مَشْيُهُ، لَكِنْ ذَهَبَ جِمَاعُهُ، فَفِيهِ الدِّيَةُ أَيْضًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَقْصُودٌ، فَأَشْبَهَ ذَهَابَ مَشْيِهِ. وَإِنْ ذَهَبَ جِمَاعُهُ وَمَشْيُهُ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رِوَايَة ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ بِذَهَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا وَجَبَتْ دِيَتَانِ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا نَفْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَذَهَبَ كَلَامُهُ وَذَوْقُهُ. وَإِنْ جَبَرَ صُلْبُهُ، فَعَادَتْ إحْدَى الْمَنْفَعَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، لَمْ يَجِبْ إلَّا دِيَةٌ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأُخْرَى، فَتَجِبَ حُكُومَةٌ لِنَقْصِهَا، أَوْ تَنْقُصَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَيَكُونَ فِيهِ حُكُومَةٌ لِذَلِكَ. وَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ جِمَاعِهِ، وَقَالَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ: إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجِنَايَةِ يَذْهَبُ بِالْجِمَاعِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. وَإِنْ كَسَرَ صُلْبَهُ، فَشَلَّ ذَكَرُهُ، اقْتَضَى كَلَامُ أَحْمَدَ، وُجُوبَ دِيَتَيْنِ؛ لِكَسْرِ الصُّلْبِ وَاحِدَةٌ وَلِلذَّكَرِ أُخْرَى. وَفِي قَوْلِ الْقَاضِي، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، يَجِبُ فِي الذَّكَرِ دِيَةٌ، وَحُكُومَةٌ لِكَسْرِ الصُّلْبِ. وَإِنْ أَشَلَّ رِجْلَيْهِ، فَفِيهِمَا دِيَةٌ أَيْضًا. وَإِنْ أَذْهَبَ مَاءَهُ دُونَ جِمَاعِهِ، احْتَمَلَ وُجُوبَ الدِّيَةِ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِجِمَاعِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رَضَّهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِالْمَنْفَعَةِ كُلِّهَا. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الذَّكَر] (6947) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ. «وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ فِيهِ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ، فَكَمَلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ، كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ، وَفِي شَلَلِهِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِنَفْعِهِ وَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَشَلَّ لِسَانَهُ. وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ. فَأَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْ جِمَاعِهِ. وَهُوَ عُضْوٌ سَلِيمٌ فِي نَفْسِهِ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهُ، كَذَكَرِ الشَّيْخِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لِذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ؛ لَا تَكْمُلُ دِيَتُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ قَتَادَةَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ الْإِنْزَالُ وَالْإِحْبَالُ وَالْجِمَاعُ، وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَالِ الْكَمَالِ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ كَالْأَشَلِّ، وَبِهَذَا فَارَقَ ذَكَرَ الصَّبِيِّ وَالشَّيْخِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ، فَعَنْهُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ بَاقٍ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا تَجِبُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَحْصِيلُ النَّسْلِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ، كَالْأَشَلِّ، وَالْجِمَاعُ يَذْهَبُ فِي الْغَالِبِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَهَائِمَ يَذْهَبُ جِمَاعُهَا بِخِصَائِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَكَرِ الْعِنِّينِ، وَذَكَرِ الْخَصِيِّ، أَنَّ الْجِمَاعَ فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ أَبْعَدُ مِنْهُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ، وَالْيَأْسُ مِنْ الْإِنْزَالِ مُتَحَقِّقٌ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ دُونَ ذَكَرِ الْعِنِّينِ. فَعَلَى قَوْلِنَا: لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ؛ إنْ قَطَعَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ، ثُمَّ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ، لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ، وَإِنْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ قَطَعَ الذَّكَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرُ خَصِيٍّ. قَالَ الْقَاضِي: وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ الذَّكَرِ بِالطُّولِ، فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَالْأَوْلَى أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ كَامِلَةً لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِمَنْفَعَةِ الْجِمَاعِ بِهِ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهُ، كَمَا لَوْ أَشَلَّهُ أَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَذَهَبَ جِمَاعُهُ. وَإِنْ قَطَعَ قِطْعَةً مِنْهُ مِمَّا دُونَ الْحَشَفَةِ، وَكَانَ الْبَوْلُ يَخْرُجُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ وَجَبَ بِقَدْرِ الْقِطْعَة مِنْ جَمِيعِ الذَّكَرِ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَجَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ حِصَّةِ الْقِطْعَةِ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ الْحُكُومَةِ. وَإِنْ ثَقَبَ ذَكَرَهُ فِيمَا دُونَ الْحَشَفَةِ، فَصَارَ الْبَوْلُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّقْبِ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِذَلِكَ. [مَسْأَلَة دِيَة الْأُنْثَيَيْنِ] (6948) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّ فِيهِمَا الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهِمَا، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَالْيَدَيْنِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ. وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ فِي الْيُسْرَى ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثَهَا؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْيُسْرَى أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهَا. وَلَنَا، أَنَّ مَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي شَيْئَيْنِ مِنْهُ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّهُمَا ذَوَا عَدَدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، فَاسْتَوَتْ دِيَتُهُمَا، كَالْأَصَابِعِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالْأَصَابِعِ وَالْأَجْفَانِ، تَسْتَوِي دِيَاتُهَا مَعَ اخْتِلَافِ نَفْعِهَا، ثُمَّ يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَهُ. وَإِنْ رَضَّ أُنْثَيَيْهِ، أَوْ أَشَلَّهُمَا، كَمَلَتْ دِيَتُهُمَا، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ. وَإِنْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ، فَذَهَبَ نَسْلُهُ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعُهُمَا، فَلَمْ تَزْدَدْ الدِّيَةُ بِذَهَابِهِ مَعَهُمَا، كَالْبَصَرِ مَعَ ذَهَابِ الْعَيْنَيْنِ، وَالْبَطْشِ مَعَ ذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ. وَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا، فَذَهَبَ النَّسْلُ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْف الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 [مَسْأَلَةٌ دِيَة الرِّجْلَيْنِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفَهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ وَالْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ. وَفِي تَفْصِيلِهَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْيَدَيْنِ، سَوَاءً، وَمَفْصِلُ الْكَعْبَيْنِ هَاهُنَا مِثْلُ مَفْصِلِ الْكُوعَيْنِ فِي الْيَدَيْنِ. [فَصْل دِيَة قَدِمَ الْأَعْرَج وَيَد الْأَعْسَم] (6950) فَصْلٌ: وَفِي قَدَمِ الْأَعْرَجِ وَيَدِ الْأَعْسَمِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْعَرَجَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْقَدَمِ، وَالْعَسَمُ: الِاعْوِجَاجُ فِي الرُّسْغِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عَيْبًا فِي قَدَمٍ وَلَا كَفٍّ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ كَمَالَ الدِّيَةِ فِيهِمَا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ مَنْفَعَتُهُمَا، فَلَمْ تَنْقُصْ دِيَتُهُمَا، بِخِلَافِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ] (6951) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا ثُلُثُ عَقْلِهَا، إلَّا الْإِبْهَامَ، فَإِنَّهَا مَفْصِلَانِ، فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْم؛ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَعُرْوَةُ وَمَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. إلَّا رِوَايَةً عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْإِبْهَامِ بِثُلُثِ غُرَّةٍ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرٍ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِتِسْعٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِآلِ حَزْمٍ: «وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» . أَخَذَ بِهِ وَتَرَكَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فِي الْإِبْهَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا عَشْرٌ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا ثَمَانٍ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا سَبْعٌ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ لِكُلِّ إصْبَعٍ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذِهِ وَهَذِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 سَوَاءٌ» . يَعْنِي الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ ذُو عَدَدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، فَكَانَ سَوَاءً فِي الدِّيَةِ، كَالْأَسْنَانِ، وَالْأَجْفَانِ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَدِيَةُ كُلِّ إصْبَعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا، وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ ثَلَاثُ أَنَامِلَ إلَّا الْإِبْهَامَ، فَإِنَّهَا أُنْمُلَتَانِ، فَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ غَيْرِ الْإِبْهَامِ ثُلُثُ عَقْلِ الْإِبْهَامِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ الْإِبْهَامِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، نِصْفُ دِيَتِهَا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْإِبْهَامُ أَيْضًا ثَلَاثُ أَنَامِلَ، إحْدَاهَا بَاطِنَةٌ. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحِ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالظَّاهِرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي كُلِّ إصْبَعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» . يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَشْرِ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْإِصْبَعُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الِاسْمُ دُونَ مَا بَطَنَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ السِّنَّ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ دِيَتِهَا هِيَ الظَّاهِرَةُ مِنْ لَحْمِ اللِّثَةِ دُونَ سِنْخِهَا. وَالْحُكْمُ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِيهِمَا، وَحُصُولِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِمَا. [فَصْلٌ دِيَة الْإِصْبَع الزَّائِدَة] (6952) فَصْلٌ: وَفِي الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ الْإِصْبَعِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، عَلَى رِوَايَةِ إيجَابِ الثُّلُثِ فِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، أَوْ بِمُمَاثَلَتِهِ لِمَا فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّ الْيَدَ الشَّلَّاءَ يَحْصُلُ بِهَا الْجَمَالُ، وَالْإِصْبَعُ الزَّائِدَةُ لَا جَمَالَ فِيهَا فِي الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ جَمَالَ الْيَدِ الشَّلَّاءِ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ، وَالْإِصْبَعُ الزَّائِدَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهَا وَصِفَتِهَا وَحُسْنِهَا وَقُبْحِهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْيَدِ؟ ،. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الْبَطْنِ إذَا ضَرَبَ فَلَمْ يَسْتَمْسِك الْغَائِط] (6953) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْبَطْنِ إذَا ضُرِبَ فَلَمْ يَسْتَمْسِكْ الْغَائِطُ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَثَانَةِ إذَا لَمْ يَسْتَمْسِكْ الْبَوْلُ الدِّيَةُ) وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَلَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي مُوسَى ذَكَرَ فِي الْمَثَانَةِ رِوَايَةً أُخْرَى، فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَحَلَّيْنِ عُضْوٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَبِيرَةٌ، لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، فَوَجَبَ فِي تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ نَفْعَ الْمَثَانَةِ حَبْسُ الْبَوْلِ، وَحَبْسُ الْبَطْنِ الْغَائِطَ مَنْفَعَةٌ مِثْلُهَا، وَالنَّفْعُ بِهِمَا كَثِيرٌ، وَالضَّرَرُ بِفَوَاتِهِمَا عَظِيمٌ، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الدِّيَةُ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَإِنْ فَاتَتْ الْمَنْفَعَتَانِ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَبَ عَلَى الْجَانِي دِيَتَانِ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 [مَسْأَلَة دِيَة ذَهَاب الْعَقْلِ] (6954) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي ذَهَابِ الْعَقْلِ الدِّيَةُ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ. «وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْمَعَانِي قَدْرًا، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ نَفْعًا. فَإِنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْبَهِيمَةِ، وَيَعْرِفُ بِهِ حَقَائِقَ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَهْتَدِي إلَى مَصَالِحِهِ، وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ، وَصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ، وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، فَكَانَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَحَقَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ، فَإِنْ نَقَصَ عَقْلُهُ نَقْصًا مَعْلُومًا، مِثْلُ أَنْ صَارَ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا، فَعَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ، وَجَبَ بَعْضُهَا فِي بَعْضِهِ بِقَدْرِهِ، كَالْأَصَابِعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، مِثْلُ أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا، أَوْ يَفْزَعُ مِمَّا لَا يُفْزَعُ مِنْهُ، وَيَسْتَوْحِشُ إذَا خَلَا، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ. [فَصْلٌ أَذْهَب عَقْله بِجِنَايَةٍ لَا تُوجِبُ أَرَشًّا] (6955) فَصْلٌ: فَإِنْ أَذْهَبَ عَقْلَهُ بِجِنَايَةٍ لَا تُوجِبُ أَرْشًا، كَاللَّطْمَةِ، وَالتَّخْوِيفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِيهِ الدِّيَةُ لَا غَيْرُ. وَإِنْ أَذْهَبَهُ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ أَرْشًا، كَالْجِرَاحِ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَأَرْشُ الْجُرْحِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَدْخُلُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا فِي الْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَتْ الدِّيَةُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ الْجُرْحِ، وَجَبَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجُرْحِ أَكْثَرَ، كَأَنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْجُرْحِ، وَدَخَلَتْ دِيَةُ الْعَقْلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْعَقْلِ تَخْتَلُّ مَعَهُ مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ، فَدَخَلَ أَرْشُهَا فِيهِ، كَالْمَوْتِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ أَذْهَبَتْ مَنْفَعَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلْ الْأَرْشَانِ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَوْ سَمْعُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى أُذُنِهِ أَوْ أَنْفِهِ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ شَمُّهُ، لَمْ يَدْخُلْ أَرْشُهُمَا فِي دِيَةِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ، مَعَ قُرْبِهِمَا مِنْهُمَا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَرْشُ الْجُرْحِ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ، لَمْ يَجِبْ أَرْشُهُ إذَا زَادَ عَلَى دِيَةِ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ دِيَةَ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا مَعَ الْقَتْلِ لَا يَجِبُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّ مَنَافِعَ الْأَعْضَاءِ تَبْطُلُ بِذَهَابِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ تُضْمَنُ مَنَافِعُهُ وَأَعْضَاؤُهُ بَعْدَ ذَهَابِ عَقْلِهِ بِمَا تُضْمَنُ بِهِ مَنَافِعُ الصَّحِيحِ وَأَعْضَاؤُهُ، وَلَوْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ وَأَعْضَاؤُهُ، لَمْ تُضْمَنْ، كَمَا لَا تُضْمَنُ مَنَافِعُ الْمَيِّتِ وَأَعْضَاؤُهُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ تُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، جَازَ ضَمَانُهَا مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِجِرَاحَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 [فَصْلٌ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ عَقْله وَسَمِعَهُ وَبَصَره وَكَلَامه] (6956) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ، فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَكَلَامَهُ، وَجَبَ أَرْبَعُ دِيَاتٍ مَعَ أَرْشِ الْجُرْحِ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: رَمَى رَجُلٌ رَجُلًا بِحَجَرٍ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَبَصَرُهُ وَسَمْعُهُ وَلِسَانُهُ، فَقَضَى فِيهِ عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَهُوَ حَيٌّ. وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ مَنَافِعَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِيَةٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَاتُهَا، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهَا بِجِنَايَاتٍ. فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ، لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ دِيَاتِ الْمَنَافِعِ كُلَّهَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، كَدِيَاتِ الْأَعْضَاءِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة صَعَّرَ الْوَجْه] (6957) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الصَّعَرِ الدِّيَةُ، وَالصَّعَرُ: أَنْ يَضْرِبَهُ، فَيَصِيرَ وَجْهُهُ فِي جَانِبٍ) أَصْلُ الصَّعَرِ، دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ فِي عُنُقِهِ، فَيَلْتَوِي عُنُقُهُ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] . أَيْ: لَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ بِوَجْهِك تَكَبُّرًا، كَإِمَالَةِ وَجْهِ الْبَعِيرِ الَّذِي بِهِ الصَّعَرُ، فَمَنْ جَنَى عَلَى إنْسَانٍ جِنَايَةً، فَعَوِجَ عُنُقَهُ، حَتَّى صَارَ وَجْهُهُ فِي جَانِبٍ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذْهَابُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ. وَلَنَا مَا رَوَى مَكْحُولٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَالَ: وَفِي الصَّعَرِ الدِّيَةُ. وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهِ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ أَمَامَهُ، وَاتِّقَاءِ مَا يَحْذَرُهُ إذَا مَشَى، وَإِذَا نَابَهُ أَمْرٌ، أَوْ دَهَمَهُ عَدُوٌّ، لَمْ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَا اتِّقَاؤُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ لَيُّ عُنُقِهِ لِيَعْرِفَ مَا يُرِيدُ نَظَرَهُ، وَيَتَعَرَّفَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرّهُ. [فَصْلٌ جَنَى عَلَيْهِ فَصَارَ الِالْتِفَات عَلَيْهِ شَاقًّا أَوْ ابْتِلَاع الْمَاء أَوْ غَيْره] (6958) فَصْلٌ: فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ، فَصَارَ الِالْتِفَاتُ عَلَيْهِ شَاقًّا، أَوْ ابْتِلَاعُ الْمَاءِ، أَوْ غَيْرُهُ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِالْمَنْفَعَةِ كُلِّهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا. وَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ ازْدِرَادُ رِيقِهِ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يَبْقَى، فَإِنْ بَقِيَ مَعَ ذَلِكَ، فَفِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ لَيْسَ لَهَا مِثْلٌ فِي الْبَدَنِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الْيَد الشَّلَّاء] (6959) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ، وَالسِّنُّ السَّوْدَاءُ) الْيَدُ الشَّلَّاء: الَّتِي ذَهَبَ مِنْهَا مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ. وَالْعَيْنُ الْقَائِمَةُ: الَّتِي ذَهَبَ بَصَرُهَا وَصُورَتُهَا بَاقِيَةٌ كَصُورَةِ الصَّحِيحَةِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ، فَعَنْهُ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ ثُلُثُ دِيَتِهَا. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُجَاهِدٍ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ مِائَةُ دِينَارٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكُومَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالنُّعْمَانِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ دِيَةٍ كَامِلَةٍ، لِكَوْنِهَا قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَلَا مُقَدَّرَ فِيهَا، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيهَا، كَالْيَدِ الزَّائِدَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ إذَا قُطِعَتْ ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إذَا قُلِعَتْ ثُلُثُ دِيَتِهَا.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْعَيْنِ وَحْدَهَا مُخْتَصَرًا. وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمُرَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخِطَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ إذَا خَسَفَتْ، وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ إذَا قُطِعَتْ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ إذَا كُسِرَتْ، ثُلُثَ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَلِأَنَّهَا كَامِلَةُ الصُّورَةِ، فَكَانَ فِيهَا مُقَدَّرٌ كَالصَّحِيحَةِ، وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ إيجَابُ مُقَدَّرٍ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا التَّقْدِيرَ وَبَيَّنَّاهُ. (6960) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ، ثُلُثُ دِيَتِهَا. مَحْمُولٌ عَلَى سِنٍّ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعَضَّ بِهَا الْأَشْيَاءَ، أَوْ كَانَتْ تَفَتَّتَتْ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا بَاقِيَةً، وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا إلَّا لَوْنُهَا، فَفِيهَا كَمَالُ دِيَتِهَا، سَوَاءٌ قَلَّتْ مَنْفَعَتُهَا، بِأَنْ عَجَزَ عَنْ عَضِّ الْأَشْيَاءِ الصُّلْبَةِ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْجِزْ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةُ الْمَنْفَعَةِ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَوَّدَهَا إلَّا حُكُومَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ كَلَامِهِ؛ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ، وَقَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ ذَهَبَ جَمَالُهَا بِتَسْوِيدِهَا، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا عَلَى مَنْ سَوَّدَهَا، كَمَا لَوْ سَوَّدَ وَجْهَهُ. وَلَمْ يَجِبْ عَلَى مُتْلِفِهَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَتِهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَكَالسِّنِّ إذَا كَانَتْ بَيْضَاءَ فَانْقَلَعَتْ، وَنَبَتَ مَكَانَهَا سَوْدَاءُ، لِمَرَضٍ فِيهَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ وَأَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ، سَلَّمُوا أَنَّهَا لَا تَكْمُلُ دِيَتُهَا. [فَصْلٌ نَبَتَتْ أَسْنَان صَبِيّ سَوْدَاء ثُمَّ ثُغِرَ ثُمَّ عَادَتْ سَوْدَاء] (6961) فَصْلٌ: فَإِنْ نَبَتَتْ أَسْنَانُ صَبِيٍّ سَوْدَاءَ ثُمَّ ثُغِرَ ثُمَّ عَادَتْ سَوْدَاءَ، فَدِيَتُهَا تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا جِنْسٌ خُلِقَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَأَشْبَهَ مَنْ خُلِقَ أَسْوَدَ الْجِسْمِ وَالْوَجْهِ جَمِيعًا. وَإِنْ نَبَتَتْ أَوَّلًا بَيْضَاءَ، ثُمَّ ثُغِرَ، ثُمَّ عَادَتْ سَوْدَاءَ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ السَّوَادُ لِعِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ، فَفِيهَا أَيْضًا كَمَالُ دِيَتِهَا، وَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ لِمَرَضٍ فِيهَا. فَعَلَى قَالِعِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، أَوْ حُكُومَةٌ. وَقَدْ سَلَّمَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَتْ سَوْدَاءَ مِنْ ابْتِدَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 الْخِلْقَةِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ فِي فِيهِ مِنْ ابْتِدَاءِ خِلْقَتِهِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي بَعْضِ دِيَتِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ طَارِئًا. [فَصْلٌ دِيَة لِسَانِ الْأَخْرَس] فَصْل: وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ، وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ، كَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ، وَالْإِصْبَعِ وَالذَّكَرِ إذَا كَانَ أَشَلَّ، وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ إذَا قُلْنَا: لَا تَكْمُلُ دِيَتُهُمَا. وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَكُلُّهُ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا؛ فِيهِ ثُلُثُ دِيَتِهِ. وَالْأُخْرَى، حُكُومَةٌ. [فَصْلٌ دِيَة الْيَدِ أَوْ الرَّجُل أَوْ الْإِصْبَعِ أَوْ السِّنِّ الزَّوَائِدِ] (6963) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْيَدُ أَوْ الرِّجْلُ أَوْ الْإِصْبَعُ أَوْ السِّنُّ الزَّوَائِدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا فِي مَعْنَى الْيَدِ الشَّلَّاءِ، فَتَكُونُ عَلَى قِيَاسِهَا، يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي هَذَا، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمُقَدَّرِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَ جَمَالُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لَا جَمَالَ فِيهَا، إنَّمَا هِيَ شَيْنٌ فِي الْخِلْقَةِ، وَعَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ، وَتَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْجَمَالُ؟ ثُمَّ لَوْ حَصَلَ بِهِ جَمَالٌ مَا، لَكِنَّهُ يُخَالِفُ جَمَالَ الْعُضْوِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ تَمَامُ الْخِلْقَةِ، وَيَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَوَجَبَتْ فِيهِ الْحُكُومَةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ دِيَة قَطَعَ الذَّكَرِ بَعْدَ حَشَفَته وَقَطَعَ الْكَفّ بَعْد أَصَابِعه] (6964) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ بَعْدَ حَشَفَتِهِ، وَقَطْعِ الْكَفِّ بَعْدَ أَصَابِعِهِ؛ فَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، فِيهِ ثُلُثُ دِيَتِهِ، وَكَذَلِكَ شَحْمَةُ الْأُذُنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حُكُومَةٌ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا، أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً؛ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ فِيهِ، وَامْتِنَاعِ قِيَاسِهِ عَلَى مَا فِيهِ تَقْدِيرٌ، لِأَنَّ الْأَشَلَّ بَقِيَتْ صُورَتُهُ، وَهَذَا لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ، إنَّمَا بَقِيَ بَعْضُ مَا فِيهِ الدِّيَةُ، أَوْ أَصْلُ مَا فِيهِ الدِّيَةُ. فَأَمَّا قَطْعُ الذِّرَاعِ بَعْدَ قَطْعِ الْكَفِّ، وَالسَّاقِ بَعْدَ قَطْعِ الْقَدَمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْحُكُومَةُ فِيهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ إيجَابَ ثُلُثِ دِيَةِ الْيَدِ فِيهِ، يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ وَذَهَابِهِمَا وَاحِدًا، مَعَ تَفَاوُتِهِمَا وَعَدَمِ النَّصِّ فِيهِمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 [مَسْأَلَةٌ دِيَة إسْكَتَيْ الْمَرْأَة] (6965) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي إسْكَتَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ) الْإِسْكَتَانِ: هُمَا اللَّحْمُ الْمُحِيطُ بِالْفَرْجِ مِنْ جَانِبَيْهِ، إحَاطَةَ الشَّفَتَيْنِ بِالْفَمِ. وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الشُّفْرَانِ حَاشِيَتَا الْإِسْكَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ أَشْفَارَ الْعَيْنِ أَهْدَابُهَا. وَفِيهِمَا دِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا قُطِعَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَهُ الثَّوْرِيُّ، إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى جِمَاعِهَا. وَقَضَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ إذَا بَلَغَ الْعَظْمَ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ غَيْرُهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا، فَوَجَبَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَسَائِرِ مَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِهِمَا. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَأَشَلَّهُمَا، وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى شَفَتَيْهِ فَأَشَلَّهُمَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا غَلِيظَتَيْنِ أَوْ دَقِيقَتَيْنِ، قَصِيرَتَيْنِ أَوْ طَوِيلَتَيْنِ، مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ، أَوْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، مَخْفُوضَةٍ أَوْ غَيْرِ مَخْفُوضَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا الدِّيَةُ، فَاسْتَوَى فِيهِمَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا، كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّتْقَاءِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الرَّتَقَ عَيْبٌ فِي غَيْرِهِمَا، فَلَمْ يَنْقُصْ دِيَتَهُمَا، كَمَا أَنَّ الصَّمَمَ لَمْ يَنْقُصْ دِيَةَ الْأُذُنَيْنِ. وَالْخَفْضُ: هُوَ الْخِتَانُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ. [فَصْل دِيَة رَكِّبْ الْمَرْأَة] (6966) فَصْلٌ: وَفِي رَكَبِ الْمَرْأَةِ حُكُومَةٌ، وَهُوَ عَانَةُ الْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ فِي عَانَةِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَدَّرَ فِيهِ، وَلَا هُوَ نَظِيرٌ لِمَا قُدِّرَ فِيهِ، فَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ مَعَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ أَوْ ذَكَرِ الرَّجُلِ، فَفِيهِ الْحُكُومَةُ مَعَ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ أُخِذَ مَعَ الْأَنْفِ وَالشَّفَتَيْنِ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي حَوْلَهُمَا. [مَسْأَلَةٌ دِيَة مُوضِحَة الْحَرّ] (6967) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَفِي مُوضِحَةِ الْحُرِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، وَالْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ، وَهِيَ الَّتِي تُبْرِزُ الْعَظْمَ) هَذِهِ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ أَوْ الْوَجْهِ، وَلَيْسَ فِي الشِّجَاجِ مَا فِيهِ قِصَاصٌ سِوَاهَا، وَلَا يَجِبُ الْمُقَدَّرُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْعَظْمِ، سُمِّيَتْ مُوضِحَةً؛ لِأَنَّهَا أَبْدَتْ وَضَحَ الْعَظْمِ، وَهُوَ بَيَاضُهُ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 فِي مُوضِحَةِ الْحُرِّ. يَحْتَرِزُ بِهِ مِنْ مُوضِحَةِ الْعَبْدِ. وَقَوْلُهُ: سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ. يَعْنِي أَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا زَادَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مُوضِحَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ مُوضِحَةِ الرَّجُلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ جِرَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جِرَاحِ الرَّجُلِ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعُمُومُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ هَاهُنَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ كِفَايَةٌ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: تُضَعَّفُ مُوضِحَةُ الْوَجْهِ عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ، فَيَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَمُوضِحَةُ الرَّأْسِ يَسْتُرُهَا الشَّعْرُ وَالْعِمَامَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَتْ فِي الْأَنْفِ أَوْ فِي اللَّحْيِ الْأَسْفَلِ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَبْعُدُ عَنْ الدِّمَاغِ، فَأَشْبَهَتْ مُوضِحَةَ سَائِرِ الْبَدَنِ. وَلَنَا عُمُومُ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ. وَلِأَنَّهَا مُوضِحَةٌ، فَكَانَ أَرْشُهَا خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، كَغَيْرِهَا مِمَّا سَلَّمُوهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الشَّيْنِ، بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لِمَالِكٍ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الصَّدْرِ أَكْثَرُ ضَرَرًا، وَأَقْرَبُ إلَى الْقَلْبِ، وَلَا مُقَدَّرَ فِيهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ قَالَ: مُوضِحَةُ الْوَجْهِ أَحْرَى أَنْ يُزَادَ فِي دِيَتِهَا. وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَكْثَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَوْلَى بِإِيجَابِ الدِّيَةِ، فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ مَعَ قِلَّةِ شَيْنِهَا وَاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ وَغِطَاءِ الرَّأْسِ، خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَلَأَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ، وَعُنْوَانُ الْجَمَالِ أَوْلَى. وَحَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْخَبَرَ وَالْأَثَرَ وَقَوْلَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَصِيرُهُ إلَى التَّقْدِيرِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ. (6968) فَصْلٌ: وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَالْبَارِزَةِ وَالْمَسْتُورَةِ بِالشَّعْرِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ. وَحَدُّ الْمُوضِحَةِ مَا أَفْضَى إلَى الْعَظْمِ، وَلَوْ بِقَدْرِ إبْرَةٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَالْقَاضِي. فَإِنْ شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً، بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ، وَبَعْضُهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ مُوضِحَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ الْجَمِيعَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشُ مُوضِحَةٍ، فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِي الْإِيضَاحِ فِي الْبَعْضِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوْ شَجَّهُ شَجَّةً بَعْضُهَا هَاشِمَةٌ، وَبَاقِيهَا دُونَهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ هَاشِمَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَقِّلَةً وَمَا دُونَهَا، أَوْ مَأْمُومَةً. وَمَا دُونَهَا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُنَقِّلَةٍ أَوْ مَأْمُومَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 (6969) فَصْلٌ: وَلَيْسَ فِي مُوضِحَةِ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مُقَدَّرٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ إمَامُنَا، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا يَكُونُ فِي الْبَدَنِ مُوضِحَةٌ. يَعْنِي لَيْسَ فِيهَا مُقَدَّرٌ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ إلَّا اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، قَالَ: الْمُوضِحَةُ تَكُونُ فِي الْجَسَدِ أَيْضًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي جِرَاحَةِ الْجَسَدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جِرَاحَةِ الرَّأْسِ. وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، قَالَ: فِي الْمُوضِحَةِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا. وَلَنَا، أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِرَاحَةِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، وَقَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ: الْمُوضِحَةُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَاقِيَ الْجَسَدِ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ الشَّيْنَ فِيمَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَكْثَرُ وَأَخْطَرُ مِمَّا فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ، ثُمَّ إيجَابُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجِبَ فِي مُوضِحَةِ الْعُضْوِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ، مِثْلُ أَنْ يُوضِحَ أُنْمُلَةً دِيَتُهَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، فَتَحَكُّمٌ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا قِيَاسَ يَقْتَضِيهِ، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهُ. [فَصْلٌ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسَهُ وَجَرّ السِّكِّين إلَى قَفَاهُ] (6970) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ، وَجَرَّ السِّكِّينَ إلَى قَفَاهُ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ، وَحُكُومَةٌ لِجُرْحِ الْقَفَا؛ لِأَنَّ الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْقِعٍ لِلْمُوضِحَةِ. وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ، وَمَدَّهَا إلَى وَجْهِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ سَوَاءٌ فِي الْمُوضِحَةِ، فَصَارَ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي؛ هُمَا مُوضِحَتَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي عُضْوَيْنِ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَنَزَلَ إلَى الْقَفَا. [فَصْلٌ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسَهُ مُوضِحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِز] (6971) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ مُوضِحَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مُوضِحَتَانِ. فَإِنْ أَزَالَ الْحَاجِزَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَجَبَ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْجَمِيعُ بِفِعْلِهِ مُوضِحَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْضَحَ الْكُلَّ مِنْ غَيْرِ حَاجِزٍ يَبْقَى بَيْنَهُمَا. وَإِنْ انْدَمَلَتَا، ثُمَّ أَزَالَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ ثَلَاثِ مَوَاضِحَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُولَيَيْنِ بِالِانْدِمَالِ، ثُمَّ لَزِمَتْهُ دِيَةُ الثَّالِثَةِ. وَإِنْ تَآكَلَ مَا بَيْنَهُمَا قَبْلَ انْدِمَالِهِمَا فَزَالَ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ. وَإِنْ انْدَمَلَتْ إحْدَاهُمَا وَزَالَ الْحَاجِزُ بِفِعْلِهِ، أَوْ سِرَايَةِ الْأُخْرَى، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ. وَإِنْ أَزَالَ الْحَاجِزَ أَجْنَبِيٌّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْشُ مُوضِحَةٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ أَزَالَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ لَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. فَإِنْ اخْتَلَفَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 فَقَالَ الْجَانِي: أَنَا شَقَقْت مَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ أَنَا. أَوْ: أَزَالَهَا آخَرُ سِوَاكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَرْشِ مُوضِحَتَيْنِ قَدْ وُجِدَ. وَالْجَانِي يَدَّعِي زَوَالَهُ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ. وَإِنْ أَوْضَحَ مُوضِحَتَيْنِ، ثُمَّ قَطَعَ اللَّحْمَ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ، وَتَرَكَ الْجِلْدَ الَّذِي فَوْقَهُمَا فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ؛ لِانْفِصَالِهِمَا فِي الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَرْشُ مُوضِحَةٍ؛ لِاتِّصَالِهِمَا فِي الْبَاطِنِ. وَإِنْ جَرَحَهُ جِرَاحًا وَاحِدَةً، وَأَوْضَحَهُ فِي طَرَفَيْهَا، وَبَاقِيهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَفِيهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِمُوضِحَةٍ. [مَسْأَلَةٌ الدِّيَة فِي الْهَاشِمَة] (6972) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ) الْهَاشِمَةُ: هِيَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْمُوضِحَةَ، فَتَهْشِمُ الْعَظْمَ، سُمِّيَتْ هَاشِمَةً؛ لَهَشْمِهَا الْعَظْمَ. وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا تَقْدِيرٌ، وَأَكْثَرُ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ بِعَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ. رَوَى ذَلِكَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَنَحْوَهُ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّهُمْ قَدَّرُوهَا بِعُشْرِ الدِّيَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يُوَقِّتُ فِيهَا شَيْئًا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الْهَاشِمَةَ، لَكِنْ فِي الْإِيضَاحِ خَمْسٌ، وَفِي الْهَشْمِ حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: النَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ؛ إذْ لَا سُنَّةَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْدِيرٌ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الْحُكُومَةُ، كَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ زَيْدٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ، وَلِأَنَّهُ لَمْ نَعْرِفْ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهَا شَجَّةٌ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ تَخْتَصُّ بِاسْمٍ، فَكَانَ فِيهَا مُقَدَّرٌ كَالْمَأْمُومَةِ. (6973) فَصْلٌ: وَالْهَاشِمَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ. وَإِنْ هَشَمَهُ هَاشِمَتَيْنِ. بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، فَفِيهِمَا عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَتَسْتَوِي الْهَاشِمَةُ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ. وَإِنْ شَجَّهُ شَجَّةً، بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ، وَبَعْضُهَا هَاشِمَةٌ، وَبَعْضهَا سِمْحَاقٌ، وَبَعْضُهَا مُتَلَاحِمَةٌ، وَجَبَ أَرْشُ الْهَاشِمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا هَاشِمَةً، أَجْزَأَ أَرْشُهَا، وَلَوْ انْفَرَدَ الْقَدْرُ الْمَهْشُومُ، وَجَبَ أَرْشُهَا، فَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ بِمَا إذَا زَادَ مِنْ الْأَرْشِ فِي غَيْرِهَا. وَإِنْ ضَرَبَ رَأْسَهُ، فَهَشَمَ الْعَظْمَ، وَلَمْ يُوضِحْهُ، لَمْ تَجِبْ دِيَةُ الْهَاشِمَةِ. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ الْمُقَدَّرَ وَجَبَ فِي هَاشِمَةٍ يَكُونُ مَعَهَا مُوضِحَةٌ، وَفِي الْوَاجِبِ فِيهَا وَجْهَانِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 أَحَدُهُمَا؛ فِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ وَكَسَرَ، لَوَجَبَتْ عَشْرٌ؛ خَمْسٌ فِي الْإِيضَاحِ، وَخَمْسٌ فِي الْكَسْرِ، فَإِذَا وُجِدَ الْكَسْرُ دُونَ الْإِيضَاحِ، وَجَبَ خَمْسٌ. وَالثَّانِي: تَجِبُ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَسْرُ عَظْمٍ لَا جُرْحَ مَعَهُ، فَأَشْبَهَ كَسْرَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ. (6974) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ، هَشَمَ الْعَظْمَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَاتَّصَلَ الْهَشْمُ فِي الْبَاطِنِ، فَهُمَا هَاشِمَتَانِ؛ لِأَنَّ الْهَشْمَ إنَّمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْإِيضَاحِ، فَإِذَا كَانَتَا مُوضِحَتَيْنِ، كَانَ الْهَشْمُ هَاشِمَتَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا، فَافْتَرَقَا. [مَسْأَلَةٌ الدِّيَة فِي الْمُنَقِّلَة] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ وَتَهْشِمُ وَتَسْطُو حَتَّى تَنْقُلَ عِظَامَهَا) الْمُنَقِّلَةُ: زَائِدَةٌ عَلَى الْهَاشِمَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعِظَامَ وَتُزِيلُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى نَقْلِ الْعَظْمِ لِيَلْتَئِمَ. وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ. بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ.» وَفِي تَفْصِيلِهَا مَا فِي تَفْصِيلِ الْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ، عَلَى مَا مَضَى. [مَسْأَلَة الدِّيَة فِي الْمَأْمُومَة] (6976) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ، وَفِي الْآمَّةِ مِثْلُ مَا فِي الْمَأْمُومَةِ) الْمَأْمُومَةُ وَالْآمَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ لَهَا: الْآمَّةُ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ: الْمَأْمُومَةُ. وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الْوَاصِلَةُ إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ؛ سُمِّيَتْ أُمَّ الدِّمَاغِ؛ لِأَنَّهَا تَحُوطُهُ وَتَجْمَعُهُ، فَإِذَا وَصَلَتْ الْجِرَاحَةُ إلَيْهَا سُمِّيَتْ آمَّةً وَمَأْمُومَةً. يُقَالُ: أَمَّ الرَّجُلَ آمَّةً وَمَأْمُومَةً، وَأَرْشُهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَكْحُولًا. فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ عَمْدًا. فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا ثُلُثُهَا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَلِأَنَّهَا شَجَّةٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَرْشُهَا بِالْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي الْمِقْدَارِ، كَسَائِرِ الشِّجَاجِ. (6977) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَقَ جِلْدَةَ الدِّمَاغِ، فَهِيَ الدَّامِغَةُ.، وَفِيهَا مَا فِي الْمَأْمُومَةِ. قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا الدَّامِغَةَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 لِمُسَاوَاتِهَا الْمَأْمُومَةَ فِي أَرْشِهَا، وَقِيلَ: فِيهَا مَعَ ذَلِكَ حُكُومَةٌ؛ لِخَرْقِ جِلْدَةِ الدِّمَاغِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا ذِكْرَهَا لِكَوْنِهَا لَا يَسْلَمُ صَاحِبُهَا فِي الْغَالِبِ. [فَصْل أَوْضَحَهُ رَجُل ثُمَّ هَشَمَهُ الثَّانِي ثُمَّ جَعَلَهَا الثَّالِثُ مُنَقِّلَة ثُمَّ جَعَلَهَا الرَّابِعُ مَأْمُومَة] (6978) فَصْل: فَإِنْ أَوْضَحَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ هَشَمَهُ الثَّانِي، ثُمَّ جَعَلَهَا الثَّالِثُ مُنَقِّلَةً، ثُمَّ جَعَلَهَا الرَّابِعُ مَأْمُومَةً، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتِهِ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسٌ تَمَامُ أَرْشِ الْهَاشِمَةِ، وَعَلَى الثَّالِثِ خَمْسٌ، تَمَامُ أَرْشِ الْمُنَقِّلَةِ، وَعَلَى الرَّابِعِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، تَمَامُ أَرْشُ الْمَأْمُومَةِ. [مَسْأَلَةٌ الدِّيَة فِي الْجَائِفَة] (6979) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ) وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا مَكْحُولًا، قَالَ فِيهَا: فِي الْعَمْدِ ثُلُثَا الدِّيَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهَا جِرَاحَةٌ فِيهَا مُقَدَّرٌ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَدْرُ أَرْشِهَا بِالْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، كَالْمُوضِحَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي جِرَاحِ الْبَدَنِ الْخَالِيَةِ عَنْ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ مُقَدَّرًا غَيْرَ الْجَائِفَةِ، وَالْجَائِفَةُ: مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ، أَوْ ظَهْرٍ، أَوْ صَدْرٍ، أَوْ ثُغْرَةِ نَحْرٍ، أَوْ وَرِكٍ، أَوْ غَيْرِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَنَّ مَالِكًا، وَأَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيَّ، وَالْبَتِّيَّ، وَأَصْحَابَهُمْ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَائِفَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْجَوْفِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْجَائِفَةُ مَا أَفْضَى إلَى الْجَوْفِ وَلَوْ بِمَغْرِزِ إبْرَةٍ، فَأَمَّا إنْ خَرَقَ شِدْقَهُ. فَوَصَلَ إلَى بَاطِنِ الْفَمِ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ حُكْمُهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، لَا حُكْمُ الْبَاطِنِ. وَإِنْ طَعَنَهُ فِي وَجْنَتِهِ، فَكَسَرَ الْعَظْمَ. وَوَصَلَ إلَى فِيهِ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: هُوَ جَائِفَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفٍ. وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا خَرَقَ شِدْقَهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ دِيَةُ هَاشِمَةٍ، لِكَسْرِ الْعَظْمِ، وَفِيمَا زَادَ حُكُومَةٌ. وَإِنْ جَرَحَهُ فِي أَنْفِهِ فَأَنْفَذَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ فِي وَجْنَتِهِ فَأَنْقَذَهُ إلَى فِيهِ، فِي الْحُكْمِ وَالْخِلَافِ. وَإِنْ جَرَحَهُ فِي ذَكَرِهِ، فَوَصَلَ إلَى مَجْرَى الْبَوْلِ مِنْ الذَّكَرِ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْفٍ يُخَافُ التَّلَفُ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ أُجَافِهِ جَائِفَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِز] (6980) فَصْلٌ: وَإِنْ أَجَافَهُ جَائِفَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ. وَإِنْ خَرَقَ الْجَانِي مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ ذَهَبَ بِالسِّرَايَةِ، صَارَ جَائِفَةً وَاحِدَةً، فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ. وَإِنْ خَرَقَ مَا بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيٌّ، أَوْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَعَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 الْأَجْنَبِيِّ الثَّانِي ثُلُثُهَا، وَيَسْقُطُ مَا قَابَلَ فِعْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى خَرْقِ مَا بَيْنَهُمَا لِلْمُدَاوَاةِ، فَخَرَقَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ، أَوْ خَرَقَهَا وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، أَوْ الطَّبِيبُ بِأَمْرِهِ، فَلَا شَيْءَ فِي خَرْقِ الْحَاجِزِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ. وَإِنْ أَجَافَهُ رَجُلٌ، فَوَسَّعَهَا آخَرُ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشُ جَائِفَةٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ كَانَ جَائِفَةً، فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِانْضِمَامِهِ إلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ لَا يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ. وَإِنْ وَسَّعَهَا الطَّبِيبُ بِإِذْنِهِ، أَوْ إذْنِ وَلِيِّهِ لِمَصْلَحَتِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَسَّعَهَا جَانٍ آخَرُ، فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، أَوْ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَبْلُغْ الْجَائِفَةَ. وَإِنْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي الْجَائِفَةِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، عُزِّرَ، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ خَاطَهَا، فَجَاءَ آخَرُ، فَقَطَعَ الْخُيُوطَ، وَأَدْخَلَ السِّكِّينَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَحِمَ، عُزِّرَ أَشَدَّ مِنْ التَّعْزِيرِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَغَرَّمَهُ ثَمَنَ الْخُيُوطِ وَأُجْرَةَ الْخَيَّاطِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشُ جَائِفَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِفْهُ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِحَامِهَا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجَائِفَةِ وَثَمَنُ الْخُيُوطِ؛ لِأَنَّهُ بِالِالْتِحَامِ عَادَ إلَى الصِّحَّةِ، فَصَارَ كَاَلَّذِي لَمْ يُجْرَحْ. وَإِنْ الْتَحَمَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، فَفَتَقَ مَا الْتَحَمَ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ جَائِفَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ فَتَقَ غَيْرَ مَا الْتَحَمَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجَائِفَةِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِمَ مِنْهَا شَيْءٌ. وَإِنْ فَتَقَ بَعْضَ مَا الْتَحَمَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، أَوْ الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ وَسَّعَ جُرْحَهُ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ جُرْح فَخُذْهُ وَمَدّ السِّكِّين حَتَّى بَلَغَ الْوَرِك فَأُجَافِ فِيهِ] (6981) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَ فَخِذَهُ، وَمَدَّ السِّكِّينَ حَتَّى بَلَغَ الْوَرِكَ، فَأَجَافَ فِيهِ، أَوْ جَرَحَ الْكَتِفَ، وَجَرَّ السِّكِّينَ حَتَّى بَلَغَ الصَّدْرَ، فَأَجَافَهُ فِيهِ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجَائِفَةِ وَحُكُومَةٌ فِي الْجِرَاحِ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْجَائِفَةِ، فَانْفَرَدَتْ بِالضَّمَانِ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَجَرَّ السِّكِّينَ حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَحُكُومَةٌ لِجُرْحِ الْقَفَا. [فَصْلٌ أَدْخُل حَدِيدَة أَوْ خَشَبَة أَوْ يَده فِي دُبُر إنْسَان فَخُرِقَ حَاجِزًا فِي الْبَاطِنِ.] (6982) فَصْلٌ: فَإِنْ أَدْخَلَ حَدِيدَةً أَوْ خَشَبَةً أَوْ يَدَهُ، فِي دُبُرِ إنْسَانٍ، فَخَرَقَ حَاجِزًا فِي الْبَاطِنِ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ جَائِفَةٍ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ مَا خَرَقَتْ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْجَوْفِ، وَهَذِهِ بِخِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي جَائِفَةٍ إنْسَانٍ، فَخَرَقَ شَيْئًا فِي الْبَاطِنِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِفَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ جُرْحه فِي جَوْفه فَخَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخِر] (6983) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ جَرَحَهُ فِي جَوْفِهِ، فَخَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَهُمَا جَائِفَتَانِ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: هِيَ جَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ هِيَ الَّتِي تَنْفُذُ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ إنَّمَا نَفَذَتْ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ، فَأَنْفَذَهُ، فَقَضَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الْجَائِفَةِ إذَا نَفَذَتْ الْجَوْفَ، بِأَرْشِ جَائِفَتَيْنِ. لِأَنَّهُ أَنْفَذَهُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ، فَكَانَ جَائِفَتَيْنِ كَمَا لَوْ أَنْفَذَهُ بِضَرْبَتَيْنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوُصُولِ الْجُرْحِ إلَى الْجَوْفِ، لَا بِكَيْفِيَّةِ إيصَالِهِ، إذْ لَا أَثَرَ لِصُورَةِ الْفِعْلِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْكَيْفِيَّةِ لَيْسَ بِمَذْكُورِ فِي خَبَرٍ، وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي الْغَالِبِ وُقُوعُ الْجَائِفَةِ هَكَذَا، فَلَا يُعْتَبَرُ، كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْغَالِبِ حُصُولُهَا بِالْحَدِيدِ، وَلَوْ حَصَلَتْ بِغَيْرِهِ لَكَانَتْ جَائِفَةً. ثُمَّ يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِمَا لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَائِفَةٍ إنْسَانٍ، فَخَرَقَ بَطْنَهُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ جَائِفَةٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِيمَنْ أَوْضَحَ إنْسَانًا فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ رَأْسَ السِّكِّينِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهِيَ مُوضِحَتَانِ. فَإِنْ هَشَمَهُ هَاشِمَةً لَهَا مَخْرَجَانِ، فَهِيَ هَاشِمَتَانِ. وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. [فَصْلٌ أَدْخَلَ إصْبَعه فِي فَرْج بِكْر فَأَذْهَب بَكَارَتهَا] (6984) فَصْلٌ: فَإِنْ أَدْخَلَ إصْبَعَهُ فِي فَرْجِ بِكْرٍ، فَأَذْهَبَ بَكَارَتَهَا، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَوْفٍ. [مَسْأَلَةٌ وَطِئَ زَوْجَته وَهِيَ صَغِيرَة فَفَتْقهَا] (6985) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَفَتَقَهَا، لَزِمَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ) . مَعْنَى الْفَتْقِ، خَرْقُ مَا بَيْنَ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ. وَقِيلَ: بَلْ مَعْنَاهُ خَرْقُ مَا بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَذْهَبَ بِالْوَطْءِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَاجِزِ، فَإِنَّهُ حَاجِزٌ غَلِيظٌ قَوِيٌّ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي فَصْلَيْنِ؛ (6986) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، فِي أَصْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: فِي قَدْرِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِوَطْءِ الصَّغِيرَةِ أَوْ النَّحِيفَةِ الَّتِي لَا تَحَمَّلُ الْوَطْءَ، دُونَ الْكَبِيرَةِ الْمُحْتَمِلَةِ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَجْنَبِيَّةٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ مُسْتَحَقٌّ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ كَالْبَكَارَةِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ مِمَّنْ يَصِحُّ إذْنُهُ، فَلَمْ يُضْمَنْ مَا تَلِفَ بِسِرَايَتِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي مُدَاوَاتِهَا بِمَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، وَكَقَطْعِ السَّارِقِ، أَوْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَعَكْسُهُ الصَّغِيرَةُ وَالْمُكْرَهَةُ عَلَى الزِّنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ، مَعَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي مَالِهِ، إنْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَا تُطِيقُهُ، وَأَنَّ وَطْأَهُ يُفْضِيهَا. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَكَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُفْضِيَ إلَيْهِ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ، فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ عَمْدَ الْخَطَإِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِهِ. (6987) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ، فَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إسْكَتَيْهَا. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْإِفْضَاءِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ. وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. وَلِأَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ تَخْرِقُ الْحَاجِزَ بَيْنَ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَالذَّكَرِ، فَكَانَ مُوجَبُهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، كَالْجَائِفَةِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَأَمَّا قَطْعُ الْإِسْكَتَيْنِ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ عُضْوَيْنِ فِيهِمَا نَفْعٌ وَجَمَالٌ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ الشَّفَتَيْنِ. (6988) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ ذَلِكَ، لَزِمَتْهُ دِيَةٌ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَيْنِ، فَلَزِمَهُ أَرْشُهُمَا، كَمَا لَوْ فَوَّتَ كَلَامَهُ وَذَوْقَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَتْلَفَ عُضْوًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَفُتْ غَيْرُ مَنَافِعِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَذَهَبَ ذَوْقُهُ وَكَلَامُهُ. وَمَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ دِيَةَ الْمَنْفَعَتَيْنِ، لَأَوْجَبَ دِيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِطْلَاقَ الْبَوْلِ مُوجِبٌ الدِّيَةَ، وَالْإِفْضَاءُ عِنْدَهُ مُوجِبٌ الدِّيَةَ مُنْفَرِدًا، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْحُكُومَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ مُقْتَضِيهَا، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةً. (6989) فَصْلٌ: وَإِنْ انْدَمَلَ الْحَاجِزُ، وَانْسَدَّ، وَزَالَ الْإِفْضَاءُ، لَمْ يَجِبْ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَوَجَبَتْ حُكُومَةٌ، لِجَبْرِ مَا حَصَلَ مِنْ النَّقْصِ. [فَصْلٌ أَكْرَه امْرَأَة عَلَى الزِّنَى فَأَفْضَاهَا] (6990) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى، فَأَفْضَاهَا، لَزِمَهُ ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِوَطْءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، وَلَا مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ بِهِ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ مَعَ ذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْبَكَارَةِ دَاخِلٌ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنَّ مَهْرَ الْبِكْرِ أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الثَّيِّبِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا هُوَ عِوَضُ أَرْشِ الْبَكَارَةِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ مَرَّتَيْنِ، كَمَا فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ. وَالثَّانِيَةُ، يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ أَتْلَفَهُ بِعُدْوَانِهِ، فَلَزِمَهُ أَرْشُهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِإِصْبَعِهِ. فَأَمَّا الْمُطَاوِعَةُ عَلَى الزِّنَى، إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً فَفَتَقَهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي فَتْقِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ الْوَطْءُ دُونَ الْفَتْقِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ ضَرَرٌ حَصَلَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَأَرْشِ بَكَارَتِهَا، وَمَهْرِ مِثْلِهَا، وَكَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ يَدِهَا، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهَا. وَفَارَقَ مَا إذَا أَذِنَتْ فِي وَطْئِهَا، فَقَطَعَ يَدَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَلَا مِنْ ضَرُورَتِهِ. [فَصْلٌ وَطِئَ امْرَأَة بِشُبْهَةِ فَأَفْضَاهَا] (6991) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةِ فَأَفْضَاهَا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ إفْضَائِهَا، مَعَ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا أُذِنَ فِيهِ اعْتِقَادًا أَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ، فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ، ثَبَتَ فِي حَقِّهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ لِمَا أَتْلَفَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ، فَبَانَ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَرْشِ إفْضَائِهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ لِإِتْلَافِ الْعُضْوِ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ ضَمَانِهِ وَضَمَانِ مَنْفَعَتِهِ، كَمَا لَوْ قَلَعَ عَيْنًا. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ تُنْقَلُ عَنْ الْوَطْءِ، فَلَمْ يَدْخُلُ بَدَلُهُ فِيهَا، كَمَا لَوْ كَسَرَ صَدْرَهَا. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ لِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَالْأَرْشُ يَجِبُ لِإِتْلَافِ الْحَاجِزِ، فَلَا تَدْخُلُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ. [فَصْلٌ اسْتَطْلَقَ بَوْل الْمُكْرَهَة عَلَى الزِّنَى وَالْمَوْطُوءَة بِشُبْهَةِ مَعَ إفْضَائِهِمَا.] (6992) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَطْلَقَ بَوْلُ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، مَعَ إفْضَائِهِمَا، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُمَا وَالْمَهْرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَجِبُ أَكْثَرُهُمَا. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَة دِيَة الضِّلْع وَالتَّرْقُوَة] (6993) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الضِّلْعِ بَعِيرٌ، وَفِي التَّرْقُوَةِ بَعِيرَانِ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِي كُلِّ تَرْقُوَةٍ بَعِيرَيْنِ، فَيَكُونُ فِي التَّرْقُوَتَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَالتَّرْقُوَةُ: هُوَ الْعَظْمُ الْمُسْتَدِيرُ حَوْلَ الْعُنُقِ مِنْ النَّحْرِ إلَى الْكَتِفَ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَرْقُوَتَانِ، فَفِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ التَّرْقُوَتَانِ مَعًا، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِلَفْظِ الْوَاحِدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 لِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ تَرْقُوَةٍ بَعِيرٌ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا حُكُومَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ عَظْمٌ بَاطِنٌ، لَا يَخْتَصُّ بِجَمَالِ وَمَنْفَعَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ، وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَوْقِيفٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَوْقِيفٌ وَلَا قِيَاسٌ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ فِي التَّرْقُوَةِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: فِي التَّرْقُوَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ غَيْرُهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا، فَكَمَلَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ، كَالْيَدَيْنِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْهَاشِمَةِ؛ فَإِنَّهَا كَسْرُ عِظَامٍ بَاطِنَةٍ، وَفِيهَا مُقَدَّرٌ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: إنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِجَمَالٍ وَمَنْفَعَةٍ. فَإِنَّ جَمَالَ هَذِهِ الْعِظَامِ وَنَفْعِهَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، وَلَا مُشَارَكَ لَهَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَمُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَافَقَهُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الزَّنْد] (6994) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَفِي الزَّنْدِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَظْمَانِ) قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي بِهِ الزَّنْدَيْنِ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا أَرْبَعَةَ عِظَامٍ، فَفِي كُلِّ عَظْمٍ بَعِيرٌ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: فِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ فِي أَحَدِ الزَّنْدَيْنِ إذَا كُسِرَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنَّ فِيهِ بَعِيرَيْنِ، وَإِذَا كُسِرَ الزَّنْدَيْنِ فَفِيهِمَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. [فَصْل دِيَة الْعِظَام] (6995) فَصْلٌ: وَلَا مُقَدَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْعِظَامِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي عَظْمِ السَّاقِ بَعِيرَانِ، وَفِي السَّاقَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ، وَفِي عَظْمِ الْفَخِذِ بَعِيرَانِ، وَفِي الْفَخِذَيْنِ أَرْبَعَةٌ، فَهَذِهِ تِسْعَةُ عِظَامٍ فِيهَا مُقَدَّرٌ؛ الضِّلَعُ، وَالتَّرْقُوَتَانِ؛ وَالزَّنْدَانِ، وَالسَّاقَانِ، وَالْفَخِذَانِ، وَمَا عَدَاهَا لَا مُقَدَّرَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْقَاضِي: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ بَعِيرَانِ. وَزَادَ أَبُو الْخَطَّابِ عَظْمَ الْقَدَمِ؛ لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ وَالزَّنْدِ إذَا كُسِرَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَجُبِرَ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ دُحُورٌ يَعْنِي عِوَجًا بِعَيْرٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا دُحُورٌ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْخَبَرُ، إنْ صَحَّ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي غَيْرِ الْخَمْسَةِ؛ الضِّلَعِ، وَالتَّرْقُوَتَيْنِ، وَالزَّنْدَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ الْحُكُومَةِ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ الْبَاطِنَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ لِقَضَاءِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَفِيمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَمَا عَدَا هَذِهِ الْعِظَامَ، كَعَظْمِ الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ، فَفِيهِ الْحُكُومَةُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَإِنْ خَالَفَ فِيهَا مُخَالِفٌ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ دِيَة الشِّجَاج الَّتِي لَا تَوْقِيت فِيهَا] (6996) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالشِّجَاجُ الَّتِي لَا تَوْقِيتَ فِيهَا، أَوَّلُهَا الْحَارِصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ) يَعْنِي تَشُقُّهُ قَلِيلًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْحَارِصَةُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ، وَهِيَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ. هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الَّتِي وَصَلَتْ إلَيْنَا: الْحَارِصَةُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ. ثُمَّ الْبَازِلَةُ. وَلَعَلَّهُ مِنْ غَلَطِ الْكَاتِبِ، وَالصَّوَابُ: الْحَارِصَةُ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، هَكَذَا رَتَّبَهَا سَائِرُ مَنْ عَلِمْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلِأَنَّ الْبَاضِعَةَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا قَبْلَ الْبَازِلَةِ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، وَتُسَمَّى الدَّامِعَةَ، لِقِلَّةِ سَيَلَانِ دَمِهَا، تَشْبِيهًا لَهُ بِخُرُوجِ الدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ، وَاَلَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ يَسِيلُ مِنْهَا دَمٌ كَثِيرٌ فِي الْغَالِبِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُهَا سَابِقَةً عَلَى مَا لَا يَسِيلُ مِنْهَا إلَّا دَمٌ يَسِيرٌ كَدَمْعِ الْعَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ، جَعَلَ فِي الْبَازِلَةِ بَعِيرًا، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَيْنِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: وَالشِّجَاجُ. يَعْنِي: جِرَاحَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ؛ فَإِنَّهُ يُسَمَّى شِجَاجًا خَاصَّةً، دُونَ جِرَاحِ سَائِرِ الْبَدَنِ. وَالشِّجَاجُ الْمُسَمَّاةُ عَشْرٌ؛ خَمْسٌ مِنْهَا أَرْشُهَا مُقَدَّرٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا، وَخَمْسٌ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَوَّلُهَا الْحَارِصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلًا. يَعْنِي تَقْشِرُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ الْجِلْدِ، لَا يَظْهَرُ مِنْهُ دَمٌ، وَمِنْهُ: حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ. إذَا شَقَّهُ قَلِيلًا. ثُمَّ الْبَازِلَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَنْزِلُ مِنْهَا الدَّمُ. أَيْ يَسِيلُ. وَتُسَمَّى الدَّامِيَةَ أَيْضًا، وَالدَّامِعَةَ ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ. ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ، يَعْنِي دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا كَثِيرًا يَزِيدُ عَلَى الْبَاضِعَةِ، وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ. ثُمَّ السِّمْحَاقُ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى قِشْرَةٍ رَقِيقَةٍ فَوْقَ الْعَظْمِ، تُسَمَّى تِلْكَ الْقِشْرَةُ سِمْحَاقًا، وَسُمِّيَتْ الْجِرَاحُ الْوَاصِلَةُ إلَيْهَا بِهَا، وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمِلْطَا وَالْمِلْطَاةُ، وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ اللَّحْمَ كُلَّهُ حَتَّى تَخْلُصَ مِنْهُ. ثُمَّ الْمُوضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَقْشُرُ تِلْكَ الْجِلْدَةَ، وَتُبْدِي وَضَحَ الْعَظْمِ، أَيْ بَيَاضَهُ، وَهِيَ أَوَّلُ الشِّجَاجِ الْمُوَقَّتَةِ، وَمَا قَبْلَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 مِنْ الشِّجَاجِ الْخَمْسِ فَلَا تَوْقِيتَ فِيهَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ فِي الدَّامِيَةِ بَعِيرًا، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَيْنِ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةً، وَفِي السِّمْحَاقِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السِّمْحَاقِ مِثْلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْهُمَا. وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فِيهَا نِصْفُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهَا جِرَاحَاتٌ لَمْ يَرِدْ فِيهَا تَوْقِيتٌ فِي الشَّرْعِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكُومَةً، كَجِرَاحَاتِ الْبَدَنِ. رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ «قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُوضِحَةِ بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَلَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَهَا» ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا مُقَدَّرٌ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا لَهُ قِيَاسٌ يَصِحُّ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْحُكُومَةِ، كَالْحَارِصَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ مِنْ الْمُوضِحَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي رَأْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُوضِحَةٌ إلَى جَانِبِهَا، قُدِّرَتْ هَذِهِ الْجِرَاحَةُ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ النِّصْفِ، وَجَبَ نِصْفُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، إنْ كَانَتْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَجَبَ ثُلُثُ الْأَرْشِ. وَعَلَى هَذَا، إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْحُكُومَةُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَتُوجِبَ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ قَدْرَ نِصْفِ الْمُوضِحَةِ، وَشَيْنُهَا يَنْقُصُ قَدْرَ ثُلُثَيْهَا، أَوْجَبْنَا ثُلُثَيْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ الْحُكُومَةُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ، أَوْجَبْنَا النِّصْفَ، فَنُوجِبُ الْأَكْثَرَ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ، أَوْ قَدْرَهَا مِنْ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ؛ الشَّيْنُ وَقَدْرُهَا مِنْ الْمُوضِحَةِ، فَوَجَبَ بِهَا أَكْثَرُهُمَا؛ لِوُجُودِ سَبَبِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى إيجَابِ الْمِقْدَارِ، أَنَّ هَذَا اللَّحْمَ فِيهِ مُقَدَّرٌ، فَكَانَ فِي بَعْضِهِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ دِيَتِهِ، كَالْمَارِنِ وَالْحَشَفَةِ وَالشَّفَةِ وَالْجَفْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا لَا نَعْلَمُهُ مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ وَلَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جِرَاحَةٌ تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا مُقَدَّرٌ. كَجِرَاحَاتِ الْبَدَنِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَلَا نَعْلَمُ لِمَا ذَكَرُوهُ نَظِيرًا. [مَسْأَلَةٌ الْجِرَاح الَّتِي لَمْ تُوَقِّت] (6997) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجِرَاحِ تَوْقِيتٌ، وَلَمْ يَكُنْ نَظِيرًا لِمَا وُقِّتَتْ دِيَتُهُ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ) أَمَّا الَّذِي فِيهِ تَوْقِيتٌ، فَهُوَ الَّذِي نَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَرْشِهِ، وَبَيَّنَ قَدْرَ دِيَتِهِ، كَقَوْلِهِ: «فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا نَظِيرُهُ، فَهُوَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَمَقِيسًا عَلَيْهِ، كَالْأَلْيَتَيْنِ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْحَاجِبَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ أَيْضًا، فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُوَقَّتِ، وَلَا مِمَّا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ، كَالشِّجَاجِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ، وَجِرَاحِ الْبَدَنِ سِوَى الْجَائِفَةِ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَكَسْرِ الْعِظَامِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْحُكُومَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 [مَسْأَلَةٌ مَا هِيَ الْحُكُومَة فِي الْجِنَايَة] (6998) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْحُكُومَةُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَا جِنَايَةَ بِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمَ وَهِيَ بِهِ قَدْ بَرَأَتْ، فَمَا نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ، فَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ الدِّيَةِ، كَأَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ وَهُوَ عَبْدٌ صَحِيحٌ عَشَرَةً، وَقِيمَتُهُ وَهُوَ عَبْدٌ بِهِ الْجِنَايَةُ تِسْعَةً، فَيَكُونَ فِيهِ عُشْرُ دِيَتِهِ) هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي تَفْسِيرِ الْحُكُومَةِ، قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حُكُومَةٌ، أَنْ يُقَالَ إذَا أُصِيبَ الْإِنْسَانُ بِجُرْحٍ لَا عَقْلَ لَهُ مَعْلُومٌ: كَمْ قِيمَةُ هَذَا الْمَجْرُوحِ؟ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُجْرَحْ هَذَا الْجُرْحَ، فَإِذَا قِيلَ: مِائَةُ دِينَارٍ. قِيلَ: وَكَمْ قِيمَتُهُ وَقَدْ أَصَابَهُ هَذَا الْجُرْحُ، وَانْتَهَى بُرْؤُهُ؟ قِيلَ: خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ. فَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْجَانِي نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَالُوا: تِسْعُونَ. فَعُشْرُ الدِّيَةِ. وَإِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، فَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جُمْلَتَهُ مَضْمُونَةٌ بِالدِّيَةِ، فَأَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةٌ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، كَانَ أَرْشُ عَيْبِهِ مُقَدَّرًا مِنْ الثَّمَنِ، فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَتُهُ لَا عِيبَ فِيهِ؟ فَقَالُوا: عَشَرَةٌ. فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَتُهُ وَفِيهِ الْعَيْبُ؟ فَإِذَا قِيلَ: تِسْعَةٌ، عُلِمَ أَنَّهُ نَقَصَ عُشْرُ قِيمَتِهِ، فَيَجِبُ أَنَّ نَرُدَّ مِنْ الثَّمَنِ عُشْرَهُ، أَيَّ قَدْرٍ كَانَ، وَنُقَدِّرَهُ عَبْدًا لِيُمْكِنَ تَقْوِيمُهُ، وَنَجْعَلَ الْعَبْدَ أَصْلًا لِلْحُرِّ فِيمَا لَا مُوَقَّتَ فِيهِ، وَالْحُرَّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِيمَا فِيهِ تَوْقِيتٌ. [مَسْأَلَة مَا زَادَ فِي الْحُكُومَة أَوْ نَقَصَ] (6999) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَعَلَى هَذَا مَا زَادَ مِنْ الْحُكُومَةِ أَوْ نَقَصَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ، فَيَكُونَ أَسْهَلَ مِمَّا وُقِّتَ فِيهِ، فَلَا يُجَاوَزُ بِهِ أَرْشُ الْمُوَقَّتِ) يَعْنِي لَوْ نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ عُشْرِ قِيمَتِهِ، لَوَجَبَ أَكْثَرُ مِنْ عُشْرِ دِيَتِهِ، وَلَوْ نَقَصَتْهُ أَقَلَّ مِنْ الْعُشْرِ، مِثْلُ أَنْ نَقَصَتْهُ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ؛ لَوَجَبَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ، إلَّا إذَا شَجَّهُ دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَبَلَغَ أَرْشُ الْجِرَاحِ بِالْحُكُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، لَمْ يَجِبْ الزَّائِدُ، فَلَوْ جَرَحَهُ فِي وَجْهِهِ سِمْحَاقًا، فَنَقَصَتْهُ عُشْرَ قِيمَتِهِ، فَمُقْتَضَى الْحُكُومَةِ وُجُوبُ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ، فَهَاهُنَا يُعْلَمُ غَلَطُ الْمُقَوِّمِ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ لَوْ كَانَتْ مُوضِحَةً، لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسٍ، مَعَ أَنَّهَا سِمْحَاقٌ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا؛ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى خَمْسٍ أَوْلَى. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ يَجِبُ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ، كَائِنًا مَا كَانَ؛ لِأَنَّهَا جِرَاحَةٌ لَا مُقَدَّرَ فِيهَا، فَوَجَبَ فِيهَا مَا نَقَصَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ. وَلَنَا، أَنَّهَا بَعْضُ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَهُ، لَقَطَعَ مَا قَطَعَتْهُ هَذِهِ الْجِرَاحَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ فِي بَعْضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 الشَّيْء أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي الْمُوضِحَةِ أَكْثَرُ، وَالشَّيْنَ أَعْظَمُ، وَالْمَحَلَّ وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَزِدْ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ عَلَى خَمْسٍ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا يَزِيدَ مَا دُونَهَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ، فَمَا كَانَ فِيهِ مُوَقَّتٌ، كَالْأَعْضَاءِ، وَالْعِظَامِ الْمَعْلُومَةِ، وَالْجَائِفَةِ، فَلَا يُزَادُ جُرْحُ عَظْمٍ عَلَى دِيَتِهِ، مِثَالُهُ، جَرَحَ أُنْمُلَةً، فَبَلَغَ أَرْشُهَا بِالْحُكُومَةِ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى دِيَةِ الْأُنْمُلَةِ. وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فِي جَوْفِهِ دُونَ الْجَائِفَة، لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْشِ الْجَائِفَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَجَبَ مَا أَخْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُخْتَلِفٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَجَبَ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ أَكْثَرُ مِمَّا وَجَبَ فِي جَمِيعِهِ، وَوَجَبَ فِي مَنَافِعِ اللِّسَانِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبِ فِيهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا وَجَبَتْ دِيَةُ النَّفْسِ عِوَضًا عَنْ الرُّوحِ، وَلَيْسَتْ الْأَطْرَافُ بَعْضَهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يَخْتَصَّ امْتِنَاعُ الزِّيَادَةِ بِالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ؛ لِقَوْلِهِ: إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ، فَلَا يُجَاوَزُ بِهِ أَرْشُ الْمُوَقَّتِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْحُكُومَةُ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ قَدْرَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ تَنْقُصَ عَنْهَا شَيْئًا، عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِئَلَّا يَجِبَ فِي بَعْضِهَا مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهَا. وَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ مَا أَخْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الزَّائِدُ عَلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ، أَوْ تَنْبِيهَ النَّصِّ، فَفِيمَا لَمْ يَزِدْ، يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ، يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ فِدْيَةِ الْأَذَى فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ، وَلَمْ تَلْزَمْ زِيَادَتُهَا فِي حَقِّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِي الْبَعْضِ مَا يَجِبُ فِي الْكُلِّ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ؛ مِثْلُ دِيَةِ الْيَدِ كُلِّهَا، وَفِي حَشَفَةِ الذَّكَرِ مِثْلُ مَا فِي جَمِيعِهِ. فَإِنَّ هَذَا وَجَبَ بِالتَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِالتَّقْوِيمِ. قُلْنَا: إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِنَصِّ الشَّارِعِ، لَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُ مِثْلِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْحُكُومَةُ دَلِيلُ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فِي الزَّائِدِ لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي الْمُسَاوِي، فَيَجِبُ الْعَمَلُ فِيهِ بِهَا لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ ثَمَّ، وَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقُصَ أَدْنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُسَاوَاةُ الْمَحْذُورَةُ، وَيَجِبُ الْبَاقِي، عَمَلًا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّة التَّقْوِيم فِي الْجُرُوح] (7001) فَصْلٌ: وَلَا يَكُون التَّقْوِيمُ إلَّا بَعْدَ بُرْءِ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجُرْحِ الْمُقَدَّرَ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بَعْدَ بُرْئِهِ، فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهُ الْجِنَايَةُ شَيْئًا بَعْدَ الْبُرْءِ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ إصْبَعًا أَوْ يَدًا زَائِدَةً، أَوْ قَلَعَ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ، فَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ، بَلْ زَادَهُ حُسْنًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْحُكُومَةَ لِأَجْلِ جَبْرِ النَّقْصِ، وَلَا نَقْصَ هَاهُنَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَطَمَ وَجْهَهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنْ زَادَتْهُ الْجِنَايَةُ حُسْنًا، فَالْجَانِي مُحْسِنٌ بِجِنَايَتِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ قَطَعَ سِلْعَةً أَوْ ثُؤْلُولًا، وَبَطَّ خُرَّاجًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَضْمَنَ. قَالَ الْقَاضِي: نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ مَضْمُونٍ، فَلَمْ يَعْرَ عَنْ ضَمَانٍ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مُقَدَّرَ الْأَرْشِ فَازْدَادَ بِهِ جَمَالًا، أَوْ لَمْ يَنْقُصْهُ شَيْئًا، فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ فِي هَذَا أَقْرَبُ الْأَحْوَالِ إلَى الْبُرْءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ بَعْدَ بُرْئِهِ، قُوِّمَ فِي أَقْرَبِ الْأَحْوَالِ إلَيْهِ، كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ، لَمَّا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُهُ فِي الْبَطْنِ، قُوِّمَ عِنْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَمْكَنَ تَقْوِيمُهُ إلَى كَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ. وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، قُوِّمَ وَالدَّمُ جَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْصٍ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَتُقَوَّمُ لِحْيَةُ الْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا لِحْيَةُ رَجُلٍ فِي حَالٍ يَنْقُصُهُ ذَهَابُ لِحْيَتِهِ. وَإِنْ أَتْلَفَ سِنًّا زَائِدَةً، قُوِّمَ وَلَيْسَ لَهُ سِنٌّ، وَلَا خَلْفَهَا أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ يُقَوَّمُ وَقَدْ ذَهَبَتْ الزَّائِدَةُ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا قَدَّرْنَاهَا ابْنَ عِشْرِينَ نَقَصَهَا ذَهَابُ لِحْيَتِهَا يَسِيرًا، وَإِنْ قَدَّرْنَاهَا ابْنَ أَرْبَعِينَ نَقَصَهَا كَثِيرًا، قَدَّرْنَاهَا ابْنَ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَحْوَالِ إلَى حَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ تَقْوِيمَ الْجُرْحِ الَّذِي لَا يَنْقُصُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَإِنَّا نُقَوِّمُهُ فِي أَقْرَبِ أَحْوَالِ النَّقْصِ إلَى حَالِ الِانْدِمَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذَا لَا مُقَدَّرَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ شَيْئًا، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ، وَتَضْمِينُ النَّقْصِ الْحَاصِلِ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ، إنَّمَا هُوَ تَضْمِينُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَالَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَطَمَهُ فَاصْفَرَّ لَوْنُهُ حَالَ اللَّطْمَةِ، أَوْ احْمَرَّ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ. وَتَقْدِيرُ الْمَرْأَةِ رَجُلًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ زَيْنٌ لِلرَّجُلِ، وَعَيْبٌ فِيهَا، وَتَقْدِيرُ مَا يَعِيبُ بِمَا يَزِينُ لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ السِّنِّ فِي حَالَةِ إيرَادِ زَوَالِهَا، بِحَالَةٍ تُكْرَهُ، لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ يُقَدَّرُ بِنَظِيرِهِ، وَيُقَاسُ عَلَى مِثْلِهِ، لَا عَلَى ضِدِّهِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ أَدْنَى مَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ، وَهُوَ أَقَلُّ نَقْصٍ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ. [فَصْلٌ لَطَمَهُ عَلَى وَجْهه فَلَمْ يُؤْثِرْ فِي وَجْهه] (7002) فَصْلٌ: وَإِنْ لَطَمَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي وَجْهِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ بِهِ جَمَالٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ يَنْقُصُ فِيهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ شَتَمَهُ. وَإِنْ سَوَّدَ وَجْهَهُ أَوْ خَضَّرَهُ، ضَمِنَهُ بِدِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، فَضَمِنَهُ بِدِيَتِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَيْ الْأَصَمِّ، وَأَنْفَ الْأَخْشَمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَدَّرَ فِيهِ، وَلَا هُوَ نَظِيرٌ لِمُقَدَّرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَظِيرٌ لِقَطْعِ الْأُذُنَيْنِ فِي ذَهَابِ الْجَمَالِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَوْلَى. وَإِنْ زَالَ السَّوَادُ، يَرُدُّ مَا أَخَذَهُ؛ لِزَوَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ. وَإِنْ زَالَ بَعْضُهُ، وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَرَدَّ الْبَاقِيَ. وَإِنْ صَفَّرَ وَجْهَهُ أَوْ حَمَّرَهُ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ لَمْ يَذْهَبْ عَلَى الْكَمَالِ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا لَوْ سَوَّدَ سِنَّهُ، أَوْ غَيَّرَ لَوْنَهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهَا. [مَسْأَلَةٌ كَانَتْ الْجِنَايَة عَلَى الْعَبْدِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ شَيْء مُوَقَّتٌ فِي الْحَرّ] (7003) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ فِي الْحُرِّ، فَفِيهِ مَا نَقَصَهُ بَعْدَ الْتِئَامِ الْجُرْحِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَنَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ فِي الْحُرِّ، فَهُوَ مُوَقَّتٌ فِي الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ، فَفِي يَدِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، وَهَكَذَا الْأَمَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ يَجِبُ ضَمَانُهَا بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا وَجَبَ جَبْرًا لِمَا فَاتَ بِالْجِنَايَةِ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا بِإِيجَابِ مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ الْمَالِ، وَلَا يَجِبُ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَدْ انْجَبَرَ، فَلَا يَجِبُ لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَوَّتَهُ الْجَانِي عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مُقَدَّرٌ شَرْعِيٌّ. فَإِنْ كَانَ الْفَائِتُ بِالْجِنَايَةِ مُوَقَّتًا فِي الْحُرِّ، كَيَدِهِ، وَمُوضِحَتِهِ، فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ فِيهِ أَيْضًا مَا نَقَصَهُ، بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ هَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. وَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَأْخُذُ قِيمَةَ مَا نَقَصَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، فِيمَا عَدَا مُوضِحَتَهُ، وَمُنَقِّلَتَهُ، وَهَاشِمَتَهُ، وَجَائِفَتَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ كَالْبَهَائِمِ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْقِيمَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، ضُمِنَ بَعْضُهُ بِمَا نَقَصَ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ضَمَانُ الْفَائِتِ بِمَا نَقَصَ، خَالَفْنَاهُ فِيمَا وُقِّتَ فِي الْحُرِّ، كَمَا خَالَفْنَاهُ فِي ضَمَانِ بَقِيَّتِهِ بِالدِّيَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَفِي الْعَبْدِ يَبْقَى فِيهِمَا عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ مَا كَانَ مُوَقَّتًا فِي الْحُرِّ، فَهُوَ مُوَقَّتٌ فِي الْعَبْدِ؛ فَفِي يَدِهِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ، أَوْ شَفَتِهِ، نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي الْحُرِّ، كَالْأَنْفِ، وَاللِّسَانِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ، أَوْجَبَ قِيمَةَ الْعَبْدِ، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ السَّيِّدِ عَلَيْهِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ؛ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا أُصِيبَ بِهِ الْعَبْدُ فَهُوَ عَلَى مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ قَوْلَ عَلِيٍّ لَمَا احْتَجَّ أَحْمَدُ فِيهِ إلَّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيَّ قَالَا: مَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ مِنْ الْحُرِّ، يَتَخَيَّرُ سَيِّدُ الْعَبْدِ فِيهِ، بَيْنَ أَنْ يُغَرِّمَهُ قِيمَتَهُ، وَيَصِيرَ مِلْكًا لِلْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ لَا يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فِي مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ عَمْدًا، أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ، هُوَ لَهُ، وَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يُضْمَنُ بِالْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ، فَكَانَ فِي أَطْرَافِهِ مُقَدَّرٌ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ أَطْرَافَهُ فِيهَا مُقَدَّرٌ مِنْ الْحُرِّ، فَكَانَ فِيهَا مُقَدَّرٌ مِنْ الْعَبْدِ، كَالشِّجَاجِ الْأَرْبَعِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمَا وَجَبَ فِي شِجَاجِهِ مُقَدَّرٌ، وَجَبَ فِي أَطْرَافِهِ مُقَدَّرٌ كَالْحُرِّ. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، قَوْلُ عَلِيٍّ، وَلِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فِيهَا مُقَدَّرٌ، فَوَجَبَ ذَلِكَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ السَّيِّدِ فِي الْعَبْدِ، كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ مَنْ ضُمِنَتْ يَدُهُ بِمُقَدَّرٍ، ضُمِنَتْ يَدَاهُ بِمِثْلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَهُ كَالْحُرِّ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ لِوَاحِدٍ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هَاهُنَا بَدَلُ الْعُضْوِ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْجُمْلَةِ، لَكَانَ بَدَلُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ بَدَلًا عَنْ نِصْفِهِ، وَبَدَلُ تِسْعِ أَصَابِعَ بَدَلًا عَنْ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. وَالْأَمَةُ مِثْلُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهَا تُشَبَّهُ بِالْحُرَّةِ، وَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ قِيمَتِهَا، احْتَمَلَ أَنَّ جِنَايَتَهَا تُرَدُّ إلَى النِّصْفِ، فَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ قِيمَتِهَا، وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ خُمْسُهَا، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الْجِرَاحِ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ الثُّلُثَ، رُدَّتْ إلَى النِّصْفِ، وَالْأَمَةُ امْرَأَةٌ، فَيَكُونُ أَرْشُهَا مِنْ قِيمَتِهَا كَأَرْشِ الْحُرَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُرَدَّ إلَى النِّصْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْحُرَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِكَوْنِ الْأَصْلِ زِيَادَةُ الْأَرْشِ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ نَقْصُهَا وَضَرَرُهَا، زَادَ فِي ضَمَانِهَا، فَإِذَا خُولِفَ هَذَا فِي الْحُرَّةِ، بَقِينَا فِي الْأَمَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ. (7004) فَصْلٌ: وَإِذَا جُنِيَ عَلَى الْعَبْدِ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَنَقَصَتْهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا، وَجَبَ مَا نَقَصَتْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ إلَى نِصْفِ عُشْرِ قِيمَتِهِ، كَالْحُرِّ إذَا زَادَ أَرْشُ شَجَّتِهِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ دِيَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ جِرَاحَةٌ لَا مُوَقَّتَ فِيهَا، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا مَا نَقَصَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ رَأْسِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ مَا نَقَصَ، خُولِفَ فِي الْمُقَدَّرِ، فَفِي هَذَا يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمَقْتُول خُنْثَى مُشْكِلًا] (7005) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ خُنْثَى مُشْكِلًا، فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ، وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى) وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ دِيَةُ أُنْثَى؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، فَلَا يَجِبُ الزَّائِدَةُ بِالشَّكِّ. وَلَنَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ احْتِمَالًا وَاحِدًا، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنْ انْكِشَافِ حَالِهِ، فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ بِكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ. (7006) فَصْلٌ: فَأَمَّا جِرَاحُهُ، فَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَفِيهِ دِيَةُ جُرْحِ الذَّكَرِ؛ لِاسْتِوَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَةِ يَدِ الذَّكَرِ، سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ بَعِيرًا وَنِصْفٌ، وَيُقَادُ بِهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقَوَدِ، وَيُقَادُ هُوَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ نِصْفه حُرّ وَنِصْفِهِ عَبْد] (7007) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ عَبْدٌ، فَلَا قَوَدَ، وَعَلَى الْجَانِي إنْ كَانَ عَمْدًا نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ، وَهَكَذَا فِي جِرَاحِهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً، فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 يَعْنِي لَا قَوَدَ عَلَى قَاتِلِهِ إذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ الْحُرُّ، كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ رَقِيقًا. وَإِنْ كَانَ قَاتِلُهُ عَبْدًا، قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقَاتِلِ حُرًّا، وَجَبَ الْقَوَدُ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْقَاتِلِ أَكْثَرَ، لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاتِلُ عَبْدًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ، إذَا كَانَ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِي مَالِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ حُرٍّ فِي الْخَطَإِ، وَالْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ ذَلِكَ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي جِرَاحِهِ إذَا كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ مِنْ أَرْشِهَا يَبْلُغُ ثُلُثَ الدِّيَةِ، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَ أَنْفَهُ أَوْ يَدَيْهِ. وَإِنْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ، فَعَقْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ دِيَةِ الْيَدِ، وَهُوَ رُبْعُ دِيَتِهِ؛ لِأَجْلِ حُرِّيَّةِ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ رُبْعُ قِيمَتِهِ. [فَصْلٌ دِيَة الْأَعْضَاء] (7008) فَصْلٌ: وَدِيَةُ الْأَعْضَاءِ كَدِيَةِ النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ، لَمْ يَخْتَلِفْ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَإٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ، وَجَبَ فِي الْعَمْدِ أَرْبَاعًا، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى يَجِبُ خَمْسٌ وَعَشْرٌ مِنْهَا حِقَاقٌ، وَخَمْسٌ وَعَشْرٌ جِذَاعٌ، وَخُمْسَاهَا خَلِفَاتٌ، وَفِي الْخَطَإِ يَجِبُ أَخْمَاسًا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، مِثْلُ أَنْ يُوضِحَهُ عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْبَعَةً أَرْبَاعًا، وَالْخَامِسُ مِنْ أَحَدِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ، قِيمَتُهُ رُبْعُ قِيمَةِ الْأَرْبَعِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَجَبَ خَلِفَتَانِ، وَحِقَّةٌ، وَجَذَعَةٌ، وَبَعِيرٌ قِيمَتُهُ نِصْفُ قِيمَةِ حِقَّةٍ وَنِصْفُ قِيمَةِ جَذَعَةٍ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً، وَجَبَ الْخُمْسُ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْخَمْسَةِ. مِنْ كُلِّ جِنْسٍ بَعِيرٌ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ أُنْمُلَةٍ، وَقُلْنَا: يَجِبُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ، وَجَبَ بَعِيرٌ وَثُلُثٌ مِنْ الْخَلِفَاتِ، وَحِقَّةٌ، وَجَذَعَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: أَرْبَاعًا، وَجَبَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، قِيمَتُهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ وَثُلُثِهَا. وَإِنْ كَانَ خَطَأً، فَقِيمَتُهَا ثُلُثَا قِيمَةِ الْخَمْسِ. وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا، قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، أَوْ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. وَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِ أَسْنَانِهَا، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، مِثْلُ أَنْ كَانَتْ الْعَشَرَةُ دَنَانِيرَ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِمْ، أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِمَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، لَزِمَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُ بِالدَّنَانِيرِ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُ مَا يُسَاوِيهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَاب الْقَسَامَة] ِ الْقَسَامَةُ: مَصْدَرُ أَقْسَمَ قَسَمًا وَقَسَامَةً. وَمَعْنَاهُ حَلَفَ حَلِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْقَسَامَةِ هَاهُنَا الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ. قَالَ الْقَاضِي: هِيَ الْأَيْمَانُ إذَا كَثُرَتْ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ: وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَذْهَبُونَ إلَى أَنَّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ؛ سُمُّوا بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ زُورٌ وَعَدْلٌ وَرِضًى. وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ، فَهُوَ مِنْ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ الْحَلِفُ. وَالْأَصْلُ فِي الْقَسَامَةِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، «أَنَّ مُحَيِّصَةُ بْنَ مَسْعُودٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا إلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي النَّخِيلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَاتَّهَمُوا الْيَهُودَ، فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنَا عَمِّهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَبِّرْ كَبِّرْ. أَوْ قَالَ: لِيَبْدَأ الْأَكْبَرُ. فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ فَقَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ، كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ: فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمٌ كُفَّارٌ ضُلَّالٌ. قَالَ: فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِهِ. قَالَ سَهْلٌ: فَدَخَلْت مِرْبَدًا لَهُمْ، فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ وَجَدَ قَتِيل فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى قَوْم لَا عَدَاوَة بَيْنَهُمْ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَوْضِعٍ فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُ عَلَى رَجُلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ] (7009) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى قَوْمٍ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُمْ بِيَمِينٍ، وَلَا غَيْرِهَا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (7010) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَوْضِعٍ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُ عَلَى رَجُلٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، وَلَا لَوْثٌ، فَهِيَ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، إنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُمْ بِهَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إذَا ادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْمَوْضِعِ خَمْسِينَ رَجُلًا، يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا: وَاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ. فَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 نَقَصُوا عَلَى الْخَمْسِينَ، كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتِمَّ، فَإِذَا حَلَفُوا، وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى بَاقِي الْخِطَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَجَبَتْ عَلَى سُكَّانِ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا، حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا أَوْ يُقِرُّوا؛ لِمَا رُوِيَ، أَنَّ رَجُلًا وُجِدَ قَتِيلًا بَيْنَ حَيَّيْنِ، فَحَلَّفَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَمْسِينَ يَمِينًا وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَقْرَبِهِمَا. يَعْنِي أَقْرَبَ الْحَيَّيْنِ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا وَقَتْ أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا، وَلَا أَمْوَالُنَا أَيْمَانَنَا، فَقَالَ عُمَرُ: حَقَنْتُمْ بِأَمْوَالِكُمْ دِمَاءَكُمْ. وَلَنَا، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَقَوْلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ وَالْغُرْمُ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ قَوْلِ عُمَرَ، وَأَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ، ثُمَّ قِصَّةُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ اعْتَرَفُوا بِالْقَتْلِ خَطَأً، وَأَنْكَرُوا الْعَمْدَ، فَأُحْلِفُوا عَلَى الْعَمْدِ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِخَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُخَالِفِ لِلْأُصُولِ، وَقَدْ صَارُوا هَاهُنَا إلَى ظَاهِرِ قَوْلِ عُمَرَ الْمُخَالِفِ لِلْأُصُولِ، وَهُوَ إيجَابُ الْأَيْمَانِ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلْزَامُهُمْ الْغُرْمَ مَعَ عَدَمِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ تَحْلِيفِهِمْ وَتَغْرِيمِهِمْ وَحَبْسِهِمْ عَلَى الْأَيْمَانِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: سَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَنَّ الْقَسَامَةَ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرَ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ السُّنَنِ. [فَصْلٌ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْر الْمُعِين] (7011) فَصْلٌ: وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، فَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ مُحَلَّةٍ، أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ، لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تُسْمَعُ، وَيُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ ادَّعَوْا الْقَتْلَ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، وَلَمْ يُعَيِّنُوا الْقَاتِلَ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْوَاهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهَا دَعْوَى فِي حَقٍّ، فَلَمْ تُسْمَعْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَإِنَّ دَعْوَى الْأَنْصَارِ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى الَّتِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، فَإِنَّ تِلْكَ مِنْ شَرْطِهَا حُضُورُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، أَوْ تَعَذُّرُ حُضُورِهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الدَّعْوَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ، بِقَوْلِهِ: «تُقْسِمُونَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» . وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ [فَصْلٌ ادَّعَى الْقَتْل مِنْ غَيْر وُجُودَ قَتَلَ وَلَا عَدَاوَة] (7012) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ ادَّعَى الْقَتْلَ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ قَتْلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الدَّعَاوَى، فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [الْفَصْلُ الثَّانِي ادَّعَى الْقَتْل وَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَة وَلَا لَوْثٌ] (7013) الْفَصْلُ الثَّانِي: إنَّهُ إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ، وَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَةٌ، وَلَا لَوْثٌ، فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُحَلَّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ، وَيُخْلَى سَبِيلُهُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى فِيمَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ فِيهَا، كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بِالنُّكُولِ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ فِيهَا، كَالْحُدُودِ، وَالثَّانِيَةُ، يُسْتَحْلَفُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ الْيَمِينِ هَاهُنَا لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، عُمُومُ اللَّفْظِ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: «لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ» . ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . فَيَعُودُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى فِي حَقٍّ آدَمِيٍّ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهَا، كَدَعْوَى الْمَالِ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى لَوْ أَقَرَّ بِهَا لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهَا، فَتَجِبُ الْيَمِينُ فِيهَا، كَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمَشْرُوعُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُشْرَعُ خَمْسُونَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهَا دَعْوًى فِي الْقَتْلِ، فَكَانَ الْمَشْرُوعُ فِيهَا خَمْسِينَ يَمِينًا، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ لَوْثٌ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي هَذَا، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ وَحَّدَ الْيَمِينَ، فَيَنْصَرِفُ إلَى وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ، فَيَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدَّمِ وَالْمَالِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ يُعَضِّدُهَا الظَّاهِرُ وَالْأَصْلُ، فَلَمْ تُغَلَّظْ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَشْرُوعَةٌ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، فَلَمْ تُغَلَّظْ بِالتَّكْرِيرِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ. فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَحَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقَّ الْقِصَاصَ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا، وَالدِّيَةَ إنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقَتْلِ؛ لَأَنْ يَمِينَ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ، وَلَمْ يُعَضِّدْهُ لَوْثٌ، فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكُلْ، وَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ الْأَيْمَانِ مَعَ النُّكُولِ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا عَنَدَ عَدَمِهِمَا، فَيَكُونَ بَدَلًا عَنْهُمَا، وَالْبَدَلُ أَضْعَفُ مِنْ الْمُبْدَلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْأَقْوَى، ثُبُوتُهُ بِالْأَضْعَفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وُجُوبُ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَيُحْتَاطُ لَهُ، وَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالدِّيَةُ بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا الدِّيَةُ فَتَثْبُتُ بِالنُّكُولِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْمَالَ بِهِ، أَوْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَيَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَيَسْتَحِقُّهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَالٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة كَانَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَة وَلَوْثٌ أَهْل الْقَتِيل] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي اللَّوْثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْقَسَامَةِ] (7014) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ وَلَوْثٌ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى وَاحِدٍ، حَلَفَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى قَاتِلِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقُّوا دَمَهُ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: (7015) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي اللَّوْثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْقَسَامَةِ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَنَحْوِ مَا بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَيَهُودِ خَيْبَرَ، وَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَالْأَحْيَاءِ، وَأَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ بَيْنَهُمْ الدِّمَاءُ وَالْحُرُوبُ، وَمَا بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ، وَمَا بَيْنَ الشُّرْطَةِ وَاللُّصُوصِ، وَكُلِّ مَنْ بَيْنَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ ضِغْنٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ. نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يُنْظَرُ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ شَيْءٌ. يَعْنِي ضِغْنًا يُؤْخَذُونَ بِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي اللَّوْثِ غَيْرَ الْعَدَاوَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَرِيقَيْنِ يَقْتَتِلَانِ؛ فَيَنْكَشِفُونَ عَنْ قَتِيلٍ، فَاللَّوْثُ عَلَى الطَّائِفَةِ وَاللَّوْثُ عَلَى طَائِفَةِ الْقَتِيلِ الَّتِي الْقَتِيلُ مِنْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلَى بِالْتِحَامٍ، أَوْ مُرَامَاةً بِالسِّهَامِ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ السِّهَامُ فَاللَّوْثُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتِيلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنًّا الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيلُ فِي مَوْضِعِ عَدُوٍّ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا الْيَهُودُ، وَجَمِيعُهُمْ أَعْدَاءٌ. وَلِأَنَّهُ مَتَى اخْتَلَطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْغَيْرَ. ثُمَّ نَاقَضَ الْقَاضِي قَوْلَهُ، فَقَالَ فِي قَوْمٍ ازْدَحَمُوا فِي مَضِيقٍ، فَافْتَرَقُوا عَنْ قَتِيلٍ: إنْ كَانَ فِي الْقَوْمِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَتَلَهُ؛ لِكَوْنِهِ بِقُرْبِهِ، فَهُوَ لَوْثٌ. فَجَعَلَ الْعَدَاوَةَ لَوْثًا مَعَ وُجُودِ غَيْرِ الْعَدُوِّ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْأَلْ الْأَنْصَارَ: هَلْ كَانَ بِخَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمْلَاكًا لِلْمُسْلِمِينَ، يَقْصِدُونَهَا لِأَخْذِ غَلَّاتِ أَمْلَاكِهِمْ مِنْهَا، وَعِمَارَتِهَا، وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَالِامْتِيَارِ مِنْهَا، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَدِينَةٌ عَلَى جَادَّةٍ تَخْلُو مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا. وَقَوْلُ الْأَنْصَارِ: لَيْسَ لَنَا بِخَيْبَرَ عَدُوٌّ إلَّا يَهُودُ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِهَا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَدُوٍّ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْعَدَاوَةِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ اللَّوْثِ فِي حَقِّ وَاحِدٍ، وَتَخْصِيصِهِ بِالدَّعْوَى مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي احْتِمَالِ قَتْلِهِ؛ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ ذَلِكَ وُجُودَ مَنْ يَبْعُدُ مِنْهُ الْقَتْلُ أَوْلَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، لَا يَنْفِي اللَّوْثَ، فَإِنَّ اللَّوْثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ يَقِينُ الْقَتْلِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُنَافِيهِ الِاحْتِمَالُ، وَلَوْ تُيُقِّنَ الْقَتْلُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْأَيْمَانِ، وَلَوْ اُشْتُرِطَ نَفْيُ الِاحْتِمَالِ؛ لَمَا صَحَّتْ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ، وَلَا عَلَى الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي قَتْلِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ اللَّوْثَ مَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ فِي دَارٍ أَوْ غَيْرِهَا، مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ، فَيَكُونَ ذَلِكَ لَوْثًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ فَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَزْدَحِمَ النَّاسُ فِي مَضِيقٍ، فَيُوجَدَ فِيهِمْ قَتِيلٌ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَوْثٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ بِالزِّحَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: فِدْيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ؛ فَإِنَّ سَعِيدًا رَوَى فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَجَاءَ أَهْلُهُ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ: بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إنْ عَلِمْت قَاتِلَهُ، وَإِلَّا فَأَعْطِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِيمَنْ وُجِدَ مَقْتُولًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: يُنْظَرُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ يَعْنِي عَدَاوَةً يُؤْخَذُونَ. فَلَمْ يَجْعَلْ الْحُضُورَ لَوْثًا، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّوْثَ الْعَدَاوَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، فِيمَنْ مَاتَ فِي الزِّحَامِ: دِيَتُهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَصَلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: دَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ قَاتِلٌ، وَلَا وُجِدَ لَوْثٌ؛ فَيُحْكَمَ بِالْقَسَامَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ كُتِبَ إلَيْهِ فِي رَجُلٍ وُجِدَ قَتِيلًا، لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ: إنَّ مِنْ الْقَضَايَا قَضَايَا لَا يُحْكَمُ فِيهَا إلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا مِنْهَا. الرَّابِعُ، أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُوجَدُ بِقُرْبِهِ إلَّا رَجُلٌ مَعَهُ سَيْفٌ أَوْ سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ، مِثْلُ أَنْ يَرَى رَجُلًا هَارِبًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْقَاتِلُ أَوْ سَبْعًا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِيهِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ، فَيَفْتَرِقُونَ عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إحْدَاهُمَا، فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. فَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا تَصِلُ سِهَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَاللَّوْثُ عَلَى طَائِفَةِ الْقَتِيلِ. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَقْلَ الْقَتِيلِ عَلَى الَّذِينَ نَازَعُوهُمْ فِيمَا إذَا اقْتَتَلَتْ الْفِئَتَانِ، إلَّا أَنْ يَدَّعُوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَوَى الْجَمِيعُ فِيهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي قَوْمٍ اقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، وَجُرِحَ بَعْضُهُمْ: فَدِيَةُ الْمَقْتُولِينَ عَلَى الْمَجْرُوحِينَ، تَسْقُطُ مِنْهَا دِيَةُ الْجِرَاحِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا جُرْحَ فِيهِ، فَهَلْ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَاتِ شَيْءٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ. السَّادِسُ، أَنْ يَشْهَدَ بِالْقَتْلِ عَبِيدٌ أَوْ نِسَاءٌ، فَهَذَا فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ لَوْثٌ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ، فَأَشْبَهَ الْعَدَاوَةَ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَ بِلَوْثٍ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ، فَلَمْ تَكُنْ لَوْثًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ كُفَّارٌ. وَإِنْ شَهِدَ بِهِ فُسَّاقٌ أَوْ صِبْيَانٌ، فَهَلْ يَكُونُ لَوْثًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 أَحَدُهُمَا، لَيْسَ بِلَوْثٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَتِهِمْ حُكْمٌ، فَلَا يَثْبُتُ اللَّوْثُ بِهَا، كَشَهَادَةِ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ. وَالثَّانِي: يَثْبُتُ بِهَا اللَّوْثُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي، فَأَشْبَهَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَقَوْلُ الصِّبْيَانِ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ، وَنَحْوِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَجِيءَ الصِّبْيَانُ مُتَفَرِّقِينَ؛ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَدْ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَوْثٌ؛ لِأَنَّهَا تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي، أَشْبَهَتْ الْعَدَاوَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَوْثٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الَّذِي قُتِلَ فِي الزِّحَامِ؛ لِأَنَّ اللَّوْثَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَدَاوَةِ بِقَضِيَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الْقَتِيلِ بِخَيْبَرَ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْمَظِنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الْمَظَانِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَتَعَدَّى بِتَعَدِّي سَبَبِهِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْمَظَانِّ جَمْعٌ بِمُجَرَّدِ الْحِكْمَةِ وَغَلَبَةِ الظُّنُونِ، وَالْحِكَمُ وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ وَلَا تَأْتَلِفُ، وَتَنْخَبِطُ وَلَا تَنْضَبِطُ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، فَلَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا، وَلَا تَعْدِيَتُهُ بِتَعَدِّيهَا، وَلِأَنَّهَا يُعْتَبَرُ فِي التَّعْدِيَةِ وَالْقِيَاسِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمُقْتَضِي، وَلَا سَبِيلَ إلَى يَقِينِ التَّسَاوِي بَيْنَ الظَّنَّيْنِ مَعَ كَثْرَةِ الِاحْتِمَالَاتِ وَتَرَدُّدِهَا، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، حُكْمُ هَذِهِ الصُّوَرِ حُكْمُ غَيْرِهَا، مِمَّا لَا لَوْثَ فِيهِ. [فَصْلٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُل أَنَّهُ قَتَلَ أُحُد هَذَيْنِ الْقَتِيلِينَ] (7016) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ، أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَتِيلَيْنِ. لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَوْثًا عِنْدَ أَحَدِ عُلَمَائِنَا. قَوْلَهُ: وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْقَتِيلَ قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتَلَهُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتَلَهُ بِسَيْفٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ، لَمْ تَثْبُتْ الشَّهَادَةُ، وَلَمْ تَكُنْ لَوْثًا. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَاخْتِيَارُهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِقَتْلِهِ، وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِقَتْلِهِ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَتْلُ. وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ ثُبُوتَ الْقَتْلِ هَاهُنَا، وَفِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْقَتْلِ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لَوْثٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا هُوَ لَوْثٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي، أَشْبَهَتْ شَهَادَةَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ؛ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، فَلَمْ تَكُنْ لَوْثًا، كَالصُّورَةِ الْأُولَى. [فَصْل شَرْط اللَّوْث] فَصْلٌ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ اللَّوْثِ أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ شَرْطٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 وَهَذَا قَوْلُ حَمَّادٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ، احْتَمَلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَلَنَا؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْأَلْ الْأَنْصَارَ، هَلْ كَانَ بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَوْ لَا؟ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ، كَغَمِّ الْوَجْهِ، وَالْخَنْقِ، وَعَصْرِ الْخُصْيَتَيْنِ، وَضَرْبَةِ الْفُؤَادِ، فَأَشْبَهَ مَنْ بِهِ أَثَرٌ، وَمَنْ بِهِ أَثَرٌ قَدْ يَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهِ؛ لِسَقْطَتِهِ، أَوْ صَرْعَتِهِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَثَرَ، إنْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ، فَهُوَ لَوْثٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْخَنْقِ لَهُ، أَوْ أَمْرٍ أُصِيبَ بِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفِهِ، فَهَلْ يَكُونُ لَوْثًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي بِمَا تَثْبُتُ الْقَسَامَة] (7018) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَثْبُتُ مَا لَمْ يَتَّفِقْ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى الدَّعْوَى، فَإِنْ كَذَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: قَتَلَهُ هَذَا. وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا. أَوْ قَالَ: بَلْ قَتَلَهُ هَذَا الْآخَرُ، لَمْ تَثْبُتْ الْقَسَامَةُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا. وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِتَبْرِئَةِ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَخُوهُ، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ ادَّعَى دَيْنًا لَهُمَا، وَإِنَّمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ كَالْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي حَقِّهَا؛ فَأَمَّا إنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِي الدَّعْوَى، مِثْلُ أَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا؛ قَتَلَهُ هَذَا. وَقَالَ الْآخَرُ: لَا نَعْلَمُ قَاتِلَهُ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَثْبُتُ؛ لِاشْتِرَاطِهِ ادِّعَاءَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى وَاحِدٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ غَائِبًا، فَادَّعَى الْحَاضِرُ دُونَ الْغَائِبِ، أَوْ ادَّعَيَا جَمِيعًا عَلَى وَاحِدٍ، وَنَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْأَيْمَانِ، لَمْ يَثْبُتْ الْقَتْلُ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي، ثُبُوتُ الْقَسَامَةِ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يُكَذِّبْ الْآخَرَ، فَلَمْ تَبْطُلْ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ امْرَأَةً أَوْ صَغِيرًا، فَعَلَى قَوْلِهِمْ، يَحْلِفُ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءُ مِنْ الْحَقِّ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْبَيِّنَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا لِأَبِيهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْن إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً كَامِلَةً. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا، أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَقْسُومَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الدَّعْوَى، وَلَا يَحْلِفُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ أَقْسَمَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخِيهِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَهَلْ يَحْلِفُ الثَّانِي خَمْسِينَ أَوْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا يَقُولُ، يَحْلِفُ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِخَمْسِينَ، فَكَذَلِكَ هُوَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 وَلَنَا، أَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا فِي الدَّعْوَى، فَلَمْ تَثْبُتْ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَيْمَانِهِمَا الَّتِي أُقِيمَتْ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي الْأَيْمَانِ، كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. فَعَلَى هَذَا، إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ، فَوَافَقَ أَخَاهُ، أَوْ عَادَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُهُ، هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي. أَقْسَمَا حِينَئِذٍ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ هَذَا. وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ هَذَا وَفُلَانٌ. فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، لَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، يَحْلِفَانِ عَلَى مَنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَيَسْتَحِقَّانِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَلَا يَجِبُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ، وَيَحْلِفَانِ جَمِيعًا عَلَى هَذَا الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَاهُمَا، وَيَسْتَحِقَّانِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُكَذِّبُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَبَقِيَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِ فِي نِصْفِ الدَّمِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَذَّبَهُ أَخُوهُ فِيهِ، وَلَا يَحْلِفُ الْآخَرُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ كَذَّبَهُ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَ أَبِي زَيْدٌ وَآخَرُ لَا أَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ عَمْرٌو وَآخَرُ لَا أَعْرِفُهُ. لَمْ تَثْبُتْ الْقَسَامَةُ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُمَا مَا اتَّفَقَا فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّفِقَا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ إنَّمَا ثَبَتَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِأَيْمَانِ الْجَمِيعِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ بِأَيْمَانِ الْبَعْضِ؟ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي: تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا تَكْذِيبٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَهِلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، هُوَ الَّذِي عَرَفَهُ أَخُوهُ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الَّذِي عَيَّنَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ رُبْعَ الدِّيَةِ، فَإِنْ عَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْت الَّذِي جَهِلَهُ، وَهُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي. حَلَفَ أَيْضًا عَلَى الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ أَخُوهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَيَحْلِفُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخِيهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، كَمَا لَوْ عَرَفَهُ ابْتِدَاءً. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ أَخَاهُ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. وَيَجِيءُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَحْلِفُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ النِّصْفُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْأَيْمَانِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَخُوهُ مَعَهُ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: الَّذِي كُنْت جَهِلْتُهُ غَيْرُ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي. بَطَلَتْ الْقَسَامَةُ الَّتِي أَقْسَمَاهَا؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَقْدَحُ فِي اللَّوْثِ؛ فَيَرُدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَخَذَ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَذَّبَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْآخَرُ، بَطَلَتْ قَسَامَةُ الْمُكَذَّبِ دُونَ الَّذِي لَمْ يُكَذَّبْ. [فَصْل قَالَ الْوَلِيّ بَعْدَ الْقَسَامَة غَلِطَتْ مَا هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ] (7019) فَصْلٌ: إنْ قَالَ الْوَلِيُّ بَعْدَ الْقَسَامَةِ: غَلِطْت، مَا هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ. أَوْ: ظَلَمْتُهُ بِدَعْوَايَ الْقَتْلَ عَلَيْهِ. أَوْ قَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 كَانَ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ يَوْمَ قَتْلِ وَلِيِّي، وَكَانَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ فِيهِ. بَطَلَتْ الْقَسَامَةُ، وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ. وَإِنْ قَالَ: مَا أَخَذْتُهُ حَرَامٌ. سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّنِي كَذَبْت فِي دَعْوَايَ عَلَيْهِ. بَطَلَتْ قَسَامَتُهُ أَيْضًا. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّ الْأَيْمَانَ تَكُونُ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. لَمْ تَبْطُلْ الْقَسَامَةُ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا مَغْصُوبٌ. وَأَقَرَّ بِمَنْ غَصَبَ مِنْهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِأَحَدٍ، لَمْ تُرْفَعْ يَدُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ. [فَصْلٌ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَة أَنَّهُ كَانَ يَوْم الْقَتْلِ فِي بَلَد بَعِيدِ مِنْ بَلَد الْمَقْتُول] (7020) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ، لَا يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، بَطَلَتْ الدَّعْوَى. وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْهُ. لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُجَرَّدٌ. فَإِنْ قَالَا: مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ، بَلْ قَتَلَهُ فُلَانٌ. سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ بِإِثْبَاتٍ تَضَمَّنَ النَّفْيَ، فَسُمِعَتْ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ. [فَصْلٌ جَاءَ رَجُل فَقَالَ مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ أَنَا قَتَلَتْهُ] فَصْلٌ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ أَنَا قَتَلْتُهُ. فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُلْ دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إنْ كَانَ أَخَذَهَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَنْ يُكَذِّبُهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ، أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجَبِ الْقَتْلِ، لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ بِبُطْلَانِ الدَّعْوَى. وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ مُطَالَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِحَقٍّ، فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ بِهِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ؛ إبْرَاءٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ مَنْ أَبْرَأَهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُمَا، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الثَّانِي بِالدِّيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالْقَتْلِ، فَأُخِذَ لِيُقَادَ مِنْهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ هَذَا، أَنَا قَتَلْتُهُ: فَالْقَوَدُ يَسْقُطُ عَنْهُمَا، وَالدِّيَةُ عَلَى الثَّانِي. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ، أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ رَجُلًا فِي خَرِبَةٍ، وَتَرَكَهُ وَهَرَبَ، وَكَانَ قَصَّابٌ قَدْ ذَبَحَ شَاةً، وَأَرَادَ ذَبْحَ أُخْرَى، فَهَرَبَتْ مِنْهُ إلَى الْخَرِبَةِ، فَتَبِعَهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْقَتِيلِ، وَالسِّكِّينُ بِيَدِهِ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ، فَأُخِذَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَجِيءَ بِهِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْقَاتِلُ فِي نَفْسِهِ: يَا وَيْلَهُ، قَتَلْت نَفْسًا، وَيُقْتَلُ بِسَبَبِي آخَرُ فَقَامَ فَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: إنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا فَقَدْ أَحْيَا نَفْسًا. وَدَرَأَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 عَنْهُ الْقِصَاصَ. وَلِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْأَوَّلِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ الثَّانِي: وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ الْمُوجِبِ لَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَأَعْدَلُ، مَعَ شَهَادَةِ الْأَثَرِ بِصِحَّتِهِ. [الْفَصْلُ الثَّالِث الْأَوْلِيَاء إذَا اُدْعُوَا الْقَتْل عَلَى مِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ لَوْثٌ] (7022) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا ادَّعَوْا الْقَتْلَ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ لَوْثٌ، شُرِعَتْ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِينَ أَوَّلًا، فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَثَبَتَ حَقُّهُمْ قِبَلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا، اُسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَبُرِّئَ. وَبِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ أَوَّلًا خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُبَرَّءُونَ. فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا، اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ مِنْ الْمُدَّعِينَ، أَنَّ حَقَّنَا قِبَلَكُمْ، ثُمَّ يُعْطَوْنَ الدِّيَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ ". وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَار «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْيَهُودِ، وَبَدَأَ بِهِمْ: يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا. فَأَبَوْا، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: اسْتَحِقُّوا قَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُول اللَّهِ. فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْيَهُودِ» ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي دَعْوَى، فَوَجَبَتْ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ، بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا، وَيُغَرَّمُونَ الدِّيَةَ؛ لِقَضَاءِ عُمَرَ، بِذَلِكَ. وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَتَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ قِبْطِيٍّ، أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: وَاَيْمُ اللَّهِ، مَا كَانَ سَهْلٌ بِأَعْلَمَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ، قَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ إلَى يَهُودَ حِينَ كَلَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ: إنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ قَتِيلٌ فَدُوهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 فَكَتَبُوا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِهِ» . . وَلَنَا حَدِيثُ سَهْلٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَعَمِلَ بِهِ. وَمَا عَارَضَهُ مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ نَفْيٌ، فَلَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُ الْمُثْبِتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَهْلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهَدَ الْقِصَّةَ، وَعَرَفَهَا، حَتَّى إنَّهُ قَالَ: رَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ وَالْآخَرَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَظَنِّهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا حَضَرَ الْقِصَّةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَدِيثَنَا مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُهُمْ بِخِلَافِهِ. الرَّابِعُ، أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِحَدِيثِهِمْ، وَلَا حَدِيثِنَا، فَكَيْفَ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ، وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ صُحْبَةً، فَهُوَ أَدْنَى لَهُمْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَقَدْ خَالَفَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . لَمْ تُرَدَّ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَا يُعْطَوْنَ بِدَعْوَاهُمْ، وَهَا هُنَا قَدْ أُعْطُوا بِدَعْوَاهُمْ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَنَا أَخَصُّ مِنْهُ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ، ثُمَّ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِكَوْنِ الْمُدَّعِينَ أُعْطُوا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، إلَّا فِي الْقَسَامَةِ» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ؛ وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ. فَيُبْدَأُ فِيهَا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، كَاللِّعَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ خَمْسُونَ مُرَدَّدَةً، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ الْأَوْلِيَاء إذَا حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا الْقَوَد إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا] (7023) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا الْقَوَدَ، إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ: لَا تَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِ: «إمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ» . وَلِأَنَّ أَيْمَانَ الْمُدَّعِينَ إنَّمَا هِيَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَا يَجُوزُ إشَاطَةُ الدَّمِ بِهَا؛ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ مِنْهَا، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا النِّكَاحُ، وَلَا يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ، كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَيُسَلَّمُ إلَيْكُمْ. وَفِي لَفْظٍ: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» وَأَرَادَ دَمَ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْقَتِيلِ ثَابِتٌ لَهُمْ قَبْلَ الْيَمِينِ. وَالرُّمَّةُ: الْحَبْلُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْعَمْدُ، فَيَجِبُ بِهَا الْقَوَدُ، كَالْبَيِّنَةِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَادَ بِالْقَسَامَةِ الطَّائِفَةَ» . وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُدَّعِي مَعَ يَمِينِهِ، احْتِيَاطًا لِلدَّمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ، سَقَطَ هَذَا الْمَعْنَى. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَحْلِف الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ] (7024) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعُونَ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَبُرِّئَ هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ، وَيُغَرَّمُونَ الدِّيَةَ؛ لِقَضِيَّةِ عُمَرَ، وَخَبَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ» . أَيْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْكُمْ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَبْرَءُونَ مِنْ دَمِهِ» . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُغَرِّمْ الْيَهُودَ، وَأَنَّهُ أَدَّاهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَبْرَأُ بِهَا، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إعْطَاءٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَلَمْ يَجُزْ لِلْخَبَرِ، وَمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ لَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِهِ، كَدَعْوَى الْمَالِ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْغُرْمِ، فَلَمْ يُشْرَعْ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَحْلِف الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (7025) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَدَاهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَعْنِي أَدَّى دِيَتَهُ؛ لِقَضِيَّةِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ حِينَ قُتِلَ بِخَيْبَرَ، فَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا؛ وَقَالُوا: كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَوَدَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِهِ. كَرَاهِيَةَ أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ» . فَإِنْ تَعَذَّرَ فِدَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ الْيَمِينُ، وَقَدْ امْتَنَعَ مُسْتَحِقُّوهَا مِنْ اسْتِيفَائِهَا، فَلَمْ يَجِبْ لَهُمْ غَيْرُهَا، كَدَعْوَى الْمَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 [فَصْلٌ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنْ الْيَمِين] (7026) فَصْلٌ: وَإِنْ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنْ الْيَمِينِ، لَمْ يُحْبَسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُمْ يُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَنَا، أَنَّهَا يَمِينٌ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يُحْبَسْ عَلَيْهَا، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَلَا يُشَاطُ بِهَا الدَّمُ، كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَدِيهِ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرَوَى عَنْهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنُّكُولِ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ هَاهُنَا، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، يُفْضِي إلَى إهْدَارِ الدَّمِ، وَإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُدَّعِينَ، مَعَ إمْكَانِ جَبْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَوَجَّهَتْ فِي دَعْوَى أَمْكَنَ إيجَابُ الْمَالِ بِهَا، فَلَمْ تَخْلُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَهَا هُنَا لَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالٌ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْيَمِينِ؛ لَخَلَا مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعِينَ، إنْ قُلْنَا: مُوجَبُهَا الْمَالُ. فَإِنْ حَلَفُوا، اسْتَحَقُّوا، وَإِنْ نَكَلُوا، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. وَإِنْ قُلْنَا: مُوجَبُهَا الْقِصَاصُ. فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعِي، فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِ، كَمَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنْهَا بَعْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَرْدُودَةٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَلَا تُرَدُّ عَلَى مَنْ رَدَّهَا، كَدَعْوَى الْمَالِ. [مَسْأَلَةٌ شَهِدَتْ الْبَيِّنَة الْعَادِلَة أَنَّ الْمَجْرُوح قَالَ دَمِي عِنْد فُلَان] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَنَّ الْمَجْرُوحَ قَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِلْقَسَامَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْم؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: هُوَ لَوْثٌ؛ لِأَنَّ قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. فَكَانَ حُجَّةً. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمُ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ» وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُتْ؛ وَلِأَنَّهُ خَصْمٌ، فَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ لَوْثًا، كَالْوَلِيِّ. فَأَمَّا قَتِيلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَمُعْجِزَاتِ نَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حَيْثُ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَنْطَقَهُ بِقُدْرَتِهِ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُنْطِقَهُ بِالْكَذِبِ، بِخِلَافِ الْحَيِّ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْيَوْمَ، ثُمَّ ذَاكَ فِي تَنْزِيهِ الْمُتَّهَمِينَ، فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيَتُهَا إلَى تُهْمَةِ الْبَرِيئِينَ. [مَسْأَلَةٌ النِّسَاء وَالصَّبِيَّانِ لَا يَقْسِمُونَ] (7028) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لَا يُقْسِمُونَ يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ نِسَاءً وَصِبْيَانًا لَمْ يُقْسِمُوا؛ أَمَّا الصِّبْيَانُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْم أَنَّهُمْ لَا يُقْسِمُونَ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ حُجَّةٌ لِلْحَالِفِ، وَالصَّبِيُّ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ حُجَّةٌ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِذَا كُنَّ مِنْ أَهْلِ الْقَتِيلِ، لَمْ يُسْتَحْلَفْنَ. وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُنَّ مَدْخَلٌ فِي قَسَامَةِ الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْسِمُ فِي الْعَمْدِ إلَّا اثْنَانِ فَصَاعِدًا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْسِمُ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي دَعْوًى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» . وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْلُ الْعَمْدِ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ، كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْلُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي إثْبَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَالُ ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودَهَا الْمَالُ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُدَّعًى عَلَيْهَا الْقَتْلُ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يُقْسِمُ مِنْ الْعَصَبَةِ رِجَالٌ. لَمْ تُقْسِمْ الْمَرْأَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُقْسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَحْلَفَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُثْبِتُ بِقَوْلِهَا حَقًّا وَلَا قَتْلًا، وَإِنَّمَا هِيَ لِتَبْرِئَتِهَا مِنْهُ، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّهَا الْيَمِينُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ. فَعَلَى هَذَا، إذَا كَانَ فِي الْأَوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ، أَقْسَمَ الرِّجَالُ، وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، فَكَذَا لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالْأَيْمَانُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ قِصَاصًا، فَلَا يُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَسَامَةِ الْحَاضِرِ الْبَالِغِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ، فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْقَتْلِ، وَهُوَ لَا يَتَبَعَّضُ أَيْضًا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا، لَمْ يُقْسِمْ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلَا الْحَاضِرُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ حَلِفَ الْكَبِيرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 الْحَاضِرِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْمَالِ، كَالْخَطَإِ وَعَمْدِ الْخَطَإِ، فَلِلْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ، وَيَسْتَحِقَّ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَمْ يُقْسِمُ الْحَاضِرُ؟ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُقْسِمُ بِقِسْطِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى اثْنَيْنِ أَقْسَمَ الْحَاضِرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَقْسَمَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً أَقْسَمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ يَمِينًا، وَكُلَّمَا قَدِمَ غَائِبٌ أَقْسَمَ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَمِيعُ حَاضِرِينَ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا غَابَ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ قِسْطِهِ مِنْ الدِّيَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْلِفُ الْأَوَّلُ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الْأَيْمَانُ كُلُّهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا لِأَبِيهِمَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ نَصِيبَهُ مِنْهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ لِجَمِيعِهِ؛ وَلِأَنَّ الْخَمْسِينَ فِي الْقَسَامَةِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَلَوْ ادَّعَى مَالًا لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، لَهُ بِهِ شَاهِدٌ، لَحَلَفَ يَمِينًا كَامِلَةً، كَذَلِكَ هَذَا. فَإِذَا قَدِمَ الثَّانِي: أَقْسَمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَجْهًا وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخِيهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُقْسِمُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَيْضًا، لِأَنَّ أَخَاهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ بِخَمْسِينَ، فَكَذَلِكَ هُوَ. فَإِذَا قَدِمَ ثَالِثٌ، أَوْ بَلَغَ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، يُقْسِمُ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخَوَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا؛ أَنَّهُ يُقْسِمُ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا. وَالثَّانِي: خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ قَدِمَ رَابِعٌ، كَانَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل الْخُنْثَى الْمُشْكِل يَحْتَمِل أَنْ يَقْسِم] (7029) فَصْلٌ: وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسِمَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّمِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ مِنْ يَمِينِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا قَسَامَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مِنْ الْعَقْلِ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِ، أَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. [مَسْأَلَةٌ خَلَف الْمَقْتُولُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ] (7030) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا خَلَّفَ الْمَقْتُولُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ، فَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا. اخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ يَحْلِفُ مِنْ الْعَصَبَةِ الْوَارِثُ مِنْهُمْ وَغَيْرُ الْوَارِثِ، خَمْسُونَ رَجُلًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 وَهَذَا قَوْلٌ لِمَالِكٍ، فَعَلَى هَذَا، يَحْلِفُ الْوَارِثُ مِنْهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ، تُمِّمُوا مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ، يُؤْخَذُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ قَبِيلَتِهِ الَّتِي يَنْتَسِبُ إلَيْهَا، وَيُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نَسَبِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ، فَأَمَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الْقَبِيلَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ وَجْهُ النَّسَبِ، لَمْ يُقْسِمْ؛ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قُرَشِيًّا وَالْمَقْتُولُ قُرَشِيٌّ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نَسَبِهِ مِنْهُ، فَلَا يُقْسِمُ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ قُتِلَ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، لَمْ يُقْسِمْ عَنْهُ سَائِرُ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ نَسَبِهِ خَمْسُونَ، رُدِّدَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ، وَقُسِمَتْ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمْ، جُبِرَ كَسْرُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ: «يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» . وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ خَمْسُونَ رَجُلًا وَارِثًا، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ إلَّا أَخُوهُ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، أَوْ أَقْرَبُ مِنْهُ نَسَبًا، وَلِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهَذَا بَنِي عَمِّهِ، وَهُمْ غَيْرُ وَارِثِينَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُقْسِمُ إلَّا الْوَارِثُ، وَتُعْرَضُ الْأَيْمَانُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ دُونَ غَيْرِهِمْ، عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ. هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي دَعْوَى حَقٍّ، فَلَا تُشْرَعُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، تُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ، فَإِنْ انْقَسَمَتْ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ، مِثْلُ أَنْ يُخَلِّفَ الْمَقْتُولُ اثْنَيْنِ، أَوْ أَخًا وَزَوْجًا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَجَدًّا أَوْ أَخَوَيْنِ، جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ، فَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ تَكْمِيلَ الْخَمْسِينَ وَاجِبٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَبْعِيضُ الْيَمِينِ، وَلَا حَمْلُ بَعْضِهِمْ لَهَا عَنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُ الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ خَلَّفَ أَخًا مِنْ أَبٍ وَأَخًا مِنْ أُمٍّ، فَعَلَى الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ سُدُسُ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَسْرُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ تِسْعُ أَيْمَانٍ، وَعَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِينَ خَمْسِينَ يَمِينًا، سَوَاءٌ تَسَاوَوْا فِي الْمِيرَاثِ أَوْ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا حَلَفَهُ الْوَاحِدُ إذَا انْفَرَدَ، حَلَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ، كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُنْظَرُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْيَمِينِ. فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الْخَمْسِينَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» . وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأَيْمَانِ خَمْسُونَ، وَلَوْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ، لَكَانَتْ مِائَةً وَمِائَتَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ لِلْمُدَّعِينَ، فَلَمْ تَزِدْ عَلَى مَا يُشْرَعُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، كَالْبَيِّنَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 وَيُفَارِقُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهَا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهَا، فَكَمَلَتْ فِي حَقِّ وَاحِدٍ؛ كَالْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ فِي الْقَسَامَةِ، فَإِنَّهَا تُجْبَرُ وَتَكْمُلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِكَوْنِهَا لَا تَتَبَعَّضُ، وَمَا لَا يَتَبَعَّضُ يَكْمُلُ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْيَمِينِ عَمَّنْ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ تَسَاوَى الْكَسْرَانِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ نِصْفُهَا، أَوْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ ثُلُثُهَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى تَكْمُلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَسْتَوِي مَنْ لَهُ فِي الْمُدَّعَى كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ، كَذَا هَاهُنَا، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَتَحَمَّلَ الْيَمِينَ غَيْرُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَالْيَمِينِ الْكَامِلَةِ، وَكَالْجُزْءِ الْأَكْبَرِ. (7031) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا قَسَامَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، وَهُوَ النِّسَاءُ، سَقَطَ حُكْمُهُ، فَإِذَا كَانَ ابْنٌ وَبِنْتٌ، حَلَفَ الِابْنُ الْخَمْسِينَ كُلَّهَا. وَإِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ وَأَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، قُسِمَتْ الْأَيْمَانُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، عَلَى أَحَدَ عَشَرَ، عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى الْآخَرِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَسْرُ عَلَيْهِمَا، فَيَحْلِفُ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَمِينًا، وَالْأَخُ مِنْ الْأُمِّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ يَمِينًا. [فَصْلٌ مَاتَ الْمُسْتَحَقّ الْقَسَامَة] (7032) فَصْلٌ: فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَحِقُّ، انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَيْمَانِ، وَكَانَتْ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ، وَيُجْبَرُ الْكَسْرُ فِيهَا عَلَيْهِمْ، كَمَا يَنْجَبِرُ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ، قُسِمَ نَصِيبُهُ مِنْ الْأَيْمَانِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا، فَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ، وَخَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، قُسِمَتْ أَيْمَانُهُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةُ أَيْمَانٍ. وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ تِسْعَةَ أَيْمَانٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ فِي إثْبَاتِ حُجَجِهِ، كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ، وَهَذَا مِنْ حُجَجِهِ، وَلِذَلِكَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ وَالْحَلِفَ فِي الْإِنْكَارِ، وَمَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي دَعْوَى الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَيْمَانِ، فَحَلَفَ بَعْضَهَا، فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَسْتَأْنِفُونَ الْأَيْمَانَ، وَلَا يَبْنُونَ عَلَى أَيْمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ جَرَتْ مَجْرَى الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ بِيَمِينِ غَيْرِهِ، وَلَا يَبْطُلُ هَذَا بِمَا إذَا حَلَفَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَالَ إرْثًا عَنْهُ، لَا بِيَمِينِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْوَارِثَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا، فَإِنَّ الدِّيَةَ تُسْتَحَقُّ بِيَمِينِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْأَيْمَانِ، وَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَيْمَانِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْعَدَدِ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِهَا. [فَصْلٌ حَلَفَ بَعْض الْأَيْمَانِ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ] (7033) فَصْلٌ: وَلَوْ حَلَفَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ جُنَّ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَإِنَّهُ يُتَمِّمُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ؛ لِأَنَّ أَيْمَانَهُ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 وَيُفَارِقُ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ إتْمَامُ الْأَيْمَانِ مِنْهُ، وَغَيْرُهُ لَا يَبْنِي عَلَى يَمِينِهِ، وَهَا هُنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُتِمَّهَا إذَا أَفَاقَ، وَلَا تَبْطُلُ بِالتَّفْرِيقِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَلَّفَهُ بَعْضَ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ تَشَاغَلَ عَنْهُ، لَمْ تَبْطُلْ، وَيُتِمُّهَا، وَمَا لَا يُبْطِلُهُ التَّفْرِيقُ، لَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّلُ الْجُنُونِ لَهُ كَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ عُزِلَ الْحَاكِمُ، وَوُلِّيَ غَيْرُهُ، أَتَمَّهَا عِنْدَ الثَّانِي: وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بَعْضَهَا، ثُمَّ سَأَلَ الْحَاكِمَ إنْظَارَهُ، فَأَنْظَرَهُ، بَنَى عَلَى مَا مَضَى، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْنَافُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ رَدَّتْ الْأَيْمَان عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَكَانَ عَمْدًا] (7034) فَصْلٌ: إذَا رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَكَانَ عَمْدًا، لَمْ تَجُزْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ غَيْر عَمْدٍ، كَالْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ مِنْ شَرْطِهَا اللَّوْثُ، وَالْعَدَاوَةُ، إنَّمَا أَثَرُهَا فِي تَعَمُّدِ الْقَتْلِ، لَا فِي خَطَئِهِ، فَإِنَّ احْتِمَالَ الْخَطَإِ فِي الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: فِيهِ قَسَامَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّوْثَ لَا يَخْتَصُّ الْعَدَاوَةَ عِنْدَهُمْ. فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الدَّعْوَى عَلَى جَمَاعَةٍ، فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَى جَمَاعَةٍ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُقْسَمُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، كَقَسْمِهَا بَيْنَ الْمُدَّعِينَ، إلَّا أَنَّهَا هَاهُنَا تُقْسَمُ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مُتَسَاوُونَ فِيهَا، فَهُمْ كَبَنِي الْمَيِّتِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ لَكُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَبْرَءُونَ مِنْ دَمِهِ» . وَلِأَنَّهُمْ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِي الْقَسَامَةِ، فَتَسْقُطُ الْأَيْمَانُ عَلَى عَدَدِهِمْ، كَالْمُدَّعِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْلِفُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلًا، رُدِّدَتْ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ حَتَّى تَكْمُلَ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ يَحْلِفُ إلَّا الَّذِي اُدُّعِيَ عَلَيْهِ، حَلَفَ وَحْدَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» . وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ يُبْرِئُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنْ الْقَتْلِ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُونَ، كَمَا لَوْ اُدُّعِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ قَتِيلٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُبْرِئُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَ الِاشْتِرَاكِ إلَّا مَا يُبْرِئُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِينَ، فَإِنَّ أَيْمَانَهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَلْفِيقِهَا تَلْفِيقُ مَا يَخْتَلِفُ مَدْلُولُهُ أَوْ مَقْصُودُهُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمَقْتُول مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا] (7035) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ يُقْتَلُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تُوجِبُ الْقَوَدَ، إلَّا أَنْ يُحِبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَخْذَ الدِّيَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا حُرًّا، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَسَامَةِ قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ حِينَ قُتِلَ بِخَيْبَرَ، فَاتُّهِمَ الْيَهُودُ بِقَتْلِهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَامَةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، وَكَانَ قَاتِلُهُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ الْمُمَاثِلُ لَهُ فِي حَالِهِ، فَفِيهِ الْقَسَامَةُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا قَسَامَةَ فِي الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ مَالٌ، فَلَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ فِيهِ، كَقَتْلِ الْبَهِيمَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَتْلٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، فَأَوْجَبَ الْقَسَامَةَ، كَقَتْلِ الْحُرِّ، وَفَارَقَ الْبَهِيمَةَ؛ فَإِنَّهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا. وَيُقْسِمُ عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ، لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِدَمِهِ. وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، كَالْقِنِّ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِيهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِمَّنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ يَقْتُلُ كَافِرًا، وَالْحُرِّ يَقْتُلُ عَبْدًا، فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَة إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِمَا الْقَسَامَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَشَرَعَتْ الْقَسَامَةُ فِيهِ، كَقَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حُجَّةً فِي قَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، كَانَ حُجَّةً فِي قَتْلِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، كَالْبَيِّنَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَأَشْبَهَ قَتْلَ الْبَهِيمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِهَا فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، شَرْعُهَا مَعَ عَدَمِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا اُتُّهِمَ بِقَتْلِ سَيِّدِهِ، شُرِعَتْ الْقَسَامَةُ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لَمْ تُشْرَعْ الْقَسَامَةُ. [فَصْلٌ قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَب] (7036) فَصْلٌ: وَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ، فَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَفِي بَدَلِهِ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ، وَلَهُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَبْدًا، فَقُتِلَ، فَالْقَسَامَةُ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ؛ لِأَنَّ مَا يَبْتَاعُهُ الْمَأْذُونُ يَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ دُونَهُ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ. وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ، فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُقْسِمَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْمُسْتَحِقَّ لِبَدَلِ الْمَقْتُولِ، بِمَنْزِلَةِ وَرَثَةِ الْحُرِّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ، وَلَوْ مَلَّكَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ عَبْدًا فَقُتِلَ، فَالْقَسَامَةُ لِلسَّيِّدِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَمْلِكُ الْعَبْدُ بِالتَّمْلِيكِ، أَوْ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَمْلِكْ، فَالْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ مَلَكَ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ سَيِّدُهُ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ. وَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِبَدَلِ الْعَبْدِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ، كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةٍ لَمْ تُخْلَقْ. وَالْقَسَامَةُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ الْقَائِمُونَ مَقَامَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 الْمُوصِي فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ، فَإِذَا حَلَفُوا، ثَبَتَ لَهَا الْبَدَلُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَحْلِفَ، كَمَا إذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ. [فَصْلٌ الْمَحْجُور عَلَيْهِ لَسَفَهٍ أَوْ فَلْس فِي دَعْوَى الْقَتْلِ] (7037) فَصْلٌ: وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، كَغَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فِي دَعْوَى الْقَتْلِ، وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ، أَوْ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ بِالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي حَالِ حَجْرِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ جُرِحَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ] (7038) فَصْلٌ: وَلَوْ جُرِحَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ، وَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ، فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْجُرْحَ، وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ فَيْئًا، وَالْفَيْءُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ لَهُ. وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمًا، فَارْتَدَّ وَارِثُهُ قَبْلَ الْقَسَامَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ، وَإِنْ أَقْسَمَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ وَحُقُوقِهِ، فَلَا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلْقَسَامَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ. وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ دَمَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا قَتْلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ، فَإِنْ أَقْسَمَ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَالِ بِالْقَسَامَةِ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرِدَّتِهِ، كَاكْتِسَابِ الْمَالِ بِوُجُوهِ الِاكْتِسَابِ، وَكُفْرُهُ لَا يَمْنَعُ يَمِينَهُ، فَإِنَّ الْكَافِرَ تَصِحُّ يَمِينُهُ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ فِي الدَّعَاوَى فَإِنْ حَلَفَ، ثَبَتَ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، كَانَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ فَيْئًا. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ، وَإِمَّا مَوْقُوفٌ، وَحُقُوقُ الْمَالِ حُكْمُهَا حُكْمُهُ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ، فَلَا حَقَّ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مَوْقُوفٌ. فَهُوَ قَبْلَ انْكِشَافِ حَالِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِشَيْءٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، فَكَيْفَ وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَلَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشَّكِّ. فَأَمَّا إنْ ارْتَدَّ قَبْلَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ، لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، وَلَا حَقَّ لَهُ، وَتَكُونُ الْقَسَامَةُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْوُرَّاثِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ، فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قَسَامَةِ غَيْرِهِ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى رَجَعَ قَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ، قُسِمَ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَعُودُ الْقَسَامَةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ ارْتَدَّ رَجُلٌ فَقُتِلَ عَبْدُهُ، أَوْ قُتِلَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، عَادَتْ الْقَسَامَةُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ الْعَبْدِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 [فَصْلٌ لَا قَسَامَة فِيمَا دُون النَّفْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْجَوَارِح] (7039) فَصْلٌ: وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْجَوَارِحِ. وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا، وَمِمَّنْ قَالَ: لَا قَسَامَةَ فِي ذَلِكَ. مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَثْبُتُ فِي النَّفْسِ لِحُرْمَتِهَا، فَاخْتَصَّتْ بِهَا دُونَ الْأَطْرَافِ، كَالْكَفَّارَةِ؛ وَلِأَنَّهَا تَثْبُتُ حَيْثُ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَتَعْيِينُ قَاتِلِهِ، وَمَنْ قُطِعَ طَرَفُهُ، يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَحُكْمُ الدَّعْوَى فِيهِ حُكْمُ الدَّعْوَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ يَمِينًا وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّهَا دَعْوَى لَا قَسَامَةَ فِيهَا، فَلَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ، كَالدَّعْوَى فِي الْمَالِ. [مَسْأَلَة لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ] (7040) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ قَتْلِ وَاحِدٍ. وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَقُّ بِهَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ، كَالْبَيِّنَةِ. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» . فَخَصَّ بِهَا الْوَاحِدَ؛ وَلِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ ضَعِيفَةٌ، خُولِفَ بِهَا الْأَصْلُ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا عَدَاهُ. وَبَيَانُ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِهَا، أَنَّهَا تَثْبُتُ بِاللَّوْثِ، وَاللَّوْثُ شُبْهَةٌ مُغَلِّبَةٌ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي، وَالْقَوَدُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى تَثْبُتُ ابْتِدَاءً فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. وَبَيَانُ ضَعْفِهَا، أَنَّهَا تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي وَيَمِينِهِ، مَعَ التُّهْمَةِ فِي حَقِّهِ، وَالشَّكِّ فِي صِدْقِهِ، وَقِيَامِ الْعَدَاوَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ لِغَيْرِهِ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ وَحْدَهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ لِنَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفَارَقَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّهَا قَوِيَتْ بِالْعَدَدِ، وَعَدَالَةِ الشُّهُودِ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّهِمْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، فِي كَوْنِهِمْ لَا يُثْبِتُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَقًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْهَا ضُرًّا، وَلَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهَا سَائِرُ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ الَّتِي تَنْتَفِي بِالشُّبُهَاتِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا قَسَامَةَ فِيمَا لَا قَوَدَ فِيهِ، فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، فَيَطَّرِدُ قَوْلُهُ فِي أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا فِي حَقِّ وَاحِدٍ. وَعِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجْرِي فِيمَا لَا قَوَدَ فِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمُوا فِي هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَا، إنْ ادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ، عَلَى أَحَدِهِمَا لَوْثٌ، حَلَفَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ اللَّوْثُ خَمْسِينَ يَمِينًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَحَلَفَ الْآخَرُ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَبُرِّئَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَيْهِمْ لَوْثٌ، وَلَمْ يَحْضُرْ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، حَلَفَ عَلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَضَرَ الثَّانِي: فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْلِفُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَيْضًا، وَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ عَلَى الْآخَرِ، كَالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى الثَّانِي: كَإِقَامَتِهَا عَلَى الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: يَحْلِفُ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ حَضَرَا مَعًا، لَحَلَفَ عَلَيْهِمَا خَمْسِينَ يَمِينًا، حِصَّةُ هَذَا مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُقْسَمُ عَلَيْهِمْ إذَا حَضَرُوا، وَلَوْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ، وَإِنَّمَا الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَتَتَنَاوَلُهُمْ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهَا لَوْ قُسِمَتْ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَيْمَانِ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، لَا وَجْهَ لِحَلِفِهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا. وَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَلَفَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَحِصَّةِ الثَّالِثِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ. وَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ: فَفِيهِ الْوَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا، يَحْلِفَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الدِّيَةِ. وَالْآخَرُ، يَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا. وَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا، حَلَفَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، وَهَذَا التَّفْرِيعُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقْتَ الْأَيْمَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ، فَاشْتُرِطَ حُضُورُ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ، كَالْبَيِّنَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، اُشْتُرِطَ حُضُورُ الْمُدَّعِينَ وَقْتَ حَلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ، فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِهَا وَحُضُورُهُ، إلَّا أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا، فَيَقُومَ حُضُورُهُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ. [فَصْلٌ قَالَ الْمُدَّعِي قَتَلَهُ هَذَا وَرَجُلٌ آخَرُ لَا أَعْرِفُهُ] (7041) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: قَتَلَهُ هَذَا وَرَجُلٌ آخَرُ لَا أَعْرِفُهُ. وَكَانَ عَلَى الْمُعَيَّنِ لَوْثٌ، أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ لَهُ الْآخَرُ، حَلَفَ عَلَيْهِ، وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَالَ: قَتَلَهُ هَذَا، وَنَفَرٌ لَا أَعْلَمُ عَدَدَهُمْ. لَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَمْ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ. [فَصْلٌ لَا تَسْمَع الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً] (7042) فَصْلٌ: وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً، بِأَنْ يَقُولَ: أَدَّعِي أَنَّ هَذَا قَتَلَ وَلِيِّي فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ، عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ الْعَمْدِ. وَيَصِفُ الْقَتْلَ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا قَالَ: قَصَدَ إلَيْهِ بِسَيْفٍ، أَوْ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا. فَإِنْ كَانَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ، فَأَقَرَّ ثَبَتَ الْقَتْلُ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَثَمَّ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَإِلَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْأَيْمَانِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَقُولَ: قَتَلَهُ هَذَا، وَهَذَا تَعَمَّدَ قَتْلَهُ. وَيَصِفُ الْعَمْدَ بِصِفَتِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَيِّنْ وَاحِدًا. فَإِنَّ الْقَسَامَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْقَوَدِ لَا تَكُونُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: تَعَمَّدَ هَذَا، وَهَذَا كَانَ خَاطِئًا، فَهُوَ يَدَّعِي قَتْلًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ، فَيُقْسِمُ عَلَيْهِمَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْعَامِدِ، وَنِصْفَهَا مِنْ عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ. الْحَالُ الثَّالِثُ؛ أَنْ يَقُولَ: عَمَدَ هَذَا، وَلَا أَدْرِي أَكَانَ قَتْلُ الثَّانِي عَمْدًا أَوْ خَطَأً؟ فَقِيلَ: لَا تَسُوغُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُخْطِئًا، فَيَكُونَ مُوجَبُهَا الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، فَلَا تَسُوغُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا، وَيَجِبُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ، وَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُوجَبُهَا الْقَوَدَ، فَلَمْ تَجُزْ الْقَسَامَةُ مَعَ هَذَا. فَإِنْ عَادَ فَقَالَ: عَلِمْت أَنَّ الْآخَرَ كَانَ عَامِدًا. فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا، وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: كَانَ مُخْطِئًا. ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ حِينَئِذٍ، وَيُسْأَلُ، فَإِنْ أَنْكَرَ، ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ. وَإِنْ أَقَرَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَا بِالْقَسَامَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا. الْحَالُ الرَّابِعُ، أَنْ يَقُولَ: قَتَلَاهُ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا خَاطِئٌ، وَالْآخَرُ شِبْهُ الْعَمْدِ. فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا، فَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَمْدِ، فَفَسَّرَهُ بِعَمْدِ الْخَطَإِ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ، وَأَقْسَمَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي وَصْفِ الْقَتْلِ بِالْعَمْدِيَّةِ. وَنَقْلَ الْمُزَنِيّ، عَنْ الشَّافِعِيِّ: لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْعَمْدِ بَرَّأَ الْعَاقِلَةَ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَالَ. وَلَنَا، أَنَّ دَعْوَاهُ قَدْ تَحَرَّرَتْ، وَإِنَّمَا غَلِطَ فِي تَسْمِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ عَمْدًا، وَهَذَا مِمَّا يَشْتَبِهُ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ. وَلَوْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَتَبَيُّنِ نَوْعِ الْقَتْلِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، فَكَأَنَّهُ حَلَّفَهُ قَبْلَ الدَّعْوَى، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَلِّفُهُ لِيُوجِبَ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِدَعْوَاهُ، لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ، فَلَمْ يَصِحَّ. [فَصْلٌ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى الْقَاتِلِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ] (7043) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى الْقَاتِلِ، إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْ مَكَانِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ: «تَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» . وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ، وَالْقَتْلُ بِخَيْبَرَ. وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْلِفُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا، فَجَاءَ آخَرُ يَدَّعِيهِ، جَازَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِلْكُ الَّذِي بَاعَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ شَيْئًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ أَبِيهِ وَدَفْتَرِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ عَيْبًا، فَادَّعَى عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَعِيبٌ، وَأَرَادَ رَدَّهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنْ الْعَيْبِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي إلَّا بَعْدَ الِاسْتِثْبَاتِ، وَغَلَبَةِ ظَنٍّ يُقَارِبُ الْيَقِينَ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاسْتَثْبِتُوا. وَيَعِظَهُمْ، وَيُحَذِّرَهُمْ، وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] . وَيُعَرِّفَهُمْ مَا فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَظُلْمِ الْبَرِيءِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ اسْتِظْهَار أَلْفَاظ الْيَمِين فِي الْقَسَامَة تَأْكِيدًا] (7044) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ تَأْكِيدًا، فَيَقُولَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ. فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظَةِ: وَاَللَّهِ. كَفَى، أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ، أَوْ بِاَللَّهِ، أَوْ تَاللَّهِ. بِالْجَرِّ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ. فَإِنْ قَالَهُ مَضْمُومًا، أَوْ مَنْصُوبًا، فَقَدْ لَحَنَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُجْزِئُهُ تَعَمَّدَهُ أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ؛ لِأَنَّهُ لَحْنٌ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا تَأْكِيدٌ، وَيَقُولُ: لَقَدْ قَتَلَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ وَيُشِيرُ إلَيْهِ فُلَانًا ابْنِي، أَوْ أَخِي، مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ، مَا شَرَكَهُ غَيْرُهُ. وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ قَالَ: مُنْفَرِدَيْنِ، مَا شَرَكَهُمَا غَيْرُهُمَا. ثُمَّ يَقُولُ: عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَبِأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، حَلَفَ، أَجْزَأَ، إذَا كَانَ إطْلَاقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَقُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ، وَلَا شَارَكْت فِي قَتْلِهِ، وَلَا أَحْدَثْت شَيْئًا مَاتَ مِنْهُ، وَلَا كَانَ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَلَا مُعِينًا عَلَى مَوْتِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً أَوْ شَارَكَ فِيهَا] (7045) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً، أَوْ شَارَكَ فِيهَا، أَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، وَكَانَ الْفِعْلُ خَطَأً، فَعَلَى الْقَاتِلِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الْأَصْلُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . الْآيَةَ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأً كَفَّارَةً سَوَاءً كَانَ الْمَقْتُولُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَتَجِبُ فِي قَتْلِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، سَوَاءٌ بَاشَرَهُ بِالْقَتْلِ، أَوْ تَسَبَّبَ إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَضْمَنُ بِهِ النَّفْسَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَنَصْبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 السِّكِّينِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ، وَلِأَنَّهُ ضَمِنَ بَدَلَهُ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلْقَتْلِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ كَالْعَاقِلَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الضَّمَانِ، فَكَانَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِ الْآدَمِيِّ، يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُهُ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَأَوْطَأَ دَابَّتَهُ إنْسَانًا. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْأَبِ إذَا أَكْرَهَ إنْسَانًا عَلَى قَتْلِ ابْنِهِ؛ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، وَفَارَقَ الْعَاقِلَةَ؛ فَإِنَّهَا تَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهَا. وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا قَتْلٌ، وَلَا تَسَبُّبٌ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ بِقَتْلٍ. مَمْنُوعٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَلْزَمُ الشُّهُودَ الْكَفَّارَةُ، سَوَاءٌ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، أَوْ تَعَمَّدْنَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالسَّبَبِ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَصَدَ بِهِ الْقَتْلَ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْخَطَإِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ. [فَصْلٌ تَجِب الْكَفَّارَة بِقَتْلِ الْعَبْدِ] (7046) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبُ بِهِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، أَشْبَهَ الْبَهِيمَةَ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلِأَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ، كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَيُفَارِقُ الْبَهَائِمَ بِذَلِكَ. [فَصْل كَفَّارَة قَتَلَ الْكَافِر] (7047) فَصْلٌ: وَتَجِبُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ الْمَضْمُونِ، سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا. وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ: لَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . فَمَفْهُومُهُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَالذِّمِّيُّ لَهُ مِيثَاقٌ، وَهَذَا مَنْطُوقٌ يُقَدَّمُ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ ظُلْمًا، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ، كَالْمُسْلِمِ. [فَصْلٌ قَتَلَ الصَّبِيّ أَوْ الْمَجْنُونُ] (7048) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، تَجِبُ بِالشَّرْعِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ، يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِمْ، كَالدِّيَةِ. وَتُفَارِقُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ، وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ، أَشْبَهَتْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ. وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ، وَلَا قَوْلَ لَهُمَا، وَهَذِهِ تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، وَفِعْلُهُمَا مُتَحَقِّقٌ قَدْ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا، وَيَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِإِحْبَالِهِمَا دُونَ إعْتَاقِهِمَا بِقَوْلِهِمَا. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ، كَالْحُدُودِ. [فَصْلٌ قَتَلَ فِي دَار الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ كَافِرًا] (7049) فَصْلٌ: وَمَنْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ كَافِرًا، أَوْ رَمَى إلَى صَفِّ الْكُفَّارِ، فَأَصَابَ فِيهِمْ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . [فَصْلٌ كُلَّ قَتْلٍ مُبَاحٍ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ] (7050) فَصْلٌ: وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ كُلَّ قَتْلٍ مُبَاحٍ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، كَقَتْلِ الْحَرْبِيِّ، وَالْبَاغِي، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَالْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ لِمَحْوِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَأَمَّا الْخَطَأُ، فَلَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ وَلَا إبَاحَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَفِعْلِ الْمَجْنُونِ، وَالْبَهِيمَةِ، لَكِنَّ النَّفْسَ الذَّاهِبَةَ بِهِ مَعْصُومَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُحْتَرَمَةٌ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَطَأُ مُحَرَّمٌ وَلَا إثْمَ فِيهِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا أَثِمَ فَاعِلُهُ، وَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] . هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَ {إِلا} [النساء: 92] فِي مَوْضِعِ " لَكِنْ ". التَّقْدِيرُ: لَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً. وَقِيلَ: {إِلا} [النساء: 92] بِمَعْنَى " وَلَا "، أَيْ وَلَا خَطَأً. وَهَذَا يَبْعُدُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ النَّهْيُ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحْرِيمِ مِنْهُ، وَكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوُسْعِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى " وَلَا " كَانَتْ عَاطِفَةً لِلْخَطَإِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ قَبْلَهُ مَا يَصْلُحُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَتْلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إيمَانٌ وَلَا أَمَانٌ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِمْ، لِانْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ يَصِيرُونَ بِالسَّبْيِ رَقِيقًا يُنْتَفَعُ بِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَتْلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، لَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُضْمَنُوا بِشَيْءٍ، فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتْلُهُ مُبَاحٌ. [فَصْلٌ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً] (7051) فَصْلٌ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ لَا يَجِبُ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ، كَقَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُؤْمِنٌ مَقْتُولٌ خَطَأً، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ «عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ، قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِكَفَّارَةٍ» . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا إذَا قَتَلَ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَقَاتِلُ نَفْسِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ؛ بِدَلِيلِ قَتْلِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَارِكْ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ] (7052) فَصْلٌ: وَمَنْ شَارَكَ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ شُرَكَائِهِ كَفَّارَةٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ عَلَى الْجَمِيعِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ. وَاحْتَجَّ لِمَنْ أَوْجَبَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَ {مِنْ} [النساء: 92] يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ، وَلَمْ يُوجِبْ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَدِيَةً، وَالدِّيَةُ لَا تَتَعَدَّدُ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةُ قَتْلٍ، فَلَمْ تَتَعَدَّدْ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ مَعَ اتِّحَادِ الْمَقْتُولِ، كَكَفَّارَةِ الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، وَهِيَ مِنْ مُوجَبِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ، فَكَمَلَتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِكِينَ، كَالْقِصَاصِ. وَتُخَالِفُ كَفَّارَةَ الصَّيْدِ؛ فَإِنَّهَا تَجِبُ بَدَلًا، وَلِهَذَا تَجِبُ فِي أَبْعَاضِهِ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ. [فَصْل ضَرَبَ بَطْن امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا] (7053) فَصْلٌ: إذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ. وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ. [فَصْلٌ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ] (7054) فَصْلٌ: وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، قَالَ: «أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاحِبٍ لَنَا، قَدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 أُوجِبَ بِالْقَتْلِ. فَقَالَ: اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً، يَعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» .، وَلِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ إثْمًا، وَأَكْبَرُ جُرْمًا، وَحَاجَتُهُ إلَى تَكْفِيرِ ذَنْبِهِ أَعْظَمُ. وَلَنَا، مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ الْعَمْدِ، فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً، وَجَعَلَ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَرُوِيَ «أَنَّ سُوَيْدٌ بْنَ الصَّامِتِ قَتَلَ رَجُلًا، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ الْقَوَدَ، وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً» . «وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَدَاهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً» . وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً، كَزِنَى الْمُحْصَنِ، وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ خَطَأً، وَسَمَّاهُ مُوجِبًا، أَيْ فَوَّتَ النَّفْسَ بِالْقَتْلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ تَبَرُّعًا، وَلِذَلِكَ أَمَرَ غَيْرَ الْقَاتِلِ بِالْإِعْتَاقِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخَطَإِ، فَتَمْحُو إثْمَهُ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَخْلُو مِنْ تَفْرِيطٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إيجَابُهَا فِي مَوْضِعٍ عَظُمَ الْإِثْمُ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَفِعُ بِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ، وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ وَالسَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَالْحُرِّ الْعَبْدَ، وَالْمُسْلِمِ الْكَافِرَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمْدِ. [فَصْلٌ تَجِب الْكَفَّارَة فِي شِبْهِ الْعَمْدِ] (7055) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ. وَلَمْ أَعْلَمْ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا، لَكِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَإِ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ، وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ دِيَتَهُ، وَتَأْجِيلِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَجَرَى مَجْرَاهُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا لَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ لِتَحَمُّلِهِ الْكَفَّارَةَ، فَلَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، تَحَمَّلَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْقَاتِلُ عَنْ وُجُوبِ شَيْءٍ أَصْلًا، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 [فَصْلٌ كَفَّارَة الْقَتْل] (7056) فَصْلٌ: وَكَفَّارَةُ الْقَتْل عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، بِنَصِّ الْكِتَابِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي مِلْكِهِ، فَاضِلَةً عَنْ حَاجَتِهِ، أَوْ يَجِدْ ثَمَنَهَا، فَاضِلًا عَنْ كِفَايَتِهِ، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَثْبُتُ الصِّيَامُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَوْ وَجَبَ لَذَكَرَهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ فِيهَا عِتْقٌ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَكَانَ فِيهَا إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِنْدَ عَدَمِهَا، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي نَظِيرِهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إنْ عَجَزَ عَنْ الْإِطْعَامِ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي هَذَا، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَبُول قَوْلِ الْعُدُول فِي الْقِصَاص] (7057) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا عَدْلَانِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي نَفْسٍ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مِنْ الْمُكَافِئِ، أَوْ فِي طَرَفٍ، كَقَطْعِهِ مِنْ مَفْصِلٍ عَمْدًا مِمَّنْ يُكَافِئُهُ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينُ الطَّالِبِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إرَاقَةُ دَمٍ، عُقُوبَةً عَلَى جِنَايَةٍ، فَيُحْتَاطُ لَهُ بِاشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ الْعَدْلَيْنِ، كَالْحُدُودِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِصَاصُ يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، أَوْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ يُحْتَاطُ لِدَرْئِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْقَتْلُ، فَلَمْ يُقْبَلْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى مِنْ الْمُحْصَنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ اثْنَانِ، كَقَطْعِ الطَّرَفِ. وَفَارَقَ الزِّنَى فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَا، وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ قَتْلًا، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْأَرْبَعَةِ فِي زِنَى الْبِكْرِ، وَلَا قَتْلَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الرَّامِي بِهِ، وَالشُّهُودِ إذَا لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِثْلَهُ. [مَسْأَلَة وُجُوب الْمَال فِي الْجِنَايَاتِ دُون الْقَوَد] (7058) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَا أَوْجَبَ مِنْ الْجِنَايَاتِ الْمَالَ دُونَ الْقَوَدِ، قُبِلَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ مُوجَبُهُ الْمَالَ، كَقَتْلِ الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْعَمْدِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُكَافِئُهُ، وَالْجَائِفَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 وَالْمَأْمُومَةِ، وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، وَشَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَشَهَادَةُ عَدْلٍ وَيَمِينُ الطَّالِبِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَثْبُتُ أَيْضًا إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَلَا تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَتْلٍ، أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى آدَمِيٍّ، فَلَمْ تُسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، يُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذَا، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنِّسَاءِ مَدْخَلٌ فِي الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مَدْخَلٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْمَالِ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُنَّ لَا مَدْخَلَ لَهُنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى دَمٍ بِحَالٍ. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَفَارَقَ قَتْلَ الْعَمْدِ؛ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي يُحْتَاطُ بِإِسْقَاطِهَا، فَاحْتِيطَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا، الْمَقْصُودُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ عَلَى سَبَبِهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى جِنَايَة عَمْد وَقَالَ عَفَوْت عَنْ الْقِصَاصِ فِيهَا] (7059) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى جِنَايَةَ عَمْدٍ، وَقَالَ: عَفَوْت عَنْ الْقِصَاصِ فِيهَا. لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْفُو عَنْ شَيْءٍ ثَبَتَ لَهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْقَتْلُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ إمَّا بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، صَحَّ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِوُجُودِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا خَفِيَ ثُبُوتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ، عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِ وُجِدَ الْقَتْلُ، فَيَكُونُ الْعَفْوُ مُصَادِفًا لِحَقِّهِ الثَّابِتِ، فَيَنْفُذُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا يُنَازِعُهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ حِينَ الْعِتْقِ. [فَصْلٌ لَا يَثْبُت الْقَتْل بِالشَّهَادَةِ إلَّا مَعَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ فِي لَفْظِ الشَّاهِدَيْنِ] (7060) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا مَعَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ فِي لَفْظِ الشَّاهِدَيْنِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ. أَوْ: فَمَاتَ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَا: ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَمَاتَ. أَوْ: فَوَجَدْنَاهُ مَيِّتًا. أَوْ: فَمَاتَ عَقِيبَهُ. أَوْ قَالَا: ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَأَسَالَ دَمَهُ. أَوْ: فَأَنْهَرَ دَمَهُ، فَمَاتَ مَكَانَهُ. لَمْ يَثْبُتْ الْقَتْلُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ عَقِيبَ الضَّرْبِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ؛ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمَرْفِقِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: فَمَاتَ مِنْهُ؟ فَأَعَادَ الرَّجُلُ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: قُمْ، فَلَا شَهَادَةَ لَكَ. وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالْجُرْحِ، فَقَالَا: ضَرَبَهُ، فَأَوْضَحَهُ. أَوْ فَاتَّضَحَ مِنْهُ. أَوْ: فَوَجَدْنَاهُ مُوضَحًا مِنْ الضَّرْبَةِ. قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. وَإِنْ قَالَا: ضَرَبَهُ فَاتَّضَحَ رَأْسُهُ. أَوْ: وَجَدْنَاهُ مُوضَحًا، أَوْ: فَأَسَالَ دَمَهُ، وَوَجَدْنَا فِي رَأْسِهِ مُوضِحَةً. لَمْ يَثْبُتْ الْإِيضَاحُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّضِحَ عَقِيبَ ضَرْبِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمُوضِحَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ مُوضِحَتَانِ، فَيَحْتَاجَانِ إلَى بَيَانِ مَا شَهِدَا بِهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 قَدْ أَوْسَعَهَا غَيْرُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَهَا الشَّاهِدَانِ، فَيَقُولَانِ: هَذِهِ. وَإِنْ قَالَا: أَوْضَحَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ رَأْسِهِ مُوضِحَةً قَدْرُ مِسَاحَتِهَا كَذَا وَكَذَا. قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. وَإِنْ قَالَا: لَا نَعْلَمُ قَدْرَهَا، أَوْ مَوْضِعَهَا. لَمْ يُحْكَمْ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ الْجَهَالَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا. وَإِنْ قَالَا: ضَرَبَ رَأْسَهُ، فَأَسَالَ دَمَهُ. كَانَتْ بَازِلَةً. وَإِنْ قَالَا: فَسَالَ دَمُهُ. لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَسِيلَ دَمُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ، فَقَطَعَ يَدَهُ. وَلَمْ يَكُنْ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَثَبَتَ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ. وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ، وَلَمْ يُعَيِّنَا الْمَقْطُوعَةَ، لَمْ يَثْبُتْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَيِّنَا الْيَدَ الَّتِي يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنْهَا، وَتَجِبُ دِيَةُ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَدَيْنِ. [فَصْلٌ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ عَمْدًا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ] (7061) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ عَمْدًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ. وَلَمْ يَقُلْ: عَمْدًا وَلَا خَطَأً. ثَبَتَ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَمَّتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَثْبُتْ صِفَتُهُ؛ لِعَدَمِ تَمَامِهَا عَلَيْهِ، وَيُسْأَلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَنْ صِفَتِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْقَتْلِ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْخَطَإِ، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ. وَهَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ؟ يُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ عَلَى الْخَطَإِ، ثَبَتَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، وَقَالَ: بَلْ كَانَ خَطَأً. لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَدَّعِيهِ، وَتَجِبُ دِيَةُ الْخَطَإِ. وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنْ دِيَتِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا الْقَاتِلُ مُقِرٌّ بِأَنَّهَا فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ عَاقِلَتِهِ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ عَمْدًا. وَقَالَ الْآخَرُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ خَطَأً. ثَبَتَ الْقَتْلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ شَهَادَتَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عِنْدَ أَحَدِهِمَا بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَيُقِرَّ عِنْدَ الْآخَرِ بِقَتْلِ الْخَطَإِ، فَثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْقَتْلِ دُونَ صِفَتِهِ، وَيُطَالَبُ بِبَيَانِ صِفَتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً، ثَبَتَ الْقَتْلُ أَيْضًا دُونَ صِفَتِهِ، وَيُطَالَبُ بِبَيَانِ صِفَتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا خَطَأً، وَالْآخَرُ عَمْدًا، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ غَدْوَةً؛ وَقَالَ الْآخَرُ: عَشِيَّةً. وَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بِسَيْفٍ. وَقَالَ الْآخَرُ: بِعَصًا. لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَالِفُ صَاحِبَهُ وَيُكَذِّبُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْقَتْلِ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، فَأَشْبَهَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ يُكَذِّبُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّ الْقَتْلَ غَدْوَةً غَيْرُ الْقَتْلِ عَشِيَّةً؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقْتَلَ غَدْوَةً ثُمَّ يُقْتَلَ عَشِيَّةً، وَلَا أَنْ يُقْتَلَ بِسَيْفٍ، ثُمَّ يُقْتَلَ بِعَصًا، بِخِلَافِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَالْخِلَافُ فِي نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ، ثَبَتَ الْقَتْلُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، فَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ هُوَ الْقَتْلُ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، فَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَتْلِ عَمْدًا، وَالْآخَرُ بِالْقَتْلِ خَطَأً، أَوْ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لَهُ. [فَصْلٌ قَتَلَ رَجُل عَمْدًا قَتَلَا يُوجِب الْقِصَاص سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا] (7062) فَصْلٌ: إذَا قُتِلَ رَجُلٌ عَمْدًا قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَشَهِدَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَوَدِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا، أَوْ فَاسِقًا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ تَضَمَّنَتْ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنْ الْقِصَاصِ، وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْوَلِيَّيْنِ إذَا عَفَا عَنْ حَقِّهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الْآخَرُ. فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْعَفْوِ شَهِدَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ، لَمْ يَسْقُطْ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ اعْتَرَفَ أَنَّ نَصِيبَهُ سَقَطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَأَمَّا نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ ثَبَتَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ، حَلَفَ الْجَانِي مَعَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَيَحْلِفُ الْجَانِي أَنَّهُ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُسْقِطَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي الْيَمِينِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُ الدِّيَةِ. [فَصْلٌ جُرْح رَجُل فَشَهِدَ لَهُ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ غَيْر الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ] فَصْلٌ: وَإِذَا جُرِحَ رَجُلٌ، فَشَهِدَ لَهُ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحُ مُنْدَمِلَةٌ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْدَمِلَةٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَصِيرَ نَفْسًا، فَتَجِبَ الدِّيَةُ لَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ شَهِدَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا، ثُمَّ انْدَمَلَتْ، فَأَعَادَا شَهَادَتَهُمَا، فَهَلْ تُقْبَلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَا تُقْبَلُ؛ وَإِنْ زَالَتْ التُّهْمَةُ، كَالْفَاسِقِ إذَا أَعَادَ شَهَادَتَهُ الْمَرْدُودَةَ بَعْدَ عَدَالَتِهِ. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التُّهْمَةِ قَدْ تَحَقَّقَ زَوَالُهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَإِنْ شَهِدَ وَارِثَا الْمَرِيضِ بِمَالٍ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا لَهُ وَجْهَانِ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 أَحَدُهُمَا، تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمَالَ لِلْمَرِيضِ، وَإِنْ مَاتَ انْتَقَلَ إلَيْهِمَا عَنْهُ، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ لِلصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهَا إذَا صَارَتْ نَفْسًا وَجَبَتْ الدِّيَةُ لَهُمَا بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمَرِيضِ، تَعَلَّقَ حَقُّ وَرَثَتِهِ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ فِيهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ شَهِدَ لِلْمَجْرُوحِ بِالْجُرْحِ مَنْ لَا يَرِثُهُ، لِكَوْنِهِ مَحْجُوبًا، كَالْأَخَوَيْنِ يَشْهَدَانِ لِأَخِيهِمَا، وَلَهُ ابْنٌ، سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا، فَإِنْ مَاتَ ابْنُهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ مَا يَطْرَأُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، كَالْفِسْقِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، لَمْ يُحْكَمْ بِهَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُسْتَحِقَّيْنِ، فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا، كَمَا لَوْ فَسَقَ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ. وَإِنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِالْجِرَاحِ الْمُوجِبَةِ لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَشَهِدَ بَعْضُ عَاقِلَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَا مَالٍ وَقْتَ الْعَقْلِ، فَيَكُونُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، كَجِرَاحَةِ الْعَمْدِ، أَوْ الْعَبْدِ، سُمِعَتْ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا، فَإِنَّ مُوجَبَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ الْقِصَاصُ أَوْ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْجَانِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْجُرْحِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ. وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بِجِرَاحٍ عَقْلُهُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ خَطَأً، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا صَارَتْ نَفْسًا فَتَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ، قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ بِالْجَرْحِ لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَصِيرَانِ مِنْ الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُ أَنْ لَوْ مَاتَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ، وَإِنَّمَا يَصِيرَانِ مِنْهَا بِمَوْتِ الْقَرِيبِ، وَالظَّاهِرُ حَيَاتُهُ. وَفَارَقَ الْفَقِيرَ إذَا شَهِدَ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَيْسَتْ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ، فَإِنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مِنْهَا بِحُدُوثِ أَمْرٍ لَمْ يَتَّفِقْ الْآنَ سَبَبُهُ، فَهُمَا سَوَاءٌ، وَاحْتِمَالُ غِنَى الْفَقِيرِ، كَاحْتِمَالِ مَوْتِ الْحَيِّ، بَلْ الْمَوْتُ أَقْرَبُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَكُلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ، وَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ كُلُّ فَقِيرٍ يَسْتَغْنِي، فَمَا ثَبَتَ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ يَثْبُتُ فِي الْأُخْرَى، فَيَثْبُتُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَجْهَانِ، بِأَنْ يُنْقَلَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى. [فَصْلٌ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا رَجُلًا] (7064) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ، أَنَّهُمَا قَتَلَا رَجُلًا، ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمَا اللَّذَانِ قَتَلَاهُ، فَصَدَّقَ الْوَلِيُّ الْأَوَّلَيْنِ، وَكَذَّبَ الْآخَرَيْنِ، وَجَبَ الْقَتْلُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُكَذِّبُهُمَا، وَهُمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا. وَإِنْ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ وَحْدَهُمَا، بَطَلَتْ شَهَادَةُ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 لِتَكْذِيبِهِ لَهُمَا، وَرُجُوعِهِ عَمَّا شَهِدَا لَهُ بِهِ، وَالْآخَرَانِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا عَدُوَّانِ لِلْأَوَّلَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا، وَإِنْ صَدَّقَ الْجَمِيعَ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِ الْأَوَّلَيْنِ مُكَذِّبٌ لِلْآخَرَيْنِ، وَتَصْدِيقُهُ لِلْآخَرَيْنِ تَكْذِيبٌ لِلْأَوَّلَيْنِ، وَهُمَا مُتَّهَمَانِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُتَصَوَّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الدَّعْوَى، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فَرْضُ تَصْدِيقِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ؟ قُلْنَا: قَدْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَشْهَدُوا قَبْلَ الدَّعْوَى، إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْوَلِيُّ مَنْ قَتَلَهُ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . وَهَذَا مَعْنَى ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 [كِتَاب قِتَال أَهْلِ الْبَغْيِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . فَفِيهَا خَمْسُ فَوَائِدَ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِالْبَغْيِ عَنْ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ. الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ أَوْجَبَ قِتَالَهُمْ. الثَّالِثَةُ، أَنَّهُ أَسْقَطَ قِتَالَهُمْ إذَا فَاءُوا إلَى أَمْرِ اللَّهِ. الرَّابِعَةُ، أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ التَّبِعَةَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي قِتَالِهِمْ. الْخَامِسَةُ أَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ جَوَازَ قِتَالِ كُلِّ مَنْ مَنَعَ حَقًّا عَلَيْهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَعْطَى إمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى عَرْفَجَةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ. وَرَفَعَ صَوْتَهُ: أَلَا وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ» . فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَحَرُمَ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَقِتَالُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، عَلَى قِتَالِ الْبُغَاةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَأَهْلَ النَّهْرَوَانِ. وَالْخَارِجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 أَحَدُهَا، قَوْمٌ امْتَنَعُوا مِنْ طَاعَتِهِ، وَخَرَجُوا عَنْ قَبْضَتِهِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، فَهَؤُلَاءِ قُطَّاعُ طَرِيقٍ، سَاعُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، يَأْتِي حُكْمُهُمْ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. الثَّانِي: قَوْمٌ لَهُمْ تَأْوِيلٌ، إلَّا أَنَّهُمْ نَفَرٌ يَسِيرٌ، لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْعَشَرَةِ وَنَحْوِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ قُطَّاعُ طَرِيقٍ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ لَمَّا جَرَحَ عَلِيًّا، قَالَ لِلْحَسَنِ: إنْ بَرِئْتُ رَأَيْتُ رَأْيِي، وَإِنْ مِتُّ فَلَا تُمَثِّلُوا بِهِ. فَلَمْ يُثْبِتْ لِفِعْلِهِ حُكْمَ الْبُغَاةِ. وَلِأَنَّنَا لَوْ أَثْبَتْنَا لِلْعَدَدِ الْيَسِيرِ حُكْمَ الْبُغَاةِ، فِي سُقُوطِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ، أَفْضَى إلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ إذَا خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ. الثَّالِثُ: الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ، وَيُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَكَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْوَالَهُمْ، إلَّا مَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، حُكْمُهُمْ حُكْمُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَمَالِكٌ يَرَى اسْتِتَابَتَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا قُتِلُوا عَلَى إفْسَادِهِمْ، لَا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ، وَتُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَإِنْ تَحَيَّزُوا فِي مَكَان، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ، صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، اسْتَتَابَهُمْ، كَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا، ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا، لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ» رَوَاهُ مَالِكٌ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَالْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ". وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ثَابِتُ الْإِسْنَادِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتَهُمْ فَاقْتُلْهُمْ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ. يَقُولُ: فَكَمَا خَرَجَ هَذَا السَّهْمُ نَقِيًّا خَالِيًا مِنْ الدَّمِ وَالْفَرْثِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، كَذَلِكَ خُرُوجُ هَؤُلَاءِ مِنْ الدِّينِ، يَعْنِي الْخَوَارِجَ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، «أَنَّهُ رَأَى رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ: كِلَابُ النَّارِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إلَّا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ «أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوا، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ فَصَارُوا كُفَّارًا. قُلْت: يَا أَبَا أُمَامَةَ، هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ؟ قَالَ: بَلْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] . قَالَ: " هُمْ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ ". وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فِي حَدِيثٍ آخِرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ. وَقَالَ: لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ» . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَلَا يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ وَجَعْلِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ: قَوْلُهُ: «يَتَمَارَى فِي الْفُوقِ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِقُوا مِنْ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ، بِحَيْثُ يُشَكُّ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 أَنَّهُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ النَّهْرِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَبَعَثَ إلَيْهِمْ: أَقِيدُونَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ. قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ. فَحِينَئِذٍ اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ؛ لَإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ النَّهْرِ، أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنْ الْكُفْرِ فَرُّوا. قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا. قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا فِيهَا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُونَا فَقَاتَلْنَاهُمْ. وَلَمَّا جَرَحَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ، قَالَ لِلْحَسَنِ: أَحْسِنُوا إسَارَهُ، فَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ مِتّ فَضَرْبَةٌ كَضَرْبَتِي. وَهَذَا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِمْ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الْخَوَارِجَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهِمْ وَوَعْدِهِ بِالثَّوَابِ مَنْ قَتَلَهُمْ، فَإِنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَوْلَا أَنْ يَنْظُرُوا، لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّ بِدْعَتَهُمْ، وَسُوءَ فِعْلِهِمْ، يَقْتَضِي حِلَّ دِمَائِهِمْ؛ بِدَلِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ، وَحَثِّهِ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُمْ لَقَتَلَهُمْ قَتْلَ عَادٍ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُمْ بِمَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَتَوَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِتَالِهِمْ، وَلَا بِدْعَةَ فِيهِمْ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَيَرُومُونَ خَلْعَهُ لَتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، وَفِيهِمْ مَنَعَةٌ يَحْتَاجُ فِي كَفِّهِمْ إلَى جَمْعِ الْجَيْشِ، فَهَؤُلَاءِ الْبُغَاةُ، الَّذِينَ نَذْكُرُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَهُمْ، وَوَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ إمَامِهِمْ، فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا مَعُونَتَهُ، لَقَهَرَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامٍ] (7065) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامٍ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُ مَوْضِعَهُ، حُورِبُوا، وَدُفِعُوا بِأَسْهَلِ مَا يَنْدَفِعُونَ بِهِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مَنْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ، وَوَجَبَتْ مَعُونَتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِي مَعْنَاهُ، مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِعَهْدِ إمَامٍ قَبْلَهُ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى بَيْعَتِهِ،، وَعُمَرَ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَبُولِهِ. وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ، فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَقَرُّوا لَهُ، وَأَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ، وَبَايَعُوهُ، صَارَ إمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ، وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكُرْهًا، فَصَارَ إمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَدْخُلُ الْخَارِجُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ» . فَمَنْ خَرَجَ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاغِيًا، وَجَبَ قِتَالُهُ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ، وَيَكْشِفُ لَهُمْ الصَّوَابَ، إلَّا أَنْ يَخَافَ كَلَبَهُمْ؛ فَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ. فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُمْ، عَرَّفَهُمْ ذَلِكَ، وَأَزَالَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَأَزَالَ حُجَجَهُمْ، فَإِنْ لَجُّوا، قَاتَلَهُمْ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ فَلَجَ فِيهِ فَلَجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكِبَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ لِوَجْهِهِمْ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا اعْتَزَلَتْهُ الْحَرُورِيَّةُ، بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَوَاضَعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. فَإِنْ أَبَوْا الرُّجُوعَ، وَعَظَهُمْ، وَخَوَّفَهُمْ الْقِتَالَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَانَ أَوْلَى مِنْ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ سَأَلُوا الْإِنْظَارَ، نَظَرَ فِي حَالِهِمْ، وَبَحَثَ عَنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُمْ الرُّجُوعُ إلَى الطَّاعَةِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، أَمْهَلَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ الِاجْتِمَاعَ عَلَى قِتَالِهِ، وَانْتِظَارَ مَدَدٍ يَقْوَوْنَ بِهِ، أَوْ خَدِيعَةَ الْإِمَامِ، أَوْ لِيَأْخُذُوهُ عَلَى غِرَّةٍ، وَيَفْتَرِقَ عَسْكَرُهُ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ، وَعَاجَلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ هَذَا طَرِيقًا إلَى قَهْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا، وَإِنْ أَعْطَوْهُ عَلَيْهِ مَالًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ. وَإِنْ بُذِلَ لَهُ رَهَائِنُ عَلَى إنْظَارِهِمْ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الرَّهَائِنَ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ، فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ، قَبِلَهُمْ الْإِمَامُ، وَاسْتَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنْ أَطْلَقُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ، أُطْلِقَتْ رَهَائِنُهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ رَهَائِنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِقَتْلِ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ، خَلَّى الرَّهَائِنَ، كَمَا تُخَلَّى الْأُسَارَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 مِنْهُمْ. وَإِنْ خَافَ الْإِمَامُ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ، أَخَّرَ قِتَالَهُمْ إلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ الِاصْطِلَامُ وَالِاسْتِئْصَالُ، فَيُؤَخِّرُهُمْ حَتَّى تَقْوَى شَوْكَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ، ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ. وَإِنْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنْظِرَهُمْ أَبَدًا، وَيَدَعَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَيَكُفُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، نَظَرْت، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قُوَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وَخَافَ قَهْرَهُمْ لَهُ إنْ قَاتَلَهُمْ، تَرَكَهُمْ. وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةَ الْإِمَامِ، وَلَا تُؤْمَنُ قُوَّةُ شَوْكَتِهِمْ، بِحَيْثُ يُفْضِي إلَى قَهْرِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَمَنْ مَعَهُ. ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ بِدُونِ الْقَتْلِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لِأَهْلِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إذَا حَصَلَ بِدُونِ الْقَتْلِ، لَمْ يَجُزْ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ السَّجَّادِ، وَقَالَ: إيَّاكُمْ وَصَاحِبَ الْبُرْنُسِ. فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا ... عَلِيًّا وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ الْحَقَّ يُظْلَمْ يُنَاشِدُنِي {حم} [الشورى: 1] ، وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا {حم} [الشورى: 1] قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَكَانَ السَّجَّادُ حَامِلَ رَايَةِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلِيٌّ قَتْلَهُ، وَلِأَنَّهُ صَارَ رِدْءًا لَهُمْ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] . وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْبَاغِي وَالصَّائِلِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِجْمَاعِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا حَرُمَ قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَأَسِيرِهِمْ، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِتَالَ عَجْزًا عَنْهُ، وَمَتَى مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، عَادُوا إلَيْهِ، فَمَنْ لَا يُقَاتِلُ تَوَرُّعًا عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، لَمْ يُحْتَجْ إلَى دَفْعِهِ، وَلَا صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَحِلَّ دَمُهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» . فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فِي نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ السَّجَّادِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ نَهْيَ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَا يَمْتَثِلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا قَوْلَ رَسُولِهِ، وَلَا قَوْلَ إمَامِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ؛ قُلْنَا: لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّ عَلِيًّا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا حَضَرَ قَتْلَهُ فَيُنْكِرَهُ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ طَافَ فِي الْقَتْلَى رَآهُ، فَقَالَ: السَّجَّادُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 بِرُّهُ بِأَبِيهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِقَتْلِهِ. وَرَأَى كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ، فَقَالَ: يَزْعُمُونَ إنَّمَا خَرَجَ إلَيْنَا الرَّعَاعُ، وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ اجْتِزَاءً بِالنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ قِتَالِهِمْ كَفُّهُمْ، وَهَذَا كَافٌّ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ كَالْمُنْهَزِمِ. (7066) فَصْلٌ: وَإِذَا قَاتَلَ مَعَهُمْ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، فَهُمْ كَالرَّجُلِ الْبَالِغِ الْحُرِّ، يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ، وَيُتْرَكُونَ مُدْبِرِينَ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ قَتْلَ إنْسَانٍ، جَازَ دَفْعُهُ وَقِتَالُهُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ مَعَهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، يُقَاتِلُونَ: قُوتِلُوا، وَقُتِلُوا. [فَصْل لَا يُقَاتِل الْبُغَاة بِمَا يَعُمّ إتْلَافُهُ] (7067) فَصْلٌ: وَلَا يُقَاتَلُ الْبُغَاةُ بِمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ، كَالنَّارِ، وَالْمَنْجَنِيقِ، وَالتَّغْرِيقِ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُ، وَمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يُقَاتِلُ وَمَنْ لَا يُقَاتِلُ. فَإِنْ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَحْتَاطَ بِهِمْ الْبُغَاةُ، وَلَا يُمْكِنَهُمْ التَّخَلُّصُ إلَّا بِرَمْيِهِمْ بِمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ، جَازَ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا تَحَصَّنَ الْخَوَارِجُ، فَاحْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى رَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ عَسْكَرٌ، وَمَا لَمْ يَنْهَزِمُوا، وَإِنْ رَمَاهُمْ الْبُغَاةُ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالنَّارِ، جَازَ رَمْيُهُمْ بِمِثْلِهِ. [فَصْلٌ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِقَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ] (7068) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَهْرِهِمَا، لَمْ يُعِنْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْخَطَإِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، وَخَافَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى حَرْبِهِ، ضَمَّ إلَيْهِ أَقْرَبَهُمَا إلَى الْحَقِّ، فَإِنْ اسْتَوَيَا، اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِي ضَمِّ إحْدَاهُمَا، وَلَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ مَعُونَةَ إحْدَاهُمَا، بَلْ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الْأُخْرَى، فَإِذَا هَزَمَهَا، لَمْ يُقَاتِلْ مَنْ مَعَهُ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلُوا فِي أَمَانِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يَسْتَعِينُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِالْكُفَّارِ بِحَالٍ، وَلَا بِمَنْ يُرَى قَتْلُهُمْ مُدْبِرِينَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ وَصِنْفٍ آخَرَ مِنْهُمْ، إذَا كَانَ أَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ الظَّاهِرِينَ عَلَى مَنْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ، وَرَدُّهُمْ إلَى الطَّاعَةِ، دُونَ قَتْلِهِمْ، وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى كَفِّهِمْ، اسْتَعَانَ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، لَمْ يَجُزْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 [فَصْلٌ إذَا أَظْهَر قَوْمٌ رَأْي الْخَوَارِجِ] (7069) فَصْلٌ: وَإِذَا أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ، مِثْلُ تَكْفِيرِ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، وَتَرْكِ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِحْلَالِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَسْفِكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، فَحَكَى الْقَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ وَلَا قِتَالُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْفِقْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَعَلَى هَذَا، حُكْمُهُمْ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْمَالِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ سَبُّوا الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، عُزِّرُوا؛ لِأَنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا لَا حَدَّ فِيهِ. وَإِنْ عَرَّضُوا بِالسَّبِّ، فَهَلْ يُعَزَّرُونَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْإِبَاضِيَّةِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ: يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْقَدَرِ، مِنْ أَجْلِ الْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي الدِّينِ، كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا قُتِلُوا عَلَى إفْسَادِهِمْ، لَا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ رَأَى تَكْفِيرَهُمْ، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِ، أَنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا قُتِلُوا لِكُفْرِهِمْ، كَمَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ، لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ «وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. لِأَبِي بَكْرٍ: اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ. ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ قَبْلَ قِتَالِهِ» . وَهُوَ الَّذِي قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ» . يَعْنِي الْخَوَارِجَ. وَقَوْلُ عُمَرَ لِصَبِيغٍ: لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا، لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك بِالسَّيْفِ. يَعْنِي لَقَتَلْتُك. وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَارِجِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سِيمَاهُمْ التَّسْبِيدُ. يَعْنِي حَلْقَ رُءُوسِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِفِعْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ بِبَابِ الْمَسْجِدِ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ؛ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ. وَرَوَى أَبُو يَحْيَى، قَالَ: صَلَّى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَاةً، فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] . وَكَتَبَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ الْخَوَارِجَ يَسُبُّونَكَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنْ سَبُّونِي فَسُبُّوهُمْ، أَوْ اُعْفُوا عَنْهُمْ، وَإِنْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فَاشْهَرُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ ضَرَبُوا فَاضْرِبُوا. وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ» ، فَلَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِهِمْ أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ «، أَنَّ خَالِدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ:، لَعَلَّهُ يُصَلِّي. قَالَ: رُبَّ مُصَلٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ. قَالَ: إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ.» [مَسْأَلَة قَالَ فَإِنْ الْ مَا دُفِعُوا بِهِ إلَى نُفُوسِهِمْ] (7070) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ آلَ مَا دُفِعُوا بِهِ إلَى نُفُوسِهِمْ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ أَهْلِ الْبَغْيِ إلَّا بِقَتْلِهِمْ، جَازَ قَتْلُهُمْ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ؛ مِنْ إثْمٍ وَلَا ضَمَانٍ وَلَا كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَتَلَ مَنْ أَحَلَّ اللَّهُ قَتْلَهُ، وَأَمَرَ بِمُقَاتَلَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ حَالَ الْحَرْبِ، مِنْ الْمَالِ، لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَضْمَنُوا الْأَنْفُسَ فَالْأَمْوَالُ أَوْلَى. وَإِنْ قُتِلَ الْعَادِلُ، كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي قِتَالٍ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] . وَهَلْ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَهِيدُ مَعْرَكَةٍ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فِيهَا، فَأَشْبَهَ شَهِيدَ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِيَةُ، يُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاسْتَثْنَى قَتِيلَ الْكُفَّارِ فِي الْمَعْرَكَةِ» ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ شَهِيدَ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ أَجْرُهُ أَعْظَمُ، وَفَضْلُهُ أَكْثَرُ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذَا لَا يَلْحَقُ بِهِ فِي فَضْلِهِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ مِثْلُ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى مِثْلِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى أَهْل الْبَغْي أَيْضًا ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ] فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ أَيْضًا ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ، مِنْ نَفْسٍ وَلَا مَالَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَفِي الْآخَرِ، يَضْمَنُونَ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ: تَدُونَ قَتْلَانَا، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ. وَلِأَنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ، أُتْلِفَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةِ دَفْعٍ مُبَاحٍ؛ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَاَلَّذِي تَلِفَتْ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ الْفِتْنَةُ الْعُظْمَى بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِمْ الْبَدْرِيُّونَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يُقَامَ حَدٌّ عَلَى رَجُلٍ ارْتَكَبَ فَرْجًا حَرَامًا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَغْرَمَ مَالًا أَتْلَفَهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. وَلِأَنَّهَا طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْحَرْبِ، بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَلَمْ تَضْمَنْ مَا أَتْلَفَتْ عَلَى الْأُخْرَى، كَأَهْلِ الْعَدْلِ، وَلِأَنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ، فَلَا يُشْرَعُ، كَتَضْمِينِ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَلَمْ يُمْضِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: أَمَّا أَنْ يَدُوا قَتْلَانَا فَلَا؛ فَإِنَّ قَتْلَانَا قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ. فَوَافَقَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِ، فَصَارَ أَيْضًا إجْمَاعًا حُجَّةً لَنَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ غَرَّمَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ، وَثَابِتَ بْنَ أَثْرَمَ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَلَمْ يُغَرَّمْ شَيْئًا. ثُمَّ لَوْ وَجَبَ التَّغْرِيمُ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ، لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُهُ هَاهُنَا، فَإِنَّ أُولَئِكَ كُفَّارٌ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ إلْحَاقُهُمْ بِهِمْ، فَأَمَّا مَا أَتْلَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ، قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَعَلَى مُتْلِفِهِ ضَمَانُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَتَلَ الْخَوَارِجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ، أَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ: أَقِيدُونَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ. وَلَمَّا قَتَلَ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلِيًّا فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ، أُقِيدَ بِهِ. وَهَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُ الْبَاغِي إذَا قَتَلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَتَحَتَّمُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِإِشْهَارِ السِّلَاحِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَيُحَتَّمَ قَتْلُهُ، كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ. وَالثَّانِي: لَا يَتَحَتَّمُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ شِئْت أَنْ أَعْفُوَ، وَإِنْ شِئْت اسْتَقَدْت. فَأَمَّا الْخَوَارِجُ، فَالصَّحِيحُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إبَاحَةُ قَتْلِهِمْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا دُفِعُوا لَمْ يُتْبَعْ لَهُمْ مُدْبِرٌ] (7072) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا دُفِعُوا لَمْ يُتْبَعْ لَهُمْ مُدْبِرٌ، وَلَا يُجَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَمْ يُقْتَلْ لَهُمْ أَسِيرٌ، وَلَمْ يُغْنَمْ لَهُمْ مَالٌ، وَلَمْ تُسْبَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إذَا تَرَكُوا الْقِتَالَ؛ إمَّا بِالرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ، وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، وَإِمَّا بِالْهَزِيمَةِ إلَى فِئَةٍ أَوْ إلَى غَيْرِ فِئَةٍ، وَإِمَّا بِالْعَجْزِ؛ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ، وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إذَا هُزِمُوا وَلَا فِئَةَ لَهُمْ كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا، جَازَ قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَأَسِيرِهِمْ، وَالْإِجَازَةُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، لَمْ يُقْتَلُوا، لَكِنْ يُضْرَبُونَ ضَرْبًا وَجِيعًا، وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً. ذَكَرُوا هَذَا فِي الْخَوَارِجِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْتُلْهُمْ، اجْتَمَعُوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْمُحَارَبَةِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُهْتَكُ سِتْرٌ، وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَدَى قَوْمًا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، قُتِلُوا مُدْبِرِينَ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْت صِفِّينَ، فَكَانُوا لَا يُجِيزُونَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَقْتُلُونَ مُولِيًا، وَلَا يَسْلُبُونَ قَتِيلًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " شَرْحِهِ "، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى عَلَى أُمَّتِي؟ فَقُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُجَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهُمْ» . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ وَكَفُّهُمْ، وَقَدْ حَصَلَ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ، كَالصَّائِلِ. وَلَا يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي الثَّانِي: كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ قَتَلَ إنْسَانٌ مَنْ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ. وَفِي الْقِصَاصِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجِبُ، لِأَنَّهُ مُكَافِئُ مَعْصُومٍ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ فِي قَتْلِهِمْ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ، فَإِنْ دَخَلَ فِي الطَّاعَةِ، خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ، وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، حُبِسَ مَا دَامَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ، خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْقِتَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْفَانِينَ، خُلِّيَ سَبِيلُهُمْ، وَلَمْ يُحْبَسُوا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِي الْآخَرِ، يُحْبَسُونَ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرًا لِقُلُوبِ الْبُغَاةِ. وَإِنْ أَسَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أُسَارَى مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، جَازَ فِدَاءُ أَسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِأُسَارَى أَهْلِ الْبَغْيِ. وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ، لَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 يَجُزْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أُسَارَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَزِرُونَ وِزْرَ غَيْرِهِمْ. وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَحَبَسُوهُمْ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ؛ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى تَخْلِيصِ أُسَارَاهُمْ بِحَبْسِ مَنْ مَعَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ حَبْسُهُمْ وَيُطْلَقُونَ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ فِي حَبْسِ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِغَيْرِهِمْ. [فَصْل غَنِيمَة أَمْوَالِ أَهْل الْبَغْي وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ] (7073) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ، وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ، فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَلِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ، قَالَ: مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مَعَ أَحَدٍ، فَلْيَأْخُذْهُ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيٍّ قَدْ أَخَذَ قِدْرًا وَهُوَ يُطْبَخُ فِيهَا، فَجَاءَ صَاحِبُهَا لِيَأْخُذَهَا، فَسَأَلَهُ الَّذِي يَطْبُخُ فِيهَا إمْهَالَهُ حَتَّى يَنْضَجَ الطَّبِيخُ، فَأَبَى، وَكَبَّهُ، وَأَخَذَهَا. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا نَقَمَ الْخَوَارِجُ مِنْ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ حَلَّتْ لَهُ دِمَاؤُهُمْ، فَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَمْوَالُهُمْ، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ؟ يَعْنِي عَائِشَةَ أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أُمَّكُمْ. فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهَا أُمُّكُمْ. وَاسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَهَا، فَقَدْ كَفَرْتُمْ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ إنَّكُمْ إنْ جَحَدْتُمْ أَنَّهَا أُمُّكُمْ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمًّا لَهُمْ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِهِمْ وَرَدِّهِمْ إلَى الْحَقِّ، لَا لِكُفْرِهِمْ، فَلَا يُسْتَبَاحُ مِنْهُمْ إلَّا مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ الدَّفْعِ؛ كَالصَّائِلِ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَبَقِيَ حُكْمُ الْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْعِصْمَةِ. وَمَا أُخِذَ مِنْ كُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ حَالَ الْحَرْبِ؛ لِئَلَّا يُقَاتِلُونَا بِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ قِتَالِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ يَجُوزُ فِيهَا إتْلَافُ نُفُوسِهِمْ وَحَبْسُ سِلَاحِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ؛ فَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَسِلَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَمَتَى انْقَضَتْ الْحَرْبُ، وَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِمْ، كَمَا تُرَدُّ إلَيْهِمْ سَائِرُ أَمْوَالِهِمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ.» وَرَوَى أَبُو قَيْسٍ، أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَادَى: مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فَلْيَأْخُذْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَمِنْ قَتَلَ مِنْهُمْ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ] (7074) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، غُسِّلَ وَكُفِّنَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، صُلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ، كَالْكُفَّارِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ، فِي " جَامِعِهِ ". وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ، فَيُغَسَّلُونَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ (7075) فَصْلٌ: لَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْبِدَعِ، إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، قَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا. وَذَكَرَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُقَاتَلَ خَيْبَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهَا، فَقَاتَلَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَقُتِلَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ فِي قَرْيَةٍ أَهْلُهَا نَصَارَى، لَيْسَ فِيهَا مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ. قَالَ: أَنَا لَا أَشْهَدُهُ، يَشْهَدُهُ مَنْ شَاءَ» . وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْإِبَاضِيَّةِ، وَلَا الْقَدَرِيَّةِ، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُتْبَعُ جَنَائِزُهُمْ، وَلَا تُعَادُ مَرْضَاهُمْ. وَالْإِبَاضِيَّةُ صِنْفٌ مِنْ الْخَوَارِجِ، نُسِبُوا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ، صَاحِبِ مَقَالَتِهِمْ. وَالْأَزَارِقَةُ أَصْحَابُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ. وَالنَّجَدَاتُ أَصْحَابُ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ. وَالْبَيْهَسِيَّةِ أَصْحَابُ بَيْهَسٍ. وَالصُّفْرِيَّةُ قِيلَ: إنَّهُمْ نُسِبُوا إلَى صُفْرَةِ أَلْوَانِهِمْ، وَأَصْنَافُهُمْ كَثِيرَةٌ. وَالْحَرُورِيَّةُ نُسِبُوا إلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: حَرُورَاءَ خَرَجُوا بِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: لَا أُصَلِّي عَلَى الرَّافِضِيِّ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ عُمَرَ كَافِرٌ، وَلَا عَلَى الْحَرُورِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا كَافِرٌ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: مَنْ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ فَهُوَ كَافِرٌ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 وَوَجْهُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، كَالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنْ الدِّينِ، فَأَشْبَهُوا الْمُرْتَدِّينَ. [فَصْلٌ الْبُغَاة إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ] (7076) فَصْلٌ: وَالْبُغَاةُ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، وَالْإِمَامُ وَأَهْلُ الْعَدْلِ مُصِيبُونَ فِي قِتَالِهِمْ، فَهُمْ جَمِيعًا كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَحْكَامِ، مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ خِلَافًا. فَأَمَّا الْخَوَارِجُ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ، إذَا خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ فُسَّاقٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَفْسُقُونَ بِالْبَغْيِ، وَخُرُوجِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ فِسْقَهُمْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ، فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَقَدْ قُبِلَ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيُذْكَرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ لَا يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ ذِي رَحِمَهُ الْبَاغِي] (7077) فَصْلٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ ذِي رَحِمِهِ الْبَاغِي؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ، فَأَشْبَهَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ. وَهُوَ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «كَفَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا حُذَيْفَةَ وَعُتْبَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحِلُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمُصَاحَبَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ. فَإِنْ قَتَلَهُ، فَهَلْ يَرِثُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرِثُهُ. هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْمِيرَاثَ، كَالْقِصَاصِ وَالْقَتْلِ فِي الْحَجِّ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَرِثُهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» . فَأَمَّا الْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ، فَلَا يَرِثُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِتَأْوِيلٍ، أَشْبَهَ قَتْلَ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ. وَلَنَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَرِثْهُ، كَالْقَاتِلِ خَطَأً، وَفَارَقَ مَا إذَا قَتَلَهُ الْعَادِلُ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إذَا تَعَمَّدَ الْعَادِلُ قَتْلَ قَرِيبِهِ، فَقَتَلَهُ ابْتِدَاءً؛ لَمْ يَرِثْهُ، وَإِنْ قَصَدَ ضَرْبَهُ، لِيَصِيرَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَجَرَحَهُ، وَمَاتَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَرِثَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ: هُوَ أَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَمَا أَخَذُوا فِي حَالَ امْتِنَاعهمْ مِنْ زَكَاةٍ] (7078) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا أَخَذُوا فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ؛ مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ خَرَاجٍ، لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إذَا غَلَبُوا عَلَى بَلَدٍ، فَجَبَوْا الْخَرَاجَ وَالزَّكَاةَ وَالْجِزْيَةَ، وَأَقَامُوا الْحُدُودَ، وَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ بَعْدُ عَلَى الْبَلَدِ، وَظَفِرُوا بِأَهْلِ الْبَغْيِ، لَمْ يُطَالَبُوا بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ، وَلَمْ يُرْجَعْ بِهِ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ. رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْخَوَارِجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الزَّكَاةَ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَتَاهُ سَاعِي نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ، دَفَعَ إلَيْهِ زَكَاتَهُ. وَكَذَلِكَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ الِاحْتِسَابِ بِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا، وَمَشَقَّةً كَثِيرَةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ، فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا أَخَذُوهُ، أَدَّى إلَى ثِنَا الصَّدَقَاتِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كُلِّهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا ذَكَرَ أَرْبَابُ الصَّدَقَاتِ أَنَّهُمْ قَدْ أَخَذُوا صَدَقَاتِهِمْ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ بِغَيْرِ يَمِينٍ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الذِّمَّةِ دَفْعَ جِزْيَتِهِمْ، لَمْ تُقْبَلْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ، وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِوَضٌ، وَلَيْسَ بِمُوَاسَاةٍ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ، كَأُجْرَةِ الدَّارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُمْ إذَا مَضَى الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبُغَاةَ لَا يَدَعُونَ الْجِزْيَةَ لَهُمْ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ، وَلِأَنَّهُ إذَا مَضَى لِذَلِكَ سُنُونَ كَثِيرَةٌ، شَقَّ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى كُلِّ عَامٍ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَغْرِيمِهِمْ الْجِزْيَةَ مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ دَفْعَهُ إلَيْهِمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى مُسْلِمٍ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ كَالزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ، فَأَشْبَهَ الْجِزْيَةَ. وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ذِمِّيًّا، فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى غَيْرِ مُسْلِمٍ، فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْخَرَاجَيْنِ، فَأَشْبَهَ الْجِزْيَةَ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ: لَا يَنْقَضِ مِنْ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ إلَّا مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ] (7079) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ، إلَّا مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ) يَعْنِي إذَا نَصَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَاضِيًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ، يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيُرَدُّ مِنْهُ مَا يُرَدُّ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَفْسُقُونَ بِبَغْيِهِمْ، وَالْفِسْقُ يُنَافِي الْقَضَاءَ. وَلَنَا أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الْفُرُوعِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَفْسُقْ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا حَكَمَ بِمَا لَا يُخَالِفُ إجْمَاعًا، نَفَذَ حُكْمُهُ، وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ، نُقِضَ حُكْمُهُ لِأَنَّ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ إذَا حَكَمَ نُقِضَ حُكْمُهُ؛ فَقَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْلَى. وَإِنْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ، جَازَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ. وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْلَ قِيَامِ الْحَرْبِ، لَمْ يَنْفُذْ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَإِنْ حَكَمَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَالِ الْحَرْبِ، لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ. وَإِنْ حَكَمَ بِوُجُوبِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ، نَفَذَ حُكْمُهُ. وَإِنْ كَتَبَ قَاضِيهِمْ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، جَازَ قَبُولُ كِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ ثَابِتُ الْقَضَايَا، نَافِذُ الْأَحْكَامِ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْبَلَهُ، كَسْرًا لِقُلُوبِهِمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَقْبَلُهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَا يَجُوزُ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا. فَأَمَّا الْخَوَارِجُ إذَا وَلَّوْا قَاضِيًا، لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمْ الْفِسْقُ، وَالْفِسْقُ يُنَافِي الْقَضَاءَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ، وَتَنْفُذَ أَحْكَامُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَطَاوَلُ، وَفِي الْقَضَاءِ بِفَسَادِ قَضَايَاهُ وَعُقُودِهِ - الْأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهَا - ضَرَرٌ كَثِيرٌ، فَجَازَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ الْحُدُودَ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ وَالزَّكَاةَ. [فَصْلٌ إنْ ارْتَكَبَ أَهْل الْبَغْي فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ] فَصْلٌ: وَإِنْ ارْتَكَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ، أُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَسْقُطُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا امْتَنَعُوا بِدَارٍ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرٍ؛ لِأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ دَارِ الْإِمَامِ، فَأَشْبَهُوا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا، تَجِبُ الْحُدُودُ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، كَدَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ وَلِأَنَّهُ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ، لَا شُبْهَةَ فِي زِنَاهُ وَسَرِقَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَاَلَّذِي فِي دَارِ الْعَدْلِ. وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ أَتَى حَدًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يُقَامُ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْل إذَا اسْتَعَانَ أَهْل الْبَغْيِ بِالْكُفَّارِ] (7081) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِالْكُفَّارِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ؛ أَحَدُهُمْ: أَهْلُ الْحَرْبِ، فَإِذَا اسْتَعَانُوا بِهِمْ، أَوْ آمَنُوهُمْ، أَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً، لَمْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَصِحُّ. وَلِأَهْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ، كَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ سَوَاءً. وَحُكْمُ أَسِيرِهِمْ حُكْمُ أَسِيرِ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْغَدْرُ بِهِمْ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمُسْتَأْمَنُونَ، فَمَتَى اسْتَعَانُوا بِهِمْ فَأَعَانُوهُمْ، نَقَضُوا عَهْدَهُمْ، وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ، وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا، وَإِنْ ادَّعَوْا الْإِكْرَاهَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا أَعَانُوهُمْ، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ؛ أَحَدُهُمَا، يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ. صَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ. فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ، فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ، وَالْكَفِّ عَنْ أَسِيرِهِمْ، وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ، إلَّا أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا حَالَ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، وَهَؤُلَاءِ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذَلِكَ فِيهِمْ. وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ، وَإِنْ ادَّعَوْا ذَلِكَ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا ظَنَنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَعَانَ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ. لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا؛ لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. [فَصْل إذَا ارْتَدَّ قَوْمٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ] فَصْلٌ: وَإِذَا ارْتَدَّ قَوْمٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ، لَزِمَهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ، سَوَاءٌ تَحَيَّزُوا، أَوْ صَارُوا فِي مَنَعَةٍ، أَوْ لَمْ يَصِيرُوا. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ، فِيمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ تَضْمِينَهُمْ، يُؤَدِّي إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْبَغْيِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ، حِينَ رَجَعُوا: تَرُدُّونَ عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنَّا، وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ، وَأَنْ تَدُوا قَتْلَانَا، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ. قَالُوا: نَعَمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ مَا قُلْتَ كَمَا قُلْتَ، إلَّا أَنْ يَدُوا مَا قُتِلَ مِنَّا، فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاسْتُشْهِدُوا. وَلِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الْقَتْلَى، فَحُكْمُهُمْ فِيهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلِأَنَّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ قَتَلَ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ الْأَسَدِيَّ، وَثَابِتَ بْنَ أَثْرَمَ، فَلَمْ يَغْرَمْهُمَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 وَبَنُو حَنِيفَةَ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَلَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَكَلَامُهُ فِي الْمَالِ، عَلَى وُجُوبِ رَدِّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ دُونَ مَا أَتْلَفُوهُ، وَعَلَى مَنْ أَتْلَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَعَةٌ، أَوْ أَتْلَفَ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ، فَلَأَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا صَارُوا كُفَّارًا مُمْتَنِعِينَ بِدَارِهِمْ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْحَرْبِ. وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَالِ، فَيَكُونُ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا سَوَاءً. وَهَذَا أَعْدَلُ وَأَصَحُّ. إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ فَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، كَالْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ لَهُ، وَلَا يَكْثُرُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَبَقِيَ الْمَالُ وَالنَّفْسُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَوُجُوبِ ضَمَانِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 [كِتَاب الْمُرْتَدّ] [مَسْأَلَةٌ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَانَ بَالِغًا عَاقِلًا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ] ِّ الْمُرْتَدُّ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، فَكَانَ إجْمَاعًا. (7083) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَكَانَ بَالِغًا عَاقِلًا، دُعِيَ إلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَضُيِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ، وَإِلَّا قُتِلَ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ: (7084) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ لَا تُقْتَلُ؛ وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ، وَذَرَارِيَّهُمْ، وَأَعْطَى عَلِيًّا مِنْهُمْ امْرَأَةً، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، وَلَا تُقْتَلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً» . وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ، كَالصَّبِيِّ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 : «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، «أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ مَرْوَانَ، ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَبَلَغَ أَمْرُهَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ، وَإِلَّا قُتِلَتْ» . وَلِأَنَّهَا شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، فَيُقْتَلُ كَالرَّجُلِ. وَأَمَّا نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَصْلِيَّةُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً، وَكَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً، وَلِذَلِكَ نَهَى الَّذِينَ بَعَثَهُمْ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُرْتَدٌّ. وَيُخَالِفُ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ الطَّارِئَ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجُلَ يُقَرُّ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْتَلُ أَهْلُ الصَّوَامِعِ، وَالشُّيُوخُ وَالْمَكَافِيفُ، وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَرْكِهِ بِضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ، وَالْكُفْرُ الطَّارِئُ بِخِلَافِهِ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ؛ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا بَنُو حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ لَهُ إسْلَامٌ، وَلَمْ يَكُنْ بَنُو حَنِيفَةَ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَانُوا رِجَالًا، فَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ، مِنْهُمْ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ الدَّجَّالُ الْحَنَفِيُّ. [الْفَصْلُ الثَّانِي الرِّدَّة لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ] الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ، وَالْمَجْنُونِ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِإِغْمَاءٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ يُبَاحُ شُرْبُهُ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا ارْتَدَّ فِي حَالِ جُنُونِهِ، أَنَّهُ مُسْلِمٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ عَمْدًا، كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، إذَا طَلَبَ أَوْلِيَاؤُهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِكَلَامِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي إقْرَارِهِ، وَلَا طَلَاقِهِ، وَلَا إعْتَاقِهِ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ، وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، فَنَذْكُرُ حُكْمَهُمَا فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْفَصْل الثَّالِثُ الْمُرْتَدّ لَا يَقْتُل حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا] (7086) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ، لَكِنْ تُسْتَحَبُّ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَطَاوُسٍ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُوثَقًا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ، فَلَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ كَالْأَصْلِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ، لَمْ يُضْمَنْ، وَلَوْ حَرُمَ قَتْلُهُ قَبْلَهُ ضُمِنَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا، لَمْ يُسْتَتَبْ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، اُسْتُتِيبَ. وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ مَرْوَانَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ كَانَ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ، فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، فَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ، لَعَلَّهُ يَتُوبُ، أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ؟ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي. وَلَوْ لَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ، فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيهِ: وَكَانَ قَدْ اُسْتُتِيبَ. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَتَابَهُ شَهْرَيْنِ قَبْلَ قُدُومِ مُعَاذٍ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَدَعَاهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَ مُعَاذٌ، فَدَعَاهُ وَأَبَى، فَضَرَبَ عُنُقَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وُجُوبُ الضَّمَانِ، بِدَلِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ. إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ، فَمُدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: إنْ تَابَ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا قُتِلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 مَكَانَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ مَرْوَانَ، وَمُعَاذٍ، وَلِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ، أَشْبَهَ بَعْدَ الثَّلَاثِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُدْعَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَبَى، ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُسْتَتَابُ أَبَدًا. وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ أَبَدًا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ اسْتَتَابَ رَجُلًا شَهْرًا. وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِشُبْهَةٍ، وَلَا تَزُولُ فِي الْحَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْتَظَرَ مُدَّةً يَرْتَئِي فِيهَا، وَأَوْلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، لِلْأَثَرِ فِيهَا، وَإِنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ، وَيُحْبَسَ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا؟ وَيُكَرِّرُ دِعَايَتَهُ، لَعَلَّهُ يَتَعَطَّفُ قَلْبُهُ، فَيُرَاجِعَ دِينَهُ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ الْمُرْتَدّ إنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلَ] (7087) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ؛ لِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ الْقَتْلِ، وَلَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمُرْتَدِّينَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ خَالِدٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» . يَعْنِي النَّارَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ.» [الْفَصْل الْخَامِسُ الْمُرْتَدّ إذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَمْ يُقْتَلْ] (7088) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يُقْتَلْ، أَيَّ كُفْرٍ كَانَ، وَسَوَاءٌ كَانَ زِنْدِيقًا يَسْتَسِرُّ بِالْكُفْرِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَقَالَ: إنَّهُ أَوْلَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، كَهَاتَيْنِ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] . وَالزِّنْدِيقُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ عَلَامَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ، مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا وُقِفَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَهُوَ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] . وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدٍ مَرَّ عَلَى مَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا هُمْ يَقْرَءُونَ بِرَجَزِ مُسَيْلِمَةَ، فَرَجَعَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَاسْتَتَابَهُمْ، فَتَابُوا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، إلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ النَّوَّاحَةِ. قَالَ: قَدْ أُتِيتُ بِكَ مَرَّةً، فَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ تُبْتَ، وَأَرَاك قَدْ عُدْتَ. فَقَتَلَهُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَدْرِ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ . قَالَ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ. قَالَ: أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ . قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء: 146] . وَرُوِيَ أَنَّ مَخْشِيَّ بْنَ حِمْيَرٍ كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] . فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ الَّتِي عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] فَهُوَ الَّذِي عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِهِ، وَلَا يُعْلَمَ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّ عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوا مِنْ الشَّهَادَةِ، مَعَ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِبَاطِنِهِمْ، بِقَوْلِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، مَعَ اسْتِسْرَارِهِمْ بِكُفْرِهِمْ. وَأَمَّا قَتْلُهُ ابْنَ النَّوَّاحَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ فِي تَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَهَا، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا زَالَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حِينَ جَاءَ رَسُولًا لِمُسَيْلِمَةِ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ، لَقَتَلْتُكَ» فَقَتَلَهُ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ. وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِمْ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ؛ وَأَمَّا قَبُولُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا فِي الْبَاطِنِ، وَغُفْرَانُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ ظَاهِرًا أَمْ بَاطِنًا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] [فَصْلٌ قَتَلَ الْمُرْتَدّ إلَيَّ الْإِمَامِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا] (7089) فَصْلٌ: وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الشَّافِعِيَّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَبْدِ، فَإِنَّ لِسَيِّدِهِ قَتْلَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . وَلِأَنَّ حَفْصَةَ قَتَلَتْ جَارِيَةً سَحَرَتْهَا. وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَلَكَ السَّيِّدُ إقَامَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، كَجَلْدِ الزَّانِي. وَلَنَا أَنَّهُ قَتْلٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ إلَى الْإِمَامِ، كَرَجْمِ الزَّانِي، وَكَقَتْلِ الْحُرِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ. فَلَا يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ، فَإِنَّهُ قُتِلَ لِكُفْرِهِ، لَا حَدًّا فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا خَبَرُ حَفْصَةَ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 فَإِنَّ عُثْمَانَ تَغَيَّظَ عَلَيْهَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَلْدُ فِي الزِّنَى، فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ، وَلِلسَّيِّدِ تَأْدِيبُ عَبْدِهِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ. فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ، أَسَاءَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِذَلِكَ. وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ التَّعْزِيرُ؛ لِإِسَاءَتِهِ وَافْتِيَاتِهِ. [مَسْأَلَةٌ مَالُ الْمُرْتَدّ فَيْئًا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ] (7090) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهَا، وَأَوْلَى مَا يُوجَدُ مِنْ مَالِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ فَيْءٌ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ. وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي الْفَرَائِضِ بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ لَا يَحْكُم بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ] (7091) فَصْلٌ: وَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ، فَمِلْكُهُ بَاقٍ لَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ عَادَ إلَيْهِ تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِسْلَامِهِ، فَزَوَالُ إسْلَامِهِ يُزِيلُ عِصْمَتَهُمَا، كَمَا لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا إرَاقَةَ دَمِهِ بِرِدَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ بِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَالُهُ مَوْقُوفٌ؛ إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا بَقَاءَ مِلْكِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَبَيَّنَّا زَوَالَهُ مِنْ حِينِ رِدَّتِهِ. قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، كَهَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَبَبٌ يُبِيحُ دَمَهُ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ، كَزِنَى الْمُحْصَنِ، وَالْقَتْلِ لِمَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا، وَزَوَالُ الْعِصْمَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَالُ الْمِلْكِ، بِدَلِيلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ مِلْكَهُمْ، ثَابِتٌ مَعَ عِصْمَتِهِمْ، وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ، لَكِنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ - لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ -، وَأَخْذُ مَالِهِ - لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ -، لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا، حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ وَامْتَنَعُوا فِي دَارِهِمْ عَنْ طَاعَةِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، زَالَتْ عِصْمَتُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ الْأَصْلِيِّينَ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي دَارِهِمْ، فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 [فَصْلٌ يُؤْخَذ مَال الْمُرْتَدّ فَيُجْعَلُ عِنْدَ ثِقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] (7092) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ مَالُ الْمُرْتَدِّ، فَيُجْعَلُ عِنْدَ ثِقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إمَاءٌ جُعِلْنَ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ؛ لِأَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُنَّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَقَارُهُ، وَعَبِيدُهُ، وَإِمَاؤُهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُفْعَلَ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ انْتِظَارِهِ قَرِيبَةٌ، لَيْسَ فِي انْتِظَارِهِ فِيهَا ضَرَرٌ، فَلَا يَفُوتُ عَلَيْهِ مَنَافِعُ مِلْكِهِ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَاجَعَ الْإِسْلَامَ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِإِجَارَةِ الْحَاكِمِ لَهُ. وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ تَعَذَّرَ قَتْلُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَعَلَ الْحَاكِمُ مَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ، مِنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ وَغَيْرِهِ، وَإِجَارَةِ مَا يَرَى إبْقَاءَهُ، وَالْمُكَاتَبُ يُؤَدِّي إلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ. [فَصْلٌ تَصَرُّفَات الْمُرْتَدّ فِي رِدَّتِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِير وَالْوَصِيَّةِ] (7093) فَصْلٌ: وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ فِي رِدَّتِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ؛ إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا أَنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، كَانَ بَاطِلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، تَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِرِدَّتِهِ. وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: إنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، انْبَنَى عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كَالسَّفِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ مِلْكَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ، فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا، كَتَبَرُّعِ الْمَرِيضِ. [فَصْلٌ إنْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدّ لَمْ يَصِحّ تَزَوُّجُهُ] (7094) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ، لَمْ يَصِحَّ تَزَوُّجُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى النِّكَاحِ، وَمَا مَنَعَ الْإِقْرَارَ عَلَى النِّكَاحِ، مَنَعَ انْعِقَادَهُ، كَنِكَاحِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ. وَإِنْ زَوَّجَ، لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ قَدْ زَالَتْ بِرِدَّتِهِ. وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَمَةِ فَلَا بُدَّ فِي عَقْدِهِ مِنْ وِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا، وَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ، وَالْمُرْتَدُّ لَا وِلَايَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْفَاسِقِ الْكَافِرِ. [فَصْلٌ إنْ وَجَدَ مِنْ الْمُرْتَدّ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمِلْكَ] (7095) فَصْلٌ: وَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْمُرْتَدِّ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمِلْكَ، كَالصَّيْدِ، وَالِاحْتِشَاشِ، وَالِاتِّهَابِ، وَالشِّرَاءِ، وَإِيجَارِ نَفْسِهِ إجَارَةً خَاصَّةً، أَوْ مُشْتَرَكَةً، ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ أَمْلَاكُهُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مِلْكًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ، وَلِهَذَا زَالَتْ أَمْلَاكُهُ الثَّابِتَةُ لَهُ، فَإِنْ رَاجَعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 الْإِسْلَامَ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ، لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِذَا وُجِدَتْ، تَحَقَّقَ الشَّرْطُ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ حِينَئِذٍ، كَمَا تَعُودُ إلَيْهِ أَمْلَاكُهُ الَّتِي زَالَتْ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لِمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ. [فَصْلٌ إنْ لَحِقَ الْمُرْتَدّ بِدَارِ الْحَرْبِ] (7096) فَصْلٌ: وَإِنْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالِهِ، يَصِيرُ مُبَاحًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا أُبِيحَ دَمُهُ، وَأَمَّا أَمْلَاكُهُ وَمَالُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَمِلْكُهُ ثَابِتٌ فِيهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُورَثُ مَالُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى، بِدَلِيلِ حِلِّ دَمِهِ وَمَالِهِ الَّذِي مَعَهُ لِكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَيٌّ فَلَمْ يُورَثْ، كَالْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَحِلُّ دَمِهِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَالِهِ، بِدَلِيلِ الْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَإِنَّمَا حَلَّ مَالُهُ الَّذِي مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْعَاصِمُ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَال الْحَرْبِيِّ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْعِصْمَةِ، كَمَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي مَعَ مُضَارِبِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عِنْدَ مُودَعِهِ. [مَسْأَلَة مِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ دُعِيَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ] (7097) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، دُعِيَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى، وَإِلَّا قُتِلَ، جَاحِدًا تَرْكَهَا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لَهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا، إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْوُجُوبَ، كَحَدِيثِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاشِئِ بِغَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَعُرِّفَ ذَلِكَ، وَتُثْبَتُ لَهُ أَدِلَّةُ وُجُوبِهَا، فَإِنْ جَحَدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَاحِدُ لَهَا نَاشِئًا فِي الْأَمْصَارِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ جَحْدِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَبَانِي الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَهِيَ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا مَبَانِي الْإِسْلَامِ، وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا لَا تَكَادُ تَخْفَى، إذْ كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَشْحُونَيْنِ بِأَدِلَّتِهَا، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهَا، فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا مُعَانِدٌ لِلْإِسْلَامِ، يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ، غَيْرُ قَابِلٍ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا إجْمَاعِ أُمَّتِهِ. [فَصْلٌ اعْتَقَدَ حَلَّ شَيْءٍ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ] (7098) فَصْلٌ: وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَظَهَرَ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَزَالَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالزِّنَى، وَأَشْبَاهِ هَذَا، مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، كُفِّرَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ اسْتَحَلَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 قَتْلَ الْمَعْصُومِينَ، وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ، بِغَيْرِ شُبْهَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، كَالْخَوَارِجِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ مَعَ اسْتِحْلَالِهِمْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، وَفِعْلِهِمْ لِذَلِكَ مُتَقَرِّبِينَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِ ابْنِ مُلْجَمٍ مَعَ قَتْلِهِ أَفْضَلَ الْخَلْقِ فِي زَمَنِهِ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ، وَلَا يُكَفَّرُ الْمَادِحُ لَهُ عَلَى هَذَا، الْمُتَمَنِّي مِثْلَ فِعْلِهِ، فَإِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ قَالَ فِيهِ يَمْدَحُهُ لِقَتْلِ عَلِيٍّ: يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إلَّا لِيَبْلُغَ عِنْدَ اللَّهِ رِضْوَانَا إنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى ... الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا وَقَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَاعْتِقَادُهُمْ التَّقَرُّبَ بِقَتْلِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَحْكُمْ الْفُقَهَاءُ بِكُفْرِهِمْ؛ لِتَأْوِيلِهِمْ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلٍ مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ شَرِبَ الْخَمْرَ مُسْتَحِلًّا لَهَا، فَأَقَامَ عُمَرُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَلَمْ يُكَفِّرْهُ. وَكَذَلِكَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ، شَرِبُوا الْخَمْرَ بِالشَّامِ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَة. فَلَمْ يُكَفَّرُوا، وَعُرِّفُوا تَحْرِيمَهَا، فَتَابُوا، وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ. فَيُخَرَّجُ فِيمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِثْلُ حُكْمِهِمْ. وَكَذَلِكَ كُلُّ جَاهِلٍ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَجْهَلَهُ، لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يُعَرَّفَ ذَلِكَ، وَتَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وَيَسْتَحِلَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ قَالَ: الْخَمْرُ حَلَالٌ. فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ تَحْرِيمُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ، أَوْ مَيْتَةً، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا، لَمْ يُحْكَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 بِرِدَّتِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، كَمَا يَفْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ. [مَسْأَلَةٌ ذَبِيحَة الْمُرْتَدِّ حَرَامٌ] (7099) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ. وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ، لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ، فَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ، كَالْوَثَنِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا تَدَيَّنَ بَدِينِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَلَا يُسْتَرَقُّ. وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْمُرْتَدَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ: فَهُوَ مِنْهُمْ. فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى حِلَّ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَلَا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، مَعَ تَوْلِيَتِهِمْ لِلنَّصَارَى، وَدُخُولِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَمَعَ إقْرَارِهِمْ بِمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَلَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَهُ، وَإِنْ ذَبَحَهُ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي إتْلَافِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَالصَّبِيّ إذَا كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ] (7100) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو أَيُّوبَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ: لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الصَّبِيِّ كَالْهِبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحْدُ مَنْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ، فَلَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ، كَالْمَجْنُونِ، وَالنَّائِمِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، أَشْبَهَ الطِّفْلَ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَقَوْلِهِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 اللَّهِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.» وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الصَّبِيُّ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَصَحَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ إلَى دَارِ السَّلَامِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهَا الْإِسْلَامَ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ فِي الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ، مَعَ إجَابَتِهِ إلَيْهَا، وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا، وَلَا إلْزَامُهُ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَسَدُّ طَرِيقِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مَعَ هَرَبِهِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إجْمَاعٌ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ صَبِيًّا، وَقَالَ: سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا ... صَبِيًّا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِ وَلِهَذَا قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ، وَهُمَا ابْنًا ثَمَانِ سِنِينَ، وَبَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ الزُّبَيْرِ لِسَبْعِ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ، وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَحَدٍ إسْلَامَهُ، مِنْ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ. فَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ.» فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْتَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَالْإِسْلَامُ يُكْتَبُ لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ كَالصَّلَاةِ تَصِحُّ مِنْهُ وَتُكْتَبُ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَنَفَقَةَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَيَحْرِمُهُ مِيرَاثَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، وَيَفْسَخُ نِكَاحَهُ. قُلْنَا: أَمَّا الزَّكَاةُ فَإِنَّهَا نَفْعٌ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ، وَتَحْصِينِ الْمَالِ وَالثَّوَابِ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ وَالنَّفَقَةُ، فَأَمْرٌ مُتَوَهَّمٌ، وَهُوَ مَجْبُورٌ بِمِيرَاثِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الضَّرَرَ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ شَقَاءِ الدَّارَيْنِ وَالْخُلُودِ فِي الْجَحِيمِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرَرِ فِي أَكْلِ الْقُوتِ، الْمُتَضَمِّنِ قُوتَ مَا يَأْكُلُهُ، وَكُلْفَةُ تَحْرِيكِ فِيهِ لِمَا كَانَ بَقَاؤُهُ بِهِ لَمْ يُعَدَّ ضَرَرًا، وَالضَّرَرُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّفْعِ، أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ اشْتَرَطَ لِصِحَّةِ إسْلَامِهِ شَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِضَرْبِهِ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشْرٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ. فَإِنَّ الطِّفْلَ الَّذِي لَا يَعْقِلَ، لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ اعْتِقَادُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ لِقَلْقَةٍ بِلِسَانِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَشْرِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَحِّحِينَ لِإِسْلَامِهِ، لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَحُدُّوا لَهُ حَدًّا مِنْ السِّنِينَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَتَى مَا حَصَلَ، لَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ لِأَمْرِهِمْ، وَصِحَّةِ عِبَادَاتِهِمْ، فَيَكُونُ حَدًّا لِصِحَّةِ إسْلَامِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، جُعِلَ إسْلَامُهُ إسْلَامًا. وَلَعَلَّهُ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إسْلَامُهُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ بُعِثَ إلَى أَنْ مَاتَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَاشَ عَلِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ فَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا خَمْسًا، كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ. وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أُجِيزُ إسْلَامَ ابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ، مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَجَزْنَاهُ. وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَلَا يَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَدَلَّتْ أَحْوَالُهُ وَأَقْوَالُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلِهِ إيَّاهُ، صَحَّ مِنْهُ كَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ الصَّبِيِّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت] (7101) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ رَجَعَ، وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا أَسْلَمَ، وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ، لِمَعْرِفَتِنَا بِعَقْلِهِ بِأَدِلَّتِهِ، فَرَجَعَ، وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَبْطُلْ إسْلَامُهُ الْأَوَّلُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي مَظِنَّةِ النَّقْصِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا. قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَقْلُهُ لِلْإِسْلَامِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ بِأَفْعَالِهِ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ، وَتَصَرُّفَاتِهِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، وَتَكَلُّمِهِ بِكَلَامِهِمْ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ؛ وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا رُشْدَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِأَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، وَعَرَفْنَا جُنُونَ الْمَجْنُونِ وَعَقْلَ الْعَاقِلِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَلَا يَزُولُ مَا عَرَفْنَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ مَعْرِفَتَهُ بِمَا قَالَ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ، وَكَانَ مُرْتَدًّا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا ارْتَدَّ، صَحَّتْ رِدَّتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَعِنْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا رِدَّتُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُهُ، وَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْتَبَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ وَلَا شَيْءٌ، وَلَوْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ، لَكُتِبَتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، إنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ أَمْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَالزِّنَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ إنَّمَا صَحَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ مَصْلَحَةً، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّدْبِيرَ، وَالرِّدَّةُ تَمَحَّضَتْ مَضَرَّةً وَمَفْسَدَةً، فَلَمْ تَلْزَمْ صِحَّتُهَا مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا، حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَإِذَا بَلَغَ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، كَانَ مُرْتَدًّا حِينَئِذٍ. [مَسْأَلَةٌ الصَّبِيّ أَذَا ارْتَدَّ هَلْ يُقْتَلُ] (7102) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُجَاوِزَ بَعْدَ بُلُوغِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى كُفْرِهِ قُتِلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُقْتَلُ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، أَوْ لَمْ نَقُلْ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ فِي سَائِر الْحُدُودِ، وَلَا يُقْتَلُ قِصَاصًا؛ فَإِذَا بَلَغَ، فَثَبَتَ عَلَى رِدَّتِهِ، ثَبَتَ حُكْمُ الرِّدَّةِ حِينَئِذٍ، فَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا قَبْلَ بُلُوغِهِ أَوْ لَمْ نَقُلْ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا فَارْتَدَّ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَبِيًّا ثُمَّ ارْتَدَّ. [مَسْأَلَةٌ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ] (7103) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ، وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِمَا مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ رِقٌّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَسَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا لَحِقَتْ الْمُرْتَدَّةُ بِدَارِ الْحَرْبِ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهَا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَبَى بَنِي حَنِيفَةَ، وَاسْتَرَقَّ نِسَاءَهُمْ، وَأُمُّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِهِمْ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ كَالرَّجُلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الَّذِينَ سَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَسْلَمُوا، وَلَا ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْبَى. قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ. فَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ كَانُوا وُلِدُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَإِنَّهُمْ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، وَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو، وَقَدْ تَبِعُوهُمْ فِيهِ، فَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْكُفْرِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ صِغَارًا؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا كِبَارًا؛ لِأَنَّهُمْ إنْ ثَبَتُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ بَعْدَ كُفْرِهِمْ فَهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَفَرُوا فَهُمْ مُرْتَدُّونَ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 الِاسْتِتَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ. وَأَمَّا مَنْ حَدَثَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ، لِأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ، وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَلَا يُقَرُّونَ بِالِاسْتِرْقَاقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَإِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ، كَوَلَدِ الْحَرْبِيَّيْنِ، بِخِلَافِ آبَائِهِمْ. فَعَلَى هَذَا، إذَا وَقَعَ فِي الْأَسْرِ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَذْلَ الْجِزْيَةَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يُقَرَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ حَمْلًا حِينَ رِدَّتِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ كُفْرِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، هُوَ كَالْمَوْلُودِ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَلِهَذَا يَرِثُ. وَلَنَا، أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ. (7104) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَوْلَادِهِمَا الَّذِينَ وَصَفْتُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ) . قَوْلُهُ: الَّذِينَ وَصَفْتُ. يَعْنِي الَّذِينَ وُلِدُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَإِنَّهُمْ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَا يُسْتَرَقُّونَ. وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِمَا، اُسْتُتِيبَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ انْتَظَرْنَا بُلُوغَهُ، ثُمَّ اسْتَتَبْنَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ. [فَصْلٌ ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ] (7105) فَصْلٌ: وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ، وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ، صَارُوا دَارَ حَرْبٍ فِي اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ الْحَادِثِينَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَحَقُّهُمْ بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالِارْتِدَادِ مَعَهُمْ، فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ بِهِمْ. وَإِذَا قَاتَلَهُمْ، قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَتْبَعُ مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ حَتَّى تُجْمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ؛ أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْحَرْبِ، لَا شَيْءَ بَيْنَهُمَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ. الثَّالِثُ: أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَحْكَامُهُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 وَلَنَا، أَنَّهَا دَارُ كُفَّارٍ، فِيهَا أَحْكَامُهُمْ، فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ - كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ فِيهَا هَذِهِ الْخِصَالُ -، أَوْ دَارَ الْكَفَرَةِ الْأَصْلِيِّينَ. [فَصْل قَتَلَ الْمُرْتَدُّ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا] (7106) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَ الْمُرْتَدُّ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ، قُدِّمَ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ الرِّدَّةُ أَوْ تَأَخَّرَتْ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ الْخَطَإِ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ حَالَّةً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُجِّلَتْ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَأَمَّا الْجَانِي، فَتَجِبُ عَلَيْهِ حَالَّةً؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ مُتْلَفٍ، فَكَانَتْ حَالَّةً، كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ كَانَ أَوْلَادُهُ الْأَصَاغِرُ تَبَعًا لَهُ] (7107) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، كَانَ أَوْلَادُهُ الْأَصَاغِرُ تَبَعًا لَهُ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَأَدْرَكَ فَأَبَى الْإِسْلَامَ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقْتَلْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَسْلَمَ الْأَبُ، تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْأُمُّ لَمْ يَتْبَعُوهَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْحَرْبِيَّيْنِ يَتْبَعُ أَبَاهُ دُونَ أُمِّهِ، بِدَلِيلِ الْمَوْلَيَيْنِ إذَا كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ، كَانَ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أَبِيهِ دُونَ مَوْلَى أُمِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا أَوْ الْأُمُّ مَوْلَاةً، فَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، لَجَرَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ إلَى مَوَالِيهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ، وَيَنْتَسِبُ إلَى قَبِيلَتِهِ دُونَ قَبِيلَةِ أُمِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ أَبَاهُ فِي دِينِهِ أَيَّ دِينٍ كَانَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا بَلَغَ خُيِّرَ بَيْنَ دِينِ أَبِيهِ وَدِينِ أُمِّهِ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ عَلَى دِينِهِ. وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ الْغُلَامِ الَّذِي أَسْلَمَ أَبُوهُ، وَأَبَتْ أُمُّهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا، وَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا، كَوَلَدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكِتَابِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَيَتَرَجَّحُ الْإِسْلَامُ بِأَشْيَاءَ؛ مِنْهَا أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِعِبَادِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ دُعَاةً لِخَلْقِهِ إلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَتَخَلَّصُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا، وَمَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْقَتْلِ، كَوَلَدِ الْمُسْلِمَيْنِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا رَجَعَ عَنْ إسْلَامِهِ، وَجَبَ قَتْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَنَا، عَلَى مَالِكٍ، أَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الْإِسْلَامِ، كَالْأَبِ، بَلْ الْأُمُّ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِهِ، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهَا حَقِيقَةً، وَتَخْتَصُّ بِحَمْلِهِ وَرَضَاعِهِ، وَيَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أُمَّهُ دُونَ أَبِيهِ، وَهَذَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرَهُ. وَأَمَّا تَخْيِيرُ الْغُلَامِ، فَهُوَ فِي الْحَضَانَةِ لَا فِي الدِّينِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ عَلَى كُفْرِهِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عَلَى كُفْرِهِ، قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ؛ وَكَانَ مُسْلِمًا بِمَوْتِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا) يَعْنِي، إذَا مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْوَلَدِ الْكَافِرَيْنِ، صَارَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِمَوْتِهِ، وَقُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمَوْتِهِمَا وَلَا مَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتْ كُفْرُهُ تَبَعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إسْلَامٌ، وَلَا مِمَّنْ هُوَ تَابِعٌ لَهُ فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ، أَنَّهُ أَجْبَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَوْتِ أَبِيهِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَنُهُمْ عَنْ مَوْتِ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ يَتِيمٍ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَجَعَلَ كُفْرَهُ بِفِعْلِ أَبَوَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، انْقَطَعْت التَّبَعِيَّةُ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَضِيَّةُ الدَّارِ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، وَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْكُفْرُ لِلطِّفْلِ الَّذِي لَهُ أَبَوَانِ، فَإِذَا عُدِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ، لِانْقِطَاعِ تَبَعِيَّتِهِ لِمَنْ يُكَفَّرُ بِهَا، وَإِنَّمَا قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ، لِأَنَّ إسْلَامَهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَوْتِ أَبِيهِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْمِيرَاثَ، فَهُوَ سَبَبٌ لَهُمَا، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ الْإِسْلَامُ الْمَانِعُ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْمَوْتِ لَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ فِيمَا إذَا قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ لَهُ: إذَا مَاتَ أَبُوك فَأَنْتَ حُرٌّ. فَمَاتَ أَبُوهُ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الدَّارِ، فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ، فَلَا نَحْكُمُ بِإِسْلَامِ وَلَدِ الْكَافِرَيْنِ فِيهَا بِمَوْتِهِمَا، وَلَا مَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، وَكَذَلِكَ لَمْ نَحْكُمْ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 [مَسْأَلَةٌ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَقَالَ مَا كَفَرْت] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ مَنْ تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِشَهَادَتِهِ فَأَنْكَرَ] (7109) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ، فَقَالَ: مَا كَفَرْت. فَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ (7110) : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ مَنْ تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِشَهَادَتِهِ، فَأَنْكَرَ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ وَاسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ إنْكَارَهُ يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ الشَّهَادَتَيْنِ، كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا، مَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ أُتِيَ بَرْجَلٍ عَرَبِيٍّ قَدْ تَنَصَّرَ، فَاسْتَتَابَهُ، فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ، فَقَتَلَهُ، وَأُتِيَ بِرَهْطٍ يُصَلُّونَ وَهُمْ زَنَادِقَةٌ، وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الشُّهُودُ الْعُدُولُ، فَجَحَدُوا، وَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا دِينٌ إلَّا الْإِسْلَامَ. فَقَتَلَهُمْ، وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ اسْتَتَبْتُ النَّصْرَانِيَّ؟ اسْتَتَبْتُهُ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ دِينَهُ، فَأَمَّا الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّمَا قَتَلْتُهُمْ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا، وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ. وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ كُفْرُهُ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ، كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّ إنْكَارَهُ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ، فَلَمْ تُسْمَعْ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَنْكَرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ فِيهِ كَمَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ بِقَوْلِهِ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ، وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَالزِّنَى، لَوْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ فَرَجَعَ، كُفَّ عَنْهُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ. [فَصْل الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّة] (7111) فَصْلٌ: وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْ عَدْلَيْنِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ، إلَّا الْحَسَنَ، قَالَ: لَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ إلَّا أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةٌ، قِيَاسًا عَلَى الزِّنَى. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ الزِّنَى، فَقُبِلَتْ مِنْ عَدْلَيْنِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى السَّرِقَةِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الزِّنَى، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْأَرْبَعَةُ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ، بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي زِنَى الْبِكْرِ، وَلَا قَتْلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ كَوْنُهُ زِنًى، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى يُوجِبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، بِخِلَافِ الْقَذْفِ بِالرِّدَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 [الْفَصْلُ الثَّانِي ثَبَتَتْ رِدَّتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ] (7112) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ رِدَّتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ غَيْرِهَا فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لَمْ يُكْشَفْ عَنْ صِحَّةِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ الْإِقْرَارَ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ إسْلَامُ الْمُرْتَدِّ، وَلَا حَاجَةَ مَعَ ثُبُوتِ إسْلَامِهِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ جَحْدِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ جَحْدِهِمَا مَعًا، فَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَا يَحْصُلُ إسْلَامُهُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ. وَمَنْ أَقَرَّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلَى الْعَالَمِينَ، لَا يَثْبُتُ إسْلَامُهُ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، أَوْ يَتَبَرَّأَ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ. وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ مَبْعُوثٍ بَعْدُ غَيْرِ هَذَا، لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ هَذَا الْمَبْعُوثَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، احْتَمَلَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا اعْتَقَدَهُ. وَإِنْ ارْتَدَّ بِجُحُودِ فَرْضٍ، لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَحَدَهُ، وَيُعِيدَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِمَا اعْتَقَدَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ نَبِيًّا، أَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِهِ، أَوْ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، أَوْ اسْتَبَاحَ مُحَرَّمًا، فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ بِجَحْدِ الدِّينِ مِنْ أَصْلِهِ، إذَا شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ.» وَلِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِمَنْ أَرْسَلَهُ، وَبِتَوْحِيدِهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ بِتَوْحِيدِهِ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالتَّوْحِيدِ كَالْيَهُودِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ ضَمَّ إلَيْهِ الْإِقْرَارَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَمُلَ إسْلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَحِّدٍ، كَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالْوَثَنِيِّينَ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَبِهَذَا جَاءَتْ أَكْثَرُ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئَيْنِ لَا يَزُولُ جَحْدُهُمَا إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِهِمَا جَمِيعًا. وَإِنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولُ اللَّهِ. لَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 نَحْكُمْ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ نَبِيِّنَا. وَإِنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ. فَقَالَ الْقَاضِي: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ لِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَعْرُوفٍ وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَضَمَّنَ الشَّهَادَتَيْنِ، كَانَ مُخْبِرًا بِهِمَا. وَرَوَى الْمِقْدَادُ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ، فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ. أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَهَا» . وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. قَالَ: «أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْتَ قُلْتَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك، أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، أَوْ مَنْ جَحَدَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَمَّا مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَرِيضَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ. [فَصْلٌ أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ] (7113) فَصْلٌ: وَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًّا، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، فَلَا يُرَاقُ دَمُهُ بِالشُّبْهَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، فَيُقْتَلُ إذَا رَجَعَ كَمَا لَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ. [فَصْلٌ صَلَاة الْكَافِر] (7114) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى رِيَاءً وَتَقِيَّةً. وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ إسْلَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ إسْلَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَالشَّهَادَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ رُكْنٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْإِسْلَامُ، فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ. وَاحْتِمَالُ التَّقِيَّةِ وَالرِّيَاءِ، يَبْطُلُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَسَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَرْكَانِ، مِنْ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَنَعَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ.» وَالزَّكَاةُ صَدَقَةٌ، وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ. وَقَدْ فَرَضَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ الزَّكَاةِ مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَصِيرُوا بِذَلِكَ مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ صِيَامٌ، وَلِأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ بِفِعْلٍ، إنَّمَا هُوَ إمْسَاكٌ عَنْ أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَقَدْ يَتَّفِقُ هَذَا مِنْ الْكَافِرِ، كَاتِّفَاقِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلَا عِبْرَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 بِنِيَّةِ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا أَفْعَالٌ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ، وَيَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَلَاةِ الْكُفَّارِ، مِنْ اسْتِقْبَالِ قِبْلَتِنَا، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي صَلَاتِهِمْ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي الْأَصْلِيِّ، حَصَلَ بِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ كَالشَّهَادَتَيْنِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ فَأَقَامَ وَرَثَتُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ رِدَّتِهِ، حُكِمَ لَهُمْ بِالْمِيرَاثِ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ صَلَاتِهِ أَوْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ، أَوْ كِتَابٍ، أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِصَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ، فَأَشْبَهَ فِعْلَهُ غَيْرَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ] (7115) فَصْلٌ: وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ، كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، فَأَسْلَمَ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا، مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ. وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفْرِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَصِيرُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ قُتِلَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا.» وَلِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِ الْحَقِّ، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ، كَالْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ قَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ - إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ -، وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ، وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ. وَلِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ، كَالْإِقْرَارِ وَالْعِتْقِ. وَفَارَقَ الْحَرْبِيَّ وَالْمُرْتَدَّ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُمَا، وَإِكْرَاهُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ، بِأَنْ يَقُولَ: إنْ أَسْلَمْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاك. فَمَتَى أَسْلَمَ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ بِحَقٍّ، فَحُكِمَ بِصِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ، فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ، وَأَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مُسْلِمٌ عِنْدَ اللَّهِ، مَوْعُودٌ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ طَائِعًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ، لَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ اعْتِقَادِهِ مِنْ الْعَاقِلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَيَقُومُونَ بِفَرَائِضِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ] (7116) فَصْلٌ: وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، لَمْ يَصِرْ كَافِرًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ، تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ مَاتَ، وَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَأَشْبَهَ الْمُخْتَارَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] وَرُوِيَ «أَنَّ عَمَّارًا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى تَكَلَّمَ بِمَا طَلَبُوا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَبْكِي، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ عَادُوا فَعُدْ» . وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَجَابَهُمْ، إلَّا بِلَالٌ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ. أَحَدٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.» وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، فَإِنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ، فَمَتَى زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ، أُمِرَ بِإِظْهَارِ إسْلَامِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إسْلَامِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، مُخْتَارًا لَهُ. وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ، وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ. وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ بِهِ، حُكِمَ بِرِدَّتِهِ. فَإِنْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ رُجُوعَهُ إلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، كَمَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا. وَإِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 قَالَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ: أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ. أَوْ أَقَرَّ بِرِدَّتِهِ، حُرِمَ مِيرَاثَهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيُدْفَعُ إلَى مُدَّعِي إسْلَامِهِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِعَدَمِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، دُفِعَ إلَيْهِ نَصِيبُهُ، وَنَصِيبُ الْمُقِرِّ بِرِدَّةِ الْمَوْرُوثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ رِدَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. [فَصْل أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ] (7117) فَصْلٌ: وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَلَا يَقُولَهَا، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَى خَبَّابٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِكُمْ لَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِمِنْشَارٍ، فَيُوضَعُ عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ، وَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.» وَجَاءَ تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ - النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ - إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج: 4 - 6] {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 7] أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ، أَخَذَ قَوْمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، وَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَلْقُوهُ فِي النَّارِ. فَجَعَلُوا يُلْقُونَهُمْ فِيهَا، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ عَلَى كَتِفِهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِ الصَّبِيِّ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. فَذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ، فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ، أَلَهُ أَنْ يَرْتَدَّ؟ فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَعْمَلُونَ مَا شَاءُوا، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَرْكِ دِينِهِمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى، لَا ضَرَرَ فِيهَا، وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ، يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا، وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلَادًا كُفَّارًا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ، وَظَاهِرُ حَالِهِمْ الْمَصِيرُ إلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَالِانْسِلَاخُ مِنْ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ. [مَسْأَلَةٌ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ] (7118) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ، لَمْ يُقْتَلُ حَتَّى يُفِيقَ، وَيَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ، فَإِنْ مَاتَ فِي سُكْرِهِ، مَاتَ كَافِرًا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِدَّةِ السَّكْرَانِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا تَصِحُّ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهُوَ أَظْهَرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ، وَالسَّكْرَانُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ وَلَا قَصْدُهُ، فَأَشْبَهَ الْمَعْتُوهَ، وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، فَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ كَالنَّائِمِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ كَالْمَجْنُونِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ اسْتِتَابَتُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَالُوا فِي السَّكْرَانِ: إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي. فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي سُكْرِهِ، وَأَقَامُوا مَظِنَّتَهَا مُقَامَهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَصَحَّتْ رِدَّتُهُ كَالصَّاحِي. وَقَوْلُهُمْ " لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ " مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَيَأْثَمُ بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَهَذَا مَعْنَى التَّكْلِيفِ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَزُولُ عَقْلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا يَتَّقِي الْمَحْذُورَاتِ، وَيَفْرَحُ بِمَا يَسُرُّهُ، وَيُسَاءُ بِمَا يَضُرُّهُ، وَيَزُولُ سُكْرُهُ عَنْ قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَأَشْبَهَ النَّاعِسَ، بِخِلَافِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ، وَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ فَتُؤَخَّرُ إلَى حِينِ صَحْوِهِ، لِيَكْمُلَ عَقْلُهُ، وَيَفْهَمَ مَا يُقَالُ لَهُ، وَتُزَالَ شُبْهَتُهُ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ الْكُفْرَ مُعْتَقِدًا لَهُ، كَمَا تُؤَخَّرُ اسْتِتَابَتُهُ إلَى حِينِ زَوَالِ شِدَّةِ عَطَشِهِ وَجُوعِهِ، وَيُؤَخَّرُ الصَّبِيُّ إلَى حِينِ بُلُوغِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ جُعِلَ لِلزَّجْرِ، وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فِي حَالِ سُكْرِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ زَالَتْ بِرِدَّتِهِ. وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، لَمْ يَرِثْهُ وَرَثَتُهُ، وَلَا يَقْتُلُهُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ ارْتَدَّ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ سُكْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَصْحُوَ، ثُمَّ يُسْتَتَابَ عَقِيبَ صَحْوِهِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فِي الْحَالِ. وَإِنْ أَسْلَمَ فِي سُكْرِهِ صَحَّ إسْلَامُهُ، ثُمَّ يُسْأَلُ بَعْدَ صَحْوِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَفَرَ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ الْآنَ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحَّ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فِي سُكْرِهِ، مَاتَ مُسْلِمًا. [فَصْل إسْلَامُ السَّكْرَانِ] (7119) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ إسْلَامُ السَّكْرَانِ فِي سُكْرِهِ؛ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّتْ رِدَّتُهُ مَعَ أَنَّهَا مَحْضُ مَضَرَّةٍ، وَقَوْلُ بَاطِلٍ، فَلَأَنْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ، الَّذِي هُوَ قَوْلُ حَقٍّ، وَمَحْضُ مَصْلَحَةٍ، أَوْلَى. فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إسْلَامِهِ، وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَقَالَتِهِ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا قُتِلَ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَصِحَّ إسْلَامُهُ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ، فَإِنَّ مَنْ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ، لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ، كَالطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ. [فَصْلٌ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ] (7120) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَلَا إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ. وَإِنْ ارْتَدَّ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ جُنَّ، لَمْ يُقْتَلْ فِي حَالِ جُنُونِهِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُوصَفُ بِالْإِصْرَارِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِتَابَتُهُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَجُنَّ قُتِلَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَا هُنَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ، فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُجَنَّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَالَ جُنُونِهِ. [فَصْلٌ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ] (7121) فَصْلٌ: وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي رِدَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ، فِي مُسْلِمٍ أَحْدَثَ حَدَثًا، ثُمَّ لَحِقَ بِالرُّومِ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ: إنْ كَانَ ارْتَدَّ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ارْتَدَّ، أُقِيمَ عَلَيْهِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، إلَّا حُقُوقَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ، فَأَسْقَطَتْ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالِ شِرْكِهِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِرِدَّتِهِ، كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَفَارَقَ مَا فَعَلَهُ فِي شِرْكِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . فَالْمُرَادُ بِهِ مَا فَعَلَهُ فِي كُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا قَبْلَ رِدَّتِهِ، أَفْضَى إلَى كَوْنِ الرِّدَّةِ - الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ - مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ، وَأَنَّ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَزِمَتْهُ حُدُودٌ يَكْفُرُ ثُمَّ يُسْلِمُ فَتُكَفَّرُ ذُنُوبُهُ، وَتَسْقُطُ حُدُودُهُ. [فَصْل حُكْم مَا فَعَلَهُ الْمُرْتَدّ حَالَ رِدَّتِهِ] (7122) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا فَعَلَهُ فِي رِدَّتِهِ، فَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَقَتَلَ النَّفْسَ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ: تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَقَتَلَ بِهَا مُسْلِمًا، ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا، وَقَدْ أَسْلَمَ، فَأَخَذَهُ وَلِيُّهُ، يَكُونُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؟ فَقَالَ: قَدْ زَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَتَلَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ وَهُوَ مُشْرِكٌ. ثُمَّ تَوَقَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ: لَا أَقُولُ فِي هَذَا شَيْئًا. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَصَابَ فِي رِدَّتِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جُرْحٍ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ وَجَمَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِجَحْدِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ، لَا يَضْمَنُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ هَذَا، أُخِذَ بِهِ، إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 نَفْسٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَزِمَهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ، كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ. وَأَمَّا إنْ ارْتَكَبَ حَدًّا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّهُ إنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ، سَقَطَ مَا سِوَى الْقَتْلِ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ، اُكْتُفِيَ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ، أُخِذَ بِحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأُخِذَ بِهِمَا، كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ. وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ بَعْدَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهُ] (7123) فَصْلٌ: وَمَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهُ، فَقَدْ ارْتَدَّ؛ لِأَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَصَدَّقَهُ قَوْمُهُ، صَارُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ، وَكَذَلِكَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ وَمُصَدِّقُوهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.» [فَصْلٌ سَبّ اللَّه تَعَالَى] (7124) فَصْلٌ: وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى، كَفَرَ، سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا. وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِآيَاتِهِ أَوْ بِرُسُلِهِ، أَوْ كُتُبِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] . وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَفَى مِنْ الْهَازِئِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يُؤَدَّبَ أَدَبًا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُكْتَفَ مِمَّنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوْبَةِ فَمِمَّنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْلَى. [فَصْلٌ السِّحْرِ] (7125) فَصْلٌ: فِي السِّحْرِ: وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ، أَوْ عَقْلِهِ، مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ لَهُ. وَلَهُ حَقِيقَةٌ، فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ، وَمَا يُمْرِضُ، وَيَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَيَمْنَعُهُ وَطْأَهَا، وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمَا يُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، أَوْ يُحَبِّبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَصِلُ إلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ، كَدُخَانٍ وَنَحْوِهِ، جَازَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إلَى بَدَنِهِ شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 لَوْ جَازَ، لَبَطَلَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرِقُ الْعَادَاتِ، فَإِذَا جَازَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، بَطَلَتْ مُعْجِزَاتُهُمْ وَأَدِلَّتُهُمْ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَعْقِدْنَ فِي سِحْرِهِنَّ، وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ، لَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] . إلَى قَوْلِهِ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] . وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ، حَتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ؟ أَنَّهُ أَتَانِي مَلَكَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانِ.» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ. جُفُّ الطَّلْعَةِ: وِعَاؤُهَا. وَالْمُشَاطَةُ: الشَّعَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ شَعَرِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ إذَا مُشِطَ. فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ سِحْرًا. وَقَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ وُجُودُ عَقْدِ الرَّجُلِ عَنْ امْرَأَتِهِ حِينَ يَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهَا، وَحَلُّ عَقْدِهِ، فَيَقْدِرُ عَلَيْهَا بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا، حَتَّى صَارَ مُتَوَاتِرًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ. وَرُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ السَّحَرَةِ مَا لَا يَكَادُ يُمْكِنُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ. وَأَمَّا إبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَا يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَنْ تَسْعَى الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ وَتَعْلِيمَهُ حَرَامٌ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكَفَّرُ السَّاحِرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إبَاحَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ، فَإِنَّ حَنْبَلًا رُوِيَ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ عَمِّي فِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ: أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ كُلِّهَا، فَإِنَّهُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْمُرْتَدِّ، فَإِنْ تَابَ وَرَاجَعَ يَعْنِي يُخَلَّى سَبِيلُهُ. قُلْت لَهُ: يُقْتَلُ؟ قَالَ: لَا، يُحْبَسُ، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ. قُلْت لَهُ: لِمَ لَا تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ يُصَلِّي، لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَفَّرَهُ لَقَتَلَهُ. وَقَوْلُهُ فِي مَعْنَى الْمُرْتَدِّ. يَعْنِي الِاسْتِتَابَةَ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ، كُفِّرَ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَمْ يُكَفَّرْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ اعْتَقَدَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، مِثْلَ التَّقَرُّبِ إلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَلْتَمِسُ، أَوْ اعْتَقَدَ حِلَّ السِّحْرِ، كُفِّرَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِتَحْرِيمِهِ، وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فُسِّقَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 وَلَمْ يُكَفَّرْ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَلَوْ كُفِّرَتْ لَصَارَتْ مُرْتَدَّةً يَجِبُ قَتْلُهَا، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهَا، وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، فَلَمْ يُكَفَّرْ بِمُجَرَّدِهِ كَأَذَاهُمْ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] . إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . أَيْ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، أَيْ وَمَا كَانَ سَاحِرًا كَفَرَ بِسِحْرِهِ. وَقَوْلُهُمَا: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ. أَيْ لَا تَتَعَلَّمْهُ فَتَكْفُرَ بِذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهَا، فَجَعَلَتْ تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا، وَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ عَجُوزًا ذَهَبَتْ بِي إلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَقُلْت: عَلِّمَانِي السِّحْرَ. فَقَالَا: اتَّقِي اللَّهَ وَلَا تَكْفُرِي، فَإِنَّكِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ. فَقُلْت: عَلِّمَانِي السِّحْرَ. فَقَالَا: اذْهَبِي إلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ، فَبُولِي فِيهِ. فَفَعَلْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ خَرَجَ مِنِّي حَتَّى طَارَ، فَغَابَ فِي السَّمَاءِ، فَرَجَعْتُ إلَيْهِمَا، فَأَخْبَرْتُهُمَا، فَقَالَا: ذَلِكَ إيمَانُكِ. فَذَكَرَتْ بَاقِيَ الْقِصَّةِ إلَى أَنْ قَالَتْ: وَاَللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا صَنَعْتُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَلَا أَصْنَعُهُ أَبَدًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَرَأَيْتهَا تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا، فَطَافَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ - تَسْأَلُهُمْ، هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ، إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهَا: إنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْكِ حَيًّا، فَبِرِّيهِ، وَأَكْثِرِي مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ مَا اسْتَطَعْتِ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ قَدْ خَالَفَهَا فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السَّاحِرُ كَافِرٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَابَتْ فَسَقَطَ عَنْهَا الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِتَوْبَتِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا سَحَرَتْهَا، بِمَعْنَى أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى سَاحِرٍ سَحَرَ لَهَا. [فَصْلٌ حَدُّ السَّاحِرِ] (7126) فَصْلٌ: وَحَدُّ السَّاحِرِ الْقَتْلُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَحَفْصَةَ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَجُنْدُبِ بْنِ كَعْبٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِ السِّحْرِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، بَاعَتْ مُدَبَّرَةً سَحَرَتْهَا، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهَا لَمَا حَلَّ بَيْعُهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ دَمُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَدُّ السَّاحِرِ، ضَرْبُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 بِالسَّيْفِ.» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.، وَرَوَى سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد فِي " كِتَابَيْهِمَا "، عَنْ بَجَالَةَ قَالَ: كُنْت كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، إذْ جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ. فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ فِي يَوْمٍ، وَهَذَا اُشْتُهِرَ فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. وَقَتَلَ جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيْ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ. [فَصْلٌ هَلْ يُسْتَتَابُ السَّاحِرُ] (7127) فَصْلٌ: وَهَلْ يُسْتَتَابُ السَّاحِرُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، لَا يُسْتَتَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ اسْتَتَابَ سَاحِرًا، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ، هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ. وَلِأَنَّ السِّحْرَ مَعْنًى فِي قَلْبِهِ، لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، فَيُشْبِهُ مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْ الشِّرْكِ، وَالْمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ، وَمَعْرِفَتُهُ السِّحْرَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي سَاعَةٍ، وَلِأَنَّ السَّاحِرَ لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَحَّ إسْلَامُهُ وَتَوْبَتُهُ، فَإِذَا صَحَّتْ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا صَحَّتْ مِنْ أَحَدِهِمَا، كَالْكُفْرِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ إنَّمَا هُوَ بِعَمَلِهِ بِالسِّحْرِ، لَا بِعِلْمِهِ، بِدَلِيلِ السَّاحِرِ إذَا أَسْلَمَ، وَالْعَمَلُ بِهِ يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ مَا يَكْفُرُ بِاعْتِقَادِهِ، يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ كَالشِّرْكِ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا، مِنْ سُقُوطِ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُقُوطِ عُقُوبَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ عَنْهُ، فَتَصِحُّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسُدَّ بَابَ التَّوْبَةِ عَنْ أَحَدٍ، مِنْ خَلْقِهِ، وَمَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. [فَصْلٌ السَّحَر الَّذِي يُحَدُّ عَلَى فَعَلَهُ] (7128) فَصْلٌ: وَالسِّحْرُ الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ. هُوَ الَّذِي يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سِحْرًا، مِثْلُ فِعْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، حِينَ سَحَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ. وَرَوَيْنَا فِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ أَنَّ النَّجَاشِيَّ دَعَا السَّوَاحِرَ، فَنَفَخْنَ فِي إحْلِيلِ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، فَهَامَ مَعَ الْوَحْشِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَهَا إلَى إمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمْسَكَهُ إنْسَانٌ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَإِلَّا مِتُّ، فَلَمْ يُخَلِّهِ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَبَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ أَخَذَ سَاحِرَةً، فَجَاءَ زَوْجُهَا كَأَنَّهُ مُحْتَرِقٌ، فَقَالَ: قُولُوا لَهَا تَحُلُّ عَنِّي. فَقَالَتْ: ائْتُونِي بِخُيُوطٍ وَبَابٍ. فَأَتَوْهَا بِهِ، فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَابِ، حِينَ أَتَوْهَا بِهِ وَجَعَلَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 تَعْقِدُ، وَطَارَ بِهَا الْبَابُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ، مِثْلُ أَنْ يَعْقِدَ الرَّجُلَ الْمُتَزَوِّجَ، فَلَا يُطِيقَ وَطْءَ زَوْجَتِهِ، هُوَ السِّحْرُ الْمُخْتَلَفُ فِي حُكْمِ صَاحِبِهِ، فَأَمَّا الَّذِي يُعَزِّمُ عَلَى الْمَصْرُوعِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ، وَيَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ، فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ظَاهِرًا. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي جُمْلَةِ السَّحَرَةِ. وَأَمَّا مَنْ يَحُلُّ السِّحْرَ، فَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْإِقْسَامِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ السِّحْرِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَحُلُّ السِّحْرَ، فَقَالَ: قَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّهُ يَجْعَلُ الطِّنْجِيرَ مَاءً، وَيَغِيبُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ كَذَا، فَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: فَتَرَى أَنْ يُؤْتَى مِثْلُ هَذَا يَحُلُّ السِّحْرَ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا، وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ مُحَمَّدُ: مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا عَلَى حَالٍ، وَلَا أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ؟ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّجُلِ يُؤْخَذُ عَنْ امْرَأَتِهِ، فَيَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ، فَقَالَ: إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ، وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ. وَقَالَ أَيْضًا: إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْفَعَ أَخَاك فَافْعَلْ. فَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَزِّمَ وَنَحْوَهُ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي حُكْمِ السَّحَرَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ بِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. [فَصْلٌ حَدّ الْكَاهِنُ وَالْعَرَّافُ وَالسَّاحِرِ] (7129) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكَاهِنُ الَّذِي لَهُ رَئِيٌّ مِنْ الْجِنِّ، تَأْتِيه بِالْأَخْبَارِ، وَالْعَرَّافُ الَّذِي يَحْدُسُ وَيَتَخَرَّصُ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ: أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ. قِيلَ لَهُ يُقْتَلُ؟ قَالَ: لَا، يُحْبَسُ، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ. قَالَ: وَالْعِرَافَةُ طَرَفٌ مِنْ السِّحْرِ، وَالسَّاحِرُ أَخْبَثُ، لِأَنَّ السِّحْرَ شُعْبَةٌ مِنْ الْكُفْرِ. وَقَالَ: السَّاحِرُ وَالْكَاهِنُ حُكْمُهُمَا الْقَتْلُ، أَوْ الْحَبْسُ حَتَّى يَتُوبَا؛ لِأَنَّهُمَا يَلْبِسَانِ أَمْرَهُمَا، وَحَدِيثُ عُمَرَ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَتُبْ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَقْتُلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ السَّاحِرِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَهَذَا بِدَرْءِ الْقَتْلِ عَنْهُ أَوْلَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 [فَصْلٌ سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ] (7130) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يُقْتَلُ لِسِحْرِهِ، إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِهِ - وَهُوَ مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا - فَيُقْتَلَ قِصَاصًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ؛ لِعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُ جِنَايَةٌ أَوْجَبَتْ قَتْلَ الْمُسْلِمِ، فَأَوْجَبَتْ قَتْلَ الذِّمِّيِّ كَالْقَتْلِ. وَلَنَا، «أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقْتُلْهُ» . وَلِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مِنْ سِحْرِهِ، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ، وَالْأَخْبَارُ وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ، وَهَذَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ. وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَيَنْتَقِضُ بِالزِّنَى مِنْ الْمُحْصَنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ الذِّمِّيُّ عِنْدَهُمْ، وَيُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 [كِتَاب الْحُدُود] ِ الزِّنَى حَرَامٌ، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قَالَ: قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك. قَالَ: قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَكَانَ حَدُّ الزَّانِي فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْحَبْسَ لِلثَّيِّبِ، وَالْأَذَى بِالْكَلَامِ مِنْ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْبِكْرِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] . قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ نِسَائِكُمْ) الثَّيِّبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (مِنْ نِسَائِكُمْ) إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] . وَلَا فَائِدَةَ فِي إضَافَتِهِ هَاهُنَا نَعْلَمُهَا إلَّا اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا أَغْلَظُ مِنْ الْأُخْرَى، فَكَانَتْ الْأَغْلَظُ لِلثَّيِّبِ، وَالْأُخْرَى لِلْأَبْكَارِ. كَالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ؟ قُلْنَا: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ قَالَ: لَيْسَ هَذَا نَسْخًا، إنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ وَتَبْيِينٌ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ حُكْمٍ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ، وَزَالَ الشَّرْطُ، لَا يَكُونُ نَسْخًا، وَهَا هُنَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى حَبْسَهُنَّ إلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا، فَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ السَّبِيلَ، فَكَانَ بَيَانًا لَا نَسْخًا. وَيُمْكِنُ أَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 يُقَالَ: إنَّ نَسْخَهُ حَصَلَ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْجَلْدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرَّجْمَ كَانَ فِيهِ، فَنُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ. [مَسْأَلَةٌ زَنَى الْحُرُّ الْمُحْصَنُ أَوْ الْحُرَّةُ الْمُحْصَنَةُ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ] (7131) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا زَنَى الْحُرُّ الْمُحْصَنُ، أَوْ الْحُرَّةُ الْمُحْصَنَةُ، جُلِدَا وَرُجِمَا حَتَّى يَمُوتَا، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، يُرْجَمَانِ، وَلَا يُجْلَدَانِ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إلَّا الْخَوَارِجَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجَلْدُ لِلْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، لِأَخْبَارِ آحَادٍ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِيهَا، وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ الْمُتَوَاتِرَ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ فِي مَوَاضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا نُسِخَ رَسْمُهُ دُونَ حُكْمِهِ، فَرُوِيَ عَنْ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْتُهَا وَعَقَلْتُهَا وَوَعَيْتُهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. فَأَخْشَى إنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَالرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا أُحْصِنَ، مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ، وَقَدْ قَرَأْتهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا آيَةُ الْجَلْدِ، فَنَقُولُ بِهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَ يَجِبُ جَلْدُهُ، فَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا رُجِمَ مَعَ الْجَلْدِ، وَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ جَلَدَ شُرَاحَةَ، ثُمَّ رَجَمَهَا، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ لَوْ قُلْنَا: إنَّ الثَّيِّبَ لَا يُجْلَدُ لَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ الْعَامَّةِ، وَهَذَا سَائِغٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، فَإِنَّ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْإِثْبَاتِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا نَسْخٌ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، ثُمَّ لَوْ كَانَ نَسْخًا، لَكَانَ نَسْخًا بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رُسُلَ الْخَوَارِجِ جَاءُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَابُوا عَلَيْهِ الرَّجْمُ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْجَلْدُ. وَقَالُوا: الْحَائِضُ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهَا قَضَاءَ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ أَوْكَدُ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: وَأَنْتُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 لَا تَأْخُذُونَ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخْبِرُونِي عَنْ عَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَعَدَدِ أَرْكَانِهَا وَرَكَعَاتِهَا وَمَوَاقِيتِهَا، أَيْنَ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَأَخْبِرُونِي عَمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَمَقَادِيرِهَا وَنُصُبِهَا؟ فَقَالُوا: أَنْظِرْنَا فَرَجَعُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِمَّا سَأَلَهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالُوا: لَمْ نَجِدْهُ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: فَكَيْفَ ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ؟ قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. فَقَالَ لَهُمْ فَكَذَلِكَ الرَّجْمُ، وَقَضَاءُ الصَّوْمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ وَرَجَمَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ نِسَاؤُهُ وَنِسَاءُ أَصْحَابِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَعْنَى الرَّجْمِ أَنْ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُقْتَلَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُومَ يُدَامُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ حَتَّى يَمُوتَ. وَلِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّجْمِ يَقْتَضِي الْقَتْلَ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] . وَقَدْ «رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، وَمَاعِزًا، وَالْغَامِدِيَّةَ، حَتَّى مَاتُوا.» [فَصْلٌ كَيْفَ يُقَام الْحَدّ عَلَى الزَّانِي الرَّجُل] فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الزَّانِي رَجُلًا أُقِيمَ قَائِمًا، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ الزِّنَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ مَاعِزٍ خَرَجْنَا بِهِ إلَى الْبَقِيعِ، فَوَاَللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ، وَلَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ قَامَ لَنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَهُ، وَدَفْنَ بَعْضِهِ، عُقُوبَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ. وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا يُحْفَرُ لَهَا أَيْضًا. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْخِلَافِ "، وَذَكَرَ فِي " الْمُجَرَّدِ " أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ، لَمْ يُحْفَرْ لَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، حُفِرَ لَهَا إلَى الصَّدْرِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ وَبُرَيْدَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ امْرَأَةً، فَحَفَرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَمْكِينِهَا مِنْ الْهَرَبِ، لِكَوْنِ الْحَدِّ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا، بِخِلَافِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ عَلَى حَالٍ لَوْ أَرَادَتْ الْهَرَبَ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا عَنْ إقْرَارِهَا مَقْبُولٌ. وَلَنَا، أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ، وَلَا لِمَاعِزٍ، وَلَا لِلْيَهُودِيَّيْنِ» ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ، فَإِنَّ الَّتِي نُقِلَ عَنْهُ الْحَفْرُ لَهَا، ثَبَتَ حَدُّهَا بِإِقْرَارِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِيهَا، فَلَا يَسُوغُ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مُخَالِفَتِهِمْ لَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ ثِيَابَ الْمَرْأَةِ تُشَدُّ عَلَيْهَا، كَيْ لَا تَنْكَشِفَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 [فَصْلٌ مِنْ السُّنَّةُ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ الْمَرْجُومِ] (7134) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ الْمَرْجُومِ، فَإِنْ كَانَ الزِّنَى ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ بِهِ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ، إنْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَرْجُمُ النَّاسُ بَعْدَهُ. وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ رَجْمَانِ؛ فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ النَّاسُ. وَلِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ مِنْ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ. فَإِنْ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْحَدُّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، اتَّبَعُوهُ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ، تَرَكُوهُ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، لَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ، خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ، فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ. فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي هَرَبِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ أُنَيْسٍ حِينَ قَتَلَ مَاعِزًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِإِقْرَارِهِ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ الرُّجُوعِ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ، وَأُتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، فَكَانَ مُقِيمًا عَلَى اعْتِرَافِهِ رَجَمَهُ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ، تَرَكَهُ. [الْفَصْلُ الثَّانِي اجْتَمَعَ حَدَّانِ الْجَلْد وَالرَّجْم] (7135) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْلَدُ، ثُمَّ يُرْجَمُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ. ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ أَنَّهُمَا رَجَمَا وَلَمْ يَجْلِدَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى، فِيهِمَا الْقَتْلُ أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ. وَنَصَرَاهُ فِي " سُنَنِهِمَا "؛ لِأَنَّ جَابِرًا رَوَى، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ، وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ وَلَمْ يَجْلِدْهَا. وَقَالَ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِجَلْدِهَا، وَكَانَ هَذَا آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ: إنَّهُ أَوَّلُ حَدٍّ نَزَلَ، وَإِنَّ حَدِيثَ مَاعِزٍ بَعْدَهُ، رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَجْلِدْهُ، وَعُمَرُ رَجَمَ وَلَمْ يَجْلِدْ. وَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ نَحْوَ هَذَا. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فِيهِ قَتْلٌ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ جَلْدٌ كَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا قَتْلٌ سَقَطَ مَا سِوَاهُ، فَالْحَدُّ أَوْلَى. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وَهَذَا عَامٌّ، ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَالتَّغْرِيبِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَإِلَى هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» . وَهَذَا الصَّرِيحُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَالْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الرَّجْمَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَلْدَ، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الصَّرِيحُ، بِدَلِيلِ أَنَّ التَّغْرِيبَ يَجِبُ بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ زَانٍ فَيُجْلَدُ كَالْبِكْرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ عُقُوبَتَانِ؛ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ أَيْضًا عُقُوبَتَانِ؛ الْجَلْدُ، وَالرَّجْمُ، فَيَكُونُ الرَّجْمُ مَكَانَ التَّغْرِيبِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُبْدَأُ بِالْجَلْدِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْجَمُ، فَإِنْ وَالَى بَيْنَهُمَا جَازَ، لِأَنَّ إتْلَافَهُ مَقْصُودٌ، فَلَا تَضُرُّ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ جَلَدَهُ يَوْمًا وَرَجَمَهُ آخَرَ، جَازَ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ عَلَى مِنْ يَجِب الرَّجْمَ] (7136) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُحْصَنِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ. ذَكَرَ مِنْهَا: أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ.» وَلِلْإِحْصَانِ شُرُوطٌ سَبْعَةٌ؛ أَحَدُهُمَا، الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» . وَالثِّيَابَةُ تَحْصُلُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ الْخَالِيَ عَنْ الْوَطْءِ، لَا يَحْصُلُ بِهِ إحْصَانٌ؛ سَوَاءٌ حَصَلَتْ فِيهِ خَلْوَةٌ، أَوْ وَطْءٌ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، أَوْ لَمْ يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا، وَلَا تَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْأَبْكَارِ، الَّذِينَ حَدُّهُمْ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطْئًا حَصَلَ بِهِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَدُّ الْوَطْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي نِكَاحٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُسَمَّى إحْصَانًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] . يَعْنِي الْمُتَزَوِّجَاتِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الزِّنَى، وَوَطْءَ الشُّبْهَةِ، لَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاطِئُ مُحْصَنًا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَلَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 اللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ سَوَاءٌ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، مِثْلُ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ، وَلَحَاقِ الْوَلَدِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْصَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ. فَلَمْ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْوَطْءِ فِيهِ، وَهَذِهِ ثَبَتَتْ فِي كُلِّ وَطْءٍ، وَلَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالنِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا صَارَ شُبْهَةً، فَصَارَ الْوَطْءُ فِيهِ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ سَوَاءً. الرَّابِعُ، الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ، إلَّا أَبَا ثَوْرٍ: قَالَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ هُمَا مُحْصَنَانِ، يُرْجَمَانِ إذَا زَنَيَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ إجْمَاعٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْعَبْدِ تَحْتَهُ حُرَّةٌ: هُوَ مُحْصَنٌ، يُرْجَمُ إذَا زَنَى، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ، لَمْ يُرْجَمْ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ تُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . وَالرَّجْمُ لَا يَنْتَصِفُ، وَإِيجَابُهُ كُلُّهُ يُخَالِفُ النَّصَّ مَعَ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ قَبْلَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إذَا عَتَقَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ، فَهَذَا فِيهِ اخْتِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ وَافَقَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا وَطِئَ الْأَمَةَ، ثُمَّ عَتَقَا، لَمْ يَصِيرَا مُحْصَنَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ فَقَالَ فِي الْمَمْلُوكَيْنِ إذَا أُعْتِقَا، وَهُمَا مُتَزَوِّجَانِ، ثُمَّ وَطِئَهَا الزَّوْجُ: لَا يَصِيرَانِ مُحْصَنَيْنِ بِذَلِكَ الْوَطْءِ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ شَاذٌّ، خَالَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ وُجِدَ مِنْهُمَا حَالَ كَمَالِهِمَا، فَحَصَّنَهُمَا، كَالصَّبِيَّيْنِ إذَا بَلَغَا. الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ، الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، فَلَوْ وَطِئَ وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ، ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَقَلَ، لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: يَصِيرُ مُحْصَنًا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ فِي رِقِّهِ، ثُمَّ عَتَقَ، يَصِيرُ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْلَالُ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا، فَحَصَلَ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالْمَوْجُودِ حَالَ الْكَمَالِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ.» فَاعْتَبَرَ الثُّيُوبَةَ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَتْ تَحْصُلُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَيُفَارِقُ الْإِحْصَانُ الْإِحْلَالَ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْمُطَلِّقِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَطَأَهَا غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَأْبَاهُ الطِّبَاعُ وَيَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، فَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ زَجْرًا عَنْ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْعَاقِلُ وَالْمَجْنُونُ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ لِكَمَالِ النِّعْمَةِ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ مَنْ كَمَلَتْ النِّعْمَةُ فِي حَقِّهِ، كَانَتْ جِنَايَتُهُ أَفْحَشَ وَأَحَقَّ بِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ، وَالنِّعْمَةُ فِي الْعَاقِلِ الْبَالِغِ أَكْمَلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الشَّرْطُ السَّابِعُ، أَنْ يُوجَدَ الْكَمَالُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَالَ الْوَطْءِ، فَيَطَأُ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ الْحُرُّ امْرَأَةً عَاقِلَةً حُرَّةً. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَنَحْوُهُ، قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 وَإِسْحَاقَ. قَالُوهُ فِي الرَّقِيقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلًا صَارَ مُحْصَنًا، إلَّا الصَّبِيَّ إذَا وَطِئَ الْكَبِيرَةَ، لَمْ يُحْصِنْهَا، وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ. وَاخْتُلِفَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، فَقِيلَ: لَهُ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَامِلَ يَصِيرُ مُحْصَنًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، بَالِغٌ عَاقِلٌ، وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَصَارَ مُحْصَنًا، كَمَا لَوْ كَانَ الْآخَرُ مِثْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الصَّبِيِّ دُونَ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْصَنًا، قَوْلًا وَاحِدًا، إذَا كَانَ كَامِلًا. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ لَمْ يُحْصَنْ بِهِ أَحَدُ الْمُتَوَاطِئَيْنِ، فَلَمْ يُحْصَنْ الْآخَرُ، كَالتَّسَرِّي، وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا نَاقِصًا، لَمْ يَكْمُلْ الْوَطْءُ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ، كَمَا لَوْ كَانَا غَيْرَ كَامِلَيْنِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ هَلْ يَشْتَرِط الْإِسْلَام فِي الْإِحْصَان] (7137) فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الذِّمِّيَّانِ مُحْصَنَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً، فَوَطِئَهَا، صَارَا مُحْصَنَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الذِّمِّيَّةَ: لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ. فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مُحْصَنًا، وَلَا تُحْصِنُ الذِّمِّيَّةُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» . وَلِأَنَّهُ إحْصَانٌ مِنْ شَرْطِهِ الْحُرِّيَّةُ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِيهِ، كَإِحْصَانِ الْقَذْفِ. وَقَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِهِمْ، إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْكَمَالُ فِي الزَّوْجَيْنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ الْيَهُودُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِالزِّنَى اسْتَوَتْ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَدِّ. وَحَدِيثُهُمْ لَمْ يَصِحَّ، وَلَا نَعْرِفُهُ فِي مُسْنَدٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. ثُمَّ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى إحْصَانِ الْقَذْفِ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّ رَاوِيَهُمَا وَاحِدٌ، وَحَدِيثُنَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْمِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ خَبَرِهِمْ عَلَى الْإِحْصَانِ الْآخَرِ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا رَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودِيَّيْنِ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، أَقَامَهُ فِيهِمْ، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] . قُلْنَا: إنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . وَلِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمُ بِغَيْرِ شَرِيعَتِهِ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا رَاجَعَ التَّوْرَاةَ لِتَعْرِيفِهِمْ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقٌ لِمَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ تَارِكُونَ لِشَرِيعَتِهِمْ، مُخَالِفُونَ لِحُكْمِهِمْ، ثُمَّ هَذَا حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ إنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ ثَبَتَ وُجُودُ الْإِحْصَانِ فِيهِمْ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَى وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْهُمْ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ مِنْهُ، وَإِنْ مَنَعُوا ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِمْ، فَلِمَ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ . وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى إحْصَانِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْعِفَّةَ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا هَاهُنَا. [فَصْل ارْتِدَاد الْمُحْصَن الزَّانِي] (7138) فَصْلٌ: وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُحْصَنُ، لَمْ يَبْطُلْ إحْصَانُهُ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُحْصَنًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، ثُمَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ» . وَلِأَنَّهُ زَنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ، فَكَانَ حَدُّهُ الرَّجْمَ، كَاَلَّذِي لَمْ يَرْتَدَّ. فَأَمَّا إنْ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إحْصَانِهِ، فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَبْطُلَ إحْصَانُهُ، لِأَنَّهُ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ ارْتَدَّ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ بِكَوْنِهِ رَقِيقًا، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، بِخِلَافِ مَنْ ارْتَدَّ. [فَصْل زَنَى وَلَهُ زَوْجَة لَهُ مِنْهَا وَلَد فَقَالَ مَا وَطِئَتْهَا] فَصْلٌ: وَإِذَا زَنَى وَلَهُ زَوْجَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: مَا وَطِئْتُهَا. لَمْ يُرْجَمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرْجَمُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ وَطْءٍ. فَقَدْ حَكَمَ بِالْوَطْءِ ضَرُورَةَ الْحُكْمِ بِالْوَلَدِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِإِمْكَانِ الْوَطْءِ وَاحْتِمَالِهِ، وَالْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِمْكَانِ وُجُودُ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ. مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ مَعَ تَحَقُّقِ انْتِفَائِهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ لِامْرَأَةٍ وَلَدٌ مِنْ زَوْجٍ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونُ وَطِئَهَا لَمْ يَثْبُتْ إحْصَانُهَا لِذَلِكَ. [فَصْلٌ شَهِدَتْ بَيِّنَة الْإِحْصَان عَلَى مِنْ أَنْكَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ] (7140) فَصْلٌ: وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 الدُّخُولِ كَالْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْمُجَامَعَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُكْتَفَى بِهِ حَتَّى تَقُولَ: جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا. أَوْ نَحْوَهُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْوَةِ بِهَا، وَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهَا أَحْكَامُهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا إذَا قَالَتْ: جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا. فَلَمْ نَعْلَمْ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي إذَا قَالَتْ: وَطِئَهَا. فَإِنْ قَالَتْ: بَاشَرَهَا، أَوْ مَسَّهَا، أَوْ أَصَابَهَا، أَوْ أَتَاهَا. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْإِحْصَانُ؛ لِأَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا دُونَ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ كَثِيرًا، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالِاحْتِمَالِ [فَصْلٌ جَلَدَ الزَّانِي عَلَى أَنَّهُ بَكْرٍ ثُمَّ بَانَ مُحْصَنًا] (7141) فَصْلٌ: وَإِذَا جُلِدَ الزَّانِي عَلَى أَنَّهُ بِكْرٌ، ثُمَّ بَانَ مُحْصَنًا، رُجِمَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ، فَرُجِمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ أَتَى بِبَعْضِ الْوَاجِبِ، فَيَجِبُ إتْمَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْحَدِّ الْوَاجِبِ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ وَيَغْسِلَانِ وَيُكَفِّنَانِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمَا الزَّانِي الْبِكْر وَالْمُحْصَن] (7142) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُغَسَّلَانِ، وَيُكَفَّنَانِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمَا وَيُدْفَنَانِ) لَا خِلَافَ فِي تَغْسِيلِهِمَا وَدَفْنِهِمَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ شُرَاحَةَ وَكَانَ رَجَمَهَا، فَقَالَ: اصْنَعُوا بِهَا كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ. وَصَلَّى عَلِيٌّ عَلَى شُرَاحَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فِي حَدٍّ لَا نُصَلِّي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرًا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ، فِي حَدِيثِ الْجُهَنِيَّةِ: «فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَتْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَصَلَّوْا عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهَا وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْت أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا؟» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ: فَرُجِمَتْ، وَصَلَّى عَلَيْهَا. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَدِّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهُ، كَالسَّارِقِ. وَأَمَّا خَبَرُ مَاعِزٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْضُرْهُ، أَوْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِأَمْرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ [مَسْأَلَةٌ زَنَى الْحُرّ الْبِكْر] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا زَنَى الْحُرُّ الْبِكْرُ، جُلِدَ مِائَةً، وَغُرِّبَ عَامًا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 يَعْنِي لَمْ يُحْصَنْ وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْإِحْصَانَ وَشُرُوطَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْجَلْدِ عَلَى الزَّانِي إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوَافِقَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ. وَيَجِبُ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبُهُ عَامًا، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَبِهِ قَالَ أُبَيٍّ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُغَرَّبُ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ التَّغْرِيبِ بِمَحْرَمٍ أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، لَا يَجُوزُ التَّغْرِيبُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . وَلِأَنَّ تَغْرِيبَهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ إغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ، وَتَضْيِيعٌ لَهَا، وَإِنْ غُرِّبَتْ بِمَحْرَمٍ، أَفْضَى إلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِنْ كُلِّفَتْ أُجْرَتَهُ، فَفِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى عُقُوبَتِهَا بِمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، كَمَا لَوْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، وَالْخَبَرُ الْخَاصُّ فِي التَّغْرِيبِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْعَامُّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُمُومِهِ مُخَالَفَةُ مَفْهُومِهِ، فَإِنَّهُ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّانِي أَكْثَرُ مِنْ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْمَرْأَةِ يَلْزَمُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَفَوَاتُ حِكْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ زَجْرًا عَنْ الزِّنَا، وَفِي تَغْرِيبِهَا إغْرَاءٌ بِهِ، وَتَمْكِينٌ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَصَّصُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ بِإِسْقَاطِ الْجَلْدِ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، فَتَخْصِيصُهُ هَاهُنَا أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَسْبُهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا. وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ، فَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنَّنِي افْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالرَّجْمُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً، وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأَمَرَ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 أَنَّهُ قَالَ: فَسَأَلْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَضَاءِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الَّذِي قَالَ لَهُ هَذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ عَلَى عُقُوبَتَيْنِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ، وَمَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ لَا يَثْبُتُ؛ لِضَعْفِ رُوَاتِهِ وَإِرْسَالِهِ. وَقَوْلُ عُمَرَ: لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ تَغْرِيبَهُ فِي الْخَمْرِ الَّذِي أَصَابَتْ الْفِتْنَةُ رَبِيعَةَ فِيهِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ يُخَالِفُ عُمُومَ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ حَدًّا فِي الرَّجُلِ، يَكُونُ حَدًّا فِي الْمَرْأَةِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا يَقَعُ لِي، أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلُهَا، وَعُمُومُ الْخَبَرِ مَخْصُوصٌ بِخَبَرِ النَّهْيِ عَنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوِي الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهَا، بِخِلَافِ هَذَا الْحَدِّ، وَيُمْكِنُ قَلْبُ هَذَا الْقِيَاسِ، بِأَنَّهُ حَدٌّ، فَلَا تُزَادُ فِيهِ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا عَلَى الرَّجُلِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ [فَصْلٌ تَغْرِيب الْبِكْر الزَّانِي] (7144) فَصْلٌ: وَيُغَرَّبُ الْبِكْرُ الزَّانِي حَوْلًا كَامِلًا، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، أُعِيدَ تَغْرِيبُهُ، حَتَّى يُكْمِلَ الْحَوْلَ مُسَافِرًا، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى. وَيُغَرَّبُ الرَّجُلُ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْحَضَرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَحْكَامُ الْمُسَافِرِينَ، وَلَا يَسْتَبِيحُ شَيْئًا مِنْ رُخَصِهِمْ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَإِنْ خَرَجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا نُفِيَتْ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تُغَرَّبُ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، كَالرَّجُلِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ؛ لِتَقْرُبَ مِنْ أَهْلِهَا، فَيَحْفَظُوهَا. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي التَّغْرِيبِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: يُنْفَى مِنْ عَمَلِهِ إلَى عَمَلٍ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَوْ نُفِيَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى، بَيْنَهُمَا مِيلٌ أَوْ أَقَلُّ، جَازَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ. وَنَحْوُهُ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ النَّفْيَ وَرَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْقَصْرُ يُسَمَّى سَفَرًا، وَيَجُوزُ فِيهِ التَّيَمُّمُ، وَالنَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَلَا يُحْبَسُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ إلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ يُحْبَسُ. وَلَنَا، أَنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ، فَلَا تُشْرَعُ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَامِّ. [فَصْل زَنَى الْغَرِيب] (7145) فَصْلٌ: وَإِذَا زَنَى الْغَرِيبُ غُرِّبَ إلَى بَلَدٍ غَيْرِ وَطَنِهِ. وَإِنْ زَنَى فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إلَيْهِ، غُرِّبَ مِنْهُ إلَى غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّغْرِيبِ يَتَنَاوَلُهُ حَيْثُ كَانَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَنِسَ بِالْبَلَدِ الَّذِي سَكَنَهُ، فَيُبْعَدُ عَنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 [فَصْلٌ وَيَخْرُج مَعَ الْمَرْأَة مُحْرِمهَا حَتَّى يَسْكُنهَا] (7146) فَصْلٌ: وَيَخْرُجُ مَعَ الْمَرْأَةِ مَحْرَمُهَا حَتَّى يُسْكِنَهَا فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ إنْ شَاءَ رَجَعَ إذَا أَمِنَ عَلَيْهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ مَعَهَا حَتَّى يَكْمُلَ حُولُهَا. وَإِنْ أَبَى الْخُرُوجَ مَعَهَا، بَذَلَتْ لَهُ الْأُجْرَةَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَبْذُلُ مِنْ مَالِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مُؤْنَةِ سَفَرِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا التَّغَرُّبُ بِنَفْسِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهَا زِيَادَةٌ عَلَيْهِ كَالرَّجُلِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ مُؤْنَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا، كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ. فَعَلَى هَذَا تُبْذَلُ الْأُجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ، بُذِلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ أَبَى مَحْرَمُهَا الْخُرُوجَ مَعَهَا، لَمْ يُجْبَرْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ، غُرِّبَتْ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ. وَالْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ مَنْ يُسَافِرُ مَعَهَا مِنْهُنَّ، كَالْقَوْلِ فِي أُجْرَةِ الْمَحْرَمِ. فَإِنْ أَعْوَزَ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: تَبْقَى بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَأْخِيرِهِ، فَأَشْبَهَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ إذَا مَاتَ مُحْرِمُهَا فِي الطَّرِيقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ النَّفْيُ، إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا، كَمَا يَسْقُطُ سَفَرُ الْحَجِّ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ، فَإِنَّ تَغْرِيبَهَا إغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ، وَتَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفِتْنَةِ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ سَفَرِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. [فَصْلٌ حُضُور إقَامَة الْحَدّ] (7147) فَصْلٌ: وَيَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالطَّائِفَةُ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا وَاحِدًا مَعَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ حَاصِلٌ ضَرُورَةً، فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُ الْأَمْرِ إلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِسْحَاقُ: اثْنَانِ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ وَاحِدًا مَعَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ، فَهُوَ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَرَادَ اثْنَيْنِ غَيْرَهُ، فَوَجْهُهُ أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِد، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ جَمَاعَةٌ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ الْعَدَدُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَى. وَلِلشَّافِعِيِّ، قَوْلَانِ، كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: خَمْسَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَشَرَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَفَرٌ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] . ثُمَّ قَالَ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] .: إنَّهُ مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَرٍ وَحْدَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 وَلَا يَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ الْإِمَامُ، وَلَا الشُّهُودُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِبَيِّنَةٍ، فَعَلَيْهَا الْحُضُورُ، وَالْبُدَاءَةُ بِالرَّجْمِ، وَإِنْ ثَبَتَ بِاعْتِرَافٍ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْحُضُورُ، وَالْبُدَاءَةُ بِالرَّجْمِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ رَجَمَانِ؛ فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ، فَأَوَّلُ مِنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ النَّاسُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَحْضُرْ الْبَيِّنَةُ وَلَا الْإِمَامُ، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا» وَالْحَدُّ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا. وَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ، اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَلَمْ يَحْضُرْهَا. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْضُرَهُ الْإِمَامُ، وَلَا الْبَيِّنَةُ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخَلُّفَهُمْ عَنْ الْحُضُورِ، وَلَا امْتِنَاعَهُمْ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالرَّجْمِ، شُبْهَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالْفَضِيلَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: سُنَّةُ الِاعْتِرَافِ أَنْ يَرْجُمَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ، رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَنَّهُ رَجَمَ امْرَأَةً، فَحَفَرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ، ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ: ارْمُوا، وَاتَّقُوا الْوَجْهَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ إقَامَة الْحَدّ عَلَى الْحَامِل] (7148) فَصْلٌ: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَوْ غَيْرِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَا تُرْجَمُ حَتَّى تَضَعَ. وَقَدْ رَوَى بُرَيْدَةَ، «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غَامِدٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِي. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: إنَّهَا حُبْلَى مِنْ زِنًى. قَالَ: أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِينَ مَا فِي بَطْنِك. قَالَ، فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ. فَقَالَ: إذًا لَا نَرْجُمُهَا، وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ تُرْضِعُهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إلَيَّ إرْضَاعَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَنَتْ فِي أَيَّامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: إنْ كَانَ لَك سَبِيلٌ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَك سَبِيلٌ عَلَى حَمْلِهَا. فَقَالَ: عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَك. وَلَمْ يَرْجُمْهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا إتْلَافًا لَمَعْصُومٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا أَوْ غَيْرَهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ وَالْقَطْعِ، وَرُبَّمَا سَرَى إلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ، فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِهِ. فَإِذَا وَضَعْت الْوَلَدَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، أَوْ تَكَفَّلَ أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ، «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي فَجَرْت، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى. فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي. فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَجَاءَتْ بِهِ وَقَدْ فَطَمَتْهُ، وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَأْكُلُهُ، فَأَمَرَ بِالصَّبِيِّ، فَدُفِعَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، وَأَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.» وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا، لَمْ تُؤَخَّرُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ حَمَلَتْ مِنْ الزِّنَى، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْجُهَنِيَّةَ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ اسْتِبْرَائِهِمَا.» وَقَالَ لِأُنَيْسٍ: «اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُؤَالِهَا عَنْ اسْتِبْرَائِهَا. وَرَجَمَ عَلِيٌّ شُرَاحَةَ، وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا. وَإِنْ ادَّعَتْ الْحَمْلَ قُبِلَ قَوْلُهَا، كَمَا قَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ الْغَامِدِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِذَا وَضَعَتْ الْوَلَدَ، وَانْقَطَعَ النِّفَاسُ، وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا، أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا، أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ تَلَفُهَا، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي الْحَالِ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْ السَّوْطِ، أُقِيمَ بِالْعُثْكُولِ. يَعْنِي شِمْرَاخَ النَّخْلِ، وَأَطْرَافَ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِضَرْبِ الْمَرِيضِ الَّذِي زَنَى، فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ، فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً» . وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنَّ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحْسَنْت» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَلَفْظُهُ، قَالَ: «فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، أَفَرَغْتَ؟ فَقُلْت: أَتَيْتهَا وَدَمُهَا يَسِيلُ. فَقَالَ: دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، «أَنَّ الْمَرْأَةَ انْطَلَقَتْ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَجَاءَتْ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهَا: انْطَلِقِي، فَتَطَهَّرِي مِنْ الدَّمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَالَى عَلَيْهِ حَدَّانِ، فَاسْتَوْفَى أَحَدَهُمَا، لَمْ يُسْتَوْفَ الثَّانِي حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْكَمَالِ، مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ، فَكَانَ أَوْلَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 [فَصْلٌ إقَامَة الْحَدّ عَلَى الْمَرِيض] (7149) فَصْلٌ: وَالْمَرِيضُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا يُؤَخَّرُ. كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي النُّفَسَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي مَرَضِهِ، وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ، وَانْتَشَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ فَلَا يُؤَخَّرُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ تَأْخِيرُهُ؛ لِقَوْلِهِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ عَاقِلٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الَّتِي هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَرَضًا خَفِيفًا، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْكَمَالِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ خَفَّفَ عَنْهُ فِي السَّوْطِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَهُ سَوْطًا وَسَطًا، كَاَلَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الصَّحِيحُ، ثُمَّ إنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِ عُمَرَ، مَعَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَأْخِيرِهِ لِأَجْلِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ. فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ، وَشِمْرَاخِ النَّخْلِ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جُمِعَ ضِغْثٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَنْكَرَ مَالِكٌ هَذَا، وَقَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وَهَذَا جَلْدَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، «عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَهَشَّ لَهَا، فَوَقَعَ بِهَا، فَسُئِلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَوْ لَا يُقَامَ أَصْلًا، أَوْ يُضْرَبَ ضَرْبًا كَامِلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يَجُوزُ جَلْدُهُ جَلْدًا تَامًّا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إتْلَافِهِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُمْ: هَذَا جَلْدَةٌ وَاحِدَةٌ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعُذْرِ مَقَامَ مِائَةٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ أَيُّوبَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] . وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ حَدِّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ قَتْلِهِ بِمَا لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 [مَسْأَلَةٌ زَنَى الْعَبْد وَالْأَمَة] (7150) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، جُلِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَلَمْ يُغَرَّبَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ خَمْسُونَ جَلْدَةً بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إنْ كَانَا مُزَوَّجَيْنِ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْحَدِّ، وَلَا حَدَّ عَلَى غَيْرِهِمَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . فَدَلِيلُ خِطَابِهِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنَاتِ. وَقَالَ دَاوُد عَلَى الْأَمَةَ نِصْفُ الْحَدِّ إذَا زَنَتْ بَعْدَمَا زُوِّجَتْ، وَعَلَى الْعَبْدِ جَلْدُ مِائَةٍ بِكُلِّ حَالٍ، وَفِي الْأَمَةِ إذَا لَمْ تُزَوَّجْ رِوَايَتَانِ؛؟ إحْدَاهُمَا، لَا حَدَّ عَلَيْهَا. وَالْأُخْرَى، تُجْلَدُ مِائَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . عَامٌّ، خَرَجَتْ مِنْهُ الْأَمَةُ الْمُحْصَنَةُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ الَّتِي لَمْ تُحْصَنْ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. وَيَحْتَمِلُ دَلِيلُ الْخِطَابِ فِي الْأَمَةِ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا لَمْ يُحْصَنَا بِالتَّزْوِيجِ، فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْحَدِّ، وَإِنْ أُحْصِنَا فَعَلَيْهِمَا الرَّجْمُ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَبَعَّضُ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُهُ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَسُئِلَ، قَالُوا: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَقَالَ: إذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَهَذَا نَصٌّ فِي جَلْدِ الْأَمَةِ إذَا لَمْ تُحْصَنْ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُوَافِقِيهِ وَدَاوُد. وَجَعْلُ دَاوُد عَلَيْهَا مِائَةً إذَا لَمْ تُحْصَنْ، وَخَمْسِينَ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، خِلَافُ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ ضَاعَفَ عُقُوبَةَ الْمُحْصَنَةِ عَلَى غَيْرِهَا، فَجَعَلَ الرَّجْمَ عَلَى الْمُحْصَنَةِ، وَالْجَلْدَ عَلَى الْبِكْرِ وَدَاوُد ضَاعَفَ عُقُوبَةَ الْبِكْرِ عَلَى الْمُحْصَنَةِ، وَاتِّبَاعُ شَرْعِ اللَّهِ أَوْلَى. وَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ: إحْصَانُهَا إسْلَامُهَا وَأَقْرَاؤُهَا. بِفَتْحِ الْأَلْفِ. ثُمَّ دَلِيلُ الْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، سِوَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ، وَمَتَى كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ أُخْرَى، لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، مِثْلَ أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، أَوْ لِلتَّنْبِيهِ، أَوْ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] . وَلَمْ يَخْتَصَّ التَّحْرِيمُ بِاَللَّاتِي فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 حُجُورِكُمْ. وَقَالَ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] . وَحَرُمَ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَأَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ. وَقَالَ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . وَأُبِيحَ الْقَصْرُ بِدُونِ الْخَوْفِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ.» ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، ثُمَّ إنَّ الْمَنْطُوقَ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ، فَخَالَفَ نَصَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . وَعَمِلَ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ، وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ عَلَى الْمُحْصَنَاتِ، كَمَا خَرَقَ دَاوُد الْإِجْمَاعَ فِي تَكْمِيلِ الْجَلْدِ عَلَى الْعَبِيدِ، وَتَضْعِيفِ حَدِّ الْأَبْكَارِ عَلَى الْمُحْصَنَاتِ [فَصْلٌ هَلْ يَغْرُب الْعَبْد وَالْأَمَة إذَا زَنَيَا] (7151) فَصْلٌ: وَلَا تَغْرِيبَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَحَدَّ ابْنُ عُمَرَ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَنَفَاهَا إلَى فَدَكَ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . وَلَنَا، الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي حُجَّتِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَغْرِيبًا، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ؛ فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ غَرَّبَهَا. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ مِائَةُ جَلْدَةٍ لَا غَيْرُ، فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى تَنْصِيفِ الرَّجْمِ، وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عُقُوبَةٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ، فَلَمْ يَجِبْ فِي الزِّنَى، كَالتَّغْرِيمِ، بَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ الْعَبْدَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَغْرِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُتْرِفُهُ بِتَغْرِيبِهِ مِنْ الْخِدْمَةِ، وَيَتَضَرَّرُ سَيِّدُهُ بِتَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ، وَالْخَطَرِ بِخُرُوجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَالْكُلْفَةِ فِي حِفْظِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْهُ، فَيَصِيرُ الْحَدُّ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الزَّانِي، وَالضَّرَرُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي، وَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، فَفِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَلَهُ فِعْلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِنًى وَلَا جِنَايَةٍ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ [فَصْلٌ زَنَى الْعَبْد ثُمَّ عِتْق] (7152) فَصْلٌ: وَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ، ثُمَّ عَتَقَ، حُدَّ حَدَّ الرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ. وَلَوْ زَنَى حُرٌّ ذِمِّيٌّ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُرٌّ. وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 الزَّانِيَيْنِ رَقِيقًا، وَالْآخَرُ حُرًّا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدُّهُ. وَلَوْ زَنَى بِكْرٌ بِثَيِّبٍ، حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَّهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا تَلْزَمُهُ عُقُوبَةُ جِنَايَتِهِ. وَلَوْ زَنَى بَعْدَ الْعِتْقِ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّهُ زَنَى وَهُوَ حُرٌّ. وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الرَّقِيقِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ عُلِمَتْ بَعْدُ تُمِّمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ. وَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ، قَالَ: يَصِحُّ عَفْوُهُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ سَيِّدِهِ، كَالْعِبَادَاتِ، وَكَالْحُرِّ إذَا عَفَا عَنْهُ الْإِمَامُ. [فَصْلٌ هَلْ لِلسَّيِّدِ إقَامَة الْحَدّ بِالْجِلْدِ عَلَى رَقِيقَة الْقَنِ] (7153) فَصْلٌ: وَلِلسَّيِّدِ إقَامَةُ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ عَلَى رَقِيقِهِ الْقِنِّ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدَ السَّاعِدِيَّيْنِ، وَفَاطِمَةَ ابْنَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَهُبَيْرَةَ بْنِ مَرْيَمَ، وَأَبِي مَيْسَرَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَجْلِدُونَ وَلَائِدَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ الْحُدُودَ إذَا زَنَوْا. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ حَدَتَ جَارِيَةٌ لَهَا زَنَتْ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدَ كَانَا يُقِيمَانِ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ خَدَمِ عَشَائِرِهِمْ. رَوَى ذَلِكَ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إلَى السُّلْطَانِ، وَلِأَنَّ مِنْ لَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْحُرِّ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْعَبْدِ، كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ، وَيُعْتَبَرُ لِذَلِكَ شُرُوطٌ، مِنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ، وَمَجِيئِهِمْ مُجْتَمِعِينَ، أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَذِكْرِ حَقِيقَةِ الزِّنَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى فَقِيهٍ يَعْرِفُهَا، وَيَعْرِفُ الْخِلَافَ فِيهَا، وَالصَّوَابَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، كَحَدِّ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيُفَوَّضُ إلَى الْإِمَامِ، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَيَقَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا، فَإِنْ عَادَتْ، فَلْيَجْلِدْهَا، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا، فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا، فَإِنْ عَادَتْ الرَّابِعَةَ، فَلْيَجْلِدْهَا، وَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ أَمَتِهِ وَتَزْوِيجَهَا، فَمَلَكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهَا، كَالسُّلْطَانِ، وَفَارَقَ الصَّبِيَّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ جَلْدًا كَحَدِّ الزِّنَى، وَالشُّرْبِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فِي الرِّدَّةِ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ، فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا الْإِمَامُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ عَبْدًا سَرَقَ. وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ. وَعَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَتَلَتْ أَمَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ أَشْبَهَ الْجَلْدَ. وَقَالَ الْقَاضِي: كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي قَطْعِ السَّارِقِ رِوَايَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ تَفْوِيضُ الْحَدِّ إلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيُفَوَّضُ إلَى نَائِبِهِ، كَمَا فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ، وَلِمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَى السَّيِّدِ الْجَلْدُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ، وَالسَّيِّدُ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ عَبْدِهِ وَضَرْبَهُ عَلَى الذَّنْبِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ، وَالتَّأْدِيبُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي مَنْعِ السَّيِّدِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّهُمَا إتْلَافٌ لِجُمْلَتِهِ أَوْ بَعْضِهِ الصَّحِيحِ، وَلَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ هَذَا مِنْ عَبْدِهِ، وَلَا شَيْئًا مِنْ جِنْسِهِ، وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي حَدِّ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، إنَّمَا جَاءَ فِي الزِّنَى خَاصَّةً، وَإِنَّمَا قِسْنَا عَلَيْهِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْجَلْدِ. وَقَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . إنَّمَا جَاءَ فِي سِيَاقِ الْجَلْدِ فِي الزِّنَى، فَإِنَّ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «أُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمَةٍ لَهُمْ فَجَرَتْ، فَأَرْسَلَنِي إلَيْهَا، فَقَالَ: اجْلِدْهَا الْحَدَّ. قَالَ: فَانْطَلَقْت، فَوَجَدْتهَا لَمْ تَجِفَّ مِنْ دَمِهَا، فَرَجَعْت إلَيْهِ، فَقَالَ: أَفَرَغْتَ؟ . فَقُلْت: وَجَدْتهَا لَمْ تَجِفَّ مِنْ دَمِهَا. قَالَ: إذَا جَفَّتْ مِنْ دَمِهَا، فَاجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ الْحَدَّ وَشِبْهَهُ. وَأَمَّا فِعْلُ حَفْصَةَ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ عُثْمَانُ عَلَيْهَا، وَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَلَا نَعْلَمُ ثُبُوتَهُ عَنْهُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَصَّ السَّيِّدُ بِالْمَمْلُوكِ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً، أَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ مُكَاتَبًا، أَوْ بَعْضُهُ حُرًّا، لَمْ يَمْلِكْ السَّيِّدُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَمْلِكُ السَّيِّدُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِهَا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ بَعْضَ نَفْعِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْمُسْتَأْجَرَةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ ذَاتَ زَوْجٍ، رُفِعَتْ إلَى السُّلْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، جَلَدَهَا سَيِّدُهَا نِصْفَ مَا عَلَى الْمُحْصَنِ. وَلَمْ نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ نَفْعَهَا مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا، أَشْبَهَتْ الْمُشْتَرَكَةَ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُقِيمُهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَإِنَّ الْجُزْءَ الْحُرَّ أَوْ الْمَمْلُوكَ لَغَيْرِهِ، لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَهُوَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُشْبِهُهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْحَدِّ هُوَ مَحَلُّ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ، وَهُوَ بَدَنُهَا فَلَا يَمْلِكُهُ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالْمُشْتَرَكِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَأْجَرَةُ إجَارَتُهَا مُؤَقَّتَةٌ تَنْقَضِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ: لَا يَمْلِكُ إقَامَتَهُ عَلَيْهَا فِي حَالِ إجَارَتِهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ الْمَرْهُونَةُ، يُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَثْبُتَ الْحَدُّ بِبَيِّنَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِاعْتِرَافٍ، فَلِلسَّيِّدِ إقَامَتُهُ، إذَا كَانَ يَعْرِفُ الِاعْتِرَافَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ وَشُرُوطُهُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، اُعْتُبِرَ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْعَدَالَةِ، وَمَعْرِفَةِ شُرُوطِ سَمَاعِهَا وَلَفْظِهَا، وَلَا يَقُومُ بِذَلِكَ إلَّا الْحَاكِمُ. وَقَالَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ: إنْ كَانَ السَّيِّدُ يُحْسِنُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَيَعْرِفُ شُرُوطَ الْعَدَالَةِ، جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا، وَيُقِيمَ الْحَدَّ بِهَا، كَمَا يُقِيمُهُ بِالْإِقْرَارِ. وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ، فَأَشْبَهَتْ الْإِقْرَارَ. وَلَا يُقِيمُ السَّيِّدُ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ بِعِلْمِهِ، فَالسَّيِّدُ أَوْلَى، فَإِنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ لِلْحَدِّ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ السَّيِّدِ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، وَثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ فِي حَقِّهِ بِالْعِلْمِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُقِيمُهُ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَمَلَكَ إقَامَتَهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ، وَيُفَارِقُ الْحَاكِمَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُتَّهَمٌ، وَلَا يَمْلِكُ مَحَلَّ إقَامَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ بَالِغًا عَاقِلًا عَالِمًا بِالْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، وَالْجَاهِلَ بِالْحَدِّ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يُفَوَّضُ إلَيْهِ. وَفِي الْفَاسِقِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ فَنَافَاهَا الْفِسْقُ، كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ. وَالثَّانِي: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ اسْتَفَادَهَا بِالْمِلْكِ، فَلَمْ يُنَافِهَا الْفِسْقُ كَبَيْعِ الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَفِيهِ احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ. وَالثَّانِي: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ. وَفِي الْمَرْأَةِ أَيْضًا احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ. وَالثَّانِي: تَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ فَاطِمَةَ جَلَدَتْ أَمَةً لَهَا، وَعَائِشَةَ قَطَعَتْ أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ، وَحَفْصَةَ قَتَلَتْ أَمَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. وَلِأَنَّهَا مَالِكَةٌ تَامَّةُ الْمِلْكِ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ أَشْبَهَتْ الرَّجُلَ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الْحَدَّ يُفَوَّضُ إلَى وَلِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ يُزَوِّجُ أَمَتَهَا وَمَوْلَاتَهَا، فَمَلَكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكَتِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 [فَصْلٌ فَجْر بِأُمَّةِ ثُمَّ قَتَلَهَا] (7154) فَصْلٌ: وَإِنْ فَجَرَ بِأَمَةٍ، ثُمَّ قَتَلَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَقِيمَتُهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا أَوْجَبْت عَلَيْهِ قِيمَتَهَا، أَسْقَطْت الْحَدَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِغَرَامَتِهِ لَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِقَتْلِ الْمَزْنِيِّ بِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً فَغَرِمَ دِيَتَهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَمْلِكُهَا. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا غَرِمَهَا بَعْدَ قَتْلِهَا، وَلَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَلَكَهَا، فَإِنَّمَا مَلَكَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا، وَلَوْ زَنَى بِأَمَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، الْحَدُّ، مَعَ ثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَهُ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَلَوْ زَنَى بِأَمَةٍ، ثُمَّ غَصَبَهَا، فَأَبَقَتْ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ غَرِمَهَا، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدَّانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْقُطْ بِالْمِلْكِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَبِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْلَى. [فَصْل زَنَى مِنْ نِصْفه حُرّ وَنِصْفه رَقِيق] (7155) فَصْلٌ: وَإِذَا زَنَى مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَنِصْفُ حَدِّ الْعَبْدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ جَلْدَةً، وَيُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُغَرَّبَ؛ لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ فِي جَمِيعِهِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، وَنَصِيبُهُ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ حَقِّهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَلَا تَأْخِيرُ حَقِّهِ بِالْمُهَايَأَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَغْرِيبِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ زَمَنُ التَّغْرِيبِ مَحْسُوبًا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نَصِيبِهِ الْحُرِّ، وَلِلسَّيِّدِ نِصْفُ عَامٍ بَدَلًا عَنْهُ، وَمَا زَادَ مِنْ الْحُرِّيَّةَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا، فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَسْرٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثُهُ حُرًّا، فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَلْزَمَهُ ثُلُثَا جَلْدِ الْحُرِّ. وَهُوَ سِتٌّ وَسِتُّونَ جَلْدَةً وَثُلُثَانِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْكَسْرُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاطِ، سَقَطَ. وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ كُلُّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ.» [مَسْأَلَة الزاني مِنْ أتي الْفَاحِشَة مِنْ قَبْل أودبر] (7156) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالزَّانِي مَنْ أَتَى الْفَاحِشَةَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا حَرَامًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي وَطْئِهَا، أَنَّهُ زَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى، إذَا كَمَلَتْ شُرُوطُهُ. وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ زِنًى لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ، لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فَكَانَ زِنًى، كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] . الْآيَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ.» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَاحِشَةٌ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] . يَعْنِي الْوَطْءَ فِي أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا بَدَأَ قَوْمُ لُوطٍ بِوَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، ثُمَّ صَارُوا إلَى ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ. [فَصْلٌ وَطِئَ مَيِّتَة] (7157) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ مَيِّتَةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَطِىءَ فِي فَرْجِ آدَمِيَّةٍ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحَيَّةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبًا، وَأَكْثَرُ إثْمًا؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إلَى فَاحِشَةِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ. وَالثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمَيِّتَةِ كَلَا وَطْءٍ، لِأَنَّهُ عُضْوٌ مُسْتَهْلَكٌ، وَلِأَنَّهَا لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا، وَتَعَافُهَا النَّفْسُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْع الزَّجْرِ عَنْهَا، وَالْحَدُّ إنَّمَا وَجَبَ زَجْرًا. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، فَوَطْؤُهَا زِنًى يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهَا كَالْكَبِيرَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَصْلُحُ لِلْوَطْءِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ، كَالْمَيِّتَةِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا حَدَّ عَلَى مِنْ وَطِئَ صَغِيرَةً لَمْ تَبْلُغْ تِسْعًا؛ لِأَنَّهَا لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْخَلَ إصْبَعَهُ فِي فَرْجِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدْخَلَتْ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرًا، لَا حَدَّ عَلَيْهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ وَطْؤُهَا، وَأَمْكَنْت الْمَرْأَةُ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ فَوَطِئَهَا، أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِتِسْعٍ وَلَا عَشْرٍ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا، وَكَوْنُ التِّسْعِ وَقْتًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ غَالِبًا، لَا يَمْنَعُ وُجُودَهُ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّ الْبُلُوغَ يُوجَدُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا غَالِبًا، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُودِهِ قَبْلَهُ. [فَصْلٌ تَزَوَّجَ ذَات مُحْرِمه] (7158) فَصْلٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَ ذَاتَ مَحْرَمِهِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ وَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْهُ، فَلَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ وَطِئَهَا. وَبَيَانُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ صُورَةُ الْمُبِيحِ، وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، بَقِيَتْ صُورَتُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ، مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَالْوَاطِئُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ، عَالَمٌ بِالتَّحْرِيمِ، فَيَلْزَمهُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ، وَصُورَةُ الْمُبِيحِ إنَّمَا تَكُونُ شُبْهَةً إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، وَالْعَقْدُ هَاهُنَا بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ، وَفِعْلُهُ جِنَايَةٌ تَقْتَضِي الْعُقُوبَةَ، انْضَمَّتْ إلَى الزِّنَى، فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا، وَعَاقَبَهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 ثُمَّ زَنَى بِهَا، ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَلَيْسَ بِشُبْهَةٍ. وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ الْمِلْكَ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَتْ الْإِبَاحَةُ لَمُعَارِضٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا؛ فَإِنَّ الْمُبِيحَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بَاطِلٌ، وَالْمِلْكُ بِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَالْمُقْتَضِي مَعْدُومٌ، فَافْتَرَقَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى خَمْرًا فَشَرِبَهُ، أَوْ غُلَامًا فَوَطِئَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ. وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، أَوْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ، فَقَالَ: يُقْتَلُ وَيُؤْخَذُ مَالُهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ. وَوَجْهُ الْأُولَى، مَا رَوَى «الْبَرَاءُ. قَالَ: لَقِيت عَمِّي وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقُلْت: إلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَآخُذَ مَالَهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَمَّى الْجُوزَجَانِيُّ عَمَّهُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ، فَاقْتُلُوهُ» وَرُفِعَ إلَى الْحَجَّاجِ رَجُلٌ اغْتَصَبَ أُخْتَهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: احْبِسُوهُ، وَسَلُوا مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُطَرِّفٍ، فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَخَطَّى الْمُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَهُ بِالسَّيْفِ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَخَصُّ مَا وَرَدَ فِي الزِّنَى، فَتُقَدَّمُ. وَالْقَوْلُ فِي مَنْ زَنَى بِذَاتِ مَحْرَمِهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، كَالْقَوْلِ فِي مَنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ. [فَصْلٌ كُلّ نِكَاح أَجْمَع عَلَى بُطْلَانِهِ هَلْ يَعْتَبِر زِنَا] (7159) فَصْلٌ: وَكُلُّ نِكَاحٍ أُجْمِعَ عَلَى بُطْلَانِهِ، كَنِكَاحِ خَامِسَةٍ، أَوْ مُتَزَوِّجَةٍ، أَوْ مُعْتَدَّةٍ، أَوْ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، إذَا وَطِئَ فِيهِ عَالَمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَهُوَ زِنًى، مُوجِبٌ لِلْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا حَدَّ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُجْلَدُ مِائَةً، وَلَا يُنْفَى. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَرَوَى أَبُو نَصْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ، قَالَ: رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلِمْتُمَا؟ فَقَالَا: لَا. قَالَ: لَوْ عَلِمْتُمَا لَرَجَمْتُكُمَا. فَجَلَدَهُ أَسْوَاطًا، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ خِلَاسٍ، قَالَ: رُفِعَ إلَى عَلِيٍّ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ وَلَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 زَوْجٌ كَتَمَتْهُ، فَرَجَمَهَا، وَجَلَدَ زَوْجَهَا الْآخَرَ مِائَةَ جَلْدَةِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِعُذْرِ الْجَهْلِ، وَلِذَلِكَ دَرَأَ عُمَرُ عَنْهُمَا الْحَدَّ؛ لِجَهْلِهِمَا. [فَصْل إقَامَة الْحَدّ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاح مُخْتَلِف فِيهِ] (7160) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَالتَّحْلِيلِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا الْبَائِنِ، وَنِكَاحِ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ الْبَائِنِ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهِ. [فَصْلٌ وَطْء جَارِيَة مُشْتَرَكَة بَيْنَهُ بَيْنَ غَيْره] (7161) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ بَيْنَ غَيْرِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَرْجٌ لَهُ مِلْكٌ، فَلَا يُحَدُّ بِوَطْئِهِ، كَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمَرْهُونَةِ. [فَصْل اشْتَرَى أُمّه أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَة وَنَحْوهمَا وَوَطِئَهُمَا] (7162) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَنَحْوَهُمَا، وَوَطِئَهُمَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ فَرْجٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ، فَوَجَبَ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ، كَفَرْجِ الْغُلَامِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا حَدَّ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مَمْلُوكٍ لَهُ، يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَنْهُ، وَأَخْذَ صَدَاقِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى ذَاتَ مَحْرَمِهِ مِنْ النَّسَبِ، مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَوَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ فِيهَا، فَلَمْ تُوجَدْ الشُّبْهَةُ. [فَصْل فِيمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ فَوَطِئَهَا يَعْتَقِدهَا زَوْجَتَهُ] (7163) فَصْلٌ: فَإِنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ، وَقِيلَ: هَذِهِ زَوْجَتُك. فَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ زَوْجَتُك. أَوْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ، أَوْ جَارِيَتَهُ، فَوَطِئَهَا، أَوْ دَعَا زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ، فَجَاءَتْهُ غَيْرُهَا، فَظَنَّهَا الْمَدْعُوَّةَ، فَوَطِئَهَا، أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِعَمَاهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي مَحَلٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ بِمَا يُعْذَرُ مِثْلُهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ زَوْجَتُك. وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِهَا. فَأَمَّا إنْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا، فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 كَانَتْ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ أَوْ عَبْدَهُ، فَبَانَ أَجْنَبِيًّا. [فَصْل لَمْ يَعْلَم تَحْرِيم الزِّنَى] (7164) فَصْلٌ: وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى. قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَإِنْ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْهَلَهُ، كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَالنَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ عُلِمَ كَذِبُهُ. وَإِنْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِفَسَادِ نِكَاحٍ بَاطِلٍ، قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَبِلَ قَوْلَ الْمُدَّعِي الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُجْهَلُ كَثِيرًا، وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [فَصْلٌ وَطِئَ جَارِيَة غَيْره] (7165) فَصْلٌ: فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، فَهُوَ زَانٍ. سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، الْأَبُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، أَشْبَهَ وَطْءَ جَارِيَةِ أَبِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْهُ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . فَأَضَافَ مَالَ وَلَدِهِ إلَيْهِ، وَجَعَلَهُ لَهُ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ جَعْلِهِ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِانْتِفَاءِ الْحَدِّ فِي عَصْرِ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا، قَدْ اشْتَهَرَ قَوْلُهُمْ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلَا حَدَّ عَلَى الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ انْتَفَى عَنْ الْوَاطِئِ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَيَنْتَفِي عَنْ الْمَوْطُوءَةِ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَضَايِفَاتِ، إذَا ثَبَتَ فِي أَحَدِ الْمُتَضَايِفَيْنِ ثَبَتَ فِي الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ شُبْهَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى وَطْءِ جَارِيَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَلَدِ فِيهَا، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى قَوْلًا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، أَشْبَهَ الْأَبَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 الْمَوْضِعُ الثَّانِي: إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً، وَلَا يُرْجَمُ إنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَلَا يُغَرَّبُ إنْ كَانَ بِكْرًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ، فَهُوَ زَانٍ، حُكْمُهُ حُكْمُ الزَّانِي بِجَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ امْرَأَتَهُ، فَكَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي مَمْلُوكَتِهَا. وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، أَنَّهُ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَحَلَّتْهَا لَهُ، أَوْ لَمْ تُحِلَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ وَطْءَ جَارِيَةِ أُخْتِهِ، وَلِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لِوَطْءِ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ شُبْهَةً، كَإِبَاحَةِ سَائِرِ الْمُلَّاكِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ، إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ غُرْمُ مِثْلِهَا، وَتَعْتِقُ، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ مِثْلِهَا وَيَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، أَنَّ «رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُنَيْنٍ، وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَرُفِعَ إلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ فِيك بِقَضِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَك، جَلَدْنَاك مِائَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَك، رَجَمْنَاك بِالْحِجَارَةِ. فَوَجَدُوهَا أَحَلَّتْهَا لَهُ، فَجَلَدَهُ مِائَةً.» وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ، فَهَلْ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، أَشْبَهَ الزِّنَى الْمَحْضَ. [فَصْلٌ أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا] (7166) فَصْلٌ: وَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. قَالَ: وَأُتِيَ عُمَرُ بِإِمَاءٍ مِنْ إمَاءِ الْإِمَارَةِ، اسْتَكْرَهَهُنَّ غِلْمَانٌ مِنْ غِلْمَانِ الْإِمَارَةِ، فَضَرَبَ الْغِلْمَانَ، وَلَمْ يَضْرِبْ الْإِمَاءَ وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَقَالَتْ: إنِّي كُنْت نَائِمَةً، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إلَّا بَرْجَلٍ قَدْ جَثَمَ عَلَيَّ. فَخَلَّى سَبِيلَهَا، وَلَمْ يَضْرِبْهَا. وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ بِالْإِلْجَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 وَنَحْوِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رَاعٍ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، قَدْ عَطِشَتْ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَسْقِيَهَا، فَقَالَ لَهَا: أَمْكِنِينِي مِنْ نَفْسِك. قَالَ: هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ امْرَأَةً اسْتَسْقَتْ رَاعِيًا، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا أَنْ تُمْكِنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَعَلِيٍّ: مَا تَرَى فِيهَا؟ قَالَ: إنَّهَا مُضْطَرَّةٌ. فَأَعْطَاهَا عُمَرُ شَيْئًا، وَتَرَكَهَا. [فَصْلٌ أَكْرَه الرَّجُل فَزَنَى] (7167) فَصْلٌ: وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ فَزَنَى، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِيهِ. فَإِذَا وُجِدَ الِانْتِشَارُ انْتَفَى الْإِكْرَاهُ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى غَيْرِ الزِّنَى، فَزَنَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُهُ، حُدَّ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْإِكْرَاهُ شُبْهَةٌ، فَيَمْنَعُ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ، إذَا كَانَ بِالتَّخْوِيفِ، أَوْ بِمَنْعِ مَا تَفُوتُ حَيَاتُهُ بِمَنْعِهِ، كَانَ الرَّجُلُ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّخْوِيفَ يُنَافِي الِانْتِشَارَ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يُخَافُ مِنْهُ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ قَالَ حَدّ اللِّوَاط] (7168) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ تَلَوَّطَ، قُتِلَ، بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى حُكْمُهُ حُكْمُ الزَّانِي) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ اللِّوَاطِ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَعَابَ مَنْ فَعَلَهُ، وَذَمَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي حَدِّهِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّ حَدَّهُ الرَّجْمُ، بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي حَبِيبٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ حَدَّهُ حَدُّ الزَّانِي. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَهُمَا زَانِيَانِ» . وَلِأَنَّهُ إيلَاجُ فَرْجِ آدَمِيٍّ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ، لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فَكَانَ زِنًى كَالْإِيلَاجِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ، إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ زِنًا دَخَلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ، فَكَانَ زِنًى، كَالْفَاحِشَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ اللُّوطِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِمَا رَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَكَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّحَابَةَ فِيهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إلَّا أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ، فَحَرَقَهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْوَطْءِ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْفَرْجِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» . وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ كَانَ يَرَى رَجْمَهُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَّبَ قَوْمَ لُوطٍ بِالرَّجْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ بِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ. وَقَوْلُ مَنْ أَسْقُطَ الْحَدَّ عَنْهُ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، وَقِيَاسُ الْفَرْجِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَمْلُوكٍ لَهُ أَوْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ لِوَطْءِ الذَّكَرِ، فَلَا يُؤَثِّرُ مِلْكُهُ لَهُ. وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا، كَانَ مُحَرَّمًا، وَلَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ لِلْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى حِلِّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْحَدِّ، بِخِلَافِ التَّلَوُّطِ. [فَصْلٌ تدالكت امْرَأَتَانِ] (7169) فَصْلٌ: وَإِنْ تَدَالَكَتْ امْرَأَتَانِ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ مَلْعُونَتَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَتَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ:» . وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إيلَاجًا، فَأَشْبَهَ الْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ، وَعَلَيْهِمَا التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ زِنًى لَا حَدَّ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مُبَاشَرَةَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَلَوْ بَاشَرَ الرَّجُلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 الْمَرْأَةَ، اسْتَمْتَعَ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي لَقِيت امْرَأَةً، فَأَصَبْت مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78] الْآيَةُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَقَالَ: لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَة، يُقَبِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ وَطِئَهَا أَوْ لَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ قَالَا: نَحْنُ زَوْجَانِ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا. وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ شُهِدَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَى، فَقَالَا: نَحْنُ زَوْجَانِ. فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ إنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ بِالنِّكَاحِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى تَنْفِي كَوْنَهُمَا زَوْجَيْنِ، فَلَا تَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهَا أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَيَاهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً، كَمَا لَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ، فَادَّعَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ أَتَيَانِ الْبَهِيمَة] (7170) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَتَى بَهِيمَةً أُدِّبَ، وَأُحْسِنَ أَدَبُهُ، وَقُتِلَتْ الْبَهِيمَةُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ، فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، حُكْمُهُ حُكْمُ اللَّائِطِ سَوَاءً. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يُقْتَلُ هُوَ وَالْبَهِيمَةُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً، فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي فَرْجِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَهُ لَهَا، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ يَحْتَاجُ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ إلَى الْحَدِّ، فَإِنَّ النُّفُوسَ تَعَافُهُ، وَعَامَّتُهَا تَنْفِرُ مِنْهُ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِي انْتِفَاءِ الْحَدِّ وَالْحَدِيثُ يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، وَلَمْ يُثْبِتْهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ. وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ، وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا يُضْعِفُ الْحَدِيثَ عَنْهُ، قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِي الْبَهِيمَةَ، فَوَقَفَ عِنْدَهَا، وَلَمْ يُثْبِتْ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِحَدِيثٍ فِيهِ هَذِهِ الشُّبْهَةُ وَالضَّعْفُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: أُدِّبَ، وَأُحْسِنَ أَدَبُهُ. يَعْنِي يُعَزَّرُ، وَيُبَالَغُ فِي تَعْزِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ، فَأَوْجَبَ التَّعْزِيرَ، كَوَطْءِ الْمَيِّتَةِ. [فَصْلٌ قَتَلَ الْبَهِيمَة الَّتِي أَتَاهَا رَجُل] (7171) فَصْلٌ: وَيَجِبُ قَتْلُ الْبَهِيمَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاخْتِيَارُ قَتْلُهَا، وَإِنْ تُرِكَتْ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً ذُبِحَتْ، وَإِلَّا لَمْ تُقْتَلْ. وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ» . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً، فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ» وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ كَوْنِهَا مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، وَلَا بَيْنَ مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي قَتْلِ الْفَاعِلِ الْجَانِي، فَفِي حَقِّ حَيَوَانٍ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ أَوْلَى. قُلْنَا: إنَّمَا يُعْمَلْ بِهِ فِي قَتْلِ الْفَاعِلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ حَدٌّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا إتْلَافُ مَالٍ، فَلَا تُؤَثِّرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إتْلَافُ آدَمِيٍّ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ حُرْمَةً، فَلَمْ يَجُزْ التَّهَجُّمُ عَلَى إتْلَافِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي إتْلَافِ مَالٍ، وَلَا حَيَوَانٍ سِوَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ، ذَهَبَ هَدَرًا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الْفَاعِلِ غَرَامَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ إتْلَافِهِ، فَيَضْمَنُهُ، كَمَا لَوْ نَصَبَ لَهُ شَبَكَةً فَتَلِفَ بِهَا. ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَهَلْ يُبَاحُ أَكْلُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحِلُّ أَكْلُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مِنْ جِنْسٍ يَجُوزُ أَكْلُهُ، ذَبَحَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، فَحَلَّ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُفْعَلْ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَكْلُهُ؛ لِشُبْهَةِ التَّحْرِيمِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قِيلِ لَهُ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ قَالَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَهَا وَقَدْ فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ، كَسَائِرِ الْمَقْتُولَاتِ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ قَتْلِهَا، فَقِيلَ: إنَّمَا قُتِلَتْ لِئَلَّا يُعَيَّرَ فَاعِلُهَا، وَيُذَكَّرَ بِرُؤْيَتِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: لَا يُقَالُ هَذِهِ وَهَذِهِ» . وَقِيلَ: لِئَلَّا تَلِدَ خَلْقًا مُشَوَّهًا. وَقِيلَ: لِئَلَّا تُؤْكَلَ. وَإِلَيْهَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَعْلِيلِهِ. وَلَا يَجِبُ قَتْلُهَا حَتَّى يَثْبُتَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَا بِبَيِّنَةٍ، فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ الْفَاعِلُ، فَإِنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ لَهُ، ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِ مَالِكِهَا. وَهَلْ يَثْبُتُ هَذَا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَإِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 أَوْ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الزِّنَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ قَالَ مِنْ الَّذِي يَجِب عَلَيْهِ الْحَدّ] (7172) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، مِمَّنْ ذَكَرْت، مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ إقْرَارٍ؛ أَوْ بَيِّنَةٍ. فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ إقْرَارُ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُحَدُّ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا» . وَاعْتِرَافُ مَرَّةٍ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّجْمَ بِهِ. وَرَجَمَ الْجُهَنِيَّةَ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفَتْ مَرَّةً. وَقَالَ عُمَرُ: إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنْ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ، فَيَثْبُتُ بِاعْتِرَافِ مَرَّةٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْأَسْلَمِيِّينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ . قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُرْجُمُوهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ بِمَرَّةٍ، لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ حَدٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى نُعَيْمُ بْنُ هَزَّالٍ حَدِيثَهُ، وَفِيهِ: «حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّك قَدْ قُلْتهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ؟ . قَالَ بِفُلَانَةَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا تَعْلِيلٌ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْأَرْبَعِ هِيَ الْمُوجِبَةُ. وَرَوَى أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ أَقْرَرْت أَرْبَعًا، رَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُ عَلَى هَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَإِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ هَذَا مِنْ حُكْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْلَا ذَلِكَ مَا تَجَاسَرَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ، فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ لَفْظُ الْمَصْدَرِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَحَدِيثُنَا يُفَسِّرُهُ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الِاعْتِرَافَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ كَانَ أَرْبَعًا. [فَصْلٌ الْإِقْرَار بِالزِّنَا هَلْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ شَتَّى] فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الزَّانِي، يُرَدَّدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَى حَدِيثِ مَاعِزٍ، هُوَ أَحْوَطُ. قُلْت لَهُ: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ شَتَّى؟ قَالَ: أَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَلَيْسَتْ تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، إلَّا ذَاكَ الشَّيْخَ بَشِيرَ بْنَ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَذَاكَ عِنْدِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعِ إقْرَارَاتٍ، فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّهُ إحْدَى حُجَّتَيْ الزِّنَى، فَاكْتَفَى بِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَالْبَيِّنَةِ. [فَصْلٌ مَا يَعْتَبِر فِي صِحَّة الْإِقْرَار بِالزِّنَا] (7174) فَصْلٌ: يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ أَنْ يَذْكُرَ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ، لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ؛ لِأَنَّ الزِّنَى يُعَبِّرُ عَمَّا لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْحَدِّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ؛ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّك قَبَّلْت، أَوْ غَمَزْت، أَوْ نَظَرْت. قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَنِكْتَهَا. لَا يُكَنِّي. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «قَالَ: أَفَنِكْتَهَا؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَاكَ مِنْك فِي ذَاكَ مِنْهَا؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَى؟ . قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةِ فَكَذَبَتْهُ] (7175) فَصْلٌ: فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إنْكَارِهَا، فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَسَمَّاهَا لَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَرْأَةِ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ وَتَرَكَهَا» . وَلِأَنَّ انْتِفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يُسْأَلْ، وَلِأَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ: إذَا كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّنَا صَدَّقْنَاهَا فِي إنْكَارِهَا. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِصِدْقِهَا، وَانْتِفَاءُ الْحَدِّ إنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى، وَهُوَ الْإِقْرَارُ أَوْ الْبَيِّنَةُ، لَا لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ سَكَتَتْ، أَوْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ، وَالْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ، فِي الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَى، فَاسْتَوَى فِيهِ الْكُلَّ، كَالْبَيِّنَةِ. [مَسْأَلَةٌ اعْتِبَار الْبُلُوغ وَالْعَقْل فِي إقَامَة الْحَدّ] (7176) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَهُوَ بَالِغٌ صَحِيحٌ عَاقِلٌ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 أَمَّا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِمَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُمَا، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ قَوْمَهُ: أَمَجْنُونٌ هُوَ؟ قَالُوا: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» . وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ: أَبِكَ جُنُونٌ؟» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَاسْتَشَارَ فِيهَا أُنَاسًا فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ، فَمَرَّ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ . قَالُوا: مَجْنُونَةُ آلِ فُلَانٍ زَنَتْ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ. فَقَالَ: ارْجِعُوا بِهَا. ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَالُ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ. قَالَ: فَأَرْسِلْهَا فَأَرْسَلَهَا. قَالَ: فَجَعَلَ عُمَرُ يُكَبِّرُ. [فَصْلٌ كَانَ الْمُقِرّ بِالزِّنَا يَجْنِ مَرَّة وَيُفِيق أُخْرَى] (7177) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، فَأَقَرَّ فِي إفَاقَتِهِ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُفِيقٌ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ زَنَى فِي إفَاقَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ وُجِدَ مِنْهُ فِي حَالِ تَكْلِيفِهِ، وَالْقَلَمُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ، وَإِقْرَارُهُ وُجِدَ فِي حَالِ اعْتِبَارِ كَلَامِهِ. فَإِنْ أَقَرَّ فِي إفَاقَتِهِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى حَالٍ، أَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالزِّنَى، وَلَمْ تُضِفْهُ إلَى حَالِ إفَاقَتِهِ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَالِ جُنُونِهِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي حَدِيثِ الْمَجْنُونَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا عُمَرُ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إنَّ هَذِهِ مَعْتُوهَةُ بَنِي فُلَانٍ، لَعَلَّ الَّذِي أَتَاهَا أَتَاهَا فِي بَلَائِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَأَنَا لَا أَدْرِي. [فَصْلٌ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَى حَالَ نَوْمِهِ] (7178) فَصْلٌ: وَالنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، فَلَوْ زَنَى بِنَائِمَةٍ، أَوْ اسْتَدْخَلَتْ امْرَأَةٌ ذَكَرَ نَائِمٍ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَى حَالَ نَوْمِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي حَالِ نَوْمِهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَدْلُولِهِ. فَأَمَّا السَّكْرَانُ وَنَحْوُهُ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي سُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ؛ لِكَوْنِ السُّكْرِ مَظِنَّةً لَهَا، وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ بِسَبَبٍ لَا يُعْذَرُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ فِي رِوَايَةٍ، فَأَشْبَهَ النَّائِمَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ فِعْلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، شَرِبَ الْخَمْرَ، وَفَعَلَ مَا أَحَبَّ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ السُّكْرَ مَظِنَّةٌ لِفِعْلِ الْمَحَارِمِ، وَسَبَبٌ إلَيْهِ، فَقَدْ تَسَبَّبَ إلَى فِعْلِهَا حَالَ صَحْوِهِ. فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى وَهُوَ سَكْرَانُ، لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ عَلَى صِحَّةِ خَبَرِهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَدْ رَوَى بُرَيْدَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَنْكَهَ مَاعِزًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ، لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ سَكْرَانُ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَ السَّكْرَانُ مَقْبُولَ الْإِقْرَارِ، لَمَا اُحْتِيجَ إلَى تَعَرُّفِ بَرَاءَتِهِ مِنْهُ. [فَصْل الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرِيض فِي مَرَضُهُ] (7179) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ صَحِيحٌ. فَفَسَّرَهُ الْقَاضِي بِالصَّحِيحِ مِنْ الْمَرَضِ، يَعْنِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ، وَإِنْ وَجَبَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَا يُؤْمَنُ بِهِ تَلَفُهُ، فَإِنْ خِيفَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، ضُرِبَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بِضِغْثٍ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ أَوْ عُودٍ صَغِيرٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّحِيحَ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوَطْءُ، فَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ، كَالْمَجْنُونِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَى الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ، وَلَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَهِيَ كَاذِبَةٌ، وَعَلَيْهَا الْحَدُّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَإِنْ أَقَرَّ الْخَصِيُّ أَوْ الْعِنِّينُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِهِ، كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ. [فَصْل إقْرَار الْأَخْرَس بِالزِّنَا] (7180) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْأَخْرَسُ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إقْرَارٌ، وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَى صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا يَجِبُ بِالْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا شُبْهَةً، وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَالْإِشَارَةُ لَا تَنْتَفِي مَعَهَا الشُّبُهَاتُ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِهَا الْحَدُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَعَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. [فَصْلٌ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا] (7181) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمُكْرَهِ، فَلَوْ ضُرِبَ الرَّجُلُ لِيُقِرَّ بِالزِّنَا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ الزِّنَا. وَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ إقْرَارَ الْمُكْرَهِ لَا يَجِبُ بِهِ حَدٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إذَا جَوَّعْتَهُ، أَوْ ضَرَبْتَهُ، أَوْ أَوْثَقْتَهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِي رَجُلٍ اعْتَرَفَ بَعْدَ جَلْدِهِ: لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ. وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا ثَبَتَ بِهِ الْمُقَرُّ بِهِ؛ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَى الصِّدْقِ، وَانْتِفَاءِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 التُّهْمَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُتَّهَمُ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَصَدَ بِإِقْرَارِهِ دَفْعَ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ، فَانْتَفَى ظَنُّ الصِّدْقِ عَنْهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ. [فَصْلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً وَادَّعَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ] (7182) فَصْلٌ: فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً، وَادَّعَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَهَا. نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ الْمَرْأَةُ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِالزِّنَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِيهِ، وَإِنْ اعْتَرَفَتْ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا، وَأَقَرَّتْ بِأَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِدُونِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ، أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهَا، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِهِ. فَقَدْ رَوَى مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَةً، وَزَعَمَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَأَنْكَرَتْ هِيَ أَنْ يَكُونَ زَوْجَهَا، وَأَقَرَّتْ بِالْوَطْءِ. قَالَ: فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالزِّنَا، وَلَكِنْ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ بِقَوْلِهِ: إنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَعْتَرِفَ مِرَارًا. قَالَ أَحْمَدُ: وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ عَلَيْهَا الْحَدَّ، يَذْهَبُونَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ شَرْطِ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْحَدِّ] (7183) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَنْزِعُ عَنْ إقْرَارِهِ حَتَّى يَتِمَّ عَلَيْهِ الْحَدُّ) وَجُمْلَتُهُ: إنَّ مِنْ شَرْطِ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ، الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ، كُفَّ عَنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا يُتْرَكُ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَتْرُكُوهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ قَوْمِي هُمْ غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي، وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ قَاتِلِي. فَلَمْ يَنْزِعُوا عَنْهُ حَتَّى قَتَلُوهُ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَوْ قُبِلَ رُجُوعُهُ، لَلَزِمَتْهُمْ دِيَتُهُ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ إنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ. وَلَنَا «أَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ، وَنَصْرِ بْنِ دَاهِرٍ، وَغَيْرِهِمْ، «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ، فَقَالَ لَهُمْ: رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ.» فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا. أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ يَرْجِعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا، لَمْ يَطْلُبْهُمَا، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا عِنْدَ الرَّابِعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ رُجُوعَهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إحْدَى بَيِّنَتَيْ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، كَالْبَيِّنَةِ إذَا رَجَعَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُقُوقِ، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا هَرَبَ لَمْ يُتْبَعْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» . وَإِنْ لَمْ يُتْرَكْ وَقُتِلَ، لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لَمْ يُضَمِّنْ مَاعِزًا مَنْ قَتَلَهُ؛ وَلِأَنَّ هَرَبَهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي رُجُوعِهِ. وَإِنْ قَالَ: رُدُّونِي إلَى الْحَاكِمِ. وَجَبَ رَدُّهُ، وَلَمْ يَجُزْ إتْمَامُ الْحَدِّ، فَإِنْ أُتِمَّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتَمَّهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَرَبِهِ. وَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، وَقَالَ: كَذَبْت فِي إقْرَارِي. أَوْ: رَجَعْت عَنْهُ. أَوْ: لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْت بِهِ. وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَبَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ رُجُوعِهِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ مِمَّا يَخْفَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ. [مَسْأَلَةٌ شُرُوطُ شُهُودِ الزِّنَا] (7184) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَارٌ عُدُولٌ، يَصِفُونَ الزِّنَا) ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي شُهُودِ الزِّنَا سَبْعَةَ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً. وَهَذَا إجْمَاعٌ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] «وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت لَوْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ.» رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّإِ " وَأَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلُّهُمْ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادٍ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ. وَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَإِنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةً؛ لِتَطَرُّقِ الضَّلَالِ إلَيْهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] . وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا رِوَايَةً حُكِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ ذَكَرٌ مُسْلِمٌ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، كَالْحُرِّ. وَلَنَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهَا؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، فَهَاهُنَا مَعَ مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ، وَلَا مَسْتُورِ الْحَالِ الَّذِي لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ كُفَّارٌ، لَا تَتَحَقَّقُ الْعَدَالَةُ فِيهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ وَلَا أَخْبَارُهُمْ الدِّينِيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ، أَنْ يَصِفُوا الزِّنَا، فَيَقُولُوا: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ «مَاعِزٍ، أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك، فِي ذَلِكَ مِنْهَا، كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ . قَالَ: نَعَمْ.» وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّصْرِيحُ فِي الْإِقْرَارِ، كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ. فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَا، فَنَشَدَهُمَا: كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ . قَالَا: نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجَهَا، مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، رُجِمَا. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا، وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ، فَجَاءَ أَرْبَعَةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِهِمَا.» وَلِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَصِفُوا الزِّنَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَاعْتُبِرَ كَشْفُهُ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى ذَلِكَ مِنْهُمَا، لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا لِيَحْصُلَ الرَّدْعُ بِالْحَدِّ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ قَدْ غَيَّبَهُ فِي فَرْجِهَا كَفَى، وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ. وَأَمَّا تَعْيِينُهُمْ الْمَزْنِيَّ بِهَا أَوْ الزَّانِيَ، إنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَمَكَانِ الزِّنَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، لِئَلَّا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهَا، وَيُعْتَبَرُ ذِكْرُ الْمَكَانِ، لِئَلَّا تَكُونَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَلِهَذَا «سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا، فَقَالَ: إنَّك أَقْرَرْت أَرْبَعًا، فَبِمَنْ؟» . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذِكْرُهُمَا فِي الْإِقْرَارِ، وَلَمْ يَأْتِ ذِكْرُهُمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الشَّهَادَةِ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ ذِكْرُ الْمَكَانِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الزَّمَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَكَانِ، كَالنِّكَاحِ، وَيَبْطُلُ مَا ذِكْرُهُ بِالزَّمَانِ. الشَّرْطُ السَّابِعُ، مَجِيءُ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، فَقَالَ: وَإِنْ جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُتَفَرِّقِينَ، وَالْحَاكِمُ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، لَمْ يَقُمْ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ، كَانُوا قَذَفَةً، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجْلِسَ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] . وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إنْ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ. وَلَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ وَنَافِعًا وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ، عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ، فَحَدَّ الثَّلَاثَةَ. وَلَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُدَّهُمْ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكْمُلُوا بِرَابِعٍ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ، فَحَدَّهُمْ، ثُمَّ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ الْمَجْلِسِ، لَكَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الشَّهَادَاتِ. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلشُّرُوطِ، وَلِهَذَا لَمْ تَذْكُرْ الْعَدَالَةَ، وَصِفَةَ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] . لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ، أَوْ مُقَيَّدًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ جَلْدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ زَمَنٍ إلَّا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، أَوْ بِكَمَالِهِمْ إنْ كَانَ قَدْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ، فَيَمْتَنِعُ جَلْدُهُمْ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ، فَأَوْلَى مَا قُيِّدَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَ مَجِيئِهِمْ، وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مَجِيئِهِمْ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، كَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا. وَفِي حَدِيثِهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: أَرَأَيْت إنْ جَاءَ آخَرُ يَشْهَدُ، أَكُنْت تَرْجُمُهُ؟ . قَالَ عُمَرُ: أَيْ، وَاَلَّذِي نَفْسِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 بِيَدِهِ. وَلِأَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا تَفَرَّقُوا فِي مَجَالِسَ، فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالزِّنَا، وَلَمْ يُكْمِلْ الشَّهَادَةَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . [فَصْلٌ لَمْ تَكْمُلْ شُهُودُ الزِّنَا] (7185) فَصْلٌ: وَاذَا لَمْ تَكْمُلْ شُهُودُ الزِّنَا، فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِمْ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً أَحَدُهُمَا فَاسِقٌ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَهَذَا يُوجِبُ الْجَلْدَ عَلَى كُلِّ رَامٍ لَمْ يَشْهَدْ بِمَا قَالَ أَرْبَعَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ حِينَ لَمْ يُكْمِلْ الرَّابِعُ شَهَادَتَهُ، بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ. وَرَوَى صَالِحٌ فِي " مَسَائِلِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ، فَشَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَشَهِدَ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَشَهِدَ، فَاسْتَكْبَرَ ذَلِكَ عُمَرُ، ثُمَّ جَاءَ شَابٌّ يَخْطِرُ بِيَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا عِنْدَك يَا سُلَحَ الْعُقَابِ؟ وَصَاحَ بِهِ عُمَرُ صَيْحَةً، فَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ كِدْت يُغْشَى عَلَيَّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْت أَمْرًا قَبِيحًا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْ الشَّيْطَانَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَأَمَرَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ فَجُلِدُوا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا شُهِدَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ، شَهِدَ ثَلَاثَةٌ، وَبَقِيَ زِيَادٌ، فَقَالَ عُمَرُ أَرَى شَابًّا حَسَنًا، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: يَا أَمِيرُ، رَأَيْت اسْتًا تَنْبُو، وَنَفَسًا يَعْلُو، وَرَأَيْت رِجْلَيْهَا فَوْقَ عُنُقِهِ، كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَضُرِبُوا. وَقَوْلُ عُمَرَ: يَا سُلَحَ الْعُقَابِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُشْبِهُ سُلَحَ الْعُقَابِ، الَّذِي يُحَرِّقُ كُلَّ شَيْءٍ أَصَابَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا، تُوقَعُ الْعُقُوبَةُ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لَا مَحَالَةَ، إنْ كَمَلَتْ شَهَادَتُهُ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ، حُدَّ أَصْحَابُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ شَهِدُوا. قُلْنَا: لَمْ يُخَالِفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، إنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي صِحَّةِ مَا شَهِدُوا بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ رَامٍ بِالزِّنَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِأَحَدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 [فَصْلٌ كَمَلَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً غَيْرَ مَرْضِيِّينَ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ] (7186) فَصْلٌ: وَإِنْ كَمَلُوا أَرْبَعَةً غَيْرَ مَرْضِيِّينَ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، كَالْعَبِيدِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُمْيَانِ، فَفِيهِمْ ثَلَاثُ؛ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ: عَلَيْهِمْ الْحَدُّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ تَكْمُلْ، فَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ، كَمَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً. وَالثَّانِيَةُ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَدَخَلُوا فِي عُمُومِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ قَدْ كَمَلَ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ لِمَعْنًى غَيْرِ تَفْرِيطِهِمْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مَسْتُورُونَ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ وَلَا فِسْقُهُمْ. الثَّالِثَةُ: إنْ كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ بَعْضُهُمْ، جُلِدُوا، وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ فُسَّاقًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْعُمْيَانَ مَعْلُومٌ كَذِبُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَا لَمْ يَرَوْهُ يَقِينًا، وَالْآخَرُونَ يَجُوزُ صِدْقُهُمْ، وَقَدْ كَمَلَ عَدَدُهُمْ، فَأَشْبَهُوا مَسْتُورِي الْحَالِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ لِمَعْنًى ظَاهِرٍ، كَالْعَمَى، وَالرِّقِّ، وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ فَفِيهِمْ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى خَفِيٍّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَا يَخْفَى يَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُمْ، بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ. وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ، حَدُّ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ كَعَدَمِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْأَوَّلِينَ، وَيُنَبِّهُ عَلَى إيجَابِ الْحَدِّ فِيمَا إذَا كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ يُحْتَمَلُ صِدْقُهُمَا، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَعْمَى كَاذِبٌ يَقِينًا، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ مَعَهُمْ أَوْلَى. [فَصْلٌ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا عَنْ الشَّهَادَةِ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ] (7187) فَصْلٌ: وَإِنْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَعَلَى جَمِيعِهِمْ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ: يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ دُونَ الرَّاجِعِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ، فَهُوَ كَالتَّائِبِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ وَلِأَنَّ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ زَجْرٌ لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ، خَوْفًا مِنْ الْحَدِّ، فَتَفُوتُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ، وَتَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيَ الْحَدِّ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ دُونَ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِرُجُوعِ الرَّاجِعِ، وَمَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ، لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، فَلَمْ يُحَدَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ. وَلَنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَدَدُ بِالرُّجُوعِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَزِمَهُمْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ، وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُمْ: وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ. يَبْطُلُ بِمَا إذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ، وَبِالرَّاجِعِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْحَدَّ وَجَبَ ثُمَّ سَقَطَ، وَوَجَبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِسُقُوطِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مَعَ الْمَصْلَحَةِ فِي رُجُوعِهِ، وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَإِحْيَائِهِ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ إشْرَافِهِ عَلَى التَّلَفِ، فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى. [فَصْلٌ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ] (7188) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا فِي بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبَاهُمَا، أَوْ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ فَالْجَمِيعُ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَلُوا أَرْبَعَةً. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ اثْنَانِ وَحْدَهُمَا، فَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَحَكَى قَوْلًا لِأَحْمَدَ. وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنَا وَاحِدٍ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ وَلِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ الْبَيِّنَةُ، يُعْتَبَرُ كَمَالُهَا فِي حَقِّ وَاحِدٍ، فَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ لَهُ، وَيَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بَيْضَاءَ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِسَوْدَاءَ، فَهُمْ قَذَفَةٌ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْهُ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ. [فَصْلٌ اخْتِلَافُ شُهُودُ الزِّنَا فِي الْمَكَانِ] (7189) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ أُخْرَى، وَكَانَتْ الزَّاوِيَتَانِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَقَارِبَتَيْنِ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكْمُلْ؛ وَلِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبَيْتَيْنِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ، سَوَاءٌ تَقَارَبَتْ الزَّاوِيَتَانِ أَوْ تَبَاعَدَتَا. وَلَنَا أَنَّهُمَا إذَا تَقَارَبَتَا أَمْكَنَ صِدْقُ الشُّهُودِ، بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي إحْدَاهُمَا، وَتَمَامُهُ فِي الْأُخْرَى، أَوْ يَنْسُبُهُ كُلُّ اثْنَيْنِ إلَى إحْدَى الزَّاوِيَتَيْنِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا، فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ، كَمَا لَوْ اتَّفَقُوا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ فِعْلًا وَاحِدًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ فِعْلَيْنِ، فَلِمَ أَوْجَدْتُمْ الْحَدَّ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِشُبْهَةٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ هَذَا يُحْتَمَلُ فِيهِ وَالْحَدُّ وَاجِبٌ. وَالْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ كَالْقَوْلِ فِي هَذَا، وَإِنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ مُتَبَاعِدٌ، لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِهِ، كَطَرَفَيْ النَّهَارِ، لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، وَمَتَى تَقَارَبَا كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي لَوْنِ ثِيَابِ الزَّانِي] (7190) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَبْيَضَ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَحْمَرَ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ كَتَّانٍ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ خَزٍّ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكْمُلُ؛ لِتَنَافِي الشَّهَادَتَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ، فَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَتَرَكَا ذِكْرَ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَبْيَضُ وَعَلَيْهَا قَمِيصٌ أَحْمَرُ، وَإِذَا أَمْكَنَ التَّصْدِيقُ، لَمْ يَجُزْ التَّكْذِيبُ. [فَصْلٌ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً] (7191) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا إجْمَاعًا؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ. وَفِي الرَّجُلِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي، وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُطَاوِعَةِ غَيْرُ فِعْلِ الْمُكْرَهَةِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ مِنْهُمَا يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، أَوْ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ، إلَّا بِتَقْدِيرِ فِعْلَيْنِ تَكُونُ مُطَاوِعَةً فِي أَحَدِهِمَا، مُكْرَهَةً فِي الْآخَرِ، وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّهَادَةِ كَامِلَةً عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الْمُطَاوِعَةِ قَاذِفَانِ لَهَا، وَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى غَيْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَجْهٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ كَمَلَتْ عَلَى وُجُودِ الزِّنَا مِنْهُ، وَاخْتِلَافُهُمَا إنَّمَا هُوَ فِعْلُهَا، لَا فِعْلُهُ، فَلَا يَمْنَعُ كَمَالَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. وَفِي الشُّهُودِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى الرَّجُلِ بِشَهَادَتِهِمْ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، فَلَزِمَهُمْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَاهِدَيْ الْمُطَاوِعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا قَذَفَا الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقْذِفَا الْمَرْأَةَ وَقَدْ كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. [فَصْلٌ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا فَصَدَّقَهُمْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا] (7192) فَصْلٌ: وَإِذَا تَمَّتْ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا فَصَدَّقَهُمْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَيِّنَةِ الْإِنْكَارُ، وَمَا كَمَلَ الْإِقْرَارُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] . وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّبِيلَ بِالْحَدِّ، فَتَجِبُ إقَامَتُهُ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَمَّتْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَا، فَلَمْ يَبْطُلْ بِوُجُودِ الْحُجَّةِ الْأُخْرَى أَوْ بَعْضِهَا، كَالْإِقْرَارِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ وُجُودَ الْإِقْرَارِ يُؤَكِّدُ الْبَيِّنَةَ، وَيُوَافِقُهَا، وَلَا يُنَافِيهَا، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا، كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُسَلِّمُ اشْتِرَاطَ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِالْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْحَدِّ إذَا وُجِدَ بِكَمَالِهِ، وَهَا هُنَا لَمْ يَكْمُلْ، فَلَمْ يَجُزْ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَوَجَبَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ، وَالْعَمَلُ بِهَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ مَرَّةً، أَوْ دُونَ الْأَرْبَعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَمَّتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارًا تَامًّا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِرُجُوعِهِ، وَقَوْلُهُ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ شَهِدَ شَاهِدَانِ وَاعْتَرَفَ هُوَ مَرَّتَيْنِ بِالزِّنَا] (7193) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ، وَاعْتَرَفَ هُوَ مَرَّتَيْنِ، لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ مَنْ اعْتَبَرَ إقْرَارَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ لَمْ تَكْمُلْ، وَلَا تُلَفَّقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَإِقْرَارِ بَعْضٍ مَرَّةً. [فَصْلٌ كَمَلَتْ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ غَابُوا] (7194) فَصْلٌ: وَإِنْ كَمَلَتْ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ غَابُوا، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونُوا رَجَعُوا وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ جَازَ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ حُضُورِ الشُّهُودِ، جَازَ مَعَ غَيْبَتِهِمْ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهِمْ لَيْسَ بِشُبْهَةٍ كَمَا لَوْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ. [فَصْلٌ شَهِدُوا بِزِنًا قَدِيمٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ] (7195) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا قَدِيمٍ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ، وَجَبَ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ، وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ؛ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لِلشَّهَادَةِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى التُّهْمَةِ، فَيَدْرَأُ ذَلِكَ الْحَدَّ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلًا، وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ، وَالتَّأْخِيرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوَغَيْبَةً، وَالْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُلِّ احْتِمَالٍ، لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلًا. [فَصْلٌ الشَّهَادَةُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ] (7196) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرَةَ، حِينَ شَهِدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَصَاحِبُهُ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَعْوَى. وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَفْتَقِرْ الشَّهَادَةُ بِهِ إلَى تَقَدُّمِ دَعْوَى، كَالْعِبَادَاتِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 يُبَيِّنُهُ أَنَّ الدَّعْوَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَيَدَّعِيَهُ، فَلَوْ وَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الدَّعْوَى لَامْتَنَعَتْ إقَامَتُهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ عَلَى حَدٍّ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَتَجُوزُ إقَامَتُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْحَدِّ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، لَمْ تُنْكَرْ عَلَيْهِمْ شَهَادَتُهُمْ بِهِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ التَّعْرِيضُ بِالْوُقُوفِ عَنْ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ لِزِيَادٍ: إنِّي لَأَرَى رَجُلًا أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ تَرْكَهَا أَفْضَلُ، فَلَمْ يَكُنْ بَأْسٌ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْفَضْلِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، فَقَالَ إنَّ لِي جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، أَفَأَرْفَعُهُمْ إلَى السُّلْطَانِ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.» [فَصْلٌ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ النِّسَاءِ أَنَّهَا عَذْرَاءُ] (7197) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ النِّسَاءِ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى الشُّهُودِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ، فَلَا تَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِنَّ. وَلَنَا أَنَّ الْبَكَارَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَوُجُودُهَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّنَا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الزِّنَا، لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ؛ لِأَنَّ الْبِكْرَ هِيَ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ فِي قُبُلِهَا، وَإِذَا انْتَفَى الزِّنَا، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مَجْبُوبٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِكَمَالِ عِدَّتِهِمْ، مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِمْ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا ثُمَّ عَادَتْ عُذْرَتُهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِالشُّبُهَاتِ. وَيَجِبُ أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهَا مَقْبُولَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ. فَأَمَّا إنْ شَهِدَتْ بِأَنَّهَا رَتْقَاءُ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْبُوبٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ يُتَيَقَّنُ كَذِبُهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ بِأَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ. [فَصْلٌ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ آخَرُونَ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ هُمْ الزُّنَاةُ] (7198) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ، وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ آخَرُونَ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ هُمْ الزُّنَاةُ بِهَا، لَمْ يَجِبْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ جَرَحَهُمْ الْآخَرُونَ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالْآخَرُونَ تَتَطَرَّقُ إلَيْهِمْ التُّهْمَةُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْآخَرِينَ صَحِيحَةٌ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا مَعْنَاهُ: لَا يُحَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَدَّ الزِّنَا. وَهَلْ يُحَدُّ الْأَوَّلُونَ حَدَّ الْقَذْفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْقَاذِفِ إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشَّاهِدِ هَلْ يُحَدُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ كُلُّ زِنًا أَوْجَبَ الْحَدَّ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ] فَصْلٌ: وَكُلُّ زِنًا أَوْجَبَ الْحَدَّ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ لِتَنَاوُلِ النَّصِّ لَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَيَدْخُلُ فِيهِ اللِّوَاطُ، وَوَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا؛ لِأَنَّهُ زِنًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، بِنَاءٍ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ الْحَدِّ بِهِ، وَيُخَصُّ هَذَا بِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ فَاحِشَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . فَإِذَا وُطِئَتْ فِي الدُّبُرِ، دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. وَوَطْءُ الْبَهِيمَةِ إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشُهُودٍ أَرْبَعَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يُوجِبُ إلَّا التَّعْزِيرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَيَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إيلَاجٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ، فَأَشْبَهَ الزِّنَا. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، كُلُّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ، كَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْئًا كَالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ وَنَحْوِهَا، ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطْءٍ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ. [فَصْلٌ إقَامَةُ الْإِمَامِ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ] (7200) فَصْلٌ: وَلَا يُقِيمُ الْإِمَامُ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَهُ إقَامَتُهُ بِعِلْمِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَتْ لَهُ إقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، فَبِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْلَى، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . وَقَالَ عُمَرُ: أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُ لَكَانَ قَاذِفًا، يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَلَمْ تَجُزْ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ، كَقَوْلِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 حَرُمَ النُّطْقُ بِهِ، فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا السَّيِّدُ إذَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ، فَهَلْ لَهُ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُ إقَامَتَهُ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِمَامِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ إقَامَتَهُ بِعِلْمِهِ، مَعَ قُوَّةِ وِلَايَتِهِ، وَالِاتِّفَاقِ عَلَى تَفْوِيضِ الْحَدِّ إلَيْهِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. الثَّانِي: يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ عَبْدِهِ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّأْدِيبِ؛ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ أَخَصُّ بِعَبْدِهِ، وَأَتَمُّ وِلَايَةً عَلَيْهِ، وَأَشْفَقُ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ. [فَصْلٌ أُحْبِلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ] (7201) فَصْلٌ: وَإِذَا أُحْبِلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا سَيِّدَ، لَمْ يَلْزَمْهَا الْحَدُّ بِذَلِكَ، وَتُسْأَلُ فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، أَوْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِالزِّنَا، لَمْ تُحَدَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهَا الْحَدُّ إذَا كَانَتْ مُقِيمَةً غَيْرَ غَرِيبَةٍ، إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْإِكْرَاهِ، بِأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً أَوْ صَارِخَةً؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالرَّجْمُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كَانَ مُحْصَنًا، إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُرْجَمَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرْجُمُهَا بِحَمْلِهَا، وَعَنْ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الزِّنَا زِنَاءَانِ؛ زِنَا سِرٍّ وَزِنَا عَلَانِيَةٍ، فَزِنَا السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ، فَيَكُونَ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، فَيَكُونَ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَهَذَا قَوْلُ سَادَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلَنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ إكْرَاهٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَرْأَةَ تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ بِأَنْ يَدْخُلَ مَاءُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا، إمَّا بِفِعْلِهَا أَوْ فِعْلِ غَيْرِهَا. وَلِهَذَا تُصُوِّرَ حَمْلُ الْبِكْرِ، فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابَةِ: فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ، فَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، وَقَدْ حَمَلَتْ، فَسَأَلَهَا عُمَرُ، فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ، وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَمَا اسْتَيْقَظْت حَتَّى فَرَغَ. فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ. وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ صَبِرَةَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ، فَادَّعَتْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ، فَقَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 وَكَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ لَا يُقْتَلَ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا كَانَ فِي الْحَدِّ لَعَلَّ وَعَسَى، فَهُوَ مُعَطَّلٌ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك الْحَدُّ، فَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْت. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ هَاهُنَا. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِعَمَلِ شَيْءٍ فَزَنَى بِهَا أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا] (7202) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِعَمَلِ شَيْءٍ، فَزَنَى بِهَا، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا، وَفَعَلَ ذَلِكَ، أَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ اشْتَرَاهَا، فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَنْفَعَتِهَا شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ، وَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ امْرَأَةٍ هُوَ مَالِكٌ لَهَا. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ، وَالْأَخْبَارِ، وَوُجُودُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مِلْكَهُ مَنْفَعَتَهَا شُبْهَةٌ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِبَذْلِهَا نَفْسَهَا لَهُ، وَمُطَاوَعَتِهَا إيَّاهُ، فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِمِلْكِهِ نَفْعُ مَحَلٍّ آخَرَ أَوْلَى، وَمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِوَطْءِ مَمْلُوكَتِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ، فَتَغَيُّرُ حَالِهَا لَا يُسْقِطُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ. [فَصْلٌ وَطِئَ امْرَأَةً لَهُ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ] (7203) فَصْلٌ: وَإِذَا وَطِئَ امْرَأَةً لَهُ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، كَالدَّيْنِ. [مَسْأَلَةٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ فَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَوْ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ، فَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، كُفَّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ جُلِدَ، وَقَبْلَ كَمَالِ الْحَدِّ خُلِّيَ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحَدِّ مَتَى رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ تُرِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ، مِثْلِ الْهَرَبِ، لَمْ يُطْلَبْ؛ «لِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ؟» . وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ، قُبِلَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، كَالْبَيِّنَةِ. [فَصْلٌ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ] (7205) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ، أَوْ الْحَاكِمِ، الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ، التَّعْرِيضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ إذَا تَمَّ، وَالْوُقُوفُ عَنْ إتْمَامِهِ إذَا لَمْ يُتِمَّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ مَاعِزٍ، حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى تَمَّمَ إقْرَارَهُ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّك قَبَّلْت، لَعَلَّك لَمَسْت» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ: «مَا إخَالُك فَعَلْت» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَصِيفَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ سَرَقَتْ، فَقَالَ لَهَا: أَسَرَقْت؟ قُولِي: لَا. فَقَالَتْ: لَا. فَخَلَّى سَبِيلَهَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْرِضَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَهُ بِالرُّجُوعِ أَوْ بِأَنْ لَا يُقِرَّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 وَرَوَيْنَا عَنْ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَسَرَقْت؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الشُّرْطَةِ: اُصْدُقْ الْأَمِيرَ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: الصِّدْقُ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ مُعْجِزَةٌ. فَعَرَّضَ لَهُ بِتَرْكِ الْإِقْرَارِ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْطَعُ ظَرِيفٌ. يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، ادَّعَى شُبْهَةً تَدْفَعُ عَنْهُ الْقَطْعَ. فَلَا يُقْطَعُ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلِمَ، أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الْإِقْرَارِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِهَزَّالٍ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لِمَاعِزٍ: بَادِرْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيك قُرْآنٌ: أَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ أَصَابَ فَاحِشَةً. فَقَالَ لَهُ: أَخْبَرْت بِهَذَا أَحَدًا قَبْلِي. قَالَ: لَا. قَالَ: فَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَتُبْ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ، وَاَللَّهُ يُغَيِّرُ وَلَا يُعَيِّرُ، فَتُبْ إلَى اللَّهِ، وَلَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا. فَانْطَلَقَ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمْ تُقِرَّهُ نَفْسُهُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ.» [مَسْأَلَةٌ زَنَى مِرَارًا وَلَمْ يُحَدَّ] (7206) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ زَنَى مِرَارًا وَلَمْ يُحَدَّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، إذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ. بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ حَدَثَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ أُخْرَى، فَفِيهَا حَدُّهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَمَّنْ يَحْفَظُ عَنْهُ. وَقَدْ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَمَةِ تَزْنِي قَبْلَ أَنْ تُحْصِنَ فَقَالَ: إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا.» وَلِأَنَّ تَدَاخُلَ الْحُدُودِ، إنَّمَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهَا، وَهَذَا الْحَدُّ الثَّانِي وَجَبَ بَعْدَ سُقُوطِ الْأَوَّلِ بِاسْتِيفَائِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْحُدُودُ مِنْ أَجْنَاسٍ، مِثْلِ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أُقِيمَتْ كُلُّهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا قَتْلٌ، اُكْتُفِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ مَعَهُ إلَى الزَّجْرِ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ، إلَّا أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَتْلٌ، اُسْتُوْفِيَتْ كُلُّهَا، وَبُدِئَ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَيُبْدَأُ بِالْجَلْدِ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ، وَيُقَدَّمُ الْأَخَفُّ فِي الْجَلْدِ عَلَى الْأَثْقَلِ، فَيُبْدَأُ فِي الْجَلْدِ بِحَدِّ الشُّرْبِ، ثُمَّ بِحَدِّ الْقَذْفِ، إنْ قُلْنَا: إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ بِحَدِّ الشُّرْبِ، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا. [مَسْأَلَةٌ تَحَاكَمَ إلَيْنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ] (7207) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَحَاكَمَ إلَيْنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ، حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَحَاكَمَ إلَيْنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ، أَوْ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إحْضَارِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَهْلِ أَدْيَانٍ. هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] . وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَفْعُ مَنْ قَصَدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا، كَالْمُسْلِمِينَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ وَادَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ؛ وَلِأَنَّهُمَا كَافِرَانِ، فَلَا يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا كَالْمُعَاهَدَيْنِ، وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ اخْتَارَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] . جَمْعًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى النَّسْخِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ إلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِلْآيَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ، إلَّا بِالْقِسْطِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَمَتَى حَكَمَ بَيْنَهُمَا، أَلْزَمَهُمَا حُكْمُهُ، وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا، أَجْبَرَهُ عَلَى قَبُولِ حُكْمِهِ، وَأَخْذِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي الْعَهْدِ بِشَرْطِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ أَمْرِهِمْ، إلَّا أَنْ يَأْتُوا هُمْ، فَإِنْ ارْتَفَعُوا إلَيْنَا، أَقَمْنَا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ، عَلَى مَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَيْضًا: حُكْمُنَا يَلْزَمُهُمْ، وَحُكْمُنَا جَائِزٌ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ، وَلَا يَدْعُوهُمَا الْحَاكِمُ، فَإِنْ جَاءُوا، حَكَمْنَا بِحُكْمِنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، يُوجِبُ عُقُوبَةً، مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ، كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَالْقَتْلِ، فَعَلَيْهِ إقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ زَنَى جُلِدَ إنْ كَانَ بِكْرًا وَغُرِّبَ عَامًا، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ. لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ، فَجَرَا بَعْدَ إحْصَانِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا.» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: إنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ . فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَك. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ حَجَرَيْنِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ عُقُوبَتُهُ، كَالْكُفْرِ. وَإِنْ تَظَاهَرَ بِهِ، عُزِّرَ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ مُنْكَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَعُزِّرَ عَلَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 [فَصْلٌ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ] (7208) فَصْلٌ: وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ بَالِغٌ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ حُرَّةً مُسْلِمَةً] (7209) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَذَفَ بَالِغٌ حُرًّا مُسْلِمًا، أَوْ حُرَّةً مُسْلِمَةً، جُلِدَ الْحَدَّ ثَمَانِينَ) الْقَذْفُ: هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا. وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمُحْصَنَاتُ هَاهُنَا الْعَفَائِفُ. وَالْمُحْصَنَاتُ فِي الْقُرْآنِ جَاءَتْ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا هَذَا. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الْمُزَوَّجَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . وقَوْله تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] . وَالثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْحَرَائِرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَقَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . وَالرَّابِعُ: بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إحْصَانُهَا إسْلَامُهَا. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَ، إذَا كَانَ مُكَلَّفًا. وَشَرَائِطُ الْإِحْصَانِ الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ صَاحِبِهِ، خَمْسَةٌ: الْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا، وَأَنْ يَكُونَ كَبِيرًا يُجَامِعُ مِثْلُهُ. وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، سِوَى مَا رُوِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْعَبْدِ. وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالُوا: إذَا قَذَفَ ذِمِّيَّةً، وَلَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، يُحَدُّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، لَا يُحَدُّ وَلَهُ وَلَدٌ، كَالْمَجْنُونَةِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ شَرْطٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيْ التَّكْلِيفِ، فَأَشْبَهَ الْعَقْلَ؛ وَلِأَنَّ زِنَا الصَّبِيِّ لَا يُوجِبُ حَدًّا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْقَذْفِ بِهِ، كَزِنَا الْمَجْنُونِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَاقِلٌ عَفِيفٌ يَتَعَيَّرُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُمْكِنِ صِدْقُهُ، فَأَشْبَهَ الْكَبِيرَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا يُجَامِعُ مِثْلُهُ، وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ لِلْغُلَامِ عَشْرٌ، وَلِلْجَارِيَةِ تِسْعٌ. (7210) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ، وَالْمَجْبُوبِ، وَالْمَرِيضِ الْمُدْنِفِ، وَالرَّتْقَاءِ، وَالْقَرْنَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَجْبُوبٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنْ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ، لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَالْحَدُّ إنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَالرَّتْقَاءُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، كَقَاذِفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَلِأَنَّ إمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ، لَا يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَلَا يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ، فَيَجِبُ، كَقَذْفِ الْمَرِيضِ. [فَصْلٌ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ] (7211) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارٍ لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] . الْآيَةَ. وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، قَذَفَ مُحْصَنًا، فَأَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ قَدْرُ حَدِّ الْقَاذِفِ] (7212) فَصْلٌ: وَقَدْرُ الْحَدِّ ثَمَانُونَ، إذَا كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا؛ لِلْآيَةِ وَالْإِجْمَاعِ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُشْتَرَطَةٌ لِكُلِّ حَدٍّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 [مَسْأَلَةٌ قَالَ طَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاذِفِ بَيِّنَةٌ] (7213) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إذَا طَالَبَ الْمَقْذُوفُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاذِفِ بَيِّنَةٌ.) وَجُمْلَتُهُ أَنْ يُعْتَبَرَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يُسْتَوْفَى قَبْلَ طَلَبِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] . فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِقْرَارِ مِنْ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ. إنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا، اُعْتُبِرَ شَرْطٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ مِنْ اللِّعَانِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ. وَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الطَّلَبِ إلَى إقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَوْ طَلَبَ ثُمَّ عَفَا عَنْ الْحَدِّ، سَقَطَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ بِاسْتِيفَائِهِ، فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ، كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إقَامَتِهَا الطَّلَبُ بِاسْتِيفَائِهَا، وَحَدُّ السَّرِقَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَسْرُوقِ، لَا بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، وَيَسْتَحْلِفُ فِيهِ، وَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ. [فَصْلٌ حَدُّ قَذْفِ الْغَائِبِ] (7214) فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِقَذْفِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، لَمْ تَجُزْ إقَامَتُهُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُطَالِبَ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَلَامِهِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي، فَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ، كَالْقِصَاصِ، فَإِذَا بَلَغَ وَطَالَبَ، أُقِيمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَلَوْ قَذَفَ غَائِبًا، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَقْدَمَ وَيُطَالِبَ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ طَالَبَ فِي غَيْبَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَجُوزَ إقَامَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ؛ لِكَوْنِهِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَلَوْ قَذَفَ عَاقِلًا، فَجُنَّ بَعْدَ قَذْفِهِ وَقَبْلَ طَلَبِهِ، لَمْ تَجُزْ إقَامَتُهُ حَتَّى يُفِيقَ وَيَطْلُبَ، وَكَذَلِكَ إنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ قَبْلَ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ، جَازَتْ إقَامَتُهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً] (7215) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، جُلِدَ أَرْبَعِينَ، بِأَدْوَنَ مِنْ السَّوْطِ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ الْحُرُّ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا قَذَفَ الْحُرَّ الْمُحْصَنَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْت أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 وَعُثْمَانَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إذَا قَذَفَ إلَّا أَرْبَعِينَ. وَرَوَى خِلَاسٌ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي عَبْدٍ قَذَفَ حُرًّا: نِصْفُ الْجَلْدِ. وَجَلَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَبْدًا قَذَفَ حُرًّا ثَمَانِينَ. وَبِهِ قَالَ قَبِيصَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلَعَلَّهمْ ذَهَبُوا إلَى عُمُومِ الْآيَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِلْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ، فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَهُوَ يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ، وَقَدْ عِيبَ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ جَلْدُهُ الْعَبْدَ ثَمَانِينَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا قَبْلَهُ جَلَدَ الْعَبْدَ ثَمَانِينَ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَضَرْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، جَلَدَ عَبْدًا ثَمَانِينَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ النَّاسِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: إنِّي رَأَيْت وَاَللَّهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، مَا رَأَيْت أَحَدًا جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ فَوْقَ أَرْبَعِينَ. إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِأَدْوَنَ مِنْ السَّوْطِ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ الْحُرُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُفِّفَ فِي قَدْرِهِ، خُفِّفَ فِي سَوْطِهِ، كَمَا أَنَّ الْحُدُودَ فِي أَنْفُسِهَا كَمَا قَلَّ مِنْهَا، كَانَ سَوْطُهُ أَخَفَّ، فَالْجَلْدُ فِي الشُّرْبِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْقَذْفِ، وَفِي الْقَذْفِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الزِّنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَاوِيَ الْعَبْدُ الْحُرَّ فِي السَّوْطِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى النِّصْفِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ إلَّا مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي السَّوْطِ. [فَصْلٌ قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ] (7216) فَصْلٌ: وَإِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ، وَإِنْ نَزَلَ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ، فَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ، كَالزِّنَا. وَلَنَا أَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَجِبُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، فَلَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ، كَالْقِصَاصِ، أَوْ نَقُولُ: إنَّهُ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالْمُطَالَبَةِ بِاسْتِيفَائِهِ، فَأَشْبَهَ الْقِصَاصَ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يَجِبُ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ الْأُبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ، فَمَنَعَتْ الْحَدَّ، كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 يُنْتَقَضُ بِالسَّرِقَةِ، فَإِنَّ الْأَبَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا: أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لَا حَقَّ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ، وَحَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ، كَالْقِصَاصِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَذَفَ أُمَّ ابْنِهِ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، فَمَاتَتْ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لِابْنِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً، أَسْقَطَهُ طَارِئًا كَالْقِصَاصِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا ابْنٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ إذَا مَاتَتْ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَمْلِكُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ اسْتِيفَاءَهُ كُلَّهُ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَأَمَّا قَذْفُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ، فَيُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهُ يَا لُوطِيُّ] [الْفَصْلُ الْأَوَّل قَذف رَجُلًا بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ] (7217) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهُ: يَا لُوطِيُّ. سُئِلَ عَمَّا أَرَادَ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّك مِنْ قَوْمِ لُوطٍ. فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت أَنَّك تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَهُوَ كَمَنْ قَذَفَ بِالزِّنَا) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ (7218) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، إمَّا فَاعِلًا وَإِمَّا مَفْعُولًا، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا، أَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ هَاهُنَا عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، فَأَمَّا إنْ قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ بَهِيمَةٍ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى فَاعِلِهِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى فَاعِلِهِ، أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ بِهِ، وَمَنْ لَا فَلَا. وَكُلُّ مَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِفِعْلِهِ، لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ بِهِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، أَوْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالْمُسَاحَقَةِ، أَوْ بِالْوَطْءِ مُسْتَكْرَهَةً، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ وَلِأَنَّهُ رَمَاهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ بِاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا كَافِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا سَارِقُ، يَا مُنَافِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا خَبِيثُ، يَا أَعْوَرُ، يَا أَقْطَعُ، يَا أَعْمَى ابْنَ الزَّمَنِ الْأَعْمَى الْأَعْرَجِ. فَلَا حَدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَلَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ قَالَ يَا كَاذِبُ. يَا نَمَّامُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ؛ لِسَبِّ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَ مَنْ لَا يُوجِبُ قَذْفُهُ الْحَدَّ. [الْفَصْلُ الثَّانِي قَالَ أَرَدْت أَنَّك مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ يَا لُوطِيُّ] (7219) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَرَدْت أَنَّك مِنْ قَوْمِ لُوطٍ. فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ؛ فَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 الْحَدُّ، بِقَوْلِهِ: يَا لُوطِيُّ. وَلَا يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيلُ الْقَذْفَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَنَحْوُهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. نَقَلَهَا الْمَرُّوذِيُّ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ. قَالَ الْحَسَنُ: إذَا قَالَ: نَوَيْت أَنَّ دِينَهُ دِينُ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ: قَالَ أَرَدْت أَنَّك تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ. فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي غَضَبٍ، قَالَ: إنَّهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْغَضَبِ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْقَذْفِ. بِخِلَافِ حَالِ الرِّضَا. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إلَّا الْقَذْفُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: يَا زَانِي. وَلِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ. (7220) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّك عَلَى دِينِ لُوطٍ، أَوْ أَنَّك تُحِبُّ الصِّبْيَانَ، أَوْ تُقَبِّلَهُمْ، أَوْ تَنْظُرُ إلَيْهِمْ، أَوْ أَنَّك تَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ قَوْمِ لُوطٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ، غَيْرَ إتْيَانِ الْفَاحِشَةِ، أَوْ أَنَّك تَنْهَى عَنْ الْفَاحِشَةِ كَنَهْيِ لُوطٍ عَنْهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، خُرِّجَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِرَجُلٍ يَا مَعْفُوجُ] (7221) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَا مَعْفُوجُ) الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ قَالَ: يَا مَعْفُوجُ. أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى تَفْسِيرِهِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ الْفَاحِشَةِ، مِثْلِ أَنْ قَالَ: أَرَدْت يَا مَفْلُوجُ أَوْ يَا مُصَابًا دُونَ الْفَرْجِ. وَنَحْوَ هَذَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ شَرْطُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ] (7222) فَصْلٌ: وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ إلَّا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: يَا زَانِي. أَوْ يَنْطِقَ بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْجِمَاعِ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى تَفْسِيرِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مُخَنَّثُ. أَوْ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ. وَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِقَذْفٍ، مِثْلِ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُخَنَّثِ أَنَّ فِيهِ طِبَاعَ التَّأْنِيثِ وَالتَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ، وَبِالْقَحْبَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا فَاجِرَةُ، يَا خَبِيثَةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ، وَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا أَرَى الْحَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ وَالشَّتِيمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْحَدُّ عَلَى مَنْ نَصَبَ الْحَدَّ نَصْبًا. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ الزِّنَا، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ. وَإِنْ فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالزِّنَا، فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا. [فَصْلٌ التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ] (7223) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: مَا أَنْتَ بِزَانٍ، مَا يَعْرِفُك النَّاسُ بِالزِّنَا، يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ. أَوْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِزَانٍ، لَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَرَوَى عَنْهُ حَنْبَلٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ حَدٌّ وَلَا غَيْرُهُ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَالتَّصْرِيحِ بِهَا، فَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ، وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي الَّذِي قَالَ لِصَاحِبِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَقَالُوا: قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ بِصَاحِبِهِ. فَجَلَدَهُ الْحَدَّ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: إنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ. يُعَرِّضُ لَهُ بِزِنَا أُمِّهِ. وَالْوَذْرُ: قِدْرُ اللَّحْمِ. يُعَرِّضُ لَهُ بِكَمَرِ الرِّجَالِ وَلِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهَا، كَالصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إلَى الْقَذْفِ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَذْفًا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ، أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَةِ آخَرَ: قَدْ فَضَحْته، وَغَطَّيْت رَأْسَهُ، وَجَعَلْت لَهُ قُرُونًا، وَعَلَّقْت عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَفْسَدْت فِرَاشَهُ، وَنَكَّسْت رَأْسَهُ. وَذَكَرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلٍ يَا دَيُّوثُ يَا كَشْخَانُ] (7224) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا دَيُّوثُ، يَا كَشْخَانُ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعَزَّرُ. قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: الدَّيُّوثُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ. وَقَالَ ثَعْلَبُ: الْقَرْطَبَانُ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ. وَقَالَ: الْقَرْنَانُ وَالْكَشْحَانُ، لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُمَا عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. فَعَلَى الْقَاذِفِ بِهِ التَّعْزِيرُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الدَّيُّوثِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: يَا قَرْنَانُ: إذَا كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ أَوْ بَنَاتٌ فِي الْإِسْلَامِ، ضُرِبَ الْحَدَّ. يَعْنِي أَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُنَّ. وَقَالَ خَالِدٌ، عَنْ أَبِيهِ الْقَرْنَانُ عِنْدَ الْعَامَّةِ: مَنْ لَهُ بَنَاتٌ. وَالْكَشْحَانُ: مَنْ لَهُ أَخَوَاتٌ. يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إذَا كَانَ يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَيْهِنَّ. وَالْقَوَّادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ: السِّمْسَارُ فِي الزِّنَا. وَالْقَذْفُ بِذَلِكَ كُلِّهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. [فَصْلٌ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ] (7225) فَصْلٌ: وَإِذَا نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إذَا نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، إذَا نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ رَقِيقَةً، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهَا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يَقُولُ: إنَّ كِنَانَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُرَيْشٍ. إلَّا جَلَدْتُهُ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ لَا جَلْدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ؛ رَجُلٍ قَذَفَ مُحْصَنَةً أَوْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا. فَأَمَّا إنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَحَدًا بِالزِّنَا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا، فَلَسْت بِابْنِ فُلَانٍ. فَلَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ بِنَفْيِ الرَّجُلِ عَنْ قَبِيلَتِهِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِلْأَعْجَمِيِّ: إنَّك عَرَبِيُّ. وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: أَنْتَ نَبَطِيٌّ. أَوْ فَارِسِيٌّ. فَلَا حَدَّ فِيهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّك نَبَطِيُّ اللِّسَانِ أَوْ الطَّبْعِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ احْتِمَالًا كَثِيرًا، فَلَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إلَيْهِ. وَمَتَى فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ، فَهُوَ قَاذِفٌ. [فَصْلٌ قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ آخَرُ صَدَقْت] (7226) فَصْلٌ: وَإِذَا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْت، فَالْمُصَدِّقُ قَاذِفٌ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَالَهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَالَ لِي عَلَيْك أَلْفٌ، فَقَالَ: صَدَقْت. كَانَ إقْرَارًا بِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَعْطِنِي ثَوْبِي هَذَا. فَقَالَ: صَدَقْت. كَانَ إقْرَارًا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا يَكُونُ قَاذِفًا. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِتَصْدِيقِهِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَنَّك زَنَيْت. لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَوْ صَدَّقَهُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَكُونُ قَاذِفًا إذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِزِنَاهُ. وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ قُذِفَ، فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَدْ قَذَفَ رَجُلًا. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزْنَى النَّاسِ] (7227) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَزْنَى النَّاسِ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُ. وَهَلْ يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إلَيْهِمَا، وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنْ الْآخَرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَتَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ. وَالثَّانِي: يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] . وَقَالَ لُوطٌ: {بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] . أَيْ: مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ. وَلَنَا أَنَّ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ زَانٍ. [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَأْت مَهْمُوزًا] (7228) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: زَنَأْت. مَهْمُوزًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ قَذْفٌ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْقَذْفَ، فَكَانَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْت. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ عَامِّيًّا، فَهُوَ قَذْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ إلَّا الْقَذْفَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، طَلَعْت، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَوْضُوعَهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا وَجْهَانِ. وَإِنْ قَالَ زَنَأْت فِي الْجَبَلِ. فَالْحُكْمُ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 زَنَأْت. وَلَمْ يَقُلْ: فِي الْجَبَلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، لَيْسَ بِقَذْفٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَامِّيًّا لَا يَعْرِفُ مَوْضُوعَهُ فِي اللُّغَةِ، تَعَيَّنَ مُرَادُهُ فِي الْقَذْفِ، وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ سِوَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِالْقَذْفِ، أَوْ لَحَنَ لَحْنًا غَيْرَ هَذَا. [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلٍ يَا زَانِيَةُ أَوْ لِامْرَأَةٍ يَا زَانٍ] (7229) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ. أَوْ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانٍ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي قَذْفِهِمَا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، إلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ أَيْ: يَا عَلَّامَةُ فِي الزِّنَا، كَمَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ: عَلَّامَةٌ. وَلِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ: رَاوِيَةٌ. وَلِكَثِيرِ الْحِفْظِ: حَفَظَةٌ. وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَ قَذْفًا لِلْآخَرِ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْت. بِفَتْحِ التَّاءِ وَبِكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خِطَابٌ لَهُمَا، وَإِشَارَةٌ إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنْ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: يَا شَخْصًا زَانِيًا: أَوْ لِلرَّجُلِ: يَا نَسَمَةً زَانِيَةً. كَانَ قَاذِفًا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّامَةٌ فِي الزِّنَا، لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ مَا كَانَ اسْمًا لِلْفِعْلِ إذَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِمْ: حَفَظَةٌ. لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحِفْظِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرِّوَايَةِ. وَكَذَلِكَ هُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ وَصُرَعَةٌ. وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ، وَيُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُرَادًا بِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ. [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْت بِفُلَانَةَ] (7230) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْت بِفُلَانَةَ. كَانَ قَاذِفًا لَهُمَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا نَاكِحَ أُمِّهِ. مَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: إنْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلرَّجُلِ. وَلِأُمِّهِ حَدٌّ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِي.، قَالَ عَلَيْهِ حَدَّانِ قُلْت: أَبَلَغَك فِي هَذَا شَيْءٌ؟ قَالَ: مَكْحُولٌ قَالَ: فِيهِ حَدَّانِ. وَإِنْ أَقَرَّ إنْسَانٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهَا، سَوَاءٌ أَلَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ أَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ زِنَاهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ مُكْرَهَةً، أَوْ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ، أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَجَلَدَهُ مِائَةً، وَكَانَ بِكْرًا، ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَقَالَتْ: كَذَبَ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ» . وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْفِي الْحَدَّ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَالَ: يَا نَائِكَ أُمِّهِ. فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ بِشُبْهَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ جُلِدَ رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ ذَلِكَ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ. فَقَالَتْ: بِك زَنَيْت. فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَا حَدَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 عَلَيْهَا فِي قَوْلِهَا: بِك زَنَيْت؛ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الزِّنَا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ وَاطِئًا بِشُبْهَةٍ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ صَحِيحٍ. وَلَنَا أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ، كَمَا لَوْ قَالَتْ: صَدَقْت. وَلَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ. قَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ. وَيَلْزَمُهَا لَهُ هَاهُنَا حَدُّ الْقَذْفِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا أَضَافَتْ إلَيْهِ الزِّنَا، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا أَضَافَتْهُ إلَى نَفْسِهَا. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ رَجُلًا فَلَمْ يُقَمْ الْحَدُّ حَتَّى زَنَى الْمَقْذُوفُ] (7231) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا، فَلَمْ يُقَمْ الْحَدُّ حَتَّى زَنَى الْمَقْذُوفُ، لَمْ يَزُلْ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ) وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهَا إلَى حَالَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ، لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الزِّنَا مِنْهُ يُقَوِّي قَوْلَ الْقَاذِفِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ إذَا طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْدَ أَدَائِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا. وَلَنَا أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَجَبَ وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، أَوْ سَرَقَ عَيْنًا، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَوْ مَلَكَهَا، وَكَمَا لَوْ جُنَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهَا. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الشُّرُوطَ لِلْوُجُوبِ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا إلَى حِينِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ، وَيَبْطُلُ بِالْأُصُولِ الَّتِي قِسْنَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا إذَا جُنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْحَدُّ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَابَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ. وَإِنْ ارْتَدَّ مَنْ لَهُ الْحَدُّ لَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُ وَأَمْلَاكَهُ تَزُولُ أَوْ تَكُونُ مَوْقُوفَةً. وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ بِهَا، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا إلَى حِينِ الْحُكْمِ بِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْعِفَّةَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، فَلَا تُعْتَبَرُ إلَّا إلَى حِينِ الْوُجُوبِ. [فَصْلٌ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ] (7232) فَصْلٌ: وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى ذِمِّيٍّ، أَوْ مُرْتَدٍّ، فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ. وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا دَخَلَ بِأَمَانٍ. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ مُشْرِكًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمًا لَهُ دُونَ الْعَشْرِ سِنِينَ أَوْ مُسْلِمَةً لَهَا دُونَ التِّسْعِ سِنِينَ] (7233) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَذَفَ مُشْرِكًا أَوْ عَبْدًا، أَوْ مُسْلِمًا لَهُ دُونَ الْعَشْرِ سِنِينَ، أَوْ مُسْلِمَةً لَهَا دُونَ التِّسْعِ سِنِينَ، أُدِّبَ، وَلَمْ يُحَدَّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَإِدْرَاكَ سِنٍّ يُجَامِعُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ شُرُوطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهَا، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَكِنْ يَجِبُ تَأْدِيبُهُ، رَدْعًا لَهُ عَنْ أَعْرَاضِ الْمَعْصُومِينَ، وَكَفًّا لَهُ عَنْ أَذَاهُمْ، وَحَدُّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ، أَنْ يَبْلُغَ الْغُلَامُ عَشْرًا، وَالْجَارِيَةُ تِسْعًا، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ] (7234) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ، فَقَالَ الْقَاذِفُ: كُنْت صَغِيرًا حِينَ قَذَفْتُك. وَقَالَ الْمَقْذُوفُ: كُنْت كَبِيرًا. فَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الْحَدِّ. فَإِنْ أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَذَفَهُ صَغِيرًا، وَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَذَفَهُ كَبِيرًا، وَكَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ مُؤَرَّخَتَيْنِ تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهُمَا قَذْفَانِ؛ مُوجَبُ أَحَدِهِمَا التَّعْزِيرُ، وَالثَّانِي الْحَدُّ، وَإِنْ بَيَّنَتَا تَارِيخًا وَاحِدًا، وَقَالَتْ إحْدَاهُمَا: وَهُوَ صَغِيرٌ. وَقَالَتْ الْأُخْرَى: وَهُوَ كَبِيرٌ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَارِيخُ بَيِّنَةِ الْمَقْذُوفِ قَبْلَ تَارِيخِ بَيِّنَةِ الْقَاذِفِ. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا] (7235) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا، وَقَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَحُدَّ الْقَاذِفُ، إذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَبْدًا) . إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُحْصَنًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَوُجُودِ الْمَعْنَى، فَإِذَا ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَ كَبِيرًا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ صَغِيرٌ، فَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ: زَنَيْت فِي شِرْكِك. فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى. وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ يُحَدُّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وُجِدَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُحْصَنًا. وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الْقَذْفَ إلَى حَالٍ نَاقِصَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ فِي حَالِ الشِّرْكِ؛ وَلِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْمَقْذُوفِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَذَفَ مَنْ كَانَ رَقِيقًا، فَقَالَ: زَنَيْت فِي حَالِ رِقِّك. أَوْ قَالَ زَنَيْت وَأَنْتَ طِفْلٌ. وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت وَأَنْتَ صَبِيٌّ أَوْ صَغِيرٌ. سُئِلَ عَنْ الصِّغَرِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِصِغَرٍ لَا يُجَامِعُ فِي مِثْلِهِ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِصِغَرٍ يُجَامِعُ فِي مِثْلِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت إذْ كُنْت مُشْرِكًا. أَوْ: إذْ كُنْت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 رَقِيقًا. فَقَالَ الْمَقْذُوفُ: مَا كُنْت مُشْرِكًا وَلَا رَقِيقًا. نَظَرْنَا، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ رَقِيقًا، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَقِيقًا كَذَلِكَ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشِّرْكِ وَالرِّقِّ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ، وَإِسْلَامُ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِيَةُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْقَاذِفِ. وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت وَأَنْتَ مُشْرِكٌ. فَقَالَ الْمَقْذُوفُ أَرَدْت قَذْفِي بِالزِّنَا وَالشِّرْكِ مَعًا. وَقَالَ الْقَاذِفُ: بَلْ أَرَدْت قَذْفَك بِالزِّنَا إذْ كُنْت مُشْرِكًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي بَيِّنَتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ مُشْرِكٌ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ حَالٌ لِقَوْلِهِ: زَنَيْت. كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] . وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَنَيْت. خِطَابٌ فِي الْحَالِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ زِنَاهُ فِي الْحَالِ. وَهَكَذَا إنْ قَالَ: زَنَيْت وَأَنْتَ عَبْدٌ. وَإِنْ قَذَفَ مَجْهُولًا، وَادَّعَى أَنَّهُ رَقِيقٌ أَوْ مُشْرِكٌ. فَقَالَ الْمَقْذُوفُ: بَلْ أَنَا حُرٌّ مُسْلِمٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْحَدِّ، وَهُوَ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَكُونُ شُبْهَةً. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ، كَالْوَجْهَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَا خَالَفَهُ، كَمَا لَوْ فَسَّرَ صَرِيحَ الْقَذْفِ بِمَا يُحِيلُهُ، وَكَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مُشْرِكٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِسْلَامُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ: أَنَا مُسْلِمٌ. بِخِلَافِ الْحُرِّيَّةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا الْمَاضِي، فَلَا يَثْبُتُ بِمَا جَاءَ بَعْدَهُ، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا حَالَ الْقَذْفِ بِقَوْلِهِ فِي حَالِ النِّزَاعِ، فَاسْتَوَيَا. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ الْمُلَاعِنَةَ] (7236) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُحَدُّ مَنْ قَذَفَ الْمُلَاعِنَةَ) . نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْمُلَاعِنَةِ، أَنْ لَا تُرْمَى، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا.، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ حَصَانَتَهَا لَمْ تَسْقُطْ بِاللِّعَانِ، وَلَا يُبَتُّ الزِّنَا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ. وَمَنْ قَذَفَ ابْنَ الْمُلَاعِنَةِ، فَقَالَ: هُوَ وَلَدُ زِنًا. فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: هُوَ مِنْ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ. يَعْنِي الْمُلَاعِنَ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 [فَصْلٌ قَذَفَ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ حَدٍّ] (7237) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ حَدٍّ بِالزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ؛ وَلِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ قَدْ زَالَ بِالزِّنَا. وَلَوْ قَالَ لِمَنْ زَنَى فِي شِرْكِهِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِذَاتِ مَحْرَمِهِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: يَا زَانِي. فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، إذَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُسْلِمًا لَمْ يَثْبُتْ زِنَاهُ فِي إسْلَامِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ ثَبَتَ زِنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُ صَادِقٌ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا، وَقَالَ أَرَدْت أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَحُدَّ. [مَسْأَلَةٌ مُطَالَبَةُ الِابْنِ بِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْ أُمِّهِ] (7238) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قُذِفَتْ الْمَرْأَةُ، لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ، إذَا كَانَتْ الْأُمُّ فِي الْحَيَاةِ) . وَإِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً، حُدَّ الْقَاذِفُ إذَا طَالَبَ الِابْنُ، وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا. أَمَّا إذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ، فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَلَا يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي، فَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ، كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. وَأَمَّا إنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، وَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِيهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمَنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الْمَجْنُونِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا، فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ، وَيَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَقْذِفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَدَّ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ إذَا كَانَ حَيًّا، فَلَأَنْ لَا يُحَدَّ بِقَذْفِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْلَى. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُلَاعِنَةِ: «وَمَنْ رَمَى وَلَدَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ» . يَعْنِي: مَنْ رَمَاهُ بِأَنَّهُ وَلَدُ زِنًا. وَإِذَا وَجَبَ بِقَذْفِ ابْنِ الْمُلَاعِنَةِ بِذَلِكَ، فَبِقَذْفِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ، إذَا كَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ، وَالْحَدُّ إنَّمَا وَجَبَ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ. فَأَمَّا إنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إذَا قَالَ لِكَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ: لَسْت لِأَبِيكَ، وَأَبَوَاهُ حُرَّانِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 مُسْلِمَانِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدٍ، أُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ: لَسْت لِأَبِيك. فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِلْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ أَنْ يُحَدَّ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا قَذْفٌ لِأُمِّهِ، فَيُعْتَبَرُ إحْصَانُهَا دُونَ إحْصَانِهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً، كَانَ الْقَذْفُ لَهَا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَيِّتَةً؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أُمَّك زَنَتْ، فَأَتَتْ بِك مِنْ الزِّنَا، فَإِذَا كَانَ مِنْ الزِّنَا مَنْسُوبًا إلَيْهَا، كَانَتْ هِيَ الْمَقْذُوفَةَ دُونَ وَلَدِهَا. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَهَا، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، وَالْعَبْدَ لَا يَرِثُ الْحُرَّ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْحَدَّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، فَيَثْبُتُ أَنَّ الْقَذْفَ لَهُ، فَيُعْتَبَرُ إحْصَانُهُ دُونَ إحْصَانِهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ مُطَالَبَةُ الِابْنِ بِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْ جَدَّتِهِ] (7239) فَصْلٌ: وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ، فَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ كَقَذْفِ أُمِّهِ، إنْ كَانَتْ حَيَّةً، فَالْحَقُّ لَهَا، وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُهَا، وَلَيْسَ لِغَيْرِهَا الْمُطَالَبَةُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ إذَا كَانَ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ. فَأَمَّا إنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ، أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ، لِنَفْيِ نَسَبِهِ، لَا حَقًّا لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ، وَاعْتُبِرَ إحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ، لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا، فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنًا، فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، كَالْحَيِّ. وَلَنَا أَنَّهُ قَذْفُ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ، كَالْمَجْنُونِ، أَوْ نَقُولُ: قَذَفَ مَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لَهُ، فَلَمْ يَجِبْ، كَقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَفَارَقَ قَذْفَ الْحَيِّ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ] (7240) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا) يَعْنِي أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ. أَحْمَدُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ تَوْبَتَهُ تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ رِدَّةٌ، وَالْمُرْتَدُّ يُسْتَتَابُ، وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا حَدُّ قَذْفٍ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، كَقَذْفِ غَيْرِ أُمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَسَقَطَ حَدُّهُ، لَكَانَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنْ قَذْفِ آحَادِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ قَذْفَ غَيْرِهِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا إذَا كَانَ الْقَاذِفُ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ حَدُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 قَذْفٍ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ، كَقَذْفِ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُفْرِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ، فَسَبُّ نَبِيِّهِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْخِلَافُ فِي سُقُوطِ الْقَتْلِ عَنْهُ، فَأَمَّا تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَقْبُولَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَالْحُكْمُ فِي قَذْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْحُكْمِ فِي قَذْفِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ قَذْفَ أُمِّهِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ؛ لِكَوْنِهِ قَذْفًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْحًا فِي نَسَبِهِ. (7241) فَصْلٌ: وَقَذْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَذْفُ أُمِّهِ، رِدَّةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَخُرُوجٌ عَنْ الْمِلَّةِ، وَكَذَلِكَ سَبُّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ، إلَّا أَنَّ سَبَّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، فَسَبُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ «، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي، أَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ» . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ إسْلَامَ النَّصْرَانِيِّ الْقَائِلِ لِهَذَا الْقَوْلِ يَمْحُو ذَنْبَهُ. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ] (7242) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ إذَا طَالَبُوا، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لَهُ حَدٌّ كَامِلٌ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ، وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا، فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفِينَ بِحَدِّهِ لِلْآخَرِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ إنْ طَلَبُوهُ جُمْلَةً، حُدَّ لَهُمْ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ، أُقِيمَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ بِهِ اسْتَوْفَى وَسَقَطَ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ الطَّلَبُ بِهِ، كَحَقِّ الْمَرْأَةِ، عَلَى أَوْلِيَائِهَا تَزْوِيجُهَا، إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَإِنْ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ، فَلِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَاسْتِيفَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ عَنْهُ لَمْ تَزُلْ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُمْ إنْ طَلَبُوهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إنْ طَلَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقَمْ حَتَّى طَلَبَهُ الْكُلُّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ، فَأُقِيمَ لَهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ آخَرُ أُقِيمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَلَبِهِ، وَقَعَ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَهُ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَاقِينَ بِغَيْرِ اسْتِيفَائِهِمْ وَلَا إسْقَاطِهِمْ. [فَصْلٌ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَاتٍ] (7243) فَصْلٌ: وَإِنْ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَاتٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ حَمَّادٌ، وَمَالِكٌ: لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ تُوجِبُ حَدًّا، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ كَفَى حَدٌّ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ، أَوْ زَنَى بِنِسَاءٍ، أَوْ شَرِبَ أَنْوَاعًا مِنْ الْمُسْكِرِ. وَلَنَا أَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ. وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. [فَصْلٌ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ] (7244) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ. فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ، ثَبَتَ الْحَقُّ لِوَلَدِهِمَا، وَلَمْ يَجِبْ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ قَالَ: يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِي. فَهُوَ قَذْفٌ لَهُمَا بِكَلِمَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدٌّ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَالظَّاهِرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ. وَإِنْ قَالَ: يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِيَةِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ فِي الْحَيَاةِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، فَالْقَذْفَانِ جَمِيعًا لَهُ. وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت بِفُلَانَةَ. فَهُوَ قَذْفٌ لَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا نَاكِحَ أُمِّهِ. وَيُخَرَّجُ فِيهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ قَذَفَ رَجُلًا مَرَّاتٍ] (7245) فَصْلٌ: وَإِنْ قَذَفَ رَجُلًا مَرَّاتٍ، فَلَمْ يُحَدَّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ، أَوْ بِزَنْيَاتٍ. وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ، ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ، نَظَرْت، فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ، لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَنَّهُ أَوْجَبَ حَدًّا ثَانِيًا. وَهَذَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، أَعَادَ قَذْفَهُ فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَكَبُرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: شَاطَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ، فَقَالَ: مَا عِنْدَك؟ فَلَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى أَنْ أَتَاك رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ. فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّك إنْ أَعَدْت عَلَيْهِ الْجَلْدَ، أَوْجَبْت عَلَيْهِ الرَّجْمَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَلَا يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: قَوْلَ عَلِيٍّ: إنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ صَاحِبَك؟ قَالَ: كَأَنَّهُ جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكُنْت أَنَا أُفَسِّرُهُ عَلَى هَذَا، حَتَّى رَأَيْته فِي الْحَدِيثِ، فَأَعْجَبَنِي. ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ إذَا جَلَدْتَهُ ثَانِيَةً، فَكَأَنَّك جَعَلْتَهُ شَاهِدًا آخَرَ فَأَمَّا إنْ حُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ، فَحَدٌّ ثَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: يُحَدُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ قَالَ مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ] (7246) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ. فَرَمَاهُ رَجُلٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ. فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا. وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُهُ فِي قَذْفِهِمْ، مِثْلُ أَنْ يَقْذِفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ كَثِيرَةٍ بِالزِّنَا كُلَّهُمْ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْ الْعَارَ بِأَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ، لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَهُ فَأَنْكَرَ] (7247) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَهُ، فَأَنْكَرَ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ، حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالدَّيْنِ. وَوَجْهُ الْأُولَى: أَنَّهُ حَدٌّ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ. فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ أَوْ أَتَى حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ] (7248) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ، أَوْ أَتَى حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، لَمْ يُبَايَعْ وَلَمْ يُشَارَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ قَتْلًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ، لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْقَتْلِ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 إحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ: يُسْتَوْفَى. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْ الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَلَا يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ.» وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ، فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ. وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتهَا مُفْرَدَةً لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي الْحَرَمِ، إلَّا الْقَتْلَ. وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدُّ جِنَايَتِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَإِنْ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالْجِنَايَةِ فِيهِ، هُتِكَتْ حُرْمَتُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ؛ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ وَلَا دَمٍ» «. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ ابْنِ حَنْظَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ دَمُهُ لِعِصْيَانِهِ، فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] . يَعْنِي الْحَرَمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] . وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْخَبَرُ، لَأَفْضَى إلَى وُقُوعِ الْخَبَرِ خِلَافَ الْمُخْبَرِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا، فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَالْحُجَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَرَّمَ سَفْكَ الدَّمِ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَخْصِيصُ مَكَّةَ بِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعُمُومَ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ، لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ مَكَّةَ، فَلَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: «وَإِنَّمَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا.» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أُحِلَّ لَهُ سَفْكُ دَمٍ حَلَالٍ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَحَرَّمَهَا الْحَرَمُ، ثُمَّ أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً، ثُمَّ عَادَتْ الْحُرْمَةُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِمَنْعِهِ قِيَاسَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ.» وَهَذَا يَدْفَعُ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَتْلِ ابْنِ حَنْظَلٍ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رُخْصَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِيهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا رَوَوْهُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يَرُدُّ بِهِ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَوَى لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وَأَمَّا جَلْدُ الزَّانِي، وَقَطْعُ السَّارِقِ، وَالْأَمْرُ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَكَانًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَكَان، فَيُمْكِنُ إقَامَتُهُ فِي مَكَان غَيْرِ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عُمُومًا، فَإِنَّ مَا رَوَيْنَاهُ خَاصٌّ يُخَصُّ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِمَّا ذَكَرُوهُ الْحَامِلُ، وَالْمَرِيضُ الْمَرْجُوُّ بُرْؤُهُ، فَتَأَخَّرَ الْحَدُّ عَنْهُ، وَتَأَخَّرَ قَتْلُ الْحَامِلِ، فَجَازَ أَنْ يُخَصَّ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُ الْأَذَى، فَلَمْ يُحَرِّمْهُ الْحَرَمُ لِيُدْفَعَ أَذَاهُ عَنْ أَهْلِهِ، فَأَمَّا الْأَذَى، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ، وَحُرْمَتُهُ عَظِيمَةٌ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِعَارِضٍ، فَأَشْبَهَ الصَّائِلَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ، فَإِنَّ الْحَرَمَ يَعْصِمُهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُؤْوَى، وَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَاخْرُجْ إلَى الْحِلِّ؛ لِيُسْتَوْفَى مِنْك الْحَقُّ الَّذِي قِبَلَك. فَإِذَا خَرَجَ اُسْتُوْفِيَ حَقُّ اللَّهِ مِنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُطْعِمَ وَأُوِيَ، لَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ دَائِمًا، فَيَضِيعَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَإِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ وَسِيلَةً إلَى خُرُوجِهِ، فَيُقَامَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ عَلَيْنَا إطْعَامُهُ، كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُصَادُ فِي الْحَرَمِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا الْقِيَامُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ أَصَابَ حَدًّا، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يُجَالَسُ، وَلَا يُبَايَعُ، وَلَا يُؤْوَى، وَيَأْتِيهِ مَنْ يَطْلُبُهُ، فَيَقُولُ: أَيْ فُلَانُ، اتَّقِ اللَّهَ. فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. فَإِنْ قَتَلَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَرَمِ، وَأَقَامَ حَدًّا بِجَلْدٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ، أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ أَوْ أَتَى حَدًّا فِي الْحَرَمِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ، أَوْ أَتَى حَدًّا فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ.) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، بِجِنَايَةٍ فِيهِ تُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّهَا، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] . فَأَبَاحَ قَتْلَهُمْ عِنْدَ قِتَالِهِمْ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَحْتَاجُونَ إلَى الزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي كَغَيْرِهِمْ، حِفْظًا لِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَدُّ فِي حَقِّ مَنْ ارْتَكَبَ الْحَدَّ فِي الْحَرَمِ، لَتَعَطَّلَتْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ، وَفَاتَتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْجَانِيَ فِي الْحَرَمِ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ، فَلَا يَنْتَهِضُ الْحَرَمُ لِتَحْرِيمِ ذِمَّتِهِ وَصِيَانَتِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي فِي دَارِ الْمَلِكِ، لَا يُعْصَمُ لِحُرْمَةِ الْمَلِكِ، بِخِلَافِ الْمُلْتَجِئِ إلَيْهَا بِجِنَايَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا. [فَصْلٌ حَرَمُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ هَلْ يَمْنَعُ إقَامَةَ الْحَدِّ] (7250) فَصْلٌ: فَأَمَّا حَرَمُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَمْنَعُ إقَامَةَ حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبِقَاعِ، لَا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ، وَلَا إقَامَةِ حَدٍّ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ مُطْلَقٌ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، خَرَجَ مِنْهَا الْحَرَمُ لِمَعْنًى لَا يَكْفِي فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْأَنْسَاكِ وَقِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ بَيْتُ اللَّهِ الْمَحْجُوجُ، وَأَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَمَقَامُ، إبْرَاهِيمَ، وَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، فَلَا يُلْتَحَقُ بِهِ سِوَاهُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [بَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ] ِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ، نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 [مَسْأَلَةٌ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَجِبُ إلَّا بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ] (7251) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ مِنْ الْعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الْوَرِقِ، أَوْ قِيمَةَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ، قُطِعَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقَطْعِ لَا يَجِبُ إلَّا بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ؛ أَحَدُهَا: السَّرِقَةُ، وَمَعْنَى السَّرِقَةِ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخِفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ. وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، وَمُسَارَقَةُ النَّظَرِ، إذَا كَانَ يَسْتَخْفِي بِذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَطَفَ أَوْ اخْتَلَسَ، لَمْ يَكُنْ سَارِقًا، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ غَيْرَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: أَقْطَعُ الْمُخْتَلِسَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْفِي بِأَخْذِهِ، فَيَكُونُ سَارِقًا، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَهَذَا غَيْرُ سَارِقٍ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ نَوْعٌ مِنْ الْخَطْفِ وَالنَّهْبِ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْفِي فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلَاسِهِ، بِخِلَافِ السَّارِقِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ، فَعَنْهُ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَطْعِ يَدِهَا، فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا أَرَاك تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا، فَقَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَطَعْت يَدَهَا. قَالَتْ: فَقَطَعَ يَدَهَا» . قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا، وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ عَلَى الْخَائِنِ» . وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَالْجَاحِدُ غَيْرُ سَارِقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَائِنٌ، فَأَشْبَهَ جَاحِدَ الْوَدِيعَةِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ إنَّمَا قُطِعَتْ لِسَرِقَتِهَا، لَا بِجَحْدِهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: «إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ» . وَقَوْلَهُ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْت يَدَهَا» . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ رِوَايَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَذَكَرَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 الْقِصَّةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهَا سَرَقَتْ قَطِيفَةً، فَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمْنَا ذَلِكَ، وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَجِئْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: نَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. قَالَ: تُطَهَّرَ خَيْرٌ لَهَا. فَلَمَّا سَمِعْنَا لِينَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، أَتَيْنَا أُسَامَةَ، فَقُلْنَا: كَلِّمْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ سِيَاقِ عَائِشَةَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهَا سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ بِسَرِقَتِهَا، وَإِنَّمَا عَرَّفَتْهَا عَائِشَةُ بِجَحْدِهَا لِلْعَارِيَّةِ؛ لِكَوْنِهَا مَشْهُورَةً بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا، كَمَا لَوْ عَرَّفَتْهَا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَمُوَافَقَةٌ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ وَالْقِيَاسِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. فَأَمَّا جَاحِدُ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا، وَلَا قَطْعَ فِي الْقَلِيلِ، فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ، إلَّا الْحَسَنَ، وَدَاوُد، وَابْنَ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَالْخَوَارِجَ، قَالُوا: يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ سَارِقٌ مِنْ حِرْزٍ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، كَسَارِقِ الْكَثِيرِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ، وَالْحَبْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُسَاوِيَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضَةُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا بَيْضَةُ السِّلَاحِ، وَهِيَ تُسَاوِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِ النِّصَابِ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، فَرَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْوَرِقِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، أَنَّهُ إنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، مَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ. فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ غَيْرُ الْأَثْمَانِ بِأَدْنَى الْأَمْرَيْنِ، مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْأَصْلَ الْوَرِقُ، وَيُقَوَّمُ الذَّهَبُ بِهِ، فَإِنْ نَقَصَ رُبْعُ دِينَارٍ عَنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 وَهَذَا يُحْكَى عَنْ اللَّيْثِ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.» وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي دِرْهَمٍ، فَمَا فَوْقَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ الْخَمْسَ لَا تُقْطَعُ إلَّا فِي الْخَمْسِ. وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ، أَوْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِمَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي عَشْرَةِ دَرَاهِمَ» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ رَجُلٍ فِي مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ دِينَارٌ، أَوْ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ» . وَعَنْ النَّخَعِيِّ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. وَحَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ يَرْوِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ عَنْ الْحَجَّاجِ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِمَا دُونَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَطْعَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْجَبَهُ بِعَشْرَةٍ، وَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْعَرْضَ يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْمِجَنَّ قُوِّمَ بِهَا؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ الذَّهَبُ فِيهِ أَصْلًا، كَانَ الْوَرِقُ فِيهِ أَصْلًا، كَنُصُبِ الزَّكَاةِ، وَالدِّيَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ، أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ مِجَنًّا مَا يَسُرُّنِي أَنَّهُ لِي بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ مَا يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَطَعَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَأُتِيَ عُثْمَانُ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَأُقِيمَتْ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا رُبْعَ دِينَارٍ، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ فَقُطِعَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 [فَصْلٌ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ مِنْ الْمَضْرُوبِ الْخَالِصِ] (7252) فَصْلٌ: وَإِذَا سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ مِنْ الْمَضْرُوبِ الْخَالِصِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ غِشٌّ أَوْ تِبْرٌ يَحْتَاجُ إلَى تَصْفِيَةٍ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ حَتَّى يَبْلُغَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ رُبْعَ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ السَّبْكَ يَنْقُصُهُ. وَإِنْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ قُرَاضَةً، أَوْ تِبْرًا خَالِصًا، أَوْ حُلِيًّا، فَفِيهِ الْقَطْعُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ، قَالَ قُلْت لَهُ: كَيْفَ يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ؟ فَقَالَ: قِطْعَةَ ذَهَبٍ، أَوْ خَاتَمًا، أَوْ حُلِيًّا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ احْتِمَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ. وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ رُبْعُ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: دِينَارٌ قُرَاضَةٌ، وَمُكَسَّرٌ، أَوْ دِينَارٌ خَالِصٌ. وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ سَرِقَةُ رُبْعِ دِينَارٍ مُفْرَدٍ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَكْسُورًا. وَقَدْ أُوجِبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَعَلَّقَ بِالْمَضْرُوبِ، فَتَعَلَّقَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْرُوبٍ، كَالزَّكَاةِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْمَكْسُورِ وَالتِّبْرِ مَا لَا يُسَاوِي رُبْعَ دِينَارٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ فَفِيهِ الْقَطْعُ. وَالدِّينَارُ هُوَ الْمِثْقَالُ مِنْ مَثَاقِيلِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَهُوَ الَّذِي كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْلَهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مُخْتَلِفَةً، فَجُمِعَتْ وَجُعِلَتْ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ، فَهِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِثَلَاثَةٍ مِنْهَا، إذَا كَانَتْ خَالِصَةً، مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الذَّهَبِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصَابَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَضْرُوبِ مِنْهَا، وَقَدْ ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ فِي الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَتَنَاوَلُ الصِّحَاحَ الْمَضْرُوبَةَ، بِخِلَافِ رُبْعِ الدِّينَارِ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيهَا احْتِمَالًا مُتَقَدِّمًا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَمَا قُوِّمَ مِنْ غَيْرِهِمَا بِهِمَا، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، حَتَّى يَبْلُغَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ صِحَاحًا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمَضْرُوبِ دُونَ الْمُكَسَّرِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا، فَإِنْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْحُرِّ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَبِهَذَا قَالَ، الشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ، أَشْبَهَ الْعَبْدَ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، كَالْكَبِيرِ النَّائِمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ أَوْ ثِيَابٌ تَبْلُغُ نِصَابًا، لَمْ يُقْطَعْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ أ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 صْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يُقْطَعُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ الْحَلْيِ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ سَرَقَهُ مُنْفَرِدًا. وَلَنَا أَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ، أَشْبَهَ ثِيَابَ الْكَبِيرِ؛ وَلِأَنَّ يَدَ الصَّبِيِّ عَلَى مَا عَلَيْهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُوجَدُ مَعَ اللَّقِيطِ يَكُونُ لَهُ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْكَبِيرُ نَائِمًا عَلَى مَتَاعٍ، فَسَرَقَهُ وَمَتَاعَهُ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا] (7253) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ. وَالصَّغِيرُ الَّذِي يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، هُوَ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِمًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الطَّاعَةِ، فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ كَبِيرًا، لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ صَغِيرًا، كَالْحُرِّ. وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَمْلُوكًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا، فَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. وَفَارَقَ الْحُرَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ. وَفَارَقَ الْكَبِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ لَا يُسْرَقُ، وَإِنَّمَا يُخْدَعُ بِشَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ، بِنَوْمٍ، أَوْ جُنُونٍ، فَتَصِحُّ سَرِقَتُهُ، وَيُقْطَعُ سَارِقُهُ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ فِي حَالِ نَوْمِهِ أَوْ جُنُونِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَفِي قَطْعِ سَارِقِهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهَا، وَلَا نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّةَ. وَالثَّانِي: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَأَشْبَهَتْ الْقِنَّ. وَحُكْمُ الْمُدَبَّرِ حُكْمُ الْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ: فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ، وَلَا اسْتِخْدَامَهُ، وَلَا أَخْذَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ لَهُ الْأَرْشُ، وَلَوْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ كَرْهًا، لَزِمَهُ عِوَضُهَا، وَلَوْ حَبَسَهُ لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ حَبْسِهِ، أَوْ إنْظَارُهُ مِقْدَارَ مُدَّةِ حَبْسِهِ. وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِأَجْلِ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ. وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ ثَابِتٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ سَيِّدَهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ حَقًّا وَشُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ لَمْ يُحَدَّ. [فَصْلٌ سَرَقَ مَاءً] فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ مَاءً، فَلَا قَطْعَ فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً وَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ سَرَقَ كَلَأً أَوْ مِلْحًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْمَاءَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا: فِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً، فَأَشْبَهَ التِّبْنَ وَالشَّعِيرَ. وَأَمَّا الثَّلْجُ: فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ كَالْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَامِدٌ، فَأَشْبَهَ الْجَلِيدَ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً، فَهُوَ كَالْمِلْحِ الْمُنْعَقِدِ مِنْ الْمَاءِ. وَأَمَّا التُّرَابُ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ، كَاَلَّذِي يُعَدُّ لِلتَّطْيِينِ وَالْبِنَاءِ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ كَثِيرَةٌ، كَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، الَّذِي يُعَدُّ لِلدَّوَاءِ، أَوْ الْمُعَدِّ لِلْغَسْلِ بِهِ، أَوْ الصَّبْغِ كَالْمَغْرَةِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَتَمَوَّلُ، أَشْبَهَ الْمَاءَ. وَالثَّانِي: فِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً، وَيُحْمَلُ إلَى الْبُلْدَانِ لِلتِّجَارَةِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ. وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ السِّرْجِينِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نَجِسًا فَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا، فَلَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً، وَلَا تَكْثُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ التُّرَابَ الَّذِي لِلْبِنَاءِ، وَمَا عُمِلَ مِنْ التُّرَابِ كَاللَّبِنِ وَالْفَخَّارِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً. [فَصْلٌ الْأَمْوَالُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ إذَا سُرِقَتْ] (7255) فَصْلٌ: وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ الْأَمْوَالِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ، سَوَاءٌ كَانَ طَعَامًا، أَوْ ثِيَابًا، أَوْ حَيَوَانًا، أَوْ أَحْجَارًا، أَوْ قَصَبًا، أَوْ صَيْدًا، أَوْ نُورَةً، أَوْ جِصًّا، أَوْ زِرْنِيخًا، أَوْ تَوَابِلَ، أَوْ فَخَّارًا، أَوْ زُجَاجًا، أَوْ غَيْرَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، كَالْفَوَاكِهِ، وَالطَّبَائِخِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا مُعَرِّضٌ لِلْهَلَاكِ، أَشْبَهَ مَا لَمْ يُحْرَزْ. وَلَا قَطْعَ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَالصَّيُّودِ، وَالْخَشَبِ، إلَّا فِي السَّاجِ وَالْآبُنُوسِ، وَالصَّنْدَلِ، وَالْقَنَا، وَالْمَعْمُولِ مِنْ الْخَشَبِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ. وَمَا عَدَا هَذَا لَا يُقْطَعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ التُّرَابَ. وَلَا قَطْعَ فِي الْقُرُونِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْمُولَةً؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَا تَكُونُ غَالِبَةً عَلَيْهَا، بَلْ الْقِيمَةُ لَهَا، بِخِلَافِ مَعْمُولِ الْخَشَبِ. وَلَا قَطْعَ عِنْدَهُ فِي التَّوَابِلِ، وَالنُّورَةِ، وَالْجِصِّ، وَالزِّرْنِيخِ، وَالْمِلْحِ وَالْحِجَارَةِ، وَاللَّبِنِ، وَالْفَخَّارِ، وَالزُّجَاجِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَا يَفْسُدُ فِي يَوْمِهِ، كَالثَّرِيدِ وَاللَّحْمِ، لَا قَطْعَ فِيهِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ سَرَقَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ الْقَطْعُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَأُقِيمَتْ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا رُبْعَ دِينَارٍ، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ فَقُطِعَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ، وَيُرْغَبُ فِيهِ، فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ إذَا اجْتَمَعْت الشُّرُوطُ، كَالْمُجَفَّفِ؛ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي مَعْمُولِهِ، وَجَبَ فِيهِ قَبْلَ الْعَمَلِ، كَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ الثَّمَرَ الْمُعَلَّقَ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ، وَتَشْبِيهُهُ بِغَيْرِ الْمُحْرَزِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْرَزِ مُضَيَّعٌ، وَهَذَا مَحْفُوظٌ، وَلِهَذَا افْتَرَقَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ بِالْحِرْزِ وَعَدَمِهِ. وَقَوْلُهُمْ: يُوجَدُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. يُنْتَقَضُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ. وَالتُّرَابُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ. [فَصْلٌ سَرَقَ مُصْحَفًا] (7256) فَصْلٌ: فَإِنْ سَرَقَ مُصْحَفًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي: لَا قَطْعَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وُجُوبَ قَطْعِهِ، وَقَالَ: هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَرَقَ كِتَابًا فِيهِ عِلْمٌ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَقَالَ: كُلُّ مَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فِيهِ الْقَطْعُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِي كُلِّ سَارِقٍ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ، تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ الْمُصْحَفُ مُحَلًّى بِحِلْيَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ، عِنْدَ مَنْ لَمْ يَرَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُقْطَعُ. وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا، وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحُلِيَّ تَابِعَةٌ لِمَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، أَشْبَهَتْ ثِيَابَ الْحُرِّ. وَالثَّانِي: يُقْطَعُ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ الْحُلِيِّ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَهُ مُنْفَرِدًا. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ حَلْيٌ. [فَصْلٌ سَرَقَ عَيْنًا مَوْقُوفَةً] (7257) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ عَيْنًا مَوْقُوفَةً، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْطَعَ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ، وَيُخْرِجَهُ مِنْهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافَهُمْ، إلَّا قَوْلًا حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 وَالنَّخَعِيِّ، فِيمَنْ جَمَعَ الْمَتَاعَ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الْحِرْزِ، عَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَفْصِيلَ فِيهَا. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ، غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابِتٌ، وَلَا مَقَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ «، أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثِّمَارِ، فَقَالَ: مَا أُخِذَ فِي غَيْرِ أَكْمَامِهِ فَاحْتُمِلَ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمَا كَانَ فِي الْخَزَائِنِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْخَبَرُ يَخُصُّ الْآيَةَ، كَمَا خَصَّصْنَاهَا فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ. إذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ، وَالْحِرْزُ مَا عُدَّ حِرْزًا فِي الْعُرْفِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى بَيَانِهِ، عُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ، كَمَا رَجَعْنَا إلَيْهِ، فِي مَعْرِفَةِ الْقَبْضِ وَالْفُرْقَةِ فِي الْبَيْعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مِنْ حِرْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الصَّنَادِيقُ تَحْتَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ الْوَثِيقَةِ فِي الْعُمْرَانِ، وَحِرْزُ الثِّيَابِ، وَمَا خَفَّ مِنْ الْمَتَاعِ، كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، فِي الدَّكَاكِينِ، وَالْبُيُوتِ الْمُقْفَلَةِ فِي الْعُمْرَانِ، أَوْ يَكُونُ فِيهَا حَافِظٌ، فَيَكُونُ حِرْزًا، وَإِنْ كَانَتْ مَفْتُوحَةً. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُغْلَقَةً وَلَا فِيهَا حَافِظٌ، فَلَيْسَتْ بِحِرْزٍ. وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا خَزَائِنُ مُغْلَقَةٌ، فَالْخَزَائِنُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، وَمَا خَرَجَ عَنْهَا فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غَلَقٌ، يُسْرَقُ مِنْهُ: أَرَاهُ سَارِقًا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَهُ فِيهِ، فَأَمَّا الْبُيُوتُ الَّتِي فِي الْبَسَاتِينِ أَوْ الطُّرُقِ أَوْ الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ فَلَيْسَتْ حِرْزًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُغْلَقَةً أَوْ مَفْتُوحَةً؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِي مَكَان خَالٍ مِنْ النَّاسِ وَالْعُمَرَانِ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ لَا يُعَدُّ حَافِظًا لَهُ، وَإِنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُهَا أَوْ حَافِظٌ، فَهِيَ حِرْزٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُغْلَقَةً أَوْ مَفْتُوحَةً. وَإِذَا كَانَ لَابِسًا لِلثَّوْبِ، أَوْ مُتَوَسِّدًا لَهُ، نَائِمًا، أَوْ مُسْتَيْقِظًا، أَوْ مُفْتَرِشًا لَهُ، أَوْ مُتَّكِئًا عَلَيْهِ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَلَدِ، أَوْ بَرِّيَّةٍ، فَهُوَ مُحْرَزٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ رِدَاءَ صَفْوَانَ سُرِقَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ لَهُ، فَقَطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَارِقَهُ. وَإِنْ تَدَحْرَجَ عَنْ الثَّوْبِ، زَالَ الْحِرْزُ إنْ كَانَ نَائِمًا، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمَتَاعِ، كَبَزِّ الْبَزَّازِينَ، وَقُمَاشِ الْبَاعَةِ، وَخُبْزِ الْخَبَّازِينَ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ، وَيَنْظُرُ إلَيْهِ، فَهُوَ مُحْرَزٌ، وَإِنْ نَامَ، أَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِ مُشَاهَدَتِهِ، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ. وَإِنْ جَعَلَ الْمَتَاعَ فِي الْغَرَائِرِ، وَعَلَّمَ عَلَيْهَا، وَمَعَهَا حَافِظٌ يُشَاهِدُهَا، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 [فَصْلٌ سَرَقَ الْخَيْمَةَ والخركاه وَكَانَ فِيهَا أَحَدٌ نَائِمًا أَوْ مُنْتَبِهًا] (7258) فَصْلٌ: وَالْخَيْمَةُ والخركاه إنْ نُصِبَتْ، وَكَانَ فِيهَا أَحَدٌ نَائِمًا أَوْ مُنْتَبِهًا، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا هَكَذَا تُحْرَزُ فِي الْعَادَةِ، وَإِنْ [لَمْ] يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ، وَلَا عِنْدَهَا حَافِظٌ، فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا. وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ الْفُسْطَاطِ؛ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْفُسْطَاطِ، دُونَ سَارِقِ الْفُسْطَاطِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُحْرَزٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، أَشْبَهَ مَا فِيهِ. [فَصْلٌ حِرْزُ الْبَقْلِ وَقُدُورِ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوِهَا] (7259) فَصْلٌ: وَحِرْزُ الْبَقْلِ، وَقُدُورِ الْبَاقِلَاءِ، وَنَحْوِهَا بِالشَّرَائِحِ مِنْ الْقَصَبِ أَوْ الْخَشَبِ، إذَا كَانَ فِي السُّوقِ حَارِسٌ، وَحِرْزُ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَالْقَصَبِ فِي الْحَظَائِرِ، وَتَعْبِئَةُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَتَقْيِيدُهُ بِقَيْدٍ، بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي فُنْدُقٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُحْرَزًا وَإِنْ لَمْ يُقَيَّدْ. [فَصْلٌ حِرْزُ الْإِبِلِ] (7260) فَصْلٌ: وَالْإِبِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرَابٍ؛ بَارِكَةٌ، وَرَاعِيَةٌ، وَسَائِرَةٌ، فَأَمَّا الْبَارِكَةُ: فَإِنْ كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ لَهَا، وَهِيَ مَعْقُولَةٌ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً، وَكَانَ الْحَافِظُ نَاظِرًا إلَيْهَا، أَوْ مُسْتَيْقِظًا بِحَيْثُ يَرَاهَا، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا، أَوْ مَشْغُولًا عَنْهَا، فَلَيْسَتْ مُحْرَزَةً؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرُّعَاةَ إذَا أَرَادُوا النَّوْمَ عَقَلُوا إبِلَهُمْ؛ وَلِأَنَّ حَلَّ الْمَعْقُولَةِ يُنَبِّهُ النَّائِمَ وَالْمُشْتَغِلَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ، فَهِيَ غَيْرُ مُحْرَزَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْقُولَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَأَمَّا الرَّاعِيَةُ: فَحِرْزُهَا بِنَظَرِ الرَّاعِي إلَيْهَا، فَمَا غَابَ عَنْ نَظَرِهِ، أَوْ نَامَ عَنْهُ، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ؛ لِأَنَّ الرَّاعِيَةَ إنَّمَا تُحْرَزُ بِالرَّاعِي وَنَظَرِهِ، وَأَمَّا السَّائِرَةُ: فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يَسُوقُهَا، فَحِرْزُهَا نَظَرُهُ إلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَطَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُقَطَّرَةٍ. وَمَا كَانَ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ. وَإِنْ كَانَ مَعَهَا قَائِدٌ، فَحِرْزُهَا أَنْ يُكْثِرَ الِالْتِفَاتَ إلَيْهَا، وَالْمُرَاعَاةَ لَهَا، وَيَكُونَ بِحَيْثُ يَرَاهَا إذَا الْتَفَتَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحْرِزُ الْقَائِدُ إلَّا الَّتِي زِمَامُهَا بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ، وَلَا يَرَاهَا إلَّا نَادِرًا، فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي حِفْظِ الْإِبِلِ الْمُقَطَّرَةِ بِمُرَاعَاتِهَا، بِالِالْتِفَاتِ، وَإِمْسَاكِ زِمَامِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا، كَاَلَّتِي زِمَامُهَا فِي يَدِهِ. فَإِنْ سَرَقَ مِنْ أَحْمَالِ الْجِمَالِ السَّائِرَةِ الْمُحْرَزَةِ مَتَاعًا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، قُطِعَ، وَكَذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 إنْ سَرَقَ الْجَمَلَ، وَإِنْ سَرَقَ الْجَمَلَ بِمَا عَلَيْهِ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ نَائِمًا عَلَيْهِ، قُطِعَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْحِمْلِ مُحْرَزٌ بِهِ، فَإِذَا أَخَذَ جَمِيعَهُ، لَمْ يَهْتِكْ حِرْزَ الْمَتَاعِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ سَرَقَ أَجْزَاءَ الْحِرْزِ. وَلَنَا أَنَّ الْجَمَلَ مُحْرَزٌ بِصَاحِبِهِ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا، فَقَدْ سَرَقَهُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ الْمَتَاعَ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَرِقَةَ الْحِرْزِ مِنْ حِرْزِهِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ، فَإِنَّهُ لَوْ سَرَقَ الصُّنْدُوقَ بِمَا فِيهِ مِنْ بَيْتٍ هُوَ مُحْرَزٌ فِيهِ، وَجَبَ قَطْعُهُ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْإِبِلِ الَّتِي فِي الصَّحْرَاءِ، فَأَمَّا الَّتِي فِي الْبُيُوتِ وَالْمَكَانِ الْمُحْصَنِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الثِّيَابِ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ. وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْمَوَاشِي كَالْحُكْمِ فِي الْإِبِلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهَا. [فَصْلٌ سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ وَلَا حَافِظَ فِيهِ] (7261) فَصْلٌ: وَإِذَا سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ، وَلَا حَافِظَ فِيهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ حَافِظٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ عَلَى سَارِقِ الْحَمَّامِ قَطْعٌ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْحَمَّامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَتَاعِ قَاعِدٌ، مِثْلَ مَا صُنِعَ بِصَفْوَانَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ، فَجَرَى مَجْرَى سَرِقَةِ الضَّيْفِ مِنْ الْبَيْتِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي دُخُولِهِ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ النَّاسِ إلَيْهِ يَكْثُرُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْحَافِظُ مِنْ حِفْظِ مَا فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ إذَا كَانَ فِيهِ حَافِظٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ مَتَاعٌ لَهُ حَافِظٌ، فَيَجِبُ قَطْعُ سَارِقِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهَذَا يُفَارِقُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ صَاحِبُ الثِّيَابِ قَاعِدًا عَلَيْهَا، أَوْ مُتَوَسِّدًا لَهَا، أَوْ جَالِسًا وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْفَظُهَا، قُطِعَ سَارِقُهَا بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا قُطِعَ سَارِقُ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَائِبُ صَاحِبِ الثِّيَابِ، إمَّا الْحَمَّامِيُّ وَإِمَّا غَيْرُهُ حَافِظًا لَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قُطِعَ سَارِقُهَا؛ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ نَزَعَ الدَّاخِلُ ثِيَابَهُ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلَمْ يَسْتَحْفِظْهَا لِأَحَدٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا، وَلَا غُرْمَ عَلَى الْحَمَّامِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُودَعٍ فَيَضْمَنَ، وَلَا هِيَ مُحْرَزَةٌ فَيُقْطَعَ سَارِقُهَا، وَإِنْ اسْتَحْفَظَهَا الْحَمَّامِيَّ، فَهُوَ مُودَعٌ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاتُهَا بِالنَّظَرِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ تَشَاغَلَ عَنْهَا، أَوْ تَرَكَ النَّظَرَ إلَيْهَا، فَسُرِقَتْ، فَعَلَيْهِ الْغُرْمُ لِتَفْرِيطِهِ، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ حِرْزٍ. وَإِنْ تَعَاهَدَهَا الْحَمَّامِيُّ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ، فَسُرِقَتْ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ. وَلَوْ اسْتَحْفَظَ رَجُلٌ آخَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 مَتَاعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَسُرِقَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّطَ فِي مُرَاعَاتِهِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الْغُرْمُ إذَا كَانَ الْتَزَمَ حِفْظَهُ، وَأَجَابَهُ إلَى مَا سَأَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ، لَكِنْ سَكَتَ، لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ؛ لِأَنَّهُ مَا قَبِلَ الِاسْتِيدَاعَ، وَلَا قَبَضَ الْمَتَاعَ، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ. وَإِنْ حَفِظَ الْمَتَاعَ بِنَظَرِهِ إلَيْهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، فَسُرِقَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ. وَيُفَارِقُ الْمَتَاعَ فِي الْحَمَّامِ، فَإِنَّ الْحِفْظَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَضَعُ بَعْضُهُمْ ثِيَابَهُ عِنْدَ ثِيَابِ بَعْضٍ وَيَشْتَبِهُ عَلَى الْحَمَّامِيِّ صَاحِبُ الثِّيَابِ، فَلَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ أَخْذِهَا؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَالِكِهَا. [فَصْلٌ حِرْزُ حَائِطِ الدَّارِ] (7262) فَصْلٌ: وَحِرْزُ حَائِطِ الدَّارِ كَوْنُهُ مَبْنِيًّا فِيهَا، إذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ، أَوْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ وَفِيهَا حَافِظٌ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَائِطِ أَوْ خَشَبِهِ نِصَابًا فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَجَبَ قَطْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ حِرْزٌ لِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ حِرْزًا لِنَفْسِهِ. وَإِنْ هَدَمَ الْحَائِطَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمَتَاعَ فِي الْحِرْزِ وَلَمْ يَسْرِقْهُ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ حِرْزًا لِمَا فِيهَا، كَدَارٍ فِي الصَّحْرَاءِ، لَا حَافِظَ فِيهَا، فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْ حَائِطِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حِرْزًا لِمَا فِيهَا، فَلِنَفْسِهَا أَوْلَى. وَأَمَّا بَابُ الدَّارِ: فَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فِي مَكَانِهِ، فَهُوَ مُحْرَزٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُحْفَظُ، وَعَلَى سَارِقِهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُحْرَزَةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا أَبْوَابُ الْخَزَائِنِ فِي الدَّارِ، فَإِنْ كَانَ بَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَفْتُوحَةً أَوْ مُغْلَقَةً، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا، لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً، إلَّا أَنْ تَكُونَ مُغْلَقَةً، أَوْ يَكُونَ فِي الدَّارِ حَافِظٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَابِ الدَّارِ وَبَابِ الْخِزَانَةِ، أَنَّ أَبْوَابَ الْخَزَائِنِ تُحْرَزُ بِبَابِ الدَّارِ، وَبَابُ الدَّارِ لَا يُحْرَزُ إلَّا بِنَصْبِهِ، وَلَا يُحْرَزُ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا حَلْقَةُ الْبَابِ: فَإِنْ كَانَتْ مَسْمُورَةً، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهَا تُحْرَزُ بِتَسْمِيرِهَا. [فَصْلٌ سَرَقَ بَابَ مَسْجِدٍ مَنْصُوبًا أَوْ بَابَ الْكَعْبَةِ الْمَنْصُوبَ أَوْ سَرَقَ مِنْ سَقْفِهِ شَيْئًا أَوْ تَأْزِيرِهِ] (7263) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ بَابَ مَسْجِدٍ مَنْصُوبًا، أَوْ بَابَ الْكَعْبَةِ الْمَنْصُوبَ، أَوْ سَرَقَ مِنْ سَقْفِهِ شَيْئًا، أَوْ تَأْزِيرِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، صَاحِبِ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مُحْرَزًا يُحْرَزُ مِثْلُهُ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ، كَبَابِ بَيْتِ الْآدَمِيِّ. وَالثَّانِي: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ، كَحُصْرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ذَلِكَ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ، فَلَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 يُقْطَعْ بِهِ، كَالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ سِتَارَةِ الْكَعْبَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَيْسَتْ بِمَخِيطَةٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُحْرَزُ بِخِيَاطَتِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِيهَا بِحَالٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ. [فَصْلٌ أَجَّرَ دَارِهِ ثُمَّ سَرَقَ مِنْهَا مَالَ الْمُسْتَأْجِرِ] (7264) فَصْلٌ: وَإِذَا أَجَّرَ دَارِهِ، ثُمَّ سَرَقَ مِنْهَا مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ فِي مِلْكِ الْآجِرِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَلَنَا أَنَّهُ هَتَكَ حِرْزًا، وَسَرَقَ مِنْهُ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ لَهُ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَمَا قَالَاهُ لَا نُسَلِّمُهُ. وَلَوْ اسْتَعَارَ دَارًا فَنَقَبَهَا الْمُعِيرُ، وَسَرَقَ مَالَ الْمُسْتَعِيرِ مِنْهَا، قُطِعَ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مِلْكٌ لَهُ، فَمَا هَتَكَ حِرْزَ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ مَتَى شَاءَ، وَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ حِرْزًا لِمَالِ غَيْرِهِ، لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِرَدِّهِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ غَصَبَ بَيْتًا فَأَحْرَزَ فِيهِ مَالَهُ فَسَرَقَهُ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ] (7265) فَصْلٌ: وَإِنْ غَصَبَ بَيْتًا، فَأَحْرَزَ فِيهِ مَالَهُ، فَسَرَقَهُ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ بِحِرْزِهِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِهِ، ظَالِمًا فِيهِ. [فَصْلٌ سَرَقَ الضَّيْفُ مِنْ مَالِ مُضِيفِهِ شَيْئًا نَظَرْت] فَصْلٌ: وَإِذَا سَرَقَ الضَّيْفُ مِنْ مَالِ مُضِيفِهِ شَيْئًا، نَظَرْت، فَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِيهِ، أَوْ مَوْضِعٍ لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ حِرْزٍ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَوْضِعٍ مُحْرَزٍ دُونَهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مَنَعَهُ قِرَاهُ، فَسَرَقَ بِقَدْرِهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ قِرَاهُ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُضِيفَ بَسَطَهُ فِي بَيْتِهِ وَمَالِهِ، فَأَشْبَهَ ابْنَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا عَنْهُ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ بَسَطَهُ فِيهِ. لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ أَحْرَزَ عَنْهُ هَذَا الْمَالَ، وَلَمْ يَبْسُطْهُ فِيهِ، وَتَبَسُّطُهُ فِي غَيْرِهِ لَا يُوجِبُ تَبَسُّطَهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى مِسْكِينٍ بِصَدَقَةٍ، أَوْ أَهْدَى إلَى صَدِيقِهِ هَدِيَّةً، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ أَهْدَى إلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 [فَصْلٌ أَحْرَزَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْمَالَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ فَسَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ] (7267) فَصْلٌ: وَإِذَا أَحْرَزَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ الْوَدِيعَةِ، أَوْ الْعَارِيَّةِ، أَوْ الْمَالَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ، فَسَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِحْرَازِهِ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ. وَإِنْ غَصَبَ عَيْنًا وَأَحْرَزَهَا، أَوْ سَرَقَهَا وَأَحْرَزَهَا، فَسَرَقَهَا سَارِقٌ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا فِي السَّارِقِ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْغَاصِبِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ الْمَالَ مِنْ مَالِكِهِ، وَلَا مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَجَدَهُ ضَائِعًا فَأَخَذَهُ، وَفَارَقَ السَّارِقَ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِنَّهُ أَزَالَ يَدَهُ، وَسَرَقَ مِنْ حِرْزِهِ. [فَصْلٌ سَرَقَ نِصَابًا أَوْ غَصَبَهُ فَأَحْرَزَهُ فَجَاءَ الْمَالِكُ فَهَتَكَ الْحِرْزَ وَأَخَذَ مَالَهُ] (7268) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ نِصَابًا، أَوْ غَصَبَهُ فَأَحْرَزَهُ، فَجَاءَ الْمَالِكُ، فَهَتَكَ الْحِرْزَ؛ وَأَخَذَ مَالَهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ سَرِقَةً أَوْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ. وَإِنْ سَرَقَ غَيْرَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي هَتْكِ الْحِرْزِ، وَأَخْذِ مَالِهِ، فَصَارَ كَالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ؛ وَلِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي أَخْذِ قَدْرِ مَالِهِ، لِذَهَابِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ أَخْذِ الْإِنْسَانِ قَدْرَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ مَالِهِ إذَا عَجَزَ عَنْ أَخْذِ مَالِهِ، وَهَذَا أَمْكَنَهُ أَخْذُ مَالِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا أَخَذَ مَالَهُ، وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ نِصَابًا مُتَمَيِّزًا عَنْ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا بِمَالِهِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ مِنْهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ الَّذِي لَهُ أَخْذُهُ، وَحَصَّلَ غَيْرَهُ مَأْخُوذًا ضَرُورَةَ أَخْذِهِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُقْطَعَ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ شُبْهَةً، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. فَأَمَّا إنْ سَرَقَ مِنْهُ مَالًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ، فَسَرَقَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ دَيْنِهِ مِنْ حِرْزِهِ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ أَوْ الْغَرِيمُ بَاذِلًا لِمَا عَلَيْهِ، غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ أَدَائِهِ، أَوْ قَدَرَ الْمَالِكُ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فَتَرَكَهُ وَسَرَقَ مَالَ الْغَاصِبِ أَوْ الْغَرِيمِ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَسَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ، أَوْ حَقِّهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْقَطْعُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ دَيْنِهِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي حِلِّهِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِهِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ، وَتَحْرِيمُ الْأَخْذِ لَا يَمْنَعُ الشُّبْهَةَ النَّاشِئَةَ عَنْ الِاخْتِلَافِ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. فَإِنْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ، فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 [فَصْلٌ إخْرَاجُ الْمَتَاعِ مِنْ الْحِرْزِ] (7269) فَصْلٌ: وَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنْ الْحِرْزِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، فَمَتَى أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، سَوَاءٌ حَمَلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ، أَوْ تَرَكَهُ خَارِجًا مِنْ الْحِرْزِ، وَسَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِأَنْ حَمَلَهُ، أَوْ رَمَى بِهِ إلَى خَارِجِ الْحِرْزِ، أَوْ شَدَّ فِيهِ حَبْلًا ثُمَّ خَرَجَ فَمَدَّهُ بِهِ، أَوْ شَدَّهُ عَلَى بَهِيمَةٍ ثُمَّ سَاقَهَا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهَا، أَوْ تَرَكَهُ فِي نَهْرٍ جَارٍ، فَخَرَجَ بِهِ، فَفِي هَذَا كُلِّهِ يَجِبُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْرِجُ لَهُ، إمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِآلَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ، فَأَخْرَجَهُ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ الْحِرْزَ فَأَخْرَجَهُ، أَوْ نَقَبَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ إلَيْهِ يَدَهُ أَوْ عَصًا لَهَا شُجْنَةٌ فَاجْتَذَبَهُ بِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ صَغِيرًا لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ بِمَا أَمْكَنَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُخْتَلِسَ. وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَطْعِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْتُ ضَيِّقًا، وَيُخَالِفُ الْمُخْتَلِسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ. وَإِنْ رَمَى الْمَتَاعَ، فَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ فَأَخْرَجَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ مِنْهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِعْلُ الرِّيحِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا، فَأَعَانَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ حَتَّى قَتَلَ الصَّيْدَ، حَلَّ، وَلَوْ رَمَى الْجِمَارَ، فَأَعَانَتْهَا الرِّيحُ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى، اُحْتُسِبَ بِهِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَتَاعَ فِي الْمَاءِ فَجَرَى بِهِ فَأَخْرَجَهُ، وَلَوْ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ، فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ، فَأَمَّا إنْ تَرَكَ الْمَتَاعَ عَلَى دَابَّةٍ، فَخَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ سَوْقِهَا، أَوْ تَرَكَ الْمَتَاعَ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ، فَانْفَتَحَ فَخَرَجَ الْمَتَاعُ، أَوْ عَلَى حَائِطٍ فِي الدَّارِ، فَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ سَبَبُ خُرُوجِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَاقَ الْبَهِيمَةَ، أَوْ فَتْحَ الْمَاءَ، وَحَلَّقَ الثَّوْبَ فِي الْهَوَاءِ. وَالثَّانِي: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَكُنْ آلَةً لِلْإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْمَتَاعُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَالْبَهِيمَةُ لَهَا اخْتِيَارٌ لِنَفْسِهَا. [فَصْلٌ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ بَيْتٍ فِي الدَّارِ أَوْ الْخَانِ إلَى الصَّحْنِ] (7270) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ بَيْتٍ فِي الدَّارِ، أَوْ الْخَانِ إلَى الصَّحْنِ، فَإِنْ كَانَ بَابُ الْبَيْتِ مُغْلَقًا، فَفَتَحَهُ أَوْ نَقَبَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْحِرْزِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْلَقًا، فَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْبَيْتِ إلَى الدَّارِ، يُقْطَعُ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّورَةِ الْأُولَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 [فَصْلٌ الطَّرَّارُ سِرًّا يُقْطَعُ وَإِنْ اخْتَلَسَ لَمْ يُقْطَعْ] (7271) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ الطَّرَّارُ سِرًّا يُقْطَعُ، وَإِنْ اخْتَلَسَ لَمْ يُقْطَعْ. وَمَعْنَى الطَّرَّارِ: الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ جَيْبِ الرَّجُلِ أَوْ كُمِّهِ، أَوْ صُفْنِهِ، وَسَوَاءٌ بَطَّ مَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَسْرُوقَ، أَوْ قَطَعَ الصُّفْنَ فَأَخَذَهُ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْجَيْبِ فَأَخَذَ مَا فِيهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ جَيْبِ الرَّجُلِ وَكُمِّهِ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. [فَصْلٌ دَخَلَ السَّارِقُ حِرْزًا فَاحْتَلَبَ لَبَنًا مِنْ مَاشِيَةٍ وَأَخْرَجَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ] (7272) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ السَّارِقُ حِرْزًا، فَاحْتَلَبَ لَبَنًا مِنْ مَاشِيَةٍ، وَأَخْرَجَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا. وَإِنْ شَرِبَهُ فِي الْحِرْزِ، أَوْ شَرِبَ مِنْهُ مَا يُنْقِصُ النِّصَابَ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ الْحِرْزِ نِصَابًا. وَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ فِي الْحِرْزِ، أَوْ شَقَّ الثَّوْبَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا، وَقِيمَتُهُمَا بَعْدَ الشَّقِّ وَالذَّبْحِ نِصَابٌ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي الشَّاةِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ بِسَرِقَتِهِ، وَالثَّوْبُ إنْ شُقَّ أَكْثَرُهُ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ جَمِيعِهِ، فَيَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهُ وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ. وَإِنْ دَخَلَ الْحِرْزَ فَابْتَلَعَ جَوْهَرَةً وَخَرَجَ، فَلَمْ تَخْرُجْ؛ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا فِي الْحِرْزِ، وَإِنْ خَرَجَتْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا فِي وِعَائِهَا، فَأَشْبَهَ إخْرَاجَهَا فِي كُمِّهِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهَا بِالْبَلْعِ، فَكَانَ إتْلَافًا لَهَا؛ وَلِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى إخْرَاجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِدُونِهَا. وَإِنْ تَطَيَّبَ فِي الْحِرْزِ بِطِيبٍ، وَخَرَجَ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ الطِّيبِ، مَا إذَا جُمِعَ كَانَ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجْتَمِعُ قَدْ أَتْلَفَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ الطَّعَامَ، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ نِصَابًا، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا. وَذُكِرَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، فِيمَا إذَا كَانَ مَا تَطَيَّبَ بِهِ يَبْلُغُ نِصَابًا، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَإِنْ نَقَصَ مَا يَجْتَمِعُ عَنْ النِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنْ جَرَّ خَشَبَةً فَأَلْقَاهَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا مِنْ الْحِرْزِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْهَا مَا يُسَاوِي نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يَنْفَرِدُ عَنْ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْسَكَ الْغَاصِبُ طَرَفَ عِمَامَتِهِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي يَدِ مَالِكِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً فَأَخْرَجَ بَعْضَهُمَا. [فَصْلٌ نَقَبَ الْحِرْزَ ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ مَا دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ] (7273) فَصْلٌ: وَإِذَا نَقَبَ الْحِرْزَ، ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ مَا دُونَ النِّصَابِ، ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ، نَظَرْت؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَرِقَةٌ مُفْرَدَةٌ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَبَيْنَهُمَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ. وَإِنْ تَقَارَبَا، وَجَبَ قَطْعُهُ؛ لِأَنَّهَا سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا بُنِيَ فِعْلُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى فِعْلِ شَرِيكِهِ، فَبِنَاءُ فِعْلِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ أَوْلَى. الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ: كَوْنُ السَّارِقِ مُكَلَّفًا، وَثَبَتَتْ السَّرِقَةُ، وَيُطَالِبُ بِهَا الْمَالِكُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْتَفِي الشُّبُهَاتُ. وَيُذْكَرُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمَسْرُوقُ ثَمَرًا أَوْ كَثَرًا] (7274) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ ثَمَرًا أَوْ كَثَرًا، فَلَا قَطْعَ فِيهِ) يَعْنِي بِهِ الثَّمَرَ فِي الْبُسْتَانِ قَبْلَ إدْخَالِهِ الْحِرْزَ، فَهَذَا لَا قَطْعَ فِيهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. كَذَلِكَ الْكَثَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ النَّخْلِ، وَهُوَ جُمَّارُ النَّخْلِ. رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ كَانَ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ بُسْتَانٍ مُحْرَزٍ، فَفِيهِ الْقَطْعُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إنْ لَمْ يَصِحَّ خَبَرُ رَافِعٍ. قَالَ: وَلَا أَحْسَبُهُ ثَابِتًا. وَاحْتَجَّا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَبِقِيَاسِهِ عَلَى سَائِرِ الْمُحْرَزَاتِ. وَلَنَا مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» . وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِ الثَّمَرِ، فَلَا يَكُونُ حِرْزًا لَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحُوطًا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ فِي دَارٍ مُحْرِزَةٍ، فَسَرَقَ مِنْهَا نِصَابًا، فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ سَرَقَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ] (7275) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 سَبَبًا يَدْفَعُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مِثْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ غَرَامَةِ مِثْلَيْهِ. وَاعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ، بِأَنَّهُ كَانَ حِينَ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ فِي الْأَمْوَالِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حُجَّةٌ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، إلَّا بِمُعَارَضَةِ مِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ دَعْوَى لِلْفَسْخِ بِالِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِقَوْلِهِ: " وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ". فَقَدْ بَيَّنَ وُجُوبَ الْقَطْعِ مَعَ إيجَابِ غَرَامَةِ مِثْلَيْهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ مَا قَالَهُ. وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ عُمَرَ أَغْرَمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ انْتَحَرَ غِلْمَانُهُ نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، مِثْلَيْ قِيمَتِهَا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ الْحَدِيثَيْنِ فِي " سُنَنِهِ "، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي الْمَاشِيَةِ تُسْرَقُ مِنْ الْمَرْعَى، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُحْرَزَةً، مِثْلَا قِيمَتِهَا؛ لِلْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، «أَنَّ السَّائِلَ قَالَ: الشَّاةُ الْحَرِيسَةُ مِنْهُنَّ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: ثَمَنُهَا وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَالْفِكَاكُ، وَمَا كَانَ فِي الْمُرَاحِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ. وَمَا عَدَا هَذَيْنِ لَا يُغْرَمُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ مِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، إلَّا أَبَا بَكْرٍ. فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى إيجَابِ غَرَامَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ بِمِثْلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَحَرِيسَةِ الْجَبَلِ، وَاسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ حَاطِبٍ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ غَرَامَةِ الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ، وَالْمُتَقَوَّمِ بِقِيمَتِهِ بِدَلِيلِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ، وَالْمُنْتَهَبِ وَالْمُخْتَلَسِ، وَسَائِرِ مَا تَجِبُ غَرَامَتُهُ، خُولِفَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِلْأَثَرِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. [مَسْأَلَةٌ ابْتِدَاءُ قَطْعِ السَّارِقِ] (7276) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَابْتِدَاءُ قَطْعِ السَّارِقِ، أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ، وَيُحْسَمَ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ، وَحُسِمَتْ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ السَّارِقَ أَوَّلُ مَا يُقْطَعُ مِنْهُ، يَدُهُ الْيُمْنَى، مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ، وَهُوَ الْكُوعُ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا ". وَهَذَا إنْ كَانَ قِرَاءَةً وَإِلَّا فَهُوَ تَفْسِيرٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ، فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنْ الْكُوعِ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى، فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِإِعْدَامِ آلَتِهَا. وَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى. وَبِذَلِكَ قَالَ الْجَمَاعَةُ إلَّا عَطَاءً، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ، فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ، وَدَاوُد. وَهَذَا شُذُوذٌ، يُخَالِفُ قَوْلَ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ «إذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» . وَلِأَنَّهُ فِي الْمُحَارَبَةِ الْمُوجِبَةِ قَطْعَ عُضْوَيْنِ، إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَلَا تُقْطَعُ يَدَاهُ، فَنَقُولُ: جِنَايَةٌ أَوْجَبَتْ قَطْعَ عُضْوَيْنِ، فَكَانَا رِجْلًا وَيَدًا، كَالْمُحَارَبَةِ؛ وَلِأَنَّ قَطْعَ يَدَيْهِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، فَلَا تَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا، وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يَسْتَطِيبُ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ كَالْهَالِكِ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ الَّذِي لَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَالْمُرَادُ بِهَا قَطْعُ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الْيَدَانِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) . وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُثَنَّى ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] . وَلِأَنَّ قَطْعَ الْيُسْرَى أَرْفَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَى خَشَبَةٍ، وَلَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ بِحَالٍ. وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْطَعُ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ مِنْ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَيَدَعُ لَهُ عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَلَنَا أَنَّهُ أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ فِي السَّرِقَةِ، فَيُقْطَعُ مِنْ الْمَفْصِلِ كَالْيَدِ. وَإِذَا قُطِعَ حُسِمَ، وَهُوَ أَنْ يُغْلَى الزَّيْتُ، فَإِذَا قُطِعَ غُمِسَ عُضْوُهُ فِي الزَّيْتِ؛ لِتَنْسَدَّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ؛ لِئَلَّا يَنْزِفَ الدَّمَ فَيَمُوتَ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً، فَقَالَ اقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 فِيهِ مَقَالٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَيَكُونُ الزَّيْتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ الْقَاطِعَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَحْسِمْ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ، لَا مُدَاوَاةَ الْمَحْدُودِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَقْطُوعِ حَسْمُ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْثَمْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّدَاوِيَ فِي الْمَرَضِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ [فَصْلٌ يُقْطَعُ السَّارِقُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنُ] (7277) فَصْلٌ وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنُ، فَيَجْلِسُ وَيُضْبَطُ لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ، وَتُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِلُ الْكَفِّ مِنْ مَفْصِلِ الذِّرَاعِ، ثُمَّ يُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادٌّ، وَيُدَقُّ فَوْقَهُمَا بِقُوَّةٍ لِيُقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ تُوضَعُ السِّكِّينُ عَلَى الْمَفْصِلِ وَتُمَدَّى مَدَّةً وَاحِدَةً. وَإِنْ عُلِمَ قَطْعٌ أَوْحَى مِنْ هَذَا، قُطِعَ بِهِ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الْيَدِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ] (7278) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ تَعْلِيقُ الْيَدِ فِي عُنُقِهِ؛ لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَارِقٍ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا. [فَصْلٌ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ] (7279) فَصْلٌ: وَلَا تُقْطَعُ فِي شِدَّةِ حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ رُبَّمَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، وَالْغَرَضُ الزَّجْرُ دُونَ الْقَتْلِ. وَلَا تُقْطَعُ حَامِلٌ حَالَ حَمْلِهَا، وَلَا بَعْدَ وَضْعِهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَلَفِهَا وَتَلَفِ وَلَدِهَا. وَلَا يُقْطَعُ مَرِيضٌ فِي مَرَضِهِ؛ لِئَلَّا يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ سَرَقَ قَبْلَ انْدِمَالِ يَدِهِ، لَمْ يُقْطَعْ ثَانِيًا حَتَّى يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ قِصَاصًا، لَمْ تُقْطَعْ الْيَدُ فِي السَّرِقَةِ حَتَّى تَبْرَأَ الرِّجْلُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي الْيَدِ الْأُخْرَى لَقُطِعَتْ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، وَالْمُحَارِبُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قُلْتُمْ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ: لَا يُنْتَظَرُ بُرْؤُهُ. فَلِمَ خَالَفْتُمْ ذَلِكَ هَاهُنَا؟ قُلْنَا: الْقِصَاصُ حَقُّ آدَمِيٍّ، يُخَافُ فَوْتُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ يَجِبُ فِي يَدٍ، وَيَجِبُ فِي يَدَيْنِ وَأَكْثَرَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَلِهَذَا جَازَ أَنْ نُوَالِيَ بَيْنَ قِصَاصَيْنِ، وَنُخَالِفَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ، صَارَ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ، فَلَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ حَدٌّ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُ الْحَدِّ لِلْمَرِيضِ، فَفِيهِ مَنْعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 الْجَلْدَ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهُ، فَيَأْتِي بِهِ فِي الْمَرَضِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، وَالْقَطْعُ لَا يُمْكِنُ تَخْفِيفُهُ. [فَصْلٌ سَرَقَ مَرَّاتٍ قَبْلَ الْقَطْعِ] (7280) فَصْلٌ: وَإِذَا سَرَقَ مَرَّاتٍ قَبْلَ الْقَطْعِ، أَجْزَأَ قَطْعٌ وَاحِدٌ عَنْ جَمِيعِهَا، وَتَدَاخَلَتْ حُدُودُهَا؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ أَسْبَابُهُ تَدَاخَلَ، كَحَدِّ الزِّنَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ. وَلَعَلَّهُ يَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَدَاخَلُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتَتَدَاخَلُ، كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَفَارَقَ حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَلِهَذَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِاسْتِيفَائِهِ، وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ. فَأَمَّا إنْ سَرَقَ فَقُطِعَ، ثُمَّ سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَ ثَانِيًا، سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ الَّذِي سَرَقَ مِنْهُ أَوَّلًا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ سَرَقَ تِلْكَ الْعَيْنَ الَّتِي قُطِعَ بِهَا أَوْ غَيْرَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قُطِعَ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ مَرَّةً، لَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قُطِعَ بِسَرِقَةِ غَزْلٍ، ثُمَّ سَرَقَهُ مَنْسُوجًا، أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةِ رُطَبٍ، ثُمَّ سَرَقَهُ تَمْرًا. وَاحْتُجَّ بِأَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهُ بِمُطَالَبَةِ آدَمِيٍّ، فَإِذَا تَكَرَّرَ سَبَبُهُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ، لَمْ يَتَكَرَّرْ، كَحَدِّ الْقَذْفِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ يَجِبُ بِفِعْلٍ فِي عَيْنٍ، فَتَكَرُّرُهُ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَتَكَرُّرِهِ فِي الْأَعْيَانِ، كَالزِّنَا، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْغَزْلِ إذَا نُسِجَ، وَالرُّطَبِ إذَا أَتْمَرَ، وَلَا نُسَلِّمُ حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ مَتَى قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا حُدَّ، وَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا عَقِيبَ حَدِّهِ، لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إظْهَارُ كَذِبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ، وَهَا هُنَا الْغَرَضُ رَدْعُهُ عَنْ السَّرِقَةِ، وَلَمْ يَرْتَدِعْ بِالْأَوَّلِ، فَيُرْدَعُ بِالثَّانِي: كَالْمُودَعِ إذَا سَرَقَ عَيْنًا أُخْرَى. [فَصْلٌ سَرَقَ وَلَا يُمْنَى لَهُ] فَصْلٌ: وَمَنْ سَرَقَ وَلَا يُمْنَى لَهُ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، كَمَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ يُمْنَاهُ شَلَّاءَ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ الشَّلَّاءَ لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا جَمَالَ، فَأَشْبَهَتْ كَفًّا لَا أَصَابِعَ عَلَيْهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ جَافَّةٌ: تُقْطَعُ رِجْلُهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّهَا إذَا قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُهَا، وَانْحَسَمَتْ عُرُوقُهَا. قُطِعَتْ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ قَطْعُ يَمِينِهِ فَوَجَبَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً. وَإِنْ قَالُوا: لَا يَرْقَأُ دَمُهَا. لَمْ تُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ تَلَفُهُ، وَقُطِعَتْ رِجْلُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ كَانَتْ أَصَابِعُ الْيُمْنَى كُلُّهَا ذَاهِبَةً فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا تُقْطَعُ وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ، فَأَشْبَهَ الذِّرَاعَ. وَالثَّانِي: تُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الرَّاحَةَ بَعْضُ مَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا قُطِعَ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ الْخِنْصَرُ أَوْ الْبِنْصِرُ. وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَصَابِعِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ ذَهَبَ الْخِنْصَرُ وَالْبِنْصِرُ، أَوْ ذَهَبَتْ وَاحِدَةٌ سِوَاهُمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 ، قُطِعَتْ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ نَفْعِهَا بَاقٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَهِيَ كَاَلَّتِي ذَهَبَ جَمِيعُ أَصَابِعِهَا، وَإِنْ بَقِيَ اثْنَتَانِ، فَهَلْ تُلْحَقُ بِالصَّحِيحَةِ، أَوْ بِمَا قُطِعَ جَمِيعُ أَصَابِعِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالْأَوْلَى قَطْعُهَا؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ. [فَصْلٌ سَرَقَ وَلَهُ يُمْنَى] (7282) فَصْلٌ: وَمَنْ سَرَقَ وَلَهُ يُمْنَى، فَقُطِعَتْ فِي قِصَاصٍ، أَوْ ذَهَبَتْ بِأَكِلَةٍ، أَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ مُتَعَدٍّ فَقَطَعَهَا، سَقَطَ الْقَطْعُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَادِي إلَّا الْأَدَبُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقْتَصُّ مِنْ الْقَاطِعِ، وَتُقْطَعُ رِجْلُ السَّارِقِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ يَدَ السَّارِقِ ذَهَبَتْ، وَالْقَاطِعُ قَطَعَ عُضْوًا غَيْرَ مَعْصُومٍ، وَإِنْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ بَعْدَ السَّرِقَةِ، وَقَبْلَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ وَالْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ، وَلَوْ شُهِدَ بِالسَّرِقَةِ، فَحَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِيُعَدِّلَ الشُّهُودَ، فَقَطَعَهُ قَاطِعٌ، ثُمَّ عُدِّلُوا، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعَدَّلُوا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُمْ مُحْتَمَلٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً. وَلَنَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مِمَّنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. [فَصْلٌ سَرَقَ فَقَطَعَ الْجَذَّاذُ يَسَارَهُ بَدَلًا عَنْ يَمِينِهِ] (7283) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ فَقَطَعَ الْجَذَّاذُ يَسَارَهُ بَدَلًا عَنْ يَمِينِهِ، أَجْزَأَتْ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا الْأَدَبُ. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَطْعَ يُمْنَى السَّارِقِ يُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَقَطْعَ يَدَيْهِ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُشْرَعُ، وَإِذَا انْتَفَى قَطْعُ يَمِينِهِ، حَصَلَ قَطْعُ يَسَارِهِ مُجْزِئًا عَنْ الْقَطْعِ الْوَاجِبِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى فَاعِلِهِ قِصَاصٌ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: فِي وُجُوبِ قَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاطِعُ كَوْنَهَا يَسَارًا، أَوْ ظَنَّ أَنَّ قَطْعَهَا يُجْزِئُ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ، كَيْ لَا تُقْطَعَ يَدَاهُ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: تُقْطَعُ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يُسْرَاهُ قِصَاصًا. فَأَمَّا الْقَاطِعُ: فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ قَطَعَهَا عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ السَّارِقِ، أَوْ كَانَ السَّارِقُ أَخْرَجَهَا دَهْشَةً أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا تُجْزِئُ، وَقَطَعَهَا الْقَاطِعُ عَالِمًا بِأَنَّهَا يُسْرَاهُ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا يُسْرَاهُ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا. وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ أَخْرَجَهَا مُخْتَارًا عَالِمًا بِالْأَمْرَيْنِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي قَطْعِهَا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ السَّارِقِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [مَسْأَلَةٌ عَادَ السَّارِقُ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلُهُ] (7284) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ عَادَ، حُبِسَ، وَلَا يُقْطَعُ غَيْرُ يَدٍ وَرِجْلٍ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 يَعْنِي إذَا عَادَ فَسَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَحُبِسَ. وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ تُقْطَعُ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَفِي الْخَامِسَةِ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُمَا قَطَعَا يَدَ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى فِي الثَّالِثَةِ، وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى فِي الرَّابِعَةِ، وَيُقْتَلُ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ: «جِيءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَارِقٍ، فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا سَرَقَ. فَقَالَ: اقْطَعُوهُ. قَالَ: فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: اقْطَعُوهُ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: اقْطَعُوهُ. ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ، قَالَ: اُقْتُلُوهُ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ، فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي السَّارِقِ: وَإِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» . وَلِأَنَّ الْيَسَارَ تُقْطَعُ قَوَدًا، فَجَازَ قَطْعُهَا فِي السَّرِقَةِ، كَالْيُمْنَى؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتَدُوا بِاَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَضَرْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ . قَالُوا: اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ قَتَلْتُهُ إذًا، وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ، بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ؟ فَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ أَيَّامًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَبْطِشُ بِهَا، وَلَا رِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِي حَدٍّ، كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ، لَقُطِعَتْ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ الْبَطْشِ كَالْيُمْنَى، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْطَعْ لِلْمَفْسَدَةِ فِي قَطْعِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِهْلَاكِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَلَا يَغْتَسِلَ، وَلَا يَسْتَنْجِيَ، وَلَا يَحْتَرِزَ مِنْ نَجَاسَةٍ، وَلَا يُزِيلَهَا عَنْهُ، وَلَا يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَأْكُلَ، وَلَا يَبْطِشَ، وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ حَاصِلَةٌ بِقَطْعِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ قَطْعَهَا، كَمَا مَنَعَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ، فَفِي حَقِّ شَخْصٍ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي الْخَامِسَةِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ، وَفِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. فَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِدٍ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِرَجُلٍ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الْآيَةَ. وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُ هَذَا وَرِجْلُهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ رِجْلَهُ فَتَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ قَائِمَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا، إمَّا أَنْ تُعَزِّرَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَسْتَوْدِعَهُ السِّجْنَ. فَاسْتَوْدَعَهُ السِّجْنَ. [فَصْلٌ سَرَقَ مَنْ يَدُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ أَوْ شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةُ الْأَصَابِعِ أَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ] (7285) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ مَنْ يَدُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ، أَوْ شَلَّاءُ، أَوْ مَقْطُوعَةُ الْأَصَابِعِ، أَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ فَقُطِعَتْ الْيُسْرَى، أَوْ شُلَّتْ قَبْلَ قَطْعِ يُمْنَاهُ، لَمْ تُقْطَعْ يُمْنَاهُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَتُقْطَعُ عَلَى الثَّانِيَةِ. وَإِنْ قَطَعَ يُسْرَاهُ قَاطِعٌ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا. وَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ. وَلَا تُقْطَعَ يَمِينُ السَّارِقِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَفِي قَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالسَّرِقَةِ، وَسُقُوطُ الْقَطْعِ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَقْتَضِي قَطْعَ رِجْلِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ يَمِينَهُ. وَالثَّانِي: تُقْطَعُ رِجْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ قَطْعُ يَمِينِهِ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً حَالَ السَّرِقَةِ. وَإِنْ كَانَتْ يُمْنَاهُ صَحِيحَةً، وَيُسْرَاهُ نَاقِصَةً نَقْصًا يَذْهَبُ بِمُعْظَمِ نَفْعِهَا، مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ مِنْهَا الْإِبْهَامُ أَوْ الْوُسْطَى أَوْ السَّبَّابَةُ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَقَطْعِهَا، وَيُنْتَقَلُ إلَى رِجْلِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ تُقْطَعَ يُمْنَاهُ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا يَنْتَفِعُ بِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قُطِعَتْ خِنْصَرُهَا. وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ أَوْ مَقْطُوعَةً، فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا قَوْلًا لِأَصْحَابِنَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: تُقْطَعُ يَمِينُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ يُمْنَى، فَقُطِعَتْ عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ يَدَانِ، فَتُقْطَعُ يُمْنَاهُ. كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى. وَالثَّانِي: لَا يُقْطَعُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ يُمْنَاهُ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْمَشْيِ مِنْ الرِّجْلَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 فَأَمَّا إنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءَ، وَيَدَاهُ صَحِيحَتَانِ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْشَى تَعَدِّي ضَرَرِ الْقَطْعِ إلَى غَيْرِ الْمَقْطُوعِ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ سَرَقَ وَيَدُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ، أَوْ شَلَّاءُ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِذَلِكَ. وَأَنْكَرَ هَذَا ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: بِقَوْلِهِمْ هَذَا خَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. [مَسْأَلَةٌ الْحُرُّ وَالْحُرَّةُ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ] (7286) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْحُرُّ وَالْحُرَّةُ، وَالْعَبْدُ، وَالْأَمَةُ، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) . أَمَّا الْحُرُّ وَالْحُرَّةُ: فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا، وَقَدْ قَطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ، وَقَطَعَ الْمَخْزُومِيَّةَ الَّتِي سَرَقَتْ الْقَطِيفَةَ. فَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلَ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُمَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا بِالسَّرِقَةِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ، فَلَمْ يَجِبْ فِي حَقِّهِمَا كَالرَّجْمِ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا يُسَاوِي الْعَبْدُ فِيهِ الْحُرَّ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَانْتَحَرُوهَا، فَأَمَرَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاك تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لَأُغَرِّمَنَّك غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك. ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِك؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَقَطَعَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ عَبْدًا. يَعْنِي الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ. وَهَذِهِ قِصَصٌ تَنْتَشِرُ وَلَمْ تُنْكَرْ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ. قُلْنَا: وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ، فَيَجِبُ تَكْمِيلُهُ، وَقِيَاسُهُمْ نَقْلِبُهُ عَلَيْهِمْ، فَنَقُولُ: حَدٌّ فَلَا يَتَعَطَّلُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَفَارَقَ الرَّجْمَ، فَإِنَّ حَدَّ الزَّانِي لَا يَتَعَطَّلُ بِتَعْطِيلِهِ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ، فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يَتَعَطَّلُ بِتَعْطِيلِهِ. [فَصْلٌ قَطْعُ الْآبِقِ بِسَرِقَتِهِ] (7287) فَصْلٌ وَيُقْطَعُ الْآبِقُ بِسَرِقَتِهِ، وَغَيْرُهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَرْوَانُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ قَضَاءٌ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ. وَلَنَا عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، فَيُقْطَعُ، كَغَيْرِ الْآبِقِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى سَيِّدِهِ. لَا يُسَلَّمُ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إقْرَارُ السَّيِّدِ، وَلَا يَضُرُّ إنْكَارُهُ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ، ثُمَّ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ جَائِزٌ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ] (7288) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فِي يَدِهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ، وَقَالَ: هَذَا مَالِي. فَالْمَالُ لِسَيِّدِهِ، وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ سَرِقَتُهُ لِلْمَالِ، فَلَمْ يَجِبْ قَطْعُهُ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ فِي الْمَالِ، فَفِي الْحَدِّ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَصَدَّقَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، فَقُطِعَ، كَالْحُرِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَكَوْنُ الْمَالِ مَحْكُومًا بِهِ لِسَيِّدِهِ شُبْهَةٌ. [فَصْلٌ يُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِسَرِقَةِ مَالِهِمَا] (7289) فَصْلٌ: وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِسَرِقَةِ مَالِهِمَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. فَأَمَّا الْحَرْبِيُّ إذَا دَخَلَ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا، فَسَرَقَ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ، كَحَدِّ الزِّنَا. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ صِيَانَةً لِلْأَمْوَالِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ يَجِبُ صِيَانَةٍ لِلْأَعْرَاضِ، فَإِذَا وَجَبَ فِي حَقِّهِ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْآخَرُ، فَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا: فَلَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ قَتْلُهُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ. وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ، كَسَارِقِ مَالِ الذِّمِّيِّ. وَيُقْطَعُ الْمُرْتَدُّ إذَا سَرَقَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ وُهِبَتْ لِلسَّارِقِ السَّرِقَةُ بَعْدَ إخْرَاجِهَا] (7290) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْطَعُ السَّارِقُ وَإِنْ وُهِبَتْ لَهُ السَّرِقَةُ بَعْدَ إخْرَاجِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّارِقَ إذَا مَلَكَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بِهِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَمْلِكَهَا قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا عِنْدَهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ مَلَكَهَا قَبْلَهُ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَسْرُوقِ وَبَعْدَ مِلْكِهِ لَهُ لَا تَصِحُّ الْمُطَالَبَةُ، وَإِنْ مَلَكَهَا بَعْدَهُ، لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكَهُ، فَلَا يُقْطَعُ فِي عَيْنٍ هِيَ مِلْكُهُ، كَمَا لَوْ مَلَكَهَا قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ، وَالشُّرُوطُ يُعْتَبَرُ دَوَامُهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الْعَيْنِ مُطَالِبٌ. وَلَنَا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ «ابْنِ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ، وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ، فَأُخِذَ مِنْ تَحْتِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 رَأْسِهِ، فَجَاءَ بِسَارِقِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطَعَ، فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُرِدْ هَذَا، رِدَائِي عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْجُوزَجَانِيُّ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْت: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا. قَالَ: فَهَلَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَيْهِ، لَدَرَأَ الْقَطْعَ، وَبَعْدَهُ لَا يُسْقِطُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ. قُلْنَا: هِيَ شَرْطُ الْحُكْمِ لَا شَرْطُ الْقَطْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ، وَقَدْ زَالَتْ الْمُطَالَبَةُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ مِلْكًا لِلسَّارِقِ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ] (7291) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ مِلْكًا لِلسَّارِقِ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ أَنَّ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً، أَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهَا، أَوْ أَنَّهُ سَبَّلَهَا، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَهُ إيَّاهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْحَدِّ وَاجِبًا. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْعَيْنِ، سَقَطَ الْقَطْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ لَهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَالَ أَخْذِهَا. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ تَجَدَّدَ سَبَبُهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ، أَشْبَهَ الْهِبَةَ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حِيلَةٌ عَلَى إسْقَاطِ الْقَطْعِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا، كَالْهِبَةِ. [مَسْأَلَةٌ أَخْرَجَ السَّرِقَةَ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَلَمْ يُقْطَعْ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهَا] (7292) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ أَخْرَجَهَا وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَلَمْ يُقْطَعْ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهَا، قُطِعَ) . وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ، فَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهُ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ حَدَثَ فِي الْعَيْنِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْقَطْعَ، كَمَا لَوْ حَدَثَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَالنِّصَابُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، فَلَا تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهُ كَالْحِرْزِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْحِرْزِ، فَإِنَّهُ لَوْ زَالَ الْحِرْزُ أَوْ مِلْكُهُ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ. وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ السَّرِقَةُ، فَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ حِينَئِذٍ. فَأَمَّا إنْ نَقَصَ النِّصَابُ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ بِفِعْلِهِ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. وَإِنْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً، وَلَمْ يُدْرَ هَلْ كَانَتْ نَاقِصَةً حِينَ السَّرِقَةِ أَوْ حَدَثَ النَّقْصُ بَعْدَهَا؟ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ السَّرِقَةِ إلَى مَالِكِهَا بَعْدَ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ] (7293) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قُطِعَ، فَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ بَاقِيَةً، رُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ عَلَى مَالِكِهَا إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ تَالِفَةً، فَعَلَى السَّارِقِ رَدُّ قِيمَتِهَا، أَوْ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَالْبَتِّيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ، إنْ غَرِمَهَا قَبْلَ الْقَطْعِ سَقَطَ الْقَطْعُ، وَإِنْ قُطِعَ قَبْلَ الْغُرْمِ سَقَطَ الْغُرْمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ: لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ إذَا قُطِعَ. وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُعْسِرِ، وَوَافَقَنَا فِي الْمُوسِرِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ سَرَقَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُطِعَ: يَغْرَمُ الْكُلَّ، إلَّا الْأَخِيرَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قُطِعَ بِالْكُلِّ، فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْهُ، كَالسَّرِقَةِ الْأَخِيرَةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، وَالْمِلْكُ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالرَّدِّ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَيَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا كَانَتْ تَالِفَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يُقْطَعْ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ يَجِبَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا، كَالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ الْمَمْلُوكِ. وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ، لَيْسَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَاطِعِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أُصُولِهِمْ، وَلَا نُسَلِّمُهَا لَهُمْ. [فَصْلٌ فَعَلَ السَّارِقُ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فِعْلًا نَقَصَهَا بِهِ] (7294) (فَصْلٌ) : وَإِذَا فَعَلَ فِي الْعَيْنِ فِعْلًا نَقَصَهَا بِهِ، كَقَطْعِ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، وَجَبَ رَدُّهُ وَرَدُّ نَقْصِهِ، وَوَجَبَ الْقَطْعُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ نَقْصًا لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ، رَدَّ الْعَيْنَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ، كَقَطْعِ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ، كَصَبْغِهِ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، فَلَا تُرَدُّ الْعَيْنُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: تُرَدُّ الْعَيْنُ. وَبَنَى هَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْغُرْمَ يُسْقِطُ عَنْهُ الْقَطْعَ. وَأَمَّا إذَا صَبَغَهُ، فَقَالَ: لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ لَكَانَ شَرِيكًا فِيهِ بِصَبْغِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ صَبْغَهُ كَانَ قَبْلَ الْقَطْعِ، فَلَوْ كَانَ شَرِيكًا بِالصَّبْغِ لَسَقَطَ الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ شَرِيكًا بِالرَّدِّ، فَالشَّرِكَةُ الطَّارِئَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا تُؤَثِّرُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى نِصْفَهُ مِنْ مَالِكِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ. وَقَدْ سَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ فِضَّةً، فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ، قُطِعَ، وَلَزِمَهُ رَدُّهَا. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا يُقْطَعُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 وَيَسْقُطُ حَقُّ صَاحِبِهَا مِنْهَا بِضَرْبِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ بَنَيَاهُ عَلَى أُصُولِهِمَا فِي أَنَّ تَغْيِيرَ اسْمِهَا يُزِيلُ مِلْكَ صَاحِبِهَا، وَأَنَّ مِلْكَ السَّارِقِ لَهَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُمَا. [مَسْأَلَةٌ أَخْرَجَ النَّبَّاشُ مِنْ الْقَبْرِ كَفَنًا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ] (7295) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَخْرَجَ النَّبَّاشُ مِنْ الْقَبْرِ كَفَنًا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ) رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَتَاعُ لِلْحِفْظِ، وَالْكَفَنُ لَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ حِرْزًا لَهُ، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ لَا مَالِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ أَوْ لِوَارِثِهِ، وَلَيْسَ مِلْكًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ، وَالْوَارِثُ إنَّمَا مَلَكَ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَهَذَا سَارِقٌ، فَإِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْكَفَنَ يُحْتَاجُ إلَى تَرْكِهِ فِي الْقَبْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُكْتَفَى بِهِ فِي حِرْزِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْمَيِّتُ فِي غَيْرِ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْفَظَ كَفَنُهُ، وَيُتْرَكُ فِي الْقَبْرِ وَيُنْصَرَفُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ. مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا عَمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، وَوَلِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ، كَقِيَامِ وَلِيِّ الصَّبِيِّ فِي الطَّلَبِ بِمَالِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْكَفَنِ مِنْ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ الْحِرْزُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ اللَّحْدِ وَوَضَعَهُ فِي الْقَبْرِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَلَ الْمَتَاعَ فِي الْبَيْتِ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا» . [فَصْلٌ الْكَفَنُ الَّذِي يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ] (7296) فَصْلٌ: وَالْكَفَنُ الَّذِي يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مَا كَانَ مَشْرُوعًا، فَإِنْ كُفِّنَ الرَّجُلُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَفَائِفَ، أَوْ الْمَرْأَةُ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ، فَسُرِقَ الزَّائِدَ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ تَرَكَهُ فِي تَابُوتٍ، فَسُرِقَ التَّابُوتُ، أَوْ تَرَكَ مَعَهُ طِيبًا مَجْمُوعًا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 أَوْ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، أَوْ جَوَاهِرَ، لَمْ يُقْطَعْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَفَنٍ مَشْرُوعٍ، فَتَرْكُهُ فِيهِ سَفَهٌ وَتَضْيِيعٌ، فَلَا يَكُونُ مُحْرَزًا، وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ. [فَصْلٌ هَلْ يُفْتَقَرُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ إلَى الْمُطَالَبَةِ] (7297) (فَصْلٌ) : وَهَلْ يُفْتَقَرُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ إلَى الْمُطَالَبَةِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: يُفْتَقَرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ كَسَائِرِ الْمَسْرُوقَاتِ. فَعَلَى هَذَا الْمُطَالِبُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي حُقُوقِهِ. وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُفْتَقَرُ إلَى طَلَبٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ الْأَحْيَاءِ شُرِعَ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ وَقَدْ يُئِسَ مِنْ ذَلِكَ هَاهُنَا. [مَسْأَلَةٌ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الْمُحَرَّمِ أَوْ آلَةِ اللَّهْوِ] (7298) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَا يُقْطَعُ فِي مُحَرَّمٍ، وَلَا فِي آلَةِ لَهْوٍ) . يَعْنِي لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مُحَرَّمٍ؛ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ سَرَقَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ سَارِقَ خَمْرِ الذِّمِّيِّ يُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُمْ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ دَرَاهِمَهُمْ. وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ مُحَرَّمَةٌ، فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا، كَالْخِنْزِيرِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ، لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالْخِنْزِيرِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ دُونَ أَحْكَامِهِمْ. وَهَكَذَا الْخِلَافُ مَعَهُ فِي الصَّلِيبِ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَعَ تَأْلِيفِهِ نِصَابًا. وَأَمَّا آلَةُ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ، وَالْمِزْمَارِ، وَالشَّبَّابَةِ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مُفَصَّلًا نِصَابًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ زَوَالِ تَأْلِيفِهِ نِصَابًا، فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَطْعِ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَهَبًا مَكْسُورًا. وَلَنَا أَنَّهُ آلَةٌ لِلْمَعْصِيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ، كَالْخَمْرِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي أَخْذِهَا لِكَسْرِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْقَطْعِ، كَاسْتِحْقَاقِهِ مَالَ وَلَدِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ فِيهِ أَيْضًا، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْخَشَبَ وَالْأَوْتَارَ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ الْقَطْعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُنْفَرِدَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 [فَصْلٌ سَرَقَ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ] (7299) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، يَبْلُغُ نِصَابًا مُتَّصِلًا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا قَطْعَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُقْطَعُ سَارِقُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَهُ كَسْرُهُ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى لَهُ قِيمَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا، وَهَا هُنَا لَوْ كُسِرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ بِكُلِّ وَجْهٍ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ عَنْ النِّصَابِ؛ وَلِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ جَوْهَرُهُمَا غَالِبٌ عَلَى الصَّنْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَكَانَتْ الصِّنَاعَةُ فِيهِمَا مَغْمُورَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيمَةِ جَوْهَرِهِمَا، وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِهِمَا، فَتَكُونُ الصِّنَاعَةُ غَالِبَةً عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَابِعًا لِلصِّنَاعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَأَشْبَهَ الْإِنَاءَ. وَلَوْ سَرَقَ إنَاءً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، قِيمَتُهُ نِصَابٌ إذَا كَانَ مُتَكَسِّرًا، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَقِيمَتُهُ بِدُونِ الصِّنَاعَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا نِصَابٌ. وَإِنْ سَرَقَ إنَاءً مُعَدًّا لِحَمْلِ الْخَمْرِ، وَوَضْعِهِ فِيهِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ لَا تَحْرِيمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ سِكِّينًا مُعَدَّةً لِذَبْحِ الْخَنَازِيرِ، أَوْ سَيْفًا يُعِدُّهُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَإِنْ سَرَقَ إنَاءً فِيهِ خَمْرٌ يَبْلُغُ نِصَابًا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُقْطَعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا: وَلَوْ سَرَقَ إدَاوَةً أَوْ إنَاءً فِيهِ مَاءٌ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ كَذَلِكَ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْدِيلًا فِي طَرَفِهِ دِينَارٌ مَشْدُودٌ، فَعَلِمَ بِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ سَرِقَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَعَلَّقَ بِثَوْبِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ قِيمَتَهُ نِصَابٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَلِمَ بِالْمَسْرُوقِ هَاهُنَا، وَقَصَدَ سَرِقَتَهُ، بِخِلَافِ الدِّينَارِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَخْذَهُ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ هَلْ يُقْطَعُ الْوَالِدُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ] (7300) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْطَعُ الْوَالِدُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ أَخْذُهُ، وَلَا الْوَالِدَةُ فِيمَا أَخَذَتْ مِنْ مَالِ وَلَدِهَا، وَلَا الْعَبْدُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَإِنْ سَفَلَ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَالِابْنُ وَالْبِنْتُ، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ، بِظَاهِرِ الْكِتَابِ، إلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ فَيُسْتَثْنَى. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» . وَفِي لَفْظٍ: " فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ ". وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ الْإِنْسَانِ بِأَخْذِ مَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَخْذِهِ، وَلَا أَخْذِ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالًا لَهُ مُضَافًا إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَعْظَمُ الشُّبُهَاتِ أَخْذُ الرَّجُلِ مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِهِمْ، جَمِيعًا، وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَلَنَا مَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَقَدْ جَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِغُلَامٍ لَهُ، فَقَالَ: إنَّ غُلَامِي هَذَا سَرَقَ، فَاقْطَعْ يَدَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا سَرَقَ؟ قَالَ: سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي، ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا. فَقَالَ: أَرْسِلْهُ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، خَادِمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ. وَلَكِنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ قُطِعَ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: مَالُكُمْ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ، فَقَالَ: عَبْدٌ لِي سَرَقَ قَبَاءً لِعَبْدٍ لِي آخَرَ. فَقَالَ: لَا قَطْعَ، مَالُكَ سَرَقَ مَالَكَ. وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ، وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي عَصْرِهِمْ أَحَدٌ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ بِقَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ (7301) فَصْلٌ: وَالْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، كَالْقِنِّ فِي هَذَا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا يُقْطَعُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ بِسَرِقَةِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَكُلُّ مَنْ لَا يُقْطَعُ الْإِنْسَانُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، لَا يُقْطَعُ عَبْدُهُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، كَآبَائِهِ، وَأَوْلَادِهِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيِّ، كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَنْ عَدَا سَيِّدِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ مَالَهُمْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَالِهِ فِي قَطْعِهِ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ عَبْدِهِ. [فَصْلٌ هَلْ يُقْطَعُ الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ بِسَرِقَةِ مَالِ وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا] (7302) فَصْلٌ: وَلَا يُقْطَعُ الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ، بِسَرِقَةِ مَالٍ وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّهُ يُحَدُّ بِالزِّنَا بِجَارِيَتِهِ، وَيُقَادُ بِقَتْلِهِ، فَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَةِ مَالِهِ كَالْأَبِ؛ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مَالِ الْأَبِ لِابْنِهِ حِفْظًا لَهُ، فَلَا يَجُوزُ إتْلَافُهُ حِفْظًا لِلْمَالِ، وَأَمَّا الزِّنَا بِجَارِيَتِهِ، فَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا، بِخِلَافِ الْمَالِ. [فَصْلٌ هَلْ يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ ذِي رَحِمٍ] فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَارِبِ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ، فَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِمْ، وَيُقْطَعُونَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ ذِي رَحِمٍ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةٌ تَمْنَعُ النِّكَاحَ، وَتُبِيحُ النَّظَرَ، وَتُوجِبُ النَّفَقَةَ، أَشْبَهَ قَرَابَةَ الْوِلَادَةِ. وَلَنَا أَنَّهَا قَرَابَةٌ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، فَلَا تَمْنَعُ الْقَطْعَ كَقَرَابَةِ غَيْرِهِ، وَفَارَقَ قَرَابَةَ الْوِلَادَةِ بِهَذَا. [فَصْلٌ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ] (7304) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَيْسَ مُحْرَزًا عَنْهُ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَإِنْ سَرَقَ مِمَّا أَحْرَزَهُ عَنْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، حِينَ قَالَ لَهُ: إنَّ غُلَامِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي: أَرْسِلْهُ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، خَادِمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ. وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ عَبْدُهُ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، فَهُوَ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ بِغَيْرِ حَجْبٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَتَبَسَّطُ فِي مَالِ الْآخَرِ عَادَةً، فَأَشْبَهَ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. وَالثَّانِيَةُ: يُقْطَعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا عَنْهُ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، أَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَلِلشَّافِعِيِّ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّ الزَّوْجَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَلَا تُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ فِيهِ. [فَصْلٌ سَرَقَ مُسْلِمٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ] (7305) فَصْلٌ: وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ حَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ؛ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ، سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَقَالَ: مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا.» وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عُمَرَ عَمَّنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَطْعٌ. وَلِأَنَّ لَهُ فِي الْمَالِ حَقًّا، فَيَكُونُ شُبْهَةً تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ. وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، أَوْ لِوَلَدِهِ، أَوْ لِسَيِّدِهِ، أَوْ لِمَنْ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، لَمْ يُقْطَعْ لِذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْغَانِمِينَ، وَلَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا، فَسَرَقَ مِنْهَا قَبْلَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ حَقًّا. وَإِنْ أُخْرِجَ الْخُمُسُ، فَسَرَقَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ، لَمْ يُقْطَعْ. وَإِنْ قُسِّمَ الْخُمُسُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، فَسَرَقَ مِنْ خُمُسِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ، قُطِعَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْخُمُسِ. [فَصْلٌ سَرَقَ مِنْ الْوَقْفِ أَوْ مِنْ غَلَّتِهِ وَكَانَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ] (7306) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْوَقْفِ، أَوْ مِنْ غَلَّتِهِ، وَكَانَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِسْكِينًا سَرَقَ مِنْ وَقْفِ الْمَسَاكِينِ، أَوْ مِنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ عَلَيْهِمْ وَقْفٌ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ، قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ: لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، فَلِمَ فَرَّقْتُمْ هَاهُنَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ لِلْغَنِيِّ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقًّا، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ. بِخِلَافِ وَقْفِ الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَنِيِّ فِيهِ. [فَصْلٌ الْقَطْعُ فِي الْمَجَاعَةِ] (7307) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا قَطْعَ فِي الْمَجَاعَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا سَرَقَ مَا يَأْكُلُهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُضْطَرِّ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا قَطْعَ فِي عَامِ سَنَةٍ. وَقَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْهُ، فَقُلْت: تَقُولُ بِهِ؟ قَالَ: إي لَعَمْرِي، لَا أَقْطَعُهُ إذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ، وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ وَمَجَاعَةٍ. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَجِدُ مَا يَشْتَرِيهِ، أَوْ لَا يَجِدُ مَا يَشْتَرِي بِهِ، فَإِنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي أَخْذِ مَا يَأْكُلُهُ، أَوْ مَا يَشْتَرِي بِهِ مَا يَأْكُلُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ غِلْمَانَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ انْتَحَرُوا نَاقَةً لِلْمُزَنِيِّ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقَطْعِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِحَاطِبٍ: إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ. فَدَرَأَ عَنْهُمْ الْقَطْعَ لَمَّا ظَنَّهُ يُجِيعُهُمْ. فَأَمَّا الْوَاجِدُ لِمَا يَأْكُلُهُ، أَوْ الْوَاجِدُ لِمَا يَشْتَرِي بِهِ وَمَا يَشْتَرِيهِ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّمَنِ الْغَالِي. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 وَلَا قَطْعَ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَدْرَ كِفَايَتِهَا، أَوْ كِفَايَةِ وَلَدِهَا، فَأَخَذَتْ مِنْ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَخَذَتْ قَدْرَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ قَدْرَ ذَلِكَ، فَالزَّائِدُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بِمَا يُسْتَحَقُّ أَخْذُهُ، وَلَا عَلَى الضَّيْفِ إذَا مُنِعَ قِرَاهُ، فَأَخَذَ أَيْضًا مِنْ مَالِ الْمُضِيفِ؛ لِذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ بِمَا يَجِبُ الْقَطْعُ] (7308) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُقْطَعُ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، أَوْ اعْتِرَافٍ مَرَّتَيْنِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ بَيِّنَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ، لَا غَيْرُ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَصِفَا السَّرِقَةَ وَالْحِرْزَ، وَجِنْسَ النِّصَابِ، وَقَدْرَهُ، لِيَزُولَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَيَقُولَانِ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَرَقَ كَذَا، قِيمَتُهُ كَذَا، مِنْ حِرْزٍ. وَيَصِفَانِ الْحِرْزَ. وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبًا، فَحَضَرَ وَكِيلُهُ، وَطَالَبَ بِالسَّرِقَةِ، احْتَاجَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَرْفَعَا فِي نَسَبِهِ، فَيَقُولَانِ: مِنْ حِرْزِ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، وَجَبَ الْقَطْعُ فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ يَجِبُ، إذَا شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ شَاهِدَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ، وَوَصَفَا مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ. وَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِشَهَادَتِهِمَا، لَمْ يَسْقُطْ بِغَيْبَتِهِمَا، وَلَا مَوْتِهِمَا، عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا. وَإِذَا شَهِدَا بِسَرِقَةِ مَالٍ غَائِبٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ حَاضِرٌ، فَطَالَبَ بِهِ، قُطِعَ السَّارِقُ، وَإِلَّا فَلَا. (7309) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْوَقْتِ، أَوْ الْمَكَانِ، أَوْ الْمَسْرُوقِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقَ ثَوْرًا. وَقَالَ الْآخَرُ: سَرَقَ بَقَرَةً. أَوْ قَالَ: سَرَقَ ثَوْرًا. وَقَالَ الْآخَرُ: سَرَقَ حِمَارًا. لَمْ يُقْطَعْ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقَ ثَوْبًا أَبْيَضَ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَسْوَدَ. أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقَ هَرَوِيًّا. فَقَالَ الْآخَرُ: مَرَوِيًّا. لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُقْطَعُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ هَرَوِيٌّ، وَالْآخَرَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ، أَوْ كَانَ الثَّوْبُ فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اللَّوْنُ أَقْرَبُ إلَى الظُّهُورِ مِنْ الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 يَخْفَى يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا، فَفِيمَا يَظْهَرُ أَوْلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا ظَنَّ الْمَسْرُوقَ ذَكَرًا، وَظَنَّهُ الْآخَرُ أُنْثَى، وَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا رَدَّ شَهَادَتِهِمَا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. الثَّانِي: الِاعْتِرَافُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَعْتَرِفَ مَرَّتَيْنِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْطَعُ بِاعْتِرَافِ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَحَقِّ الْآدَمِيِّ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ، فَقَالَ لَهُ: مَا إخَالُك سَرَقْت. قَالَ: بَلَى. فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَ» . وَلَوْ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ، لَمَا أَخَّرَهُ. وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَسُفْيَانَ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ شَهِدْت عَلِيًّا، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَأَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، فَرَدَّهُ، وَفِي لَفْظٍ: فَانْتَهَرَهُ. وَفِي لَفْظٍ: فَسَكَتَ عَنْهُ. وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: فَطَرَدَهُ. ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَقَرَّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: شَهِدْت عَلَى نَفْسِك مَرَّتَيْنِ. فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَ، وَفِي لَفْظٍ: قَدْ أَقْرَرْت عَلَى نَفْسِك مَرَّتَيْنِ. وَمِثْلُ هَذَا يَشْتَهِرُ، فَلَمْ يُنْكَرْ. وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا فِي حَدٍّ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ التَّكْرَارُ، كَحَدِّ الزِّنَا. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الْقَطْعِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَالشَّهَادَةِ. وَقِيَاسُهُمْ يُنْتَقَضُ بِحَدِّ الزِّنَا عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَ التَّكْرَارَ، وَيُفَارِقُ حَقَّ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ، وَالتَّضْيِيقِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. (7310) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَذْكُرَ فِي إقْرَارِهِ شُرُوطَ السَّرِقَةِ، مِنْ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْهُ (7311) فَصْلٌ: وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ وَذَلِكَ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمَا، وَلِمَا رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ،: أَنَّ عَلِيًّا قَطَعَ عَبْدًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ عَبْدًا. يَعْنِي الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ. وَرَوَى مُهَنَّا، عَنْ أَحْمَدَ: إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ سَرَقَ، قُطِعَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ إقْرَارَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، لِيَكُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِخَبَرِ عَلِيٍّ؛ وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِحَدٍّ، فَاسْتَوَى فِي عَدَدِهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. [مَسْأَلَةٌ رَجَعَ السَّارِقُ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ الْقَطْعِ] (7312) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَنْزِعُ عَنْ إقْرَارِهِ حَتَّى يُقْطَعَ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُد: لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِآدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ حَقٍّ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّارِقِ: " مَا إخَالُك سَرَقْت. عَرَّضَ لَهُ لِيَرْجِعَ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، ثَبَتَ بِالِاعْتِرَافِ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَحَدِّ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَرُجُوعُهُ عَنْهُ شُبْهَةٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ فِي اعْتِرَافِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الْقَطْعِ، فَيَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ حُجَّةَ الْقَطْعِ زَالَتْ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ. وَفَارَقَ حَقَّ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، وَلَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ، لَمْ يَبْطُلْ بِرُجُوعِهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِيفَاءَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقَطْعِ، سَقَطَ الْقَطْعُ، وَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلَوْ أَقَرَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَزِمَهُ غَرَامَةُ الْمَسْرُوقِ دُونَ الْقَطْعِ. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ وَقَدْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَفْصِلِ، لَمْ يُتْمِمْهُ إنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ لِكَوْنِهِ قَطَعَ قَلِيلًا، وَإِنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ، فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ؛ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَعْلِيقِ كَفِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَاطِعَ قَطْعُهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ تَدَاوٍ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ. [فَصْلٌ تَلْقِينُ السَّارِقِ لِيَرْجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ] (7313) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ السَّارِقِ لِيَرْجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ، فَسَأَلَهُ: أَسَرَقْت؟ قُلْ: لَا. فَقَالَ: لَا. فَتَرَكَهُ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلسَّارِقِ: " مَا أَخَالُك سَرَقْت ". وَقَالَ لِمَاعِزٍ: " لَعَلَّك قَبَّلْت، أَوْ لَمَسْت ". وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ فَانْتَهَرَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ طَرَدَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ. وَلَا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَبَ» . وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ: يَفْعَلُ ذَلِكَ دُونَ السُّلْطَانِ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ، فَلَا أَعْفَاهُ اللَّهُ إنْ أَعْفَاهُ. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ، وَعَمَّارٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطُ حَقٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ وَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي سَرِقَةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ] (7314) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي سَرِقَةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، قُطِعُوا) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَطْعٌ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِدُونِ النِّصَابِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ هَاهُنَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ، وَالِاحْتِيَاطُ بِإِسْقَاطِهِ أَوْلَى مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِإِيجَابِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ النِّصَابَ أَحَدُ شَرْطَيْ الْقَطْعِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِيهِ كَانُوا كَالْوَاحِدِ، قِيَاسًا عَلَى هَتْكِ الْحِرْزِ؛ وَلِأَنَّ سَرِقَةَ النِّصَابِ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَطْعَ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ، كَالْقِصَاصِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ ثَقِيلًا يَشْتَرِكُ الْجَمَاعَةُ فِي حَمْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ جُزْءًا، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِجُزْءٍ مِنْهُ، لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَاطِعِي الْيَدِ بِقَطْعِ جُزْءٍ مِنْهَا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ. وَلَنَا أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ، فَلَزِمَهُمْ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَقِيلًا فَحَمَلُوهُ، وَفَارَقَ الْقِصَاصَ، فَإِنَّهُ تُعْتَمَدُ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا تُوجَدُ الْمُمَاثَلَةُ إلَّا أَنْ تُوجَدَ أَفْعَالُهُمْ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْيَدِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْقَصْدُ الزَّجْرُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُمَاثَلَةٍ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ إخْرَاجِ الْمَالِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَا الْحِرْزَ مَعًا، أَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا فَأَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ، ثُمَّ دَخَلَ الْآخَرُ فَأَخْرَجَ بَاقِيَهُ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ، فَلَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ مَعًا. [فَصْلٌ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ] (7315) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، كَأَبِي الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، قُطِعَ شَرِيكُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، كَمَا لَوْ شَارَكَهُ فِي قَطْعِ يَدِ ابْنِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْطَعُ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُمَا جَمِيعًا صَارَتْ عِلَّةً لِقَطْعِهِمَا، وَسَرِقَةُ الْأَبِ لَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ أَخْذُهُ، بِخِلَافِ قَطْعِ يَدِ ابْنِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ عُدْوَانًا، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَضِيلَةِ الْأَبِ، لَا لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَهَا هُنَا فِعْلُهُ قَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ بِهِ، كَاشْتِرَاكِ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ. وَإِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِمَا يُوجِبُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 الْقَطْعَ. وَإِنْ أَخْرَجَ الْأَبُ نِصَابًا، وَشَرِيكُهُ دُونَ النِّصَابِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ اثْنَانِ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا، فَالْقَطْعُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِالْإِسْقَاطِ فَيَخْتَصُّ بِالسُّقُوطِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ السَّرِقَةُ مِنْهُمَا، وَقَدْ اخْتَلَّ أَحَدُ جُزْأَيْهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِمُشَارَكَةِ آخَرَ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ، وَلَمْ يُقِرَّ الْآخَرُ فَفِي الْقَطْعِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي إخْرَاجِ نِصَابِ السَّرِقَةِ مِنْ الدَّارِ] (7316) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلَيْنِ دَخَلَا دَارًا، أَحَدُهُمَا فِي سُفْلِهَا جَمَعَ الْمَتَاعَ وَشَدَّهُ بِحَبْلٍ، وَالْآخَرُ فِي عُلُوِّهَا مَدَّ الْحَبْلَ فَرَمَى بِهِ وَرَاءُ الدَّارِ، فَالْقَطْعُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي إخْرَاجِهِ. وَإِنْ دَخَلَا جَمِيعًا، فَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْمَتَاعَ وَحْدَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْقَطْعُ عَلَيْهِمَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، إذَا أَخْرَجَ نِصَابَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الْقَطْعُ عَلَى الْمُخْرِجِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّارِقُ. وَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا دُونَ النِّصَابِ، وَالْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَتَمَّا نِصَابَيْنِ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَيْهِمَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ: لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ لَمْ يُخْرِجْ نِصَابًا. وَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا، وَالْآخَرُ دُونَ النِّصَابِ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: الْقَطْعُ عَلَى مُخْرِجِ النِّصَابِ وَحْدَهُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ لَمْ يَبْلُغْ نُصُبًا بِعَدَدِ السَّارِقِينَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ مَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ نَقَبَا حِرْزًا، وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا، فَقَرَّبَ الْمَتَاعَ مِنْ النَّقْبِ، وَأَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَطْعُ عَلَى الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ مُخْرِجُ الْمَتَاعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَنَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ، فَلَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ مَعًا فَأَخْرَجَاهُ. وَإِنْ وَضَعَهُ فِي النَّقْبِ، فَمَدَّ الْآخَرُ يَدَهُ فَأَخَذَهُ، فَالْقَطْعُ عَلَيْهِمَا. وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ نَقَبَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ وَدَخَلَ الْآخَرُ وَحْدَهُ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ] (7317) فَصْلٌ: وَإِنْ نَقَبَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ، وَدَخَلَ الْآخَرُ وَحْدَهُ، فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْرِقْ، وَالثَّانِي لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزِ، وَإِنَّمَا سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ هَتَكَهُ غَيْرُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَبَ رَجُلٌ وَانْصَرَفَ، وَجَاءَ آخَرُ فَصَادَفَ الْحِرْزَ مَهْتُوكًا فَسَرَقَ مِنْهُ. وَإِنْ نَقَبَ رَجُلٌ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، فَلَا قَطْعَ أَيْضًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا مُمَيِّزًا؛ لِأَنَّ الْمُمَيِّزَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَلَا يَكُونُ آلَةً لِلْآمِرِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ. وَإِنْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي النَّقْبِ، وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَحْدَهُ، أَوْ أَخَذَهُ وَنَاوَلَهُ لِلْآخَرِ خَارِجًا مِنْ الْحِرْزِ، أَوْ رَمَى بِهِ إلَى خَارِجِ الْحِرْزِ، فَأَخَذَهُ الْآخَرُ، فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخْرِجُ الْمَتَاعِ وَحْدَهُ مَعَ الْمُشَارَكَةِ فِي النَّقْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الْحِرْزِ وَيَدُهُ عَلَى السَّرِقَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ وَلَنَا أَنَّ الْمَسْرُوقَ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ وَيَدُهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِهِ، وَيُخَالِفُ إذَا أَتْلَفَهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ تُشْتَرَطُ الْمُطَالَبَةُ مِنْ مَالِكِ الْمَسْرُوقِ حَتَّى يُقَامَ حَدُّ الْقَطْعِ] (7318) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْطَعُ وَإِنْ اعْتَرَفَ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، حَتَّى يَأْتِيَ مَالِكُ الْمَسْرُوقِ يَدَّعِيهِ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُقْطَعُ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى دَعْوَى وَلَا مُطَالَبَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْقَطْعِ ثَبَتَ، فَوَجَبَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ، كَحَدِّ الزِّنَا. وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ يُبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَالِكَهُ أَبَاحَهُ إيَّاهُ، أَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى طَائِفَةٍ السَّارِقُ مِنْهُمْ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ حِرْزِهِ، فَاعْتُبِرَتْ الْمُطَالَبَةُ لِتَزُولَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ أَوْسَعُ فِي الْإِسْقَاطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَالَ أَبِيهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ زَنَى بِجَارِيَتِهِ حُدَّ؟ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ شُرِعَ لِصِيَانَةِ مَالِ الْآدَمِيِّ، فَلَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ، فَلَمْ يُسْتَوْفَ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ مُطَالِبٍ بِهِ، وَالزِّنَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مَحْضٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى طَلَبٍ بِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ وَكِيلَ الْمَالِكِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الطَّلَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ غَائِبٍ، حُبِسَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبَاحَهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مُطْلَقٍ لِغَائِبٍ لَمْ يُحْبَسْ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْغَائِبِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِحَبْسِهِ، فَلَمْ يُحْبَسْ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ، فَحُبِسَ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، أَخَذَهَا الْحَاكِمُ، وَحَفِظَهَا لِلْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، فَإِذَا جَاءَ الْغَائِبُ كَانَ الْخَصْمَ فِيهَا. [فَصْلٌ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مِنْ رَجُلٍ فَقَالَ الْمَالِكُ: لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي وَلَكِنْ غَصَبْتنِي] (7319) فَصْلٌ: وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مِنْ رَجُلٍ، فَقَالَ الْمَالِكُ: لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي، وَلَكِنْ غَصَبْتنِي. أَوْ كَانَ لِي قِبَلَك وَدِيعَةٌ فَجَحَدْتنِي. لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يُوَافِقْ دَعْوَى الْمُدَّعِي. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ رَجُلَيْنِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ قَالَ الْآخَرُ: بَلْ غَصَبْتنِيهِ أَوْ جَحَدْتنِيهِ، لَمْ يُقْطَعْ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا قَالَ الْآخَرُ: غَصَبْتنِيهِ أَوْ جَحَدْتنِيهِ. قُطِعَ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى سَرِقَةِ نِصَابٍ، فَلَمْ يُقْطَعْ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ وَافَقَاهُ جَمِيعًا، قُطِعَ. وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا، فَطَالَبَ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُفْرَدِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَدْ فَقَدْتُهُ مِنْ مَالِي. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبٍ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ «، جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي سَرَقْت جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ فَطَهِّرْنِي. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إنَّا افْتَقَدْنَا جَمَلًا لَنَا. فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُطِعَتْ يَدُهُ. قَالَ ثَعْلَبَةُ: أَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ وَقَعَتْ يَدُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي طَهَّرَنِي مِنْك، أَرَدْت أَنْ تُدْخِلِي جَسَدِي النَّارَ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ ثَبَتَتْ سَرِقَتُهُ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ فَأَنْكَرَ] (7320) فَصْلٌ: وَمَنْ ثَبَتَتْ سَرِقَتُهُ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ، فَأَنْكَرَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَحْلِفُوهُ لِي أَنِّي سَرَقْت مِنْهُ. لَمْ يُحْلَفْ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي إحْلَافِهِ عَلَيْهَا قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ. وَإِنْ قَالَ: الَّذِي أَخَذْتُهُ مِلْكٌ لِي، كَانَ لِي عِنْدَهُ وَدِيعَةً، أَوْ رَهْنًا، أَوْ ابْتَعْتُهُ مِنْهُ، أَوْ وَهَبَهُ لِي، أَوْ أَذِنَ لِي فِي أَخْذِهِ، أَوْ غَصَبَهُ مِنِّي، أَوْ مِنْ أَبِي، أَوْ بَعْضُهُ لِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ثَبَتَتْ لَهُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى السَّارِقِ، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مَا قَالَ، وَلِهَذَا أَحْلَفْنَا الْمَسْرُوقَ مِنْهُ، وَإِنْ نَكَلَ، قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ. وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ بِدَعْوَاهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَجِبَ قَطْعُ سَارِقٍ، فَتَفُوتَ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِلَّا سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ لَا يَمْتَنِعُ اعْتِبَارُهُ، كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا شُرُوطًا لَا يَقَعُ مَعَهَا إقَامَةُ حَدٍّ بِبَيِّنَةٍ أَبَدًا، عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَيْهِ لَازِمًا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ السُّرَّاقِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَا يَهْتَدُونَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِ هَذَا الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لَا يَسْرِقُونَ غَالِبًا. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، قُضِيَ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ الْحَدُّ، وَجْهًا وَاحِدًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 [كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] ِ الْأَصْلُ فِي حُكْمِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] . وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُرْتَدِّينَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ، وَكَانُوا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ، فَاسْتَاقُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ جَاءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَنَسٌ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَلِأَنَّ مُحَارَبَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . وَالْكُفَّارُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، كَمَا تُقْبَلُ قَبْلَهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْمُحَارَبَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] (7321) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُحَارِبُونَ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلْقَوْمِ بِالسِّلَاحِ فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَغْصِبُونَهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ تَثْبُتُ لَهُمْ أَحْكَامُ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدُ، تُعْتَبَرُ لَهُمْ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِمْ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُحَارِبِينَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُ بِهِ الْغَوْثُ غَالِبًا، فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ، وَالْمُخْتَلِسُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ قَاطِعٌ حَيْثُ كَانَ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ بِعُمُومِهَا كُلَّ مُحَارِبٍ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي الْمِصْرِ كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا، وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ بِذَلِكَ أَوْلَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ، مِثْلَ أَنْ كَبَسُوا دَارًا، فَكَانَ أَهْلُ الدَّارِ بِحَيْثُ لَوْ صَاحُوا أَدْرَكَهُمْ الْغَوْثُ، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ بِقُطَّاعِ طَرِيقٍ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُمْ الْغَوْثُ عَادَةً، وَإِنْ حَصَرُوا قَرْيَةً أَوْ بَلَدًا فَفَتَحُوهُ وَغَلَبُوا عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ مَحَلَّةً مُنْفَرِدَةً، بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُهُمْ الْغَوْثُ عَادَةً، فَهُمْ مُحَارِبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمْ الْغَوْثُ، فَأَشْبَهَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ فِي الصَّحْرَاءِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، فَهُمْ غَيْرُ مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ مَنْ يَقْصِدُهُمْ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَإِنْ عَرَضُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ، فَهُمْ مُحَارِبُونَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسُوا مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ. وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، فَأَشْبَهَ الْحَدِيدَ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْتُوا مُجَاهَرَةً، وَيَأْخُذُوا الْمَالَ قَهْرًا فَأَمَّا إنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ، فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنْ اخْتَطَفُوهُ وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ. وَإِنْ خَرَجُوا عَلَى عَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ. [مَسْأَلَةٌ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ] (7322) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَإِنْ عَفَا صَاحِبُ الْمَالِ، وَصُلِبَ حَتَّى يُشْتَهَرَ، وَدُفِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، قُتِلَ، وَلَمْ يُصْلَبْ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ حُسِمَتَا وَخُلِّيَ) رَوَيْنَا نَحْوَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَحَمَّادٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَقُطِعَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ تُوجِبُ حَدًّا مُنْفَرِدًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا، وَجَبَ حَدُّهُمَا مَعًا، كَمَا لَوْ زَنَى، وَسَرَقَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ؛ لِأَنَّ " أَوْ " تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ " أَوْ " فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَبَيْنَ قَتْلِهِ وَقَطْعِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ فِعْلُهُمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ وَقَطَعَ فِي غَيْرِ قَطْعِ طَرِيقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ، فَرَآهُ الْإِمَامُ جَلْدًا ذَا رَأْيٍ، قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَا رَأْيَ لَهُ، قَطَعَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِعْلَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 وَلَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَقْتُلْ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.» فَأَمَّا " أَوْ " فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِنَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا، أَوْ لُغَةً، وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَهُوَ حُجَّةٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ، وَعُرْفُ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ الْبِدَايَةُ بِالْأَخَفِّ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ بُدِئَ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، أَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْرَامِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ، وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ جِنَايَاتِهِمْ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْجَلْدَ وَالرَّأْيَ دُونَ الْجِنَايَاتِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَوْ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يُخَيَّرْ الْإِمَامُ فِيهِ، كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَكَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِأَخْذِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ فِيهَا قَتْلٌ، سَقَطَ مَا دُونَهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ وَزَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ، فَجَاءَ نَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ، أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ» . وَقِيلَ: إنَّهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا كَالْمُسْنَدِ، وَهُوَ نَصٌّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ خَمْسٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 الْأُولَى: إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ لَا يَدْخُلُهُ عَفْوٌ. أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَهَلْ يُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ، بَلْ يُؤْخَذُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْأَبُ بِالِابْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ. وَالثَّانِيَةُ: تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَالْحَدُّ فِيهِ انْحِتَامُهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَ الِانْحِتَامُ، وَلَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، أَوْ الْحُرُّ عَبْدًا، أَوْ أَخَذَ مَالَهُ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، لِأَخْذِهِ الْمَالَ، وَغَرِمَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ وَقِيمَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا غَرِمَ دِيَتَهُ وَنُفِيَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ إذَا قَتَلَهُ لِيَأْخُذَ الْمَالَ، وَإِنْ قَتَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَالْوَاجِبُ قِصَاصٌ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، وَإِذَا قَتَلَ صُلِبَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] . وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ؛ أَحَدُهَا: فِي وَقْتِهِ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقْتَلُ مَصْلُوبًا، يُطْعَنُ بِالْحَرْبَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ، وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ الْحَيُّ لَا الْمَيِّتُ؛ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، فَيُشْرَعُ فِي الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلْبَ بَعْدَ قَتْلِهِ يَمْنَعُ تَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ، فَلَا يَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْلَ عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا أُطْلِقَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ، كَانَ قَتْلًا بِالسَّيْفِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقَتْلَ» . وَأَحْسَنُ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ، وَفِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبٌ لَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْمُحَارَبَةِ. قُلْنَا: لَوْ شُرِعَ لِرَدْعِهِ، لَسَقَطَ بِقَتْلِهِ، كَمَا يَسْقُطُ سَائِرُ الْحُدُودِ مَعَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ، لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِصَلْبِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: يَمْنَعُ تَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ. قُلْنَا: هَذَا لَازِمٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ مَصْلُوبًا. الثَّانِي: فِي قَدْرِهِ وَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ، إلَّا قَدْرَ مَا يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يُوَقِّتْ أَحْمَدُ فِي الصَّلْبِ، فَأَقُولُ: يُصْلَبُ قَدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَالصَّحِيحُ تَوْقِيتُهُ بِمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ مِنْ الشُّهْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْلَبُ ثَلَاثًا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا تَوْقِيتٌ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، فَلَا يَجُوزُ، مَعَ أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ يُفْضِي إلَى تَغَيُّرِهِ، وَنَتِنِهِ، وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ بِرَائِحَتِهِ وَنَظَرِهِ، وَيَمْنَعُ تَغْسِيلَهُ وَتَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ، فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. الثَّالِثُ: فِي وُجُوبِهِ، وَهَذَا وَاجِبٌ حَتْمٌ فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، لَا يَسْقُطُ بِعَفْوٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ شَاءَ الْإِمَامُ صَلَبَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصْلُبْ. وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ. وَلِأَنَّهُ شُرِعَ حَدًّا، فَلَمْ يَتَخَيَّرْ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، كَالْقَتْلِ وَسَائِرِ الْحُدُودِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا اُشْتُهِرَ أُنْزِلَ، وَدُفِعَ إلَى أَهْلِهِ، فَيُغَسَّلُ، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ. (7323) " فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَتْلِهِ، لَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَقَدْ فَاتَ الْحَدُّ بِمَوْتِهِ، فَيَسْقُطُ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّتِهِ. وَإِنْ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ بِمُثَقَّلٍ قُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ بِمُحَدَّدِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِمَا. وَإِنْ قَتَلَ بِآلَةٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِهَا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعُمُومِ. الْحَالُ الثَّانِي: قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَلَا يُصْلَبُونَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُمْ يُصْلَبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ، فَيُصْلَبُونَ، كَاَلَّذِينَ أَخَذُوا الْمَالَ. وَالْأُولَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ فِيهِمْ قَالَ فِيهِ: وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، قُتِلَ ". وَلَمْ يَذْكُرْ صَلْبًا؛ وَلِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ بِأَخْذِ الْمَالِ مَعَ الْقَتْلِ تَزِيدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 عَلَى الْجِنَايَةِ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ، وَلَوْ شُرِعَ الصَّلْبُ هَاهُنَا لَاسْتَوَيَا، وَالْحُكْمُ فِي تَحَتُّمِ الْقَتْلِ وَكَوْنِهِ حَدًّا هَاهُنَا، كَالْحُكْمِ فِيهِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ. (7324) فَصْلٌ: وَإِذَا جَرَحَ الْمُحَارِبُ جُرْحًا فِي مِثْلِهِ الْقِصَاصُ، فَهَلْ يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يَتَحَتَّمُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّهِ بِالْجِرَاحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ الْقَتْلَ وَالصَّلْبَ وَالْقَطْعَ وَالنَّفْيَ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمُحَارَبَةِ غَيْرُهَا فَلَا يَتَحَتَّمُ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ حَدٌّ، فَتَحَتَّمَ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْقِصَاصِ. وَالثَّانِيَةُ: يَتَحَتَّمُ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْلِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ قَوَدٍ، أَشْبَهَ الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ. وَالْأُولَى أَوْلَى. وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ، كَالْجَائِفَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ. وَإِنْ جَرَحَ إنْسَانًا وَقَتَلَ آخَرَ، اُقْتُصَّ مِنْهُ لِلْجِرَاحِ، وَقُتِلَ لِلْمُحَارَبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ الْجِرَاحُ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا قَتْلٌ، سَقَطَ مَا سِوَى الْقَتْلِ. وَلَنَا أَنَّهَا جِنَايَةٌ يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ، فَيَجِبُ بِهَا فِي الْمُحَارَبَةِ، كَالْقَتْلِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ حَدٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ قِصَاصٌ مُتَمَحِّضٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْجُرْحُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَدٌّ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ مَعَ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ، كَالصَّلْبِ، وَكَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عِنْدَهُمْ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] . وَإِنَّمَا قَطَعْنَا يَدَهُ الْيُمْنَى لِلْمَعْنَى الَّذِي قَطَعْنَا بِهِ يُمْنَى السَّارِقِ، ثُمَّ قَطَعْنَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى لِتَتَحَقَّقَ الْمُخَالَفَةُ، وَلِيَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ فِي إمْكَانِ مَشْيِهِ. وَلَا يُنْتَظَرُ انْدِمَالُ الْيَدِ فِي قَطْعِ الرِّجْلِ، بَلْ يُقْطَعَانِ مَعًا، يُبْدَأُ بِيَمِينِهِ فَتُقْطَعُ وَتُحْسَمُ، ثُمَّ بِرِجْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَيْدِي. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنْهُ غَيْرُ يَدٍ وَرِجْلٍ، إذَا كَانَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْدُومَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، إمَّا لِكَوْنِهِ قَدْ قُطِعَ فِي قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ لِمَرَضٍ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ سُقُوطُ الْقَطْعِ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى أَوْ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، إمَّا مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَوْ الْمَشْيِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَسْتَوْفِي أَعْضَاءَ السَّارِقِ الْأَرْبَعَةَ، يُقْطَعُ مَا بَقِيَ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحْدَهَا، وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً، قُطِعَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 يُمْنَى يَدَيْهِ، وَلَمْ يُقْطَعْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَجْهًا وَاحِدًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي مَحَلِّ الْحَدِّ مَا يُسْتَوْفَى، فَاكْتُفِيَ بِاسْتِيفَائِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَدُ نَاقِصَةً، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَ مَا وَجَبَ قَطْعُهُ أَشَلَّ، فَذَكَرَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ قَطْعَهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ، لَمْ يُقْطَعْ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَعْدُومِ. وَإِنْ قَالُوا: لَا يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ. فَفِي قَطْعِهِ رِوَايَتَانِ. ذَكَرْنَاهُمَا فِي قَطْعِ السَّارِقِ. الْحَالُ الرَّابِعُ، إذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا. الْحَالُ الْخَامِسُ، إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَيَأْتِي ذِكْرُ حُكْمِهِمَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ قَطْعُ يَدِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] (7325) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْطَعُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ أَخَذَ مَا يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي مِثْلِهِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْمُحَارِبِ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ، فَكَذَلِكَ النِّصَابُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ» . وَلَمْ يُفَصِّلْ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا عُقُوبَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحَارِبِ، فَلَا تَتَغَلَّظُ فِي الْمُحَارِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَالْقَتْلِ يَغْلُظُ بِالِانْحِتَامِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا تَتَغَلَّظُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ مَعَهَا، وَلَا تَتَغَلَّظُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ. وَأَمَّا الْحِرْزُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا مَالًا مُضَيَّعًا لَا حَافِظَ لَهُ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ. وَإِنْ أَخَذُوا مَا يَبْلُغُ نِصَابًا وَلَا تَبْلُغُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، قُطِعُوا، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِنَا فِي السَّرِقَةِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا. وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا تَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِيمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَالِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْرُوقِ. [مَسْأَلَةٌ نَفْيُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] (7326) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُشَرَّدُوا، فَلَا يُتْرَكُوا يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ إذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا، فَإِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّفْيَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَالنَّفْيُ هُوَ تَشْرِيدُهُمْ عَنْ الْأَمْصَارِ وَالْبُلْدَانِ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ بَلَدًا. وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ، كَنَفْيِ الزَّانِي. وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ مَنْفَى النَّاسِ إلَى بَاضِعَ، مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ أَقْصَى تِهَامَةِ الْيَمَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْبَسُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ فِي الزَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْحَالِ: يُعَزِّرُهُمْ الْإِمَامُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَحْبِسَهُمْ حَبَسَهُمْ. وَقِيلَ عَنْهُ: النَّفْيُ طَلَبُ الْإِمَامِ لَهُمْ لِيُقِيمَ فِيهِمْ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَحْبِسُهُمْ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَشْرِيدَهُمْ إخْرَاجٌ لَهُمْ إلَى مَكَان يَقْطَعُونَ فِيهِ الطَّرِيقَ، وَيُؤْذُونَ بِهِ النَّاسَ، فَكَانَ حَبْسُهُمْ أَوْلَى. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، مَعْنَاهَا أَنَّ نَفْيَهُمْ طَلَبُ الْإِمَامِ لَهُمْ، فَإِذَا ظَفِرَ بِهِمْ عَزَّرَهُمْ بِمَا يَرْدَعُهُمْ. وَلَنَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّفْيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَالْحَبْسُ إمْسَاكٌ، وَهُمَا يَتَنَافَيَانِ. فَأَمَّا نَفْيُهُمْ إلَى غَيْرِ مَكَان مُعَيَّنٍ، فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ نَفْيَهُ مِنْ جَمِيعِهَا. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِنَفْيِ الزَّانِي، فَإِنَّهُ يُنْفَى إلَى مَكَان يُحْتَمَلُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الزِّنَا فِيهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا قَدْرَ مُدَّةِ نَفْيِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَقَدَّرَ مُدَّتُهُ بِمَا تَظْهَرُ فِيهِ تَوْبَتُهُمْ، وَتَحْسُنُ سِيرَتُهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنْفَوْا عَامًا، كَنَفْيِ الزَّانِي. [مَسْأَلَةٌ تَوْبَةُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ] (7327) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ، سَقَطَتْ عَنْهُمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأُخِذُوا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ مِنْ الْأَنْفُسِ، وَالْجِرَاحِ، وَالْأَمْوَالِ، إلَّا أَنْ يُعْفَى لَهُمْ عَنْهَا) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ، وَغَرَامَةُ الْمَالِ وَالدِّيَةُ لِمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ. فَأَمَّا إنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، فَمَنْ عَدَاهُمْ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَوْبَةُ إخْلَاصٍ، وَبَعْدَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَقِيَّةٌ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، تَرْغِيبًا فِي تَوْبَتِهِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ مُحَارَبَتِهِ وَإِفْسَادِهِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ عَنْهُ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى تَرْغِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْ الْفَسَادِ وَالْمُحَارَبَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 [فَصْلٌ فَعَلَ الْمُحَارِبُ مَا يُوجِبُ حَدًّا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَارَبَةِ] (7328) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ الْمُحَارِبُ مَا يُوجِبُ حَدًّا لَا يَخْتَصُّ الْمُحَارَبَةَ؛ كَالزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَقَطَتْ بِالتَّوْبَةِ، كَحَدِّ الْمُحَارَبَةِ، إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ؛ وَلِأَنَّ فِي إسْقَاطِهَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ الْمُحَارَبَةَ، فَكَانَتْ فِي حَقِّهِ كَهِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَإِنْ أَتَى حَدًّا قَبْلَ الْمُحَارَبَةِ، ثُمَّ حَارَبَ وَتَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِهَا الذَّنْبُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَأَصْلَحَ] (7329) فَصْلٌ: وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ، وَأَصْلَحَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] . وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، كَحَدِّ الْمُحَارِبِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» . وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي سَرَقْت جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ، فَطَهِّرْنِي. وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدَّ عَلَيْهِمْ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ، كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِسُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ، فَهَلْ يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، أَوْ بِهَا مَعَ إصْلَاحِ الْعَمَلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْحَدِّ، فَأَشْبَهَتْ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] . وَقَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ، وَصَلَاحُ نِيَّتِهِ، وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: مُدَّةُ ذَلِكَ سَنَةٌ. وَهَذَا تَوْقِيتٌ، بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، فَلَا يَجُوزُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الرِّدْءِ مِنْ الْقُطَّاعِ] (7330) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الرِّدْءِ مِنْ الْقُطَّاعِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ عَلَى الرِّدْءِ إلَّا التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعِينِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَلَنَا أَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَارَبَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ، كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ مِنْ فِعْلِهِ إلَّا بِقُوَّةِ الرِّدْءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، ثَبَتَ حُكْمُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمْ، فَيَجِبُ قَتْلُ جَمِيعِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ الْمَالَ، جَازَ قَتْلُهُمْ وَصَلْبُهُمْ، كَمَا لَوْ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. [فَصْلٌ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ] (7331) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ ذُو رَحِمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْ غَيْرِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَيَصِيرُ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ، إنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، فَالشُّبْهَةُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ. وَلَنَا أَنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتَصَّ بِهَا وَاحِدٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ. فَعَلَى هَذَا، لَا حَدَّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ بَاشَرَا الْقَتْلَ وَأَخَذَا الْمَالَ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ، وَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَا أَخَذَا مِنْ الْمَالِ فِي أَمْوَالِهِمَا، وَدِيَةُ قَتِيلِهِمَا عَلَى عَاقِلَتِهِمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الرِّدْءِ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِلْمُبَاشِرِ، لَمْ يَثْبُتْ لِمَنْ هُوَ تَبَعٌ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ غَيْرَهُمَا، لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الرِّدْءِ ثَبَتَ بِالْمُحَارَبَةِ. [فَصْلٌ كَانَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فِيهِمْ امْرَأَةٌ] (7332) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ، ثَبَتَ فِي حَقِّهَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ، فَمَتَى قَتَلَتْ وَأَخَذَتْ الْمَالَ، فَحَدُّهَا حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَلَا عَلَى مَنْ مَعَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ، كَالرَّجُلِ، فَأَشْبَهَتْ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ. وَلَنَا أَنَّهَا تُحَدُّ فِي السَّرِقَةِ، فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ كَالرَّجُلِ، وَتُخَالِفُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ؛ وَلِأَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ يَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ وَسَائِرُ الْحُدُودِ، فَلَزِمَهَا هَذَا الْحَدُّ، كَالرَّجُلِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إنْ بَاشَرَتْ الْقَتْلَ، أَوْ أَخْذَ الْمَالِ، ثَبَتَ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ فِي حَقِّ مَنْ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُمْ رِدْءٌ لَهَا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهَا، ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهَا رِدْءٌ لَهُ، كَالرَّجُلِ سَوَاءً. وَإِنْ قَطَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ، أَوْ كَانَ مَعَ الْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ ذِمِّيٌّ، فَهَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ. حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ. حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا نَحْكُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْمَالَ وَأُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى] (7333) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْمَالَ، وَأُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ مَوْجُودَةً، رُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً أَوْ مَعْدُومَةً، وَجَبَ ضَمَانُهَا عَلَى آخِذِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: أَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَالِفَةً، لَمْ يَلْزَمْهَا غَرَامَتُهَا، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَسْرُوقِ إذَا قُطِعَ السَّارِقُ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي السَّرِقَةِ. وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ دُونَ الرِّدْءِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ، كَالْغَصْبِ وَالنَّهْبِ، وَلَوْ تَابَ الْمُحَارِبُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ؛ مِنْ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ، لَاخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الرِّدْءِ لِذَلِكَ، وَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي السَّرِقَةِ، لَتَعَلَّقَ بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الرِّدْءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ] (7334) فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ، لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ الْقِسَمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ، وَيَزْنِيَ وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَيَقْتُلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَذَا يُقْتَلُ، وَيَسْقُطُ سَائِرُهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَوْفَى جَمِيعُهَا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ مَعَ غَيْرِ الْقَتْلِ، وَجَبَ مَعَ الْقَتْلِ، كَقَطْعِ الْيَدِ قِصَاصًا. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ، أَحَدُهُمَا الْقَتْلُ، أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يَكْفِيهِ الْقَتْلُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ انْتَشَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَتْلٌ، فَسَقَطَ مَا دُونَهُ، كَالْمُحَارِبِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ، وَلَا يُقْطَعُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُرَادُ لِمُجَرَّدِ الزَّجْرِ، وَمَعَ الْقَتْلِ لَا حَاجَةَ إلَى زَجْرِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَلَا يُشْرَعْ. وَيُفَارِقُ الْقِصَاصَ؛ فَإِنَّ فِيهِ غَرَضَ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ مُجَرَّدُ الزَّجْرِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ الرَّجْمَ وَالْقَتْلَ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ، أَوْ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِلْمُحَارَبَةِ، وَيَسْقُطَ الرَّجْمُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ حَقَّ آدَمِيٍّ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ الْمُحَارَبَةُ فِي تَحْرِيمِهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَإِنَّ جَمِيعَهَا يُسْتَوْفَى مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَيُبْدَأُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَإِذَا شَرِبَ وَزَنَى وَسَرَقَ، حُدَّ لِلشُّرْبِ أَوَّلًا، ثُمَّ حُدَّ لِلزِّنَا، ثُمَّ قُطِعَ لِلسَّرِقَةِ. وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَ لِذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَطْعُ لِلسَّرِقَةِ؛ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعَيْنِ وَاحِدٌ، فَتَدَاخَلَا، كَالْقَتْلَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبُدَاءَةِ بِحَدِّ الزِّنَا وَقَطْعِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ. وَلَنَا أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَخَفُّ، فَيُقَدَّمُ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فِي السُّنَّةِ، وَمُجْمَعٍ عَلَى وُجُوبِهِ، وَهَذَا التَّقْدِيمُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَلَوْ بَدَأَ بِغَيْرِهِ، جَازَ وَوَقَعَ الْمَوْقِعَ. وَلَا يُوَالِي بَيْنَ هَذِهِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، بَلْ مَتَى بَرِئَ مِنْ حَدٍّ أُقِيمَ الَّذِي يَلِيهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلْآدَمِيِّ، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ، فَهَذِهِ تُسْتَوْفَى كُلُّهَا، وَيُبْدَأُ بِأَخَفِّهَا، فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ يُقْطَعُ، ثُمَّ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، فَوَجَبَ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ مَا دُونَ الْقَتْلِ فِيهِ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَنَا أَنَّ مَا دُونَ الْقَتْلِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ كَذُنُوبِهِمْ، وَفَارَقَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودُ اللَّهِ وَحُدُودُ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَهَذِهِ تُسْتَوْفَى كُلُّهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ حَدَّيْ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ يَتَدَاخَلَانِ، لِاسْتِوَائِهِمَا، فَهُمَا كَالْقَتْلَيْنِ وَالْقَطْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، لَا يَفُوتُ بِهِمَا الْمَحَلُّ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا، كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَلَا نُسَلِّمُ اسْتِوَاءَهُمَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 فَإِنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ وَحَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ، وَإِنْ سُلِّمَ اسْتِوَاؤُهُمَا، لَمْ يَلْزَمْ تَدَاخُلُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ اقْتَضَى تَدَاخُلَهُمَا، لَوَجَبَ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِمَّا يَتَدَاخَلُ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَفَارَقَ الْقَتْلَيْنِ وَالْقَطْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِالْأَوَّلِ، فَيَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الثَّانِي وَهَذَا بِخِلَافِهِ. فَعَلَى هَذَا، يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: خِفَّتُهُ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ شَحِيحٍ إلَّا إذَا قُلْنَا: حَدُّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ. فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ؛ لِخِفَّتِهِ، ثُمَّ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ، فَالْآخَرُ يَلِيهِ، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا؛ فَإِنَّهُ لَا إتْلَافَ فِيهِ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُبْدَأُ بِالْقَطْعِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ مُتَمَحِّضٌ، فَإِذَا بَرِئَ حُدَّ لِلْقَذْفِ، إذَا قُلْنَا: هُوَ حَقُّ آدَمِيٍّ ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ فَإِذَا بَرِئَ، حُدَّ لِلزِّنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِتَأَكُّدِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحُدُودٌ لِآدَمِيٍّ، وَفِيهَا قَتْلٌ فَإِنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى تَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَالْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ الرِّدَّةِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّ، فَتُسْتَوْفَى كُلُّهَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، اُسْتُوْفِيَتْ الْحُقُوقُ كُلُّهَا مُتَوَالِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، اُنْتُظِرَ بِاسْتِيفَائِهِ الثَّانِي بُرْؤُهُ مِنْ الْأَوَّلِ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تُفَوِّتَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ، فَيَفُوتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ جَائِزٌ، فَتَأْخِيرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْفُوَ الْوَلِيُّ فَيَحْيَا، بِخِلَافِ الْقَتْلِ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْحَقَّانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَيَكُونَ تَفْوِيتًا، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ قِصَاصًا وَحَدًّا؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ، قُدِّمَ الْقِصَاصُ، لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْآدَمِيِّ. وَإِنْ اجْتَمَعَ الْقَتْلُ لِلْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْقِصَاصُ، بُدِئَ بِأَسْبَقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْمُحَارَبَةِ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَيْضًا، فَيُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ الْقَتْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، اُسْتُوْفِيَ، وَوَجَبَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْآخَرِ دِيَتُهُ فِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنْ سَبَقَ الْقِصَاصُ، قُتِلَ قِصَاصًا، وَلَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالْقِصَاصِ، فَسَقَطَ الصَّلْبُ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَيَجِبُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْمُحَارَبَةِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ قِصَاصٌ، فَصَارَ الْوُجُوبُ إلَى الدِّيَةِ. وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ مِنْ الْقَاتِلِ. وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ سَابِقًا، فَعَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، اُسْتُوْفِيَ لِلْمُحَارَبَةِ، سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ إلَى الدِّيَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْقَطْعُ: فَإِذَا اجْتَمَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ قِصَاصًا وَحَدًّا، قُدِّمَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحَدِّ الْمُتَمَحِّضِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ سَبَبُهُ أَوْ تَأَخَّرَ. وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، اُسْتُوْفِيَ الْحَدُّ، فَإِذَا قَطَعَ يَدًا وَأَخَذَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا، وَيُنْتَظَرُ بُرْؤُهُ، فَإِذَا بَرِئَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ لِلْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ دُونَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمُحَارَبَةِ حَدٌّ مَحْضٌ، وَلَيْسَ بِقِصَاصٍ، وَالْقَتْلُ فِيهَا يَتَضَمَّنُ الْقِصَاصَ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَ الْقَتْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَلَوْ فَاتَ الْقَطْعُ، لَمْ يَجِبْ لَهُ بَدَلٌ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَطْعِ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَقَطَعَ يَدَهُ قِصَاصًا، فَإِنَّ رِجْلَهُ تُقْطَعُ. وَهَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ الْأُخْرَى؟ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بِالْقِصَاصِ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَطْعَ بِالْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فِيهِ، لَمْ يُقْطَعْ أَكْثَرُ مِنْ الْعُضْوِ الْبَاقِي مِنْ الْعُضْوَيْنِ اللَّذَيْنِ اُسْتُحِقَّ قَطْعُهُمَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعِ ذَهَبَ بِعَارِضٍ حَادِثٍ، فَلَمْ يَجِبْ قَطْعُ بَدَلِهِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ بِعُدْوَانٍ أَوْ بِمَرَضٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ ذَهَبَ الْعُضْوَانِ جَمِيعًا، سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْقَطْعِ قِصَاصًا سَابِقًا عَلَى مُحَارَبَتِهِ، أَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ غَيْرَ الْعُضْوِ الَّذِي وَجَبَ قَطْعُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ، مِثْلَ أَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي يَسَارِهِ بَعْدَ وُجُوبِ قَطْعِ يُمْنَاهُ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَلْ تُقْطَعُ الْيَدُ الْأُخْرَى لِلْمُحَارَبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَطْعِ يُسْرَى السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ، إنْ قُلْنَا: تُقْطَعُ ثَمَّ. قُطِعَتْ هَاهُنَا وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ سَرَقَ وَأَخَذَ الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِأَسْبَقِهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ الْمُحَارَبَةُ سَابِقَةً، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، وَحُسِمَتَا. وَهَلْ تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ لِلسَّرِقَةِ؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: تُقْطَعُ. اُنْتُظِرَ بُرْؤُهُ مِنْ الْقَطْعِ لِلْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ. وَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ سَابِقَةً، قُطِعَتْ يُمْنَاهُ لِلسَّرِقَةِ، وَلَا تُقْطَعُ رِجْلُهُ لِلْمُحَارَبَةِ حَتَّى تَبْرَأَ يَدُهُ. وَهَلْ تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ لِلْمُحَارَبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ] (7335) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، قُتِلَ حَتْمًا، وَلَمْ يُصْلَبْ، وَلَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ فِيهِمَا قَتْلٌ، فَدَخَلَ مَا دُونَ الْقَتْلِ فِيهِ، وَلَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ مَعَ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَذَانِ حَدَّانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا تَدَاخَلَا. وَإِنْ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ جَمَاعَةً، قُتِلَ بِالْأَوَّلِ حَتْمًا وَلِلْبَاقِينَ دِيَاتُ أَوْلِيَائِهِمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ اُسْتُحِقَّ بِقَتْلِ الْأَوَّلِ، وَتَحَتَّمَ بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ، فَتَعَيَّنَتْ حُقُوقُ الْبَاقِينَ فِي الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ. [فَصْلٌ شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ عَلَيْهِمَا الطَّرِيقَ وَعَلَى فُلَانٍ وَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ] (7336) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ عَلَيْهِمَا الطَّرِيقَ وَعَلَى فُلَانٍ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا خَصْمَيْنِ لَهُ بِقَطْعِهِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى فُلَانٍ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُ. قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا الْحَاكِمُ: هَلْ قَطَعَ عَلَيْكُمَا مَعَهُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمَا مَا لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ عَادَ الْمَشْهُودُ لَهُ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ عَلَيْهِمَا الطَّرِيقَ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُمَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَدُوًّا لَهُ بِقَطْعِهِ الطَّرِيقَ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَضُوا لَنَا فِي الطَّرِيقِ، وَقَطَعُوهَا عَلَى فُلَانٍ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُمَا خَصْمَيْنِ بِمَا ذَكَرَاهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 [كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ] [مَسْأَلَةٌ مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إذَا شَرِبَهَا وَهُوَ مُخْتَارٌ لِشُرْبِهَا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ] ِ الْخَمْرُ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِأَخْبَارٍ تَبْلُغُ بِمَجْمُوعِهَا رُتْبَةَ التَّوَاتُرِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ حَلَالٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ. فَبَيَّنَ لَهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ؛ لِشُرْبِهِمْ إيَّاهَا، فَرَجَعُوا إلَى ذَلِكَ، فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، فَمَنْ اسْتَحَلَّهَا الْآنَ فَقَدْ كَذَّبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ ضَرُورَةً مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ تَحْرِيمُهُ، فَيَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ. رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] . وَإِنِّي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ. فَقَالَ عُمَرُ لِلْقَوْمِ: أَجِيبُوا الرَّجُلَ. فَسَكَتُوا عَنْهُ، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَجِبْهُ. فَقَالَ: إنَّمَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُذْرًا لِلْمَاضِينَ، لِمَنْ شَرِبَهَا قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ وَأَنْزَلَ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ} [المائدة: 90] . حُجَّةً عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ سَأَلَ عُمَرُ عَنْ الْحَدِّ فِيهَا فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إذَا شَرِبَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَاجْلِدُوهُ ثَمَانِينَ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةَ، إذَا اتَّقَيْت اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، أَنَّ أُنَاسًا شَرِبُوا بِالشَّامِ الْخَمْرَ، فَقَالَ لَهُمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: شَرِبْتُمْ الْخَمْرَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ. فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنْ أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا نَهَارًا، فَلَا تَنْتَظِرْ بِهِمْ إلَى اللَّيْلِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 وَإِنْ أَتَاكَ لَيْلًا، فَلَا تَنْتَظِرْ بِهِمْ نَهَارًا، حَتَّى تَبْعَثَ بِهِمْ إلَيَّ، لِئَلَّا يَفْتِنُوا عِبَادَ اللَّهِ. فَبَعَثَ بِهِمْ إلَى عُمَرَ، فَشَاوَرَ فِيهِمْ النَّاسَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى أَنَّهُمْ قَدْ شَرَّعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهَا حَلَالٌ، فَاقْتُلْهُمْ، فَقَدْ أَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهَا حَرَامٌ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، فَقَدْ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحَدِّ مَا يَفْتَرِي بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.: فَحَدَّهُمْ عُمَرُ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُجْمَعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ، إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ زَبَدَهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - (7337) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ: (وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، إذَا شَرِبَهَا وَهُوَ مُخْتَارٌ لِشُرْبِهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ: (7338) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ خَمْرٌ حُكْمُهُ حُكْمُ عَصِيرِ الْعِنَبِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهِ. وَرُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَنَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ، وَنَبِيذِ الْحِنْطَةِ، وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ نَقِيعًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا: كُلُّ ذَلِكَ حَلَالٌ، إلَّا مَا بَلَغَ السُّكْرَ، فَأَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ، وَقَذَفَ زَبَدَهُ، أَوَطُبِخَ فَذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ بِغَيْرِ طَبْخٍ، فَهَذَا مُحَرَّمٌ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «حُرِّمَتْ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُمَا وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قَالَ: وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، فَأَشْبَهَ عَصِيرَ الْعِنَبِ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْمُسْكِرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَحَادِيثَ مَعْلُولَةٍ، ذَكَرْنَاهَا مَعَ عِلَلِهَا. وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ أَحَادِيثَهُمْ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ، فَضَعَّفَهَا كُلَّهَا، وَبَيَّنَ عِلَلَهَا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالسُّكْرِ الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، فَإِنَّهُ يَرْوِي هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.» [الْفَصْلُ الثَّانِي: حَدُّ مَنْ شَرِبَ قَلِيلًا مِنْ الْمُسْكِرِ أَوْ كَثِيرًا] (7339) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَرِبَ قَلِيلًا مِنْ الْمُسْكِرِ أَوْ كَثِيرًا. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي ذَلِكَ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِهَا، فَذَهَبَ إمَامُنَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَكُلِّ مُسْكِرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُحَدُّ، إلَّا أَنْ يَسْكَرَ؛ مِنْهُمْ أَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَنْ شَرِبَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ حُدَّ. وَمَنْ شَرِبَهُ مُتَأَوِّلًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، فَيَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ؛ وَلِأَنَّهُ شَرَابٌ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، فَوَجَبَ الْحَدُّ بِقَلِيلِهِ، كَالْخَمْرِ. وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهَا؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهَا. وَبِهَذَا فَارَقَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَقَدْ حَدَّ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابَهُ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ حِلَّ مَا شَرِبُوهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِعْلَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ هَاهُنَا دَاعِيَةٌ إلَى فِعْلِ مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَفِعْلَ سَائِرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَصْرِفُ عَنْ جِنْسِهِ مِنْ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ اسْتَفَاضَتْ بِتَحْرِيمِ هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ لِأَحَدٍ عُذْرٌ فِي اعْتِقَادِ إبَاحَتِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ عِشْرُونَ وَجْهًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِهَا: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَبَعْضِهَا: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . [فَصْلٌ ثَرَدَ فِي الْخَمْرِ أَوْ اصْطَبَغَ بِهِ أَوْ طَبَخَ بِهِ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقَتِهِ] (7340) فَصْلٌ: وَإِنْ ثَرَدَ فِي الْخَمْرِ، أَوْ اصْطَبَغَ بِهِ، أَوْ طَبَخَ بِهِ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ مَوْجُودَةٌ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 وَكَذَلِكَ إنْ لَتَّ بِهِ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ. وَإِنْ عَجَنَ بِهِ دَقِيقًا، ثُمَّ خَبَزَهُ فَأَكَلَهُ، لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَثَرُهُ. وَإِنْ احْتَقَنَ بِالْخَمْرِ، لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشُرْبٍ وَلَا أَكْلٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى حَلْقِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ، وَإِنْ اسْتَعَطَ بِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ، وَلِذَلِكَ نُشِرَ الْحُرْمَةُ فِي الرَّضَاعِ دُونَ الْحُقْنَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى مَنْ احْتَقَنَ بِهِ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى جَوْفِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ] (7341) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي قَدْرِ الْحَدِّ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ ثَمَانُونَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ. فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَالِدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الْمَشُورَةِ: إنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى. فَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي. رَوَى ذَلِكَ الْجُوزَجَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيْرُهُمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْحَدَّ أَرْبَعُونَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ قَالَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ» وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ» ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ عُمَرُ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ ابْنُ عَوْفٍ: أَقَلُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ. فَضَرَبَهُ عُمَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْلَ النَّبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَتُحْمَلُ الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا إذَا رَآهُ الْإِمَامُ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ إلْزَامُ الْحَدِّ لِمَنْ شَرِبَ بِاخْتِيَارِهِ] (7342) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا، فَإِنْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا إثْمَ، سَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ، أَوْ أُلْجِئَ إلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ، وَتُصَبَّ فِيهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ إلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا، إذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ، أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ، فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ، وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ، لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي، فَإِنِّي مُضْطَرٌّ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتَكُمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا، أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ، أَوْ شَرِبَهَا لِلتَّدَاوِي، لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاحُ شُرْبُهَا لَهُمَا. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: يُبَاحُ شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، فَأُبِيحَتْ فِيهَا، لِدَفْعِ الْغُصَّةِ وَسَائِرِ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ «طَارِقِ بْنِ سُوَيْد، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُخَارِقٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ نَبَذَتْ نَبِيذًا فِي جَرَّةٍ، فَخَرَجَ وَالنَّبِيذُ يَهْدُرُ، فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالَتْ: فُلَانَةُ اشْتَكَتْ بَطْنَهَا، فَنَقَعْت لَهَا، فَدَفَعَهُ بِرِجْلِهِ فَكَسَرَهُ، وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ شِفَاءً» وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ، فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي، كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَنْدَفِعُ بِهِ فَلَمْ يُبَحْ، كَالتَّدَاوِي بِهَا فِيمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْحَدُّ يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ] (7343) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَا قَاصِدٍ إلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَأَمَّا مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَا: لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ، أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ. وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِهَا نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ، أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْبُلْدَانِ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ. [فَصْلٌ يَثْبُتُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ] (7344) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ شُرْبُهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ. وَيَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، فَأَشْبَهَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَإِذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِقْرَارِ وُجُودُ رَائِحَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ تُوجَدَ رَائِحَةٌ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ بَيِّنَتَيْ الشُّرْبِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 مَعَهُ وُجُودُ الرَّائِحَةِ، كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بَعْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِحَدٍّ، فَاكْتُفِيَ بِهِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. [فَصْلٌ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ فِيهِ] (7345) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ فِيهِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي وَجَدْت مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلَاءَ. فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ. وَلِأَنَّ الرَّائِحَةَ تَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ، فَجَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا، أَوْ حَسِبَهَا مَاءً، فَلَمَّا صَارَتْ فِي فِيهِ مَجَّهَا، أَوْ ظَنَّهَا لَا تُسْكِرُ، أَوْ كَانَ مُكْرَهًا، أَوْ أَكَلَ نَبْقًا بَالِغًا، أَوْ شَرِبَ شَرَابَ التُّفَّاحِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ، كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَحَدِيثُ عُمَرَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحُدَّهُ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ، لَبَادَرَ إلَيْهِ عُمَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ وُجِدَ سَكْرَانَ أَوْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ] (7346) فَصْلٌ: وَإِنْ وُجِدَ سَكْرَانَ، أَوْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ. فَعَنْ أَحْمَدَ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تُسْكِرُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ فِي الْحَدِّ بِالرَّائِحَةِ، يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ شُرْبِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ قُدَامَةَ مَا كَانَ، جَاءَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَتَقَيَّؤُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ قَاءَهَا فَقَدْ شَرِبَهَا. فَضَرَبَهُ الْحَدَّ وَرَوَى حُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيُّ، قَالَ: شَهِدْت عُثْمَانَ، وَأُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَآهُ شَرِبَهَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ. فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، فَضَرَبَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي الشَّهَادَةِ. وَهَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَسَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَلَا يَتَقَيَّؤُهَا أَوْ لَا يَسْكَرُ مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَهَا. [فَصْلٌ تَثْبُتُ الْبَيِّنَةُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْعُدُولِ] (7347) فَصْلٌ: وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ: فَلَا تَكُونُ إلَّا رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، يَشْهَدَانِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى بَيَانِ نَوْعِهِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 لِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِلَى مَا لَا يُوجِبُهُ، بِخِلَافِ الزِّنَا، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّرِيحِ وَعَلَى دَوَاعِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» فَلِهَذَا احْتَاجَ الشَّاهِدَانِ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسَمَّى غَيْرُ الْمُسْكِرِ مُسْكِرًا، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ذِكْرِ نَوْعِهِ. وَلَا يُفْتَقَرُ فِي الشَّهَادَةِ إلَى ذِكْرِ عَدَمِ الْإِكْرَاهِ، وَلَا ذِكْرِ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الِاخْتِيَارُ وَالْعِلْمُ، وَمَا عَدَاهُمَا نَادِرٌ بَعِيدٌ، فَلَمْ يُحْتَجْ إلَى بَيَانِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهَادَاتِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ عُثْمَانُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَلَا اعْتَبَرَهُ عُمَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَلَوْ شَهِدَا بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ذِكْرِ الِاخْتِيَارِ، كَذَا هَاهُنَا. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي جَلْدِهِ] (7348) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ فِي جَلْدِهِ، فَالْحَقُّ قَتَلَهُ. يَعْنِي: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ ضَمَانُهُ) وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَمَاتَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْزِيرٌ، إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ، وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ فِعْلَيْنِ؛ مَضْمُونٍ، وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: تُقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الضَّرَبَاتِ كُلِّهَا، فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ زِيَادَتِهِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْت لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ، وَلَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسُنَّهُ لَنَا. وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ لِلَّهِ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَنْ مَاتَ بِهِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ الْحَدِّ، وَإِنْ كَانَ تَعْزِيرًا، فَالتَّعْزِيرُ يَجِبُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ» وَثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ تَبْقَ فِيهِ شُبْهَةٌ. (7349) فَصْلٌ: وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، أَنَّهُ إذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ التَّلَفُ مَنْسُوبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ، وَجَبَ الضَّمَانُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ الْحَدِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَعُدْوَانِ الضَّارِبِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِي، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا سَوْطًا فَمَاتَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَى عَلَى سَفِينَةٍ مُوَقَّرَةٍ حَجَرًا فَغَرَّقَهَا. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقِسْطِ مَا تَعَدَّى بِهِ، تُقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى الْأَسْوَاطِ كُلِّهَا، وَسَوَاءٌ زَادَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْجَلَّادُ زَادَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ، فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْإِمَامُ لَهُ: اضْرِبْ مَا شِئْت. فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَعُدُّ عَلَيْهِ، فَزَادَ فِي الْعَدَدِ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ يَعُدُّ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ. وَإِنْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ، فَزَادَ، فَقَالَ الْقَاضِي: الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَجَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا فَقَتَلَهُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَضْمَنُ الْإِمَامُ. فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَجْحَفَ بِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَصَحُّ. وَالثَّانِيَةُ: هُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ، فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَتَانِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا إذَا وَقَعَتْ الزِّيَادَةُ مِنْهُ خَطَأً، أَمَّا إذَا تَعَمَّدَهَا، فَهَذَا ظُلْمٌ قَصَدَهُ، فَلَا وَجْهَ لِتَعَلُّقِ ضَمَانِهِ بِبَيْتِ الْمَالِ بِحَالٍ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ جَلْدَ مَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الَّتِي تَلْزَمُ الْإِمَامَ، فَلَا يَحْمِلُهَا عَنْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُهَا؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِفِعْلِهِ، فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَحَمُّلِهِ إيَّاهَا، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا التَّحَمُّلُ بِحَالٍ. [فَصْلٌ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ حَتَّى يَصْحُوَ] (7350) فَصْلٌ: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ حَتَّى يَصْحُوَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَالتَّنْكِيلُ، وَحُصُولُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي صَحْوِهِ أَتَمُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ إلَيْهِ. [فَصْلٌ حَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فِسْقُ شَارِبِ النَّبِيذِ] (7351) فَصْلٌ: وَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فِسْقُ شَارِبِ النَّبِيذِ، وَيُخْتَلَفُ مَعَهُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ، هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ يَخْلِطُ فِي كَلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الشُّرْبِ، وَيُغَيِّرُهُ عَنْ حَالِ صَحْوِهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ ثَوْبِهِ وَثَوْبِ غَيْرِهِ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَا بَيْنَ نَعْلِهِ وَنَعْلِ غَيْرِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَزَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِهِمْ، وَتَرَكَ فِي قِرَاءَتِهِ مَا غَيَّرَ الْمَعْنَى وَقَدْ كَانُوا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ عَالِمِينَ بِهَا، وَعَرَفُوا إمَامَهُمْ وَقَدَّمُوهُ لِيَؤُمَّهُمْ، وَقَصَدَ إمَامَتَهُمْ، وَالْقِرَاءَةَ لَهُمْ، وَقَصَدُوا الِائْتِمَامَ بِهِ، وَعَرَفُوا أَرْكَانَ الصَّلَاةِ، فَأَتَوْا بِهَا، وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ، فَهُوَ سَكْرَانُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَكْرَانَ فَقَالَ: " مَا شَرِبْت؟ ". فَقَالَ: مَا شَرِبْت إلَّا الْخَلِيطَيْنِ وَأُتِيَ بِآخَرَ سَكْرَانَ، فَقَالَ: أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي مَا سَرَقْت، وَلَا زَنَيْت، فَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَهُمْ سُكَارَى. وَفِي حَدِيثِ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَنَّتْهُ قَيْنَةٌ وَهُوَ سَكْرَانُ: أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ ... وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ وَكَانَ عَلِيٌّ أَنَاخَ شَارِفَيْنِ لَهُ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَقَامَ إلَيْهَا فَبَقَرَ بُطُونَهَا، وَاجْتَثَّ أَسْنِمَتَهَا، فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَمْزَةُ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَلَامَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إلَيْهِ وَإِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدْ فَهِمَ مَا قَالَتْ الْقَيْنَةُ فِي غِنَائِهَا، وَعَرَفَ الشَّارِفَيْنِ وَهُوَ فِي غَايَةِ سُكْرِهِ. وَلِأَنَّ الْمَجْنُونَ الذَّاهِبَ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، مَعَ ذَهَابِ عَقْلِهِ، وَرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةُ وَصِفَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْدُودِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّ الرَّجُلَ يُضْرَبُ الْحَدّ قَائِمًا] (7352) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ قَائِمًا بِسَوْطٍ لَا خَلَقٍ وَلَا جَدِيدٍ، وَلَا يُمَدُّ، وَلَا يُرْبَطُ، وَيُتَّقَى وَجْهُهُ) . وَقَوْلُهُ: فِي سَائِرِ الْحُدُودِ. يَعْنِي جَمِيعَ الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا الضَّرْبُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: (7353) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الرَّجُلَ يُضْرَبُ قَائِمًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُضْرَبُ جَالِسًا. رَوَاهُ حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِيَامِ؛ وَلِأَنَّهُ مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِكُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْجَسَدِ حَظٌّ - يَعْنِي فِي الْحَدِّ - إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ. وَقَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ، وَأَوْجِعْ، وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ. وَلِأَنَّ قِيَامَهُ وَسِيلَةٌ إلَى إعْطَاءِ كُلِّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ، وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِيَامِ. قُلْنَا: وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْجُلُوسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَيْفِيَّةَ، فَعَلِمْنَاهَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُقْصَدُ سَتْرُهَا، وَيُخْشَى هَتْكُهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الضَّرْبَ يُفَرَّقُ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ؛ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ حِصَّتَهُ، وَيُكْثِرُ مِنْهُ فِي مَوَاضِعِ اللَّحْمِ، كَالْأَلْيَتَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِلَ، وَهِيَ الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ وَالْفَرْجُ، مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُضْرَبُ الظَّهْرُ، وَمَا يُقَارِبُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضْرَبُ الرَّأْسُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَسْتَثْنِهِ. وَلَنَا عَلَى مَالِكٍ قَوْلُ عَلِيٍّ؛ وَلِأَنَّ مَا عَدَا الْأَعْضَاءَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ بِمَقْتَلٍ، فَأَشْبَهَتْ الظَّهْرَ. وَعَلَى أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الرَّأْسَ مَقْتَلٌ، فَأَشْبَهَ الْوَجْهَ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا ضَرَبَهُ فِي رَأْسِهِ، فَذَهَبَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ، أَوْ قَتَلَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَدَبُهُ لَا قَتْلُهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَسْتَثْنِهِ عَلِيٌّ مَمْنُوعٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: اتَّقِ الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ صَرِيحًا، فَقَدْ ذَكَرَهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا اسْتَثْنَاهُ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ صِفَةُ جَلْدِ الْحُدُودِ] (7354) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَمُدُّ، وَلَا يُرْبَطُ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْهُمْ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ، وَلَا قَيْدٌ، وَلَا تَجْرِيدٌ. وَجَلَدَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَدٌّ وَلَا قَيْدٌ وَلَا تَجْرِيدٌ. وَلَا تُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ، بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ الثَّوْبُ وَالثَّوْبَانِ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْوٌ أَوَجُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ، نُزِعَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يُبَالِ بِالضَّرْبِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ تُرِكَتْ عَلَيْهِ ثِيَابُ الشِّتَاءِ مَا بَالَى بِالضَّرْبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُجَرَّدُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِجَلْدِهِ يَقْتَضِي مُبَاشَرَةَ جِسْمِهِ. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ نَعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِتَجْرِيدِهِ، إنَّمَا أَمَرَ بِجَلْدِهِ، وَمَنْ جُلِدَ مِنْ فَوْقِ الثَّوْبِ فَقَدْ جُلِدَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ فِي الْحُدُودِ] (7355) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ الضَّرْبَ بِالسَّوْطِ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا، فِي غَيْرِ حَدِّ الْخَمْرِ. فَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَامُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ لِلْإِمَامِ فِعْلَ ذَلِكَ إذَا رَآهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ: اضْرِبُوهُ قَالَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ، فَاجْلِدُوهُ» وَالْجَلْدُ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِهِ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ؛ وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِجَلْدِهِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِجَلْدِ الزَّانِي، فَكَانَ بِالسَّوْطِ مِثْلَهُ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ضَرَبُوا بِالسِّيَاطِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَكَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، ثُمَّ جَلَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَقَرَّتْ الْأُمُورُ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَدَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ وَفِي حَدِيثِ جَلْدِ قُدَامَةَ، حِينَ شَرِبَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: ائْتُونِي بِسَوْطٍ. فَجَاءَهُ أَسْلَمُ مَوْلَاهُ بِسَوْطٍ دَقِيقٍ صَغِيرٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ: أَنَا أُحَدِّثُك، إنَّك ذَكَرْت قَرَابَتَهُ لِأَهْلِك، ائْتِنِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا. فَأَتَاهُ بِهِ تَامًّا، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ السَّوْطَ يَكُونُ وَسَطًا، لَا جَدِيدًا فَيَجْرَحُ، وَلَا خَلَقًا فَيَقِلُّ أَلَمُهُ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَوْطٍ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ. فَقَالَ: بَيْنَ هَذَيْنِ.» رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ وَهَكَذَا الضَّرْبُ يَكُونُ وَسَطًا، لَا شَدِيدٌ فَيَقْتُلُ، وَلَا ضَعِيفٌ فَلَا يَرْدَعُ. وَلَا يَرْفَعُ بَاعَهُ كُلَّ الرَّفْعِ، وَلَا يَحُطُّهُ فَلَا يُؤْلِمُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُبْدِي إبْطَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ. يَعْنِي: لَا يُبَالِغُ فِي رَفْعِ يَدِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَدَبُهُ، لَا قَتْلُهُ. [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ] (7356) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَتُمْسَكُ يَدَاهَا، لِئَلَّا تَنْكَشِفَ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ: تُحَدُّ قَائِمَةً، كَمَا تُلَاعِنُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً وَالرَّجُلُ قَائِمًا؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وَجُلُوسَهَا أَسْتَرُ لَهَا. وَيُفَارِقُ اللِّعَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا؛ لِئَلَّا يَنْكَشِفَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا عِنْد الضَّرْب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 [فَصْلٌ أَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ] (7357) فَصْلٌ: أَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحَدِّ ضَرْبُ الزَّانِي، ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ، ثُمَّ التَّعْزِيرُ. وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّهَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ أَمْرًا وَاحِدًا، وَمَقْصُودُ جَمِيعِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الزَّجْرُ، فَيَجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الصِّفَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: «التَّعْزِيرُ أَشَدُّهَا، ثُمَّ حَدُّ الزَّانِي، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ، ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ. وَلَنَا» أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الزَّانِيَ بِمَزِيدِ تَأْكِيدٍ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فَاقْتَضَى ذَلِكَ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِ، فَتَعَيَّنَ جَعْلُهُ فِي الصِّفَةِ؛ وَلِأَنَّ مَا دُونَهُ أَخَفُّ مِنْهُ عَدَدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فِي إيلَامِهِ وَوَجَعِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، أَوْ زِيَادَةِ الْقَلِيلِ عَلَى أَلَمِ الْكَثِيرِ. [مَسْأَلَةٌ يُجْلَدُ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ أَرْبَعِينَ بِدُونِ سَوْطِ الْحُرِّ] (7358) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُجْلَدُ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ أَرْبَعِينَ، بِدُونِ سَوْطِ الْحُرِّ) . هَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ حَدَّ الْحُرِّ فِي الشُّرْبِ ثَمَانُونَ. فَحَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ نِصْفُهَا أَرْبَعُونَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، حَدُّهُمَا عِشْرُونَ، نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، بِدُونِ سَوْطِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُفِّفَ عَنْهُ فِي عَدَدِهِ؛ خُفِّفَ عَنْهُ فِي صِفَتِهِ، كَالتَّعْزِيرِ مَعَ الْحَدِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَوْطُهُ كَسَوْطِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ إذَا كَانَ السَّوْطُ مِثْلَ السَّوْطِ، أَمَّا إذَا كَانَ نِصْفًا فِي عَدَدِهِ، وَأَخَفَّ مِنْهُ فِي سَوْطِهِ، كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ النِّصْفَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . [فَصْلٌ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ] (7359) فَصْلٌ: وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ. وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرَى إقَامَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَنَا مَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُسْتَقَادَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُقَامَ فِيهِ الْحُدُودُ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاضْرِبَاهُ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ، فَقَالَ: يَا قَنْبَرُ، أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاقْطَعْ يَدَهُ. وَلِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، إنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْ الْمَحْدُودِ حَدَثٌ فَيُنَجِّسَهُ وَيُؤْذِيَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَطْهِيرِهِ، فَقَالَ {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَالْعَصِيرُ إذَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ] (7360) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْعَصِيرُ إذَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقَدْ حَرُمَ، إلَّا أَنْ يُغْلَى قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَحْرُمَ) أَمَّا إذَا غُلِيَ الْعَصِيرُ كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ، وَقَذَفَ بِزَبَدِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِنْ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَمْ يُغْلَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ حَرَامٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: اشْرَبْهُ ثَلَاثًا، مَا لَمْ يُغْلَ، فَإِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا تَشْرَبْهُ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: هُوَ مُبَاحٌ مَا لَمْ يُغْلَ وَيُسْكِرْ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمُسْكِرِ خَاصَّةً. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ، فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ، إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَدَمُ، أَوْ يُهْرَاقُ» وَرَوَى الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اشْرَبُوا الْعَصِيرَ ثَلَاثًا، مَا لَمْ يُغْلَ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اشْرَبْهُ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ شَيْطَانُهُ. قِيلَ: وَفِي كَمْ يَأْخُذُهُ شَيْطَانُهُ؟ قَالَ: فِي ثَلَاثٍ وَلِأَنَّ الشِّدَّةَ تَحْصُلُ فِي الثَّلَاثِ غَالِبًا، وَهِيَ خَفِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ، فَجَازَ جَعْلُ الثَّلَاثِ ضَابِطًا لَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ إذَا لَمْ يُغْلَ مَكْرُوهًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَحْرِيمِهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: أَكْرَهُهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى عَصِيرٍ الْغَالِبُ أَنَّهُ يَتَخَمَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامِ. [مَسْأَلَةٌ النَّبِيذُ إذَا تُرِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ] (7361) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ النَّبِيذُ) يَعْنِي: أَنَّ النَّبِيذَ مُبَاحٌ مَا لَمْ يُغْلَ، أَوْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَالنَّبِيذُ: مَا يُلْقَى فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ أَوْ نَحْوُهُمَا؛ لِيَحْلُوَ بِهِ الْمَاءُ، وَتَذْهَبَ مُلُوحَتُهُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُغْلَ، أَوْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ، فَتَحَيَّنْت فِطْرَهُ بِنَبِيذٍ صَنَعْتُهُ فِي دُبَّاءٍ ثُمَّ أَتَيْته بِهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 فَإِذَا هُوَ يَنِشُّ. فَقَالَ: اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطِ؛ فَإِنَّ هَذَا شَرَابُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ صَارَ مُسْكِرًا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْخَمْرِ] (7362) فَصْلٌ: وَالْخَمْرُ نَجِسَةٌ. فِي قَوْلِ عَامَّة أَهْل الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا لِعَيْنِهَا، فَكَانَتْ نَجِسَةً، كَالْخِنْزِيرِ. وَكُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ، نَجِسٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ مَا طُبِخَ مِنْ الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ قَبْلَ غَلَيَانِهِ حَتَّى صَارَ غَيْرَ مُسْكِرٍ كَالدِّبْسِ] (7363) فَصْلٌ: وَمَا طُبِخَ مِنْ الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ قَبْلَ غَلَيَانِهِ، حَتَّى صَارَ غَيْرَ مُسْكِرٍ، كَالدِّبْسِ، وَرُبِّ الْخُرْنُوبِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُرَبَّيَاتِ وَالسُّكَّرِ، فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الْمُسْكِرِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، سَوَاءٌ ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ، أَوْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ شُرْبِ الطِّلَاءِ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ لِأَحْمَدْ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُسْكِرُ. قَالَ: لَا يُسْكِرُ، وَلَوْ كَانَ يُسْكِرُ مَا أَحَلَّهُ عُمَرُ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ بِالْفُقَّاعِ] (7364) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْفُقَّاعِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْكِرُ، وَإِذَا تُرِكَ يَفْسُدُ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَالْأَشْيَاءُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، مَا لَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمِهَا حُجَّةٌ. [فَصْلٌ الِانْتِبَاذُ فِي الْأَوْعِيَةِ] (7365) فَصْلٌ: وَيَحُوزُ الِانْتِبَاذُ فِي الْأَوْعِيَةِ كُلِّهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ كَرِهَ الِانْتِبَاذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا وَالدُّبَّاءُ: وَهُوَ الْيَقْطِينُ. وَالْحَنْتَمُ: الْجِرَارُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 وَالنَّقِيرُ: الْخَشَبُ. وَالْمُزَفَّتُ: الَّذِي يُطْلَى بِالزِّفْتِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ، وَأَنَا آمُرُكُمْ بِهِنَّ؛ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ أَنْ لَا تَشْرَبُوا إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأَدَمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ النَّهْيِ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَنْسُوخِ. [فَصْلٌ يُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ] (7366) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ، وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ شَيْئَانِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ» ، وَقَالَ أَحْمَدُ: الْخَلِيطَانِ حَرَامٌ. وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَنْقَعُ الزَّبِيبَ، وَالتَّمْرَ الْهِنْدِيَّ، وَالْعُنَّابَ وَنَحْوَهُ، يَنْقَعُهُ غُدْوَةً، وَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً لِلدَّوَاءِ: أَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّهُ نَبِيذٌ، وَلَكِنْ يَطْبُخُهُ وَيَشْرَبُهُ عَلَى الْمَكَانِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا، وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا.» وَفِي رِوَايَةٍ: وَانْتَبِذْ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ ". وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ: هُوَ حَرَامٌ. إذَا اشْتَدَّ وَأَسْكَرَ، وَإِذَا لَمْ يُسْكِرْ لَمْ يَحْرُمْ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِلَّةِ إسْرَاعِهِ إلَى السُّكْرِ الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ، لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ، كَمَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالشُّرْبِ فِيهَا، مَا لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ الْإِسْكَارِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ، وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ، فَنَطْرَحُهَا فِيهِ، ثُمَّ نَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَنَنْبِذُهُ غُدْوَةً، فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً، وَنَنْبِذُهُ عَشِيَّةً، فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد. فَلَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ الِانْتِبَاذِ قَرِيبَةً، وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، لَا يُتَوَهَّمُ الْإِسْكَارُ فِيهَا لَمْ يُكْرَهْ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمَا فُعِلَ هَذَا فِي بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ. فَعَلَى هَذَا، لَا يُكْرَهُ مَا كَانَ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَيُكْرَهُ مَا كَانَ فِي مُدَّةٍ يُحْتَمَلُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْإِسْكَارِ، وَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مَا لَمْ يُغْلَ، أَوْ تَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. [مَسْأَلَةٌ الْخَمْرَةُ إذَا أُفْسِدَتْ فَصُيِّرَتْ خَلًّا] (7367) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْخَمْرَةُ إذَا أُفْسِدَتْ، فَصُيِّرَتْ خَلًّا، لَمْ تَزُلْ عَنْ تَحْرِيمِهَا، وَإِنْ قَلَبَ اللَّهُ عَيْنَهَا فَصَارَتْ خَلًّا، فَهِيَ حَلَالٌ) رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ يُفْسِدُهَا كَالْمِلْحِ، فَتَخَلَّلَتْ، فَهِيَ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَإِنْ نُقِلَتْ مِنْ شَمْسٍ إلَى ظِلٍّ، أَوْ مِنْ ظِلٍّ إلَى شَمْسٍ فَتَخَلَّلَتْ، فَفِي إبَاحَتِهَا قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَطْهُرُ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا زَالَتْ بِتَخْلِيلِهَا فَطَهُرَتْ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 كَمَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ التَّطْهِيرَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا حَصَلَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلِ الْآدَمِيِّ، كَتَطْهِيرِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْأَرْضِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي مَذْهَبِنَا، فَقَالَ: وَإِنْ خُلِّلَتْ لَمْ تَطْهُرْ. وَقِيلَ: تَطْهُرُ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمَائِدَةُ، سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ لِيَتِيمٍ؟ قَالَ: أَهْرِيقُوهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَتَّخِذُ الْخَمْرَ خَلًّا؟ قَالَ: لَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ، «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا؟ فَقَالَ: أَهْرِقْهَا قَالَ: أَفَلَا أُخَلِّلُهَا؟ قَالَ: لَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَلَوْ كَانَ إلَى اسْتِصْلَاحِهَا سَبِيلٌ، لَمْ تَجُزْ إرَاقَتُهَا، بَلْ أَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ، سِيَّمَا وَهِيَ لِأَيْتَامٍ يَحْرُمُ التَّفْرِيطُ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ خَلُّ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ تَوَلَّى إفْسَادَهَا. وَلَا بَأْسَ عَلَى مُسْلِمٍ ابْتَاعَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَلًّا، مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ لِإِفْسَادِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّهْيُ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْأَمْوَالِ " بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا قَوْلٌ يَشْتَهِرُ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ بِهِ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يُنْكَرْ. فَأَمَّا إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ وَتَحِلُّ، فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَوَائِلِ، أَنَّهُمْ اصْطَبَغُوا بِخَلِّ خَمْرٍ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ. وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوهُ خَلًّا، وَلَا أَنَّهُ انْقَلَبَ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ قَدْ بَيَّنَهُ عُمَرُ بِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ خَلُّ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ يَتَوَلَّى إفْسَادَهَا. وَلِأَنَّهَا إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا، فَقَدْ زَالَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهَا، مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ خَلَّفَتْهَا، فَطَهُرَتْ، كَالْمَاءِ إذَا زَالَ تَغَيُّرُهُ بِمُكْثِهِ. وَإِذَا أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ تَنَجَّسَ بِهَا، ثُمَّ إذَا انْقَلَبَتْ، بَقِيَ مَا أُلْقِيَ فِيهَا نَجِسًا، فَنَجَّسَهَا وَحَرَّمَهَا. فَأَمَّا إنْ نَقَلَهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ، فَتَخَلَّلَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْقِيَ فِيهَا شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا، حَلَّتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا. وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ تَخْلِيلَهَا، اُحْتُمِلَ أَنْ تَطْهُرَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا الْقَصْدُ، فَلَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَطْهُرَ؛ لِأَنَّهَا خُلِّلَتْ، فَلَمْ تَطْهُرْ، كَمَا لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ. [مَسْأَلَةٌ الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] (7368) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ فِضَّةٍ. وَحُكِيَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، فَلَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ، إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . وَقَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُقْتَضَى نَهْيِهِ التَّحْرِيمُ، وَقَدْ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِنَارِ جَهَنَّمَ فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " تُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ ". أَيْ هَذَا سَبَبٌ لِنَارِ جَهَنَّمَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] فَلَمْ يَبْقَ فِي تَحْرِيمِهِ إشْكَالٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ فَلَوْ أَصَابَهُ لَكَسَرَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا رَمَيْتُهُ بِهِ؛ لِأَنَّنِي نَهَيْتُهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ التَّحْرِيمَ مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى اسْتَحَلَّ عُقُوبَتَهُ، لِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ. [فَصْلٌ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاسْتِصْنَاعُهَا] (7369) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاسْتِصْنَاعُهَا؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ، حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كَالطُّنْبُورِ، وَالْمِزْمَارِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا السَّرَفُ وَالْخُيَلَاءُ وَكَسْرُ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا مَعْنًى يَشْمَلُ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ التَّحَلِّي لِلْحَاجَةِ إلَى التَّزَيُّنِ لِلْأَزْوَاجِ، فَتَخْتَصُّ الْإِبَاحَةُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْتُمْ، لَحَرُمَتْ آنِيَةُ الْيَاقُوتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ أَرْفَعُ مِنْ الْأَثْمَانِ. قُلْنَا: تِلْكَ لَا يَعْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ، فَلَا تَنْكَسِرُ قُلُوبُهُمْ بِاِتِّخَاذِ الْأَغْنِيَاءِ لَهَا، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا؛ وَلِأَنَّ قِلَّتَهَا فِي نَفْسِهَا تَمْنَعُ اتِّخَاذَهَا، فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ تَحْرِيمِهَا، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ قَدَحٌ عَلَيْهِ ضَبَّةٌ فَشَرِبَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّبَّةِ] (7370) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ قَدَحٌ عَلَيْهِ ضَبَّةٌ، فَشَرِبَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّبَّةِ، فَلَا بَأْسَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الضَّبَّةَ مِنْ الْفِضَّةِ تُبَاحُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ يَسِيرَةً. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ الْفِضَّةِ، فَأَمَّا الذَّهَبُ: فَلَا يُبَاحُ، وَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ رَخَّصَ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِلْحَاجَةِ، أَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَهَا لِمَصْلَحَةٍ وَانْتِفَاعٍ، مِثْلَ أَنْ تُجْعَلَ عَلَى شَقٍّ أَوْ صَدْعٍ، وَإِنْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ هَذَا بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ الْيَسِيرُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، إذَا لَمْ يُبَاشَرْ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ الْحَلْقَةَ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّهَا تُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ضَبَّةِ الْفِضَّةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَيْسَرَةُ، وَزَاذَانُ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ: قَدْ وَضَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَاهُ بَيْنَ ضَبَّتَيْنِ.، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْرَبُ مِنْ قَدَحٍ فِيهِ حَلْقَةُ فِضَّةٍ وَلَا ضَبَّةٌ مِنْهَا وَكَرِهَ الشُّرْبَ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءٌ، وَسَالِمٌ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ وَنَهَتْ عَائِشَةُ أَنْ يُضَبِّبَ الْآنِيَةَ، أَوْ يُحَلِّقَهَا بِالْفِضَّةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَرِهُوا مَا قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ، أَوْ كَانَ كَثِيرًا، أَوْ يُسْتَعْمَلُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ وَقَوْلُ الْأَوَّلِينَ وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ: كَتَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَنَحْوِهِ، فَلَا بَأْسَ؛ وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ قَدَحٌ فِيهِ سِلْسِلَةٌ مِنْ فِضَّةٍ شُعِّبَ بِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ مِنْ الْفِضَّةِ، فَأَشْبَهَ الْخَاتَمَ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُبَاشِرَ مَوْضِعَ الضَّبَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَشْرَبُ مِنْ مَوْضِعِ الضَّبَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالشَّارِبِ مِنْ إنَاءِ فِضَّةٍ، وَكَرِهَ الْحَلْقَةَ مِنْ فِضَّةٍ؛ لِأَنَّ الْقَدَحَ يُرْفَعُ بِهَا، فَيُبَاشِرُهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. [فَصْلٌ اسْتِعْمَالُ قَبِيعَةِ السَّيْفِ مِنْ فِضَّةٍ] (7371) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِقَبِيعَةِ السَّيْفِ مِنْ فِضَّةٍ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِضَّةً.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ، أَنَا رَأَيْتُهُ. وَلَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ مِنْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ لَبِسَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى سَقَطَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَقَالَ سَعِيدٌ: الْبَسْ الْخَاتَمَ، وَأَخْبِرْ أَنِّي أَفْتَيْتُك بِذَلِكَ. فَقَدْ رَوَى أَبُو رَيْحَانَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَرِهَ عَشْرَ خِلَالٍ، وَفِيهَا الْخَاتَمُ، إلَّا لِذِي سُلْطَانٍ، قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا هَذَا يَرْوِيهِ أَهْلُ الشَّامِ. وَحُدِّثَ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَاتَمَ: تَبَسَّمَ كَالْمُتَعَجِّبِ، ثُمَّ قَالَ: أَهْلُ الشَّامِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ صَحَّتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَفَاضَتْ بِإِبَاحَتِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا جَاءَ حَدِيثٌ شَاذٌّ يُخَالِفُ ذَلِكَ، لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ حُمِلَ عَلَى التَّنْزِيَةِ. [فَصْلٌ اسْتِعْمَالُ الْحِلْيَةِ لِحَمَائِلِ السَّيْفِ مِنْ الذَّهَبِ] (7372) فَصْلٌ: قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْحِلْيَةُ لِحَمَائِلِ السَّيْفِ؟ فَسَهَّلَ فِيهَا، وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ، سَيْفٌ مُحَلًّى. وَلِأَنَّهُ مِنْ حِلْيَةِ السَّيْفِ، فَأَشْبَهَ الْقَبِيعَةَ. وَلِذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي حِلْيَةِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَالْخُوذَةِ وَالْخُفِّ وَالرَّانِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَلْقَةُ الْمِرْآةِ فِضَّةٌ، وَرَأْسُ الْمُكْحُلَةِ فِضَّةٌ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا؟ . قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ حَلْقَةِ الْمِرْآةِ، فَأَنَا أَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ، فَإِنَّ الْمِرْآةَ تُرْفَعُ بِحَلْقَتِهَا. ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا هَذَا تَأْوِيلٌ تَأَوَّلْتُهُ أَنَا. (7373) فَصْلٌ: وَلَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ ذَهَبًا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تُبَاحُ قَبِيعَةُ السَّيْفِ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ سَيْفٌ فِيهِ سَبَائِكُ مِنْ ذَهَبٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَزِيدَةَ الْعَصَرِيِّ، قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ.» وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَلَا يُبَاحُ الذَّهَبُ فِي غَيْرِ هَذَا إلَّا لِضَرُورَةٍ، كَأَنْفِ الذَّهَبِ، وَمَا رَبَطَ بِهِ أَسْنَانَهُ، إذَا تَحَرَّكَتْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُبَاحُ يَسِيرُ الذَّهَبِ، قِيَاسًا لَهُ عَلَى الْفِضَّةِ؛ لِكَوْنِهِ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ، فَأَشْبَهَ الْآخَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ] (7374) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَبْلُغ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ) التَّعْزِيرُ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمَشْرُوعَةُ عَلَى جِنَايَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا، كَوَطْءِ الشَّرِيكِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ جَارِيَةَ ابْنِهِ، أَوْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ فِي دُبُرِهَا أَوْ حَيْضِهَا، أَوْ وَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ النَّهْبِ، أَوْ الْغَصْبِ، أَوْ الِاخْتِلَاسِ، أَوْ الْجِنَايَةِ عَلَى إنْسَانٍ بِمَا لَا يُوجِبُ حَدًّا وَلَا قِصَاصًا وَلَا دِيَةً، أَوْ شَتْمِهِ بِمَا لَيْسَ بِقَذْفٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ يُسَمَّى تَعْزِيرًا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْجِنَايَةِ. وَالْأَصْلُ فِي التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لِعَدُوِّهِ مِنْ أَذَاهُ. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَجْلِدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ، إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: " لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ " وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ، لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى حَدٍّ مَشْرُوعٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَا لَا يَبْلُغُ بِهِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا؛ لِأَنَّهَا حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ، لَمْ يَبْلُغْ بِهِ عِشْرِينَ سَوْطًا فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَأَرْبَعِينَ فِي حَدِّ الْحُرِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَلَا يُزَادُ الْعَبْدُ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا، وَلَا الْحُرُّ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَوْطًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ: أَدْنَى الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَلَا يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ جِنَايَةٍ حَدًّا مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَدِّ غَيْرِ جِنْسِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. فَعَلَى هَذَا، مَا كَانَ سَبَبُهُ الْوَطْءَ جَازَ أَنْ يُجْلَدَ مِائَةً إلَّا سَوْطًا؛ لِيَنْقُصَ عَنْ حَدِّ الزِّنَا، وَمَا كَانَ سَبَبُهُ غَيْرَ الْوَطْءِ، لَمْ يَبْلُغْ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فِي الَّذِي وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا، يُجْلَدُ مِائَةً. وَهَذَا تَعْزِيرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ، وَحَدُّهُ إنَّمَا هُوَ الرَّجْمُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ، فِي أَمَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا: يُجْلَدُ الْحَدَّ إلَّا سَوْطًا وَاحِدًا، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا عِنْدِي مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ لَا يَقْتَضِي اخْتِلَافًا فِي التَّعْزِيرِ، بَلْ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إتْبَاعًا لِلْأَثَرِ، إلَّا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ؛ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ، وَفِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ، وَمَا عَدَاهُمَا يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ أَكْثَرِهِ، فَلَيْسَ أَقَلُّهُ مُقَدَّرًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّرَ لَكَانَ حَدًّا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَ أَكْثَرَهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ أَقَلَّهُ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِيمَا يَرَاهُ، وَمَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الشَّخْصِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ التَّعْزِيرُ عَلَى الْحَدِّ، إذَا رَأَى الْإِمَامُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ، عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ صَاحِبَ بَيْتِ الْمَالِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا، فَبَلَغَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَضَرَبَهُ مِائَةً، وَحَبَسَهُ، فَكُلِّمَ فِيهِ، فَضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، فَكُلِّمَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ، فَضَرَبَهُ مِائَةً وَنَفَاهُ وَرَوَى أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ، فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ الْحَدَّ، وَعِشْرِينَ سَوْطًا لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ اسْتَخْلَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ قَدْ كَانَ جَمَعَ الْمَتَاعَ فِي الْبَيْتِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: أَعْجَلْتُمُوهُ الْمِسْكِينَ. فَضَرَبَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ سَوْطًا، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ، وَرَوَى الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ، فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْإِجْرَامِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْمَعَاصِي الْمَنْصُوصُ عَلَى حُدُودِهَا أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ فِي أَهْوَنِ الْأَمْرَيْنِ عُقُوبَةَ أَعْظَمِهَا. وَمَا قَالُوهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ مَنْ قَبَّلَ امْرَأَةً حَرَامًا، يُضْرَبُ أَكْثَرَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مَعَ عِظَمِهِ وَفُحْشِهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 حَدِّهِ، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى. فَأَمَّا حَدِيثُ مَعْنٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ ذُنُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَأُدِّبَ عَلَى جَمِيعِهَا، أَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْأَخْذُ، أَوْ كَانَ ذَنْبُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى جِنَايَاتٍ أَحَدُهَا: تَزْوِيرُهُ، وَالثَّانِي: أَخْذُهُ لِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَالثَّالِثُ: فَتْحُهُ بَابَ هَذِهِ الْحِيلَةِ لِغَيْرِهِ، وَغَيْرُ هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّ عَلِيًّا ضَرَبَهُ الْحَدَّ لِشُرْبِهِ، ثُمَّ عَزَّرَهُ عِشْرِينَ لِفِطْرِهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ بِتَعْزِيرِهِ حَدًّا. وَقَدْ ذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا، وَرَوَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ يُحَدُّ، ثُمَّ يُعَزَّرُ لِجِنَايَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى، أَنْ لَا يَبْلُغَ بِنَكَالٍ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَوْطًا. [فَصْلٌ وَسَائِلُ التَّعْزِيرِ] (7375) فَصْلٌ: وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالتَّوْبِيخِ. وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا جَرْحُهُ، وَلَا أَخْذُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ يُقْتَدَى بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَدَبٌ، وَالتَّأْدِيبُ لَا يَكُونُ بِالْإِتْلَافِ. [فَصْلٌ التَّعْزِيرُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ وَاجِبٌ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ] (7376) فَصْلٌ: وَالتَّعْزِيرُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ وَاجِبٌ، إذَا رَآهُ الْإِمَامُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي لَقِيت امْرَأَةً. فَأَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا، فَقَالَ: " أَصَلَّيْت مَعَنَا؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَتَلَا. عَلَيْهِ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِ: " اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ " وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك. فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُعَزِّرْهُ عَلَى مَقَالَتِهِ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَلَمْ يُعَزِّرْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَيَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِهِ، وَجَبَ؛ لِأَنَّهُ زَجْرٌ مَشْرُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ، كَالْحَدِّ. [فَصْلٌ مَاتَ مِنْ التَّعْزِيرِ] (7377) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ مِنْ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُهُ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ: لَيْسَ أَحَدٌ أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي شَيْئًا إنَّ الْحَقَّ قَتَلَهُ، إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسُنَّهُ لَنَا وَأَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِضَمَانِ الَّتِي أَجْهَضَتْ جَنِينَهَا حِينَ أَرْسَلَ إلَيْهَا. وَلَنَا أَنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ، وَالزَّجْرِ، فَلَمْ يُضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا، كَالْحَدِّ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ فِي دِيَةِ مَنْ قَتَلَهُ حَدُّ الْخَمْرِ، فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُوجِبُوا شَيْئًا بِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ تَرْكِ الْجَمِيعِ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْجَنِينِ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الْجَنِينَ الَّذِي تَلِفَ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ ضَمَانُهُ؟ وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ حَدَّ حَامِلًا، فَأَتْلَفَ جَنِينَهَا، ضَمِنَهُ، مَعَ أَنَّ الْحَدَّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَحْدُودِ إذَا أُتْلِفَ بِهِ. [فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ ضَمَانُ الزَّوْجَةِ إذَا تَلِفَتْ مِنْ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ فِي النُّشُوزِ] (7378) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ ضَمَانُ الزَّوْجَةِ إذَا تَلِفَتْ مِنْ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ فِي النُّشُوزِ، وَلَا عَلَى الْمُعَلِّمِ إذَا أَدَّبَ صَبِيَّهُ الْأَدَبَ الْمَشْرُوعَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. قَالَ الْخَلَّالُ: إذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ ثَلَاثًا، كَمَا قَالَ التَّابِعُونَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَكَانَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَلَيْسَ بِضَامِنٍ، وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا، مِثْلُهُ لَا يَكُونُ أَدَبًا لِلصَّبِيِّ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى فِي الضَّرْبِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ يَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا: إذَا ضَرَبَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ الصَّبِيَّ تَأْدِيبًا فَهَلَكَ، أَوْ الْحَاكِمُ أَوْ أَمِينُهُ، أَوْ الْوَصِيُّ عَلَيْهِ تَأْدِيبًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، كَالْمُعَلِّمِ. [فَصْلٌ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ إنْسَانٍ فِيهِ أَكِلَةٌ أَوْ سِلْعَةٌ بِأُذُنِهِ وَهُوَ كَبِير عَاقِلٌ] (7379) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ إنْسَانٍ فِيهِ أَكِلَةٌ، أَوْ سِلْعَةٌ بِأُذْنِهِ، وَهُوَ كَبِيرٌ عَاقِلٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَطَعَهُ مُكْرَهًا، فَالْقَطْعُ وَسِرَايَتُهُ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاطِعُ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جِرَاحَةٌ تُؤَدِّي إلَى التَّلَفِ، وَالْأَكِلَةُ إنْ كَانَ بَقَاؤُهَا مَخُوفًا، فَقَطْعُهَا مَخُوفٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْ قُطِعَتْ مِنْهُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَقَطَعَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَطَعَهَا وَلِيُّهُ، وَهُوَ الْأَبُ، أَوْ وَصِيُّهُ، أَوْ الْحَاكِمُ، أَوْ أَمِينُهُ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَصْلَحَتَهُ، وَلَهُ النَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِ، فَكَانَ فِعْلُهُ مَأْمُورًا بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ خَتَنَهُ فَمَاتَ. وَالسِّلْعَةُ: غُدَّةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ، تَظْهَرُ فِي الْبَدَنِ، كَالْجَوْزَةِ، وَتَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ. وَالسَّلْعَةُ: بِفَتْحِ السِّينِ: الشَّجَّةُ. [فَصْلٌ خَتَنَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ فِي وَقْتٍ مُعْتَدِلٍ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ] (7380) فَصْلٌ: وَإِذَا خَتَنَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ فِي وَقْتٍ مُعْتَدِلٍ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ إنْ تَلِفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَإِنْ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً لَمْ يَخْتَتِنَا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِهِمَا فَخُتِنَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ زَعَمَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يَتْلَفُ بِالْخِتَانِ، أَوْ الْغَالِبُ تَلَفُهُ بِهِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ السَّلَامَةَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ فِي زَمَنٍ مُعْتَدِلٍ، لَيْسَ بِمُفْرِطِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَزَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخِتَانُ سُنَّةٌ فِي الرِّجَالِ، وَمَكْرُمَةٌ فِي النِّسَاءِ.» وَلَنَا أَنَّهُ قَطْعُ عُضْوٍ صَحِيحٍ مِنْ الْبَدَنِ، يُتَأَلَّمُ بِقَطْعِهِ، فَلَمْ يُقْطَعْ إلَّا وَاجِبًا، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مَا جَازَ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ مِنْ أَجْلِهِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ قِيلَ: هُوَ ضَعِيفٌ. وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى سُنَّةً، فَإِنَّ السُّنَّةَ مَا رُسِمَ لِيُحْتَذَى، وَلَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَإِلَّا أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ إنْسَانًا بِالصُّعُودِ فِي سُورٍ أَوْ نُزُولٍ فِي بِئْرٍ أَوْ نَحْوِهِ] (7381) إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ إنْسَانًا بِالصُّعُودِ فِي سُورٍ، أَوْ نُزُولٍ فِي بِئْرٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَعَطِبَ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: عَلَى السُّلْطَانِ ضَمَانُهُ لِأَنَّ عَلَيْهِ طَاعَةَ إمَامِهِ فَإِذَا أَفْضَتْ طَاعَتُهُ إلَى الْهَلَاكِ، فَكَأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ غَيْرَ الْإِمَامِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ طَاعَتَهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَلَمْ يُلْجِئْهُ إلَيْهِ. وَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْمُضِيِّ فِي حَاجَةٍ، فَعَثَرَ فَهَلَكَ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ أَمْرُهُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، إنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ. وَإِنْ أَقَامَ الْإِمَامُ الْحَدَّ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ أَلْزَمَ إنْسَانًا الْخِتَانَ فِي ذَلِكَ، فَهَلْ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 [مَسْأَلَةٌ حَمَلَ عَلَيْهِ جَمَلٌ صَائِلٌ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ] (7382) : (وَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِ جَمَلٌ صَائِلٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ إلَّا بِضَرْبِهِ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَالَتْ عَلَيْهِ بَهِيمَةٌ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهَا إلَّا بِقَتْلِهَا، جَازَ لَهُ قَتْلُهَا إجْمَاعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا إذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: عَلَيْهِ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَالْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ إذَا أَكَلَهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي غَيْرِ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ: يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَيَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبَاحَةَ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ، لَمْ يُقْتَلْ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالدَّفْعِ الْجَائِزِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ، جَازَ إتْلَافُهُ فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْآدَمِيِّ الْمُكَلَّفِ، وَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِدَفْعِ شَرِّهِ، فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ لِدَفْعِ شَرِّهِ، كَانَ الصَّائِلُ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ حَرْبَةً فِي طَرِيقِهِ، فَقَذَفَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَمَاتَ بِهَا. وَفَارَقَ الْمُضْطَرَّ؛ فَإِنَّ الطَّعَامَ لَمْ يُلْجِئْهُ إلَى إتْلَافِهِ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يُزِيلُ عِصْمَتَهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لِصِيَالِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَ الْمُكَلَّفَ لِصِيَالِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِيَأْكُلَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ كَالْمُكَلَّفِ فِي هَذَا. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَمْلِكُ إبَاحَةَ نَفْسِهِ. قُلْنَا: وَالْمُكَلَّفُ لَا يَمْلِكُ إبَاحَةَ دَمِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَبَحْت دَمِي. لَمْ يُبَحْ، عَلَى أَنَّهُ صَالَ، فَقَدْ أُبِيحَ دَمُهُ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ ضَمَانُهُ، كَالْمُكَلَّفِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِالسِّلَاحِ] (7383) (وَإِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِالسِّلَاحِ، فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِأَسْهَلِ مَا يُخْرِجُهُ بِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِضَرْبِ عَصًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنْ آلَ الضَّرْبُ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُتِلَ صَاحِبُ الدَّارِ كَانَ شَهِيدًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ مَنْزِلَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَمْرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ سِلَاحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِدُخُولِ مِلْكِ غَيْرِهِ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ مُطَالَبَتُهُ بِتَرْكِ التَّعَدِّي، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ خَرَجَ بِالْأَمْرِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ رَأَى لِصًّا، فَأَصْلَتَ عَلَيْهِ السَّيْفَ، قَالَ: فَلَوْ تَرَكْنَاهُ لَقَتَلَهُ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ، فَقَالَ: لِصٌّ دَخَلَ بَيْتِي وَمَعَهُ حَدِيدَةٌ، أَقْتُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِأَيِّ قِتْلَةٍ قَدَرْت أَنْ تَقْتُلَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْعُدْوَانِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَجُزْ الْقَتْلُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَمْكَنَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ. وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ يُحْمَلُ عَلَى قَصْدِ التَّرْهِيبِ، لَا عَلَى قَصْدِ إيقَاعِ الْفِعْلِ. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْأَمْرِ، فَلَهُ ضَرْبُهُ بِأَسْهَلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُ، فَإِذَا انْدَفَعَ بِقَلِيلٍ، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْعَصَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ بِالْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ لِلْقَتْلِ، بِخِلَافِ الْعَصَا. وَإِنْ ذَهَبَ مُوَلِّيًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَتْلُهُ، وَلَا اتِّبَاعُهُ، كَأَهْلِ الْبَغْيِ. وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَطَّلَتْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كُفِيَ شَرَّهُ. وَإِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ، فَوَلَّى مُدْبِرًا، فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، فَقَطْعُ الرِّجْلِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ لَا يَجُوزُ لَهُ ضَرْبُهُ، وَقَطْعُ الْيَدِ غَيْرُ مَضْمُونٍ. فَإِنْ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ اثْنَيْنِ. وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ قَطْعِ رِجْلِهِ، فَقَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى، فَالْيَدَانِ غَيْرُ مَضْمُونَتَيْنِ. وَإِنْ مَاتَ، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ. فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَضْمَنَ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَيْنِ قَطْعُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا، كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا مِائَةَ جُرْحٍ، وَجَرَحَهُ آخَرُ جُرْحًا وَاحِدًا، وَمَاتَ، كَانَتْ دِيَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَا تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ، كَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ، أَوْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْلِ إنْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَهُ ضَرْبُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ، وَمَا أَتْلَفَ مِنْهُ فَهُوَ هَدْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ لِدَفْعِ شَرِّهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالْبَاغِي، وَلِأَنَّهُ اضْطَرَّ صَاحِبَ الدَّارِ إلَى قَتْلِهِ، فَصَارَ كَالْقَاتِلِ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ قُتِلَ صَاحِبُ الدَّارِ فَهُوَ شَهِيدٌ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّهُ قُتِلَ لِدَفْعِ ظَالِمٍ، فَكَانَ شَهِيدًا، كَالْعَادِلِ إذَا قَتَلَهُ الْبَاغِي. [فَصْلٌ وَكُلُّ مَنْ عَرَضَ لِإِنْسَانٍ يُرِيدُ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ] (7384) وَكُلُّ مَنْ عَرَضَ لِإِنْسَانٍ يُرِيدُ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فِي دَفْعِهِمْ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُمْ بِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ نَهْرٌ كَبِيرٌ، أَوْ خَنْدَقٌ، أَوْ حِصْنٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اقْتِحَامِهِ، فَلَيْسَ لَهُ رَمْيُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِقِتَالِهِمْ، فَلَهُ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي اللُّصُوصِ يُرِيدُونَ نَفْسَك وَمَالَك: قَاتِلْهُمْ تَمْنَعْ نَفْسَك وَمَالَك. وَقَالَ عَطَاءٌ، فِي الْمُحْرِمِ يَلْقَى اللُّصُوصَ، قَالَ: يُقَاتِلُهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَرَكَ قِتَالَ الْحَرُورِيَّةِ وَاللُّصُوصِ تَأَثُّمًا، إلَّا أَنْ يَجْبُنَ. وَقَالَ الصَّلْتُ بْنُ طَرِيفٍ: قُلْت لِلْحَسَنِ: إنِّي أَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، أَخْوَفُ شَيْءٍ عِنْدِي يَلْقَانِي الْمُصَلُّونَ يَعْرِضُونَ لِي فِي مَالِي، فَإِنْ كَفَفْت يَدِي ذَهَبُوا بِمَالِي، وَإِنْ قَاتَلْت الْمُصَلِّيَ فَفِيهِ مَا قَدْ عَلِمْت؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مَنْ عَرَضَ لَك فِي مَالِك، فَإِنْ قَتَلْته فَإِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 النَّارِ، وَإِنْ قَتَلَك فَشَهِيدٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ أَرَادَهَا رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهَا، فَقَتَلَتْهُ لِتُحْصِنَ نَفْسَهَا، فَقَالَ: إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا نَفْسَهَا، فَقَتَلَتْهُ لِتَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَذَكَرَ حَدِيثًا يَرْوِيهِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا أَضَافَ نَاسًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَأَرَادَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا. وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الدَّفْعُ عَنْ مَالِهِ الَّذِي يَجُوزُ بَذْلُهُ وَإِبَاحَتُهُ، فَدَفْعُ الْمَرْأَةِ عَنْ نَفْسِهَا وَصِيَانَتُهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ أَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا إنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، وَفِي تَرْكِ الدَّفْعِ نَوْعُ تَمْكِينٍ. فَأَمَّا مِنْ أُرِيدَتْ نَفْسِهِ أَوْ مَالُهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِتْنَةِ: «اجْلِسْ فِي بَيْتِك فَإِنْ خِفْت أَنْ يَبْهَرَك شُعَاعُ السَّيْفِ، فَغَطِّ وَجْهَك» . وَفِي لَفْظٍ: «فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» . وَلِأَنَّ عُثْمَانَ، تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ إمْكَانِهِ مَعَ إرَادَتِهِمْ نَفْسَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِي الْمُضْطَرِّ: إذَا وَجَدَ مَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةَ، لَزِمَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَلِمَ لَمْ تَقُولُوا ذَلِكَ هَاهُنَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْأَكْلَ يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ، مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتِ نَفْسِ غَيْرِهِ، وَهَا هُنَا فِي إحْيَاءِ نَفْسِهِ فَوَاتُ نَفْسِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الْهَرَبُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ غَيْرَهُ، فَلَزِمَهُ، كَالْأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ دَفْعٌ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَالدَّفْعِ بِالْقِتَالِ. (7385) فَصْلٌ: وَإِذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ صَائِلٍ، يُرِيدُ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ ظُلْمًا، أَوْ يُرِيدُ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا، فَلِغَيْرِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ مَعُونَتُهُ فِي الدَّفْعِ. وَلَوْ عَرَضَ اللُّصُوصُ لِقَافِلَةٍ، جَازَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْقَافِلَةِ الدَّفْعُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا» . وَفِي حَدِيثٍ: «إنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْفَتَّانِ» . وَلِأَنَّهُ لَوْلَا التَّعَاوُنُ لَذَهَبَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَأَنْفُسُهُمْ؛ لِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إذَا انْفَرَدُوا بِأَخْذِ مَالِ إنْسَانٍ لَمْ يُعِنْهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْكُلِّ، وَاحِدًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 [فَصْلٌ وَإِذَا وَجَدَ رَجُلًا يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ] (7386) وَإِذَا وَجَدَ رَجُلًا يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَا دِيَةَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَمَا هُوَ يَتَغَدَّى يَوْمًا، إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَعْدُو، وَمَعَهُ سَيْفٌ مُجَرَّدٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ مَعَ عُمَرَ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ، وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا مَعَ امْرَأَتِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: ضَرَبَ الْآخَرُ فَخِذَيْ امْرَأَتِهِ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلَهُ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا ضَرَبَ بِسَيْفِهِ، فَقَطَعَ فَخِذَيْ امْرَأَتِهِ، فَأَصَابَ وَسَطَ الرَّجُلِ، فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: إنْ عَادُوا فَعُدْ. رَوَاهُ هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُطَاوِعَةً، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَإِذَا قَتَلَ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلٌ، فَقَتَلَهَا وَقَتَلَهُ. قَالَ عَلِيٌّ: إنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِلَّا فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَدَّعِيه، فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْبَيِّنَةِ، فَرُوِيَ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ؛ لِخَبَرِ عَلِيٍّ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت إنْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ يَكْفِي شَاهِدَانِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ عَلَى وُجُودِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهَذَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْأَرْبَعَةِ الزِّنَى، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الزِّنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَحَدِيثُ عُمَرَ فِي الَّذِي وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا لَيْسَ فِيهِ بَيِّنَةٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَرَجَ غَازِيًا، وَأَوْصَى بِأَهْلِهِ رَجُلًا، فَبَلَغَ الرَّجُلَ أَنَّ يَهُودِيًّا يَخْتَلِفُ إلَى امْرَأَتِهِ، فَكَمَنَ لَهُ حَتَّى جَاءَ، فَجَعَلَ يُنْشِدُ: وَأَشْعَثَ غَرَّهُ الْإِسْلَامُ مِنِّي ... خَلَوْت بِعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ أَبِيتُ عَلَى تَرَائِبِهَا وَيُضْحِي ... عَلَى جَرْدَاءَ لَاحِقَةِ الْحِزَامِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 كَأَنَّ مَوَاضِعَ الرَّبَلَاتِ مِنْهَا ... فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إلَى فِئَامِ فَقَامَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، فَأَهْدَرَ دَمَهُ، وَلَمْ يُطَالِبْ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِإِقْرَارِ الْوَلِيِّ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَادَّعَى عِلْمَ الْوَلِيِّ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ. [فَصْلٌ وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ مَنْزِلِي] (7387) وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ مَنْزِلِي، فَلَمْ يُمْكِنِّي دَفْعُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ يُعْرَفُ بِسَرِقَةٍ، أَوْ عِيَارَةٍ، أَوْ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ رَأَوْا هَذَا مُقْبِلًا إلَى هَذَا بِالسِّلَاحِ الْمَشْهُورِ، فَضَرَبَهُ هَذَا، فَقَدْ هَدَرَ دَمَهُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ دَاخِلًا دَارِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِلَاحًا، أَوْ ذَكَرُوا سِلَاحًا غَيْرَ مَشْهُورٍ، لَمْ يَسْقُطْ الْقَوَدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ لِحَاجَةٍ، وَمُجَرَّدُ الدُّخُولِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يُوجِبُ إهْدَارَ دَمِهِ. وَإِنْ تَجَارَحَ رَجُلَانِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنِّي جَرَحْته دَفْعًا عَنْ نَفْسِي. حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا جَرَحَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى الْآخَرِ مَا يُنْكِرُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. [فَصْلٌ وَلَوْ عَضَّ رَجُلٌ يَدَ آخَرَ] (7388) وَلَوْ عَضَّ رَجُلٌ يَدَ آخَرَ، فَلَهُ جَذْبُهَا مِنْ فِيهِ، فَإِنْ جَذَبَهَا فَوَقَعَتْ ثَنَايَا الْعَاضِّ، فَلَا ضَمَانَ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا عَضَّ رَجُلًا، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَسَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِ الْعَاضِّ، فَاخْتَصَمَا إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: انْزِعْ يَدَك مِنْ فِي السَّبُعِ، وَأَبْطِلْ أَسْنَانَهُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَلَنَا، مَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ، قَالَ: فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَحَسِبْت أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك تَقْضِمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ،.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ تَلِفَ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَطْعِ عُضْوِهِ. وَحَدِيثُهُمْ يَدُلُّ عَلَى دِيَةِ السِّنِّ إذَا قُلِعَتْ ظُلْمًا، وَهَذِهِ لَمْ تُقْلَعْ ظُلْمًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَعْضُوضُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا؛ لِأَنَّ الْعَضَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 مُحَرَّمٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَضُّ مُبَاحًا، مِثْلُ أَنْ يُمْسِكَهُ فِي مَوْضِعٍ يَتَضَرَّرُ بِإِمْسَاكِهِ، أَوْ يَعَضُّ يَدَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ ضَرَرِهِ إلَّا بِعَضِّهِ، فَيَعَضُّهُ، فَمَا سَقَطَ مِنْ أَسْنَانِهِ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ عَاضٌّ وَالْعَضُّ مُبَاحٌ. وَلِذَلِكَ لَوْ عَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْمَعْضُوضَ تَخْلِيصُ يَدِهِ إلَّا بِعَضِّهِ، فَلَهُ عَضُّهُ، وَيَضْمَنُ الظَّالِمُ مِنْهُمَا مَا تَلِفَ مِنْ الْمَظْلُومِ، وَمَا تَلِفَ مِنْ الظَّالِمِ هَدْرٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَضَّهُ فِي غَيْرِ يَدِهِ، أَوْ عَمِلَ بِهِ عَمَلًا غَيْرَ الْعَضِّ أَفْضَى إلَى تَلَفِ شَيْءٍ مِنْ الْفَاعِلِ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ غُلَامًا أَخَذَ قُمْعًا مِنْ أَقْمَاعِ الزَّيَّاتِينَ، فَأَدْخَلَهُ بَيْنَ فَخِذَيْ رَجُلٍ، وَنَفَخَ فِيهِ، فَذُعِرَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَبَطَ بِرِجْلِهِ، فَوَقَعَ عَلَى الْغُلَامِ، فَكَسَرَ بَعْضَ أَسْنَانِهِ، فَاخْتَصَمُوا إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا أَعْقِلُ الْكَلْبَ الْهَرَّارَ. قَالَ الْقَاضِي: يُخَلِّصُ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنْ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ فَكُّ لَحْيَيْهِ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لَكَمَهُ فِي فَكِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ جَذَبَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ، فَلَهُ أَنْ يَعْصِرَ خُصْيَتَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَبْعَجَ بَطْنَهُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَهُ أَنْ يَجْذِبَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ يَدِهِ فِي فَمِ الْعَاضِّ حَتَّى يَتَحَيَّلَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِأَنَّ جَذْبَ يَدِهِ مُجَرَّدُ تَخْلِيصٍ لِيَدِهِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ سُقُوطِ الْأَسْنَانِ حَصَلَ ضَرُورَةَ التَّخْلِيصِ الْجَائِزِ، وَلَكْمُ فَكِّهِ جِنَايَةٌ غَيْرُ التَّخْلِيصِ، وَرُبَّمَا تَضَمَّنَتْ التَّخْلِيصَ، وَرُبَّمَا أَتْلَفَتْ الْأَسْنَانَ الَّتِي لَمْ يَحْصُلْ الْعَضُّ بِهَا، وَكَانَتْ الْبَدَاءَةُ بِجَذْبِ يَدِهِ أَوْلَى. وَيَنْبَغِي أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ جَذْبُ يَدِهِ، فَعَدَلَ إلَى لَكْمِ فَكِّهِ، فَأَتْلَفَ سِنًّا، ضَمِنَهُ، لِإِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. [فَصْلٌ وَمَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ مِنْ ثَقْبٍ أَوْ شَقِّ بَابٍ أَوْ نَحْوِهِ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ] (7389) وَمَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ مِنْ ثَقْبٍ، أَوْ شَقِّ بَابٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِحَصَاةٍ، أَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ، فَقَلَعَ عَيْنَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَنَظَرَ فِيهِ، أَوْ نَالَ مِنْ امْرَأَتِهِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، لَمْ يَجُزْ قَلْعُ عَيْنِهِ، فَمُجَرَّدُ النَّظَرِ أَوْلَى. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْك بِغَيْرِ إذْنٍ، فَحَذَفْته بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْت عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْك جُنَاحٌ.» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، «أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي حَجَرٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُكُّ رَأْسَهُ بِمِدْرَى فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَنْظُرُنِي لَطَمْت، أَوْ لَطَعَنْت بِهَا فِي عَيْنِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَيُفَارِقُ مَا قَاسُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ الْمَنْزِلَ يُعْلَمُ بِهِ، فَيُسْتَتَرُ مِنْهُ، بِخِلَافِ النَّاظِرِ مِنْ ثَقْبٍ، فَإِنَّهُ يَرَى مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهِ، ثُمَّ الْخَبَرُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِذَلِكَ، لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَدْفَعُهُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِهِ، فَيَقُولُ لَهُ أَوَّلًا: انْصَرِفْ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَشَارَ إلَيْهِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يَحْذِفُهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ، فَلَهُ حَذْفُهُ حِينَئِذٍ. وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى (7390) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ تَرَكَ الِاطِّلَاعَ وَمَضَى، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطْعَنْ الَّذِي اطَّلَعَ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَلِأَنَّهُ تَرَكَ الْجِنَايَةَ، فَأَشْبَهَ مَنْ عَضَّ ثُمَّ تَرَكَ الْعَضَّ، لَمْ يَجُزْ قَلْعُ أَسْنَانِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُطَّلَعُ مِنْهُ صَغِيرًا، كَثَقْبِ أَوْ شَقٍّ، أَوْ وَاسِعًا، كَثَقْبٍ كَبِيرٍ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَابَ الْمَفْتُوحَ كَذَلِكَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ مَنْ نَظَرَ مِنْ بَابٍ مَفْتُوحٍ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ تَارِكِ الْبَابِ مَفْتُوحًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَابَهُ مَفْتُوحًا، أَنَّهُ يَسْتَتِرُ، لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْهُ، وَيَعْلَمُ بِالنَّاظِرِ فِيهِ، وَالْوَاقِفِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ، كَدَاخِلِ الدَّارِ. وَإِنْ اطَّلَعَ، فَرَمَاهُ صَاحِبُ الدَّارِ، فَقَالَ الْمُطَّلِعُ: مَا تَعَمَّدْت الِاطِّلَاعَ. لَمْ يَضْمَنْهُ، عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ قَدْ وُجِدَ، وَالرَّامِي لَا يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ بِمَا هُوَ أَسْهَلُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا حِينَ اطَّلَعْت، وَإِنْ كَانَ الْمُطَّلِعُ أَعْمَى، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ إنْسَانٌ عُرْيَانًا فِي طَرِيقٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَمْيُ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفَرِّطُ. وَإِنْ كَانَ الْمُطَّلِعُ فِي الدَّارِ مِنْ مَحَارِمِ النِّسَاءِ اللَّائِي فِيهَا، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُهُ، إلَّا أَنْ يَكُنَّ مُتَجَرِّدَاتٍ، فَيَصِرْنَ كَالْأَجَانِبِ. وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا نِسَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الَّتِي اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءٌ. وَقَوْلُهُ: " لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْك، بِغَيْرِ إذْنٍ، فَحَذَفْته ". عَامٌّ فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا نِسَاءٌ وَغَيْرِهَا. (7391) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ بِمَا يَقْتُلُهُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُهُ، أَوْ حَدِيدَةٍ ثَقِيلَةٍ، ضَمِنَهُ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَهُ مَا يَقْلَعُ بِهِ الْعَيْنَ الْمُبْصِرَةَ، الَّتِي حَصَلَ الْأَذَى مِنْهَا، دُونَ مَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ الْمُطَّلِعُ بِرَمْيِهِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، جَازَ رَمْيُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ النَّاظِرُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَمَا أَفْسَدَتْ الْبَهَائِمُ] (7392) : (وَمَا أَفْسَدَتْ الْبَهَائِمُ بِاللَّيْلِ مِنْ الزَّرْعِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى أَهْلِهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ مِنْ ذَلِكَ نَهَارًا، لَمْ يَضْمَنُوهُ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ يَدُ أَحَدٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَوْ غَيْرُهُ، فَعَلَى مَنْ يَدُهُ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ؛ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ. وَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَدُ أَحَدٍ عَلَيْهَا، فَعَلَى مَالِكِهَا ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتْهُ مِنْ الزَّرْعِ، لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَضْمَنُ مَالِكُهَا مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ قِيمَتِهَا، أَوْ قَدْرِ مَا أَتْلَفَتْهُ، كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» . يَعْنِي هَدْرًا. وَلِأَنَّهَا أَفْسَدَتْ وَلَيْسَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ. كَمَا لَوْ كَانَ نَهَارًا، أَوْ كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ غَيْرَ الزَّرْعِ. وَلَنَا، مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةُ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ، فَأَفْسَدَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتْ بِاللَّيْلِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنْ كَانَ هَذَا مُرْسَلًا، فَهُوَ مَشْهُورٌ حَدَّثَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ، وَتَلَقَّاهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ بِالْقَبُولِ. وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاشِي إرْسَالُهَا فِي النَّهَارِ لِلرَّعْيِ، وَحِفْظُهَا لَيْلًا، وَعَادَةُ أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ لَيْلًا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِهَا بِتَرْكِهِمْ حِفْظَهَا فِي وَقْتِ عَادَةِ الْحِفْظِ، وَإِنْ أَتْلَفَتْ نَهَارًا، كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِ الزَّرْعِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَضَى عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِالْحِفْظِ فِي وَقْتِ عَادَتِهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الزَّرْعِ، فَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا تُتْلِفُ ذَلِكَ عَادَةً، فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حِفْظِهَا، بِخِلَافِ الزَّرْعِ. (7393) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا يَضْمَنُ مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلًا، إذَا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ، بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا، أَوْ إرْسَالِهَا نَهَارًا، وَلَمْ يَضْمَنْهَا لَيْلًا، أَوْ ضَمِنَهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ. أَمَّا إذَا ضَمِنَهَا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا، أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا؛ لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدِي مَحْمُولَةٌ عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ مَزَارِعُ وَمَرَاعٍ، أَمَّا الْقُرَى الْعَامِرَةُ الَّتِي لَا مَرْعَى فِيهَا إلَّا بَيْنَ قراحين، كَسَاقِيَةٍ وَطَرِيقٍ وَطَرَفِ زَرْعٍ، فَلَيْسَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 لِصَاحِبِهَا إرْسَالُهَا بِغَيْرِ حَافِظٍ عَنْ الزَّرْعِ، فَإِنْ فَعَلَهُ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِتَفْرِيطِهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ وَإِنْ أَتْلَفَتْ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ الزَّرْعِ] (7394) وَإِنْ أَتْلَفَتْ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ الزَّرْعِ لَمْ يَضْمَنْ مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، مَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا. وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَضَى فِي شَاةٍ وَقَعَتْ فِي غَزْلِ حَائِكٍ لَيْلًا، بِالضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَقَرَأَ شُرَيْحٌ {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] . قَالَ: وَالنَّفْشُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّيْلِ. وَعَنْ الثَّوْرِيِّ: يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِإِرْسَالِهَا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. أَيْ هَدْرٌ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ النَّفْشَ هُوَ الرَّعْيُ بِاللَّيْلِ، فَكَانَ هَذَا فِي الْحَرْثِ الَّذِي تُفْسِدُهُ الْبَهَائِمُ طَبْعًا بِالرَّعْيِ، وَتَدْعُوهَا نَفْسُهَا إلَى أَكْلِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ وَمَنْ اقْتَنَى كَلْبًا عَقُورًا، فَأَطْلَقَهُ فَعَقَرَ إنْسَانًا أَوْ دَابَّةً] (7395) وَمَنْ اقْتَنَى كَلْبًا عَقُورًا، فَأَطْلَقَهُ، فَعَقَرَ إنْسَانًا، أَوْ دَابَّةً، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، أَوْ خَرَقَ ثَوْبَ إنْسَانٍ، فَعَلَى صَاحِبِهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِاقْتِنَائِهِ، إلَّا أَنْ يَدْخُلَ إنْسَانٌ دَارِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُولِ، مُتَسَبِّبٌ بِعُدْوَانِهِ إلَى عَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ. وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِهِ. وَإِنْ أَتْلَفَ الْكَلْبُ بِغَيْرِ الْعَقْرِ، مِثْلَ أَنْ وَلَغَ فِي إنَاءِ إنْسَانٍ، أَوْ بَالَ، لَمْ يَضْمَنْهُ مُقْتَنِيه؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنْ اقْتَنَى سِنَّوْرًا يَأْكُلُ أَفْرَاخَ النَّاسِ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ، كَمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ، لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهُ جِنَايَتَهُ، كَالْكَلْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَقُورًا. وَلَوْ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَوْ السِّنَّوْرَ حَصَلَ عِنْدَ إنْسَانٍ، مِنْ غَيْرِ اقْتِنَائِهِ وَلَا اخْتِيَارِهِ، فَأَفْسَدَ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْإِتْلَافُ بِسَبَبِهِ. [فَصْلٌ وَإِنْ اقْتَنَى حَمَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الطَّيْرِ فَأَرْسَلَهُ نَهَارًا فَلَقَطَ حَبًّا] (7396) وَإِنْ اقْتَنَى حَمَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الطَّيْرِ، فَأَرْسَلَهُ نَهَارًا، فَلَقَطَ حَبًّا، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَهِيمَةِ، وَالْعَادَةُ إرْسَالُهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَمَا جَنَتْ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا] (7397) : (وَمَا جَنَتْ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا، ضَمِنَ رَاكِبُهَا مَا أَصَابَتْ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ مَالٍ، وَكَذَلِكَ إنْ قَادَهَا أَوْ سَاقَهَا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» . وَلِأَنَّهُ جِنَايَةُ بَهِيمَةٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرِّجْلُ جُبَارٌ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتَخْصِيصُ الرِّجْلِ بِكَوْنِهِ جُبَارًا، دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي جِنَايَةِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا عَنْ الْجِنَايَةِ إذَا كَانَ رَاكِبَهَا، أَوْ يَدُهُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَدَ لَهُ عَلَيْهَا، وَحَدِيثُهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَدَ لَهُ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَمَا جَنَتْ بِرِجْلِهَا] (7398) : (وَمَا جَنَتْ بِرِجْلِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَضْمَنُهَا. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَةِ بَهِيمَةٍ، يَدُهُ عَلَيْهَا، فَيَضْمَنُهَا، كَجِنَايَةِ يَدِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرِّجْلُ جُبَارٌ» . وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ رِجْلِهَا عَنْ الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ جِنَايَتُهَا بِفِعْلِهِ، مِثْلَ أَنْ كَبَحَهَا بِلِجَامِهَا، أَوْ ضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ضَمِنَ جِنَايَةَ رِجْلِهَا؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي جِنَايَتِهَا، فَكَانَ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبَ فِي جِنَايَتِهَا غَيْرُهُ، مِثْلَ أَنْ نَخَسَهَا، أَوْ نَفَرَهَا، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، دُونَ رَاكِبِهَا وَسَائِقِهَا وَقَائِدِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ فِي جِنَايَتِهَا. [فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ رَاكِبَانِ] (7399) : فَإِنْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ رَاكِبَانِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَى كَفِّهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُمَا، وَيَكُونَ الثَّانِي الْمُتَوَلِّيَ لِتَدْبِيرِهَا فَيَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ قَائِدٌ وَسَائِقٌ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ انْفَرَدَ ضَمِنَ. فَإِذَا اجْتَمَعَا ضَمِنَا. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا رَاكِبٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، لِذَلِكَ. وَالثَّانِي، عَلَى الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا وَتَصَرُّفًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَائِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلرَّاكِبِ مَعَ الْقَائِدِ. [فَصْلٌ وَالْجَمَلُ الْمَقْطُورُ عَلَى الْجَمَلِ الَّذِي عَلَيْهِ رَاكِبٌ] (7400) : وَالْجَمَلُ الْمَقْطُورُ عَلَى الْجَمَلِ الَّذِي عَلَيْهِ رَاكِبٌ، يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَائِدِ، فَأَمَّا الْجَمَلُ الْمَقْطُورُ عَلَى الْجَمَلِ الثَّانِي، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُضْمَنَ جِنَايَتُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَائِقٌ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ الْأَوَّلَ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ. وَلَوْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ وَلَدُهَا، لَمْ تُضْمَنْ جِنَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 [فَصْلٌ وَإِنْ وَقَفَتْ الدَّابَّةُ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ] (7401) وَإِنْ وَقَفَتْ الدَّابَّةُ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، ضَمِنَ مَا جَنَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ فَمٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِوَقْفِهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَضْمَنُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِالطَّرِيقِ مَشْرُوطٌ بِالسَّلَامَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ فِي الطَّرِيقِ طِينًا، فَزَلِقَ بِهِ إنْسَانٌ، ضَمِنَهُ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِوَقْفِهَا فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ وَقَفَهَا فِي مَوَاتٍ. وَفَارَقَ الطِّينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ فِي الطَّرِيقِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ، فَمَاتَتْ الدَّابَّتَانِ] (7402) : (وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ، فَمَاتَتْ الدَّابَّتَانِ، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ دَابَّةِ الْآخَرِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصْطَدِمَيْنِ ضَمَانَ مَا تَلِفَ مِنْ الْآخَرِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَابَّةٍ، أَوْ مَالٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّابَّتَانِ فَرَسَيْنِ، أَوْ بَغْلَيْنِ، أَوْ حِمَارَيْنِ، أَوْ جَمَلَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَرَسًا وَالْآخَرُ غَيْرَهُ، سَوَاءٌ كَانَا مُقْبِلَيْنِ، أَوْ مُدْبِرَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ مَا تَلِفَ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا، فَكَانَ الضَّمَانُ مُنْقَسِمًا عَلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانٌ نَفْسَهُ، وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ صَدْمَةِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَرَّبَهَا إلَى مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَلَزِمَ الْآخَرَ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ وَاقِفَةً بِخِلَافِ الْجِرَاحَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ قِيمَةَ الدَّابَّتَيْنِ إنْ تَسَاوَتَا، تَقَاصَّتَا وَسَقَطَتَا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى، فَلِصَاحِبِهَا الزِّيَادَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَى الدَّابَّتَيْنِ، فَعَلَى الْآخَرِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ فَعَلَيْهِ نَقْصِهَا. (7403) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيْ الْآخَرِ، فَأَدْرَكَهُ الثَّانِي فَصَدَمَهُ، فَمَاتَتْ الدَّابَّتَانِ، أَوْ إحْدَاهُمَا، فَالضَّمَانُ عَلَى اللَّاحِقِ؛ لِأَنَّهُ الصَّادِمُ وَالْآخَرُ مَصْدُومٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ وَالْآخَرُ وَاقِفًا.] (7404) : (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ، وَالْآخَرُ وَاقِفًا، فَعَلَى السَّائِرِ قِيمَةُ دَابَّةِ الْوَاقِفِ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ السَّائِرَ هُوَ الصَّادِمُ الْمُتْلِفُ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ مَاتَ هُوَ أَوْ دَابَّتُهُ، فَهُوَ هَدْرٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ وَدَابَّتَهُ. وَإِنْ انْحَرَفَ الْوَاقِفُ، فَصَادَفَتْ الصَّدْمَةُ انْحِرَافَهُ، فَهُمَا كَالسَّائِرَيْنِ؛ لِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُتَعَدِّيًا بِوُقُوفِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ السَّائِرِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِتَعَدِّيهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ جَلَسَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِنْ تَصَادَمَ نَفْسَانِ يَمْشِيَانِ، فَمَاتَا] (7405) : (وَإِنْ تَصَادَمَ نَفْسَانِ يَمْشِيَانِ، فَمَاتَا، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ) . رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْخِلَافُ هَاهُنَا فِي الضَّمَانِ كَالْخِلَافِ فِيمَا إذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ، إلَّا أَنَّهُ لَا تَقَاصَّ هَاهُنَا فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ؛ لِكَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِلَةُ هِيَ الْوَارِثَةَ، أَوْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَصَادِمَيْنِ، تَقَاصَّا. وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ اصْطِدَامُهُمَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الصَّدْمَةَ لَا تَقْتُلُ غَالِبًا، فَالْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِهَا مَعَ الْعَمْدِ عَمْدُ الْخَطَأِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَصِيرَيْنِ وَالْأَعْمَيَيْنِ، وَالْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى، فَإِنْ كَانَتَا امْرَأَتَيْنِ حَامِلَتَيْنِ، فَهُمَا كَالرَّجُلَيْنِ، فَإِنْ أَسْقَطَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنِينًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ ضَمَانِ جَنِينِهَا وَنِصْفُ ضَمَانِ جَنِينِ صَاحِبَتِهَا؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَتَا فِي قَتْلِهِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِتْقُ ثَلَاثِ رِقَابٍ؛ وَاحِدَةٌ لِقَتْلِ صَاحِبَتِهَا، وَاثْنَتَانِ لِمُشَارَكَتِهَا فِي الْجَنِينِ. وَإِنْ أَسْقَطَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، اشْتَرَكَتَا فِي ضَمَانِهِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عِتْقُ رَقَبَتَيْنِ. وَإِنْ أَسْقَطَتَا مَعًا، وَلَمْ تَمُتْ الْمَرْأَتَانِ، فَفِي مَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ضَمَانُ نِصْفِ الْجَنِينَيْنِ بِغُرَّةٍ، إذَا سَقَطَا مَيِّتَيْنِ، وَعِتْقُ رَقَبَتَيْنِ. وَإِنْ اصْطَدَمَ رَاكِبٌ وَمَاشٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَا مَاشِيَيْنِ. وَإِنْ اصْطَدَمَ رَاكِبَانِ فَمَاتَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَا مَاشِيَيْنِ. (7406) فَصْلٌ: وَإِنْ اصْطَدَمَ عَبْدَانِ فَمَاتَا، هُدِرَتْ قِيمَتُهُمَا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ الْآخَرِ، فَسَقَطَتْ بِتَلَفِهِ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، تَعَلَّقَتْ قِيمَتُهُ بِرَقَبَةِ الْحَيِّ، فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْقِيمَةِ، سَقَطَتْ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا. وَإِنْ تَصَادَمَ حُرٌّ وَعَبْدٌ، فَمَاتَا، تَعَلَّقَتْ دِيَةُ الْحُرِّ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْحُرِّ فَيَتَقَاصَّانِ، فَإِنْ كَانَتْ دِيَةُ الْحُرِّ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، سَقَطَتْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ، أَخَذَ الْفَضْلَ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي، وَفِي مَالِ الْحُرِّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَهُ بِالصَّوْمِ، فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ وَحْدَهُ، فَقِيمَتُهُ فِي ذِمَّةِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدِ. وَإِنْ مَاتَ الْحُرُّ وَحْدَهُ، تَعَلَّقَتْ دِيَتُهُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ، سَقَطَتْ. وَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيَتَحَوَّلُ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ إلَى قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهُ، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهُ، وَتُسْتَوْفَى مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 [مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا وَقَعَتْ السَّفِينَةُ الْمُنْحَدِرَةُ عَلَى الْمُصَاعَدَةِ فَغَرِقَتَا] (7407) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَتْ السَّفِينَة الْمُنْحَدِرَةُ عَلَى الْمُصَاعَدَةِ، فَغَرِقَتَا، فَعَلَى الْمُنْحَدِرَةِ قِيمَةُ السَّفِينَةِ الْمُصَاعَدَةِ، أَوْ أَرْشُ مَا نَقَصَتْ إنْ أُخْرِجَتْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَيِّمُ الْمُنْحَدِرَةِ غَلَبَتْهُ الرِّيحُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّفِينَتَيْنِ إذَا اصْطَدَمَتَا، لَمْ تَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنْ تَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ، كَاللَّتَيْنِ فِي بَحْرٍ أَوْ مَاءٍ وَاقِفٍ، أَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُنْحَدِرَةً وَالْأُخْرَى مَصَاعِدَةً، فَنَبْدَأُ بِمَا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُنْحَدِرَةً وَالْأُخْرَى مَصَاعِدَةً؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنْ يَكُونَ الْقَيِّمُ بِهَا مُفَرِّطًا، بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى ضَبْطِهَا، أَوْ رَدِّهَا عَنْ الْأُخْرَى، فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْدِلَهَا إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ لَمْ يُكْمِلْ آلَتَهَا مِنْ الْحِبَالِ وَالرِّجَالَاتِ وَغَيْرِهِمَا، فَعَلَى الْمُنْحَدِرِ ضَمَانُ الْمُصَاعَدَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْحَطُّ عَلَيْهَا مِنْ عُلْوٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَرَقِهَا، فَتَنْزِلُ الْمُنْحَدِرَةُ بِمَنْزِلَةِ السَّائِرِ، وَالْمَصَاعِدَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ. وَإِنْ غَرِقَتَا جَمِيعًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُصَعِّدِ، وَعَلَى الْمُنْحَدِرِ قِيمَةُ الْمُصَعِّدِ، أَوْ أَرْشُ مَا نَقَصَتْ إنْ لَمْ تَتْلَفْ كُلُّهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيطُ مِنْ الْمُصَعِّدِ؛ بِأَنْ يُمْكِنَهُ الْعُدُولُ بِسَفِينَتِهِ، وَالْمُنْحَدِرُ غَيْرُ قَادِرٍ وَلَا مُفَرِّطٍ، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُصَعِّدِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفَرِّطُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ، لَكِنْ هَاجَتْ رِيحٌ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ شَدِيدَ الْجِرْيَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ضَبْطُهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي وُسْعِهِ ضَبْطُهَا، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْقَيِّمَانِ مُفَرِّطَيْنِ، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفِينَةَ الْآخَرِ، بِمَا فِيهَا مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، كَمَا قُلْنَا فِي الْفَارِسَيْنِ يَصْطَدِمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُفَرِّطَيْنِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي حَالِ عَدَمِ التَّفْرِيطِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُمَا فِي أَيْدِيهِمَا، فَلَزِمَهُمَا الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ؛ لِغَلَبَةِ الْفَرَسَيْنِ لَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ الْمَلَّاحَيْنِ لَا يُسَيِّرَانِ السَّفِينَتَيْنِ بِفِعْلِهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهُمَا ضَبْطُهُمَا فِي الْغَالِبِ، وَلَا الِاحْتِرَاز مِنْ ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَزَلَتْ صَاعِقَةٌ أَحْرَقَتْ السَّفِينَةَ، وَيُخَالِفُ الْفَرَسَيْنِ، فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ ضَبْطُهُمَا، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ طَرْدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُفَرِّطًا وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَحْدَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تَفْرِيطِ الْقَيِّمِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّفْرِيطِ، وَهُوَ أَمِينٌ، فَهُوَ كَالْمُودَعِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُمَا إذَا كَانَ مُفَرِّطَيْنِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَيِّمَيْنِ ضَمَانُ نِصْفِ سَفِينَتِهِ وَنِصْفِ سَفِينَةِ صَاحِبِهِ، كَقَوْلِهِ فِي اصْطِدَامِ الْفَارِسَيْنِ، عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 (7408) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَيِّمَانِ مَالِكَيْنِ لِلسَّفِينَتَيْنِ بِمَا فِيهِمَا تَقَاصَّا، وَأَخَذَ ذُو الْفَضْلِ فَضْلَهُ، وَإِنْ كَانَا أَجِيرَيْنِ، ضَمِنَا، وَلَا تَقَاصَّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَنْ يَجِبُ لَهُ غَيْرُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي السَّفِينَتَيْنِ أَحْرَارٌ فَهَلَكُوا، وَكَانَا قَدْ تَعَمَّدَا الْمُصَادَمَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ. وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَيِّمَيْنِ، إذَا كَانَ حُرَّيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدَا الْمُصَادَمَةَ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا وَجَبَتْ دِيَةُ الْأَحْرَارِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَيِّمَيْنِ، وَقِيمَةُ الْعَبِيدِ فِي أَمْوَالِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْقَيِّمَانِ عَبْدَيْنِ، تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِمَا، فَإِنْ تَلِفَا جَمِيعًا، سَقَطَ الضَّمَانُ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ كَانَ فِي السَّفِينَتَيْنِ وَدَائِعُ وَمُضَارَبَاتٌ، لَمْ تَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ لَا يَضْمَنُ، مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ. وَإِنْ كَانَتْ السَّفِينَتَانِ بِأُجْرَةٍ، فَهُمَا أَمَانَةٌ أَيْضًا، لَا ضَمَانَ فِيهِمَا. وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَالٌ يَحْمِلَانِهِ بِأُجْرَةٍ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُسْتَطَاعٍ. (7409) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى السَّفِينَتَيْنِ قَائِمَةً وَالْأُخْرَى سَائِرَةً، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَاقِفَةِ، وَعَلَى السَّائِرَةِ ضَمَانُ الْوَاقِفَةِ، إنْ كَانَ مُفَرِّطًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُفَرِّطْ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا. [فَصْلٌ وَإِنْ خِيفَ عَلَى السَّفِينَةِ الْغَرَقُ فَأَلْقَى بَعْضُ الرُّكْبَانِ مَتَاعَهُ] وَإِنْ خِيفَ عَلَى السَّفِينَةِ الْغَرَقُ، فَأَلْقَى بَعْضُ الرُّكْبَانِ مَتَاعَهُ لِتَخِفَّ وَتَسْلَمَ مِنْ الْغَرَقِ، لَمْ يَضْمَنْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَتَاعَ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ؛ لِصَلَاحِهِ وَصَلَاحِ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ضَمِنَهُ وَحْدَهُ. وَإِنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَك. فَقَبِلَ مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ. أَوْ: وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ. لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِعِوَضٍ لِمَصْلَحَةٍ، فَوَجَبَ لَهُ الْعِوَضُ عَلَى مَنْ الْتَزَمَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، وَعَلَيَّ وَعَلَى رُكْبَانِ السَّفِينَةِ ضَمَانُهُ. فَأَلْقَاهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَحْدَهُ. وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ضَمَانَهُ جَمِيعَهُ، فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ ضَمَانَ اشْتِرَاكٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَضْمَنُ لَك. أَوْ قَالَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُ قِسْطِهِ أَوْ رُبْعِ مَتَاعِك. لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَا يَخُصُّهُ مِنْ الضَّمَانِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا حِصَّتَهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْبَاقِينَ بِالضَّمَانِ، فَسَكَتُوا، وَسُكُوتُهُمْ لَيْسَ بِضَمَانٍ. وَإِنْ الْتَزَمَ ضَمَانَ الْجَمِيعِ، وَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ الْكُلِّ، وَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ لَك أَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ، فَقَدْ أَذِنُوا لِي فِي ذَلِكَ. فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ أَنْكَرُوا الْإِذْنَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِهِ. وَإِنْ قَالَ: أُلْقِي مَتَاعِي، وَتَضْمَنُهُ لِي؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَلْقَاهُ، ضَمِنَهُ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك، وَعَلَيَّ ضَمَانُ نِصْفِهِ، وَعَلَى أَخِي ضَمَانُ مَا بَقِيَ. فَأَلْقَاهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النِّصْفِ وَحْدَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 [فَصْلٌ وَإِذَا خَرَقَ سَفِينَةً فَغَرِقَتْ بِمَا فِيهَا] (7411) وَإِذَا خَرَقَ سَفِينَةً، فَغَرِقَتْ بِمَا فِيهَا، وَكَانَ عَمْدًا، وَهُوَ مَا يُغْرِقُهَا غَالِبًا، وَيُهْلِكُ مَنْ فِيهَا، لِكَوْنِهِمْ فِي اللُّجَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالسِّبَاحَةِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْ قُتِلَ مَنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ السَّفِينَةِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَنَفْسٍ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْعَبِيدِ، وَدِيَةُ الْأَحْرَارِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَإِنْ كَانَ عَمْدَ خَطَأٍ، مِثْلَ أَنْ يَأْخُذَ السَّفِينَةَ لِيُصْلِحَ مَوْضِعًا، فَقَلَعَ لَوْحًا، أَوْ يُصْلِحَ مِسْمَارًا، فَنَقَبَ مَوْضِعًا، فَهَذَا عَمْدُ الْخَطَأِ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِعْلًا مُبَاحًا، فَأَفْضَى إلَى التَّلَفِ لِمَا لَمْ يُرِدْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَى صَيْدًا، فَأَصَابَ آدَمِيًّا. وَلَكِنْ إنْ قَصَدَ قَلْعَ اللَّوْحِ فِي مَوْضِعٍ الْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُتْلِفُهَا، فَأَتْلَفَهَا، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 [كِتَابُ الْجِهَادِ] رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرَسُولِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» . وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (7412) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ، سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) مَعْنَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، الَّذِي إنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مَنْ يَكْفِي، أَثِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَإِنْ قَامَ بِهِ مَنْ يَكْفِي، سَقَطَ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ. فَالْخِطَابُ فِي ابْتِدَائِهِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، كَفَرْضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَالْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] ثُمَّ قَالَ: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ ". وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدِينَ غَيْرُ آثِمِينَ مَعَ جِهَادِ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ السَّرَايَا، وَيُقِيمُ هُوَ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُد. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 حِينَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ هَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ خُلِّفُوا، حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَنْفَرَهُ الْإِمَامُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ فِي الْجِهَادِ أَنْ يَنْهَضَ لِلْجِهَادِ قَوْمٌ يَكْفُونَ فِي قِتَالِهِمْ؛ إمَّا أَنْ يَكُونُوا جُنْدًا لَهُمْ دَوَاوِينُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُوا قَدْ أَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ تَبَرُّعًا بِحَيْثُ إذَا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ حَصَلَتْ الْمَنَعَةُ بِهِمْ، وَيَكُونُ فِي الثُّغُورِ مَنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ عَنْهَا، وَيُبْعَثُ فِي كُلِّ سَنَةٍ جَيْشٌ يُغِيرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي بِلَادِهِمْ. [فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ] وَيَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ أَحَدُهَا، إذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ، وَتَقَابَلَ الصَّفَّانِ؛ حَرُمَ عَلَى مَنْ حَضَرَ الِانْصِرَافُ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] . وَقَوْلِهِ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الثَّانِي، إذَا نَزَلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدٍ، تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهِ قِتَالُهُمْ وَدَفْعُهُمْ. الثَّالِثِ، إذَا اسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا لَزِمَهُمْ النَّفِيرُ مَعَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] . الْآيَةَ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". [فَصْلٌ وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ] (7414) وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ؛ الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ الضَّرَرِ، وَوُجُودُ النَّفَقَةِ. فَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، فَهِيَ شُرُوطٌ لِوُجُوبِ سَائِرِ الْفُرُوعِ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مَأْمُونٍ فِي الْجِهَادِ، وَالْمَجْنُونَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِهَادُ وَالصَّبِيَّ ضَعِيفُ الْبِنْيَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 الْحُرِّيَّةُ فَتُشْتَرَطُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ» ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ، كَالْحَجِّ. وَأَمَّا الذُّكُورِيَّةُ فَتُشْتَرَطُ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَالَ: جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ؛ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ» . وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِضَعْفِهَا وَخَوَرِهَا، وَلِذَلِكَ لَا يُسْهَمُ لَهَا. وَلَا يَجِبُ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ. وَأَمَّا السَّلَامَةُ مِنْ الضَّرَرِ، فَمَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنْ الْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ، وَهُوَ شَرْطٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] . وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْجِهَادِ؛ فَأَمَّا الْعَمَى فَمَعْرُوفٌ، وَأَمَّا الْعَرَجُ، فَالْمَانِعُ مِنْهُ هُوَ الْفَاحِشُ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَشْيَ الْجَيِّدَ وَالرُّكُوبَ، كَالزَّمَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الْيَسِيرُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شِدَّةُ الْعَدْوِ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْهُ، فَشَابَهَ الْأَعْوَرَ. وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ الْمَانِعُ هُوَ الشَّدِيدُ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ مِنْهُ الَّذِي لَا يَمْنَعُ إمْكَانَ الْجِهَادِ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالصُّدَاعِ الْخَفِيفِ، فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجِهَادُ، فَهُوَ كَالْعَوَرِ. وَأَمَّا وُجُودُ النَّفَقَة، فَيُشْتَرَطُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] وَلِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِآلَةٍ، فَيُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، اُشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَنَفَقَةِ عَائِلَتِهِ فِي مُدَّةِ غِيبَتِهِ، وَسِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الرَّاحِلَةُ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ قَرِيبٌ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، اُعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ الرَّاحِلَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] [فَصْلٌ أَقَلّ الْجِهَاد مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ.] (7415) وَأَقَلُّ مَا يُفْعَلُ مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهِيَ بَدَلٌ عَنْ النُّصْرَةِ، فَكَذَلِكَ مُبْدَلُهَا وَهُوَ الْجِهَادُ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، إلَّا مِنْ عُذْرٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي عَدَدٍ أَوْ عُدَّةٍ، أَوْ يَكُونَ يَنْتَظِرُ الْمَدَدَ يَسْتَعِينُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إلَيْهِمْ فِيهَا مَانِعٌ أَوْ لَيْسَ فِيهَا عَلَفٌ أَوْ مَاءٌ، أَوْ يَعْلَمَ مِنْ عَدُوِّهِ حُسْنَ الرَّأْيِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَطْمَعَ فِي إسْلَامِهِمْ إنْ أَخَّرَ قِتَالَهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَرَى الْمَصْلَحَةَ مَعَهُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِهُدْنَةٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَالِحَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ، وَأَخَّرَ قِتَالَهُمْ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ، وَأَخَّرَ قِتَالَ قَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ بِغَيْرِ هُدْنَةٍ. وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ فِي عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَوَجَبَ مِنْهُ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 [مَسْأَلَةٌ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ الْجِهَادُ] (7416) قَالَ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ) رَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْ السَّبِيلِ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَذُكِرَ لَهُ أَمْرُ الْعَدُوِّ؟ فَجَعَلَ يَبْكِي، وَيَقُولُ: مَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَقَالَ عَنْهُ غَيْرُهُ: لَيْسَ يَعْدِلُ لِقَاءَ الْعَدُوِّ شَيْءٌ. وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَاَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، هُمْ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَعَنْ حَرِيمِهِمْ، فَأَيُّ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْهُ، النَّاسُ آمِنُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ، قَدْ بَذَلُوا مُهَجَ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ أَوْ أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ: الْجِهَادُ سَنَامُ الْعَمَلِ. قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ حَجَّةٍ مَبْرُورَةٍ، لَا رَفَثَ فِيهَا وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ.» وَلِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْمُهْجَةِ وَالْمَالِ، وَنَفْعُهُ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ، صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، قَوِيَّهُمْ وَضَعِيفَهُمْ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيه فِي نَفْعِهِ وَخَطَرِهِ، فَلَا يُسَاوِيه فِي فَضْلِهِ وَأَجْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ غزو الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ] قَالَ: (وَغَزْوُ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَزْوَ فِي الْبَحْرِ مَشْرُوعٌ، وَفَضْلُهُ كَثِيرٌ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: فَقُلْت: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 الْأَسِرَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عُبِدَ الْبَرِّ: أُمُّ حَرَامِ بِنْتُ مِلْحَانَ أُخْتُ أُمِّ سُلَيْمٍ خَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُ أُخْتٌ لَهُمَا ثَالِثَةٌ. وَلَمْ نَرَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، وَأَظُنُّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ فِي بَيْتِهَا، وَيَنْظُرُ إلَى شَعْرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ، الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ، لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ.» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «شَهِيدُ الْبَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَيْ الْبَرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ، كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ، وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ، كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، إلَّا شَهِيدَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الدَّيْنَ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ وَالدَّيْنَ» وَلِأَنَّ الْبَحْرَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَمَشَقَّةً، فَإِنَّهُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَخَطَرِ الْغَرَقِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِرَارِ إلَّا مَعَ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ. (7418) فَصْلٌ: وَقِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ الرُّومِ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ خَلَّادٍ: «إنَّ ابْنَك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ. قَالَتْ: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَةٌ الْغَزْو مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ] (7419) : (وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ) يَعْنِي مَعَ كُلِّ إمَامٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ، عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ: أَنَا لَا أَغْزُو وَيَأْخُذُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ، إنَّمَا يُوَفَّرُ الْفَيْءُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ قَوْمُ سُوءٍ، هَؤُلَاءِ الْقَعَدَةُ، مُثَبِّطُونَ جُهَّالٌ، فَيُقَالُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَعَدُوا كَمَا قَعَدْتُمْ، مَنْ كَانَ يَغْزُو؟ أَلَيْسَ كَانَ قَدْ ذَهَبَ الْإِسْلَامُ؟ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الرُّومُ؟ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ؛ بَرًّا كَانَ، أَوْ فَاجِرًا.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ؛ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ» وَلِأَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ مَعَ الْفَاجِرِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الْجِهَادِ، وَظُهُورِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، وَظُهُورِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] (7420) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ الْقَائِدِ إذَا عُرِفَ بِالْهَزِيمَةِ وَتَضْيِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَغْزُو مَعَ مَنْ لَهُ شَفَقَةٌ وَحَيْطَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ كَانَ الْقَائِدُ يُعْرَفُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْغُلُولِ، يُغْزَى مَعَهُ، إنَّمَا ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (7421) فَصْلٌ: وَلَا يَسْتَصْحِبُ الْأَمِيرُ مَعَهُ مُخَذِّلًا، وَهُوَ الَّذِي يُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْ الْغَزْوِ، وَيُزَهِّدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِ وَالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: الْحَرُّ أَوْ الْبُرْدُ شَدِيدٌ، وَالْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَلَا تُؤْمَنُ هَزِيمَةُ هَذَا الْجَيْشِ. وَأَشْبَاهَ هَذَا، وَلَا مُرْجِفًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: هَلَكَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالَهُمْ مَدَدٌ، وَلَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ لَهُمْ قُوَّةٌ، وَمَدَدٌ، وَصَبْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ أَحَدٌ. وَنَحْوَ هَذَا، وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجَسُّسِ لِلْكُفَّارِ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُكَاتَبَتِهِمْ بِأَخْبَارِهِمْ، وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، أَوْ إيوَاءِ جَوَاسِيسِهِمْ. وَلَا مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ؛ لِقَوْلِ اللَّهَ تَعَالَى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] . وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَلْزَمُهُ مَنْعُهُمْ. وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُ وَلَمْ يَرْضَخْ وَإِنْ أَظْهَرَ عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَهُ نِفَاقًا، وَقَدْ ظَهَرَ دَلِيلُهُ، فَيَكُونُ مُجَرَّدَ ضَرَرٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مِمَّا غَنِمُوا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ خُرُوجُهُ تَبَعًا، فَمَتْبُوعًا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْمَضَرَّةُ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 [مَسْأَلَةٌ يقاتل كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ] (7422) : (وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ) . الْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَكْثَرُ ضَرَرًا، وَفِي قِتَالِهِ دَفْعُ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُقَابِلِ لَهُ، وَعَمَّنْ وَرَاءَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْبَعِيدِ عَنْهُ، يُمَكِّنُهُ مِنْ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ. قِيلَ لِأَحْمَدْ: يَحْكُونَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: تَرَكْت قِتَالَ الْعَدُوِّ عِنْدَك، وَجِئْت إلَى هَاهُنَا؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا الْقَوْلُ، يَتْرُكُ الْعَدُوَّ عِنْدَهُ، وَيَجِيءُ إلَى هَاهُنَا، أَفَيَكُونُ هَذَا، أَوَيَسْتَقِيمُ هَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] لَوْ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى هَذَا، لَمْ يُجَاهِدْ التُّرْكَ أَحَدٌ. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنَّمَا فَعَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا بِالْجِهَادِ، وَالْكِفَايَةُ حَاصِلَةٌ بِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُتَبَرِّعُ لَهُ تَرْكُ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ حَيْثُ شَاءَ، وَمَعَ مَنْ شَاءَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْبِدَايَةِ بِالْأَبْعَدِ؛ لِكَوْنِهِ أَخْوَفَ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ فِي الْبِدَايَةِ بِهِ لِقُرْبِهِ وَإِمْكَانِ الْفُرْصَةِ مِنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْأَقْرَبِ مُهَادِنًا، أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِ مَانِعٌ، فَلَا بَأْسَ بِالْبِدَايَةِ بِالْأَبْعَدِ، لِكَوْنِهِ مَوْضِعَ حَاجَةٍ. [فَصْلٌ وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ] (7423) وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِتَرْتِيبِ قَوْمٍ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ يَكُفُّونَ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَيَأْمُرَ بِعَمَلِ حُصُونِهِمْ، وَحَفْرِ خَنَادِقِهِمْ، وَجَمِيعِ مَصَالِحِهِمْ، وَيُؤَمِّرَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ أَمِيرًا، يُقَلِّدُهُ أَمْرَ الْحُرُوبِ، وَتَدْبِيرَ الْجِهَادِ، وَيَكُونُ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ وَعَقْلٌ وَنَجْدَةٌ وَبَصَرٌ بِالْحَرْبِ وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ، وَيَكُونُ فِيهِ أَمَانَةٌ وَرِفْقٌ وَنُصْحٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنْ عَلَيْهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَيَغْزُو كُلَّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ مَنْ لَا يَفِي بِهِ مَنْ يَلِيهِ، فَيَنْقُلَ إلَيْهِمْ قَوْمًا مِنْ آخَرِينَ. وَيَتَقَدَّمَ إلَى مَنْ يُؤَمِّرُهُ أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَهْلَكَةٍ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخَافُ أَنْ يُقْتَلُوا تَحْتَهَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا كَفَّارَةٌ إذَا أُصِيبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. فَإِنْ عُدِمَ الْإِمَامُ، لَمْ يُؤَخَّرْ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ. وَإِنْ حَصَلَتْ غَنِيمَةٌ، قَسَمَهَا أَهْلُهَا عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُؤَخَّرُ قِسْمَةُ الْإِمَاءِ حَتَّى يَظْهَرَ إمَامٌ احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ. فَإِنْ بَعَثَ الْإِمَامُ جَيْشًا، وَأَمَّرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَلِلْجَيْشِ أَنْ يُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ، لَمَّا قُتِلَ أُمَرَاؤُهُمْ الَّذِينَ أَمَّرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضِيَ أَمْرَهُمْ، وَصَوَّبَ رَأْيَهُمْ، وَسَمَّى خَالِدًا يَوْمَئِذٍ: " سَيْفَ اللَّهِ ". (7424) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عُمَرُ: وَفِّرُوا الْأَظْفَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّهُ سِلَاحٌ. قَالَ أَحْمَدُ: يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحُلَّ الْحَبْلَ أَوْ الشَّيْءَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَظْفَارٌ لَمْ يَسْتَطِعْ. وَقَالَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نُحْفِيَ الْأَظْفَارَ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْقُوَّةَ الْأَظْفَارُ» . (7425) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يُشَيَّعُ الرَّجُلُ إذَا خَرَجَ، وَلَا يَتَلَقَّوْنَهُ، شَيَّعَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَمْ يَتَلَقَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ شَيَّعَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ، وَيَزِيدُ رَاكِبٌ وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْشِي، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ أَنَا فَأَمْشِيَ مَعَك. قَالَ: لَا أَرْكَبُ وَلَا تَنْزِلُ، إنَّنِي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَشَيَّعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَبَا الْحَارِثِ الصَّائِغَ وَنَعْلَاهُ فِي يَدَيْهِ، وَذَهَبَ إلَى فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَرَادَ أَنْ تَغْبَرَّ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ لِلْخَثْعَمِيِّ صُحْبَةٌ، وَهُوَ قَدِيمٌ. [مَسْأَلَةٌ تَمَام الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا] (7426) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) مَعْنَى الرِّبَاطِ الْإِقَامَةُ بِالثَّغْرِ، مُقَوِّيًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالثَّغْرُ: كُلُّ مَكَان يُخِيفُ أَهْلَهُ الْعَدُوُّ وَيُخِيفُهُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، كُلٌّ يُعِدُّ لِصَاحِبِهِ، فَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ رِبَاطًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْلٌ. وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ، وَأَجْرُهُ كَبِيرٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ يَعْدِلُ الْجِهَادَ عِنْدِي وَالرِّبَاطَ شَيْءٌ، وَالرِّبَاطُ دَفْعٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَعَنْ حَرِيمِهِمْ، وَقُوَّةٌ لِأَهْلِ الثَّغْرِ وَلِأَهْلِ الْغَزْوِ، فَالرِّبَاطُ أَصِلُ الْجِهَادِ وَفَرْعُهُ، وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ لِلْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ أَخْبَارٌ؛ مِنْهَا مَا رَوَى سَلْمَانُ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، فَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إنِّي كُنْت كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَاهِيَةَ تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ، لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّ الرِّبَاطَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، فَكُلُّ مُدَّةٍ أَقَامَهَا بِنِيَّةِ الرِّبَاطِ، فَهُوَ رِبَاطٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رِبَاطُ يَوْمٍ وَرِبَاطُ لَيْلَةٍ.» قَالَ أَحْمَدُ: يَوْمٌ رِبَاطٌ، وَلَيْلَةٌ رِبَاطٌ، وَسَاعَةٌ رِبَاطٌ. وَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَمَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَ بِهِ أَجْرُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ، مَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الرِّبَاطَ. وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، فِي " كِتَابِ الثَّوَابِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا» . وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ الرِّبَاطِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ رَابَطْت؟ قَالَ: ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ: عَزَمْت عَلَيْك إلَّا رَجَعْت حَتَّى تُتِمَّهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَإِنْ رَابَطَ أَكْثَرَ، فَلَهُ أَجْرُهُ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ. [فَصْلٌ وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا] (7427) : وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا؛ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ، وَمُقَامُهُ بِهِ أَنْفَعُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَفْضَلُ الرِّبَاطِ أَشَدُّهُمْ كَلَبًا. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَيْنَ أَحَبُّ إلَيْك أَنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ؟ قَالَ: كُلُّ مَدِينَةٍ مَعْقِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 مِثْلَ دِمَشْقَ. وَقَالَ: أَرْضُ الشَّامِ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَدِمَشْقُ مَوْضِعٌ يَجْتَمِعُ إلَيْهِ النَّاسُ إذَا غَلَبَتْ الرُّومُ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ: " إنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ ". وَنَحْوَ هَذَا؟ قَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا جَاءَ فِيهِ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا فِي الثُّغُورِ. فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَرْضُ الْقُدْسِ أَيْنَ هِيَ؟ " وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ " هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. فَفَسَّرَ أَحْمَدُ الْغَرْبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالشَّامِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّامَ يُسَمَّى مَغْرِبًا، لِأَنَّهُ مَغْرِبٌ لِلْعِرَاقِ، كَمَا يُسَمَّى الْعِرَاقُ مَشْرِقًا، وَلِهَذَا قِيلَ: وَلِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُصَرَّحًا بِهِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ بِالشَّامِ.» وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: " وَهُمْ بِالشَّامِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي " صَحِيحِهِ ". وَفِي خَبَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ بِدِمَشْقَ ظَاهِرِينَ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فِي " التَّارِيخِ ". وَقَدْ رُوِيَتْ فِي الشَّامِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الْأَزْدِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَتُجَنَّدُونَ أَجْنَادًا؛ جُنْدًا بِالشَّامِ، وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ، وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ فَقُلْت: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: عَلَيْك بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَمَنْ أَبَى، فَلْيَلْحَقْ بِالْيَمَنِ، وَيُسْقَ مِنْ غُدُرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ، وَكَانَ أَبُو إدْرِيسَ إذَا رَوَى هَذَا الْخَبَرَ قَالَ: وَمَنْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ، فَلَا ضَيْعَةَ عَلَيْهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: أَتَيْت الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْت: مَنْ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ؟ فَقِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَأَبْدَأَنَّ بِهَذَا قَبْلَهُمْ. فَدَخَلْت إلَيْهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، وَقَالَ: مِنْ أَيِّ إخْوَانِنَا أَنْتَ؟ قُلْت: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. قَالَ: مِنْ أَيِّهِمْ؟ قُلْت: مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُ مَعَاقِلَ؛ فَمَعْقِلُهُمْ فِي الْمَلْحَمَةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَكُونُ بِعُمْقِ أَنْطَاكِيَةَ دِمَشْقُ، وَمَعْقِلُهُمْ مِنْ الدَّجَّالِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَمَعْقِلُهُمْ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ طُورُ سَيْنَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، فِي " الْحِلْيَةِ "، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ، إلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْك بِجَبَلِ الْخَمْرِ. قَالَ: وَمَا جَبَلُ الْخَمْرِ؟ قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَرِ.» وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: «بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: تِلْكَ مَقْبَرَةٌ تَكُونُ بِعَسْقَلَانَ.» فَكَانَ عَطَاءٌ يُرَابِطُ بِهَا كُلَّ عَامٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى مَاتَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، فِي " كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى مَقْبَرَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَقْبَرَةٍ هِيَ؟ قَالَ: مَقْبَرَةٌ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، يُقَالُ لَهَا: عَسْقَلَانُ، يَفْتَتِحُهَا نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، يَبْعَثُ اللَّهُ مِنْهَا سَبْعِينَ أَلْفَ شَهِيدٍ، فَيَشْفَعُ الرَّجُلُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَلِكُلٍّ عَرُوسٌ، وَعَرُوسُ الْجَنَّةِ عَسْقَلَانُ» . وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَغْزُوَ. فَقَالَ: عَلَيْك بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ الْزَمْ مِنْ الشَّامِ عَسْقَلَانَ، فَإِنَّهَا إذَا دَارَتْ الرَّحَى فِي أُمَّتِي، كَانَ أَهْلُهَا فِي رَاحَةٍ وَعَافِيَةٍ.» [فَصْلٌ نَقْلُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ إلَى الثُّغُورِ الْمَخُوفَةِ] (7428) : وَمَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَرَاهَةُ نَقْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ إلَى الثُّغُورِ الْمَخُوفَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا تُنْزِلُوا الْمُسْلِمِينَ ضِفَّةَ الْبَحْرِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ لَا يُؤْمَنُ ظَفَرُ الْعَدُوِّ بِهَا، وَبِمَنْ فِيهَا، وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَتَخَافُ عَلَى الْمُنْتَقِلِ بِعِيَالِهِ إلَى الثَّغْرِ الْإِثْمَ؟ قَالَ: كَيْفَ لَا أَخَافُ الْإِثْمَ، وَهُوَ يُعَرِّضُ ذُرِّيَّتَهُ لِلْمُشْرِكِينَ؟ وَقَالَ: كُنْت آمُرُ بِالتَّحَوُّلِ بِالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ إلَى الشَّامِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَأَنَا أَنْهَى عَنْهُ الْآنَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ اقْتَرَبَ. وَقَالَ: لَا بُدَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ يَوْمٍ. قِيلَ: فَذَلِكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. قَالَ: فَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ. قِيلَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتَهنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا. قَالَ: هَذَا لِلْوَاحِدَةِ، لَيْسَ الذُّرِّيَّةَ. وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الثَّغْرِ، لَا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ الِانْتِقَالُ بِأَهْلِهِمْ إلَى ثَغْرٍ مَخُوفٍ، فَأَمَّا أَهْلُ الثَّغْرِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ السُّكْنَى بِأَهْلِهِمْ، لَوْلَا ذَلِكَ لَخَرِبَتْ الثُّغُورُ وَتَعَطَّلَتْ. وَخَصَّ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ اخْتَارَ سُكْنَى دِمَشْقَ وَنَحْوِهَا، مَعَ كَوْنِهَا ثَغْرًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ سَلَامَتُهَا، وَسَلَامَةُ أَهْلِهَا. [فَصْلٌ لِأَهْلِ الثَّغْرِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ] (7429) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الثَّغْرِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ لِصَلَوَاتِهِمْ كُلِّهَا، لِيَكُونَ أَجْمَعَ لَهُمْ، وَإِذَا حَضَرَ النَّفِيرُ صَادَفَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَبْلُغُ الْخَبَرُ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ جَاءَ خَبَرٌ يَحْتَاجُونَ إلَى سَمَاعِهِ، أَوْ أَمْرٌ يُرَادُ إعْلَامُهُمْ بِهِ، يَعْلَمُونَهُ، وَيَرَاهُمْ عَيْنُ الْكُفَّارِ، فَيَعْلَمُ كَثْرَتَهُمْ فَيُخَوَّفُ بِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ يَرَى الْجَاسُوسُ قِلَّتَهُمْ. قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بِالثَّغْرِ: لَوْ أَنَّ لِي عَلَيْهَا وِلَايَةً، لَسَمَّرْت أَبْوَابَهَا - وَلَمْ يَقُلْ: لَخَرَّبْتهَا - حَتَّى تَكُونَ صَلَاتُهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، حَتَّى إذَا جَاءَ النَّفِيرُ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ، لَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ إذَا كَانُوا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. [فَصْلٌ الْحَرَسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (7430) وَفِي الْحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ حَارِسَ الْحَرَسِ» . وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، «أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً، قَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟» قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَارْكَبْ ". فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: " اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ، حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ، وَلَا أَغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِك اللَّيْلَةَ ". فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُصَلَّاهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: " هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ اللَّيْلَةَ؟ قَالُوا: لَا. فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَبْشِرُوا، قَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ ". فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي انْطَلَقْت حَتَّى كُنْت فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحْت اطَّلَعْت الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْت، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ نَزَلْت اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا، إلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَوْجَبْت، فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ، قِيَامِ لَيْلِهَا، وَصِيَامِ نَهَارِهَا» . رَوَاهُ ابْنُ سَنْجَرٍ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَانَ الْمُتَطَوِّع لِلْجِهَادِ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ] (7431) : (وَإِذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ، لَمْ يُجَاهِدْ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِمَا) رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: أَلَك أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَالَ: جِئْت أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ. قَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا.» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَك بِالْيَمَنِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَبَوَايَ. قَالَ: أَذِنَّا لَك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْ، فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا.» رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ يُقَدَّمُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، فَلَا إذْنَ لَهُمَا. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَغْزُو إلَّا بِإِذْنِهِمَا؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ. وَلَنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُجَاهِدُونَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ كَافِرَانِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عَتَبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبُوهُ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَتَلَ أَبَاهُ فِي الْجِهَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَجِدُ قَوْمًا} [المجادلة: 22] . الْآيَةَ، وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ مُخَصَّصٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ رَقِيقَيْنِ، فَعُمُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 يَقْتَضِي وُجُوبَ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُمَا أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ، فَأَشْبَهَا الْحُرَّيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ إذْنُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا. وَإِنْ كَانَا مَجْنُونَيْنِ فَلَا إذْنَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِئْذَانُهُمَا. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِجَابَةُ إذَا خُوطِبَ بِالْجِهَادِ] (7432) قَالَ وَإِذَا خُوطِبَ بِالْجِهَادِ فَلَا إذْنَ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ الْفَرَائِضِ، لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِهَا. يَعْنِي إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ. لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ، وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَجَبَ مِثْلُ الْحَجِّ، وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعِ، وَالسَّفَرِ، لِلْعِلْمِ الْوَاجِبِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْجُمَعِ وَالْحَجِّ وَالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْأَبَوَيْنِ فِيهَا، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَلَمْ يَشْتَرِطْ إذْنَ الْوَالِدَيْنِ. [فَصْلٌ الْخُرُوجُ إلَى الْجِهَادِ بِإِذْنِ الْوَالِدَيْنِ] (7433) وَإِنْ خَرَجَ فِي جِهَادِ تَطَوُّعٍ بِإِذْنِهِمَا، فَمَنَعَاهُ مِنْهُ بَعْدَ سَيْرِهِ وَقَبْلَ وُجُوبِهِ، فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَنَعَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ مَنَعَ، كَسَائِرِ الْمَوَانِعِ، إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ، أَوْ يَحْدُثَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِلَّا مَضَى مَعَ الْجَيْشِ، فَإِذَا حَضَرَ الصَّفَّ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا إذْنٌ. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمَا عَنْ الْإِذْنِ بَعْدَ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ رُجُوعُهُمَا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ، فَأَسْلَمَا وَمَنَعَاهُ، كَانَ ذَلِكَ كَمَنْعِهِمَا بَعْدَ إذْنِهِمَا، سَوَاءٌ. وَحُكْمُ الْغَرِيمِ يَأْذَنُ فِي الْجِهَادِ ثُمَّ يَمْنَعُ مِنْهُ، حُكْمُ الْوَالِدِ، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ حَدَثَ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ، فَلَهُ الِانْصِرَافُ، سَوَاءٌ الْتَقَى الزَّحْفَانِ، أَوْ لَمْ يَلْتَقِيَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِتَالُ، وَلَا فَائِدَةَ فِي مُقَامِهِ. [فَصْلٌ أَذِنَ لَهُ وَالِدَاهُ فِي الْغَزْوِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ لَا يُقَاتِلُ] (7434) وَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَالِدَاهُ فِي الْغَزْوِ، وَشَرَطَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَحَضَرَ الْقِتَالَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ شَرْطُهُمَا. كَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِأَنَّهُ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا فِي تَرْكِهِ طَاعَةٌ. وَلَوْ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، فَحَضَرَ الْقِتَالَ ثُمَّ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ مِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ هَلْ يَجُوز لَهُ الْخُرُوج للغزو] (7435) فَصْلٌ وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْغَزْوِ إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً، أَوْ يُقِيمَ بِهِ كَفِيلًا، أَوْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْغَزْوِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَا حَبْسُهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْغَزْوِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 وَلَنَا أَنَّ الْجِهَادَ تُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ بِهَا النَّفْسُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ، بِفَوَاتِهَا، وَقَدْ جَاءَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا إذْنَ لِغَرِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِمَظَانِّ الْقَتْلِ؛ مِنْ الْمُبَارَزَةِ، وَالْوُقُوفِ فِي أَوَّلِ الْمُقَاتِلَةِ، لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِتَفْوِيتِ الْحَقِّ. وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، أَوْ أَقَامَ كَفِيلًا، فَلَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إذْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَنْ تَرَكَ وَفَاءً، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَرَامٍ أَبَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، فَاسْتُشْهِدَ، وَقَضَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَذُمَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ، بَلْ مَدَحَهُ، وَقَالَ «مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ. وَقَالَ لِابْنِهِ جَابِرٌ أَشَعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاك، وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا» . [مَسْأَلَةٌ يُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ وَلَا يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ] (7436) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ، وَلَا يُدْعَوْنَ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ وَيُدْعَى عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا أَمَّا قَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس: لَا يُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ. فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا نَادِرٌ بَعِيدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُدْعَى عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا. فَلَيْسَ بِعَامٍّ، فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ لَا يُدْعَوْنَ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، دُعِيَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، دُعُوا قَبْلَ الْقِتَالِ. قَالَ أَحْمَدُ إنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْ وَانْتَشَرَتْ، وَلَكِنْ إنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ خَلْفَ الرُّومِ وَخَلْفَ التُّرْكِ، عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّتِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: إذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتَهنَّ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ؛ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمُسْلِمٌ،. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ قَبْلَ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ، وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ انْتَشَرَتْ الدَّعْوَةُ، فَاسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقِتَالِ، قَالَ أَحْمَدُ كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ، حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلَا الْإِسْلَامُ، وَلَا أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ كُلَّ أَحَدٍ، وَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ دَعَا فَلَا بَأْسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ آمِنُونَ، وَإِبِلُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ؛ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ عَنْ الدِّيَارِ مِنْ دِيَارِ الْمُشْرِكِينَ، يَبِيتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَقَالَ هُمْ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: «أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ، فَغَزَوْنَا نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّتْنَاهُمْ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَمْرُ بِالدَّعْوَةِ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّرَ عَلِيًّا، حِينَ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَبَعَثَهُ إلَى قِتَالِهِمْ، أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَهُمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَدَعَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ حِينَ تَنَبَّأَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَدَعَا سَلْمَانُ أَهْلَ فَارِسَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مَجُوسًا، دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا، دَعَاهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ، دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا، قَاتَلَهُمْ، وَمَنْ قُتِلَ قَبْلَ الدُّعَاءِ لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ لَهُ وَلَا أَمَانَ، فَلَمْ يُضْمَنْ، كَنِسَاءِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَصِبْيَانِهِمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 [مَسْأَلَةٌ يُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ] (7437) مَسْأَلَةٌ وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَيُقَاتَلُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ قِسْمٌ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ اتَّخَذَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كِتَابًا، كَالسَّامِرَةِ وَالْفِرِنْجِ وَنَحْوِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ إذَا بَذَلُوهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَهُمْ الْمَجُوسُ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَإِقْرَارِهِمْ بِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ، وَسَائِرِ الْكُفَّارِ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ سِوَى الْإِسْلَامِ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدُ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَيُقَرُّونَ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، كَالْمَجُوسِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، إلَّا كُفَّارَ قُرَيْشٍ؛ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الَّذِي فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَلِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، فَأَشْبَهُوا الْمَجُوسَ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَقَوْلُ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . خَصَّ مِنْهُمَا أَهْلَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَالْمَجُوسَ بِقَوْلِهِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . فَمَنْ عَدَاهُمَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، تَوَقَّفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَأْخُذْ عُمَرُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، حَتَّى رَوَى لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْجِزْيَةَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا تَوَقَّفُوا فِي مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ، فَفِي مِنْ لَا شُبْهَةَ لَهُ أَوْلَى، ثُمَّ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ لِلْخَبَرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، إذْ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، لَمْ يَخْتَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِإِضَافَتِهَا إلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ تَغْلُظُ كُفْرُهُمْ لِكُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ وَجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ، فَلَمْ يُقَرُّوا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، كَقُرَيْشٍ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ تَغْلِيظَ الْكُفْرِ لَهُ أَثَرٌ فِي تَحَتُّمِ الْقَتْلِ، وَكَوْنِهِ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، بِدَلِيلِ الْمُرْتَدِّ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَإِنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَالشُّبْهَةُ تَقُومُ مُقَامَ الْحَقِيقَةِ فِيمَا يُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ، فَحَرُمَتْ دِمَاؤُهُمْ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِلُّ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَمَّا اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ دِمَائِهِمْ، اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، لِيَثْبُتَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، تَغْلِيبًا لَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ. [مَسْأَلَةٌ النَّفَرُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ] (7438) مَسْأَلَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ إذَا جَاءَ الْعَدُوُّ، أَنْ يَنْفِرُوا؛ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ، وَالْمُكْثِرُ، وَلَا يَخْرُجُوا إلَى الْعَدُوِّ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، إلَّا أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَخَافُونَ كَلَبَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوهُ قَوْلُهُ: الْمُقِلُّ مِنْهُمْ وَالْمُكْثِرُ. يَعْنِي بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، أَيْ مُقِلٌّ مِنْ الْمَالِ وَمُكْثِرٌ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّفِيرَ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ، مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، حِينَ الْحَاجَةِ إلَى نَفِيرِهِمْ؛ لِمَجِيءِ الْعَدُوِّ إلَيْهِمْ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ، إلَّا مَنْ يُحْتَاجُ إلَى تَخَلُّفِهِ لِحِفْظِ الْمَكَانِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَمَنْ يَمْنَعُهُ الْأَمِيرُ مِنْ الْخُرُوجِ، أَوْ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ الْقِتَالِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ أَرَادُوا الرُّجُوعَ إلَى مَنَازِلِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] . وَلِأَنَّهُمْ إذَا جَاءَ الْعَدُوُّ، صَارَ الْجِهَادُ عَلَيْهِمْ فَرْضَ عَيْنٍ فَوَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَرْبِ مَوْكُولٌ إلَيْهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّتِهِمْ، وَمَكَامِنِ الْعَدُوِّ وَكَيْدِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إلَى رَأْيِهِ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ لِمُفَاجَأَةِ عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، فَلَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَتَعَيَّنُ فِي قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ إلَيْهِ، لِتَعَيُّنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 الْفَسَادِ فِي تَرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَغَارَ الْكُفَّارُ عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَادَفَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ، تَبِعَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ، مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، فَمَدَحَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: خَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. وَأَعْطَاهُ سَهْمَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ. [فَصْلٌ الْإِمَامُ إذَا غَضِبَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ اُخْرُجْ عَلَيْك أَنْ لَا تَصْحَبَنِي] (7439) فَصْلٌ وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْإِمَامِ إذَا غَضِبَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: اُخْرُجْ، عَلَيْك أَنْ لَا تَصْحَبَنِي. فَنَادَى بِالنَّفِيرِ، يَكُونُ إذْنًا لَهُ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَصَدَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَا يَصْحَبُهُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ. قَالَ: وَإِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَالنَّفِيرِ، فَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ بِالْبُعْدِ، إنَّمَا جَاءَهُمْ طَلِيعَةٌ لِلْعَدُوِّ، صَلَّوْا وَنَفَرُوا إلَيْهِمْ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ الْعَدُوُّ، أَغَاثُوا وَنَصَرُوا وَصَلَّوْا عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ وَيُومِئُونَ، وَالْغِيَاثُ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ وَهُوَ يَسِيرُ أَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا سَمِعَ النَّفِيرَ، وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، يُصَلِّي، وَيُخَفِّفُ، وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيَقْرَأُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ. وَقَدْ نَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جُنُبٌ - يَعْنِي غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ - قَالَ: وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ فِيهَا، وَإِذَا جَاءَ النَّفِيرُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَا تَرَى أَنْ يَنْفِرُوا؟ قَالَ: وَلَا تَنْفِرُ الْخَيْلُ إلَّا عَلَى حَقِيقَةٍ، وَلَا تَنْفِرُ عَلَى الْغُلَامِ إذَا أَبَقَ إذَا أَنْفَرُوهُمْ، فَلَا يَكُونُ هَلَاكُ النَّاسِ بِسَبَبِ غُلَامٍ، وَإِذَا نَادَى الْإِمَامُ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. لِأَمْرٍ يَحْدُثُ، فَيُشَاوِرُ فِيهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. [مَسْأَلَةٌ دُخُولُ النِّسَاءِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ] (7440) مَسْأَلَةٌ وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النِّسَاءِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إلَّا الطَّاعِنَةُ فِي السِّنِّ، لِسَقْيِ الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ دُخُولُ النِّسَاءِ الشَّوَابِّ أَرْضَ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَقَلَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِنَّ فِيهِ، لِاسْتِيلَاءِ الْخَوَرِ وَالْجُبْنِ عَلَيْهِنَّ. وَلَا يُؤْمَنُ ظَفَرُ الْعَدُوِّ بِهِنَّ، فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ رَوَى حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ، أَنَّهَا «خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ إلَيْنَا، فَجِئْنَا، فَرَأَيْنَا مِنْهُ الْغَضَبَ، فَقَالَ: مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ، وَنُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسْقِي السَّوِيقَ. فَقَالَ: قُمْنَ. حَتَّى إذَا فَتَحَ اللَّهُ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا، كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ، فَقُلْت لَهَا: يَا جَدَّةُ، مَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: تَمْرًا» . . قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ كَانُوا يَغْزُونَ مَعَهُمْ بِالنِّسَاءِ فِي الصَّوَائِفِ؟ قَالَ: لَا إلَّا بِالْجَوَارِي. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الطَّاعِنَةُ فِي السِّنِّ، وَهِيَ الْكَبِيرَةُ، إذَا كَانَ فِيهَا نَفْعٌ، مِثْلَ سَقْيِ الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَنَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، تَغْزُوَانِ مَعَ النَّبِيِّ، فَأَمَّا نَسِيبَةُ فَكَانَتْ تُقَاتِلُ، وَقُطِعَتْ يَدُهَا يَوْمَ الْيَمَامَةِ. وَقَالَتْ الرُّبَيِّعُ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ لِسَقْيِ الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى.» وَقَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مَعَهَا مِنْ الْأَنْصَارِ، يَسْقِينَ الْمَاءَ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْرِجُ مَعَهُ مَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ مِنْ نِسَائِهِ، وَخَرَجَ بِعَائِشَةَ مَرَّاتٍ. قِيلَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، يَأْخُذُهَا لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَيَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْأَمِيرِ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلَا يُرَخَّصُ لِسَائِرِ الرَّعِيَّةِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مَا ذَكَرْنَا. . [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَرْفُقَ بِجَيْشِهِ فِي الْحَرْبِ] (7441) فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَرْفُقَ بِجَيْشِهِ، وَيَسِيرُ بِهِمْ سَيْرَ أَضْعَفِهِمْ، لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجِدِّ فِي السَّيْرِ جَازَ لَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَدَّ فِي السَّيْرِ جَدًّا شَدِيدًا، حِينَ بَلَغَهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. لِيَشْتَغِلَ النَّاسُ عَنْ الْخَوْضِ فِيهِ» . وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ جَدَّ فِي السَّيْرِ حِينَ اسْتَصْرَخَ عَلَى صَفِيَّةَ امْرَأَتِهِ. وَلَا يَمِيلُ الْأَمِيرُ مَعَ مُوَافِقِيهِ فِي الْمَذْهَبِ وَالنَّسَبِ عَلَى مُخَالِفِيهِ فِيهِمَا لِئَلَّا يَكْسِرَ قُلُوبَهُمْ، فَيَخْذُلُونَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِمْ. وَيُكْثِرُ الْمُشَاوَرَةَ لِذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 وَيَتَخَيَّرُ الْمَنَازِلَ لِأَصْحَابِهِ، وَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ رَجُلًا قَدْ أُصِيبَتْ فَرَسُهُ، وَمَعَ الْآخَرِ فَضْلٌ، اُسْتُحِبَّ لَهُ حَمْلُهُ، وَلَمْ يَجِبْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنْ خَافَ تَلَفَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ فَضْلِ مَرْكُوبِهِ؛ لِيُحْيِيَ بِهِ صَاحِبَهُ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ فَضْلِ طَعَامِهِ لِلْمُضْطَرِّ إلَيْهِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنْ عَدُوِّهِ. [فَصْلٌ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِيَانِ الْفَرَسَ بَيْنَهُمَا يَغْزُوَانِ عَلَيْهِ] (7442) فَصْلٌ وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِيَانِ الْفَرَسَ بَيْنَهُمَا، يَغْزُوَانِ عَلَيْهِ، يَرْكَبُ هَذَا عَقَبَةً وَهَذَا عَقَبَةً: مَا سَمِعْت فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. قِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك؟ يَعْتَزِلُ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ أَوْ يُرَافِقُ؟ قَالَ: يُرَافِقُ، هَذَا أَرْفَقُ، يَتَعَاوَنُونَ، وَإِذَا كُنْت وَحْدَك لَمْ يُمْكِنْك الطَّبْخُ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ بِالنَّهَدِ، قَدْ تَنَاهَدَ الصَّالِحُونَ، وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا سَافَرَ أَلْقَى مَعَهُمْ، وَيَزِيدُ أَيْضًا بَعْدَمَا يُلْقِي. وَمَعْنَى النَّهَدِ، أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّفْقَةِ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ، يَدْفَعُونَهُ إلَى رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَدْفَعُ إلَى وَكِيلِهِمْ مِثْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَأْتِي سِرًّا بِمِثْلِ ذَلِكَ، يَدْفَعُهُ إلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَرَى أَنْ يَغْزُوَ وَمَعَهُ مُصْحَفٌ. يَعْنِي لَا يَدْخُلُ بِهِ أَرْضَ الْعَدُوِّ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ [مَسْأَلَةٌ اسْتِئْذَانُ الْأَمِيرِ فِي الْغَزْوِ فِي كُلِّ شَيْءٍ] (7443) مَسْأَلَةٌ وَإِذَا غَزَا الْأَمِيرُ بِالنَّاسِ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّفَ، وَلَا يَحْتَطِبَ، وَلَا يُبَارِزَ عِلْجًا، وَلَا يَخْرُجَ مِنْ الْعَسْكَرِ، وَلَا يُحْدِثَ حَدَثًا، إلَّا بِإِذْنِهِ يَعْنِي لَا يَخْرُجُ مِنْ الْعَسْكَرِ لِتَعَلُّفٍ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَلَفِ لِلدَّوَابِّ، وَلَا لِاحْتِطَابٍ، وَلَا غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . وَلِأَنَّ الْأَمِيرَ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ، وَحَالِ الْعَدُوِّ، وَمَكَامِنِهِمْ، وَمَوَاضِعِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ. فَإِذَا خَرَجَ خَارِجٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُصَادِفَ كَمِينًا لِلْعَدُوِّ، فَيَأْخُذُوهُ، أَوْ طَلِيعَةً لَهُمْ، أَوْ يَرْحَلَ الْأَمِيرُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتْرُكَهُ فَيَهْلِكَ. وَإِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إلَّا إلَى مَكَان آمِنٍ، وَرُبَّمَا يَبْعَثُ مَعَهُمْ مِنْ الْجَيْشِ مَنْ يَحْرُسُهُمْ وَيَطَّلِعُ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُبَارَزَةُ، فَتَجُوزُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَكَرِهَهَا. وَلَنَا، أَنَّ حَمْزَةَ، وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، بِإِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 وَبَارَزَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَقَتَلَهُ. وَبَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقِيلَ بَارَزَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَبَارَزَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ فَاسْتُشْهِدَ. وَبَارَزَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَبَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلْت تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَئِيسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُبَارَزَةً، سِوَى مَنْ شَارَكْت فِيهِ. وَبَارَزَ شِبْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ أَسْوَارًا فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَنَفَلَهُ إيَّاهُ سَعْدٌ وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَارِزُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] . نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، بَارَزُوا عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةُ بَارَزْت رَجُلًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَتَلْته. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْذَنَ الْأَمِيرُ فِي الْمُبَارَزَةِ إذَا أَمْكَنَ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَرَخَّصَ فِيهَا مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِخَبَرِ أَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ الْمُبَارَزَةَ، لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ اسْتِئْذَانٌ. وَلَنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِفُرْسَانِهِ وَفُرْسَانِ الْعَدُوِّ، وَمَتَى بَرَزَ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ، كَانَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، فَيَكْسِرُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، لِيَخْتَارَ لِلْمُبَارَزَةِ مَنْ يَرْضَاهُ لَهَا، فَيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الظَّفَرِ وَجَبْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَحْتُمْ لَهُ أَنْ يَنْغَمِسَ فِي الْكُفَّارِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِقَتْلِهِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ مُبَارِزًا تَعَلَّقَتْ قُلُوبُ الْجَيْشِ بِهِ، وَارْتَقَبُوا ظَفَرَهُ، فَإِنْ ظَفِرَ جَبَرَ قُلُوبَهُمْ، وَسَرَّهُمْ، وَكَسَرَ قُلُوبَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ بِالْعَكْسِ، وَالْمُنْغَمِسُ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، لَا يَتَرَقَّبُ مِنْهُ ظَفَرٌ وَلَا مُقَاوَمَةٌ. فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا مُبَارَزَةُ أَبِي قَتَادَةُ فَغَيْرُ لَازِمَةٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، رَأَى رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، فَضَرَبَهُ أَبُو قَتَادَةُ، فَضَمَّهُ ضَمَّةً كَادَ يَقْتُلُهُ. وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُبَارَزَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، بَلْ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَنْ يَبْرُزَ رَجُلٌ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَبْلَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، يَدْعُو إلَى الْمُبَارَزَةِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ لَهُ إذْنُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ عَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ تَمْتَدُّ إلَيْهِمَا، وَقُلُوبَ الْفَرِيقَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَأَيُّهُمَا غَلَبَ سَرَّ أَصْحَابَهُ، وَكَسَرَ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُبَارَزَةُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ، أَمَّا الْمُسْتَحَبَّةُ؛ فَإِذَا خَرَجَ عِلْجٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، اُسْتُحِبَّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ مُبَارَزَتُهُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ. لِأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ. وَالْمُبَاحُ؛ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ بِطَلَبِهَا، فَيُبَاحُ وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُغْلَبَ، فَيَكْسِرَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُجَاعًا وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ غَالِبٌ، وَالْمَكْرُوهُ أَنْ يَبْرُزَ الضَّعِيفُ الْمِنَّةِ، الَّذِي لَا يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ، فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَارَزَةُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِ ظَاهِرًا. (7444) فَصْلٌ: إذَا خَرَجَ كَافِرٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، جَازَ رَمْيُهُ وَقَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ لَا عَهْدَ لَهُ، وَلَا أَمَانَ لَهُ، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ كَغَيْرِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ خَرَجَ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ لَا يُعْرَضُ لَهُ، فَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الشَّرْطِ. وَإِذَا خَرَجَ إلَيْهِ أَحَدٌ يُبَارِزُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، فَإِنْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُ تَارِكًا لِلْقِتَالِ، أَوْ مُثْخَنًا بِجِرَاحَتِهِ، جَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ قِتَالُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ انْقَضَى قِتَالُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى صَفِّهِ وَفَّى لَهُ بِالشَّرْطِ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ قِتَالَهُ، أَوْ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحِ، فَيَتْبَعَهُ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يُجْهِزَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزَ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَاتَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَهُمْ إنْقَاذَهُ فَقَدْ نَقَضَ أَمَانَهُ. وَإِنْ أَعَانَ الْكُفَّارُ صَاحِبَهُمْ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعِينُوا صَاحِبَهُمْ أَيْضًا، وَيُقَاتِلُوا مَنْ أَعَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَاتِلُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَنْجَدَهُمْ، أَوْ عُلِمَ مِنْهُ الرِّضَا بِفِعْلِهِمْ، صَارَ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ، وَجَازَ لَهُمْ قَتْلُهُ. وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مُعَاوَنَةُ صَاحِبِهِمْ، وَإِنْ أُثْخِنَ بِالْجِرَاحِ. قِيلَ لَهُ: فَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: وَإِنْ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَزَةَ إنَّمَا تَكُونُ هَكَذَا، وَلَكِنْ لَوْ حَجَزُوا بَيْنَهُمَا، وَخَلَّوْا سَبِيلَ الْعِلْجِ. قَالَ: فَإِنْ أَعَانَ الْعَدُوُّ صَاحِبَهُمْ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعِينَ الْمُسْلِمُونَ صَاحِبَهُمْ. وَلَنَا، أَنَّ حَمْزَةَ، وَعَلِيًّا أَعَانَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَلَى قَتْلِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ أُثْخِنَ عُبَيْدَةُ [فَصْلٌ الْخُدْعَةُ فِي الْحَرْبِ لِلْمُبَارِزِ وَغَيْرِهِ] (7445) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْخُدْعَةُ فِي الْحَرْبِ لِلْمُبَارِزِ، وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ بَارَزَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ، قَالَ عَلِيٌّ: مَا بَرَزْت لِأُقَاتِلَ اثْنَيْنِ. فَالْتَفَتَ عَمْرٌو فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، فَقَالَ عَمْرو: خَدَعْتنِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 [فَصْلٌ غَزَوْا فِي الْبَحْرِ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُقِيمَ بِالسَّاحِلِ] (7446) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا غَزَوْا فِي الْبَحْرِ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُقِيمَ بِالسَّاحِلِ، يَسْتَأْذِنُ الْوَالِيَ الَّذِي هُوَ عَلَى جَمِيعِ الْمَرَاكِبِ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْوَالِيَ الَّذِي فِي مَرْكَبِهِ. [مَسْأَلَةٌ أُعْطِيَ شَيْئًا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي غَزَاتِهِ] (7447) مَسْأَلَةٌ وَمَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي غَزَاتِهِ، فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُعْطَ لِغَزَاةٍ بِعَيْنِهَا، رَدَّ مَا فَضَلَ فِي الْغَزْوِ. إذَا حَمَلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ فَهِيَ لَهُ حِينَ الرُّجُوعُ مِنْ الْغَزْوِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْغَزْوِ، لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يُعْطَى لِغَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ فِي الْغَزْوِ مُطْلَقًا، فَإِنْ أُعْطِيَ لِغَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا، فَمَا فَضَلَ بَعْدَ الْغَزْوِ فَهُوَ لَهُ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا فِي الْغَزْوِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: إذَا بَلَغْت وَادِي الْقُرَى فَشَأْنَك بِهِ. وَلِأَنَّهُ أَعْطَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَنَةِ وَالنَّفَقَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، فَكَانَ الْفَاضِلُ لَهُ، كَمَا لَوْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ حَجَّةً بِأَلْفٍ. وَإِنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْغَزْوِ مُطْلَقًا، فَفَضَلَ مِنْهُ فَضْلٌ، أَنْفَقَهُ فِي غَزَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ الْجَمِيعَ لِيُنْفِقَهُ فِي جِهَةِ قُرْبَةٍ، فَلَزِمَهُ إنْفَاقُ الْجَمِيعِ فِيهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ. (7448) فَصْلٌ: وَمَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْغَزْوِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتْرُكُ لِأَهْلِهِ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْلِكُهُ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى رَأْسِ مَغْزَاهُ، فَيَكُونَ كَهَيْئَةِ مَالِهِ، فَيَبْعَثَ إلَى عِيَالِهِ مِنْهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ عَنْ الْغَزْوِ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِمَا أَنْفَقَهُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلَاحًا، أَوْ آلَةَ الْغَزْوِ، فَإِنْ قَصَدَ إعْطَاءَهُ لِمَنْ يَغْزُو بِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتَّخِذُ مِنْهُ سُفْرَةً فِيهَا طَعَامٌ، فَيُطْعِمَ مِنْهَا أَحَدًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُعْطِيَهَا لِيُنْفِقَهَا فِي جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ الْجِهَادُ. [مَسْأَلَةٌ حُمِلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ فِي الْغَزْوِ] (7449) مَسْأَلَةٌ وَإِذَا حُمِلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا رَجَعَ مِنْ الْغَزْوِ فَهِيَ لَهُ. إلَّا أَنْ يَقُولَ: هِيَ حَبِيسٌ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا أَنْ تَصِيرَ فِي حَالٍ لَا تَصْلُحُ فِيهِ لِلْغَزْوِ، فَتُبَاعَ، وَتُجْعَلَ فِي حَبِيسٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إذَا ضَاقَ بِأَهْلِهِ، أَوْ كَانَ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، جَازَ أَنْ يُبَاعَ، وَيُجْعَلَ فِي مَكَان يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا أَبْدَلَهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: حُمِلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ. يَعْنِي أُعْطِيَهَا لِيَغْزُوَ عَلَيْهَا، فَإِذَا غَزَا عَلَيْهَا، مَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُ النَّفَقَةَ الْمَدْفُوعَةَ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ عَارِيَّةً، فَتَكُونَ لِصَاحِبِهَا، أَوْ حَبِيسًا فَتَكُونَ حَبِيسًا بِحَالِهِ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَمَلْت عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْت أَنَّهُ بَائِعُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 بِرُخْصٍ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا بَاعَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ بَعْدَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ لِلْبَيْعِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ مِنْ عُمَرَ، ثُمَّ يُقِيمَهُ لِلْبَيْعِ فِي الْحَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَقَامَهُ لِلْبَيْعِ بَعْدَ غَزْوِهِ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ نَحْوًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَسُئِلَ: مَتَى يَطِيبُ لَهُ الْفَرَسُ؟ قَالَ: إذَا غَزَا عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ الْعَدُوَّ جَاءَنَا فَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْفَرَسِ فِي الطَّلَبِ إلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ. قَالَ: لَا، حَتَّى يَكُونَ غَزْوٌ. قِيلَ لَهُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: إذَا بَلَغْت وَادِي الْقُرَى، فَشَأْنُك بِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا غَزَا عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ. وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا يَقُولُ: إنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي مَكَانِهِ. وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى أَنْ يُنْتَفَعَ بِثَمَنِهِ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: شَأْنَك بِهِ مَا أَرَدْت. وَلَنَا، حَدِيثُ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا اشْتَرَطَ مَالِكٌ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ حَبِيسٌ. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَيَأْتِي شَرْحُ حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي بَابِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ (7450) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَرْكَبُ دَوَابَّ السَّبِيلِ فِي حَاجَةٍ، وَيَرْكَبُهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَرْكَبُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَهَا وَيَعْلِفَهَا، وَأَكْرَهُ سِيَاقَ الرَّمَكِ عَلَى الْفَرَسِ الْحَبِيسِ، وَسَهْمُ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِمَنْ غَزَا عَلَيْهِ، وَلَا يُبَاعُ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إلَّا مِنْ عِلَّةٍ، إذَا عَطِبَ يَصِيرُ لِلطَّحْنِ، وَيَصِيرُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ يُنْفَقُ ثَمَنُهُ عَلَى الدَّوَابِّ الْحَبِيسِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَسًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ شِرَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ الثَّغْرِ، لِيَكُونَ تَوْسِعَةً عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ فِي الْجَلْبِ. [مَسْأَلَةٌ لِلْإِمَامِ التَّصَرُّفُ فِي سَبَايَا الْحَرْبِ] (7451) مَسْأَلَةٌ وَإِذَا سَبَى الْإِمَامُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ رَأَى قَتَلَهُمْ، وَإِنْ رَأَى مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ بِلَا عِوَضٍ، وَإِنْ رَأَى أَطْلَقَهُمْ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ رَأَى فَادَى بِهِمْ، وَإِنْ رَأَى اسْتَرَقَّهُمْ، أَيَّ ذَلِكَ رَأَى فِيهِ نِكَايَةً لِلْعَدُوِّ وَحَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 أَحَدُهَا، النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَيَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسْتَرِقُّهُمْ إذَا سَبَاهُمْ. الثَّانِي، الرِّجَالُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس الَّذِينَ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ الْقَتْلُ، وَالْمَنُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْمُفَادَاةُ بِهِمْ، وَاسْتِرْقَاقُهُمْ. الثَّالِثُ، الرِّجَالُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَيَتَخَيَّرُ، الْإِمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْقَتْلُ، أَوْ الْمَنُّ، وَالْمُفَادَاةُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَبِمَا ذَكَرْنَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ مَالِكٍ كَمَذْهَبِنَا. وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، كَرَاهَةُ قَتْلِ الْأَسْرَى. وَقَالُوا: لَوْ مَنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَادَاهُ كَمَا صُنِعَ بِأُسَارَى بَدْرٍ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . فَخَيَّرَ بَعْدَ الْأَسْرِ بَيْنَ هَذَيْنِ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ شَاءَ ضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ، لَا غَيْرُ، وَلَا يَجُوزُ مَنٌّ وَلَا فِدَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعِيَاضُ بْنُ عُقْبَةَ، يَقْتُلَانِ الْأُسَارَى. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَأَبِي عَزَّةَ الشَّاعِرِ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَأَطْلَقْتهمْ لَهُ. وَفَادَى أُسَارَى بَدْرٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَفَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، وَصَاحِبَ الْعَضْبَاءِ بِرَجُلَيْنِ. وَأَمَّا الْقَتْلُ؛ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمْ بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ وَالسَّبْعِمِائَةِ، وَقَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، صَبْرًا، وَقَتَلَ أَبَا عَزَّةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَذِهِ قَصَصٌ عَمَّتْ وَاشْتَهَرَتْ، وَفَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّاتٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا. وَلِأَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ قَدْ تَكُونُ أَصْلَحَ فِي بَعْضِ الْأَسْرَى، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَنِكَايَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَبَقَاؤُهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ ، فَقَتْلُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ الضَّعِيفُ الَّذِي لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَفِدَاؤُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، يُرْجَى إسْلَامُهُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعُونَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَخْلِيصِ أَسْرَاهُمْ، وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ، فَالْمَنُّ عَلَيْهِ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 يُنْتَفَعُ بِخِدْمَتِهِ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، فَاسْتِرْقَاقُهُ أَصْلَحُ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالْإِمَامُ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] عَامٌّ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ، بَلْ يَنْزِلُ عَلَى مَا عَدَا الْمَخْصُوصَ، وَلِهَذَا لَمْ يُحَرِّمُوا اسْتِرْقَاقَهُ، فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، فَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِي الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَلَمْ يُقَرّ بِالِاسْتِرْقَاقِ كَالْمُرْتَدِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ وَاجْتِهَادٍ، لَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ، فَمَتَى رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَمَتَى تَرَدَّدَ فِيهَا، فَالْقَتْلُ أَوْلَى. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي أَمِيرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا يَقْتُلُ الْأَسْرَى: وَهُوَ أَفْضَلُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: الْإِثْخَانُ أَحَبُّ إلَيَّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا يَطْمَعُ بِهِ فِي الْكَثِيرِ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ] (7452) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ صَارَ رَقِيقًا فِي الْحَالِ، وَزَالَ التَّخْيِيرُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَفِي الْآخَرِ يَسْقُطُ الْقَتْلُ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَرُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَلَامَ أُخِذْت وَأَخَذْت سَابِقَةُ الْحَاجِّ؛ فَقَالَ: أُخِذْت بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَدْ أَسَرَتْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِي. فَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ: «لَوْ قُلْتهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك لَأَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ. وَفَادَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَيْنِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ، فَبَقِيَ بَاقِي الْخِصَالِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَسِيرٌ يَحْرُمُ قَتْلُهُ، فَصَارَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ، وَالْحَدِيثُ لَا يُنَافِي رِقَّهُ، فَقَدْ يُفَادَى بِالْمَرْأَةِ وَهِيَ رَقِيقٌ، كَمَا رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَنَفَلَهُ امْرَأَةً، فَوَهَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ بِهَا إلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَفِي أَيْدِيهمْ أُسَارَى، فَفَدَاهُمْ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ. إلَّا أَنَّهُ لَا يُفَادَى بِهِ، وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ، إلَّا بِإِذْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 الْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا لَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الْمَنُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ، مَعَ كُفْرِهِ، فَمَعَ إسْلَامِهِ أَوْلَى، لِكَوْنِ الْإِسْلَامِ حَسَنَةً يَقْتَضِي إكْرَامَهُ، وَالْإِنْعَامَ عَلَيْهِ، لَا مَنْعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ عَشِيرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ فِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ الرِّقِّ. فَأَمَّا إنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَسْرِهِ، حَرُمَ قَتْلُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ وَالْمُفَادَاةُ بِهِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ وَهُوَ فِي حِصْنٍ، أَوْ جَوْفٍ، أَوْ مَضِيقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ بَعْدُ. [فَصْلٌ سُؤَالُ الْأُسَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ الْجِزْيَةِ] (7453) فَصْلٌ: فَإِنْ سَأَلَ الْأُسَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ تَخْلِيَتَهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا غَنِيمَةً بِالسَّبْيِ، وَأَمَّا الرِّجَالُ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَلَا يَزُولُ التَّخْيِيرُ الثَّابِتُ فِيهِمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا. وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلٌ لَا تَلْزَمُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَحْرُمْ قَتْلُهُمْ، كَبَدَلِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. [فَصْلٌ أُسِرَ الْعَبْدُ فِي الْحَرْبِ] (7454) فَصْلٌ: وَإِذَا أُسِرَ الْعَبْدُ صَارَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُمْ اُسْتُوْلِيَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لِلْغَانِمِينَ، كَالْبَهِيمَةِ، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ لِضَرَرٍ فِي بَقَائِهِ، جَازَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ، وَأَمَّا مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ غَيْرَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، كَالشَّيْخِ وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالرَّاهِبِ، فَلَا يَحِلُّ سَبْيُهُمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ حَرَامٌ، وَلَا نَفْعَ فِي اقْتِنَائِهِمْ. (7455) فَصْلٌ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا كَانَ مَوْلَى مُسْلِمٍ، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ تَفْوِيتَ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ الْمَعْصُومِ. وَعَلَى قَوْلِهِ، لَا يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُعْتِقُهُ ذِمِّيًّا، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، فَاسْتِرْقَاقُ مَوْلَاهُ أَوْلَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ جَوَازِ الِاسْتِرْقَاقِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ، مَعَ كَوْنِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِرْقَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَسْبِيُّ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، لَمْ يَجُزْ فِيهِ سِوَى الِاسْتِرْقَاقِ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِيهِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ؛ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ الْوَلَاءَ، وَهُوَ جَائِزٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِذِمِّيٍّ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ سَيِّدَهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، وَلَا تَفْوِيتُ حُقُوقِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 [مَسْأَلَة سَبِيل مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ فِي الْحَرْبُ] (7456) مَسْأَلَةٌ: وَسَبِيلُ مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ، وَمَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى إطْلَاقِهِمْ، سَبِيلُ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ يَعْنِي مَنْ صَارَ مِنْهُمْ رَقِيقًا بِضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِ، أَوْ فُودِيَ بِمَالٍ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، يُخَمَّسُ ثُمَّ يُقْسَمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ فِدَاءَ أُسَارَى بَدْرٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَشْبَهَ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَسْرُ لَمْ يَكُنْ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ حَقٌّ، فَكَيْفَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِبَدَلِهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ فِي الِاسْتِرْقَاقِ مَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالًا، فَإِذَا صَارَ مَالًا، تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَانِمِينَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَسَرُوهُ وَقَهَرُوهُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، إذَا قُتِلَ قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ الْخِيَارُ، فَإِذَا اخْتَارُوا الدِّيَةَ، تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ اسْتِرْقَاقُ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ دُونَ الرِّجَالِ] (7457) مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ اسْتِرْقَاقُهُمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مَجُوسًا، وَأَمَّا مَا سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ بَالِغِي رِجَالِهِمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ أَوْ الْفِدَاءُ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ رِجَالِهِمْ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. (7458) فَصْلٌ: فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالصَّبِيَّانِ، فَيَصِيرُونَ رَقِيقًا بِالسَّبْيِ. وَمَنَعَ أَحْمَدُ مِنْ فِدَاءِ النِّسَاءِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِنَّ تَعْرِيضًا لَهُنَّ لِلْإِسْلَامِ، لِبَقَائِهِنَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَّزَ أَنْ يُفَادَى بِهِنَّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِنْقَاذَ مُسْلِمٍ مُتَحَقِّقٍ إسْلَامُهُ، فَاحْتَمَلَ تَفْوِيتَ غَرَضِيَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ احْتِمَالُ فَوَاتِهَا، لِتَحْصِيلِ الْمَالِ. فَأَمَّا الصِّبْيَانُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُفَادَى بِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيه، فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَسْلَمَتْ لَمْ يَجُزْ رَدُّهَا إلَى الْكُفَّارِ بِفِدَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وَلِأَنَّ فِي رَدِّهَا إلَيْهِمْ تَعْرِيضًا لَهَا لِلرُّجُوعِ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَاسْتِحْلَالِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ، كَاَلَّذِي سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ، لَمْ يَجُزْ فِدَاؤُهُ بِمَالِ. وَهَلْ يَجُوزُ فِدَاؤُهُ بِمُسْلِمٍ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَافِرٍ] (7459) فَصْلٌ: وَلَمْ يُجَوِّزْ أَحْمَدُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَافِرٍ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّقِيقُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَشْتَرُوا مِمَّا سَبَى الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا. قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى عَنْهُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ. هَكَذَا حَكَى أَهْلُ الشَّامِ، وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ابْتِدَائِهِ، كَالْمُسْلِمِ. وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ، وَلَمْ يُنْكَرْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتًا لِلْإِسْلَامِ الَّذِي يَظْهَرُ وُجُودُهُ، فَإِنَّهُ إذَا بَقِيَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ إسْلَامُهُ، فَيَفُوتُ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ لِكَافِرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَقِيقًا لِكَافِرٍ فِي ابْتِدَائِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ هَذِهِ الْغَرَضِيَّةُ، وَالدَّوَامُ يُخَالِفُ الِابْتِدَاءَ لِقُوَّتِهِ. [فَصْلٌ أَسَرَ أَسِيرًا فِي الْحَرْبِ] (7460) فَصْلٌ: وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَتْلُهُ، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ أَسِيرًا، فَالْخِيرَةُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدْ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَقْتُلُ أَسِيرَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَالِي. فَمَفْهُومُهُ أَنَّ لَهُ قَتْلَ أَسِيرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَالِي؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ابْتِدَاءً، فَكَانَ لَهُ قَتْلُهُ دَوَامًا، كَمَا لَوْ هَرَبَ مِنْهُ أَوْ قَاتَلَهُ. فَإِنْ امْتَنَعَ الْأَسِيرُ أَنْ يَنْقَادَ مَعَهُ، فَلَهُ إكْرَاهُهُ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إكْرَاهُهُ، فَلَهُ قَتْلُهُ. وَإِنْ خَافَهُ أَوْ خَافَ هَرَبَهُ، فَلَهُ قَتْلُهُ أَيْضًا. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَهُ، لِجُرْحٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلَهُ قَتْلُهُ أَيْضًا. وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ قَتْلِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، كَمَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ حَيًّا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ، فَتَعَيَّنَ الْقَتْلُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُهُ، وَكَجَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَأْسِرْهُ. فَأَمَّا أَسِيرُ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَعَاطَيَنَّ أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ إذَا أَخَذَهُ فَيَقْتُلُهُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. فَإِنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ، أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَسَاءَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَرِمَ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا لَهُ قِيمَةٌ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ امْرَأَةً وَلَنَا، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، أَسَرَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَابْنَهُ عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَآهُمَا بِلَالٌ، فَاسْتَصْرَخَ الْأَنْصَارَ عَلَيْهِمَا حَتَّى قَتَلُوهُمَا، وَلَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا. وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَمْ يَغْرَمْهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، فَلَمْ يَغْرَمْهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ كَلْبًا، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، غَرِمَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ. [فَصْلٌ أُسِرَ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا] (7461) فَصْلٌ: وَمَنْ أُسِرَ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا الظَّاهِرُ خِلَافُهُ، يَتَعَلَّقُ بِهِ إسْقَاطُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ، حَلَفَ مَعَهُ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ. وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَنْ يُفْدَى، أَوْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ» فَقَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَحْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ يُنَفِّلُ الْإِمَامُ وَمَنْ اسْتَخْلَفَهُ] (7462) مَسْأَلَةٌ: (وَيُنَفِّلُ الْإِمَامُ وَمَنْ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَدَأَتْهُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ) النَّفَلُ زِيَادَةٌ تُزَادُ عَلَى سَهْمِ الْغَازِي، وَمِنْهُ نَفْلُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا زِيدَ عَلَى الْفَرْضِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] . كَأَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا، فَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَ وَزَادَهُ وَلَدَ الْوَلَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْبِدَايَةِ هَا هُنَا، ابْتِدَاءُ دُخُولِ الْحَرْبِ، وَالرَّجْعَةِ رُجُوعُهُ عَنْهَا. وَالنَّفَلُ فِي الْغَزْوِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ مِنْ شَيْءٍ، أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَهُمْ، وَهُوَ رُبْعُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خُمُسٌ آخَرُ، ثُمَّ قَسَمَ مَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ. فَإِذَا قَفَلَ، بَعَثَ سَرِيَّةً تُغِيرُ، وَجَعَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَسَمَ سَائِرَهُ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ. وَبِهَذَا قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] فَخَصَّهُ بِهَا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٌ يَقُولَانِ: لَا نَفْلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخْرَجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الَّتِي هِيَ لَهُمْ، لَمْ يَكُنْ نَفْلًا، وَكَانَ مِنْ سِهَامِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 وَلَنَا مَا رَوَى حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدَاءَةَ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ إذَا قَفَلَ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَفِّلُهُمْ إذَا خَرَجُوا بَادِينَ الرُّبُعَ وَيُنَفِّلُهُمْ إذَا قَفَلُوا الثُّلُثَ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي قَوْمِهِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ لَك أَنْ تَأْتِيَ الْكُوفَةَ، وَلَك الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ وَشَيْءٍ؟ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ يُغْرِيهِمْ بِذَلِكَ. فَأَمَّا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَإِنَّ مَكْحُولًا قَالَ لَهُ حِينَ قَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: شَغَلَك أَكْلُ الزَّبِيبِ بِالطَّائِفِ. وَمَا ثَبَتَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ دَلِيلٌ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ بَعِيرًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، يَكُونُ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَخُمُسُ الْخُمُسِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَجُزْءٌ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَكْثَرُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ أَقَلَّ مِنْهُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ إذَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، وَالْبَعِيرُ مِنْهَا ثُلُثُ الْخُمُسِ، فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ أَخْذُ ثُلُثِ الْخُمُسِ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؟ فَهَذَا مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَنَّ النَّفَلَ كَانَ لِلسَّرِيَّةِ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ. عَلَى أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يُعَارَضُ بِشَيْءٍ مُسْتَنْبَطٍ، يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ مَنْ اسْتَنْبَطَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا النَّفَلَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَهُ لَهُمْ فَلَا، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الرُّجُوعِ الثُّلُثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَاكَ إذَا نَفَلَ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُنَفِّلَهُمْ شَيْئًا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَفِّلَهُمْ دُونَ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ شَيْئًا، جَازَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ يَسِيرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ لِلنَّفْلِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ مَرَّةً الثُّلُثَ، وَأُخْرَى الرُّبُعَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ. فَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْلِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ الْإِمَامُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِهِ. وَلَنَا، أَنَّ نَفْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى إلَى الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَقَلِّ النَّفْلِ حَدٌّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 الْقَوْلَ مَعَ قَوْلِهِ: أَنَّ النَّفَلَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ تَنَاقَضَ. فَإِنْ شَرَطَ لَهُمْ الْإِمَامُ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ، رُدُّوا إلَيْهِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْرِطَ النِّصْفَ، فَإِنْ زَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَلْيَفِ لَهُمْ بِهِ، وَيَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ. وَإِنَّمَا زِيدَ فِي الرَّجْعَةِ عَلَى الْبَدَاءَةِ فِي النَّفْلِ؛ لِمَشَقَّتِهَا، فَإِنَّ الْجَيْشَ فِي الْبَدَاءَةِ رِدْءٌ لِلسَّرِيَّةِ، تَابِعٌ لَهَا، وَالْعَدُوُّ خَائِفٌ، وَرُبَّمَا كَانَ غَارًّا، وَفِي الرَّجْعَةِ لَا رِدْءَ لِلسَّرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْجَيْشَ مُنْصَرِفٌ عَنْهُمْ، وَالْعَدُوَّ مُسْتَيْقِظٌ كَلِبٌ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي الْبَدَاءَةِ إذَا كَانَ ذَاهِبًا الرُّبُعُ، وَفِي الْقَفْلَةِ إذَا كَانَ فِي الرُّجُوعِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَاقُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ، فَهَذَا أَكْبَرُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْجَيْشِ؛ لِغَنَائِهِ وَبَأْسِهِ وَبَلَائِهِ، أَوْ لِمَكْرُوهٍ تَحَمَّلَهُ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي الرَّجُلِ يَأْمُرُهُ الْأَمِيرُ يَكُونُ طَلِيعَةً، أَوْ عِنْدَهُ، يَدْفَعُ إلَيْهِ رَأْسًا مِنْ السَّبْيِ أَوْ دَابَّةً، قَالَ: إذَا كَانَ رَجُلٌ لَهُ غَنَاءٌ، وَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ، يُحَرَّضُ هُوَ وَغَيْرُهُ، يُقَاتِلُونَ وَيَغْنَمُونَ. وَقَالَ: إذَا نَفَّذَ الْإِمَامُ صَبِيحَةَ الْمَغَارِ الْخَيْلَ، فَيُصِيبُ بَعْضُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ، فَلِلْوَالِي أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا بِشَيْءٍ دُونَ هَؤُلَاءِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ لَهُ إعْطَاءَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَحُجَّةُ هَذَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ قَالَ: أَغَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى إبِلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبَعْتهمْ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ، قَالَ فَبَيَّتْنَا عَدُوَّنَا، فَقَتَلْت لَيْلَتئِذٍ تِسْعَةَ أَهْلِ أَبْيَاتٍ وَأَخَذْت مِنْهُمْ امْرَأَةً، فَنَفَلَنِيهَا أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ، اسْتَوْهَبَهَا مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبْتهَا لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَقُولَ الْأَمِيرُ: مَنْ طَلَعَ هَذَا الْحِصْنَ، أَوْ هَدَمَ هَذَا السُّورَ، أَوْ نَقَبَ هَذَا النَّقْبَ، أَوْ فَعَلَ كَذَا، فَلَهُ كَذَا. أَوْ: مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ، فَلَهُ كَذَا. فَهَذَا جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَشْرِ دَوَابَّ، أَوْ بَقَرٍ، أَوْ غَنَمٍ، فَلَهُ وَاحِدٌ. فَمَنْ جَاءَ بِخَمْسَةٍ أَعْطَاهُ نِصْفَ مَا قَالَ لَهُمْ، وَمَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ بِقَدْرِهِ. قِيلَ لَهُ: إذَا قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعِلْجٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فَجَاءَ بِعِلْجٍ، يَطِيبُ لَهُ مَا يُعْطَى؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَرِهَ مَالِكٌ هَذَا الْقَسْمَ، وَلَمْ يَرَهُ، وَقَالَ: قِتَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا هُوَ لِلدُّنْيَا. وَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 لَا نَفْلَ إلَّا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . إلَّا بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبٍ، وَعُبَادَةَ، وَمَا شَرَطَهُ عُمَرُ، لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، فَجَازَ، كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَزِيَادَةِ السَّهْمِ لِلْفَارِسِ، وَاسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ. قُلْنَا: قَوْلُهُ ذَلِكَ ثَابِتُ الْحُكْمِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ قَوْلِهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا كَالْمَشْرُوطِ فِي أَوَّلِ الْغَزَاةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ هَذَا، إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، فَاعْتُبِرَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ، كَأُجْرَةِ الْحَمَّالِ وَالْحَافِظِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ النَّفَلَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ. وَذَكَرَ الْخَلَّالُ أَنَّهُ لَا نَفْلَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْهَا، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. وَلَنَا، حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَعُبَادَةَ، وَجَرِيرٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا غَنِمُوهُ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ، فَجَازَ النَّفَلُ فِيهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا الْقَاتِلُ، فَإِنَّمَا نَفْلُ السَّلَبِ، وَلَيْسَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ السَّلَبِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ غَيْرَ مَا جُعِلَ لَهُ. [فَصْلٌ رَجَعَ إلَى السَّاقَةِ فِي الْجِهَاد] (7463) فَصْلٌ: نَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إذَا قَالَ مَنْ رَجَعَ إلَى السَّاقَةِ فَلَهُ دِينَارٌ، وَالرَّجُلُ يَعْمَلُ فِي سِيَاقَةِ الْغَنَمِ قَالَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّامِ يَفْعَلُونَ هَذَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي رُجُوعِهِمْ إلَى السَّاقَةِ وَسِيَاقَةِ الْغَنَمِ مَنْفَعَةٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَغَارَ عَلَى قَرْيَةٍ، فَنَزَلَ فِيهَا وَالسَّبْيُ وَالدَّوَابُّ وَالْخُرْثِيُّ مَعَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ جَمْعِهِ الْكَسَلُ، لَا يَخَافُونَ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ، فَيَقُولُ الْإِمَامُ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ، فَلَهُ ثَوْبٌ، وَلِمَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ رَأْسٌ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَدْلٍ مِنْ دَقِيقِ الرُّومِ، فَلَهُ دِينَارٌ، يُرِيدهُ لِطَعَامِ السَّبْيِ، مَا تَرَى فِي أَخْذِ الدِّينَارِ؟ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. قِيلَ فَالْإِمَامُ يُخْرِجُ السَّرِيَّةَ وَقَدْ نَفَلَهُمْ جَمِيعًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْمَغَارِ، نَادَى: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ، فَلَهُ رَأْسٌ، وَمَنْ جَاءَ بِكَذَا، فَلَهُ كَذَا، فَيَذْهَبُ النَّاسُ فَيَطْلُبُونَ، فَمَا تَرَى فِي هَذَا النَّفْلِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا كَانَ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ الثُّلُثَ. قُلْت: فَلَا بَأْسَ بِنَفَلَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ الثُّلُثَ، غَيْرَ مَرَّةٍ سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 [فَصْلٌ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَنْ يَبْذُلَا جَعَلَا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ] (7464) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَنْ يَبْذُلَا جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ طَرِيقِ سَهْلٍ، أَوْ مَاءٍ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ قَلْعَةٍ يَفْتَحُهَا، أَوْ مَالٍ يَأْخُذُهُ، أَوْ عَدُوٍّ يُغِيرُ عَلَيْهِ، أَوْ ثُغْرَةٍ يَدْخُلُ مِنْهَا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِي مَصْلَحَةٍ، فَجَازَ، كَأُجْرَةِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ مَنْ دَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ. وَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلُ بِفِعْلِ مَا جُعِلَ لَهُ الْجُعْلُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مِنْ الْجَيْشِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ جُعِلَ لَهُ الْجُعْلُ مِمَّا فِي يَدِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا جَعَالَةٌ بِعِوَضٍ مِنْ مَالٍ مَعْلُومٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَالْجَعَالَةِ فِي رَدِّ الْآبِقِ، وَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَلَا تُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلسَّرِيَّةِ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ مِمَّا غَنِمُوهُ، وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ كُلَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَالْجَعَالَةُ إنَّمَا تَجُوزُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ جَعَلَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً إنْ دَلَّهُ عَلَى قَلْعَةٍ يَفْتَحُهَا، مِثْلُ أَنَّ جَعَلَ لَهُ بِنْتَ رَجُلٍ عَيَّنَهُ مِنْ أَهْلِ الْقَلْعَةِ، لَمْ يَسْتَحِقّ شَيْئًا حَتَّى يَفْتَحَ الْقَلْعَةَ؛ لِأَنَّ جَعَالَةَ شَيْءٍ مِنْهُ اقْتَضَتْ اشْتِرَاطَ فَتْحِهَا، فَإِذَا فُتِحَتْ الْقَلْعَةُ عَنْوَةً، سُلِّمَتْ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَإِنَّهَا عَصَمَتْ نَفْسَهَا بِإِسْلَامِهَا، فَتَعَذَّرَ دَفْعُهَا إلَيْهِ، فَتُدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَتُهَا. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا رَدَّهُ إلَيْهِمْ، فَجَاءَهُ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ، مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ رَدِّهِنَّ. وَلَوْ كَانَ الْجُعْلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْقَلْعَةِ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، عَصَمَ أَيْضًا نَفْسَهُ، وَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ، وَكَانَ لِصَاحِبِ الْجُعْلِ قِيمَتُهُ. وَإِنْ كَانَ إسْلَامُ الْجَارِيَةِ أَوْ الرَّجُلِ بَعْدَ أَسْرِهِمْ، سُلِّمَا إلَيْهِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَلَهُ قِيمَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَبْتَدِئُ الْمِلْكَ عَلَى مُسْلِمٍ. وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ حَقُّهُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَسَقَطَ حَقُّهُ، كَالْوَدِيعَةِ. وَفَارَقَ مَا إذَا أَسْلَمَا، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمَا مُمْكِنٌ، لَكِنْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ صُلْحًا، فَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ الْجَارِيَةَ وَالرَّجُلَ، وَسُلَّمِهِمَا صَحَّ، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، طُلِبَ الْجُعْلُ مِنْ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ، وَبُذِلَتْ لَهُ قِيمَتُهُمَا، فَإِنْ سُلِّمَا إلَى الْإِمَامِ، سَلَّمَهُمَا إلَى صَاحِبِهِمَا، وَإِنْ أَبَى، عُرِضَ عَلَى مُشْتَرِطِهِمَا قِيمَتُهُمَا، فَإِنْ أَخَذَهَا، أُعْطِيَهَا وَتَمَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ أَبَى، فَقَالَ الْقَاضِي: يُفْسَخُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ قَدْ تَعَذَّرَ إمْضَاءُ الصُّلْحِ فِيهِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُعْلِ سَابِقٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّلْحِ. وَنَحْوُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ أَنْ يُحَصِّنَهَا مِثْلَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْضِيَ الصُّلْحُ، وَتُدْفَعَ إلَى صَاحِبِ الْجُعْلِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ دَفْعُهُ إلَيْهِ مَعَ بَقَائِهِ، فَدُفِعَتْ إلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْجُعْلُ قَبْلَ الْفَتْحِ، أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ وَصَاحِبُ الْجُعْلِ كَافِرٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْجُعْلِ سَابِقٌ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي فَسْخِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 الصُّلْحِ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُودُ عَلَى الْجَيْشِ كُلِّهِ، وَرُبَّمَا عَادَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فِي كَوْنِ هَذِهِ الْقَلْعَةِ يَتَعَذَّرُ فَتْحُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَبْقَى ضَرَرُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجُوزُ تَحَمُّلُ هَذِهِ الْمُضِرَّةِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ عَنْ وَاحِدٍ، فَإِنَّ ضَرَرَ صَاحِبِ الْجُعْلِ إنَّمَا هُوَ فِي فَوَاتِ عَيْنِ الْجُعْلِ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَ عَيْنِ الشَّيْءِ وَقِيمَتِهِ يَسِيرٌ، سِيَّمَا وَهُوَ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَمُرَاعَاةُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ الْكَثِيرِ عَنْهُمْ، أَوْلَى مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي مَنْ وَجَدَ مَالَهُ قَبْلَ قَسْمِهِ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ قَسْمِهِ، لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا بِثَمَنِهِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الضَّرَرِ بِنَقْصِ الْقِيمَةِ، أَوْ حِرْمَانِ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي سَهْمِهِ. [فَصْلٌ النَّفَلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ] (7465) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَالنَّفَلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ. هَذَا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَفُقَهَاءِ الشَّامِ؛ مِنْهُمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَعُبَادَةَ بْنُ نُسَيٍّ، وَعَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ، وَمَكْحُولٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ، وَيَحْيَى بْنُ جَابِرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا. قَالَ أَحْمَدُ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولَانِ: لَا نَفْلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ. فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمَا هَذَا مَعَ عِلْمِهِمَا، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَطَائِفَةٌ: إنْ شَاءَ الْإِمَامُ نَفَلَهُمْ قَبْلَ الْخُمُسِ، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَإِنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ الْخُمُسِ. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ. وَلَنَا مَا رَوَى مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقُولُ: «لَا نَفْلَ إلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهَذَا صَرِيحٌ. وَحَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ» . وَحَدِيثُ جَرِيرٍ حِينَ قَالَ لَهُ عُمَرُ وَلَك الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ الثُّلُثَ، وَلَا يَتَصَوَّرُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْخُمُسِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ خَارِجًا مِنْ الْغَنِيمَةِ كُلِّهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَيْشٍ قِبَلَ نَجْدٍ، وَابْتُعِثَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ الْجَيْشِ، فَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَلَ أَهْلَ السَّرِيَّةِ بَعِيرًا بَعِيرًا، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا» . فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَفْلُهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، كَمَا تُنْفَلَ السَّرَايَا. وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَى جَمِيعَ الْجَيْشِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَفْلًا، وَكَانَ قَدْ قَسَمَ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَهُوَ خِلَافُ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 (7466) فَصْلٌ: وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي أَنَّ النَّفَلَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، عَامٌّ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ النَّفْلِ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَلَهُ كَذَا، أَوْ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ مِنْهَا. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْجُعْلِ، فَأَشْبَهَ السَّلَبَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْمُوسٍ. وَيَحْتَمِلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ زِيَادَةُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَلَى سَهْمِهِ لِغِنَائِهِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ. وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عَطِيَّةَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، سَهْمَ الْفَارِسِ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَرُدُّ مَنْ نَفَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي السَّرِيَّةِ] (7467) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرُدُّ مَنْ نَفَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي السَّرِيَّةِ، إذْ بِقُوَّتِهِمْ صَارَ إلَيْهِ) هَذَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ النَّفْلِ، وَهُوَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، وَنَفَلَهَا الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ، فَدَفَعَ النَّفَلَ إلَى بَعْضِهِمْ، وَخَصَّهُ بِهِ، أَوْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ فَنَفَلَهُ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَنْفُلْهُ، شَارَكَ مَنْ نُفِلَ مَنْ لَمْ يُنْفَلْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا أَخَذُوا بِقُوَّةِ هَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا النَّفَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَاعَةِ بَيْنَهُمْ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَالْغَنِيمَةِ. فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْخِرَقِيِّ، مِثْلُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْجَيْشِ بِنَفْلٍ لِغَنَائِهِ، أَوْ لِجَعْلِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ، فَجَاءَ وَاحِدٌ بِعَشَرَةٍ دُونَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ مَنْ نُفِلَ يَخْتَصُّ بِنَفْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَصَّ مِنْ قَتَلَ بِسَلَبِ قَتِيلِهِ اخْتَصَّ بِهِ، وَلَمَّا خَصَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ بِسَهْمِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ اخْتَصَّ بِهِ. وَكَذَلِكَ اخْتَصَّ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي نَفْلهَا إيَّاهُ أَبُو بَكْرٍ دُونَ النَّاسِ، وَلِأَنَّ هَذَا جُعِلَ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، وَحَثًّا عَلَى فِعْلِ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ؛ لِيَحْمِلَ فَاعِلُهُ كُلْفَةَ فِعْلِهِ، رَغْبَةً فِيمَا جُعِلَ لَهُ، فَلَوْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ فَاعِلُهُ، مَا خَاطَرَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ فِي فِعْلِهِ، وَلَا حَصَلَتْ مَصْلَحَةُ النَّفْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِنَفْلِهِ. كَثَوَابِ الْآخِرَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ قَتَلَ مِنَّا أَحَدًا مِنْهُمْ مُقْبِلًا عَلَى الْقِتَالِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فِي الْجُمْلَةِ] (7468) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ مُقْبِلًا عَلَى الْقِتَالِ، فَلَهُ سَلَبُهُ غَيْرَ مَخْمُوسٍ، قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ سِتَّةٌ: (7469) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 وَغَيْرُهُمَا، وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا، رَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْت لَهُ حَتَّى أَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْته بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ ثُمَّ إنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ. قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لَك يَا أَبَا قَتَادَةَ. فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَا هَا اللَّهِ إذَا تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، فَيُعْطِيك سَلَبَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَ، فَأَسْلِمْهُ إلَيْهِ. قَالَ: فَأَعْطَانِيهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ «قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ.» فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، فَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [الْفَصْلُ الثَّانِي السَّلَبُ لِكُلِّ قَاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أَوْ الرَّضْخَ] (7470) أَنَّ السَّلَبَ لِكُلِّ قَاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أَوْ الرَّضْخَ، كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُشْرِكِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا بَارَزَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَقَتَلَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ، وَيُرْضَخُ لَهُ مِنْهُ؛ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ آكَدُ مِنْهُ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَالسَّلَبُ أَوْلَى. وَلَنَا، عُمُومُ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ قَاتِلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ،، فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، كَذَا السَّهْمَ، وَلِأَنَّ الْأَمِيرَ لَوْ جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، لَاسْتَحَقَّهُ فَاعِلُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَاَلَّذِي جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَفَارَقَ السَّهْمَ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ عَلَى الْمَظِنَّةِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ بِالْحُضُورِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَغَيْرُهُ، وَالسَّلَبُ مُسْتَحَقٌّ بِحَقِيقَةِ الْفِعْلِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَاسْتَحَقَّهُ، كَالْمَجْعُولِ لَهُ جُعْلًا عَلَى فِعْلٍ إذَا فَعَلَهُ. فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمًا وَلَا رَضْخًا، كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّلِ وَالْمُعِينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ وَإِنْ قَتَلَ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ. وَإِنْ بَارِزَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ، السَّلَبَ، لِأَنَّهُ عَاصٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَاصٍ، مِثْلُ مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَبَاقِيه لَهُ، جَعَلَهُ كَالْغَنِيمَةِ، وَيُخْرَجُ فِي الْعَبْدِ الْمُبَارِزِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ مِثْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَلَبُ قَتِيلِ الْعَبْدِ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَفِي حِرْمَانِهِ السَّلَبَ حِرْمَانُ سَيِّدِهِ، وَلَا مَعْصِيَةَ مِنْهُ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ فِي كُلِّ حَالٍ] (7471) أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فِي كُلِّ حَالٍ، إلَّا أَنْ يَنْهَزِمَ الْعَدُوُّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: إذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ، فَلَا سَلَبَ لَهُ، إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ نَافِعٍ. كَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، مَا لَمْ تَمْتَدَّ الصُّفُوفُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا سَلَبَ لِأَحَدٍ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَلِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ إنَّمَا قَتَلَ الَّذِي أَخَذَ سَلَبَهُ فِي حَالِ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَنَسٍ: فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، لِأَنَّ هَوَازِنَ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ فَجْأَةً، فَأَلْحَمُوا الْحَرْبَ قَبْلَ أَنْ تَتَقَدَّمَهَا مُبَارَزَةٌ. وَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: غَزَوْنَا إلَى طَرَفِ الشَّامِ، فَأُمِّرَ عَلَيْنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَانْضَمَّ إلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرَ، فَقُضِيَ لَنَا أَنَّا لَقِينَا عَدُوَّنَا، فَقَاتَلُونَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ، عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ، وَسَرْجٍ مُذْهَبٍ، وَمِنْطَقَةٍ مُلَطَّخَةٍ، وَسَيْفٍ مِثْلِ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى الْقَوْمِ، وَيُغْرِي بِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ الْمَدَدِيُّ يَحْتَالُ لِذَلِكَ الرُّومِيِّ حَتَّى مَرَّ بِهِ، فَاسْتَقْفَاهُ، فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ وَقَعَ، فَأَتْبَعَهُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفَتْحَ، أَقْبَلَ بِسَلَبِ الْقَتِيلِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّاسُ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، فَأَعْطَاهُ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ، وَأَمْسَكَ سَائِرَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتَعْدَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا خَالِدًا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مَنَعَك يَا خَالِدُ أَنْ تَدْفَعَ إلَى هَذَا سَلَبَ قَتِيلِهِ؟ ". قَالَ: اسْتَكْثَرْته لَهُ. قَالَ: " فَادْفَعْهُ إلَيْهِ ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ] (7472) أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ شَيْخًا فَانِيًا، أَوْ ضَعِيفًا مَهِينًا، وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُ، اسْتَحَقَّ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَمَنْ قَتَلَ أَسِيرًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ؛ لِذَلِكَ. الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ فِيهِ مَنَعَةٌ، غَيْرَ مُثْخَنٍ بِالْجِرَاحِ، فَإِنْ كَانَ مُثْخَنًا بِالْجِرَاحِ، فَلَيْسَ لِقَاتِلِهِ شَيْءٌ مِنْ سَلَبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَكْحُولٌ، وَجَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَثْبَتَ أَبَا جَهْلٍ، وَذَفَّفَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَلَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ شَيْئًا. وَإِنْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ، وَقَتَلَهُ آخِرُ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاطِعِ دُونَ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ هُوَ الَّذِي كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رَجُلَيْهِ، وَقَتَلَهُ الْآخِرُ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاطِعِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَهُ، فَأَشْبَهَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَالثَّانِي سَلَبَهُ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ سَالِمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَعْدُو وَيُكْثِرُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ سَالِمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَاتِلُ بِهِمَا، فَلَمْ يَكْفِ الْقَاطِعُ شَرَّهُ كُلَّهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ وَإِحْدَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ، فَسَلَبُهُ غَنِيمَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ لِمَنْ لَمْ يَكْفِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَإِنْ عَانَقَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاتِلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ لِلْمُعَانِقِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ.» وَلِأَنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعَانِقْهُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْكَافِرُ مُقْبِلًا عَلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُهُ، فَجَاءَ آخِرُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُثْخِنَهُ بِجِرَاحٍ تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَقْتُولِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَكُونُ السَّلَبُ إلَّا لِلْقَاتِلِ. وَإِنْ أَسَرَ رَجُلًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: لَا يَكُونُ السَّلَبُ إلَّا لِمَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 أَسَرَ عِلْجًا أَوْ قَتَلَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أُسِرَ رَجُلٌ، فَقَتَلَهُ الْإِمَامُ صَبْرًا، فَسَلَبُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ أَصْعَبُ مِنْ الْقَتْلِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ بِالْقَتْلِ، كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْأَسْرِ. قَالَ: وَإِنْ اسْتَبْقَاهُ الْإِمَامُ، كَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ، أَوْ رَقَبَتُهُ وَسَلَبُهُ، لِأَنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا أَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَاسْتَبْقَى سَائِرَهُمْ، فَلَمْ يُعْطِ مَنْ أَسَرَهُمْ أَسْلَابَهُمْ، وَلَا فِدَاءَهُمْ، وَكَانَ فِدَاؤُهُمْ غَنِيمَةً. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ الْآسِرُ بِقَاتِلٍ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْرَى، وَلَوْ كَانَ لِمَنْ أَسَرَهُ، كَانَ أَمْرُهُ إلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ. الرَّابِعُ، أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ، فَأَمَّا إنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ، فَلَا سَلَبَ لَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، إنَّمَا هُوَ فِي الْمُبَارَزَةِ، لَا يَكُونُ فِي الْهَزِيمَةِ. وَإِنْ حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ، فَالسَّلَبُ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُغَرِّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي قَتْلِهِ. وَإِنْ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ اثْنَانِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ سَلَبَهُ غَنِيمَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: لَهُ السَّلَبُ إذَا انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ الْقَاضِي، إنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي سَلَبِهِ؛ لِقَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ، وَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي السَّبَبِ، فَاشْتَرَكَا فِي السَّلَبِ. وَلَنَا، أَنَّ السَّلَبَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالتَّغْرِيرِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَتْلِ الِاثْنَيْنِ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ السَّلَبُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَّكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي سَلَبٍ. فَإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي ضَرْبِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَبْلَغَ فِي قَتْلِهِ مِنْ الْآخَرِ، فَالسَّلَبُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ ضَرَبَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ. وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ.» وَإِنْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ، فَأَدْرَكَ إنْسَانٌ مُنْهَزِمًا مِنْهُمْ، فَقَتَلَهُ، فَلَا سَلَبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَرِّرْ فِي قَتْلِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَانْهَزَمَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ، فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ فَرٌّ وَكَرٌّ، وَقَدْ قَتَلَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ طَلِيعَةً لِلْكُفَّارِ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَتَلَهُ؟ . قَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ» . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: السَّلَبُ لِكُلِّ قَاتِلٍ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَاحْتِجَاجًا بِحَدِيثِ سَلَمَةَ هَذَا. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذَفَّفَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ، فَلَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَبَهُ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ صَبْرًا، وَلَمْ يُعْطِ سَلَبَهُمَا مَنْ قَتَلَهُمَا، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا، فَلَمْ يُعْطِ مَنْ قَتَلَهُمْ أَسْلَابَهُمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَى السَّلَبَ مَنْ قَتَلَ مُبَارِزًا، أَوْ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، وَغَرَّرَ فِي قَتْلِهِ، وَالْمُنْهَزِمُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، قَدْ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُغَرِّرْ قَاتِلُهُ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ كَالْأَسِيرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 وَأَمَّا الَّذِي قَتَلَهُ سَلَمَةُ، فَكَانَ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ قُتِلَ حَالَ قِيَامِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُنْهَزِمًا فَهُوَ مُتَحَيِّزٌ إلَى فِئَةٍ، وَرَاجِعٌ إلَى الْقِتَالِ، فَأَشْبَهَ الْكَارَّ، فَإِنَّ الْقِتَالَ فَرٌّ وَكَرٌّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ أَنْ تَكُونَ الْمُبَارَزَةُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِالسَّلَبِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ نُقِلَ إلَيْنَا أَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي الْمُبَارَزَةِ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ السَّلَبِ لِكُلِّ قَاتِلٍ، إلَّا مَنْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ. [الْفَصْل الْخَامِس السَّلَب لَا يُخْمَسُ] (7473) أَنَّ السَّلَبَ لَا يُخْمَسُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْمَسُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَكْحُولٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنْ اسْتَكْثَرَ الْإِمَامُ السَّلَبَ خَمَسَهُ. وَذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ، أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةِ بِالْبَحْرَيْنِ، فَطَعَنَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ، وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ الظُّهْرَ، أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ، فَقَالَ: إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا، وَأَنَا خَامِسُهُ. فَكَانَ أَوَّلُ سَلَبٍ خُمِسَ فِي الْإِسْلَامِ سَلَبَ الْبَرَاءِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي السُّنَنِ. وَفِيهَا أَنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَلَنَا، مَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ يَخْمُسْ السَّلَبَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَخَبَرُ عُمَرَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. وَقَوْلُ الرَّاوِي: كَانَ أَوَّلَ سَلَبٍ خُمِسَ فِي الْإِسْلَامِ. يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ، لَمْ يَخْمُسُوا سَلَبًا، وَاتِّبَاعُ ذَلِكَ أَوْلَى. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: لَا أَظُنُّهُ يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ سَبَقَ فِيهِ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ إلَّا اتِّبَاعُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَصْلُحُ أَنْ يُخَصَّصَ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ السَّلَبَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْتَسَبُ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ احْتَسَبَ بِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ احْتَسَبَ بِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ وَقَدْرِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، كَسَهْمِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ. [الْفَصْل السَّادِس الْقَاتِل يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ] (7474) أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا أَنْ يَشْرِطَهُ الْإِمَامُ لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْتَحِقُّهُ، إلَّا أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَرَ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي النَّفْلِ، وَجَعَلُوا السَّلَبَ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ مَدَدِيًّا اتَّبَعَهُمْ، فَقَتَلَ عِلْجًا، فَأَخَذَ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبَهُ، وَأَعْطَاهُ بَعْضَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَأَنَا اخْتَصَرْته. وَرَوَيَا بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ شِبْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، قَالَ: بَارَزْت رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَتَلْته، وَأَخَذْت سَلَبَهُ، فَأَتَيْت بِهِ سَعْدًا، فَخَطَبَ سَعْدٌ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا سَلَبُ شِبْرٍ، خَيْرٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِنَّا قَدْ نَفَلْنَاهُ إيَّاهُ. وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْلِهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ سَلَبِ الْبَرَاءِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ سَلَبَ أَبِي قَتَادَةَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَهَذَا مِنْ قَضَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي عَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَأَخْبَارُهُمْ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ احْتَجَّ عَلَى خَالِدٍ حِينَ أَخَذَ سَلَبَ الْمَدَدِيَّ، فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ: أَمَّا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى. وَقَوْلُ عُمَرَ: إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ، وَحُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ لِكُلِّ قَاتِلٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدًا أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَى الْمَدَدِيِّ عُقُوبَةً، حِينَ أَغْضَبَهُ عَوْفٌ بِتَقْرِيعِهِ خَالِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ أَنْجَزْت لَك مَا ذَكَرْت لَك مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا خَبَرُ شِبْرٍ، فَإِنَّمَا أَنْفَذَ لَهُ سَعْدٌ مَا قَضَى لَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهُ نَفْلًا، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْلٌ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى سَهْمِهِ. وَأَمَّا أَبُو قَتَادَةَ، فَإِنَّ خَصْمَهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِهِ، وَصَدَّقَهُ، فَجَرَى مَجْرَى الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى شَرْطِهِ، كَالسَّهْمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ السَّلَبَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إذْنٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِجَعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَأْمَنُ إنْ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعْطَاهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ أَمْرُهُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَأَخْذِ سَهْمِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَحْمَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ فَعَلَى هَذَا، إنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، تَرَكَ الْفَضِيلَةَ، وَلَهُ مَا أَخَذَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 [مَسْأَلَة لِلْقَاتِلِ سَلَب مَا عَلَى الدَّابَّة وَمَا عَلَيْهَا مِنْ آلَتِهَا مِنْ السَّلَبِ] (7475) مَسْأَلَة قَالَ: (وَالدَّابَّةُ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ آلَتِهَا مِنْ السَّلَبِ، إذَا قُتِلَ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّلَبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّلَبَ مَا كَانَ الْقَتِيلُ لَابِسًا لَهُ، مِنْ ثِيَابٍ، وَعِمَامَةٍ، وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ، وَدِرْعٍ، وَمِغْفَرٍ، وَبَيْضَةٍ، وَتَاجٍ، وَأَسْوِرَةٍ وَرَأَنٍ، وَخُفٍّ، بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ السَّلَبِ اللِّبَاسُ، وَكَذَلِكَ السِّلَاحُ؛ مِنْ السَّيْفِ، وَالرُّمْحِ، وَالسِّكِّينِ، وَاللَّتِّ، وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي قِتَالِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْأَخْذِ مِنْ اللِّبَاسِ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهَا، فَهِيَ كَالسِّلَاحِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ بِهَا زِيَادَةَ السُّهْمَانِ، بِخِلَافِ السِّلَاحِ. فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي مَعَهُ فِي كمرانه وَخَرِيطَتِهِ، فَلَيْسَ بِسَلَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلْبُوسِ، وَلَا مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ رَحْلُهُ وَأَثَاثُهُ، وَمَا لَيْسَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَيْسَ مِنْ سَلَبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ، كَالتَّاجِ، وَالسِّوَارِ، وَالطَّوْقِ، وَالْهِمْيَانِ الَّذِي لِلنَّفَقَةِ، لَيْسَ مِنْ السَّلَبِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، فَأَشْبَهَ الْمَالَ الَّذِي فِي خَرِيطَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، أَنَّهُ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةِ، فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ سِوَارَاهُ وَمِنْطَقَتُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَخَمَسَهُ عُمَرُ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى أَسْوَارٍ فَطَعَنَهُ، فَدَقَّ صُلْبَهُ فَصَرَعَهُ، فَنَزَلَ إلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَأَخَذَ سِوَارَيْنِ كَانَا عَلَيْهِ، وَيَلْمَقًا مِنْ دِيبَاجٍ، وَسَيْفًا، وَمِنْطَقَةً، فَسُلِّمَ لَهُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ ثِيَابَهُ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي اسْمِ السَّلَبِ، فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَالْمِنْطَقَةَ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَهُ سَلَبُهُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الدَّابَّةِ، فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ مَا كَانَ عَلَى يَدَيْهِ، وَالدَّابَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ. قَالَ: وَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، فَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ فَرَسَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: " خَرَجْت مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ، عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ، وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ، وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَخَذَ مِنْ السَّلَبِ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْته فَقُلْت لَهُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَفِي حَدِيثِ شِبْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، أَنَّهُ أَخَذَ فَرَسَهُ. كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحَرْبِ، فَأَشْبَهَتْ السِّلَاحَ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالرُّمْحِ وَالْقَوْسِ وَاللَّتِّ، فَإِنَّهَا مِنْ السَّلَبِ وَلَيْسَتْ مَلْبُوسَةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الدَّابَّةَ وَمَا عَلَيْهَا؛ مِنْ سَرْجِهَا، وَلِجَامِهَا وَتَجْفِيفِهَا، وَحِلْيَةٍ إنْ كَانَتْ عَلَيْهَا، وَجَمِيعِ آلَتِهَا مِنْ السَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا، وَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ السَّلَبِ إذَا كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ مُنْفَلِتَةً، لَمْ تَكُنْ مِنْ السَّلَبِ، كَالسِّلَاحِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا فَصَرَعَهُ عَنْهَا، أَوْ أَشْعَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ نُزُولِهِ عَنْهَا، فَهِيَ مِنْ السَّلَبِ. وَهَكَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَإِنْ كَانَ مُمْسِكًا بِعِنَانِهَا، غَيْرَ رَاكِبٍ عَلَيْهَا، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، مِنْ السَّلَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ سَيْفَهُ أَوْ رُمْحَهُ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَاكِبٍ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ مَعَ غُلَامِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ، وَفِي يَدِهِ جَنِيبَةٌ، لَمْ تَكُنْ الْجَنِيبَةُ مِنْ السَّلَبِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رُكُوبُهُمَا مَعًا. [فَصْل لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَتْلِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ] (7476) فَصْل وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَتْلِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُعْطَى السَّلَبَ إذَا قَالَ: أَنَا قَتَلْته. وَلَا يُسْأَلُ بَيِّنَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ قَوْلَ أَبِي قَتَادَةَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 أَبُو قَتَادَةُ، فَإِنَّ خَصْمَهُ أَقَرَّ لَهُ، فَاكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُقْبَلُ إلَّا شَاهِدَانِ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى فِي الْمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ شَاهِدٌ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ قَوْلَ الَّذِي شَهِدَ لِأَبِي قَتَادَةَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَبَرَ الْبَيِّنَةَ، وَإِطْلَاقُهَا يَنْصَرِفُ إلَى شَاهِدَيْنِ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى لِلْقَتْلِ، فَاعْتُبِرَ شَاهِدَانِ، كَقَتْلِ الْعَمْدِ. [فَصْل سَلَبُ الْقَتْلَى وَتَرْكُهُمْ عُرَاةً] (7477) فَصْل وَيَجُوزُ سَلْبُ الْقَتْلَى وَتَرْكُهُمْ عُرَاةً. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتِيلِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ. وَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُ. [مَسْأَلَة أَمَانُ الرَّجُل وَالْمَرْأَة] (7478) مَسْأَلَة قَالَ: (وَمَنْ أَعْطَاهُمْ الْأَمَانَ مِنَّا؛ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ امْرَأَةٍ، أَوْ عَبْدٍ، جَازَ أَمَانُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَمَانَ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ. وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ، كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ مَصْلَحَتِهِمْ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى فُضَيْلٍ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، قَالَ: جَهَّزَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشًا، فَكُنْت فِيهِ، فَحَصَرْنَا مَوْضِعًا، فَرَأَيْنَا أَنَّا سَنَفْتَحُهَا الْيَوْمَ، وَجَعَلْنَا نُقْبِلُ وَنَرُوحُ، فَبَقِيَ عَبْدٌ مِنَّا، فَرَاطَنَهُمْ وَرَاطَنُوهُ، فَكَتَبَ لَهُمْ الْأَمَانَ فِي صَحِيفَةٍ، وَشَدَّهَا عَلَى سَهْمٍ، وَرَمَى بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهَا، وَخَرَجُوا، فَكُتِبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْحُرِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التُّهْمَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أُذِنَ لَهُ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَبِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّ أَمَانَهَا يَصِحُّ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. قَالَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 عَائِشَةُ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ. وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجَرْت أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمَّ هَانِئٍ، إنَّمَا يُجْهِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» . رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (7479) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَسِيرِ إذَا عَقَدَهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَسِيرِ. وَكَذَلِكَ أَمَانُ الْأَجِيرِ وَالتَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَلَنَا عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِمْ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، كَالْمَجْنُونِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَصِحُّ أَمَانُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَصِحُّ أَمَانُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَنْعِ عَلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُمَيِّزٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْبَالِغِ، وَفَارَقَ الْمَجْنُونَ، فَإِنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَصْلًا. (7480) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ.» فَجَعَلَ الذِّمَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ. وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ مَجْنُونٍ، وَلَا طِفْلٍ، لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ. وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ زَائِلِ الْعَقْلِ، بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ إغْمَاءٍ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ. وَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْإِقْرَارِ. (7481) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلْوَاحِدِ، وَالْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا حَدِيثَهُ. وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ، وَرُسْتَاقٍ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. (7482) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِلْأَسِيرِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْهُرْمُزَانِ أَسِيرًا، قَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْك، ثُمَّ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: قَدْ أَمَّنْته، فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهِ. وَشَهِدَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ، فَعَدُّوهُ أَمَانًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ الْمَنَّ عَلَيْهِ، وَالْأَمَانُ دُونَ ذَلِكَ. فَأَمَّا آحَادُ الرَّعِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ. وَلَنَا، أَنَّ أَمْرَ الْأَسِيرِ مُفَوَّضٌ إلَى الْإِمَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ، كَقَتْلِهِ. وَحَدِيثُ زَيْنَبَ فِي أَمَانِهَا، إنَّمَا صَحَّ بِإِجَازَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (7483) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ لِلْأَسِيرِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ، قُبِلَ، إذَا كَانُوا بِصِفَةِ الشُّهُودِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ عُدُولٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، غَيْرُ مُتَّهَمِينَ، شَهِدُوا بِأَمَانِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ أَنَّهُ أَمَّنَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ عَلَى فِعْلِهَا، فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ. وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنِّي أَمَّنْته. فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْحَاكِمُ بَعْدَ عَزْلِهِ: كُنْت حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ. قُبِلَ قَوْلُهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ: يَصِحُّ أَمَانُهُ، فَقُبِلَ خَبَرُهُ بِهِ، كَالْحَاكِمِ فِي حَالِ وِلَايَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ فِي الْحَالِ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. [فَصْل جَاءَ الْمُسْلِمُ بِمُشْرِكٍ ادَّعَى أَنَّهُ أَسَرَهُ وَادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ] (7484) فَصْل إذَا جَاءَ الْمُسْلِمُ بِمُشْرِكٍ ادَّعَى أَنَّهُ أَسَرَهُ، وَادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ، فَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إحْدَاهُنَّ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ دَمِ الْحَرْبِيِّ، وَعَدَمُ الْأَمَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 وَالثَّانِيَةُ، الْقَوْلُ، قَوْلُ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ صِدْقَهُ وَحَقْنَ دَمِهِ، فَيَكُونُ هَذَا شُبْهَةً تَمْنَعُ مِنْ قَتْلِهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّالِثَةُ، يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ مَنْ ظَاهِرُ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ؛ فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ ذَا قُوَّةٍ، مَعَهُ سِلَاحُهُ، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا مَسْلُوبًا سِلَاحُهُ، فَالظَّاهِرُ كَذِبُهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُسْلِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَمَانِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ كَافِرٌ، لَمْ يَثْبُتْ أَسْرُهُ، وَلَا نَازَعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْأَمَانُ، كَالرَّسُولِ. [فَصْل طَلَبَ الْأَمَان لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ] (7485) فَصْل وَمَنْ طَلَبَ الْأَمَانُ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهَ، وَيَعْرِفَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَجَبَ أَنْ يُعْطَاهُ، ثُمَّ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ إلَى النَّاسِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَيَجُوزُ عَقْدُ الْأَمَانُ لِلرَّسُولِ وَالْمُسْتَأْمِنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤَمِّنُ رُسُلَ الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا جَاءَهُ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ، قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا» . وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّنَا لَوْ قَتَلْنَا رُسُلَهُمْ، لَقَتَلُوا رُسُلَنَا، فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْمُرَاسَلَةِ. وَيَجُوزُ عَقْدُ الْأَمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِمُدَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا مُقَيَّدَةً؛ لِأَنَّ فِي جَوَازِهَا مُطْلَقًا تَرْكًا لِلْجِهَادِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوا مُدَّةَ الْهُدْنَةِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُتْرَكُ الْمُشْرِكُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يُؤَدِّيَ. فَقَالَ أَحْمَدُ إذَا أَمَّنْته، فَهُوَ عَلَى مَا أَمَّنْته. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ سَنَةً بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ هَذَا كَافِرٌ أُبِيحَ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ جِزْيَةٍ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ جِزْيَةٌ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجَوِّزُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، يَسْتَوِي فِي حَقِّهِ السَّنَةُ وَمَا دُونَهَا، فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الْمُدَّتَيْنِ، فَإِذَا جَازَتْ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي إحْدَاهُمَا، جَازَتْ فِي الْأُخْرَى، قِيَاسًا لَهَا عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . أَيْ يَلْتَزِمُونَهَا، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْإِعْطَاءِ، وَهَذَا مَخْصُوصٌ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لَهَا، وَلِأَنَّ الْآيَةَ تَخَصَّصَتْ بِمَا دُونَ الْحَوْلِ، فَنَقِيسَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 [فَصْل دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَوْدَعَ مَالَهُ] (7486) فَصْل وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَأَوْدَعَ مَالَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ أَقْرَضَهُمَا إيَّاهُ، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ دَخَلَ تَاجِرًا، أَوْ رَسُولًا، أَوْ مُتَنَزِّهًا، أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ الذِّمِّيَّ إذَا دَخَلَ لِذَلِكَ، وَإِنْ دَخَلَ مُسْتَوْطِنًا، بَطَلَ الْأَمَانُ فِي نَفْسِهِ، وَبَقِيَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ؛ ثَبَتَ الْأَمَانُ لِمَالِهِ الَّذِي مَعَهُ، فَإِذَا بَطَلَ فِي نَفْسِهِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، بَقِيَ فِي مَالِهِ؛ لِاخْتِصَاصِ الْمُبْطِلِ بِنَفْسِهِ، فَيَخُصُّ الْبُطْلَانَ بِهِ. فَإِنْ قُتِلَ: فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِمَالِهِ تَبَعًا، فَإِذَا بَطَلَ فِي الْمَتْبُوعِ، بَطَلَ فِي التَّبَعِ. قُلْنَا: بَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْأَمَانُ لِمَعْنًى وُجِدَ فِيهِ، وَهُوَ إدْخَالُهُ مَعَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَمَانِ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ بَعَثَهُ مَعَ مُضَارِبٍ لَهُ أَوْ وَكِيلٍ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْأَمَانُ، وَلَمْ يَثْبُتُ الْأَمَانِ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَا هُنَا مَا يَقْتَضِي الْأَمَانُ فِيهِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَخَذَهُ مَعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَنُقِضَ الْأَمَانُ فِيهِ، كَمَا يَنْتَقِضُ فِي نَفْسِهِ، لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ مِنْهُمَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ صَاحِبَهُ إنْ طَلَبَهُ بُعِثَ إلَيْهِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، صَحَّ تَصَرُّفُهُ. وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْأَمَانُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لِوَارِثِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَمَانًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ فِيهِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَمَانَ حَقٌّ لَهُ لَازِمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ، انْتَقَلَ لِحَقِّهِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ مِنْ الرَّهْنِ، وَالضَّمِينِ، وَالشُّفْعَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ أَمَانٌ، فَيَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمَانُ فِيهِ، كَالْمَالِ الَّذِي مَعَ مُضَارِبِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، صَارَ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَرِثُهُ، لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّ مِلَّتَهُمَا وَاحِدَةٌ، فَيَرِثُهُ كَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ حَرْبِيٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ. وَإِنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ مَالُهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُعْلَمَ آخِرُ أَمْرِهِ، بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ كَانَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُورَثُ، وَإِنْ عَتَقَ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَرَقَّ، وَلَكِنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، أَوْ فَادَاهُ، فَمَالُهُ لَهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ، فَمَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسْبَ وَلَكِنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ، جَازَ قَتْلُهُ وَسَبْيُهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَمَانِ لِمَالِهِ لَا يُثْبِتُ الْأَمَانَ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ وَدِيعَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 [فَصْل سَرَقَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ] (7487) فَصْل وَإِذَا سَرَقَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَتَلَ، أَوْ غَصَبَ، ثُمَّ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَأْمِنًا مَرَّةً ثَانِيَةً، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ مَا لَزِمَهُ فِي أَمَانِهِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، فَخَرَجَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يُغْنَمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، لِكَوْنِ الشِّرَاءِ بَاطِلًا، وَيَرُدُّ بَائِعُهُ الثَّمَنَ إلَى الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي أَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَالِفًا، فَعَلَى الْحَرْبِيِّ قِيمَتُهُ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ. [فَصْل دَخَلَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي دَرَانَا] فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا، ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ، لَمْ تُمْنَعْ، إذَا رَضِيَ زَوْجُهَا أَوْ فَارَقَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، تُمْنَعُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ الْمُقَامُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ. [مَسْأَلَة طَلَبَ الْأَمَانَ لِيَفْتَحَ الْحِصْنَ] (7489) مَسْأَلَة قَالَ: (وَمَنْ طَلَبَ الْأَمَانَ لِيَفْتَحَ الْحِصْنَ، فَفَعَلَ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا الْمُعْطِي. لَمْ يُقْتَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا حَصَرُوا حِصْنًا، فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ: آمِنُونِي أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ. جَازَ أَنْ يُعْطُوهُ أَمَانًا؛ فَإِنَّ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ لَمَّا حُصِرَ النُّجَيْرُ، قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: أَعْطُونِي الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ، أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ. فَفَعَلُوا. فَإِنْ أَشْكَلَ الَّذِي أَعْطَى الْأَمَانَ، وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، فَإِنْ عُرِفَ صَاحِبُ الْأَمَانِ، عُمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ صِدْقُهُ، وَقَدْ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمُحَرَّمِ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، فَحَرُمَ الْكُلُّ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةِ، أَوْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ، أَوْ اشْتَبَهَ زَانٍ مُحْصَنٌ بِرِجَالٍ مَعْصُومِينَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْرُمُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّ اسْتِرْقَاقَ مَنْ لَا يَحِلُّ اسْتِرْقَاقُهُ مُحَرَّمٌ. وَالثَّانِي، يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَيَخْرُجُ صَاحِبُ الْأَمَانِ بِالْقُرْعَةِ، وَيَسْتَرِقُّ الْبَاقُونَ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَأَشْكَلَ، وَيُخَالِفُ الْقَتْلَ، فَإِنَّهُ إرَاقَةُ دَمٍ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الرِّقِّ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْقَتْلُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ دُونَ الِاسْتِرْقَاقِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ قَبْلَ فَتْحِهِ، أَشْرَفَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَشْكَلَ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الَّذِي أَسْلَمَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ وَيُتْرَكُ لَهُ عُشْرُ قِيمَتِهِ. وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّ فِيهَا وَجْهَيْنِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْل لَقِيَ عِلْجًا فَطَلَب مِنْهُ الْأَمَان] (7490) فَصْل قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ: كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَدُلَّك عَلَى كَذَا. فَبُعِثَ مَعَهُ قَوْمٌ لِيَدُلَّهُمْ، فَامْتَنَعَ مِنْ الدَّلَالَةِ، فَلَهُمْ ضَرْبُ عُنُقِهِ؛ لِأَنَّ أَمَانَهُ بِشَرْطٍ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا لَقِيَ عِلْجًا، فَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَلَا يُؤَمِّنُهُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ شَرُّهُ، وَإِنْ كَانُوا سَرِيَّةً، فَلَهُمْ أَمَانُهُ. يَعْنِي أَنَّ السَّرِيَّةَ لَا يَخَافُونَ مِنْ غَدْرِ الْعِلْجِ قَتْلَهُمْ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَقِيت السَّرِيَّةُ أَعْلَاجًا، فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ جَاءُوا مُسْتَأْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُمْ السِّلَاحَ يَدُلُّ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ. [فَصْل دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ] (7491) وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِدُخُولِهِمْ إلَيْنَا تُجَّارًا بِغَيْرِ أَمَانٍ، لَمْ يُعْرَضْ لَهُمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا رَكِبَ الْقَوْمُ فِي الْبَحْرِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ فِيهِ تُجَّارٌ مُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ يُرِيدُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَعْرِضُوا لَهُمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِتِجَارَةٍ، بُويِعَ، وَلَمْ يُسْأَلْ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ تِجَارَةٌ، فَقَالَ: جِئْت مُسْتَأْمِنًا. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهِ، وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ فِي الْمَرْكَبِ إلَيْنَا، فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى، يَكُونُ فَيْئًا. [مَسْأَلَة دَخَلَ إلَى أَرْضِهِمْ مِنْ الْغُزَاةِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ] (7492) قَالَ: (وَمَنْ دَخَلَ إلَى أَرْضِهِمْ مِنْ الْغُزَاةِ فَارِسًا، فَنَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَمِنْ دَخَلَ رَاجِلًا، فَأُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ وَهُوَ فَارِسٌ، فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَازِ، فَإِنْ أُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ وَهُوَ رَاجِلٌ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَإِنْ أُحْرِزَتْ وَهُوَ فَارِسٌ، فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ، سَوَاءٌ دَخَلَ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا. قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَ يُعْطَى؛ إنْ كَانَ فَارِسًا فَفَارِسٌ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَرَاجِلٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَحْوَهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاعْتِبَارُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ دَخَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ وَإِنْ نَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَإِنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ وَإِنْ اسْتَفَادَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِنَا. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى يَعْرِضُهُمْ إذَا أدربوا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 الْفَارِسُ فَارِسٌ، وَالرَّاجِلُ رَاجِلٌ. لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْحَرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ سَهْمُهُ بِذَهَابِ دَابَّتِهِ، أَوْ حُصُولِ دَابَّةٍ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْفَرَسَ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ، فَاعْتُبِرَ وُجُودُهُ حَالَ الْقِتَالِ، فَيُسْهَمُ لَهُ مَعَ الْوُجُودِ فِيهِ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُ مَعَ الْعَدَمِ، كَالْآدَمِيِّ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ حَالَةَ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ حَالَةٌ تَقْتَضِي الْحَرْبَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَلِأَنَّهَا الْحَالُ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا الِاسْتِيلَاءُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهَا، وَلَا نَدْرِي هَلْ يَظْفَرُ بِهِمْ أَوْ لَا؟ وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَوْ وُجِدَ مَدَدٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ، أَوْ انْفَلَتَ أَسِيرُ فَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ فَقَاتَلُوا، اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْإِحْرَازِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ دُونِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة سَهْم الْفَارِس وَالْفَرَس فِي الْغَنِيمَة] (7493) قَالَ: (وَيُعْطِي ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقْسَمُ لِلْفَارِسِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَحُسَيْنِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَوَامِّ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَرَسِ سَهْمٌ وَاحِدٌ. لِمَا رَوَى مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى سَهْمٍ، كَالْآدَمِيِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ؛ سَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي رُهْمٍ وَأَخِيهِ، أَنَّهُمَا كَانَا فَارِسَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأُعْطِيَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ؛ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِمَا، وَسَهْمَيْنِ لَهُمَا. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَارِسَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا. وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَسْهَمَ هَكَذَا لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ سُهْمَانَ الْخَيْلِ مِمَّا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ، وَسَهْمًا لِلرَّاجِلِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ حَدِيثًا مَا أَشْعَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَمَّ بِانْتِقَاضِ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِانْتِقَاضٍ فَعَاقِبْهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْك. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا، وَأَنَّهُ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ مُجَمِّعٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا، يَعْنِي صَاحِبَهُ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ حَدِيثُ أَبِي رُهْمٍ وَأَخِيهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَؤُلَاءِ أَحْفَظُ وَأَعْلَمُ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو رُهْمٍ وَأَخُوهُ مِمَّنْ شَهِدُوا وَأَخَذُوا السُّهْمَانَ، وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أُعْطُوا ذَلِكَ، فَلَا يُعَارَضُ ذَلِكَ بِخَبَرٍ شَاذٍّ تَعَيَّنَ غَلَطُهُ، أَوْ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، وَقِيَاسُ الْفَرَسِ عَلَى الْآدَمِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا فِي الْحَرْبِ أَكْثَرُ، وَكُلْفَتَهَا أَعْظَمُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَهْمُهَا أَكْثَرَ. [مَسْأَلَة سَهْم الْفَارِس وَسَهْم الْفَرَس الْهَجِين] (7494) قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ هَجِينًا، فَيُعْطَى سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ) الْهَجِينُ: الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ بِرْذَوْنَةٌ. والمقرف: الَّذِي أَبُوهُ بِرْذَوْنٌ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ، قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: وَمَا هِنْدٌ إلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ فَإِنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فبالحري ... وَإِنْ يَكُ أقراف فَمَا أَنْجَبَ الْفَحْلُ وَأَرَادَ الْخِرَقِيُّ بِالْهَجِينِ هَا هُنَا مَا عَدَا الْعَرَبِيَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ الْهَجِينُ الْبِرْذَوْنُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي سُهْمَانِهَا، فَقَالَ الْخَلَّالُ: تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي سِهَامِ الْبِرْذَوْنِ، أَنَّهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْخِرَقِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَرَوَى عَنْهُ ثَلَاثَةٌ مُتَيَقِّظُونَ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ مِثْلُ سَهْمِ الْعَرَبِيِّ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} [النحل: 8] . وَهَذِهِ مِنْ الْخَيْلِ، وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ فَرَسٍ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَرَبِيُّ وَغَيْرُهُ، كَالْآدَمِيِّ. وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَحْمَدَ. - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْبَرَاذِينَ إنْ أَدْرَكَتْ إدْرَاكَ الْعِرَابِ، أُسْهِمَ لَهَا مِثْلُ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَالْجُوزَجَانِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْخَيْلِ، وَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلَ الْعِرَابِ، فَأُعْطِيَتْ سَهْمًا كَالْعَرَبِيِّ. وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً رَابِعَةً أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ، فَأَشْبَهَ الْبِغَالَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيمَا لَا يُقَارِبُ الْعَتَاقَ مِنْهَا؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: إنَّا وَجَدْنَا بِالْعِرَاقِ خَيْلًا عِرَاضًا دُكْنًا، فَمَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُهْمَانِهَا؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: تِلْكَ الْبَرَاذِينُ، فَمَا قَارَبَ الْعَتَاقَ مِنْهَا، فَاجْعَلْ لَهُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَأَلْغِ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَقْمَرِ قَالَ: أَغَارَتْ الْخَيْلُ عَلَى الشَّامِ، فَأَدْرَكَتْ الْعِرَابُ مِنْ يَوْمِهَا، وَأَدْرَكَتْ الْكَوَادِنُ ضُحَى الْغَدِ، وَعَلَى الْخَيْلِ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، يُقَالُ لَهُ: الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حُمَيْضَةَ، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ الَّذِي أَدْرَكَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ. فَفَضَّلَ الْخَيْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: هَبِلَتْ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ، أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَوَى مَكْحُولٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَرَسَ الْعَرَبِيَّ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الْهَجِينَ سَهْمًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ أَيْضًا، وَلِأَنَّ نَفْعَ الْعَرَبِيِّ وَأَثَرَهُ فِي الْحَرْبِ أَفْضَلُ، فَيَكُونُ سَهْمُهُ أَرْجَحَ، كَتَفَاضُلِ مَنْ يُرْضَخُ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مِنْ الْخَيْلِ. قُلْنَا: وَالْخَيْلُ فِي نَفْسِهَا تَتَفَاضَلُ، فَتَتَفَاضَلُ سُهْمَانُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ. قُلْنَا: هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِرْذَوْنٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْلِ الْعَرَبِ، وَلَا بَرَاذِينَ فِيهَا، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الْبَرَاذِينَ بِالْعِرَاقِ، أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهَا، وَأَنَّ عُمَرَ فَرَضَ لَهَا سَهْمًا وَاحِدًا، وَأَمْضَى مَا قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حُمَيْضَةَ فِي تَفْضِيلِ الْعِرَابِ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَهُمَا، لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ، وَلَا خَالَفَهُ، وَلَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَسْكُتْ الصَّحَابَةُ عَنْ إنْكَارِهِ عَلَيْهِ، سِيَّمَا وَابْنُهُ هُوَ رَاوِي الْخَبَرِ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَضَّلَ الْعِرَابَ أَيْضًا، فَلَمْ يَذْكُرْهُ الرَّاوِي، لِغَلَبَةِ الْعِرَابِ، وَقِلَّةِ الْبَرَاذِينِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، خَبَرُ مَكْحُولٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَقِيَاسُهَا عَلَى الْآدَمِيِّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ مِنْهُمْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحَرْبِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْخَيْلِ عَلَى غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة لَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ] (7495) قَالَ: (وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ) . يَعْنِي إذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ خَيْلٌ، أُسْهِمَ لِفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرِ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَمْ يُسْهَمْ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا، كَالزَّائِدِ عَنْ الْفَرَسَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 وَلَنَا، مَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ، وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِلرَّجُلِ فَوْقَ فَرَسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ. وَعَنْ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنْ يُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمٌ، فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمَا كَانَ فَوْقَ الْفَرَسَيْنِ فَهِيَ جَنَائِبُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّ بِهِ إلَى الثَّانِي حَاجَةً، فَإِنَّ إدَامَةَ رُكُوبِ وَاحِدٍ تُضْعِفُهُ، وَتَمْنَعُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَالْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الثَّالِثِ، فَإِنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. [مَسْأَلَة غَزَا عَلَى بَعِيرٍ هَلْ يُسْهَم لَهُ] (7496) قَالَ: (وَمَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ، قُسِمَ لَهُ وَلِبَعِيرِهِ سَهْمَانِ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْبَعِيرِ مَعَ إمْكَانِ الْغَزْوِ عَلَى فَرَسٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْبَعِيرِ سَهْمٌ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، فَيُسْهَمُ لَهُ، كَالْفَرَسِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ تَجْوِيزَ الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ إنَّمَا أُبِيحَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا آلَاتُ الْجِهَادِ، فَأُبِيحَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْمُسَابَقَةِ بِهَا، تَحْرِيضًا عَلَى رِيَاضَتِهَا، وَتَعَلُّمِ الْإِتْقَانِ فِيهَا، وَلَا يُزَادُ عَلَى سَهْمِ الْبِرْذَوْنِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْوَقْعَةَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا هَذِهِ الْإِبِلُ الثَّقِيلَةُ، الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ رَاكِبُهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكِرُّ وَلَا تَفِرُّ، فَرَاكِبُهَا أَدْنَى حَالٍ مِنْ الرَّاجِلِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ. كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِغَيْرِ الْخَيْلِ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَلَمْ تَخْلُ غَزَاةٌ مِنْ غَزَوَاتِهِ مِنْ الْإِبِلِ، بَلْ هِيَ كَانَتْ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهَا، وَلَوْ أَسْهَمَ لَهَا لَنُقِلَ، وَكَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُلَفَائِهِ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ غَزَوَاتِهِمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ، وَلَوْ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. (7497) فَصْلٌ: وَمَا عَدَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، مِنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفِيَلَةِ وَغَيْرِهَا، لَا يُسْهَمُ لَهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ عَظُمَ غَنَاؤُهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 وَقَامَتْ مَقَامَ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسْهِمْ لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهَا، كَالْبَقَرِ. (7498) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْخَيْلَ عِنْدَ دُخُولِ الْحَرْبِ، فَلَا يُدْخِلُ إلَّا شَدِيدًا، وَلَا يُدْخِلُهَا حَطِمًا، وَلَا ضَعِيفًا، وَلَا ضَرِعًا، وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا. فَإِنْ شَهِدَ أَحَدٌ الْوَقْعَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ؛ كَمَا يُسْهَمُ لِلْمَرِيضِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالرَّجُلِ الْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَتَعَيَّنُ مَنْعُ دُخُولِهِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْمُرْجِفِ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِتَالِ، فَإِنْ خَرَجَ بِمَرَضِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، كَالزَّمِنِ وَالْأَشَلِّ وَالْمَفْلُوجِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِمَرَضِهِ عَنْ ذَلِكَ، كَالْمَحْمُومِ، وَمَنْ بِهِ الصُّدَاعُ، فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَيُعِينُ بِرَأْيِهِ، وَتَكْثِيرِهِ، وَدُعَائِهِ. [مَسْأَلَة مَاتَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ] (7499) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي سَهْمِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَازِيَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ مَاتَ حَالَ الْقِتَالِ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَهْمُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ مَاتَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَسَمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إلَّا بِذَلِكَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنْ مَاتَ بَعْدَمَا يُدَرَّبُ قَاصِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ، أُسْهِمَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: إنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أُسْهِمَ لَهُ، سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَلَا سَهْمَ لَهُ. وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ حِيَازَتِهَا، فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ مِلْكِهَا، وَثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهَا، فَقَدْ مَاتَ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فِي حَالٍ لَوْ قُسِمَتْ صَحَّتْ قِسْمَتُهَا، وَكَانَ لَهُ سَهْمُهُ مِنْهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَهُ فِيهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ إحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 [مَسْأَلَة سَهْم الرَّاجِل] (7500) قَالَ: (وَيُعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلرَّاجِلِ سَهْمًا. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا، فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الرَّاجِلَ يَحْتَاجُ إلَى أَقَلَّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَارِسُ، وَغَنَاؤُهُ دُونَ غَنَائِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ دُونَ سَهْمِهِ. (7501) فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ مِنْ فَتْحِ حِصْنٍ، أَوْ مِنْ مَدِينَةٍ، أَوْ مِنْ جَيْشٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَأَلْت الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ إسْهَامِ الْخَيْلِ مِنْ غَنَائِمِ الْحُصُونِ. فَقَالَ: كَانَتْ الْوُلَاةُ مِنْ قَبْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ، لَا يُسْهِمُونَ الْخَيْلَ مِنْ الْحُصُونِ، وَيَجْعَلُونَ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَجَّالَةً، حَتَّى وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِسْهَامِهَا مِنْ فَتْحِ الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ؛ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَهِيَ حُصُونٌ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ رُبَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا، بِأَنْ يَنْزِلَ أَهْلُ الْحِصْنِ، فَيُقَاتِلُوا خَارِجًا مِنْهُ، وَيَلْزَمُ صَاحِبَهُ مُؤْنَةٌ لَهُ، فَيُقْسَمُ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ حِصْنٍ. [مَسْأَلَة وَيُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ مِنْ الْغَنِيمَة] (7502) قَالَ: (وَيُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ، وَلَا تَقْدِيرَ لِمَا يُعْطُونَهُ، بَلْ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَإِنْ رَأَى التَّفْضِيلَ فَضَّلَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ عَبِيدٌ، فَضَرَبَ لَهُمْ سِهَامَهُمْ. وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ، وَفِيهِ مِنْ الْغَنَاءِ مِثْلُ مَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ، كَالْحُرِّ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: لَيْسَ لِلْعَبِيدِ سَهْمٌ وَلَا رَضْخٌ، إلَّا أَنْ يَجِيئُوا بِغَنِيمَةٍ، أَوْ يَكُونَ لَهُمْ غَنَاءٌ، فَيُرْضَخَ لَهُمْ. قَالَ: وَيُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ؛ لِمَا رَوَى جَرِيرُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّهَا حَضَرَتْ فَتْحَ خَيْبَرَ، قَالَتْ: فَأَسْهَمَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ. وَأَسْهَمَ أَبُو مُوسَى فِي غَزْوَةِ تُسْتَرَ لِنِسْوَةٍ مَعَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَسْهَمْنَ النِّسَاءُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ شِبْلِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ لِسَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِسَهْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أُعْطِيت سَهْلَةُ مِثْلَ سَهْمِي» . وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو بِالنِّسَاءِ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا سَهْمٌ، فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ يَحْضُرَانِ الْفَتْحَ، أَلَهُمَا مِنْ الْمَغْنَمِ شَيْءٌ؟ قَالَ يُحْذَيَانِ، وَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَيْسَ لَهُمَا سَهْمٌ، وَقَدْ يُرْضَخُ لَهُمَا. وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدَ، وَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا، كَالصَّبِيِّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ؛ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةٌ، يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْخَوَرُ، فَلَا تَصْلُحُ لِلْقِتَالِ، وَلِهَذَا لَمْ تُقْتَلْ إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً. فَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي إسْهَامِ النِّسَاءِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمَّى الرَّضْخَ سَهْمًا، بِدَلِيلِ أَنَّ فِي حَدِيثِ حَشْرَجٍ، أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا تَمْرًا. وَلَوْ كَانَ سَهْمًا، مَا اخْتَصَّ التَّمْرَ، وَلِأَنَّ خَيْبَرَ قُسِمَتْ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، نَفَرٍ مَعْدُودِينَ فِي غَيْرِ حَدِيثِهَا، وَلَمْ يُذْكَرْنَ مِنْهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُنَّ مِثْلَ سِهَامِ الرِّجَالِ مِنْ التَّمْرِ خَاصَّةً، أَوْ مِنْ الْمَتَاعِ دُونَ الْأَرْضِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلَةَ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا وَلَدَتْ، فَأَعْطَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا وَلِوَلَدِهَا، فَبَلَغَ رَضْخُهُمَا سَهْمَ رَجُلٍ، وَلِذَلِكَ عَجِبَ الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ: أُعْطِيت سَهْلَةُ مِثْلَ سَهْمِي. وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَجِبَ مِنْهُ. (7503) فَصْلٌ: وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمَكَاتِبُ، كَالْقِنِّ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ. فَإِنْ عَتَقَ مِنْهُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ أُسْهِمَ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ إنْ قُتِلَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ، وَأُسْهِمَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَقَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 أَبُو بَكْرٍ: يُرْضَخُ لَهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ، وَيُسْهَمُ لَهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ؛ فَإِذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، أُعْطِيَ نِصْفَ سَهْمٍ، وَرُضِخَ لَهُ نِصْفُ الرَّضْخِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ، يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْمِيرَاثِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقِتَالِ، فَأَشْبَهَ الرَّقِيقَ. (7504) فَصْلٌ: وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ رَجُلٌ يَقْسِمُ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْجِهَادِ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ لَهُ نِصْفُ سَهْمٍ وَنِصْفُ الرَّضْخِ كَالْمِيرَاثِ. فَإِنْ انْكَشَفَ حَالِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَجُلٌ، أُتِمَّ لَهُ سَهْمُ رَجُلٍ، سَوَاءٌ انْكَشَفَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلسَّهْمِ، وَأَنَّهُ أُعْطِيَ دُونَ حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُعْطِيَ بَعْضُ الرِّجَالِ دُونَ حَقِّهِ غَلَطًا. (7505) فَصْلٌ: وَالصَّبِيُّ يُرْضَخُ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، فِي الصَّبِيِّ يَغْزُو بِهِ، لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لَهُ إذَا قَاتَلَ، وَأَطَاقَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَدْ بَلَغَ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ذَكَرٌ مُقَاتِلٌ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَالرَّجُلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ. وَقَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصِّبْيَانِ بِخَيْبَرَ، وَأَسْهَمَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي، قَالَتْ: كُنْت مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَ يُسْهِمُ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، لِمَا فِي بُطُونِهِنَّ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ يُحْذَوْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا حَضَرُوا الْغَزْوَ، فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ تَمِيمَ بْنَ قَرْعٍ الْمَهْدِيَّ، كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ فَتَحُوا الْإِسْكَنْدَرِيَّة، فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، قَالَ: فَلَمْ يَقْسِمْ لِي عَمْرٌو مِنْ الْفَيْءِ شَيْئًا، وَقَالَ: غُلَامٌ لَمْ يَحْتَلِمْ. حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَ قُومِي وَبَيْنَ أُنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ ثَائِرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: فِيكُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْأَلُوهُمْ. فَسَأَلُوا أَبَا نَضْرَةَ الْغِفَارِيَّ، وَعُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، فَقَالَا: اُنْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ، فَاقْسِمُوا لَهُ، فَنَظَرَ إلَيَّ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَإِذَا أَنَا قَدْ أَنْبَتُّ، فَقَسَمَ لِي. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ هَذَا مِنْ مَشَاهِيرِ حَدِيثِ مِصْرَ وَجَيِّدِهِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْعَبْدِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِصَبِيٍّ، بَلْ كَانَ لَا يُجِيزُهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْقِتَالِ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي، وَمَا ذَكَرُوهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمَّى الرَّضْخَ سَهْمًا، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 [فَصْل انْفَرَدَ بِالْغَنِيمَةِ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ] (7506) فَإِنْ انْفَرَدَ بِالْغَنِيمَةِ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ، مِثْلُ عَبِيدٍ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَغَنِمُوا، أَوْ صِبْيَانٍ، أَوْ عَبِيدٍ وَصِبْيَانٍ، أُخِذَ خُمْسُهُ، وَمَا بَقِيَ لَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ؛ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا، فَأَشْبَهُوا الرِّجَالَ الْأَحْرَارَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَلَا تَجِبُ مَعَ الِانْفِرَادِ، قِيَاسًا لِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ حُرٌّ، أُعْطِي سَهْمًا، وَفُضِّلَ عَلَيْهِمْ، بِقَدْرِ مَا يُفَضَّلُ الْأَحْرَارُ عَلَى الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ بَقِيَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّفْضِيلِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. [مَسْأَلَةٌ يُسْهَمُ لِلْكَافِرِ إذَا غَزَا مَعَنَا] (7507) قَالَ: (وَيُسْهَمُ لِلْكَافِرِ، إذَا غَزَا مَعَنَا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْكَافِرِ يَغْزُو مَعَ الْإِمَامِ بِإِذْنِهِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ كَالْمُسْلِمِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الثُّغُورِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِالصَّوَائِفِ وَالْبُعُوثِ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُسْهَمُ لَهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِهَادِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْعَبْدِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ، كَالْعَبْدِ. وَلَنَا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَانَ بِنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ فِي حَرْبِهِ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ، وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، فَأَسْهَمَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ نَقْصٌ فِي الدِّينِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ، كَالْفِسْقِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْعَبْدَ؛ فَإِنَّ نَقْصَهُ فِي دُنْيَاهُ وَأَحْكَامِهِ. وَإِنْ غَزَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الدِّينِ، فَهُوَ كَالْمُرْجِفِ، وَشَرٌّ مِنْهُ. وَإِنْ غَزَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فَغَنِمُوا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَتُهُمْ لَهُمْ، لَا خُمُسَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا اكْتِسَابٌ مُبَاحٌ، لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى وَجْهِ الْجِهَادِ، فَكَانَ لَهُمْ، لَا خُمُسَ فِيهِ، كَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ خُمُسُهُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةُ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ غَنِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ لَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ فِي الْحَرْب] (7508) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 ذَكَرْنَاهُ، وَخَبَرِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِمْ، لَمْ تُجْزِئْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ؛ لِأَنَّنَا إذَا مَنَعْنَا الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ الْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَدْرٍ، حَتَّى إذَا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ، أَدْرَكَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْت لِأَتْبَعْك، وَأُصِيبَ مَعَك. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْطَلِقْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوَةً، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قُومِي، وَلَمْ نُسْلِمْ، فَقُلْنَا: إنَّا لَنَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ. قَالَ: «فَأَسْلَمْتُمَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» . قَالَ: فَأَسْلَمْنَا، وَشَهِدْنَا مَعَهُ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَشْبَهَ الْمُخَذِّلَ وَالْمُرْجِفَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاَلَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِمْ غَيْرُ ثَابِتٍ. [فَصْل لَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا لِلرَّاجِلِ سَهْمَ] (7509) وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ، وَلَا لِلرَّاجِلِ سَهْمَ رَاجِلٍ، كَمَا لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ. وَيَفْعَلُ الْإِمَامُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ مَا يَرَى، فَيُفَضِّلُ الْعَبْدَ الْمُقَاتِلَ وَذَا الْبَأْسِ، عَلَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَيُفَضِّلُ الْمَرْأَةَ الْمُقَاتِلَةَ، وَاَلَّتِي تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَنْفَعُ، عَلَى غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا سَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمْ، كَمَا سَوَّيْتُمْ بَيْنَ أَهْلِ السُّهْمَانِ؟ قُلْنَا: السَّهْمُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَوْكُولٍ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ، كَالْحَدِّ وَدِيَةِ الْحُرِّ، وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، مَرْدُودٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَاخْتَلَفَ، كَالتَّعْزِيرِ، وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. (7510) فَصْلٌ: وَفِي الرَّضْخِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِالْمُعَاوَنَةِ فِي تَحْصِيلِ الْغَنِيمَةِ، فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 النَّقَّالِينَ وَالْحَافِظِينَ لَهَا. وَالثَّانِي، هُوَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ، فَأَشْبَهَ سِهَامَ الْغَانِمِينَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْل أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ] (7511) أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بِالْأَسْلَابِ، فَيَدْفَعُهَا إلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُعَيَّنُ، ثُمَّ بِمُؤْنَةِ الْغَنِيمَةِ؛ مِنْ أُجْرَةِ النَّقَّالِ وَالْحَمَّالِ وَالْحَافِظِ وَالْمُخَزِّنِ، ثُمَّ بِالرَّضْخِ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ بِالْخُمُسِ، ثُمَّ بِالْأَنْفَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَقِيَّةَ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا قِسْمَةَ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ عَلَى قِسْمَةِ الْخُمُسِ، لِسِتَّةِ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ أَهْلَهَا حَاضِرُونَ، وَأَهْلُ الْخُمْسِ غَائِبُونَ. الثَّانِي؛ أَنَّ رُجُوعَ الْغَانِمِينَ إلَى أَوْطَانِهِمْ يَقِفُ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، وَأَهْلُ الْخُمُسِ فِي أَوْطَانِهِمْ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِقَسْمِ نَصِيبِهِمْ لِيَعُودُوا إلَى أَوْطَانِهِمْ أَوْلَى. الثَّالِثُ، أَنَّ الْغَنِيمَةَ حَصَلَتْ بِتَحْصِيلِ الْغَانِمِينَ وَتَعَبِهِمْ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَقَّهَا بِعِوَضٍ، وَأَهْلُ الْخَمْسِ بِخِلَافِهِ، فَكَانَ أَهْلُ الْغَنِيمَةِ أَوْلَى. الرَّابِعُ، أَنَّهُ إذَا قَسَمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، أَخَذَ كُلُّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ، فَحَمَلَهُ، وَاهْتَمَّ بِهِ، وَكَفَى الْإِمَامَ مُؤْنَتَهُ، وَالْخُمُسُ إذَا قُسِمَ لَيْسَ لَهُ مَنْ يَكْفِي الْإِمَامَ مُؤْنَتَهُ، فَلَا تَحْصُلُ الْفَائِدَةُ بِقِسْمَتِهِ، بَلْ كَانَ يَحْمِلُهُ مُجْتَمِعًا، فَصَارَ يَحْمِلُهُ مُتَفَرِّقًا، فَكَانَ تَأْخِيرُ قِسْمَتِهِ أَوْلَى. الْخَامِسُ، أَنَّ الْخُمُسَ لَا يُمْكِنُ قَسْمُهُ بَيْنَ أَهْلِهِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مَعَ غَيْبَتِهِمْ. السَّادِسُ؛ أَنَّ الْغَانِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِسِهَامِهِمْ، وَيَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا لِحُضُورِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْخَمْسِ. [مَسْأَلَة غَزَا الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ] (7512) قَالَ: (وَإِذَا غَزَا الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ، قُسِمَ لِلْفَرَسِ، فَكَانَ لِسَيِّدِهِ، وَيُرْضَخُ لِلْعَبْدِ) . أَمَّا الرَّضْخُ لِلْعَبْدِ، فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرَسُ الَّتِي تَحْتَهُ، فَيَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا سَهْمَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَرَسَانِ أَوْ أَكْثَرُ، أُسْهِمَ لِفَرَسَيْنِ، وَيُرْضَخُ لِلْعَبْدِ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَ مُخَذِّلٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَرَسٌ حَضَرَ الْوَقْعَةَ، وَقُوتِلَ عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ، كَمَا لَوْ كَانَ السَّيِّدُ رَاكِبَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ وَرَضَخَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ وَمَالِكُ فَرَسِهِ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ السَّيِّدُ الْقِتَالَ أَوْ غَابَ عَنْهُ. وَفَارَقَ فَرَسَ الْمُخَذِّلِ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ لَهُ فَإِذًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِحُضُورِهِ، فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِحُضُورِ فَرَسِهِ أَوْلَى. [فَصْل غَزَا الصَّبِيُّ عَلَى فَرَسٍ أَوْ الْمَرْأَةُ أَوْ الْكَافِرُ] (7513) وَإِنْ غَزَا الصَّبِيُّ عَلَى فَرَسٍ، أَوْ الْمَرْأَةُ أَوْ الْكَافِرُ إذَا قُلْنَا: لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الرَّضْخَ. لَمْ يُسْهَمْ لِلْفَرَسِ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ وَلِفَرَسِهِ مَا لَا يَبْلُغُ سَهْمَ الْفَارِسِ. وَلِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بِحُضُورِهِ، فَبِفَرَسِهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْفَرَسَ لِغَيْرِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 [فَصْل غَزَا الْمُرْجِفُ أَوْ الْمُخَذِّلُ عَلَى فَرَسٍ] (7514) وَإِذَا غَزَا الْمُرْجِفُ أَوْ الْمُخَذِّلُ عَلَى فَرَسٍ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا لِلْفَرَسِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ غَزَا الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، لَمْ يُرْضَخْ لَهُ، لِأَنَّهُ عَاصٍ بِغَزْوِهِ، فَهُوَ كَالْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، وَإِنْ غَزَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهِ، اسْتَحَقَّ السَّهْمَ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بِحُضُورِ الصَّفِّ، فَلَا يَبْقَى عَاصِيًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. [فَصْل اسْتَعَارَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ] (7515) وَمَنْ اسْتَعَارَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لِلْمُسْتَعِيرِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْغَزْوِ عَلَيْهِ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهِ، فَأَشْبَهَ وَلَدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا سَهْمَ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمًا، فَلَمْ يَسْتَحِقُّ لِلْفَرَسِ شَيْئًا، كَالْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ فَرَسٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ سَهْمًا، وَهُوَ مَالِكٌ لِنَفْعِهِ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَرَسِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ، وَلِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ مُسْتَحَقٌّ بِمَنْفَعَتِهِ، وَهِيَ لِلْمُسْتَعِيرِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فِيهَا، وَفَارَقَ النَّمَاءَ وَالْوَلَدَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَعَارَهُ لِغَيْرِ الْغَزْوِ، ثُمَّ غَزَا عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْل غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ] (7516) وَإِنْ غَصَبَ فَرَسًا، فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَهْمُ الْفَرَسِ لِلْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ، فَكَانَ الْحَاصِلُ بِهَا لِمُسْتَعْمِلِهَا كُلِّهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْجَلًا فَاحْتَشَّ بِهَا، أَوْ سَيْفًا فَقَاتَلَ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَرَسٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ صَاحِبِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ سَهْمًا كَانَ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَمَا كَانَ لِلْفَرَسِ كَانَ لِمَالِكِهِ، وَفَارَقَ مَا يَحْتَشُّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّهْمَ مُسْتَحَقٌّ بِنَفْعِ الْفَرَسِ، وَنَفْعُهُ لِمَالِكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ لَهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [فَصْل اسْتَأْجَرَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ] (7517) وَمَنْ اسْتَأْجَرَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ، فَغَزَا عَلَيْهِ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِنَفْعِهِ اسْتِحْقَاقًا لَازِمًا، فَكَانَ سَهْمُهُ لَهُ، كَمَالِكِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 (7518) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ لَا شَيْءَ لَهُ كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّلِ، أَوْ مِمَّنْ يُرْضَخُ لَهُ كَالصَّبِيِّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ فَرَسِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ فَرَسِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ يَتْبَعُ الْفَارِسَ فِي حُكْمِهِ، فَيَتْبَعُهُ إذَا كَانَ مَغْصُوبًا، قِيَاسًا عَلَى فَرَسِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ رَاكِبِهِ، وَالنَّقْصَ فِيهِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِهِ، وَبِمَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَفَرَسُهُ تَابِعَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَهَا فَهُوَ لَهُ، وَالْفَرَسُ هَا هُنَا لِغَيْرِهِ، وَسَهْمُهَا لِمَالِكِهَا، فَلَا يَنْقُصُ سَهْمُهَا بِنَقْصِ سَهْمِهِ، كَمَا لَوْ قَاتَلَ الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ. وَلَوْ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ، خُرِّجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إذَا غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ. [فَصْل لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْض الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ] (7519) وَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ، إلَّا أَنْ يُنَفِّلَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ نَفْلًا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَنْفَالِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ. وَلِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْوِيَةِ، فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ، كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ. (7520) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. جَازَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلِي الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي السَّرِيَّةِ تَخْرُجُ، فَيَقُولُ الْوَالِي: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِئْ بِشَيْءٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ: الْأَنْفَالُ إلَى الْإِمَامِ، مَا فَعَلَ مِنْ شَيْءٍ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ ". وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا غَزَوْا، وَرَضُوا بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَقْضِي إلَى اشْتِغَالِهِمْ بِالنَّهْبِ عَنْ الْقِتَالِ، وَظَفَرِ الْعَدُوِّ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الِاغْتِنَامَ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّسَاوِي، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بُقُولِ الْإِمَامِ، كَسَائِرِ الِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ بَدْرٍ، فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] [مَسْأَلَةٌ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ حَضَرَ الْمَوْقِعَةَ] (7521) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا أُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا لِمَنْ جَاءَهُمْ مَدَدًا، أَوْ هَرَبَ مِنْ أَسْرٍ حَظٌّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ حَضَرَ الْمَوْقِعَةَ، فَمَنْ تَجَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدٍ يَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَسْرٍ يَنْفَلِتُ مِنْ الْكُفَّارِ، فَيَلْحَقُ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَافِرٍ يُسْلِمُ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَدَدِ: إنْ لَحِقَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، شَارَكَهُمْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ مِلْكِهَا بِتَمَامِ الِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ الْإِحْرَازُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قِسْمَتُهَا، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ مِلْكِهَا، فَاسْتَحَلَّ مِنْهَا، كَمَا لَوْ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ الْعَسْكَرِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى سَعْدٍ، أَسْهِمْ لِمَنْ أَتَاك قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّأَ قَتْلَى فَارِسَ، وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَصْحَابَهُ، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا، فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْلِسْ يَا أَبَانُ. وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ، فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ عُمَرُ: إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَةَ، وَلِأَنَّهُ مَدَدٌ لَحِقَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَاءَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 مِلْكِهَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا، وَقَدْ حَصَلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْمَدَدِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مِلْكَهَا بِإِحْرَازِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْجَيْشُ قَبْلَ الْمَدَدِ، وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلٌ يَرْوِيه الْمُجَالِدُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ، ثُمَّ هُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا نَحْنُ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ مِنَّا عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ؟ (7522) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْأَسِيرِ يَهْرَبُ إلَى الْمُسْلِمِينَ حُكْمُ الْمَدَدِ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِلْقِتَالِ بِخِلَافِ الْمَدَدِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ إذَا قَاتَلَ اسْتَحَقَّ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، كَالْمَدَدِ، وَسَائِرِ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ. (7523) فَصْلٌ: وَإِنْ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ، وَقَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ، أَوْ جَاءَهُمْ أَسِيرٌ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ قَبْلَ إحْرَازِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تُمْلَكُ الْغَنِيمَةُ بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ قَبْلَ حِيَازَتِهَا. فَعَلَى هَذَا لَا يُسْهَمُ لَهُمْ. وَإِنْ حَازُوا الْغَنِيمَةَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَأَدْرَكَهُمْ الْمَدَدُ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمَدَدِ. فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً، فَلَحِقَهُمْ الْعَدُوُّ وَجَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَدَدٌ، فَقَاتَلُوا الْعَدُوَّ مَعَهُمْ حَتَّى سَلَّمُوا الْغَنِيمَةَ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَاتَلُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا عَنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ قَدْ صَارَتْ فِي أَيْدِيهمْ وَحَوَوْهَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ أَهْلَ الْمِصِّيصَةِ غَنِمُوا ثُمَّ اسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ الْعَدُوُّ، فَجَاءَ أَهْلُ طَرَسُوسَ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى اسْتَنْقَذُوهُ؟ فَقَالَ: أَحَبُّ إلَى أَنْ يَصْطَلِحُوا،. أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ أَحْرَزُوا الْغَنِيمَةَ وَمَلَكُوهَا بِحِيَازَتِهِمْ، فَكَانَتْ لَهُمْ دُونَ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ. أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّمَا حَصَلَتْ الْغَنِيمَةُ بِقِتَالِ الَّذِينَ اسْتَنْقَذُوهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا، لِأَنَّ الْإِحْرَازَ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ بِأَخْذِ الْكُفَّارِ لَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ مَلَكُوهَا بِالْحِيَازَةِ الْأَوْلَى، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ بِأَخْذِ الْكُفَّارِ لَهَا مِنْهُمْ، فَلِهَذَا أَحَبَّ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْهَا. [مَسْأَلَة بَعَثَهُ الْأَمِيرُ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَلَمْ يَحْضُرْ الْغَنِيمَةَ] (7524) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ بَعَثَهُ الْأَمِيرُ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، فَلَمْ يَحْضُرْ الْغَنِيمَةَ أَسْهَمَ لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 هَذَا مِثْلُ الرَّسُولِ وَالدَّلِيلِ وَالطَّلِيعَةِ وَالْجَاسُوسِ وَأَشْبَاهِهِمْ، يُبْعَثُونَ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْجَيْشَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ، قَالُوا: وَقَدْ تَخَلَّفَ عُثْمَانُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَجْرَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمًا مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: «إنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَإِنِّي أُبَايِعُ لَهُ. فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمِهِ، وَلَمْ يَضْرِبْ لِأَحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: إنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لَك أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَنَّهُ فِي مَصْلَحَتِهِمْ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمًا مِنْ غَنِيمَتِهِمْ، كَالسَّرِيَّةِ مَعَ الْجَيْشِ، وَالْجَيْشِ مَعَ السَّرِيَّةِ. [فَصْل قَوْمٍ خَلَّفَهُمْ الْأَمِيرُ فِي بِلَاد الْعَدُوِّ وَغَزَا وَغَنِمَ وَلَمْ يَمُرّ بِهِمْ] (7525) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْمٍ خَلَّفَهُمْ الْأَمِيرُ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَغَزَا، وَغَنِمَ، وَلَمْ يَمُرَّ بِهِمْ، فَرَجَعُوا، هَلْ يُسْهِمُ لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ يُسْهِمُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ خَلَّفَهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ نَادَى الْأَمِيرُ: مَنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلْيَتَخَلَّفْ. فَتَخَلَّفَ قَوْمٌ فَصَارُوا إلَى لُؤْلُؤَةٍ، وَفِيهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَقَامُوا حَتَّى فَصَلُوا، فَقَالَ: إذَا كَانُوا قَدْ الْتَجَئُوا إلَى مَأْمَنٍ لَهُمْ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَلَوْ تَخَلَّفُوا وَأَقَامُوا فِي مَوْضِعِ خَوْفٍ أَسْهَمَ لَهُمْ. وَقَالَ فِي قَوْمٍ خَلَّفَهُمْ الْأَمِيرُ، وَأَغَارَ فِي جِلْدِ الْخَيْلِ، فَقَالَ: إنْ أَقَامُوا فِي بَلَدِ الْعَدُوِّ حَتَّى رَجَعَ، أَسْهَمَ لَهُمْ، وَإِنْ رَجَعُوا حَتَّى صَارُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اعْتَلَّ رَجُلٌ، أَوْ اعْتَلَّتْ دَابَّتُهُ وَقَدْ أدرب، فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: أَقِمْ أُسْهِمْ لَك، أَوْ انْصَرِفْ إلَى أَهْلِك أُسْهِمْ لَك. فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: هَذَا يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِهِ، فَكَيْفَ يُسْهِمُ لَهُ،. [فَصْلٌ قَسْم الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7526) فَصْلٌ: يَجُوزُ قَسْمُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تَنْقَسِمُ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ قُسِمَتْ أَسَاءَ قَاسِمُهَا، وَجَازَتْ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، فَإِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ فِيهَا بِمَا يُوَافِقُ قَوْلَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، نَفَذَ حُكْمُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ. قَالَ: قُلْت لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتْبَعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 وَلَمْ يَقْفِلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غَنِيمَةً إلَّا خَمَسَهُ وَقَسَمَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْفِلَ، مِنْ ذَلِكَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ. وَلِأَنَّ كُلَّ دَارٍ صَحَّتْ الْقِسْمَةُ فِيهَا جَازَتْ، كَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ، فَصَحَّتْ قِسْمَتُهَا، كَمَا لَوْ أُحْرِزَتْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ، وَقَدْ وَجَدَ، فَإِنَّنَا أَثْبَتَنَا أَيْدِيَنَا عَلَيْهَا حَقِيقَةً، وَقَهَرْنَاهُمْ، وَنَفَيْنَاهُمْ عَنْهَا، وَالِاسْتِيلَاءُ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْتَوْلِي، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ، كَمَا فِي الْمُبَاحَاتِ. الثَّانِي، أَنَّ مُلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَالَ عَنْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُمْ فِي الْعَبِيدِ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، إذْ لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُبَاحَةً، عَلِمَ أَنَّ مِلْكَهُمْ زَالَ إلَى الْغَانِمِينَ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ، وَلَحِقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، صَارَ حُرًّا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْكَافِرِ، وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لِمَنْ قَهَرَهُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ. [مَسْأَلَةٌ التَّفْرِيقُ بَيْن الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي قِسْمَة الْغَنَائِم] (7527) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا سُبُوا، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، وَلَا بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا الطِّفْلِ غَيْرُ جَائِزٍ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثِ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» . قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا وَإِنْ رَضِيَتْ. وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْضَى بِمَا فِيهِ ضَرَرُهَا، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ قَلْبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَنْدَمُ. لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَأَشْبَهَ الْأُمَّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 بَيْنَ كَوْنِ الْوَلَدِ كَبِيرًا بَالِغًا أَوْ طِفْلًا. وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْوَالِدَةَ تَتَضَرَّرُ بِمُفَارَقَةِ وَلَدِهَا الْكَبِيرِ، وَلِهَذَا حَرُمَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِدُونِ إذْنِهِمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَخْتَصُّ تَحْرِيمُ التَّفْرِيقِ بِالصَّغِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَتَى بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَهَا لَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَتْ إلَيْهِ مَارِيَةُ وَأُخْتُهَا سِيرِينُ، فَأَمْسَكَ مَارِيَةَ، وَوَهَبَ سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَلِأَنَّ الْأَحْرَارَ يَتَفَرَّقُونَ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوَّجُ ابْنَتُهَا، فَالْعَبِيدُ أَوْلَى. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَخَصَّصُ عُمُومُ حَدِيثِ النَّهْيِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكِبَرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ التَّفْرِيقُ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إذَا بَلَغَ الْوَلَدُ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَثْغَرَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ: إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أُمِّهِ، وَنَفَعَ نَفْسَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إذَا صَارَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا كَانَ يَلْبَسُ وَحْدَهُ، وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَغْنِي عَنْ أُمِّهِ، وَكَذَلِكَ خُيِّرَ الْغُلَامُ بَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ إذَا صَارَ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِتَخْيِيرِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ وَقِسْمَتُهُ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا. فَقِيلَ: إلَى مَتَى؟ قَالَ: حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ، وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» وَلِأَنَّ مَا دُونَ الْبُلُوغِ مُوَلَّى عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ. (7528) فَصْلٌ: وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْبَيْعَ. وَالْأَصْلُ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُ لِمَا يَلْحَقُ الْمَبِيعَ مِنْ الضَّرَرِ، فَهُوَ لِمَعْنًى فِيهِ. [مَسْأَلَة وَالْجَدُّ وَالْجَدَّة وَالْأَب سَوَاء فِي تَقْسِيم الْغَنَائِم] (7529) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْجَدُّ فِي ذَلِكَ كَالْأَبِ، وَالْجَدَّةُ فِيهِ كَالْأُمِّ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ، فِي تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَلَدِ وَلَدِهِمَا، كَالْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَالْجَدَّةَ أُمٌّ، وَلِذَلِكَ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ، فَقَامَا مَقَامَهُمَا فِي تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ لِلْجَمِيعِ وِلَادَةً وَمَحْرَمِيَّةً، فَاسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ، كَاسْتِوَائِهِمْ فِي مَنْعِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. [مَسْأَلَةٌ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ فِي تَقْسِيم الْغَنَائِم] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَخَوَيْنِ، وَلَا أُخْتَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ، وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةٌ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَحْرُمْ التَّفْرِيقُ، كَقَرَابَةِ ابْنِ الْعَمِّ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْت أَحَدَهُمَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا فَعَلَ غُلَامُك؟ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: رُدَّهُ، رُدَّهُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَلَا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فِي الْبَيْعِ. لِأَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. [فَصْلٌ التَّفْرِيقُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ فِي تَقْسِيم الْغَنَائِم] (7531) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا، وَالْخَالَةِ مَعَ ابْنِ أُخْتِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِيَاسِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الْبَيْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ، وَلِذَلِكَ يَحْجُبُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ الْمِيرَاثِ، فَيَبْقَى فِي مَنْ عَدَاهُمْ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ. فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مَحْرَمٌ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ؛ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِمْ، وَامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَوَلَدِهَا وَالْأُخْتِ وَأُخْتِهَا؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ قَرَابَةَ الرَّضَاعِ لَا تُوجِبُ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا نَفَقَةً، وَلَا مِيرَاثًا، فَلَمْ تَمْنَعْ التَّفْرِيقَ، كَالصَّدَاقَةِ. (7532) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَغْنَمِ مَنْ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ قَدْرُهُمْ حِصَّةَ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ، دُفِعُوا إلَى وَاحِدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ فَضْلٌ، فَرَضِيَ بِرَدِّ قِيمَةِ الْفَضْلِ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، بِيعُوا جُمْلَةً، وَقُسِمَ ثَمَنُهُمْ، أَوْ يَجْعَلُوا فِي الْخُمُسِ. وَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْعِتْقِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا تَفْرِقَةَ فِيهِ فِي الْمَكَانِ، وَالْفِدَاءُ تَخْلِيصٌ، فَهُوَ كَالْعِتْقِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى مِنْ الْمَغْنَمِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَحَسِبُوا عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ] (7533) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ، رَدَّ إلَى الْمُقَسِّمِ الْفَضْلَ الَّذِي فِيهِ بِالتَّفْرِيقِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمَغْنَمِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرِ، وَحَسِبُوا عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَقَارِبُ، يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ، فَبَانَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْفَضْلِ الَّذِي فِيهِمْ عَلَى الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُمْ تَزِيدُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اشْتَرَى اثْنَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ، وَلَا بَيْعُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، فَكَانَتْ قِيمَتُهُمَا قَلِيلَةً لِذَلِكَ، فَإِنْ بَانَ أَنَّ إحْدَاهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الْأُخْرَى، أُبِيحَ لَهُ وَطْؤُهُمَا، وَبَيْعُ إحْدَاهُمَا، فَتَكْثُرُ قِيمَتُهُمَا، فَيَجِبُ رَدُّ الْفَضْلِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا فَوَجَدَ مَعَهُمَا حُلِيًّا أَوْ ذَهَبًا فَتُكْثِرُ قِيمَتهمَا، وَكَمَا لَوْ أَخَذَ دَرَاهِمَ، فَبَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا حُسِبَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة سُبِيَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ سُبِيَ مِنْ أَطْفَالِهِمْ مُنْفَرِدًا، أَوْ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَمَنْ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ عَلَى دِينِهِمَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا سُبِيَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ، صَارَ رَقِيقًا، وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يُسْبَى مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ، فَهَذَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الدِّينَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ تَبَعًا، وَقَدْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ، لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُمَا، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ دَارِهِمَا، وَمَصِيرِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِسَابِيهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي دِينِهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يُسْبَى مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَكُونُ تَابِعًا لِأَبِيهِ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، كَمَا لَوْ سُبِيَ مَعَهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ سُبِيَ مَعَ أَبِيهِ يَتْبَعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الدِّينِ، كَمَا يَتْبَعُهُ فِي النَّسَبِ، وَإِنْ سُبِيَ مَعَ أُمِّهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُهَا فِي النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ فِي الدِّينِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» . فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى عُلِّقَ بِشَيْئَيْنِ، لَا يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ يَتْبَعُ سَابِيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 مُنْفَرِدًا، فَيَتْبَعُهُ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ غُلِّبَ حُكْمُ إسْلَامِهِ مُنْفَرِدًا غُلِّبَ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، كَالْمُسْلِمِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. الثَّالِثُ، أَنْ يُسْبَى مَعَ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى دِينِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ السَّابِيَ أَحَقُّ بِهِ، لِكَوْنِهِ مَلَكَهُ بِالسَّبْيِ، وَزَالَتْ وِلَايَةُ أَبَوَيْهِ عَنْهُ، وَانْقَطَعَ مِيرَاثُهُمَا مِنْهُ وَمِيرَاثُهُ مِنْهُمَا، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمَا. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ.» وَهُمَا مَعَهُ، وَمِلْكُ السَّابِي لَهُ لَا يَمْنَعُ اتِّبَاعَهُ لِأَبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ الْكَافِرَيْنِ. [فَصْلٌ سُبِيَ الْمُتَزَوِّجُ مِنْ الْكُفَّارِ] (7535) فَصْلٌ: وَإِذَا سُبِيَ الْمُتَزَوِّجُ مِنْ الْكُفَّارِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مَعًا، فَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَالْمُحْصَنَاتُ الْمُزَوَّجَاتُ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] بِالسَّبْيِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إلَّا ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمَسْبِيَّاتِ. وَلِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَحِلِّ حَقِّ الْكَافِرِ، فَزَالَ مِلْكُهُ، كَمَا لَوْ سَبَاهَا وَحْدَهَا. وَلَنَا، أَنَّ الرِّقَّ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتِدَامَتَهُ، كَالْعِتْقِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَكَانُوا أَخَذُوا النِّسَاءَ دُونَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَعُمُومُ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْمَمْلُوكَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُخَصُّ مِنْهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ تُسْبَى الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، بِلَا خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ، وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا سُبِيت الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا، ثُمَّ سُبِيَ زَوْجُهَا بَعْدَهَا بِيَوْمٍ، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ. وَلَنَا، أَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلْفَسْخِ وُجِدَ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ سُبِيَ بَعْدَ شَهْرٍ. الْحَالُ الثَّالِثُ، سُبِيَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ، فَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِيه، وَقَدْ سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعِينَ مِنْ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَنَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَفَادَى بَعْضًا، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِفَسْخِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 أَنْكِحَتِهِمْ. وَلِأَنَّنَا إذَا لَمْ نَحْكُمْ بِفَسْخِ النِّكَاحِ فِيمَا إذَا سُبِيَا مَعًا، مَعَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَحَلِّ حَقِّهِ، فَلَأَنْ لَا يَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِيلَاءِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ افْتَرَقَتْ بِهِمَا الدَّارُ، وَطَرَأَ الْمِلْكُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ سُبِيَ وَاسْتَرَقَّ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وَإِنْ مُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَوُدِّي، لَمْ يَنْفَسِخْ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ السَّبْيَ لَمْ يُزِلْ مِلْكَهُ عَنْ مَالِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَمْ يُزِلْهُ عَنْ زَوْجَتِهِ، كَمَا لَمْ يُزِلْهُ عَنْ أَمَتِهِ. (7536) فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا فِي سَبْيِ الزَّوْجَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَسْبِيَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ رَجُلَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا إذَا كَانَا مَعَ رَجُلَيْنِ، كَانَ مَالِكٌ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدًا بِهَا، وَلَا زَوْجَ مَعَهُ لَهَا، فَتَحِلُّ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا سُبِيَا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ فِي الْمُقَاسِمِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ، فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ، أَوْ يُقِرُّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ. وَلَنَا، أَنَّ تَجَدُّدَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَيْنِ لِرَجُلٍ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7537) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حُقِنَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مِنْ السَّبْيِ. وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَرَقِيقِهِ وَمَتَاعِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ، تُرِكَ لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، جَازَ سَبْيُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إسْلَامُهُمْ بِإِسْلَامِهِ، لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا إذَا سُبِيَ الطِّفْلُ وَأَبَوَاهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ، لَمْ يَتْبَعُهَا، وَيَتْبَعُ سَابِيه فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ فَهُوَ فَيْءٌ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ إذَا كَانَتْ كَافِرَةً، وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّ أَوْلَادَهُ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ، فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِذَلِكَ يُفَارِقُ مَالَ الْحَرْبِيِّ وَأَوْلَادَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُ؛ فَإِنَّنَا نَجْعَلُهُ تَبَعًا لِلسَّابِي؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ بَقَاءَ أَبَوَيْهِ، فَأَمَّا أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 فَلَا يَعْصِمُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْبَعُونَهُ، وَلَا يَعْصِمُ زَوْجَتَهُ لِذَلِكَ، فَإِنْ سُبِيَتْ صَارَتْ رَقِيقًا، وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ بِرِقِّهَا، وَلَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهَا فِي النِّكَاحِ وَفَسْخِهِ حُكْمَ مَا لَوْ لَمْ تُسْبَ، عَلَى مَا مَرَّ فِي نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُ الْحَمْلِ، وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْكَمُ بِرِقِّهِ مَعَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ مَا سَرَى إلَيْهِ الْعِتْقُ سَرَى إلَيْهِ الرِّقُّ، كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ وَإِسْلَامِهِ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ، كَالْمُنْفَصِلِ، وَيُخَالِفُ الْأَعْضَاءَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ عَنْ الْأَصْلِ. (7538) فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُ مَالٌ وَعَقَارٌ، أَوْ دَخَلَ إلَيْهَا مُسْلِمٌ فَابْتَاعَ عَقَارًا أَوْ مَالًا، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَالِهِ وَعَقَارِهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ، وَكَانَ لَهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَغْنَمُ الْعَقَارُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ مُسْلِمٍ، لَمْ يُغْنَمْ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَجَازَ اغْتِنَامُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ لِحَرْبِيٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَاتِبَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ أَرْضًا مِنْ حَرْبِيٍّ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ] (7539) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ أَرْضًا مِنْ حَرْبِيٍّ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَمَنَافِعُهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجَزْتُمْ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرَةِ الْحَرْبِيَّةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا قَدْ أَسْلَمَ، وَفِي اسْتِرْقَاقِهَا إبْطَالُ حَقِّ زَوْجِهَا؟ قُلْنَا: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، وَلَا أَمَانَ لَهَا، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ النِّكَاحِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، بِخِلَافِ حَقِّ الْإِجَارَةِ. [فَصْل أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ أَوْ أَمَتُهُ وَخَرَجَ إلَيْنَا] (7540) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ أَوْ أَمَتُهُ، وَخَرَجَ إلَيْنَا، فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ أَسَرَ سَيِّدَهُ وَأَوْلَادَهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَخَرَجَ إلَيْنَا، فَهُوَ حُرٌّ، وَالْمَالُ لَهُ، وَالسَّبْيُ رَقِيقُهُ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَأَقَامَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ عَلَى رِقِّهِ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الْحَرْبِيِّ، وَخَرَجَتْ إلَيْنَا، عَتَقَتْ، وَاسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ بِهِ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ: تُزَوَّجُ إنْ شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ، لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ عَتَقَتْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ الْحَجَّاجِ، عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إذَا جَاءُوا قَبْلَ مَوَالِيهمْ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَعْشَمِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ قَضِيَّتَيْنِ؛ قَضَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ سَيِّدِهِ أَنَّهُ حُرٌّ، فَإِنْ خَرَجَ سَيِّدُهُ بَعْدُ، لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، وَقَضَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا خَرَجَ قَبْلَ الْعَبْدِ ثُمَّ خَرَجَ الْعَبْدُ، رُدَّ عَلَى سَيِّدِهِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ أَيْضًا، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ، وَكَانَ عَبْدًا لَنَا، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا، فَأَسْلَمَ، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْنَا، «وَقَالَ: هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، ثُمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ» . فَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْنَا. [مَسْأَلَةٌ أَخَذَ الْكُفَّار أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَهَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ] (7541) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَا أَخَذَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعَبِيدِهِمْ، فَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ قَسْمِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) . وَإِنْ أَدْرَكَهُ مَقْسُومًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، إذَا قُسِمَ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِحَالٍ يَعْنِي إذَا أَخَذَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَهَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ، فَإِنْ عُلِمَ صَاحِبُهَا قَبْلَ قَسْمِهَا، رُدَّتْ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُرَدُّ إلَيْهِ، وَهُوَ لِلْجَيْشِ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوهُ بِاسْتِيلَائِهِمْ، فَصَارَ غَنِيمَةً، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَبَقَ إلَى الْعَدُوِّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُقْسَمْ. وَعَنْهُ، قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ، فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ حَيْوَةَ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِيمَا أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ بَعْدُ. قَالَ: مَنْ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ يُقْسَمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. فَأَمَّا مَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ قُسِمَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ صَاحِبَهُ أَحَقُّ بِهِ، بِالثَّمَنِ الَّذِي حَسِبَ بِهِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ بِيعَ ثُمَّ قُسِمَ ثَمَنُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا لَهُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنْ أَصَبْته قَبْلَ أَنْ نَقْسِمَهُ، فَهُوَ لَك، وَإِنْ أَصَبْته بَعْدَمَا قُسِمَ، أَخَذْته بِالْقِيمَةِ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ أَخْذُهُ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى حِرْمَانِ أَخْذِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، أَوْ يَضِيعَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَحَقُّهُمَا يَنْجَبِرُ بِالثَّمَنِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَالِ فِي عَيْنِ مَالِهِ، بِمَنْزِلَةِ مُشْتَرِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ. إلَّا أَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ. وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا قُسِمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِحَالٍ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَاللَّيْثِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ أَحَقُّ بِالْقِيمَةِ. فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَيُعْطَى مُشْتَرِيه ثَمَنَهُ مِنْ خُمُسِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، كَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَيُعْطِي مَنْ حُسِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى حِرْمَانِ آخِذِهِ حَقَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَجُعِلَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى السَّائِبِ: أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَ رَقِيقَهُ وَمَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي أَيْدِي التُّجَّارِ بَعْدَمَا اُقْتُسِمَ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ: إذَا قُسِمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا قَالَ النَّاسُ فِيهَا قَوْلَيْنِ؛ إذَا قُسِمَ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إذَا قُسِمَ فَهُوَ لَهُ بِالثَّمَنِ. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَمَتَى مَا انْقَسَمَ أَهْلُ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ قُسِمَ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ.» وَالْمَعْمُولُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَزُلْ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. غَيْرُ مُسَلَّمٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 (7542) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ بِهِبَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لَوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُسِمَ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، أَنَّ قَوْمًا أَغَارُوا عَلَى سَرْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذُوا نَاقَتَهُ، وَجَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَقَامَتْ عِنْدَهُمْ أَيَّامًا، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، قَالَتْ: فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةٍ إلَّا رَغَتْ، حَتَّى وَضَعْتهَا عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ، فَامْتَطَيْتهَا، ثُمَّ تَوَجَّهْت إلَى الْمَدِينَةِ، وَنَذَرْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا، فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ، اسْتَعْرَفْت النَّاقَةَ، فَإِذَا هِيَ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَهَا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَهَا. فَقَالَ: «بِئْسَمَا جَازَيْتِهَا، لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ بِعِوَضٍ، فَكَانَ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ قَسْمِهِ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَخْذُهُ إلَّا بِثَمَنِهِ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَرِيزٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَغَارَ أَهْلُ مَاهَ وَأَهْلُ جَلُولَاءَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْ سَبَايَا الْعَرَبِ، وَرَقِيقًا، وَمَتَاعًا، ثُمَّ إنَّ السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ عَامِلَ عُمَرَ غَزَاهُمْ، فَفَتَحَ مَاهَ، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ فِي سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ وَرَقِيقِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، قَدْ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ مَاهَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَخُونُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَ رَقِيقَهُ وَمَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي أَيْدِي التُّجَّارِ بَعْدَمَا اُقْتُسِمَ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَيُّمَا حُرٍّ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ الْحُرَّ لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ بِهِبَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شِرَاءٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، هَلْ يَكُونُ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِمَالِ الْمُسْلِمِ قَبْلَ قَسْمِهِ، فَقَسَمَهُ، وَجَبَ رَدُّهُ، وَكَانَ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنْ أَصْلِهَا. [فَصْلٌ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهُ] (7543) فَصْلٌ: وَإِنْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهُ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَرَاكِبَ تَجِيءُ مِنْ مِصْرَ، يَقْطَعُ عَلَيْهَا الرُّومُ فَيَأْخُذُونَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ: إنْ عُرِفَ صَاحِبُهَا فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهَا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، قَالَا فِي الْمُصْحَفِ يَحْصُلُ فِي الْغَنَائِمِ: يُبَاعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ. وَإِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 وُجِدَ شَيْءٌ مَوْسُومٌ عَلَيْهِ: حُبِسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، رُدَّ كَمَا كَانَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُقْسَمُ مَا لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا قَدْ عُرِفَ مَصْرِفُهُ وَهُوَ الْحَبْسُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ مَا لَوْ عُرِفَ صَاحِبُهُ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَالْجَوَامِيسُ تُدْرَكُ وَقَدْ سَاقَهَا الْعَدُوُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رُدَّتْ، يُؤْكَلُ مِنْهَا؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ لِمَنْ هِيَ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهَا. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَمَا حَازَ الْعَدُوُّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ، أَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقِفُوهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صَاحِبُهُ؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ فَقِيلَ: هُوَ لِفُلَانٍ. وَكَانَ صَاحِبُهُ بِالْقُرْبِ. قِيلَ لَهُ: أُصِيبَ غُلَامٌ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَقَالَ: أَنَا لِفُلَانٍ؛ رَجُلٍ؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ الرَّجُلُ، لَمْ يُقْسَمْ مَالُهُ، وَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ. قِيلَ لَهُ: أَصَبْنَا مَرْكَبًا فِي بِلَادِ الرُّومِ، فِيهَا النَّوَاتِيَّةُ، قَالُوا: هَذَا لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِفُلَانٍ. قَالَ: هَذَا قَدْ عُرِفَ صَاحِبُهُ، لَا يُقْسَمُ. [فَصْل يَمْلِكُ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ] (7544) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: يَمْلِكُ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَمْلِكُونَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، حَيْثُ قَالَ: إنْ أَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَخْذَهُ بَعْدَ قَسْمِهِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَمَتَى صَادَفَ الْحُكْمُ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، نَفَذَ حُكْمُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُونَهَا بِحَدِيثِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ، طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يُمْلَكْ بِهَا، كَالْغَصْبِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ غَيْرِهِ بِالْقَهْرِ، لَمْ يَمْلِكْ مَالَهُ بِهِ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْلِمِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ، كَالْبَيْعِ. فَأَمَّا النَّاقَةُ، فَإِنَّمَا أَخَذَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَدْرَكَهَا غَيْرَ مَقْسُومَةٍ وَلَا مُشْتَرَاةٍ. فَعَلَى هَذَا، يَمْلِكُونَهَا قَبْلَ حِيَازَتِهَا إلَى دَارِ الْكُفْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ إنَّمَا يَمْلِكُونَهَا بِالْحِيَازَةِ إلَى دَارِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ، فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، أَثْبَتَهُ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ، أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِلْكُفَّارِ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرُوا عَلَيْهَا قِسْمَتَهَا، وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا، مَا لَمْ يَعْلَمُوا صَاحِبَهَا، وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ الْمِلْكَ، اقْتَضَى مَذْهَبُهُ عَكْسَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 [فَصْلٌ الْكَافِر الْحَرْبِيّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ] (7545) فَصْلٌ: وَلَا أَعْلَمَ خِلَافًا فِي أَنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ، إذَا أَسْلَمَ، أَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، بَعْدَ أَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَأَتْلَفَهُ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ لَهُ» . وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شِرَاءٍ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِهِ لِلْمُسْلِمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ صَاحِبَهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَى جَارِيَةِ مُسْلِمٍ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَهِيَ لَهُ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَمْوَالِ. وَإِنْ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَوْلَادَهَا قَبْلَ إسْلَامِ سَابِيهَا، فَعُلِمَ صَاحِبُهَا، رُدَّتْ إلَيْهِ، وَكَانَ أَوْلَادُهَا غَنِيمَةً؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ كَافِرٍ حَدَثُوا بَعْدَ مِلْكِ الْكَافِرِ لَهَا. [فَصْلٌ أَبَقَ عَبْدُ الْمُسْلِمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ] (7546) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَى حُرٍّ، لَمْ يَمْلِكُوهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدٌ بِحَالٍ، وَكُلُّ مَا يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ يَمْلِكُونَهُ بِالْقَهْرِ، كَالْعُرُوضِ، وَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمَكَاتِبِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُونَ الْمَكَاتِبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِمَا، فَهُمَا كَالْحُرِّ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ بِالْقِيمَةِ، فَيَمْلِكُونَهُمَا، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكُوا الْمَكَاتِبَ دُونَ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا لِغَيْرِ سَيِّدِهَا. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ؛ أَنَّ مَنْ قَالَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا، قَالَ: مَتَى قُسِمَا، أَوْ اشْتَرَاهُمَا إنْسَانٌ، لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِمَا أَخْذُهُمَا إلَّا بِالثَّمَنِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ، فِي أُمِّ الْوَلَدِ: يَأْخُذُهَا سَيِّدُهَا بِقِيمَةِ عَدْلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْدِيهَا الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، يَأْخُذُهَا سَيِّدُهَا بِقِيمَةِ عَدْلٍ، وَلَا يَدَعُهَا يَسْتَحِلُّ فَرْجَهَا مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِمَا. رُدَّا إلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَالْحُرِّ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمَا إنْسَانٌ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَالْحُكْمِ فِي الْحُرِّ إذَا اشْتَرَاهُ. (7547) فَصْلٌ: إذَا أَبَقَ عَبْدُ الْمُسْلِمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوهُ، مَلَكُوهُ كَالْمَالِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُونَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، زَالَتْ يَدُ مَوْلَاهُ عَنْهُ، وَصَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُمْلَكْ، كَالْحُرِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ، فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مَلَكُوهُ، كَالْبَهِيمَةِ. [مَسْأَلَة أَخَذَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ] (7548) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ مِنْ مَوَاتِهِمْ حَجَرًا، أَوْ عُودًا، أَوْ صَادَ حُوتًا أَوْ ظَبْيًا، رَدَّهُ عَلَى سَائِرِ الْجَيْشِ، إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَكْلِهِ، وَالْمَنْفَعَةِ بِهِ) يَعْنِي إذَا أَخَذَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَالْمُسْلِمُونَ شُرَكَاؤُهُ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفَرِدُ آخِذُهُ بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكَهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، مَلَكَهُ، كَالشَّيْءِ التَّافِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ ذُو قِيمَةٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ بِظَهْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ غَنِيمَةً، كَالْمَطْعُومَاتِ، وَفَارَقَ مَا أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَيْشِ فِي أَخْذِهِ. فَأَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَى أَكْلِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ طَعَامًا مَمْلُوكًا لِلْكُفَّارِ، كَانَ لَهُ أَكْلُهُ إذَا احْتَاجَ، فَمَا أَخَذَهُ مِنْ الصَّيُودِ وَالْمُبَاحَاتِ أَوْلَى. (7549) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَ مِنْ بُيُوتِهِمْ، أَوْ خَارِجٍ مِنْهَا، مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي أَرْضِهِمْ، كَالْمِسَنِّ، وَالْأَقْلَامِ، وَالْأَحْجَارِ، وَالْأَدْوِيَةِ، فَلَهُ أَخْذُهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ صَارَتْ لَهُ قِيمَةٌ بِنَقْلِهِ أَوْ مُعَالَجَتِهِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى نَحْوِ هَذَا. وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَ بِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. دَفَعَهُ فِي الْمُقْسِم، وَإِنْ عَالَجَهُ فَصَارَ لَهُ ثَمَنٌ، أُعْطِيَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِيهِ، وَبِقِيمَتِهِ فِي الْمُقْسِم. وَلَنَا، أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا صَارَتْ لَهُ بِعَمَلِهِ أَوْ بِنَقْلِهِ، فَلَمْ تَكُنْ غَنِيمَةً، كَمَا لَوْ لَمْ تَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ. [فَصْلٌ تَرَكَ صَاحِبُ الْمُقْسِم شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ عَجْزًا عَنْ حَمْلِهِ] (7550) فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ صَاحِبُ الْمَقْسِمِ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ، عَجْزًا عَنْ حَمْلِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. فَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ غَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَيَبْقَى خُرْثِيُّ الْمَتَاعِ، مِمَّا لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى، فَيَدَعُهُ الْوَالِي بِمَنْزِلَةِ الْعَقَارِ وَالْفَخَّارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَيَأْخُذُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا تُرِكَ، وَلَمْ يُشْتَرَ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، فِي الْمَتَاعِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِهِ: إذَا حَمَلَهُ رَجُلٌ يُقْسَمُ. وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ. قَالَ الْخَلَّالُ: رَوَى أَبُو طَالِبٍ هَذِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا وَافَقَ أَصْحَابَهُ، وَفِي مَوْضِعٍ خَالَفَهُمْ. قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ هَذَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبِيحَهُ وَأَنْ يُحَرِّمَهُ، وَأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَصَارَ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 [فَصْل وَجَدَ فِي دَار الْحَرْب رِكَازًا] (7551) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ فِي أَرْضِهِمْ رِكَازًا، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فِيهِ الْخُمْسُ، وَبَاقِيه لَهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتِهِمْ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَنَا؛ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَّةِ الْحَرَمِيِّ، قَالَ: أَصَبْت بِأَرْضِ الرُّومِ جَرَّةً حَمْرَاءَ، فِيهَا دَنَانِيرُ، فِي إمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَيْنَا مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، فَأَتَيْته بِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلًا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا نَفْلَ إلَّا بَعْدَ الْخُمْسِ» . لَأَعْطَيْتُك. ثُمَّ أَخَذَ يَعْرِضُ عَلَيَّ مِنْ نَصِيبِهِ، فَأَبَيْت. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ مَالُ مُشْرِكٍ، ظَهَرَ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ غَنِيمَةً، كَأَمْوَالِهِمْ الظَّاهِرَةِ. [فَصْلٌ قَوْم يَكُونُونَ فِي حِصْنٍ أَوْ رِبَاطٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ قَوْمٌ إلَى قِتَالهمْ فَيُصِيبُونَ دَوَابَّ أَوْ سِلَاحًا] (7552) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ الدَّابَّةِ تَخْرُجُ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، أَوْ تَنْفَلِتُ، فَتَدْخُلُ الْقَرْيَةَ، وَعَنْ الْقَوْمِ يَضِلُّونَ عَنْ الطَّرِيقِ، فَيَدْخُلُونَ الْقَرْيَةَ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَأْخُذُونَهُمْ؟ فَقَالَ يَكُونُونَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ كُلِّهِمْ، يَتَقَاسَمُونَهُمْ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَكُونُونَ فِي حِصْنٍ أَوْ رِبَاطٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ قَوْمٌ إلَى قِتَالِهِمْ، فَيُصِيبُونَ دَوَابَّ أَوْ سِلَاحًا؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الرِّبَاطِ وَأَهْلِ الْحَضْرَةِ مِنْ الْقَرْيَةِ. وَسُئِلَ عَنْ مَرْكَبٍ بَعَثَ بِهِ مَلِكُ الرُّومِ، فِيهِ رِجَالُهُ، فَطَرَحَتْهُ الرِّيحُ إلَى طَرْطُوسَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ أَهْلُ طَرْطُوس، فَقَتَلُوا الرِّجَالَ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ؟ فَقَالَ: هَذَا فَيْءٌ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا أَفَاءُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ لِمَنْ غَنِمَهُ، وَفِيهِ الْخُمْسُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ مِنْهُمْ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إلَيْنَا، فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَتَاعٌ أَخَذَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قُوَّةِ مُسْلِمٍ، فَكَانَ لَهُ، كَالْحَطَبِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَكُونُ فَيْئًا. فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَدَ فِي دَارِهِمْ لُقَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ثُمَّ يَمْلِكُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْمُشْرِكِينَ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَإِنْ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، عَرَّفَهَا حَوْلًا، ثُمَّ جَعَلَهَا فِي الْغَنِيمَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَيُعَرِّفُهَا فِي بَلَدِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَغُلِّبَ فِيهَا حُكْمُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّعْرِيفِ، وَحُكْمُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي كَوْنِهَا غَنِيمَةً احْتِيَاطًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 [مَسْأَلَةٌ تَعْلِف فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ] (7554) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ تَعَلَّفَ فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ بَاعَهُ، رَدَّ ثَمَنَهُ فِي الْمُقْسِم) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ، عَلَى أَنَّ لِلْغُزَاةِ إذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ، أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا وَجَدُوا مِنْ الطَّعَامِ، وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ مِنْ أَعْلَافِهِمْ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: لَا يُتْرَكُ إلَّا أَنْ يَنْهَى عَنْهُ الْإِمَامُ، فَيُتَّقَى نَهْيُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيه، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَرُوِيَ أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ، كَتَبَ إلَى عُمَرَ: إنَّا أَصَبْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَكَرِهْت أَنْ أَتَقَدَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: دَعْ النَّاسَ يَعْلِفُونَ وَيَأْكُلُونَ، فَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَفِيهِ خُمْسُ اللَّهِ وَسِهَامُ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، قَالَ: «دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْته، وَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ، فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى هَذَا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ مَضَرَّةٌ بِالْجَيْشِ وَبِدَوَابِّهِمْ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ نَقْلُ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِدُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا يَشْتَرُونَهُ، وَلَوْ وَجَدُوهُ لَمْ يَجِدُوا ثَمَنَهُ، وَلَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ مَا يَأْخُذُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، وَلَوْ قُسِمَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْ الطَّعَامِ شَيْئًا مِمَّا يَقْتَاتُ أَوْ يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، مِنْ الْأُدْمِ وَغَيْرِهِ، أَوْ الْعَلَفِ لِدَابَّتِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، جَازَ لَهُ أَخْذُهُ، وَصَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الْعَلَفِ، رَدَّ ثَمَنَهُ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ فُضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَكَرِهَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَمَالِكٌ بَيْعَهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَازٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، فَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ، وَنَقْضُ الْبَيْعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، رَدَّ قِيمَتَهُ، أَوْ ثَمَنَهُ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إلَى الْمَغْنَمِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَلَامُ الْخِرَقِيِّ. وَإِنْ بَاعَهُ لِغَازٍ، لَمْ يَحِلَّ، إلَّا أَنْ يُبْدِلَهُ بِطَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ مِمَّا لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ، فَلَيْسَ هَذَا بَيْعًا فِي الْحَقِيقَةِ، إنَّمَا سَلَّمَ إلَيْهِ مُبَاحًا، وَأَخَذَ مِثْلَهُ مُبَاحًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 الِانْتِفَاعُ بِمَا أَخَذَهُ، وَصَارَ أَحَقَّ بِهِ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ. وَإِنْ بَاعَهُ بِهِ نَسِيئَةً، أَوْ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ، فَأَخَذَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إيفَاؤُهُ، فَإِنْ وَفَّاهُ، أَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ، عَادَتْ الْيَدُ إلَيْهِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَالْبَيْعُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهِ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا ثَمَنَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِ. (7555) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ دُهْنًا، فَهُوَ كَسَائِرِ الطَّعَامِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَلِأَنَّهُ طَعَامٌ، فَأَشْبَهَ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ، فَاحْتَاجَ أَنْ يَدْهُنَ بِهِ، أَوْ يَدْهُنَ دَابَّتَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ، إذَا كَانَ مِنْ حَاجَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي زَيْتِ الرُّومِ: إذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةٍ أَوْ صُدَاعٍ، فَلَا بَأْسَ، فَأَمَّا التَّزَيُّنُ، فَلَا يُعْجِبُنِي، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ دَهْنُ دَابَّتِهِ مِنْ جَرَبٍ وَلَا يُوَقِّحُهَا إلَّا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا عَلَفٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ، أَشْبَهَ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ. وَلَهُ أَكْلُ مَا يَتَدَاوَى بِهِ، وَشُرْبُ الشَّرَابِ مِنْ الْجَلَّابِ وَالسَّكَنْجَبِينِ وَغَيْرِهِمَا، عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الطَّعَامِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُوتِ، وَلَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَلَا يُبَاحُ مَعَ وُجُودِهَا، كَغَيْرِ الطَّعَامِ. وَلَنَا، أَنَّهُ طَعَامٌ اُحْتِيجَ إلَيْهِ، أَشْبَهَ الْفَوَاكِهَ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْحَاجَةَ هَاهُنَا، لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَنَاوَلُ فِي الْعَادَةِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. (7556) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ بِالصَّابُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا عَلَفٍ، وَيُرَادُ لِلتَّحْسِينِ وَالزِّينَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُمَا. وَلَوْ كَانَ مَعَ الْغَازِي فَهْدٌ أَوْ كَلْبُ الصَّيْدِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إطْعَامُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ أَطْعَمَهَا غَرِمَ قِيمَةَ مَا أَطْعَمَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يُرَادُ لِلتَّفَرُّجِ وَالزِّينَةِ، وَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَزْوِ، بِخِلَافِ الدَّوَابِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ وَلَا رُكُوبُ دَابَّةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ] (7557) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ، وَلَا رُكُوبُ دَابَّةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، لِمَا رَوَى رُوَيْفِعٌ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. (7558) . فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهِمْ، وَاِتِّخَاذُ النَّعْلِ وَالْجُرُبِ مِنْهَا، وَلَا الْخُيُوطِ وَالْحِبَالِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَخَّصَ فِي اتِّخَاذِ الْجُرُبِ مِنْ جُلُودِ الْغَنَمِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْإِبْرَةِ، وَالْحَبْلِ يُتَّخَذُ مِنْ الشَّعْرِ، وَالنَّعْلِ وَالْخُفِّ يُتَّخَذُ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ. وَلَنَا مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَعْمَلُ الشَّعَرَ، فَهَبْهَا لِي. قَالَ: «نَصِيبِي مِنْهَا لَك» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، لَا تَدْعُو إلَى أَخْذِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ، كَالثِّيَابِ. (7559) فَصْلٌ: فَأَمَّا كُتُبُهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَكُتُبِ الطِّبِّ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَكِتَابِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا أَوْ وَرَقِهَا بَعْدَ غَسْلِهِ، غُسِلَ، وَهُوَ غَنِيمَةٌ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. [فَصْلٌ أَخَذُوا مِنْ الْكُفَّارِ جَوَارِحَ لِلصَّيْدِ] (7560) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذُوا مِنْ الْكُفَّارِ جَوَارِحَ لِلصَّيْدِ، كَالْفُهُودِ وَالْبُزَاةِ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ تُقْسَمُ. وَإِنْ كَانَتْ كِلَابًا، لَمْ يَجُزْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 بَيْعُهَا. وَإِنْ لَمْ يُرِدْهَا أَحَدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ، جَازَ إرْسَالُهَا، أَوْ إعْطَاؤُهَا غَيْرَ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ رَغِبَ فِيهَا بَعْضُ الْغَانِمِينَ دُونَ بَعْضٍ، دُفِعَتْ إلَيْهِ، وَلَمْ تَحْسِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنْ رَغِبَ فِيهَا الْجَمِيعُ، أَوْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَأَمْكَنَ قَسْمُهَا يَكُونُ عَدَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، أَوْ تَنَازَعُوا فِي الْجَيِّدِ مِنْهَا، فَطَلَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فِيهَا. وَإِنْ وَجَدُوا خَنَازِيرَ، قَتَلُوهَا؛ لِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ، وَلَا نَفْعَ فِيهَا. وَإِنْ وَجَدُوا خَمْرًا أَرَاقُوهُ، وَإِنْ كَانَ فِي ظُرُوفِهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَخَذُوهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْعٌ، كَسَرُوهَا؛ لِئَلَّا يَعُودُوا إلَى اسْتِعْمَالِهَا. (7561) فَصْلٌ: وَلِلْغَازِي أَنْ يَعْلِفَ دَوَابَّهُ، وَيُطْعِمَ رَقِيقَهُ، مِمَّا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانُوا لِلْقُنْيَةِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَشْتَرِي الرَّجُلُ السَّبْيَ فِي بِلَادِ الرُّومِ، يُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِ الرُّومِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يُطْعِمُهُمْ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ بِلَادَ الرُّومِ، وَمَعَهُ الْجَارِيَةُ وَالدَّابَّةُ لِلتِّجَارَةِ، إنْ أَطْعَمَهُمَا يَعْنِي الْجَارِيَةَ وَعَلَفَ الدَّابَّةِ؟ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْعَامُ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْغَزْوِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ بَعْدَ هَذَا، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَا يُرَادُ بِهِ التِّجَارَةُ. [مَسْأَلَةٌ وَيُشَارِكُ الْجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَتْ] (7562) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُشَارِكُ الْجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَتْ، وَيُشَارِكُونَهُ فِيمَا غَنِمَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَيْشَ إذَا فَصَلَ غَازِيًا، فَخَرَجَتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ أَوْ أَكْثَرُ، فَأَيُّهُمَا غَنِمَ، شَارَكَهُ الْآخَرُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَحَمَّادٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ شَاءَ الْإِمَامُ خَمَسَ مَا تَأْتِي بِهِ السَّرِيَّةُ، وَإِنْ شَاءَ نَفَلَهُمْ إيَّاهُ كُلَّهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا غَزَا هَوَازِنَ، بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ الْجَيْشِ قِبَلَ أَوْطَاسٍ، فَغَنِمَتْ السَّرِيَّةُ، فَأَشْرَكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَيْشِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَيَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعَدِهِمْ» . وَفِي تَنْفِيلِ النَّبِيِّ فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبْعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ، دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اخْتَصُّوا بِمَا غَنِمُوهُ، لِمَا كَانَ ثُلُثُهُ نَفْلًا، وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِدْءٌ لِصَاحِبِهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 فَيَشْتَرِكُونَ، كَمَا لَوْ غَنِمَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْجَيْشِ. وَإِنْ أَقَامَ الْأَمِيرُ بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا، فَمَا غَنِمَتْ السَّرِيَّةُ فَهُوَ لَهَا وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِكُ الْمُجَاهِدُونَ، وَالْمُقِيمُ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِمُجَاهِدٍ. وَإِنْ نَفَّذَ مِنْ بَلَدِ الْإِسْلَامِ جَيْشَيْنِ أَوْ سَرِيَّتَيْنِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَنْفَرِدُ بِمَا غَنِمَتْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَتْ بِالْغَزْوِ، فَانْفَرَدَتْ بِالْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَصَلَ الْجَيْشُ، فَدَخَلَ بِجُمْلَتِهِ بِلَادَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْجِهَادِ، فَاشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ. [مَسْأَلَة فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ] (7563) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ، فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، طَرَحَهُ فِي مَقْسَم تِلْكَ الْغَزَاةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ) وَالْأُخْرَى، يُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا. أَمَّا الْكَثِيرُ، فَيَجِبُ رَدُّهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ يَفْضُلُ مِنْهُ كَثِيرٌ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ أَخَذَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُهُ، لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَسَائِرِ الْمَالِ. وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ لَهُ بَيْعُهُ. وَأَمَّا الْيَسِيرُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجِبُ رَدُّهُ أَيْضًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» . وَلِأَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَمْ يُقْسَمْ، فَلَمْ يُبَحْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْكَبِيرِ، أَوْ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِيَةُ، يُبَاحُ. وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الشَّامِ يَتَسَاهَلُونَ فِي هَذَا. وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورِ فِي الْغَزْوِ، وَلَا نَقْسِمُهُ، حَتَّى أَنْ كُنَّا لِنَرْجِعَ إلَى رِحَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مُمْلَأَةٌ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ السُّلَمِيِّ، قَالَ: دَخَلْت عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَّمَ إلَيَّ تُمَيْرًا مِنْ تُمَيْرِ الرُّومِ، فَقُلْت: لَقَدْ سَبَقْت النَّاسَ بِهَذَا. قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْعَامِ، هَذَا مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَدْرَكْت النَّاسَ يَقْدَمُونَ بِالْقَدِيدِ، فَيُهْدِيه بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، لَا يُنْكِرُهُ إمَامٌ وَلَا عَامِلٌ وَلَا جَمَاعَةٌ. وَهَذَا نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ إمْسَاكُهُ عَنْ الْقِسْمَةِ، فَأُبِيحَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمُبَاحَاتِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا فِيهَا. وَيُفَارِقُهُ الْكَبِيرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إمْسَاكُهُ عَنْ الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ تَجْرِي الْمُسَامَحَةُ فِيهِ، وَنَفْعُهُ قَلِيلٌ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 [مَسْأَلَة اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَسِيرًا مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ] (7564) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَسِيرًا مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، لَزِمَ الْأَسِيرَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ) لَا يَخْلُو هَذَا مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِإِذْنِهِ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْمُشْتَرِي مَا أَدَّاهُ فِيهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، إذَا وَزَنَ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِيهِ، كَانَ نَائِبَهُ فِي شِرَاءِ نَفْسِهِ، فَكَانَ الثَّمَنُ عَلَى الْآمِرِ، كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَيَلْزَمُ الْأَسِيرَ الثَّمَنُ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَمَّرَ دَارِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ إنْ كَانَ الْأَسِيرُ مُوسِرًا كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا، أَدَّى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالُ. وَلَنَا. مَا رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَرِيزٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَغَارَ أَهْلُ مَاهَ وَأَهْلُ جَلُولَاءَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْ سَبَايَا الْعَرَبِ، فَكَتَبَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ إلَى عُمَرَ فِي سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ وَرَقِيقِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، قَدْ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ مَاهَ، فَكَتَبَ عُمَرَ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَصَابَ رَقِيقَهُ وَمَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي أَيْدِي التُّجَّارِ بَعْدَمَا اُقْتُسِمَ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَيُّمَا حُرٍّ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِمْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ؛ فَإِنَّ الْحُرَّ لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى. فَحَكَمَ لِلتُّجَّارِ بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ. وَلِأَنَّ الْأَسِيرَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدَاءُ نَفْسِهِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ حُكْمِ الْكُفَّارِ، وَيَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا نَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ قَضَى الْحَاكِمُ عَنْهُ حَقًّا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. (7565) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَسِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا أَذِنَ لَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي فِعْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِفِعْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَسِيرَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ بِالْأَصْلِ. [مَسْأَلَةٌ سَبَى الْمُشْرِكُونَ مَنْ يُؤَدِّي إلَيْنَا الْجِزْيَةَ] (7566) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا سَبَى الْمُشْرِكُونَ مَنْ يُؤَدِّي إلَيْنَا الْجِزْيَةَ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ، رُدُّوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسْتَرَقُّوا، وَمَا أَخَذَهُ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ مِنْ مَالٍ أَوْ رَقِيقٍ، رُدَّ إلَيْهِمْ، إذَا عُلِمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، وَيُفَادَى بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُفَادَى بِالْمُسْلِمِينَ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِنَا، فَسَبَوْهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى ذِمَّتِهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ بَاقِيَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يُوجِبُ نَقْضَهَا. وَحُكْمُ أَمْوَالِهِمْ، حُكْمُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُرْمَتِهَا. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا. فَمَتَى عُلِمَ صَاحِبُهَا قَبْلَ قَسَمَهَا وَجَبَ رَدُّهَا إلَيْهِ، وَإِنْ عُلِمَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ لَهُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ كَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا فِدَاؤُهُمْ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يَجِبُ فِدَاؤُهُمْ، سَوَاءٌ كَانُوا فِي مَعُونَتِنَا أَوْ لَمْ يَكُونُوا. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاللَّيْثِ؛ لِأَنَّنَا الْتَزَمْنَا حِفْظَهُمْ، بِمُعَاهَدَتِهِمْ، وَأَخْذِ جِزْيَتِهِمْ، فَلَزِمَنَا الْقِتَالُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَالْقِيَامُ دُونَهُمْ، فَإِذَا عَجَزْنَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمْكَنَنَا تَخْلِيصُهُمْ، لَزِمَنَا ذَلِكَ، كَمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إتْلَافُ شَيْءٍ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ غَرِمَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَجِبُ فِدَاؤُهُمْ إذَا اسْتَعَانَ بِهِمْ الْإِمَامُ فِي قِتَالِهِ فَسُبُوا وَجَبَ عَلَيْهِ فِدَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ أَسْرَهُمْ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَمَتَى وَجَبَ فِدَاؤُهُمْ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِفِدَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ، وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ أَشَدُّ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. (7567) فَصْلٌ: وَيَجِبُ فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ إذَا أَمْكَنَ. وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَيَرْوِي عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ: عَلَى مَنْ فِكَاكُ الْأَسِيرِ؟ قَالَ: عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُقَاتِلُ عَلَيْهَا. وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» . وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ، وَأَنْ يَفُكُّوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ". وَفَادَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، وَفَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَجُلَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 [مَسْأَلَةٌ الْمَغَانِم إذَا جُمِعَتْ وَفِيهَا طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ] (7568) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حَازَ الْأَمِيرُ الْمَغَانِمَ، وَوَكَّلَ مَنْ يَحْفَظُهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهَا، إلَّا أَنْ تَدْعُوَ الضَّرُورَةُ، بِأَنْ لَا يَجِدُوا مَا يَأْكُلُونَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَغَانِمَ إذَا جُمِعَتْ، وَفِيهَا طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ، لَمْ يَجُزْ لَأَحَدٍ أَخْذُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا أَبَحْنَا أَخْذَهُ قَبْلَ جَمْعِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاحَات مِنْ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، فَإِذَا حِيزَتْ الْمَغَانِمُ، ثَبَتَ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، فَخَرَجَتْ عَنْ حَيِّزِ الْمُبَاحَاتِ، وَصَارَتْ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يَجِدُوا مَا يَأْكُلُونَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حِفْظَ نُفُوسِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ أَهَمُّ، وَسَوَاءٌ حِيزَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا وَإِنْ حِيزَتْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، لِعُسْرِ نَقْلِ الْمِيرَةِ إلَيْهَا، بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَامٌّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيه؛ فَإِنَّ مَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَتَحَقَّقَ مِلْكُهُمْ لَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ إلَّا بِرِضَاهُمْ، كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، وَلِأَنَّ حِيَازَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تُثْبِتُ الْمِلْكَ فِيهِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ قِسْمَتِهِ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الْمِلْكِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحِيَازَةِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ بَعْدُ. [مَسْأَلَة بَاعَ مِنْ الْمَغْنَمِ شَيْئًا قَبْلَ قَسْمِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ] (7569) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمَغْنَمِ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُخِذَ مِنْهُ الثَّمَنُ، رُدَّ إلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَمِيرَ إذَا بَاعَ مِنْ الْمَغْنَمِ شَيْئًا قَبْلَ قَسَمَهُ لِمَصْلَحَةٍ، صَحَّ بَيْعُهُ، فَإِنْ عَادَ الْكُفَّارُ، فَغَلَبُوا عَلَى الْمَبِيعِ، فَأَخَذُوهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، مِثْلُ أَنْ خَرَجَ بِهِ مِنْ الْمُعَسْكَرِ، وَنَحْو ذَلِكَ، فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ حَصَلَ بِتَفْرِيطِهِ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، وَإِنْ حَصَلَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الْمُشْتَرِي، سَقَطَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، رُدَّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكْمُلْ، لِكَوْنِ الْمَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ غَيْرَ مُحْرِزٍ، وَكَوْنِهِ عَلَى خَطَرٍ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَشْبَهَ التَّمْرَ الْمَبِيعَ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ إذَا تَلِفَ قَبْلَ الْجُذَاذِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَأَبُو بَكْرٍ صَاحِبُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْبُوضٌ، أُبِيحَ لِمُشْتَرِيهِ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أُحْرِزَ إلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْعَدُوِّ لَهُ تَلَفٌ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ الْبَائِعُ، كَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّلَفِ، وَلِأَنَّ نَمَاءَهُ لِلْمُشْتَرِي، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . (7570) فَصْلٌ: وَإِذَا قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، جَازَ لِمَنْ أَخَذَ سَهْمَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ بَاعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَيْئًا مِنْهَا، فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، فَفِي ضَمَانِ الْبَائِعِ لَهُ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُشْتَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَكَذَلِكَ، فَإِذَا قُلْنَا: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، بِمَا رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ. (7571) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ مِنْ الْمَغْنَمِ، مَعَهَا الْحُلِيُّ فِي عُنُقِهَا وَالثِّيَابُ: يَرُدُّ ذَلِكَ فِي الْمَغْنَمِ، إلَّا شَيْئًا تَلْبَسُهُ، مِنْ قَمِيصٍ وَمِقْنَعَةٍ وَإِزَارٍ. وَهَذَا قَوْلُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَمَكْحُولٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، وَالْمُتَوَكِّلِ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَيُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ. وَاحْتَجَّ إِسْحَاقُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ» . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَكَانَ مَالِكٌ يُرَخِّصُ فِي الْيَسِيرِ، كَالْقُرْطَيْنِ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَلَا يَرَى ذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَصَّلَ الْقَوْلُ فِي هَذَا، فَيُقَالُ: مَا كَانَ عَلَيْهَا ظَاهِرًا مَرْئِيًّا، يُشَاهِدُهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، كَالْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ وَالْقِلَادَةِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا بَاعَهَا بِمَا عَلَيْهَا، وَالْمُشْتَرِيَ اشْتَرَاهَا بِذَلِكَ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ، وَمَا خَفِيَ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْبَائِعُ، رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَيْهَا بِدُونِهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، كَجَارِيَةٍ أُخْرَى. (7572) . فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَغْنَمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يُحَابَى، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَدَّ مَا اشْتَرَاهُ ابْنُهُ فِي غَزْوَةِ جَلُولَاءَ، وَقَالَ: إنَّهُ يُحَابَى. احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْ وَكِيلُهُ، فَكَأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْ نَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِ نَفْسِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَوَّمَ أَصْحَابُ الْمَغَانِمِ شَيْئًا مَعْرُوفًا، فَقَالُوا فِي جُلُودِ الْمَاعِزِ بِكَذَا. وَالْخِرْفَانِ بِكَذَا. يَحْتَاجُ إلَيْهِ، يَأْخُذُهُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، وَلَا يَأْتِي الْمَغَانِمَ؟ فَرَخَّصَ فِيهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الِاسْتِئْذَانُ فِيهِ، فَسُومِحَ فِيهِ، كَمَا سُومِحَ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَرُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ، مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوز تَحْرِيق الْعَدُوّ بِالنَّارِ فِي الْحَرْب] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حُورِبَ الْعَدُوُّ، لَمْ يُحَرَّقُوا بِالنَّارِ) أَمَّا الْعَدُوُّ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْمُرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 بِتَحْرِيقِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالنَّارِ. وَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَمْرِهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى حَمْزَةُ الْأَسْلَمِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، قَالَ: فَخَرَجْت فِيهَا، فَقَالَ: «إنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا، فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ» . فَوَلَّيْت، فَنَادَانِي، فَرَجَعْت، فَقَالَ: «إنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا، فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَحْرِقُوهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَسَعِيدٌ. وَرَوَى أَحَادِيثَ سِوَاهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ حَدِيثِ حَمْزَةَ. فَأَمَّا رَمْيُهُمْ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالنَّارِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُمْ بِدُونِهَا، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمْ بِغَيْرِهَا، فَجَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ أُمَيَّةَ الْأَزْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْفَزَارِيَّ، وَغَيْرَهُمَا مِنْ وُلَاةِ الْبَحْرَيْنِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَانُوا يَرْمُونَ الْعَدُوَّ مِنْ الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ بِالنَّارِ، وَيُحَرِّقُونَهُمْ، هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ. قَالَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ: لَمْ يَزُلْ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. (7574) فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي فَتْحِ الْبُثُوقِ عَلَيْهِمْ، لِيُغْرِقَهُمْ، إنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ، إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إتْلَافَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، الَّذِينَ يَحْرُمُ إتْلَافُهُمْ قَصْدًا، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بِهِ، جَازَ، كَمَا يَجُوزُ الْبَيَاتُ الْمُتَضَمِّنُ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَلِأَنَّ الْقِتَالَ بِهِ مُعْتَادٌ، فَأَشْبَهَ الرَّمْيَ بِالسِّهَامِ. (7575) . فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَبْيِيتُ الْكُفَّارِ، وَهُوَ كَسْبُهُمْ لَيْلًا، وَقَتْلُهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالْبَيَاتِ، وَهَلْ غَزْوُ الرُّومِ إلَّا الْبَيَاتُ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ بَيَاتَ الْعَدُوِّ. وَقَرَأَ عَلَيْهِ: سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ عَنْ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، نُبَيِّتُهُمْ فَنُصِيبُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ فَقَالَ: " هُمْ مِنْهُمْ ". فَقَالَ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُمْ، فَلَا. قَالَ: وَحَدِيثُ الصَّعْبِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ حِينَ بَعَثَ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ. وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّعَمُّدِ، وَالْإِبَاحَةُ عَلَى مَا عَدَاهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 [فَصْلٌ كَانَ فِي الْمَطْمُورَةِ الْعَدُوُّ فَعَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ النَّارِ] (7576) فَصْلٌ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا كَانَ فِي الْمَطْمُورَةِ الْعَدُوُّ، فَعَلِمْت أَنَّك تَقْدِرُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ النَّارِ، فَأَحَبُّ إلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ النَّارِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَأَبَوْا أَنْ يَخْرُجُوا فَلَا أَرَى بَأْسًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ بِهَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ، وَهِشَامٌ. وَيُدَخَّنُ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الشَّامِ أَعْلَمُ بِهَذَا [فَصْل تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ الْعَدُوّ] (7757) (7577) فَصْلٌ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ، جَازَ رَمْيُهُمْ، وَيَقْصِدُ الْمُقَاتِلَةَ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَمَعَهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ» ، وَلِأَنَّ كَفَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ تَتَرَّسُوا بِهِمْ عِنْدَ خَوْفِهِمْ فَيَنْقَطِعُ الْجِهَادُ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَرْبُ مُلْتَحِمَةً أَوْ غَيْرَ مُلْتَحِمَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتَحَيَّنُ بِالرَّمْيِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ. [فَصْلٌ وَقَفَتْ امْرَأَةٌ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ أَوْ عَلَى حِصْنِهِمْ فَشَتَمَتْ الْمُسْلِمِينَ] (7578) فَصْلٌ: وَلَوْ وَقَفَتْ امْرَأَةٌ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ أَوْ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَشَتَمَتْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ تَكَشَّفَتْ لَهُمْ، جَازَ رَمْيُهَا قَصْدًا؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الطَّائِفِ أَشْرَفَتْ امْرَأَةٌ، فَكَشَفَتْ عَنْ قُبُلِهَا، فَقَالَ: هَا دُونَكُمْ فَارْمُوهَا. فَرَمَاهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا أَخْطَأَ ذَلِكَ مِنْهَا» . وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى رَمْيِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ رَمْيِهَا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَمْيُهَا إذَا كَانَتْ تَلْتَقِطُ لَهُمْ السِّهَامَ، أَوْ تَسْقِيهِمْ، أَوَتُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقَاتِلِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالشَّيْخِ وَسَائِرِ مَنْ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ مِنْهُمْ. [فَصْلٌ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ وَلَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ] (7579) فَصْلٌ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ، وَلَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ، لِكَوْنِ الْحَرْبِ غَيْرَ قَائِمَةٍ، أَوْ لِإِمْكَانِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِدُونِهِ، أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ شَرِّهِمْ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ. فَإِنْ رَمَاهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى رَمْيِهِمْ لِلْخَوْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، جَازَ رَمْيُهُمْ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ وَيَقْصِدُ الْكُفَّارَ. وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالرَّمْيِ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ: لَا يَجُوزُ رَمْيُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] الْآيَةَ. . قَالَ اللَّيْثُ: تَرْكُ فَتْحِ حِصْنٍ يُقْدَرُ عَلَى فَتْحِهِ، أَفْضَلُ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَيْفَ يَرْمُونَ مَنْ لَا يَرَوْنَهُ، إنَّمَا يَرْمُونَ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ رَمْيُهُمْ إذَا كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ قَتَلَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 إحْدَاهُمَا، يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَالثَّانِيَةُ، لَا دِيَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرَمْيٍ مُبَاحٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا دِيَةَ لَهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ أُبِيحَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا، كَرَمْيِ مَنْ أُبِيحَ دَمُهُ. وَلَنَا، الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا بِالْإِيمَانِ، وَالْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَتَتَرَّسْ بِهِ. [مَسْأَلَة تَغْرِيقَ النَّحْلِ وَتَحْرِيقَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7580) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُغَرِّقُوا النَّحْلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ تَغْرِيقَ النَّحْلِ وَتَحْرِيقَهُ لَا يَجُوزُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَنُحَرِّقُ بُيُوتَ نَحْلِهِمْ؟ قَالَ: أَمَّا النَّحْلُ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَيْظًا لَهُمْ وَإِضْعَافًا، فَأَشْبَهَ قَتْلَ بَهَائِمِهِمْ حَالَ قِتَالِهِمْ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يُوصِيهِ، حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى الْقِتَالِ بِالشَّامِ: وَلَا تُحَرِّقْنَ نَحْلًا، وَلَا تُغْرِقَنَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ أَخِيهِ مِنْ غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَقَالَ: لَعَلَّك حَرَّقْت حَرْثًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَلَّك غَرَّقْت نَحْلًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَلَّك قَتَلْت صَبِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لِيَكُنْ غَزْوُك كَفَافًا. أَخْرَجَهُمَا سَعِيدٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ثَوْبَانَ. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّحْلَةِ، وَنَهَى أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا» . وَلِأَنَّهُ إفْسَادٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو رُوحٍ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ لِغَيْظِ الْمُشْرِكِينَ، كَنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ. وَأَمَّا أَخْذُ الْعَسَلِ وَأَكْلُهُ فَمُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ. [مَسْأَلَة لَا يَعْقِرُ شَاةً وَلَا دَابَّةً فِي دَارِ الْحَرْب] (7581) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَعْقِرُ شَاةً، وَلَا دَابَّةً، إلَّا لِأَكْلٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ أَمَّا عَقْرُ دَوَابِّهِمْ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ، لِمُغَايَظَتِهِمْ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ، سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَمْ نَخَفْ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَيْظًا لَهُمْ، وَإِضْعَافًا لِقُوَّتِهِمْ، فَأَشْبَهَ قَتْلَهَا حَالَ قِتَالِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا: يَا يَزِيدُ، لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا هَرِمًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا دَابَّةً عَجْمَاءَ، وَلَا شَاةً، إلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تُحَرِّقَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 نَحْلًا، وَلَا تُغْرِقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ شَيْءٍ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا» . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو حُرْمَةٍ، فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. وَأَمَّا حَالُ الْحَرْبِ. فَيَجُوزُ فِيهَا قَتْلُ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ أَمْكَنَ، بِخِلَافِ حَالِهِمْ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا جَازَ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْبَيَاتِ، وَفِي الْمَطْمُورَةِ، إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُمْ مُنْفَرِدِينَ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَقَتْلِ بَهَائِمِهِمْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَتْلِهِمْ وَهَزِيمَتِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الْمَدَدِيِّ الَّذِي عَقَرَ بِالرُّومِيِّ فَرَسَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، عَقَرَ فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَمَتْ بِهِ، فَخَلَّصَهُ ابْنُ شَعُوبٍ وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ. (7582) فَصْلٌ: فَأَمَّا عَقْرُهَا لِلْأَكْلِ، فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَمُبَاحٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تُبِيحُ مَالَ الْمَعْصُومِ، فَمَالُ الْكَافِرِ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ لَا يُرَادُ إلَّا لِلْأَكْلِ، كَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَالصَّيْدِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّعَامِ. فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَتَقِلُّ قِيمَتُهُ، فَأَشْبَهَ الطَّعَامَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْقِتَالِ، كَالْخَيْلِ، لَمْ يُبَحْ ذَبْحُهُ لِلْأَكْلِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، لَمْ يُبَحْ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ مِثْلُ الطَّعَامِ فِي بَابِ الْأَكْلِ وَالْقُوتِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِي إبَاحَتِهِ. وَإِذَا ذَبَحَ الْحَيَوَانَ، أَكَلَ لَحْمَهُ، وَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مَا يَأْكُلُهُ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: كُلُوا لَحْمَ الشَّاةِ، وَرُدُّوا إهَابَهَا إلَى الْمَغْنَمِ. وَلِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ مَأْكُولٌ، فَأُبِيحَ أَكْلُهُ، كَالطَّيْرِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، مَا رَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ «ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: أَصَبْنَا غَنَمًا لِلْعَدُوِّ، فَانْتَهَبْنَا، فَنَصَبْنَا قُدُورَنَا، فَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُدُورِ وَهِيَ تَغْلِي، فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنَّ النُّهْبَةَ لَا تَحِلُّ» . وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَكْثُرُ قِيمَتُهَا، وَتَشِحُّ أَنْفُسُ الْغَانِمِينَ بِهَا، وَيُمْكِنُ حَمْلُهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الطَّيْرِ وَالطَّعَامِ، لَكِنْ إنْ أَذِنَ الْأَمِيرُ فِيهَا جَازَ؛ لِمَا رَوَى عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا إذَا خَرَجْنَا فِي سَرِيَّةٍ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا، نَادَى مُنَادِي الْإِمَامِ: أَلَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ فَلْيَتَنَاوَلْ، إنَّا لَا نَسْتَطِيعُ سِيَاقَتَهَا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَكَذَلِكَ إنْ قَسَمَهَا؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا، فَقَسَمَ بَيْنَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَائِفَةً، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا فِي الْمَغْنَمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَجُلًا نَحَرَ جَزُورًا بِأَرْضِ الرُّومِ، فَلَمَّا بَرَدَتْ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنْ لَحْمِ هَذِهِ الْجَزُورِ، فَقَدْ أَذِنَّا لَكُمْ. فَقَالَ مَكْحُولٌ: يَا غَسَّانِيُّ، أَلَا تَأْتِينَا مِنْ لَحْمِ هَذِهِ الْجَزُورِ؟ فَقَالَ الْغَسَّانِيُّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَمَا تَرَى عَلَيْهَا مِنْ النُّهْبَى؟ قَالَ مَكْحُولٌ: لَا نُهْبَى فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ. (7583) . فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ مَا عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ سِيَاقَتِهِ وَأَخْذِهِ، إنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْكُفَّارُ فِي الْقِتَالِ، كَالْخَيْلِ، جَازَ عَقْرُهُ وَإِتْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ إيصَالُهُ إلَى الْكُفَّارِ بِالْبَيْعِ فَتَرْكُهُ لَهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ، فَلِلْمُسْلِمِينَ ذَبْحُهُ، وَالْأَكْلُ مِنْهُ، مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، لَا يَجُوزُ إتْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ إفْسَادٍ وَإِتْلَافٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ» . [مَسْأَلَة لَا يُحَرِّقُ زَرْعَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بِلَادِنَا أَهْل الذِّمَّة] (7584) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَقْطَعُ شَجَرَهُمْ، وَلَا يُحَرِّقُ زَرْعَهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بِلَادِنَا، فَيُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ لِيَنْتَهُوا وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إتْلَافِهِ كَاَلَّذِي يَقْرُبُ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَيَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ، أَوْ يُسْتَرُونَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِهِ لِتَوْسِعَةِ طَرِيقٍ، أَوْ تَمَكُّنٍ مِنْ قِتَالٍ، أَوْ سَدِّ بَثْقٍ، أَوْ إصْلَاحِ طَرِيقٍ، أَوْ سِتَارَةِ مَنْجَنِيقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا، فَيُفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ، لِيَنْتَهُوا، فَهَذَا يَجُوزُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. الثَّانِي، مَا يَتَضَرَّرُ الْمُسْلِمُونَ بِقَطْعِهِ، لِكَوْنِهِمْ يَنْتَفِعُونَ بِبَقَائِهِ لِعَلُوفَتِهِمْ، أَوْ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ، أَوْ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِهِ، أَوْ تَكُونُ الْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا، فَإِذَا فَعَلْنَاهُ بِهِمْ فَعَلُوهُ بِنَا، فَهَذَا يَحْرُمُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ، مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَفْعٌ سِوَى غَيْظِ الْكُفَّارِ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَوَصِيَّتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ فِيهِ إتْلَافًا مَحْضًا، فَلَمْ يَجُزْ، كَعَقْرِ الْحَيَوَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ. وَبِهَذَا قَالَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ إِسْحَاقُ: التَّحْرِيقُ سُنَّةٌ، إذَا كَانَ أَنْكَى فِي الْعَدُوِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهُوَ الْبُوَيْرَةُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] . وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: «فَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَغِرْ عَلَى أُبْنَا صَبَاحًا وَحَرِّقْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قِيلَ لِأَبِي مُسْهِرٍ: أُبْنَا. قَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ، هِيَ يُبْنَا فِلَسْطِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أُبْنَا، كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْكَرْكِ، فِي أَطْرَافِ الشَّامِ، فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا أَبُوهُ، فَأَمَّا يُبْنَا فَهِيَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَلَمْ يَكُنْ أُسَامَةُ لِيَصِلَ إلَيْهَا، وَلَا يَأْمُرُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِغَارَةِ عَلَيْهَا، لِبُعْدِهَا، وَالْخَطَرِ بِالْمَصِيرِ إلَيْهَا، لِتَوَسُّطِهَا فِي الْبِلَادِ، وَبُعْدِهَا مِنْ طَرَفِ الشَّامِ، فَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْمُرَهُ بِالتَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْخَبَرُ عَلَيْهَا، مَعَ مُخَالَفَةِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ، وَفَسَادِ الْمَعْنَى،. [مَسْأَلَة الْمُسْلِم يَتَزَوَّجُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ] (7585) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَتَزَوَّجُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، إلَّا أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، وَيَعْزِلَ عَنْهَا. وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ جَارِيَةً، لَمْ يَطَأْهَا فِي الْفَرْجِ، وَهُوَ فِي أَرْضِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ أَبَا بَكْرٍ أَسْمَاءَ ابْنَةَ عُمَيْسٍ، وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ» . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْأَسِيرُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إذَا أُسِرَتْ مَعَهُ، مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا دَامَ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْأَسِيرَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ أَسِيرٍ اشْتَرَيْت مَعَهُ امْرَأَتُهُ، أَيَطَؤُهَا؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا، فَلَعَلَّ غَيْرَهُ مِنْهُمْ يَطَؤُهَا، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لَهُ: وَلَعَلَّهَا تَعْلَقُ بِوَلَدٍ، فَيَكُونُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، كَالتَّاجِرِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْخِرَقِيِّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّزَوُّجُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَرُبَّمَا نَشَأَ بَيْنَهُمْ، فَيَصِيرُ عَلَى دِينِهِمْ. فَإِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، وَيَعْزِلُ عَنْهَا، كَيْ لَا تَأْتِيَ بِوَلَدٍ. وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَتْ مِنْهُمْ، غَلَبَتْهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: هَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ، وَإِنَّمَا كَرِهْنَا لَهُ التَّزَوُّجَ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى وَلَدِهِ، فَيَسْتَرِقُّوهُ، وَيُعَلِّمُوهُ الْكُفْرَ، فَفِي تَزْوِيجِهِ تَعْرِيضٌ لِهَذَا الْفَسَادِ الْعَظِيمِ، وَازْدَادَتْ الْكَرَاهَةُ إذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ امْرَأَتَهُ تَغْلِبُهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَتُكَفِّرُهُ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً، وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ جَارِيَةً، لَمْ يَطَأْهَا فِي الْفَرْجِ فِي أَرْضِهِمْ، مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبُوهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَيَسْتَرِقُّوهُ، وَيُكَفِّرُوهُ. [فَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ] ِ: وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] . الْآيَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكَيْنِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ، وَيَرَوْنَ نَارَهُ، إذَا أُوقِدَتْ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ. وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقٍ، لَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَقَالَ: «قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» . وَرُوِيَ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا أَسْلَمَ، قِيلَ لَهُ: لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. فَأَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا جَاءَ بِك أَبَا وَهْبٍ؟ قَالَ: قِيلَ إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. قَالَ: ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ، أَقِرُّوا عَلَى مَسَاكِنِكُمْ، فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» . رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ سَعِيدٌ. وَلَنَا مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ، قَالَ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَغَيْرُهُ، مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ، فَأَرَادَ بِهَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فُتِحَ. وَقَوْلُهُ لِصَفْوَانَ: " إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ ". يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ، فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدَ الْكُفَّارِ، فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ. وَهَكَذَا كُلِّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا يَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ، وَإِنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ، وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. الثَّانِي؛ مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، أَوْ ضَعْفٍ؛ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ، فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 وَلَا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا. وَالثَّالِثُ، مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ، وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَتُسْتَحَبُّ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعُونَتِهِمْ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ. وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ. وَرَوَيْنَا «أَنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ، جَاءَهُ قَوْمُهُ بَنُو عَدِيٍّ، فَقَالُوا لَهُ: أَقِمْ عِنْدَنَا، وَأَنْتَ عَلَى دِينِك، وَنَحْنُ نَمْنَعُك مِمَّنْ يُرِيدُ أَذَاك، وَاكْفِنَا مَا كُنْت تَكْفِينَا. وَكَانَ يَقُومُ بِيَتَامَى بَنِي عَدِيٍّ وَأَرَامِلِهِمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ مُدَّةً، ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَوْمُك كَانُوا خَيْرًا لَك مِنْ قَوْمِي لِي، قَوْمِي أَخْرَجُونِي، وَأَرَادُوا قَتْلِي، وَقَوْمُك حَفِظُوك وَمَنَعُوك. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: بَلْ قَوْمُك أَخْرَجُوك إلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَجِهَادِ عَدُوِّهِ وَقَوْمِي ثَبَّطُونِي عَنْ الْهِجْرَةِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ» . [مَسْأَلَة دَخَلَ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ] (7587) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: مَنْ دَخَلَ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ، لَمْ يَخُنْهُمْ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ بِالرِّبَا أَمَّا تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّبَا، مَعَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَسَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ. وَأَمَّا خِيَانَتُهُمْ، فَمُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ بِأَمَانٍ، فَخَانَنَا، كَانَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لِأَنَّهُ غَدْرٌ، وَلَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . فَإِنْ خَانَهُمْ، أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ، أَوْ اقْتَرَضَ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ أَوْ إيمَانٍ، رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا بَعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، فَلَزِمَهُ رَدَّ مَا أَخَذَ، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ. [مَسْأَلَة أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ] (7588) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ، فَنَقَضُوهُ حُورِبُوا، وَقُتِلَ رِجَالُهُمْ، وَلَمْ تُسْبَ ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَمْ يُسْتَرَقُّوا، إلَّا مَنْ وُلِدَ بَعْدَ نَقْضِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، أَوْ أَخَذَ رَجُلٌ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ رِجَالُهُمْ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ الْمَوْجُودُونَ قَبْلَ النَّقْضِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ شَمِلَهُمْ جَمِيعًا، وَدَخَلَتْ فِيهِمْ الذُّرِّيَّةُ، وَالنَّقْضُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ رِجَالِهِمْ، فَتَخْتَصُّ إبَاحَةُ الدِّمَاءِ بِهِمْ، وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنْفَرِدَ الرَّجُلُ بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانِ، دُونَ ذُرِّيَّتِهِ وَذُرِّيَّتُهُ دُونَهُ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْعَهْدُ فِيهِ دُونَهُمْ، وَالنَّقْضُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، دُونَ الذُّرِّيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَتْ امْرَأَةُ عَلْقَمَةَ لَمَّا ارْتَدَّ: إنْ كَانَ عَلْقَمَةُ ارْتَدَّ، فَأَنَا لَمْ أَرْتَدَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِي مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ: لَيْسَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ شَيْءٌ. فَأَمَّا مَنْ وُلِدَ فِيهِمْ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَمَانٌ بِحَالٍ. وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ أَقَامُوا بِدَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا نِسَاؤُهُمْ، فَمَنْ لَحِقَتْ مِنْهُنَّ بِدَارِ الْحَرْبِ طَائِعَةً، أَوْ وَافَقَتْ زَوْجَهَا فِي نَقْضِ الْعَهْدَ، جَازَ سَبْيُهَا؛ لِأَنَّهَا بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ نَقَضَتْ الْعَهْدَ، فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ، وَمَنْ لَمْ تَنْقُضْ الْعَهْدَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهَا بِنَقْضِ زَوْجِهَا. [فَصْلٌ أَهْلُ الْهُدْنَةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ] فَصْلٌ: فَأَمَّا أَهْلُ الْهُدْنَةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ. وَلَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا فَنَقَضَتْ عَهْدَهُ، حَلَّ لَهُ مِنْهُمْ مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ» . وَلِأَنَّ الْهُدْنَةَ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، يَنْتَهِي بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، فَيَزُولُ بِنَقْضِهِ وَفَسْخِهِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، بِخِلَافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ. [فَصْلٌ مَعْنَى الْهُدْنَةِ] (7590) فَصْلٌ: وَمَعْنَى الْهُدْنَةِ، أَنْ يَعْقِدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَقْدًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً، بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً، وَذَلِكَ جَائِزٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . وَرَوَى مَرْوَانُ، وَمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ، سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ» . وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَيُهَادِنُهُمْ حَتَّى يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمْ ضَعْفٌ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي إسْلَامِهِمْ بِهُدْنَتِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُهَادَنَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ نَقْضُهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ مِنْهَا. وَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ دُونَهُمْ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى» . وَلَا يَصِحُّ هَذَا، فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ نَقْضِهِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَهْلِ خَيْبَرَ هُدْنَةٌ، فَإِنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً، وَإِنَّمَا سَاقَاهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِهُدْنَةٍ اتِّفَاقًا، وَقَدْ وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ فِي أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنِّي أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ. لَمْ يَصِحَّ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، مَعَ إجْمَاعِهِمْ مَعَ غَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ، (7591) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مُدَّةُ الْعَشْرِ «لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرًا» ، فَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ زَادَ الْمُدَّةَ عَلَى عَشْرٍ، بَطَلَ فِي الزِّيَادَةِ. وَهَلْ تَبْطُلُ فِي الْعَشْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ، عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ فِي الْعَشْرِ، فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْعَامُّ مَخْصُوصٌ فِي الْعَشْرِ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الصُّلْحِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الْحَرْبِ. [فَصْلٌ مُهَادَنَة أَهْل الذِّمَّة عَلَى غَيْرِ مَالٍ] فَصْلٌ: وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهَا إذَا جَازَتْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَعَلَى مَالٍ أَوْلَى. وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ، فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلَاكَ أَوْ الْأَسْرَ، فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَسِيرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ، فَكَذَا هَا هُنَا، وَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَالْأَسْرُ، وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فِي الْمَغَازِي، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ - يَعْنِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ -: أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَك ثُلُثَ تَمْرِ الْأَنْصَارِ، أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ، وَتَخْذُلُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ: إنْ جَعَلْت لِي الشَّطْرَ فَعَلْت» . قَالَ مَعْمَرٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ يَجُرُّ سُرْمَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَامِ السَّنَةِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، مَا يُطِيقُ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَالْآنَ حِينَ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَنَعَمْ إذًا» . وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ، بَعَثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنْ جَعَلْت لِي شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَّا مَلَأْتهَا عَلَيْك خَيْلًا وَرَجْلًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَتَّى أُشَاوِرَ السُّعُودَ يَعْنِي. سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ، فَشَاوَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ السَّمَاءِ، فَتَسْلِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ بِرَأْيِك وَهَوَاك، اتَّبَعْنَا رَأْيَك وَهَوَاك، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مِنْ السَّمَاءِ وَلَا بِرَأْيِك وَهَوَاك، فَوَاَللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بُسْرَةً وَلَا تَمْرَةً إلَّا شِرَاءً أَوْ قِرًى، فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَسُولِهِ: أَتَسْمَعُ؟» فَعَرَضَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَعْلَمَ ضَعْفَهُمْ مِنْ قُوَّتِهِمْ، فَلَوْلَا جَوَازُهُ عِنْدَ الضَّعْفِ، لِمَا عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَلَا الذِّمَّةِ إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ] (7593) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَلَا الذِّمَّةِ إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعَ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ. فَإِنْ هَادَنَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الصُّلْحِ، كَانَ آمِنًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مُعْتَقِدًا لِلْأَمَانِ، وَيُرَدُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُقَرُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ عَقَدَهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ نَقْضُ أَحْكَامِ مَنْ قَبْلَهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] . وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفِ بِهَا، لَمْ يُسْكَنْ إلَى عَقْدِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهَا، فَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، جَازَ قِتَالُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] «. وَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ، وَفَتَحَ مَكَّةَ.» وَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَسَكَتَ بَاقِيهمْ عَنْ النَّاقِضِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إنْكَارٌ، وَلَا مُرَاسَلَةُ الْإِمَامِ، وَلَا تَبَرُّؤٌ، فَالْكُلُّ نَاقِضُونَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا، دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنُو بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، وَأَعَانَهُمْ بَعْضُ قُرَيْشٍ، وَسَكَتَ الْبَاقُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضَ عَهْدِهِمْ، وَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاتَلَهُمْ.» وَلِأَنَّ سُكُوتَهُمْ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُمْ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مَعَ بَعْضِهِمْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُهُمْ؛ لِدَلَالَةِ سُكُوتِهِمْ عَلَى رِضَاهُمْ، كَذَلِكَ فِي النَّقْضِ. وَإِنْ أَنْكَرَ مَنْ لَمْ يَنْقُضْ عَلَى النَّاقِضِ، بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ، أَوْ اعْتِزَالٍ، أَوْ رَاسَلَ الْإِمَامَ بِأَنِّي مُنْكِرٌ لِمَا فَعَلَهُ النَّاقِضُ، مُقِيمٌ عَلَى الْعَهْدِ، لَمْ يَنْتَقِضْ فِي حَقِّهِ، وَيَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِالتَّمَيُّزِ، لِيَأْخُذَ النَّاقِضَ وَحْدَهُ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّمَيُّزِ، أَوْ إسْلَامِ النَّاقِضِ، صَارَ نَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَخْذِ النَّاقِضِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّمَيُّزُ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ. فَإِنْ أَسَرَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ قَوْمًا، فَادَّعَى الْأَسِيرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ، وَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، قُبِلَ قَوْلُ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ قِبَلِهِ. [فَصْلٌ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ أَهْل الذِّمَّة] (7594) فَصْلٌ: وَإِنْ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ، جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَكْفِي وُقُوعُ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَنْ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَا خَافَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِقِتَالٍ وَلَا غَارَةٍ قَبْلَ إعْلَامِهِمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ؛ لِلْآيَةِ، وَلِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْعَهْدِ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَلَا أَخْذُ مَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّ الذِّمِّيَّ إذَا خِيفَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ. قُلْنَا: عَقْدُ الذِّمَّةِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ، وَهُوَ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ، وَعَقْدٌ مُؤَبَّدٌ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ وَالْأَمَانِ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَضَ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَتَجِبُ وِلَايَتُهُ، وَلَا يُخْشَى الضَّرَرُ كَثِيرًا مِنْ نَقْضِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُمْ الْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِأَخْذِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ مَنْ عَقَدَ الْهُدْنَةَ فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ] (7595) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ، فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ آمَنَهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، كَمَا أَمَّنَ مَنْ فِي قَبْضَتِهِ مِنْهُمْ. وَمَنْ أَتْلَفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَلَا تَلْزَمُهُ حِمَايَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا حِمَايَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْهُمْ فَقَطْ. فَإِنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 آخَرُونَ فَسَبَوْهُمْ. لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِنْقَاذُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ شِرَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عَهْدِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَذَاهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ، فَلَا يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَاسْتَنْقَذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ إلَيْهِمْ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوبُ رَدِّهِ، كَمَا تُرَدُّ أَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَيْهِمْ. [فَصْلٌ بَعْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا فَجَاءَنَا مِنْهُمْ إنْسَانٌ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ] (7596) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ مُطْلَقًا، فَجَاءَنَا مِنْهُمْ إنْسَانٌ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ، لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، أَوْ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. وَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ خَرَجَ الْعَبْدُ إلَيْنَا قَبْلَ إسْلَامِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا، لَمْ يَصِرْ حُرًّا، لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا، وَالْهُدْنَةُ تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْقَهْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: إذَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ لَهُ مُسْلِمَةٌ، وَجَبَ رَدُّ مَهْرِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] . يَعْنِي رُدَّ مَهْرُهَا إلَى زَوْجِهَا إذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا، وَإِنْ جَاءَ غَيْرُهُ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، خَرَجَ إلَيْنَا، فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ، وَلَا رَدُّ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْهُ، كَالْحُرِّ مِنْ الرِّجَالِ، وَكَالْعَبْدِ إذَا خَرَجَ ثُمَّ أَسْلَمَ. قَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا. قُلْنَا: إنَّمَا أَمَّنَّاهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ هُمْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي دَارِهِمْ، وَمَنْ لَيْسَ فِي قَبْضَتِهِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ قَبْلَ إسْلَامِهِ، وَلِهَذَا «لَمَّا قَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ لِرَدِّهِ، لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُضَمِّنْهُ، وَلَمَّا انْفَرَدَ هُوَ وَأَبُو جَنْدَلٍ وَأَصْحَابُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا الْمَالَ، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا أَخَذُوهُ، وَلَا غَرَامَةِ مَا أَتْلَفُوهُ» . وَهَذَا الَّذِي أَسْلَمَ كَانَ فِي دَارِهِمْ وَقَبْضَتِهِمْ، وَقَهْرِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَصَارَ حُرًّا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَوْ أَخَذَتْهُ كَانَتْ قَدْ قَهَرَتْهُمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْقَهْرِ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِوَضُهُ، لَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى. وَالْآيَةُ، قَالَ قَتَادَةُ: تُبِيحُ رَدَّ الْمَهْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ. وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، حِينَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، فَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ رَدَّ النِّسَاءِ، أَمَرَ بِرَدِّ مُهُورِهِنَّ، وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ. وَإِنْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءِ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَهُ، كَانَ صَحِيحًا، وَقَدْ نُسِخَ، فَإِذَا شُرِطَ الْآنَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا إلْحَاقُهُ بِهِ. [فَصْلٌ الشُّرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ] (7597) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ صَحِيحٌ؛ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ مَالًا، أَوْ مَعُونَةَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 حَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الرِّجَالِ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ. فَهَذَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ شَرْطُ رَدِّ الْمُسْلِمِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وَتَمْنَعُهُ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَوَفَّى لَهُمْ بِهِ، فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَأَبَا بَصِيرٍ» ، وَلَمْ يَخُصَّ بِالشَّرْطِ ذَا الْعَشِيرَةِ، وَلِأَنَّ ذَا الْعَشِيرَةِ إذَا كَانَتْ عَشِيرَتُهُ هِيَ الَّتِي تَفْتِنُهُ وَتُؤْذِيه، فَهُوَ كَمَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَمَتَى شَرَطَ لَهُمْ ذَلِكَ، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا فِي طَلَبِهِ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَخْذَهُ، وَلَا يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى الْمُضِيِّ مَعَهُمْ. وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ سِرًّا بِالْهَرَبِ مِنْهُمْ، وَمُقَاتَلَتِهِمْ «، فَإِنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ عَلِمْت مَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا. فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ الرَّجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا فِي طَرِيقِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، قَدْ رَدَدْتنِي إلَيْهِمْ، فَأَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلُمْهُ، بَلْ قَالَ: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَبُو بَصِيرٍ، لَحِقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَانْحَازَ إلَيْهِ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، فَجَعَلُوا لَا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ إلَّا عَرَضُوا لَهَا، فَأَخَذُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ مَعَهَا، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ، إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، أَنْ يَضُمَّهُمْ إلَيْهِ، وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِمْ أَحَدًا جَاءَهُ، فَفَعَلَ. فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ يَتَحَيَّزُوا نَاحِيَةً، وَيَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفَّارِ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِي الصُّلْحِ. وَإِنْ ضَمَّهُمْ الْإِمَامُ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْكُفَّارِ، دَخَلُوا فِي الصُّلْحِ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُ الْكُفَّارِ وَأَمْوَالُهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ إلَى النَّبِيِّ هَارِبًا مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 الْكُفَّارِ، يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، قَامَ إلَيْهِ أَبُوهُ فَلَطَمَهُ، وَجَعَلَ يَرُدُّهُ، قَالَ عُمَرُ: فَقُمْت إلَى جَانِبِ أَبِي جَنْدَلٍ، فَقُلْت: إنَّهُمْ الْكُفَّارُ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ. وَجَعَلْت أُدْنِي مِنْهُ قَائِمَ السَّيْفِ لَعَلَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ. الثَّانِي، شَرْطٌ فَاسِدٌ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ رَدَّ النِّسَاءِ، أَوْ مُهُورِهِنَّ، أَوْ رَدَّ سِلَاحِهِمْ، أَوْ إعْطَاءَهُمْ شَيْئًا مِنْ سِلَاحِنَا، أَوْ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ مَالًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ، أَوْ يَشْتَرِطَ نَقْضَهَا مَتَى شَاءُوا، أَوْ أَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَقْضًا، أَوْ يَشْتَرِطَ رَدَّ الصِّبْيَانِ، أَوْ رَدَّ الرِّجَالِ، مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ، لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، إلَّا فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَقْضَهَا مَتَى شَاءَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ طَائِفَةَ الْكُفَّارِ يَبْنُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْهُمْ، وَلَا أَمْنُهُمْ مِنَّا، فَيَفُوتُ مَعْنَى الْهُدْنَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ شَرْطُ رَدِّ النِّسَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ» . وَتُفَارِقُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَأْمَنُ مِنْ أَنْ تُزَوَّجَ كَافِرًا يَسْتَحِلُّهَا، أَوْ يُكْرِهُهَا مَنْ يَنَالُهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . الثَّانِي، أَنَّهَا رُبَّمَا فُتِنَتْ عَنْ دِينِهَا؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ قَلْبًا، وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً مِنْ الرَّجُلِ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُمْكِنُهَا فِي الْعَادَةِ الْهَرَبُ وَالتَّخَلُّصُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ. وَلَا يَجُوزُ رَدُّ الصِّبْيَانِ الْعُقَلَاءِ إذَا جَاءُوا مُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي الضَّعْفِ فِي الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْعَجْزِ عَنْ التَّخَلُّصِ وَالْهَرَبِ. فَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ، فَيَجُوزُ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. [فَصْلٌ طَلَبَتْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ الْخُرُوجَ مِنْ عِنْد الْكُفَّارِ] (7598) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَبَتْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ، الْخُرُوجَ مِنْ عِنْدِ الْكُفَّارِ، جَازَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ إخْرَاجُهَا؛ لِمَا رُوِيَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَقَفَتْ ابْنَةُ حَمْزَةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا مَرَّ بِهَا عَلِيٌّ قَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ، إلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَتَنَاوَلَهَا، فَدَفَعَهَا إلَى فَاطِمَةَ، حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 [مَسْأَلَة الْإِمَامُ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بِهِمْ بِلَادَ الْعَدُوِّ] (7599) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَمِيرُ قَوْمًا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَنَافِعِهِمْ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَأُعْطُوا مَا اُسْتُؤْجِرُوا بِهِ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ، فِي الْإِمَامِ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بِهِمْ بِلَادَ الْعَدُوِّ: لَا يُسْهِمُ لَهُمْ، وَيُوفِي لَهُمْ بِمَا اُسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، كَالْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ. أَمَّا الرِّجَالُ الْمُسْلِمُونَ الْأَحْرَارُ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ يَتَعَيَّنُ بِحُضُورِهِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْغَزْوِ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي، وَيَأْخُذُونَ الْجُعْلَ، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، مَثَلُ أُمِّ مُوسَى، تُرْضِعُ وَلَدَهَا، وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» . وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَصَحَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَصَحَّ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ. وَيُفَارِقُ الْحَجَّ، حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَيْهِ تَعْطِيلٌ لَهُ، وَمَنْعٌ لَهُ مِمَّا فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْعٌ، وَبِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، بِخِلَافِ الْحَجِّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ يَرُدُّهَا، وَلَهُ سَهْمُهُ؛ لِأَنَّ غَزْوَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ غَزْوَهُ بِعِوَضٍ، فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبَّهٍ، قَالَ: «أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَزْوِ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْت أَجِيرًا يَكْفِينِي، وَأُجْرِي لَهُ سَهْمَهُ، فَوَجَدْت رَجُلًا، فَلَمَّا دَنَا الرَّحِيلُ، قَالَ: مَا أَدْرِي مَا السُّهْمَانُ وَمَا يَبْلُغُ سَهْمِي، فَسَمِّ لِي شَيْئًا كَانَ السَّهْمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَسَمَّيْت لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ أَرَدْت أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ، فَذَكَرْت الدَّنَانِيرَ، فَجِئْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت لَهُ أَمْرَهُ، فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي سَمَّى» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. قَالَ: وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لِلْأَجِيرِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، أَنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَلَهُ السَّهْمُ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَدِيثِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَقَوْلِ عُمَرَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَلِأَنَّهُ حَاضِرٌ لِلْوَقْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَغَيْرِ الْأَجِيرِ. فَأَمَّا الَّذِينَ يُعْطُونَ مِنْ حَقِّهِمْ مِنْ الْفَيْءِ، فَلَهُمْ سِهَامُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِيَغْزُوَ، لَا أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ جِهَادِهِ، بَلْ نَفْعُ جِهَادِهِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا نَشِطُوا لِلْغَزْوِ أُعْطُوا، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَعُونَةً، لَا عِوَضًا، وَلِذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى الْغُزَاةِ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ، وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ، كَانَ لَهُ فِيهِ الثَّوَابُ، وَلَمْ يَكُنْ عِوَضًا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» . [فَصْلٌ الْمُسْتَأْجَر عَلَى خِدْمَةِ الْقَوْمِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ] (7600) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَجِيرُ لِلْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ، أَوْ الَّذِي يُكْرِي دَابَّةً لَهُ، وَيَخْرُجُ مَعَهَا، وَيَشْهَدُ الْوَقْعَةَ، فَعَنْ أَحْمَدْ، فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا سَهْمَ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، قَالَا: الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى خِدْمَةِ الْقَوْمِ لَا سَهْمَ لَهُ. وَوَجْهُهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ. وَالثَّانِيَةُ، يُسْهَمُ لَهُمَا، إذَا شَهِدَا الْقِتَالَ مَعَ النَّاسِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ إذَا قَاتَلَ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخِدْمَةِ فَلَا سَهْمَ لَهُ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِحَدِيثِ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا لِطَلْحَةَ حِينَ أَدْرَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُيَيْنَةَ، حِينَ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ» . وَقَالَ الْقَاضِي: يُسْهَمُ لَهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَصْدُهُ الْجِهَادَ، فَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ إذَا قَاتَلَ، وَيُرْفَعُ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَهُ نَفَقَةُ مَا اشْتَغَلَ عَنْهُ. [فَصْلٌ التَّاجِر وَالْأَجِيرُ إذَا كَانَا مَعَ الْمُجَاهِدِينَ] (7601) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّاجِرُ وَالصَّانِعُ، كَالْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالْبَيْطَارِ وَالْحَدَّادِ وَالْإِسْكَافِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا حَضَرُوا. قَالَ أَصْحَابُنَا: قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. وَبِهِ قَالَ فِي التَّاجِرِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْهَمُ لَهُمْ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ. قَالَ الْقَاضِي، فِي التَّاجِرِ وَالْأَجِيرِ: إذَا كَانَا مَعَ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَصْدُهُمَا الْجِهَادُ، وَإِنَّمَا مَعَهُ الْمَتَاعُ إنْ طُلِبَ مِنْهُ بَاعَهُ، وَالْأَجِيرُ قَصْدُهُ الْجِهَادُ أَيْضًا، فَهَذَانِ يُسْهَمُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا غَازِيَانِ، وَالصُّنَّاعُ بِمَنْزِلَةِ التُّجَّارِ، مَتَى كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ، وَمَعَهُمْ السِّلَاحُ، فَمَتَى عَرَضَ اشْتَغَلُوا بِهِ، أُسْهِمَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْجِهَادِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ. [فَصْلٌ دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَغَنِمُوا] (7602) فَصْلٌ: إذَا دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ، بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَغَنِمُوا، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 إحْدَاهُنَّ، أَنَّ غَنِيمَتَهُمْ كَغَنِيمَةِ غَيْرِهِمْ، يُخَمِّسُهُ الْإِمَامُ، وَيَقْسِمُ بَاقِيه بَيْنَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . الْآيَةَ. وَالْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ جِهَادٍ، فَكَانَ لَهُمْ أَشْبَهَ الِاحْتِطَابَ، فَإِنَّ الْجِهَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ طَائِفَةٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ، فَأَمَّا هَذَا فَتَلَصُّصٌ وَسَرِقَةٌ وَمُجَرَّدُ اكْتِسَابٍ. وَالثَّالِثَةُ، أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي عَبْدٍ أَبَقَ إلَى الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مَتَاعٌ: فَالْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ، وَمَا مَعَهُ مِنْ الْمَتَاعِ وَالْمَالِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ بِفِعْلِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ. وَالْأُولَى أَوْلَى قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا أَقْفَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ مَعَ مَسْلَمَةَ، كُسِرَ مَرْكَبُ بَعْضِهِمْ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ نَاسًا مِنْ الْقِبْطِ، فَكَانُوا خَدَمًا لَهُمْ، فَخَرَجُوا يَوْمًا إلَى عِيدٍ لَهُمْ، وَخَلَّفُوا الْقِبْطَ فِي مَرْكَبِهِمْ، وَشَرِبَ الْآخَرُونَ، وَرَفَعَ الْقِبْطُ الْقَلْعَ وَفِي الْمَرْكَبِ مَتَاعُ الْآخَرِينَ وَسِلَاحُهُمْ، فَلَمْ يَضَعُوا قَلْعَهُمْ حَتَّى أَتَوْا بَيْرُوتَ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز، فَكَتَبَ عُمَرُ: نَفِّلُوهُمْ الْقَلْعَ وَكُلَّ شَيْءٍ جَاءُوا بِهِ إلَّا الْخُمْسَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. وَإِنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ ذَاتَ مَنَعَةٍ، غَزَوْا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِيَةُ، يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمِيعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ خُمْسٍ؛ لِكَوْنِهِ اكْتِسَابُ مُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ جِهَادٍ. [مَسْأَلَة غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ] (7603) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، حُرِّقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ، إلَّا الْمُصْحَفَ، وَمَا فِيهِ رُوحٌ الْغَالُّ: هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يُطْلِعُ الْإِمَامَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضَعُهُ مَعَ الْغَنِيمَةِ، فَحُكْمُهُ أَنْ يُحَرَّقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ. وَأُتِيَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ، فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز حَاضِرٌ ذَلِكَ، فَلَمْ يَعِبْهُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُلُّ، أَنْ يُحَرَّقَ رَحْلُهُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُحَرَّقُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحَرِّقْ» ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً، أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ، فَيُخَمِّسُهُ، وَيَقْسِمُهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ: سَمِعْت بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ . قَالَ: نَعَمْ قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ . فَاعْتَذَرَ، فَقَالَ: كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ إحْرَاقَ الْمَتَاعِ إضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.» وَلَنَا؛ مَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ، فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ، وَاضْرِبُوهُ» . قَالَ فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: بِعْهُ، وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالَّ» . فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهُ أَخَذَ مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْغُلُولِ، وَلَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَوَانَى فِي الْمَجِيءِ بِهِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ تَائِبًا مُعْتَذِرًا، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَتَمْحُو الْحَوْبَةَ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا، كَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ إذَا خِيفَ الْغَرَقُ، وَقَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ السَّارِقِ، مَعَ أَنَّ الْمَالَ لَا تَكَادُ الْمَصْلَحَةُ تَحْصُلُ بِهِ إلَّا بِذَهَابِهِ، فَأَكْلُهُ إتْلَافُهُ، وَإِنْفَاقُهُ إذْهَابُهُ، وَلَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيعًا وَلَا إفْسَادًا، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْمُصْحَفُ، فَلَا يُحَرَّقُ؛ لِحُرْمَتِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُحَرَّقُ؛ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا» ، وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَلَا تُحَرَّقُ آلَةُ الدَّابَّةِ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا يُحَرَّقُ، فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرَّقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 وَلَنَا، أَنَّهُ مَلْبُوسُ حَيَوَانٍ، فَلَا يُحَرَّقُ، كَثِيَابِ الْغَالِّ. وَلَا تُحَرَّقُ ثِيَابُ الْغَالِّ الَّتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عُرْيَانًا، وَلَا مَا غَلَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَاَلَّذِي أَصَابَ فِي الْغُلُولِ، أَيَّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: يُرْفَعُ إلَى الْمَغْنَمِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَلَا سِلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ، وَلَا نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحَرَّقُ عَادَةً، وَجَمِيعُ ذَلِكَ، أَوْ مَا أَبْقَتْ النَّارُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ بِإِحْرَاقِ مَتَاعِهِ، فَمَا لَمْ يَحْتَرِقْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ، وَيُتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِقَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ الْعِلْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُحَرَّقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِضْرَارَ بِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ. [فَصْلٌ لَمْ يُحَرَّقْ رَحْلُهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ الْغَنِيمَة] (7604) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يُحَرَّقْ رَحْلُهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ، أَوْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ، أُحْرِقَ مَا كَانَ مَعَهُ حَالِ الْغُلُولِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ. قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّقَ مَا كَانَ مَعَهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إحْرَاقِ رَحْلِهِ، لَمْ يُحَرَّقْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْحُدُودِ، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَإِحْرَاقُهُ عُقُوبَةٌ لِغَيْرِ الْجَانِي. وَإِنْ بَاعَ مَتَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُحَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لِغَيْرِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْقَضَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَيُحَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، كَالْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْجَانِي. [فَصْلٌ عَدَم إحْرَاق مَتَاع الْغَالُّ فِي الْغَنِيمَةِ] (7605) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْغَالُّ صَبِيًّا، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ عُقُوبَةٌ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَشْبَهَ الْحَدَّ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يُعَاقَبُ سَيِّدُهُ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ. وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَا غَلَّهُ، فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ غَلَّتْ امْرَأَةٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُحْرِقَ مَتَاعُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، وَلِذَلِكَ يُقْطَعَانِ فِي السَّرِقَةِ، وَيُحَدَّانِ فِي الزِّنَى وَغَيْرِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْغُلُولَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ابْتَاعَ مَا بِيَدِهِ، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ، حَتَّى يَثْبُتَ غُلُولُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بِهِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِذَلِكَ، كَالْحَدِّ، وَلَا يُقْبَلُ فِي بَيِّنَتِهِ إلَّا عَدْلَانِ؛ لِذَلِكَ. (7606) فَصْلٌ: وَلَا يُحْرَمُ الْغَالُّ سَهْمَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُحْرَمُ سَهْمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: يُحْرَمُ سَهْمَهُ. فَإِنْ صَحَّ، فَالْحُكْمُ لَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فِي الصَّبِيِّ يَغُلُّ: يُحْرَمُ سَهْمَهُ، وَلَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ. وَلَنَا، أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَوْجُودٌ، فَيَسْتَحِقَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِرْمَانُ سَهْمِهِ فِي خَبَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ، وَلَا يُحَرَّقُ سَهْمُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ رَحْلِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 [فَصْلٌ تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ] (7607) فَصْلٌ: إذَا تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمُقْسَمِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إلَى أَهْلِهِ. فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ خُمُسَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو. عَنْ حَوْشَبِ بْنِ سَيْفٍ، قَالَ: غَزَا النَّاسُ الرُّومَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَمَّا قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، نَدِمَ، فَأَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: قَدْ غَلَلْت مِائَةَ دِينَارٍ، فَاقْبِضْهَا. قَالَ: قَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ، فَلَنْ أَقْبِضَهَا مِنْك حَتَّى تُوَافِيَ اللَّهَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَتَى مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَبْكِي، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَمُطِيعِي أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى مُعَاوِيَةَ فَقُلْ لَهُ: خُذْ مِنِّي خُمْسَك، فَأَعْطِهِ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَانْظُرْ إلَى الثَّمَانِينَ الْبَاقِيَةِ، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَكَانَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَحْسَنَ وَاَللَّهِ، لَأَنْ أَكُنْ أَنَا أَفْتَيْته بِهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ كُلِّ شَيْءٍ امْتَلَكْت. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ لِلصَّدَقَةِ وَجْهًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْغَالِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا أَقْبَلُهُ مِنْك، حَتَّى تَجِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلَنَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لَهُ، وَتَعْطِيلٌ لِمَنْفَعَتِهِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَلَا يَتَخَفَّفُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ إثْمِ الْغَالِّ، وَفِي الصَّدَقَةِ نَفْعٌ لِمَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَذْهَبُ بِهِ الْإِثْمُ عَنْ الْغَالِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى. [مَسْأَلَة لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ] (7608) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَتَى حَدًّا مِنْ الْغُزَاةِ، أَوْ مَا يُوجِبُ قِصَاصًا، فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْفِلَ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقَامُ الْحَدُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ أَمِيرُ الْجَيْشِ الْإِمَامَ، أَوْ أَمِيرَ إقْلِيمٍ، فَلَيْسَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ، وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَحْدُودِ، أَوْ قُوَّةٌ بِهِ، أَوْ شُغْلٌ عَنْهُ، أُخِّرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ وَلَا قِصَاصَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا إذَا رَجَعَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ، أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ، وَعَلَى تَأْخِيرِهِ، مَا رَوَى بِشْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ، أَنَّهُ أُتِيَ بَرْجَلٍ فِي الْغَزَاةِ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزَاةِ» لَقَطَعْتُك. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى النَّاسِ، أَنْ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا، وَهُوَ غَازٍ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا؛ لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنَّا فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَحُدَّهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَتَحُدُّونَ أَمِيرَكُمْ وَقَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَيَطْمَعُوا فِيكُمْ. وَأُتِيَ سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ إلَى الْقَيْدِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: كَفَى حَزَنًا أَنْ تُطْرَدَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا وَقَالَ لِابْنَةِ حَفْصَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: أَطْلِقِينِي، وَلَك اللَّهُ عَلَيَّ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، فَإِنْ قُتِلْت، اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي. قَالَ: فَحَلَّتْهُ حِينَ الْتَقَى النَّاسُ، وَكَانَتْ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إلَى النَّاسِ. قَالَ: وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ، فَوَثَبَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَال لَهَا الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَجَعَلَ لَا يَحْمِلُ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْعَدُوِّ إلَّا هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ النَّاسُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ يَصْنَعُ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الضَّبْرُ ضَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالطَّعْنُ طَعْنُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ. فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ. فَأَخْبَرَتْ ابْنَةُ حَفْصَةَ سَعْدًا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: لَا وَاَللَّهِ، لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ مَا أَبْلَاهُمْ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ. فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْت أَشْرَبُهَا إذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إذَا بَهْرَجَتْنِي، فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا. وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ. فَأَمَّا إذَا رَجَعَ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، كَمَا يُؤَخَّرُ لِمَرَضٍ أَوْ شُغْلٍ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ، أُقِيمَ الْحَدُّ، لِوُجُودِ مُقْتَضِيه، وَانْتِفَاءِ مُعَارِضِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا. [فَصْلٌ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الثُّغُورِ] (7609) فَصْلٌ: وَتُقَامُ الْحُدُودُ فِي الثُّغُورِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى زَجْرِ أَهْلِهَا، كَالْحَاجَةِ إلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، أَنْ يَجْلِدَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَمَانِينَ، وَهُوَ بِالشَّامِ، وَهُوَ مِنْ الثُّغُورِ. [مَسْأَلَة الْإِمَامَ إذَا ظَفِرَ بِالْكُفَّارِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ] (7610) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا فُتِحَ حِصْنٌ، لَمْ يُقْتَلْ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ، أَوْ يُنْبِتْ، أَوْ يَبْلُغْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا ظَفِرَ بِالْكُفَّارِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ، فَفِي قَتْلِهِ إتْلَافُ الْمَالِ، وَإِذَا سُبِيَ مُنْفَرِدًا صَارَ مُسْلِمًا، فَإِتْلَافُهُ إتْلَافُ مَنْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُسْلِمًا، وَالْبُلُوغُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، الِاحْتِلَامُ، وَهُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ أَوْ قُبُلِ الْأُنْثَى فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» . وَقَالَ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. الثَّانِي، إنْبَاتُ الشَّعْرِ الْخَشِنِ حَوْلَ الْقُبُلِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى «عَطِيَّةُ الْقُرَظِيّ، قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 كُنْت مِنْ سَبْيِ قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْت فِي مَنْ لَمْ يُنْبِتْ» . أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: «حَدَّثَنِي أَبْنَاءُ قُرَيْظَةَ، أَنَّهُمْ عُرِضُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُحْتَلِمًا أَوْ نَبَتَتْ عَانَتُهُ قُتِلَ، وَمَنْ لَا، تُرِكَ.» أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْتُبُ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ لَا يَقْتُلُوا إلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَلَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ إلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ هَذَا بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِمْ فِي الِاحْتِلَامِ، وَعَدَدِ السِّنِينَ، وَلَيْسَ بِعَلَامَةٍ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَلَنَا، قَوْلُ أَبِي نَضْرَةَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، حِينَ اُخْتُلِفَ فِي بُلُوغِ تَمِيمِ بْنِ فَرْعٍ الْمَهْرِيِّ: اُنْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ، فَاقْسِمُوا لَهُ. فَنَظَرَ إلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَنْبَتَ، فَقَسَمُوا لَهُ. وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُ هَذَا، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْعَلَمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يُلَازِمُ الْبُلُوغَ غَالِبًا، فَكَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ، كَالِاحْتِلَامِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ مَعْرِفَةُ الِاحْتِلَامِ وَالسِّنِّ. قُلْنَا: لَا تَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ السِّنِّ فِي الذِّمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَعَذُّرُ الْمَعْرِفَةِ لَا يُوجِبُ جَعْلَ مَا لَيْسَ بِعَلَامَةٍ، كَغَيْرِ الْإِنْبَاتِ. الثَّالِثُ، بُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْقِتَالِ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ.» قَالَ نَافِعٌ: فَحَدَّثْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هَذَا فَصْلُ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَبَيْنَ الْغِلْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ فِي حَقِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَزِيدُ الْأُنْثَى بِعَلَامَتَيْنِ؛ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ، فَمَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ عَلَامَةٌ مِنْهُنَّ، فَهُوَ صَبِيٌّ يَحْرُمُ قَتْلُهُ. [فَصْلٌ لَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ وَلَا شَيْخٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7611) فَصْلٌ: وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ، وَلَا شَيْخٌ فَانٍ. وَبِذَلِكَ قَالَ وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] . يَقُولُ: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَهَذَا عَامٌّ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الشُّيُوخَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْرِفُ حُجَّةً فِي تَرْكِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 قَتْلِ الشُّيُوخِ يُسْتَثْنَى بِهَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا نَفْعَ فِي حَيَاتِهِ، فَيُقْتَلُ كَالشَّابِّ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فِي سُنَنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَصَّى يَزِيدَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا هَرِمًا. وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ وَصَّى سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا شَيْخًا هَرِمًا. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلْ، كَالْمَرْأَةِ. وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ هَذِهِ قُتِلَتْ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ» . وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ عُمُومِهَا الْمَرْأَةُ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ فِي مَعْنَاهَا، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَأَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ مَعُونَةٌ عَلَيْهِ، بِرَأْيِ أَوْ تَدْبِيرٍ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ فِي الْهَرِمِ، وَحَدِيثَهُمْ عَامٌّ فِي الشُّيُوخِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْعَجُوزِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا. [فَصْلٌ لَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ فِي دَار الْحَرْب] (7612) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ، وَالْخِلَافُ فِيهِمْ كَالْخِلَافِ فِي الشَّيْخِ، وَحُجَّتُهُمْ هَا هُنَا حُجَّتُهُمْ فِيهِ. وَلَنَا، فِي الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى، أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَأَشْبَهَا الْمَرْأَةَ، وَفِي الرَّاهِبِ، مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ، قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَدَعُوهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمْ اللَّهُ عَلَى ضَلَالِهِمْ» . وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ تَدَيُّنًا، فَأَشْبَهُوا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ. [فَصْلٌ لَا يُقْتَلُ الْعَبِيدُ فِي دَار الْحَرْب] (7613) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ الْعَبِيدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدْرِكُوا خَالِدًا، فَمُرُوهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا» . وَهُمْ الْعَبِيدُ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ، فَأَشْبَهُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. [فَصْلٌ جَازَ قَتْلُ أَصْحَابِ الْعَاهَاتِ إذَا كَانَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْب] (7614) فَصْلٌ: وَمَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا جَمِيعِهِمْ، جَازَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَتَلَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ امْرَأَةً أَلْقَتْ رَحًى عَلَى مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ» . وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الْمَذْكُورِينَ ذَا رَأْيٍ يُعِينُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، جَازَ قَتْلُهُ «؛ لِأَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَهُوَ شَيْخٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، وَكَانُوا خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، يَتَيَمَّنُونَ بِهِ، وَيَسْتَعِينُونَ بِرَأْيِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَهُ.» وَلِأَنَّ الرَّأْيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعُونَةِ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ وَالْأَسْوَدِ: أَمْدَدْتُمَا عَلِيًّا بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَبِرَأْيِهِ وَمُكَايَدَتِهِ، فَوَاَللَّهِ لَوْ أَنَّكُمَا أَمْدَدْتُمَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، مَا كَانَ بِأَغْيَظَ لِي مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 [مَسْأَلَة قِتَال النِّسَاءِ أَوْ الْمَشَايِخِ أَوْ الرُّهْبَان فِي الْمَعْرَكَة] مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ النِّسَاءِ أَوْ الْمَشَايِخِ أَوْ الرُّهْبَانِ فِي الْمَعْرَكَةِ قُتِلَ) لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: نَازَعَتْنِي قَائِمَ سَيْفِي قَالَ: فَسَكَتَ» «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ: مَا بَالُهَا قُتِلَتْ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُقَاتِلْ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا لَمْ يُقْتَلُوا لِأَنَّهُمْ فِي الْعَادَةِ لَا يُقَاتِلُونَ. [فَصْل قِتَال الْمَرِيض فِي الْمَعْرَكَة] (7616) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَيُقْتَلُ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا قَاتَلَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الزَّمِنِ، لَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يُقَاتِلُ فِيهَا. [فَصْلٌ قِتَال الْحَرَّاثُ فِي الْمَعْرَكَة] (7617) فَصْلٌ فَأَمَّا الْفَلَّاحُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ، الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمْ الْحَرْبَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ، إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقْتَلُ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ وَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلُوهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، فَأَشْبَهُوا الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ. [فَصْلٌ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا] (7618) فَصْلٌ: إذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا، لَزِمَتْهُ مُصَابَرَتُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِخُصْلَةٍ مِنْ خِصَالٍ خَمْسٍ أَحَدِهَا، أَنْ يُسْلِمُوا، فَيُحْرِزُوا بِالْإِسْلَامِ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ، وَيَرِقُّونَ. الثَّانِيَةُ، أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ، فَيَجُوزُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ أَعْطَوْهُ جُمْلَةً أَوْ جَعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ، فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَبَذَلُوهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهَا مِنْهُمْ، وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَإِنْ بَذَلُوا مَالًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْجِزْيَةِ، فَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَبُولِهِ، قَبِلَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إذَا لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. الثَّالِثَةُ، أَنْ يَفْتَحَهُ. الرَّابِعَةُ، أَنْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْإِقَامَةِ، وَإِمَّا لِلْيَأْسِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ يَنْتَهِزُهَا تَفُوتُ بِإِقَامَتِهِ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: أَنَرْجِعُ عَنْهُ وَلَمْ نَفْتَحْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَصَابَهُمْ الْجِرَاحُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا. فَأَعْجَبَهُمْ، فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْخَامِسَةُ، أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَجُوزُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، رَضُوا بِأَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ» وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا، صِفَةُ الْحَاكِمِ. وَالثَّانِي، صِفَةُ الْحُكْمِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ، أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ حُرًّا، مُسْلِمًا، عَاقِلًا، بَالِغًا، ذَكَرًا، عَدْلًا، فَقِيهًا، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى، لِأَنَّ عَدَمَ الْبَصَرِ لَا يَضُرُّ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَأْيُهُ، وَمَعْرِفَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَصَرِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَصَرِ، لِيَعْرِفَ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْفِقْهِ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ، مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَا يُعْتَبَرُ فِقْهُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا لِهَذَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِذَا حَكَّمُوا رَجُلَيْنِ جَازَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى رَجُلٍ يُعَيِّنُهُ الْإِمَامُ، جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَوْ جَعَلُوا التَّعْيِينَ إلَيْهِمْ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اخْتَارُوا مَنْ لَا يَصْلُحُ، وَإِنْ عَيَّنُوا رَجُلًا يَصْلُحُ، فَرَضِيَهُ الْإِمَامُ، جَازَ، لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَيَّنُوهُ، فَرَضِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَازَ حُكْمَهُ. وَقَالَ «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ» وَإِنْ مَاتَ مَنْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ، قَامَ مُقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مُقَامَهُ، أَوْ طَلَبُوا حَكَمًا لَا يَصْلُحُ، رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَكَانُوا عَلَى الْحِصَارِ حَتَّى يَتَّفِقُوا، وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِاثْنَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، جَازَ، وَإِلَّا رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِتَحْكِيمِ مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ الشَّرَائِطُ فِيهِ، وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ، لَمْ يُحَكَّمْ، وَيُرَدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ كَمَا كَانُوا. وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ، فَإِنْ حَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، نُفِّذَ حُكْمُهُ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ إلَيْهِ فِيمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ الْمَنُّ، كَالْإِمَامِ فِي الْأَسِيرِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَلَا حَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنِّ وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْمَنَّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إذَا سُبُوا فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ السَّبْيُ فِيهِمْ، بِخِلَافِ مَنْ سُبِيَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ جَازَ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ. فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ، لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّرَاضِي، وَلِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ إجْبَارَ الْأَسِيرِ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ جَازَ لِلْإِمَامِ الْمَنُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، «لِأَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، مِنْ قُرَيْظَةَ، وَمَالِهِ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَهُ» . وَيُخَالِفُ مَالَ الْغَنِيمَةِ إذَا حَازَهُ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ مِلْكَهُمْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهُمْ أَحْرَارٌ، وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ، بِخِلَافِ الْأَسِيرِ، فَإِنَّ الْأَسِيرَ قَدْ ثَبَتَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ، كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، فَلِذَلِكَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ، سَقَطَ، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ، وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَا حَكَمَ فِيهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَانَ غَنِيمَةً، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْقَهْرِ وَالْحَصْرِ. [مَسْأَلَةٌ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّاهُ الْكُفَّارُ وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ] (7619) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَإِذَا خُلِّيَ الْأَسِيرُ مِنَّا، وَحَلَفَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ يُعَيِّنُهُ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّيْهِ الْكُفَّارُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ، نَظَرْت، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ بِالْعَذَابِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِرُجُوعٍ وَلَا فِدَاءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْضًا: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] «وَلَمَّا صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا وَفَّى لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَلِأَنَّ فِي الْوَفَاءِ مَصْلَحَةً لِلْأُسَارَى، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَمَّنُونَ بَعْدَهُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّهُ عَاهَدَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْمَشْرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، أَوْ شَرَطَ لَهُمْ مَالًا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ. فَأَمَّا إنْ عَجَزَ عَنْ الْفِدَاءِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمُفَادَى امْرَأَةً، لَمْ تُرْجَعْ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ رَدَّ النِّسَاءِ إلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ صُلْحِهِ عَلَى رَدِّهِنَّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِيهَا: فَجَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرُدُّوهُنَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، لَا يُرْجَعُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، كَمَا لَوْ كَانَ امْرَأَةً، وَكَمَا لَوْ شَرَطَ قَتْلَ مُسْلِمٍ، أَوْ شُرْبَ الْخَمْرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَعْثِ الْفِدَاءِ «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَاهَدَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ وَقَالَ: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَفَارَقَ رَدَّ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ، حِينَ صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، فَأَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ، وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ تَقَدَّمَتْ. [فَصْلٌ أَطْلَقُوهُ وَآمَنُوهُ السَّبْي] (7620) فَصْلٌ: فَإِنْ أَطْلَقُوهُ وَآمَنُوهُ، صَارُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ لِأَنَّ أَمَانَهُمْ لَهُ يَقْتَضِي سَلَامَتَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمُضِيُّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَقَامَ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ، فَأَدْرَكُوهُ وَتَبِعُوهُ، قَاتَلَهُمْ، وَبَطَلَ الْأَمَانُ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْمُقَامَ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، فَأَمَّا إنْ أَطْلَقُوهُ وَلَمْ يُؤَمِّنُوهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا قَدَرَ، عَلَيْهِ وَيَسْرِقَ وَيَهْرَبَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَمِّنْهُمْ وَلَمْ يُؤَمِّنُوهُ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ، وَشَرَطُوا عَلَيْهِ الْمُقَامَ عِنْدَهُمْ، لَزِمَهُ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَلْزَمُهُ فَأَمَّا إنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ رَقِيقٌ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ أَنْ يَسْرِقَ وَيَهْرَبَ وَيَقْتُلَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ رَقِيقًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْتَضِ أَمَانًا لَهُ مِنْهُمْ، وَلَا لَهُمْ مِنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ أَحَلَفُوا عَلَى هَذَا، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْيَمِينِ، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا فَحَنِثَ، كَفَّرَ يَمِينَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِقَامَةُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُلْزِمُهُ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. [فَصْلٌ شِرَاء الْأَسِير وَاقْتِرَاضه] (7621) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْأَسِيرُ شَيْئًا مُخْتَارًا، أَوْ اقْتَرَضَهُ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْأَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ عَلَى قَبْضِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ بَاقِيًا، لِأَنَّهُمْ دَفَعُوهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِاخْتِيَارِهِ، ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا، لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَإِنْ عَدِمَتْ الْعَيْنُ، رَدَّ قِيمَتَهَا. [مَسْأَلَةٌ لِلْمُسْلِمِ الْهَرَبُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا خَشِيَ الْأَسْرِ فِي الْحَرْبِ] (7622) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ كَافِرَيْنِ، وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ خَشِيَ الْأَسْرَ، قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَجَبَ الثَّبَاتُ، وَحَرُمَ الْفِرَارُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 وَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، فَعَدَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ» . وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً وَلَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا، وَالْأَمْرُ مُطْلَقٌ وَخَبَرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامٌّ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ وَالتَّخْصِيصُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الثَّبَاتُ بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ زَادُوا عَلَيْهِ جَازَ الْفِرَارُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] . وَهَذَا إنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ، فَهُوَ أَمْرٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَمْ يَكُنْ رَدُّنَا مِنْ غَلَبَةِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إلَى غَلَبَةِ الِاثْنَيْنِ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الظَّفَرَ وَالْغَلَبَةَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ يَكُونُ الْعَدُوُّ فِيهِ ضِعْفَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا دُونَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ وَفَرْضٌ، وَلَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُ هَذِهِ الْآيَةَ، لَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ تَخْفِيفٌ فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] /إلَى قَوْلِهِ: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعَدَدِ، نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنْ الْعَدَدِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ، فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَرَّ الثَّانِي، أَنْ لَا يَقْصِدَ بِفِرَارِهِ التَّحَيُّزَ إلَى فِئَةٍ، وَلَا التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ، فَإِنْ قَصَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] . وَمَعْنَى التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ، أَنْ يَنْحَازَ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ أَمْكَنَ، مِثْلُ أَنْ يَنْحَازَ مِنْ مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ، أَوْ الرِّيحِ إلَى اسْتِدْبَارِهِمَا أَوْ مِنْ نَزْلَةٍ إلَى عُلُوٍّ، أَوْ مِنْ مَعْطَشَةٍ إلَى مَوْضِعِ مَاءٍ، أَوْ يَفِرَّ بَيْنَ أَيْدِيهمْ لِتَنْتَقِضَ صُفُوفُهُمْ، أَوْ تَنْفَرِدَ خَيْلُهُمْ مِنْ رَجَّالَتِهِمْ، أَوْ لِيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إلَى جَبَلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ إذْ قَالَ: يَا سَارِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ، ظَلَمَ الذِّئْبَ مَنْ اسْتَرْعَاهُ الْغَنَمَ. فَأَنْكَرَهَا النَّاسُ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دَعُوهُ. فَلَمَّا نَزَلَ سَأَلُوهُ عَمَّا قَالَ، فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ إلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ لِغَزْوِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ يَوْمَ جُمُعَةَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، فَسَمِعُوا صَوْتَ عُمَرَ فَتَحَيَّزُوا إلَى الْجَبَلِ، فَنَجَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 وَأَمَّا التَّحَيُّزُ إلَى فِئَةٍ، فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونَ مَعَهُمْ، فَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَسَوَاءٌ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْ كَانَتْ الْفِئَةُ بِخُرَاسَانَ. وَالْفِئَةُ بِالْحِجَازِ، جَازَ التَّحَيُّزُ إلَيْهَا وَنَحْوَهُ ذَكَرَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنِّي فِئَةٌ لَكُمْ وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنْهُ» وَقَالَ عُمَرُ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانِ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَقَالَ عُمَرُ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إلَيَّ لَكُنْت لَهُ فِئَةً وَإِذَا خَشِيَ الْأَسْرَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ، لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ. وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَنَفَرَتْ إلَيْهِمْ هُذَيْلٌ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إلَى فَدَدٍ فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا فَأَعْطُونَا مَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لَا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا فَقَالَ عَاصِمٌ:. أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ مَعَهُ، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَعَاصِمٌ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ، وَخُبَيْبٌ وَزَيْدٌ أَخَذَا بِالرُّخْصَةِ، وَكُلُّهُمْ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَلَا مَلُومٍ. [فَصْلٌ كَانَ الْعَدُوّ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ] (7623) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ الثَّبَاتُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِنْ انْصَرَفُوا جَازَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ الْعَطَبَ وَالْحُكْمُ عُلِّقَ عَلَى مَظِنَّتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عَدَدِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَزِمَهُمْ الثَّبَاتُ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِيهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمْ الثَّبَاتُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الظَّفَرُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِي الْإِقَامَةِ، وَالنَّجَاةُ فِي الِانْصِرَافِ فَالْأَوْلَى لَهُمْ الِانْصِرَافُ، وَإِنْ ثَبَتُوا جَازَ، لِأَنَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا أَيْضًا وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِي الْإِقَامَةِ وَالِانْصِرَافِ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ الثَّبَاتُ، لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الشُّهَدَاءِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الْقِتَالِ مُحْتَسَبِينَ، فَيَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُوَلِّينَ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا أَيْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وَلِذَلِكَ صَبَرَ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَاتَلُوا حَتَّى أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. [فَصْلٌ جَاءَ الْعَدُوُّ بَلَدًا فَلِأَهْلِهِ التَّحَصُّنُ مِنْهُمْ] (7624) فَصْلٌ: فَإِنْ جَاءَ الْعَدُوُّ بَلَدًا، فَلِأَهْلِهِ التَّحَصُّنُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِمْ لِيَلْحَقَهُمْ مَدَدٌ أَوْ قُوَّةٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَوَلِّيًا وَلَا فِرَارًا، إنَّمَا التَّوَلِّي بَعْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَإِنْ لَقُوهُمْ خَارِجَ الْحِصْنِ فَلَهُمْ التَّحَيُّزُ إلَى الْحِصْنِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ، أَوْ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ. وَإِنْ غَزَوْا فَذَهَبَتْ دَوَابُّهُمْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفِرَارِ، لِأَنَّ الْقِتَالَ مُمْكِنٌ لِلرَّجَّالَةِ وَإِنْ تَحَيَّزُوا إلَى جَبَلٍ لِيُقَاتِلُوا فِي رَجَّالَةٍ، فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ تَحَرُّفٌ لِلْقِتَالِ وَإِنْ ذَهَبَ سِلَاحُهُمْ، فَتَحَيَّزُوا إلَى مَكَان يُمْكِنُهُمْ الْقِتَالُ فِيهِ بِالْحِجَارَةِ، وَالتَّسَتُّرُ بِالشَّجَرِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَهُمْ فِي التَّحَيُّزِ إلَيْهِ فَائِدَةٌ جَازَ. [فَصْلٌ وَلَّى قَوْمٌ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَأَحْرَزَهَا الْبَاقُونَ] (7625) فَصْلٌ: فَإِنْ وَلَّى قَوْمٌ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَأَحْرَزَهَا الْبَاقُونَ، فَلَا شَيْءَ لِلْفَارِّينَ، لِأَنَّ إحْرَازَهَا حَصَلَ بِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ مِلْكُهَا لِمَنْ أَحْرَزَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ، أَوْ مُتَحَرِّفِينَ لِلْقِتَالِ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ أَيْضًا، لِذَلِكَ وَإِنْ فَرُّوا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمْ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْغَنِيمَةَ بِحِيَازَتِهَا، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ عَنْهَا بِفِرَارِهِمْ [فَصْلٌ أَلْقَى الْكُفَّارُ نَارًا فِي سَفِينَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاشْتَعَلَتْ فِيهَا] (7626) فَصْلٌ: فَإِذَا أَلْقَى الْكُفَّارُ نَارًا فِي سَفِينَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاشْتَعَلَتْ فِيهَا، فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ السَّلَامَةُ فِيهِ، مِنْ بَقَائِهِمْ فِي مَرْكَبِهِمْ، أَوْ إلْقَاءِ نُفُوسِهِمْ فِي الْمَاءِ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ فِعْلُهُ، وَإِنْ اسْتَوَى عِنْدَهُمْ الْأَمْرَانِ، فَقَالَ أَحْمَدُ كَيْفَ شَاءَ يَصْنَعُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هُمَا مَوْتَتَانِ، فَاخْتَرْ أَيْسَرَهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْمُقَامُ، لِأَنَّهُمْ إذَا رَمَوْا نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ، كَانَ مَوْتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَإِنْ أَقَامُوا فَمَوْتُهُمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ أَجَرَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا عَلَى حِفْظِ الْغَنِيمَةِ] (7627) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَمَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ، بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا، عَلَى حِفْظِ الْغَنِيمَةِ، فَمُبَاحٌ لَهُ مَا أَخَذَ، إنْ كَانَ رَاجِلًا، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَنِيمَةَ إذَا احْتَاجَتْ إلَى مَنْ يَحْفَظُهَا، أَوْ سَوْقِ الدَّوَابِّ الَّتِي هِيَ مِنْهَا، أَوْ يَرْعَاهَا، أَوْ يَحْمِلُهَا، فَإِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَيُؤَدِّيَ أُجْرَتَهَا مِنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَهُوَ كَعَلَفِ الدَّوَابِّ، وَطَعَامِ السَّبْيِ، وَمَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَهُ أُجْرَتُهُ مُبَاحَةً، لِأَنَّهُ أَجَرَ نَفْسَهُ لِفِعْلٍ بِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ أُجْرَتُهُ كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ عَلَى الدَّلَالَةِ إلَى الطَّرِيقِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنْ كَانَ رَاجِلًا أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا. فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ لَا يَرْكَبُ مِنْ دَوَابِّ الْمَغْنَمِ، وَلَا فَرَسًا حَبِيسًا. قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَجِّرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَلَى دَابَّتِهِ وَكَرِهَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْقَوْمَ عَلَى سِبَاقِ الرَّمَكِ عَلَى فَرَسٍ حَبِيسٍ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْفَرَسَ الْمَوْقُوفَةَ لِلْجِهَادِ فِيمَا يَخْتَصُّ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ فَإِنْ أَجَرَ نَفْسَهُ، فَرَكِبَ الدَّابَّةَ الْحَبِيسَ، أَوْ دَابَّةً مِنْ الْمَغْنَمِ، لَمْ تَطِبْ لَهُ أُجْرَةٌ، لِأَنَّ الْمُعِينَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ يَخْتَصُّ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ دَوَابَّ الْمَغْنَمِ، وَلَا دَوَابَّ الْحَبِيسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ بِقَدْرِ أَجْرِ الدَّابَّةِ، يُرَدُّ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، أَوْ يُصْرَفَ فِي نَفَقَةِ دَوَابِّ الْحَبِيسِ إنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا. (7628) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَةٍ تُدْفَعُ مِنْ الْمَغْنَمِ. وَلَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ بِدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، صَحَّ فَإِذَا جَعَلَ أَجْرَهُ رُكُوبَهَا، كَانَ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ إجَارَتِهَا كَوْنَ عِوَضِهَا مَعْلُومًا. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِنْ الْحَبِيسِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا إنَّمَا حُبِسَتْ عَلَى الْجِهَادِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِهَادٍ، إنَّمَا هُوَ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْغَنِيمَةِ [فَصْلٌ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنِيمَةِ] (7629) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِرُكُوبِ دَابَّةٍ مِنْهَا وَلَا لُبْسِ ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِهَا، لِمَا رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا، رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ، رَدَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلَيْدَةٌ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، فَقُلْت: مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ؟ فَقَالَ: لِلَّهِ خُمُسُهَا، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ فَقُلْت: فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَنْبِك أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَخِيك الْمُسْلِمِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَهْلِ الْخُمْسِ، فَلَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ الِاخْتِصَاصُ بِمَنْفَعَتِهِ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ بِسِلَاحِهِمْ، فَلَا بَأْسَ قَالَ أَحْمَدُ إذَا كَانَ أَنْكَى فِيهِمْ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَنَعَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 وَذَكَرَ حَدِيثَ سَيْف أَبِي جَهْلٍ. وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: انْتَهَيْت إلَى أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ، فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاك يَا أَبَا جَهْلٍ فَأَضْرِبُهُ بِسَيْفٍ مَعِي غَيْرِ طَائِلٍ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذْت سَيْفَهُ، فَضَرَبْته بِهِ حَتَّى بَرَدَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَفِي رُكُوبِ الْفَرَسِ لِلْجِهَادِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ، كَمَا يَجُوزُ فِي السِّلَاحِ، وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلْعَطَبِ غَالِبًا، وَقِيمَتُهَا كَثِيرَةٌ، بِخِلَافِ السِّلَاحِ. [مَسْأَلَةٌ صِفَة الْأَمَان] (7630) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَمَنْ لَقِيَ عِلْجًا، فَقَالَ لَهُ: قِفْ، أَوْ: أَلْقِ سِلَاحَك فَقَدْ أَمَّنَهُ) . قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا صِفَةَ الْأَمَانِ، فَاَلَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَفْظَتَانِ؛ أَجَرْتُك وَأَمَّنْتُك لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت، وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت» . وَقَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ إذَا قَالَ: لَا تَخَفْ، لَا تَذْهَلْ، لَا تَخْشَ، لَا خَوْفَ عَلَيْك، لَا بَأْسَ عَلَيْك وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قُلْتُمْ: لَا بَأْسَ، أَوْ لَا تَذْهَلْ، أَوْ مَتْرَسٌ فَقَدْ أَمَّنْتُمُوهُمْ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: لَا تَخَفْ فَقَدْ أَمَّنَهُ، وَإِذَا قَالَ: لَا تَذْهَلْ. فَقَدْ أَمَّنَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلْهُرْمُزَانِ: تَكَلَّمْ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْك. فَلَمَّا تَكَلَّمَ، أَمَرَ عُمَرُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَيْسَ لَك إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، قَدْ أَمَّنْته فَقَالَ عُمَرُ كَلًّا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ قَدْ قُلْت لَهُ: تَكَلَّمْ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْك فَدَرَأَ عَنْهُ عُمَرُ الْقَتْلَ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا فَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ: قُمْ، أَوْ قِفْ، أَوْ أَلْقِ سِلَاحَك. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ أَمَانٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ هَذَا أَمَانًا، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَمَّنْتُك وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ ادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ آمِنٌ، أَوْ قَالَ: إنَّمَا وَقَفْت لِنِدَائِك فَهُوَ آمِنٌ، إنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ. . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَمَانٍ، لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يُشْعِرُ بِهِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِرْهَابِ وَالتَّخْوِيفِ، فَلَمْ يَكُنْ أَمَانًا، لِقَوْلِهِ: لَأَقْتُلَنَّك لَكِنْ يُرْجَعُ إلَى الْقَائِلِ، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت بِهِ الْأَمَانَ. فَهُوَ أَمَانٌ، وَإِنْ قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 لَمْ أَرُدُّ أَمَانَهُ. نَظَرْنَا فِي الْكَافِرِ، فَإِنْ قَالَ: اعْتَقَدْته أَمَانًا رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَمَانًا فَلَيْسَ بِأَمَانٍ، كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهِمْ بِمَا اعْتَقَدُوهُ أَمَانًا. [فَصْلٌ الْأَمَانُ بِالْإِشَارَةِ] (7631) فَصْلٌ: فَإِنْ أَشَارَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِمْ بِمَا يَرَوْنَهُ أَمَانًا وَقَالَ: أَرَدْت بِهِ الْأَمَانَ فَهُوَ أَمَانٌ وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ بِهِ الْأَمَانَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ فَإِنْ خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْ حِصْنِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْإِشَارَةِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ، وَلَكِنْ يَرُدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إلَى السَّمَاءِ إلَى مُشْرِكٍ، فَنَزَلَ بِأَمَانِهِ، فَقَتَلَهُ، لَقَتَلْته بِهِ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَإِنْ مَاتَ الْمُسْلِمُ أَوْ غَابَ، فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ صَحَّحْتُمْ الْأَمَانَ بِالْإِشَارَةِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ؟ قُلْنَا: تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، كَمَا حُقِنَ دَمُ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْغَالِبِ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَهُمْ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّكْلِيمِ بِالْإِشَارَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ [فَصْلٌ سُبِيَتْ كَافِرَةٌ وَجَاءَ ابْنه يَطْلُبهَا] (7632) فَصْلٌ: إذَا سُبِيَتْ كَافِرَةٌ، فَجَاءَ ابْنُهَا يَطْلُبُهَا، وَقَالَ: إنَّ عِنْدِي أَسِيرًا مُسْلِمًا فَأَطْلِقُوهَا حَتَّى أُحْضِرَهُ. فَقَالَ الْإِمَامُ: أَحْضِرْهُ فَأَحْضَرَهُ، لَزِمَ إطْلَاقُهَا لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا إجَابَتُهُ إلَى مَا سَأَلَ وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ: لَمْ أُرِدْ إجَابَتَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَرْكِ أَسِيرِهِ، وَرُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُطْلَقُ الْأَسِيرُ، وَلَا تُطْلَقُ الْمُشْرِكَةُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ حُرٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِمَمْلُوكَةٍ وَيُقَالُ لَهُ: إنْ اخْتَرْت شِرَاءَهَا، فَأْتِ بِثَمَنِهَا وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ الشَّرْطُ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ فَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَبَنَى عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَهِمَ الْأَمَانَ مِنْ الْإِشَارَةِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحُرَّ لَا يَكُونُ ثَمَنَ مَمْلُوكَةٍ. قُلْنَا: لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يُفَادَى بِهَا، فَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَسِيرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَادَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ، وَوَفَّى لَهُمْ بِرَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، وَقَالَ: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَإِنْ كَانَ رَدُّ الْمُسْلِمِ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ إطْلَاقَهَا، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَقَوْلِهِ: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ.» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 [مَسْأَلَةٌ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ] (7633) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، أَوْ لِوَلَدِهِ، أَوْ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يُقْطَعْ) يَعْنِي إذَا كَانَ السَّارِقُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ، أَوْ أَبَاهُ، أَوْ سَيِّدَهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً وَهُوَ حَقُّهُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَطْعِهِ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا إنْ كَانَ لِابْنِهِ وَإِنْ عَلَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فِيهَا حَقٌّ لَمْ يُقْطَعْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِيهَا حَقٌّ فَسَرَقَ مِنْهَا الْآخِرُ، لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا [فَصْلٌ السَّارِقُ مِنْ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ الْغَالِّ] (7634) فَصْلٌ: وَالسَّارِقُ مِنْ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ الْغَالِّ، فَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي إحْرَاقِ رَحْلِهِ، وَلَا يَجْرِي الْغَالُّ مَجْرَى السَّارِقِ فِي قَطْعِ يَدِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ السَّارِقَ يُحْرَقُ رَحْلُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَالِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى، كَسَارِقِ الثَّمَرِ يَغْرَمُ مِثْلَيْ مَا سَرَقَ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَالِّ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْغُلُولَ يَكْثُرُ، لِكَوْنِهِ أَخْذَ مَالٍ لَا حَافِظَ لَهُ، وَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ غَالِبًا فَيَحْتَاجُ إلَى زَاجِرٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّرِقَةُ، فَإِنَّهَا أَخْذُ مَالٍ مَحْفُوظٍ، فَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَقَلُّ. [مَسْأَلَةٌ وَطِئَ جَارِيَةً قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْغَنِيمَة] (7635) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، أُدِّبَ، وَلَمْ يُبْلَغْ بِهِ حَدُّ الزَّانِي، وَأُخِذَ مِنْهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَطُرِحَ فِي الْمَقْسَمِ، إلَّا أَنْ تَلِدَ مِنْهُ، فَتَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا) . يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَاطِئُ مِنْ الْغَانِمِينَ، أَوْ مِمَّنْ لِوَلَدِهِ فِيهَا حَقٌّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُت لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ لِلْوَاطِئِ حَقٌّ فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَيُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَهَذَا زَانٍ، وَلِأَنَّهُ وَطِئَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُلُّ مَنْ سَلَفَ مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: عَلَيْهِ أَدْنَى الْحَدَّيْنِ، مِائَةُ جَلْدَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ قَالَ: أَسْقَطْت حَقِّي. سَقَطَ، وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُهُ، لَمْ يَزُلْ بِذَلِكَ، كَالْوَارِثِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 وَلَنَا، أَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ ابْنِهِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ هَذَا، وَمَنْعُ الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ، قَدْ زَالَ، وَلَا يَزُولُ، إلَّا إلَى مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ، وَيَمْلِكُ الْغَانِمُونَ طَلَبَ قِسْمَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَالَ الْوَارِثِ، إنَّمَا كَثُرَ الْغَانِمُونَ فَقَلَّ نَصِيبُ الْوَاطِئِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ تَعْيِينُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ. وَضَعْفُ الْمِلْكِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ شُبْهَةً فِي الْحَدِّ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَهُوَ شُبْهَةٌ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدُّ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَيُطْرَحُ فِي الْمَقْسَمِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الْمَهْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَقِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّنَا إذَا أَسْقَطْنَا عَنْهُ حِصَّتَهُ، وَأَخَذْنَا الْبَاقِيَ فَطَرَحْنَاهُ فِي الْمَغْنَمِ، ثُمَّ قَسَمْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَهُوَ فِيهِمْ، عَادَ إلَيْهِ سَهْمٌ مِنْ حِصَّةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ قَدْرَ حِصَّتِهِ قَدْ لَا تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، لِقِلَّةِ الْمَهْرِ وَكَثْرَةِ الْغَانِمِينَ، ثُمَّ إذَا أَخَذْنَاهُ، فَإِنْ قَسَمْنَاهُ مُفْرَدًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ، لَمْ يُمْكِنْ، وَإِنْ خَلَطْنَاهُ بِبَقِيَّةِ الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ قَسَمْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ، أَخَذَ سَهْمًا مِمَّا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ رَقِيقٌ، لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ إنَّمَا يَمْلِكُونَ بِالْقِسْمَةِ، فَقَدْ صَادَفَ وَطْؤُهُ غَيْرَ مِلْكِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَيَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَيُفَارِقُ الزِّنَى، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ. فَإِذَا مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؟ فِيهَا قَوْلَانِ، وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِجَارِيَةِ الِابْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْغَنِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تُطْرَحَ فِي الْمَغْنَمِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ الْغَنِيمَةِ بِفِعْلِهِ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ قِيمَتُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ مُعْسِرًا حُسِبَ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَبَاقِيهَا رَقِيقٌ لِلْغَانِمِينَ، لِأَنَّ كَوْنَهَا أُمَّ وَلَدٍ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسِّرَايَةِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَسْرِ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ، كَالْإِعْتَاقِ، وَلَنَا، أَنَّهُ اسْتِيلَادٌ جَعَلَ بَعْضَهَا أُمَّ وَلَدٍ، فَيَجْعَلُ جَمِيعَهَا أُمَّ وَلَدٍ، كَاسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ أَقْوَى، لِكَوْنِهِ فِعْلًا، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَجْنُونِ. فَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 إحْدَاهُمَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ حِينَ وَضْعِهِ، تُطْرَحُ فِي الْمَغْنَمِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ، وَالثَّانِيَةُ، لَا تَلْزَمُهُ،، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا حِينَ عَلِقَتْ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْغَانِمِينَ فِي الْوَلَدِ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْأَبِ مِنْ جَارِيَةِ ابْنِهِ إذَا وَطِئَهَا، وَلِأَنَّهُ يَعْتِقُ حِينَ عُلُوقِهِ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا صَارَ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ، يَكُونُ الْوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِهِ. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ] (7636) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّ عَلِيٍّ، وَعَقِيلًا أَخَا عَلِيٍّ كَانَا فِي أَسْرَى بَدْرٍ، فَلَمْ يَعْتِقَا عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَإِنْ اُسْتُرِقَّ، أَوْ كَانَ الْأَسِيرُ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ نَصِيبِهِ وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ إلَّا مِلْكُهُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ، وَلَوْ مَلَكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُ فِيهِ، وَإِنْ قَسَمَهُ، وَجَعَلَهُ فِي نَصِيبِهِ وَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ جُعِلَ لَهُ بَعْضُهُ، فَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ وَقُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي. وَلَنَا، مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ لِكَوْنِ الِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَالَ، وَلَا يَزُولُ إلَّا إلَى الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ] (7637) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الرِّقُّ، كَالرَّجُلِ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ لَمْ يَعْتِقْ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ حِصَّتِهِ، وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيه تُطْرَحُ فِي الْمَقْسَمِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ مِلْكِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، عَتَقَ وَلَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَقِّهِ، أَخَذَ بَاقِيَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، لَمْ يَعْتِقْ إلَّا قَدْرُ حَقِّهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثَانِيًا، وَفَضَلَ مِنْ حَقِّهِ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، عَتَقَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْ الثَّانِي شَيْءٌ. [فَصْلٌ نَقْلُ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَالتَّمْثِيل بِقَتْلَاهُمْ] (7638) فَصْلٌ: يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بِرَأْسِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا. قَالَ: فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ، لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يُحْمَلْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسٌ قَطُّ، وَحُمِلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَأْسٌ فَأَنْكَرَ، وَأَوَّلُ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ الرُّءُوسُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيُكْرَهُ رَمْيُهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ جَازَ، لِمَا رَوَيْنَا، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة، ظُفِرَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوا رَأْسَهُ، فَجَاءَ قَوْمُهُ عَمْرًا مُغْضَبِينَ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو خُذُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فَاقْطَعُوا رَأْسَهُ، فَارْمُوا بِهِ إلَيْهِمْ فِي الْمَنْجَنِيقِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَرَمَى أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة رَأْسَ الْمُسْلِمِ إلَى قَوْمِهِ. [فَصْلٌ هَدِيَّةُ الْكُفَّارِ] فَصْلٌ: يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ،» فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَزْوِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَا أَهْدَاهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، أَوْ لِبَعْضِ قُوَّادِهِ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِخَوْفِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّ مَا أُهْدِيَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ فَهُوَ لَهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ غَنِيمَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ لِمَنْ أُهْدِيَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ الْهَدِيَّةَ» فَكَانَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْمُهْدَى لَهُ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ خُصَّ بِهَا، أَشْبَهَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَلَنَا، أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الْجَيْشِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ قَهْرًا، وَلِأَنَّهُ إذَا أُهْدِيَ لِلْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُدَارِي عَنْ نَفْسِهِ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا أُخِذَ مِنْهُ قَهْرًا. وَأَمَّا إنْ أُهْدِيَ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، لِعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُ، فَيَكُونُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَهْدَى إلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ، ذَلِكَ، فَلَهُ مَا أَهْدَى إلَيْهِ، وَإِنْ تَجَدَّدَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ إلَى دَارِهِمْ، فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِنَا فِي الْهَدِيَّةِ إلَى الْقَاضِي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 [كِتَاب الْجِزْيَة] ِ وَهِيَ الْوَظِيفَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْكَافِرِ، لِإِقَامَتِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي: إذَا قَضَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] تَقُولُ الْعَرَبُ: جَزَيْت دَيْنِي. إذَا قَضَيْته،. وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى «الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِجُنْدِ كِسْرَى يَوْمَ نَهَاوَنْدَ: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.» وَعَنْ بُرَيْدَةَ، أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَقَالَ لَهُ: إذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ، اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوك، فَاقْبَلْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ» فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ فِي الْجُمْلَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ] (7640) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ، إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ صِنْفَانِ، أَهْلُ كِتَابٍ، وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَالسَّامِرَةِ يَدِينُونَ بِالتَّوْرَاةِ، وَيَعْمَلُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ. وَفِرَقِ النَّصَارَى مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ، والنسطورية، وَالْمَلْكِيَّةِ، وَالْفِرِنْجِ وَالرُّومِ، وَالْأَرْمَنِ، وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ دَانَ بِالْإِنْجِيلِ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّابِئِينَ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يُسْبِتُونَ، فَهَؤُلَاءِ إذَا أَسْبَتُوا فَهُمْ مِنْ الْيَهُودِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: هُمْ يُسْبِتُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ السُّدِّيَّ وَالرَّبِيعُ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي أَمْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 الْكِتَابَيْنِ فِي نَبِيِّهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُرْوَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ. فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ، فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا أَهْلُ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصُّحُفَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا شَرَائِعُ، إنَّمَا هِيَ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالٌ، كَذَلِكَ وَصَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُحُفَ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورَ دَاوُد فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمْ الْمَجُوسُ فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ، فَصَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ حَقْنَ دِمَائِهِمْ، وَأَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَلَمْ يَنْتَهِضْ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَلَا ذَبَائِحِهِمْ دَلِيلٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَحِلُّ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ، كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يَعْلَمُونَهُ، وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ، فَوَقَعَ عَلَى بِنْتِهِ أَوْ أُخْتِهِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ، وَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ، وَقَالَ: أَتَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ، وَقَدْ أَنْكَحَ بَنِيهِ بَنَاتِهِ، فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ قَالَ: فَتَابَعَهُ قَوْمٌ، وَقَاتَلُوا الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُمْ، حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ، وَرُفِعَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ، فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ «وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَأُرَاهُ قَالَ: وَعُمَرُ - مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَسَعِيدٌ وَغَيْرُهُمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] . وَالْمَجُوسُ مِنْ غَيْرِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَجَالَةَ، أَنَّهُ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ، حَتَّى حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، لَمَا وَقَفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا ذَكَرُوهُ هُوَ الَّذِي صَارَ لَهُمْ بِهِ شُبْهَةُ الْكِتَابِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا أَحْسِبُ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا مَحْفُوظًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ، لَمَا حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُمْ، وَهُوَ كَانَ أَوْلَى بِعِلْمِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ هَذَا مَعَ تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُبِيحَ لِذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ كِتَابَهُمْ رُفِعَ، فَلَمْ يَنْتَهِضْ لِلْإِبَاحَةِ، وَيَثْبُتُ بِهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَيُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابُ) فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى زَمَنِنَا هَذَا، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ، وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمْ مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَدَلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ الْمُغِيرَةِ لِأَهْلِ فَارِسَ: «أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ» وَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ عَجَمًا أَوْ عَرَبًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ شَرُفُوا بِكَوْنِهِمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ، «وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَأَخَذَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُوَ مِنْ الْعَرَبِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد «وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَهُمْ عَرَبٌ وَبَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» وَكَانُوا عَرَبًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعَجَمِ كَانُوا سُكَّانًا بِالْيُمْنِ حَيْثُ وَجَّهَ مُعَاذًا وَلَوْ كَانَ، لَكَانَ فِي أَمْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جَمِيعِهِمْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ. وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ مَنْ بَعَثَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَخُصَّ بِهَا عَجَمِيًّا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو الْعَرَبَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَأَبَوْا ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مِثْلَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَحِقُوا بِالرُّومِ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عِوَضًا عَنْ الْجِزْيَةِ، فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ جِزْيَةِ غَيْرِهِمْ، وَمَا أَنْكَرَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيَهُودِهِمْ، كَانُوا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ، قَبْلَ تَبْدِيلِ كِتَابِهِمْ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ، أَوْ ابْنَ وَثَنِيَّيْنِ، أَوْ ابْنَ كِتَابِيٍّ وَوَثَنِيٍّ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ تَبْدِيلِ كِتَابِهِمْ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ أَحَدُهُمَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَالْآخَرُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ، فَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا عُمُومُ النَّصِّ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِهِ الْجِزْيَةُ، فَيُقَرُّونَ بِهَا كَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ، مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، أَيْ يَلْتَزِمُوا أَدَاءَهَا، فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، يَبْقُوا عَلَى إبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. [فَصْلٌ عَقْدُ الذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ] فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا، أَنْ يَلْتَزِمُوا إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ فِي كُلِّ حَوْلٍ وَالثَّانِي الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ، أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: «فَادْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَلَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْإِعْطَاءِ، وَلَا جَرَيَانُ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَالْكَفَّ عَنْهُمْ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْبَذْلِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا} [التوبة: 29] أَيْ يَلْتَزِمُوا الْإِعْطَاءَ، وَيُجِيبُوا إلَى بَذْلِهِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَالْمُرَادُ بِهِ الْتِزَامُ ذَلِكَ دُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحَوْلِ، لَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» [مَسْأَلَةٌ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ] (7642) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ سِوَاهُمْ، فَالْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ) يَعْنِي مَنْ سِوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقَرُّونَ بِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، لِأَنَّ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ، إلَّا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، لِتَغَلُّظِ كُفْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا، دِينُهُمْ، وَالثَّانِي، كَوْنُهُمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس، لَكِنَّ فِي أَهْلِ الْكُتُبِ غَيْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مِثْلُ أَهْلِ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا، يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلَّا الْعَرَبَ، لِأَنَّهُمْ رَهْطُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُقَرُّونَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ، وَغَيْرُهُمْ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّهُ يُقَرُّ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَأُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ، كَالْمَجُوسِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ ارْتَدُّوا وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَيُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» . وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْآيَةِ، وَالْمَجُوسُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الصُّحُفِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 [فَصْلٌ عَقَدَ الذِّمَّةَ لِكَفَّارٍ زَعَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ لِكَفَّارٍ، زَعَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ. وَإِنْ شَكَكْنَا فِيهِمْ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ بِالشَّكِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّتُهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ قُبِلَ مِنْ الْمُقِرِّ فِي نَفْسِهِ، فَانْتَقَضَ عَهْدُهُ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِحَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيرُ الْجِزْيَةِ] (7644) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ أَدْوَنِهِمْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَمِنْ أَوْسَطِهِمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَمِنْ أَيْسَرِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (7645) . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ وَالثَّانِي، فِي كَمِّيَّةِ مِقْدَارِهَا فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهَا أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَهَا مُقَدَّرَةً، بِقَوْلِهِ لِمُعَاذٍ «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَغَافِرَ» وَفَرَضَهَا عُمَرُ مُقَدَّرَةً بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ فَكَانَ إجْمَاعًا وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، بَلْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَيُزَادُ الْيَوْمَ فِيهِ وَيُنْقَصُ؟ يَعْنِي مِنْ الْجِزْيَةِ. قَالَ: نَعَمْ، يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى دِرْهَمَانِ، فَجَعَلَهُ خَمْسِينَ قَالَ الْخَلَّالُ الْعَمَلُ فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ: لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ، عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» «وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعُمَرُ جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مِثْلَيْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ، وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ فَلَمْ تُقَدَّرْ كَالْأُجْرَةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، أَنَّ أَقَلَّهَا مُقَدَّرٌ بِدِينَارٍ، وَأَكْثَرَهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ لِأَنَّ عُمَرَ زَادَ عَلَى مَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، فَجَعَلَهَا خَمْسِينَ. (7646) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّنَا إذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، فَقَدْرُهَا فِي حَقِّ الْمُوسِرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَفِي حَقِّ الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٍ: هِيَ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ دِينَارٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ لِحَدِيثِ «مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ جَعْلُهَا عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِنَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، قَالُوا: وَقَضَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ وَشُهْرَتِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَعَمِلَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَصَارَ إجْمَاعًا لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْفَقْرِ عَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ غَيْرَ وَاجِبٍ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ صِغَارًا أَوْ عُقُوبَةً، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، كَالْعُقُوبَةِ فِي الْبَدَنِ، مِنْهُمْ مَنْ يُقْتَلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْتَرَقُّ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا عِوَضًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَوَجَبَتْ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ. (7647) فَصْلٌ وَحَدُّ الْيَسَارِ فِي حَقِّهِمْ، مَا عَدَّهُ النَّاسُ غِنًى فِي الْعَادَةِ، وَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَاتِ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا، فَيُرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 [فَصْلٌ بَذْلُ أَهْلِ الْحَرْب الْجِزْيَةَ] (7648) فَصْلٌ: إذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، لَزِمَ قَبُولُهَا، وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ. فَمَتَى بَذَلُوهَا، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَادْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْجِزْيَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْأَكْثَرِ، لَمْ يُحْرِمْ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُجِيبُوا إلَى بَذْلِ مَا لَا يَجُوزُ طَلَبُ أَكْثَرَ مِنْهُ، مِمَّا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُمْ. [فَصْلٌ تَجِب الْجِزْيَةُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ] (7649) فَصْلٌ وَتَجِبُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ بِأَوَّلِهِ، وَيُطَالَبُ بِهَا عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَتَجِبُ الثَّانِيَةُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ الثَّانِي، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ أَوْ يُؤْخَذُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِأَوَّلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا الْتِزَامُ إعْطَائِهَا، دُونَ نَفْسِ الْإِعْطَاءِ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ بِمُجَرَّدِ بَذْلِهَا قَبْلَ أَخْذِهَا. [فَصْلٌ الْجِزْيَةُ مِمَّا يُسِّرَ مِنْ أَمْوَالهمْ] (7650) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّا يُسِّرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَخْذُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَغَافِرَ.» «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ» وَكَانَ عُمَرُ يُؤْتَى بِنَعَمٍ كَثِيرَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْ الْجِزْيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي صَنْعَةٍ مِنْ مَتَاعِهِ، مِنْ صَاحِبِ الْإِبَرِ إبَرًا، وَمِنْ صَاحِبِ الْمُسَالِ مُسَالًا، وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَالِ حِبَالًا، ثُمَّ يَدْعُو النَّاسَ فَيُعْطِيهِمْ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَيَقْتَسِمُونَهُ ثُمَّ يَقُولُ: خُذُوا فَاقْتَسِمُوا، فَيَقُولُونَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَيَقُولُ: أَخَذْتُمْ خِيَارَهُ، وَتَرَكْتُمْ شِرَارَهُ، لَتَحْمِلُنَّهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيمَةِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَوْ عَدْلَهُ مَغَافِرَ.» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 [فَصْلٌ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبه عَقْدُ الذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ] (7651) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ، إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتَاتَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ إنْ عَقَدَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ، لَزِمَ الْإِمَامَ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ، وَعَقْدُهَا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] (7652) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ عُمَرَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَنْ يُصْلِحُوا الْقَنَاطِرَ، وَإِنْ قُتِلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِهِمْ فَعَلَيْهِمْ دِيَتُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَلْفَ دَوَابِّهِمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَنْ يُضِيفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَلِأَنَّ فِي هَذَا ضَرْبًا مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ مُبَايَعَةِ الْمُسْلِمِينَ إضْرَارًا بِهِمْ، فَإِذَا شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةُ أُمِنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ الضِّيَافَةُ عَلَيْهِمْ، لَمْ تَجِبْ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ: تَجِبُ بِغَيْرِ شَرْطٍ، كَوُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، كَالْجِزْيَةِ، فَإِنْ شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ، فَامْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِهَا، لَمْ تُعْقَدْ لَهُمْ الذِّمَّةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَيْهَا. وَلَنَا أَنَّهُ شَرْطٌ سَائِغٌ، امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِهِ، فَقُوتِلُوا عَلَيْهِ كَالْجِزْيَةِ. (7653) فَصْلٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الضِّيَافَةَ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَيَّامَ الضِّيَافَةِ، وَعَدَدَ مَنْ يُضَافُ مِنْ الرَّجَّالَةِ وَالْفَرَسَانِ، فَيَقُولُ: تُضِيفُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ يَوْمٍ عَشَرَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ خُبْزِ كَذَا وَأُدْمِ كَذَا، وَلِلْفَرَسِ مِنْ التِّبْنِ كَذَا، وَمِنْ الشَّعِيرِ كَذَا فَإِنْ شَرَطَ الضِّيَافَةَ مُطْلَقًا، صَحَّ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا أَطْلَقَ مُدَّةَ الضِّيَافَةِ فَالْوَاجِبُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُكَلَّفُونَ الذَّبِيحَةَ، وَلَا ضِيَافَتَهُمْ بِأَرْفَعَ مِنْ طَعَامِهِمْ، لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ شَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُكَلِّفُونَهُمْ الذَّبِيحَةَ، فَقَالَ: أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَلَا يُكَلَّفُونَ الذَّبِيحَةَ وَلَا الشَّعِيرَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ مُطْلَقًا لَمْ يَلْزَمْهُمْ الشَّعِيرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ لِلْخَيْلِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، فَهُوَ كَالْخُبْزِ لِلرَّجُلِ. وَلِلْمُسْلِمِينَ النُّزُولُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ لِمَنْ يَجْتَازُ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لِيَدْخُلُوهَا رُكْبَانًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا، فَلَهُمْ النُّزُولُ فِي الْأَفْنِيَةِ وَفُضُولِ الْمَنَازِلِ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَحْوِيلُ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ مِنْهُ. وَالسَّابِقُ إلَى مَنْزِلٍ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ فَإِنْ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقِيَامِ بِمَا شُرِطَ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ، أُجْبِرُوا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْمُقَاتَلَةِ، قُوتِلُوا، فَإِنْ قَاتَلُوا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ. (7654) فَصْلٌ: وَتُقْسَمُ الضِّيَافَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ فَإِنْ جَعَلَ الضِّيَافَةَ مَكَانَ الْجِزْيَةِ، جَازَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِرَاهِبٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: إنَّنِي إنْ وَلِيت هَذِهِ الْأَرْضَ، أَسْقَطْت عَنْك خَرَاجَك. فَلَمَّا قَدِمَ الْجَابِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَهُ بِكِتَابِهِ، فَعَرَفَهُ، وَقَالَ: إنَّنِي جَعَلْت لَك مَا لَيْسَ لِي، وَلَكِنْ اخْتَرْ، إنْ شِئْت أَدَاءَ الْخَرَاجِ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تُضِيفَ الْمُسْلِمِينَ، فَاخْتَارَ الضِّيَافَةَ وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِ ضِيَافَةٌ يَبْلُغُ قَدْرُهَا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ، إذَا قُلْنَا: الْجِزْيَةُ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ. لِئَلَّا يَنْقُصَ خَرَاجُهُ عَنْ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ. وَذُكِرَ أَنَّ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ اشْتِرَاطَ الِاكْتِفَاءِ بِضِيَافَتِهِمْ عَنْ جِزْيَتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ مَمْدُودًا إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا، كَانَ قِتَالُهُمْ مُبَاحًا، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ اشْتِرَاطُ مَالٍ، يَبْلُغُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ عَدْلَ الْجِزْيَةِ مَغَافِرَ. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ شَرْطًا فَاسِدًا] (7655) فَصْلٌ: وَإِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ شَرْطًا فَاسِدًا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، أَوْ إظْهَارَ الْمُنْكَرِ، أَوْ إسْكَانَهُمْ الْحِجَازَ، أَوْ إدْخَالَهُمْ الْحَرَمَ، وَنَحْوَ هَذَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِعْلَ مُحَرَّمٍ، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ وَحْدَهُ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ. [مَسْأَلَةٌ لَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ وَلَا امْرَأَةٍ] (7656) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ، وَلَا امْرَأَةٍ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَا تَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي رَوَاهُ سَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَثْرَمُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَهَؤُلَاءِ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 [فَصْل بَذَلَتْ الْمَرْأَةُ الْجِزْيَةَ] فَصْلٌ: وَإِنْ بَذَلَتْ الْمَرْأَةُ الْجِزْيَةَ، أُخْبِرَتْ أَنَّهَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَالَتْ: فَأَنَا أَتَبَرَّعُ بِهَا. أَوْ: أَنَا أُؤَدِّيهَا. قُبِلَتْ مِنْهَا، وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً، بَلْ هِبَةً تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ. فَإِنْ شَرَطَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، كَانَ لَهَا ذَلِكَ وَإِنْ بَذَلَتْ الْجِزْيَةَ؛ لِتَصِيرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، مُكِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهَا الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَتُعْقَدُ لَهَا الذِّمَّةُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ، إلَّا أَنْ تَتَبَرَّعَ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَإِنْ أُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، رُدَّ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْهُ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ دَمَهَا لَا يُحْقَنُ إلَّا بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَدَّى مَالًا إلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ. وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا نِسَاءٌ، فَبَذَلْنَ الْجِزْيَةَ؛ لِتُعْقَدَ لَهُنًّ الذِّمَّةُ، عُقِدَتْ لَهُنَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَحَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُنَّ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءً. فَإِنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ مَعَهُنَّ رِجَالٌ، فَسَأَلُوا الصُّلْحَ، لِتَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ دُونَ الرِّجَالِ، لَمْ تَصِحَّ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَبَرَّءُوا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ بَذَلُوا جِزْيَةً عَنْ الرِّجَالِ، وَيُؤَدُّوا عَنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي جِزْيَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ لَا تَلْزَمُهُ. فَإِنْ كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي بَذَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْجِزْيَةِ، أُخِذَ مِنْهُمْ، وَسَقَطَ الْبَاقِي. [فَصْلٌ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ.] (7658) فَصْلٌ: وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الذِّمَّةَ، عُقِدَتْ لَهُ، وَإِلَّا أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ، تَجْدِيدُ الْعَقْدِ لِهَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ مَعَ سَادَتِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرهمْ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ عَهْدٍ مَعَ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافِهِ لِذَلِكَ، كَالْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّ الصِّغَارَ وَالْمَجَانِينَ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ لَهُمْ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمْ، كَغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ دَخَلُوا فِيهِ، فَيَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، كَالْإِسْلَامِ. إذَا ثَبَتَ، هَذَا فَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ، أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أُخِذَ مِنْهُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِقِسْطِهِ، وَلَمْ يُتْرَكْ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُهُ، لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى إفْرَادِهِ بِحَوْلٍ، وَضَبْطُ حَوْلِ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى أَنْ يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَوْلٌ مُنْفَرِدًا. [فَصْلٌ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ مِنْ أَهْل الذِّمَّة] (7659) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ جُنُونُهُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ، مِثْلَ مَنْ يُفِيقُ سَاعَةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ، أَوْ يُصْرَعُ سَاعَةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ حَالُهُ بِالْأَغْلَبِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِفَاقَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مُرَاعَاتُهَا، لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهَا. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا، مِثْلَ مَنْ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ، إلَّا أَنَّهُ مَضْبُوطُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، فَيُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ كَالْأَوَّلِ. وَالثَّانِي، تُلَفَّقُ أَيَّامُ إفَاقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُفِيقًا فِي الْكُلِّ وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِفَاقَةُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَجَبَ فِيمَا يَجِبْ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ أَيَّامَهُ تُلَفَّقُ، فَإِذَا كَمُلَتْ حَوْلًا، أُخِذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَخْذٌ لِجِزْيَتِهِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالصَّحِيحِ. وَالثَّانِي، يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ بِقَدْرِ مَا أَفَاقَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ إفَاقَةً مُسْتَمِرَّةً. وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ ثُلُثَ الْحَوْلِ، وَيُفِيقُ ثُلُثَيْهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. كَمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ اسْتَوَتْ إفَاقَتُهُ وَجُنُونُهُ، مِثْلُ مَنْ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا، أَوْ يُجَنُّ نِصْفَ الْحَوْلِ وَيُفِيقُ نِصْفَهُ عَادَةً، لُفِّقَتْ إفَاقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ لِعَدَمِهِ، فَتَعَيَّنَ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يُجَنَّ نِصْفَ حَوْلٍ، ثُمَّ يُفِيقَ إفَاقَةً مُسْتَمِرَّةً، أَوْ يُفِيقَ نِصْفَهُ، ثُمَّ يُجَنَّ جُنُونًا مُسْتَمِرًّا، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي، وَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا أَفَاقَ مِنْ الْحَوْلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَائِهَا الْجِزْيَة] (7660) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا عَلَى فَقِيرٍ. يَعْنِي الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَائِهَا. وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَجِبُ عَلَيْهِ «؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . وَلِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، جَعَلَ أَدْنَاهَا عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ، كَالزَّكَاةِ وَالْعَقْلِ، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَنْقَسِمُ إلَى خَرَاجِ أَرْضٍ، وَخَرَاجِ رُءُوسٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهَا، وَمَا لَا طَاقَةَ لَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَيَتَنَاوَلُ الْأَخْذَ مِمَّنْ يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَمَنْ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهُ، فَالْأَخْذُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 [مَسْأَلَةٌ لَا تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ شَيْخٍ فَانٍ وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى] (7661) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا شَيْخٍ فَانٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِمَّنْ بِهِ دَاءٌ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْقِتَالَ، وَلَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ بِنَاءً عَلَى قَتْلِهِمْ. وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُنَا فِي أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. [مَسْأَلَةٌ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ] (7662) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا عَلَى سَيِّدِ عَبْدٍ عَنْ عَبْدِهِ، إذَا كَانَ السَّيِّدُ مُسْلِمًا لَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ الْعَبْدَ إنَّمَا يُؤَدِّيه سَيِّدُهُ، فَيُؤَدِّي إيجَابُهُ عَلَى عَبْدِ الْمُسْلِمِ إلَى إيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى مُسْلِمٍ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَبْدُ لِكَافِرٍ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ. وَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ، فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، أَوْ لَا مَالَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ إيجَابَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ يُؤَدِّيهَا سَيِّدُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا مِمَّا فِي أَيْدِيهمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَرَاجٍ، يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُقِرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ حَدِيثِ عُمَرَ. وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، كَالْحُرِّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْلٌ تُؤْخَذ جِزْيَة مَنْ بَعْضه حُرٌّ] (7663) فَصْلٌ: وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَجَزَّأُ، يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ كَالْإِرْثِ. [فَصْلٌ لَا جِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الصَّوَامِعِ مِنْ الرُّهْبَانِ] (7664) فَصْلٌ: وَلَا جِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الصَّوَامِعِ مِنْ الرُّهْبَانِ. وَيَحْتَمِلُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ الْجِزْيَةَ عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 النُّصُوصِ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ صَحِيحٌ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَأَشْبَهَ الشَّمَّاسَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ مَحْقُونُونَ بِدُونِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ، كَالنِّسَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ، وَالنُّصُوصُ مَخْصُوصَةٌ بِالنِّسَاءِ، وَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهُنَّ، وَلِأَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْفَقِيرَ غَيْرَ الْمُعْتَمِلِ. [مَسْأَلَةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ] (7665) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ، سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: إنْ أَسْلَمْ بَعْدَ الْحَوْلِ، لَمْ تَسْقُطْ؛ لِأَنَّهَا دَيْنٌ يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُهُ، وَاسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ، كَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِالْقِسْطِ، كَمَا لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَذُكِرَ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَيْسَ يَرْوِيه غَيْرُ جَرِيرٍ. قَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَخَذَهَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ، رَدَّهَا عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ» . يَعْنِي الْجِزْيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ، فَطُولِبَ بِالْجِزْيَةِ، وَقِيلَ: إنَّمَا أَسْلَمْت تَعَوُّذًا. قَالَ: إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَعَاذًا. فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَعَاذًا. وَكَتَبَ أَلَّا تُؤْخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةُ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ صَغَارٌ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، فَيُسْقِطُهَا الْإِسْلَامُ، كَالْقَتْلِ. وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الدُّيُونِ. [فَصْلٌ تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ ذِمِّيّ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ] (7666) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ الْحَوْلِ، لَمْ تَسْقُطْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَمَا قَبْلَ الْحَوْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِفَوَاتِ مَحِلِّهِ، وَتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ. وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ؛ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْجِزْيَةُ بَدَلٌ عَنْهُ، فَإِذَا أَتَى بِالْأَصْلِ اسْتَغْنَى عَنْ الْبَدَلِ، كَمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّيَمُّمِ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعَاذًا مِنْ الْجِزْيَةِ، كَمَا ذَكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَوْتُ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ الْجِزْيَة عَلَيْهِ سِنِينَ] (7667) فَصْلٌ: وَلَا تَتَدَاخَلُ الْجِزْيَةُ، بَلْ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ، اُسْتُوْفِيَتْ مِنْهُ كُلُّهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَتَدَاخَلُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، فَتَتَدَاخَلُ، كَالْحُدُودِ. وَلَنَا، أَنَّهَا حَقُّ مَالٍ، يَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالدِّيَةِ. [مَسْأَلَةٌ أُعْتِقَ لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ] (7668) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا أُعْتِقَ، لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا هَذَا الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، يُقَرُّ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ شُعْبَةٌ مِنْ الرِّقِّ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ. وَوَهَّنَ الْخِلَالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ، رَجَعَ عَنْهُ أَحْمَدُ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَعَنْهُ، إنْ كَانَ الْمُعْتَقُ لَهُ مُسْلِمًا، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ الْوَلَاءَ لِمُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ الرِّقُّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ مُوسِرٌ مِنْ أَهْلِ الْقَتْلِ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ حُكْمَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ جِزْيَتِهِ حُكْمُ مَنْ بَلَغَ مِنْ صِبْيَانِهِمْ، أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينُهُمْ، عَلَى مَا مَضَى. [مَسْأَلَةٌ الْجِزْيَةُ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ] (7669) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَوَاشِيهمْ وَثَمَرِهِمْ، مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَنُو تَغْلِبَ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ الْعَرَبِ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، انْتَقَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَدَعَاهُمْ عُمَرُ إلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ، فَأَبَوْا، وَأَنِفُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ، خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً. فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ، فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ وَشِدَّةٌ، وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ، فَلَا تُعِنْ عَلَيْك عَدُوَّك بِهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ. فَبَعَثَ عُمَرُ فِي طَلَبِهِمْ، فَرَدَّهُمْ، وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاتَيْنِ، وَمِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَيْنِ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا، وَمِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَفِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْخُمُسَ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ أَوْ دُولَابٍ الْعُشْرَ. فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَصَارَ إجْمَاعًا. وَقَالَ بِهِ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ أَبَى عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ إلَّا الْجِزْيَةَ، وَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ إلَّا الْجِزْيَةَ، وَإِلَّا فَقَدْ آذَنْتُكُمْ بِالْحَرْبِ. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا عُمُومُ الْآيَةِ فِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ تَفَرَّغْت لِبَنِي تَغْلِبَ لَيَكُونَن لِي فِيهِمْ رَأْيٌ، لِأَقْتُلَن مُقَاتِلَتَهُمْ، وَلِأَسْبِيَن ذَرَارِيَّهُمْ، فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَبَرِئَتْ مِنْهُمْ الذِّمَّةُ حِينَ نَصَّرُوا أَوْلَادَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ. وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ الْعُرُوضِ. [فَصْلٌ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مُضَاعَفَةً مِنْ مَالِ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ] (7670) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مُضَاعَفَةً مِنْ مَال مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَعَلَى هَذَا، تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ وَزَمْنَاهُمْ وَمَكَافِيفِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي مَالِ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، فَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ، لَا يَجِبُ فِي مَالِ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، إلَّا فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا جِزْيَةٌ تُؤْخَذُ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ مِمَّنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هَؤُلَاءِ حَمْقَى، رَضُوا بِالْمَعْنَى، وَأَبَوْا الِاسْمَ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ خُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ. وَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً لَا صَدَقَةً، كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، فَكَانَ جِزْيَةً، كَمَا لَوْ أُخِذَ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ طُهْرَةٌ، وَهَؤُلَاءِ لَا طُهْرَةَ لَهُمْ. فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ مَصْرِفُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ مَصْرِفَ الْفَيْءِ، لَا مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ، وَهَذَا أَقْيَسُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَأَجَابَهُمْ عُمَرُ إلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ هُوَ الزَّكَاةُ، مِنْ كُلِّ مَالٍ زَكَوِيٍّ لِأَيِّ مُسْلِمٍ كَانَ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، كَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، وَلِأَنَّ نِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ صِينُوا عَنْ السَّبْيِ بِهَذَا الصُّلْحِ، وَدَخَلُوا فِي حُكْمِهِ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَاجِبِ بِهِ، كَالرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ. وَعَلَى هَذَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا أَوْ لَهُ مَالٌ غَيْرُ زَكَوِيٍّ كَالدُّورِ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُؤْخَذُ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا. فَأَمَّا مَصْرِفُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ، وَلِأَنَّهُ جِزْيَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالصَّدَقَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَصْرِفُهُ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ الصَّدَقَةِ مَسْلُوكٌ بِهِ فِي مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ - مَسْلَكُ الصَّدَقَةِ، فَيَكُونُ مَصْرِفُهُ مَصْرِفَهَا. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّيْءِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ اسْمِهِ، وَلِهَذَا لَوْ سُمِّيَ رَجُلٌ أَسَدًا، أَوْ نَمِرًا، أَوْ أَسْوَدَ، أَوْ أَحْمَرَ، لَمْ يَصِرْ لَهُ حُكْمُ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَجَازَ دَفْعُهَا إلَى فُقَرَاءِ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . [فَصْلٌ بَذَلَ التَّغْلِبِيُّ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ هَلْ تَحُطّ عَنْهُ الصَّدَقَة] (7671) فَصْلٌ: فَإِنْ بَذَلَ التَّغْلِبِيُّ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ، وَتُحَطُّ عَنْهُ الصَّدَقَةُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى هَذَا، فَلَا يُغَيَّرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] . وَهَذَا قَدْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ، وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَرْبِيًّا، قُبِلَتْ مِنْهُ؛ لِلْآيَةِ، وَخَبَرِ بُرَيْدَةَ: «اُدْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْحِ الْأَوَّلِينَ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهُ، وَهُوَ كِتَابِيٌّ بَاذِلٌ لِلْجِزْيَةِ، فَيُحْقَنُ بِهَا دَمُهُ. وَإِنْ أَرَادَ إمَامٌ نَقْضَ صُلْحِهِمْ، وَتَجْدِيدَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَدْ عَقَدَهُ مَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ مَا دَامُوا عَلَى الْعَهْدِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْجِزْيَةِ] (7672) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْجِزْيَةُ مِنْهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا وَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. قَالَ: وَنَذْهَبُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَوَاشِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً الصَّدَقَةَ، وَنُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 أَنَّ حُكْمَ مَنْ تَنَصَّرَ مِنْ تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ، أَوْ تَهَوَّدَ مِنْ كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ، أَوْ تَمَجَّسَ مِنْ تَمِيمٍ، حُكْمُ بَنِي تَغْلِبَ، سَوَاءً. وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، فَأَشْبَهُوا بَنِي تَغْلِبَ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . وَهُمْ عَرَبٌ. وَقَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَهُمْ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ، وَكَانُوا نَصَارَى. وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ أُكَيْدِرَ دُومَةَ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ. وَحُكْمُ الْجِزْيَةِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فِي كُلِّ كِتَابِيٍّ، عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَرَبِيٍّ، إلَّا مَا خُصَّ بِهِ بَنُو تَغْلِبَ، لِمُصَالَحَةِ عُمَرَ إيَّاهُمْ، فَفِي مَا عَدَاهُمْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ وَشَوَاهِدِ السُّنَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ غَيْرِ بَنِي تَغْلِبَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ صُلْحٌ كَصُلْحِ بَنِي تَغْلِبَ، فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ بَنِي تَغْلِبَ عَلَيْهِمْ؛ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ قِيَاسَ سَائِرِ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ يُخَالِفُ النُّصُوصَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ. الثَّانِي، أَنَّ الْعِلَّةَ فِي بَنِي تَغْلِبَ الصُّلْحُ، وَلَمْ يُوجَدْ الصُّلْحُ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَ تَخَلُّفِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ، أَنَّ بَنِي تَغْلِبَ كَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ، لَحِقُوا بِالرُّومِ، وَخِيفَ مِنْهُمْ الضَّرَرُ إنْ لَمْ يُصَالَحُوا، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ. فَإِنْ وُجِدَ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَخِيفَ الضَّرَرُ بِتَرْكِ مُصَالَحَتِهِمْ، فَرَأَى الْإِمَامُ مُصَالَحَتَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، جَازَ ذَلِكَ، إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ زِيَادَةً قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاشِيهمْ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَمْوَالِهِمْ، إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا صُولِحُوا عَلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ، كَمَا صَنَعَ عُمَرُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، حِينَ أَضْعَفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ فِي صُلْحِهِ إيَّاهُمْ، وَذَكَرَ هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، فِي كِتَابِهِ. وَالْحُجَّةُ فِي هَذَا قِصَّةُ بَنِي تَغْلِبَ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَيْهِمْ. إذَا كَانُوا فِي مَعْنَاهُمْ. أَمَّا قِيَاسُ مَنْ لَمْ يُصَالِحُ عَلَيْهِمْ، فِي جَعْلِ جِزْيَتِهِمْ صَدَقَةً، فَلَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ اتَّجَرَ نَصْرَانِيٌّ تَغْلِبِيٌّ فَمَرَّ بِالْعَاشِرِ الْجِزْيَة] (7673) فَصْلٌ: وَإِذَا اتَّجَرَ نَصْرَانِيٌّ تَغْلِبِيٌّ، فَمَرَّ بِالْعَاشِرِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ، وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ. وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 وَقَالَ: حَدِيثُ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ الضِّعْفُ مِمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا؟ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا بِأَمْوَالِهِمْ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، فَذَاكَ ضِعْفُ هَذَا. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ أَقْيَسُ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَا ضِعْفُ مَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ أَهْل الْكِتَابِ] (7674) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ، وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَعَنْهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يُبِحْ الشَّافِعِيُّ ذَبَائِحَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ. وَكَرِهَ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ عَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالنَّخَعِيُّ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِهِمْ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ. وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي دِينِ الْكُفْرِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ، فَلَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ. وَهَذَا الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ آخِرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ: فَكَانَ آخِرُ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَمَا عَلِمْت أَحَدًا كَرِهَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَلِيًّا. وَذَلِكَ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِبَذْلِ الْمَالِ، فَتَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، كَبَنِي إسْرَائِيلَ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ مَنْ يَجُزْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ] (7675) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ يُجَزْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي السَّنَةِ اشْتَهَرَ هَذَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْجِزْيَةُ، إلَّا أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الْحِجَازِ، فَيُنْظَرَ فِي حَالِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لِرِسَالَةٍ، أَوْ نَقْلِ مِيرَةٍ، أَذِنَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لَا حَاجَةَ بِأَهْلِ الْحِجَازِ إلَيْهَا، لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عِوَضًا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَشْتَرِطَ نِصْفَ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ شَرَطَ نِصْفَ الْعُشْرِ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحِجَازَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ، إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: بَعَثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إلَى الْعُشُورِ، فَقُلْت: تَبْعَثُنِي إلَى الْعُشُورِ مِنْ بَيْنِ عُمَّالِك، قَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ أَجْعَلَك عَلَى مَا جَعَلَنِي عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ. وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى الْكُوفَةِ، فَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِيهَا، فِي كُلِّ عُشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ، وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ. وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ، وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْقِصَصُ وَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَأْتِ تَخْصِيصُ الْحِجَازِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَلِمْنَاهُ، لَا عَنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ ظَاهِرُ أَحَادِيثِهِمْ، أَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ، وَمَا وَجَبَ مِنْ الْمَالِ فِي الْحِجَازِ وَجَبَ فِي غَيْرِهِ كَالدُّيُونِ وَالصَّدَقَاتِ. [فَصْلٌ الْجِزْيَةُ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً] (7676) فَصْلٌ: وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ: كَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، عَنْ عُمَرَ حِينَ كَتَبَ، أَلَّا يَأْخُذَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فِي الدَّاخِلِينَ أَرْضَ الْحِجَازِ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ: إنَّ عَامِلَك عَشَرَنِي فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ. قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفُ. ثُمَّ كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ، أَنْ لَا تَعْشِرُوا فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَالزَّكَاةَ إنَّمَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَذَلِكَ هَذَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ مَرَّةً، كَتَبَ لَهُمْ حُجَّةً بِأَدَائِهِمْ؛ لِتَكُونَ وَثِيقَةً لَهُمْ، وَحُجَّةً عَلَى مَنْ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، فَلَا يَعْشِرُهُمْ ثَانِيَةً، فَإِنْ مَرَّ ثَانِيَةً بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، أَخَذَ مِنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْشَرْ. [فَصْلٌ كَانَ مَعَ الذِّمِّيِّ عَشَرَةُ دَنَانِير الْجِزْيَة] فَصْلٌ: وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ، فَلَوْ مَرَّ بِالْعَاشِرِ مِنْهُمْ مُنْتَقِلٌ وَمَعَهُ أَمْوَالُهُ أَوْ سَائِمَةٌ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ لِلتِّجَارَةِ أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ عُشْرِهَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْقَدْرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ، فَرَوَى عَنْهُ صَالِحٌ، مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ. يَعْنِي فَإِذَا نَقَصَتْ مِنْ الْعِشْرِينَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا عَلَى تَغْلِبِيٍّ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ عَلَى ذِمِّيٍّ شَيْءٌ، كَاَلَّذِي دُونَ الْعَشَرَةِ. وَرَوَى صَالِحٌ أَيْضًا، أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَرُّوا بِالْعَاشِرِ، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، أَخَذَ مِنْهُمْ الْعُشْرَ، مِنْ الْعَشَرَةِ وَاحِدًا، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَخَذَ مِنْهُمْ نِصْفَ الْعُشْرِ، مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا، فَإِذَا نَقَصَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَقَصَ مَالُ الْحَرْبِيِّ عَنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ نِصْفَ مِثْقَالٍ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ شَيْءٌ. نَصَّ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، قَالَ: قُلْت إذَا كَانَ مَعَ الذِّمِّيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ دِينَارٍ. قُلْت: فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ؟ قَالَ: إذَا نَقَصَتْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ مَالٌ يَبْلُغُ وَاجِبُهُ نِصْفَ دِينَارٍ، فَوَجَبَ فِيهِ، كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. أَوْ نَقُولُ: مَالٌ مَعْشُورٌ فَوَجَبَ فِي الْعَشَرَةِ مِنْهُ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُؤْخَذُ عُشْرُ الْحَرْبِيِّ وَنِصْفُ عُشْرِ الذِّمِّيِّ، مِنْ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: خُذْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَنَصِيبِ الْمَالِكِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي عَامَلَهُ عَلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ عُشْرٌ أَوْ نِصْفُ عُشْرٍ وَجَبَ بِالشَّرْعِ، فَاعْتُبِرَ لَهُ نِصَابٌ، كَزَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَقَدَّرُ بِالْحَوْلِ، فَاعْتُبِرَ لَهُ النِّصَابُ، كَالزَّكَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، فَالْمُرَادُ بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بَيَانُ قَدْرِ الْمَأْخُوذِ، وَأَنَّهُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَخُذْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مُصَدِّقًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدًا. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ مَعَهُ نِصَابٌ، فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ الْعَاشِرِ يَمُرُّ عَلَيْهِ الذِّمِّيُّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ] (7678) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْعَاشِرِ يَمُرُّ عَلَيْهِ الذِّمِّيُّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: قَالَ عُمَرُ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا. لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْآخِذِ مِنْهَا. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، فِي قَوْلِ عُمَرَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِعُشْرِهَا. قَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ مَسْرُوقٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَوَافَقَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْخَمْرِ خَاصَّةً. وَذَكَرَ الْقَاضِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْخَمْرُ لَا يَعْشِرُهَا مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَدَقَةَ الْخَمْرِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: بَعَثْت إلَيَّ بِصَدَقَةِ الْخَمْرِ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّاسَ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَسْتَعْمِلَنك عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا. قَالَ: فَنَزَعَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ. أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ مِنْ جِزْيَتِهِمْ، وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا، ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا فَأَنْكَرَهُ عُمَرُ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَثْمَانِهَا، إذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمُتَوَلِّينَ بَيْعَهَا. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِعُمَرَ: إنَّ عُمَّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ. فَقَالَ: لَا تَأْخُذُوهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ. [فَصْلٌ أَخْذُ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْل الْكِتَاب عَلَى جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ] (7679) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَخْذُ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْهُمْ عَلَى جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ، وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، فَجَازَ أَخْذُ أَثْمَانِهَا مِنْهُمْ، كَثِيَابِهِمْ. [فَصْلٌ مَرَّ الذِّمِّيُّ بِالْعَاشِرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا مَعَهُ] (7680) فَصْلٌ: وَإِذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ بِالْعَاشِرِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا مَعَهُ، أَوْ يَنْقُصُ عَنْ النِّصَابِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ أَخْذَ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يُعْتَبَرُ لَهُ النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَيَمْنَعُهُ الدَّيْنُ، كَالزَّكَاةِ. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ. وَإِنْ مَرَّ بِجَارِيَةٍ، فَادَّعَى أَنَّهَا بِنْتُهُ أَوْ أُخْتُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُقْبَلُ قَوْلُهُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَهُوَ أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مِلْكِهِ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُقْبَلُ؛ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، فَأَشْبَهَتْ بَهِيمَتَهُ. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب تَاجِرٌ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ الْجِزْيَة] (7681) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ إلَيْنَا مِنْهُمْ تَاجِرٌ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ، أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا شَيْئًا، فَنَأْخُذُ مِنْهُمْ مِثْلَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: قَالُوا لِعُمَرَ: كَيْفَ نَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا قَدِمُوا عَلَيْنَا؟ قَالَ: كَيْفَ يَأْخُذُونَ مِنْكُمْ إذَا دَخَلْتُمْ إلَيْهِمْ؟ قَالُوا: الْعُشْرَ. قَالَ: فَكَذَلِكَ خُذُوا مِنْهُمْ. . وَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، قَالَ: كُنَّا لَا نَعْشِرُ مُسْلِمًا وَلَا مُعَاهَدًا. قَالَ: مَنْ كُنْتُمْ تَعْشِرُونَ؟ قَالَ: كُفَّارَ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَنَأْخُذُ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنَّا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ دَخَلَ إلَيْنَا بِتِجَارَةٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ إلَّا بِعِوَضٍ يَشْرِطُهُ عَلَيْهِ، وَمَهْمَا شَرَطَ جَازَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعُشْرَ، لِيُوَافِقَ فِعْلُهُ فِعْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ أَذِنَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ أَمَانٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ شَيْءٌ، كَالْهُدْنَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ مِنْهُمْ الْعُشْرَ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَأَيُّ إجْمَاعٍ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ اسْتَمَرَّ أَخْذُ الْعُشْرِ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَيَجِبُ أَخْذُهُ. فَأَمَّا سُؤَالُ عُمَرَ عَمَّا يَأْخُذُونَ مِنَّا، فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ وَمِقْدَارِهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَلَوْ تَقَيَّدَ أَخْذُنَا مِنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ مِنَّا، لَوَجَبَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. [فَصْلٌ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الْكِتَاب الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِلتِّجَارَةِ أَخَذَ الْجِزْيَة] فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِلتِّجَارَةِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا دَخَلُوا فِي نَقْلِ مِيرَةٍ بِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةٌ، أُذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ عُشْرٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَنَا، عُمُومُ مَا رَوَيْنَاهُ. وَرَوَى صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ مِنْ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ، وَمِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ، لِيَكْثُرَ الْحَمْلُ إلَى الْمَدِينَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَهُ التَّرْكُ أَيْضًا إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ. [فَصْلٌ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ حَرْبِيٍّ تَاجِرٍ وَنِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ ذِمِّيٍّ تَاجِرٍ] (7683) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ حَرْبِيٍّ تَاجِرٍ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ ذِمِّيٍّ تَاجِرٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ عُشْرٌ وَلَا نِصْفُ عُشْرٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَرْبِيَّةً أَوْ ذِمِّيَّةً، لَكِنْ إنْ دَخَلَتْ الْحِجَازَ عُشِرَتْ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهِ. وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا يَقْتَضِيه مَذْهَبُهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي أَمْوَالِ نِسَاءِ بَنِي تَغْلِبَ وَصِبْيَانِهِمْ، فَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ فِي مَالِ النِّسَاءِ، وَعُمُومُ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِزْيَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِمَالِ التِّجَارَةِ، لِتَوَسُّعِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِفَاعِهِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، كَالزَّكَاةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ الْحَرْبِيَّ يُعْشَرُ كَلَّمَا دَخَلَ إلَيْنَا الْجِزْيَة] (7684) فَصْلٌ: وَلَا يُعْشَرُونَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ. نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، أَنَّ الْحَرْبِيَّ يُعْشَرُ كَلَّمَا دَخَلَ إلَيْنَا. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَخَذْنَا مِنْهُ مَرَّةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 وَاحِدَةً، لَا نَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلُوا، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ السَّنَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَدْخُلُوا، فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْ التِّجَارَةِ، فَلَا يُؤْخَذُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ، كَالزَّكَاةِ، وَنِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ الذِّمِّيِّ. وَقَوْلُهُمْ: يَفُوتُ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ مَرَّةً، وَيَكْتُبُ الْآخِذُ لَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ تِلْكَ السَّنَةُ، فَإِذَا جَاءَ فِي الْعَامِ الثَّانِي، أُخِذَ مِنْهُ، فِي أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ، فَمَا فَاتَ مِنْ حَقِّ السَّنَةِ الْأُولَى شَيْءٌ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ] (7685) فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ جَاسُوسًا، أَوْ مُتَلَصِّصًا، فَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: جِئْت رَسُولًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ تَزَلْ الرُّسُلُ تَأْتِي مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَمَانٍ. وَإِنْ قَالَ: جِئْت تَاجِرًا. نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا، وَحُقِنَ دَمُهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِدُخُولِ تُجَّارِهِمْ إلَيْنَا وَتُجَّارِنَا إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَا تُحَصَّلُ بِغَيْرِ مَالٍ. وَكَذَلِكَ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رِسَالَةٌ يُؤَدِّيهَا، أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ رَسُولًا. وَإِنْ قَالَ: أَمَّنَنِي مُسْلِمٌ. فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُقْبَلُ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ، كَمَا يُقْبَلُ مِنْ الرَّسُولِ وَالتَّاجِرِ. وَالثَّانِي، لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُمْكِنَةٌ. فَإِنْ قَالَ: مُسْلِمٌ: أَنَا أَمَّنْته. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، كَالْحَاكِمِ إذَا قَالَ: حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ. وَإِنْ كَانَ جَاسُوسًا، خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ كَالْأَسِيرِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إلَيْنَا فِي مَرْكَبٍ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ. [مَسْأَلَةٌ نَقَضَ الْعَهْدَ بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ] (7686) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ، بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ، حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا، نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: إنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا، طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا، وَلَا قلاية، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلَا نُؤْوِيَ فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا، وَأَنْ لَا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا، وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نَخْرُجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ، وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا، وَلَا نَرْغَبَ فِي دِينِنَا، وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَنْ لَا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ، وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ، وَلَا فِي مَوَاكِبِهِمْ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ، وَإِنْ لَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا، وَلَا نَفْرِقَ نَوَاصِيَنَا، وَنَشُدُّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا، وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ، وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ، وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسَ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ، وَلَا يُشَارِكْ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ، وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ، ضَمِنَّا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَذَرَارِيِّنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا، وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا، أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ. فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ: أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ، وَأَلْحِقْ فِيهِ حَرْفَيْنِ، اشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا، وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا، فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ. فَأَنْفَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ وَأَقَرَّ مَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 الشَّامِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ شُرُوطِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِذَا صُولِحُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَضَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عَهْدَهُ يَنْتَقِضُ بِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَاهُ؛ لِقَوْلِهِمْ فِي الْكِتَابِ: إنْ نَحْنُ خَالَفْنَا، فَقَدْ حَلَّ لَك مَنَّا مَا يَحِلُّ لَك مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ. وَقَالَ عُمَرُ: وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ بِشَرْطٍ فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، زَالَ حُكْمُ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، أَنَّ الشُّرُوطَ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِمُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ شَيْئًا؛ الِامْتِنَاعُ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَجَرْيِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ إذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ وَإِصَابَتُهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، وَفَتْنُ مُسْلِمٍ عَنْ دِينِهِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ، وَقَتْلُهُ، وَإِيوَاءُ جَاسُوسِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِدَلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ مُكَاتَبَتِهِمْ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ رَسُولِهِ بِسُوءِ، فَالْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِي مَعْنَاهُمَا قِتَالُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلُوهُ نَقَضُوا الْأَمَانَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قَاتَلُونَا، لَزِمَنَا قِتَالُهُمْ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْأَمَانِ، وَسَائِرُ الْخِصَالِ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ الْعَهْدَ يُنْتَقَضُ بِهَا، سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. إلَّا أَنَّ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ، لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهِ، مَا خَلَا الْخِصَالَ الثَّلَاثَ الْأُولَى، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ شَرْطُهَا، وَيَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهَا بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَلَنَا، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ اسْتِكْرَاهَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَا، فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاكُمْ. وَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ. فَإِنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا فِيهِ حَدٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ أَوْ قِصَاصُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا، عُزِّرَ وَيُفْعَلُ بِهِ مَا يَنْكَفُ بِهِ أَمْثَالُهُ عَنْ فِعْلِهِ. فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ كُفَّ عَنْهُ، فَإِنْ مَانَعَ بِالْقِتَالِ نُقِضَ عَهْدُهُ. وَمَنْ حَكَمْنَا بِنَقْضِ عَهْدِهِ مِنْهُمْ، خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ الْقَتْلُ، وَالِاسْتِرْقَاقُ، وَالْفِدَاءُ، وَالْمَنُّ، كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ، وَلَا شُبْهَةِ ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ. وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهِ دُونَ ذُرِّيَّتِهِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ دُونَهُمْ، فَاخْتَصَّ بِهِ، كَمَا لَوْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا. [فَصْلٌ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ] (7687) فَصْلٌ: أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ، كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ، فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً، وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا، وَلَا يُشْرِبُوا فِيهِ خَمْرًا، وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ. وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ. وَمَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، مِثْلُ كَنِيسَةِ الرُّومِ فِي بَغْدَادَ، فَهَذِهِ كَانَتْ فِي قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأُقِرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجِبُ هَدْمُهُ، وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ، كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ. وَالثَّانِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ، فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ، فَنَزَلُوهُ، فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ. وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً، فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ. وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا، وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مَا أَحْدَثَتْ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فَأُبْقِيَتْ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى عُمَّالِهِ، أَنْ لَا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْت نَارٍ. وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا فُتِحَ صُلْحًا، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ، وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا، فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ وَالثَّانِي، أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ إلَيْنَا، فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَعَهُمْ، مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ، وَعِمَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لَهُمْ، جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَلَدِ لَهُمْ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مُعَيَّنًا وَالْأَوْلَى أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، أَنْ لَا يُحْدِثُوا بِيعَةً، وَلَا كَنِيسَةً، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا قلاية. وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، حُمِلَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ، وَأُخِذُوا بِشُرُوطِهِ. فَأَمَّا الَّذِينَ صَالَحَهُمْ عُمَرُ، وَعَقَدَ مَعَهُمْ الذِّمَّةَ، فَهُمْ عَلَى مَا فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، مَأْخُوذُونَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا وَمَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ فَاتِحِيهَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَجُوزُ إقْرَارُهَا. لَمْ يَجُزْ هَدْمُهَا، وَلَهُمْ رَمُّ مَا تَشَعَّثَ مِنْهَا، وَإِصْلَاحُهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا، فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا. وَإِنْ وَقَعَتْ كُلُّهَا، لَمْ يَجُزْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 بِنَاؤُهَا. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ لِمَا اسْتَهْدَمَ فَأَشْبَهَ بِنَاءَ بَعْضِهَا إذَا انْهَدَمَ وَرَمِّ شَعْثِهَا، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَتَهَا جَائِزَةٌ وَبِنَاؤُهَا كَاسْتِدَامَتِهَا. وَحَمَلَ الْخَلَّالُ قَوْلَ أَحْمَدَ: لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا. أَيْ إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهَا، وَمَنْعَهُ مِنْ بِنَاءِ مَا انْهَدَمَ، عَلَى مَا إذَا انْهَدَمَتْ كُلُّهَا، فَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لِعِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ: وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا. وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا» . وَلِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ اُبْتُدِئَ بِنَاؤُهَا. وَفَارَقَ رَمَّ شَعْثِهَا؛ فَإِنَّهُ إبْقَاءٌ وَاسْتِدَامَةٌ، وَهَذَا إحْدَاثٌ. [فَصْلٌ اسْتَحْدَثَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ بِنَاءً] (7688) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَحْدَثَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِنَاءً، لَمْ يَجُزْ لَهُ مَنْعُهُ حَتَّى يَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ صُدُورِ الْمَجَالِسِ، وَيَلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ. وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُجَاوِرٍ لَهُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّهَا إنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَى الْمُجَاوِرِ لَهَا، دُونَ غَيْرِهِ. وَفِي جَوَازِ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَطِيلٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي، الْمَنْعُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» . وَلِأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ، كَذَلِكَ فِي بِنَائِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ دَارٌ عَالِيَةٌ، فَمَلَكَ الْمُسْلِمُ دَارًا إلَى جَانِبِهَا، أَوْ بَنَى الْمُسْلِمُ إلَى جَانِبِ دَارِ ذِمِّيٍّ دَارًا دُونَهَا، أَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا عَالِيَةً لِمُسْلِمٍ، فَلَهُ سُكْنَى دَارِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ هَدْمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا. فَإِنْ انْهَدَمَتْ دَارُهُ الْعَالِيَةُ، ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَعْلِيَتُهُ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ انْهَدَمَ مَا عَلَا مِنْهَا، لَمْ تَكُنْ لَهُ إعَادَتُهُ. وَإِنْ تَشَعَّثَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَنْهَدِمْ، فَلَهُ رَمُّهُ وَإِصْلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ اسْتِدَامَتَهُ، فَمَلَكَ رَمَّ شَعْثِهِ، كَالْكَنِيسَةِ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْكِتَاب سُكْنَى الْحِجَازِ] (7689) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سُكْنَى الْحِجَازِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: أَرَى أَنْ يُجْلَوْا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ «سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ» . وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ إلَى عَدَنَ طُولًا، وَمِنْ تِهَامَةَ وَمَا وَرَاءَهَا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ مِنْ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إلَى الْيَمَنِ طُولًا، وَمِنْ رَمْلِ تِبْرِينَ إلَى مُنْقَطِعِ السَّمَاوَةِ عَرْضًا. قَالَ الْخَلِيلُ: إنَّمَا قِيلَ لَهَا جَزِيرَةٌ؛ لِأَنَّ بَحْرَ الْحَبَشِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَالْفُرَاتَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، وَنُسِبَتْ إلَى الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا أَرْضُهَا وَمَسْكَنُهَا وَمَعْدِنُهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا. يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ، وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا، وَمَا وَالَاهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْلَوْا مِنْ تَيْمَاءَ، وَلَا مِنْ الْيَمَنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَنَّهُ قَالَ: أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ الْحِجَازِ» . فَأَمَّا إخْرَاجُ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْهُ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا، فَنَقَضُوا عَهْدَهُ. فَكَأَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أُرِيدَ بِهَا الْحِجَازُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ حِجَازًا، لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ. وَلَا يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ أَطْرَافِ الْحِجَازِ، كَتَيْمَاءَ وَفَيْدَ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 [فَصْلٌ دُخُولُ أَهْل الْكِتَاب الْحِجَازِ لِلتِّجَارَةِ] (7690) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْحِجَازِ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَتَّجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَتَاهُ شَيْخٌ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، وَإِنَّ عَامِلَك عَشَرَنِي مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفُ. وَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ، أَنْ لَا يُعْشَرُوا فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَلَا يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ حَدَّ مَا يُتِمُّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ. وَالْحُكْمُ فِي دُخُولِهِمْ إلَى الْحِجَازِ فِي اعْتِبَارِ الْإِذْنِ، كَالْحُكْمِ فِي دُخُولِ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا مَرِضَ بِالْحِجَازِ، جَازَتْ لَهُ الْإِقَامَةُ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ الِانْتِقَالُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَتَجُوزُ الْإِقَامَةُ لِمَنْ يُمَرِّضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ حَالًّا، أُجْبِرَ غَرِيمُهُ عَلَى وَفَائِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَفَاؤُهُ لِمَطْلٍ، أَوْ تَغَيَّبَ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ، لِيَسْتَوْفِيَ دِينَهُ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي إخْرَاجِهِ ذَهَابُ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَيُوَكِّلُ مَنْ يَسْتَوْفِيه لَهُ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ، وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْإِقَامَةِ لِيَبِيعَ بِضَاعَتَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ تَرْكَهَا أَوْ حَمْلَهَا مَعَهُ ضَيَاعَ مَالِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ بِالْبَضَائِعِ إلَى الْحِجَازِ، فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهُمْ، وَتَلْحَقُهُمْ الْمَضَرَّةُ، بِانْقِطَاعِ الْجَلَبِ عَنْهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعُ مِنْ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ بُدًّا. فَإِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الْحِجَازِ، جَازَ، وَيُقِيمُ فِيهِ أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَرْبَعَةً، عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى مَكَان آخَرَ، جَازَ، وَلَوْ حَصَلَتْ الْإِقَامَةُ فِي الْجَمِيعِ شَهْرًا. وَإِذَا مَاتَ بِالْحِجَازِ دُفِنَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ نَقْلُهُ، وَإِذَا جَازَتْ الْإِقَامَةُ لِلْمَرِيضِ، فَدَفْنُ الْمَيِّتِ أَوْلَى. [فَصْلٌ لَيْسَ لِأَهْلِ الْكِتَاب دُخُولُ الْحَرَمِ] (7691) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَرَمُ، فَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُمْ دُخُولُهُ كَالْحِجَازِ كُلِّهِ، وَلَا يَسْتَوْطِنُونَ بِهِ، وَلَهُمْ دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَالْمَنْعُ مِنْ الِاسْتِيطَانِ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ وَالتَّصَرُّفَ، كَالْحِجَازِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] يُرِيدُ: ضَرَرًا بِتَأْخِيرِ الْجَلْبِ عَنْ الْحَرَمِ دُونَ الْمَسْجِدِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْحَرَمِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] . وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ. وَيُخَالِفُ الْحِجَازَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْهُ مَعَ إذْنِهِ فِي الْحِجَازِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ وَالْيَهُودُ بِخَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِجَازِ، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ الْإِقَامَةِ بِهِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِأَنَّ الْحَرَمَ أَشْرَفُ، لِتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ، وَيَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ وَالْمُلْتَجِئُ إلَيْهِ، فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَرَادَ كَافِرٌ الدُّخُولَ إلَيْهِ، مُنِعَ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِيرَةٌ أَوْ تِجَارَةٌ، خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، وَلَمْ يُتْرَكْ هُوَ يَدْخُلُ. وَإِنْ كَانَ رَسُولًا إلَى إمَامٍ بِالْحَرَمِ، خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ، وَيُبَلِّغُهَا إيَّاهُ. فَإِنْ قَالَ: لَا بُدَّ لِي مِنْ لِقَاءِ الْإِمَامِ، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ، خَرَجَ إلَيْهِ الْإِمَامُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ، فَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ عَالِمًا بِالْمَنْعِ عُزِّرَ، وَإِنْ دَخَلَ جَاهِلًا، نُهِيَ وَهُدِّدَ. فَإِنْ مَرِضَ بِالْحَرَمِ أَوْ مَاتَ، أُخْرِجَ وَلَمْ يُدْفَنْ بِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَعْظَمُ. وَيُفَارِقُ الْحِجَازَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ دُخُولَهُ إلَى الْحَرَمِ حَرَامٌ، وَإِقَامَتَهُ بِهِ حَرَامٌ، بِخِلَافِ الْحِجَازِ. وَالثَّانِي، أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ الْحَرَمِ سَهْلٌ مُمْكِنٌ، لِقُرْبِ الْحِلِّ مِنْهُ، وَخُرُوجَهُ مِنْ الْحِجَازِ فِي مَرَضِهِ صَعْبٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ دُفِنَ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ، إلَّا أَنْ يَصْعُبَ إخْرَاجُهُ؛ لِنَتِنِهِ وَتَقَطُّعِهِ. وَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ بِعِوَضٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ. فَإِنْ دَخَلُوا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَوْفُوا مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَصَلُوا إلَى بَعْضِهِ، أُخِذَ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْفَوْا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَالْعَقْدُ لَمْ يُوجِبْ الْعِوَضَ، لِكَوْنِهِ بَاطِلًا. [فَصْلٌ لَيْسَ لِأَهْلِ الْكِتَاب دُخُول مَسَاجِد الْحِلِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُسْلِمِينَ] (7692) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَسَاجِدُ الْحِلِّ، فَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَنَزَلَ، وَضَرَبَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَبْوَابِ كِنْدَةَ. فَإِنْ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا، جَازَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَأَنْزَلَهُمْ مِنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: قَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ. وَقَدِمَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، لِيَفْتِكَ بِهِ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى دَخَلَ عَلَى عُمَرَ وَمَعَهُ كِتَابٌ قَدْ كُتِبَ فِيهِ حِسَابُ عَمَلِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اُدْعُ الَّذِي كَتَبَهُ لِيَقْرَأَهُ. قَالَ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شُهْرَةِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَتَقَرُّرِهِ عَنَدَهُمْ. وَلِأَنَّ حَدَثَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يَمْنَعُ الْمُقَامَ فِي الْمَسْجِدِ، فَحَدَثُ الشِّرْكِ أَوْلَى. [فَصْلٌ الْمَأْخُوذُ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ] (7693) فَصْلٌ: وَالْمَأْخُوذُ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ إلَّا بِذِكْرِهِ وَهُوَ شَيْئَانِ؛ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ، وَجَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ. فَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَفِي مَعْنَاهُمَا تَرْكُ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهُ، فَذِكْرُ الْمُعَاهَدَةِ يَقْتَضِيه. الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ ثَمَانِي خِصَالٍ، ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ ذِكْرُ رَبِّهِمْ أَوْ كِتَابِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ بِسُوءٍ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، مَا فِيهِ إظْهَارُ مُنْكَرٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ؛ إحْدَاثُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا، وَرَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ بِكُتُبِهِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالضَّرْبُ بِالنَّوَاقِيسِ، وَتَعْلِيَةُ الْبُنْيَانِ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِقَامَةُ بِالْحِجَازِ، وَدُخُولُ الْحَرَمِ، فَيَلْزَمُهُمْ الْكَفُّ عَنْهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، فِي جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ، التَّمَيُّزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ لِبَاسِهِمْ، وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ، وَكُنَاهُمْ. أَمَّا لِبَاسُهُمْ، فَهُوَ أَنْ يَلْبَسُوا ثَوْبًا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ سَائِرِ الثِّيَابِ، فَعَادَةُ الْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ، وَعَادَةُ النَّصَارَى الْأَدْكَنُ، وَهُوَ الْفَاخِتِيُّ، وَيَكُونُ هَذَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَا فِي جَمِيعِهَا، لِيَقَعَ الْفَرْقُ، وَيُضِيفُ إلَى هَذَا شَدَّ الزُّنَّارِ فَوْقَ ثَوْبِهِ، إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ عَلَامَةً أُخْرَى إنْ لَمْ يَكُنْ نَصْرَانِيًّا، كَخِرْقَةٍ يَجْعَلُهَا فِي عِمَامَتِهِ أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ، يُخَالِفُ لَوْنُهَا لَوْنَهَا، وَيُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهِ خَاتَمَ رَصَاصٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ جُلْجُلٍ؛ لِيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَمَّامِ، وَيَلْبَسُ نِسَاؤُهُمْ ثَوْبًا مُلَوَّنًا، وَيُشَدُّ الزُّنَّارُ تَحْتَ ثِيَابِهِمْ، وَتُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهَا. وَلَا يُمْنَعُونَ لُبْسَ فَاخِرِ الثِّيَابِ، وَلَا الْعَمَائِمِ، وَلَا الطَّيْلَسَانِ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَصَلَ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ. وَأَمَّا الشُّعُورُ، فَإِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مَقَادِيمَ رُءُوسِهِمْ، وَيَجُزُّونَ شُعُورَهُمْ، وَلَا يَفْرَقُونَ شُعُورَهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَ شَعَرَهُ. وَأَمَّا الرُّكُوبُ، فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهَا عِزٌّ، وَلَهُمْ رُكُوبُ مَا سِوَاهَا، وَلَا يَرْكَبُونَ السُّرُوجَ وَيَرْكَبُونَ عَرْضًا؛ رِجْلَاهُ إلَى جَانِبٍ وَظَهْرُهُ إلَى آخَرَ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِجَزِّ نَوَاصِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَشُدُّوا الْمَنَاطِقَ، وَأَنْ يَرْكَبُوا الْأُكُفَ بِالْعَرْضِ. وَيُمْنَعُونَ تَقَلُّدَ السُّيُوفِ، وَحَمْلَ السِّلَاحِ وَاِتِّخَاذَهُ. وَأَمَّا الْكُنَى، فَلَا يَكْتَنُوا بِكُنَى الْمُسْلِمِينَ، كَأَبِي الْقَاسِمِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ، وَشِبْهِهَا، وَلَا يُمْنَعُونَ الْكُنَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ لِطَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَقَالَ: أَلَيْسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: " أَمَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُو الْخَبَّابِ؟ «. وَقَالَ لِأُسْقُفِ نَجْرَانَ: أَسْلِمْ أَبَا الْحَارِثِ» . وَقَالَ عُمَرُ لِنَصْرَانِيٍّ: يَا أَبَا حَسَّانَ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ. [فَصْلٌ مَا يُفْعَلُ عِنْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ] (7694) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ مَعَهُمْ الذِّمَّةَ، كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَعَدَدَهُمْ، وَحِلَّيْهِمْ وَدَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ أَوْ رَبْعَةٌ، أَسْمَرُ أَوْ أَبِيضُ، أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ. وَنَحْوَ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِ، وَيَجْعَلُ لِكُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا يُرَاعِي مَنْ يَبْلُغُ مِنْهُمْ أَوْ يُفِيقُ مِنْ جُنُونٍ، أَوْ يَقْدَمُ مِنْ غَيْبَةٍ، أَوْ يُسْلِمُ، أَوْ يَمُوتُ، أَوْ يَغِيبُ، وَيَجْبِي جِزْيَتَهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَحْوَطَ لِحِفْظِ جِزْيَتِهِمْ. [فَصْلٌ لَمْ يَعْرِفْ مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ أَهْل الذِّمَّةِ] (7695) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ الْإِمَامُ، أَوْ عُزِلَ، وَوَلِيَ غَيْرُهُ، فَإِنْ عَرَفَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَقْدًا صَحِيحًا، أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ أَقَرُّوا عَقْدَ عُمَرَ، وَلَمْ يُجَدِّدُوا عَقْدًا سِوَاهُ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ. وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا رَدَّهُ إلَى الصِّحَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ، فَشَهِدَ بِهِ مُسْلِمَانِ، أَوْ كَانَ أَمْرُهُ ظَاهِرًا، عَمِلَ بِهِ. وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، سَأَلَهُمْ، فَإِنْ ادَّعَوْا الْعَهْدَ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً، قَبِلَ قَوْلَهُمْ، وَعَمِلَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَحْلَفَهُمْ اسْتِظْهَارًا، فَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، رَجَعَ بِمَا نَقَضُوا، وَإِنْ قَالُوا كُنَّا نُؤَدِّي كَذَا وَكَذَا جِزْيَةً وَكَذَا وَكَذَا هَدِيَّةً. اسْتَحْلَفَهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا يَدْفَعُونَهُ أَنَّهُ جِزْيَةٌ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ، اسْتَأْنَفَ الْعَقْدَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْأَوَّلِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ. [مَسْأَلَةٌ هَرَبَ مِنْ ذِمَّتِنَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ هَرَبَ مِنْ ذِمَّتِنَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ، نَاقِضًا لِلْعَهْدِ عَادَ حَرْبِيًّا) يَعْنِي يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَمَتَى قُدِرَ عَلَيْهِ، أُبِيحَ مِنْهُ مَا يُبَاحُ مِنْ الْحَرْبِيِّ؛ مِنْ الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَأَخْذِ الْمَالِ. وَإِنْ هَرَبَ الذِّمِّيُّ بِأَهْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، أُبِيحَ مِنْ الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ مَا يُبَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُبَحْ سَبْيُ الذُّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْبَالِغِينَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 [فَصْلٌ نَقَضَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْد] (7697) فَصْلٌ: وَإِنْ نَقَضَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، جَازَ غَزْوُهُمْ وَقَتْلُهُمْ. وَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ اخْتَصَّ حُكْمُ النَّقْضِ بِالنَّاقِضِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْقُضُوا، لَكِنْ خَافَ النَّقْضَ مِنْهُمْ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَحِقَهُمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِمَامَ تَلْزَمُهُ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْأَمَانِ وَالْهُدْنَةِ؛ فَإِنَّهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ، وَهُوَ مُعَاوَضَةٌ، وَلِذَلِكَ إذَا نَقَضَ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ، لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُمْ نَقْضًا، وَفِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ يَكُونُ نَقْضًا. [فَصْلٌ مَا يُوجِب عَقَدَ الذِّمَّةَ] (7698) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ، فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَصِيَّتِهِ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ: وَأُوصِيه بِأَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَيُحَاطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. [فَصْلٌ تَحَاكَمَ إلَيْنَا مُسْلِمٌ مَعَ ذِمِّيٍّ] (7699) فَصْلٌ: وَإِذَا تَحَاكَمَ إلَيْنَا مُسْلِمٌ مَعَ ذِمِّيٍّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا حَفِظَ الذِّمِّيَّ مِنْ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ، وَحَفِظَ الْمُسْلِمَ مِنْهُ. وَإِنْ تَحَاكَمَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، أَوْ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، خُيِّرَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . فَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] . وَإِذَا اسْتَعْدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فِي طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إيلَاءٍ، فَإِنْ شَاءَ أَعْدَاهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . فَإِنْ أُحْضِرَ زَوْجُهَا، حُكِمَ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْهَا، مَنَعَهُ وَطْأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَتَكْفِيرُهُ بِالْإِطْعَامِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الصِّيَامُ. [فَصْلٌ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِ الْمَجُوسِيّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ] (7700) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ مِنْ شِرَاءِ مُصْحَفٍ، وَلَا حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِقْهٍ، فَإِنْ فَعَلَ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ ابْتِذَالَهُ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ بَيْعَهُمْ الثِّيَابَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: هَلْ تَكْرَهُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ غُلَامًا مَجُوسِيًّا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: إنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 أَسْلَمَ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَأَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قُلْت: فَيُعَلِّمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَرْهَنُ الْمُصْحَفَ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ قَالَ: لَا، «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» . [فَصْلٌ لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ] (7701) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَصْدِيرُهُمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَلَا بَدَاءَتَهُمْ بِالسَّلَامِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّا غَادُونَ غَدًا، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» . أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «نُهِينَا، أَوْ أُمِرْنَا، أَنْ لَا نَزِيدَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى وَعَلَيْكُمْ» . قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلذِّمِّيِّ: كَيْفَ أَصْبَحْت؟ أَوْ كَيْفَ حَالُك؟ أَوْ كَيْفَ أَنْتَ؟ أَوْ نَحْوَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ مِنْ السَّلَامِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا لَقِيته فِي الطَّرِيقِ، فَلَا تُوسِعْ لَهُ. وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ إنَّهُ كَافِرٌ. فَقَالَ: رُدَّ عَلَى مَا سَلَّمْت عَلَيْك. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك وَوَلَدَك. ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَكْثَرَ لِلْجِزْيَةِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْت نُعَامِلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَنَأْتِيهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَنْوِي السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَسُئِلَ عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَكَرِهَهُ. [فَصْلٌ يَذْكُرُ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَلْزَمُهُمْ] (7702) فَصْلٌ: وَمَا يَذْكُرُ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَلْزَمُهُمْ، وَأَنَّ مَعَهُمْ كِتَابًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ، لَا يَصِحُّ. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، فَقَالَ: مَا نَقَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ طُولِبُوا بِذَلِكَ، فَأَخْرَجُوا كِتَابًا ذَكَرُوا أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِيهِ شَهَادَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَتَارِيخُهُ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدٍ وَقَبْلَ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ، فَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَمْ يَرْوِ ذَلِكَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ. [فَصْلٌ امْتِهَانُ أَهْل الذِّمَّة عِنْد أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ] (7703) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَمْتَهِنُونَ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيُطَالُ قِيَامُهُمْ، وَتُجَرُّ أَيْدِيهمْ عِنْدَ أَخْذِهَا. ذَهَبَ إلَى قَوْله تَعَالَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَقِيلَ: الصِّغَارُ الْتِزَامُهُمْ الْجِزْيَةَ، وَجَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ. وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إرْسَالُهَا، بَلْ يَحْضُرُ الذِّمِّيُّ بِنَفْسِهِ بِهَا، وَيُؤَدِّيهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ، وَلَا يَشْتَطُّ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِهَا، وَلَا يُعَذَّبُونَ إذَا أَعْسَرُوا عَنْ أَدَائِهَا؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِمَالٍ كَثِيرٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: إنِّي لَأَظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمْ النَّاسَ. قَالُوا: لَا وَاَللَّهِ، مَا أَخَذْنَا إلَّا عَفْوًا صَفْوًا. قَالَ: بِلَا سَوْطٍ وَلَا بَوْطٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى يَدِي، وَلَا فِي سُلْطَانِي. وَقَدِمَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ، فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: سَبَقَ سَيْلُك مَطَرَك، إنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ، وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرْ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ. فَقَالَ: مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا هَذَا مَا لَك تُبْطِئُ بِالْخَرَاجِ؟ فَقَالَ: أَمَرْتنَا أَنْ لَا نَزِيدَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، فَلَسْنَا نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ. قَالَ عُمَرُ: لَا أَعْزِلَنَّك مَا حَيِيت. رَوَاهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ. . وَقَالَ: إنَّمَا وَجْهُ التَّأْخِيرِ إلَى الْغَلَّةِ الرِّفْقُ بِهِمْ قَالَ: وَلَمْ نَسْمَعْ فِي اسْتِيدَاءِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَقْتًا غَيْرَ هَذَا. وَاسْتَعْمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا عَلَى عُكْبَرَى، فَقَالَ لَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ: لَا تَدَعْنَ لَهُمْ دِرْهَمًا مِنْ الْخَرَاجِ. وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، ثُمَّ قَالَ: الْقَنِي عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنِّي كُنْت أَمَرْتُك بِأَمْرٍ، وَإِنِّي أَتَقَدَّمُ إلَيْك الْآنَ، فَإِنْ عَصَيْتنِي نَزَعْتُك، لَا تَبِيعَن لَهُمْ فِي خَرَاجِهِمْ حِمَارًا، وَلَا بَقَرَةً، وَلَا كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ، وَارْفُقْ بِهِمْ، وَافْعَلْ بِهِمْ. [فَصْلٌ: فِي الرَّجُل لَهُ الْمَرْأَةُ النَّصْرَانِيَّةُ لَا يَأْذَنُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى عِيدٍ أَوْ تَذْهَبَ إلَى بِيعَة] (7704) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ لَهُ الْمَرْأَةُ النَّصْرَانِيَّةُ: لَا يَأْذَنُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى عِيدٍ، أَوْ تَذْهَبَ إلَى بِيعَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْأَمَةِ. قِيلَ لَهُ: وَأَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا شُرْبَ الْخَمْرِ؟ قَالَ: يَأْمُرُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا زُنَّارًا؟ قَالَ: لَا يَشْتَرِي زُنَّارًا، وَتَخْرُجُ هِيَ تَشْتَرِي لِنَفْسِهَا. وَسُئِلَ عَنْ الذِّمِّيِّ يُعَامِلُ بِالرِّبَا، وَيَبِيعُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ، ثُمَّ يُسْلِمُ، وَذَلِكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِيُّ حَالِ كُفْرِهِ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَهُمْ فِي الْكُفْرِ إذَا أَسْلَمَ. وَسُئِلَ عَنْ الْمَجُوسِيَّيْنِ يَجْعَلَانِ وَلَدَهُمَا مُسْلِمًا، فَيَمُوتُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ؟ فَقَالَ: يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» . يَعْنِي أَنَّ هَذَيْنِ لَمْ يُمَجِّسَاهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْفِطْرَةِ. وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: أَذْهَبُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» . قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ " حَتَّى سَمِعَ: " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ". فَتَرَكَ قَوْلَهُ. وَسَأَلَهُ ابْنُ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: هَذِهِ مَسَائِلُ أَهْلِ الزَّيْغِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَصَاحَ بِهِ، وَقَالَ: يَا صَبِيُّ، أَنْتَ تَسْأَلُ عَنْ هَذَا؟ قَالَ أَحْمَدُ: وَنَحْنُ نُمِرُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَلَا نَقُولُ شَيْئًا. وَسُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَذَكَرُوا لَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، الَّذِي قَالَتْ فِيهِ: عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ. فَقَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ، وَذَكَرَ فِيهِ رَجُلًا ضَعَّفَهُ طَلْحَةُ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُسْلِمُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاتَيْنِ؟ فَقَالَ: يَصِحُّ إسْلَامُهُ، وَيُؤْخَذُ بِالْخَمْسِ. وَقَالَ: مَعْنَى حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «بَايَعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ لَا أَخِرَّ إلَّا قَائِمًا» . أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ يَقْرَأُ ثُمَّ يَسْجُدُ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ. قَالَ: وَحَدِيثُ قَتَادَةَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ طَرَفَيْ النَّهَارِ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 [كِتَاب الصَّيْدِ وَالذَّبَائِح] ِ الْأَصْلُ فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَخْبِرْنِي مَاذَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْت أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا صِدْت بِقَوْسِك، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْت بِكَلْبِك الْمُعَلَّمِ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْت بِكَلْبِك الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ، فَكُلْ» . وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نُرْسِلُ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ، فَيُمْسِكُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: كُلْ. قُلْت: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ: كُلْ مَا لَمْ يَشْرَكْهُ كَلْبٌ غَيْرُهُ» . قَالَ: «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: مَا خَرَقَ فَكُلْ، وَمَا قَتَلَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ وَالْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ. [مَسْأَلَة سَمَّى وَأَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ فَهْدَهُ الْمُعَلَّمَ وَاصْطَادَ وَقَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ] (7705) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَإِذَا سَمَّى وَأَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ فَهْدَهُ الْمُعَلَّمَ، وَاصْطَادَ، وَقَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، جَازَ أَكْلُهُ) أَمَّا مَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ مِنْ الصَّيْدِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي إبَاحَتِهِ سِوَى صِحَّةِ التَّذْكِيَةِ؛ وَلِذَلِكَ «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَمَا صِدْت بِكَلْبِك الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ، فَكُلْ» . وَأَمَّا مَا قَتَلَ الْجَارِحُ، فَيُشْتَرَطُ فِي إبَاحَتِهِ شُرُوطٌ سَبْعَةٌ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، فَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مَجْنُونًا، لَمْ يُبَحْ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ أُقِيمَ مُقَامَ الذَّكَاةِ، وَالْجَارِحُ آلَةٌ كَالسِّكِّينِ، وَعَقْرُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 لِلْحَيَوَانِ بِمَنْزِلَةِ إفْرَاءِ الْأَوْدَاجِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ» . وَالصَّائِدُ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكِّي، فَتُشْتَرَطُ الْأَهْلِيَّةُ فِيهِ. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يُسَمِّيَ عِنْدَ إرْسَالِ الْجَارِحِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، لَمْ يُبَحْ، هَذَا تَحْقِيقُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُد. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، إنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَالْكَلْبِ، أُبِيحَ. قَالَ الْخَلَّالُ: سَهَا حَنْبَلٌ فِي نَقْلِهِ؛ فَإِنَّ فِي أَوَّلِ مَسْأَلَتِهِ، إذَا نَسِيَ وَقَتَلَ، لَمْ يَأْكُلْ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ فِي النِّسْيَانِ دُونَ الْعَمْدِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْجَارِحَةِ جَرَى مَجْرَى التَّذْكِيَةِ، فَعُفِيَ عَنْ النِّسْيَانِ فِيهِ، كَالذَّكَاةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْتَرَطُ عَلَى إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إرْسَالِ السَّهْمِ؛ إلَيْهِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّكِّينِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ فَقِيلَ: أَرَأَيْت الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ؟ فَقَالَ: اسْمُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ هَذَا. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] . وَقَالَ النَّبِيُّ «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك، وَسَمَّيْت، فَكُلْ. قُلْت أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: " وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ، فَلَا تَأْكُلْ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: «وَمَا صِدْت بِقَوْسِك، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ» . وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ لَا يُعْرَجُ عَلَى مَا خَالَفَهَا. وَقَوْلُهُ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِثْمِ، لَا جَعْلَ الشَّرْطِ الْمَعْدُومِ كَالْمَوْجُودِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَسِيَ شَرْطَ الصَّلَاةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ، أَنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ فِي مَحِلِّهِ، فَجَازَ أَنْ يُتَسَامَحَ فِيهِ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ. وَأَمَّا أَحَادِيثُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 الْمَشْهُورَةِ، وَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ فِي الذَّبِيحَةِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الصَّيْدِ عَلَيْهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، مَعَ مَا فِي الصَّيْدِ مِنْ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالتَّسْمِيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ قَوْلُهُ: " بِسْمِ اللَّهِ ". لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ذَبَحَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُهُ. وَلَا خِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: " بِسْمِ اللَّهِ " يُجْزِئُهُ. وَإِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبُ حَاجَةٍ. وَإِنْ هَلَّلَ، أَوْ سَبَّحَ، أَوْ كَبَّرَ، أَوْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، احْتَمَلَ الْإِجْزَاءَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ. وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَفْظُهُ. وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّهُ الْفِعْلُ الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُرْسِلِ، فَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ، كَمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ الذَّابِحِ، وَعِنْدَ إرْسَالِ السَّهْمِ مِنْ الرَّامِي. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا. وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ التَّسْمِيَةِ فِي ذَبْحٍ وَلَا صَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ. وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» . وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] . لَا أُذْكَرُ إلَّا ذُكِرْت مَعِي. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " مَوْطِنَانِ لَا أُذْكَرُ فِيهِمَا؛ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ، وَالْعُطَاسِ ". رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَشْبَهَ الْمُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يُرْسِلَ الْجَارِحَةَ عَلَى الصَّيْدِ، فَإِنْ اسْتَرْسَلَتْ بِنَفْسِهَا فَقَتَلَتْ، لَمْ يُبَحْ. وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُؤْكَلُ صَيْدُهُ إذَا أَخْرَجَهُ لِلصَّيْدِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إذَا سَمَّى عِنْدَ انْفِلَاتِهِ، أُبِيحَ صَيْدُهُ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكِلَابِ تَنْفَلِتُ مِنْ مَرَابِضِهَا فَتَصِيدُ الصَّيْدَ؟ قَالَ: اُذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلْ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: فَهَذَا الَّذِي أَخْتَارُ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ هُوَ إرْسَالَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلَّالُ: هَذَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك، وَسَمَّيْت، فَكُلْ» . وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْجَارِحَةِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرْت التَّسْمِيَةُ مَعَهُ، وَإِنْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ فَسَمَّى صَاحِبُهُ وَزَجَرَهُ، فَزَادَ فِي عَدْوِهِ، أُبِيحَ صَيْدُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُبَاحُ. وَعَنْ عَطَاءٍ كَالْمَذْهَبَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 وَلَنَا، أَنَّ زَجْرَهُ أَثَّرَ فِي عَدْوِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ مَتَى انْضَافَ إلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَالَ الْكَلْبُ عَلَى إنْسَانٍ، فَأَغْرَاهُ إنْسَانٌ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَغْرَاهُ. وَإِنْ أَرْسَلَهُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ، ثُمَّ سَمَّى وَزَجَرَهُ، فَزَادَ فِي عَدْوِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُبَاحُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَرْسَلَ، ثُمَّ سَمَّى فَانْزَجَرَ، أَوْ أَرْسَلَ وَسَمَّى، فَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ السَّوَاءِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ انْزَجَرَ بِتَسْمِيَتِهِ وَزَجْرِهِ، فَأَشْبَهَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُبَاحُ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْسَالِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَظْرٌ وَلَا إبَاحَةٌ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ مُعَلَّمًا. وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ. وَيُعْتَبَرُ فِي تَعْلِيمِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ إذَا أَرْسَلَهُ اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا زَجَرَهُ انْزَجَرَ، وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ. وَيَتَكَرَّرُ هَذَا مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا فِي حُكْمِ الْعُرْفِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثٌ. قَالَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَلَمْ يُقَدِّرْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَدَدَ الْمَرَّاتِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا، بَلْ قَدْرُهُ بِمَا يَصِيرُ بِهِ فِي الْعُرْفِ مُعَلَّمًا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ، صَارَ مُعَلَّمًا؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَحْصُلُ بِمَرَّتَيْنِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلُّمُ صَنْعَةٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ. وَلَنَا أَنَّ تَرْكَهُ لِلْأَكْلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِشِبَعٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِتَعَلُّمٍ، فَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّكْرَارِ، وَمَا اُعْتُبِرَ فِيهِ التَّكْرَارُ اُعْتُبِرَ ثَلَاثًا، كَالْمَسْحِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، وَعَدَدِ الْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ فِي الْعِدَّةِ، وَالْغَسَلَاتِ فِي الْوُضُوءِ. وَيُفَارِقُ الصَّنَائِعَ، فَإِنَّهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهَا إلَّا مَنْ تَعَلَّمَهَا، فَإِذَا فَعَلَهَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَهَا وَعَرَفَهَا، وَتَرْكُ الْأَكْلِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ وَغَيْرِهِ، وَيُوجَدُ مِنْ الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا، فَلَا يَتَمَيَّزُ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ. وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَرْكُ الْأَكْلِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ» . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْمُعَلَّمِ تَرْكُ الْأَكْلِ، فَاعْتُبِرَ شَرْطًا، كَالِانْزِجَارِ إذَا زُجِرَ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . وَهَذَا أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَهُوَ ذِكْرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 الْحُكْمِ مُعَلَّلًا. ثُمَّ إنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَحْمُولٌ عَلَى جَارِحَةٍ ثَبَتَ تَعْلِيمُهَا؛ لِقَوْلِهِ: " إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ". وَلَا يَثْبُتُ التَّعْلِيمُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الِانْزِجَارَ بِالزَّجْرِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِإِرْسَالِهِ عَلَى الصَّيْدِ، أَوْ رُؤْيَتِهِ، أَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِحَالٍ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ، أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ الصَّيْدِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، لَمْ يُبَحْ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُبَاحُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَلْمَانَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ. حَكَاهُ عَنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهُ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . وَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ جَارِحٌ مُعَلَّمٌ، فَأُبِيحَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْكُلْ. فَإِنَّ الْأَكْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ غَيْظٍ عَلَى الصَّيْدِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك. قُلْت: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ: وَإِنْ قَتَلَ، إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنْ أَكَلَ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّيْدِ الْأَوَّلِ، كَانَ شَرْطًا فِي سَائِرِ صُيُودِهِ، كَالْإِرْسَالِ وَالتَّعْلِيمِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ هَذَا الصَّيْدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . وَهَذَا إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: يَخْتَلِفُونَ عَنْ هُشَيْمٍ فِيهِ. وَعَلَى أَنَّ حَدِيثَنَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَضْبَطُ، وَلَفْظُهُ أَبْيَنُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ وَالْعِلَّةَ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ، مِنْ أَصَحِّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشَّعْبِيُّ يَقُولُ: كَانَ جَارِي وَرَبِيطِي، فَحَدَّثَنِي. وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِذًا لَا يَحْرُمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيُودِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعَلَّمًا مَا أَكَلَ وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْهُ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْعُمُومِ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ شُرُوطِ التَّعْلِيمِ حَاصِلَةٌ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ، وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِحِلِّ صَيْدِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَكْلُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِنِسْيَانٍ، أَوْ لِفَرْطِ جُوعِهِ، أَوْ نَسِيَ التَّعْلِيمَ، فَلَا يُتْرَكُ مَا ثَبَتَ يَقِينًا بِالِاحْتِمَالِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 (7706) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرِبَ دَمَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ ، لَمْ يَحْرُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَكْلِ. وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْهُ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ: " فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا تَأْكُلْ ". وَهَذَا لَمْ يَأْكُلْ، وَلِأَنَّ الدَّمَ لَا يَقْصِدُهُ الصَّائِدُ مِنْهُ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ بِشُرْبِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكًا عَلَى صَائِدِهِ. (7707) فَصْلٌ: وَلَا يَحْرُمُ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ بَعْدَ الصَّيْدِ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، فَتُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ التَّعْلِيمِ ابْتِدَاءً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَيْدِهِ الَّذِي قَبْلَ الْأَكْلِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ، أَنْ يُجْرَحَ الصَّيْدَ، فَإِنْ خَنَقَهُ، أَوْ قَتَلَهُ بِصَدْمَتِهِ، لَمْ يُبَحْ. قَالَ الشَّرِيفُ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي قَوْلٍ لَهُ: يُبَاحُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ جَرْحٍ، أَشْبَهَ مَا قَتَلَهُ بِالْحَجَرِ وَالْبُنْدُقِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَوْقُوذَةَ، وَهَذَا كَذَلِكَ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا ذَكَرُوهُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يَنْهَرْ الدَّمَ. الشَّرْطُ السَّابِعُ، أَنْ يُرْسِلَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ وَهُوَ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يُحِسُّ بِهِ، فَأَصَابَ صَيْدًا، لَمْ يُبَحْ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ عَلَى الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ. وَهَكَذَا إنْ رَمَى سَهْمًا إلَى غَرَضٍ، فَأَصَابَ صَيْدًا، أَوْ رَمَى بِهِ إلَى فَوْقِ رَأْسِهِ فَوَقَعَ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِرَمْيِهِ عَيْنًا، فَأَشْبَهَ مَنْ نَصَبَ سِكِّينًا، فَانْذَبَحَتْ بِهَا شَاةٌ. [فَصْلٌ: كُلُّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ مِنْ السِّبَاعِ أَوْ الْجَوَارِحِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَلْبِ] (7708) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَيُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، كَالْفَهْدِ، أَوْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَلْبِ فِي إبَاحَةِ صَيْدِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] : هِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، وَكُلُّ طَيْرٍ تَعَلَّمَ الصَّيْدَ، وَالْفُهُودُ وَالصُّقُورُ وَأَشْبَاهُهَا. وَبِمَعْنَى هَذَا قَالَ طَاوُسٌ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ إلَّا بِالْكَلْبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] . يَعْنِي كَلَّبْتُمْ مِنْ الْكِلَابِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَدِيٍّ، قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الْبَازِي، فَقَالَ: إذَا أَمْسَكَ عَلَيْك، فَكُلْ» . وَلِأَنَّهُ جَارِحٌ يُصَادُ بِهِ عَادَةً، وَيَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ الْكَوَاسِبُ. {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] . أَيْ كَسَبْتُمْ. وَفُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ، أَيْ كَاسِبُهُمْ. (مُكَلِّبِينَ) مِنْ التَّكْلِيبِ وَهُوَ الْإِغْرَاءُ. [فَصْلٌ هَلْ يَجِبُ غُسْلُ أَثَرِ فَمِ الْكَلْبِ مِنْ الصَّيْدِ؟] فَصْلٌ: وَهَلْ يَجِبُ غُسْلُ أَثَرِ فَمِ الْكَلْبِ مِنْ الصَّيْدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ أَمَرَا بِأَكْلِهِ، وَلَمْ يَأْمُرَا بِغَسْلِهِ وَالثَّانِي، يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ، فَيَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ، كَبَوْلِهِ. " [مَسْأَلَة أَرْسَلَ الْبَازِي وَمَا أَشْبَهَهُ فَصَادَ وَقَتَلَ] (7710) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ الْبَازِي، وَمَا أَشْبَهَهُ فَصَادَ وَقَتَلَ، أَكَلَ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ بِأَنْ يَأْكُلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ بِالْبَازِي مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ بِالْكَلْبِ، إلَّا تَرْكُ الْأَكْلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ، وَيُبَاحُ صَيْدُهُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ كَالْكَلْبِ فِي تَحْرِيمِ مَا أَكَلَ مِنْهُ مِنْ صَيْدِهِ؛ لِأَنَّ مُجَالِدًا رَوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي، فَلَا تَأْكُلْ» . وَلِأَنَّهُ جَارِحٌ أَكَلَ مِمَّا صَادَهُ عَقِيبَ قَتْلِهِ، فَأَشْبَهَ سِبَاعَ الْبَهَائِمِ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ، فَلَا تَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ، وَإِذَا أَكَلَ الصَّقْرُ، فَكُلْ؛ لِأَنَّك تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَ الْكَلْبَ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَ الصَّقْرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إبَاحَةَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ وَوَافَقَهُمْ فِي الصَّقْرِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ فِي عَصْرِهِمْ خِلَافُهُمْ، وَلِأَنَّ جَوَارِحَ الطَّيْرِ تُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ، وَيَتَعَذَّرُ تَعْلِيمُهَا بِتَرْكِ الْأَكْلِ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي تَعْلِيمِهَا، بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَلَا يَصِحُّ، يَرْوِيهِ مُجَالِدٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ أَحْمَدُ: مُجَالِدٌ يُصَيِّرُ الْقِصَّةَ وَاحِدَةً، كَمْ مِنْ أُعْجُوبَةٍ لِمُجَالِدٍ. وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ تُخَالِفُهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الطَّيْرِ عَلَى السِّبَاعِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ جَارِحٍ مِنْ الطَّيْرِ أَمْكَنَ تَعْلِيمُهُ، وَالِاصْطِيَادُ بِهِ، مِنْ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْعُقَابِ، حَلَّ صَيْدُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُؤْكَلُ مَا صِيدَ بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ إذَا كَانَ بَهِيمًا] (7711) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ مَا صِيدَ بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، إذَا كَانَ بَهِيمًا؛ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 الْبَهِيمُ: الَّذِي لَا يُخَالِطُ لَوْنَهُ لَوْنٌ سِوَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بَيَاضٌ. قَالَ ثَعْلَبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كُلُّ لَوْنٍ لَمْ يُخَالِطْهُ لَوْنٌ آخَرُ بَهِيمٌ. قِيلَ لَهُمَا: مِنْ كُلِّ لَوْنٍ؟ قَالَا: نَعَمْ. وَمِمَّنْ كَرِهَ صَيْدَهُ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ. يَعْنِي مِنْ السَّلَفِ. وَأَبَاحَ صَيْدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْكِلَابِ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَلْبٌ يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ، وَيَجِبُ قَتْلُهُ، فَلَمْ يُبَحْ صَيْدُهُ، كَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ اقْتِنَائِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَغَيْرُهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، فِي " صَحِيحِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، ذِي النُّكْتَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» . فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَمَا وَجَبَ قَتْلُهُ حَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ وَتَعْلِيمُهُ، فَلَمْ يُبَحْ صَيْدُهُ لِغَيْرِ الْمُعَلَّمِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهُ شَيْطَانًا، وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الشَّيْطَانِ، وَإِبَاحَةُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ رُخْصَةٌ، فَلَا تُسْتَبَاحُ بِمُحْرِمِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ، وَالْعُمُومَاتِ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُكْتَتَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ، لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ نَهْيًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخَبَرِ. [مَسْأَلَةٌ أَدْرَكَ الصَّيْدَ وَفِيهِ رُوحٌ فَلَمْ يُذَكِّهِ حَتَّى مَاتَ] (7712) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَدْرَكَ الصَّيْدَ وَفِيهِ رُوحٌ، فَلَمْ يُذَكِّهِ حَتَّى مَاتَ، لَمْ يُؤْكَلْ) يَعْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، مَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ حَيَاتُهُ كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ، فَهَذَا يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ ذَبْحٍ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ الذَّكَاةَ فِي مِثْلِ هَذَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ، ثُمَّ أَعَادَ ذَبْحَهُ مُسْلِمٌ. لَمْ يَحِلَّ، فَأَمَّا إنْ أَدْرَكَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَتَّى مَاتَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ الزَّمَانُ لِذَكَاتِهِ حَتَّى مَاتَ، حَلَّ أَيْضًا. قَالَ قَتَادَةُ: يَأْكُلُهُ مَا لَمْ يَتَوَانَ فِي ذَكَاتِهِ، أَوْ يَتْرُكْهُ عَمْدًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذَكِّيَهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، فَتَعَلَّقَتْ إبَاحَتُهُ بِتَذْكِيَتِهِ، كَمَا لَوْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَكَاتِهِ بِوَجْهٍ يُنْسَبُ فِيهِ إلَى التَّفْرِيطِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ لَهَا الزَّمَانُ، فَكَانَ عَقْرُهُ ذَكَاتَهُ، كَاَلَّذِي قَتَلَهُ. وَيُفَارِقُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ ذَكَاتُهُ، وَفَرَّطَ بِتَرْكِهَا. وَلَوْ أَدْرَكَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ يَعِيشُ بِهَا طَوِيلًا، وَأَمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى مَاتَ، لَمْ يُبَحْ، سَوَاءٌ كَانَ بِهِ جُرْحٌ يَعِيشُ مَعَهُ أَوْ لَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ. فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَيِّ. بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. كَانَتْ جِرَاحَاتُهُ مُوحِيَةً. فَأَوْصَى. وَأُجِيزَتْ وَصَايَاهُ وَأَقْوَالُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 وَلَا سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَالْعِبَادَاتُ. وَلِأَنَّهُ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا. فَأَشْبَهَ غَيْرَ الصَّيْدِ. (7713) . مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُذَكِّيه بِهِ. أَشْلَى الصَّائِدُ لَهُ عَلَيْهِ. حَتَّى يَقْتُلَهُ. فَيُؤْكَلَ) يَعْنِي: أَغْرَى الْكَلْبَ بِهِ. وَأَرْسَلَهُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى أَشْلَى فِي الْعَرَبِيَّةِ: دَعَا. إلَّا أَنَّ الْعَامَّةَ تَسْتَعْمِلُهُ بِمَعْنَى أَغْرَاهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ دَعَاهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ عَلَى الصَّيْدِ يَتَضَمَّنُ دُعَاءَهُ إلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَعَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: إنِّي لَأَقْشَعِرُّ مِنْ هَذَا. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَرَاهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يُبَحْ بِقَتْلِ الْجَارِحِ لَهُ. كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَكَمَا لَوْ أَخَذَهُ سَلِيمًا. وَوَجْهُ الْأُولَى. أَنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ الْجَارِحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ إمْكَانِ ذَكَاتِهِ. فَأُبِيحَ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ مَيِّتًا. وَلِأَنَّهَا حَالٌ تَتَعَذَّرُ فِيهَا الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ غَالِبًا. فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ. كَالْمُتَرَدِّيَةِ فِي بِئْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي. أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ فَيَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ تَعَذَّرَتْ تَذْكِيَتُهُ. فَأُبِيحَ بِمَوْتِهِ مِنْ عَقْرِ الصَّائِدِ لَهُ. كَاَلَّذِي تَعَذَّرَتْ تَذْكِيَتُهُ لِقِلَّةِ لبته. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُبَاحُ بِغَيْرِ التَّذْكِيَةِ إذَا كَانَ مَعَهُ آلَةُ الذَّكَاةِ. فَلَمْ يُبَحْ بِغَيْرِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ آلَةٌ. كَسَائِرِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَذْكِيَتِهِ. وَمَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يُخَافُ مَوْتُهُ إنْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْحَيَوَانُ أَوْ يُذَكَّى. فَإِنْ كَانَ بِهِ حَيَاةٌ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مَنْزِلَهُ. فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إلَّا بِالذَّكَاةِ. لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَى تَذْكِيَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَرْسَلَ كَلْبَهُ فَأَضَافَ مَعَهُ غَيْرَهُ] (7714) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ، فَأَضَافَ مَعَهُ غَيْرَهُ، لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا أَنْ يُدْرِكَ الْحَيَاةَ، فَيُذَكِّيَ) مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُرْسِلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَيَجِدَ الصَّيْدَ مَيِّتًا، وَيَجِدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا لَا يَعْرِفُ، وَلَا يَدْرِي هَلْ وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ صَيْدِهِ أَوْ لَا، وَلَا يَعْلَمُ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ؟ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا قَتَلَاهُ، أَوْ أَنَّ قَاتِلَهُ الْكَلْبُ الْمَجْهُولُ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ، إلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ حَيًّا فَيُذَكِّيَهُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا آخَرَ، فَخَشِيت أَنْ يَكُونَ أَخَذَ مَعَهُ، وَقَدْ قَتَلَهُ، فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنَّك إنَّمَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك» . وَفِي لَفْظٍ: " فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ،. وَلِأَنَّهُ شَكَّ فِي الِاصْطِيَادِ الْمُبِيحِ، فَوَجَبَ إبْقَاءُ حُكْمِ التَّحْرِيمِ، فَأَمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّ كَلْبَهُ الَّذِي قَتَلَ وَحْدَهُ، أَوْ أَنَّ الْكَلْبَ الْآخَرَ مِمَّا يُبَاحُ صَيْدُهُ، أُبِيحَ؛ بِدَلَالَةِ تَعْلِيلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 تَحْرِيمِهِ: " فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ ". وَقَوْلِهِ: " فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَ ". وَلِأَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي الْمُبِيحِ، فَلَمْ يَحْرُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ أَرْسَلَ الْكَلْبَيْنِ وَسَمَّى. وَلَوْ جَهْلَ حَالَ الْكَلْبِ الْمُشَارِكِ لِكَلْبِهِ، ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ مُسَمًّى عَلَيْهِ، مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ الشَّرَائِطُ، حَلَّ الصَّيْدُ، وَلَوْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ لِجَهْلِهِ بِمُشَارَكَةِ الْآخَرِ لَهُ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَلْبٌ مُسَمًّى عَلَيْهِ، ثُمَّ بَانَ بِخِلَافِهِ، حَرُمَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ لَا تَتَغَيَّرُ بِاعْتِقَادِهِ خِلَافَهَا، وَلَا الْجَهْلِ بِوُجُودِهَا. [فَصْلٌ أَرْسَلَ كَلْبَهُ فَأَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ فَقَتَلَا صَيْدًا] (7715) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ، فَأَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ، فَقَتَلَا صَيْدًا، لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْمَجُوسِيِّ حَرَامٌ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ غَلَبَ الْحَظْرُ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَظْرُ، وَالْحِلُّ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ تَذْكِيَةُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، أَوْ صَيْدُهُ الَّذِي حَصَلَتْ التَّذْكِيَةُ بِهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ رَمَيَاهُ بِسَهْمَيْهِمَا، فَأَصَابَاهُ، فَمَاتَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ سَهْمَاهُمَا فِيهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ يَقَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَدْ عَقَرَهُ عَقْرًا موحيا، مِثْلَ أَنْ ذَبَحَهُ، أَوْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْمَذْبُوحِ، ثُمَّ أَصَابَهُ الثَّانِي وَهُوَ غَيْرُ مَذْبُوحٍ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ الْمُسْلِمَ، أُبِيحَ، وَإِنْ كَانَ الْمَجُوسِيَّ، لَمْ يُبَحْ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي موحيا أَيْضًا، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: الْحُكْمُ لِلْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ حَصَلَتْ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الثَّانِي غَيْرَ مُوحٍ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ؛ لِقَوْلِهِ: وَإِذَا ذَبَحَ فَأَتَى عَلَى الْمَقَاتِلِ، فَلَمْ تَخْرُجْ الرُّوحُ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ، أَوْ وَطِئَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، لَمْ تُؤْكَلْ. وَلِأَنَّ الرُّوحَ خَرَجَتْ بِالْجُرْحَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَاهُ مَعًا. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُوحٍ، وَالثَّانِي مُوحٍ، فَالْحُكْمُ لِلثَّانِي فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. وَإِنْ أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ وَالْمَجُوسِيُّ كَلْبًا وَاحِدًا، فَقَتَلَ صَيْدًا، لَمْ يُبَحْ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمَانِ وَسَمَّى أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُعَلَّمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، فَقَتَلَا صَيْدًا، لَمْ يَحِلَّ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ، فَاسْتَرْسَلَ مَعَهُ مُعَلَّمٌ آخَرُ بِنَفْسِهِ، فَقَتَلَا الصَّيْدَ، لَمْ يَحِلَّ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَحِلُّ هَاهُنَا. وَلَنَا، أَنَّ إرْسَالَ الْكَلْبِ عَلَى الصَّيْدِ شَرْطٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي أَحَدِهِمَا. [فَصْلٌ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَأَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ فَرَدَّ كَلْبُ الْمَجُوسِيّ الصَّيْدَ إلَى كَلْبِ الْمُسْلِمِ فَقَتَلَهُ] (7716) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ، وَأَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ، فَرَدَّ كَلْبُ الْمَجُوسِيّ الصَّيْدَ إلَى كَلْبِ الْمُسْلِمِ، فَقَتَلَهُ، حَلَّ أَكْلُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ كَلْبَ الْمَجُوسِيِّ عَاوَنَ فِي اصْطِيَادِهِ، فَأَشْبَهَ إذَا عَقَرَهُ. وَلَنَا، أَنَّ جَارِحَةَ الْمُسْلِمِ انْفَرَدَتْ بِقَتْلِهِ، فَأُبِيحَ، كَمَا لَوْ رَمَى الْمَجُوسِيُّ سَهْمَهُ فَرَدَّ الصَّيْدَ، فَأَصَابَهُ سَهْمُ مُسْلِمٍ، فَقَتَلَهُ، أَوْ أَمْسَكَ مَجُوسِيٌّ شَاةً فَذَبَحَهَا مُسْلِمٌ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا قَالَهُ. [فَصْلٌ صَادَ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ] (7717) فَصْلٌ: وَإِذَا صَادَ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ، لَمْ يُبَحْ صَيْدُهُ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ صَادَ الْمُسْلِمُ، بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، فَقَتَلَ، حَلَّ صَيْدُهُ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُبَاحُ. وَكَرِهَهُ جَابِرٌ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] . وَهَذَا لَمْ يُعَلِّمْهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَرِهَ الصَّيْدَ بِكَلْبِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ آلَةٌ صَادَ بِهَا الْمُسْلِمُ، فَحَلَّ صَيْدُهُ، كَالْقَوْسِ وَالسَّهْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ شَفْرَتِهِ. وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى إبَاحَةِ الصَّيْدِ بِمَا عَلَّمْنَاهُ وَمَا عَلَّمَهُ غَيْرُنَا، فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَيَثْبُتُ الْحَكَمُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ التَّعْلِيمَ إنَّمَا أَثَّرَ فِي جَعْلِهِ آلَةً، وَلَا تُشْرَطُ الْأَهْلِيَّةُ فِي ذَلِكَ، كَعَمَلِ الْقَوْسِ وَالسَّهْمِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا أُقِيمَ مُقَامَ الذَّكَاةِ، وَهُوَ إرْسَالُ الْآلَةِ، مِنْ الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ هَاهُنَا. [فَصْلٌ أَرْسَلَ جَمَاعَةٌ كِلَابًا وَسَمَّوْا فَوَجَدُوا الصَّيْدَ قَتِيلًا لَا يَدْرُونَ مَنْ قَتَلَهُ] (7718) فَصْلٌ: إذَا أَرْسَلَ جَمَاعَةٌ كِلَابًا، وَسَمَّوْا، فَوَجَدُوا الصَّيْدَ قَتِيلًا، لَا يَدْرُونَ مَنْ قَتَلَهُ، حَلَّ أَكْلُهُ. فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي قَاتِلِهِ، وَكَانَتْ الْكِلَابُ مُتَعَلِّقَةً بِهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُشْتَرِكَةٌ فِي إمْسَاكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِي الصَّيَّادِينَ أَوْ عَبِيدِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مُتَعَلِّقًا بِهِ دُونَ بَاقِيهَا، فَهُوَ لِمَنْ كَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَعَلَى مَنْ حَكَمْنَا لَهُ بِهِ الْيَمِينُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ مُحْتَمِلَةٌ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، كَصَاحِبِ الْيَدِ. وَإِنْ كَانَ قَتِيلًا وَالْكِلَابُ نَاحِيَةً وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحُوا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ، وَكَانَ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ تَدَاعَيَا دَابَّةً فِي يَدِ غَيْرِهِمَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ، إذَا خِيفَ فَسَادُهُ، قَبْلَ اصْطِلَاحِهِمْ عَلَيْهِ، بَاعُوهُ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى ثَمَنِهِ. [مَسْأَلَةٌ سَمَّى وَرَمَى صَيْدًا فَأَصَابَتْ غَيْرَهُ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا سَمَّى، وَرَمَى صَيْدًا، فَأَصَابَتْ، غَيْرَهُ، جَازَ أَكْلُهُ) وَجُمْلَة ذَلِكَ الْأَمْرِ، أَنَّ الصَّيْدَ بِالسِّهَامِ وَكُلِّ مُحَدَّدٍ جَائِزٌ، بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَا صِدْت بِقَوْسِك، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ» . وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ «كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، وَأَخَذَ رُمْحَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْجَارِحِ، إلَّا التَّعْلِيمَ. وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إرْسَالِ السَّهْمِ وَالطَّعْنِ إنْ كَانَ بِرُمْحٍ وَالضَّرْبِ إنْ كَانَ مِمَّا يُضْرَبُ؛ لِأَنَّهُ الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْهُ. وَإِنْ تَقَدَّمَتْ التَّسْمِيَةُ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ، جَازَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَقْصِدَ الصَّيْدَ، فَلَوْ رَمَى هَدَفًا فَأَصَابَ صَيْدًا، أَوْ قَصَدَ رَمْيَ إنْسَانٍ أَوْ حَجَرٍ، أَوْ رَمَى عَبَثًا غَيْرَ قَاصِدٍ صَيْدًا فَقَتَلَهُ، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ قَصَدَ صَيْدًا، فَأَصَابَهُ وَغَيْرَهُ، حَلَّا جَمِيعًا، وَالْجَارِحُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى صَيْدٍ، فَأَخَذَ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ، حَلَّ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ إلَيْهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ بِعَيْنِهِ، فَأَخَذَ غَيْرَهُ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ صَيْدَهُ، إلَّا أَنْ يُرْسِلَهُ عَلَى صُيُودٍ كِبَارٍ، فَتَتَفَرَّقَ عَنْ صِغَارٍ، فَإِنَّهَا تُبَاحُ إذَا أَخَذَهَا. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك» . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْك قَوْسُك» . وَلِأَنَّهُ أَرْسَلَ آلَةَ الصَّيْدِ عَلَى صَيْدٍ، فَحَلَّ مَا صَادَهُ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَهَا عَلَى كِبَارٍ فَتَفَرَّقَتْ عَنْ صِغَارٍ فَأَخَذَهَا، عَلَى مَالِكٍ، أَوْ كَمَا لَوْ أَخَذَ صَيْدًا فِي طَرِيقِهِ، عَلَى الشَّافِعِيِّ. وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْجَارِحِ اصْطِيَادَ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ دُونَ وَاحِدٍ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، فَأَمَّا إنْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ أَوْ الْجَارِحَ، وَلَا يَرَى صَيْدًا، وَلَا يَعْلَمُهُ، فَصَادَ، لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ صَيْدًا، لِأَنَّ الْقَصْدَ لَا يَتَحَقَّقُ لِمَا لَا يَعْلَمُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْكَلْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: يَأْكُلُهُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ الصَّيْدَ، فَحَلَّ لَهُ مَا صَادَهُ، كَمَا لَوْ رَآهُ. وَلَنَا، أَنَّ قَصْدَ الصَّيْدِ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ الْقَصْدُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الصَّيْدَ. [فَصْلٌ رَأَى سَوَادًا أَوْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ آدَمِيًّا أَوْ بَهِيمَةً أَوْ حَجَرًا فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ] (7720) فَصْلٌ وَإِنْ رَأَى سَوَادًا، أَوْ سَمِعَ حِسًّا، فَظَنَّهُ آدَمِيًّا، أَوْ بَهِيمَةً، أَوْ حَجَرًا، فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ، فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ، لَمْ يُبَحْ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاحُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ إنْ كَانَ الْمُرْسَلُ سَهْمًا، وَلَا يُبَاحُ إنْ كَانَ جَارِحًا. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهُ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ، وَسَمَّى فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَهُ صَيْدًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الصَّيْدَ، فَلَمْ يُبَحْ، كَمَا لَوْ رَمَى هَدَفًا فَأَصَابَ صَيْدًا، وَكَمَا فِي الْجَارِحِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ ظَنَّهُ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا، لَمْ يُبَحْ؛ لِذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُبَاحُ قَتْلُهُ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ. فَأَمَّا إنْ ظَنَّهُ صَيْدًا، حَلَّ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ وُجُودَ الصَّيْدِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ رَآهُ. وَإِنْ شَكَّ هَلْ هُوَ صَيْدٌ أَوْ لَا؟ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ تَنْبَنِي عَلَى الْعِلْمِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَإِنْ رَمَى حَجَرًا يَظُنُّهُ صَيْدًا، فَقَتَلَ صَيْدًا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ صَيْدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاحَ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ تَنْبِي عَلَى الظَّنِّ، وَقَدْ وُجِدَ، فَصَحَّ قَصْدُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ صَيْدُهُ. [مَسْأَلَةٌ رَمَى فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا سَهْمُهُ فِيهِ وَلَا أَثَرَ بِهِ غَيْرُهُ] (7721) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَإِذَا رَمَى، فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا سَهْمُهُ فِيهِ وَلَا أَثَرَ بِهِ غَيْرُهُ حَلَّ أُكُلُهُ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، وَمَعَهُ كَلْبُهُ، حَلَّ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، إنْ غَابَ نَهَارًا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ غَابَ لَيْلًا، لَمْ يَأْكُلْهُ. وَعَنْ مَالِكٍ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً، لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً، أُبِيحَ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنْ غَابَ يَوْمًا؟ قَالَ: يَوْمٌ كَثِيرٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا رَمَيْت فَأَقْعَصْت، فَكُلْ، وَإِنْ رَمَيْت فَوَجَدْت فِيهِ سَهْمَك مِنْ يَوْمِك أَوْ لَيْلَتِك، فَكُلْ، وَإِنْ بَاتَ عَنْك لَيْلَةً، فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حَدَثَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَرِهَ عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ أَكْلَ مَا غَابَ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلْ مَا أَصْمَيْت، وَمَا أَنْمَيْت فَلَا تَأْكُلْ. قَالَ الْحَكَمُ: الْإِصْمَاءُ: الْإِقْعَاصُ. يَعْنِي أَنَّهُ يَمُوتُ فِي الْحَالِ. وَالْإِنْمَاءُ أَنْ يَغِيبَ عَنْك. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فِي الْحَالِ قَالَ الشَّاعِرُ: فَهُوَ لَا تَنْمِي رَمْيَتُهُ ... مَالَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاحُ إنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ طَلَبَهُ، وَإِنْ تَشَاغَلَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ، لَمْ يُبَحْ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَمَيْت الصَّيْدَ، فَوَجَدْته بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَيْسَ بِهِ إلَّا أَثَرُ سَهْمِك، فَكُلْ، وَإِنْ وَجَدْته غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنِي فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 سَهْمِي. قَالَ: مَا رَدَّ عَلَيْك سَهْمُك، فَكُلْ. قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْك، مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِك، أَوْ تَجِدْهُ قَدْ صَلَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَمَيْت الصَّيْدَ، فَأَدْرَكْته بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسَهْمُك فِيهِ، فَكُلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ» . وَلِأَنَّ جَرْحَهُ بِسَهْمِهِ سَبَبُ إبَاحَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ يَقِينًا، وَالْمُعَارِضُ لَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا تَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَهُ وَسَهْمُهُ فِيهِ، وَلَمْ يَجِدْ بِهِ أَثَرًا آخَرَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَتْرُكْ طَلَبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ كَمَا لَوْ غَابَ نَهَارًا، أَوْ مُدَّةً يَسِيرَةً، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يَغِبْ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حِلِّهِ شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَجِدَ سَهْمَهُ فِيهِ، أَوْ أَثَرَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ أَثَرُ سَهْمِهِ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَهُوَ شَاكٌّ فِي وُجُودِ الْمُبِيحِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي، أَنْ لَا يَجِدَ بِهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِهِ، مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِك» وَفِي لَفْظٍ: " وَإِنْ وَجَدْت فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِك، فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي، أَقَتَلْته أَنْتَ أَوْ غَيْرُك ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي لَفْظٍ: " إذَا وَجَدْت فِيهِ سَهْمَك، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبُعٌ، فَكُلْ مِنْهُ ". رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَفِي حَدِيثِ عَدِيٍّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَإِنْ رَمَيْت الصَّيْدَ، فَوَجَدْته بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَيْسَ بِهِ إلَّا أَثَرُ سَهْمِك، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ الْمَاءَ، فَلَا تَأْكُلْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَإِنْ وَجَدْته غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ ". وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ أَثَرٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْمُعَارِضُ، فَلَمْ يُبَحْ، كَمَا لَوْ وَجَدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا سِوَاهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَثَرُ مِمَّا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ، مِثْلُ أَكْلِ حَيَوَانٍ ضَعِيفٍ، كَالسِّنَّوْرِ وَالثَّعْلَبِ، مِنْ حَيَوَانٍ قَوِيٍّ، فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَهَشَّمَ مِنْ وَقْعَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ رَمَى صَيْدَهُ فَوَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ] (7722) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ " (وَإِذَا رَمَاهُ، فَوَقَعَ فِي مَاءٍ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، لَمْ يُؤْكَلْ) يَعْنِي وَقَعَ فِي مَاءٍ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ، أَوْ تَرَدَّى تَرَدِّيًا يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ. وَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ كَوْنِ الْجِرَاحَةِ مُوحِيَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 أَوْ غَيْرَ مُوحِيَةٍ. هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً، مِثْلُ أَنْ ذَبَحَهُ أَوْ أَبَانَ حَشْوَتَهُ، لَمْ يَضُرَّ وُقُوعُهُ فِي الْمَاءِ وَلَا تَرَدِّيه. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ بِالذَّبْحِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَصَابَهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ: " وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ ". وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى خُرُوجِ رُوحِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ غَيْرَ مُوحِيَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ إذَا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ غَيْرَ مُوحِيَةٍ. وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِي الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْتُلُهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ خَارِجًا مِنْ الْمَاءِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَقْتُلُهُ الْمَاءُ، أَوْ كَانَ التَّرَدِّي لَا يَقْتُلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، فَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَإِنْ وَجَدْته غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ " وَلِأَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي إنَّمَا حُرِّمَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا أَوْ مُعِينًا عَلَى الْقَتْلِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ رَمَى طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ فَوَقَعَ إلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ] (7723) فَصْلٌ: فَإِنْ رَمَى طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ، أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ، أَوْ جَبَلٍ، فَوَقَعَ إلَى الْأَرْضِ، فَمَاتَ، حَلَّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً، أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ سُقُوطِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] . وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْحَاظِرُ، فَغُلِّبَ الْحَظْرُ، كَمَا لَوْ غَرِقَ. وَلَنَا، أَنَّهُ صَيْدٌ سَقَطَ بِالْإِصَابَةِ سُقُوطًا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازِ عَنْ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ، كَمَا لَوْ أَصَابَ الصَّيْدَ فَوَقَعَ عَلَى جَنْبِهِ. وَيُخَالِفُ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ الْمَاءَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهُوَ قَاتِلٌ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ. [مَسْأَلَةٌ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ جَمَاعَةً] (7724) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا، فَقَتَلَ جَمَاعَةً، فَكُلُّهُ حَلَالٌ) قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِيمَا إذَا رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ بِصَيْدِ اللَّيْلِ] (7725) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِصَيْدِ اللَّيْلِ. فَقِيلَ لَهُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا» . فَقَالَ: هَذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُرِيدُ الْأَمْرَ، فَيُثِيرُ الطَّيْرَ حَتَّى يَتَفَاءَلَ، إنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ قَالَ كَذَا، وَإِنْ جَاءَ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ كَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا» . وَرُوِيَ لَهُ عَنْ ابْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَطْرُقُوا الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَهَا أَمَانٌ» . فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، يَرْوِيه فُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، وَلَا أَعْرِفُهُ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا كَرِهَ صَيْدَ اللَّيْلِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَسُئِلَ: هَلْ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ صَيْدُ الْفِرَاخِ الصِّغَارِ، مِثْلُ الورشان وَغَيْرِهِ؟ يَعْنِي مِنْ أَوْكَارِهَا. فَلَمْ يَكْرَهْهُ. [مَسْأَلَةٌ رَمَى صَيْدًا فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا] (7726) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا، فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا، لَمْ يُؤْكَلْ مَا أَبَانَ مِنْهُ وَيُؤْكَلُ مَا سِوَاهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى يَأْكُلُهُ وَمَا أَبَانَ مِنْهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا رَمَى صَيْدًا، أَوْ ضَرَبَهُ، فَبَانَ بَعْضُهُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَقْطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ، أَوْ يَقْطَعَ رَأْسَهُ، فَهَذَا جَمِيعُهُ حَلَالٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِطْعَتَانِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَتَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ، أَوْ الَّتِي مَعَ الرَّأْسِ أَقَلَّ، حَلَّتَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى أَقَلَّ، لَمْ يَحِلَّ، وَحَلَّ الرَّأْسُ وَمَا مَعَهُ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» . وَلَنَا، أَنَّهُ جُزْءٌ لَا تَبْقَى فِيهِ الْحَيَاةُ مَعَ فَقْدِهِ، فَأُبِيحَ، كَمَا لَوْ تَسَاوَتْ الْقِطْعَتَانِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَبِينَ مِنْهُ عُضْوٌ، وَتَبْقَى فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَالْبَائِنُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ بَقِيَ الْحَيَوَانُ حَيًّا، أَوْ أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ، أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ ذَكَّاهُ حَلَّ بِكُلِّ حَالٍ دُونَ مَا أَبَانَ مِنْهُ. وَإِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَذْبَحِهِ فَقَتَلَهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثْبَتَهُ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى حَلَّ، دُونَ مَا أَبَانَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَثْبَتَهُ، لَمْ يَحِلَّ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَكَاةَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا، وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَهَذِهِ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ؛ أَشْهَرُهُمَا عَنْ أَحْمَدَ، إبَاحَتُهُمَا. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا قَطَعْت مِنْ الْحَيِّ مَيْتَةٌ. إذَا قُطِعَتْ وَهِيَ حَيَّةٌ، تَمْشِي وَتَذْهَبُ» . أَمَّا إذَا كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ وَالْمَوْتُ جَمِيعًا، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، إذَا كَانَ فِي عِلَاجِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 الْمَوْتِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَلَا تَرَى الَّذِي يُذْبَحُ رُبَّمَا مَكَثَ سَاعَةً، وَرُبَّمَا مَشَى حَتَّى يَمُوتَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعِكْرِمَةُ: إنْ وَقَعَا مَعًا أَكَلَهُمَا، وَإِنْ مَشَى بَعْدَ قَطْعِ الْعُضْوِ أَكَلَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ الْعُضْوَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُبَاحُ مَا بَانَ مِنْهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» . وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْنُونَةَ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ الْحَيَوَانِ فِي الْعَادَةِ، فَلَمْ يُبَحْ أَكْلُ الْبَائِنِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ الصَّيَّادُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ. وَالْأُولَى الْمَشْهُورَةُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ ذَكَاةً لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ، كَانَ ذَكَاةً لِجَمِيعِهِ، كَمَا لَوْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ، وَالْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي حَيًّا، حَتَّى يَكُونَ الْمُنْفَصِلُ مِنْهُ مَيِّتًا، وَكَذَا نَقُولُ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فَإِنْ بَقِيَ مُعَلَّقًا بِجِلْدِهِ، حَلَّ رِوَايَةً وَاحِدَةً. [فَصْلٌ حُكْم الطَّرِيدَةِ فِي الصَّيْد] (7727) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالطَّرِيدَةِ بَأْسًا، كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي مَغَازِيهِمْ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ فِي مَغَازِيهِمْ. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: وَالطَّرِيدَةُ الصَّيْدُ يَقَعُ بَيْنَ الْقَوْمِ، فَيَقْطَعُ ذَا مِنْهُ بِسَيْفِهِ قِطْعَةً، وَيَقْطَعُ الْآخَرُ أَيْضًا، حَتَّى يُؤْتَى عَلَيْهِ وَهُوَ حَيٌّ. قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي إلَّا أَنَّ الصَّيْدَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَكَاتِهِ، فَيَأْخُذُونَهُ قِطَعًا. [مَسْأَلَةٌ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ] (7728) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إذَا نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ، فَعَقَرَتْ صَيْدًا، أَوْ قَتَلَتْهُ، حَلَّ. فَإِنْ بَانَ مِنْهُ عُضْوٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَائِنِ بِضَرْبَةِ الصَّائِدِ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُبَاحُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذَكِّهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَتَلْت الْمَنَاجِلُ بِنَفْسِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الصَّائِدِ إلَّا السَّبَبُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَنْ نَصَبَ سِكِّينًا، فَذَبَحَتْ شَاةً، وَلِأَنَّهُ لَوْ رَمَى سَهْمًا وَهُوَ لَا يَرَى صَيْدًا، فَقَتَلَ صَيْدًا، لَمْ يَحِلَّ، فَهَذَا أَوْلَى. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْك يَدُك» . وَلِأَنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَ بِحَدِيدَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَاهُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِمَا لَهُ حَدٌّ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالصَّيْدِ بِهِ، أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا، وَالسَّبَبُ جَرَى مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ فِي الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ، وَفَارَقَ مَا إذَا نَصَبَ سِكِّينًا؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِالصَّيْدِ بِهَا، وَإِذَا رَمَى سَهْمًا، وَلَمْ يَرَ صَيْدًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُعْتَادٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ صَيْدًا، فَلَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 [فَصْلٌ مَا قَتَلَتْهُ الشَّبَكَةُ أَوْ الْحَبْلُ فِي الصَّيْد] (7729) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا قَتَلَتْهُ الشَّبَكَةُ أَوْ الْحَبْلُ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ يُبَاحُ مَا قَتَلَهُ الْحَبْلُ إذَا سَمَّى، فَدَخَلَ فِيهِ وَجَرَحَهُ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، يُخَالِفُ عَوَامَّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِالْبُنْدُقِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّيْد بِالْمِعْرَاضِ] (7730) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا صَادَ بِالْمِعْرَاضِ، أَكَلَ مَا قَتَلَ بِحَدِّهِ، وَلَا يَأْكُلُ مَا قَتَلَ بِعَرْضِهِ) الْمِعْرَاضُ: عُودٌ مُحَدَّدٌ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِي رَأْسِهِ حَدِيدَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: الْمِعْرَاضُ يُشْبِهُ السَّهْمَ، يُحْذَفُ بِهِ الصَّيْدُ بِحَدِّهِ، فَرُبَّمَا خَرَقَ وَقَتَلَ، فَيُبَاحُ، وَرُبَّمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَقَتَلَ بِثِقَلِهِ، فَيَكُونُ مَوْقُوذًا، فَلَا يُبَاحُ. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ: يُبَاحُ مَا قَتَلَهُ بِحَدِّهِ وَعَرْضِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا رُمِيَ مِنْ الصَّيْدِ بجلاهق أَوْ مِعْرَاضٍ، فَهُوَ مِنْ الْمَوْقُوذَةِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: مَا خَرَقَ فَكُلْ، وَمَا قَتَلَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ مَا قَتَلَهُ بِحَدِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَا طَعَنَهُ بِرُمْحِهِ، أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمِهِ، وَلِأَنَّهُ مُحَدَّدٌ خَرَقَ وَقَتَلَ بِحَدِّهِ، وَمَا قَتَلَ بِعَرْضِهِ إنَّمَا يَقْتُلُهُ بِثِقَلِهِ. فَهُوَ مَوْقُوذٌ، كَاَلَّذِي رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ بِبُنْدُقَةٍ. [فَصْلٌ حُكْمُ سَائِرَ آلَاتِ الصَّيْدِ] (7731) فَصْلٌ: قَالَ وَحُكْمُ سَائِرِ آلَاتِ الصَّيْدِ حُكْمُ الْمِعْرَاضِ، فِي أَنَّهَا إذَا قَتَلَتْ بِعَرْضِهَا وَلَمْ تَجْرَحْ، لَمْ يُبَحْ الصَّيْدُ، كَالسَّهْمِ يُصِيبُ الطَّائِرَ بِعَرْضِهِ فَيَقْتُلُهُ، وَالرُّمْحِ وَالْحَرْبَةِ وَالسَّيْفِ يُضْرَبُ بِهِ صَفْحًا فَيَقْتُلُ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ. وَهَكَذَا إنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ فَلَمْ يَجْرَحْ، وَقَتَلَ بِثِقَلِهِ، لَمْ يُبَحْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا خَرَقَ، فَكُلْ» . وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرَحْهُ، فَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ بِثِقَلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ. [مَسْأَلَةٌ رَمَى صَيْدًا فَعَقَرَهُ وَرَمَاهُ آخَرُ فَأَثْبَتَهُ وَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ] (7732) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَعَقَرَهُ، وَرَمَاهُ آخَرُ فَأَثْبَتَهُ، وَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ، لَمْ يُؤْكَلْ، وَكَانَ لِمَنْ أَثْبَتَهُ الْقِيمَةُ مَجْرُوحًا عَلَى قَاتِلِهِ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 أَمَّا الَّذِي عَقَرَهُ وَلَمْ يُثْبِتْهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ضَرَبَهُ كَانَ مُبَاحًا لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَأَمَّا الَّذِي أَثْبَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ امْتِنَاعَهُ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ إمْسَاكِهِ، فَإِذَا ضَرَبَهُ الثَّالِثُ فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ جُرْحَ الْمُثْبَتِ لَيْسَ بِمُوحٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ نَسَبَ الْقَتْلَ إلَى الثَّالِثِ، وَيَضْمَنُهُ مَجْرُوحًا حِينَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ وَهُمَا فِيهِ. فَأَمَّا إبَاحَتُهُ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ أَصَابَ مَذْبَحَهُ حَلَّ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحَلَّ الذَّبْحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أَرْشُ ذَبْحِهِ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَ غَيْرَ مَذْبَحِهِ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ، كَمَا لَوْ قَتَلَ شَاةً. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. [فَصْلٌ رَمَى صَيْدًا فَأَثْبَتَهُ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَأَصَابَهُ] (7733) فَصْلٌ: وَإِنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْبَتَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَأَصَابَهُ، لَمْ تَخْلُ رَمْيَةُ الْأَوَّلِ مِنْ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ مُوحِيَةً، مِثْلُ أَنْ تَنْحَرَهُ، أَوْ تَذْبَحَهُ، أَوْ تَقَعَ فِي خَاصِرَتِهِ أَوْ قَلْبِهِ، فَيُنْظَرَ فِي رَمْيَةِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوحِيَةٍ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الثَّانِي، إلَّا أَنْ يُنْقِصَهُ بِرَمْيِهِ شَيْئًا، فَيَضْمَنَ مَا نَقَصَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيَةِ الْأُولَى صَارَ مَذْبُوحًا. وَإِنْ كَانَتْ رَمْيَةُ الثَّانِي مُوحِيَةً، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: يَحِلُّ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، كَقَوْلِهِ فِي مَنْ ذَبَحَ، فَأَتَى عَلَى الْمَقَاتِلِ، فَلَمْ تَخْرُجْ الرُّوحُ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ، أَوْ وَطِئَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، لَمْ يُؤْكَلْ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ جُرْحُ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُوحٍ، فَيُنْظَرَ فِي رَمْيَةِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَتْ مُوحِيَةً، فَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَبَحَتْهُ أَوْ نَحَرَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوحِيَةٍ، فَلَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ؛ إحْدَاهَا، أَنَّهُ ذُكِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَحِلُّ. وَالثَّانِيَةُ، لَمْ يُذَكَّ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ؛ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ، فَحَرُمَ، كَمَا لَوْ مَاتَ مِنْ جُرْحِ مُسْلِمٍ وَمَجُوسِيٍّ، وَعَلَى الثَّانِي ضَمَانُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ جُرْحَهُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ، فَكَانَ جَمِيعُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثَةُ، قَدَرَ عَلَى ذَكَاتِهِ فَلَمْ يُذَكِّهِ حَتَّى مَاتَ، حَرُمَ لِمَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ تَرَكَ ذَكَاتَهُ مَعَ إمْكَانِهَا. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ؛ مُبِيحٍ، وَمُحَرِّمٍ، وَيَلْزَمُ الثَّانِيَ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِهِ احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَضْمَنُ جَمِيعَهُ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ؛ لِإِيجَابِهِ الضَّمَانَ فِي مَسْأَلَتِهِ عَلَى الثَّالِثِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ رَمَاهُ الثَّالِثُ فَقَتَلَهُ. فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ جُرْحَ الثَّانِي كَانَ مُوحِيًا لَا غَيْرُ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، أَنْ يَضْمَنَ الثَّانِي بِقِسْطِ جُرْحِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إذَا تَرَكَ الذَّبْحَ مَعَ إمْكَانِهِ، صَارَ جُرْحُهُ حَاظِرًا أَيْضًا، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْفَرَدَ وَقَتَلَ الصَّيْدَ، فَيَكُونُ الضَّمَانُ مُنْقَسِمًا عَلَيْهِمَا، وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي قِسْمَتِهِ عَلَيْهِمَا، أَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 يُقَسِّطُ أَرْشَ جُرْحِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْشُ جِرَاحَتِهِ، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا بَقِيَ مِنْ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَفَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي صَيْدٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، نَقَصَهُ جُرْحُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا، وَنَقَصَهُ جُرْحُ الثَّانِي دِرْهَمًا، فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيَكُونُ عَلَى الثَّانِي خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ دِرْهَمٌ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَأَرْبَعَةٌ بِالسِّرَايَةِ، وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْأَوَّلِ وَهِيَ خَمْسَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ جُرْحِ الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ، لَزِمَاهُ، وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ السَّبْعَةِ الْبَاقِيَةِ، ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ، فَيَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ. وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُمَا عَلَى حَيَوَانٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِمَا، قُسِمَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ. وَيَتَوَجَّهُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ جَنَى عَلَيْهِ وَقِيمَتُهُ دُونَ قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي بَدَلِ النَّفْسِ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَ بِإِتْلَافِ مَا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، وَتَسَاوَيَا فِي إتْلَافِ الْبَاقِي بِالسِّرَايَةِ، فَتَسَاوَيَا فِي الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي بَدَلِ النَّفْسِ الَّتِي لَا يَنْقُصُ بَدَلُهَا بِإِتْلَافِ بَعْضِهَا، وَهُوَ الْآدَمِيُّ، أَمَّا الْبَهَائِمُ، فَإِنَّهُ إذَا جَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً أَرْشُهَا دِرْهَمٌ، نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ، أَوْجَبْنَا مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ النَّفْسِ، وَلَمْ يَدْخُلْ الْأَرْشُ فِيهَا. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي قِسْمَةِ الضَّمَانِ طُرُقًا سِتَّةً؛ أَصَحُّهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْأَوَّلَ أَتْلَفَ نِصْفَ نَفْسٍ قِيمَتُهَا عَشَرَةٌ، فَيَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ، وَالثَّانِي أَتْلَفَ نِصْفَ نَفْسٍ قِيمَتُهَا تِسْعَةٌ، فَيَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةً وَنِصْفًا، وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، لِأَنَّهَا عَشَرَةٌ، فَتُقْسَمُ الْعَشَرَةُ عَلَى تِسْعَةٍ وَنِصْفٍ، فَيَسْقُطُ عَنْ الْأَوَّلِ مَا يُقَابِلُ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، وَيَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ نِصْفِ الصَّيْدِ حِينَ جَنَى عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَاتُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ أَثْبَتَهُ، فَعَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَرْشُ جُرْحِهِ، وَتُقْسَمُ السِّرَايَةِ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَ الْمُثْبِتُ لَهُ هُوَ الثَّانِيَ، فَجُرْحُهُ الْأَوَّلُ هَدْرٌ لَا عِبْرَةَ بِهَا، وَالْحُكْمُ فِي جِرَاحَةَ الْآخَرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى، الْأَوَّلُ أَتْلَفَ ثُلُثَ نَفْسٍ قِيمَتُهَا عَشَرَةٌ، فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَالثَّانِي أَتْلَفَ ثُلُثَهَا، وَقِيمَتُهَا تِسْعَةٌ، فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَالثَّالِثُ أَتْلَفَ ثُلُثَهَا، وَقِيمَتُهَا ثَمَانِيَةٌ، فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، فَمَجْمُوعُ ذَلِكَ تِسْعَةٌ، تُقْسَمُ عَلَيْهَا الْعَشَرَةُ، حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يُقَابِلُ مَا أَتْلَفَهُ. وَإِنْ أَتْلَفُوا شَاةً مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِمْ ضَمِنُوهَا كَذَلِكَ. فَصْلٌ: فَإِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَقَتَلَاهُ، كَانَ حَلَالًا، وَمَلَكَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ، تَسَاوَى الْجُرْحَانِ أَوْ تَفَاوَتَا؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوحِيًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُوحٍ، وَلَا يُثْبِتُهُ مِثْلُهُ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُرْحِ الْمُوحِي، لِأَنَّهُ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَقَتَلَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ جُرْحَهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْآخَرِ فِيهِ. وَإِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 أَصَابَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ صَاحِبِهِ، فَوَجَدْنَاهُ مَيِّتًا، وَلَمْ نَعْلَمْ هَلْ صَارَ بِالْأَوَّلِ مُمْتَنِعًا أَوْ لَا؟ حَلَّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الِامْتِنَاعُ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمَا عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا أَثْبَتُّهُ، ثُمَّ قَتَلْته أَنْتَ. حَرُمَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَيَتَحَالَفَانِ لِأَخْذِ الضَّمَانِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، فَادَّعَى الْأَوَّلُ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَأَنْكَرَ الثَّانِي إثْبَاتَ الْأَوَّلِ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ امْتِنَاعِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي فِي عَدَمِ الِامْتِنَاعِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ عُلِمَتْ جِرَاحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، نَظَرْنَا فِيهَا، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ جِرَاحَةَ الْأَوَّلِ لَا يَبْقَى مَعَهَا امْتِنَاعٌ، مِثْلُ أَنْ كَسَرَ جَنَاحَ الطَّائِرِ، أَوْ سَاقَ الظَّبْيِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُزِيلُ الِامْتِنَاعَ، مِثْلُ خَدْشِ الْجِلْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي، وَإِنْ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْأَوَّلُ مُحْتَمِلٌ. [فَصْلٌ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَبَقِيَ عَلَى امْتِنَاعِهِ حَتَّى دَخَلَ دَارَ إنْسَانٍ فَأَخَذَهُ] (7735) فَصْلٌ: وَإِنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ، وَبَقِيَ عَلَى امْتِنَاعِهِ حَتَّى دَخَلَ دَارَ إنْسَانٍ فَأَخَذَهُ، فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْلِكْهُ، لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا، فَمَلَكَهُ الثَّانِي بِأَخْذِهِ. وَلَوْ رَمَى طَائِرًا عَلَى شَجَرَةٍ فِي دَارِ قَوْمٍ، فَطَرَحَهُ فِي دَارِهِمْ فَأَخَذُوهُ، فَهُوَ لِلرَّامِي دُونَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِإِزَالَةِ امْتِنَاعِهِ. [فَصْلٌ تَعَلَّقَ صَيْدٌ فِي شَرَكِ إنْسَانٍ أَوْ شَبَكَتِهِ] (7736) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا تَعَلَّقَ صَيْدٌ فِي شَرَكِ إنْسَانٍ أَوْ شَبَكَتِهِ؛ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَته بِآلَتِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدٌ، لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ آلَتَهُ أَثْبَتَتْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَثْبَتَهُ بِسَهْمِهِ. فَإِنْ لَمْ تُمْسِكْهُ الشَّبَكَةُ، بَلْ انْفَلَتَ مِنْهَا فِي الْحَالِ، أَوْ بَعْدَ حِينٍ، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهُ. وَإِنْ أَخَذَ الشَّبَكَةَ وَانْفَلَتَ بِهَا، فَصَادَهُ إنْسَانٌ، مَلَكَهُ، وَيَرُدُّ الشَّبَكَةَ عَلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهُ. وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بِالشَّبَكَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَهُوَ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهَا أَزَالَتْ امْتِنَاعَهُ. وَإِذَا أَمْسَكَهُ الصَّائِدُ، وَثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْهُ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ شَرَدَتْ فَرَسُهُ، أَوْ نَدَّ بَعِيرُهُ. فَإِنْ اصْطَادَ صَيْدًا، فَوَجَدَ عَلَيْهِ عَلَامَةً، مِثْلُ أَنْ يَجِدَ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةً، أَوْ فِي أُذُنِهِ قُرْطًا، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي اصْطَادَهُ مَلَكَهُ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالِانْفِلَاتِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ طَائِرًا مَقْصُوصَ الْجَنَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ الَّذِي أَمْسَكَهُ أَوَّلًا مُحْرِمٌ لَمْ يَمْلِكْهُ، أَوْ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْلِيَةِ وَإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهُ، كَإِلْقَاءِ الشَّيْءِ التَّافِهِ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَادِرٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ ظَاهَرَ حَالِ الْمُحْرِمِ أَنَّهُ لَا يَصِيدُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَخِلَافُ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُحْتَمِلٌ، فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ مَالِكَهُ أَرْسَلَهُ اخْتِيَارًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 بِالْإِرْسَالِ وَالْإِعْتَاقِ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، فَالْإِرْسَالُ يَرُدُّهُ إلَى أَصْلِهِ، وَيُفَارِقُ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّ الْأَصْلَ هَاهُنَا الْإِبَاحَةُ، وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ بِخِلَافِهِ. الثَّانِي، أَنَّ الْإِرْسَالَ هَاهُنَا يُفِيدُ، وَهُوَ رَدُّ الصَّيْدِ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ أَيْدِي الْآدَمِيِّينَ وَحَبْسِهِمْ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ اشْتَرَى عُصْفُورًا مِنْ صَبِيٍّ فَأَرْسَلَهُ. وَيَجِبُ إرْسَالُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا أَحْرَمَ، أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ وَهُوَ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ إرْسَالَهُ تَضْيِيعٌ لَهُ، وَرُبَّمَا هَلَكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَوَثَبَتْ سَمَكَةٌ فَسَقَطَتْ فِي حِجْرِهِ] (7737) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ، فَوَثَبَتْ سَمَكَةٌ، فَسَقَطَتْ فِي حِجْرِهِ، فَهِيَ لَهُ دُونَ صَاحِبِ السَّفِينَةِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَكَةَ مِنْ الصَّيْدِ الْمُبَاحِ، يُمْلَكُ بِالسَّبْقِ إلَيْهِ، وَهَذِهِ حَصَلَتْ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي حِجْرِهِ، وَحِجْرُهُ لَهُ، وَيَدُهُ عَلَيْهِ، دُونَ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا كِيسًا فِي حِجْرِهِ، كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، كَذَا هَاهُنَا. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ السَّمَكَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَهِيَ لِصَاحِبِهَا. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ مِلْكُهُ، وَيَدُهُ عَلَيْهَا، فَمَا حَصَلَ مِنْ الْمُبَاحِ فِيهَا، كَانَ أَحَقَّ بِهِ، كَحِجْرِهِ. (7738) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ السَّمَكَةُ وَثَبَتْ بِسَبَبِ فِعْلِ إنْسَانٍ لِقَصْدِ الصَّيْدِ، كَالصَّيَّادِ الَّذِي يَجْعَلُ فِي السَّفِينَةِ ضَوْءًا بِاللَّيْلِ، وَيَدُقُّ بِشَيْءٍ كَالْجَرَسِ لِيَثِبَ السَّمَكُ فِي السَّفِينَةِ، فَهَذَا لِلصَّائِدِ دُونَ مَنْ وَقَعَ فِي حِجْرِهِ؛ لِأَنَّ الصَّائِدَ أَثْبَتَهَا بِذَلِكَ، فَصَارَ كَمَنْ رَمَى طَائِرًا فَأَلْقَاهُ فِي دَارِ قَوْمٍ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الصَّيْدَ بِهَذَا، بَلْ حَصَلَ اتِّفَاقًا، كَانَتْ لِمَنْ وَقَعَتْ فِي حِجْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُصَادُ السَّمَكُ بِشَيْءٍ نَجِسٍ] (7739) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُصَادُ السَّمَكُ بِشَيْءٍ نَجِسٍ) وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُتْرَكَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَالْعَذِرَةِ وَالْمَيْتَةِ وَشِبْهِهَا، لِيَأْكُلَهُ السَّمَكُ، فَيَصِيدُوهُ بِهِ، فَكَرِهَ أَحْمَدُ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُوَ حَرَامٌ، لَا يُصَادُ بِهِ. وَإِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ ذَلِكَ؛ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ أَكْلِ السَّمَكِ النَّجَاسَةُ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا يَتَفَرَّقُ، كَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ، وَمَا لَا يَتَفَرَّقُ، كَالْجُرَذِ وَقِطْعَةٍ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ الصَّيْدَ بِبَنَاتِ وَرْدَانَ، وَقَالَ: إنَّ مَأْوَاهَا الْحُشُوشُ. وَكَرِهَ الصَّيْدَ بِالضَّفَادِعِ، وَقَالَ: الضُّفْدَعُ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ. [فَصْلٌ كَرِهَ الصَّيْدَ بِالْخَرَاطِيمِ] (7740) فَصْلٌ: وَكُرِهَ الصَّيْدُ بِالْخَرَاطِيمِ، وَكُلِّ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، فَإِنْ اصْطَادَ، فَالصَّيْدُ مُبَاحٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 وَكَرِهَ الصَّيْدَ بالشباش، وَهُوَ طَائِرٌ يَخِيطُ عَيْنَهُ أَوْ يُرْبَطُ، مِنْ أَجْلِ تَعْذِيبِهِ. وَلَمْ يَرَ بَأْسًا بِالصَّيْدِ بِالشَّبَكَةِ، وَالشَّرَكِ، وَشَيْءٍ فِيهِ دبق يَمْنَعُ الطَّيْرَ مِنْ الطَّيَرَانِ، وَأَنْ يُطْعَمَ شَيْئًا إذَا أَكَلَهُ سَكِرَ وَأَخَذَهُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ مُرْتَدٍّ وَلَا ذَبِيحَتُهُ] (7741) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ مُرْتَدٍّ، وَلَا ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ) يَعْنِي مَا قَتَلَهُ مِنْ الصَّيْدِ وَلَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ إذَا ذَهَبَ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ، فَلَمْ تُبَحْ ذَبِيحَتُهُ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابَ الْمُرْتَدِّ. [مَسْأَلَةٌ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الصَّيْدِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا] (7742) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الصَّيْدِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا، لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَامِدًا، لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا، أُكِلَتْ) أَمَّا الصَّيْدُ فَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ، وَأَمَّا الذَّبِيحَةُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ، وَتَسْقُطُ بِالسَّهْوِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَا نَسِيَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ، عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَرَبِيعَةُ، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي عَمْدٍ وَلَا سَهْوٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّيْدِ قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . يَعْنِي الْمَيْتَةَ. وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَلَا بَأْسَ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ، إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . مَحْمُولٌ عَلَى مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . وَالْأَكْلُ مِمَّا نُسِيَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ. وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ، فَاعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ تَقْوِيَةً لَهُ، وَالذَّبِيحَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 [فَصْلٌ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ] (7743) فَصْلٌ: وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ مُعْتَبَرَةٌ حَالَ الذَّبْحِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، كَمَا تُعْتَبَرُ عَلَى الطَّهَارَةِ. وَإِنْ سَمَّى عَلَى شَاةٍ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ، لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ أَرْسَلَ الْأُولَى أَوْ ذَبَحَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الثَّانِيَةَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ. وَإِنْ رَأَى قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. ثُمَّ أَخَذَ شَاةً فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ، لَمْ يَحِلَّ. وَإِنْ جَهِلَ كَوْنَ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ، لَمْ يَجْرِ مَجْرَى النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ، وَالْجَاهِلُ مُؤَاخَذٌ، وَلِذَلِكَ يُفْطِرُ الْجَاهِلُ بِالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ دُونَ النَّاسِي. وَإِنْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا، وَسَمَّى، ثُمَّ أَلْقَى السِّكِّينَ، وَأَخَذَ أُخْرَى، أَوْ رَدَّ سَلَامًا، أَوْ كَلَّمَ إنْسَانًا، أَوْ اسْتَسْقَى مَاءً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَذَبَحَ، حَلَّ، لِأَنَّهُ سَمَّى عَلَى تِلْكَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِفَصْلٍ يَسِيرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ. [فَصْلٌ سَمَّى الصَّائِدُ عَلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ] (7744) فَصْلٌ: وَإِنْ سَمَّى الصَّائِدُ عَلَى صَيْدٍ، فَأَصَابَ غَيْرَهُ، حَلَّ. وَإِنْ سَمَّى عَلَى سَهْمٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ، وَأَخَذَ غَيْرَهُ فَرَمَى بِهِ، لَمْ يُبَحْ مَا صَادَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ عَلَى صَيْدٍ بِعَيْنِهِ، اُعْتُبِرَتْ عَلَى الْآلَةِ الَّتِي يَصِيدُ بِهَا، بِخِلَافِ الذَّبِيحَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاحَ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ سَمَّى عَلَى سِكِّينٍ، ثُمَّ أَلْقَاهَا وَأَخَذَ غَيْرَهَا. وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ تَعْيِينِ الصَّيْدِ لِمَشَقَّتِهِ، لَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ تَعْيِينِ الْآلَةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ. [مَسْأَلَةٌ نَدّ بَعِير فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَسِيلُ بِهِ دَمُهُ فَقَتَلَهُ] (7745) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَدَّ بَعِيرٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، مِمَّا يَسِيلُ بِهِ دَمُهُ، فَقَتَلَهُ، أُكِلَ) وَكَذَلِكَ إنْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَذْكِيَتِهِ، فَجَرَحَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، أُكِلَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ، فَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ، وَالْأَسْوَدُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ إلَّا أَنْ يُذَكَّى. وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَعَلَّ مَالِكًا لَمْ يَسْمَعْ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. وَاحْتُجَّ لِمَالِكٍ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْإِنْسِيَّ إذَا تَوَحَّشَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْوَحْشِيِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، وَلَا يَصِيرُ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ مُبَاحًا إذَا تَوَحَّشَ. وَلَنَا، مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَدَّ بَعِيرٌ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» . وَفِي لَفْظٍ: «فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَرِبَ ثَوْرٌ فِي بَعْضِ دُورِ الْأَنْصَارِ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ بِالسَّيْفِ، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَسُئِلَ عَنْهُ عَلِيٌّ فَقَالَ ذَكَاةٌ وَحِيَّةٌ. فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ. وَتَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ، فَذُكِّيَ مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ، فَبِيعَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ عُشْرَهُ بِدِرْهَمَيْنِ. وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الذَّكَاةِ بِحَالِ الْحَيَوَانِ وَقْتَ ذَبْحِهِ، لَا بِأَصْلِهِ، بِدَلِيلِ الْوَحْشِيِّ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَكَذَلِكَ الْأَهْلِيُّ إذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ. وَبِهَذَا فَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِذَا تَرَدَّى فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَذْكِيَتِهِ، فَهُوَ مَعْجُوزٌ عَنْ تَذْكِيَتِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَحْشِيَّ، فَأَمَّا إنْ كَانَ رَأْسُ الْمُتَرَدِّي فِي الْمَاءِ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ، فَيَحْصُلُ قَتْلُهُ بِمُبِيحٍ وَحَاظِرٍ، فَيَحْرُمُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ. [مَسْأَلَةٌ ذَبَائِح الْمُسْلِم وَأَهْل الْكِتَاب وَمَا يَتَعَلَّق بِهِمَا] (7746) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي كُلِّ مَا وَصَفْت سَوَاءٌ) يَعْنِي فِي الِاصْطِيَادِ وَالذَّبْحِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ إبَاحَةَ صَيْدِهِمْ أَيْضًا. قَالَ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَرَّمَ صَيْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا مَالِكًا، أَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ، وَحَرَّمَ صَيْدَهُمْ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ صَيْدَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ، حَلَّ صَيْدُهُ، كَالْمُسْلِمِ. (7747) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْأَقْلَفِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ. وَالصَّحِيحُ إبَاحَتُهُ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا أُبِيحَتْ ذَبِيحَةُ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَشَارِبِ الْخَمْرِ، مَعَ تَحْقِيقِ فِسْقِهِ، وَذَبِيحَةُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ كَافِرٌ أَقْلَفُ، فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى. [فَصْلٌ لَا فَرْقَ بَيْن الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فِي إبَاحَةِ ذَبِيحَة الْكِتَابِيّ مِنْهُمْ] فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ، فِي إبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ مَنْ سِوَاهُ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى أَهْلِ الْحَرْبِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فِي الشَّحْمِ. قَالَ إِسْحَاقُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 أَجَادَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيُّ وَغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ اخْتِلَافًا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ. وَسُئِلَ مَكْحُولٌ عَنْ ذَبَائِحِ الْعَرَبِ. فَقَالَ: أَمَّا بَهْرَاءُ وَتَنُوخُ وَسُلَيْحٌ، فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا بَنُو تَغْلِبَ فَلَا خَيْرَ فِي ذَبَائِحِهِمْ. وَالصَّحِيحُ إبَاحَةُ ذَبَائِحِ الْجَمِيعِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِمْ. [فَصْلٌ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْكِتَابِيِّ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَالْآخَرُ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ] (7749) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْكِتَابِيِّ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ الْأَبُ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ كِتَابِيًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُبَاحُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالثَّانِي، لَا تُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَالْإِبَاحَةَ، فَغُلِّبَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ، وَبَيَانُ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، أَنَّ كَوْنَهُ ابْنَ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذَبِيحَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَلِأَنَّهُ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ، فَتَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ ابْنَ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ، فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تَحْرِيمُهُ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حِلُّهُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِدِينِ الذَّابِحِ، لَا بِدِينِ أَبِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ بِذَلِكَ، وَلِعُمُومِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ. [فَصْلٌ حُكْم مَا ذَبَحُوهُ لَكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مِنْ النَّصَارَى] (7750) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ، فَنَنْظُرُ فِيهِ؛ فَإِنْ ذَبَحَهُ لَهُمْ مُسْلِمٌ، فَهُوَ مُبَاحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فِي الْمَجُوسِيِّ يَذْبَحُ لِإِلَهِهِ، وَيَدْفَعُ الشَّاةَ إلَى الْمُسْلِمِ يَذْبَحُهَا فَيُسَمِّي: يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَمَّا يُقَرَّبُ لِآلِهَتِهِمْ، يَذْبَحُهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَإِنْ ذَبَحَهَا الْكِتَابِيُّ، وَسَمَّى اللَّهَ وَحْدَهُ، حَلَّتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ وُجِدَ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا، أَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، لَمْ تَحِلَّ. قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا يُؤْكَلُ. يَعْنِي مَا ذُبِحَ لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يَدَعُونَ التَّسْمِيَةَ عَلَى عَمْدٍ، إنَّمَا يَذْبَحُونَ لِلْمَسِيحِ. فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ، فَرُوِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ فِيمَا ذُبِحَ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مُطْلَقًا. وَهُوَ قَوْلُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ؛ لِأَنَّهُ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ إبَاحَتُهُ. وَسُئِلَ عَنْهُ الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَطْعِمُونِي. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ. وَأَكَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ، وَمَكْحُولٌ، وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وَهَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ. قَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 الْقَاضِي: مَا ذَبَحَهُ الْكِتَابِيُّ لِعِيدِهِ أَوْ نَجْمٍ أَوْ صَنَمٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَسَمَّاهُ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، حَرُمَ؛ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . وَإِنْ سَمَّى اللَّهَ وَحْدَهُ، حَلَّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] . لَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِقَصْدِهِ بِقَلْبِهِ الذَّبْحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُؤْكَلُ مَا قُتِلَ بِالْبُنْدُقِ أَوْ الْحَجَرِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ مَا قُتِلَ بِالْبُنْدُقِ أَوْ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوذٌ) يَعْنِي الْحَجَرَ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ، فَأَمَّا الْمُحَدَّدُ كَالصَّوَّانِ، فَهُوَ كَالْمِعْرَاضِ، إنْ قُتِلَ بِحَدِّهِ أُبِيحَ، وَإِنْ قُتِلَ بِعَرْضِهِ أَوْ ثِقَلِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ لَا يُبَاحُ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ سَالِمٌ، وَالْقَاسِمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرَخَّصَ فِيمَا قُتِلَ بِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمَّارٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا تَأْكُلْ مِنْ الْبُنْدُقَةِ إلَّا مَا ذَكَّيْت» . وَقَالَ فِي الْمِعْرَاضِ: «إذَا أُصِيبَ بِعَرْضِهِ، فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» . وَقَالَ عُمَرُ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَحْذِفَ الْأَرْنَبَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ. ثُمَّ قَالَ: وَلْيُذَكِّ لَكُمْ الْأَسَلُ؛ الرِّمَاحُ وَالنَّبْلُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَسَوَاءٌ شَدَخَهُ أَوْ لَمْ يَشْدَخْهُ، حَتَّى لَوْ رَمَاهُ بِبُنْدُقَةٍ فَقَطَعَتْ حُلْقُومَ طَائِرٍ وَمَرِيئَهُ، أَوْ أَطَارَتْ رَأْسَهُ، لَمْ يَحِلَّ. وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِحَجَرٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتُهُ] (7752) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتُهُ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ حُوتٍ فَإِنَّهُ لَا ذَكَاةَ لَهُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتِهِ، إلَّا مَا لَا ذَكَاةَ لَهُ، كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى إبَاحَتِهِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا، وَاللَّيْثَ، وَأَبَا ثَوْرٍ، شَذُّوا عَنْ الْجَمَاعَةِ، وَأَفْرَطُوا؛ فَأَمَّا مَالِكٌ وَاللَّيْثُ فَقَالَا: لَا نَرَى أَنْ يُؤْكَلَ الْجَرَادُ إذَا صَادَهُ الْمَجُوسِيُّ. وَرَخَّصَا فِي السَّمَكِ وَأَبُو ثَوْرٍ أَبَاحَ صَيْدَهُ وَذَبِيحَتَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَلِأَنَّهُمْ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَيُبَاحُ صَيْدُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَاحْتَجَّ بِرِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: خَرَقَ أَبُو ثَوْرٍ الْإِجْمَاعَ. قَالَ أَحْمَدُ: هَاهُنَا قَوْمٌ لَا يَرَوْنَ بِذَبَائِحِ الْمَجُوسِ بَأْسًا، مَا أَعْجَبَ هَذَا يُعَرِّضُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 بِأَبِي ثَوْرٍ. وَمِمَّنْ رُوِيَتْ عَنْهُ كَرَاهِيَةُ ذَبَائِحِهِمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيٌّ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِخِلَافِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فَمَفْهُومُهُ تَحْرِيمُ طَعَامِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَلَمْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ كَأَهْلِ الْأَوْثَانِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَكَنٍ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ نَزَلْتُمْ بِفَارِسَ مِنْ النَّبَطِ، فَإِذَا اشْتَرَيْتُمْ لَحْمًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَكُلُوا، وَإِنْ كَانَتْ ذَبِيحَةَ مَجُوسِيٍّ فَلَا تَأْكُلُوا» . وَلِأَنَّ كُفْرَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ غَيْرَ أَهْلِ كِتَابٍ، يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، بِدَلِيلِ، سَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْكِتَابِ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ لِدِمَائِهِمْ، فَلَمَّا غُلِّبَتْ فِي التَّحْرِيمِ لِدِمَائِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يُغَلَّبَ عَدَمُ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيمِ الذَّبَائِحِ وَالنِّسَاءِ، احْتِيَاطًا لِلتَّحْرِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ، فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَلَا فِي مَنْ بَعْدَهُمْ، إلَّا رِوَايَةً عَنْ سَعِيدٍ، رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهَا. وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ مَا صَادُوهُ مِنْ الْحِيتَانِ. حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت سَبْعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَأْكُلُونَ صَيْدَ الْمَجُوسِيِّ مَنْ لَا يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَالْجَرَادُ كَالْحِيتَانِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَتُهُ، فَلَمْ يَحْرُمْ بِصَيْدِ الْمَجُوسِيِّ، كَالْحُوتِ. (7753) فَصْلٌ: وَحُكْمُ سَائِرِ الْكُفَّارِ، مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالزَّنَادِقَةِ وَغَيْرِهِمْ، حُكْمُ الْمَجُوسِيِّ، فِي تَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِمْ وَصَيْدِهِمْ، إلَّا الْحِيتَانَ وَالْجَرَادَ وَسَائِرَ مَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ، فَإِنَّ مَا صَادُوهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ بِذَلِكَ عَنْ مَوْتِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ؛ السَّمَكُ، وَالْجَرَادُ» . وَقَالَ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ.» (7754) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَطَعَامُ الْمَجُوسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ أَنْ يُؤْكَلَ، وَإِذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ أَنْ يُقْبَلَ، إنَّمَا تُكْرَهُ ذَبَائِحُهُمْ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 أَوْ شَيْءٌ فِيهِ دَسَمٌ. يَعْنِي مِنْ اللَّحْمِ. وَلَمْ يَرَ بِالسَّمْنِ وَالْخُبْزِ بَأْسًا. وَسُئِلَ عَمَّا يَصْنَعُ الْمَجُوسُ لِأَمْوَاتِهِمْ، وَيُزَمْزِمُونَ عَلَيْهِمْ أَيَّامًا عَشْرًا، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ: كُلْ مَعَ الْمَجُوسِيِّ وَإِنْ زَمْزَمَ. وَرَوَى أَحْمَدُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَوَامِيخِ الْمَجُوسِ، وَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ. وَرَوَى هِشَامٌ، عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِطَعَامِ الْمَجُوسِ فِي الْمِصْرِ، وَلَا بِشَوَارِيزِهِمْ، وَلَا بِكَوَامِيخِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ مَا مَاتَ مِنْ الْحِيتَان فِي الْمَاءِ] (7755) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا مَاتَ مِنْ الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ وَإِنْ طَفَا) قَوْلُهُ طَفَا: يَعْنِي ارْتَفَعَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السَّمَكَ وَغَيْرَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَاءِ الَّتِي لَا تَعِيشُ إلَّا فِيهِ، إذَا مَاتَتْ فَهِيَ حَلَالٌ، سَوَاءٌ مَاتَتْ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ حَدِيثٍ. وَأَمَّا مَا مَاتَ بِسَبَبٍ، مِثْلُ أَنْ صَادَهُ إنْسَانٌ، أَوْ نَبَذَهُ الْبَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى إبَاحَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا حُبِسَ فِي الْمَاءِ بِحَظِيرَةٍ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي حِلِّهِ. قَالَ أَحْمَدُ: الطَّافِي يُؤْكَلُ، وَمَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ أَجْوَدُ، وَالسَّمَكُ الَّذِي نَبَذَهُ الْبَحْرُ لَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّافِي، وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ الطَّافِيَ مِنْ السَّمَكِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَا وُجِدَ مِنْ الْحِيتَانِ عَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ. وَكَرِهَ الطَّافِيَ جَابِرٌ، وَطَاوُسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَلْقَى الْبَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ، فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا، فَلَا تَأْكُلُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَا مَاتَ فِيهِ. وَأَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الطَّافِي حَلَالٌ. وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الْبَرِّ أُبِيحَ، فَإِذَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ أُبِيحَ، كَالْجَرَادِ. فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ الثِّقَاتُ فَأَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ، وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ. وَإِنْ صَحَّ فَنَحْمِلُهُ عَلَى نَهْيِ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ رَسَبَ فِي أَسْفَلِهِ، فَإِذَا أَنْتَنَ طَفَا، فَكَرِهَهُ لِنَتْنِهِ، لَا لِتَحْرِيمِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 [فَصْلٌ يُبَاحُ أَكْلُ الْجَرَادِ] (7756) فَصْلٌ: يُبَاحُ أَكْلُ الْجَرَادِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الْجَرَادَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ الْبَرْدُ، لَمْ يُؤْكَلْ. وَعَنْهُ، لَا يُؤْكَلْ إذَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَيَرْوِي أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ ". وَلَمْ يُفَصِّلْ. وَلِأَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَتُهُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ سَبَبٌ، كَالسَّمَكِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ افْتَقَرَ إلَى سَبَبٍ، لَافْتَقَرَ إلَى ذَبْحٍ وَذَابِحٍ وَآلَةٍ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. (7757) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ أَكْلُ الْجَرَادِ بِمَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ السَّمَكُ، يَجُوزُ أَنْ يُقْلَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَقَّ بَطْنُهُ، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي السَّمَكِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ رَجْعِيَّهُ نَجِسٌ. وَلَنَا، عُمُومُ النَّصِّ فِي إبَاحَتِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَإِنْ بَلَعَ إنْسَانٌ شَيْئًا مِنْهُ حَيًّا كُرِهَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لَهُ. [فَصْلٌ حُكْم السَّمَكِ الْمُلْقَى فِي النَّارِ؟] (7758) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ السَّمَكِ يُلْقَى فِي النَّارِ؟ فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي. وَالْجَرَادُ أَسْهَلُ، فَإِنَّ هَذَا لَهُ دَمٌ. وَلَمْ يَكْرَهْ أَكْلَ السَّمَكِ إذَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، إنَّمَا كَرِهَ تَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ. وَأَمَّا الْجَرَادُ فَسَهَّلَ فِي إلْقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّمَكَ لَا حَاجَةَ إلَى إلْقَائِهِ فِي النَّارِ، لِإِمْكَانِ تَرْكِهِ حَتَّى يَمُوتَ بِسُرْعَةٍ، وَالْجَرَادُ لَا يَمُوتُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً. وَفِي " مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ " أَنَّ كَعْبًا كَانَ مُحْرِمًا، فَمَرَّتْ بِهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَنَسِيَ، وَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ، فَأَلْقَاهُمَا فِي النَّارِ، وَشَوَاهُمَا، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عُمَرُ تَرْكَهُمَا فِي النَّارِ. وَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ الْجَرَادُ يُقْلَى لَهُ. فَقَالَ: إنَّمَا يُؤْخَذُ الْجَرَادُ فَتُقْطَعُ أَجْنِحَتُهُ، ثُمَّ يُلْقَى فِي الزَّيْتِ وَهُوَ حَيٌّ. [مَسْأَلَةٌ ذَكَاة الْمَقْدُور عَلَيْهِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْأَنْعَامِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ] (7759) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَذَكَاةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْأَنْعَامِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، مِنْ الصَّيْدِ وَالْأَنْعَامِ، فَأَمَّا الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالذَّكَاةِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَتَفْتَقِرُ الذَّكَاةُ إلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ؛ ذَابِحٍ، وَآلَةٍ، وَمَحَلٍّ، وَفِعْلٍ، وَذِكْرٍ. أَمَّا الذَّابِحُ فَيُعْتَبَرُ لَهُ شَرْطَانِ؛ دِينُهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَعَقْلُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ يَعْرِفُ الذَّبْحَ لِيَقْصِدَ، فَإِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 كَانَ لَا يَعْقِلُ، كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّكْرَانِ، لَمْ يَحِلَّ مَا ذَبَحَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَ إنْسَانًا بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ عُنُقَ شَاةٍ. وَأَمَّا الْآلَةُ، فَلَهَا شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ مُحَدَّدَةً، تَقْطَعُ أَوْ تَخْرِقُ بِحَدِّهَا، لَا بِثِقَلِهَا. وَالثَّانِي، أَنْ لَا تَكُونَ سِنًّا وَلَا ظُفْرًا. فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فِي شَيْءٍ، حَلَّ الذَّبْحُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَدِيدًا، أَوْ حَجَرًا، أَوْ بَلْطَةً، أَوْ خَشَبًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا أَوْ ظُفْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت إنْ أَحَدُنَا أَصَابَ صَيْدًا، وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ، أَيَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشَقَّةِ الْعَصَا؟ فَقَالَ: اُمْرُرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» . وَالْمَرْوَةُ: الصَّوَّانُ. وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، «أَنَّهُ كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً، فَأَخَذَهَا الْمَوْتُ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَنْحَرُهَا بِهِ، فَأَخَذَ وَتَدًا، فَوَجَأَهَا بِهِ فِي لَبَّتِهَا حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهَا، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا فِي السِّنِّ وَالظُّفْرِ، قَالَ: إذَا كَانَا مُتَّصِلَيْنِ، لَمْ يَجُزْ الذَّبْحُ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ، جَازَ. وَلَنَا، عُمُومُ حَدِيثِ رَافِعٍ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَجُزْ الذَّكَاةُ بِهِ مُتَّصِلًا، لَمْ تَجُزْ مُنْفَصِلًا، كَغَيْرِ الْمُحَدَّدِ. وَأَمَّا الْعَظْمُ غَيْرُ السِّنِّ، فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، إبَاحَةُ الذَّبْحِ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُذَكَّى بِعَظْمِ الْحِمَارِ، وَلَا يُذَكَّى بِعَظْمِ الْقِرْدِ؛ لِأَنَّك تُصَلِّي عَلَى الْحِمَارِ وَتَسْقِيه فِي جَفْنَتِك. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُذَكَّى بِعَظْمِ وَلَا ظُفْرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَا يُذَكَّى بِالْعَظْمِ وَالْقَرْنِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . فَعَلَّلَهُ بِكَوْنِهِ عَظْمًا، فَكُلُّ عَظْمٍ فَقَدْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَظْمَ دَخَلَ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْمُبِيحِ، ثُمَّ اُسْتُثْنِيَ السِّنُّ وَالظُّفْرُ خَاصَّةً، فَيَبْقَى سَائِرُ الْعِظَامِ دَاخِلًا فِيمَا يُبَاحُ الذَّبْحُ بِهِ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَلِهَذَا عَلَّلَ الظُّفْرَ بِكَوْنِهِ مِنْ مُدَى الْحَبَشَةِ، وَلَا يَحْرُمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 الذَّبْحُ بِالسِّكِّينِ وَإِنْ كَانَتْ مُدْيَةً لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْعِظَامَ يَتَنَاوَلُهَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ، وَيَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْآلَاتِ. وَأَمَّا الْمَحِلُّ فَالْحَلْقُ وَاللَّبَّةُ وَهِيَ الْوَهْدَةُ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ. وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحِلِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ» . قَالَ أَحْمَدُ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ الْفُرَافِصَةِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَنَادَى أَنَّ النَّحْرَ فِي اللَّبَّةِ وَالْحَلْقِ لِمَنْ قَدَرَ. وَإِنَّمَا نَرَى أَنَّ الذَّكَاةَ اخْتَصَّتْ بِهَذَا الْمَحِلِّ؛ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْعُرُوقِ، فَتَنْفَسِخُ بِالذَّبْحِ فِيهِ الدِّمَاءُ السَّيَّالَةُ، وَيُسْرِعُ زُهُوقَ النَّفْسِ، فَيَكُونُ أَطْيَبَ لِلَّحْمِ، وَأَخَفَّ عَلَى الْحَيَوَانِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ كَانَ حَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ حَدِيثًا. يَعْنِي مَا رَوَى أَبُو الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ سُئِلَ: أَمَّا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ طَعَنْت فِي فَخِذِهَا، لَأَجْزَأَ عَنْك» . قَالَ أَحْمَدُ: أَبُو الْعُشَرَاءِ هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ. وَأَمَّا الذِّكْرُ فَالتَّسْمِيَةُ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا. وَأَمَّا الْفِعْلُ فَيُعْتَبَرُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَعَ هَذَا قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ» . وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَتَقْطَعُ الْجِلْدَ وَلَا تَفْرِي الْأَوْدَاجَ، ثُمَّ تُتْرَكُ حَتَّى تَمُوتَ. رَوَاهُ. أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَكْمَلَ قَطْعُ الْأَرْبَعَةِ؛ الْحُلْقُومِ، وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ، فَالْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءُ وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْوَدَجَانِ، وَهُمَا عِرْقَانِ مُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِخُرُوجِ رُوحِ الْحَيَوَانِ، فَيَخِفُّ عَلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. وَالْأَوَّلُ يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ فِي مَحِلِّ الذَّبْحِ مَا لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَ قَطْعِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ الْأَرْبَعَةَ. [مَسْأَلَةٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْحَر الْبَعِير وَيُذْبَحَ مَا سِوَاهُ] (7760) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْحَرَ، الْبَعِيرُ، وَيُذْبَحَ مَا سِوَاهُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ نَحْرُ الْإِبِلِ، وَذَبْحُ مَا سِوَاهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . قَالَ مُجَاهِدٌ: أُمِرْنَا بِالنَّحْرِ، وَأُمِرَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِالذَّبْحِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ فِي قَوْمٍ مَاشِيَتُهُمْ الْإِبِلُ، فَسُنَّ النَّحْرُ، وَكَانَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 بَنُو إسْرَائِيلَ مَاشِيَتُهُمْ الْبَقَرُ، فَأُمِرُوا بِالذَّبْحِ. «وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بَدَنَةً، وَضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى النَّحْرِ، أَنْ يَضْرِبَهَا بِحَرْبَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ عُنُقِهَا وَصَدْرِهَا. (7761) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ الذَّبْحُ بِسِكِّينٍ حَادٍّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: «خَصْلَتَانِ سَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . وَيُكْرَه أَنْ يَسُنَّ السِّكِّينَ وَالْحَيَوَانُ يُبْصِرُهُ. وَرَأَى عُمَرُ رَجُلًا قَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى شَاةٍ، وَهُوَ يَحُدُّ السِّكِّينَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَفْلَتَ الشَّاةَ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً وَالْأُخْرَى تَنْظُرُ إلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ. وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ أَكْلَ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ سَائِرُهُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْبَحُونَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ ذَبَائِحَهُمْ. [فَصْلٌ لَا تُؤْكَل الْمَصْبُورَةُ وَلَا الْمُجَثَّمَةُ] (7762) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا تُؤْكَلُ الْمَصْبُورَةُ، وَلَا الْمُجَثَّمَةُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَالْمُجَثَّمَةُ: هِيَ الطَّائِرُ أَوْ الْأَرْنَبُ يُجْعَلُ غَرَضًا، ثُمَّ يُرْمَى حَتَّى يُقْتَلَ. وَالْمَصْبُورَةُ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّ الْمُجَثَّمَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الطَّائِرِ وَالْأَرْنَبِ وَأَشْبَاهِهَا، وَالْمَصْبُورَةُ كُلُّ حَيَوَانٍ. وَأَصْلُ الصَّبْرِ الْحَبْسُ. وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ، وَقَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. » وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ مُجَثَّمَةٍ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُجَثَّمَةِ وَعَنْ أَكْلِهَا، وَنَهَى عَنْ الْمَصْبُورَةِ وَعَنْ أَكْلِهَا» وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُبَحْ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ، كَالْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَا حُكْم ذبح مَا يُنْحَرُ أَوْ نحر مَا يُذْبَحُ] (7763) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ ذَبَحَ مَا يُنْحَرُ، أَوْ نَحَرَ مَا يُذْبَحُ فَجَائِزٌ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّ الْإِبِلَ لَا تُبَاحُ إلَّا بِالنَّحْرِ، وَلَا يُبَاحُ غَيْرُهَا إلَّا بِالذَّبْحِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَقَالَ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ الْبُدْنَ، وَذَبَحَ الْغَنَمَ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الْأَحْكَامُ مِنْ جِهَتِهِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْإِبِلِ إلَّا النَّحْرُ؛ لِأَنَّ أَعْنَاقَهَا طَوِيلَةٌ، فَإِذَا ذُبِحَ تَعَذَّبَ بِخُرُوجِ رُوحِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّمَا كَرِهَهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُمْرُرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت» . وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلْنَاهُ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً» . وَلِأَنَّهُ ذَكَاةٌ فِي مَحِلِّ الذَّكَاةِ، فَجَازَ أَكْلُهُ، كَالْحَيَوَانِ الْآخَرِ. [مَسْأَلَةٌ ذَبَحَ فَأَتَى عَلَى الْمَقَاتِل فَلَمْ تَخْرُج الرُّوحُ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ أَوْ وَطِئَ عَلَيْهَا شَيْءٌ] (7764) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا ذَبَحَ فَأَتَى عَلَى الْمَقَاتِلَ، فَلَمْ تَخْرُجْ الرُّوحُ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ، أَوْ وَطِئَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، لَمْ تُؤْكَلْ) . يَعْنِي إذَا وَطِئَ عَلَيْهَا شَيْءٌ يَقْتُلُهَا مِثْلُهُ غَالِبًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَحْرُمُ بِهَذَا. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا إذَا ذُبِحَتْ فَقَدْ صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُبِينَ رَأْسُهَا بَعْدَ الذَّبْحِ، لَمْ تَحْرُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَلَوْ ذُبِحَ إنْسَانٌ ثُمَّ ضَرَبَ آخَرُ عُنُقَهُ أَوْ غَرَّقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ رَمَى طَائِرًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ فِيهِ، فَلَا تَأْكُلْهُ. وَلِأَنَّ الْغَرَقَ سَبَبٌ يَقْتُلُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الذَّبْحِ، فَقَدْ اجْتَمَعَ مَا يُبِيحُ وَيُحَرِّمُ، فَيُغَلَّبُ الْحَظْرُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُعِينَ عَلَى خُرُوجِ الرُّوحِ، فَتَكُونَ قَدْ خَرَجَتْ بِفِعْلَيْنِ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وُجِدَ الْأَمْرَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رَمَاهُ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فَمَاتَ. [مَسْأَلَةٌ ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا وَهُوَ مُخْطِئٌ فَأَتَتْ السِّكِّينُ عَلَى مَوْضِعِ ذَبْحِهَا وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ] (7765) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا، وَهُوَ مُخْطِئٌ، فَأَتَتْ السِّكِّينُ عَلَى مَوْضِعِ ذَبْحِهَا، وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ، أُكِلَتْ) قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى الْخَطَأِ أَنْ تَلْتَوِيَ الذَّبِيحَةُ عَلَيْهِ، فَتَأْتِيَ السِّكِّينُ عَلَى الْقَفَا؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْتِوَائِهَا مَعْجُوزٌ عَنْ ذَبْحِهَا، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَحَلِّ، كَالْمُتَرَدِّيَةِ فِي بِئْرٍ، فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْتِوَائِهَا، فَلَا تُبَاحُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَرْحَ فِي الْقَفَا سَبَبٌ لِلزَّهُوقِ، وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الذَّبْحِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الذَّبْحِ، مُنِعَ حِلُّهُ، كَمَا لَوْ بَقَرَ بَطْنَهَا. وَقَدْ رُوِيَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْفَضْلَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَنْ ذَبَحَ فِي الْقَفَا؟ قَالَ: عَامِدًا أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ؟ قُلْت: عَامِدًا. قَالَ: لَا تُؤْكَلُ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ عَامِدٍ، كَأَنْ الْتَوَى عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ. (7766) فَصْلٌ: فَإِنْ ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا اخْتِيَارًا، فَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ. وَهُوَ مَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: تُسَمَّى هَذِهِ الذَّبِيحَةُ الْقَفِينَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ بَقِيَتْ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ قَبْلَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ حَلَّتْ، وَإِلَّا فَلَا، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالْحَرَكَةِ الْقَوِيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ إذَا أَتَى عَلَى مَا فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، أَحَلَّهُ، كَأَكِيلَةِ السَّبُعِ، وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ. وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَهَا بِالسَّيْفِ فَأَطَارَ رَأْسَهَا، حَلَّتْ بِذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَأْسَ بَطَّةٍ أَوْ شَاةٍ بِالسَّيْفِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الذَّبِيحَةَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ ذَكَاةٌ وَحِيَّةٌ. وَأَفْتَى بِأَكْلِهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهَا قَوْلَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ قَطْعُ مَا تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ مَعَ الذَّبْحِ، فَأُبِيحَ، كَمَا ذَكَرْنَا مَعَ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ. (7767) فَصْلٌ: فَإِنْ ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا، فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ كَانَتْ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ قَبْلَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَوْ لَا؟ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ بَقَاءَ ذَلِكَ، لِحِدَّةِ الْآلَةِ، وَسُرْعَةِ الْقَتْلِ، فَالْأَوْلَى إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا قُطِعَتْ عُنُقَهُ بِضَرْبَةِ السَّيْفِ، وَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ كَالَّةً، وَأَبْطَأَ قَطْعُهُ، وَطَالَ تَعْذِيبُهُ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي وُجُودِ مَا يُحِلُّهُ، فَيَحْرُمُ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ، فَوَجَدَ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لَا يَعْرِفُهُ. [مَسْأَلَةٌ ذَكَاتُهَا ذَكَاةُ جَنِينِهَا أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ] (7768) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَذَكَاتُهَا ذَكَاةُ جَنِينِهَا، أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ) يَعْنِي إذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ ذَبْحِهَا، أَوْ وَجَدَهُ مَيِّتًا فِي بَطْنِهَا، أَوْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَهُوَ حَلَالٌ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ إذَا أَشْعَرَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ: إذَا أَشْعَرَ الْجَنِينُ، فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذَكَّى؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَنْفَرِدُ بِحَيَاتِهِ، فَلَا يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ غَيْرِهِ، كَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ النَّاسُ عَلَى إبَاحَتِهِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ مَا قَالُوا، إلَى أَنْ جَاءَ النُّعْمَانُ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ ذَكَاةَ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَحَدَنَا يَنْحَرُ النَّاقَةَ، وَيَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ، فَيَجِدُ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينَ، أَنَأْكُلُهُ أَمْ نُلْقِيه؟ قَالَ «كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . وَعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ، وَلِأَنَّ الْجَنِينَ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ خِلْقَةٍ، يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا، فَتَكُونُ ذَكَاتُهُ ذَكَاتَهَا، كَأَعْضَائِهَا، وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَيَوَانِ تَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ فِيهِ وَالْقُدْرَةِ، بِدَلِيلِ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ وَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَالْجَنِينُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَبْحِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَبْحِ أُمِّهِ، فَيَكُونُ ذَكَاةً لَهُ. (7769) فَصْلٌ: وَاسْتَحَبَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَذْبَحَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا؛ لِيَخْرُجَ الدَّمُ الَّذِي فِي جَوْفِهِ، وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يُرِيقُوا مِنْ دَمِهِ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا. (7770) فَصْلٌ: فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، يُمْكِنُ أَنْ يُذَكَّى، فَلَمْ يُذَكِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَيْسَ بِذَكِيٍّ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ خَرَجَ حَيًّا، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ أُخْرَى. [مَسْأَلَةٌ لَا يُقْطَعُ عُضْوٌ مِمَّا ذكي حَتَّى تَزْهَقَ نَفْسُهُ] (7771) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُقْطَعُ عُضْوٌ مِمَّا ذُكِّيَ حَتَّى تَزْهَقَ نَفْسُهُ) كَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ حَتَّى تُزْهَقَ. فَإِنْ قُطِعَ عُضْوٌ قَبْلَ زُهُوقَ النَّفْسِ وَبَعْدَ الذَّبْحِ، فَالظَّاهِرُ إبَاحَتُهُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ دَجَاجَةً، فَأَبَانَ رَأْسَهَا؟ قَالَ: يَأْكُلُهَا. قِيلَ لَهُ: وَاَلَّذِي بَانَ مِنْهَا أَيْضًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا قَطَعَ الرَّأْسَ. فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَطْعَ ذَلِكَ الْعُضْوِ بَعْدَ حُصُولِ الذَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 (7772) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ سَلْخُ الْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لِلْحَيَوَانِ، فَهُوَ كَقَطْعِ الْعُضْوِ. وَيُكْرَهُ النَّفْخُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِلْبَيْعِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغِشِّ. (7773) فَصْلٌ: وَإِنْ قُطِعَ مِنْ الْحَيَوَانِ شَيْءٌ، وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَهُوَ مَيْتَةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو وَاقِدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ، وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهُوَ مَيْتَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ إبَاحَتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِالذَّبْحِ، وَلَيْسَ هَذَا بِذَبْحٍ. [مَسْأَلَةٌ ذَبِيحَةُ مَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ] (7774) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَذَبِيحَةُ مَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ، إذَا سَمَّوْا، أَوْ نَسُوا التَّسْمِيَةَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الذَّبْحُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، إذَا ذَبَحَ، حَلَّ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى إبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُلُوهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ سَبْعٌ؛ أَحَدُهَا، إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالثَّانِيَةُ، إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْأَمَةِ. وَالثَّالِثَةُ إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ. وَالرَّابِعَةُ، إبَاحَةُ الذَّبْحِ بِالْحَجَرِ. وَالْخَامِسَةُ، إبَاحَةُ ذَبْحِ مَا خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ. وَالسَّادِسَةُ، حِلُّ مَا يَذْبَحُهُ غَيْرُ مَالِكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَالسَّابِعَةُ، إبَاحَةُ ذَبْحِهِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ. وَيَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ سَكْرَانَ لَا يَعْقِلُ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الذَّبْحُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْتَبَرُ الْعَقْلُ. وَلَهُ فِيمَا إذَا أَرْسَلَ الْمَجْنُونُ الْكَلْبَ عَلَى صَيْدٍ وَجْهَانِ. وَلَنَا، أَنَّ الذَّكَاةَ يُعْتَبَرُ لَهَا الْقَصْدُ، فَيُعْتَبَرُ لَهَا الْعَقْلُ، كَالْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ، فَيَصِيرُ ذَبْحُهُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْحَدِيدَةُ بِنَفْسِهَا عَلَى حَلْقِ شَاةٍ فَذَبَحَتْهَا. وَقَوْلُهُ: إذَا سَمَّوْا أَوْ نَسُوا التَّسْمِيَةَ. فَالتَّسْمِيَةُ مُشْتَرَطَةٌ فِي كُلِّ ذَابِحٍ مَعَ الْعَمْدِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، فَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابِيُّ التَّسْمِيَةَ عَنْ عَمْدٍ، أَوْ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَكْحُولٌ: إذَا ذَبَحَ النَّصْرَانِيُّ بِاسْمِ الْمَسِيحِ حَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ لَنَا ذَبِيحَتَهُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقُولُ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا مَا ذَبَحُوهُ بِشَرْطِهِ كَالْمُسْلِمِ. فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَسَمَّى الذَّابِحُ أَمْ لَا؟ أَوْ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ أَمْ لَا؟ فَذَبِيحَتُهُ حَلَالٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا أَكْلَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّنَا لَا نَقِفُ عَلَى كُلِّ ذَابِحٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَوْمًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا؟ قَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ، وَكُلُوا» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلٌ ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ كُلِّ ذِي ظُفْرٍ] (7775) فَصْلٌ: وَإِذَا ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِثْلَ كُلِّ ذِي ظُفْرٍ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْأَيْلُ وَالنَّعَامُ وَالْبَطُّ، وَمَا لَيْسَ بِمَشْقُوقِ الْأَصَابِعِ. أَوْ ذَبَحَ دَابَّةً لَهَا شَحْمٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ إبَاحَتُهُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ حَكَى عَنْ مَالِكٍ، فِي الْيَهُودِيِّ يَذْبَحُ الشَّاةَ، قَالَ: لَا يَأْكُلُ مِنْ شَحْمِهَا. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا مَذْهَبٌ دَقِيقٌ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ صَحِيحًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَأَبِي الْخَطَّابِ. وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَالْقَاضِي، إلَى تَحْرِيمِهَا. وَحَكَاهُ التَّمِيمِيُّ عَنْ الضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَوَّارٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ. وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْبَهِيمَةِ، لَمْ يُبَحْ لِذَابِحِهَا، فَلَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ، كَالدَّمِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ «، قَالَ: دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ مِنْ قَصْرِ خَيْبَرَ، فَنَزَوْت لِآخُذَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَبَسَّمُ إلَيَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ أَبَاحَتْ اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ، فَأَبَاحَتْ الشَّحْمَ، كَذَكَاةِ الْمُسْلِمِ. وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّ مَعْنَى طَعَامِهِمْ ذَبَائِحُهُمْ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِمَا ذَبَحَهُ الْغَاصِبُ. (7776) فَصْلٌ: وَإِنْ ذَبَحَ شَيْئًا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ حَلَالٌ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ حَرَامٌ. غَيْرُ مَقْبُولٍ. [مَسْأَلَةٌ ذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ] (7777) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، أَوْمَأَ إلَى السَّمَاءِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى إبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ؛ مِنْهُمْ اللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 إشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ النَّاطِقِ، وَإِشَارَتُهُ إلَى السَّمَاءِ تَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ تَسْمِيَةَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. وَنَحْوِ هَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَارِيَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَفَأُعْتِقُ هَذِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ اللَّهُ؟ . فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ . فَأَشَارَتْ بِإِصْبَعِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى السَّمَاءِ، أَيْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْقَاضِي الْبِرْتِيُّ، فِي " مُسْنَدَيْهِمَا ". فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِيمَانِهَا بِإِشَارَتِهَا إلَى السَّمَاءِ، تُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيهَا، فَأَوْلَى أَنْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ عَلَمًا عَلَى التَّسْمِيَةِ. وَلَوْ أَنَّهُ أَشَارَ إشَارَةً تَدُلُّ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَعُلِمَ ذَلِكَ، كَانَ كَافِيًا. [مَسْأَلَةٌ كَانَ جُنُبًا جَازَ أَنْ يُسَمِّيَ وَيَذْبَحَ] (7778) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، جَازَ أَنْ يُسَمِّيَ وَيَذْبَحَ) وَذَلِكَ أَنَّ الْجُنُبَ تَجُوزُ لَهُ التَّسْمِيَةُ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْقُرْآنِ، لَا مِنْ الذِّكْرِ، وَلِهَذَا تُشْرَعُ لَهُ التَّسْمِيَةُ عِنْد اغْتِسَالِهِ، وَلَيْسَتْ الْجَنَابَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ، وَالْكَافِرُ يُسَمِّي وَيَذْبَحُ، وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ذَبْحِ الْجُنُبِ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَتُبَاحُ ذَبِيحَةُ الْحَائِضِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجُنُبِ. [فَصْلٌ تَحْرِيم الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبْعِ وَمَا أَصَابَهَا مَرَضٌ فَمَاتَتْ بِهِ] (7779) فَصْلٌ: وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ، وَمَا أَصَابَهَا مَرَضٌ فَمَاتَتْ بِهِ، مُحَرَّمَةٌ، إلَّا أَنْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . وَفِي حَدِيثِ جَارِيَةِ كَعْبٍ «، أَنَّهَا أُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْ غَنَمِهَا، فَأَدْرَكَتْهَا، فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُلُوهَا» . فَإِنْ كَانَتْ لَمْ يَبْقَ مِنْ حَيَاتِهَا إلَّا مِثْلُ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لَمْ تُبَحْ بِالذَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ مَا ذَبَحَهُ الْمَجُوسِيُّ، لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ أَدْرَكَهَا وَفِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ ذَبْحُهَا، حَلَّتْ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ انْتَهَتْ إلَى حَالٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ مَعَهُ أَوْ تَعِيشُ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْأَلْ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي ذِئْبٍ عَدَا عَلَى شَاةٍ، فَعَقَرَهَا، فَوَقَعَ قَصَبُهَا بِالْأَرْضِ، فَأَدْرَكَهَا، فَذَبَحَهَا بِحَجَرٍ، قَالَ: يُلْقِي مَا أَصَابَ الْأَرْضَ، وَيَأْكُلُ سَائِرَهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي بَهِيمَةٍ عَقَرَتْ بَهِيمَةً، حَتَّى تَبَيَّنَ فِيهَا آثَارُ الْمَوْتِ، إلَّا أَنَّ فِيهَا الرُّوحَ. يَعْنِي فَذُبِحَتْ. فَقَالَ: إذَا مَصَعَتْ بِذَنَبِهَا، وَطَرَفَتْ بِعَيْنِهَا، وَسَالَ الدَّمُ، فَأَرْجُو إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 أَنْ لَا يَكُونَ بِأَكْلِهَا بَأْسٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَقِيلِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَطَاوُسٍ. وَقَالَا: تَحَرَّكَتْ. وَلَمْ يَقُولَا: سَالَ الدَّمُ. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ شَاةٍ مَرِيضَةٍ، خَافُوا عَلَيْهَا الْمَوْتَ، فَذَبَحُوهَا، فَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهَا طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا، أَوْ حَرَّكَتْ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا أَوْ ذَنَبَهَا بِضَعْفٍ، فَنَهَرَ الدَّمُ؟ قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إذَا انْتَهَتْ إلَى حَدٍّ لَا تَعِيشُ مَعَهُ، لَمْ تُبَحْ بِالذَّكَاةِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: إذَا شَقَّ الذِّئْبُ بَطْنَهَا، فَخَرَجَ قَصَبُهَا، فَذَبَحَهَا، لَا تُؤْكَلُ. وَقَالَ: إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَمُوتُ مِنْ عَقْرِ السَّبُعِ، فَلَا تُؤْكَلُ وَإِنْ ذَكَّاهَا. وَقَدْ يَخَافُ عَلَى الشَّاةِ الْمَوْتَ مِنْ الْعِلَّةِ وَالشَّيْءَ يُصِيبُهَا، فَيُبَادِرُهَا فَيَذْبَحُهَا، فَيَأْكُلُهَا. وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذِهِ، لَا يَدْرِي، لَعَلَّهَا تَعِيشُ، وَاَلَّتِي قَدْ خَرَجَتْ أَمْعَاؤُهَا، يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْتَهَى بِهِ الْجُرْحُ إلَى حَدٍّ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مَعَهُ، فَوَصَّى، فَقُبِلَتْ وَصَايَاهُ، وَوَجَبَتْ الْعِبَادَةُ عَلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ فِي حَدِيثِ جَارِيَةِ كَعْبٍ، مَا يَرُدُّ هَذَا، وَتُحْمَلُ نُصُوصُ أَحْمَدَ، عَلَى شَاةٍ خَرَجَتْ أَمْعَاؤُهَا، وَبَانَتْ مِنْهَا، فَتِلْكَ لَا تَحِلُّ بِالذَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ، وَلَا تَبْقَى حَرَكَتُهَا إلَّا كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَأَمَّا مَا خَرَجَتْ أَمْعَاؤُهَا، وَلَمْ تَبِنْ مِنْهَا، فَهِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ تُبَاحُ بِالذَّبْحِ، وَلِهَذَا قَالَ الْخِرَقِيِّ، فِي مَنْ شَقَّ بَطْنَ رَجُلٍ، فَأَخْرَجَ حَشْوَتَهُ، فَقَطَعَهَا فَأَبَانَهَا، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَلَوْ شَقَّ بَطْنَ رَجُلٍ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا كَانَتْ تَعِيشُ مُعْظَمَ الْيَوْمِ، حَلَّتْ بِالذَّكَاةِ. وَهَذَا التَّحْدِيدُ بَعِيدٌ، يُخَالِفُ ظَوَاهِرَ النُّصُوصِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَارِيَةِ كَعْبٍ: فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَادَرَتْهَا بِالذَّكَاةِ حِينَ خَافَتْ مَوْتَهَا فِي سَاعَتِهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَعِيشُ زَمَنًا يَكُونُ الْمَوْتُ بِالذَّبْحِ أَسْرَعَ مِنْهُ، حَلَّتْ بِالذَّبْحِ، وَأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ مِمَّا لَا يُتَيَقَّنُ مَوْتُهَا، كَالْمَرِيضَةِ، أَنَّهَا مَتَى تَحَرَّكَتْ، وَسَالَ دَمُهَا، حَلَّتْ وَاَللَّه أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُحَرَّمُ مِنْ الْحَيَوَانِ] (7780) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُحَرَّمُ مِنْ الْحَيَوَانِ، مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّيه طَيِّبًا فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا كَانَتْ تُسَمِّيه خَبِيثًا، فَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: مَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . وَمَا عَدَا هَذَا، فَمَا اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ، فَهُوَ حَلَالٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] . يَعْنِي يَسْتَطِيبُونَهُ دُونَ الْحَلَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] . وَلَوْ أَرَادَ الْحَلَالَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُمْ. وَمَا اسْتَخْبَثَتْهُ الْعَرَبُ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . وَاَلَّذِينَ تُعْتَبَرُ اسْتِطَابَتُهُمْ وَاسْتِخْبَاثُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ، مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابُ، وَخُوطِبُوا بِهِ وَبِالسُّنَّةِ، فَرُجِعَ فِي مُطْلَقِ أَلْفَاظِهِمَا إلَى عُرْفِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَهْلُ الْبَوَادِي؛ لِأَنَّهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَالْمَجَاعَةِ يَأْكُلُونَ مَا وَجَدُوا، وَلِهَذَا سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَمَّا يَأْكُلُونَ؟ فَقَالَ: مَا دَبَّ وَدَرَجَ، إلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ. فَقَالَ: لِتَهْنَ أُمَّ حُبَيْنٍ الْعَافِيَةُ. وَمَا وُجِدَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ، رُدَّ إلَى أَقْرَبِ مَا يُشْبِهُهُ فِي الْحِجَازِ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] . الْآيَةَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمِنْ الْمُسْتَخْبَثَاتِ الْحَشَرَاتُ، كَالدِّيدَانِ، وَالْجُعَلَانِ، وَبَنَاتِ وَرْدَانَ، وَالْخَنَافِسِ، وَالْفَأْرِ، وَالْأَوْزَاغِ، وَالْحِرْبَاءِ، وَالْعَضَاةِ، وَالْجَرَاذِينَ، وَالْعَقَارِبِ، وَالْحَيَّاتِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، فِي هَذَا كُلِّهِ، إلَّا الْأَوْزَاغَ، فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْحَيَّةُ حَلَالٌ إذَا ذُكِّيَتْ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الْآيَةِ الْمُبِيحَةِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ؛ الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . وَفِي حَدِيثٍ: " الْحَيَّةُ " مَكَانَ: " الْفَأْرَةِ ". وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الصَّيْدِ الْمُبَاحِ، لَمْ يُبَحْ قَتْلُهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . وَقَالَ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . وَلِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ، فَحُرِّمَتْ، كَالْوَزَغِ أَوْ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْوَزَغَ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْقُنْفُذِ] (7781) فَصْلٌ: وَالْقُنْفُذُ حَرَامٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُوَ حَرَامٌ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَرَخَّصَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 وَلَنَا، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: «ذُكِرَ الْقُنْفُذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ خَبِيثٌ مِنْ الْخَبَائِثِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ، فَأَشْبَهَ الْجُرَذَ. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ] (7782) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. قَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهُوهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ فِي تَحْرِيمِهَا وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَتَلَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: مَا خَلَا هَذَا، فَهُوَ حَلَالٌ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ الْفَأْرَةِ، فَقَالَتْ: مَا هِيَ بِحَرَامٍ. وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَمْ يَرَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو وَائِلٍ بِأَكْلِ الْحُمُرِ بَأْسًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَالِبِ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنَا سَنَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إلَّا سِمَانُ حُمُرٍ، وَإِنَّك حَرَّمْت لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. فَقَالَ: «أَطْعِمْ أَهْلَك مِنْ سَمِينِ حُمُرِك، فَإِنَّمَا حَرَّمْتهَا مِنْ أَجْلِ حَوَالَيْ الْقَرْيَةِ» وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَجَابِرٌ، وَالْبَرَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَأَنَسٌ، وَزَاهِرٌ الْأَسْلَمِيُّ، بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ حِسَانٍ، وَحَدِيثُ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ لَا يُعْرَجُ عَلَى مِثْلِهِ مَعَ مَا عَارَضَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لَهُمْ فِي مَجَاعَتِهِمْ، وَبَيَّنَ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا الْمُطْلَقِ، لِكَوْنِهَا تَأْكُلُ الْعَذِرَاتِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْبَتَّةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ حُكْم أَكَلَ الْبِغَالُ] (7783) فَصْلٌ: وَالْبِغَالُ حَرَامٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ حَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهَا، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ. وَهَكَذَا إنْ تَوَلَّدَ مِنْ بَيْنَ الْإِنْسِيِّ وَالْوَحْشِيِّ وَلَدٌ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ، وَالسِّمْعُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ بَيْنَ الذِّئْبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 وَالضَّبُعِ، مُحَرَّمٌ. قَالَ قَتَادَةُ: مَا الْبَغْلُ إلَّا شَيْءٌ مِنْ الْحِمَارِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ الْخَيْلِ. [فَصْلٌ حُكْم أَلْبَانُ الْحُمُر] (7784) فَصْلٌ: وَأَلْبَانُ الْحُمُرِ مُحَرَّمَةٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَرَخَّصَ فِيهَا عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَلْبَانِ حُكْمُ اللُّحْمَانِ. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ] (7785) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَهِيَ الَّتِي تَضْرِبُ بِأَنْيَابِهَا الشَّيْءَ وَتَفْرِسُ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي نَابٍ قَوِيٍّ مِنْ السِّبَاعِ، يَعْدُو بِهِ وَيَكْسِرُ، إلَّا الضَّبُعَ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: هُوَ مُبَاحٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَاتِ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَسَدُ، وَالنَّمِرُ، وَالْفَهْدُ، وَالذِّئْبُ، وَالْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَتَدَاوَى بِلَحْمِ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا شَفَاهُ اللَّهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى تَحْرِيمَهُ. [فَصْلٌ حُكْم أَكْل الْقِرْدِ] (7786) فَصْلٌ: وَلَا يُبَاحُ أَكْلُ الْقِرْدِ. وَكَرِهَهُ عُمَرُ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالْحَسَنُ، وَلَمْ يُجِيزُوا بَيْعَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا أَنَّ الْقِرْدَ لَا يُؤْكَلُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لَحْمِ الْقِرْدِ. وَلِأَنَّهُ سَبُعٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَهُوَ مَسْخٌ أَيْضًا، فَيَكُونُ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ ابْنِ آوَى وَالنِّمْسِ وَابْنِ عُرْسٍ] (7787) فَصْلٌ: وَابْنُ آوَى، وَالنِّمْسُ، وَابْنُ عِرْسٍ، حَرَامٌ. سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ آوَى وَابْنِ عِرْسٍ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَنْهَشُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 بِأَنْيَابِهِ فَهُوَ مِنْ السِّبَاعِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ابْنُ عِرْسٍ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَابٌ قَوِيٌّ، فَأَشْبَهَ الضَّبَّ. وَلِأَصْحَابِهِ فِي ابْنِ آوَى وَجْهَانِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مِنْ السِّبَاعِ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ، غَيْرُ مُسْتَطَابَةٍ، فَإِنَّ ابْنَ آوَى يُشْبِهُ الْكَلْبَ، وَرَائِحَتُهُ كَرِيهَةٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الثَّعْلَبِ] (7788) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الثَّعْلَبِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ سَبُعٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ إبَاحَتُهُ. اخْتَارَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَاللَّيْثُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَعَطَاءٌ: كُلُّ مَا يُودَى إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي سِنَّوْرِ الْبَرِّ كَاخْتِلَافِهَا فِي الثَّعْلَبِ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الثَّعْلَبِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي سِنَّوْرِ الْبَرِّ وَجْهَانِ. فَأَمَّا الْأَهْلِيُّ، فَمُحَرَّمٌ فِي قَوْلِ إمَامِنَا، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ. [فَصْلٌ حُكْم أَكَلَ الْفِيلُ] (7789) فَصْلٌ: وَالْفِيلُ مُحَرَّمٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ هُوَ مِنْ أَطْعِمَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مَسْخٌ. وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَخَّصَ فِي أَكْلِهِ الشَّعْبِيُّ. وَلَنَا، نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِهَا نَابًا، وَلِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْمُحَرِّمَةِ. [فَصْلٌ الِاخْتِلَاف فِي أَكَلَ الدُّبّ] (7790) فَصْلٌ: فَأَمَّا الدُّبُّ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا نَابٍ يَفْرِسُ بِهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُبَاحٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَابٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ سَبُعٌ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالسِّبَاعِ، فَلَا يُؤْكَلُ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ الْمُحَرِّمِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَشَبَهُهُ بِالسِّبَاعِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ ذَا نَابٍ يَصِيدُ بِهِ وَيَفْرِسُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُبِيحَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ أَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ] (7791) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَلِّقُ بِمَخَالِبِهَا الشَّيْءَ، وَتَصِيدُ بِهَا) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَا يَحْرُمُ مِنْ الطَّيْرِ شَيْءٌ. قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ سِبَاعَ الطَّيْرِ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الْآيَاتِ الْمُبِيحَةِ، وَقَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مَا عَفَا عَنْهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» . وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَرَامٌ عَلَيْكُمْ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَاتِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَا لَهُ مِخْلَبٌ يَعْدُو بِهِ، كَالْعُقَابِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ وَالْبَاشَقِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْبُومَةِ، وَأَشْبَاهِهَا. (7792) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ مِنْهَا مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ، كَالنُّسُورِ وَالرَّخَمِ، وَغُرَابِ الْبَيْنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْغِرْبَانِ، وَالْأَبْقَعِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَمَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسِقًا، وَاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَلَعَلَّهُ يَعْنِي قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ؛ الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . فَهَذِهِ الْخَمْسُ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ قَتْلَهَا فِي الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ صَيْدٍ مَأْكُولٍ فِي الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُذْبَحُ وَيُؤْكَلُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ الْعَقْعَقِ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الْجِيَفَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ يَأْكُلُ الْجِيَفَ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مُحَرَّمًا. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْخُطَّافِ وَالْخُشَّافِ وَالْخُفَّاشِ] (7793) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ الْخُطَّافُ وَالْخُشَافُ وَالْخُفَّاشُ وَهُوَ الْوَطْوَاطُ. قَالَ الشَّاعِرُ: مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ قَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ يَأْكُلُ الْخُشَّافَ؟ وَسُئِلَ عَنْ الْخُطَّافِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كُلُّ الطَّيْرِ حَلَالٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 إلَّا الْخُفَّاشَ. وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ، لَا تَسْتَطِيبُهَا الْعَرَبُ، وَلَا تَأْكُلُهَا. وَيَحْرُمُ الزَّنَابِيرُ، وَالْيَعَاسِيبُ، وَالنَّحْلُ، وَأَشْبَاهُهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ، غَيْرُ مُسْتَطَابَةٍ. (7794) فَصْلٌ: وَمَا عَدَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، مِنْ ذَلِكَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . وَمِنْ الصُّيُودِ الظِّبَاءُ، وَحُمُرُ الْوَحْشِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا قَتَادَةَ وَأَصْحَابَهُ بِأَكْلِ الْحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ. وَكَذَلِكَ بَقَرُ الْوَحْشِ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، مِنْ الْإِبِلِ، وَالتَّيْتَلِ، وَالْوَعْلِ، وَالْمَهَا، وَغَيْرِهَا مِنْ الصُّيُودِ، كُلُّهَا مُبَاحَةٌ، وَتُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ. وَيُبَاحُ النَّعَامُ، وَقَدْ قَضَى الصَّحَابَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ قَالَ إنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ إذَا أَنِسَ وَاعْتَلَفَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا ظَنَنْت أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدِي كَمَا قَالَ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الظِّبَاءَ إذَا تَأَنَّسَتْ لَمْ تَحْرُمْ، وَالْأَهْلِيُّ إذَا تَوَحَّشَ لَمْ يَحِلَّ، وَلَا يَتَغَيَّرُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ أَصْلِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ عَطَاءٌ، فِي حِمَارِ الْوَحْشِ: إذَا تَنَاسَلَ فِي الْبُيُوتِ، لَا تَزُولُ عَنْهُ أَسْمَاءُ الْوَحْشِ. وَسَأَلُوا أَحْمَدَ عَنْ الزَّرَافَةِ تُؤْكَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهِيَ دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْبَعِيرَ، إلَّا أَنَّ عُنُقَهَا أَطُولُ مِنْ عُنُقِهِ، وَجِسْمَهَا أَلْطَفُ مِنْ جِسْمِهِ، وَأَعْلَى مِنْهُ، وَيَدَاهَا أَطْوَلُ مِنْ رِجْلَيْهَا. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ] (7795) فَصْلٌ: وَتُبَاحُ لُحُومُ الْخَيْلِ كُلُّهَا عِرَابُهَا وَبَرَاذِينُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ. وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا أَكَلْت شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ مَعْرَفَةِ بِرْذَوْنٍ. وَحَرَّمَهَا أَبُو حَنِيفَةَ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] وَعَنْ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَرَامٌ عَلَيْكُمْ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، وَخَيْلُهَا، وَبِغَالُهَا. وَلِأَنَّهُ دُونِ حَافِرٍ، فَأَشْبَهَ الْحِمَارَ.» وَلَنَا، قَوْلُ جَابِرٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» . وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: «نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلْنَاهُ، وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ مُسْتَطَابٌ، لَيْسَ بِذِي نَابٍ وَلَا مِخْلَبٍ، فَيَحِلُّ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمُبِيحَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُونَ بِدَلِيلِ خِطَابِهَا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَحَدِيثُ خَالِدٍ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. قَالَهُ أَحْمَدُ. قَالَ: وَفِيهِ رَجُلَانِ لَا يُعْرَفَانِ، يَرْوِيهِ ثَوْرٌ عَنْ رَجُلٍ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ. وَقَالَ: لَا نَدَعُ أَحَادِيثَنَا لِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُنْكَرِ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْأَرْنَبِ] (7796) فَصْلٌ: وَالْأَرْنَبُ مُبَاحَةٌ، أَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَائِلًا بِتَحْرِيمِهَا، إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتهَا، فَجِئْت بِهَا إلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا - أَوْ قَالَ - فَخِذِهَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبِلَهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ، أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، «أَنَّهُ قَالَ: صِدْت أَرْنَبَيْنِ، فَذَبَحْتهمَا بِمَرْوَةِ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا حَيَوَانٌ مُسْتَطَابٌ، لَيْسَ بِذِي نَابٍ؛ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ. (7797) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ الْوَبَرُ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُحَرَّمٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، إلَّا أَبَا يُوسُفَ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَرْنَبِ، يَعْتَلِفُ النَّبَاتَ وَالْبُقُولَ، فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَرْنَبِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَعُمُومُ النُّصُوصِ يَقْتَضِيهَا، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ تَحْرِيمٌ، فَتَجِبُ إبَاحَتُهُ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْيَرْبُوعِ] (7798) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْيَرْبُوعِ، فَرَخَّصَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُحَرَّمٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْفَأْرَ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ حَكَمَ فِيهِ بِجِفْرَةٍ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَحْرِيمٌ. وَأَمَّا السِّنْجَابُ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْهَشُ بِنَابِهِ، فَأَشْبَهَ الْجُرَذَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْيَرْبُوعَ، وَمَتَى تَرَدَّدَ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ، غَلَبَتْ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَعُمُومُ النُّصُوصِ يَقْتَضِيهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 [فَصْلٌ يُبَاحُ مِنْ الطُّيُور مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ] (7799) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ مِنْ الطُّيُورِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، مِنْ ذَلِكَ الدَّجَاجُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الدَّجَاجَ. وَالْحُبَارَى؛ لِمَا رَوَى سَفِينَةُ، قَالَ: أَكَلْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حُبَارَى.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُبَاحُ الزَّاغُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَيُبَاحُ غُرَابُ الزَّرْعِ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَأْكُلُ الزَّرْعَ، وَيَطِيرُ مَعَ الزَّاغِ؛ لِأَنَّ مَرْعَاهُمَا الزَّرْعُ وَالْحُبُوبُ، فَأَشْبَهَا الْحَجَلَ. وَتُبَاحُ الْعَصَافِيرُ كُلُّهَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ إنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهَا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا وَيَرْمِي بِهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَيُبَاحُ الْحَمَامُ كُلُّهُ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، مِنْ الجوازل وَالْفَوَاخِتِ، والرقاطي وَالْقَطَا وَالْحَجَلِ، وَغَيْرِهَا، وَتُبَاحُ الْكَرَاكِيُّ، وَالْإِوَزُّ، وَطَيْرُ الْمَاءِ كُلُّهُ، وَالْغَرَانِيقُ، وَالطَّوَاوِيسُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ فَعَنْهُ أَنَّهُمَا حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ ذَوَاتِ الْمِخْلَبِ، وَلَا يُسْتَخْبَثَانِ. وَعَنْهُ تَحْرِيمُهُمَا «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ الْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ، وَالنَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ. وَكُلُّ مَا كَانَ لَا يَصِيدُ بِمِخْلَبِهِ، وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَلَا يُسْتَخْبَثُ، فَهُوَ حَلَالٌ.» [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا] (7800) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهْ لُحُومَ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانَهَا. قَالَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ ": هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْقَذَرَ، فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ، حُرُمَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا. وَفِي بَيْضِهَا رِوَايَتَانِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا الطَّاهِرَ، لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا وَلَا لَبَنُهَا. وَتَحْدِيدُ الْجَلَّالَةِ بِكَوْنِ أَكْثَرِ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ، لَمْ نَسْمَعْهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ، لَكِنَّ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ بِمَا يَكُونُ كَثِيرًا فِي مَأْكُولِهَا، وَيُعْفَى عَنْ الْيَسِيرِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إنَّمَا كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَلَّالَةَ الَّتِي لَا طَعَامَ لَهَا إلَّا الرَّجِيعُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي الْجَلَّالَةِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ لُحُومَهَا، وَالْعَمَلَ عَلَيْهَا حَتَّى تُحْبَسَ. وَرَخَّصَ الْحَسَنُ فِي لُحُومِهَا وَأَلْبَانِهَا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا تَنْجُسُ بِأَكْلِ النَّجَاسَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِ أَعْضَائِهِ، وَالْكَافِرَ الَّذِي يَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ وَالْمُحَرَّمَاتِ، لَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ نَجِسًا، وَلَوْ نَجُسَ لَمَا طَهُرَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا الِاغْتِسَالِ، وَلَوْ نَجُسَتْ الْجَلَّالَة، لَمَا طَهُرَتْ بِالْحَبْسِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ، أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا، وَلَا يُحْمَلَ عَلَيْهَا إلَّا الْأُدْمُ، وَلَا يَرْكَبَهَا النَّاسُ حَتَّى تُعْلَفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.» رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ لَحْمَهَا يَتَوَلَّدُ، مِنْ النَّجَاسَةِ، فَيَكُونُ نَجِسًا، كَرَمَادِ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ أَكْثَرَ غِذَائِهِ، وَإِنَّمَا يَتَغَذَّى الطَّاهِرَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ فِي الْغَالِبِ. (7801) فَصْلٌ: وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِحَبْسِهَا اتِّفَاقًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِهِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ؛ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثًا، سَوَاءٌ كَانَتْ طَائِرًا أَوْ بَهِيمَةً. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَرَادَ أَكْلَهَا حَبَسَهَا ثَلَاثًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّ مَا طَهَّرَ حَيَوَانًا طَهَّرَ الْآخَرَ، كَاَلَّذِي نَجُسَ ظَاهِرُهُ. وَالْأُخْرَى، تُحْبَسُ الدَّجَاجَةُ ثَلَاثًا، وَالْبَعِيرُ وَالْبَقَرَةُ وَنَحْوُهُمَا يُحْبَسُ أَرْبَعِينَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، فِي النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ جِسْمًا، وَبَقَاءُ عَلَفِهِمَا فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ بَقَائِهِ فِي الدَّجَاجَةِ وَالْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (7802) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ رُكُوبُ الْجَلَّالَةِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِحَدِيثِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رُكُوبِهَا» . وَلِأَنَّهَا رُبَّمَا عَرِقَتْ، فَتَلَوَّثَ بِعَرَقِهَا. [فَصْلٌ حُكْم الزُّرُوع وَالثِّمَار الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا] (7803) فَصْلٌ: وَتَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ، أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَحْرُمَ. وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا، فَتُطَهَّرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ لَحْمًا، وَيَصِيرُ لَبَنًا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَدْمُلُ أَرْضَهُ بِالْعُرَّةِ، وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عُرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ. وَالْعُرَّةُ: عَذِرَةُ النَّاسِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ. وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ، وَتَتَرَقَّى فِيهَا أَجْزَاؤُهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ. فَعَلَى هَذَا تَطْهُرُ إذَا سُقِيَتْ الطَّاهِرَاتِ، كَالْجَلَّالَةِ إذَا حُبِسَتْ وَأُطْعِمَتْ الطَّاهِرَاتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 [مَسْأَلَةٌ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ] (7804) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ، فَلَا يَأْكُلْ مِنْهَا إلَّا مَا يَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا فِي الِاضْطِرَارِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . وَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ بِالْإِجْمَاعِ. وَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا. وَفِي الشِّبَعِ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا، لَا يُبَاحُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الْحَسَنُ: يَأْكُلُ قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَاسْتُثْنِيَ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ؛ لِلْآيَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَهُوَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرَّ. وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ، كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِيَةُ، يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، «أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسْلَخْهَا، حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا، وَنَأْكُلَهُ. فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَك غِنًى يُغْنِيك؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: فَكُلُوهَا» . وَلَمْ يُفَرِّقْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ، جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ، كَالْمُبَاحِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً، كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ الشِّبَعُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، عَادَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ الْمَيْتَةِ، مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَيُفْضِي إلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَلَفِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً، فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ، هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إنْ تَرَكَ الْأَكْلَ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جُوعٍ، أَوْ يَخَافُ إنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ، وَانْقَطَعَ عَنْ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ الرُّكُوبِ فَيَهْلَكُ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ. [فَصْلٌ هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ] (7805) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 أَحَدُهُمَا: يَجِبُ. وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمُضْطَرِّ يَجِدُ الْمَيْتَةَ، وَلَمْ يَأْكُلْ؟ فَذَكَرَ قَوْلَ مَسْرُوقٍ: مَنْ اُضْطُرَّ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وَتَرْكُ الْأَكْلِ مَعَ إمْكَانِهِ فِي هَذَا الْحَالِ إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] . وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلَالٌ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، حَتَّى مَالَ رَأْسُهُ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَخَشُوا مَوْتَهُ، فَأَخْرَجُوهُ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي؛ لِأَنِّي مُضْطَرٌّ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتَك بِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْأَكْلِ رُخْصَةٌ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الرُّخَصِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ، وَالْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَفَارَقَ الْحَلَالَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. [فَصْلٌ تُبَاحُ أَكْلُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا] (7806) فَصْلٌ: وَتُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] . لَفْظٌ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مُضْطَرٍّ؛ وَلِأَنَّ الِاضْطِرَارَ يَكُونُ فِي الْحَضَرِ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ، وَسَبَبُ الْإِبَاحَةِ الْحَاجَةُ إلَى حِفْظِ النَّفْسِ عَنْ الْهَلَاكِ؛ لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ، وَالصِّيَانَةِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ فِي الْحَالَيْنِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ ضَرُورَتِهِ بِالْمَسْأَلَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَكْلُ الْمَيْتَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي السَّفَرِ. يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْحَضَرِ يُمْكِنُهُ السُّؤَالُ. وَهَذَا مِنْ أَحْمَدَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْحَضَرَ يُوجَدُ فِيهِ الطَّعَامُ الْحَلَالُ، وَيُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِالسُّؤَالِ، وَلَكِنَّ الضَّرُورَةَ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَظِنَّةِ، بَلْ مَتَى وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ أَبَاحَتْ، سَوَاءٌ وُجِدَتْ الْمَظِنَّةُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَمَتَى انْتَفَتْ، لَمْ يُبَحْ الْأَكْلُ لِوُجُودِ مَظِنَّتِهَا بِحَالٍ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ] فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ، كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْآبِقِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . قَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 جُبَيْرٍ: إذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ، فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ. (7808) فَصْلٌ: وَهَلْ لِلْمُضْطَرِّ التَّزَوُّدُ مِنْ الْمَيْتَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ أَصَحُّهُمَا: لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي اسْتِصْحَابِهَا، وَلَا فِي إعْدَادِهَا لِدَفْعِ ضَرُورَتِهِ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا إلَّا عِنْدَ ضَرُورَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَوَسُّعٌ فِيمَا لَمْ يُبَحْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ اسْتَصْحَبَهَا، فَلَقِيَهُ مُضْطَرٌّ آخَرُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مِنْهَا مَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَيَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الْآخَرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مُضْطَرًّا فِي الْحَالِ إلَى مَا مَعَهُ؛ لِأَنَّ ضَرُورَةَ الَّذِي لَقِيَهُ مَوْجُودَةٌ، وَحَامِلُهَا يَخَافُ الضَّرَرَ فِي ثَانِي الْحَالِ. [مَسْأَلَةٌ مَرَّ بِثَمَرَةٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَا يَحْمِلَ] (7809) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ مَرَّ بِثَمَرَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَلَا يَحْمِلَ) هَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ فِي حَالِ الْجُوعِ وَالْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ عَقِيبَ مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حَائِطٌ، يَأْكُلُ إذَا كَانَ جَائِعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ جَائِعًا، فَلَا يَأْكُلُ. وَقَالَ: قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ، لَمْ يَأْكُلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ شِبْهَ الْحَرِيمِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: إنَّمَا الرُّخْصَةُ لِلْمُسَافِرِ. إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ هَاهُنَا حَقِيقَةَ الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ الِاضْطِرَارَ يُبِيحُ مَا وَرَاءَ الْحَائِطِ. وَرُوِيَتْ عَنْهُ الرُّخْصَةُ فِي الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ الْمَحُوطَةِ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ جُوعٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي زَيْنَبَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: سَافَرْت مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَأَبِي بُرْدَةَ، فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِالثِّمَارِ، فَيَأْكُلُونَ فِي أَفْوَاهِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بُرْدَةَ. قَالَ عُمَرُ: يَأْكُلُ، وَلَا يَتَّخِذُ خُبْنَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: يَأْكُلُ مِمَّا تَحْتَ الشَّجَرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الشَّجَرِ فَلَا يَأْكُلُ ثِمَارَ النَّاسِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ. وَلَا يَضْرِبُ بِحَجَرٍ، وَلَا يَرْمِي؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْسِدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْت أَرْمِي نَخْلَ الْأَنْصَارِ، فَأَخَذُونِي، فَذَهَبُوا بِي إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «يَا رَافِعُ، لِمَ تَرْمِي نَخْلَهُمْ؟» . قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْجُوعُ. قَالَ: «لَا تَرْمِ، وَكُلْ مَا وَقَعَ، أَشْبَعَكَ اللَّهُ وَأَرْوَاكَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ فِي الضَّرُورَةِ؛ لِمَا رَوَى الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ، إذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ.» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: «مَا أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَتَيْت عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ فَنَادِ صَاحِبَ الْبُسْتَانِ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَك، وَإِلَّا فَكُلْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ» . وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ،. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَى سَعْدٌ أَنْ يَأْكُلَ؟ قُلْنَا: امْتِنَاعُ سَعْدٍ مِنْ أَكْلِهِ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ غِنًى عَنْهُ، أَوْ تَوَرُّعًا، أَوْ تَقَذُّرًا، كَتَرْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْلَ الضَّبِّ. فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ كَانَتْ مَحُوطَةً، لَمْ يَجُزْ الدُّخُولُ إلَيْهَا؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ كَانَ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَهُوَ حَرِيمٌ، فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حَائِطٌ، فَلَا بَأْسَ. وَلِأَنَّ إحْرَازَهُ بِالْحَائِطِ يَدُلُّ عَلَى شُحِّ صَاحِبِهِ بِهِ، وَعَدَمِ الْمُسَامَحَةِ فِيهِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَاطُورٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحُوطِ، فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَيْهِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ إلَّا فِي الضَّرُورَةِ. [فَصْلٌ الْأَكْلُ مِنْ زَرْعِ الْغَيْرِ] (7810) فَصْلٌ: وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْأَكْلِ مِنْ الزَّرْعِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: قَالَ لَا: يَأْكُلُ، إنَّمَا رُخِّصَ فِي الثِّمَارِ، لَيْسَ الزَّرْعِ. وَقَالَ: مَا سَمِعْنَا فِي الزَّرْعِ أَنْ يُمَسَّ مِنْهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الثِّمَارَ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَكْلِ رَطْبَةً، وَالنُّفُوسُ تَتُوقُ إلَيْهَا، وَالزَّرْعُ بِخِلَافِهَا. وَالثَّانِيَةُ: قَالَ: يَأْكُلُ مِنْ الْفَرِيكِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَكْلِهِ رَطْبًا، أَشْبَهَ الثَّمَرَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَاقِلَا، وَالْحِمَّصِ، وَشِبْهِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ رَطْبًا. فَأَمَّا الشَّعِيرُ، وَمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ: فَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ. وَالْأَوْلَى فِي الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهَا إلَّا بِإِذْنٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّحْرِيمِ. [فَصْلٌ حُكْمُ حَلْبِ لَبَنِ مَاشِيَةِ الْغَيْرِ] (7811) فَصْلٌ: وَعَنْ أَحْمَدَ فِي حَلْبِ لَبَنِ الْمَاشِيَةِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِبَ، وَيَشْرَبَ، وَلَا يَحْمِلَ؛ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا، فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ فَلْيَحْلِبْ، وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ، فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَلْيَحْلِبْ، وَلْيَشْرَبْ، وَلَا يَحْمِلْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِبَ وَلَا يَشْرَبَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ، فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ، فَلَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنَّ مَا فِي ضُرُوعِ مَوَاشِيهِمْ مِثْلَ مَا فِي مَشَارِبِهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ اُضْطُرَّ فَأَصَابَ الْمَيْتَةَ وَخُبْزًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ اُضْطُرَّ، فَأَصَابَ الْمَيْتَةَ وَخُبْزًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ) وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ، أَكَلَ مِنْ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ، وَإِنْ خَافَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، أَوْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَأْكُلُ الطَّعَامَ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ. وَلَنَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَالَ الْآدَمِيِّ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالْعُدُولُ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتُهُ، وَحَقَّ اللَّهِ لَا عِوَضَ لَهُ. (7813) . فَصْلٌ: إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَنْ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا الْعُدُولُ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ يَسُمَّهُ فِيهِ، أَوْ يَكُونَ الطَّعَامُ الَّذِي يُطْعَمُهُ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَيَخَافُ أَنْ يُهْلِكَهُ أَوْ يُمْرِضَهُ. (7814) . فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ طَعَامًا مَعَ صَاحِبِهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ لَهُ، أَوْ بَيْعِهِ مِنْهُ، وَوَجَدَ ثَمَنَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مُكَابَرَتُهُ عَلَيْهِ، وَأَخْذُهُ مِنْهُ، وَعَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ كَانَ قَوِيًّا يَخَافُ مِنْ مُكَابَرَتِهِ التَّلَفَ أَوْ لَمْ يَخَفْ، فَإِنْ بَذَلَهُ لَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، وَقَدَرَ عَلَى الثَّمَنِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى طَعَامٍ حَلَالٍ. وَإِنْ بَذَلَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، لَا يُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الثَّمَنِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَادِمِ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ إلَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَاشْتَرَاهُ الْمُضْطَرُّ بِذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أَحْوَجُ إلَى بَدَلِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَالْمُكْرَهِ. [فَصْلٌ وَجَدَ الْمُحْرِمُ مَيْتَةً وَصَيْدًا] (7815) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ مَيْتَةً وَصَيْدًا، أَكَلَ الْمَيْتَةَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَأْكُلُ الصَّيْدَ، وَيَفْدِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُهُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ؛ لِغِنَاهُ عَنْهَا. وَلَنَا أَنَّ إبَاحَةَ الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَإِبَاحَةَ الصَّيْدِ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، وَتَقْدِيمُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَيْتَةً، ذَبَحَ الصَّيْدَ وَأَكَلَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ عَيْنًا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ فِي الصَّيْدِ تَحْرِيمَاتٍ ثَلَاثًا؛ تَحْرِيمَ قَتْلِهِ، وَأَكْلِهِ، وَتَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ يَكُونُ مَيْتَةً، فَقَدْ سَاوَى الْمَيْتَةَ فِي هَذَا، وَفُضِّلَ عَلَيْهَا بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْأَكْلِ، وَلَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: إنَّ الشَّارِعَ إذَا أَبَاحَ لَهُ ذَبْحَهُ، لَمْ يَصِرْ مَيْتَةً. وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَيْتَةَ فَذَبَحَهُ، كَانَ ذَكِيًّا طَاهِرًا، وَلَيْسَ بِنَجَسٍ وَلَا مَيْتَةٍ؛ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ فِي حِلِّ الذَّبْحِ، وَتُعْتَبَرُ شُرُوطُ الذَّكَاةِ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَلَوْ كَانَ مَيْتَةً لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. (7816) فَصْلٌ: وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ ذَكِيٌّ لَا حَقَّ فِيهِ لِآدَمِيٍّ سِوَاهُ، فَأُبِيحَ لَهُ الشِّبَعُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ حَلَالٌ مِنْ أَجْلِهِ. (7817) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمُضْطَرُّ شَيْئًا، لَمْ يُبَحْ لَهُ أَكْلُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْجُمْلَةَ بِقَطْعِ عُضْوٍ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ الْأَكِلَةُ. وَلَنَا أَنَّ أَكْلَهُ مِنْ نَفْسِهِ رُبَّمَا قَتَلَهُ، فَيَكُونُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، وَلَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الْبَقَاءِ بِأَكْلِهِ. أَمَّا قَطْعُ الْأَكِلَةِ: فَإِنَّهُ يُخَافُ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ الْعُضْوِ، فَأُبِيحَ لَهُ إبْعَادُهُ، وَدَفْعُ ضَرَرِهِ الْمُتَوَجِّهِ مِنْهُ بِتَرْكِهِ، كَمَا أُبِيحَ قَتْلُ الصَّائِلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَحْ لَهُ قَتْلُهُ لِيَأْكُلَهُ. [فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ الْمُضْطَرُّ إلَّا آدَمِيًّا مَحْقُونَ الدَّمِ] (7818) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا آدَمِيًّا مَحْقُونَ الدَّمِ، لَمْ يُبَحْ لَهُ قَتْلُهُ إجْمَاعًا، وَلَا إتْلَافُ عُضْوٍ مِنْهُ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْقِيَ نَفْسَهُ بِإِتْلَافِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ، كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَذَكَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 الْقَاضِي أَنَّ لَهُ قَتْلَهُ وَأَكْلَهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ. وَهَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ. وَإِنْ وَجَدَهُ مَيِّتًا، أُبِيحَ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ أَكْلَهُ مُبَاحٌ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنْ وَجَدَ مَعْصُومًا مَيِّتًا، لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ. فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُبَاحُ. وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد: أَبَاحَ الشَّافِعِيُّ أَكْلَ لُحُومِ الْأَنْبِيَاءِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ، كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» . وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ لَهُ أَكْلَهُ. وَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ اللَّحْمِ لَا مِنْ الْعَظْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْحُرْمَةِ، لَا فِي مِقْدَارِهَا؛ بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الضَّمَانِ وَالْقِصَاصِ وَوُجُوبِ صِيَانَةِ الْحَيِّ بِمَا لَا يَجِبُ بِهِ صِيَانَةُ الْمَيِّتِ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يُصِبْ إلَّا طَعَامًا لَمْ يَبِعْهُ مَالِكُهُ الْمُضْطَرُّ] (7819) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْ إلَّا طَعَامًا لَمْ يَبِعْهُ مَالِكُهُ، أَخَذَهُ قَهْرًا لِيُحْيِيَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَعْطَاهُ ثَمَنَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِصَاحِبِهِ مِثْلُ ضَرُورَتِهِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ، فَلَمْ يَجِدْ إلَّا طَعَامًا لِغَيْرِهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَاوَاهُ فِي الضَّرُورَةِ، وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَحَدٌ فَمَاتَ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ، لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ، فَلَزِمَهُ بَذْلُهُ لَهُ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَنَافِعِهِ فِي إنْجَائِهِ مِنْ الْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُهُ، كَغَيْرِ مَالِهِ، فَإِنْ اُحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إلَى قِتَالٍ، فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ آلَ أَخْذُهُ إلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ، فَأَشْبَهَ الصَّائِلَ، إلَّا أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِشِرَاءٍ أَوْ اسْتِرْضَاءٍ، فَلَيْسَ لَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ دُونَهَا، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ لَهُ قِتَالَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِدُونِهَا. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَمَنُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِقِيمَتِهِ، وَيَلْزَمُهُ عِوَضُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَلَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ مَالِ أَخِيهِ، إلَّا مَا يُبَاحُ مِنْ الْمَيْتَةِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِأَحَدِنَا مِنْ مَالِ أَخِيهِ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ؟ قَالَ: «يَأْكُلُ وَلَا يَحْمِلُ، وَيَشْرَبُ وَلَا يَحْمِلُ.» [فَصْلٌ اشْتَدَّتْ الْمَخْمَصَةُ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ] (7820) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَدَّتْ الْمَخْمَصَةُ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ، وَأَصَابَتْ الضَّرُورَةُ خَلْقًا كَثِيرًا، أَوْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الضَّرُورَةِ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُهَا عَنْهُمْ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ مَا مَعَهُ لِلْمُضْطَرِّينَ. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ لَا يَتَضَرَّرُ بِدَفْعِ مَا مَعَهُ إلَيْهِمْ، فِي أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي الْحَالِ، وَالْآخَرُ مُضْطَرٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا مُفْضٍ بِهِ إلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ، وَهَلَاكِ عِيَالِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ إنْجَاءُ الْغَرِيقِ بِتَغْرِيقِ نَفْسِهِ. وَلِأَنَّ فِي بَذْلِهِ إلْقَاءً بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ وَالضَّبُعِ لِلْمُضْطَرِّ] (7821) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ وَالضَّبُعِ) أَمَّا الضَّبُّ: فَإِنَّهُ مُبَاحٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَنْ يُهْدَى إلَى أَحَدِنَا ضَبٌّ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ دَجَاجَةٍ. وَقَالَ عُمَرُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَكَانَ كُلِّ ضَبٍّ دَجَاجَةٌ سَمِينَةٌ، وَلَوَدِدْت أَنَّ فِي كُلِّ جُحْرِ ضَبٍّ ضَبَّيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ حَرَامٌ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ؛ وَلِأَنَّهُ يَنْهَشُ، فَأَشْبَهَ ابْنَ عِرْسٍ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْت أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَقِيلَ: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْت: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْته فَأَكَلْته، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضَّبَّ تَقَذُّرًا، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ عُمَرُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يُحَرِّمْ الضَّبَّ، وَلَكِنَّهُ قَذِرَهُ» ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي لَأَكَلْته. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُحَرِّمُ، فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهْيٌ وَلَا تَحْرِيمٌ؛ وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (7822) فَصْلٌ: فَأَمَّا الضَّبُعُ: فَرُوِيَتْ الرُّخْصَةُ فِيهَا عَنْ سَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ عُرْوَةُ: مَازَالَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُ الضَّبُعَ وَلَا تَرَى بِأَكْلِهَا بَأْسًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ: هُوَ حَرَامٌ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ السِّبَاعِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. وَهِيَ مِنْ السِّبَاعِ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ، فَقَالَ: «وَمَنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ؟» . وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِ الضَّبُعِ. قُلْت: صَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الضَّبُعِ. فَقَالَ: «هُوَ صَيْدٌ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ. قُلْنَا: هَذَا تَخْصِيصٌ لَا مُعَارِضٌ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي التَّخْصِيصِ كَوْنُ الْمُخَصَّصِ فِي رُتْبَةِ الْمُخَصِّصِ؛ بِدَلِيلِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: " وَمَنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ؟ " فَحَدِيثٌ طَوِيلٌ، يَرْوِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ، يَنْفَرِدُ بِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَلِأَنَّ الضَّبُعَ قَدْ قِيلَ: إنَّهَا لَيْسَ لَهَا نَابٌ. وَسَمِعْت مَنْ يَذْكُرُ أَنَّ جَمِيعَ أَسْنَانِهَا عَظْمٌ وَاحِدٌ كَصَفْحَةِ نَعْلِ الْفَرَسِ. فَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ أَكْلِ التِّرْيَاقِ] (7823) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ التِّرْيَاقُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ لُحُومُ الْحَيَّاتِ) التِّرْيَاقُ: دَوَاءٌ يُتَعَالَجُ بِهِ مِنْ السُّمِّ، وَيُجْعَلُ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الْحَيَّاتِ، فَلَا يُبَاحُ أَكْلُهُ وَلَا شُرْبُهُ؛ لِأَنَّ لَحْمَ الْحَيَّةِ حَرَامٌ. وَمِمَّنْ كَرِهَهُ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَرَخَّصَ فِيهِ الشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ يَرَى إبَاحَةَ لُحُومِ الْحَيَّاتِ. وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِإِبَاحَتِهِ التَّدَاوِيَ بِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلَنَا أَنَّ لَحْمَ الْحَيَّاتِ حَرَامٌ، بِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِمُحَرَّمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا.» [فَصْلٌ التَّدَاوِي بِمُحَرَّمٍ] (7824) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِمُحَرَّمٍ، وَلَا بِشَيْءٍ فِيهِ مُحَرَّمٌ، مِثْلِ أَلْبَانِ الْأُتُنِ، وَلَحْمِ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا شُرْبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي بِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ لَهُ النَّبِيذُ يُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: «إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي فِيهَا الدُّودُ وَالسُّوسُ] (7825) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي فِيهَا الدُّودُ وَالسُّوسُ، كَالْفَوَاكِهِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْحُبُوبِ، وَالْخَلِّ إذَا لَمْ تَقْذَرْهُ نَفْسُهُ، وَطَابَتْ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ ذَلِكَ يَشُقُّ. وَيَجُوزُ أَكْلُ الْعَسَلِ بِقَشِّهِ وَفِيهِ فِرَاخٌ؛ لِذَلِكَ، وَإِنْ نَقَّاهُ فَحَسَنٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أُتِيَ بِتَمْرٍ عَتِيقٍ، فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ، وَيُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ، وَيُنَقِّيهِ. وَهَذَا أَحْسَنُ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ إذَا رُمِيَ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ] (7826) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ إذَا رُمِيَ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ إذَا عُلِمَ أَنَّ السُّمَّ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا قَتَلَهُ السُّمُّ مُحَرَّمٌ، وَمَا قَتَلَهُ السَّهْمُ وَحْدَهُ مُبَاحٌ، فَإِذَا مَاتَ بِسَبَبٍ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ، حَرُمَ، كَمَا لَوْ مَاتَ بِرَمْيَةِ مُسْلِمٍ وَمَجُوسِيٍّ، أَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ كَلْبٌ مُعَلَّمٌ وَغَيْرُهُ، أَوْ وَجَدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا لَا يَعْرِفُ، أَوْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ، فَوَجَدَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، أَوْ وَطِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ السُّمَّ لَمْ يُعِنْ عَلَى قَتْلِهِ؛ لِكَوْنِ السَّهْمِ أَوْحَى مِنْهُ، فَهُوَ مُبَاحٌ، لِانْتِفَاءِ الْمُحَرِّمِ. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ مَا كَانَ مَأْوَاهُ الْبَحْرُ وَهُوَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ] (7827) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا كَانَ مَأْوَاهُ الْبَحْرُ، وَهُوَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، لَمْ يُؤْكَلْ إذَا مَاتَ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ) كُلُّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ، لَا يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، كَطَيْرِ الْمَاءِ، وَالسُّلَحْفَاةِ، وَكَلْبِ الْمَاءِ، إلَّا مَا لَا دَمَ فِيهِ، كَالسَّرَطَانِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ. قَالَ أَحْمَدُ: السَّرَطَانُ لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ لَهُ: يُذْبَحُ؟ قَالَ: لَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الذَّبْحِ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ مِنْهُ، وَتَطْيِيبُ اللَّحْمِ بِإِزَالَتِهِ عَنْهُ، فَمَا لَا دَمَ فِيهِ، لَا حَاجَةَ إلَى ذَبْحِهِ. وَأَمَّا سَائِرُ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَحِلُّ إلَّا أَنْ يُذْبَحَ. قَالَ أَحْمَدُ: كَلْبُ الْمَاءِ يَذْبَحُهُ، وَلَا أَرَى بَأْسًا بِالسُّلَحْفَاةِ إذَا ذَبَحَ، وَالرَّقُّ يَذْبَحُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَحِلُّ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، فَأُبِيحَ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ كَالسَّمَكِ وَالسَّرَطَانِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلُّ مَا فِي الْبَحْرِ قَدْ ذَكَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ شُرَيْحٍ رَجُلٍ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ «كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ.» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ ذَبَحَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ لِابْنِ آدَمَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 وَلَنَا أَنَّهُ حَيَوَانٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، فَلَمْ يُبَحْ بِغَيْرِ ذَبْحٍ، كَالطَّيْرِ، وَلَا خِلَافَ فِي الطَّيْرِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، وَالْأَخْبَارُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَحْرِ، كَالسَّمَكِ وَشِبْهِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ تَذْكِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْمَاءِ، وَإِذَا خَرَجَ مَاتَ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ مَا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ] (7828) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، كَالسَّمَكِ وَشِبْهِهِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ» . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابَهُ وَجَدُوا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ دَابَّةً، يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، مَيِّتَةً، فَأَكَلُوا مِنْهَا شَهْرًا حَتَّى سَمِنُوا، وَادَّهَنُوا، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ تُطْعِمُونَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (7829) فَصْلٌ: وَكُلُّ صَيْدِ الْبَحْرِ مُبَاحٌ، إلَّا الضُّفْدَعَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَكَلَ أَهْلِي الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ مَا فِي الْبَحْرِ قَدْ ذَكَّاهُ اللَّهُ لَكُمْ. وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ صَيْدِهِ. وَرَوَى عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُمَا بَلَغَهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ ذَبَحَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ لِابْنِ آدَمَ» . فَأَمَّا الضُّفْدَعُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَأَمَّا التِّمْسَاحُ: فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ اشْتَهَاهُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُؤْكَلُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْكَوْسَجُ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ النَّاسَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَحْرِ، كَمَا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَرِّ. وَذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ: مَا حَرُمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ، فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْبَحْرِ، كَكَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ وَإِنْسَانِهِ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، إلَّا فِي كَلْبِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَرَى إبَاحَةَ كَلْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُبَاحُ إلَّا السَّمَكُ. قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَا فِي الْبَحْرِ مُبَاحٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ كَلْبِ الْمَاءِ] (7830) فَصْلٌ: وَكَلْبُ الْمَاءِ مُبَاحٌ، وَرَكِبَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَرْجًا عَلَيْهِ جِلْدٌ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ. وَيَقْتَضِيهِ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَلَا يُبَاحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ النَّجَّادِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ كَلْبِ الْمَاءِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، سَمِعَا شُرَيْحًا - رَجُلٌ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ مَذْبُوحٌ» . قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءٍ، فَقَالَ: أَمَّا الطَّيْرُ فَنَذْبَحُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَلْبُ الْمَاءِ نَذْبَحُهُ. (7831) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ الْجَرْيُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، وَكَيْفَ لَنَا بِالْجَرِيِّ؟ وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ. وَوَافَقَهُمْ الرَّافِضَةُ، وَمُخَالَفَتُهُمْ صَوَابٌ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ السَّمَكَةِ تُوجَدُ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ أُخْرَى] (7832) فَصْلٌ: وَعَنْ أَحْمَدَ فِي السَّمَكَةِ تُوجَدُ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ أُخْرَى، أَوْ حَوْصَلَةِ طَائِرٍ، أَوْ يُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهِ جَرَادٌ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: كُلُّ شَيْءٍ أُكِلَ مَرَّةً لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: الطَّافِي أَشَدُّ مِنْ هَذَا، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ، دُونَ مَا فِي حَوْصَلَةِ الطَّائِرِ؛ لِأَنَّهُ كَالرَّجِيعِ، وَرَجِيعُ الطَّائِرِ عِنْدَهُ نَجِسٌ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فِي مَحَلٍّ طَاهِرٍ، لَا تُعْتَبَرُ لَهُ ذَكَاةٌ، فَأُبِيحَ، كَالطَّافِي فِي السَّمَكِ. وَهَكَذَا يُخَرَّجُ فِي الشَّعِيرِ يُوجَدُ فِي بَعْرِ الْجَمَلِ، أَوْ خِثْيِ الْجَوَامِيسِ، وَنَحْوِهَا. [مَسْأَلَةٌ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ] (7833) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ، كَالدُّهْنِ وَمَا أَشْبَهَهُ، نَجِسَ، وَاسْتَصْبَحَ بِهِ إنْ أَحَبَّ، وَلَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ وَلَا ثَمَنُهُ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، نَجَّسَتْهُ وَإِنْ كَثُرَ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ إذَا كَثُرَ. قَالَ حَرْبٌ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ كَلْبٍ وَلَغَ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ؟ قَالَ: إذَا كَانَ فِي آنِيَةٍ كَبِيرَةٍ، مِثْلِ حُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ، رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، يُؤْكَلُ، وَإِذَا كَانَ فِي آنِيَةٍ صَغِيرَةٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُؤْكَلَ. وَسُئِلَ عَنْ كَلْبٍ وَقَعَ فِي خَلٍّ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، فَخَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ؟ فَقَالَ: هَذَا أَسْهَلُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ. وَعَنْهُ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: مَا أَصْلُهُ الْمَاءُ كَالْخَلِّ التَّمْرِيِّ، يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَثُرَ، وَمَا لَيْسَ أَصْلُهُ الْمَاءَ، لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي خَلٍّ أَوْ دِبْسٍ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْخَلُّ فَأَصْلُهُ الْمَاءُ، يَعُودُ إلَى أَنْ يَكُونَ مَاءً إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ: إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَخُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، فَأَلْقُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا، فَلَا تَقْرَبُوهُ» . وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِطَهُورٍ، فَلَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَحُكْمُ الْجَامِدِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ سَفِينَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ» . وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَلَنَا أَنَّهُ زَيْتٌ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَجَازَ، كَالطَّاهِرِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ، أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ. وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ، وَلَا هُوَ مِنْ شُحُومِهَا، فَيَتَنَاوَلَهُ الْخَبَرُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَسْتَصْبِحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمَسُّهُ، وَلَا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إلَيْهِ؛ إمَّا أَنْ يَجْعَلَ الزَّيْتَ فِي إبْرِيقٍ لَهُ بُلْبُلَةٌ، وَيَصُبَّ مِنْهُ فِي الْمِصْبَاحِ، وَلَا يَمَسَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَعَ عَلَى رَأْسِ الْجَرَّةِ الَّتِي فِيهَا الزَّيْتُ سِرَاجًا مَثْقُوبًا، أَوْ قِنْدِيلًا فِيهِ ثَقْبٌ، وَيُطَيِّنَهُ عَلَى رَأْسِ إنَاءِ الزَّيْتِ، أَوْ يُشَمِّعَهُ، وَكُلَّمَا نَقَصَ زَيْتُ السِّرَاجِ صَبَّ فِيهِ مَاءً، بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ الزَّيْتُ، فَيَمْلَأُ السِّرَاجَ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ، وَقَالَ: يُجْعَلُ مِنْهُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ. وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ. وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا، وَقَالَ: إنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا، شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ، فَعَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ، كُلُّ انْتِفَاعٍ يُفْضِي إلَى تَنْجِيسِ إنْسَانٍ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إلَى ذَلِكَ جَازَ. فَأَمَّا أَكْلُهُ: فَلَا إشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقْرَبُوهُ» . وَلِأَنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ. وَأَمَّا بَيْعُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَحْرِيمُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا، حَرَّمَ ثَمَنَهُ» . وَقَالَ أَبُو مُوسَى: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ، وَلَا تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَبَيِّنُوهُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً، أَنَّهُ يُبَاعُ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَجَمَّلُوهَا، وَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَوْنُهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، لَا يُجَوِّزُ لَنَا بَيْعَهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. [فَصْلٌ حُكْمُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ وَشَحْمِ الْخِنْزِيرِ] (7834) فَصْلٌ: فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ، وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ، فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِاسْتِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ وَلَا الْجُلُودُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هِيَ حَرَامٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (7835) . فَصْلٌ: إذَا اُسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ، فَدُخَانُهُ نَجَسٌ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ. فَإِنْ عَلِقَ، بِشَيْءٍ، وَكَانَ يَسِيرًا، عُفِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 [فَصْلٌ خَبَّازٌ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ] فَصْلٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا، فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ، فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَا يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ، تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَيُطْعِمُهُ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَلَا يُطْعِمُ مَا يُؤْكَلُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. عَلَى مَعْنَى الْجَلَّالَةِ. قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ؟» . قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، إنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، يُطْعَمُ النَّاضِحَ وَالرَّقِيقَ؟ قَالَ: هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي، لَا يُطْعَمُ الرَّقِيقَ، لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ. قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ صَخْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَطْعِمُوهُ النَّوَاضِحَ» . (7837) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرَى أَنْ يُطْعِمَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ الْمَيْتَةَ، وَلَا الطَّيْرَ الْمُعَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَضْرِيهِ عَلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ، فَلَا أَرَى صَاحِبَهُ حَرِجًا. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ إذَا صَادَ وَقَتَلَ أَكَلَ مِنْهُ، لِتَضْرِيَتِهِ بِإِطْعَامِهِ الْمَيْتَةَ. وَلَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ إطْعَامَ كَلْبِهِ وَطَيْرِهِ الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، إذَا كَانَ لَا يَشْرَبُ فِي إنَائِهِ. [فَصْلٌ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الطِّينِ] (7838) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ أَكْلَ الطِّينِ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ حَدِيثٌ، إلَّا أَنَّهُ يَضُرُّ بِالْبَدَنِ، وَيُقَالُ: إنَّهُ رَدِيءٌ، وَتَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ أَكْلِهِ. وَإِنَّمَا كَرِهَهُ أَحْمَدُ لِأَجْلِ مَضَرَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْهُ مَا يُتَدَاوَى بِهِ كَالطِّينِ، الْأَرْمَنِيِّ، فَلَا يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ وَلَا نَفْعَ، كَالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، جَازَ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كُرِهَ مَا يَضُرُّ، وَهُوَ مُنْتَفٍ هَاهُنَا، فَلَمْ يُكْرَهْ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَالْفُجْلِ] (7839) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَكْلُ الْبَصَلِ، وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، وَالْفُجْلِ، وَكُلِّ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ، مِنْ أَجْلِ رَائِحَتِهِ، سَوَاءٌ أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يُرِدْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَإِنْ أَكَلَهُ لَمْ يَقْرَبْ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 الشَّجَرَتَيْنِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَيْسَ أَكْلُهَا مُحَرَّمًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إلَيْهِ بِطَعَامٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيهِ الثُّومُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ: «كُلْ الثُّومَ، فَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِينِي لَأَكَلْته» . وَإِنَّمَا مُنِعَ أَكْلُهَا لِئَلَّا يُؤْذِيَ النَّاسَ بِرَائِحَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ أَتَى الْمَسَاجِدَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: «أَكَلْت ثُومًا، وَأَتَيْت مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُبِقْت بِرَكْعَةٍ، فَلَمَّا دَخَلْت الْمَسْجِدَ، وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِيحَ الثُّومِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبْنَا حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا. فَجِئْت، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لِتُعْطِنِي يَدَك. قَالَ: فَأَدْخَلْت يَدَهُ فِي كُمِّ قَمِيصِي إلَى صَدْرِي، فَإِذَا أَنَا مَعْصُوبُ الصَّدْرِ، فَقَالَ: إنَّ لَك عُذْرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَلِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ وَهَذَا فِيهِ أَذَاهُمْ. [فَصْلٌ حُكْمُ أَكْلِ الْغُدَّةِ وَأُذُنِ الْقَلْبِ] فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَكْلُ الْغُدَّةِ، وَأُذُنِ الْقَلْبِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّاةِ سِتًّا. وَذَكَرَ هَذَيْنِ. وَلِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُمَا وَتَسْتَخْبِثُهُمَا، وَلَا أَظُنُّ أَحْمَدَ كَرِهَهُمَا إلَّا لِذَلِكَ، لَا لِلْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَلِأَنَّ فِي الْخَبَرِ ذِكْرَ الطِّحَالِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا أَكْرَهُ مِنْهُ شَيْئًا. (7841) فَصْلٌ: وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُبْنُ؟ قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ كُلٍّ. وَسُئِلَ عَنْ الْجُبْنِ الَّذِي يَصْنَعُهُ الْمَجُوسُ؟ فَقَالَ مَا أَدْرِي، إلَّا أَنَّ أَصَحَّ حَدِيثٍ فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ عَنْ الْجُبْنِ، وَقِيلَ لَهُ: يُعْمَلُ فِيهِ الْإِنْفَحَةُ الْمَيِّتَةُ. فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ، وَكُلُوا. رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ. وَقَالَ أَلَيْسَ الْجُبْنُ الَّذِي نَأْكُلُهُ عَامَّتُهُ يَصْنَعُهُ الْمَجُوسُ؟ . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 (7842) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْجَوْزَ الَّذِي يَتَقَامَرُ بِهِ الصِّبْيَانُ، وَلَا الْبَيْضَ الَّذِي يَتَقَامَرُونَ بِهِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. [فَصْلٌ الضِّيَافَةُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا] (7843) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَالضِّيَافَةُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ، كُلُّ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ ضَيْفٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضِيفَهُ. قِيلَ إنْ ضَافَ الرَّجُلَ ضَيْفٌ كَافِرٌ يُضِيفُهُ؟ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيِّنٌ، وَلَمَّا أَضَافَ الْمُشْرِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمُشْرِكَ يُضَافُ، وَأَنَا أَرَاهُ كَذَلِكَ. وَالضِّيَافَةُ مَعْنَاهَا مَعْنَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَالْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى طَعَامِهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُضِفْهُ. وَلَنَا مَا رَوَى الْمِقْدَامُ أَبُو كَرِيمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ وَاجِبٌ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، إنْ شَاءَ اقْتَضَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي لَفْظٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ نَصْرَهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ، يَأْخُذُ بِحَقِّهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالْوَاجِبُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالْكَمَالُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْرِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " كَأَنَّهُ أَوْكَدُ مِنْ سَائِرِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يُرِدْ يَوْمًا وَلَيْلَةً سِوَى الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ قَالَ: " وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ ". فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ إضَافَتِهِ، فَلِلضَّيْفِ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِحَقِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ أَهْلِهِ. وَعَنْهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَكْفِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَنَا. قَالَ: «إذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ، فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» . يَعْنِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْضِهِمْ وَزَرْعِهِمْ وَضَرْعِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ، بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الضِّيَافَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى دُونَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الضِّيَافَةِ، أَيَّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِيهَا؟ قَالَ هِيَ مُؤَكَّدَةٌ، وَكَأَنَّهَا عَلَى أَهْلِ الطُّرُقِ وَالْقُرَى الَّذِينَ يَمُرُّ بِهِمْ النَّاسُ أَوْكَدُ، فَأَمَّا مِثْلُنَا الْآنَ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ أُولَئِكَ. [فَصْلٌ تُكْرَهُ الْخُبْزُ الْكِبَارُ] (7844) فَصْلٌ: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قُلْت: تَكْرَهُ الْخُبْزَ الْكِبَارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَكْرَهَهُ، لَيْسَ فِيهِ بَرَكَةٌ، إنَّمَا الْبَرَكَةُ فِي الصِّغَارِ. وَقَالَ: مُرْهُمْ أَنْ لَا يَخْبِزُوا كِبَارًا. قَالَ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ. وَقَالَ مُهَنَّا: ذَكَرْت لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ» . فَقَالَ لِي يَحْيَى: مَا أَحْسَنَ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَذَكَرْت الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ فَقَالَ: مَا حَدَّثَ بِهَذَا إلَّا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْت: بَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ سُفْيَانُ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ عِنْدَ الطَّعَامِ، لِمَ كَرِهَ سُفْيَانُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ. قُلْت: بَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ سُفْيَانُ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْقَصْعَةِ الرَّغِيفُ، لِمَ كَرِهَهُ سُفْيَانُ؟ قَالَ: كَرِهَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الطَّعَامُ. قُلْت: تَكْرَهُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَقِيلٍ، قَالَ: حَضَرْت مَعَ ابْنِ شِهَابٍ وَلِيمَةً، فَفَرَشُوا الْمَائِدَةَ بِالْخُبْزِ، فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا الْخُبْزَ بِسَاطًا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ أَبَا مَعْمَرٍ قَالَ: إنَّ أَبَا أُسَامَةَ قَدَّمَ إلَيْهِمْ خُبْزًا، فَكَسَرَهُ. قَالَ: هَذَا لِئَلَّا تَعْرِفُوا كَمْ تَأْكُلُونَ. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الطَّعَامِ] (7845) فَصْلٌ: وَتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَحَمْدُ اللَّهِ عِنْدَ آخِرِهِ؛ لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي مَسْلَمَةَ، قَالَ: أَكَلْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَالَتْ يَدِي فِي الْقَصْعَةِ، فَقَالَ: «سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِك، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 قَالَ فَمَازَالَتْ أَكْلَتِي بَعْدُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ، وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِثْلُ مَا لِلصَّائِمِ الصَّابِرِ» . قَالَ أَحْمَدُ: مَعْنَاهُ إذَا أَكَلَ وَشَرِبَ، يَشْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ عَلَى مَا رَزَقَهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ. غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ طَعَامًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رُفِعَ طَعَامُهُ، أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ (7846) فَصْلٌ: وَيَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَشْرَبُ بِهَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَيُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ تَرْوِيهِ ابْنَةُ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِكَفِّهِ كُلِّهَا، فَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَلَمْ يَرَ إلَّا ثَلَاثَ أَصَابِعَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَكَلَ خَبِيصًا بِكَفِّهِ كُلِّهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى بَنَاتَهُ أَنْ يَأْكُلْنَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَقَالَ: لَا تَشَبَّهْنَ بِالرِّجَالِ. [فَصْلٌ حُكْمُ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ] (7847) فَصْلٌ: قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ صَنِيعُ الْأَعَاجِمِ» . فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَا نَعْرِفُ هَذَا. وَقَالَ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ خِلَافُ هَذَا، كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَزُّ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ، فَقَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَطَرَحَ السِّكِّينَ. وَحَدِيثُ مِسْعَرٍ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «ضِفْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 بِجَنْبٍ فَشُوِيَ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ، فَجَعَلَ يَحُزُّ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَأَلْقَى الشَّفْرَةَ» . قَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اُكْفُفْ جُشَاءَك يَا أَبَا جُحَيْفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُمْ شِبَعًا الْيَوْمَ أَكْثَرُكُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقَالَ هُوَ وَيَحْيَى جَمِيعًا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. (7848) فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْفُخُ فِي طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ» . وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «مَا أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خِوَانٍ وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُرْفَعَ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وُضِعَتْ الْمَائِدَةُ، فَلَا يَقُمْ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، وَلْيُعْذِرْ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ، فَيَقْبِضُ يَدَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ» . وَعَنْ نُبَيْشَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ، فَلَحِسَهَا، اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَمْسَحْ أَحَدُكُمْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ غَسْلُ الْيَدِ بِالنُّخَالَةِ] (7849) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ غَسْلِ الْيَدِ بِالنُّخَالَةِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، نَحْنُ نَفْعَلُهُ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِي الْقَوْمَ، وَهُمْ عَلَى طَعَامٍ، فَجْأَةً لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ إلَيْهِمْ دَعَوْهُ، هَلْ يَأْكُلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا بَأْسٌ. وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ ادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ» . هُوَ صَحِيحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي لَفْظِهِ. (7850) فَصْلٌ: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» . وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا، فَدَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ: أَثِيبُوا أَخَاكُمْ» . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إثَابَتُهُ؟ قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ، فَأُكِلَ طَعَامُهُ، وَشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذَلِكَ إثَابَتُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 [كِتَابُ الْأَضَاحِيِّ] ِّ: الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «ضَحَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى، وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْأَمْلَحُ: الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، وَبَيَاضُهُ أَغْلَبُ. قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ النَّقِيُّ الْبَيَاضِ. قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا ... أَمْلَحَ لَا لُدَّا وَلَا مُحَبَّبَا وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ. (7851) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ، لَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً غَيْرَ وَاجِبَةٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِلَالٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَعَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» . وَعَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ، فِي كُلِّ عَامٍ، أَضْحَاةً وَعَتِيرَةً» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 وَلَنَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «الْوِتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ» . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَدَخَلَ الْعَشْرُ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرَتِهِ شَيْئًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. عَلَّقَهُ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُعَلَّقُ عَلَى الْإِرَادَةِ؛ وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ لَمْ يَجِبْ تَفْرِيقُ لَحْمِهَا، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَالْعَقِيقَةِ، فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا قَالَ: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . وَقَالَ «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْيَتِيمِ: يُضَحِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ. (7852) فَصْلٌ: وَالْأُضْحِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ. وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أُضَحِّيَ إلَّا بِدِيكٍ، وَلَأَنْ أَضَعَهُ فِي يَتِيمٍ قَدْ تَرِبَ فُوهُ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِخَاتَمِي هَذَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُهْدِيَ إلَى الْبَيْتِ أَلْفًا. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ، لَعَدَلُوا إلَيْهَا. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ إيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ يُفْضِي إلَى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ، فَهُوَ فِي الْهَدْيِ دُونَ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَدَخَلَ الْعَشْرُ] (7853) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَدَخَلَ الْعَشْرُ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرَتِهِ شَيْئًا) ظَاهِرُ هَذَا تَحْرِيمُ قَصِّ الشَّعْرِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ مَكْرُوهٌ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُقَلِّدُهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ وَاللِّبَاسُ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ حَلْقُ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُضَحِّيَ. وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا، حَتَّى يُضَحِّيَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمُقْتَضَى النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَهَذَا يَرُدُّ الْقِيَاسَ وَيُبْطِلُهُ، وَحَدِيثُهُمْ عَامٌّ، وَهَذَا خَاصٌّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، بِتَنْزِيلِ الْعَامِّ عَلَى مَا عَدَا مَا تَنَاوَلَهُ الْحَدِيثُ الْخَاصُّ؛ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ حَدِيثِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ مَا نَهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] . وَلِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَفْعَلَهُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ مَا فَعَلَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ عَائِشَةَ تَعْلَمُ ظَاهِرًا مَا يُبَاشِرُهَا بِهِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ، أَوْ مَا يَفْعَلُهُ دَائِمًا، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ، فَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ نَادِرًا، كَقَصِّ الشَّعْرِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ فِي الْأَيَّامِ إلَّا مَرَّةً، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْهُ بِخَبَرِهَا، وَإِنْ احْتَمَلَ إرَادَتَهَا إيَّاهُ، فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا، فَاحْتِمَالُ تَخْصِيصِهِ قَرِيبٌ، فَيَكْفِي فِيهِ أَدْنَى دَلِيلٍ، وَخَبَرُنَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ؛ وَلِأَنَّ عَائِشَةَ تُخْبِرُ عَنْ فِعْلِهِ وَأُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قَوْلِهِ، وَالْقَوْلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ خَاصًّا لَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ قَطْعَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ، فَإِنْ فَعَلَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى. وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ إجْمَاعًا، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا. [مَسْأَلَةٌ تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (7854) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَالِمٌ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجْزِئُ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ عَنْ سَبْعَةٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا عَلِمْت أَحَدًا إلَّا يُرَخِّصُ فِي ذَلِكَ، إلَّا ابْنَ عُمَرَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ الْجَزُورَ عَنْ عَشَرَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِمَا رَوَى رَافِعٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الْأَضْحَى، فَاشْتَرَكْنَا فِي الْجَزُورِ عَنْ عَشَرَةٍ، وَالْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: نَحَرْنَا بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 عَنْ سَبْعَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، نَشْتَرِكُ فِيهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَانِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ رَافِعٍ، فَهُوَ فِي الْقِسْمَةِ، لَا فِي الْأُضْحِيَّةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا، مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ الْقُرْبَةَ وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ إنَّمَا يُجْزِئُ عَنْهُ نَصِيبُهُ، فَلَا تَضُرُّهُ نِيَّةُ غَيْرِهِ فِي عُشْرِهِ. [فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَذْبَحَ الرَّجُلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ شَاةً وَاحِدَةً] (7855) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَذْبَحَ الرَّجُلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ شَاةً وَاحِدَةً، أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ صَالِحٌ: قُلْت لِأَبِي: يُضَحَّى بِالشَّاةِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَا بَأْسَ، قَدْ ذَبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبْشَيْنِ، فَقَرَّبَ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ» . وَقَرَّبَ الْآخَرَ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك، عَمَّنْ وَحَّدَك مِنْ أُمَّتِي» . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ، فَتَجِيءُ ابْنَتُهُ، فَتَقُولُ: عَنِّي؟ فَيَقُولُ: وَعَنْك. وَكَرِهَ ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا اثْنَانِ، لَمْ تُجْزِ عَنْهُمَا، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ. وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِكَبْشٍ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، عَلَى مِلَّةِ، إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، مُسْلِمًا، وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ ذَبَحَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ، وَيُطْعِمُونَ النَّاسَ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (7856) فَصْلٌ: وَأَفْضَلُ الْأَضَاحِيِّ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الشَّاةُ، ثُمَّ شِرْكٌ فِي بَقَرَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْأَفْضَلُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الْبَدَنَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ لَفَدَى بِهِ إِسْحَاقَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْجُمُعَةِ: مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً» . وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ الْبَدَنَةُ فِيهِ أَفْضَلَ، كَالْهَدْيِ فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَهُ؛ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ ثَمَنًا وَلَحْمًا وَأَنْفَعُ، فَأَمَّا التَّضْحِيَةُ بِالْكَبْشِ؛ فَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَجْنَاسِ الْغَنَمِ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْفِدَاءِ بِهِ أَفْضَلُ، وَالشَّاةُ أَفْضَلُ مِنْ شِرْكٍ فِي بَدَنَةٍ؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ مَقْصُودَةٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَالْمُنْفَرِدُ يَتَقَرَّبُ بِإِرَاقَتِهِ كُلِّهِ. وَالْكَبْشُ أَفْضَلُ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُ أُضْحِيَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَطْيَبُ لَحْمًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ جَذَعَ الضَّأْنِ أَفْضَلُ مِنْ ثَنِيِّ الْمَعْزِ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «نِعْمَ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الثَّنِيَّ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَسِرَ عَلَيْكُمْ، فَاذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الثَّنِيِّ عَلَى الْجَذَعِ؛ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الثَّنِيَّ أَصْلًا وَالْجَذَعَ بَدَلًا، لَا يُنْتَقَلُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الثَّنِيِّ. [فَصْلٌ يُسَنُّ اسْتِسْمَانُ الْأُضْحِيَّةِ وَاسْتِحْسَانُهَا] (7857) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ اسْتِسْمَانُ الْأُضْحِيَّةِ وَاسْتِحْسَانُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِعْظَامُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهَا، وَأَكْثَرُ لِنَفْعِهَا. وَالْأَفْضَلُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْغَنَمِ فِي لَوْنِهَا الْبَيَاضُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَوْلَاةِ أَبِي وَرَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَمُ عَفْرَاءَ، أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: دَمُ بَيْضَاءَ، أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ. وَلِأَنَّهُ لَوْنُ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَا كَانَ أَحْسَنَ لَوْنًا، فَهُوَ أَفْضَلُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَا يُجْزِئُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (7858) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُجْزِئُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ: لَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ، فَلَا يُجْزِئُ مِنْهُ كَالْحَمَلِ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ فَلَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ؛ لِمَا رَوَى مُجَاشِعُ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ،. وَلَنَا عَلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ يُجْزِئُ، حَدِيثُ مُجَاشِعٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَلَى أَنَّ الْجَذَعَةَ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 غَيْرِهَا لَا تُجْزِئُ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَسِرَ عَلَيْكُمْ، فَاذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ» . وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: «عِنْدِي جَذَعَةٌ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، فَهَلْ تُجْزِئُ عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: إنَّمَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْزُو فَيُلَقِّحُ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْزِ لَمْ يُلَقِّحْ حَتَّى يَكُونَ ثَنِيًّا. (7859) فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَحْشِيًّا، لَمْ يُجْزِئْ أَيْضًا. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ بَقَرَةَ الْوَحْشِ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالظَّبْيَ عَنْ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: وَلَدُ الْبَقَرِ الْإِنْسِيَّةِ يُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَحْشِيًّا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُجْزِئُ إذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] . وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَعَلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ بَيْنِ مَا يُجْزِئُ وَمَا لَا يُجْزِئُ، فَلَمْ يُجْزِئْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ وَحْشِيَّةً. [مَسْأَلَةٌ مَا هُوَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ] (7860) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَدَخَلَ فِي السَّابِعِ) قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَسَمِعْت أَبِي يَقُولُ: سَأَلْت بَعْضَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: كَيْفَ تَعْرِفُونَ الضَّأْنَ إذَا أَجْذَعَ؟ قَالَ: لَا تَزَالُ الصُّوفَةُ قَائِمَةً عَلَى ظَهْرِهِ مَادَامَ حَمَلًا، فَإِذَا نَامَتْ الصُّوفَةُ عَلَى ظَهْرِهِ، عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَجْذَعَ. وَثَنِيُّ الْمَعْزِ إذَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْبَقَرَةُ إذَا صَارَ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَالْإِبِلُ إذَا كَمَلَ لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَبُو زِيَادٍ الْكِلَابِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: إذَا مَضَتْ السَّنَةُ الْخَامِسَةُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ، وَأَلْقَى ثَنِيَّتَهُ، فَهُوَ حِينَئِذٍ ثَنِيٌّ، وَنَرَى إنَّمَا سُمِّيَ ثَنِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَلْقَى ثَنِيَّتَهُ. وَأَمَّا الْبَقَرَةُ: فَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً» . وَمُسِنَّةُ الْبَقَرِ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ. وَقَالَ وَكِيعٌ: الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يَكُونُ ابْنَ سَبْعَةِ أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. [مَسْأَلَةٌ يُجْتَنَبُ فِي الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا] (7861) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُجْتَنَبُ فِي الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الَّتِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهَا، وَالْعَضْبَاءُ، وَالْعَضَبُ ذَهَابُ أَكْثَرِ مِنْ نِصْفِ الْأُذُنِ أَوْ الْقَرْنِ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 أَمَّا الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ، فَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّهَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ؛ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَمَعْنَى الْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا، الَّتِي قَدْ انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا، وَذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهَا، وَالْعَيْنُ عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ وَلَمْ تَذْهَبْ، جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ عَوَرَهَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ لَحْمَهَا. وَالْعَجْفَاءُ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي، هِيَ الَّتِي لَا مُخَّ لَهَا فِي عِظَامِهَا؛ لِهُزَالِهَا، وَالنِّقْيُ: الْمُخُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَشْتَكِينَ عَمَلًا مَا أَنْقَيْنَ ... مَا دَامَ مُخٌّ فِي سُلَامَى أَوْ عَيْن فَهَذِهِ لَا تُجْزِئُ؛ لِأَنَّهَا لَا لَحْمَ فِيهَا، إنَّمَا هِيَ عِظَامٌ مُجْتَمِعَةٌ. وَأَمَّا الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا: فَهِيَ الَّتِي بِهَا عَرَجٌ فَاحِشٌ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِنْ اللِّحَاقِ بِالْغَنَمِ فَتَسْبِقُهَا إلَى الْكَلَإِ فَيَرْعَيْنَهُ وَلَا تُدْرِكُهُنَّ، فَيَنْقُصُ لَحْمُهَا، فَإِنْ كَانَ عَرَجًا يَسِيرًا لَا يُفْضِي بِهَا إلَى ذَلِكَ، أَجْزَأَتْ. وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ الَّتِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهَا: فَهِيَ الَّتِي بِهَا مَرَضٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ زَوَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ لَحْمَهَا وَقِيمَتَهَا نَقْصًا كَبِيرًا، وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَهِيَ الَّتِي يَبِينُ أَثَرُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ لَحْمَهَا وَيُفْسِدُهُ، وَهُوَ أَصَحُّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرِيضَةِ الْجَرْبَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَيُهْزِلُ إذَا كَثُرَ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ، وَتَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِلَا دَلِيلٍ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي الْعُمُومَ كَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَيَنْقُصُهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَأَمَّا الْعَضَبُ: فَهُوَ ذَهَابُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأُذُنِ أَوْ الْقَرْنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَمَّارٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ قَرْنُهَا يَدْمَى، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ: إذَا ذَهَبَتْ الْأُذُنُ كُلُّهَا، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ ذَهَبَ يَسِيرٌ، جَازَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ يُجْزِئُ؛ وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزَ، قَالَ: قُلْت لِلْبَرَاءِ فَإِنِّي أَكْرَهُ النَّقْصَ مِنْ الْقَرْنِ وَمِنْ الذَّنَبِ. فَقَالَ: اكْرَهْ لِنَفْسِك مَا شِئْت، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 وَإِيَّاكَ أَنْ تُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ اللَّحْمُ، وَلَا يُؤَثِّرُ ذَهَابُ ذَلِكَ فِيهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ.» قَالَ قَتَادَةُ: فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، فَقَالَ: نَعَمْ، الْعَضَبُ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَهَذَا مَنْطُوقٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْهُومِ. (7862) فَصْلٌ: وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعَوْرَاءِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعَمْيَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَاهَا بَيِّنًا؛ لِأَنَّ الْعَمَى يَمْنَعُ مَشْيَهَا مَعَ الْغَنَمِ، وَمُشَارَكَتَهَا فِي الْعَلَفِ. وَلَا تُجْزِئُ مَا قُطِعَ مِنْهَا عُضْوٌ، كَالْأَلْيَةِ وَالْأَطْبَاءِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا تَجُوزُ الْعَجْفَاءُ، وَلَا الْجَدَّاءُ. قَالَ أَحْمَدُ: هِيَ الَّتِي قَدْ يَبِسَ ضَرْعُهَا. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذَهَابِ شَحْمَةِ الْعَيْنِ. [فَصْلٌ يُجْزِئُ الْخَصِيُّ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (7863) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُ الْخَصِيُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ وَالْوَجَأُ رَضُّ الْخُصْيَتَيْنِ، وَمَا قُطِعَتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ شَلَّتَا، فَهُوَ كَالْمَوْجُوءِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ؛ وَلِأَنَّ الْخِصَاءَ ذَهَابُ عُضْوٍ غَيْرِ مُسْتَطَابٍ، يَطِيبُ اللَّحْمُ بِذَهَابِهِ، وَيَكْثُرُ وَيَسْمَنُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا زَادَ فِي لَحْمِهِ وَشَحْمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذَهَبَ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. (7864) فَصْلٌ: وَتُجْزِئُ الْجَمَّاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا قَرْنٌ، وَالصَّمْعَاءُ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ الْأُذُنِ، وَالْبَتْرَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَا ذَنَبَ لَهَا، سَوَاءٌ كَانَ خِلْقَةً أَوْ مَقْطُوعًا. وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْبَتْرَاءِ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ. وَكَرِهَ اللَّيْثُ أَنْ يُضَحَّى بِالْبَتْرَاءِ مَا فَوْقَ الْقَصَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِالْجَمَّاءِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقَرْنِ يَمْنَعُ، فَذَهَابُ جَمِيعِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَوَرُ، مَنَعَ مِنْهُ الْعَمَى، فَكَذَلِكَ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَضَبُ، يَمْنَعُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَجَمَّ أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَقْصٌ لَا يَنْقُصُ اللَّحْمَ، وَلَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ نَهْيٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ، وَفَارَقَ الْعَضَبَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَارِدٌ، وَهُوَ عَيْبٌ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدْمَى وَآلَمَ الشَّاةَ، فَيَكُونُ كَمَرَضِهَا، وَيُقَبِّحُ مَنْظَرَهَا، بِخِلَافِ الْأَجَمِّ، فَإِنَّهُ حُسْنٌ فِي الْخِلْقَةِ لَيْسَ بِمُرْضٍ وَلَا عَيْبٍ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ مَا كَانَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ضَحَّى بِكَبْشٍ أَقْرَنَ أَمْلَحَ. وَقَالَ: «خَيْرُ الْأُضْحِيَّةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ» . وَأَمَرَ بِاسْتِشْرَافِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ. [فَصْلٌ وَتُكْرَهُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ وَالْمَثْقُوبَةُ وَمَا قُطِعَ شَيْءٌ مِنْهَا الْأُضْحِيَّةُ] (7865) فَصْلٌ: وَتُكْرَهُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَالْمَثْقُوبَةُ، وَمَا قُطِعَ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا شَرْقَاءَ. قَالَ زُهَيْرٌ قُلْت لِأَبِي إِسْحَاقَ، مَا الْمُقَابَلَةُ؟ قَالَ يُقْطَعُ طَرَفُ الْأُذُنِ. قُلْت: فَمَا الْمُدَابَرَةُ؟ قَالَ يُقْطَعُ مِنْ مُؤَخَّرِ الْأُذُنِ. قُلْت: فَمَا الشَّرْقَاءُ؟ قَالَ: تُشَقُّ الْأُذُنُ. قُلْت: فَمَا الْخَرْقَاءُ؟ قَالَ: تَشُقُّ أُذُنَهَا السِّمَةُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الْقَاضِي: الْخَرْقَاءُ الَّتِي انْثَقَبَتْ أُذُنُهَا. وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهَا، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ يَشُقُّ إذْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ سَالِمٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. [مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَوْجَبَهَا سَلِيمَةً فَعَابَتْ عِنْدَهُ الْأُضْحِيَّةُ] (7866) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ أَوْجَبَهَا سَلِيمَةً، فَعَابَتْ عِنْدَهُ، ذَبَحَهَا، وَكَانَتْ أُضْحِيَّةً وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، ذَبَحَهَا، وَأَجْزَأَتْهُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ عِنْدَهُمْ وَاجِبَةٌ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهَا إلَّا بِإِرَاقَةِ دَمِهَا سَلِيمَةً، كَمَا لَوْ أَوْجَبَهَا فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَهَا، فَعَابَتْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: «ابْتَعْنَا كَبْشًا نُضَحِّي بِهِ، فَأَصَابَ الذِّئْبُ مِنْ أَلْيَتِهِ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَنَا أَنْ نُضَحِّيَ بِهِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِجْزَاءَ، كَمَا لَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ بِمُعَالَجَةِ الذَّبْحِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهَا. فَأَمَّا إنْ تَعَيَّبَتْ بِفِعْلِهِ، فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا عَالَجَ ذَبْحَهَا، فَقَلَعَتْ السِّكِّينُ عَيْنَهَا، أَجْزَأَتْ، اسْتِحْسَانًا. وَلَنَا، أَنَّهُ عَيْبٌ أَحْدَثَهُ بِهَا قَبْلَ ذَبْحِهَا، فَلَمْ تُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ مُعَالَجَةِ الذَّبْحِ. [فَصْل نَذَرَ أُضْحِيَّة فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي شَاةٍ] (7867) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي شَاةٍ، تَعَيَّنَتْ، فَإِنْ عَابَتْ تِلْكَ الشَّاةُ قَبْلَ ذَبْحِهَا، لَمْ تُجْزِئْ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَبْرَأُ إلَّا بِذَبْحِ شَاةٍ سَلِيمَةٍ، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِي كَفَّارَةٍ، فَاشْتَرَاهَا، ثُمَّ عَابَتْ عِنْدَهُ، لَمْ تُجْزِئْهُ، وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ فَعَابَ، أَجْزَأَ عَنْهُ. [فَصْل أَتْلَفَ الْأُضْحِيَّة الْوَاجِبَةَ] (7868) فَصْلٌ: إذَا أَتْلَفَ الْأُضْحِيَّةَ الْوَاجِبَةَ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ أَتْلَفَهَا، فَإِنْ غَلَتْ الْغَنَمُ، فَصَارَ مِثْلُهَا خَيْرًا مِنْ قِيمَتِهَا، فَقَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ: يَلْزَمُهُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي ذَبْحِهَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَتَعَيَّبْ، بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْقِيمَةُ يَوْمَ إتْلَافِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ، فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، وَكَسَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ. فَإِنْ رَخُصَتْ الْغَنَمُ، فَزَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى مِثْلِهَا، مِثْلَ أَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا عِنْدَ إتْلَافِهَا عَشَرَةً، فَصَارَتْ قِيمَةُ مِثْلِهَا خَمْسَةً، فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ، وَجْهًا وَاحِدًا، فَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا أُضْحِيَّةً وَاحِدَةً تُسَاوِي عَشَرَةً، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْعَشَرَةِ مَا لَا يَجِيءُ بِهِ أُضْحِيَّةٌ، اشْتَرَى بِهِ شِرْكًا فِي بَدَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ لِذَلِكَ، أَوْ لَمْ تُمْكِنْهُ الْمُشَارَكَةُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَشْتَرِي لَحْمًا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَتَفْرِقَةَ اللَّحْمِ مَقْصُودَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْآخَرُ. وَالثَّانِي، يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، كَانَ اللَّحْمُ وَثَمَنُهُ سَوَاءً. فَإِنْ كَانَ الْمُتْلِفُ أَجْنَبِيًّا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ أَتَلَفَهَا، وَجْهًا وَاحِدًا، وَيَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ زَادَ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَتْلَفَهَا صَاحِبُهَا، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْقِيمَةُ ثَمَنَ أُضْحِيَّةٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِيمَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُضَحِّي. فَإِنْ تَلِفَتْ الْأُضْحِيَّةُ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، أَوْ سُرِقَتْ، أَوْ ضَلَّتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ كَالْوَدِيعَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 [فَصْل اشْتَرَى أُضْحِيَّة فَلَمْ يُوجِبْهَا حَتَّى عَلِمَ بِهَا عَيْبًا] (7869) فَصْل: وَإِنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً، فَلَمْ يُوجِبْهَا حَتَّى عَلِمَ بِهَا عَيْبًا، فَلَهُ رَدُّهَا إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ عَيْبُهَا يَمْنَعُ إجْزَاءَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، وَالْأَرْشُ لَهُ. وَإِنْ أَوْجَبَهَا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهَا وَأَخْذِ أَرْشِهَا، فَإِنْ أَخَذَ أَرْشَهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الزَّائِدِ عَنْ قِيمَةِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ لَهُ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا إنَّمَا صَادَفَهَا بِدُونِ هَذَا الَّذِي أَخَذَ أَرْشَهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْإِيجَابُ بِالْأَرْشِ، وَلَا بِمُبْدَلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهَا ثُمَّ أَخَذَ أَرْشَهَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ: لَا يَمْلِكُ رَدَّهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِإِيجَابِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مَعِيبًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّن أَخْذُ الْأَرْشِ. وَفِي كَوْنِ الْأَرْشِ لِلْمُشْتَرِي، وَوُجُوبِهِ فِي التَّضْحِيَةِ، وَجْهَانِ، ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ عَيْبُهَا لَا يَمْنَعُ إجْزَاءَهَا، فَقَدْ صَحَّ إيجَابُهَا، وَالتَّضْحِيَةُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ عَيْبُهَا يَمْنَعُ إجْزَاءَهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ أَوْجَبَهَا عَالِمًا بِعَيْبِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّة] (7870) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ وَلَدَتْ، ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ أُضْحِيَّةً فَوَلَدَتْ فَوَلَدُهَا تَابِعٌ لَهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهَا، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلًا حِينَ التَّعْيِينِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا يَذْبَحُهُ، وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ حَيًّا، وَإِنْ ذَبَحَهُ، دَفَعَهُ إلَيْهِمْ مَذْبُوحًا، وَأَرْشَ مَا نَقَصَهُ الذَّبْحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا، فَلَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ عَلَى صِفَتِهِ، كَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا. وَلَنَا، أَنَّ اسْتِحْقَاقَ وَلَدِهَا حُكْمٌ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ مِنْ الْأُمِّ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا يَثْبُتُ لَهَا، كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَذْبَحُهُ كَمَا يَذْبَحُهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ أُضْحِيَّةً عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِأُمِّهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِهِ، كَأُمِّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي اشْتَرَيْت هَذِهِ الْبَقَرَةَ لِأُضَحِّيَ بِهَا، وَإِنَّهَا وَضَعَتْ هَذَا الْعِجْلَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَحْلُبْهَا إلَّا فَضْلًا عَنْ تَيْسِيرِ وَلَدِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى، فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَذْفٍ، عَنْ عَلِيٍّ (7871) فَصْلٌ: وَلَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا الْفَاضِلَ عَنْ وَلَدِهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ، أَوَكَانَ الْحَلْبُ يَضُرُّ بِهَا، أَوْ يُنْقِصُ لَحْمَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَهُ أَخْذُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 لَا يَحْلُبُهَا، وَيَرُشُّ عَلَى الضَّرْعِ الْمَاءَ حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ، فَإِنْ احْتَلَبَهَا، تَصَدَّقَ، بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُضَحِّي الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَالْوَلَدِ وَلَنَا، قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْلُبُهَا إلَّا فَضْلًا عَنْ تَيْسِيرِ وَلَدِهَا. وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا يَضُرُّهَا، فَأَشْبَهُ الرُّكُوبَ، يُفَارِقُ الْوَلَدَ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُهُ إلَى مَحَلِّهِ، أَمَّا اللَّبَنُ، فَإِنْ حَلَبَهُ وَتَرَكَهُ فَسَدَ، وَإِنْ لَمْ يَحْلُبْهُ، تَعَقَّدَ الضَّرْعُ، وَأَضَرَّ بِهَا، فَجُوِّزَ لَهُ شُرْبُهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ. وَإِنْ احْتَلَبَ مَا يَضُرُّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَصُوفُهَا شَعْرُهَا، وَوَبَرُهَا إذَا جَزَّهُ، تَصَدَّقَ بِهِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، فَلِمَ أَجَزْتُمْ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِاللَّبَنِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَبَنَهَا يَتَوَلَّدُ مِنْ غِذَائِهَا وَعَلَفِهَا، وَهُوَ الْقَائِمُ بِهِ، فَجَازَ صَرْفُهُ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا عَلَفَ الرَّهْنَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلُبَ، وَيَرْكَبَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصُّوفَ وَلَا الشَّعْرَ. الثَّانِي، أَنَّ الصُّوفَ وَالشَّعْرَ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَجَرَى مَجْرَى جِلْدِهَا وَأَجْزَائِهَا، وَاللَّبَنُ يُشْرَبُ وَيُؤْكَلُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَجَرَى مَجْرَى مَنَافِعِهَا وَرُكُوبِهَا، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ يَتَجَدَّدُ كُلَّ يَوْمٍ، وَالصُّوفُ وَالشَّعْرُ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ دَائِمَةٌ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ. (7872) فَصْلٌ: وَأَمَّا صُوفُهَا، فَإِنْ كَانَ جَزُّهُ أَنْفَعَ لَهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ الرَّبِيعِ، تَخِفُّ بِجَزِّهِ وَتَسْمَنُ، جَازَ جَزُّهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهَا؛ لِقُرْبِ مُدَّةِ الذَّبْحِ أَوْ كَانَ بَقَاؤُهُ أَنْفَعَ لَهَا؛ لِكَوْنِهِ يَقِيهَا الْحَرَّ وَالْبَرْدَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ بَعْضِ أَجْزَائِهَا. [مَسْأَلَةٌ مَا يُوجِب الْأُضْحِيَّة] (7873) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِيجَابُهَا أَنْ يَقُولَ: هِيَ أُضْحِيَّةٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، وَتَتَعَيَّنُ بِهِ، هُوَ الْقَوْلُ دُونَ النِّيَّةِ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا اشْتَرَى شَاةً أَوَغَيْرَهَا بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ، صَارَتْ أُضْحِيَّةً؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشِرَاءِ أُضْحِيَّةٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِالنِّيَّةِ وَقَعَتْ عَنْهَا، كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلشِّرَاءِ، كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ جَعْلُهُ لِمُوَكِّلِهِ بَعْدَ إيقَاعِهِ، وَهَا هُنَا بَعْدَ الشِّرَاءِ يُمْكِنُهُ جَعْلُهَا أُضْحِيَّةً. فَأَمَّا إذَا قَالَ: هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ. صَارَتْ وَاجِبَةً، كَمَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ بُقُولِ سَيِّدِهِ: هَذَا حُرٌّ. وَلَوْ أَنَّهُ قَلَّدَهَا أَوَأَشْعَرَهَا يَنْوِي بِهِ جَعْلَهَا أُضْحِيَّةً، لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 [مَسْأَلَة أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّة فَكَانَتْ نَاقِصَة] (7874) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ أَوْجَبَهَا نَاقِصَةً، ذَبَحَهَا، وَلَمْ تُجْزِئْهُ يَعْنِي إذَا كَانَتْ نَاقِصَةً نَقْصًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فَأَوْجَبَهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا كَالنَّذْرِ لِذَبْحِهَا، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلِأَنَّ إيجَابَهَا كَنَذْرِ هَدْيٍ مِنْ غَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيِّ) . وَلَكِنَّهُ يَذْبَحُهَا، وَيُثَابُ عَلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْهَا، كَمَا يُثَابُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، إلَّا أَنَّهُ هَاهُنَا لَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُهَا. وَإِنْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، مِثْلَ مَنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ أَتْلَفَ أُضْحِيَّتَهُ الَّتِي أَوْجَبَهَا، لَمْ تُجْزِئْهُ هَذِهِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ. فَإِنْ زَالَ عَيْبُهَا، كَأَنْ كَانَتْ عَجْفَاءَ فَزَالَ عَجَفُهَا، أَوْ مَرِيضَةً فَبَرَأَتْ، أَوْ عَرْجَاءَ فَزَالَ عَرَجُهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تُجْزِئُ،. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا تُجْزِئُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ إيجَابِهَا، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا كَانَتْ لِلْمَسَاكِينِ، كَمَا أَنَّ نَقْصَهَا بَعْدَ إيجَابِهَا عَلَيْهِمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أُضْحِيَّةً. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ يُجْزِئُ مِثْلُهَا، فَتُجْزِئُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجِبْهَا إلَّا بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا. [مَسْأَلَةٌ لَا تُبَاعُ أُضْحِيَّة الْمَيِّتِ فِي دَيْنِهِ] (7875) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تُبَاعُ أُضْحِيَّةُ الْمَيِّتِ فِي دَيْنِهِ، وَيَأْكُلُهَا وَرَثَتُهُ يَعْنِي إذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنْ تَرَكَ دَيْنًا لَا وَفَاءَ لَهُ إلَّا مِنْهَا، بِيعَتْ فِيهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَشَاجَرَ الْوَرَثَةُ فِيهَا بَاعُوهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعَيَّنَ ذَبْحُهَا، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهَا فِي دَيْنِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ مَوْرُوثِهِمْ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. [فَصْل هَلْ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ عَنْ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ] (7876) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ، هَلْ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ عَنْ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ؟ فَرُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا، يُضَحِّي عَنْهُ بِالشَّاةِ، بِنِصْفِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ الْعِيدِ، فَجَازَ إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. فَعَلَى هَذَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 يَكُونُ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّطْيِيبِ لِقَلْبِهِ، وَإِشْرَاكِهِ لِأَمْثَالِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، كَمَا يَشْتَرِي لَهُ الثِّيَابَ الرَّفِيعَةَ لِلتَّجَمُّلِ، وَالطَّعَامَ الطَّيِّبَ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى حَالَيْنِ؛ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ التَّضْحِيَةَ، إذَا كَانَ الْيَتِيمُ طِفْلًا لَا يَعْقِلُ التَّضْحِيَةَ، وَلَا يَفْرَحُ بِهَا، وَلَا يَنْكَسِرُ قَلْبُهُ بِتَرْكِهَا؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا، فَيُحَصِّلُ إخْرَاجُ ثَمَنِهَا تَضْيِيعَ مَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَهَا، إذَا كَانَ الْيَتِيمُ يَعْقِلُهَا، وَيَنْجَبِرُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَنْكَسِرُ بِتَرْكِهَا؛ لِحُصُولِ الْفَائِدَةِ مِنْهَا، وَالضَّرَرِ بِتَفْوِيتِهَا. وَاسْتَدَلَّ أَبُو الْخَطَّابِ بُقُولِ أَحْمَدَ: يُضَحِّي عَنْهُ. عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَا ذَكَرْنَاهُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، مَتَى ضَحَّى عَنْ الْيَتِيمِ، لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَيُوَفِّرُهَا لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّدَقَةُ بِشَيْءِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ تَطَوُّعًا. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثَ أُضْحِيَّته وَيُهْدِيَ ثُلُثَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا] (7877) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَالِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثَ أُضْحِيَّتِهِ، وَيُهْدِيَ ثُلُثَهَا، وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا، وَلَوْ أَكَلَ أَكْثَرَ جَازَ قَالَ أَحْمَدُ: نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ: يَأْكُلُ هُوَ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ مَنْ أَرَادَ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِالثُّلُثِ. قَالَ عَلْقَمَةُ: بَعَثَ مَعِي عَبْدُ اللَّهِ بِهَدِيَّةٍ، فَأَمَرَنِي أَنْ آكُلَ ثُلُثًا، وَأَنْ أُرْسِلَ إلَى أَهْلِ أَخِيهِ عُتْبَةَ بِثُلُثٍ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا ثُلُثٌ لَك، وَثُلُثٌ لِأَهْلِك، وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَجْعَلُهَا نِصْفَيْنِ، يَأْكُلُ نِصْفًا، وَيَتَصَدَّقُ بِنِصْفٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] . وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَا كَثُرَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَأَكَلَ هُوَ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا، وَحَسِيَا مِنْ مَرَقِهَا. وَنَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ، أَوْ سِتَّ بَدَنَاتٍ، وَقَالَ: مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ. وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا» . وَلَنَا، مَا رُوِيَ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي صِفَةِ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِالثُّلُثِ.» رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِيُّ، فِي الْوَظَائِفِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ يُقَالُ: قَنِعَ قَنُوعًا. إذَا سَأَلَ وَقَنِعَ قَنَاعَةً إذَا رَضِيَ. قَالَ الشَّاعِر: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنْ الْقَنُوعِ وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرِيك. أَيْ يَتَعَرَّضُ لَك لِتُطْعِمَهُ، فَلَا يَسْأَلُ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَالْمُتَصَدَّقِ بِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي آيَتِنَا، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ، وَابْنُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ بِأَمْرِهِ. وَأَمَّا خَبَرُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فَهُوَ فِي الْهَدْيِ، وَالْهَدْيُ يَكْثُرُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَسْمِهِ، وَأَخْذِ ثُلُثِهِ، فَتَتَعَيَّنُ الصَّدَقَةُ بِهَا، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا وَاسِعٌ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا أَوْ بِأَكْثَرِهَا جَازَ، وَإِنْ أَكَلَهَا كُلَّهَا إلَّا أُوقِيَّةً تَصَدَّقَ بِهَا جَازَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ أَكْلُهَا كُلِّهَا. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وَقَالَ: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْهَا، وَلَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهَا؛ لِلْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، وَقَالَ " مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ ". وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِهَا فَلَمْ يَجِبْ الْأَكْلُ مِنْهَا، كَالْعَقِيقَةِ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، أَوْ الْإِبَاحَةِ، كَالْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنْ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ، وَالنَّظَرِ إلَيْهَا. [فَصْل يَجُوزُ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ] (7878) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَمْ يُجِزْهُ عَلِيٌّ، وَلَا ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَامْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» رَوَاهُ. مُسْلِمٌ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا» . وَقَالَ أَحْمَدُ: فِيهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ فَأَمَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا تَرْخِيصُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا النَّهْيَ، فَرَوَوْا عَلَى مَا سَمِعُوا. [فَصْلٌ يَجُوزُ إطْعَام الْكَافِر مِنْ الْأُضْحِيَّة] (7879) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا كَافِرًا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: غَيْرُهُمْ أَحَبُّ إلَيْنَا. وَكَرِهَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ إعْطَاءَ النَّصْرَانِيِّ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ طَعَامٌ لَهُ أَكْلُهُ فَجَازَ إطْعَامُهُ لِلذِّمِّيِّ، كَسَائِرِ طَعَامِهِ، وَلِأَنَّهُ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، فَجَازَ إطْعَامُهَا الذِّمِّيَّ وَالْأَسِيرَ، كَسَائِرِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. فَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ مِنْهَا، فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا إلَى كَافِرٍ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الزَّكَاةَ، وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُعْطَى الْجَازِرُ بِأُجْرَتِهِ شَيْئًا مِنْهَا الْأُضْحِيَّة] (7880) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُعْطَى الْجَازِرُ بِأُجْرَتِهِ شَيْئًا مِنْهَا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فِي إعْطَائِهِ الْجِلْدَ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ مَا يَدْفَعُهُ إلَى الْجَزَّارِ أُجْرَةً عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ وَجِزَارَتِهِ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. فَأَمَّا إنْ دَفَعَ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَخْذِ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَهَا، وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ الِانْتِفَاع بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ] (7881) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ، لَا لَحْمِهَا وَلَا جِلْدِهَا، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالذَّبْحِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَبِيعُهَا، وَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْهَا. وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يَبِيعُهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قَالُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَجِلْدُ الْأُضْحِيَّةِ يُعْطَاهُ السَّلَّاخُ؟ قَالَ: لَا. وَحَكَى قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُعْطَى الْجَازِرُ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرَخَّصَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ فِي الْجِلْدِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِهِ الْغِرْبَالَ وَالْمُنْخُلَ وَآلَةَ الْبَيْتِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَجَرَى مَجْرَى تَفْرِيقِ اللَّحْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 يَبِيعُ مَا شَاءَ مِنْهَا، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ يَبِيعُ الْجِلْدَ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَلَنَا، أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَسْمِ جُلُودِهَا وَجِلَالِهَا، وَنَهْيُهُ أَنْ يُعْطَى الْجَازِرُ شَيْئًا مِنْهَا. وَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْوَقْفِ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي شِرَاءِ آلَةِ الْبَيْتِ، يَبْطُلُ بِاللَّحْمِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِآلَةِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ، فَأَمَّا جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا وَجِلَالِهَا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَجَازَ لِلْمُضَحِّي الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَاللَّحْمِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ يَدْبُغَانِ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِمَا، وَيُصَلِّيَانِ عَلَيْهِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، يُجَمِّلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: نَهَيْت عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْق ثَلَاثٍ. قَالَ: إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَتَصَدَّقُوا.» حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِهِ، فَجَازَ كَلَحْمِهَا. [مَسْأَلَةٌ يَجُوزَ أَنْ يُبْدِلَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا أَوْجَبَهَا بِخَيْرِ مِنْهَا] (7882) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَيَجُوزَ أَنْ يُبَدِّلَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا أَوْجَبَهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَلَا إبْدَالُهَا؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ، أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَفِي الْأُضْحِيَّةِ إذَا هَلَكَتْ، أَوْ ذَبَحَهَا فَسُرِقَتْ، لَا بَدَلَ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مِلْكَهُ مَازَالَ عَنْهَا، لَزِمَهُ بَدَلُهَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَالْإِبْدَالِ، كَالْوَقْفِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حِجَّتِهِ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ، فَأَشْرَكَهُ فِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْهِبَةِ أَوْ بَيْعٌ، وَلِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ عَيْنٍ وَجَبَتْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَى خَيْرٍ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا، فَجَازَ، كَمَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ، فَأَخْرَجَ حِقَّةً فِي الزَّكَاةِ، فَأَمَّا بَيْعُهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا، وَيَشْتَرِيَ خَيْرًا مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِشْرَاكِهِ فِيهَا، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا، بِدَلِيلِ جَوَازِ إبْدَالِهَا، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجُوزُ إبْدَالُهَا، فَجَازَ بَيْعُهَا كَمَا قَبْلَ إيجَابِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَالْوَقْفِ، وَإِنَّمَا جَازَ إبْدَالُهَا بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ الْحَقُّ فِيهَا عَنْ جِنْسِهَا، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ إلَى خَيْرٍ مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى ضَمُّ زِيَادَةٍ إلَيْهَا، وَقَدْ جَازَ إبْدَالُ الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَجُزْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 بَيْعُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبِعْهَا، وَإِنَّمَا شَرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِهَا وَأَجْرِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إيجَابِهَا. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: بِخَيْرٍ مِنْهَا. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ جُزْءٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ، كَإِتْلَافِهِ. وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِمِثْلِهَا؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي إبْدَالِهَا بِمِثْلِهَا احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَنَا أَنَّهُ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَإِبْدَالِهِ بِمَا دُونَهَا. [مَسْأَلَةٌ مَضَى مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْأَضْحَى مِقْدَارُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتِهِ فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ] (7883) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِذَا مَضَى مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْأَضْحَى مِقْدَارُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتِهِ، فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ إلَى آخِر يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ نَهَارًا، وَلَا يَجُوزُ لَيْلًا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الذَّبْحِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوَّلِهِ، وَآخِرِهِ، وَعُمُومِ وَقْتِهِ أَوْ خُصُوصِهِ. أَمَّا أَوَّلُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ إذَا مَضَى مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْعِيدِ قَدْرٌ تَحُلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَقَدْرُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ التَّامَّتَيْنِ فِي أَخَفِّ مَا يَكُونُ، فَقَدْ حَلَّ وَقْتُ الذَّبْحِ، وَلَا تُعْتَبَرُ نَفْسُ الصَّلَاةِ، لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ التَّضْحِيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَخُطْبَتَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رَوَى جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى.» وَعَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ، الذَّبْحُ، فَمِنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ " وَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ نَفْسِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: وَقْتُهَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ آخِرُهَا بِالْوَقْتِ، فَتَعَلَّقَ أَوَّلُهَا بِالْوَقْتِ، كَالصِّيَامِ. وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّ وَقْتَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَالْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، فَأَوَّلُ وَقْتِهَا فِي حَقِّهِمْ قَدْرُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي حَقِّهِمْ تُعْتَبَرُ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ بِقَدْرِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَوَّلُ وَقْتِهَا فِي حَقِّهِمْ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَكَانَ وَقْتُهَا مِنْهُ كَسَائِرِ الْيَوْمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ وَقْتُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ بَعْدَ إشْرَاقِ الشَّمْسِ، فَلَا تَتَقَدَّمُ وَقْتَهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، كَصَلَاةِ الْعِيدِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْإِمَامُ فِي الْمِصْرِ، لَمْ يَجْزِ الذَّبْحُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ صَلَّى، وَسَوَاءٌ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ، لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الذَّبْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَهُوَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ دَخَلَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مِنْ أَثْنَائِهِ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُهَا. وَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمُصَلَّى، وَاسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَمَتَى صَلَّوْا فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ جَازَ الذَّبْحُ؛ لِوُجُودِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ فَإِنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ الْمَنْعَ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. الثَّانِي، آخِرُ الْوَقْتِ، وَآخِرُهُ آخِرُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَتَكُونُ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةً؛ يَوْمُ الْعِيدِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ. قَالَ أَحْمَدُ: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَسًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ» . وَلِأَنَّهَا أَيَّامُ تَكْبِيرٍ وَإِفْطَارٍ، فَكَانَتْ مَحَلًّا لِلنَّحْرِ كَالْأَوَّلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا تَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا وَظِيفَةُ عِيدٍ، فَلَا تَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، كَأَدَاءِ الْفِطْرِ. يَوْمَ الْفِطْرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، كَقَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ فِي أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَقَوْلِنَا فِي أَهْلِ مِنًى، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ إلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشْتَرِي أُضْحِيَّةً، فَيُسَمِّنُهَا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ ذِي الْحِجَّةِ، فَيُضَحِّيَ بِهَا. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ عَجِيبٌ. وَقَالَ: أَيَّامُ الْأَضْحَى الَّتِي أُجْمِعَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ. وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ ادِّخَارُ الْأُضْحِيَّةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لَا يَجِبُ الرَّمْيُ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ فِيهِ، كَاَلَّذِي بَعْدَهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ إلَّا رِوَايَةً عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَحَدِيثُهُمْ إنَّمَا هُوَ: " وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ". لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَيَّامِ، وَالتَّكْبِيرُ أَعَمُّ مِنْ الذَّبْحِ، وَكَذَلِكَ الْإِفْطَارُ، بِدَلِيلِ أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ تَكْبِيرٍ، وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ فِيهِ. الثَّالِثُ، فِي زَمَنِ الذَّبْحِ، وَهُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الذَّبْحَ يَجُوزُ لَيْلًا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابه؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَنٌ يَصِحُّ فِيهِ الرَّمْيُ، فَأَشْبَهَ النَّهَارَ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ الذَّبْحِ بِاللَّيْلِ. وَلِأَنَّهُ لَيْلُ يَوْمٍ يَجُوزُ الذَّبْحُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ لَيْلَةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلِأَنَّ اللَّيْلَ تَتَعَذَّرُ فِيهِ تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ فِي الْغَالِبِ، فَلَا يُفَرَّقُ طَرِيًّا، فَيَفُوتُ بَعْضُ الْمَقْصُودِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: يُكْرَهُ الذَّبْحُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ ذَبَحَ لَيْلًا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَذَبَحَهَا، كَانَتْ شَاةَ لَحْمٍ، وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، فَإِنْ فَرَّقَهَا، حَصَلَتْ الْقُرْبَةُ بِتَفْرِيقِهَا، دُونَ ذَبْحِهَا. [فَصْلٌ فَاتَ وَقْتُ الذَّبْحِ الْأُضْحِيَّةَ] (7884) فَصْلٌ: إذَا فَاتَ وَقْتُ الذَّبْحِ، ذَبَحَ الْوَاجِبَ قَضَاءً، وَصَنَعَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَذْبُوحِ فِي وَقْتِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي التَّطَوُّعِ، فَإِنْ فَرَّقَ لَحْمَهَا كَانَتْ الْقُرْبَةُ بِذَلِكَ دُونَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهَا شَاةُ لَحْمٍ، وَلَيْسَتْ أُضْحِيَّةً، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسَلِّمُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يَذْبَحُهَا، فَإِنْ ذَبَحَهَا فَرَّقَ لَحْمَهَا، وَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا نَقَصَهَا الذَّبْحُ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ سَقَطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْأُضْحِيَّةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهَا فِي الْأَيَّامِ، ثُمَّ خَرَجَتْ قَبْلَ تَفْرِيقِهَا، فَرَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَيُفَارِقُ الْوُقُوفَ وَالرَّمْيَ، وَلِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَا تَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا، بِخِلَافِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ وَجَبَتْ الْأُضْحِيَّةِ بِإِيجَابِهِ لَهَا فَضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ] (7885) فَصْلٌ: إذَا وَجَبَتْ الْأُضْحِيَّةُ بِإِيجَابِهِ لَهَا، فَضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ ذَبَحَهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِي زَمَنِ الذَّبْحِ، أَوْ فِيمَا بَعْدُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 [مَسْأَلَةٌ ذَبَحَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْل الصَّلَاة] (7886) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَزِمَهُ الْبَدَلُ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى» . وَلِأَنَّهَا نَسِيكَةٌ وَاجِبَةٌ، ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَزِمَهُ بَدَلُهَا، كَالْهَدْيِ إذَا ذَبَحَهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهَا مِثْلَهَا أَوْ خَيْرًا مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَبْحَهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا إتْلَافٌ لَهَا. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ، وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مَحْمُولٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ بِنَذْرٍ أَوْ تَعْيِينٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَهِيَ شَاةُ لَحْمٍ، وَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّطَوُّعَ فَأَفْسَدَهُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ فَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا النَّدْبُ، وَإِمَّا عَلَى التَّخْصِيصِ بِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ، فَهِيَ شَاةُ لَحْمٍ، كَمَا وَصَفَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَاهُ يَصْنَعُ بِهَا مَا شَاءَ، كَشَاةٍ ذَبَحَهَا لِلَحْمِهَا، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، فَقَدْ لَزِمَهُ إبْدَالُهَا، وَذَبْحُ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَخَرَجَتْ هَذِهِ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً، كَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ، إذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَقَدْ أَخْرَجَهَا بِذَبْحِهِ إيَّاهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا عَنْ الْقُرْبَةِ، فَبَقِيَتْ مُجَرَّدَ شَاةِ لَحْمٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ، كَالْهَدْيِ إذَا عَطِبَ؛ لَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْهَدْيِ عَلَى رِوَايَةٍ، وَيَكُونُ، مَعْنَى قَوْلِهِ " شَاةُ لَحْمٍ ". أَيْ فِي فَضْلِهَا وَثَوَابِهَا خَاصَّةً، دُونَ مَا يَصْنَعُ بِهَا. [مَسْأَلَة لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا إلَّا مُسْلِمٌ الْأُضْحِيَّةِ] (7887) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا إلَّا مُسْلِمٌ، وَإِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ، فَلَا يَلِيهَا غَيْرُ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ اسْتَنَابَ ذِمِّيًّا فِي ذَبْحِهَا، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَهَا إلَّا مُسْلِمٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمِمَّنْ كَرِهَ ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ جَابِرٌ: لَا يَذْبَحُ النُّسُكَ إلَّا مُسْلِمٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَلَا يَذْبَحْ ضَحَايَاكُمْ إلَّا طَاهِرٌ ". وَلِأَنَّ الشُّحُومَ تَحْرُمُ عَلَيْنَا مِمَّا يَذْبَحُونَهُ عَلَى رِوَايَةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِهِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ ذَبْحُ غَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ، جَازَ لَهُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ، كَالْمُسْلِمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ مَا كَانَ قُرْبَةً لِلْمُسْلِمِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَلَا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَيْنَا بِذَبْحِهِمْ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا الْمُسْلِمُ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. وَنَحَرَ الْبَدَنَاتِ السِّتَّ بِيَدِهِ. وَنَحَرَ مِنْ الْبُدْنِ الَّتِي سَاقَهَا فِي حِجَّتِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ. وَلِأَنَّ فِعْلَهُ قُرْبَةٌ، وَفِعْلُ الْقُرْبَةِ أَوْلَى مِنْ اسْتِنَابَتِهِ فِيهَا فَإِنْ اسْتَنَابَ فِيهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَنَابَ مَنْ نَحَرَ بَاقِيَ بُدْنِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ ذَبْحَهَا؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ " وَاحْضُرُوهَا إذَا ذَبَحْتُمْ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكُمْ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا ". وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ: اُحْضُرِي أُضْحِيَّتَك، يُغْفَرْ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا.» [مَسْأَلَة التَّسْمِيَة عِنْدَ الذَّبْحِ] (7888) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَيَقُولُ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَإِنْ نَسِيَ فَلَا يَضُرُّهُ. ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا ذَبَحَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» وَفِي حَدِيثِ أَنَسٌ: وَسَمَّى وَكَبَّرَ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ. وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا خِلَافًا، وَلَا فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ مُجْزِئَةٌ. وَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ، أَجْزَأَهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الذَّبَائِحِ. وَإِنْ زَادَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، أَوْ مِنْ فُلَانٍ. فَحَسَنٌ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] . وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِكَبْشٍ لَهُ لِيَذْبَحَهُ، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ ضَحَّى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ اكْبَرْ. ثُمَّ ذَبَحَ» . وَهَذَا نَصٌّ لَا يُعَرَّجُ عَلَى خِلَافِهِ. (7889) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ عَمَّنْ لِأَنَّ النِّيَّةَ تُجْزِئُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ النِّيَّةَ تُجْزِئُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 وَإِنْ ذَكَرَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فَحَسَنٌ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا مِنْك وَلَك، تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ. وَكَرِهَ أَهْلُ الرَّأْي هَذَا. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ عَيَّنَ أُضْحِيَّة فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ] (7890) فَصْلٌ: وَإِنْ عَيَّنَ أُضْحِيَّةً، فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ شَاةُ لَحْمٍ، لِصَاحِبِهَا أَرْشُهَا، وَعَلَيْهِ بَدَلُهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ عِبَادَةٌ، فَإِذَا فَعَلَهَا غَيْرُ صَاحِبِهَا عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ، كَالزَّكَاةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَهُ عَلَى ذَابِحِهَا أَرْشُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً وَمَذْبُوحَةً؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْهَدْيِ، فَإِذَا فَعَلَهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُضَحِّي، ضَمِنَهُ، كَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ. وَلَنَا، عَلَى مَالِكٍ، أَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، فَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُ الصَّاحِبِ أَجْزَأَ عَنْهُ، كَغَسْلِ ثَوْبِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ ذَابِحُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ بِإِذْنٍ، وَلِأَنَّهُ إرَاقَةُ دَمٍ تَعَيَّنَ إرَاقَتُهُ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، فَلَمْ يَضْمَنْ مُرِيقُهُ، كَقَاتِلِ الْمُرْتَدِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ لَوْ وَجَبَ، فَإِنَّمَا يَجِبُ مَا بَيْنَ كَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةَ الذَّبْحِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مُتَعَيِّنَةً لَهُ وَمَا بَيْنَ كَوْنِهَا مَذْبُوحَةً، وَلَا قِيمَةَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَتَعَذَّرَ وُجُودُ الْأَرْشِ وَوُجُوبُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَرْشُ لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَجِبَ لِلْمُضَحِّي، أَوْ لِلْفُقَرَاءِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَجِبَ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهَا مَذْبُوحَةً، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَجِبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَ شَيْءٍ مِنْهَا، كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، وَلِأَنَّهُمْ وَافَقُونَا فِي أَنَّ الْأَرْشَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ، فَيَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ، لِعَدَمِ مُسْتَحِقِّهِ. [فَصْلٌ نَذْرَ أُضْحِيَّة فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ ذَبَحَهَا] (7891) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ ذَبَحَهَا، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ الْأَكْلَ مِنْهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَبَنَاهُ عَلَى الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ذَبْحُهَا، وَالْأَكْلُ مِنْهَا، وَالنَّذْرُ لَا يُغَيِّرُ مِنْ صِفَةِ الْمَنْذُورِ إلَّا الْإِيجَابَ، وَفَارَقَ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ؛ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، فَالْمَنْذُورُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ. [فَصْلٌ لَا يُضَحِّي عَمَّا فِي الْبَطْنِ] (7892) فَصْلٌ: وَلَا يُضَحِّي عَمَّا فِي الْبَطْنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُمْ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، أَنْ يُضَحُّوا إلَّا بِإِذْنِ سَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، إلَّا الْمَكَاتِب، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ، وَالْأُضْحِيَّةُ تَبَرُّعٌ. وَأَمَّا مَنْ نِصْفُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 حُرٌّ إذَا مَلَكَ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ [مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِك السَّبْعَةُ فَيُضَحُّوا بِالْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ] (7893) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ، فَيُضَحُّوا بِالْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ كَانُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ، أَوْ يُرِيدُ بَعْضُهُمْ الْقُرْبَةَ وَبَعْضُهُمْ اللَّحْمَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُتَقَرِّبِينَ، وَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَاحِدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلَّ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِيهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَنَا، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْجُزْءَ الْمُجَزَّأَ لَا يَنْقُصُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكِ غَيْرَ الْقُرْبَةِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُ الْقُرْبِ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ التَّضْحِيَةَ، وَبَعْضُهُمْ الْفِدْيَةَ. (7894) فَصْلٌ: وَيَحُوزُ لِلْمُشْتَرَكِينَ قِسْمَةُ اللَّحْمِ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، وَبَيْعُ لَحْمِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَنَا، أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاشْتِرَاكِ، مَعَ أَنَّ سُنَّةَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ الْأَكْلُ مِنْهَا، دَلِيلٌ عَلَى تَجْوِيزِ الْقِسْمَةِ، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْأَكْلِ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، بَلْ هِيَ إفْرَازُ حَقٍّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْقِسْمَةُ. [مَسْأَلَةٌ حُكْم الْعَقِيقَةُ] (7895) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ، عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ الْعَقِيقَةُ: الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْ الْمَوْلُودِ، وَقِيلَ: هِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ وَيُدْعَى إلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْمَوْلُودِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْأَصْلُ فِي الْعَقِيقَةِ. الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْمَوْلُودِ، وَجَمْعُهَا عَقَائِقُ، وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاعِر: أَيَا هِنْدُ لَا تَنْكِحِي بُوهَةً ... عَلَيْهِ عَقِيقَتُهُ أَحْسَبَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 ثُمَّ إنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ الذَّبِيحَةَ عِنْدَ حَلْقِ شَعْرِهِ عَقِيقَةً، عَلَى عَادَاتِهِمْ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ أَوْ مَا جَاوَرَهُ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَغْمُورَةً فِيهِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْعَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا الذَّبِيحَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقَالَ: إنَّمَا الْعَقِيقَةُ الذَّبْحُ نَفْسُهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ أَصْلَ الْعَقِّ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ عَقَّ وَالِدَيْهِ، إذَا قَطَعَهُمَا. وَالذَّبْحُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ. وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَفُقَهَاءُ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ، إلَّا أَصْحَابَ الرَّأْيِ، قَالُوا لَيْسَتْ سُنَّةً، وَهِيَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَقِيقَةِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يُحِبُّ الْعُقُوقَ. فَكَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ، وَقَالَ: مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ.» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " لَوْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَدَاوُد: هِيَ وَاجِبَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ، أَنَّ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا، كَمَا يُعْرَضُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى فِيهِ، وَتُحْلَقُ رَأْسُهُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرَوَى حَدِيثَ سَمُرَةَ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ عَنْ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ.» وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. وَلَنَا، عَلَى اسْتِحْبَابِهَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَعَنْ أُمِّ كَرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مِثْلَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " الْعَقِيقَةُ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ ". وَالْإِجْمَاعُ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الْعَقِيقَةُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، كَانُوا يَكْرَهُونَ تَرْكَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ ". وَهُوَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ، يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَجَعَلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَخْبَارِ. وَأَمَّا بَيَانُ كَوْنِهَا غَيْرَ وَاجِبَةٍ، فَدَلِيلُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ الْخَبَرِ، وَمَا رَوَوْهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَالْوَلِيمَةِ وَالنَّقِيعَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 [فَصْلٌ الْعَقِيقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ] (7896) فَصْلٌ: وَالْعَقِيقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعُقُّ، فَاسْتَقْرَضَ، رَجَوْت أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إحْيَاءَ سُنَّةٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: صَدَقَ أَحْمَدُ، إحْيَاءُ السُّنَنِ وَاتِّبَاعُهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مِنْ التَّأْكِيدِ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا. وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، فَكَانَتْ أَوْلَى، كَالْوَلِيمَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ. [مَسْأَلَةٌ الْعَقِيقَة عَنْ الْغُلَامِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ] (7897) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ عَنْ الْغُلَامِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِهَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُول: شَاةٌ شَاةٌ عَنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ شَاةً، وَعَنْ الْحُسَيْنِ شَاةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَانَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، لَا يَرَيَانِ عَنْ الْجَارِيَةِ عَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْوَلَدِ، وَالْجَارِيَةُ لَا يَحْصُلُ بِهَا سُرُورٌ، فَلَا يُشْرَعُ لَهَا عَقِيقَةٌ. وَلَنَا، حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَأُمِّ كَرْزٍ، وَهَذَا نَصٌّ، وَمَا رَوَوْهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ ". وَفِي رِوَايَةٍ " مِثْلَانِ " قَالَ أَحْمَدُ: يَعْنِي مُتَمَاثِلَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ " وَفِي رِوَايَةٍ: " مِثْلَانِ ". قَالَ أَحْمَدُ: يَعْنِي لِمَا جَاءَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيهِ، وَيَجُوزُ فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ كَرْزٍ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَالذَّكَرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ، وَضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ. وَالْعَقِيقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْأُضْحِيَّةِ. وَالْأَفْضَلُ فِي لَوْنِهَا الْبَيَاضُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا. وَيُسْتَحَبُّ اسْتِسْمَانُهَا، وَاسْتِعْظَامُهَا، وَاسْتِحْسَانُهَا كَذَلِكَ. وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ، أَوْ عَقَّ بِكَبْشٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 [مَسْأَلَةٌ مَتَى تُذْبَحُ الْعَقِيقَة] (7898) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَيُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ أَنْ تُذْبَحَ يَوْمَ السَّابِعِ، فَإِنْ فَاتَ فَفِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَإِنْ فَاتَ فَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَائِشَةَ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَعَنْ مَالِكٍ، فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ، فَقَالَ: مَا عَلِمْت هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، وَمَا يُعْجِبُنِي. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْن أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلِينَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا فِي اسْتِحْبَابِ ذَبْحِهَا يَوْمَ السَّابِعِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ سَمُرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى فِيهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» . وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ، ثُمَّ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، فَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهَذَا تَقْدِيرٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا. وَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ. وَإِنْ تَجَاوَزَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، احْتَمَلَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِي كُلِّ سَابِعٍ، فَيَجْعَلَهُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعُشْرِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَفِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَعَلَى هَذَا، قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ هَذَا قَضَاءُ فَائِتٍ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ، كَقَضَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَإِنْ لَمْ يَعُقَّ أَصْلًا، فَبَلَغَ الْغُلَامُ، وَكَسَبَ، فَلَا عَقِيقَةَ عَلَيْهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: ذَلِكَ عَلَى الْوَالِدِ. يَعْنِي لَا يَعُقُّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ: يَعُقُّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ مُرْتَهَنٌ بِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ لَهُ فِكَاكُ نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْوَالِدِ، فَلَا يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَكَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. [فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْلَقَ رَأْسُ الصَّبِيِّ يَوْمَ السَّابِع وَيُسَمَّى] (7899) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْلَقَ رَأْسُ الصَّبِيِّ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُسَمَّى؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ. وَإِنْ تَصَدَّقَ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً فَحَسَنٌ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ، لَمَّا وَلَدَتْ الْحَسَنَ: احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْأَفَاوِضِ» . يَعْنِي أَهْلَ الصُّفَّةِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، «أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ، وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِوَزْنِ شُعُورِهِمَا وَرِقًا» ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا، حَلَقَتْ شَعَرَهُ، وَتَصَدَّقَتْ بِوَزْنِهِ وَرِقًا. وَإِنْ سَمَّاهُ قَبْلَ السَّابِعِ، جَازَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وُلِدَ اللَّيْلَةَ لِي غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إبْرَاهِيمَ.» وَسَمَّى الْغُلَامَ الَّذِي جَاءَهُ بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَحَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ، وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَحَبُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 الْأَسْمَاءِ إلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَبَيْنَ كُنْيَتِي.» [فَصْلٌ يُكْرَهُ أَنْ يُلَطَّخَ رَأْسُ الْمَوْلُود بِدَمِ] (7900) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُلَطَّخَ رَأْسُهُ بِدَمٍ. كَرِهَ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُدْمَى» . رَوَاهُ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ هَذَا إلَّا الْحَسَنَ وَقَتَادَةَ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَرِهُوهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُمَسَّ بِدَمٍ؛ لِأَنَّهُ أَذًى. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُعَقُّ عَنْ الْغُلَامِ، وَلَا يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ» . قَالَ مُهَنَّا: ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ، فَقَالَ: مَا أَظْرَفَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ أَبِيهِ. وَلِأَنَّ هَذَا تَنْجِيسٌ لَهُ، فَلَا يُشْرَعُ، كَلَطْخِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَقَالَ بُرَيْدَةَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ، ذَبَحَ شَاةً، وَيُلَطِّخُ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً، وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: " وَيُدْمَى " فَقَالَ أَبُو دَاوُد " وَيُسَمَّى " أَصَحُّ. هَكَذَا قَالَ سَلَّامٍ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَإِيَاسُ بْنُ دَغْفَلٍ، عَنْ الْحَسَنِ، وَوَهَمَ هَمَّامٌ، فَقَالَ: " وَيُدْمَى "، قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ فِيهِ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ " يُسَمَّى ". وَقَالَ هَمَّامٌ " يُدْمَى " وَمَا أُرَاهُ إلَّا خَطَأً. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ تَصْحِيفٌ مِنْ الرَّاوِي. [مَسْأَلَةٌ يُجْتَنَبُ فِي الْعَقِيقَة مِنْ الْعَيْبِ مَا يُجْتَنَبُ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (7901) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيُجْتَنَبُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُجْتَنَبُ فِي الْأُضْحِيَّةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حُكْمَ الْعَقِيقَةِ حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ؛ فِي سَنِّهَا، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُمْنَعُ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: ائْتُونِي بِهِ أَعْيَنَ أَقْرَنَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَذَكَرٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْأُنْثَى، وَالضَّأْنُ أَحَبُّ مِنْ الْمَعْزِ. فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى، وَالْعَضْبَاءُ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا. وَتُكْرَهُ فِيهَا الشَّرْقَاءُ، وَالْخَرْقَاءُ، وَالْمُقَابَلَةُ، وَالْمُدَابَرَةُ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِشْرَافُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا، فَتُقَاسُ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَة سَبِيل الْعَقِيقَة فِي الْأَكْلِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَة] (7902) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَسَبِيلُهَا فِي الْأَكْلِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ سَبِيلُهَا، إلَّا أَنَّهَا تُطْبَخُ أَجْدَالًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اصْنَعْ بِلَحْمِهَا كَيْف شِئْت. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٌ: تُطْبَخُ بِمَاءٍ وَمِلْحٍ، وَتُهْدَى الْجِيرَانَ وَالصَّدِيقَ، وَلَا يُتَصَدَّقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا، فَحَكَى قَوْلَ ابْنِ سِيرِينَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ. وَسُئِلَ هَلْ يَأْكُلُهَا كُلَّهَا؟ قَالَ: لَمْ أَقُلْ يَأْكُلُهَا كُلَّهَا، وَلَا يَتَصَدَّقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ. وَالْأَشْبَهُ قِيَاسُهَا عَلَى الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَسِيكَةٌ مَشْرُوعَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَأَشْبَهَتْ الْأُضْحِيَّةَ، وَلِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي صِفَاتِهَا وَسَنِّهَا وَقَدْرِهَا وَشُرُوطِهَا، فَأَشْبَهَتْهَا فِي مَصْرِفِهَا. وَإِنْ طَبَخَهَا، وَدَعَا إخْوَانَهُ فَأَكَلُوهَا، فَحَسَنٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُفْصَلَ أَعْضَاؤُهَا، وَلَا تُكْسَرَ عِظَامُهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ عَنْ الْغُلَامِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، تُطْبَخُ جُدُولًا، وَلَا يُكْسَرُ عَظْمٌ، يَأْكُلُ، وَيُطْعِمُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَذَلِكَ يَوْمُ السَّابِعُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْعَقِيقَةِ تُطْبَخُ جُدُولًا، لَا يُكْسَرُ لَهَا عَظْمٌ. أَيْ عُضْوًا عُضْوًا، وَهُوَ الْجَدْلُ، بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْإِرْبُ، وَالشِّلْوُ، وَالْعُضْوُ وَالْوَصْلُ، كُلُّهُ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ ذَبِيحَةٍ ذُبِحَتْ عَنْ الْمَوْلُودِ، فَاسْتُحِبَّ فِيهَا ذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ. كَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. [فَصْلٌ يُبَاعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْجِلْدُ وَالرَّأْسُ وَالسِّقْطُ يَتَصَدَّق بِهِ] (7903) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يُبَاعُ الْجِلْدُ وَالرَّأْسُ وَالسِّقْطُ، يُتَصَدَّقُ بِهِ. وَقَدْ نَصَّ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَهُوَ أَقْيَسُ فِي مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ لِلَّهِ، فَلَا يُبَاعُ مِنْهَا شَيْءٌ، كَالْهَدْيِ، وَلِأَنَّهُ تُمْكِنُ الصَّدَقَةُ بِذَلِكَ بِعَيْنِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيْعِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْقَلَ حُكْمُ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى، فَيَخْرُج فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأُضْحِيَّةَ ذَبِيحَةٌ شُرِعَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأَشْبَهَتْ الْهَدْيَ، وَالْعَقِيقَةُ شُرِعَتْ عِنْدَ سُرُورِ حَادِثٍ، وَتَجَدُّدِ نِعْمَةٍ، فَأَشْبَهْت الذَّبِيحَةَ فِي الْوَلِيمَةِ، وَلِأَنَّ الذَّبِيحَةَ هَاهُنَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا مَا شَاءَ، مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، وَالصَّدَقَةُ بِثَمَنِ مَا بِيعَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ بِهِ فِي فَضْلِهَا، وَثَوَابِهَا، وَحُصُولِ النَّفْعِ بِهِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 [فَصْلٌ يُسْتَحَبّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أُذُنِ ابْنِهِ حِينَ يُولَدُ] (7904) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْم: يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أُذُنِ ابْنِهِ حِينَ يُولَدُ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ» . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ كَانَ إذَا وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ، أَخَذَهُ فِي خِرْقَةٍ، فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى، وَأَقَامَ فِي الْيُسْرَى، وَسَمَّاهُ. وَرَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَ الْحَسَنِ يُهَنِّئُهُ بِابْنٍ لَهُ: لِيَهْنِكَ الْفَارِسُ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ فَارِسٌ هُوَ أَوْ حِمَارٌ؟ فَقَالَ: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: بُورِكَ فِي الْمَوْهُوبِ، وَشَكَرْت الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَرُزِقْت بِرَّهُ. وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَنِّكُ أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ بِالتَّمْرِ» . وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: «ذَهَبْت بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وُلِدَ قَالَ: هَلْ مَعَك تَمْرٌ؟ . فَنَاوَلْته تَمَرَاتٍ، فَلَاكَهُنَّ، ثُمَّ فَغَرَ فَاهُ ثُمَّ مَجَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ يَتَلَمَّظُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ» . [فَصْلٌ الْفَرَعَةُ وَالْعَتِيرَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ] فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تُسَنُّ الْفَرَعَةُ وَلَا الْعَتِيرَةُ. وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى ابْنِ سِيرِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ الْعَتِيرَةَ فِي رَجَبٍ، وَيَرْوِي فِيهَا شَيْئًا. وَالْفَرَعَةُ وَالْفَرَعُ؛ بِفَتْحِ الرَّاءِ: أَوَّلُ وَلَدِ النَّاقَةِ. كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُهُوا عَنْهَا. قَالَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعَتِيرَةُ هِيَ الرَّجَبِيَّةُ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا، نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ مِنْ غَنَمِهِ شَاةً فِي رَجَبٍ، وَهِيَ الْعَتَائِرُ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ، جَعَلُوا ذَلِكَ سُنَّةً فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَالْأُضْحِيَّةِ فِي الْأَضْحَى، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْذِرُهَا كَمَا قَدْ تُنْذَرُ الْأُضْحِيَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي ثُبُوتَهَا بِغَيْرِ نَذْرٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ. وَلِأَنَّ الْعَتِيرَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْذُورَةَ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ شَاةٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَرَعَةِ، مِنْ كُلِّ خَمْسٍ وَاحِدَةٌ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا فَرَعَ، وَلَا عَتِيرَةَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْأَمْرِ بِهَا، فَيَكُونُ نَاسِخًا، وَدَلِيلُ تَأَخُّرِهِ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ رَاوِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ إسْلَامَهُ فِي سَنَةِ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَهِيَ السَّنَةُ السَّابِعَةُ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْفَرَعَ وَالْعَتِيرَةَ كَانَ فِعْلُهُمَا أَمْرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُمْ عَلَيْهِ إلَى حِينِ نَسْخِهِ، وَاسْتِمْرَارُ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لَهُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَقَدُّمَ النَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا، لَكَانَتْ قَدْ نُسِخَتْ ثُمَّ نُسِخَ نَاسِخُهَا، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ نَفْيُ كَوْنِهَا سُنَّةً، لَا تَحْرِيمُ فِعْلِهَا، وَلَا كَرَاهَتُهُ، فَلَوْ ذَبَحَ إنْسَانٌ ذَبِيحَةً فِي رَجَبٍ، أَوْ ذَبَحَ وَلَدَ النَّاقَةِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ، أَوْ لِلصَّدَقَةِ بِهِ وَإِطْعَامِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَاَللَّه - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 [كِتَاب السَّبْقِ وَالرَّمْيِ] ِ الْمُسَابَقَةُ جَائِزَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيْنَ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: مِنْ الْحَفْيَاءِ. إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ مُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ. فَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَتَجُوزُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، كَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَالسُّفُنِ، وَالطُّيُورِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالْفِيَلَةِ، وَالْمَزَارِيقِ، وَتَجُوزُ الْمُصَارَعَةُ، وَرَفْعُ الْحَجَرِ، لِيُعْرَفَ الْأَشَدُّ، وَغَيْرِ هَذَا؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا، فَسَبَقَتْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا حَمَلْت اللَّحْمَ، سَابَقْته، فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسَابَقَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ. «صَارَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةَ، فَصَرَعَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُرَبِّعُونَ حَجَرًا - يَعْنِي يَرْفَعُونَهُ لِيَعْرِفُوا الْأَشَدَّ مِنْهُمْ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَسَائِرُ الْمُسَابَقَةِ يُقَاسُ عَلَى هَذَا. وَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ، فَلَا تَجُوزُ إلَّا بَيْنَ الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالرَّمْيِ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتُصَّتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِتَجْوِيزِ الْعِوَضِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ الْمَأْمُورِ بِتَعَلُّمِهَا، وَإِحْكَامِهَا، وَالتَّفَوُّقِ فِيهَا، وَفِي الْمُسَابَقَةِ بِهَا مَعَ الْعِوَضِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِهَادِ فِي النِّهَايَةِ لَهَا، وَالْإِحْكَامِ لَهَا، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ بِهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» . وَرَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ خَالِدِ بْن زَيْدٍ، قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 كُنْت رَجُلًا رَامِيًا «، وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ يَمُرُّ بِي فَيَقُولُ: يَا خَالِدُ، اُخْرُجْ بِنَا نَرْمِي. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَبْطَأْت عَنْهُ، فَقَالَ: هَلُمَّ أُحَدِّثْك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ، ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَلَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ إلَّا ثَلَاثٌ؛ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ، رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا» . وَعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ مِنْ لَهْوِكُمْ إلَّا الرِّهَانَ وَالنِّضَالَ» . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النِّضَالُ فِي الرَّمْيِ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ، وَالسِّبَاقُ فِيهِمَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَرَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَشْتَدُّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ، إذَا أَصَابَ خَصْلَةً قَالَ: أَنَا بِهَا، أَنَا بِهَا. وَعَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ. [مَسْأَلَة السَّبْقُ فِي النَّصْلِ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ لَا غَيْرُ] (7906) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالسَّبْقُ فِي النَّصْلِ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ لَا غَيْرُ) السَّبْقُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، الْمُسَابِقَةُ وَالسَّبَقُ بِفَتْحِهَا: الْجُعْلُ الْمُخْرَجُ فِي الْمُسَابَقَةِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ هَاهُنَا السَّهْمُ ذُو النَّصْلِ، وَبِالْحَافِرِ الْفَرَسُ، وَبِالْخُفِّ الْبَعِيرُ، عَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِجُزْءٍ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِهِ. وَمُرَادُ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ بِعِوَضِ لَا تَجُوزُ إلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَبِهَذَا قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَالْمُصَارَعَةِ؛ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِمَا «، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ عَائِشَةَ، وَصَارَعَ رُكَانَةَ.» وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَهُمْ فِي الْمُسَابَقَةِ فِي الطُّيُورِ وَالسُّفُنِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالْمُصَارَعَةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا سَبْقَ إلَّا فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَنَفَى السَّبْقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْجُعْلِ، أَيْ لَا يَجُوزُ الْجُعْلُ إلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا. وَلِأَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْجِهَادِ، كَالْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَلَمْ تَجُزْ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا بِعِوَضٍ، كَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ وَرَفْعِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ السِّهَامُ مِنْ النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالْحَافِرِ الْخَيْلُ وَحْدَهَا، وَالْخُفِّ الْإِبِلُ وَحْدَهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِكُلِّ مَا لَهُ نَصْلٌ مِنْ الْمَزَارِيقِ، وَفِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 الرُّمْحِ وَالسَّيْفِ وَجْهَانِ، وَفِي الْفِيلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَجْهَانِ لِأَنَّ لِلْمَزَارِيقِ وَالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ نَصْلًا، وَلِلْفِيلِ خُفٌّ، وَلِلْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ حَوَافِرُ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا لَا تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَلَا يُقَاتَلُ عَلَيْهَا، وَلَا يُسْهَمُ لَهَا، وَالْفِيلُ لَا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَالرِّمَاحُ وَالسُّيُوفُ لَا يُرْمَى بِهَا، فَلَمْ تَجُزْ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا، كَالْبَقَرِ وَالتِّرَاسِ، وَالْخَبَرُ لَيْسَ بِعَامٍّ فِيمَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي إثْبَاتٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي نَفْيِ مَا لَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِهِ بِعِوَضٍ؛ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عَامًّا، لَحُمِلَ عَلَى مَا عُهِدَتْ الْمُسَابِقَةُ عَلَيْهِ، وَوَرَدَ الشَّرْعُ بِالْحَثِّ عَلَى تَعَلُّمِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ أَرَادَا أَنْ يَسْتَبِقَا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُخْرِجْ الْآخِرُ] (7907) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ وَإِذَا أَرَادَا أَنْ يَسْتَبِقَا، أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُخْرِجْ الْآخَرُ، فَإِنْ سَبَقَ مَنْ أَخْرَجَ، أَحْرَزَ سَبْقَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمَسْبُوقِ شَيْئًا وَإِنْ سَبَقَ مَنْ لَمْ يُخْرِجْ، أَحْرَزَ سَبْقَ صَاحِبِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ حِزْبَيْنِ، لَمْ تَخْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِمَامِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَالِهِ، أَوْ مِنْ بَيْت الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَحَثًّا عَلَى تَعَلُّمِ الْجِهَادِ، وَنَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إمَامٍ، جَازَ لَهُ بَذْلُ الْعِوَضِ مِنْ مَالِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَذْلُ الْعِوَضِ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْجِهَادِ، فَاخْتُصَّ بِهِ الْإِمَامُ لِتَوْلِيَةِ الْوِلَايَات وَتَأْمِيرِ الْأُمَرَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَذْلٌ لِمَالِهِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَقُرْبَةٌ فَجَازَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِهِ خَيْلًا وَسِلَاحًا. فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْهُمَا، اُشْتُرِطَ كَوْنُ الْجُعْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَقُولُ: إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَشَرَةٌ، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ عَلَيْك. فَهَذَا جَائِزٌ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قِمَارٌ. وَلَنَا، أَنَّ أَحَدُهُمَا يَخْتَصُّ بِالسَّبْقِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ. وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ الْقِمَارَ أَنْ لَا يَخْلُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ، وَهَا هُنَا لَا خَطَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَلَا يَكُونُ قِمَارًا فَإِذَا سَبَقَ الْمُخْرِجُ أَحْرَزَ سَبَقَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ سَبَقَ الْآخَرُ أَخَذَ سَبْقَ الْمُخْرِجِ فَمَلَكَهُ، وَكَانَ كَسَائِرِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي الْجَعَالَةِ، فَيُمْلَكُ فِيهَا، كَالْعِوَضِ الْمَجْعُولِ فِي رَدِّ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ. وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ دَيْنٌ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ أَفْلَسَ، ضُرِبَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. [فَصْلٌ حُكْم الْمُسَابَقَةُ] (7908) فَصْلٌ: وَالْمُسَابَقَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: هُوَ لَازِمٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 إنْ كَانَ الْعِوَضُ مِنْهُمَا، وَجَائِزٌ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي احْتِمَالًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ مَعْلُومَيْنِ، فَكَانَ لَازِمًا، كَالْإِجَارَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَا تَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَكَانَ جَائِزًا، كَرَدِّ الْآبِقِ، فَإِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْإِصَابَةِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْإِجَارَةَ. فَعَلَى هَذَا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمُسَابَقَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الزِّيَادَةَ فِيهَا أَوْ النُّقْصَانَ مِنْهَا، لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ إجَابَتُهُ، فَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُسَابَقَةِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ، جَازَ الْفَسْخُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ، مِثْلُ أَنْ يَسْبِقَهُ بِفَرَسِهِ فِي بَعْضِ الْمُسَابَقَةِ، أَوْ يُصِيبَ بِسِهَامِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلِلْفَاضِلِ الْفَسْخُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَفْضُولِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ لَفَاتَ غَرَضُ الْمُسَابَقَةِ، لِأَنَّهُ مَتَى بَانَ لَهُ سَبْقُ صَاحِبِهِ لَهُ فَسَخَهَا، وَتَرَكَ الْمُسَابِقَةَ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إذَا قُلْنَا: الْعَقْدُ جَائِزٌ. فَقِي جَوَازِ الْفَسْخِ مِنْ الْمَفْضُولِ وَجْهَانِ. [فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي السَّبَق أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا] (7909) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي عَقْدٍ فَكَانَ مَعْلُومًا، كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ، أَوْ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، كَالْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، فَلَوْ قَالَ: إنْ نَضَلْتنِي فَلَكَ دِينَارٌ حَالٌّ، وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ بَعْدَ شَهْرٍ. جَازَ وَصَحَّ النِّضَالُ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، كَالثَّمَنِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى صِفَةِ الْحِنْطَةِ بِمَا تَصِيرُ بِهِ مَعْلُومَةً. [فَصْلٌ شَرْطَ أَنْ يُطْعِمَ السَّبَقَ أَصْحَابَهُ] (7910) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرْطَ أَنْ يُطْعِمَ السَّبَقَ أَصْحَابَهُ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى عَمَلٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ الْعَامِلِ، كَالْعِوَضِ فِي رَدِّ الْآبِقِ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَفْسُدُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى تَسْمِيَةِ بَدَلٍ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَالنِّكَاحِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ فِي الْمُسَابَقَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا يُخِلُّ بِشَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، نَحْوَ أَنْ يَعُودَ إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ، أَوْ الْمَسَافَةِ، وَنَحْوِهِمَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ مَعَ فَوَاتِ شَرْطِهِ. وَالثَّانِي، مَا لَا يُخِلُّ بِشَرْطِ الْعَقْدِ، نَحْوَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُطْعِمَ السَّبْقَ أَصْحَابُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ، أَوْ يَشْرِطَ أَنَّهُ إذَا نَضَلَ لَا يَرْمِي أَبَدًا، أَوْ لَا يَرْمِي شَهْرًا أَوْ شَرَطَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسْخَ الْعَقْدِ مَتَى شَاءَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَفِي الْعَقْدِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، فَإِذَا حُذِفَ الزَّائِدُ الْفَاسِدُ، بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 وَالثَّانِي، يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ الْعِوَضَ لِهَذَا الْغَرَضِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِوَضُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ الْمُسَابَقَةُ، فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ الْمُخْرِجَ أَمْسَكَ سَبْقَهُ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرَ، فَلَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ، كَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمُخْرِجُ غَيْرَ الْمُتَسَابِقَيْنِ] (7911) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمُخْرِجُ غَيْرَ الْمُتَسَابِقَيْنِ، فَقَالَ لَهُمَا أَوْ لِجَمَاعَةٍ: أَيُّكُمْ سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ. جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا، وَأَيُّهُمْ سَبَقَ، اسْتَحَقَّ الْعَشَرَةَ، وَإِنْ جَاءُوا جَمِيعًا، فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمْ. وَإِنْ قَالَ لِاثْنَيْنِ: أَيّكُمَا سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ، وَأَيُّكُمَا صَلَّى فَلَهُ عَشَرَةٌ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِ السَّبْقِ، فَلَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: وَمَنْ صَلَّى فَلَهُ خَمْسَةٌ صَحَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ السَّبْقَ لِفَائِدَتِهِ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْجُعْلِ. وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ، وَمَنْ صَلَّى فَلَهُ كَذَلِكَ. صَحَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا أَوْ مُصَلِّيًا، وَالْمُصَلِّي هُوَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ صَلَى الْآخَرِ، وَالصَّلَوَانِ: هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ مِنْ جَانِبَيْ الذَّنَبِ. وَفِي الْأَثَرِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " سَبَقَ أَبُو بَكْرٍ، وَصَلَّى عُمَرُ، وَخَبَطَتْنَا عَشْوَاءٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ: إنْ تَبْتَدِرْ غَايَةً يَوْمًا لِمَكْرُمَةٍ ... تَلْقَ السَّوَابِقَ مِنَّا وَالْمُصَلِّينَا فَإِنْ قَالَ: لِلْمُجَلِّي - وَهُوَ الْأَوَّلُ - مِائَةٌ، وَلِلْمُصَلِّي - وَهُوَ الثَّانِي - تِسْعُونَ، وَلِلتَّالِي - وَهُوَ الثَّالِثُ - ثَمَانُونَ، وَلِلنَّازِعِ - وَهُوَ الرَّابِعُ - سَبْعُونَ، وَلِلْمُرْتَاحِ وَهُوَ الْخَامِسُ - سِتُّونَ، وَلِلْحَظِّيِّ - وَهُوَ السَّادِسُ - خَمْسُونَ، وَلِلْعَاطِفِ - وَهُوَ السَّابِعُ - أَرْبَعُونَ، وَلِلْمُؤَمِّلِ - وَهُوَ الثَّامِنُ - ثَلَاثُونَ، وَلِلَّطِيمِ - وَهُوَ التَّاسِعُ - عِشْرُونَ، وَلِلسِّكِّيتِ - وَهُوَ الْعَاشِرُ - عَشَرَةٌ، وَلِلْفَسْكَلِ - وَهُوَ الْآخِرُ - خَمْسَةٌ. صَحَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ السَّبْقَ، فَإِذَا فَاتَهُ طَلَبَ مَا يَلِي السَّابِقَ، وَالْفِسْكِلُ اسْمٌ لِلْآخِرِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي غَيْرِ الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ تَجَوُّزًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ ابْنَةَ عُمَيْسٍ، كَانَتْ تَزَوَّجَتْ جَعْفَرَ بْنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 أَبِي طَالِبٍ، وَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَمُحَمَّدًا وَعَوْنًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ لَهُ: إنَّ ثَلَاثَةً أَنْتَ آخِرُهُمْ لَأَخْيَارٌ. فَقَالَ لِوَلَدِهَا: فَسْكَلَتْنِي أُمُّكُمْ. وَإِنْ جَعَلَ لِلْمُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ السَّابِقِ، أَوْ مِثْلَهُ، أَوْ جَعَلَ لِلتَّالِي أَكْثَرَ مِنْ الْمُصَلِّي أَوْ مِثْلَهُ، أَوْ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُصَلِّي شَيْئًا. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَقْصِدَ السَّبْقَ. بَلْ يَقْصِدُ التَّأَخُّرَ، فَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ. [فَصْلٌ قَالَ لِعَشَرَةِ مَنْ سَبَقَ مِنْكُمْ فَلَهُ عَشَرَةٌ] (7912) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِعَشَرَةٍ: مَنْ سَبَقَ مِنْكُمْ فَلَهُ عَشَرَةٌ. صَحَّ. فَإِنْ جَاءُوا مَعًا، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْجُعْلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ سَبَقَهُمْ وَاحِدٌ، فَلَهُ الْعَشَرَةُ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِ. وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ، فَلَهُمَا الْعَشَرَةُ. وَإِنْ سَبَقَ تِسْعَةٌ، وَتَأَخَّرَ وَاحِدٌ، فَالْعَشَرَةُ لِلتِّسْعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِيهِمْ، فَكَانَ الْجُعْلُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ. فَرَدَّهُ تِسْعَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّابِقِينَ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَابِقٌ، فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِكَمَالِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدًا لِي فَلَهُ عَشَرَةٌ. فَرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَبْدًا. وَفَارَقَ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي. فَرَدَّهُ تِسْعَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَرُدَّهُ، إنَّمَا رَدُّهُ حَصَلَ مِنْ الْكُلِّ. وَيَصِيرُ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَإِنْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ سَلَبُ قَتِيلِهِ كَامِلًا، وَإِنْ قَتَلَ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا، فَلِجَمِيعِهِمْ سَلَبٌ وَاحِدٌ. وَهَا هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ لَهُ سَبْقٌ مُفْرَدٌ، فَكَانَ لَهُ الْجُعْلُ كَامِلًا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَ: مَنْ سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ، وَمِنْ صَلَّى فَلَهُ خَمْسَةٌ، فَسَبَقَ خَمْسَةٌ، وَصَلَّى خَمْسَةٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، لِلسَّابِقِينَ عَشَرَةٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمَانِ، وَلِلْمُصَلِّينَ خَمْسَةٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّابِقِينَ عَشَرَةٌ، فَيَكُونُ لَهُمْ خَمْسُونَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَلِّينَ خَمْسَةٌ، فَيَكُونُ لَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، اُحْتُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ تِسْعَةٌ، فَيَكُونَ لَهُمْ عَشَرَةٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ وَتُسْعٌ، وَيُصَلِّيَ وَاحِدٌ، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسَةٌ، فَيَصِيرَ لِلْمُصَلِّي مِنْ الْجُعْلِ فَوْقَ مَا لِلسَّابِقِ، فَيَفُوتَ الْمَقْصُودُ. [مَسْأَلَةٌ أَخْرَجَ الْمُتَسَابِقِينَ جَمِيعًا فِي السَّبَّاق] (7913) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ؛ وَإِنْ أَخْرَجَا جَمِيعًا، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يُكَافِئُ فَرَسُهُ فَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرُهُ بَعِيرَيْهِمَا، أَوْ رَمْيُهُ رَمْيَيْهِمَا، فَإِنْ سَبَقَهُمَا أَحْرَزَ سَبْقَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ أَحَدَهُمَا، أَحْرَزَ سَبَقَهُ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ فَكَانَ كَسَائِرِ مَالِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 السَّبَقُ؛ بِالْفَتْحِ: الْجُعْلُ الَّذِي يُسَابَقُ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى الْخَطَرَ وَالنَّدَبَ وَالْقَرَعَ وَالرَّهْنَ. وَيُقَالُ: سَبَقَ. إذَا أَخَذَ وَإِذَا أَعْطَى. وَمِنْ الْأَضْدَادِ. وَمَتَى اسْتَبَقَ الِاثْنَانِ، وَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ قِمَارًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَخْرَجَاهُ مُتَسَاوِيًا، مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةً، أَوْ مُتَفَاوِتًا مِثْلَ أَنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً وَالْآخَرُ خَمْسَةً. وَلَوْ قَالَ: إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلِي عَلَيْك قَفِيزٌ حِنْطَةً. أَوْ قَالَ إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَلِي عَلَيْك قَفِيزٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا، وَهُوَ ثَالِثٌ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا، جَازَ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحَكَى أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَلِّلِ: لَا أُحِبُّهُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِالدَّخِيلِ بَأْسًا. قَالَ: هُمْ أَعَفُّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَجَعْلُهُ قِمَارًا إذَا أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ، وَإِذَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَسْبِقَ، لَمْ يَكُنْ قِمَارًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ ذَلِكَ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرَيْهِمَا، وَرَمْيُهُ لِرَمِيَّيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئٌ، فَهُوَ قِمَارٌ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُونٌ سَبْقُهُ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لَهُمَا، جَازَ. فَإِنْ جَاءُوا كُلُّهُمْ الْغَايَةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَحْرَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَقَ نَفْسِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ سَبَقَ الْمُسْتَبِقَانِ الْمُحَلِّلَ، وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ وَحْدَهُ، أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ وَحْدَهُ، أَحْرَزَ سَبَقَ نَفْسِهِ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ وَالْمُحَلِّلُ، أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ سَبَقُ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ نِصْفَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَبِقُونَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى لَوْ كَانُوا مِائَةً، وَبَيْنَهُمْ مُحَلِّلٌ لَا سَبَقَ مِنْهُ، جَازَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُحَلِّلُ جَمَاعَةً، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ بِالْحَيَوَانِ] (7914) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ بِالْحَيَوَانِ تَحْدِيدُ الْمَسَافَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ عَدْوِهِمَا وَآخِرِهِ غَايَةٌ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ أَسْبَقِهِمَا، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْغَايَةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ مُقَصِّرًا فِي أَوَّلِ عَدْوِهِ، سَرِيعًا فِي انْتِهَائِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إلَى غَايَةٍ تَجْمَعُ حَالَيْهِ، وَمِنْ الْخَيْلِ مَا هُوَ أَصْبَرُ، وَالْقَارِحُ أَصْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَفَضَّلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 الْقُرَّحَ فِي الْغَايَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَمْيَالٌ أَوْ سَبْعَةٌ، وَبَيْنَ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَذَلِكَ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ. فَإِنْ اسْتَبَقَا بِغَيْرِ غَايَةٍ، لِيُنْظَر أَيُّهُمَا يَقِفُ أَوَّلًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَقِفَ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَنْقَطِعَ فَرَسُهُ، وَيَتَعَذَّرَ الْإِشْهَادُ عَلَى السَّبْقِ فِيهِ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ إرْسَالُ الْفَرَسَيْنِ أَوْ الْبَعِيرَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ أَرْسَلَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، لِيُعْلَمَ هَلْ يُدْرِكُهُ الْآخَرُ أَوْ لَا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُدْرِكُهُ مَعَ كَوْنِهِ أَسْرَعَ مِنْهُ، لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا. وَيَكُونُ عِنْد أَوَّلِ الْمَسَافَةِ مَنْ يُشَاهِدُ إرْسَالَهُمَا، وَيُرَتِّبُهُمَا، وَعِنْدَ الْغَايَةِ مَنْ يَضْبِطُ السَّابِقَ مِنْهُمَا؛ لِئَلَّا يَخْتَلِفَا فِي ذَلِكَ. وَيَحْصُلُ السَّبَقُ فِي الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ إذَا تَمَاثَلَتْ الْأَعْنَاقُ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي طُولِ الْعُنُقِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ، اُعْتُبِرَ السَّبَقُ بِالْكَتِفِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالرَّأْسِ مُتَعَذِّرٌ، فَإِنَّ طَوِيلَ الْعُنُقِ قَدْ يَسْبِقُ رَأْسَهُ لِطُولِ عُنُقِهِ، لَا لِسُرْعَةِ عَدْوِهِ. وَفِي الْإِبِلِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَفِيهَا مَا يَمُدُّ عُنُقَهُ، فَرُبَّمَا سَبَقَ رَأْسُهُ لِمَدِّ عُنُقِهِ، لَا لِسَبْقِهِ، فَلِذَلِكَ اعْتَبَرْنَا الْكَتِفَ، فَإِنْ سَبَقَ رَأْسُ قَصِيرِ الْعُنُقِ فَهُوَ سَابِقٌ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ كَوْنَهُ سَابِقًا، وَإِنْ سَبَقَ طَوِيلُ الْعُنُقِ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَهُمَا فِي طُولِ الْعُنُقِ، فَقَدْ سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِهِ لَمْ يَسْبِقْهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، فَالْآخَرُ السَّابِقُ. وَنَحْوُ هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأُذُنِ كَانَ سَابِقًا. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَمُدُّ الْآخَرُ عُنُقَهُ، فَيَكُونُ سَابِقًا بِأُذُنِهِ لِذَلِكَ لَا لِسَبْقِهِ. وَإِنْ شَرَطَا السَّبْقَ بِأَقْدَامٍ مَعْلُومَةٍ، كَثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلِّ، لَمْ يَصِحّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَصِحُّ، وَيَتَخَاطَّانِ ذَلِكَ، كَمَا فِي الرَّمْيِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْضَبِطُ، وَلَا يَقِفُ الْفَرَسَانِ عَنَدَ الْغَايَةِ، بِحَيْثُ يُعْرَفُ مِسَاحَةُ مَا بَيْنَهُمَا. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ قَدْ جَعَلْت لَك هَذِهِ السَّبْقَةَ بَيْنَ النَّاسِ» . فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَدَعَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إنِّي قَدْ جَعَلْت إلَيْك مَا جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُنُقِي مِنْ هَذِهِ السَّبْقَةِ فِي عُنُقِك، فَإِذَا أَتَيْت الْمِيطَانَ - قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمِيطَانُ مُرْسِلُهَا مِنْ الْغَايَةِ - فَصُفَّ الْخَيْلَ، ثُمَّ نَادِ: هَلْ مِنْ مُصْلِحٍ لَلِجَامٍ، أَوْ حَامِلٍ لِغُلَامٍ، أَوْ طَارِحٍ لِجَلٍّ. فَإِذَا لَمْ يُجِبْك أَحَدٌ، فَكَبِّرْ ثَلَاثًا، ثُمَّ خَلِّهَا عِنْدَ الثَّالِثَةِ، فَيُسْعِدُ اللَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 بِسَبَقِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقْعُدُ عَلَى مُنْتَهَى الْغَايَةِ يَخُطُّ خَطًّا، وَيُقِيمُ رَجُلَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ عِنْدَ طَرَفِ الْخَطِّ طَرَفَيْهِ بَيْنَ إبْهَامَيْ أَرْجُلِهِمَا، وَتَمُرُّ الْخَيْلُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَيَقُولُ لَهُمَا: إذَا خَرَجَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِطَرَفِ أُذُنَيْهِ، أَوْ أُذُنٍ، أَوْ عَذَارٍ فَاجْعَلَا السَّبْقَةَ لَهُ، فَإِنْ شَكَكْتُمَا، فَاجْعَلُوا سَبَقَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَرَنْتُمْ ثِنْتَيْنِ، فَاجْعَلَا الْغَايَةَ مِنْ غَايَةِ أَصْغَرِ الثِّنْتَيْنِ، وَلَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْأَدَبُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فِي ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ وَانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَضِيَّةٍ أَمَرَهُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَوَّضَهَا إلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُتَّبَعَ، وَيُعْمَلَ بِهَا. [فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ عَلَى دَابَّتَانِ] (7915) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ، كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ لَا يَكَادُ يَسْبِقُ الْفَرَسَ، فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمُسَابَقَةِ. وَإِنْ كَانَتَا مِنْ نَوْعَيْنِ، كَالْعَرَبِيِّ وَالْبِرْذَوْنِ، أَوْ الْبُخْتِيِّ وَالْعِرَابِيِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَرْيِ مَعْلُومٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَا الْجِنْسَيْنِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَسْبِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَالضَّابِطُ الْجِنْسُ وَقَدْ وُجِدَ، وَيَكْفِي فِي الْمَظِنَّةِ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ، وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ. [فُصُولٌ فِي الْمُنَاضَلَةِ] (7916) فُصُولٌ فِي الْمُنَاضَلَةِ: وَهِيَ الْمُسَابَقَةُ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ، وَالْمُنَاضَلَةُ، مَصْدَرُ نَاضَلْته نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً، وَسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضَالًا؛ لِأَنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى نَضْلًا، فَالرَّمْيُ بِهِ عَمَلٌ بِالنَّضْلِ، فَسُمِّيَ نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً، مِثْلَ قَاتَلْتُهُ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً، وَجَادَلْته جِدَالًا وَمُجَادَلَةً. وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَدَدُ، الرَّشْقِ مَعْلُومًا، وَالرِّشْقُ؛ بِكَسْرِ الرَّاءِ: عَدَدُ الرَّمْيِ. وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ. وَالرَّشْقُ؛ بِفَتْحِ الرَّاءِ الرَّمْيُ نَفْسُهُ، مَصْدَرُ رَشَقْتُهُ رَشْقًا. أَيْ رَمَيْت رَمْيًا. وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ عِلْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْهُولًا لَأَفْضَى إلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُرِيدُ الْقَطْعَ، وَالْآخَرُ يُرِيدُ الزِّيَادَةَ، فَيَخْتَلِفَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْإِصَابَةِ مَعْلُومًا، فَيَقُولَانِ: الرِّشْقُ عِشْرُونَ، وَالْإِصَابَةُ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ إصَابَةٍ نَادِرَةٍ، كَإِصَابَةِ جَمِيعِ الرَّشْقِ أَوْ إصَابَةِ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ، وَنَحْوِ هَذَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ. الثَّالِثُ، اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عَدَدِ الرَّشْقِ وَالْإِصَابَةِ، وَصِفَتِهَا، وَسَائِرِ أَحْوَالِ الرَّمْيِ. فَإِنْ جَعَلَا رَشْقَ أَحَدِهِمَا عَشَرَةً، وَالْآخَرِ عِشْرِينَ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً، وَالْآخَرُ ثَلَاثَةً، أَوْ شَرَطَا إصَابَةَ أَحَدِهِمَا خَوَاسِقَ وَالْآخَرِ خَوَاصِلَ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يَحُطَّ أَحَدُهُمَا مِنْ إصَابَتِهِ سَهْمَيْنِ، أَوْ يَحُطَّ سَهْمَيْنِ مِنْ إصَابَتِهِ بِسَهْمٍ مِنْ إصَابَةِ صَاحِبِهِ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ بُعْدٍ، وَالْآخَرُ مِنْ قُرْبٍ، أَوْ أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا وَبَيْنَ أَصَابِعِهِ سَهْمٌ، وَالْآخَرُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ سَهْمَانِ، أَوْ أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا وَعَلَى رَأْسِهِ شَيْءٌ وَالْآخَرُ خَالٍ عَنْ شَاغِلٍ، أَوْ أَنْ يَحُطَّ عَنْ أَحَدِهِمَا وَاحِدًا مِنْ خَطَئِهِ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا تَفُوتُ بِهِ الْمُسَاوَاةُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَالْغَرَضُ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ، وَزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِيهِ، وَمَعَ التَّفَاضُلِ لَا يَحْصُلُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا لِكَثْرَةِ رَمْيِهِ لَا لِحِذْقِهِ، فَاعْتُبِرَتْ الْمُسَاوَاةُ، كَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ. الرَّابِعُ، أَنْ يَصِفَا الْإِصَابَةَ، فَيَقُولَانِ: خَوَاصِلُ. وَهُوَ الْمُصِيبُ لِلْغَرَضِ كَيْفَمَا كَانَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ خَصَلْت مُنَاضِلِي خَصْلَةً وَخُصَلًا. وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْقَرَعَ. وَالْقَرْطَسَةَ، يُقَالُ: قَرْطَسَ. إذَا أَصَابَ. أَوْ حَوَابِي. وَهُوَ مَا وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْ الْغَرَضِ، ثُمَّ وَثَبَ إلَيْهِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: حَبَا الصَّبِيُّ. أَوْ خَوَاصِرُ. وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْغَرَضِ، وَمِنْهُ قِيلَ: الْخَاصِرَةُ. لِأَنَّهَا فِي جَانِبِ الْإِنْسَانِ. أَوْ خَوَارِقُ. وَهُوَ مَا خَرَقَ الْغَرَضَ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ. أَوْ خَوَاسِقُ وَهُوَ مَا خَرَقَ الْغَرَضَ، وَثَبَتَ فِيهِ. أَوْ مَوَارِقُ. وَهُوَ مَا أَنْفَذَ الْغَرَضَ، وَوَقَعَ مِنْ وَرَائِهِ. أَوْ خَوَازِمُ. وَهُوَ مَا خَزَمَ جَانِبَ الْغَرَضِ. وَإِنْ شَرَطَا الْخَوَاسِقَ وَالْحَوَابِيَ مَعًا، صَحَّ. الْخَامِسُ، قَدْرُ الْغَرَضِ، وَالْغَرَضُ هُوَ مَا يُقْصَدُ إصَابَتُهُ مِنْ قِرْطَاسٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ قَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيُسَمَّى غَرَضًا؛ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ، وَيُسَمَّى شَارَةً وَشَنًّا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَا نُصِبَ فِي الْهَدَفِ فَهُوَ الْقِرْطَاسُ، وَمَا نُصِبَ فِي الْهَوَاءِ فَهُوَ الْغَرَضُ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُهُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِهِ بِشِبْرٍ أَوْ شِبْرَيْنِ، بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْإِصَابَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَعَتِهِ وَضِيقِهِ. السَّادِسُ. مَعْرِفَةُ الْمَسَافَةِ؛ إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، أَوْ بِالذُّرْعَانِ، فَيَقُولُ: مِائَةَ ذِرَاعٍ؛ أَوْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ تَخْتَلِفُ بِقُرْبِهَا وَبُعْدِهَا، وَمَهْمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَازَ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَا مَسَافَةً بَعِيدَةً تَتَعَذَّرُ الْإِصَابَةُ فِي مِثْلِهَا، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَفُوتُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ مَا رَمَى إلَى أَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ إلَّا عُقْبَهُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 السَّابِعُ، تَعْيِينُ الرُّمَاةِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةٌ حِذْقِ الرَّامِي بِعَيْنِهِ، لَا مَعْرِفَةُ حِذْقِ رَامِ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ عَقَدَ اثْنَانِ نِضَالًا عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ. وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْقَوْسِ وَالسِّهَامِ، وَلَوْ عَيَّنَهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ إلَّا بِالرَّامِي، لَا بِاخْتِلَافِ الْقَوْسِ وَالسِّهَامِ. وَفِي الرِّهَانِ يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُسَابَقُ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ عَدْوِ الْفَرَسِ، لَا حِذْقِ الرَّاكِبِ. وَكُلُّ مَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ، إذَا تَلِفَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَانْفَسَخَ بِتَلَفِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ حِذْقِ الرَّامِي، أَوْ عَدْوِ الْفَرَسِ، وَقَدْ فَاتَتْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، وَلَا يُعْرَفُ حِذْقُهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ، يَجُوزُ إبْدَالُهُ لِعُذْرٍ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا تَلِفَ، قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. فَإِنْ شَرَطَا أَنْ لَا يَرْمِيَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَوْسِ، وَلَا بِغَيْرِ هَذَا السَّهْمِ، أَوْ لَا يَرْكَبَ غَيْرُ هَذَا الرَّاكِبِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَشْبَهَتْ مَا إذَا شَرْطَ إصَابَةً بِإِصَابَتَيْنِ. الثَّامِنُ، أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِي الْإِصَابَةِ. وَلَوْ قَالَا: السَّبَقُ لِأَبْعَدِنَا رَمْيًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الرَّمْيِ الْإِصَابَةُ. لَا بُعْدُ الْمَسَافَةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّمْيِ إمَّا قَتْلُ الْعَدُوِّ، أَوْ جَرْحُهُ، أَوْ الصَّيْدُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْإِصَابَةِ، لَا مِنْ الْإِبْعَادِ. [فَصْلٌ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ] (7917) فَصْلٌ: وَالْمُنَاضَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، تُسَمَّى الْمُبَادَرَةَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَا: مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ مِنْ عِشْرِينَ رَمْيَةً فَهُوَ السَّابِقُ. فَأَيُّهُمَا سَبَقَ إلَيْهَا مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الرَّشْقِ، فَقَدْ سَبَقَ. فَإِذَا رَمَيَا عَشَرَةً عَشَرَةً، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسًا، وَلَمْ يُصِبْ الْآخَرُ خَمْسًا، فَالْمُصِيبُ خَمْسًا هُوَ السَّابِقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ إلَى خَمْسٍ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ الْآخَرُ أَرْبَعًا، أَوْ مَا دُونَهَا، أَوْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا، وَلَا حَاجَةَ إلَى إتْمَامِ الرَّشْقِ؛ لِأَنَّ السَّبْقَ قَدْ حَصَلَ بِسَبْقِهِ إلَى مَا شَرَطَا السَّبْقَ إلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَشْرِ خَمْسًا، فَلَا سَابِقَ فِيهِمَا وَلَا يُكْمِلَانِ الرَّشْقَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ قَدْ حَصَلَتْ، وَاسْتَوَيَا فِيهَا، فَإِنْ رَمَى أَحَدُهُمَا عَشْرًا فَأَصَابَ خَمْسًا، وَرَمَى الْآخَرُ تِسْعًا فَأَصَابَ أَرْبَعًا، لَمْ يُحْكَمْ بِالسَّبْقِ وَلَا بِعَدَمِهِ، حَتَّى يَرْمِيَ الْعَاشِرَ، فَإِنْ أَخْطَأَ بِهِ، فَقَدْ سَبَقَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَصَابَ بِهِ، فَلَا سَابِقَ فِيهِمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ مِنْ التِّسْعَةِ إلَّا ثَلَاثًا، فَقَدْ سَبَقَهُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى رَمْيِ الْعَاشِرِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَقُولَ: أَيُّنَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِإِصَابَةٍ أَوْ إصَابَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْ عِشْرِينَ رَمْيَةً، فَقَدْ سَبَقَ. وَيُسَمَّى مُفَاضَلَةً وَمُحَاطَّةً؛ لِأَنَّ مَا تَسَاوَيَا فِيهِ مِنْ الْإِصَابَةِ مَحْطُوطٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. وَيَلْزَمُ إكْمَالُ الرَّشْقِ؛ إذَا كَانَ فِي إتْمَامِهِ فَائِدَةٌ، فَإِذَا قَالَا: أَيُّنَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِثَلَاثٍ، فَهُوَ سَابِقٌ. فَرَمَيَا اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَمْيَةً، فَأَصَابَهَا أَحَدُهُمَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 وَأَخْطَأَهَا الْآخَرُ كُلَّهَا، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُ الرَّشْقِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ الْآخَرُ الثَّمَانِيَ الْبَاقِيَةَ، يَحُطُّهَا الْأَوَّلُ، وَلَا يَخْرُجُ الْأَوَّلُ بِهَذَا عَنْ كَوْنِهِ سَابِقًا. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ إنَّمَا أَصَابَ مِنْ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَشْرًا، لَزِمَهُمَا أَنْ يَرْمِيَا الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ، فَإِنْ أَصَابَاهَا، أَوْ أَخْطَآ، أَوْ أَصَابَهَا الْأَوَّلُ وَحْدَهُ. فَقَدْ سَبَقَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إتْمَامِ الرَّشْقِ، فَإِنْ أَصَابَهَا الْآخَرُ، وَأَخْطَأَهَا الْأَوَّلُ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَرْمِيَا الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَالْحَكَمُ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا كَالْحُكْمِ فِي الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ، وَأَنَّهُ مَتَى أَصَابَاهَا، أَوْ أَخْطَآ، أَوْ أَصَابَهَا الْأَوَّلُ، فَقَدْ سَبَقَ، وَلَا يَرْمِيَانِ مَا بَعْدَهَا. وَإِنْ أَصَابَهَا الْآخَرُ وَحْدَهُ، رَمَيَا مَا بَعْدَهَا. وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ فِي إتْمَامِ، الرَّشْقِ فَائِدَةٌ لِأَحَدِهِمَا لَزِمَ إتْمَامُهُ، وَإِنْ يَئِسَ مِنْ الْفَائِدَةِ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ الْعَدَدِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا بِهِ صَاحِبَهُ، أَوْ يُسْقِطَ أَحَدُهُمَا بِهِ سَبْقَ صَاحِبِهِ، لَزِمَ الْإِتْمَامُ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِذَا كَانَ السَّبْقُ يَحْصُلُ بِثَلَاثِ إصَابَاتٍ مِنْ عِشْرِينَ، فَرَمَيَا ثَمَانِي عَشْرَةَ، فَأَخْطَآهَا، أَوْ أَصَابَاهَا، أَوْ تَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ فِيهَا، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُ الرَّشْقِ لِأَنَّ؛ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا هَاتَيْنِ الرَّمْيَتَيْنِ، وَيُخْطِئَهُمَا الْآخَرُ، وَلَا يَحْصُلُ السَّبْقُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِخَمْسِ إصَابَاتٍ فَمَا زَادَ، لَمْ يَلْزَمْ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّ إصَابَةَ الْآخَرِ بِالسَّهْمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَا يُخْرِجُ الْآخَرَ عَنْ كَوْنِهِ فَاضِلًا بِثَلَاثِ إصَابَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْهُ إلَّا بِأَرْبَعٍ، رَمَيَا السَّهْمَ الْآخَرَ، فَإِنْ أَصَابَهُ الْمَفْضُولُ وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِمَا رَمْيُ الْآخَرِ فَإِنْ أَصَابَهُ الْمَفْضُولُ أَيْضًا، سَقَطَ سَبْقُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَخْطَآ فِي أَحَدِ السَّهْمَيْنِ، أَوْ أَصَابَ الْأَوَّلُ فِي أَحَدِهِمَا، فَهُوَ سَابِقٌ. فَصْلٌ: الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَا: أَيُّنَا أَصَابَ خَمْسًا مِنْ عِشْرِينَ، فَهُوَ سَابِقٌ. فَمَتَى أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسًا مِنْ الْعِشْرِينَ، وَلَمْ يُصِبْهَا الْآخَرُ، فَالْأَوَّلُ سَابِقٌ، وَإِنْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسًا، أَوْ لَمْ يُصِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَمْسًا، فَلَا سَابِقَ فِيهِمَا. وَهَذِهِ فِي مَعْنَى الْمُحَاطَّةِ، فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ إتْمَامُ الرَّشْقِ مَا كَانَ فِي إِتْمَامِهِ فَائِدَة، فَإِذَا خَلَا عَنْ الْفَائِدَةِ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ. وَمَتَى أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسًا، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا سَابِقٌ. إنْ رَمَيَا سِتَّ عَشْرَةَ رَمْيَةً، وَلَمْ يُصِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ، وَلَا سَابِقَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا، وَلَا يَحْصُلُ السَّبْقُ بِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّمْيِ، هَلْ هُوَ مُبَادَرَةٌ أَوْ مُحَاطَّةٌ أَوْ مُفَاضَلَةٌ؟ لِأَنَّ غَرَضَ الرُّمَاةِ يَخْتَلِفُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ تَكْثُرُ إصَابَتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ، فَوَجَبَ بَيَانُ ذَلِكَ، لِيُعْلَمَ مَا دَخَلَ فِيهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى النِّضَالِ الْمُبَادَرَةُ، وَأَنَّ مَنْ بَادَرَ إلَى الْإِصَابَةِ فَهُوَ السَّابِقُ؛ فَإِنَّهُ إذَا شُرِطَ أَنَّ السَّبْقَ لِمَنْ أَصَابَ خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ، فَسَبَقَ إلَيْهَا وَاحِدٌ، فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 [فَصْل شَرَطَا إصَابَةَ مَوْضِعٍ مِنْ الْهَدَفِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ مَا قَرُبَ مِنْ إصَابَةِ أَحَدِهِمَا مَا بَعُدَ مِنْ إصَابَةِ الْآخَرِ] (7919) فَصْلٌ فَإِنْ شَرَطَا إصَابَةَ مَوْضِعٍ مِنْ الْهَدَفِ، عَلَى أَنْ يَسْقُطَ مَا قَرُبَ مِنْ إصَابَةِ أَحَدِهِمَا مَا بَعُدَ مِنْ إصَابَةِ الْآخَرِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ فَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا شَرَطَاهُ، كَانَ سَابِقًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمُحَاطَّةِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَضِ شِبْرٌ، وَأَصَابَ الْآخَرُ مَوْضِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَضِ أَقَلُّ مِنْ شِبْرٍ، أَسْقَطَ الْأَوَّلَ، وَأَنْ أَصَابَ الْأَوَّلُ الْغَرَضَ، أَسْقَطَ الثَّانِيَ، فَإِنْ أَصَابَ الثَّانِي الدَّائِرَةَ الَّتِي فِي الْغَرَضِ، لَمْ يُسْقِطْ بِهِ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ كُلَّهُ مَوْضِعٌ لِلْإِصَابَةِ، فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إذَا أَصَابَاهُ جَمِيعًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ. وَإِنْ شَرَطَا إنْ يَحْسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَاسِقَهُ بِإِصَابَتَيْنِ، جَازَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَفْضُلْ صَاحِبَهُ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ اسْتَوَيَا. [فَصْلٌ مَا هِيَ السُّنَّةُ فِي الرَّمْيِ بَيْن الْمُتَسَابِقِينَ] (7920) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا غَرَضَانِ يَرْمِيَانِ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ يَمْضِيَانِ إلَيْهِ، فَيَأْخُذَانِ السِّهَامَ يَرْمِيَانِ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِعْلَ أَصْحَابِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ، الْجَنَّةِ» وَقَالَ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: رَأَيْت حُذَيْفَةَ يَشْتَدُّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ يَقُولُ: أَنَا بِهَا، أَنَا بِهَا. فِي قَمِيصٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَالْهَدَفُ مَا يُنْصَبُ الْغَرَضُ عَلَيْهِ؛ إمَّا تُرَابٌ مَجْمُوعٌ، وَإِمَّا حَائِطٌ. وَيُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا. فَإِنْ جَعَلُوا غَرَضًا وَاحِدًا، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ، وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ عَصْرِنَا. وَلَا بُدَّ فِي الْمُنَاضَلَةِ أَنْ يَبْتَدِئَ أَحَدُهُمَا بِالرَّمْيِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ رَمَيَا مَعًا، أَفْضَى إلَى الِاخْتِلَافِ، وَلَمْ يُعْرَفْ الْمُصِيبُ مِنْهُمَا. فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ أَجْنَبِيًّا، قُدِّمَ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ وَتَشَاحَّا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ فَبَدَرَهُ الْآخَرُ فَرَمَى، لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِسَهْمِهِ، أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ. وَإِذَا بَدَأَ أَحَدُهُمَا فِي وَجْهٍ، بَدَأَ الْآخَرُ فِي الثَّانِي، تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ شَرَطَا الْبُدَاءَةَ لِأَحَدِهِمَا فِي كُلِّ الْوُجُوهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمُنَاضَلَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَهَذَا تَفَاضُلٌ، فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمَا، جَازَ؛ لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْإِصَابَةِ، وَلَا فِي تَجْوِيدِ الرَّمْيِ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَبْدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، جَازَ؛ لِتَسَاوِيهِمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ الْبُدَاءَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا غَيْرَ لَازِمٍ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَجْوِيدِ رَمْيٍ، وَلَا كَثْرَةِ إصَابَةٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ الرُّمَاةِ يَخْتَارُ التَّأَخُّرَ عَلَى الْبِدَايَةِ، فَيَكُونُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ كَعَدَمِهِ. إذَا رَمَى الْبَادِئُ بِسَهْمٍ، رَمَى الثَّانِي بِسَهْمٍ كَذَلِكَ، حَتَّى يَقْضِيَا رَمْيَهُمَا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْمُنَاضَلَةِ يَقْتَضِي الْمُرَاسَلَةَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى التَّسَاوِي، وَأَنْجَزُ لِلرَّمْيِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُصْلِحُ قَوْسَهُ وَيَعْدِلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 سَهْمَهُ، حَتَّى يَرْمِيَ الْآخَرُ. وَإِنْ رَمَيَا بِسَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ، فَحَسَنٌ، وَهُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ الرُّمَاةِ فِيمَا رَأَيْنَا. وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا رَشْقًا، ثُمَّ يَرْمِيَ الْآخَرُ، أَوْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا عَدَدًا، ثُمَّ يَرْمِيَ الْآخَرُ مِثْلَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِ الْمُنَاضَلَةِ، وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ مِنْ النُّقُودِ وَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ لِمَا كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ الْمَقْصُودِ. [فَصْلٌ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا أَرْشَاقًا كَثِيرَةً] (7921) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا أَرْشَاقًا كَثِيرَةً، جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ عَلَى الْقَلِيلِ، جَازَ عَلَى الْكَثِيرِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً. ثُمَّ إنْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي هَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا قَدْ يَضْعُفُ عَنْ الرَّمْيِ كُلِّهِ مَعَ حِذْقِهِ. وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ، جَازَ وَحُمِلَ عَلَى التَّعْجِيلِ وَالْحُلُولِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَيَرْمِيَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ رِيحٍ أَوْ تَشَوُّشِ السِّهَامِ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ الْمَطَرُ فَإِنَّهُ يُرْخِي الْوَتَرَ، وَيُفْسِدُ الرَّشْقَ إذَا جَاءَ اللَّيْلُ تَرَكَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَرْكُ الرَّمْيِ بِاللَّيْلِ، فَحُمِلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا الرَّمْيَ لَيْلًا، فَيَأْخُذَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً، مُنِيرَةً، اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا رَمَيَا فِي ضَوْءِ شَمْعَةٍ أَوْ مِشْعَلٍ. وَإِنْ عَرَضَ عَارِضٌ يَمْنَعُ الرَّمْيَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ كُسِرَ قَوْسٌ، أَوْ قُطِعَ وَتَرٌ، أَوْ انْكَسَرَ سَهْمٌ، جَازَ إبْدَالُهُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، أُخِّرَ الرَّمْيُ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ. [فَصْلٌ أَرَادَ أَحَدُهُمَا فِي السَّبَقِ التَّطْوِيلَ وَالتَّشَاغُلَ عَنْ الرَّمْيِ بِمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ] (7922) فَصْلٌ: فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا التَّطْوِيلَ، وَالتَّشَاغُلَ عَنْ الرَّمْيِ بِمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، مِنْ مَسْحِ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، إرَادَةَ التَّطْوِيلِ عَلَى صَاحِبِهِ، لَعَلَّهُ يَنْسَى الْقَصْدَ الَّذِي أَصَابَ بِهِ، أَوْ يَفْتُرُ، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَطُولِبَ بِالرَّمْيِ، وَلَا يُدْهَشُ بِالِاسْتِعْجَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، بِحَيْثُ يُمْنَعُ مِنْ تَحَرِّي الْإِصَابَةِ. وَيُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَغِيظُ بِهِ صَاحِبَهُ، مِثْلُ أَنْ يَرْتَجِزَ، وَيَفْتَخِرَ، وَيَتَبَجَّحَ بِالْإِصَابَةِ، وَيُعَنِّفَ صَاحِبَهُ عَلَى الْخَطَأِ، أَوْ يُظْهِرَ لَهُ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُ. وَهَكَذَا الْحَاضِرُ مَعَهُمَا، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالشَّاهِدَيْنِ وَغَيْرِهِمْ، يُكْرَهُ لَهُمْ مَدْحُ الْمُصِيبِ، وَزَهْزَهَتُهُ، وَتَعْنِيفُ الْمُخْطِئِ وَزَجْرُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ قَلْبِ أَحَدِهِمَا وَغَيْظَهُ. [فَصْل تَشَاحَّا فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ الْمُتَسَابِقِينَ] (7923) فَصْلٌ: وَإِذَا تَشَاحَّا فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ، فَإِنْ كَانَ مَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْمَوْقِفَيْنِ يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ، أَوْ رِيحًا يُؤْذِيهِ اسْتِقْبَالُهَا، وَنَحْو ذَلِكَ، وَالْآخَرُ يَسْتَدْبِرُهَا، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ اسْتِدْبَارَهَا؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِهِمَا اسْتِقْبَالُ ذَلِكَ، فَالشَّرْطُ أَمْلَكُ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّمْيِ لَيْلًا. وَإِنْ كَانَ الْمَوْقِفَانِ سَوَاءً، كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 ذَلِكَ إلَى الَّذِي لَهُ الْبُدَاءَةُ، فَيَتْبَعُهُ الْآخَرُ، فَإِذَا كَانَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَقَفَ حَيْثُ شَاءَ، وَيَتْبَعُهُ الْأَوَّلُ. [فَصْل عَقْدُ النِّضَالِ عَلَى جَمَاعَةٍ] (7924) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ عَقْدُ النِّضَالِ عَلَى جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى أَصْحَابٍ لَهُ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ. فَأَمْسَكَ الْآخَرُونَ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ؟ قَالَ: ارْمُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، جَازَ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْجَمَاعَتَيْنِ، فَجَازَ، كَمَا فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ، وَسَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ. فَإِنْ عَقَدَ النِّضَالَ جَمَاعَةٌ لِيَتَنَاضَلُوا حِزْبَيْنِ. فَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، وَقَبْلَ التَّفَاضُلِ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَنْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحِزْبَيْنِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا تَفَاضَلُوا، عَقَدُوا النِّضَالَ بَعْدَهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يَجُوزُ الْعَقْدُ قَبْلَ التَّفَاضُلِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا وَقَعَتْ عَلَى الْحُذَّاقِ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ، وَعَلَى الْكَوَادِنِ فِي الْآخَرِ، فَيَبْطُلُ مَقْصُودُ النِّضَالِ، بَلْ يَكُونُ لِكُلِّ حِزْبٍ رَئِيسٌ، فَيَخْتَارُ أَحَدُهُمَا وَاحِدًا، ثُمَّ يَخْتَارُ الْآخَرُ وَاحِدًا كَذَلِكَ، حَتَّى يَتَفَاضَلُوا جَمِيعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخِيَارُ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْجَمِيعِ، وَلَا أَنْ يَخْتَارَ جَمِيعَ حِزْبِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْحُذَّاقَ كُلَّهُمْ فِي حِزْبِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ رَئِيسُ الْحِزْبَيْنِ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى حِزْبِهِ، فَتَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّئِيسَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ التَّسَاوِي. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُبْتَدِئِ بِالْخِيَارِ مِنْهُمَا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا أَخْتَارُ أَوَّلًا، وَأُخْرِجُ السَّبَقَ، أَوْ يُخْرِجُهُ أَصْحَابِي. لَمْ يَحُزْ لِأَنَّ السَّبَقَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالسَّبْقِ لَا فِي مُقَابَلَةِ تَفَضُّلِ أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ. [فَصْلٌ أَخْرُجْ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ السَّبَقَ مِنْ عِنْدِهِ فَسَبَقَ حِزْبُهُ] (7925) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْرَجَ أَحَدُ الزَّعِيمِينَ السَّبَقَ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَبَقَ حِزْبُهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَى حِزْبِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ. وَإِنْ شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَكُونُ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ بِالسَّوِيَّةِ، مَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ عَلَى الْحِزْبِ الْآخَرِ بِالسَّوِيَّةِ. وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ، يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْإِصَابَةِ. وَلَيْسَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 لِمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْإِصَابَةِ، فَكَانَ عَلَى قَدْرِهَا، وَاخْتَصَّ بِمَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِينَ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ؛ لِالْتِزَامِهِمْ لَهُ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ. " [فَصْلٌ كَانَ النِّضَالُ بَيْنَ حِزْبَيْنِ فِي السَّبَّاقِ] (7926) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَ النِّضَالُ بَيْنَ حِزْبَيْنِ، اُشْتُرِطَ كَوْنُ الرَّشْقِ يُمْكِنُ قَسْمُهُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ كَسْرٍ، وَيَتَسَاوُونَ فِيهِ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثٌ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رُبُعٌ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَقِيَ سَهْمٌ أَوْ أَكْثَرُ، لَا يُمْكِنُ الْجَمَاعَةَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ. [فَصْلٌ كَانُوا حِزْبَيْنِ فَدَخَلَ مَعَهُمْ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُونَهُ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ الرَّمْي] (7927) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانُوا حِزْبَيْنِ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُونَهُ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ، وَكَانَ يُحْسِنُ الرَّمْيَ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَأُخْرِجَ مِنْ الْحِزْبِ الْآخَرِ مَنْ جُعِلَ بِإِزَائِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَتِهِ آخَرُ، أَوْ يَخْتَارُ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ وَاحِدًا، وَيَخْتَارُ الْآخَرُ آخَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِينَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ. فَلِكُلِّ حِزْبٍ الْخِيَارُ لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنْ بَانَ رَامِيًا، لَكِنَّهُ قَلِيلُ الْإِصَابَةِ، فَقَالَ حِزْبُهُ: ظَنَنَّاهُ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ، أَوْ لَمْ نَعْلَمْ، أَوْ بَانَ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ. فَقَالَ الْحِزْبُ الْآخِرُ: ظَنَنَّاهُ قَلِيلَ الْإِصَابَةِ. لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَكَانَ كَمَنْ عَرَفُوهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ دُخُولِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْحِذْقِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ، فَبَانَ حَاذِقًا أَوْ نَاقِصًا فِيهَا، لَمْ يُؤَثِّرْ. [فَصْل يَقُولُوا نَقْرَعُ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ فَهُوَ السَّابِقُ] (7928) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا: نُقْرِعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، فَهُوَ السَّابِقُ. وَلَا أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، فَالسَّبَقُ {عَلَيْهِ} . وَلَا أَنْ يَقُولُوا: نَرْمِي، فَأَيُّنَا أَصَابَ فَالسَّبَقُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالْقُرْعَةِ، وَلَا بِالْإِصَابَةِ، وَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ مُقَدَّمَ حِزْبٍ، وَفُلَانٌ مُقَدَّمَ الْآخَرِ، ثُمَّ فُلَانٌ ثَانِيًا مِنْ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ، وَفُلَانٌ ثَانِيًا مِنْ الْحِزْبِ الثَّانِي، كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحِزْبِ يَكُونُ إلَى زَعِيمِهِ، وَلَيْسَ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ مُشَارَكَتُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا شَرَطُوهُ كَانَ فَاسِدًا. [فَصْلٌ تُنَاضِل اثْنَانِ وَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا السَّبَقَ] (7929) فَصْلٌ: وَإِذَا تَنَاضَلَ اثْنَانِ، وَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا السَّبَقَ، فَقَالَ أَجْنَبِيٌّ: أَنَا شَرِيكُك فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ، إنْ نَضَلَكَ فَنِصْفُ السَّبَقِ عَلَيَّ، وَإِنْ نَضَلْته فَنِصْفُهُ لِي. لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُتَنَاضِلُونَ ثَلَاثَةً فِيهِمْ مُحَلِّلٌ، فَقَالَ رَابِعٌ لِلْمُسْتَبِقَيْنِ: أَنَا شَرِيكُكُمَا فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ. كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ وَالْغُرْمَ إنَّمَا يَكُونَ مِنْ الْمُنَاضِلِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَرْمِي، فَلَا يَكُونُ لَهُ غُنْمٌ وَلَا غُرْمٌ. وَلَوْ شَرَطَا فِي النِّضَالِ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ الْمُسْتَبِقُ كَانَ عَلَيْهِ السَّبَقُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ السَّبَقَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 عَلَى النِّضَالِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى النِّضَالِ، فَكَانَ فَاسِدًا. [فَصْلٌ فَضَلَ فِي السَّبَّاقِ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ صَاحِبَهُ] (7930) فَصْلٌ: وَلَوْ فَضَلَ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ صَاحِبَهُ، فَقَالَ الْمَفْضُولُ: اطْرَحْ فَضْلَك، وَأُعْطِيك دِينَارًا. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ، وَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْهُ. وَإِنْ فَسَخَا الْعَقْدَ، وَعَقَدَا عَقْدًا آخَرَ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يَفْسَخَاهُ، وَلَكِنْ رَمَيَا تَمَامَ الرَّشْقِ، فَتَمَّتْ الْإِصَابَةُ لَهُ مَعَ مَا أَسْقَطَهُ، اسْتَحَقَّ السَّبَقَ، وَرَدَّ الدِّينَارَ إنْ كَانَ أَخَذَهُ. [فَصْلٌ كَانَ شَرْطُهُمَا الْمُتَسَابِقِينَ حَوَاصِلَ] (7931) فَصْلٌ: إذَا كَانَ شَرْطُهُمَا حَوَاصِلَ، وَهِيَ الْإِصَابَةُ الْمُطْلَقَةُ، اُعْتُدَّ بِهَا كَيْفَمَا وُجِدَتْ، بِشَرْطِ أَنْ يُصِيبَ بِنَصْلِ السَّهْمِ، فَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ، أَوْ بِفَوْقِهِ، نَحْوَ أَنْ يَنْقَلِبَ السَّهْمُ بَيْنَ يَدَيْ الْغَرَضِ، فَيُصِيبَ فَوْقَهُ الْغَرَضَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ سَيِّئِ الْخَطَأِ. وَإِنْ انْقَطَعَ السَّهْمُ قِطْعَتَيْنِ، فَأَصَابَتْ الْقِطْعَةُ الْأُخْرَى، لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ جِلْدًا خِيطَ عَلَيْهِ شَنْبَرٌ كَشَنْبَرِ الْمُنْخُلِ، وَجَعَلَا لَهُ عُرًى وَخُيُوطًا تُعَلَّقُ بِهِ فِي الْعُرَى، فَأَصَابَ الشَّنْبَرَ أَوْ الْعُرَى، نَظَرْت فِي شَرْطِهِمَا؛ فَإِنْ شُرِطَ إصَابَةُ الْغَرَضِ، اُعْتُدَّ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَرَضِ، فَأَمَّا الْمَعَالِيقُ، وَهِيَ الْخُيُوطُ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِإِصَابَتِهَا عَلَى كِلَا الشَّرْطَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْجِلْدَةِ، وَلَا مِنْ الْغَرَضِ، فَأَشْبَهَ إصَابَةَ الْهَدَفِ. [فَصْلٌ أَطَارَتْ الرِّيحُ الْغَرَضَ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي مَوْضِعِهِ] (7932) فَصْلٌ: وَإِنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الْغَرَضَ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا حَوَاصِلَ، اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَرَضُ فِي مَوْضِعِهِ أَصَابَهُ. وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَةُ الْهَدَفِ كَصَلَابَةِ الْغَرَضِ، فَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ، اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَكَانَهُ لَثَبَتَ فِيهِ، كَثُبُوتِهِ فِي الْهَدَفِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَعَ التَّسَاوِي، لَمْ يُحْتَسَبْ. وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ أَصْلَبَ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ، أَوْ كَانَ رِخْوًا، لَمْ يُحْتَسَبْ السَّهْمُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَثْبُتُ فِي الْغَرَضِ لَوْ بَقِيَ مَكَانَهُ أَوَّلًا؟ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِالسَّهْمِ الَّذِي وَقَعَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَدْرِي هَلْ يَثْبُتُ فِي الْغَرَضِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ لَا؟ وَإِنْ وَقَعَ السَّهْمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْغَرَضِ، اُحْتُسِبَ بِهِ عَلَى رَامِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْغَرَضِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَارَ إلَيْهِ، حُسِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا، لَا لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَا اتَّفَقَا عَلَى رَمْيِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَارَ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا أَلْقَتْ الرِّيحُ الْغَرَضَ عَلَى وَجْهِهِ. [فَصْلٌ رَمْي فَأَخْطَأَ لَعَارِضٍ] (7933) فَصْلٌ: وَإِذَا رَمَى فَأَخْطَأَ لِعَارِضٍ؛ مِنْ كَسْرِ قَوْسٍ، أَوْ قَطْعِ وَتَرٍ، أَوْ حَيَوَانٍ اعْتَرَضَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرُدُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 السَّهْمَ عَرْضًا، لَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّهْمِ؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ لِلْعَارِضِ، لَا لِسُوءِ رَمْيِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ أَصَابَ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ، وَلِأَنَّ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَصْرِفَ الرَّمْيَ الشَّدِيدَ فَيُخْطِئَ، يَجُوزُ أَنْ تَصْرِفَ السَّهْمَ الْمُخْطِئَ عَنْ خَطَئِهِ فَيَقَعَ مُصِيبًا، فَتَكُونَ إصَابَتُهُ بِالرِّيحِ، لَا بِحِذْقِ رَمْيِهِ. فَأَمَّا إنْ وَقَعَ السَّهْمُ فِي حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَضِ، فَمَرَقَهُ، وَأَصَابَ الْغَرَضَ حُسِبَ لَهُ؛ لِأَنَّ إصَابَتَهُ لِسَدَادِ رَمْيِهِ، وَمُرُوقَهُ لِقُوَّتِهِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الرِّيحُ لَيِّنَةً خَفِيفَةً، لَا تَرُدُّ السَّهْمَ عَادَةً، لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّ الْجَوَّ لَا يَخْلُو مِنْ رِيحٍ، وَلِأَنَّ الرِّيحَ اللَّيِّنَةَ لَا تُؤَثِّرُ إلَّا فِي الرَّمْيِ الرَّخْوِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. [فَصْلٌ كَانَ شَرْطُهُمَا الْمُتَسَابِقِينَ خَوَاسِقَ] (7934) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ، وَالْخَاسِقُ: مَا ثَقَبَ الْغَرَضَ، وَثَبَتَ فِيهِ. فَمَتَى أَصَابَ الْغَرَضَ بِنَصْلِهِ، وَثَبَتَ فِيهِ، حُسِبَ لَهُ، وَإِنْ خَدَشَهُ وَلَمْ يَثْقُبْهُ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ، وَحُسِبَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَرَقَ مِنْهُ اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ رَمْيِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْخَاسِقِ، وَإِنْ خَرَقَهُ، وَهُوَ أَنْ يَثْقُبَهُ، وَيَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُحْتَسَبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ثَقَبَ ثَقْبًا يَصْلُحُ لِلْخَسْقِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ السَّهْمُ لِسَبَبٍ آخَرَ، مِنْ سَعَةِ الثَّقْبِ أَوْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي، لَا يُحْتَسَبُ لَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا الْخَوَاسِقُ، وَالْخَاسِقُ مَا ثَبَتَ، وَثُبُوتُهُ يَكُونُ بِحِذْقِ الرَّامِي، وَقَصْدِهِ بِرَمْيِهِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُ السَّهْمِ مِنْ الثُّبُوتِ لِمُصَادَفَتِهِ مَا يَمْنَعُ الثُّبُوتَ؛ مِنْ حَصَاةٍ، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ عَظْمٍ، أَوْ أَرْضٍ غَلِيظَةٍ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ، لَمْ يُعَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ مَنَعَهُ مِنْ الثُّبُوتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَنَعَهُ عَارِضٌ مِنْ الْإِصَابَةِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الْعَارِضِ، نَظَرْت، فَإِنْ عُلِمَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ بِاتِّفَاقِهِمَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ، نُظِرَ فِي الْمَوْضِعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَمْنَعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَلَا يَمِينَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ تَشْهَدُ بِصِدْقِ مَا ادَّعَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مَوْضِعَ الثَّقْبِ، إلَّا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ خَرَقَ الْغَرَضَ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ شَيْءٌ يَمْنَعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ. وَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ مَا يَمْنَعُ، وَادَّعَى الْمُصَابُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السَّهْمُ فِي مَوْضِعٍ وَرَاءَهُ مَا يَمْنَعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِصَابَةِ مَعَ احْتِمَالِ مَا يَقُولُهُ الْمُصِيبُ. وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ خَرَقَ أَيْضًا، فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل شَرْطًا خَاسِقًا فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي ثَقْبٍ فِي الْغَرَضِ أَوْ مَوْضِعٍ بَالٍ] فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطًا خَاسِقًا، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي ثَقْبٍ فِي الْغَرَضِ أَوْ مَوْضِعٍ بَالٍ، فَنَقَبَهُ وَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ مُعَلَّقًا فِي الْغَرَضِ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ صَلِيبًا كَصَلَابَةِ الْغَرَضِ، فَثَبَتَ فِيهِ، حُسِبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْغَرَضَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَثَبَتَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ تُرَابًا أُهِيلَ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَثْبُتُ فِي الْغَرَضِ لَوْ أَصَابَ مَوْضِعًا مِنْهُ قَوِيًّا أَوْ لَا. وَإِنْ صَادَفَ السَّهْمَ فِي ثَقْبٍ فِي الْغَرَضِ قَدْ ثَبَتَ فِي الْهَدَفِ مَعَ قِطْعَةٍ مِنْ الْغَرَضِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 فَقَالَ الرَّامِي: خُسِقَتْ، وَهَذِهِ الْجِلْدَةُ قَطَعَهَا سَهْمِي لِشِدَّةِ الرَّمْيَةِ. فَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ، وَقَالَ: بَلْ هِيَ كَانَتْ مَقْطُوعَةً. فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغَرَضَ كَانَ صَحِيحًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّامِي، وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا؛ إنْ كَانَ الْهَدَفُ رِخْوًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا، اُعْتُدَّ بِهِ، وَإِنْ وَقَعَ سَهْمُهُ فِي سَهْمٍ ثَابِتٍ فِي الْغَرَضِ، اُعْتُدَّ لَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَوْلَا فَوْقَ السَّهْمِ الثَّابِتِ لَخَسَقَ. وَإِنْ أَصَابَ السَّهْمُ، ثُمَّ سَبَحَ عَنْهُ، فَخَسَقَ، اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ. [فَصْلٌ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ ارْمِ هَذَا السَّهْمَ فَإِنْ أَصَبْت بِهِ فَلَكَ دِرْهَمٌ] (7936) فَصْلٌ: إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: ارْمِ هَذَا السَّهْمَ، فَإِنْ أَصَبْت بِهِ، فَلَكَ دِرْهَمٌ. صَحَّ، وَكَانَ جَعَالَةً؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَالًا لَهُ فِي فِعْلٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نِضَالًا؛ لِأَنَّ النِّضَالَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى أَنْ يَرْمُوا جَمِيعًا، وَيَكُونُ الْجُعْلُ لِبَعْضِهِمْ إذَا كَانَ سَابِقًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ أَصَبْت بِهِ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَعَلَيْك دِرْهَمٌ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قِمَارٌ. وَإِنْ قَالَ: ارْمِ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ، فَإِنْ كَانَ صَوَابُك أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِك، فَلَكَ دِرْهَمٌ. صَحَّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجُعْلَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِصَابَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَشَرَةِ أَقَلُّهُ سِتَّةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَجْهُولٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَقَلِّ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ. وَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ صَوَابُك أَكْثَرَ، فَلَكَ بِكُلِّ سَهْمٍ أَصَبْت بِهِ دِرْهَمٌ. صَحَّ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: ارْمِ عَشَرَةً، وَلَك بِكُلِّ سَهْمٍ أَصَبْت بِهِ مِنْهَا دِرْهَمٌ. أَوْ قَالَ: فَلَكَ بِكُلِّ سَهْمٍ زَائِدٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْمُصِيبَاتِ دِرْهَمٌ. لِأَنَّ الْجُعْلَ مَعْلُومٌ بِتَقْدِيرِهِ بِالْإِصَابَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ اسْتَقِ لِي مِنْ هَذَا الْبِئْرِ، وَلَك بِكُلِّ دَلْوٍ تَمْرَةٌ. أَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي، فَلَهُ بِكُلِّ عَبْدٍ دِرْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ خَطَؤُك أَكْثَرَ، فَعَلَيْك دِرْهَمٌ. أَوْ نَحْوَ هَذَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قِمَارٌ. وَإِنْ قَالَ: ارْمِ عَشَرَةً، فَإِنْ أَخْطَأْتهَا فَعَلَيْك دِرْهَمٌ. أَوْ نَحْوَ هَذَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْجُعْلَ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْقَابِلِ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا. وَلَوْ قَالَ الرَّامِي لِأَجْنَبِيٍّ: إنْ أَخْطَأْت، فَلَكَ دِرْهَمٌ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ عَقَدَا النِّضَالَ وَلَمْ يَذْكُرَا قَوْسًا] (7937) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَا النِّضَالَ، وَلَمْ يَذْكُرَا قَوْسًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقَوْسِ، إمَّا الْعَرَبِيَّةِ، وَإِمَّا الْعَجَمِيَّةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَا نَوْعَ الْقَوْسِ الَّذِي يَرْمِيَانِ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالتَّعْيِينِ لِلنَّوْعِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا يَرْمِيَانِ بِالنُّشَّابِ فِي الِابْتِدَاءِ، صَحَّ، وَيَنْصَرِفُ إلَى الرَّمْيِ بِالْقَوْسِ الْأَعْجَمِيَّةِ؛ لِأَنَّ سِهَامَهَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالنُّشَّابِ، وَسِهَامُ الْعَرَبِيَّةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 يُسَمَّى نَبْلًا. فَإِنْ عَيَّنَ نَوْعًا مِنْ الْقِسِيِّ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ أَحْذَقَ بِالرَّمْيِ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَإِنْ عَيَّنَا قَوْسًا بِعَيْنِهَا، لَمْ تَتَعَيَّنْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَنْكَسِرُ، وَيُحْتَاجُ إلَى إبْدَالِهَا؛ لِأَنَّ الْحِذْقَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَيْنِ الْقَوْسِ، بِخِلَافِ النَّوْعِ. وَإِنْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْآخَرُ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ أَحَدُهُمَا بِقَوْسِ الزُّنْبُورِ، وَالْآخَرُ بِقَوْسِ الْجَرْخِ، أَوْ قَوْسِ الْحُسْبَانِ، وَهُوَ قَوْسٌ سِهَامُهُ قِصَارٌ، يُجْعَلُ فِي مَجْرًى مِثْلِ الْقَصَبَةِ، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ، فَصَحَّتْ الْمُسَابَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا، كَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ. وَالثَّانِي، لَا تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْإِصَابَةِ، فَجَرَى مَجْرَى الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ نَوْعَيْ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ. [فَصْلٌ الرَّمْيِ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ] (7938) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إبَاحَةُ الرَّمْيِ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ. وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِهَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى مَعَ رَجُلٍ قَوْسًا فَارِسِيَّةً، فَقَالَ: أَلْقِهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْقِسِيِّ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِرِمَاحِ الْقَنَا، فَبِهَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ الدِّينَ، وَبِهَا يُمَكِّنُ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلَنَا، انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الرَّمْيِ بِهَا، وَإِبَاحَةِ حَمْلِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَازَ فِي أَكْثَرِ الْأَعْصَارِ، وَهِيَ الَّتِي يَحْصُلُ الْجِهَادُ بِهَا فِي عَصْرِنَا وَأَكْثَرِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَعَنَهَا لِأَنَّ حَمَلَتَهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ الْعَجَمُ، وَلَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا بَعْدُ، وَمَنَعَ الْعَرَبَ مِنْ حَمْلِهَا لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا، وَلِهَذَا أَمَرَ بِرِمَاحِ الْقَنَا، وَلَوْ حَمَلَ إنْسَانٌ رُمْحًا غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا. وَحَكَى أَحْمَدُ، أَنَّ قَوْمًا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقِسِيِّ الْفَارِسِيَّةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] . يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِمَّا اسْتَطَاعَهُ مِنْ الْقُوَّةِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. [مَسْأَلَةٌ الْجُنُبُ فِي السَّبَقِ] (7939) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إذَا أُرْسِلَ الْفُرْسَانُ أَنْ يُجَنِّبَ أَحَدُهُمَا إلَى فَرَسِهِ فَرَسًا، يُحَرِّضُهُ عَلَى الْعَدْوِ، وَلَا يَصِيحُ بِهِ وَقْتَ سِبَاقِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا جَنَبَ وَلَا جَلَبَ» ) مَعْنَى الْجَنَبِ، أَنْ يُجَنِّبَ الْمُسَابِقُ إلَى فَرَسِهِ فَرَسًا لَا رَاكِبَ عَلَيْهِ، يُحَرِّضُ الَّذِي تَحْتَهُ عَلَى الْعَدْوِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنْ يُجَنِّبَ فَرَسًا يَتَحَوَّلُ عِنْدَ الْغَايَةِ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهَا أَقَلَّ كَلَالًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 وَإِعْيَاءً. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَذَا قِيلَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي يُسَابَقُ عَلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي يَتَحَوَّلُ عَنْهَا، فَمَا حَصَلَ السَّبْقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي يَتَحَوَّلُ إلَيْهَا، فَمَا حَصَلَتْ الْمُسَابَقَةُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْحَلْبَةِ، وَمِنْ شَرْطِ السِّبَاقِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا مَتَى احْتَاجَ إلَى التَّحَوُّلِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، فَرُبَّمَا سُبِقَ بِاشْتِغَالِهِ، لَا سُرْعَةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ عَدْوِ الْفَرَسِ فِي الْحَلْبَةِ كُلِّهَا، فَمَتَى كَانَ إنَّمَا يَرْكَبُهُ فِي آخِرِ الْحَلْبَةِ، فَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ. وَأَمَّا الْجَلَبُ، فَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ، يَرْكُضُ خَلْفَهُ، وَيَجْلِبُ عَلَيْهِ، وَيَصِيحُ وَرَاءَهُ، يَسْتَحِثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْوِ. هَكَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَلَبُ وَالْجَنَبُ فِي الرِّهَانِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَحُكِيَ عَنْهُ، أَنَّ مَعْنَى الْجَلَبِ أَنْ يَحْشُرَ السَّاعِي أَهْلَ الْمَاشِيَةِ لِيَصْدُقَهُمْ، قَالَ: فَلَا يَفْعَلْ، لِيَأْتِهِمْ عَلَى مِيَاهِهِمْ فَيَصْدُقَهُمْ. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ فِي الرِّهَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي السِّبَاقِ وَفِي آخِرِهِ: «وَلَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» . وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَجْلَبَ عَلَى الْخَيْلِ يَوْمَ الرِّهَانِ، فَلَيْسَ مِنَّا.» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 [كِتَاب الْأَيْمَان] ِ الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا وَثُبُوتِ حُكْمِهَا، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] . وَأَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، فَقَالَ: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] . وَالثَّالِثُ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] . وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي وَاَللَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَكَانَ أَكْثَرُ قَسَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ". ثَبَتَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْيَمِينِ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِهَا. وَوَضْعُهَا فِي الْأَصْلِ لِتَوْكِيدِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. (7940) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ قَاصِدٍ إلَى الْيَمِينِ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ؟ وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ مُكْرَهٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ مُكَلَّفٍ، فَانْعَقَدَتْ، كَيَمِينِ الْمُخْتَارِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحّ كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ. [فَصْلٌ حُكْم الْيَمِينُ مِنْ الْكَافِرِ] (7941) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْيَمِينُ مِنْ الْكَافِرِ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ، سَوَاءٌ حَنِثَ فِي كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إذَا حَنِثَ بَعْدَ إسْلَامِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 وَلَنَا «، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ» . وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقَسَمِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] . وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ بِنَذْرِهِ أَوْ يَمِينِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ. [فَصْلٌ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاته] (7942) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ، نَحْوَ أَنْ يَحْلِفَ بِأَبِيهِ، أَوْ الْكَعْبَةِ، أَوْ صَحَابِيٍّ، أَوْ إمَامٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا أَصْلُ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ، فَقَالَ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] . {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] . {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات: 1] . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ السَّائِلِ عَنْ الصَّلَاةِ: أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ، إنْ صَدَقَ» . وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْعُشَرَاءِ: «وَأَبِيك لَوْ طَعَنْت فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَك» . وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَكَهُ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ» . قَالَ عُمَرُ: فَمَا حَلَفْت بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، ذَاكِرًا وَلَا آثَرَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. يَعْنِي وَلَا حَاكِيًا لَهَا عَنْ غَيْرِي. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ أَشْرَكَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ حَلَفَ إنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ كَذَبَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَأَمَّا قَسَمُ اللَّهِ بِمَصْنُوعَاتِهِ، فَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِهِ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْقِيَاسِ عَلَى إقْسَامِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ فِي إقْسَامِهِ إضْمَارَ الْقَسَمِ بِرَبِّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَوْلُهُ: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] . أَيْ وَرَبِّ الضُّحَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إنَّ صَدَقَ ". فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يَقُولُوهَا فِيهِ. وَحَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ، قَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ كَانَ يَثْبُتُ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي إبَاحَةِ الذَّبْحِ فِي الْفَخِذِ. ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ كَانَ يَحْلِفُ بِهَا كَمَا حَلَفَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نُهِيَ عَنْ الْحَلِفِ بِهَا، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ النَّهْيِ إبَاحَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ، وَهُوَ يَرْوِي الْحَدِيثَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَمَا حَلَفْت بِهَا ذَاكِرًا، وَلَا آثَرَا. ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ حَلَفَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سَيِّئَةٌ، وَالْحَسَنَةُ تَمْحُو السَّيِّئَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا عَمِلْت سَيِّئَةً، فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا» . وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ عَظَّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعْظِيمًا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا سُمِّيَ شِرْكًا؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْظِيمِهِ بِالْقَسَمِ بِهِ، فَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. تَوْحِيدًا لِلَّهِ - تَعَالَى، وَبَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَلْيَقُلْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. [فَصْلٌ الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى] (7943) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] . وَهَذَا ذَمٌّ لَهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ فِعْلِهِ. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ كَرَاهَتَهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَيْمَانُ كُلُّهَا مَكْرُوهَةٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] . وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْلِفُ كَثِيرًا، وَقَدْ كَانَ يَحْلِفُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ أَيْمَانًا كَثِيرَةً، وَرُبَّمَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ «قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: وَاَللَّهِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. وَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مَعَهَا أَوْلَادُهَا، فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» . وَلَوْ كَانَ هَذَا مَكْرُوهًا، لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ. وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعْظِيمٌ لَهُ، وَرُبَّمَا ضَمَّ إلَى يَمِينِهِ وَصْفَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، مَا فَعَلْت كَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَ، وَلَكِنْ قَدْ غُفِرَ لَهُ بِتَوْحِيدِهِ» . وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ، فَإِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ الْكَذِبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] . فَمَعْنَاهُ لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاَللَّهِ مَانِعَةً لَكُمْ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِرًّا وَلَا تَقْوَى وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْتَنِعَ مِنْ فِعْلِهِ، لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَحْنَثَ فِيهَا، فَنُهُوا عَنْ الْمُضِيِّ فِيهَا. قَالَ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادِهِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] : الرَّجُلُ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصِلَ قَرَابَتَهُ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِيرِ، فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَعْتَلَّ بِاَللَّهِ، فَلِيُكَفِّرْ، وَلْيَبَرَّ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَسْتَلِجَّ أَحَدُكُمْ فِي يَمِينِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك. وَقَالَ: إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَادَ إلَى الْيَمِينِ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، لَا عَلَى كُلِّ يَمِينٍ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ إذًا. [فَصْلٌ وَالْأَيْمَانُ تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ] (7944) فَصْلٌ: وَالْأَيْمَانُ تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، وَاجِبٌ، وَهِيَ الَّتِي يُنْجِي بِهَا إنْسَانًا مَعْصُومًا مِنْ هَلَكَةٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْت أَنَا أَنَّهُ أَخِي، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقْت، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ، فَيَجِبُ، وَكَذَلِكَ إنْجَاءُ نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَرِيءٌ. الثَّانِي، مَنْدُوبٌ، وَهُوَ الْحَلِفُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ؛ مِنْ إصْلَاحٍ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ، أَوْ إزَالَةِ حِقْدٍ مِنْ قَلْبِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَالِفِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ دَفْعِ شَرٍّ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَالْيَمِينُ مُفْضِيَةٌ إلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ، أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي. وَالثَّانِي، لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَلَا حَثَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا عَلَيْهِ، وَلَا نَدَبَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَاعَةً لَمْ يُخِلُّوا بِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى النَّذْرِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ، الْمُبَاحُ، مِثْلُ الْحَلِفِ عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ، وَالْحَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ بِشَيْءِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيهِ صَادِقٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] . وَمِنْ صُورِ اللَّغْوِ قَوْلُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَبِينُ بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا. ذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَالْمِقْدَادَ تَحَاكَمَا إلَى عُمَرَ، فِي مَالٍ اسْتَقْرَضَهُ الْمِقْدَادُ، فَجَعَلَ عُمَرُ الْيَمِينَ عَلَى الْمِقْدَادِ، فَرَدَّهَا عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَنْصَفَك. فَأَخَذَ عُثْمَانُ مَا أَعْطَاهُ الْمِقْدَادُ، وَلَمْ يَحْلِفْ، فَقَالَ: خِفْت أَنْ يُوَافِقَ قَدَرٌ بَلَاءً، فَيُقَالَ: بِيَمِينِ عُثْمَانَ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مُبَاحٌ فِعْلُهُ كَتَرْكِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْحَلِفِ عَلَى الْحَقِّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي يَدِهِ عَصًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَمْنَعُكُمْ الْيَمِينُ مِنْ حُقُوقِكُمْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّ فِي يَدِي لَعَصًا. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، فِي كِتَابِ " قُضَاةِ الْبَصْرَةِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ فِي نَخْلٍ ادَّعَاهُ أُبَيٌّ، فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 عَرَفْت شَيْئًا اسْتَحْقَقْته بِيَمِينِي، وَإِلَّا تَرَكْته، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّ النَّخْلَ لَنَخْلِي، وَمَا لِأُبَيٍّ فِيهِ حَقٌّ. فَلَمَّا خَرَجَا وَهَبَ النَّخْلَ لِأُبَيٍّ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ الْيَمِينِ؟ فَقَالَ: خِفْت أَنْ لَا أَحْلِفَ، فَلَا يَحْلِفُ النَّاسُ عَلَى حُقُوقِهِمْ بَعْدِي، فَيَكُونَ سُنَّةً. وَلِأَنَّهُ حَلِفُ صِدْقٍ عَلَى حَقٍّ، فَأَشْبَهَ الْحَلِفَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ. الرَّابِعُ، الْمَكْرُوهُ، وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ، أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْإِفْكِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلا يَأْتَلِ} [النور: 22] أَيْ لَا يَمْتَنِعْ. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ، أَوْ حَامِلَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ، فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَأَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: " لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ ". فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا. وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ قَالَ: " أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ ". قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ هَذَا، فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى تَرْكِهَا، لَا تَزِيدُ عَلَى تَرْكِهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ تَطَوُّعٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ ". وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ إنْ تَضَمَّنَتْ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ، فَقَدْ تَنَاوَلَتْ فِعْلَ الْوَاجِبِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ كُلِّهِ، بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهَذَا فِي الْفَضْلِ يَزِيدُ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ تَرْكِ التَّطَوُّعِ، فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْإِثْبَاتِ بِهَا عَلَى تَرْكِهَا، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ، وَلِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى هَذِهِ الْيَمِينِ بَيَانَ حُكْمٍ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ تَرْكَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ عَلَى الْحَالِفِ، لَحَصَلَ ضِدُّ هَذَا، وَتَوَهَّمَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لُحُوقَ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ فَيَفُوتُ الْغَرَضُ. وَمِنْ قِسْمِ الْمَكْرُوهِ الْحَلِفُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَلِفُ مُنْفِقٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقٌ لِلْبَرَكَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ، الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَمَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] . وَلِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ، فَإِذَا كَانَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ، كَانَ أَشَدَّ فِي التَّحْرِيمِ. وَإِنْ أَبْطَلَ بِهِ حَقًّا، أَوْ اقْتَطَعَ بِهِ مَالَ مَعْصُومٍ، كَانَ أَشَدَّ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً، يَقْتَطِعُ بِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ؛ فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، فَكَانَ الْحَلِفُ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَالْوَسِيلَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ] (7945) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ، أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، كَانَ حَلُّهَا مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ حَلَّهَا بِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَنْدُوبٍ، أَوْ تَرْكِ مَكْرُوهٍ، فَحَلُّهَا مَكْرُوهٌ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ، فَحَلُّهَا مُبَاحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَلُّهَا مُبَاحًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] ؟ قُلْنَا: هَذَا فِي الْأَيْمَانِ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] إلَى قَوْلِهِ: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] . وَالْعَهْدُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَمَعَ الْيَمِينِ أَوْلَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . وَلِهَذَا نَهَى عَنْ نَقْضِ الْيَمِينِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَلَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ، أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ، فَحَلُّهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي وَاَللَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتهَا» . وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، فَحَلُّهَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ حَلَّهَا بِفِعْلِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَلَمْ يَفْعَلْهُ] (7946) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا، فَلَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْيَمِينُ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، هِيَ الَّتِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْحِنْثَ مَتَى كَانَ طَاعَةً، لَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً. وَقَالَ قَوْمٌ: مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، فَكَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 يَعْنِي فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْحِنْثِ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَدَعْهَا، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَلَا إثْمَ فِي الطَّاعَةِ. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ كَالنَّذْرِ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ. وَقَالَ: إنِّي وَاَللَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَحَدِيثُهُمْ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَنَا؛ لِأَنَّ حَدِيثَنَا أَصَحُّ مِنْهُ وَأَثْبَتُ. ثُمَّ إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَةٌ لِإِثْمِ الْحَلِفِ، وَالْكَفَّارَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَفَّارَةُ الْمُخَالَفَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحِنْثَ طَاعَةٌ. قُلْنَا: فَالْيَمِينُ غَيْرُ طَاعَةٍ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِلْمُخَالَفَةِ، وَلِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - إذَا حَلَفَ بِهِ وَلَمْ يَبَرَّ يَمِينَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، نَظَرْنَا فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ، حَنِثَ، وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَكَانَتْ يَمِينُهُ مُؤَقَّتَةً بِلَفْظِهِ، أَوْ نِيَّتِهِ، أَوْ قَرِينَةِ حَالِهِ، فَفَاتَ الْوَقْتُ، حَنِثَ، وَكَفَّرَ. وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِفَوَاتِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ وَالْفِعْلُ مُمْكِنٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَفْعَلَ فَلَا يَحْنَثُ؛ وَلِهَذَا «قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ، وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] . وَهُوَ حَقٌّ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ عَلَى شَيْء فَفَعَلَهُ نَاسِيًا] (7947) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا. فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ الْجَمَاعَةُ، إلَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَيْضًا، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَإِسْحَاقَ، قَالُوا: لَا حِنْثَ عَلَى النَّاسِي فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفِي الْيَمِينِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَصْدُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ بِهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ قَاصِدًا لِفِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ الْحِنْثُ، كَالذَّاكِرِ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ، مَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهَا تَجِبُ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَلَا إثْمَ عَلَى النَّاسِي. وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، فَهُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ، فَيَقَعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَوْ قَدِمَ الْحَاجُّ. [فَصْلٌ فَعَلَهُ غَيْرَ عَالَمٍ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ الْحَلِف] (7948) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، كَرَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ يَحْسَبُهُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ حَلَفَ إنَّهُ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، فَأَعْطَاهُ قَدْرَ حَقِّهِ، فَفَارَقَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ بَرَّ، فَوَجَدَ مَا أَخَذَهُ رَدِيئًا، أَوْ حَلَفَ: لَا بِعْت لِزَيْدٍ ثَوْبًا. فَوَكَّلَ زَيْدٌ مَنْ يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ، فَدَفَعَهُ إلَى الْحَالِفِ، فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَهُوَ كَالنَّاسِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ، أَشْبَهَ النَّاسِيَ. [فَصْلٌ الْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ] (7949) فَصْلٌ: وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُلْجَأَ إلَيْهِ، مِثْلَ مَنْ يَحْلِفُ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَحُمِلَ فَأُدْخِلَهَا. أَوْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأُخْرِجَ مَحْمُولًا، أَوْ مَدْفُوعًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ. فَهَذَا لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ دَخَلَ مَرْبُوطًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. الثَّانِي أَنْ يُكْرَهَ بِالضَّرْبِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَتَانِ، كَالنَّاسِي. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَوَجَبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ، كَكَفَّارَةِ الصَّيْدِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إكْرَاهٍ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَمَا لَوْ حُمِلَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ الْكَفَّارَةَ فِي الصَّيْدِ، بَلْ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ] (7950) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ) . هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُسَمَّى يَمِينَ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ لَهَا، الْيَمِينَ الْغَمُوسَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالْبَتِّيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَتْ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُخَالَفَةُ مَعَ الْقَصْدِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَالْمُسْتَقْبِلَةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، فَلَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَاللَّغْوِ، أَوْ يَمِينٌ عَلَى مَاضٍ، فَأَشْبَهْت اللَّغْوَ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا غَيْرَ مُنْعَقِدَةٍ، أَنَّهَا لَا تُوجِبُ بِرًّا، وَلَا يُمْكِنُ فِيهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ الْحِنْثُ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ، كَالنِّكَاحِ الَّذِي قَارَنَهُ الرَّضَاعُ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ إثْمَهَا، فَلَا تُشْرَعُ فِيهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرُوِيَ فِيهِ: «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ لَهُنَّ؛ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ، وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» . وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، يُمْكِنُ حَلُّهَا وَالْبِرُّ فِيهَا، وَهَذِهِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، فَلَا حَلَّ لَهَا. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْحَلِفِ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. [مَسْأَلَةٌ الْكَفَّارَة إنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ يُرِيدُ عَقْدِ الْيَمِينِ] (7951) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ يُرِيدُ عَقْدَ الْيَمِينِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى لِسَانِهِ فِي عَرَضِ حَدِيثِهِ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: اللَّغْوُ عِنْدِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْيَمِينِ، يَرَى أَنَّهَا كَذَلِكَ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ فَلَا يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى شَيْءٍ. وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّ اللَّغْوَ الْيَمِينُ الَّتِي لَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا قَلْبَهُ؛ عُمَرُ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْقَاسِمُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، يَعْنِي اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ، لَا وَاَللَّهِ. وَبَلَى وَاَللَّهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ: وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، مَوْقُوفًا. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ، أَيْمَانُ اللَّغْوِ، مَا كَانَ فِي الْمِرَاءِ، وَالْهَزْلِ، وَالْمُزَاحَةِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَأَيْمَانُ الْكَفَّارَةِ كُلُّ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْأَمْرِ، فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَيَفْعَلَنَّ، أَوْ لَيَتْرُكَنَّ، فَذَلِكَ عَقْدُ الْأَيْمَانِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا الْكَفَّارَةَ. وَلِأَنَّ اللَّغْوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكَلَامُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَذَلِكَ. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا؛ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ الَّتِي يُؤَاخَذُ بِهَا، وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِاللَّغْوِ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا إيجَابَ الْكَفَّارَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَأْثَمَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا فِي اللَّغْوِ، فَلَا تَجِبُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، وَبَيَانِ الْأَيْمَانِ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ، خَرَجَ مِنْهَا تَفْسِيرًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ] (7952) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ: هَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ. مُجَاهِدٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ حَقًّا، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ، أَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَلَيْسَ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وُجِدَتْ مَعَ الْمُخَالَفَةِ، فَأَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ، كَالْيَمِينِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] . وَهَذِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا كَفَّارَةٌ، كَيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمُخَالَفَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَنِثَ نَاسِيًا. وَفِي الْجُمْلَةِ، لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ مَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ إجْمَاعًا. وَمَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 فَهُوَ يَمِينُ الْغَمُوسِ، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا كَفَّارَةٌ. وَمَا يَظُنُّهُ حَقًّا، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَقَصَدَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَالَفَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَمَا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ، فَهُوَ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. وَكَلَامُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهَا قَالَتْ: أَيْمَانُ اللَّغْوِ؛ مَا كَانَ فِي الْمِرَاءِ وَالْمُزَاحَةِ، وَالْهَزْلِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَأَيْمَانُ الْكَفَّارَةِ؛ كُلُّ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْأَمْرِ، فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَيَتْرُكَنَّ، فَذَلِكَ عَقْدُ الْأَيْمَانِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، فِي " جَامِعِهِ ": الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ؛ يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ. فَيَفْعَلُ. أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. ثُمَّ لَا يَفْعَلُ. وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ، أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت. وَقَدْ فَعَلَ، أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْت. وَمَا فَعَلَ. [مَسْأَلَة الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَة] (7953) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ، أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ، أَوْ بِاَللَّهِ، أَوْ تَاللَّهِ. فَحَنِثَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، يَقُولُونَ: مَنْ حَلَفَ بَاسِمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَحَنِثَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا إذَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، الَّتِي لَا يُسَمَّى بِهَا سِوَاهُ. وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا لَا يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ، وَالْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَرَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَنَحْوِ هَذَا، فَالْحَلِفُ بِهَذَا يَمِينٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَالثَّانِي، مَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا، وَإِطْلَاقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ، مِثْلَ الْخَالِقِ، وَالرَّازِقِ، وَالرَّبِّ، وَالرَّحِيمِ، وَالْقَادِرِ، وَالْقَاهِرِ، وَالْمَلِكِ، وَالْجَبَّارِ. وَنَحْوِهِ، فَهَذَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ مَجَازًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] . {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] . وَقَوْلُهُ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] وَ. {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ وَقَالَ: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] . وَقَالَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] . فَهَذَا إنْ نَوَى بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَطْلَقَ، كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَإِنْ نَوَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 بِهِ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، فَيَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إلَى مَا نَوَاهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ طَلْحَةُ الْعَاقُولِيُّ إذَا قَالَ: وَالرَّبِّ، وَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ. كَانَ يَمِينًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ مَعَ التَّعْرِيفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ، فَأَشْبَهَتْ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ. الثَّالِثُ، مَا يُسَمَّى بِهِ اللَّهُ - تَعَالَى، وَغَيْرُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِإِطْلَاقِهِ، كَالْحَيِّ، وَالْعَالِمِ، وَالْمَوْجُودِ، وَالْمُؤْمِنِ، وَالْكَرِيمِ، وَالشَّاكِرِ. فَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَانَ يَمِينًا، وَإِنْ أَطْلَقَ، أَوْ قَصَدَ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، فَيَخْتَلِفُ هَذَا الْقِسْمُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ، فَفِي الْأَوَّلِ يَكُونُ يَمِينًا، وَفِي الثَّانِي لَا يَكُونُ يَمِينًا. وَقَالَ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيُّ، فِي هَذَا الْقِسْمِ: لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ لِحُرْمَةِ الِاسْمِ، فَمَعَ الِاشْتِرَاكِ لَا تَكُونُ لَهُ حُرْمَةٌ، وَالنِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقْسَمَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، قَاصِدًا بِهِ الْحَلِفَ بِهِ، فَكَانَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً، كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ. نَقُولُ بِهِ، وَمَا انْعَقَدَ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ إنَّمَا انْعَقَدَ بِالِاسْمِ الْمُحْتَمِلِ، الْمُرَادِ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ النِّيَّةَ تَصْرِفُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ، فَيَصِيرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، كَالْكِنَايَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَوْ نَوَى بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، لِنِيَّتِهِ. [فَصْلٌ الْقَسَمُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى] (7954) فَصْلٌ: وَالْقَسَمُ بِصِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى، كَالْقَسَمِ بِأَسْمَائِهِ. وَصِفَاتُهُ تَنْقَسِمُ أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا هُوَ صِفَاتٌ لِذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهَا، كَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَظَمَتِهِ، وَجَلَالِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَكَلَامِهِ. فَهَذِهِ تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِالْقَسَمِ بِبَعْضِهَا، فَرُوِيَ أَنَّ النَّارَ تَقُولُ: " قَطُّ قَطُّ، وَعِزَّتِك ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ يَقُولُ: " وَعِزَّتِك، لَا أَسْأَلُك غَيْرَهَا ". وَفِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . الثَّانِي، مَا هُوَ صِفَةٌ لِلذَّاتِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا مَجَازًا، كَعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، فَهَذِهِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْلُومِ وَالْمَقْدُورِ اتِّسَاعًا، كَقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَك فِينَا. وَيُقَالُ: اللَّهُمَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 قَدْ أَرَيْتنَا قُدْرَتَك، فَأَرِنَا عَفْوَك. وَيُقَالُ: اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. أَيْ مَقْدُورِهِ. فَمَتَى أَقْسَمَ بِهَذَا، كَانَ يَمِينًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إذَا قَالَ: وَعِلْمِ اللَّهِ. لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْلُومَ. وَلَنَا، أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَكَانَتْ الْيَمِينُ بِهِ يَمِينًا مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ، كَالْعَظَمَةِ، وَالْعِزَّةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْقُدْرَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَلَّمُوهَا، وَهِيَ قَرِينَتُهَا. فَأَمَّا إنْ نَوَى الْقَسَمَ بِالْمَعْلُومِ، وَالْمَقْدُورِ، اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِالِاسْمِ غَيْرَ صِفَةٍ لِلَّهِ، مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مَا نَوَاهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْقَسَمَ بِمَحْلُوفٍ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا غَيْرُ اللَّهِ - تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ نِيَّةُ غَيْرِ صِفَةِ اللَّهِ - تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ لِلصِّفَةِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ نِيَّةُ غَيْرِ الصِّفَةِ، كَالْعَظَمَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ طَلْحَةُ الْعَاقُولِيُّ، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ، كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ، أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ إلَّا إلَى اسْمِ اللَّهِ، كَذَا هَذَا. الثَّالِثُ، مَالًا يَنْصَرِفُ بِإِطْلَاقِهِ إلَى صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ يَنْصَرِفُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - لَفْظًا أَوْ نِيَّةً، كَالْعَهْدِ، وَالْمِيثَاقِ، وَالْأَمَانَةِ، وَنَحْوِهِ. فَهَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا مُكَفَّرَةً إلَّا بِإِضَافَتِهِ أَوْ نِيَّتِهِ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ قَالَ وَحَقِّ اللَّه] (7955) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ فَهِيَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ طَاعَتُهُ وَمَفْرُوضَاتُهُ، وَلَيْسَتْ صِفَةً لَهُ. وَلَنَا، أَنَّ لِلَّهِ حُقُوقًا يَسْتَحِقُّهَا لِنَفْسِهِ؛ مِنْ الْبَقَاءِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالْجَلَالِ، وَالْعِزَّةِ، وَقَدْ اقْتَرَنَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بِالْحَلِفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَتَنْصَرِفُ إلَى صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ. وَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ الْقَسَمَ بِمَخْلُوقٍ، فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الْمَخْلُوقِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَظْهَرُ. [فَصْلٌ قَالَ لَعَمْرُ اللَّهِ] (7956) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ. فَهِيَ يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، إنْ قَصَدَ الْيَمِينَ، فَهِيَ يَمِينٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ يَمِينًا بِتَقْدِيرِ خَبَرٍ مَحْذُوفٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ مَا أُقْسِمُ بِهِ. فَيَكُونُ مَجَازًا، وَالْمَجَازُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْإِطْلَاقُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقْسَمَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِ اللَّهِ، فَكَانَ يَمِينًا مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، كَالْحَلِفِ بِبَقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَلِفُ بِبَقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَحَيَاتِهِ. وَيُقَالُ: الْعَمْرُ وَالْعُمُرُ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَحَقِّ اللَّهِ. وَقَدْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . وَقَالَ النَّابِغَةُ: فَلَا لَعَمْرُ الَّذِي قَدْ زُرْتُهُ حِجَجًا ... وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدِ وَقَالَ آخَرُ: إذَا رَضِيَتْ كِرَامُ بَنِي قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا وَقَالَ آخَرُ: وَلَكِنْ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا ظَلَّ مُسْلِمًا ... كَغُرِّ الثَّنَايَا وَاضِحَاتِ الْمَلَاغِمِ وَهَذَا فِي الشِّعْرِ، وَالْكَلَامِ كَثِيرٌ. وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إلَى التَّقْدِيرِ، فَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا اشْتَهَرَ فِي الْعُرْفِ، صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ دُونَ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ، عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، وَمَتَى احْتَاجَ اللَّفْظُ إلَى التَّقْدِيرِ، وَجَبَ التَّقْدِيرُ لَهُ، وَلَمْ يَجُزْ اطِّرَاحُهُ، وَلِهَذَا يُفْهَمُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى نِيَّةِ قَائِلِهِ وَقَصْدِهِ، كَمَا يُفْهَمُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الْقَسَمُ، وَيُفْهَمُ مِنْ الْقَسَمِ بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ فِي أَشْعَارِهِمْ الْقَسَمُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَيُفْهَمُ مِنْ الْقَسَمِ الَّذِي حُذِفَ فِي جَوَابِهِ حَرْفُ " لَا " أَنَّهُ مُقَدَّرٌ مُرَادٌ، كَهَذَا الْبَيْتِ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]-. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] . التَّقْدِيرُ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَإِنْ قَالَ: عَمْرَك اللَّهَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرَك اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ فَقَدْ قِيلَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: نَشَدْتُك اللَّهَ. وَلِهَذَا يُنْصَبُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: لَعَمْرِي، أَوْ عَمْرَك. فَلَيْسَ بِيَمِينٍ؛ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُك: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ مَخْلُوقٍ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَحَيَاتِي. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَكُونُ قَسَمًا بِحَيَاةِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَمْرُ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ، لَعَمْرُك قَسَمِي، أَوْ مَا أُقْسِمُ بِهِ، وَالْعَمْرُ: الْحَيَاةُ أَوْ الْبَقَاءُ. [فَصْلٌ قَالَ وَأَيْمُ اللَّهِ أَوْ وَأَيْمَن اللَّهِ] (7957) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَاَيْمُ اللَّهِ، أَوْ وَايُمْن اللَّهِ. فَهِيَ يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْسِمُ بِهِ، وَانْضَمَّ إلَيْهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَحُذِفَتْ النُّونُ فِيهِ فِي الْبَعْضِ تَخْفِيقًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ الْيَمِينِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَمِينُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. وَأَلِفُهُ أَلِفُ وَصْلٍ. [فَصْلٌ حُرُوفُ الْقَسَمِ] (7958) فَصْلٌ: وَحُرُوفُ الْقَسَمِ ثَلَاثَةٌ؛ الْبَاءُ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ جَمِيعًا. وَالْوَاوُ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنْ الْبَاءِ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ لِذَلِكَ، وَهِيَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَبِهَا جَاءَتْ أَكْثَرُ الْأَقْسَامِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ الْبَاءُ الْأَصْلَ، لِأَنَّهَا الْحَرْفُ الَّذِي تَصِلُ بِهِ الْأَفْعَالُ الْقَاصِرَةُ عَنْ التَّعَدِّي إلَى مَفْعُولَاتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْقَسَمِ، أُقْسِمُ بِاَللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] . وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ، وَتَخْتَصُّ بَاسِمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَهُوَ اللَّهُ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُقَالُ: تَاللَّهِ. وَلَوْ قَالَ: تَالرَّحْمَنِ، أَوْ تَالرَّحِيمِ. لَمْ يَكُنْ قَسَمًا. فَإِذَا أَقْسَمَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ فِي مَوْضِعِهِ، كَانَ قَسَمًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَكَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56] . {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] . {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] . {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ} [يوسف: 73] . {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حَيَدٍ ... بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الضَّيَّانُ وَالْآسُ فَإِنْ قَالَ: مَا أَرَدْت بِهِ الْقَسَمَ. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي الْقَسَمِ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: تَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ. إذَا قَالَ: أَرَدْت أَنَّ قِيَامِي بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ. وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحَرْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، فَيُمْنَعُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ. [فَصْل أَقْسَمَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ] (7959) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقْسَمَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ، فَقَالَ: اللَّهِ لَأَقُومَنَّ. بِالْجَرِّ أَوْ النَّصْبِ، كَانَ يَمِينًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ، لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَسَمِ، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ سَائِغٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرْعِ، فَرُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: آللَّهِ إنَّك قَتَلْته؟ . قَالَ: اللَّهِ إنِّي قَتَلْته» . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَقَالَ لِرُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ: اللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ قَالَ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً» . وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَقَالَ أَيْضًا: فَقَالَتْ يَمِينَ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةٌ وَقَدْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَيْهِ؛ إحْدَاهُمَا؛ الْجَوَابُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ. وَالثَّانِي، النَّصْبُ وَالْجَرُّ فِي اسْمِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 اللَّهِ - تَعَالَى؛ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ. وَإِنْ قَالَ: اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ. بِالرَّفْعِ، وَنَوَى الْيَمِينَ، فَهِيَ يَمِينٌ، لَكِنَّهُ قَدْ لَحَنَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهُ. بِالرَّفْعِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْجَوَابِ بِجَوَابِ الْقَسَمِ كَافِيَةٌ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَعْرِفُ الْإِعْرَابَ فَيَأْتِي بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ عُدُولَهُ عَنْ إعْرَابِ الْقَسَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَسَمًا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ قَسَمًا فِي غَيْرِهِمْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُجِبْهُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ. [فَصْلٌ مَا يُجَابُ الْقَسَمُ] (7960) فَصْلٌ وَيُجَابُ الْقَسَمُ بِأَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ؛ حَرْفَانِ لِلنَّفْيِ، وَهُمَا " مَا " وَ " لَا "، وَحَرْفَانِ لِلْإِثْبَاتِ، وَهُمَا " إنَّ " وَ " اللَّامُ " الْمَفْتُوحَةُ. وَتَقُومُ " إنْ " الْمَكْسُورَةُ، مَقَامَ " مَا " النَّافِيَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} [التوبة: 107] . وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ أَفْعَلُ. بِغَيْرِ حَرْفٍ، فَالْمَحْذُوفُ هَاهُنَا " لَا "، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] أَيْ لَا تَفْتَأُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حَيَدٍ وَقَالَ آخَرُ: فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا أَيْ: لَا أَبْرَحُ. [فَصْلٌ قَالَ لَاهَا اللَّهِ وَنَوَى الْيَمِينَ] (7961) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ. وَنَوَى الْيَمِينَ. فَهُوَ يَمِينٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي سَلَبَ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ: لَاهَا اللَّهِ، إذَا تَعَمَّدَ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيُعْطِيك سَلَبَهُ؟ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ» ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفٌ وَلَا نِيَّةٌ، وَلَا فِي جَوَابِهِ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَسَمِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [مَسْأَلَةٌ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِآيَةِ مِنْهُ أَوْ بِكَلَامِ اللَّهِ] (7962) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِآيَةٍ مِنْهُ، أَوْ بِكَلَامِ اللَّهِ، يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُعْهَدُ الْيَمِينُ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَجَلَالِ اللَّهِ، وَعَظَمَتِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504 وَقَوْلُهُمْ: هُوَ مَخْلُوقٌ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ مَعَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] . أَيْ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يُعْهَدُ الْيَمِينُ بِهِ. فَيَلْزَمُهُمْ قَوْلُهُمْ: وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَجَلَالِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْحَلِفَ بِآيَةٍ مِنْهُ كَالْحَلِفِ بِجَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. [فَصْلٌ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ] (7963) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ. وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إمَامُنَا، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ بِالْمُصْحَفِ إنَّمَا قَصَدَ الْحَلِفَ بِالْمَكْتُوبِ فِيهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ] (7964) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ، أَوْ بِالْحَجِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، بِأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِهِ شَيْئًا، أَوْ يَحُثَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ صَدَقَةُ مَالِي، أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ. فَهَذَا يَمِينٌ، حُكْمُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ، فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَيُسَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا شَيْءَ فِي الْحَلِفِ بِالْحَجِّ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَالْحَكَمِ: لَا شَيْءَ فِي الْحَلِفِ بِصَدَقَةِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَلْزَمُ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِحُرْمَةِ الِاسْمِ، وَهَذَا مَا حَلَفَ بِاسْمِ اللَّهِ، وَلَا يَجِبُ مَا سَمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْقُرْبَةِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عَلَى طَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، فِي " الْمُتَرْجَمِ ". وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 505 قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ، أَوْ الْهَدْيِ، أَوْ جَعْلِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ يَمِينٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ، أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى قَائِلُهُ حَالِفًا، وَفَارَقَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِرَّ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَهَا هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ قُرْبَةً وَلَا بِرًّا، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ مِنْ وَجْهٍ وَالنَّذْرَ مِنْ وَجْهٍ، فَخُيِّرَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ. وَالْأَوَّلُ أُولَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ فِعْلَ مَا نَذَرَهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ. وَفَارَقَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالِاسْمِ الْمُحْتَرَمِ، فَاذًّا خَالَفَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، تَعْظِيمًا لِلِاسْمِ، بِخِلَافِ هَذَا. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِالْعَهْدِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ بِالْعَهْدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالْعَهْدِ، أَوْ قَالَ: وَعَهْدِ اللَّهِ، وَكَفَالَتِهِ. فَذَلِكَ يَمِينٌ، يَجِبُ تَكْفِيرُهَا إذَا حَنِثَ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَحَلَفَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالْعَهْدِ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرَ، فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ إذَا ذَكَرَتْهُ تَبْكِي، وَتَقُولُ: وَاعْهَدَاهُ. قَالَ أَحْمَدُ: الْعَهْدُ شَدِيدٌ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] . وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إذَا حَلَفَ بِالْعَهْدِ وَحَنِثَ، مَا اسْتَطَاعَ. وَعَائِشَةُ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، ثُمَّ تَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا، وَتَقُولُ: وَاعْهَدَاهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَمِينَ بِعَهْدِ اللَّهِ، الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِيَمِينٍ. وَلَعَلَّهمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعَهْدَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَخَلْقِ اللَّهِ. وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَأَفْعَلَنَّ. ثُمَّ حَنِثَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَلَنَا، أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَحْتَمِلُ كَلَامَهُ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] . وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ صِفَةٌ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِحْقَاقُهُ لِمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا بِإِطْلَاقِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَلَامِ اللَّهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَأَفْعَلَنَّ. أَوْ قَالَ: وَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ لَأَفْعَلَنَّ. فَهُوَ يَمِينٌ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 506 وَإِنْ قَالَ: وَالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ لَأَفْعَلَنَّ. وَنَوَى عَهْدَ اللَّهِ، كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَلِفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ إنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ، يَجِبُ أَنْ تَنْصَرِفَ إلَى عَهْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي عُهِدَتْ الْيَمِينُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، دَخَلَ فِيهِ ذَلِكَ وَالثَّانِيَةُ، لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَمْ يَصْرِفْهُ إلَى ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ، فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا. [مَسْأَلَةٌ الْحَلِف بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِسْلَامِ] (7966) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِسْلَامِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْحَلِفِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِسْلَامِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ مَجُوسِيٌّ، إنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ الْقُرْآنِ، إنْ فَعَلَ. أَوْ يَقُولَ: هُوَ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ، أَوْ يَعْبُدُك، أَوْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى، إنْ فَعَلَ. أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَعَنْ أَحْمَدَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. يُرْوَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاسْمِ اللَّهِ، وَلَا صِفَتِهِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَصَيْت اللَّهَ فِيمَا أَمَرَنِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى النَّدْبِ، دُونَ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا قَالَ: أَكْفُرُ بِاَللَّهِ، أَوْ أُشْرِكُ بِاَللَّهِ. فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ مَجُوسِيٌّ، أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ. فِي الْيَمِينِ يَحْلِفُ بِهَا، فَيَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَقَالَ: «عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تُوجِبُ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ، فَكَانَ الْحَلِفُ يَمِينًا، كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ نَصٌّ، وَلَا هِيَ فِي قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعْظِيمًا لِاسْمِهِ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ. [فَصْلٌ قَالَ هُوَ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَالزِّنَى إنْ فَعَلَ ثُمَّ حَنِثَ] (7967) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: هُوَ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَالزِّنَى إنْ فَعَلَ. ثُمَّ حَنِثَ، أَوْ قَالَ: هُوَ يَسْتَحِلُّ تَرْكَ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 507 أَوْ الزَّكَاةِ. فَهُوَ كَالْحَلِفِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْلَالَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَإِنْ قَالَ: عَصَيْت اللَّهَ فِيمَا أَمَرَنِي، أَوْ فِي كُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيَّ، أَوْ مَحَوْت الْمُصْحَفَ، أَوْ أَنَا أَسْرِقُ، أَوْ أَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إنْ فَعَلْت. وَحَنِثَ، لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا دُونَ الشِّرْكِ، وَإِنْ قَالَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، أَوْ أَقْطَعَ يَدَهُ، أَوْ لَعَنَهُ اللَّهُ، إنْ فَعَلَ. ثُمَّ حَنِثَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَاللَّيْثُ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا قَالَ: عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: مَحَوْت الْمُصْحَفَ. وَإِنْ قَالَ: لَا يَرَانِي اللَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا إنْ فَعَلْت. وَحَنِثَ. فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا فِي هَذَا وَمِثْلِهِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ. [فَصْلٌ الْحَلِفُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ] (7968) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَالَ: إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَةٌ الْحَلِفُ بِتَحْرِيمِ مَمْلُوكِهِ أَوْ شَيْء مِنْ الْمَال] (7969) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ بِتَحْرِيمِ مَمْلُوكِهِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت. وَفَعَلَ، أَوْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت. ثُمَّ فَعَلَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ تَرَكَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ. وَإِنْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ حَرَامٌ عَلَيَّ. فَهُوَ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ. وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ،، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِيمَنْ قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ: يَمِينٌ مِنْ الْأَيْمَانِ، يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ يَمِينٌ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ. وَعَنْهُ: إنْ نَوَى طَلَاقًا، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَعَنْ الضَّحَّاكِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالُوا: الْحَرَامُ يَمِينُ طَلَاقٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ مَا نَوَى. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ، فَلَغَا مَا قَصَدَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ هَذِهِ رَبِيبَتِي. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . سَمَّى تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَمِينًا، وَفَرَضَ لَهُ تَحِلَّةً، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْت أَنَا وَحَفْصَةُ، أَنَّ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْتَقُلْ: إنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. فَدَخَلَ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 508 إحْدَانَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا، بَلْ شَرِبْت عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ» . فَنَزَلَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. قُلْنَا: مَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ صَاحِبَةِ الْقِصَّةِ الْحَاضِرَةِ لِلتَّنْزِيلِ، الْمُشَاهِدَةِ لِلْحَالِ، أَوْلَى، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ لَوْ سَمِعَا قَوْلَ عَائِشَةَ، لَمْ يَعْدِلَا بِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَصِيرَا إلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُصَارُ إلَى قَوْلِهِمَا، وَيُتْرَكُ قَوْلُهَا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينًا. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ، كَانَ حُجَّةً لَنَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحَلَالِ الَّذِي حُرِّمَ، وَلَيْسَتْ زَوْجَةً، فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِتَحْرِيمِهَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ فِي كُلِّ حَلَالٍ حُرِّمَ، بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ الْحَلَالَ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ، كَتَحْرِيمِ الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِتَحْرِيمِهَا. وَإِذَا قَالَ: هَذِهِ رَبِيبَتِي. يَقْصِدُ تَحْرِيمَهَا، فَهُوَ ظِهَارٌ. [مَسْأَلَةٌ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ] (7970) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ، أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَسَوَاءٌ نَوَى الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِاَللَّهِ. وَلَمْ يَقُلْ: أُقْسِمُ، وَلَا أَشْهَدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفِعْلَ، كَانَ يَمِينًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَمِينًا بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ مُقَدَّرٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْفِعْلَ، وَنَطَقَ بِالْمُقَدَّرِ، كَانَ أَوْلَى بِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: 109] . وَقَالَ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] وَيَقُولُ الْمُلَاعِنُ فِي لِعَانِهِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ. وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. وَأَنْشَدَ أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهُ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ ذَكَرَ الْفِعْلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَقَالَ: أَقْسَمْت بِاَللَّهِ، أَوْ شَهِدْت بِاَللَّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 رَوَاحَةَ: أَقْسَمْت بِاَللَّهِ لَتَنْزِلَنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَقْسَمْت بِاَللَّهِ. الْخَبَرَ عَنْ قَسَمٍ مَاضٍ، أَوْ بِقَوْلِهِ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ. عَنْ قَسَمٍ يَأْتِي بِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَإِنَّ ادَّعَى إرَادَةَ ذَلِكَ، قُبِلَ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا حُكْمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَوَى شَيْئًا أَوْ أَرَادَهُ، مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ، لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ. وَإِنْ قَالَ: شَهِدْت بِاَللَّهِ أَنِّي آمَنْت بِاَللَّهِ. فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَإِنْ قَالَ: أَعْزِمُ بِاَللَّهِ. يَقْصِدُ الْيَمِينَ، فَهُوَ يَمِينٌ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَمِينٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ بِيَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ، وَلَا الِاسْتِعْمَالِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَقْصِدُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْيَمِينَ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَوَابُهُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ يَمِينًا. فَأَمَّا إنْ نَوَى بِقَوْلِهِ غَيْرَ الْيَمِينَ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. [فَصْلٌ الْإِيلَاءَ وَالْحَلِفَ وَالْقَسَمِ وَاحِدٌ] (7971) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ، أَوْ أُولِي بِاَللَّهِ، أَوْ حَلَفْت بِاَللَّهِ، أَوْ آلَيْت بِاَللَّهِ، أَوْ أَلْيَةً بِاَللَّهِ، أَوْ حَلِفًا بِاَللَّهِ، أَوْ قَسَمًا بِاَللَّهِ. فَهُوَ يَمِينٌ، سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ. وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي تَفْصِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَالْحَلِفَ وَالْقَسَمَ وَاحِدٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أُولِي بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... وَمَطَارِحِ الْأَكْوَارِ حَيْثُ تَبِيتُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 510 وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَلِيَّةً بِالْيَعْمُلَاتِ تَرْتَمِي ... بِهَا النَّجَاءُ بَيْنَ أَجْوَازِ الْفَلَا وَقَالَ: بَلْ قَسَمًا بِالشُّمِّ مِنْ يَعْرُبَ هَلْ ... لِمُقْسِمٍ مِنْ بَعْدِ هَذَا مُنْتَهَى [فَصْلٌ أَقْسَمْت أَوْ آلَيْت أَوْ حَلَفْت أَوْ شَهِدْت لَأَفْعَلَنَّ وَلَمْ يَذْكُرْ بِاَللَّهِ] (7972) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَقْسَمْت، أَوْ آلَيْت، أَوْ حَلَفْت، أَوْ شَهِدْت لَأَفْعَلَنَّ. وَلَمْ يَذْكُرْ بِاَللَّهِ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا يَمِينٌ، سَوَاءٌ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، إنْ نَوَى الْيَمِينَ بِاَللَّهِ كَانَ يَمِينًا، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْقَسَمَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِغَيْرِهِ، فَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا حَتَّى يَصْرِفَهُ بِنِيَّتِهِ إلَى مَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ وَإِنْ نَوَى. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ اسْمِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ، فَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَقْسَمْت بِالْبَيْتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَتُخْبِرَنِّي بِمَا أَصَبْت مِمَّا أَخْطَأْت. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُقْسِمْ يَا أَبَا بَكْرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَتُبَايِعَنَّهُ. فَبَايَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «أَبْرَرْت قَسَمَ عَمِّي، وَلَا هِجْرَةَ» . وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] إلَى قَوْلِهِ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] . فَسَمَّاهَا يَمِينًا، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمًا. وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ، عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 511 حَلَفْت لَئِنْ عَادُوا لَنَصْطَلِمَنّهُم ... لَجَاءُوا تَرَدَّى حُجْرَتَيْهَا الْمَقَانِبُ وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: فَآلَيْت لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً ... عَلَيْك وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَغْبَرَا وَقَوْلُهُمْ: يَحْتَمِلُ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَسَمِ الْمَشْرُوعِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَكْرُوهًا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَفْعَلْهُ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَبَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ الْعَبَّاسِ حِينَ أَقْسَمَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ قَالَ أَعْزِمُ أَوْ عَزَمْت فِي الْحَلِف] (7973) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: أَعْزِمُ، أَوْ عَزَمْت. لَمْ يَكُنْ قَسَمًا، نَوَى بِهِ الْقَسَمَ أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِهَذَا اللَّفْظِ عُرْفٌ فِي شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ، وَلَا هُوَ مَوْضِعٌ لِلْقَسَمِ، وَلَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ، أَوْ أَعْتَصِمُ بِاَللَّهِ، أَوْ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ، أَوْ عَزَّ اللَّهُ، أَوْ تَبَارَكَ اللَّهُ. وَنَحْوُ هَذَا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْقَسَمِ لُغَةً، وَلَا ثَبَتَ لَهُ عُرْفٌ فِي شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. [مَسْأَلَة الْحَلِفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ] (7974) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ بِأَمَانَةِ اللَّهِ) قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحَلِفَ بِصِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأَمَانَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَدَائِعِ وَالْحُقُوقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . يَعْنِي الْوَدَائِعَ وَالْحُقُوقَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا، لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ إلَّا بِنِيَّتِهِ أَوْ دَلِيلٍ صَارِفٍ إلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 وَلَنَا، أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهَا إذَا نَوَى، وَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَرْفٌ لِيَمِينِ الْمُسْلِمِ إلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ الْمَكْرُوهِ؛ لِكَوْنِهِ قَسَمًا بِمَخْلُوقٍ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ خِلَافُهُ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْقَسَمَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ بِالْمُعَظَّمِ الْمُحْتَرَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَصِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ حُرْمَةً وَقَدْرًا. وَالثَّالِثُ، أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَدَائِعِ لَمْ يُعْهَدْ الْقَسَمُ بِهَا، وَلَا يُسْتَحْسَنُ ذَلِكَ لَوْ صُرِّحَ بِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُقْسَمُ بِمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ. الرَّابِعُ، أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ الْمُضَافَةَ إلَيْهِ، هِيَ صِفَتُهُ، وَغَيْرُهَا يُذْكَرُ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْخَبَرِ. الْخَامِسُ، أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي كُلِّ أَمَانَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ، أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَمَانَةُ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ، كَمَا لَوْ نَوَاهَا. [فَصْلٌ نَوَى الْحَلِفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ] (7975) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَالْأَمَانَةِ لَا فَعَلْت. وَنَوَى الْحَلِفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، فَهُوَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا؛ يَكُونُ يَمِينًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى، فَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: وَالْعَهْدِ، وَالْمِيثَاقِ، وَالْجَبَرُوتِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالْأَمَانَاتِ. فَإِنْ نَوَى يَمِينًا كَانَ يَمِينًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْأَمَانَةِ رِوَايَتَيْنِ، فَيَخْرُجُ فِي سَائِرِ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهَانِ، قِيَاسًا عَلَيْهَا. [فَصْلٌ الْحَلِفُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ] (7976) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالْأَمَانَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ، فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ عِنْدَهُ بِالْأَمَانَةِ، فَجَعَلَ يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: هَلْ كَانَ هَذَا يُكْرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْ الْحَلِفِ بِالْأَمَانَةِ أَشَدَّ النَّهْيِ. [فَصْل تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقِ كَالْكَعْبَةِ] (7977) فَصْلٌ: وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ؛ كَالْكَعْبَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَلِفُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَلَفَ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَنِثَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، فَالْحَلِفُ بِهِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَلِأَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 513 حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِالْحَلِفِ بِهِ، كَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى اسْمِهِ؛ لِعَدَمِ الشَّبَهِ، وَانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِكُلِّ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ كُلِّهَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَحَنِثَ] (7978) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَحَنِثَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا، أَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، مِثْلَ إنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا. فَحَنِثَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعُرْوَةُ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، فِيمَنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَكَفَالَتُهُ. ثُمَّ حَنِثَ: فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ بِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّأْكِيدَ وَالتَّفْهِيمَ. وَنَحْوُهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ كَقَوْلِهِمْ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ أَسْبَابَ الْكَفَّارَاتِ تَكَرَّرَتْ، فَتُكَرَّرُ الْكَفَّارَاتُ، كَالْقَتْلِ لِآدَمِيٍّ، وَصَيْدِ حَرَمِيٍّ. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ مِثْلُ الْأُولَى، فَتَقْتَضِي مَا تَقْتَضِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حِنْثٌ وَاحِدٌ أَوْجَبَ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ الْكَفَّارَاتِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ، كَمَا لَوْ قَصْدَ التَّأْكِيدَ وَالتَّفْهِيمَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أَسْبَابٌ تَكَرَّرَتْ. لَا نُسَلِّمُهُ؛ فَإِنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَيَنْتَقِضُ بِمَا إذَا تَكَرَّرَ الْوَطْءُ فِي رَمَضَانَ فِي أَيَّامٍ، وَبِالْحُدُودِ إذَا تَكَرَّرَتْ أَسْبَابُهَا، فَإِنَّهَا كَفَّارَاتٌ، وَبِمَا إذَا قَصْدَ التَّأْكِيدَ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَلٌ، وَلِذَلِكَ تَزْدَادُ بِكِبَرِ الصَّيْدِ، وَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَهِيَ كَدِيَةِ الْقَتِيلِ، وَلَا عَلَى كَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْبَدَلِ أَيْضًا لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَ آدَمِيًّا عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، نَاسَبَ أَنْ يُوجِدَ عَبْدًا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمَّا عَجَزَ عَنْ الْإِيجَادِ، لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إيجَادٌ لِلْعَبْدِ بِتَخْلِيصِهِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَشُغْلِهَا، إلَى فَرَاغِ الْبَالِ لِلْعِبَادَةِ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْإِعْتَاقِ. ثُمَّ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ هَاهُنَا تَكَرَّرَ بِكَمَالِهِ وَشُرُوطِهِ، وَفِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ، أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ شَرْطًا لَهُ، بِدَلِيلِ تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَى وُجُودِهِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَلَمْ يَتَكَرَّرْ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِلْحَاقُ ثَمَّ، وَإِنْ صَحَّ الْقِيَاسُ، فَقِيَاسُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى مِثْلِهَا، أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْقَتْلِ؛ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا. [فَصْل حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ] (7979) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت، وَلَا شَرِبْت، وَلَا لَبِسْت. فَحَنِثَ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 الْجَمِيعِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ، وَالْحِنْثَ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يَحْنَثُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ. وَإِنْ حَلَفَ أَيْمَانًا عَلَى أَجْنَاسٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلَتْ، وَاَللَّهِ لَا شَرِبْت، وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت. فَحَنِثَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينٍ أُخْرَى، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا أَيْضًا خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الثَّانِيَةِ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنْ الْأُولَى، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ فِي رَمَضَانَ فَكَفَّرَ، ثُمَّ وَطِئَ مَرَّةً أُخْرَى. وَإِنْ حَنِثَ فِي الْجَمِيعِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَرَوَاهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَرَوَاهَا ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ الصَّحِيحَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً تُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ، فَتَدَاخَلَتْ، كَالْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَحَالُّهَا، بِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَمَاعَةٍ، أَوْ يَزْنِيَ بِنِسَاءٍ. وَلَنَا، أَنَّهُنَّ أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إحْدَاهُنَّ بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، فَلَمْ تَتَكَفَّرْ إحْدَاهُمَا بِكَفَّارَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، وَكَالْأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ الْكَفَّارَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَيْمَانَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّهُ مَتَى حَنِثَ فِي إحْدَاهُمَا كَانَ حَانِثًا فِي الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ وَاحِدًا، كَانَتْ الْكَفَّارَةُ وَاحِدَةً، وَهَا هُنَا تَعَدَّدَ الْحِنْثُ، فَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَاتُ، وَفَارَقَ الْحُدُودَ؛ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ، وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهَا رُبَّمَا أَفْضَتْ إلَى التَّلَفِ، فَاجْتُزِئَ بِأَحَدِهَا، وَهَا هُنَا الْوَاجِبُ إخْرَاجُ مَالٍ يَسِيرٍ، أَوْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَلَا يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِيَمِينَيْنِ مُخْتَلِفِي الْكَفَّارَةِ] (7980) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِيَمِينَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْكَفَّارَةِ، لَزِمَتْهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْيَمِينَيْنِ كَفَّارَتُهَا) هَذَا مِثْلُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَبِالظِّهَارِ، وَبِعِتْقِ عَبْدِهِ، فَإِذَا حَنِثَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةُ ظِهَارٍ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ تَدَاخُلَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، كَالْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ، وَالْكَفَّارَاتُ هَاهُنَا أَجْنَاسٌ، وَأَسْبَابُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِحَقِّ الْقُرْآنِ] (7981) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ بِحَقِّ الْقُرْآنِ، لَزِمَتْهُ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهُوَ قِيَاسُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 515 الْمَذْهَبِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ كُلِّهَا، وَتَكَرُّرَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْحَلِفُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تُجْزِئَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ صَبْرٍ، فَمَنْ شَاءَ بَرَّ، وَمَنْ شَاءَ فَجَرَ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَلَمْ نَعْرِفْ مُخَالِفًا لَهُ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ، فِي كُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ، عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَرَدُّهُ إلَى وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْعَجْزِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَالِاحْتِيَاطِ لِكَلَامِ اللَّهِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ، كَمَا أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً حِينَ حَلَفَتْ بِالْعَهْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَهَذِهِ يَمِينٌ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ تُوجِبْ كَفَّارَاتٍ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ إيجَابَ كَفَّارَاتٍ بِعَدَدِ الْآيَاتِ يُفْضِي إلَى الْمَنْعِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بِحِنْثِهِ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا، تَرَكَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَقَدْ يَكُونُ بِرًّا وَتَقْوَى وَإِصْلَاحًا، فَتَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] . وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَاتٍ بِعَدَدِ الْآيَاتِ، فَلَمْ يُطِقْ، أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ] (7982) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فِيمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالْأُخْرَى يَذْبَحُ كَبْشًا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ فَعَلْت كَذَا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي. أَوْ يَقُولَ: وَلَدِي نَحِيرٌ إنْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ مُطْلَقًا، غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ. فَعَنْ أَحْمَدَ، عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، أَوْ نَذْرُ لَجَاجٍ، وَكِلَاهُمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تَذْبَحَ ابْنَهَا: لَا تَنْحَرِي ابْنَك، وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، كَفَّارَتُهُ ذَبْحُ كَبْشٍ، وَيُطْعِمُهُ لِلْمَسَاكِينِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَذْرَ ذَبْحِ الْوَلَدِ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ كَنَذْرِ ذَبْحِ شَاةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَكَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ شَاةٍ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وَدَلِيلُ أَنَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِ شَاةٍ، أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 516 بِالْفَحْشَاءِ، وَلَا بِالْمَعَاصِي، وَذَبْحُ الْوَلَدِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قِيلَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُطْعِمَ مَعَكَ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ، وَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ، فَلَا يَعْصِهِ» . وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . وَلِأَنَّ النَّذْرَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «النَّذْرُ حَلِفُهُ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ وَلَدَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّذْرَ لِذَبْحِ الْوَلَدِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَبْحِ كَبْشٍ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِذَبْحِ كَبْشٍ، لَمْ يَكُنْ الْكَبْشُ فِدَاءً، وَلَا كَانَ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا قَبْلَ ذَبْحِ الْكَبْشِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ابْتِلَاءً، ثُمَّ فُدِيَ بِالْكَبْشِ، وَهَذَا أَمْرٌ اخْتَصَّ بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، لَحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ إبْرَاهِيمُ مَأْمُورًا بِذَبْحِ كَبْشٍ، فَقَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ نَذْرَ ذَبْحِ الِابْنِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي شَرْعِنَا، وَلَا مُبَاحٍ، بَلْ هُوَ مَعْصِيَةٌ، فَتَكُونُ كَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَةِ سَائِرِ نُذُورِ الْمَعَاصِي. [فَصْلٌ نَذَرَ ذَبْحَ نَفْسِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ] (7983) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ ذَبْحَ نَفْسِهِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ، فَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ إذَا حَنِثَ: يَذْبَحُ شَاةً. وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ ذَبْحَ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي الَّذِي قَالَ: أَنَا أَنْحَرُ فُلَانًا. فَقَالَ: عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ. وَلِأَنَّهُ نَذَرَ ذَبْحَ آدَمِيٍّ، فَكَانَ عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ، كَنَذْرِ ذَبْحِ ابْنِهِ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فَكَانَ مُوجَبُهُ كَفَّارَةً، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 إنِّي نَذَرْت أَنَّ أَنْحَرَ نَفْسِي. قَالَ: فَتَجَهَّمَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَفَّفَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: أَهْدِ مِائَةَ بَدَنَةٍ. ثُمَّ أَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ نَذَرْت أَنْ لَا تُكَلِّمَ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ؟ إنَّمَا هَذِهِ خُطْوَةٌ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، اسْتَغْفِرْ اللَّهَ، وَتُبْ إلَيْهِ. ثُمَّ رَجَعَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا، أَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، حُكْمُهُ حُكْمُ نَذْرِ سَائِرِ الْمَعَاصِي لَا غَيْرُ. [فَصْلٌ امْرَأَةٍ نَذَرَتْ نَحْرَ وَلَدِهَا وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ] (7984) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ نَحْرَ وَلَدِهَا، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ: تَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشًا، وَتُكَفِّرُ يَمِينَهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ كَفَّارَةَ نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ ذَبْحُ كَبْشٍ. جَعَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ إذَا أُضِيفَ اقْتَضَى التَّعْمِيمَ، فَكَانَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشٌ. فَإِنْ عَنَتْ بِنَذْرِهَا وَاحِدًا فَإِنَّمَا عَلَيْهَا كَبْشٌ وَاحِدٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ الْوَاحِدِ، فُدِيَ بِكَبْشٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَفْدِ غَيْرَ مَنْ أُمِرَ بِذَبْحِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَكَذَا هَاهُنَا، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ لَمَّا نَذَرَ ذَبْحَ ابْنٍ مِنْ بَنِيهِ إنْ بَلَغُوا عَشَرَةً، لَمْ يَفْدِ مِنْهُمْ إلَّا وَاحِدًا. وَسَوَاءٌ نَذَرَتْهُ مُعَيَّنًا، أَوْ عَنَتْ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ: وَتُكَفِّرُ يَمِينَهَا. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَبْحَ الْكِبَاشِ كَفَّارَةُ يَمِينِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ نَذْرِهَا يَمِينٌ. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، تُجْزِئُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، عَلَى مَا سَبَقَ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ فَحَنِثَ] (7985) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ، فَحَنِثَ، عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَمْلِكُ مِنْ عَبِيدِهِ، وَإِمَائِهِ، وَمُكَاتَبِيهِ، وَمُدَبَّرِيهِ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، وَشِقْصٍ يَمْلِكُهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ) مَعْنَاهُ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا، فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ أَوْ عَتِيقٌ، أَوْ فَكُلٌّ مَا أَمْلِكُ حُرٌّ. فَإِنَّ هَذَا إذَا حَنِثَ عَتَقَ مَمَالِيكُهُ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَأَبِي ثَوْرٍ: تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. لِأَنَّهَا يَمِينٌ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك. قَالَ: فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ أَتَيْت حَفْصَةَ. إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ، فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ؟ أَفْتَتْكِ زَيْنَبُ، وَأَفْتَتْكِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك، وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالْجُوزَجَانِيُّ مُطَوَّلًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 518 وَلَنَا، أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ، فَيَقَعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقُ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِيَمِينٍ فِي الْحَقِيقَةِ، إنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ فِيهِ: كَفِّرِي يَمِينَك، وَأَعْتِقِي جَارِيَتَك. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَمْلُوكٌ سِوَاهَا. [فَصْلٌ قَالَ إنْ فَعَلْت فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُحَرِّرَهُ] (7986) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُحَرِّرَهُ. أَوْ نَحْوَ هَذَا، لَمْ يُعْتَقْ بِحِنْثِهِ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُعَلِّقْ عِتْقَ الْعَبْدِ، إنَّمَا حَلَفَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ. (7987) فَصْلٌ: وَإِذَا حَنِثَ، عَتَقَ عَلَيْهِ عَبِيدُهُ، وَإِمَاؤُهُ، وَمُدَبَّرُوهُ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ، وَمُكَاتَبُوهُ، وَالْأَشْقَاصُ الَّتِي يَمْلِكُهَا مِنْ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ لَا يَعْتِقُ الشِّقْصُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الشِّقْصَ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَإِسْحَاقُ: لَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ وَتَصَرُّفِهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي اسْمِ مَمَالِيكِهِ، كَالْحُرِّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمَاعِي مِنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَعْتِقُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، فَيَعْتِقُ، كَالْمُدَبَّرِ؛ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مَمْلُوكَهُ، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَقَوْلُهُ لِعَائِشَةَ: «اشْتَرِي بَرِيرَةَ، وَأَعْتِقِيهَا» وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً، وَلَا يَصِحُّ شِرَاءُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ وَلَا عِتْقُهُ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَدَخَلَ فِي الْعِتْقِ بِالتَّعْلِيقِ، كَسَائِرِ عَبِيدِهِ. وَأَمَّا الشِّقْصُ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، قَابِلٌ لِلتَّحْرِيرِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ. [فَصْل قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ دَخَلَهَا] (7988) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: عَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ. ثُمَّ دَخَلَهَا، لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِإِعْتَاقِهِ نَاجِزًا، فَلَا يَعْتِقُ بِالتَّعْلِيقِ أَوْلَى. وَهَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ إحْدَاهُمَا؛ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِالْعِتْقِ فِيمَا لَا يَقَعُ بِالْحِنْثِ، فَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ فُلَانًا. وَالثَّانِيَةُ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِإِخْرَاجِ مَالِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَالُ فُلَانٍ صَدَقَةٌ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ عَلَى صِفَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةٌ، كَسَائِرِ التَّعْلِيقِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 519 عَبْدًا. فَإِنَّهُ نَذْرٌ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ؛ لِكَوْنِ النَّذْرِ كَالْيَمِينِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى صِفَةٍ، فَوُجُودُ الصِّفَةِ أَثَّرَ فِي جَعْلِ الْمُعَلَّقِ كَالْمُنْجَزِ، وَلَوْ نَجَزَ الْعِتْقُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. [فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالُ فُلَانٍ صَدَقَةٌ] (7989) فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالُ فُلَانٍ صَدَقَةٌ، أَوْ فَعَلَى فُلَانٍ حِجَّةٌ، أَوْ فَمَالُ فُلَانٍ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ. وَأَشْبَاهَ هَذَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ وَمِنْ حَلَفَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ] (7990) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ حَلَفَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ صَوْمًا، أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا فِي الظِّهَارِ وَالْحَرَامِ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ الظِّهَارُ وَالْحَرَامُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ، فِي وُجُوبِ تَقْدِيمِ كَفَّارَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . فَأَمَّا كَفَّارَةُ سَائِرِ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ، صَوْمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَفَّرَ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّكْفِيرِ الْحِنْثُ، إذْ هُوَ هَتْكُ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ الْمُحْتَرَمِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَقَوْلِنَا فِي الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الصِّيَامِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْأَثْرَمُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعْدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي إنْ شَاءَ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. أَوْ أَتَيْت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 520 الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَقَبْلَ الزَّهُوقِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . وَتَسْمِيَةِ الْكَفَّارَةِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ، وَتَعْجِيلُ حَقِّ الْمَالِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ جَائِزٌ، بِدَلِيلِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْلَ الزَّهُوقِ. قَالَ ابْنُ عَبْدَ الْبَرِّ: الْعَجَبُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَجَازُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْوُوا فِيهَا مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ، وَيَأْبُونَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ مَعَ كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ الْوَارِدَةِ فِيهَا، وَالْحُجَّةُ فِي السُّنَّةِ، وَمَنْ خَالَفَهَا مَحْجُوجٌ بِهَا. فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالْأَحَادِيثِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي الْبَعْضِ، وَخَالَفُوهَا فِي الْبَعْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُ النَّصُّ وَلِأَنَّ الصِّيَامَ نَوْعُ تَكْفِيرٍ، فَجَازَ قَبْلَ الْحِنْثِ، كَالتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَقِيَاسُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْكَفَّارَةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ. [فَصْلٌ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْيَمِينِ] (7991) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْيَمِينِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْجَرْحِ. [فَصْلٌ التَّكْفِير قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ] (7992) فَصْلٌ وَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: بَعْدَهُ أَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَحُصُولِ الْيَقِينِ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِيهِ، فِيهَا التَّقْدِيمُ مَرَّةً وَالتَّأْخِيرُ أُخْرَى، وَهَذَا دَلِيلُ التَّسْوِيَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ مَالٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِتَعْجِيلِ النَّفْعِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالتَّبَرُّعِ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ الْخِلَافَ الْمُخَالِفَ لِلنُّصُوصِ لَا يُوجِبُ تَفْضِيلَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، كَتَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. [فَصْلٌ كَانَ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ مَحْظُورًا فَعَجَّلَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَهُ] (7993) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ مَحْظُورًا، فَعَجَّلَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَجَّلَ أَحَدَهُمَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ سَبَبَهَا، فَأَجْزَأَتْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحِنْثُ مُبَاحًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 521 وَالثَّانِي، لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ، فَلَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَعْصِيَةِ؛ كَالْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْحَدِيثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ» . وَهَذَا لَمْ يَرَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] (7994) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْيَمِينِ كَلَامٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. مَعَ يَمِينِهِ، فَهَذَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَدْ اسْتَثْنَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً، وَأَنَّهُ مَتَى اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ لِمَ يَحْنَثْ فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى أَبُو دَاوُد: «مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» وَلِأَنَّهُ مَتَى قَالَ: لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَتَى شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ، بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ، وَلَا يَسْكُتُ بَيْنَهُمَا سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، فَأَمَّا السُّكُوتُ لِانْقِطَاعِ نَفَسِهِ أَوْ صَوْتِهِ، أَوْ عَيٍّ، أَوْ عَارِضٍ، مِنْ عَطْسَةٍ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ الرَّأْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى» وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَقِيبَهُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ، فَاعْتُبِرَ اتِّصَالُهُ بِهِ، كَالشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا، وَلِأَنَّ الْحَالِفَ إذَا سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ يَمِينِهِ، وَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . وَلَمْ يَقُلْ: فَاسْتَثْنِ. وَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كُلِّ حَالٍ، لَمْ يَحْنَثْ حَانِثٌ بِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا. قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» إنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ بِالْقُرْبِ، وَلَمْ يَخْلِطْ كَلَامَهُ بِغَيْرِهِ. وَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ مِثْلَ هَذَا، وَزَادَ قَالَ: وَلَا أَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ. يَعْنِي مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 522 إلَّا مُتَّصِلًا. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْيَمِينِ كَلَامٌ. وَلَمْ يَشْتَرِطْ اتِّصَالَ الْكَلَامِ وَعَدَمَ السُّكُوتِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَيُكَفِّرُ، يَمِينَهُ؟ قَالَ: أُرَاهُ قَدْ اسْتَثْنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِي قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَوْ يَتَكَلَّمَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى بَعْدَ سُكُوتِهِ، إذْ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَزَادَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ. وَيُشْتَرَطُ، عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة، أَنْ لَا يُطِيلَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَتَكَلَّمَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ قَالَ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْرُ حَلْبِ النَّاقَةِ الْغَرُوزَةِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْدَ حِينٍ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَقْدِيرُهُ بِمَجْلِسٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَاتِ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهَا بِالتَّحَكُّمِ. [فَصْلٌ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْقَلْبِ فِي الْيَمِين] (7995) فَصْلٌ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْقَلْبِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَالْقَوْلُ هُوَ النُّطْقُ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: إنْ كَانَ مَظْلُومًا فَاسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ؛ رَجَوْت أَنْ يَجُوزَ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ. فَهَذَا فِي حَقِّ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ أَوْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَأَوِّلِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا. (7996) فَصْلٌ: وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَنْ يَقْصِدَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَلَوْ أَرَادَ الْجَزْمَ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ جَارِيَةً بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَجَرَى لِسَانُهُ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَقْصِدَهُ مَعَ ابْتِدَاءِ يَمِينِهِ، فَلَوْ حَلَفَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ فَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 523 يُخَالِفُ عُمُومَ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ» وَلِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عَقِيبَ يَمِينِهِ، فَكَذَلِكَ نِيَّتُهُ [فَصْلٌ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كُلِّ يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ] (7997) فَصْلٌ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كُلِّ يَمِينٍ مُكَفَّرَةٍ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالظِّهَارِ، وَالنَّذْرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: مَنْ اسْتَثْنَى فِي يَمِينٍ تَدْخُلُهَا كَفَّارَةٌ، فَلَهُ ثُنْيَاهُ، لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مُكَفَّرَةٌ، فَدَخَلَهَا الِاسْتِثْنَاءُ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَوْ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ» . [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] (7998) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. أَوْ: لَا أَشْرَبُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ بِالشُّرْبِ وَلَا بِتَرْكِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِثْبَاتِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَقْدِيمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَتَأْخِيرِهِ فِي هَذَا كُلِّهِ، فَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَشْرَبُ الْيَوْمَ. أَوْ: لَأَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ. فَفَعَلَ أَوْ تَرَكَ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ وَتَأْخِيرَهُ سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] . [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُشْرِبْنَ الْيَوْمَ إنْ شَاءَ زَيْدٌ] (7999) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ، إنْ شَاءَ زَيْدٌ. فَشَاءَ زَيْدٌ، لَزِمَهُ الشُّرْبُ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ زَيْدٌ لَمْ يَلْزَمْهُ يَمِينٌ، فَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ مَشِيئَتُهُ لِغَيْبَةٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ مَوْتٍ، انْحَلَّتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ الشُّرْبَ إلَّا أَنْ تُوجَدَ مَشِيئَةُ زَيْدٍ فَإِنْ شَاءَ فَلَهُ الشُّرْبُ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَشْرَبْ، وَإِنْ خَفِيَتْ مَشِيئَتُهُ لِغِيبَةٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ، لَمْ يَشْرَبْ، وَإِنْ شَرِبَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ تُوجَدَ الْمَشِيئَةُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَبْلَ وُجُودِهَا. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ. فَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الشُّرْبَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ لَا يَشْرَبَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ضِدُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إيجَابٌ لِشُرْبِهِ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ شَرِبَ قَبْلَ مَشِيئَةِ زَيْدٍ بَرَّ. وَإِنْ قَالَ زَيْدٌ: قَدْ شِئْت أَنْ لَا يَشْرَبَ. انْحَلَّتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِعَدَمِ مَشِيئَتِهِ لِتَرْكِ الشُّرْبِ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا. وَإِنْ قَالَ: قَدْ شِئْت أَنْ يَشْرَبَ. أَوْ: مَا شِئْت أَنْ لَا يَشْرَبَ. لَمْ تَنْحَلَّ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ غَيْرُ الْمُسْتَثْنَاةِ، فَإِنْ خَفِيَتْ مَشِيئَتُهُ، لَزِمَهُ الشُّرْبُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ الشُّرْبِ بِعَدَمِ الْمَشِيئَةِ، وَهِيَ مَعْدُومَةٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْيَوْمَ، إنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 524 شَاءَ زَيْدٌ. فَقَالَ زَيْدٌ: قَدْ شِئْت أَنْ لَا تَشْرَبَ. فَشَرِبَ حَنِثَ، وَإِنْ شَرِبَ قَبْلَ مَشِيئَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الشُّرْبِ مُعَلَّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَمْ تَثْبُتْ مَشِيئَتُهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ الِامْتِنَاعُ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ خَفِيَتْ مَشِيئَتُهُ، فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ. وَالْمَشِيئَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ. [مَسْأَلَةٌ اسْتَثْنَى فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ] (8000) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اسْتَثْنَى فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ الْجَوَابِ. وَقَدْ قَطَعَ فِي مَوْضِعٍ، أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ يَعْنِي إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْجَوَابِ؛ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَفِي مَوْضِعٍ قَطَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا. قَالَ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ: مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. قَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ: لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَحَمَّادٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ» . وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ بِشَرْطٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُهُ، فَلَمْ يَقَعَا، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ مَشِيئَتُهُ وَلَنَا، أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، فَوَقَعَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ، وَالْحَدِيثُ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْأَيْمَانَ، وَلِيس هَذَا بِيَمِينٍ، إنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّمَا وَرَدَّ التَّوْقِيفُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى، وَقَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ: الْأَيْمَانُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. إنَّمَا جَاءَ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَالِاتِّسَاعِ وَلَا يَمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا بِاَللَّهِ - تَعَالَى، وَهَذَا طَلَاقٌ وَعَتَاقٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الطَّلَاقِ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا. [مَسْأَلَة قَالَ إنْ تَزَوَّجَتْ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ] (8001) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ إنْ تَزَوَّجَ بِهَا. وَإِنْ قَالَ: إذَا مَلَكْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَهُ صَارَ حُرًّا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَعَنْهُ: لَا يَقَعُ طَلَاقٌ، وَلَا عِتْقٌ. رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعُرْوَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَوَّارٌ وَالْقَاضِي، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَشُرَيْحٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 525 أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَإِنْ عَيَّنَهَا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي عَنْ الْخَلَّالِ، عَنْ الرَّمَادِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ» . قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَعِتْقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، لَمْ تَنْعَقِدْ لَهُ صِفَةٌ، كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدْ، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْعِتْقِ وَلَا يَصِحُّ فِي الطَّلَاقِ. قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْغُلَامَ فَهُوَ حُرٌّ. فَاشْتَرَاهُ عَتَقَ، وَإِنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ. فَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ، هَذَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالطَّلَاقُ يَمِينٌ، لَيْسَ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِيهِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ الشَّافِي: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا يَقَعُ، وَأَنَّ الْعَتَاقَ يَقَعُ، إلَّا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونُ فِي الْعِتْقِ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَمَا أُرَاهُ إلَّا غَلَطًا، كَذَلِكَ سَمِعْت الْخَلَّالَ يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَ فَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ نَاذِرَ الْعِتْقِ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَنَّ نَاذِرَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَكَمَا افْتَرَقَا فِي النَّذْرِ، جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْيَمِينِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرُّ. فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَهُوَ تَعْلِيقٌ لِلْحُرِّيَّةِ عَلَى الْمِلْكِ. وَعَنْ أَحْمَدْ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَخْطَارِ، فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى حُدُوثِ الْمِلْكِ، كَالْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ خَصَّ جِنْسًا مِنْ الْأَجْنَاسِ، أَوْ عَبْدًا بِعَيْنِهِ، عَتَقَ إذَا مَلَكَهُ، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ. لَمْ يَصِحَّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ لِأَمَةِ غَيْرِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ الْأَجْنَبِيَّةَ، وَمَلَكَ الْأَمَةَ، وَدَخَلَتَا الدَّارَ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، وَلَا تَعْتِقُ الْأَمَةُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَنْكِحَ فُلَانَةَ أَوْ لَا اشْتَرَيْت فُلَانَةَ فَنَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا] (8002) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَنْكِحَ فُلَانَةَ، أَوْ: لَا اشْتَرَيْت فُلَانَةَ. فَنَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا، أَوْ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا، لَمْ يَحْنَثْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 526 وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ زَوَّجْتُك، أَوْ بِعْتُك، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَزَوَّجَهُ تَزْوِيجًا فَاسِدًا، لَمْ يَعْتِقْ، وَإِنْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا يُمْلَكُ بِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ. وَلَنَا، أَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَأَكْثَرُ أَلْفَاظِهِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ، فَلَا يَحْنَثُ بِمَا دُونَهُ، كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَكَالصَّلَاةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهِ لَا نُسَلِّمُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَحْنَثُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَهَلْ يَحْنَثُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، أَوْ بَاعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى إنْ تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، أَوْ مَلَكَ مِلْكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، حَنِثَ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَلَنَا، أَنَّهُ نِكَاحٌ فَاسِدٌ، وَبَيْعٌ فَاسِدٌ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِمَا، كَالْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِمَا. (8003) فَصْلٌ: وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ سَوَاءٌ فِي هَذَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا حَلَفَ مَا صَلَّيْت وَلَا تَزَوَّجْت، وَلَا بِعْت، وَكَانَ قَدْ فَعَلَهُ فَاسِدًا، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إلَّا الِاسْمُ، وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُهُ، وَالْمُسْتَقْبَلُ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ الْمِلْكُ، وَبِالصَّلَاةِ الْقُرْبَةُ. وَلَنَا، أَنَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَا يَتَنَاوَلُهُ فِي الْمَاضِي، كَالْإِيجَابِ، وَكَغَيْرِ الْمُسَمَّى وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا الشَّرْعِيُّ، وَلَا يَحْصُلُ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ بَيْعًا فِيهِ الْخِيَارُ] (8004) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَبَاعَ بَيْعًا فِيهِ الْخِيَارُ، حَنِثَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ، فَيَحْنَثُ بِهِ، كَالْبَيْعِ اللَّازِمِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ [فَصْل حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يُزَوِّجُ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمُتَزَوِّجُ وَالْمُشْتَرِي] فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ، أَوْ لَا يُزَوِّجُ، فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ، وَلَمْ يَقْبَلْ الْمُتَزَوِّجُ وَالْمُشْتَرِي، لَمْ يَحْنَثْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ عَقْدَانِ لَا يَتِمَّانِ إلَّا بِالْقَبُولِ فَلَمْ يَقَعْ الِاسْمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 527 عَلَى الْإِيجَابِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ، وَلَا يُعِيرُ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْعَارِيَّةَ لَا عِوَضَ فِيهِمَا، فَكَانَ مُسَمَّاهُمَا الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولُ شَرْطٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّبَبِ، فَيَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ فِيهِمَا، كَالْوَصِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَلَمْ يَحْنَثْ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ. وَلَا أَعْلَمُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِيهَا، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ الْقَبُولِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] إنَّمَا أَرَادَ الْإِيجَابَ دُونَ الْقَبُولِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا قَبُولَ لَهَا حِينَئِذٍ. (8006) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ، حَنِثَ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولُ الصَّحِيحُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيُّ، فَتَنَاوَلَهُ يَمِينُهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ، بَرَّ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ تَزَوَّجَ نَظِيرَتَهَا أَوْ دُونَهَا أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَحْتَالَ عَلَى حَلِّ يَمِينِهِ بِتَزْوِيجٍ لَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَهَا، مِثْلَ أَنْ يُوَاطِئَ امْرَأَتَهُ عَلَى نِكَاحٍ لَا يَغِيظُهَا بِهِ، لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، فَلَا يَبَرُّ بِهَذَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، لَا يَبَرُّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ نَظِيرَتَهَا، وَيَدْخُلَ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ غَيْظَ زَوْجَتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَزَوَّجَ تَزْوِيجًا صَحِيحًا، فَبَرَّ بِهِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ نَظِيرَتَهَا، وَدَخَلَ بِهَا، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْغَيْظَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَزْوِيجِ نَظِيرَتِهَا، وَالدُّخُولِ بِهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّ الْغَيْظَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْخِطْبَةِ، وَإِنْ حَصَلَ بِمَا ذَكَرُوهُ زِيَادَةٌ فِي الْغَيْظِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْغَيْظِ الَّذِي يَحْصُلُ بِمَا تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نِكَاحُ اثْنَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، وَلَا أَعْلَى مِنْ نَظِيرَتِهَا، وَاَلَّذِي تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَتِهِ، حَنِثَ بِهَذَا، فَكَذَلِكَ يَحْصُلُ الْبَرُّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ، فَمَا تَنَاوَلَهُ النَّفْيُ تَنَاوَلَهُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّمَا لَا يَبَرُّ إذَا تَزَوَّجَ تَزْوِيجًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَيْظُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الصُّورَةِ وَنَظَائِرِهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ هَاهُنَا يَحْصُلُ حِيلَةً عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ يَمِينِهِ بِمَا لَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ حِيلَتُهُ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَتَزَوَّجَ بِعَجُوزٍ أَوْ زِنْجِيَّةٍ، لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَهَا وَيَغُمَّهَا، وَبِهَذَا لَا تَغَارُ وَلَا تَغْتَمُّ. فَعَلَّلَهُ أَحْمَدُ بِمَا لَا يَغِيظُ بِهِ الزَّوْجَةَ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَنْ تَكُونَ نَظِيرَتَهَا؛ لِأَنَّ الْغَيْظَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرَ أَنْ تَزَوُّجَ الْعَجُوزِ يَغِيظُهَا وَالزِّنْجِيَّةِ، لَبَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَغِيظُهَا، لِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً لِئَلَّا يَغِيظَهَا، وَيَبَرَّ بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 [فَصْلٌ حَلَفَ لَا تَسَرَّيْت فَوَطِئَ جَارِيَتَهُ] (8007) فَصْلٌ: إذَا حَلَفَ: لَا تَسَرَّيْت. فَوَطِئَ جَارِيَتَهُ، حَنِثَ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَطَأَ فَيُنْزِلَ، فَحْلًا كَانَ أَوْ خَصِيًّا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُحْصِنَهَا وَيَحْجُبَهَا عَنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ التَّسَرِّيَ مَأْخُوذٌ مِنْ السِّرِّ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَهَذِهِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّسَرِّيَ مَأْخُوذٌ مِنْ السِّرِّ، وَهُوَ الْوَطْءُ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي السِّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَنْ تَطْلُبُوا سِرَّهَا لِلْغِنَى ... وَلَنْ تُسْلِمُوهَا لِإِزْهَادِهَا وَقَالَ آخِرُ أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْقَوْمِ أَنَّنِي ... كَبِرْت وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْإِنْزَالُ وَلَا التَّحْصِينُ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ فَأَهْدَى إلَيْهِ أَوْ أَعْمُرهُ] (8008) فَصْلٌ: إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ، فَأَهْدَى إلَيْهِ، أَوْ أَعْمَرَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِبَةِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ - تَعَالَى عَلَيْهِ، يَجِبُ إخْرَاجُهُ، فَلَيْسَ هُوَ بِهِبَةٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ اسْمًا وَحُكْمًا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . وَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَالْهَدِيَّةُ حَلَالٌ لَهُ، وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَحْنَثُ فِي أَحَدِهِمَا بِفِعْلِ الْآخَرِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِعَيْنٍ فِي الْحَيَاةِ، فَحَنِثَ بِهِ، كَالْهَدِيَّةِ، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُسَمَّى هِبَةً، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، قِيلَ: وَهَبَ دِرْهَمًا، وَتَبَرَّعَ بِدِرْهَمٍ. وَاخْتِلَافُ التَّسْمِيَة لِكَوْنِ الصَّدَقَةِ نَوْعًا مِنْ الْهِبَةِ، فَيَخْتَصُّ بَاسِمٍ دُونَهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 كَاخْتِصَاصِ الْهَدِيَّةِ وَالْعُمْرَى بِاسْمَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمَا هِبَةً، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ لِلنَّوْعِ مَا لَا يَثْبُتُ لِلْجِنْسِ، كَمَا يَثْبُتُ لِلْآدَمِيِّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَثْبُتُ لِمُطْلَقِ الْحَيَوَانِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ، وَالْوَصِيَّةُ إنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَإِنْ أَعَارَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ، وَلَيْسَ فِي الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُهَا، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ إجَارَتَهَا، وَلَا إعَارَتَهَا. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِنْ أَضَافَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلِكْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ الْأَكْلِ. وَإِنْ بَاعَهُ وَحَابَاهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ أَخْذَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ كَانَ هِبَةً أَوْ بَعْضُهُ هِبَةً، لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ بَعْضَ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، أَوْ وَهَبَهُ بَعْضَ الثَّمَنِ. وَإِنْ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ لَهُ بِعَيْنٍ فِي الْحَيَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُمْلَكُ، فِي رِوَايَةٍ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، فَوَهَبَ لَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ نَوْعٌ مِنْ الْهِبَةِ، وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى نَوْعٍ بِفِعْلِ نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْجِنْسِ حُكْمُ النَّوْعِ، وَلِهَذَا حَرُمَتْ الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ تَحْرُمْ الْهِبَةُ وَلَا الْهَدِيَّةُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ شَيْئًا، فَأَسْقَطَ عَنْهُ دَيْنًا، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ فُلَانًا أَوْ لَا يَضْرِبَهُ فَوَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ وَالضَّرْبِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ فُلَانًا، أَوْ لَا يَضْرِبَهُ، فَوَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ وَالضَّرْبِ، حَنِثَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِيَمِينِهِ أَنْ لَا يَسْتَنِيبَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِمُبَاشَرَتِهِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ إضَافَةِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَكُلَّهُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يَضْرِبُ، فَأَمَرَ مَنْ فِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّاهُ، كَالسُّلْطَانِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ، فَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ وَقِيلَ: يَحْنَثُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَوَكَّلَ مَنْ بَاعَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ، وَلَا يَتَزَوَّجُ، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ، حَنِثَ. وَلَنَا أَنَّ الْفِعْلَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ وَكَّلَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِهِ، فَيَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ، أَوْ لَا يَضْرِبُ، فَوَكَّلَ مَنْ ضَرَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 530 {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَقَالَ: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . وَكَانَ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وُجِدَ مِنْ نَائِبِهِ، فَحَنِثَ بِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَأَمَرَ مَنْ حَمَلَهُ إلَيْهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَيْهِ تَقْتَضِي الْمُبَاشَرَةَ بِمَنْعِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فِي فِعْلٍ يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا، فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ يُقْصَدُ بِهِ الْأَمَانَةُ وَالْحِذْقُ، وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِيهِمَا، فَإِذَا عَيَّنَ وَاحِدًا، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَةُ تَعْيِينِهِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا إنْ نَوَى بِيَمِينِهِ الْمُبَاشَرَةَ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِيهَا، أَوْ قَرِينَةُ حَالِهِ، تَخَصَّصَ بِهَا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يُقَيَّدُ بِنِيَّتِهِ، أَوْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ بِلَفْظِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَشْتَرِيَنَّ، أَوْ لَيَبِيعَنَّ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، بَرَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي طَرَفِ النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» . تَنَاوَلَ مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ بِأَمْرِهِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لِيُطَلِّقْنَ زَوْجَتَهُ أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا فَوَكَّلَ مَنْ طَلَّقَهَا] (8010) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ، أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا، فَوَكَّلَ مَنْ طَلَّقَهَا، أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَطَلَّقَهَا أَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِك. فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، بَرَّ، وَحَنِثَ. وَالْخِلَافُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت، أَوْ إنْ قُمْت. فَشَاءَتْ، أَوْ قَامَتْ حَنِثَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقَّقَتْ شَرْطَهُ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَلَطَمَهَا أَوْ لَكَمَهَا أَوْ ضَرَبَهَا بِعَصَا أَوْ غَيْرِهَا] (8011) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ، فَلَطَمَهَا، أَوْ لَكَمَهَا، أَوْ ضَرَبَهَا بِعَصًا أَوْ غَيْرِهَا، حَنِثَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ عَضَّهَا، أَوْ خَنَقَهَا، أَوْ جَزَّ شَعْرَهَا جَزًّا يُؤْلِمُهَا، قَاصِدًا لِلْإِضْرَارِ بِهَا، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى ضَرْبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ شَتَمَهَا شَتْمًا آلَمَهَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عَنْهُ، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَضْرِبْك الْيَوْمَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَعَضَّهَا، أَوْ قَرَصَهَا، أَوْ أَمْسَكَ شَعْرَهَا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الضَّرْبِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ لِكَفِّ الْأَذَى الْمُؤْلِمِ لِلْجِسْمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: تَضَارَبَا. إذَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا بِصَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا آلَةٌ، وَفَارَقَ الشَّتْمَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ الْجِسْمَ، وَإِنَّمَا يُؤْلِمُ الْقَلْبَ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا] (8012) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا، حَنِثَ وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 531 الرَّأْيِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَا يُكَلَّفُ حَالَ نِسْيَانِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ، كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ النِّسْيَانِ، كَالْإِتْلَافِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ عَلَى شَرْطٍ، فَيُوجَدُ بِوِجْدَانِ شَرْطِهِ، كَالْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ فَتَأَوَّلَ فِي يَمِينِهِ] (8013) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا حَلَفَ، فَتَأَوَّلَ فِي يَمِينِهِ، فَلَهُ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا، لَمْ يَنْفَعْهُ تَأْوِيلُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُك» مَعْنَى التَّأْوِيلِ، أَنْ يَقْصِدَ بِكَلَامِهِ مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، نَحْوَ أَنْ يَحْلِفَ إنَّهُ أَخِي، يَقْصِدُ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ الْمُشَابَهَةَ، أَوْ يَعْنِي بِالسَّقْفِ وَالْبِنَاءِ السَّمَاءَ، وَبِالْبِسَاطِ وَالْفِرَاشِ الْأَرْضَ، وَبِالْأَوْتَادِ الْجِبَالَ، وَبِاللِّبَاسِ اللَّيْلَ، أَوْ يَقُولَ: مَا رَأَيْت فُلَانًا. يَعْنِي مَا ضَرَبْت رِئَتَهُ. وَلَا ذَكَرْتُهُ. يُرِيدُ مَا قَطَعْت ذَكَرَهُ. أَوْ يَقُولَ: جَوَارِيَّ أَحْرَارٌ. يَعْنِي سُفُنَهُ. وَنِسَائِي طَوَالِقُ. يَعْنِي نِسَاءَ الْأَقَارِبِ مِنْهُ. أَوْ يَقُولَ: مَا كَاتَبْت فُلَانًا، وَلَا عَرَفْته، وَلَا أَعْلَمْته، وَلَا سَأَلْته حَاجَةً، وَلَا أَكَلْت لَهُ دَجَاجَةً، وَلَا فَرُّوجَةً، وَلَا شَرِبْت لَهُ مَاءً، وَلَا فِي بَيْتِي فُرُشٌ وَلَا حَصِيرٌ، وَلَا بَارِيَةٌ وَيَنْوِي بِالْمُكَاتَبَةِ مُكَاتَبَةَ الرَّقِيقِ، وَبِالتَّعْرِيفِ جَعْلَهُ عَرِيفًا، وَبِالْإِعْلَامِ جَعْلَهُ أَعْلَمَ الشَّفَةِ، وَالْحَاجَةِ شَجَرَةً صَغِيرَةً، وَالدَّجَاجَةِ الْكَنَّةَ مِنْ الْغَزْلِ، وَالْفَرُّوجَةِ الدُّرَّاعَةَ، وَالْفُرُشِ صِغَارَ الْإِبِلِ، وَالْحَصِيرِ الْحَبْسَ، وَالْبَارِيَةِ السِّكِّينَ الَّتِي يُبْرَى بِهَا. أَوْ يَقُولَ: مَا لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ، وَلَا شَيْءٌ. يَعْنِي بِ " مَا " " الَّذِي ". أَوْ يَقُولَ: مَا فُلَانٌ هَاهُنَا. وَيَعْنِي مَوْضِعًا بِعَيْنِهِ. أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَلَا أَخَذْت مِنْهُ. يَعْنِي الْبَاقِيَ بَعْدَ أَخْذِهِ وَأَكْلِهِ. فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِمَّا يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ خِلَافُهُ، إذَا عَنَاهُ بِيَمِينِهِ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَالِفِ الْمُتَأَوِّلِ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا؛ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، مِثْلَ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ ظَالِمٌ عَلَى شَيْءٍ، لَوْ صَدَقَهُ لَظَلَمَهُ، أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُ، أَوْ نَالَ مُسْلِمًا مِنْهُ ضَرَرٌ. فَهَذَا لَهُ تَأْوِيلُهُ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ، اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَاطِمَةُ، فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، فَحَلَفَ بِطَلَاقِ فَاطِمَةَ، وَنَوَى الَّتِي مَاتَتْ؟ قَالَ: إنْ كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ لَهُ ظَالِمًا، فَالنِّيَّةُ نِيَّةُ صَاحِبِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمُطَلِّقُ هُوَ الظَّالِمَ، فَالنِّيَّةُ نِيَّةُ الَّذِي اسْتَحْلَفَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْت أَنَّهُ أَخِي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَصْدَقُهُمْ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» . يَعْنِي سَعَةَ الْمَعَارِيضِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 532 الَّتِي يُوهِمُ بِهَا السَّامِعَ غَيْرَ مَا عَنَاهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ يَعْنِي لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَكْذِبَ؛ لِكَثْرَةِ الْمَعَارِيضِ، وَخَصَّ الظَّرِيفَ بِذَلِكَ؛ يَعْنِي بِهِ الْكَيِّسَ الْفَطِنَ، فَإِنَّهُ يَفْطِنُ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْكَذِبِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ ظَالِمًا، كَاَلَّذِي يَسْتَحْلِفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى حَقٍّ عِنْدَهُ، فَهَذَا يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ الَّذِي عَنَاهُ الْمُسْتَحْلِفُ، وَلَا يَنْفَعُ الْحَالِفَ تَأْوِيلُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْيَمِينُ عَلَى مَا وَقَعَ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَاغَ التَّأْوِيلُ، لَبَطَلَ الْمَعْنَى الْمُبْتَغَى بِالْيَمِينِ، إذْ مَقْصُودُهَا تَخْوِيفُ الْحَالِفِ لِيَرْتَدِعَ عَنْ الْجُحُودِ، خَوْفًا مِنْ عَاقِبَةِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَمَتَى سَاغَ التَّأْوِيلُ لَهُ، انْتَفَى ذَلِكَ، وَصَارَ التَّأْوِيلُ وَسِيلَةً إلَى جَحْدِ الْحُقُوقِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ إبْرَاهِيمُ، فِي رَجُلٍ اسْتَحْلَفَهُ السُّلْطَانُ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ، فَوَرَّى فِي يَمِينِهِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ: أَجْزَأَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ التَّوْرِيَةُ الْحَالُ الثَّالِثُ، لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ تَأْوِيلَهُ، فَرُوِيَ أَنَّ مُهَنَّا كَانَ عِنْدَهُ، هُوَ وَالْمَرُّوذِيُّ وَجَمَاعَةٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمَرُّوذِيَّ، وَلَمْ يُرِدْ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُكَلِّمَهُ، فَوَضَعَ مُهَنَّا أُصْبُعَهُ فِي كَفِّهِ، وَقَالَ: لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ هَاهُنَا، وَمَا يَصْنَعُ الْمَرُّوذِيُّ هَاهُنَا؟ يُرِيدُ: لَيْسَ هُوَ فِي كَفِّهِ. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَرُوِيَ أَنَّ مُهَنَّا قَالَ لَهُ: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ - يَعْنِي السَّفَرَ إلَى بَلَدِهِ - وَأُحِبُّ أَنْ تُسْمِعَنِي الْجُزْءَ الْفُلَانِيَّ. فَأَسْمَعَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ تَقُلْ إنَّك تُرِيدُ الْخُرُوجَ؟ فَقَالَ لَهُ مُهَنَّا: قُلْت لَك: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ الْآنَ؟ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ جَرِيرٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: كَانَ إذَا طَلَبَ إنْسَانٌ إبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُرِدْ إبْرَاهِيمُ أَنْ يَلْقَاهُ، خَرَجَتْ إلَيْهِ الْخَادِمُ، وَقَالَتْ: اُطْلُبُوهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنِّي ذَكَرْت رَجُلًا بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْتَذِرَ إلَيْهِ؟ قَالَ: قُلْ لَهُ: وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا قُلْت مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْزَحُ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا وَمُزَاحُهُ أَنْ يُوهِمَ السَّامِعَ بِكَلَامِهِ غَيْرَ مَا عَنَاهُ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ، فَقَالِ لِعَجُوزٍ: «لَا تَدْخُلَ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» . يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يُنْشِئُهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا. وَقَالَ أَنَسٌ: إنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْمِلْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إنَّا حَامِلُوك عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ. قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ قَالَ: وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إلَّا النُّوقُ؟» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ لِامْرَأَةٍ وَقَدْ ذَكَرَتْ لَهُ زَوْجَهَا: أَهُوَ الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ لَصَحِيحُ الْعَيْنِ. وَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيَاضَ الَّذِي حُولَ الْحَدَقِ. وَقَالَ لِرَجُلٍ احْتَضَنَهُ مِنْ وَرَائِهِ: «مَنْ يَشْتَرِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 533 هَذَا الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَجِدُنِي إذًا كَاسِدًا. قَالَ: لَكِنَّك عِنْدَ اللَّهِ لَسْت بِكَاسِدٍ» وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَارِيضِ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقًّا، فَقَالَ «لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» . وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ زِيَادٍ، وَقَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَرَكْت الْأَمِيرَ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى. فَلَمَّا مَاتَ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ قُلْت ذَلِكَ؟ قَالَ: تَرَكْته يَأْمُرُ بِالصَّبْرِ، وَيَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ وَالْجَزَعِ. وَيُرْوَى عَنْ شَقِيقٍ، أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً، وَتَحْتَهُ أُخْرَى، فَقَالُوا: لَا نُزَوِّجُك حَتَّى تُطَلِّقَ امْرَأَتَك. فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ طَلَّقْت ثَلَاثًا. فَزَوَّجُوهُ، فَأَقَامَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالُوا: قَدْ طَلَّقْت ثَلَاثًا قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ كَانَ لِي ثَلَاثُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقْتهنَّ قَالُوا: بَلَى. قَالَ قَدْ طَلَّقْت ثَلَاثًا. فَقَالُوا: مَا هَذَا أَرَدْنَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ شَقِيقٌ لِعُثْمَانَ فَجَعَلَهَا نِيَّتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ، فَنَظَرَ إلَيْهِ رَجُلٌ ظَنَّ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ التَّعْرِيفَ بِهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إنَّ لَهُ بَيْتًا وَشَرَفًا. فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ بَعْدَ مَا ذَهَبَ الرَّجُلُ: تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ نَظَرَ إلَيَّ. قِيلَ: فَكَيْفَ أَثْنَيْت عَلَيْهِ؟ قَالَ: شَرَفُهُ أُذُنَاهُ، وَبَيْتُهُ الَّذِي يَسْكُنُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أُخِذَ عَلَى شَرَابٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الَّذِي لَا يُنْزِلُ الدَّهْرُ قِدْرَهُ ... وَإِنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فَسَوْفَ تَعُودُ تَرَى النَّاسَ أَفْوَاجًا عَلَى بَابِ دَارِهِ ... فَمِنْهُمْ قِيَامٌ حَوْلَهَا وَقُعُودُ فَظَنُّوهُ شَرِيفًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ. وَأَخَذَ الْخَوَارِجُ رَافِضِيًّا، فَقَالُوا لَهُ: تَبْرَأُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. فَقَالَ: أَنَا مِنْ عَلِيٍّ، وَمِنْ عُثْمَانَ بَرِيءٌ. فَهَذَا وَشِبْهُهُ هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يُعْذَرُ بِهِ الظَّالِمُ، وَيَسُوغُ لِغَيْرِهِ مَظْلُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَظْلُومٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمُزَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَيْهِ. [فَصْل وَالْمُسْتَحِيلُ نَوْعَانِ فِي الْيَمِينِ] (8014) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحِيلُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، كَصُعُودِ السَّمَاءِ، وَالطَّيَرَانِ، وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ الْبِرِّ فِيهَا، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ. وَالثَّانِي، الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا، كَرَدِّ أَمْسِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَا تَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ قَارَنَهَا مَا يَحُلُّهَا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ، كَيَمِينِ الْغَمُوسِ، أَوْ يَمِينٌ عَلَى غَيْرِ مُتَصَوِّرٍ، فَأَشْبَهَتْ يَمِينَ الْغَمُوسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ عَلَى مُتَصَوَّرٍ، أَوْ مُتَوَهَّمِ التَّصَوُّرِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 534 وَقَالَ الْقَاضِي: تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ فِي الْحَالِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَفْعَلْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَهُ، فَمَاتَتْ قَبْلَ طَلَاقِهَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ اسْتِحَالَتَهُ أَوْ لَا يَعْلَمَ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَاءَ فِيهِ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا، وَهُوَ مَيِّتٌ، فَهُوَ كَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ فَيَقْتُلَهُ، وَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ حَلَفَ لَأَقْتُلَنَّ الْمَيِّتَ. يَعْنِي فِي حَالِ مَوْتِهِ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، فَيَكُونُ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا فَأَحْنَثَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ] (8015) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا، أَوْ لَا يَفْعَلُ. أَوْ حَلَفَ عَلَى حَاضِرٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا. فَأَحْنَثَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْحَانِثُ، فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِمَا يُحْنِثُهُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ إمَّا الْيَمِينُ، وَإِمَّا الْحِنْثُ، أَوْ هُمَا، وَأَيُّ ذَلِكَ قُدِّرَ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِفِ. وَإِنْ قَالَ: أَسْأَلُك بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. وَأَرَادَ الْيَمِينَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ أَرَادَ الشَّفَاعَةَ إلَيْهِ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَ: بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. فَهِيَ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يَصْرِفُهَا، وَإِنْ قَالَ بِاَللَّهِ أَفْعَلُ. فَلَيْسَتْ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا بِجَوَابِ الْقَسَمَ، وَلِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ أَفْعَلُ. وَلَا: بِاَللَّهِ أَفْعَلُ. وَإِنَّمَا صَلَحَ ذَلِكَ فِي التَّاءِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْقَسَمِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ. (8016) فَصْلٌ: وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُخْبِرَنِّي بِمَا أَصَبْت مِمَّا أَخْطَأْت. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُقْسِمْ يَا أَبَا بَكْرٍ» وَلَمْ يُخْبِرْهُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إبْرَارُهُ لَأَخْبَرَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ إبْرَارُهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، وَيَكُونُ امْتِنَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إبْرَارِ أَبِي بَكْرٍ لِمَا عَلِمَ مِنْ الضَّرَرِ فِيهِ. وَإِنْ أَجَابَهُ إلَى صُورَةِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ دُونَ مَعْنَاهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَعْنَى، فَحَسَنٌ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْعَبَّاسَ جَاءَهُ بِرَجُلٍ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُبَايِعَنَّهُ. فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: «أَبْرَرْت قَسَمَ عَمِّي، وَلَا هِجْرَةَ» . وَأَجَابَهُ إلَى صُورَةِ الْمُبَايَعَةِ، دُونَ مَا قَصَدَ بِيَمِينِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 535 [فَصْل إجَابَةُ مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ] (8017) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ إجَابَةُ مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاَللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ أَتَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يَبْغَضُهُمْ اللَّهُ؛ أَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ؛ فَرَجُلٌ سَأَلَ قَوْمًا، فَسَأَلَهُمْ بِاَللَّهِ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا، لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إلَّا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَاَلَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِمَّا يَعْدِلُ بِهِ، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يَبْغَضُهُمْ اللَّهُ؛ الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ» رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ. [فَصْلٌ قَالَ حَلَفْت وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ] (8018) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: حَلَفْت. وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هِيَ كِذْبَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ. وَعَنْهُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِذَا كَذَبَ فِي الْخَبَرِ بِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَا صَلَّيْت. وَقَدْ صَلَّى. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ. وَنَوَى الْخَبَرَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ نَوَى الْقَسَمَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هِيَ يَمِينٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُعَظَّمِ، وَلَا صِفَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا، كَمَا لَوْ قَالَ: حَلَفْت. وَهَذَا أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صِيغَةَ الْيَمِينِ وَالْقَسَمِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِيغَةُ الْخَبَرِ، فَلَا يَكُونُ بِهَا حَالِفًا، وَإِنْ قُدِّرَ ثُبُوتُ حُكْمِهَا، لَزِمَهُ أَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، وَهُوَ يَمِينٌ مَا، وَلَيْسَتْ كُلُّ يَمِينٍ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْيَمِينِ وَقَدْ نَوَى بِهَا الْيَمِينَ، فَتَكُونُ يَمِينًا، كَالصَّرِيحِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 536 [فَصْلٌ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ أَوْ حَرَّمَهُ] (8019) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ، أَوْ حَرَّمَهُ، لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِيرُ مُحَرَّمًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . وَقَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وَلِأَنَّ الْحِنْثَ يَتَضَمَّنُ هَتْكَ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ، فَيَكُونُ حَرَامًا، وَلِأَنَّهُ إذَا حَرَّمَهُ، فَقَدْ حَرَّمَ الْحَلَالَ فَيَحْرُمُ كَمَا لَوْ حَرَّمَ زَوْجَتَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا أَرَادَ التَّكْفِيرَ، فَلَهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَحَلُّ فِعْلِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا تَنَاقُضٌ وَتَضَادٌّ، وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُ التَّكْفِيرَ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى تَحِلَّةَ الْيَمِينِ، فَعَلَى قَوْلِهِ، يَلْزَمُ كَوْنُ الْمُحَرَّمِ مَفْرُوضًا، أَوْ مِنْ ضَرُورَةِ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى التَّحِلَّةِ إلَّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا، لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، كَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . فَأَمَرَ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا، لَمْ يَأْمُرْ بِهِ. وَسَمَّاهُ خَيْرًا، وَالْمُحَرَّمُ لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا قَوْلَهُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يُسَمَّى تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] . وَقَالَ: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 140] وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ التَّحْرِيمُ حَقِيقَةً وَلَا شَرْعًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 537 [كِتَاب الْكَفَّارَات] ِ الْأَصْلُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَا. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ] (8020) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مُسْلِمِينَ أَحْرَارًا، كِبَارًا كَانُوا أَوْ صِغَارًا، إذَا أَكَلُوا الطَّعَامَ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْحَانِثَ فِي يَمِينِهِ بِالْخِيَارِ؛ إنْ شَاءَ أَطْعَمَ، وَإِنْ شَاءَ كَسَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَطَفَ بَعْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ " أَوْ "، وَهُوَ لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ (أَوْ) فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَمَا كَانَ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) فَالْأَوَّلَ الْأَوَّلَ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " التَّفْسِيرِ ". وَالْوَاجِبُ فِي الْإِطْعَامِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَدَدِهِمْ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَيَأْتِي ذِكْرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ؛ أَنْ يَكُونُوا مَسَاكِينَ، وَهُمْ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ تُدْفَعُ إلَيْهِمْ الزَّكَاةُ، الْمَذْكُورَانِ فِي أَوَّلِ أَصْنَافِهِمْ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَالْفُقَرَاءُ مَسَاكِينُ وَزِيَادَةٌ؛ لِكَوْنِ الْفَقِيرِ أَشَدَّ حَاجَةً مِنْ الْمِسْكِينِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِأَنَّ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا اسْمٌ لِلْحَاجَةِ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْكِفَايَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَصَّى لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِلْمَسَاكِينِ، لَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا جُعِلَا صِنْفَيْنِ فِي الزَّكَاةِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذَكَرَ الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا بِاسْمَيْنِ، فَاحْتِيجَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الصِّنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ اسْتِحْقَاقِهِمْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَخَصَّهُمْ بِهَا، فَلَا تُدْفَعُ إلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْقَدْرَ الْمَدْفُوعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفَّارَةِ قَدْرٌ يَسِيرٌ، يُرَادُ بِهِ دَفْعُ حَاجَةِ يَوْمِهِ فِي مُؤْنَتِهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَصْنَافِ لَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُمْ بِهَذَا؛ لِكَثْرَةِ حَاجَتِهِمْ، وَإِذَا صَرَفُوا مَا يَأْخُذُونَهُ فِي حَاجَتِهِمْ، صَرَفُوهُ إلَى غَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 538 الثَّانِي، أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا، فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا إلَى عَبْدٍ، وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ جَوَازَ دَفْعِهَا إلَى مُكَاتَبِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَتَخَرَّجُ جَوَازُ دَفْعِهَا إلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ إعْتَاقِهِ فِي كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ، لِحَاجَتِهِ، فَأَشْبَهَ الْمِسْكِينَ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَدَّهُ صِنْفًا فِي الزَّكَاةِ غَيْرَ صِنْفِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَاجَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمِسْكِينٍ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمَسَاكِينِ؛ بِدَلِيلِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمِسْكِينَ يُدْفَعُ إلَيْهِ لِتَتِمَّ كِفَايَتُهُ، وَالْمُكَاتَبُ إنَّمَا يَأْخُذُ لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ، أَمَّا كِفَايَتُهُ فَإِنَّهَا حَاصِلَةٌ بِكَسْبِهِ وَمَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ، عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ، وَرَجَعَ إلَيْهِ، وَاسْتَغْنَى بِإِنْفَاقِهِ، وَخَالَفَ الزَّكَاةَ؛ فَإِنَّهَا تُصْرَفُ إلَى الْغَنِيِّ، وَالْكَفَّارَةُ بِخِلَافِهَا. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى كَافِرٍ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا. وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الذِّمِّيِّ؛ لِدُخُولِهِ فِي اسْمِ الْمَسَاكِينِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ مِسْكِينٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَجْزَأَ الدَّفْعُ إلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ، كَالْمُسْلِمِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَخَرَّجَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ؛ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ إعْتَاقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُعْطِيهِمْ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمْ. وَلَنَا، إنَّهُمْ كُفَّارٌ، فَلَمْ يَجُزْ إعْطَاؤُهُمْ، كَمُسْتَأْمَنِي أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِهَذَا، فَنَقِيسُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَكَلُوا الطَّعَامَ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَمْ يُطْعِمْ، لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَوْلِ الْقَاضِي. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْفَطِيمِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُطْعِمْ، وَيَقْبِضُ لِلصَّغِيرِ وَلِيُّهُ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْمَذْهَبُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ مُحْتَاجٌ، فَأَشْبَهَ الْكَبِيرَ، وَلِأَنَّ أَكْلَهُ لِلْكَفَّارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا يَصْرِفُ الْكَفَّارَةَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، مِمَّا تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُ، فَأَشْبَهَ الْكَبِيرَ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَكْلَهُمْ لَهُ، فَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ أَكْلِهِ اُعْتُبِرَ إمْكَانُهُ وَمَظِنَّتُهُ، وَلَا تَتَحَقَّقُ مَظِنَّتُهُ فِيمَنْ لَا يَأْكُلُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعَ حَاجَتِهِ، لَجَازَ دَفْعُ الْقِيمَةِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْإِطْعَامُ، وَهَذَا يُقَيِّدُ مَا ذَكَرُوهُ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الْأَرْبَعَةُ فِي وَاحِدٍ، جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ مَنْ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَقْبِضُ لَهُ وَكِيلُهُ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، يَقْبِضُ لَهُ وَلِيُّهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 539 [مَسْأَلَةٌ مِقْدَارُ مَا يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ وَجِنْسُهُ مِنْ الْكَفَّارَة] (8021) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ دَقِيقٍ، أَوْ رِطْلَانِ خُبْزًا، أَوْ مُدَّانِ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا) أَمَّا مِقْدَارُ مَا يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ وَجِنْسُهُ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الظِّهَارِ. وَنَصَّ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الدَّقِيقُ وَالْخُبْزُ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْهُ، لَا يُجْزِئُ الْخُبْزُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ دَقِيقٌ وَلَا سَوِيقٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَالَةِ الْكَمَالِ وَالِادِّخَارِ وَلَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ، فَلَمْ يُجْزِئْ فِي الْكَفَّارَةِ، كَالْقِيمَةِ. وَلَنَا؛ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا قَدْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . قَالَ: الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، قَالَ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالسَّمْنُ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] : خُبْزٌ وَزَيْتٌ وَخَلٌّ. وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ. وَعَنْ عَلِيٍّ. الْخُبْزُ: وَالتَّمْرُ، الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: أَفْضَلُهُ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ، وَأَوْسَطُهُ الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَأَخَسُّهُ الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ. وَقَالَ عُبَيْدَةَ الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ. وَسَأَلَ رَجُلٌ شُرَيْحًا مَا أَوْسَطُ طَعَامِ أَهْلِي؟ فَقَالَ شُرَيْحٌ إنَّ الْخُبْزَ وَالْخَلَّ وَالزَّيْتَ لَطَيِّبٌ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَفَرَأَيْت الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ؟ قَالَ: أَرْفَعُ طَعَامِ أَهِلَك، وَطَعَامِ النَّاسِ؟ وَعَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ يُغَدِّيهِمْ أَوْ يُعَشِّيهِمْ. وَهَذَا اتِّفَاقٌ عَلَى تَفْسِيرِ مَا فِي الْآيَةِ بِالْخُبْزِ، وَلِأَنَّهُ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ طَعَامِ أَهْلِهِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ حَبًّا، وَيُفَارِقُ الزَّكَاةَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ عُشْرُ الْحَبِّ وَعُشْرُ الْحَبِّ حَبٌّ، فَاعْتُبِرَ الْوَاجِبُ، وَهَا هُنَا الْوَاجِبُ الْإِطْعَامُ، وَالْخُبْزُ أَقْرَبُ إلَيْهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ يُرَادُ لِلِاقْتِيَاتِ فِي جَمِيعِ الْعَامِ، فَيَحْتَاجُ إلَى ادِّخَارِهِ، فَاعْتُبِرَ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ تُمَكِّنُ مِنْ ادِّخَارَهُ عَامًا، وَالْكَفَّارَةُ تُرَادُ لِدَفْعِ حَاجَةِ يَوْمِهِ، وَلِهَذَا تَقَدَّرَتْ بِمَا الْغَالِبُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ لِيَوْمِهِ، وَالْخُبْزُ أَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَفَاهُ مُؤْنَةَ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ أَعْطَى الْمِسْكِينَ رِطْلَيْ خُبْزٍ بِالْعِرَاقِيِّ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، خَمْسُ أَوَاقٍ وَسُبْعُ أُوقِيَّةٍ، وَإِنْ طَحَنَ مُدًّا، وَخَبَزَهُ، أَجْزَأَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ دَقِيقَ الْمُدِّ إلَى الْمِسْكِينِ، أَجْزَأَهُ. وَإِنْ دَفَعَ الدَّقِيقَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ حِنْطَتِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُجْزِئُهُ بِالْوَزْنِ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَلَا يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ مُدِّ دَقِيقٍ بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ يَرُوعُ بِالطَّحْنِ، فَحُصِّلَ فِي مُدِّ دَقِيقِ الْحَبِّ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ الْحَبِّ. وَإِنْ زَادَ فِي الدَّقِيقِ عَنْ مُدٍّ، بِحَيْثُ يُعْلَمُ إنَّهُ قَدْرُ مُدِّ حِنْطَةٍ، جَازَ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ فِي مُدِّ مِنْ دَقِيقٍ. يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إخْرَاجَهُ بِالْوَزْنِ، كَمَا ذَكَرَ أَحْمَدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ مُدًّا مِنْ الْحِنْطَةِ، طَحَنَهُ ثُمَّ أَخْرَجَ دَقِيقَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إخْرَاجَ مَا يَعْلَمُ أَنَّ حَبَّهُ مُدٌّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ عَلَى دَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَخُبْزِهَا، فَإِنْ أَعْطَى مِنْ الشَّعِيرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا ضِعْفُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُجْزِئُ مِنْ حَبِّهَا إلَّا ضِعْفُ مَا يُجْزِئُ مِنْ حَبِّ الْبَرِّ. (8022) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ إخْرَاجُ الْحَبِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. قَالَ أَحْمَدُ التَّمْرُ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَالدَّقِيقُ ضَعِيفٌ، وَالتَّمْرُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُ الْخُبْزِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمِسْكِينِ، وَأَقَلُّ كُلْفَةً، وَأَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِغُنْيَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِسْكِينَ يَأْكُلُهُ، وَيَسْتَغْنِي بِهِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَالْحَبُّ يَعْجِزُ عَنْ طَحْنِهِ وَعَجْنِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِثَمَنِهِ خُبْزًا، فَيَتَكَلَّفُ حَمْلَ كُلْفَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَغَبْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَهُ، وَتَأَخُّرَ حُصُولِ النَّفْعِ بِهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِثَمَنِهِ مِنْ الْخُبْزِ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِهِ، فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ مَعَ حُصُولِ الضَّرَرِ. [فَصْلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُخْرَجُ فِي الْكَفَّارَةِ سَالِمًا مِنْ الْعَيْبِ] فَصْلٌ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْرَجُ فِي الْكَفَّارَةِ سَالِمًا مِنْ الْعَيْبِ، فَلَا يَكُونُ الْحَبُّ مَسُوسًا، وَلَا مُتَغَيِّرًا طَعْمُهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 541 وَلَا فِيهِ زُؤَانٌ أَوْ تُرَابٌ يَحْتَاجُ إلَى تَنْقِيَةٍ، وَكَذَلِكَ دَقِيقُهُ وَخُبْزُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، عَمَّا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعِيبًا كَالشَّاةِ فِي الزَّكَاةِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ إخْرَاجُ قِيمَةِ الطَّعَامِ وَلَا الْكِسْوَةِ] (8024) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَلَوْ أَعْطَاهُمْ مَكَانَ الطَّعَامِ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ وَرِقًا، لَمْ يُجْزِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ إخْرَاجُ قِيمَةِ الطَّعَامِ، وَلَا الْكِسْوَةِ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَنْ سَمَّيْنَا قَوْلَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ. وَأَجَازَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَيْنِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَلَا يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ إذَا لَمْ يُؤَدِّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَدَائِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَلَوْ جَازَتْ الْقِيمَةُ لَمْ يَنْحَصِرْ التَّخْيِيرُ فِي الثَّلَاثَةِ، وَلِأَنَّهُ، لَوْ أُرِيدَتْ الْقِيمَةُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الطَّعَامِ إنْ سَاوَتْ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ، فَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَكَيْفَ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَكَيْفَ يُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْءٍ وَبَعْضِهِ؟ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ فِي الْكِسْوَةِ مَا يُسَاوِي إطْعَامَهُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَتْ قِيمَةُ الطَّعَامِ، فَصَارَ نِصْفُ الْمُدِّ يُسَاوِي كِسْوَةَ الْمِسْكِينِ، يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَهُ نِصْفُ الْمُدِّ وَهُوَ خِلَافُ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ فَتَعَيَّنَ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ كَالْعِتْقِ أَوْ فَلَا تُجْزِئُ فِيهِ الْقِيمَةُ كَالْعِتْقِ فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَعْطَاهُمْ أَضْعَافَ قِيمَةِ الطَّعَامِ، لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ وَيُعْطِي مِنْ أَقَارِبِهِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8025) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيُعْطِي مِنْ أَقَارِبِهِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ لِلَّهِ - تَعَالَى، فَجَرَى مَجْرَى الزَّكَاةِ، فِيمَنْ يَدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَمَنْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 542 (8026) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ مِنْ الْغَنِيِّ وَالْكَافِرِ، وَالرَّقِيقِ يُمْنَعُ أَخْذَ الْكَفَّارَةِ، وَهَلْ يُمْنَعُ مِنْهَا بَنُو هَاشِمٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا، لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَمُنِعُوا مِنْهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . وَقِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي، لَا يُمْنَعُونَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَأَشْبَهَتْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يُصِبْ إلَّا مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] (8027) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَمَنْ لَمْ يُصِبْ إلَّا مِسْكِينًا وَاحِدًا، رَدَّدَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَتِمَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَفِّرَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجِدَ الْمَسَاكِينَ بِكَمَالِ عَدَدِهِمْ، أَوَّلًا يَجِدَهُمْ، فَإِنْ وَجَدَهُمْ، لَمْ يُجْزِئُهُ إطْعَامُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَأَجَازَ الْأَوْزَاعِيُّ دَفْعَهَا إلَى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إنْ خَصَّ بِهَا أَهْلَ بَيْتٍ شَدِيدِي الْحَاجَةِ، جَازَ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، حِينَ أَخْبَرَهُ بِشِدَّةِ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ أَهْلِهِ: (أَطْعِمْهُ عِيَالَك) وَلِأَنَّهُ دَفَعَ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - إلَى مَنْ هُوَ مَنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ إلَى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَدِّدَهَا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، إنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، أَوْ فِي سِتِّينَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَحَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدْ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَدْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا مَا يَجِبُ لِلْمِسْكِينِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ أَعْطَى غَيْرَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ هَذَا الْمِسْكِينَ مِنْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، أَجْزَأَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَطْعَمَهُ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَمَنْ أَطْعَمَ وَاحِدًا، فَمَا أَطْعَمَ عَشَرَةً، فَمَا امْتَثَلَ الْأَمْرَ، فَلَا يُجْزِئُهُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ كَفَّارَتَهُ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، فَإِذَا لَمْ يُطْعِمْ عَشَرَةً فَمَا أَتَى بِالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَجُزْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، مَعَ اتِّفَاقِ الْحَالِ، كَالْوَلَدِ، فَأَمَّا الْوَاقِعُ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّمَا أَسْقَطَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْكَفَّارَةَ عَنْهُ، لِعَجْزِهِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْكُلُ كَفَّارَةَ نَفْسِهِ، وَلَا يُطْعِمُهَا عَائِلَتَهُ، وَقَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 543 الْحَالُ الثَّانِي الْعَاجِزُ عَنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ كُلِّهِمْ، فَإِنَّهُ يُرَدِّدُ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ حَتَّى تَتِمَّ عَشَرَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا وَاحِدًا، رَدَّدَ عَلَيْهِ، تَتِمَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ وَجَدَ اثْنَيْنِ، رَدَّدَ عَلَيْهِمَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَى هَذَا وَنَحْوُ هَذَا. قَالَ الثَّوْرِيِّ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يُجْزِئُهُ إلَّا كَمَالُ الْعَدَدِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ. وَلَنَا، أَنَّ تَرْدِيدَ الْإِطْعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فِي مَعْنَى إطْعَامِ عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْحَاجَةَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَطْعَمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدًا، وَالشَّيْءُ بِمَعْنَاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ بِصُورَتِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا، وَلِهَذَا شُرِعَتْ الْأَبْدَالُ؛ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ فِي الْمَعْنَى، وَلَا يُجْتَزَأُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلَاتِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْلٌ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا حَتَّى أَكْمَلَ الْعَشَرَةَ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8028) فَصْل: وَإِنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، حَتَّى أَكْمَلَ الْعَشَرَةَ، أَجْزَأَهُ، بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَقَدْ أَطْعَمَهُمْ. وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى مَنْ يَظُنُّهُ مِسْكِينًا، فَبَانَ غَنِيًّا، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْ الْمَسَاكِينَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ. وَالثَّانِي، يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى مَنْ يَظُنُّهُ مِسْكِينًا، وَظَاهِرُهُ الْمَسْكَنَةُ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقْرَ يَخْفَى، وَتَشُقُّ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِظُهُورِهِ وَظَنِّهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا سَأَلَ الرَّجُلَانِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّدَقَةِ، قَالَ: «إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . وَإِنْ بَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَجْهًا وَاحِدًا، كَقَوْلِنَا فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يَخْفَى، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ الْإِمَامَ، فَأَخْطَأَ فِي الْفَقْرِ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَهَلْ يَضْمَنُ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى خَطَئِهِ فِي الْحَدِّ. [فَصْلٌ أَطْعَمَ مِسْكِينًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ] (8029) فَصْلٌ: إذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 544 أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ كَفَّارَةٍ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَطْعَمَهُ فِي يَوْمَيْنِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اثْنَيْنِ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَاحِدٍ، كَالْقَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي، لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى مِسْكِينًا فِي يَوْمٍ طَعَامَ اثْنَيْنِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ أَطْعَمَ اثْنَيْنِ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، جَازَ. وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِهِ خِلَافًا. وَكَذَلِكَ إنْ أَطْعَمَ وَاحِدًا مِنْ كَفَّارَتَيْنِ فِي يَوْمَيْنِ،، جَازَ أَيْضًا، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. فَلَوْ كَانَ عَلَى وَاحِدٍ عَشْرُ كَفَّارَاتٍ، وَعِنْدَهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ، يُطْعِمُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ كَفَّارَةً يُفَرِّقُهَا عَلَيْهِمْ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ، وَبَيَانُ أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ، أَنَّهُ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ كَفَّارَةٍ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، وَالْحُكْمُ فِي الْكِسْوَةِ كَالْحُكْمِ فِي الطَّعَامِ، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ. [مَسْأَلَة الْكِسْوَةَ أَحَدُ أَصْنَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] (8030) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ؛ لِلرَّجُلِ ثَوْبٌ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكِسْوَةَ أَحَدُ أَصْنَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِنَصِّ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] . وَلَا تَدْخُلُ فِي كَفَّارَةٍ غَيْرِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ كِسْوَةِ عَشَرَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] . وَتَتَقَدَّرُ الْكِسْوَةُ بِمَا يُجْزِئُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ رَجُلًا، فَثَوْبٌ تُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً، فَدِرْعٌ وَخِمَارٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ السَّرَاوِيلُ. الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: ثَوْبٌ جَامِعٌ وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مِسْكِينٍ حُلَّةٌ؛ إزَارٌ وَرِدَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِئُهُ ثَوْبٌ ثَوْبٌ. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: يُجْزِئُ الْعِمَامَةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَبَاءَةٌ وَعِمَامَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، مِنْ سَرَاوِيلَ، أَوْ إزَارٍ، أَوْ رِدَاءٍ، أَوْ مُقَنَّعَةٍ، أَوْ عِمَامَةٍ، وَفِي الْقَلَنْسُوَةِ وَجْهَانِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ، فَأَجْزَأَ، كَاَلَّذِي تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْكِسْوَةَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، كَالْإِطْعَامِ وَالْإِعْتَاقِ، وَلِأَنَّ التَّكْفِيرَ عِبَادَةٌ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْكِسْوَةُ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا أَقَلُّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَسَاكِينِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَيَتَقَدَّرُ، كَالْإِطْعَامِ، وَلِأَنَّ اللَّابِسَ مَا لَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ إنَّمَا يُسَمَّى عُرْيَانًا، وَلَا مُكْتَسِيًا، وَكَذَلِكَ لَابِسُ السَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ، أَوْ مِئْزَرٍ، يُسَمَّى عُرْيَانًا، فَلَا يُجْزِئُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا كَسَا امْرَأَةً، أَعْطَاهَا دِرْعًا وَخِمَارًا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهَا، وَتُجْزِئُهَا الصَّلَاةُ فِيهِ وَإِنْ، أَعْطَاهَا ثَوْبًا وَاسِعًا، يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتُرَ بِهِ بَدَنَهَا وَرَأْسَهَا، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَسَا الرَّجُلَ أَجْزَأَهُ قَمِيصٌ، أَوْ ثَوْبٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتُرَ بِهِ عَوْرَتَهُ، وَيَجْعَلَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ ثَوْبَيْنِ يَأْتَزِرُ بِأَحَدِهِمَا، وَيَرْتَدِي بِالْآخَرِ. وَلَا يُجْزِئُهُ مِئْزَرٌ وَحْدَهُ؛ وَلَا سِرْوَالٌ وَحْدَهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.» [فَصْلٌ يَكْسُوَهُمْ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْكِسْوَةِ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8031) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكْسُوَهُمْ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْكِسْوَةِ؛ مِنْ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَالصُّوفِ، وَالشَّعْرِ، وَالْوَبَرِ، وَالْخَزِّ، وَالْحَرِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِكِسْوَتِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْ جِنْسًا فَأَيَّ جِنْسٍ كَسَاهُمْ مِنْهُ، خَرَجَ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِوُجُودِ الْكِسْوَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكْسُوَهُمْ لَبِيسًا أَوْ جَدِيدًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا قَدْ بَلِيَ وَذَهَبَتْ، مَنْفَعَتُهُ، فَلَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ مَعِيبٌ، كَالْحَبِّ الْمَعِيبِ، وَالرَّقَبَةِ إذَا بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَعْطَاهُمْ مَصْبُوغًا أَوْ غَيْرَ مَصْبُوغٍ، أَوْ خَامًا أَوْ مَقْصُورًا؛ لِأَنَّهُ تَحْصُلُ الْكِسْوَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا، وَالْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا. [فَصْلٌ وَاَلَّذِينَ تُجْزِئُ كِسْوَتُهُمْ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8032) فَصْلٌ: وَاَلَّذِينَ تُجْزِئُ كِسْوَتُهُمْ، هُمْ الْمَسَاكِينُ الَّذِينَ يُجْزِئُ إطْعَامُهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] . فَيَنْصَرِفُ الضَّمِيرُ إلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَسَاكِينِ وَأَصْنَافِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] (8033) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، قَدْ صَلَّتْ وَصَامَتْ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَتَكُونُ سَلِيمَةً، لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ أَحَدُ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، بِقَوْلِهِ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . وَيُعْتَبَرُ فِي الرَّقَبَةِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 546 أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً. فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُجْزِئُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وَهَذَا مُطْلَقٌ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَحْرِيرٌ فِي كَفَّارَةٍ، فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْكَافِرَةُ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَضَمَّنُ تَفْرِيغَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ وَعِبَادَتِهِ وَجِهَادِهِ، وَمَعُونَةَ الْمُسْلِمِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ شَرْعُ إعْتَاقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ، تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْإِيمَانِ فِيهَا، فَيُعَلَّلُ بِهَا، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ الْحَكَمُ إلَى كُلِّ تَحْرِيرٍ فِي كَفَّارَةٍ، فَيَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنَةِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، كَمَا حُمِلَ مُطْلَقُ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ. الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ قَدْ صَلَّتْ وَصَامَتْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ مَنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْعِبَادَاتُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، الْمُعْتَبَرَ الْفِعْلُ دُونَ السِّنِّ، فَمَنْ صَلَّى وَصَامَ مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ يَعْرِفُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَيَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِهِ بِنِيَّتِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَلَمْ يُوجَدَا مِنْهُ، لَمْ يُجْزِئْ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ إعْتَاقُ الطِّفْلِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا الْإِسْلَامُ؛ بِدَلِيلِ إعْتَاقِ الْفَاسِقِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ عِنْدَنَا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا نَدْرِي مَا هُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلِهَذَا تَعَلَّقَ حُكْمُ الْقَتْلِ بِكُلِّ مُسْلِمٍ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] . وَالصَّبِيُّ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَرِثُهُمْ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ سُبِيَ مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ أَجْزَأَهُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ الطِّفْلِ مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ كَافِرًا، أَجْزَأَ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ: يُجْزِئُ إعْتَاقُ الصَّغِيرِ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ، إلَّا كَفَّارَةَ الْقَتْلِ؛ فَإِنَّهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَلَا يُجْزِئُ إلَّا مَا صَامَ وَصَلَّى، وَمَا كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 547 فِي الْقُرْآنِ رَقَبَةً لَيْسَتْ بِمُؤْمِنَةٍ، فَالصَّبِيُّ يُجْزِئُ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْوَاجِبَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، فَمَا لَمْ تَحْصُلْ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، لَمْ يَحْصُلْ الْعَمَلُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، فِي قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قَالَ: قَدْ صَلَّتْ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ مَكْحُولٌ إذَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ فَهُوَ نَسَمَةٌ، فَإِذَا تَقَلَّبَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ فَهُوَ رَقَبَةٌ، فَإِذَا صَلَّى فَهُوَ مُؤْمِنَةٌ. وَلِأَنَّ الطِّفْلَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ عِبَادَةٌ؛ لِفَقْدِ التَّكْلِيفِ، فَلَمْ يُجْزِئْ فِي الْكَفَّارَةِ، كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ الصِّبَا نَقْصٌ يَسْتَحِقّ بِهِ النَّفَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ، أَشْبَهَ الزَّمَانَةَ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا «، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ السُّلَمِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَارِيَةٍ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: مَنْ أَنَا؟ . قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَارِيَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إلَى السَّمَاءِ. قَالَ: مَنْ أَنَا؟ . فَأَشَارَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِلَى السَّمَاءِ. أَيْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا؛» . فَحَكَمَ لَهَا بِالْإِيمَانِ بِهَذَا الْقَوْلِ. [فَصْلٌ إعْتَاقُ الْجَنِينِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] (8034) فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُ إعْتَاقُ الْجَنِينِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَمْلُوكٌ، فَصَحَّ إعْتَاقُهُ عَنْ الرَّقَبَةِ، كَالْمَوْلُودِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا كَوْنُهُ آدَمِيًّا؛ لِكَوْنِهِ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ نُطْفَةٌ أَوْ عَلَقَةٌ، وَلَيْسَ بِآدَمِيٍّ فِي تِلْكَ الْحَالِ. الثَّالِثُ، أَنْ لَا يَكُونَ بِهَا نَقْصٌ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ. وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي الظِّهَارِ. وَيُجْزِئُ الصَّبِيُّ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَاضٍ إلَى زَوَالٍ، وَصَاحِبُهُ سَائِرٌ إلَى الْكَمَالِ. وَلَا يُجْزِئُ الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ لَا غَايَةَ لِزَوَالِهِ مَعْلُومَةٌ، فَأَشْبَهَ الزَّمِنَ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ غَائِبًا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ وَتَجِيءُ أَخْبَارُهُ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8035) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَ غَائِبًا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ، وَتَجِيءُ أَخْبَارُهُ صَحَّ، وَأَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، كَالْحَاضِرِ. وَإِنْ شُكَّ فِي حَيَاتِهِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِالْإِجْزَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ شَغْلُ ذِمَّتِهِ، وَلَا تَبْرَأُ بِالشَّكِّ، وَهَذَا الْعَبْدُ مَشْكُوكٌ فِيهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 548 فِي وُجُودِهِ، فَشُكَّ فِي إعْتَاقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ حَيَاتُهُ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ وُجِدَتْ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ أَخْبَارِهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ هَذَا كَوْنُهُ حَيًّا تَبَيَّنَّا صِحَّةَ عِتْقِهِ وَبَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ أَعْتَقَ غَيْرُهُ عَنْهُ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8036) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لَمْ يَقَعْ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، إذَا كَانَ حَيًّا، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقِ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَإِنْ نَوَى ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ عَنْ وَاجِبٍ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ قَضَى عَنْهُ وَاجِبًا فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنًا. وَلَنَا، أَنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَلَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهَا عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْرِ، كَالْحَجِّ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ عَنْ الْمُكَفِّرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، كَالصِّيَامِ. وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَفَّرَ عَنْهُ بِإِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الصِّيَامِ بِإِذْنِهِ، وَلَا بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ. فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ جَعَلَ لَهُ عِوَضًا، صَحَّ الْعِتْقُ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَأَجْزَأَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِتْقُ عَنْهُ بِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ وَوَكَّلَ الْبَائِعَ فِي إعْتَاقِهِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عِوَضًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَيُجْزِئُ فِي كَفَّارَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ بِأَمْرِهِ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَ عِوَضًا. وَالْأُخْرَى، لَا يُجْزِئُ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ، وَمِنْ شَرْطِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ، وَلَمْ يَحْصُلْ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفَارَقَ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ. فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ مَيِّتًا، نَظَرْت؛ فَإِنْ وَصَّى بِالْعِتْقِ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُوَصِّ بِهِ، فَأَعْتَقَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، لَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَوَقَعَ عَنْ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقٌ وَاجِبٌ، صَحَّ الْعِتْقُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ لَهُ فِي مَالِهِ وَأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَكَسَا عَنْهُ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ، جَازَ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَجَرَى مَجْرَى التَّطَوُّعِ. وَالثَّانِي يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ وَاجِبًا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ بِالْفِعْلِ، فَأَشْبَهَ الْمُعَيَّنَ مِنْ الْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْهُ، كَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ. وَلَوْ قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ: أَطْعِمْ عَنْ كَفَّارَتِي. أَوْ: اُكْسُ فَفَعَلَ، صَحَّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ ضَمِنَ لَهُ عِوَضًا، أَوْ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ عِوَضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 549 [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَهَا فِي الْكَفَّارَةِ] (8037) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَهَا فِي الْكَفَّارَةِ، عَتَقَتْ، وَلَمْ تُجْزِئْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ) وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَائِعَ نَقَصَهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَجْلِ هَذَا الشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ عَنْ الْعِتْقِ عِوَضًا، فَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَتْ رَقَبَةً وَاجِبَةً، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رَقَبَةً سَلِيمَةً، وَلِأَنَّ عِتْقَهَا يَسْتَحِقُّ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ الشَّرْطُ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ، فَنَوَى بِشِرَائِهِ الْعِتْقَ عَنْ الْكَفَّارَةِ، أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ. ثُمَّ نَوَى عِنْدَ دُخُولِهِ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ. [فَصْلٌ قَالَ لَهُ رَجُلٌ أُعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ كَفَّارَتِك وَلَك عَشَرَةُ دَنَانِير فَفَعَلَ] (8038) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنْ كَفَّارَتِك، وَلَك عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. فَفَعَلَ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَمْ تَقَعْ خَالِصَةً عَنْ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْعِتْقُ كُلُّهُ يَقَعُ عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْمُعْتِقَ لَمْ يُعْتِقْهُ عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ، وَلَا رَضِيَ بِإِعْتَاقِهِ عَنْهُ، وَلَا بَاذِلُ الْعِوَضِ طَلَبَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ إعْتَاقَهُ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَعْتِقْهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيَّ. فَالثَّمَنُ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ. فَإِنْ رَدَّ الْعَشَرَةَ عَلَى بَاذِلِهَا، لِيَكُونَ الْعِتْقُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَحْدَهَا، أَوْ عَزَمَ عَلَى رَدِّ الْعَشَرَةِ، أَوْ رَدَّ الْعَشَرَةَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَأَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، أَجْزَأَهُ. [فَصْلٌ اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوِي إعْتَاقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا] (8039) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوِي إعْتَاقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِجْزَاءِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَأَخَذَ أَرْشَهُ ثُمَّ أَعْتَقَ الْعَبْدَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، أَجْزَأَهُ، وَكَانَ الْأَرْشُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَعِيبِ دُونَ الْأَرْشِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْعَيْبِ، فَأَخَذَ أَرْشَهُ، فَهُوَ لَهُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ قَبْلَ إعْتَاقِهِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَصْرِفُ ذَلِكَ الْأَرْشَ فِي الرِّقَابِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سَلِيمٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَكَفَّارَةُ الْأَرْشِ مَصْرُوفَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، كَمَا لَوْ بَاعَهُ كَانَ الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ عَلِمَ الْعَيْبَ، وَلَمْ يَأْخُذْ أَرْشَهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ، كَانَ الْأَرْشُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مَعِيبًا عَالِمًا بِعَيْبِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشٌ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى بَعْضَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ يَنْوِي بِشِرَائِهِ الْكَفَّارَةَ] (8040) مَسْأَلَة؛ قَالَ (وَكَذَلِكَ وَلَوْ اشْتَرَى بَعْضَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، يَنْوِي بِشِرَائِهِ الْكَفَّارَةَ، عَتَقَ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِئُهُ: اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ كَفَّارَةِ الْبَائِعِ، فَأَجْزَأَ عَنْ كَفَّارَةِ الْمُشْتَرِي، كَغَيْرِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 550 وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَالتَّحْرِيرُ فِعْلُ الْعِتْقِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْعِتْقُ هَاهُنَا بِتَحْرِيرٍ مِنْهُ، وَلَا إعْتَاقٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ وَرِثَهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، أَوْ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَيُخَالِفُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْبَائِعَ يُعْتِقُهُ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يُعْتِقْهُ، إنَّمَا يَعْتِقُ بِإِعْتَاقِ الشَّرْعِ، وَهَذَا عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ، وَالْمُشْتَرِي بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ] (8041) فَصْلٌ: إذَا مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، عَتَقَ، وَسَرَى إلَى بَاقِيهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ بَاقِيهِ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَصَاحِبِهِ، وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِتْقَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِعْتَاقِهِ، إنَّمَا حَصَلَ بِالسِّرَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ آثَارِ فِعْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ، يُحَقِّقُ هَذَا، أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ بِالْإِعْتَاقِ إلَّا نَصِيبَهُ، فَسَرَى إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ خَصَّ نَصِيبَ غَيْرِهِ بِالْإِعْتَاقِ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ إعْتَاقَ نَصِيبِهِ، لَا نَصِيبِ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: يُجْزِئُهُ إذَا نَوَى إعْتَاقَ جَمِيعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا كَامِلَ الرِّقِّ، سَلِيمَ الْخَلْقِ، غَيْرَ مُسْتَحِقِّ الْعِتْقِ، نَاوِيًا بِهِ الْكَفَّارَةَ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْجَمِيعُ مِلْكَهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَعَتَقَ الْبَاقِي عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ قَرِيبِهِ، وَلِأَنَّ إعْتَاقَ بَاقِيهِ مُسْتَحَقٌّ بِالسِّرَايَةِ، فَهُوَ كَالْقَرِيبِ، فَعَلَى هَذَا: هَلْ يُجْزِئُهُ عِتْقُ نِصْفِهِ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُ وَيُعْتِقُ نِصْفًا آخَرَ، فَتَكْمُلُ الْكَفَّارَةُ؟ يَنْبَنِي عَلَى مَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَإِنْ نَوَى عِتْقَ نَصِيبِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَنْوِ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ وَفِي نَصِيبِهِ نَفْسِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا، فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، فَكَذَلِكَ، فَإِنْ مَلَكَ بَاقِيَهُ، فَأَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ صِيَامَ شَهْرٍ، وَإِطْعَامَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، لَمْ يُجْزِئْهُ. [فَصْلٌ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ فَأَعْتَقَ جُزْءًا مِنْهُ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8042) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ، فَأَعْتَقَ جُزْءًا مِنْهُ مُعَيَّنًا، أَوْ مُشَاعًا عَتَقَ جَمِيعُهُ. فَإِنْ كَانَ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ، أَجْزَأَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ بَعْضِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ لِجَمِيعِهِ، وَإِنْ نَوَى إعْتَاقَ الْجُزْءِ الَّذِي بَاشَرَهُ بِالْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ غَيْرِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عِتْقُ غَيْرِهِ. وَهَلْ يُحْتَسَبُ بِمَا نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 551 [فَصْلٌ قَالَ: إنْ مَلَكْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ] (8043) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت فُلَانًا، فَهُوَ حُرٌّ. وَقُلْنَا: يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ. فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، عَتَقَ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَيُخَرَّجُ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا فِي شِرَاءِ قَرِيبِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَلَا تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ أُمُّ وَلَدٍ] (8044) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ أُمُّ وَلَدٍ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تُجْزِئُ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَمُعْتِقُهَا قَدْ حَرَّرَهَا. وَلَنَا، أَنَّ عِتْقَهَا يُسْتَحَقُّ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَمْ يُجْزِئْ عَنْهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ، أَوْ عَبْدًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ أُدْخِلْت الدَّارَ. ثُمَّ نَوَى عِتْقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ. وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. (8045) فَصْلٌ: وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ بَعْدَ كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ، حُكْمُهُ حُكْمُهَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَأَجْزَأَ عِتْقُهُ كَالْمُدَبَّرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] (8046) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا مُكَاتَبٌ قَدْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا) رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْمُكَاتَبِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، يُجْزِئُ مُطْلَقًا. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَأَجْزَأَ عِتْقُهُ، كَالْمُدَبَّرِ، وَلِأَنَّهُ رَقَبَةٌ، فَدَخَلَ فِي مُطْلَقِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَالثَّانِيَةُ، لَا يُجْزِئُ مُطْلَقًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ كِتَابَتِهِ، فَأَشْبَهَ أُمَّ الْوَلَدِ. وَالثَّالِثَةُ، إنْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ. وَبِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ الْعِوَضُ عَنْ بَعْضِهِ، فَلَمْ يُجْزِئْ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 552 كَمَا لَوْ أَعْتَقَ بَعْضَ رَقَبَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ، فَقَدْ أَعْتَقَ رَقَبَةً كَامِلَةً مُؤْمِنَةً سَالِمَةَ الْخَلْقِ تَامَّةَ الْمِلْكِ، لَمْ يَحْصُلْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا عِوَضٌ، فَأَجْزَأَ عِتْقُهُ، كَالْمُدَبَّرِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَلَى مَالٍ، فَأَخَذَهُ مِنْ الْعَبْدِ، لَمْ يُجْزِئْ عَنْ كَفَّارَتِهِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. [مَسْأَلَةٌ وَيُجْزِئُهُ الْمُدَبَّرُ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8047) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُجْزِئُهُ الْمُدَبَّرُ) وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَأَشْبَهَ أُمَّ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ بَيْعَهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَشْبَهَ أُمَّ الْوَلَدِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَقَدْ حَرَّرَ رَقَبَةً، وَلِأَنَّهُ عَبْدٌ كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ عِوَضٌ، فَجَازَ عِتْقُهُ، كَالْقِنِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ مُدَبَّرًا. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي بَابِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ عِتْقًا بِصِفَةٍ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَلَا يُمْنَعُ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ هَاهُنَا الْمَوْتُ، وَلَمْ يُوجَدْ. [مَسْأَلَةٌ إجْزَاء الْخَصِيّ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخَصِيُّ) لَا نَعْلَمُ فِي إجْزَاءِ الْخَصِيِّ خِلَافًا، سَوَاءٌ كَانَ مَقْطُوعًا أَوْ مَشْلُولًا أَوْ مَوْجُوءًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا زَادَتْ بِذَلِكَ قِيمَتُهُ، فَانْدَفَعَ فِيهِ ضَرَرُ شَهْوَتِهِ، فَأَجْزَأَ، كَالْفَحْلِ. [مَسْأَلَةٌ وَلَدُ الزِّنَى عِتْقه عَنْ الْكَفَّارَة] (8049) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَوَلَدُ الزِّنَى) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ، ذَلِكَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 553 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَلَدَ الزِّنَى شَرُّ الثَّلَاثَةِ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَأَنْ أُمَتِّعَ بِسَوْطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ وَلَدَ زَنِيَّةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، دُخُولُهُ فِي مُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُسْلِمٌ كَامِلُ الْعَمَلِ، لَمْ يَعْتَضْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا اسْتَحَقَّ عِتْقَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَأَجْزَأَ عِتْقُهُ، كَوَلَدِ الرَّشِيدَةِ. فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَمِّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِهَا؛ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَدُ الزِّنَى هُوَ الْمُلَازِمُ لِلزِّنَى، كَمَا يُقَالُ: ابْنُ السَّبِيلِ الْمُلَازِمُ لَهَا، وَوَلَدُ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَهَابُ السَّرِقَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: هُوَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ أَصْلًا وَعُنْصُرًا وَنَسَبًا؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءِ الزِّنَى، وَهُوَ خَبِيثٌ. وَأَنْكَرَ قَوْمٌ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ وِزْرِ وَالِدَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَفِي الْجُمْلَةِ، هَذَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، أَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ، وَبَيْعِهِ، وَعِتْقِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ فِي إجْزَاءِ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. [مَسْأَلَةٌ لَمْ يَجِدْ إطْعَامًا وَلَا كِسْوَةً وَلَا عِتْقًا فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8050) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدًا، أَجْزَأَهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ) يَعْنِي إنْ لَمْ يَجِدْ إطْعَامًا، وَلَا كِسْوَةً، وَلَا عِتْقًا، انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، إلَّا فِي اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُهُ، كَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 554 وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّوْمِ مُطْلَقٌ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ صَامَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ، فَلَمْ يَجِبْ التَّتَابُعُ فِيهِ، كَصِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ. وَلَنَا، أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ". كَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " التَّفْسِيرِ " عَنْ جَمَاعَةٍ، وَهَذَا إنْ كَانَ قُرْآنًا، فَهُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، فَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا سَمِعَاهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْسِيرًا فَظَنَّاهُ قُرْآنًا، فَثَبَتَتْ لَهُ رُتْبَةُ الْخَبَرِ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ دَرَجَةِ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْآيَةِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَهُوَ حُجَّةٌ يُصَارُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صِيَامٌ فِي كَفَّارَةٍ فَوَجَبَ فِيهِ التَّتَابُعُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ، أَوْ الرَّجُلُ لِمَرَضٍ، لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْقَطِعُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ لَمْ يُوجَدْ، وَفَوَاتُ الشَّرْطِ يَبْطُلُ بِهِ الْمَشْرُوطُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْقَطِعُ فِي الْمَرَضِ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَا يَنْقَطِعُ فِي الْحَيْضِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ، أَشْبَهَ الْحَيْضَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْحَانِثُ عَبْدًا حُكْم كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8051) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ كَانَ الْحَانِثُ عَبْدًا، لَمْ يُكَفِّرْ بِغَيْرِ الصَّوْمِ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ الْمُعْسِرِ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . وَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ الصِّيَامِ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ بِهِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ إلَّا بِالصِّيَامِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عِلَلَ ذَلِكَ فِي الظِّهَارِ، وَالِاخْتِلَافَ فِيهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ أَصْلَ هَذَا عِنْدَهُ الرِّوَايَتَانِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، إنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. فَمَلَّكَهُ سَيِّدُهُ، وَأَذِنَ لَهُ بِالتَّكْفِيرِ، بِالْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا يُكَفِّرُ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُكَفِّرُ بِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِالتَّكْفِيرِ فِي الْمَالِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 555 فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ، وَإِنْ مَلَكَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدَيْهِ. قَالَ: وَأَصْحَابُنَا يَجْعَلُونَ فِي الْعَبْدِ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَمْلِكُ. أَوْ لَا يَمْلِكُ. ثُمَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُجِيزُ لَهُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ، لَهُ أَنْ يُطْعِمَ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْتِقَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي الْوَلَاءَ وَالْوِلَايَةَ وَالْإِرْثَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ، وَلَكِنْ يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ. وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُجِيزُ لَهُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ. وَالثَّانِيَةُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ تَكْفِيرُهُ بِالْمَالِ، صَحَّ بِالْعِتْقِ، كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَبْدَ، فَصَحَّ تَكْفِيرُهُ بِإِعْتَاقِهِ، كَالْحُرِّ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي الْوَلَاءَ وَالْوِلَايَةَ. لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَتَخَلُّفُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُقْتَضِي، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَخَلَّفُ لِتَخَلُّفِ سَبَبِهِ لَا لِتَخَلُّفِ أَحْكَامِهِ، كَمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّ تَخَلُّفَ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي، إنَّمَا يَكُونُ لِمَانِعٍ مَنَعَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَنْعُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَلِهَذَا السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتُهُ تَخَلُّفَهَا عَنْهُ فِي الرَّقِيقِ، عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ، لَكِنْ لَا يَرِثُ بِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ دِينَاهُمَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فَأَعْتَقَ نَفْسَهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ رَقَبَةٌ تُجْزِئُ عَنْ غَيْرِهِ فَأَجْزَأَتْ عَنْ نَفْسِهِ كَغَيْرِهِ. وَالْآخَرُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى إعْتَاقِ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي إعْتَاقِ نَفْسِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ جَازَ، فَأَمَّا إنْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ فِي الْإِعْتَاقِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ إلَّا أَقَلَّ رَقَبَةٍ تُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَ لَهُ إعْتَاقُ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ أَفْضَلَ مِمَّا يُجْزِئُ. وَهَذَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي التَّكْفِيرِ أَنْ يُمَلِّكَهُ سَيِّدُهُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، بَلْ مَتَى أَذِنَ لَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ التَّمْلِيكَ، لَمَا صَحَّ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مُعَيَّنٍ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ مُطْلَقًا. [فَصْلٌ أَعْتَقَ الْعَبْدُ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ] (8052) فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْتَقَ الْعَبْدُ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ، بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَقُلْنَا: إنَّ الْإِعْتَاقَ فِي الْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ بِهِ الْوَلَاءُ لِمُعْتِقِهِ. ثَبَتَ وَلَاؤُهُ لِلْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّمَا الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ". وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِرْثِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، أَوْ قَتَلَ الْمُعْتِقُ عَتِيقَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ مَعَ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ عَتَقَ الْمُعْتِقُ لَهُ وَرِثَ بِالْوَلَاءِ، لِزَوَالِ الْمَانِعِ، كَمَا إذَا كَانَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 556 مُخْتَلِفَيْ الدِّينِ، فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا. ذَكَرَ هَذَا طَلْحَةُ الْعَاقُولِيُّ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ لَا يَرِثُ عَتِيقَهُ فِي حَيَاةِ عَبْدِهِ، كَمَا لَا يَرِثُ وَلَدَ عَبْدِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ وَرِثَ السَّيِّدُ مَوْلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَى مَوْلَاهُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، وَلَهُ وَلَدٌ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمَوْلَى أُمِّهِ يَجُرُّ وَلَاءَهُ، وَيَرِثُهُ سَيِّدُهُ إذَا مَاتَ أَبُوهُ. [فَصْلٌ مَنْعُ عَبْدِهِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ] (8053) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ عَبْدِهِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ أَوْ الْحِنْثُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَسَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِ الصِّيَامُ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ حَنِثَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالصَّوْمُ يَضُرُّ بِهِ، فَلَهُ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيمَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَرَرٌ عَلَى السَّيِّدِ، فَكَانَ لَهُ مَنْعُهُ وَتَحْلِيلُهُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَنَا، أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهُ، كَصِيَامِ رَمَضَانَ وَقَضَائِهِ، وَيُفَارِقُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ كَثِيرٌ؛ لِطُولِ مُدَّتِهِ، وَغَيْبَتِهِ عَنْ سَيِّدِهِ، وَتَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ، وَلِهَذَا مَلَكَ تَحْلِيلَ زَوْجَتِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهَا صَوْمَ الْكَفَّارَةِ. فَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْبُدُ رَبَّهُ بِمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ ذِكْرَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَصَلَاةَ النَّافِلَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ خِدْمَتِهِ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ حَنِثَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَتَقَ] (8054) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَنِثَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَفَّارَاتِ بِحَالَةِ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ عَبْدٌ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، فَلَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ عَبْدٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكَفَّرُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ يَوْمَ حَنِثَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، فَإِنْ كَفَّرَ بِهِ أَجْزَأَهُ. وَهَذَا مَنْصُوصٌ، عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَلَيْسَ عَلَى الْخِرَقِيِّ حُجَّةٌ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ: إنَّمَا يُكَفِّرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. " وَإِنَّمَا " لِلْحَصْرِ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الصَّوْمُ، فَلَا يُكَفِّرُ بِغَيْرِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ فِي رِقِّهِ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِحُرِّيَّتِهِ، كَالْحَدِّ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَمْ يَجُزْ فِيهِ لِلْعَبْدِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَلَهُ التَّكْفِيرُ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، فَفِي حَالِ حُرِّيَّتِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى إذْنِ سَيِّدِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِسَيِّدِهِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِمَالِهِ، وَبَعْدَ الْحُرِّيَّةِ قَدْ زَالَ ذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إذْنِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: التَّكْفِيرُ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ. لَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 557 يَكُنْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ الْمَالِ إنْ كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ حَلَفَ عَبْدٌ، وَحَنِثَ وَهُوَ حُرٌّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ قَبْلَ الْحِنْثِ، فَمَا وَجَبَتْ إلَّا وَهُوَ حُرٌّ. [فَصْلٌ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ حُكْمُهُ فِي التَّكْفِيرِ فِي كَفَّارَة الْيَمِينِ] (8055) فَصْلٌ: مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، حُكْمُهُ فِي التَّكْفِيرِ حُكْمُ الْحُرِّ الْكَامِلِ، فَإِذَا مَلَكَ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ مَا لَا يُكَفِّرُ بِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الصِّيَامُ، وَلَهُ التَّكْفِيرُ بِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ لَهُ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ دُونَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، أَشْبَهَ الْقِنَّ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . وَهَذَا وَاجِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِلْكًا تَامًّا، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ الْكَامِلَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ، ثُمَّ إنَّ امْتِنَاعَ بَعْضِ أَحْكَامِهِ، لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ، كَعِتْقِ الْمُسْلِمِ رَقِيقَهُ الْكَافِرَ. [مَسْأَلَةٌ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجْمَعُ تَخْيِيرًا وَتَرْتِيبًا] (8056) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ مَنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، مِقْدَارُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجْمَعُ تَخْيِيرًا وَتَرْتِيبًا، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيُعْتَبَرُ أَنْ لَا يَجِدَ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، قَدْرًا يُكَفِّرُ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَنَحْوُهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ، أَجْزَأَهُ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ. وَلِأَنَّ النَّخَعِيّ قَالَ: إذَا كَانَ مَالِكًا لِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَلَهُ الصِّيَامُ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: لَا يَصُومُ مَنْ مَلَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلِمَنْ يَمْلِكُ دُونَهَا الصِّيَامُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إذَا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، كَفَّرَ بِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِرْهَمَيْنِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ نَحْوُ قَوْلِنَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ لِلصِّيَامِ أَنْ لَا يَجِدَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] وَمَنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، فَهُوَ وَاجِدٌ، فَيَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْفَاضِلُ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. [فَصْلٌ مَلَكَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ وَهُوَ مُطَالَبًا بِهِ] (8057) فَصْلٌ: فَلَوْ مَلَكَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 558 لِلَّهِ - تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ، وَجَبَ تَقْدِيمُهُ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ، فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا قَدْرٌ مِنْ الْمَالِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالدَّيْنِ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ. وَالثَّانِيَةُ لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، يَجِبُ فِي الْمَالِ فَأَسْقَطَهَا الدَّيْنُ، كَزَكَاةِ الْمَالِ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، لِشُحِّهِ، وَحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْغَرِيمِ، وَتَفْرِيغُ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ؛ لِكَرَمِهِ وَغِنَاهُ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْمَالِ لَهَا بَدَلٌ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَا بَدَلَ لَهُ، وَيُفَارِقُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ؛ لِكَوْنِهَا أُجْرِيَتْ مُجْرَى النَّفَقَةِ وَلِهَذَا يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ، كَالزَّوْجِ عَنْ امْرَأَتِهِ وَعَائِلَتِهِ وَرَقِيقِهِ، وَلَا بَدَلَ لَهَا، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ. [فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ أَوْ دَيْنٌ يَرْجُو وَفَاءَهُ لَمْ يُكَفِّرْ بِالصِّيَامِ] (8058) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ، أَوْ دَيْنٌ يَرْجُو وَفَاءَهُ، لَمْ يُكَفِّرْ بِالصِّيَامِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ، فَأَجْزَأَهُ الصِّيَامُ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . وَقِيَاسًا عَلَى الْمُعْسِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَوْ عَدِمَ الْهَدْيَ فِي مَوْضِعِهِ، انْتَقَلَ إلَى الصِّيَامِ، وَلَوْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَوْضِعِهِ، انْتَقَلَ إلَى التَّيَمُّمِ، وَلَوْ عَدِمَ الْمُظَاهِرُ الْمَالَ فِي مَوْضِعِهِ، انْتَقَلَ إلَى الصِّيَامِ، وَالِانْتِقَالُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، أَشْبَهَ هَذِهِ الْأُصُولَ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ، فَلَمْ تَمْنَعْ الْغَيْبَةُ وُجُوبَهُ، كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَأْخِيرِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِغَيْبَتِهِ، كَالزَّكَاةِ، وَفَارَقَ الْهَدْيَ؛ فَإِنَّ لَهُ وَقْتًا يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ، وَالتَّيَمُّمُ يُفْضِي تَأْخِيرُهُ إلَى فَوَاتِ الصَّلَاةِ، وَتَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْوَطْءِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ التَّمَكُّنِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ، مَعَ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ التَّسْلِيمِ شَرْطٌ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ مَلَكَ رَقَبَةً تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يُجْزِئُهُ الصِّيَام] (8059) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَمَنْ لَهُ دَارٌ لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا، أَوْ دَابَّةٌ يَحْتَاجُ إلَى رُكُوبِهَا، أَوْ خَادِمٌ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ، أَجْزَأَهُ الصِّيَامُ فِي الْكَفَّارَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالسُّكْنَى مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى رُكُوبِهَا؛ لِكَوْنِهِ لَا يُطِيقُ الْمَشْيَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، أَوْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَادِمُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَخْدُمُ نَفْسَهُ؛ لِمَرَضٍ، أَوْ كِبَرٍ، أَوْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِهِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لَا تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ، وَلَا الزَّكَاةِ مِنْ الْأَخْذِ وَالْكَفَّارَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 559 وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: مَنْ مَلَكَ رَقَبَةً تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، لَا يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِخِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِرَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . فَاشْتَرَطَ لِلصِّيَامِ أَنْ لَا يَجِدَهَا وَلَنَا، أَنَّهَا مُسْتَغْرِقَةٌ لِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَمْ تَمْنَعْ جَوَازَ الِانْتِقَالِ، كَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْكُوبِ وَالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ، إلَيْهِ وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالطَّعَامِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَبِمَا إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلْعَطَشِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ إلَى التَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ وِجْدَانَ ثَمَنِ الرَّقَبَةِ كَوِجْدَانِهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِمَنْ وَجَدَ ثَمَنَهَا الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ، وَمَعَ هَذَا، لَوْ وَجَدَ ثَمَنَهَا الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ الِانْتِقَالَ، كَذَا هَاهُنَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، مِثْلُ مَنْ لَهُ دَارٌ كَبِيرَةٌ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ دَارِ مِثْلِهِ، وَدَابَّةٌ فَوْقَ دَابَّةِ مِثْلِهِ، وَخَادِمٌ فَوْقَ خَادِمِ مِثْلِهِ، يُمْكِنُ أَنْ يُحَصِّلَ بِهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَتَفْضُلَ فَضْلَةٌ يُكَفِّرُ بِهَا، فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْهُ الْفَاضِلُ عَنْ كِفَايَتِهِ، أَوْ يُبَاعُ الْجَمِيعُ، وَيَبْتَاعُ لَهُ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَيُكَفِّرُ بِالْبَاقِي. وَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ، أَوْ أَمْكَنَ الْبَيْعُ وَلَمْ يُمْكِنْ شِرَاءُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، تُرِكَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ بِحَاجَتِهِ وَالتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ (8060) . فَصْلٌ: وَمَنْ لَهُ عَقَارٌ يَحْتَاجُ إلَى أُجْرَتِهِ لِمُؤْنَتِهِ أَوْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ بِضَاعَةٌ يَخْتَلُّ رِبْحُهَا الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ بِالتَّكْفِيرِ مِنْهَا، أَوْ سَائِمَةٌ يَحْتَاجُ إلَى نَمَائِهَا حَاجَةً أَصْلِيَّةً، أَوْ أَثَاثٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا، فَلَهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَغْرِقٌ لِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، فَأَشْبَهَ الْمُعْدِمَ. [مَسْأَلَةٌ أُطْعِمَ الْمُكَفِّر بَعْضَ الْمَسَاكِينَ وَكَسَا الْبَاقِينَ حَيْثُ يَسْتَوْفِي الْعَدَدَ] (8061) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَيُجْزِئُهُ إنْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، وَكَسَا خَمْسَةً) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ، وَكَسَا الْبَاقِينَ، بِحَيْثُ يَسْتَوْفِي الْعَدَدَ، أَجْزَأَهُ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ أَحَدَ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا. الثَّانِي، أَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِ التَّكْفِيرِ فِيهَا، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَصْلَةٌ رَابِعَةٌ، وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّكْفِيرِ، فَلَمْ يُجْزِئُهُ تَبْعِيضُهُ، كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَفَّقَ الْكَفَّارَةَ مِنْ نَوْعَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَأَطْعَمَ خَمْسَةً أَوْ كَسَاهُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 560 وَلَنَا، أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِعَدِّهِ الْعَدَدَ الْوَاجِبَ، فَأَجْزَأَ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِ، فَقَامَ مَقَامَهُ فِي بَعْضِهِ، كَالْكَفَّارَتَيْنِ، وَكَالتَّيَمُّمِ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ فِي الْجَنَابَةِ، جَازَ فِي بَعْضِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، فِيمَا إذَا كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ صَحِيحًا وَبَعْضُهُ جَرِيحًا، وَفِيمَا إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِي بَعْضَ بَدَنِهِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ مُتَقَارِبٌ؛ إذْ الْقَصْدُ مِنْهُمَا سَدُّ الْخَلَّةِ، وَدَفْعُ الْحَاجَةِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْعَدَدِ، وَاعْتِبَارُ الْمَسْكَنَةِ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَتَنَوُّعُهُمَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمَا فِي الْإِطْعَامِ سَدًّا لِجَوْعِهِ. وَفِي الْكِسْوَةِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الْكَفَّارَة الْمُلَفَّقَةِ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْفَقِيرَيْنِ مُحْتَاجًا إلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ، وَالْآخَرُ إلَى الِاسْتِدْفَاءِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الَّذِينَ أَطْعَمَهُمْ بِالْإِطْعَامِ، وَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الَّذِينَ كَسَاهُمْ بِالْكِسْوَةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْإِنْفَاقِ أَكْثَرُ مِنْ إطْعَامِ مَنْ بَقِيَ، وَلَا كِسْوَةُ أَكْثَرَ مِمَّنْ بَقِيَ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ النَّوْعُ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ فَقِيرٍ بَيْنَ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَكْسُوَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَصِيرُ كَمَا يُخَيَّرُ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالنَّظِيرِ، أَوْ يُقَوِّمَ النَّظِيرِ بِدَرَاهِمَ، فَيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَلَوْ صَامَ عَنْ بَعْضِ الْأَمْدَادِ، وَأَطْعَمَ بَعْضًا، أَجْزَأَ كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ، لِمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إخْرَاجِ أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لَوْ أَعْطَى الْبَعْضَ ذَهَبًا، وَالْبَعْضَ دَرَاهِمَ، جَازَ. وَفَارَقَ مَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ. وَأَطْعَمَ خَمْسَةً أَوْ كَسَاهُمْ؛ لِأَنَّ تَنْصِيفَ الْعِتْقِ يُخِلُّ بِالْآخَرِ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا. [فَصْلٌ أُطْعِم الْمِسْكِينُ بَعْض الطَّعَام وَكَسَاهُ بَعْض الْكِسْوَة فِي كَفَّارَة الْيَمِين] (8062) فَصْلٌ: وَإِنْ أَطْعَمَ الْمِسْكِينَ بَعْضَ الطَّعَامِ، وَكَسَاهُ بَعْضَ الْكِسْوَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَطْعَمَهُ الطَّعَامَ الْوَاجِبَ لَهُ، وَلَا كَسَاهُ الْكِسْوَةَ الْوَاجِبَةَ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُطْعِمْهُ شَيْئًا وَلَمْ يَكْسُهُ، وَإِنْ أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ بُرًّا، وَبَعْضَهُمْ تَمْرًا، أَوْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، أَجْزَأَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وَقَدْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَسَا بَعْضَ الْمَسَاكِينِ قُطْنًا، وَبَعْضَهُمْ كَتَّانًا، جَازَ، مَعَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ، كَذَلِكَ الْإِطْعَامُ. [مَسْأَلَة أَعْتَقَ نِصْفِيّ عَبْدَيْنِ أَوْ نِصْفِيّ أُمَّتَيْنِ أَوْ نِصْفِيّ عَبْدٍ وَأَمَة فِي كَفَّارَة الْيَمِين] (8063) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ، أَوْ نِصْفَيْ أَمَتَيْنِ، أَوْ نِصْفَيْ عَبْدٍ وَأَمَةٍ، أَجْزَأَ عَنْهُ) قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. يَعْنِي أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ: لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِتْقِ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ إعْتَاقِ نِصْفَيْنِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 561 أَوْجُهٍ؛ فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ نِصْفُ الرَّقِيقِ حُرًّا، أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَشْقَاصَ كَالْأَشْخَاصِ فِيمَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ، دَلِيلُهُ الزَّكَاةُ، وَنَعْنِي بِهِ إذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ ثَمَانِينَ شَاةً مُشَاعًا، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ مُنْفَرِدَةً، وَكَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إذَا اشْتَرَكُوا فِيهَا. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إعْتَاقُ نِصْفَيْنِ، إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا حُرًّا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى إعْتَاقِ الْكَامِلَةِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ الشِّقْصَيْنِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الرَّقَبَةِ الْكَامِلَةِ مِنْ تَكْمِيلِ الْأَحْكَامِ، وَتَخْلِيصِ الْآدَمِيِّ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَنَقْصِهِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ، وَيَمْتَنِعُ قِيَاسُ الشِّقْصَيْنِ عَلَى الرَّقَبَةِ الْكَامِلَةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِشِرَاءِ رَقَبَةٍ أَوْ بَيْعِهَا، أَوْ بِإِهْدَاءِ حَيَوَانٍ أَوْ بِالصَّدَقَةِ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشَقِّصَهُ، كَذَا هَاهُنَا. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَأَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ، وَأَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، أَوْ كَسَاهُمْ، لَمْ يُجْزِئْهُ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا مُخْتَلِفٌ مُتَبَايِنٌ؛ إذْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْ الْعِتْقِ تَكْمِيلَ الْأَحْكَامِ، وَتَخْلِيصَ الْمُعْتَقِ مِنْ الرِّقِّ، وَالْقَصْدُ مِنْ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ سَدَّ الْخَلَّةِ، وَإِبْقَاءَ النَّفْسِ، بِدَفْعِ الْمَجَاعَةِ فِي الْإِطْعَامِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَدَفْعِ ضَرَرِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي الْكِسْوَةِ، فَلِتَقَارُبِ مَعْنَاهُمَا، وَاتِّحَادِ مَصْرِفِهِمَا، جَرَيَا مَجْرَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَكُمِّلَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَلِذَلِكَ سُوِّيَ بَيْنَ عَدَدِهِمَا، وَلِتَبَاعُدِ مَقْصِدِ الْعِتْقِ مِنْهُمَا، وَاخْتِلَافِ مَصْرِفِهِمَا، وَمُبَايَنَتِهِمَا لَهُ، لَمْ يَجْرِيَا مَجْرَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يُكَمَّلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ خَالَفَ عَدَدُهُ عَدَدَهُمَا. [فَصْلٌ أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ أَوْ كَسَاهُمْ فِي كَفَّارَة الْيَمِين] (8065) فَصْلٌ: وَلَوْ أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ، أَوْ كَسَاهُمْ، أَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُتِمُّ بِهِ الْكَفَّارَةَ، فَصَامَ عَنْ الْبَاقِي، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ فِي الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ تُكَمَّلْ بِهِ، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْكِسْوَةُ أَبْعَدُ مِنْ الْعِتْقِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَكْمِيلُ أَحَدِ نَوْعَيْ الْمُبْدَلِ مِنْ الْآخَرِ، فَتَكْمِيلُهُ بِالْبَدَلِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ مَعَ التَّيَمُّم. قُلْنَا: التَّيَمُّمُ لَا يَأْتِي بِبَعْضِهِ بَدَلًا عَنْ بَعْضِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهِ بِكَمَالِهِ، وَهَا هُنَا لَوْ أَتَى بِالصِّيَامِ جَمِيعِهِ، أَجْزَأَهُ. [مَسْأَلَةٌ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ] (8066) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ أَيْسَرَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْعِتْقِ، أَوْ الْإِطْعَامِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 562 (8067) مَسْأَلَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، إلَى أَحَدِهَا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ إتْمَامِ الْبَدَلِ، فَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَدَلٌ لَا يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، كَمَا لَوْ شَرَعَ الْمُتَمَتِّعُ الْعَاجِزُ عَنْ الْهَدْيِ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ، بِلَا خِلَافٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ لَا يَبْطُلُ، أَنَّ الْبَدَلَ الصَّوْمُ، وَهُوَ صَحِيحٌ مَعَ قُدْرَتِهِ اتِّفَاقًا، وَفَارَقَ التَّيَمُّمَ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ؛ لِيُسْرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ يَشُقُّ الْجَمْعُ فِيهَا بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ، وَإِيجَابُ الرُّجُوعِ يُفْضِي إلَى ذَلِكَ فَإِنْ. قِيلَ: يَنْتَقِضُ دَلِيلُكُمْ بِمَا إذَا شَرَعَ الْمُتَمَتِّعُ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ. قُلْنَا: إذَا قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَادِمٍ لَهُ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْهَدْيِ يَوْمُ النَّحْرِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. (8068) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إنْ أَحَبَّ الِانْتِقَالَ إلَى الْأَعْلَى، فَلَهُ ذَلِكَ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا. إلَّا فِي الْعَبْدِ إذَا حَنِثَ ثُمَّ عَتَقَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ فِي مَسْأَلَتِنَا. مُحْتَجًّا بِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: إذَا حَنِثَ، وَهُوَ عَبْدٌ، فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَتَقَ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْعَبْدِ: إنَّمَا يُكَفِّرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِطْعَامَ الْأَصْلُ، فَأَجْزَأَهُ التَّكْفِيرُ بِهِ، كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الْفَقِيرُ فَاسْتَدَانَ وَأَعْتَقَ. فَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا عَتَقَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَجُوزَ لَهُ الِانْتِقَالُ كَمَسْأَلَتِنَا، وَيُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُرَّ كَانَ يُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لَوْ تَكَلَّفَهُ، وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ يُجْزِئُهُ إلَّا الصِّيَامُ، عَلَى رِوَايَةٍ. [فَصْل وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى مُوسِرٍ فَأَعْسَرِ] (8069) فَصْلٌ: وَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى مُوسِرٍ فَأَعْسَرَ، لَمْ يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمُبْدَلِ فَجَازَ لَهُ الْعُدُولُ إلَى الْبَدَلِ، كَمَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَمَعَهُ مَاءٌ فَانْدَفَقَ قَبْلَ الْوُضُوءِ بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 563 وَلَنَا، أَنَّ الْإِطْعَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ، كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفَارَقَ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا، فَاحْتِيجَ إلَى الطَّهَارَةِ لَهَا فِي وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ. [فَصْلٌ وَالْكَفَّارَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ] (8070) فَصْلٌ: وَالْكَفَّارَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ الْكَفَّارَةَ بِلَفْظٍ عَامٍّ فِي جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ، فَدَخَلَ الْكُلُّ فِي عُمُومِهِ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِيمَانَ فِي الرَّقَبَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَكَافِرٍ شِرَاءُ مُسْلِمٍ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ إسْلَامُهُ فِي يَدَيْهِ، أَوْ يَرِثَ مُسْلِمًا فَيُعْتِقَهُ فَيَصِحَّ إعْتَاقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ فَتَكْفِيرُهُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ، فَإِذَا كَفَّرَ بِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَةُ التَّكْفِيرِ. وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَفَّرَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ مِنْ إعْتَاقٍ، أَوْ إطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ صِيَامٍ وَيُحْتَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَلَّا يُجْزِئَهُ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكَفِّرُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَ الْحِنْثِ، وَلَمْ يَكُنْ الصِّيَامُ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ [مَسْأَلَةٌ الْيَمِينِ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ] بَابٌ جَامِعُ الْأَيْمَانِ. (8071) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وَيُرْجَعُ فِي الْأَيْمَانِ إلَى النِّيَّةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى الْيَمِينِ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، فَإِذَا نَوَى بِيَمِينِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا نَوَاهُ مُوَافِقًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، فَالْمُوَافِقُ لِلظَّاهِرِ أَنْ يَنْوِيَ بِاللَّفْظِ مَوْضُوعَهُ الْأَصْلِيَّ، مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ الْعُمُومَ، وَبِالْمُطْلَقِ الْإِطْلَاقَ، وَبِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ مَا يَتَبَادَرُ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْهَا، وَالْمُخَالِفُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا وَلَا فَاكِهَةً. وَيُرِيدُ لَحْمًا بِعَيْنِهِ، وَفَاكِهَةً بِعَيْنِهَا. وَمِنْهَا، أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مُطْلَقًا، وَيَنْوِيَ فِعْلَهُ أَوْ تَرْكَهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ: لَا أَتَغَدَّى. يَعْنِي الْيَوْمَ، أَوْ: لَآكُلَنَّ. يَعْنِي السَّاعَةَ. وَمِنْهَا، أَنْ يَنْوِيَ بِيَمِينِهِ غَيْرَ مَا يَفْهَمُهُ السَّامِعُ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَعَارِيضِ، فِي مَسْأَلَةِ إذَا تَأَوَّلَ فِي يَمِينِهِ فَلَهُ تَأْوِيلُهُ. وَمِنْهَا، أَنْ يُرِيدَ بِالْخَاصِّ الْعَامَّ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفُ: لَا شَرِبْت لِفُلَانٍ الْمَاءَ مِنْ الْعَطَشِ. يَنْوِي قَطْعَ كُلِّ مَا لَهُ فِيهِ مِنَّةٌ، أَوْ: لَا يَأْوِي مَعَ امْرَأَتِهِ فِي دَارٍ. يُرِيدُ جَفَاءَهَا بِتَرْكِ اجْتِمَاعِهَا مَعَهُ فِي جَمِيعِ الدُّورِ، أَوْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا. يُرِيدُ قَطْعَ مِنَّتَهَا بِهِ، فَيَتَعَلَّقُ يَمِينُهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، أَوْ بِثَمَنِهِ، مِمَّا لَهَا فِيهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 564 وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا عِبْرَةَ بِالنِّيَّةِ وَالسَّبَبِ فِيمَا يُخَالِفُ لَفْظَهُ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُخَالَفَةُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، وَالْيَمِينُ لَفْظُهُ، فَلَوْ أَحْنَثْنَاهُ عَلَى مَا سِوَاهُ، لَأَحْنَثْنَاهُ عَلَى مَا نَوَى لَا، عَلَى مَا حَلَفَ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ بِمُخَالَفَتِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ نَوَى بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَيَسُوغُهُ فِي اللُّغَةِ التَّعْبِيرُ بِهِ، عَنْهُ، فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ كَالْمَعَارِيضِ، وَبَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ، أَنَّهُ يَسُوغُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ بِالْخَاصِّ عَنْ الْعَامِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] . {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49] . {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] وَالْقِطْمِيرُ: لِفَافَةُ النَّوَاةِ. وَالْفَتِيلُ مَا فِي شِقِّهَا. وَالنَّقِيرُ: النُّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِهَا. وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، بَلْ نَفْيَ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ يَهْجُو بَنِي الْعَجْلَانِ: وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 565 وَلَمْ يُرِدْ الْحَبَّةَ بِعَيْنِهَا، إنَّمَا أَرَادَ لَا يَظْلِمُونَهُمْ شَيْئًا. وَقَدْ يُذْكَرُ الْعَامُّ، وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173]- يَعْنِي رَجُلًا وَاحِدًا -. {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] . يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] . وَلَمْ يُرِدْ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَلَا مَسَاكِنَهُمْ. وَإِذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ، وَجَبَ صَرْفُ الْيَمِينِ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى ". وَلِأَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ يُحْمَلُ عَلَى مُرَادِهِ، إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ كَلَامُ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحِنْثَ مُخَالَفَةُ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. قُلْنَا: وَهَذَا كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَفْظُهُ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ نِيَّةً مُجَرَّدَةً، بَلْ لَفْظٌ مَنْوِيٌّ بِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ. فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ انْصِرَافِ اللَّفْظِ إلَى مَا نَوَاهُ، احْتِمَالُ اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا، يَعْنِي بِهِ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا، فَإِنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْصَرِفُ إلَى الْمَنْوِيِّ؛ لِأَنَّهَا نِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ، لَا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِغَيْرِ يَمِينٍ. [مَسْأَلَةٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا رُجِعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا] (8073) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، رُجِعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا عَدِمَتْ النِّيَّةُ، نَظَرْنَا فِي سَبَبِ الْيَمِينِ، وَمَا أَثَارَهَا؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى النِّيَّةِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْوِي مَعَ امْرَأَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ غَيْظًا مِنْ جِهَةِ الدَّارِ، لِضَرَرٍ لَحِقَهُ مِنْهَا، أَوْ مِنَّةً عَلَيْهِ بِهَا، اخْتَصَّتْ بِيَمِينِهِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْظٍ لَحِقَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ يَقْتَضِي جَفَاءَهَا، وَلَا أَثَرَ لِلدَّارِ فِيهِ، تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِإِيوَائِهِ مَعَهَا فِي كُلِّ دَارٍ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، إنْ كَانَ سَبَبُهُ الْمِنَّةَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَكَيْفَمَا انْتَفَعَ بِهِ أَوْ بِثَمَنِهِ حَنِثَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 566 وَإِنْ كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ خُشُونَةَ غَزْلِهَا وَرَدَاءَتَهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِيَمِينِهِ لُبْسَهُ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْخِلَافِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى تَعَلُّقِ الْيَمِينُ بِمَا نَوَاهُ، وَالسَّبَبُ دَلِيلٌ عَلَى النِّيَّةِ، فَيَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ إذَا كَانَ خَاصًّا فِي شَيْءٍ لِسَبَبٍ عَامٍّ، تَعَدَّى إلَى مَا يُوجَدُ فِيهِ السَّبَبُ، كَتَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي أَعْيَانٍ سِتَّةٍ، أَثْبَتَ الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَاهَا، كَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّ مِثْلُهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا وَالسَّبَبُ خَاصًّا، مِثْلَ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ لَا يَتَغَدَّى، أَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ الْيَمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا، لِظُلْمٍ رَآهُ فِيهِ، فَزَالَ الظُّلْمُ؟ فَقَالَ: النَّذْرُ يُوفِي بِهِ. يَعْنِي لَا يَدْخُلُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا كَانَ عَامًّا، لِسَبَبٍ خَاصٍّ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، كَذَلِكَ يَمِينُ الْحَالِفِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَعَتَقَ الْعَبْدُ، وَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ، وَخَرَجَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَنْقُلُ حُكْمَ الْكَلَامِ إلَى نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَنْعَ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ مَعَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا دُمْتُمَا فِي مِلْكِي. وَلِأَنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ فِي الْخُصُوصِ، كَدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومِ وَلَوْ نَوَى الْخُصُوصَ لَاخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَلَوْ حَلَفَ لِعَامِلٍ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ فَعُزِلَ، أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَرَى مُنْكَرًا إلَّا رَفَعَهُ إلَى فُلَانٍ الْقَاضِي فَعُزِلَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ أَحَدُهُمَا: لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِعَزْلِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ، تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ الصِّفَةُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِعَزْلِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: رَفَعَهُ إلَيْهِ. إلَّا فِي حَالِ وِلَايَتِهِ. فَعَلَى هَذَا إنْ رَأَى الْمُنْكَرَ فِي وِلَايَتِهِ، فَأَمْكَنَهُ رَفْعُهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ إلَيْهِ حَتَّى عُزِلَ، لَمْ يَبَرَّ بِرَفْعِهِ إلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ مَعْزُولًا. وَهَلْ يَحْنَثُ بِعَزْلِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ رَفَعَهُ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوَاتُهُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَلِيَ فَيَرْفَعَهُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ فَوَاتُهُ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ إمْكَانِ رَفْعِهِ إلَيْهِ، حَنِثَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 567 عَبْدَهُ فِي غَدٍ، فَمَاتَ الْعَبْدُ الْيَوْمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَنْحَلُّ يَمِينُهُ بِعَزْلِهِ. فَرَفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، بَرَّ بِذَلِكَ. [فَصْلِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَالنِّيَّةُ فِي الْحَلِفِ] (8074) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَالنِّيَّةُ، مِثْلَ أَنْ امْتَنَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِغَزْلِهَا، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، يَنْوِي اجْتِنَابَ اللُّبْسِ خَاصَّةً، دُونَ الِانْتِفَاعِ بِثَمَنِهِ وَغَيْرِهِ، قُدِّمَتْ النِّيَّةُ عَلَى السَّبَبِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ وَافَقَتْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَإِنْ نَوَى بِيَمِينِهِ ثَوْبًا وَاحِدًا، فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُقَدَّمُ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَالسَّبَبُ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ الظَّاهِرَ وَيُقَوِّيهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الِامْتِنَانُ، وَظَاهِرُ حَالِهِ قَطْعُ النِّيَّةِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نِيَّتِهِ الْمُخَالِفَةِ لِلظَّاهِرَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْقَصْدِ، فَإِذَا خَالَفَ حَقِيقَةَ الْقَصْدِ، لَمْ يُعْتَبَرْ، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا لَفْظُهُ بِعُمُومِهِ، وَالنِّيَّةُ تَخُصُّهُ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى. [مَسْأَلَة حَلَفَ لَا يَسْكُنَ دَارًا هُوَ سَاكِنُهَا] (8075) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنَ دَارًا هُوَ سَاكِنُهَا، خَرَجَ مِنْ وَقْتِهِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ وَقْتِهِ، حَنِثَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ إنَّ سَاكِنَ الدَّارِ إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا، فَمَتَى أَقَامَ فِيهَا بَعْدَ يَمِينِهِ زَمَنًا يُمْكِنُهُ فِيهِ الْخُرُوجُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ السُّكْنَى كَابْتِدَائِهَا، فِي وُقُوعِ اسْمِ السُّكْنَى عَلَيْهَا، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: سَكَنْت هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا. كَمَا يَقُولُ: لَبِسْت هَذَا الثَّوْبَ شَهْرًا؟ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَإِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ رَحْلِهِ وَقُمَاشِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْقُلَ ذَلِكَ مَعَهُ، حَتَّى يَكُونَ مُنْتَقِلًا. وَيُحْكَى عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ إنْ أَقَامَ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الِانْتِقَالِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ. وَعَنْ زُفَرَ، أَنَّهُ قَالَ: يَحْنَثُ وَإِنْ انْتَقَلَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا عَقِيبَ يَمِينِهِ وَلَوْ لَحْظَةً، فَيَحْنَثُ بِهَا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لَا يُرَادُ بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا أَقَامَ زَمَنًا يُمْكِنُهُ الِانْتِقَالُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى، فَحَنِثَ بِهِ، كَمَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ، فَدَخَلَ إلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهَا، حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا؟ (8076) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ مَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْنَثُ. وَلَنَا، أَنَّ الِانْتِقَالَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ مِنْ هَذِهِ الْإِقَامَةِ، فَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 568 يَقَعُ الْيَمِينُ عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا، إنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فِي الْمَسْكَنِ مَعَ إمْكَانِ نَقْلِهِمْ عَنْهُ، حَنِثَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ الِانْتِقَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ الِانْتِقَالِ، فَلَيْسَ بِسَاكِنٍ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ السُّكْنَى وَحْدَهُ دُونَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ السُّكْنَى تَكُونُ بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ سَاكِنُ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ. وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ بِنَفْسِهِ. وَإِذَا نَزَلَ بَلَدًا بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ يُقَالُ: سَكَنَهُ. وَلَوْ نَزَلَهُ بِنَفْسِهِ، لَا يُقَالُ: سَكَنَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ نَوَى السُّكْنَى بِنَفْسِهِ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ إلَى مَكَان لِيَنْقُلَ أَهْلَهُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَنْوِ السُّكْنَى بِنَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ خَرَجَ يَشْتَرِي مَتَاعًا. وَإِنْ خَرَجَ عَازِمًا عَلَى السُّكْنَى بِنَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا عَنْ أَهْلِهِ الَّذِي فِي الدَّارِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ اعْتَبَرَ نَقْلَ عِيَالِهِ دُونَ مَالِهِ. وَالْأَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ بِأَهْلِهِ، فَسَكَنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ بَقِيَ مَتَاعُهُ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ مَسْكَنَهُ حَيْثُ حَلَّ أَهْلُهُ بِهِ، وَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا لَهَا، فَنَزَلَهَا بِأَهْلِهِ نَاوِيًا لِلسُّكْنَى بِهَا، حَنِثَ وَقَالَ. الْقَاضِي: إنْ نَقَلَ إلَيْهَا مَا يَتَأَثَّثُ بِهِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَهُوَ سَاكِنٌ وَإِنْ سَكَنَهَا بِنَفْسِهِ. (8077) فَصْلٌ: وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْمُقَامِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فِي وَقْتٍ لَا يَجِدُ مَنْزِلًا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ، أَوْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ أَبْوَابٌ مُغْلَقَةٌ لَا يُمْكِنُهُ فَتْحُهَا، أَوْ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، فَأَقَامَ فِي طَلَبِ النَّقْلَةِ، أَوْ انْتِظَارًا لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْهَا، أَوْ خَرَجَ طَالِبًا لِلنَّقْلَةِ فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَجِدْ مَسْكَنًا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ، لِتَعَذُّرِ الْكِرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ بَهَائِمَ يَنْتَقِلُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلَةُ بِدُونِهَا، فَأَقَامَ نَاوِيًا، لِلنَّقْلَةِ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهَا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَقَامَ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّقْلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَسْكَنًا لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ أَهْلِهِ، وَإِلْقَاءُ مَتَاعِهِ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَالْمُقِيمِ لِلْإِكْرَاهِ. وَإِنْ أَقَامَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، غَيْرَ نَاوٍ لِلنَّقْلَةِ، حَنِثَ، وَيَكُونُ نَقْلُهُ لِمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَلَوْ كَانَ ذَا مَتَاعٍ كَثِيرٍ، فَنَقَلَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى الْعَادَةِ، بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ النَّقْلَ الْمُعْتَادَ، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ أَيَّامًا، وَلَا يَلْزَمُهُ جَمْعُ دَوَابِّ الْبَلَدِ لِنَقْلِهِ، وَلَا النَّقْلَةُ بِاللَّيْلِ، وَلَا وَقْتَ الِاسْتِرَاحَةِ عَنَدَ التَّعَبِ، وَلَا أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 569 الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِالنَّقْلِ فِيهَا، وَلَوْ ذَهَبَ رَحْلُهُ أَوْ أَوْدَعَهُ أَوْ أَعَارَهُ وَخَرَجَ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ يَدَهُ زَالَتْ عَنْ الْمَتَاعِ. وَإِنْ تَرَدَّدَ إلَى الدَّارِ لِنَقْلِ الْمَتَاعِ، أَوْ عَائِدًا لِمَرِيضٍ، أَوْ زَائِرًا لِصَدِيقٍ، لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ دَخَلَهَا وَمِنْ رَأْيِهِ الْجُلُوسُ عِنْدَهُ، حَنِثَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِسُكْنَى، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَسْكُنَنَّ دَارًا، لَمْ يَبَرَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يُسَمَّى سَاكِنًا بِهِ بِهَذَا الْعُذْرِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ الْجُلُوسَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الدَّارِ امْرَأَةٌ أَوْ عَائِلَةٌ، فَأَرَادَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، وَالِانْتِقَالِ عَنْهَا، فَأَبَوْا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُهُمْ، فَخَرَجَ وَتَرَكَهُمْ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْلُهُ مِنْ رَحْلِهِ. [فَصْلِ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا] (8078) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا، فَالْحُكْمُ فِي الِاسْتِدَامَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَلِفِ عَلَى السُّكْنَى. وَإِنْ انْتَقَلَ أَحَدُهُمَا، وَبَقِيَ الْآخَرُ، لَمْ يَحْنَثَ؛ لِزَوَالِ الْمُسَاكَنَةِ. وَإِنْ سَكَنَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِي بَيْتٍ ذِي بَابٍ وَغَلْقٍ، رُجِعَ إلَى بَيْتِهِ بِيَمِينِهِ أَوْ إلَى سَبَبِهَا، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرَائِنُ أَحْوَالِهِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَى الْمُسَاكَنَةِ فِيهِ، فَإِنْ عَدِمَ ذَلِكَ كُلُّهُ، حَنِثَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الدَّارُ صَغِيرَةً، فَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا فِي الْبَيْتِ، وَالْآخَرُ فِي الصُّفَّةِ، أَوْ كَانَا فِي صُفَّتَيْنِ أَوْ بَيْتَيْنِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَلْقٌ، دُونَ صَاحِبِهِ، فَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ. وَإِنْ كَانَا فِي بَيْتَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ غَلْقٌ، أَوْ كَانَا فِي خَانٍ، فَلَيْسَا مُتَسَاكَنِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِمَسْكَنِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَأَشْبَهَا الْمُتَجَاوِرَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِمَسْكَنِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَا مُتَسَاكِنَيْنِ، كَالصَّغِيرَةِ، وَفَارَقَ الْمُتَجَاوِرَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لَيْسَا مُتَسَاكِنَيْنِ، وَيَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْمُسَاكَنَةِ، لَا عَلَى الْمُجَاوَرَةِ. وَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ حَالَةَ الْيَمِينِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا، وَقَسَمَاهَا حُجْرَتَيْنِ، وَفَتَحَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا، وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، ثُمَّ سَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُجْرَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَسَاكِنَيْنِ. وَإِنْ تَشَاغَلَا بِبِنَاءِ الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاكَنَا قَبْلَ انْفِرَادِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا (8079) . فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ: لَا سَاكَنْت فُلَانًا فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَقَسَمَاهَا حُجْرَتَيْنِ، وَبَنَيَا بَيْنَهُمَا حَائِطًا، وَفَتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ بَابًا، ثُمَّ سَكَنَا فِيهِمَا، لَمْ يَحْنَثْ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِكَوْنِهِ عَيْنَ الدَّارِ، فَلَا يَنْحَلُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 570 بِتَغَيُّرِهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَصَارَتْ نَصًّا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَاكِنْهُ فِيهَا، لِكَوْنِ الْمُسَاكَنَةِ فِي الدَّارِ لَا تَحْصُلُ مَعَ كَوْنِهِمَا دَارَيْنِ،، وَفَارَقَ الدُّخُولَ، فَإِنَّهُ دَخَلَهَا مُتَغَيِّرَةً. [فَصْلٌ حَلَفَ لَيَخْرُجْنَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ] (8080) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، اقْتَضَتْ يَمِينُهُ الْخُرُوجَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنْهَا وَإِنَّ حَلَفَ لَيَخْرُجْنَ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، تَنَاوَلَتْ يَمِينُهُ الْخُرُوجَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ يَخْرُجُ مِنْهَا صَاحِبُهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّاتٍ عَادَةً، فَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْخُرُوجَ الْمُعْتَادَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخُرُوجَ الَّذِي هُوَ النَّقْلَةُ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَإِذَا خَرَجَ الْحَالِفُ، فَهَلْ لَهُ الْعَوْدُ فِيهِ؟ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْعَوْدِ وَلَا يَحْنَثُ بِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْخُرُوجِ وَقَدْ خَرَجَ، فَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ، لِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ فِيمَا بَعْدُ. وَالثَّانِيَةُ، يَحْنَثُ بِالْعَوْدِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ قَصْدُ هِجْرَانِ مَا حَلَفَ عَلَى الرَّحِيلِ مِنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْعَوْدِ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ سَبَبًا هَيَّجَ يَمِينَهُ، أَوْ دَلَّتْ قَرِينَةُ حَالِهِ عَلَى إرَادَتِهِ هِجْرَانَهُ، أَوْ نَوَى ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، فَاقْتَضَتْ يَمِينُهُ دَوَامَ اجْتِنَابِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْعَوْدِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُحْمَلُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَمُقْتَضَاهُ هَاهُنَا الْخُرُوجُ، وَقَدْ فَعَلَهُ، فَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا حَلَفَ عَلَى الرَّحِيلِ مِنْهَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى الرَّحِيلِ مِنْ بَلَدٍ، لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِالرَّحِيلِ بِأَهْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَحُمِلَ فَأُدْخِلَهَا] (8081) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَحُمِلَ فَأُدْخِلَهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ، لَمْ يَحْنَثْ) نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ هَذَا، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مِنْهُ، وَلَا مَنْسُوبٍ إلَيْهِ. وَإِنْ حُمِلَ بِأَمْرِهِ، فَأُدْخِلَهَا، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مُخْتَارًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ رَاكِبًا. وَإِنْ حُمِلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَكِنَّهُ أَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ، حَنِثَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهَا غَيْرَ مُكْرَهٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حُمِلَ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي الْحِنْثِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الدُّخُولَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ. وَمَتَى دَخَلَ بِاخْتِيَارِهِ، حَنِثَ، سَوَاءٌ كَانَ مَاشِيًا، أَوْ رَاكِبًا، أَوْ مَحْمُولًا، أَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَاءٍ فَجَرَّهُ إلَيْهَا، أَوْ سَبَحَ فِيهِ فَدَخَلَهَا، وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا مِنْ بَابِهَا، أَوْ تَسَوَّرَ حَائِطَهَا، أَوْ دَخَلَ مِنْ طَاقَةٍ فِيهَا، أَوْ نَقَبَ حَائِطًا، وَدَخَلَ مِنْ ظَهْرِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (8082) فَصْلٌ: وَإِنْ أُكْرِهْ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ عَلَى دُخُولِهَا، فَدَخَلَهَا، لَمْ يَحْنَثْ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ، قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 571 وَفِي الْآخَرِ يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ. لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَدَخَلَهَا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ دَخَلَهَا مُكْرَهًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حُمِلَ مُكْرَهًا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَيَخْرُجْنَ مِنْ الدَّارِ فَصَعِدَ سَطْحَهَا] (8083) فَصْلٌ: وَإِنْ رُقِّيَ فَوْقَ سَطْحِهَا، حَنِثَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ. وَلِأَصْحَابِهِ فِيمَا إذَا كَانَ السَّطْحُ مُحَجَّرًا وَجْهَانِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ السَّطْحَ يَقِيهَا الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَيُحْرِزُهَا، فَهُوَ كَحِيطَانِهَا. وَلَنَا، أَنَّ سَطْحَ الدَّارِ مِنْهَا، وَحُكْمُهُ حُكْمُهَا سَوَاءً، فَحَنِثَ بِدُخُولِهِ، كَالْمُحَجَّرِ، أَوْ كَمَا لَوْ دَخَلَ بَيْنَ حِيطَانِهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَيُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ الدَّارِ، فَصَعِدَ سَطْحَهَا، لَمْ يَبَرَّ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا، فَصَعِدَ سَطْحَهَا، لَمْ يَحْنَثْ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُدُودِ الدَّارِ، وَمَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهَا، وَيُمْلَكُ بِشِرَائِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهَا بِبَيْعِهَا، وَالْبَائِتُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: بَاتَ فِي دَارِهِ. وَبِهَذَا يُفَارِقُ مَا وَرَاءَ حَائِطِهَا. وَإِنْ كَانَ فِي الْيَمِينِ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِرَادَةِ بِدَاخِلِ الدَّارِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ سَطْحُ الدَّارِ طَرِيقًا، وَسَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي تَرْكَ صِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُرُورِ عَلَى سَطْحِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى بِيَمِينِهِ بَاطِنَ الدَّارِ، تَقَيَّدَتْ يَمِينُهُ بِمَا نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا نَوَاهُ. (8084) فَصْلٌ: فَإِنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ فِي الدَّارِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ صَعِدَ حَتَّى صَارَ فِي مُقَابَلَةِ سَطْحِهَا بَيْنَ حِيطَانِهَا، حَنِثَ. وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ بَيْنَ حِيطَانِهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ فِي هَوَائِهَا، وَهَوَاؤُهَا مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَ عَلَى سَطْحِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَاخِلًا، وَلَا هُوَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ فِي غَيْرِ الدَّارِ، فَتَعَلَّقَ بِفَرْعٍ مَادٍّ عَلَى الدَّارِ فِي مُقَابَلَةِ سَطْحِهَا. وَإِنْ قَامَ عَلَى حَائِطِ الدَّارِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا إنَّهُ يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَدِّهَا، فَأَشْبَهَ الْقَائِمَ عَلَى سَطْحِهَا. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دُخُولًا. وَإِنْ قَامَ فِي طَبَقِ الْبَابِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حَائِطِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا قَامَ عَلَى الْعَتَبَةِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْبَابَ إذَا أُغْلِقَ حَصَلَ خَارِجًا مِنْهَا، وَلَا يُسَمَّى دَاخِلًا فِيهَا. [فَصْل حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِي الدَّارِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا مَنْقُولًا] (8085) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِي الدَّارِ، فَدَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا، مَنْقُولًا أَوْ حَافِيًا، حَنِثَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ دَخَلَهَا رَاكِبًا، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ فِيهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 572 وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ الدَّارَ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ دَخَلَهَا مَاشِيًا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ فِيهَا، فَإِنَّ قَدَمَهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الدَّابَّةِ فِيهَا. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَهَا مُنْتَعِلًا. وَعَلَى أَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِنَابِ الدُّخُولِ، فَتُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَجَازٌ لَا يُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. قُلْنَا: الْمَجَازُ إذَا اشْتَهَرَ، صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، فَيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ إلَيْهِ، كَلَفْظِ الرِّوَايَةِ وَالدَّابَّةِ، وَغَيْرِهِمَا. [فَصْل حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ بَابِهَا فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَابِ] (8086) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ بَابِهَا، فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَابِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْبَابِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ يَحْنَثَ إذَا أَرَادَ بِيَمِينِهِ اجْتِنَابَ الدَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَابِ سَبَبٌ هَيَّجَ يَمِينَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْوِي مَعَ زَوْجَتِهِ فِي دَارٍ، فَآوَى مَعَهَا فِي غَيْرِهَا. وَإِنْ حُوِّلَ بَابُهَا فِي مَكَان آخَرَ، فَدَخَلَ فِيهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهَا مِنْ بَابِهَا. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ حَلَفَ: لَا دَخَلْت مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ. فَكَذَلِكَ. وَإِنْ جُعِلَ لَهَا بَابٌ آخَرُ، مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ، فَدَخَلَ مِنْهُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مِنْ بَابِ الدَّارِ. وَإِنْ قُلِعَ الْبَابُ، وَنُصِبَ فِي دَارٍ أُخْرَى، وَبَقِيَ الْمَمَرُّ، حَنِثَ بِدُخُولِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي نُصِبَ فِيهِ الْبَابُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي الْمَمَرِّ لَا مِنْ الْمِصْرَاعِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ دَارًا يَسْكُنُهَا بِأُجْرَةِ] (8087) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ، فَدَخَلَ دَارًا مَمْلُوكَةً لَهُ، أَوْ دَارًا يَسْكُنُهَا بِأُجْرَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ غَصْبٍ، حَنِثَ. وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِدُخُولِ دَارٍ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَالِكِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ. كَانَ مُقِرًّا لَهُ بِمِلْكِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ يَسْكُنُهَا. لَمْ يُقْبَلْ. وَلَنَا، أَنَّ الدَّارَ تُضَافُ إلَيَّ سَاكِنِهَا، كَإِضَافَتِهَا إلَى مَالِكِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . أَرَادَ بُيُوتَ أَزْوَاجِهِنَّ الَّتِي يَسْكُنُهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] . وَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَكَذَلِكَ يُضَافُ الرَّجُلُ إلَى أَخِيهِ بِالْأُخُوَّةِ، وَإِلَى أَبِيهِ بِالْبُنُوَّةِ، وَإِلَى وَلَدِهِ بِالْأُبُوَّةِ، وَإِلَى امْرَأَتِهِ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَسَاكِنُ الدَّارِ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَكَانَتْ إضَافَتُهَا إلَيْهِ صَحِيحَةً، وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعُرْفِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِدُخُولِهَا، كَالْمَمْلُوكَةِ لَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ. مَجَازٌ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مَجَازًا، لَكِنَّهُ مَشْهُورٌ، فَيَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ رِوَايَةِ فُلَانٍ. فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ مِنْ مَزَادَتِهِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذِهِ دَارُ زَيْدٍ وَفَسَّرَ إقْرَارَهُ بِسُكْنَاهَا، احْتَمَلَ أَنْ نَقُولَ: يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 573 وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ قَرِينَةَ الْإِقْرَارِ تَصْرِفُهُ إلَى الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ: لَا دَخَلْت مَسْكَنَ زَيْدٍ. حَنِثَ بِدُخُولِهِ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْمَسْكَنُ لِزَيْدٍ. كَانَ مُقِرًّا لَهُ بِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ نَظِيرَةُ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً اسْتَأْجَرَهَا فُلَانٌ] (8088) فَصْلٌ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ، فَرَكِبَ دَابَّةً اسْتَأْجَرَهَا فُلَانٌ، حَنِثَ وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً اسْتَعَارَهَا، لَمْ يَحْنَثْ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَكِبَ دَابَّةً غَصَبَهَا فُلَانٌ. وَفَارَقَ مَسْأَلَةَ الدَّارِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي الدَّارِ لِكَوْنِهِ اسْتَعَارَهَا، وَلَا غَصَبَهَا، وَإِنَّمَا حَنِثَ لِسُكْنَاهُ بِهَا، فَأُضِيفَتْ الدَّارُ إلَيْهِ لِذَلِكَ، وَلَوْ غَصَبَهَا أَوْ اسْتَعَارَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْكُنَهَا، لَمْ تَصِحَّ إضَافَتُهَا إلَيْهِ، وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ، فَيَكُونُ كَمُسْتَعِيرِ الدَّابَّةِ وَغَاصِبِهَا سَوَاءً. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ هَذَا الْعَبْدِ وَلَا يَرْكَبُ دَابَّتَهُ وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ فَدَخَلَ دَارًا جُعِلَتْ بِرَسْمِهِ] (8089) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ هَذَا الْعَبْدِ، وَلَا يَرْكَبُ دَابَّتَهُ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ، فَدَخَلَ دَارًا جُعِلَتْ بِرَسْمِهِ، أَوْ رَكِبَ دَابَّةً جُعِلَتْ بِرَسْمِهِ، أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا جُعِلَ بِرَسْمِهِ، حَنِثَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَيُخَصُّ هَذَا الْفَصْلُ بِأَنَّ الْمِلْكِيَّةَ لَا تُمْكِنُ هَاهُنَا، وَلَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَاهَا، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْإِضَافَةِ هَاهُنَا عَلَى إضَافَةِ الِاخْتِصَاصِ دُونَ الْمِلْكِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارَ عَبْدِهِ، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ دَارَ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ السَّيِّدِ، وَلَا يَرْكَبُ دَابَّتَهُ، فَلَبِسَ ثَوْبَ عَبْدِهِ، وَرَكِبَ دَابَّتَهُ، حَنِثَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِهِمَا أَخَصُّ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لِلسَّيِّدِ، فَتَنَاوَلَهُمَا يَمِينُ الْحَالِفِ، كَالدَّارِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالدَّارِ. [مَسْأَلَة حَلَفَ لَا يَدْخُلَ دَارًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ رَأْسَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ] (8090) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلَ دَارًا، فَأَدْخَلَ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ رَأْسَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، حَنِثَ. وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَدْخُلَ، لَمْ يَبَرَّ حَتَّى يَدْخُلَ بِجَمِيعِهِ، أَمَّا إذَا حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا، لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِفِعْلِ جَمِيعِهِ، وَالدُّخُولِ إلَيْهَا بِجُمْلَتِهِ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنَاوَلَتْ فِعْلَ الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى بِفِعْلِ شَيْءٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ إخْبَارٌ بِفِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ، وَالْخَبَرُ بِفِعْلِ شَيْءٍ يَقْتَضِي فِعْلَهُ كُلَّهُ، فَأَمَّا إنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلَ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهُ، وَلَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَ بَعْضَهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 574 إحْدَاهُمَا، لَا يَحْنَثُ. حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَاقْتَضَتْ الْمَنْعَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهُ، كَالنَّهْيِ، فَنَظِيرُ الْحَالِفِ عَلَى الدُّخُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] . {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] . فَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا إلَّا بِدُخُولِ جُمْلَتِهِ، وَنَظِيرُ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] . وَقَوْلُهُ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] . لَا يَكُونُ الْمَنْهِيُّ مُمْتَثِلًا إلَّا بِتَرْكِ الدُّخُولِ كُلِّهِ، فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ، لَا يَبْرَأُ إلَّا بِتَرْكِهِ كُلِّهِ، فَمَتَى أَدْخَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مُخَالِفًا، كَالْمَنْهِيِّ عَنْ الدُّخُولِ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ يَقْصِدُ الْحَمْلَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ الْمَنْعَ مِنْهُ، وَالْحَالِفُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ ذَلِكَ، فَكَانَا سَوَاءً، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْآمِرَ بِالْفِعْلِ أَوْ الْحَالِفَ عَلَيْهِ، يَقْصِدُ فِعْلَ الْجَمِيعِ، فَلَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا وَلَا بَارًّا إلَّا بِفِعْلِهِ كُلِّهِ، وَالنَّاهِيَ وَالْحَالِفَ عَلَى التَّرْكِ، يَقْصِدُ تَرْكَ الْجَمِيعِ، فَلَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا وَلَا بَارًّا إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ، وَفَاعِلُ الْبَعْضِ مَا فَعَلَ الْجَمِيعَ، وَلَا تَرَكَ الْجَمِيعَ، فَلَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَلَا النَّهْيِ، وَلَا بَارًّا بِالْحَلِفِ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا التَّرْكِ. وَالرِّوَايَةُ، الثَّانِيَةُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَنْ يَدْخُلَ كُلُّهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَحَنْبَلٍ، فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَدْخُلُ بَيْتَ أَخِيهَا: لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ كُلُّهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: كُلِّي أَوْ بَعْضِي؟ لِأَنَّ الْكُلَّ لَا يَكُونُ بَعْضًا، وَالْبَعْضُ لَا يَكُونُ كُلًّا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، فَفَعَلَ بَعْضَهُ، لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَفْعَلَهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَتُرَجِّلُهُ وَهِيَ حَائِضٌ. وَالْمُعْتَكِفُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَالْحَائِضُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " إنِّي لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُعَلِّمَكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 575 سُورَةً "، فَلَمَّا أَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ عَلَّمَهُ إيَّاهَا. وَلِأَنَّ يَمِينَهُ تَعَلَّقَتْ بِالْجَمِيعِ، فَلَمْ تَنْحَلَّ بِالْبَعْضِ، كَالْإِثْبَاتِ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ، فَأَمَّا إنْ نَوَى الْجَمِيعَ أَوْ الْبَعْضَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى. وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهِ، فَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا شَرِبْت هَذَا النَّهْرَ، أَوْ هَذِهِ الْبِرْكَةَ. تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِبَعْضِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمِيعِ مُمْتَنِعٌ، فَلَا يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ الْخُبْزَ، وَلَا أَشْرَبُ الْمَاءَ. وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا عُلِّقَ عَلَى اسْمِ جِنْسٍ، أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى اسْمِ جَمْعٍ، كَالْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالْبَعْضِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَسَلَّمَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي اسْمِ الْجِنْسِ دُونَ الْجَمْعِ. وَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَى اسْمِ جِنْسٍ مُضَافٍ، كَمَاءِ النَّهْرِ، حَنِثَ أَيْضًا بِفِعْلِ الْبَعْضِ، إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ شُرْبُهُ كُلُّهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْآخَرُ، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي جَمِيعَهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِبَعْضِهِ، كَمَاءِ الْإِدَاوَةِ. وَلَنَا؛ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ شُرْبُ جَمِيعِهِ، فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِبَعْضِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَكَلَّمَ بَعْضَهُمْ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَاءَ الْإِدَاوَةِ، وَإِنْ نَوَى بِيَمِينِهِ فِعْلَ الْجَمِيعِ، أَوْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا صُمْت يَوْمًا. لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكْمِلَهُ. وَإِنْ حَلَفَ: لَا صَلَّيْت صَلَاةً، وَلَا أَكَلْت أَكْلَةً. لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكْمِلَ الصَّلَاةَ وَالْأَكْلَةَ. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إنْ حِضْتُمَا، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى تَحِيضَا كِلْتَاهُمَا فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ فِعْلَ الْجَمِيعِ، فَوَجَبَ تَعَلُّقُ الْيَمِينِ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا صُمْت يَوْمًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ: إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَلُقَتْ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا حَلَفَ: لَا صَلَّيْت صَلَاةً. لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا يُسَمَّى صَلَاةً. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي، وَلَا يَصُومُ، حَنِثَ فِي الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الصِّيَامِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ إذَا نَوَى الصِّيَامَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الصِّيَامِ، وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَسْجُدَ سَجْدَةً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 576 وَلَنَا، أَنَّهُ يُسَمَّى مُصَلِّيًا بِدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَحَنِثَ بِهِ، كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَةً، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ الصِّيَامَ يَشْرَعُ فِيهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَلَا يَحْنَثُ فِي الصِّيَامِ حَتَّى يَصُومَ يَوْمًا كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِمُفْرَدِهِ صَوْمًا وَلَا صَلَاةً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةٌ وَصِيَامٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ إتْمَامُهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَفْسَدَ ذَلِكَ: بَطَلَ صَوْمُهُ وَصَلَاتُهُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ] (8091) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ، نَزَعَهُ مِنْ وَقْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، حَنِثَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا هُوَ لَابِسُهُ، فَإِنْ نَزَعَهُ فِي الْحَالِ وَإِلَّا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً هُوَ رَاكِبُهَا، فَإِنْ نَزَلَ فِي أَوَّلِ حَالَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِلَّا حَنِثَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ حَتَّى يَبْتَدِئَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَطَهَّرُ، فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ. كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا، أَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ تُسَمَّى لُبْسًا وَرُكُوبًا، وَيُسَمَّى بِهِ لَابِسًا وَرَاكِبًا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لَبِسْت هَذَا الثَّوْبَ شَهْرًا، وَرَكِبْت دَابَّتِي يَوْمًا. فَحَنِثَ، بِاسْتِدَامَتِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ، فَاسْتَدَامَ السُّكْنَى، وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ هَذَا فِي الْإِحْرَامِ، حَيْثُ حَرَّمَ لُبْسَ الْمَخِيطِ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي اسْتِدَامَتِهِ، كَمَا أَوْجَبَهَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَفَارَقَ التَّزْوِيجَ، فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ، فَلَا يُقَالُ: تَزَوَّجْت شَهْرًا. وَإِنَّمَا يُقَالُ: مُنْذُ شَهْرٍ. وَلِهَذَا لَمْ تَحْرُمْ اسْتِدَامَتُهُ فِي الْإِحْرَامِ كَابْتِدَائِهِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَطَيَّبُ وَلَا يَتَطَهَّرُ فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ] (8092) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ، وَلَا يَتَطَيَّبُ، وَلَا يَتَطَهَّرُ، فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى مُسْتَدِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ اسْمُ الْفِعْلِ، فَلَا يُقَالُ: تَزَوَّجْت شَهْرًا. وَلَا: تَطَهَّرْت شَهْرًا. وَلَا: تَطَيَّبْت شَهْرًا. وَإِنَّمَا يُقَالُ: مُنْذُ شَهْرٍ. وَلَمْ يُنَزِّلْ الشَّارِعُ اسْتِدَامَةَ التَّزْوِيجِ وَالطِّيبِ مَنْزِلَةَ ابْتِدَائِهَا فِي تَحْرِيمِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلَ دَارًا هُوَ فِيهَا فَأَقَامَ فِيهَا] (8093) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلَ دَارًا هُوَ فِيهَا، فَأَقَامَ فِيهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمُقَامِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَابْتِدَائِهِ فِي التَّحْرِيمِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ: لَا دَخَلْت أَنَا وَأَنْتِ هَذِهِ الدَّارَ. وَهُمَا جَمِيعًا فِيهَا، قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَا يُسْتَعْمَلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 577 فِي الِاسْتِدَامَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: دَخَلْتهَا مُنْذُ شَهْرٍ. وَلَا يُقَالُ: دَخَلْتهَا شَهْرًا. فَجَرَى مَجْرَى التَّزْوِيجِ، وَلِأَنَّ الدُّخُولَ الِانْفِصَالُ مِنْ خَارِجٍ إلَى دَاخِلٍ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْإِقَامَةِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ أَحْنَثَهُ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْحَالِفِ أَنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَ الدَّارِ وَمُبَايَنَتَهَا، وَالْإِقَامَةُ فِيهَا تُخَالِفُ ذَلِكَ، فَجَرَى مَجْرَى الْحَالِفِ عَلَى تَرْكِ السُّكْنَى بِهَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يُضَاجِعُ امْرَأَتَهُ عَلَى فِرَاشٍ وَهُمَا مُتَضَاجِعَانِ فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ] (8094) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يُضَاجِعُ امْرَأَتَهُ عَلَى فِرَاشٍ، وَهُمَا مُتَضَاجِعَانِ، فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُضَاجَعَةَ تَقَعُ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: اضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ لَيْلَةً. وَإِنْ كَانَ هُوَ مُضْطَجِعًا عَلَى الْفِرَاشِ وَحْدَهُ، فَاضْطَجَعَتْ عِنْدَهُ عَلَيْهِ نَظَرْت؛ فَإِنْ قَامَ لِوَقْتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ اسْتَدَامَ، حَنِثَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ، وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَتَمَّ يَوْمَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَقَعُ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ، يُقَالُ: صَامَ يَوْمًا. لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَبَانَ أَنَّهُ يَوْمُ الْعِيدِ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ اسْتِدَامَتُهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَافِرُ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَأَخَذَ فِي الْعَوْدِ أَوْ أَقَامَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ مَضَى فِي سَفَرِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ سَفَرٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ: سَافَرْت شَهْرًا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَكَانَ رِدَاءً فِي حَالِ حَلِفِهِ فَارْتَدَى بِهِ] (8095) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَكَانَ رِدَاءً فِي حَالِ حَلِفِهِ، فَارْتَدَى بِهِ، أَوْ ائْتَزَرَ، أَوْ اعْتَمَّ بِهِ، أَوْ جَعَلَهُ قَمِيصًا، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَبَاءً، وَلَبِسَهُ، حَنِثَ، وَكَذَلِكَ إنَّ كَانَ قَمِيصًا فَارْتَدَى بِهِ، أَوْ سَرَاوِيلَ فَأْتَزَرَ بِهِ، حَنِثَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَبِسَهُ. وَإِنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ: لَا أَلْبَسُهُ، وَهُوَ رِدَاءٌ. فَغَيَّرَهُ عَنْ كَوْنِهِ رِدَاءً، وَلَبِسَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَقَعَتْ عَلَى تَرْكِ لُبْسِهِ رِدَاءً. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت شَيْئًا. فَلَبِسَ قَمِيصًا، أَوْ عِمَامَةً، أَوْ قَلَنْسُوَةً، أَوْ دِرْعًا، أَوْ جَوْشَنًا أَوْ خُفًّا، أَوْ نَعْلًا، حَنِثَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِي الْخُفِّ وَالنَّعْلِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَحْنَثُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَلْبُوسٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، فَحَنِثَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُفَّيْنِ، فَلَبِسَهُمَا. وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّك تَلْبَسُ هَذَا النِّعَالَ؟ قَالَ: إنِّي رَأَيْت رَسُولَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 578 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهُمَا. فَإِنْ تَرَكَ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رِجْلِهِ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْخُفِّ أَوْ النَّعْلِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلُبْسٍ لَهُمَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَيُلْبِسَنَّ امْرَأَتَهُ حُلِيًّا فَأَلْبَسَهَا خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ مِخْنَقَةً مِنْ لُؤْلُؤٍ أَوْ جَوْهَرٍ وَحْدَهُ] (8096) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَيُلْبِسَنَّ امْرَأَتَهُ حُلِيًّا، فَأَلْبَسَهَا خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ مِخْنَقَةً مِنْ لُؤْلُؤٍ، أَوْ جَوْهَرٍ وَحْدَهُ، بَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ وَحْدَهُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى لِلْبَحْرِ الشَّرْقِيِّ: إنِّي جَاعِلٌ فِيكَ الْحِلْيَةَ وَالصَّيْدَ وَالطَّيِّبَ وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ حُلِيٌّ إذَا كَانَتْ سِوَارًا أَوْ خَلْخَالًا، فَكَانَتْ حُلِيًّا إذَا كَانَتْ خَاتَمًا، كَالذَّهَبِ، وَالْجَوْهَرُ وَاللُّؤْلُؤُ حُلِيٌّ مَعَ غَيْرِهِ، فَكَانَ حُلِيًّا وَحْدَهُ، كَالذَّهَبِ. فَإِنْ أَلْبَسَهَا عَقِيقًا، أَوْ سَبَجًا، لَمْ يَبَرَّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ بَرَّ، وَفِي غَيْرِهِمْ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُلِيٌّ فِي عُرْفِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ، فَلَا يَبَرُّ بِهِ، كَالْوَدَعِ، وَخَرَزِ الزُّجَاجِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْوَدَعِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا، فَلَبِسَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فِي مُرْسَلَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا لَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ إذَا لَمْ يَلْبَسْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا لَبِسَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 579 وَالثَّانِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ لَبِسَهُ، فَكَانَ حُلِيًّا، كَالسِّوَارِ وَالْخَاتَمِ. وَإِنْ لَبِسَ سَيْفًا مُحَلًّى، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ لَيْسَ بِحُلِيٍّ. وَإِنْ لَبِسَ مِنْطَقَةً مُحَلَّاةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ لَهَا دُونَهُ، فَأَشْبَهَ السَّيْفَ الْمُحَلَّى. وَالثَّانِي، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ، وَلَا يُقْصَدُ بِلُبْسِهَا مُحَلَّاةً فِي الْغَالِبِ إلَّا التَّجَمُّلُ بِهَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَاتَمًا، فَلَبِسَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ مِنْ أَصَابِعِهِ، حَنِثَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَقْتَضِي لُبْسًا مُعَيَّنًا، مُعْتَادًا، وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَادًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْخَلَ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رِجْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَابِسٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ لُبْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ، وَأَمَّا إدْخَالُ الْقَلَنْسُوَةِ فِي رِجْلِهِ، فَهُوَ عَبَثٌ وَسَفَهٌ، بِخِلَافِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِنْصَرِ وَغَيْرِهَا، إلَّا مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاحُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْخِنْصَرِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ فَأَكَلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَبَكْرٌ] (8097) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَأَكَلَ طَعَامًا، اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَبَكْرٌ، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالشِّرَاءِ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ احْتِمَالًا؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِشِرَائِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَلَبِسَ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ هُوَ وَغَيْرُهُ. وَلَنَا، أَنَّ زَيْدًا مُشْتَرٍ لِنِصْفِهِ، وَهُوَ طَعَامٌ، وَقَدْ أَكَلَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، ثُمَّ خَلَطَهُ بِمَا اشْتَرَاهُ عَمْرٌو، فَأَكَلَ الْجَمِيعَ، وَأَمَّا الثَّوْبُ، فَلَا نُسَلِّمُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نِصْفَ الثَّوْبِ لَيْسَ بِثَوْبٍ، وَنِصْفُ الطَّعَامِ طَعَامٌ، وَقَدْ أَكَلَهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ. وَإِنْ اشْتَرَى زَيْدٌ نِصْفَهُ مُشَاعًا، أَوْ اشْتَرَى نِصْفَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ بَاقِيَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، حَنِثَ. وَالْخِلَافُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ اشْتَرَى زَيْدٌ نِصْفَهُ مُعَيَّنًا، ثُمَّ خَلَطَهُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ، فَأَكَلَ الْجَمِيعَ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، حَنِثَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ يَقِينًا. وَإِنْ أَكَلَ نِصْفَهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ انْفِرَادُ مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْحِنْثُ ظَاهِرًا ظُهُورًا كَثِيرًا. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحِنْثِ، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَكْلَهُ مِمَّا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَحْنَثُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 580 فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرَةً، فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَاحِدَةً، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ أَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، ثُمَّ بَاعَهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ، حَنِثَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ غَيْرِهَا] (8098) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ، فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ غَيْرِهَا، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، وَغَزْلِ غَيْرِهَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا يَحْنَثُ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسُ ثَوْبًا كَامِلًا مِنْ غَزْلِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا نَسَجَهُ زَيْدٌ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ قِدْرٍ طَبَخَهَا، وَلَا يَدْخُلُ دَارًا اشْتَرَاهَا، أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا خَاطَهُ زَيْدٌ. فَلَبِسَ ثَوْبًا نَسَجَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ أَوْ خَاطَاهُ، أَوْ أَكَلَ مِنْ قِدْرٍ طَبَخَاهَا، أَوْ دَخَلَ دَارًا اشْتَرَيَاهَا، فَفِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْقَوْلِ مِثْلَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ مَا خَاطَهُ زَيْدٌ، حَنِثَ بِلُبْسِ ثَوْبٍ خَاطَاهُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَبِسَ مِمَّا خَاطَهُ زَيْدٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: ثَوْبًا خَاطَهُ زَيْدٌ. وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارًا لِزَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، خَرَجَ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى مَا مَضَى. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ لَا يَزُورهُمَا أَوْ لَا يُكَلِّمهُمَا فَزَارَ أَوْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا] (8099) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَزُورهُمَا، أَوْ لَا يُكَلِّمهُمَا، فَزَارَ أَوْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَلَّا يَجْتَمِعَ فِعْلُهُ بِهِمَا) يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَ بَعْضَهُ، فَإِنَّ هَذَا حَالِفٌ عَلَى كَلَامِ شَخْصَيْنِ وَزِيَارَتِهِمَا، فَتَكْلِيمُهُ أَحَدَهُمَا وَزِيَارَتُهُ فِعْلٌ لِبَعْضِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَقْدِيرُ يَمِينِهِ: لَا كَلَّمْت هَذَا، وَلَا كَلَّمْت هَذَا. لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ يُقَدَّرُ لَهُ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِعْلٌ وَعَامِلٌ، مِثْلَ الْعَامِلِ الَّذِي قَبْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] . أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ بَنَاتُكُمْ. فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْلُوفًا عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا، فَيَحْنَثُ بِهِ، فَإِنْ قَصَدَ أَلَّا يَجْتَمِعَ فِعْلُهُ بِهِمَا، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ، وَإِنْ قَصَدَ تَرْكَ كَلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، حَنِثَ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا. حَنِثَ بِكَلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِغَيْرِ إشْكَالٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي تَرْكَ كَلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 3] . أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. [فَصْل قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَعُمْرًا] (8100) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا. أَوْ: عَبْدِي حُرٌّ، إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَعُمْرًا. لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 581 الْعِتْقُ إلَّا بِتَكْلِيمِهِمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَكْلِيمَهُمَا مَعًا شَرْطًا لِوُقُوعِ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ الْمَشْرُوطُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إنْ حِضْتُمَا، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا بِحَيْضِهِمَا جَمِيعًا، وَتُفَارِقُ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى، فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَتَحْصُلُ الْمُخَالَفَةُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا فِي الْحِنْثِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؛ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْحَلِفِ كُلِّهِ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ، الْمَنْعَ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَسْتَوِيَانِ. أَمَّا إذَا قَالَ: إذَا حِضْتُمَا، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهَذَا مَنْعٌ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا حَثٌّ عَلَيْهِ، إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ مُجَرَّدٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ. [فَصْلٌ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ خُبْزًا وَلَحْمًا] (8101) فَصْلٌ: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَلَا زُبْدًا وَتَمْرًا، وَلَا أَدْخُلُ هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ، وَلَا أَعْصِي اللَّهَ فِي هَذَيْنِ الْبَلَدَيْنِ، وَلَا أُمْسِكُ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ. فَفَعَلَ بَعْضَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، مِثْلَ أَنْ أَكَلَ أَحَدَهُمَا، أَوْ دَخَلَ إحْدَى الدَّارَيْنِ، وَعَصَى اللَّهَ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ، أَوْ أَمْسَكَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قَصَدَ بِيَمِينِهِ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، أَوْ الْمَنْعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ سَمَكًا وَأَشْرَبَ لَبَنًا. بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاوُ هَاهُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) ، وَلِذَلِكَ اقْتَضَتْ الْفَتْحَ، وَإِنْ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِتَكْرَارِ " لَا "، اقْتَضَى الْمَنْعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، وَحَنِثَ بِفِعْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا فَأُشْتَرَى بِهِ أَوْ بِثَمَنِهِ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ] (8102) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا، فَاشْتَرَى بِهِ أَوْ بِثَمَنِهِ ثَوْبًا، فَلَبِسَهُ، حَنِثَ إذَا كَانَ مِمَّنْ اُمْتُنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ إنْ انْتَفَعَ بِثَمَنِهِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ أَصْلٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَيْمَانِ فَيَتَعَدَّى، الْحُكْمُ بِتَعَدِّيهَا، فَإِذَا اُمْتُنَّ عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَهُ، لِتَنْقَطِعَ الْمِنَّةُ بِهِ حَنِثَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فِي غَيْرِ اللُّبْسِ مِنْ أَخْذِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِهِ يُلْحِقُ الْمِنَّةَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ قَطْعَ الْمِنَّةِ، وَلَا كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِمَا تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ، وَهُوَ لُبْسُهُ خَاصَّةً، فَلَوْ أَبْدَلَهُ بِثَوْبِ غَيْرِهِ، ثُمَّ لَبِسَهُ، أَوْ انْتَفَعَ بِهِ فِي غَيْرِ اللُّبْسِ، أَوْ بَاعَهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْيَمِينِ لَهُ لَفْظًا وَنِيَّةً وَسَبَبًا. (8103) فَصْلٌ: فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا عَلَيْهِ فِيهِ لَهَا مِنَّةٌ سِوَى الِانْتِفَاعِ بِالثَّوْبِ، وَبِعِوَضِهِ، مِثْلَ أَنْ سَكَنَ، دَارَهَا، أَوْ أَكَلَ طَعَامَهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 582 أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لَهَا غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ الثَّوْبُ، فَتَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهِ، أَوْ بِمَا حَصَلَ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ؛ لِاخْتِصَاصِ الْيَمِينِ وَالسَّبَبِ بِهِ. [فَصْلٌ وَإِنْ امْتَنَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِثَوْبٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَهُ قَطْعًا لِمِنَّتِهَا فَاشْتَرَاهُ غَيْرُهَا ثُمَّ كَسَاهُ إيَّاهُ] (8104) فَصْلٌ: وَإِنْ امْتَنَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِثَوْبٍ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَهُ، قَطْعًا لِمِنَّتِهَا، فَاشْتَرَاهُ غَيْرُهَا ثُمَّ، كَسَاهُ إيَّاهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ، وَلَبِسَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا مِنَّةَ لَهَا فِيهِ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ لِمُخَالَفَتِهِ لِيَمِينِهِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْ السَّبَبِ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ كَذَا فِي الْيَمِينِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَاصَمَتْهُ امْرَأَةٌ لَهُ، فَقَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ. طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً، كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ اقْتَضَى تَقْيِيدَ لَفْظِهِ بِمَا وُجِدَ فِيهِ السَّبَبُ فَصَارَ كَالْمَنْوِيِّ، أَوْ كَمَا لَوْ خَصَّصَهُ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْوِيَ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي دَارٍ فَأَوَى مَعَهَا فِي غَيْرِهَا] (8105) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْوِيَ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي دَارٍ، فَأَوَى مَعَهَا فِي غَيْرِهَا، حَنِثَ، إذَا كَانَ أَرَادَ، بِيَمِينِهِ جَفَاءَ زَوْجَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ سَبَبٌ هَيَّجَ يَمِينَهُ) وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ فُرُوعِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ جَفَاءَهَا بِتَرْكِ الْأَوْيِ مَعَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ أَثَرٌ فِي يَمِينِهِ، كَانَ ذِكْرُ الدَّارِ كَعَدَمِهِ، وَكَأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَلَّا يَأْوِيَ مَعَهَا، فَإِذَا أَوَى مَعَهَا فِي غَيْرِهَا، فَقَدْ أَوَى مَعَهَا، فَحَنِثَ؛ لِمُخَالَفَتِهِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ سُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاقَعْت أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. فَقَالَ: " أَعْتِقْ رَقَبَةً ". لَمَّا كَانَ ذِكْرُ أَهْلِهِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، حَذَفْنَاهُ مِنْ السَّبَبِ، وَصَارَ السَّبَبُ الْوِقَاعَ، سَوَاءٌ كَانَ لِأَهْلٍ أَوْ لِغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ أَثَرٌ فِي يَمِينِهِ، مِثْلَ أَنْ كَانَ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا، أَوْ خُوصِمَ مِنْ أَجْلِهَا، أَوْ اُمْتُنَّ عَلَيْهِ بِهَا، لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَوَى مَعَهَا فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ الْجَفَاءَ فِي الدَّارِ بِعَيْنِهَا، فَلَمْ يُخَالِفْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَدِمَ السَّبَبَ وَالنِّيَّةَ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِفِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ، وَهُوَ الْأَوْيُ مَعَهَا فِي تِلْكَ الدَّارِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ لَفْظِهِ، إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ يَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، أَوْ يَقْتَضِي زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الْأَوْيِ الدُّخُولُ، فَمَتَى حَلَفَ لَا يَأْوِي مَعَهَا، فَدَخَلَ مَعَهَا الدَّارَ حَنِثَ، قَلِيلًا كَانَ لُبْثُهُمَا أَوْ كَثِيرًا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - مُخْبِرًا عَنْ فَتَى مُوسَى: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63] . قَالَ أَحْمَدُ: مَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا سَاعَةً، أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 583 مَا شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - يُقَالُ: وَأَوَيْت أَنَا، وَآوَيْت غَيْرِي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] [فَصْلٌ وَإِنْ بَرَّ الْحَالِفِ زَوْجَتَهُ بِهَدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ أُجْتَمَعْ مَعَهَا فِيمَا لَيْسَ بِدَارٍ وَلَا بَيْتٍ] (8106) فَصْلٌ: وَإِنْ بَرَّهَا بِهَدِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ اجْتَمَعَ مَعَهَا فِيمَا لَيْسَ بِدَارٍ وَلَا بَيْتٍ، لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ سَبَبًا فِي يَمِينِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَفَاءَهَا بِهَذَا النَّوْعِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْوِي مَعَهَا فِي دَارٍ لِسَبَبٍ، فَزَالَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِيَمِينِهِ، مِثْلَ أَنْ كَانَ السَّبَبُ امْتِنَانَهَا بِهَا عَلَيْهِ، فَمَلَكَ الدَّارَ، أَوْ صَارَتْ لِغَيْرِهَا، فَأَوَى مَعَهَا فِيهَا، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا وَتَعْلِيلُهُمَا. [فَصْلٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا فِيمَا لَيْسَ بِبَيْتِ أَيْ زَوْجَتِهِ] (8107) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا فِيمَا لَيْسَ بِبَيْتٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا؛ إذَا قَصَدَ جَفَاءَهَا، وَلَمْ يَكُنْ الْبَيْتُ سَبَبًا هَيَّجَ يَمِينَهُ، حَنِثَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ هِيَ فِيهِمْ، يَقْصِدُ الدُّخُولَ عَلَيْهَا مَعَهُمْ، حَنِثَ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. وَإِنْ اسْتَثْنَاهَا بِقَلْبِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هِيَ فِيهِمْ، يَقْصِدُ بِقَلْبِهِ السَّلَامَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِعْلٌ لَا يَتَمَيَّزُ، فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِالْقَصْدِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ الْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ، وَهِيَ فِيهِمْ فَيَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ اسْتِثْنَاءَهَا، وَفَارَقَ السَّلَامَ؛ فَإِنَّهُ قَوْلٌ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِالْقَصْدِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إلَّا فُلَانًا. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ دَخَلْت عَلَيْكُمْ إلَّا فُلَانًا. وَلِأَنَّ السَّلَامَ قَوْلٌ يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الضَّمِيرُ فِي " عَلَيْكُمْ "، وَالضَّمِيرُ عَامٌ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخَاصُّ، فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ سِوَاهَا، وَالْفِعْلُ لَا يَتَأَتَّى هَذَا فِيهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 584 وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا فِيهِ، فَوَجَدَهَا فِيهِ، فَهُوَ كَالدُّخُولِ عَلَيْهَا نَاسِيًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ. فَخَرَجَ حِينَ عَلِمَ بِهَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا، فَدَخَلَتْ هِيَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ فِي الْحَالِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ أَقَامَ فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا هُوَ فِيهَا، فَاسْتَدَامَ الْمُقَامَ بِهَا، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فِي غَد فَمَاتَ الْحَالِفُ مِنْ يَوْمِهِ] (8108) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فِي غَدٍ، فَمَاتَ الْحَالِفُ مِنْ يَوْمِهِ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ، حَنِثَ) أَمَّا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ مِنْ يَوْمِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، وَهُوَ الْغَدُ، وَالْحَالِفُ قَدْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْغَدِ، فَلَا يُمْكِنُ حِنْثُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ جُنَّ الْحَالِفُ فِي يَوْمِهِ. فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ. وَإِنْ هَرَبَ الْعَبْدُ، أَوْ مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ الْحَالِفُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَرْبِهِ فِي الْغَدِ، حَنِثَ. وَإِنْ لَمْ يَمُتْ الْحَالِفُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ أَحَدُهَا، أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ فِي غَدٍ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ، بِلَا خِلَافٍ. الثَّانِيَةُ، أَمْكَنَهُ ضَرْبُهُ فِي غَدٍ، فَلَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى مَضَى الْغَدُ، وَهُمَا فِي الْحَيَاةِ، حَنِثَ أَيْضًا، بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثَةُ، مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ يَوْمِهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحِنْثِ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَحُجَّنَّ الْعَامَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ؛ لِمَرَضٍ، أَوْ عَدَمِ النَّفَقَةِ، وَفَارَقَ الْإِكْرَاهَ وَالنِّسْيَانَ، فَإِنَّ الِامْتِنَاعَ لِمَعْنًى فِي الْحَالِفِ، وَهَا هُنَا الِامْتِنَاعُ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ ضَرْبَهُ لِصُعُوبَتِهِ، أَوْ تَرَكَ الْحَالِفُ الْحَجَّ لِصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ وَبُعْدِهَا عَلَيْهِ فَأَمَّا. إنْ كَانَ تَلَفُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ أَوْ اخْتِيَارِهِ، حَنِثَ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْفِعْلَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْنَثُ الْحَالِفُ سَاعَةَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ مِنْ حِينِ حَلِفِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُؤَقِّتْ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَحْنَثَ قَبْلَ الْغَدِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُخَالَفَةُ مَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَيْهِ، فَلَا تَحْصُلُ الْمُخَالَفَةُ إلَّا بِتَرْكِ الْفِعْلِ فِي وَقْتِهِ. الرَّابِعَةُ، مَاتَ الْعَبْدُ فِي غَدٍ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ضَرْبِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي يَوْمِهِ. الْخَامِسَةُ، مَاتَ الْعَبْدُ فِي غَدٍ، بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ضَرْبِهِ، قَبْلَ ضَرْبِهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ قَوْلَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 585 وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْكِنُهُ ضَرْبُهُ فِي وَقْتِهِ، فَلَمْ يَضْرِبْهُ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ مَضَى الْغَدُ قَبْلَ ضَرْبِهِ. السَّادِسَةُ، مَاتَ الْحَالِفُ فِي غَدٍ، بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ضَرْبِهِ، فَلَمْ يَضْرِبْهُ، حَنِثَ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. السَّابِعَةُ، ضَرَبَهُ فِي يَوْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَبَرُّ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لِلْحَثِّ عَلَى ضَرْبِهِ، فَإِذَا ضَرَبَهُ الْيَوْمَ، فَقَدْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي غَدٍ، فَقَضَاهُ الْيَوْمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، فَلَمْ يَبَرَّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَامَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَفَارَقَ قَضَاءَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْجِيلُهُ لَا غَيْرُ، وَفِي قَضَاءِ الْيَوْمِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْجِيلِ، فَلَا يَحْنَثُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَصْدِهِ إرَادَةُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ غَدًا بِالْقَضَاءِ، فَصَارَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، إذْ كَانَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ مَا لَيْسَ بِمِثْلِهِ عَلَيْهِ، وَسَائِرُ الْمَحْلُوفَاتِ لَا تُعْلَمُ مِنْهَا إرَادَةُ التَّعْجِيلِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتَهُ لَهَا، فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ، وَتَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ. الثَّامِنَةُ، ضَرَبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَبَرَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنْصَرِفُ إلَى ضَرْبِهِ حَيًّا، يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا بِالْمَوْتِ. التَّاسِعَةُ، ضَرَبَهُ ضَرْبًا لَا يُؤْلِمُهُ، لَمْ يَبَرّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. الْعَاشِرَةُ، خَنَقَهُ، أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ، أَوْ عَصَرَ سَاقَهُ، بِحَيْثُ يُؤْلِمُهُ، فَإِنَّهُ يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى ضَرْبًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ، جُنَّ الْعَبْدُ، فَضَرَبَهُ، فَإِنَّهُ يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ، حَنِثَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ فِي غَدٍ، فَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَمَتَى فَاتَ ضَرْبُهُ بِمَوْتِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْرِبْهُ. [فَصْل قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ غَدًا فَانْدَفَقَ الْيَوْمَ] (8109) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ غَدًا. فَانْدَفَقَ الْيَوْمَ، أَوْ: لَآكُلَنَّ هَذَا الْخُبْزَ غَدًا. فَتَلِفَ، فَهُوَ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ. قَالَ صَالِحٌ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ، فَانْصَبَّ؟ قَالَ: يَحْنَثُ. وَكَذَلِكَ إنَّ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ هَذَا الرَّغِيفَ، فَأَكَلَهُ كَلْبٌ؟ قَالَ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ حِينًا فَكَلَّمَهُ قَبْلَ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ] (8110) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ حِينًا، فَكَلَّمَهُ قَبْلَ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ، حَنِثَ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا، فَإِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِلَفْظِهِ أَوْ بِنِيَّتِهِ بِزَمَنٍ، تَقَيَّدَ بِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَهُ، انْصَرَفَ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ: هُوَ سَنَةٌ؛ لِقَوْلِهِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] . أَيْ كُلَّ عَامٍ. وَقَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 586 الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا قَدْرَ لَهُ، وَيَبَرُّ بِأَدْنَى زَمَنٍ؛ لِأَنَّ الْحِينَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] . قِيلَ: أَرَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] . وَقَالَ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] . وَقَالَ: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] . وَيُقَالُ: جِئْت مُنْذُ حِينٍ. وَإِنْ كَانَ أَتَاهُ مِنْ سَاعَةٍ. وَلَنَا، أَنَّ الْحِينَ الْمُطْلَقَ فِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] : إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِ الْآدَمِيِّ عَلَى مُطْلَقِ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، وَمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ الْمُطْلَقِ فِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَمَا ذَكَرْنَاهُ أَقَلُّهُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حُقْبًا] (8111) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حُقْبًا. فَذَلِكَ ثَمَانُونَ عَامًا، وَقَالَ مَالِكٌ أَرْبَعُونَ عَامًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ أَدْنَى زَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ تَقْدِيرٌ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] : الْحُقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ حُجَّةٌ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ يُفْضِي إلَى حَمْلِ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] وَقَوْلِ مُوسَى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] إلَى اللُّكْنَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ، فَإِذَا صَارَ مَعْنَى ذَلِكَ (لَابِثِينَ فِيهَا) سَاعَاتٍ أَوْ لَحَظَاتٍ أَوْ، أَمْضِيَ لَحَظَاتٍ وَسَاعَاتٍ، صَارَ مُقْتَضَى ذَلِكَ التَّقْلِيلَ، وَهُوَ ضِدُّ مَا أَرَادَ اللَّهُ - تَعَالَى بِكَلَامِهِ، وَضِدُّ الْمَفْهُومِ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَعْلَمُ، فَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحُقْبِ بِهِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يُكَلِّمَهُ زَمَنًا أَوْ وَقْتًا أَوْ دَهْرًا أَوْ عُمْرًا] (8112) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمَهُ زَمَنًا، أَوْ وَقْتًا، أَوْ دَهْرًا، أَوْ عُمْرًا، أَوْ مَلِيًّا، أَوْ طَوِيلًا، أَوْ بَعِيدًا، أَوْ قَرِيبًا بَرَّ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فِي قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا حَدَّ لَهَا فِي اللُّغَةِ، وَتَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَقَلِّ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَرِيبُ بَعِيدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَقَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ التَّحْدِيدُ بِالتَّحَكُّمِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ هَاهُنَا، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 587 وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الزَّمَانُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ طَلْحَةُ الْعَاقُولِيُّ: الْحِينُ وَالزَّمَانُ وَالْعُمْرُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْعَادَةِ بَيْنَهُمَا، وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّبْعِيدَ، فَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْقَلِيلِ، حُمِلَ عَلَى خِلَافِ قَصْدِ الْحَالِفِ. وَالدَّهْرُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَالْحِينِ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ فِي " بَعِيدٍ " و " مَلِيءٍ "، " وَطَوِيلٍ ": هُوَ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضِدُّ الْقَلِيلِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى ضِدِّهِ. وَلَوْ حَمَلَ الْعُمْرَ عَلَى أَرْبَعِينَ عَامًا، كَانَ حَسَنًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] . وَكَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَ فِي الْغَالِبِ لَا يَكُونُ إلَّا مُدَّة طَوِيلَةً، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. (8113) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الدَّهْرَ، أَوْ الْأَبَدَ، أَوْ الزَّمَانَ. فَذَلِكَ عَلَى الْأَبَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَتَقْتَضِي الدَّهْرَ كُلَّهُ. [فَصْلٌ حَلَفَ عَلَى أَيَّامٍ] (8114) فَصْلٌ: إنْ حَلَفَ عَلَى أَيَّامٍ، فَهِيَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] . وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَشْهُرٍ، فَهِيَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى شُهُورٍ، فَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ؛ لِذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] . وَلِأَنَّ الشُّهُورَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ، وَأَقَلُّهُ عَشَرَةٌ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ جَمْعُ الْقِلَّةِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ يَقْضِيَهُ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ فَقَضَاهُ قَبْلَهُ] (8115) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَقْضِيَهُ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ، فَقَضَاهُ قَبْلَهُ، لَمْ يَحْنَثْ، إذَا كَانَ أَرَادَ بِيَمِينِهِ إنْ لَا يُجَاوِزَ ذَلِكَ الْوَقْتَ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَحْنَثُ إذَا قَضَاهُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِعْلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مُخْتَارًا، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ قَضَاهُ بَعْدَهُ. وَلَنَا، أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْيَمِينِ، تَعْجِيلُ الْقَضَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْغَدِ، فَإِذَا قَضَاهُ قَبْلَهُ، فَقَدْ قَضَى قَبْلَ خُرُوجِ الْغَدِ، وَزَادَ خَيْرًا، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ، وَنِيَّةُ هَذَا بِيَمِينِهِ تَرْكُ تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْغَدِ، فَتَعَلَّقَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 588 يَمِينُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ رُجِعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي التَّعْجِيلَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ السَّبَبُ يَقْتَضِيهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا بِقَضَائِهِ فِي الْغَدِ، وَلَا يَبَرُّ بِقَضَائِهِ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَبَرُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْحَثِّ عَلَى الْفِعْلِ، فَمَتَى عَجَّلَهُ، فَقَدْ أَتَى بِالْمَقْصُودِ، فِيهِ، كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِعْلَ مَا تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ لَفْظًا، وَلَمْ تَصْرِفْهَا عَنْهُ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ، فَتُصْرَفُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ شَعْبَانَ، فَصَامَ رَجَبًا. وَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ عُرْفَ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ التَّعْجِيلُ، فَتَنْصَرِفُ الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ إلَيْهِ. (8116) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ قَضَاءِ الْحَقِّ، كَأَكْلِ شَيْءٍ، أَوْ شُرْبِهِ، أَوْ بَيْعِ شَيْءٍ، أَوْ شِرَائِهِ، أَوْ ضَرْبِ عَبْدٍ، وَنَحْوِهِ، فَمَتَى عَيَّنَ وَقْتَهُ، وَلَمْ يَنْوِ مَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَهُ، وَلَا كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِيهِ، لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِفِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ يَبَرُّ بِتَعْجِيلِهِ عَنْ وَقْتِهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ تَصْرِفُ يَمِينَهُ، وَلَا سَبَبٍ، فَيَحْنَثُ، كَالصِّيَامِ. وَلَوْ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَبَعْضَهُ فِي وَقْتِهِ، لَمْ يَبَرَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَبَرُّ فِيهَا إلَّا بِفِعْلِ جَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَتَرْكُ بَعْضِهِ فِي وَقْتِهِ، كَتَرْكِ جَمِيعِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِي أَنْ لَا يُجَاوِزَ ذَلِكَ الْوَقْتَ، أَوْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ سَبَبُهَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَبِيعُ ثَوْبَهُ بِعَشَرَةِ فَبَاعِهِ بِهَا أَوْ بِأَقَلّ مِنْهَا] (8117) فَصْلٌ: وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ ثَوْبَهُ بِعَشَرَةٍ، فَبَاعَهُ بِهَا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهَا، حَنِثَ. وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَحْنَثُ إذَا بَاعَهُ بِأَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْعُرْفَ فِي هَذَا أَنْ لَا يَبِيعَهُ بِهَا، وَلَا بِأَقَلَّ مِنْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ فِي بَيْعِهِ إنْسَانًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ بِعَشَرَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، كَثُبُوتِهِ بِاللَّفْظِ. إنْ حَلَفَ: لَا اشْتَرَيْتُهُ بِعَشَرَةٍ. فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِهَا أَوْ بِأَكْثَرَ، حَنِثَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنْ لَا يَحْنَثَ إذَا اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ لَفْظًا. وَلَنَا، أَنَّهَا تَنَاوَلَتْهُ عُرْفًا وَتَنْبِيهًا، فَكَانَ حَانِثًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ: مَا لَهُ عَلَيَّ حَبَّةٌ. فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَيَبْرَأُ بِيَمِينِهِ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا، كَبَرَاءَتِهِ مِنْهَا. قِيلَ لِأَحْمَدَ رَجُلٌ إنْ حَلَفَ لَا يَنْقُصُ هَذَا الثَّوْبُ عَنْ كَذَا. قَالَ: قَدْ أَخَذْته، وَلَكِنْ هَبْ لِي كَذَا. قَالَ: هَذَا حِيلَةٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك بِكَذَا، وَأَهَبُ لِفُلَانٍ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. فَكَرِهَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 589 [فَصْلٌ حَلَفَ لَيَقْضِينَهُ حَقَّهُ فِي غَدٍ فَمَاتَ الْحَالِفُ مِنْ يَوْمِهِ] (8118) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي غَدٍ، فَمَاتَ الْحَالِفُ مِنْ يَوْمِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ فِي غَدٍ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ. وَإِنْ مَاتَ، الْمُسْتَحِقُّ فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ غَدًا، فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْيَوْمَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ قَضَى وَرَثَتَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ وَرَثَتِهِ يَقُومُ مَقَامَ قَضَائِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ، فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ ضَرْبُ غَيْرِهِ مَقَامَ ضَرْبِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ: تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِمَوْتِ الْمُسْتَحِقِّ، وَلَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ قَضَى وَرَثَتَهُ أَوْ لَمْ يَقْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَشْبَهَ الْمُكْرَهَ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا، فِي مَسْأَلَةِ مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ غَدًا، فَمَاتَ الْعَبْدُ الْيَوْمَ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْمُكْرَهِ هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَإِنْ قَضَاهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ، لَمْ يَحْنَثْ، عِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى حَقَّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِهِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. [فَصْلٌ: حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ فَقَضَاهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الشَّهْرِ] (8119) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ مَعَ رَأْسِهِ، أَوْ إلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ إلَى اسْتِهْلَالِهِ، أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ، أَوْ مَعَ رَأْسِهِ، فَقَضَاهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الشَّهْرِ، بَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِهِ، حَنِثَ. وَإِنْ شَرَعَ فِي عَدِّهِ أَوْ كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ، فَتَأَخَّرَ الْقَضَاءُ لِكَثْرَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْقَضَاءَ. وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ، فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَشَرَعَ فِي أَكْلِهِ فِيهِ، وَتَأَخَّرَ الْفَرَاغُ لِكَثْرَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ أَكْلَهُ كُلَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْيَسِيرِ، فَكَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الشُّرُوعِ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ عَلَى مُقَارَنَةِ فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْوَقْتِ، لِلْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ: حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَاءَ هَذَا الْإِنَاءِ فَشَرِبَ بَعْضَهُ] (8120) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَاءَ هَذَا الْإِنَاءِ، فَشَرِبَ بَعْضَهُ، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ كُلَّهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِفِعْلِ جَمِيعِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَأَطْلَقَ، فَفَعَلَ بَعْضَهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. وَإِنْ نَوَى فِعْلَ جَمِيعِهِ، أَوْ كَانَ فِي يَمِينِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِفِعْلِ جَمِيعِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 590 وَإِنْ نَوَى فِعْلَ الْبَعْضِ. أَوْ كَانَ فِي يَمِينِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، حَنِثَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَاءَ هَذَا الْإِنَاءِ، فَشَرِبَ بَعْضَهُ، فَهَلْ يَحْنَثُ بِذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ مَاءَ دِجْلَةَ، أَوْ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ. حَنِثَ بِشُرْبِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ شُرْبَ جَمِيعِهِ مُمْتَنَعٌ بِغَيْرِ يَمِينِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَوْكِيدِ الْمَنْعِ بِيَمِينِهِ، فَتُصْرَفُ يَمِينُهُ إلَى مَنْعِ نَفْسِهِ مِمَّا يُمْكِنُ فِعْلُهُ، وَهُوَ شُرْبُ الْبَعْضِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت الْمَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ حَلَفَ عَلَى الْجِنْسِ، كَالنَّاسِ وَالْمَاءِ وَالْخُبْزِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِهِ، حَنِثَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَإِنْ تَنَاوَلَتْ يَمِينُهُ الْجَمِيعَ، كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَسَاكِينِ، لَمْ يَحْنَثْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَإِنْ تَنَاوَلَتْ اسْمَ جِنْسٍ يُضَافُ، كَمَاءِ النَّهْرِ، وَمَاءِ دِجْلَةَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى - مَا لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ جَمِيعِهِ، فَتَنَاوَلَتْ يَمِينُهُ بَعْضَهُ مُنْفَرِدًا، كَاسْمِ الْجِنْسِ فَإِنْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ الْفُرَاتِ، فَشَرِبَ مِنْ مَائِهِ، حَنِثَ، سَوَاءٌ كَرَعَ فِيهِ، أَوْ اغْتَرَفَ مِنْهُ ثُمَّ شَرِبَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْكَرْعُ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ. فَصَبَّ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ وَشَرِبَ. وَلَنَا، أَنَّ مَعْنَى يَمِينِهِ أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ يَكُونُ مِنْ مَائِهَا، وَمِنْهَا فِي الْعُرْفِ، فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ، وَلَا أَكَلْت مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَلَا شَرِبْت مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ. وَيُفَارِقُ الْكُوزَ؛ فَإِنَّ الشُّرْبَ فِي الْعُرْفِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ آلَةٌ لِلشُّرْبِ، بِخِلَافِ النَّهْرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْبِئْرِ وَالشَّاةِ وَالشَّجَرَةِ، وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَوْ اسْتَقَى مِنْ الْبِئْرِ، أَوْ احْتَلَبَ لَبَنَ الشَّاةِ، أَوْ الْتَقَطَ مِنْ الشَّجَرَةِ، وَشَرِبَ وَأَكَلَ، حَنِثَ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ: حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ] (8121) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاء الْفُرَاتِ، فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشُّرْبِ مِنْهُ الشُّرْبُ مِنْ مَائِهِ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا شَرِبْت مِنْ مَائِهِ. وَهَذَا أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، إلَّا أَبَا يُوسُفَ، فَإِنَّ عَنْهُ رِوَايَةً، أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 591 لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ النَّهْرُ يُضَافُ إلَى ذَلِكَ النَّهْرِ، لَا إلَى الْفُرَاتِ، وَيَزُولُ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْفُرَاتِ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، كَغَيْرِ الْفُرَاتِ. [مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَاَللَّهِ لَا فَارَقْتُكِ حَتَّى أَسْتَوْفِي حَقِّي مِنْك فَهَرَبَ مِنْهُ] (8122) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا فَارَقْتُك حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْك. فَهَرَبَ مِنْهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ قَالَ: لَا افْتَرَقْنَا. فَهَرَبَ مِنْهُ، حَنِثَ) أَمَّا إذَا حَلَفَ: لَا فَارَقْتُك. فَفِيهِ مَسَائِلُ عَشْرٌ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُفَارِقَهُ الْحَالِفُ مُخْتَارًا، فَيَحْنَثُ، بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ مِنْ الْحَقِّ أَوْ فَارَقَهُ، وَالْحَقُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ. الثَّانِيَةُ، فَارَقَهُ مُكْرَهًا، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ حُمِلَ مُكْرَهًا حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ وَالتَّهْدِيدِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: يَحْنَثُ. وَفِي النَّاسِي تَفْصِيلٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. الثَّالِثَةُ، هَرَبَ مِنْهُ الْغَرِيمُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَحْنَثُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى يَمِينِهِ أَنْ لَا تَحْصُلَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ، وَقَدْ حَصَلَتْ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْفُرْقَةِ، وَمَا فَعَلَ، وَلَا فَعَلَ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا قُمْت. فَقَامَ غَيْرُهُ. الرَّابِعَةُ، أَذِنَ لَهُ الْحَالِفُ فِي الْفُرْقَةِ، فَفَارَقَهُ، فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْفُرْقَةَ الَّتِي حَلَفَ إنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا. وَلَنَا، أَنَّ مَعْنَى يَمِينِهِ لَأُلْزِمَنَّك. وَإِذَا فَارَقَهُ بِإِذْنِهِ فَمَا لَزِمَهُ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا هَرَبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ الْخِرَقِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْخِرَقِيِّ قَالَ: فَهَرَبَ مِنْهُ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا فَارَقَهُ بِغَيْرِ هَرَبٍ، أَنَّهُ يَحْنَثُ. الْخَامِسَةُ، فَارَقَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، وَلَا هَرَبَ، عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ مُلَازَمَتُهُ، وَالْمَشْيُ مَعَهُ، وَإِمْسَاكُهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. السَّادِسَةُ، قَضَاهُ قَدْرَ حَقِّهِ، فَفَارَقَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ وَفَّاهُ، فَخَرَجَ رَدِيئًا أَوْ بَعْضُهُ، فَيُخَرَّجُ فِي الْحِنْثِ رِوَايَتَانِ؛ بِنَاءً عَلَى النَّاسِي. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مُخْتَارًا. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ إذَا وَجَدَهَا زُيُوفًا، وَإِنْ وَجَدَ أَكْثَرَهَا نُحَاسًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. وَإِنْ وَجَدَهَا مُسْتَحَقَّةً، فَأَخَذَهَا صَاحِبُهَا، خُرِّجَ أَيْضًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ ظَانٌّ أَنَّهُ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَجَدَهَا رَدِيئَةً. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ عِلْمَ بِالْحَالِ فَفَارَقَهُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 592 السَّابِعَةُ، فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ، فَفَارَقَهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ، فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْزِمْهُ مُفَارَقَتَهُ، لَكِنَّهُ فَارَقَهُ لِعِلْمِهِ بِوُجُوبِ مُفَارَقَتِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَصَلَّاهَا. الثَّامِنَةُ، أَحَالَهُ الْغَرِيمُ بِحَقِّهِ، فَفَارَقَهُ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْنَثُ. لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ وَلَنَا، أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ لَمْ يُحِلْهُ. فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَرَّ بِذَلِكَ، فَفَارَقَهُ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحِنْثُ، كَمَا لَوْ جَهِلَ كَوْنَ هَذِهِ الْيَمِينِ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ يَمِينُهُ: لَا فَارَقْتُك وَلِي قِبَلَك حَقٌّ. فَأَحَالَهُ بِهِ، فَفَارَقَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ. وَإِنْ أَخَذَ بِهِ ضَمِينًا أَوْ كَفِيلًا أَوْ رَهْنًا، فَفَارَقَهُ، حَنِثَ، بِلَا إشْكَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْغَرِيمِ. التَّاسِعَةُ، قَضَاهُ عَنْ حَقِّهِ عِوَضًا عَنْهُ، ثُمَّ فَارَقَهُ. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ. حَقَّهُ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ بِالْقَضَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ، وَهَذَا بَدَلُهُ. وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ: لَا فَارَقْتُك حَتَّى تَبْرَأَ مِنْ حَقِّي، أَوْ: لِي قِبَلَك حَقٌّ. لَمْ يَحْنَثْ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ. الْعَاشِرَةُ، وَكَّلَ وَكِيلًا يَسْتَوْفِي لَهُ حَقَّهُ، فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْوَكِيلِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ. وَإِنْ اسْتَوْفَى الْوَكِيلُ، ثُمَّ فَارَقَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ وَكِيلِهِ اسْتِيفَاءٌ لَهُ، يَبْرَأُ بِهِ غَرِيمُهُ، وَيَصِيرُ فِي ضَمَانِ الْمُوَكِّلِ. [فَصْلٌ: قَالَ: لَا فَارَقْتنِي حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْك فَأُكْرِهَ عَلَى فِرَاقِهِ] (8123) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ قَالَ: لَا فَارَقْتنِي حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْك. نَظَرْت؛ فَإِنْ فَارَقَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُخْتَارًا، حَنِثَ. وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى فِرَاقِهِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ مُخْتَارًا، حَنِثَ، إلَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَسَائِرُ الْفُرُوعِ تَأْتِي هَاهُنَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ: كَانَتْ يَمِينُهُ لَا افْتَرَقْنَا فَهَرَبَ مِنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ] (8124) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ: لَا افْتَرَقْنَا فَهَرَبَ مِنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَقْتَضِي أَلَّا تَحْصُلَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ بِوَجْهٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِهَرَبِهِ. وَإِنْ أُكْرِهَا عَلَى الْفُرْقَةِ، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَرَ الْإِكْرَاهَ عُذْرًا. [فَصْلٌ: حَلَفَ لَا فَارَقَتْك حَتَّى أُوفِيك حَقّك فَأَبْرَأَهُ الْغَرِيمُ مِنْهُ] (8125) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ: لَا فَارَقْتُك حَتَّى أُوَفِّيَك حَقَّك. فَأَبْرَأَهُ الْغَرِيمُ مِنْهُ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى الْمُكْرَهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا، فَوَهَبَهَا لَهُ الْغَرِيمُ، فَقَبِلَهَا، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ إيفَاءَهَا لَهُ بِاخْتِيَارِهِ. وَإِنْ قَبَضَهَا مِنْهُ، ثُمَّ وَهَبَهَا إيَّاهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ: لَا فَارَقْتُك وَلَك قِبَلِي حَقٌّ. لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَبْرَأهُ، أَوْ وَهَبَ الْعَيْنَ لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 593 (8126) فَصْلٌ: وَالْفُرْقَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ، مَا عَدَّهُ النَّاسُ فِرَاقًا فِي الْعَادَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفُرْقَةَ فِي الْبَيْعِ، وَمَا نَوَاهُ بِيَمِينِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة: حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ] (8127) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى مَرَّةً) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت إلَّا أَنْ آذَنَ لَك، أَوْ حَتَّى آذَنَ لَك، أَوْ إلَى أَنْ آذَنَ لَك. فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ، أَنَّهَا مَتَى خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، طَلُقَتْ، وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " أَنْ " لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا، فَإِذَا حَنِثَ مَرَّةً، انْحَلَّتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت. وَإِنْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا وُجِدَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ. وَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَمَتَى خَرَجَتْ بَعْدَ هَذَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، طَلُقَتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَنْحَلُّ، فَلَا يَحْنَثُ بِخُرُوجِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَعَلَّقَتْ بِخُرُوجِ وَاحِدٍ، بِحَرْفٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا وُجِدَ بِغَيْرِ إذْنٍ، حَنِثَ، وَإِنْ وُجِدَ بِإِذْنٍ، بَرَّ؛ لِأَنَّ الْبَرَّ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِنْثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي قَوْلِهِ: إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِي. كَقَوْلِنَا؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بِإِذْنِهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ. وَإِنْ قَالَ: إنْ خَرَجْت إلَّا أَنْ آذَنَ لَك، أَوْ حَتَّى آذَنَ لَك، أَوْ إلَى أَنْ آذَنَ لَك. مَتَى أَذِنَ لَهَا، انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَحْنَثْ بَعْدَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِذْنَ فِيهَا غَايَةً لِيَمِينِهِ، وَجَعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا عَلَى الْخُرُوجِ قَبْلَ إذْنِهِ، فَمَتَى أَذِنَ انْتَهَتْ غَايَةُ يَمِينِهِ، وَزَالَ حُكْمُهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَوْ إلَّا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ بَعْدَ طُلُوعِهَا، وَلِأَنَّ حَرْفَ " إلَى " " وَحَتَّى " لِلْغَايَةِ، لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى شَرْطٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَخْرُجْ بِإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُمْ: قَدْ بَرَّ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ، غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهَا، فَكَيْفَ يَبَرُّ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ كَلَّمْت رَجُلًا إلَّا أَخَاكِ، أَوْ غَيْرَ أَخِيك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَكَلَّمَتْ أَخَاهَا، ثُمَّ كَلَّمَتْ رَجُلًا آخَرَ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ، وَلَا تَنْحَلُّ يَمِينُهُ بِتَكْلِيمِهَا أَخَاهَا؟ وَالثَّانِي، أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ خُرُوجٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ، فَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِوُجُودِ مَا لَمْ تُوجَدْ فِيهِ الصِّفَةُ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَدَاهُ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت عُرْيَانَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إنْ خَرَجْت رَاكِبَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ مُسْتَتِرَةً مَاشِيَةً، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ كَلَّمْت رَجُلًا فَاسِقًا، أَوْ مِنْ غَيْرِ مَحَارِمِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَكْلِيمِهَا لِغَيْرِ مَنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ. وَقَوْلُهُمْ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 594 تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِخُرُوجِ وَاحِدٍ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّهُ خُرُوجٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ، فَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ. قُلْنَا: قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ آذَنَ لَك. مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاللَّفْظَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فِي مَعْنَاهُ، فِي إخْرَاجِ الْمَأْذُونِ مِنْ يَمِينِهِ، فَكَانَ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِهِ. هَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ، فَإِنْ نَوَى تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى خُرُوجٍ وَاحِدٍ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ لَفْظَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا غَيْرَ بَعِيدٍ. وَإِنْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَنَوَى الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى. وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، إذَا حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ: إذَا أَذِنَ لَهَا مَرَّةً، فَهُوَ إذْنٌ لِكُلِّ مَرَّةٍ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا خَرَجْت، فَهُوَ بِإِذْنِي. أَجْزَأَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: إلَى أَنْ آذَنَ لَك، أَوْ حَتَّى آذَنَ لَك، الْغَايَةَ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ، دُونَ مَا بَعْدَهَا، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ بِالْإِذْنِ؛ لِنِيَّتِهِ، فَإِنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ. [فَصْلٌ: قَالَ إنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأُذُن لَهَا ثُمَّ نَهَاهَا فَخَرَجَتْ] (8128) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: إنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَذِنَ لَهَا، ثُمَّ نَهَاهَا، فَخَرَجَتْ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إلَّا بِإِذْنِي. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ قَدْ أَبْطَلَ إذْنَهُ، فَصَارَتْ خَارِجَةً بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي بَيْعٍ، ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهُ، فَبَاعَهُ، كَانَ بَاطِلًا. وَإِنْ قَالَ: إنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي، لِغَيْرِ عِيَادَةِ مَرِيضٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، ثُمَّ تَشَاغَلَتْ بِغَيْرِهِ، أَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، بِغَيْرِ إذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ، ثُمَّ عَدَلَتْ إلَى غَيْرِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا مَا خَرَجَتْ لِغَيْرِ عِيَادَةِ مَرِيضٍ، وَلَا إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الثَّانِي، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ فِي الْغَالِبِ أَنْ لَا تَذْهَبَ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ إلَى غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِدَامَةِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارًا هُوَ دَاخِلُهَا، فَأَقَامَ فِيهَا، حَنِثَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ قَصَدَتْ بِخُرُوجِهَا الْحَمَّامَ وَغَيْرَهُ، أَوْ الْعِيَادَةَ وَغَيْرَهَا، حَنِثَ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ لِغَيْرِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: إنْ خَرَجْت لَا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخَرَجَتْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَغَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِنْ قَصَدَتْ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ أَذِنَ لَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ، فَخَرَجَتْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَطْلُقُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ عَلِمَتْ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَزَلَ وَكِيلَهُ انْعَزَلَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَزْلِ، فَكَذَلِكَ تَصِيرُ مَأْذُونًا لَهَا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] . أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ فَاسْتَوَيَا فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 595 الْعِلْمِ. {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] . أَيْ إعْلَامٌ. {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] . فَاعْلَمُوا بِهِ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْإِذْنِ، يَعْنِي أَوْقَعْته فِي إذْنِك، وَأَعْلَمْتُك بِهِ. وَمَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ إعْلَامًا، فَلَا يَكُونُ إذْنًا، وَلِأَنَّ إذْنَ الشَّارِعِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، كَذَلِكَ إذْنُ الْآدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ وُجُودُ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ. [فَصْلٌ: حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَصَعِدَتْ سَطْحهَا] (8129) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَصَعِدَتْ سَطْحَهَا، أَوْ خَرَجَتْ إلَى صَحْنِهَا، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الدَّارِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ مِنْ الْبَيْتِ، فَخَرَجَتْ إلَى الصَّحْنِ، أَوْ إلَى سَطْحِهِ، حَنِثَ. وَهَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لَا تَخْرُجُ، ثُمَّ حَمَلَهَا فَأَخْرَجَهَا، فَإِنْ أَمْكَنَهَا الِامْتِنَاعُ فَلَمْ تَمْتَنِعْ، حَنِثَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ، إنَّمَا أُخْرِجَتْ. وَلَنَا، أَنَّهَا خَرَجَتْ مُخْتَارَةً، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ أَمَرَتْ مَنْ حَمَلَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهَا، أَنَّ الْخُرُوجَ الِانْفِصَالُ مِنْ دَاخِلٍ إلَى خَارِجٍ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَمَرَتْ مَنْ حَمَلَهَا، فَأَمَّا إنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الِامْتِنَاعُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا غَيْرُ الْحَالِفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجِي إلَّا بِإِذْنِ زَيْدٍ، فَمَاتَ زَيْدٌ وَلَمْ يَأْذَنْ، فَخَرَجَتْ، حَنِثَ الْحَالِفُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمَشْرُوطِ. [مَسْأَلَةٌ: حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ تَمْرًا] (8130) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الرُّطَبَ، فَأَكَلَهُ تَمْرًا، حَنِثَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ الرُّطَبِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ عَيَّنَهُ بِالْإِشَارَةِ، مِثْلَ أَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَأْكُلَهُ رُطَبًا، فَيَحْنَثَ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْجَمِيعِ؛ لِكَوْنِهِ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ صَرِيحًا. الثَّانِي: أَنْ تَتَغَيَّرَ صِفَتُهُ، وَذَلِكَ يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَسْتَحِيلَ أَجْزَاؤُهُ. وَيَتَغَيَّرَ اسْمُهُ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ: لَا أَكَلْت هَذِهِ الْبَيْضَةَ. فَصَارَتْ فَرْخًا. أَوْ لَا أَكَلْت هَذِهِ الْحِنْطَةَ. فَصَارَتْ زَرْعًا فَأَكَلَهُ، فَهَذَا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ وَاسْتَحَالَتْ أَجْزَاؤُهُ. وَعَلَى قِيَاسِهِ، إذَا حَلَفَ: لَا شَرِبْت هَذَا الْخَمْرَ. فَصَارَتْ خَلًّا، فَشَرِبَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، وَزَالَ اسْمُهُ، مَعَ بَقَاءِ أَجْزَائِهِ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ: لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ. فَصَارَ تَمْرًا، وَلَا أُكَلِّمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 596 هَذَا الصَّبِيَّ. فَصَارَ شَيْخًا، وَلَا آكُلُ هَذَا الْحَمَلَ. فَصَارَ كَبْشًا. أَوْ لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ. فَصَارَ دِبْسًا، أَوْ خَلًّا، أَوْ نَاطِفًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْحَلْوَاءِ. وَلَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ، فَصَارَتْ دَقِيقًا، أَوْ سَوِيقًا، أَوْ خُبْزًا، أَوْ هَرِيسَةً. أَوْ: لَا أَكَلْت هَذَا الْعَجِينَ، أَوْ هَذَا الدَّقِيقَ. فَصَارَ خُبْزًا. أَوْ: لَا أَكَلْت هَذَا اللَّبَنَ. فَصَارَ سَمْنًا، أَوْ جُبْنًا، أَوْ كُشْكًا. أَوْ: لَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ. فَصَارَتْ مَسْجِدًا، أَوْ حَمَّامًا، أَوْ فَضَاءً، ثُمَّ دَخَلَهَا أَوْ أَكَلَهُ، حَنِثَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِيمَا إذَا حَلَفَ: لَا كَلَّمْت هَذَا الصَّبِيَّ. فَصَارَ شَيْخًا. وَلَا أَكَلْت هَذَا الْحَمَلَ. فَصَارَ كَبْشًا. وَلَا: دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ. فَدَخَلَهَا بَعْدَ تَغَيُّرِهَا. وَقَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ، فِي الْحِنْطَةِ إذَا صَارَتْ دَقِيقًا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الرُّطَبِ إذَا صَارَ تَمْرًا، وَالصَّبِيِّ إذَا صَارَ شَيْخًا، وَالْحَمَلِ إذَا صَارَ كَبْشًا، وَجْهَانِ. وَقَالُوا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَصُورَتَهُ زَالَتْ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْبَيْضَةَ، فَصَارَتْ فَرْخًا. وَلَنَا، أَنَّ عَيْنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بَاقِيَةٌ، فَحَنِثَ بِهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا أَكَلَتْ هَذَا الْحَمَلَ. فَأَكَلَ لَحْمَهُ. أَوْ: لَا لَبِسْت هَذَا الْغَزْلَ. فَصَارَ ثَوْبًا، فَلَبِسَهُ. أَوْ: لَا لَبِسْت هَذَا الرِّدَاءَ. فَلَبِسَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ. وَفَارَقَ الْبَيْضَةَ إذَا صَارَتْ فَرْخًا؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا اسْتَحَالَتْ، فَصَارَتْ عَيْنًا أُخْرَى، وَلَمْ تَبْقَ عَيْنُهَا، وَلِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالِاسْمِ مَعَ التَّعْيِينِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا كَلَّمْت زَيْدًا هَذَا. فَغَيَّرَ اسْمَهُ. أَوْ: لَا كَلَّمْت صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ. فَكَلَّمَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ. وَلِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ التَّعْيِينُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ، كَانَ الْحُكْمُ لِلتَّعْيِينِ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ مَعَ الْإِضَافَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، تَبَدَّلَتْ الْإِضَافَةُ، مِثْلَ أَنْ حَلَفَ: لَا كَلَّمْت زَوْجَةَ زَيْدٍ هَذِهِ، وَلَا عَبْدَهُ هَذَا، وَلَا دَخَلْت دَارِهِ هَذِهِ. فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ، وَبَاعَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ، فَكَلَّمَهُمَا، وَدَخَلَ الدَّارَ، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ، إلَّا فِي الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُوَالَى وَلَا تُعَادَى، وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِ مَالِكِهَا، فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِهَا، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ فِي الْغَالِبِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ فِي الْيَمِينِ التَّعْيِينُ وَالْإِضَافَةُ، كَانَ الْحُكْمُ لِلتَّعْيِينِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَوْجَةَ فُلَانٍ، وَلَا صَدِيقَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يُوَالِي وَيُعَادِي، وَيَلْزَمُهُ فِي الدَّارِ إذَا أَطْلَقَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَالِكَهَا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا بَعْدَ بَيْعِ مَالِكِهَا إيَّاهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 597 الْقِسْمُ الرَّابِعُ، إذَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ بِمَا يُزِيلُ اسْمَهُ ثُمَّ عَادَتْ، كَمِقَصٍّ انْكَسَرَ ثُمَّ أُعِيدَ، وَقَلَمٍ انْكَسَرَ ثُمَّ بُرِيَ، وَسَفِينَةٍ تَفَصَّمَتْ ثُمَّ أُعِيدَتْ، وَدَارٍ هُدِمَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ، وَأُسْطُوَانَةٍ نُقِضَتْ ثُمَّ أُعِيدَتْ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا وَاسْمَهَا مَوْجُودٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ تَتَغَيَّرْ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ، إذَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ بِمَا لَمْ يُزِلْ اسْمَهُ، كَلَحْمٍ شُوِيَ أَوْ طُبِخَ، وَعَبْدٍ بِيعَ، وَرَجُلٍ مَرِضَ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ، بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ لَمْ يَزُلْ، وَلَا زَالَ التَّغَيُّرُ، فَحَنِثَ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. [فَصْلٌ: قَالَ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمَتْ سَعْدًا زَوْجَ هِنْدٍ وَطَلْق الزَّوْج فَفَعَلَ] (8131) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت سَعْدًا زَوْجَ هِنْدٍ أَوْ سَيِّدَ صُبَيْحٍ، أَوْ صَدِيقَ عَمْرٍو، أَوْ مَالِكَ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ. أَوْ: لَا كَلَّمْت هِنْدَ امْرَأَةَ سَعْدٍ، أَوْ صُبَيْحًا عَبْدَهُ، أَوْ عَمْرًا صَدِيقَهُ. فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ، وَبَاعَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ وَالطَّيْلَسَانَ، وَعَادَى عَمْرًا، وَكَلَّمَهُمْ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الِاسْمُ وَالْإِضَافَةُ، غَلَبَ الِاسْمُ؛ بِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّعْيِينِ لِتَعْرِيفِ الْمَحَلِّ. (8132) فَصْلٌ: وَمَتَى نَوَى بِيَمِينِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ الْإِضَافَةِ، أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَإِنَّمَا لِامْرِئِ مَا نَوَى ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا] (8133) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ تَمْرًا، فَأَكَلَ رُطَبًا، لَمْ يَحْنَثْ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْوِ بِيَمِينِهِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ، وَلَا صَرَفَهُ السَّبَبُ عَنْهُ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِمَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ يَمِينَهُ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، فَإِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ تَمْرًا، لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَكَلَ رُطَبًا وَلَا بُسْرًا وَلَا بَلَحًا. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَكَلَ تَمْرًا وَلَا بُسْرًا وَلَا بَلَحًا، وَلَا سَائِرَ مَا لَا يُسَمَّى رُطَبًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [فَصْلٌ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا] (8134) فَصْلٌ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا، فَأَكَلَ زَبِيبًا أَوْ دِبْسًا أَوْ خَلًّا أَوْ نَاطِفًا، أَوْ لَا يُكَلِّمُ شَابًّا، فَكَلَّمَ شَيْخًا، أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 598 لَا يَشْتَرِيَ جَدْيًا، فَاشْتَرَى تَيْسًا، أَوْ لَا يَضْرِبَ عَبْدًا، فَضَرَبَ عَتِيقًا، لَمْ يَحْنَثْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَعَلَّقَتْ بِالصِّفَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَلَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: لَا أَكَلْت هَذِهِ التَّمْرَةَ. فَأَكَلَ غَيْرَهَا. [فَصْلٌ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ مُنَصَّفًا] (8135) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ مُنَصَّفًا، وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ بُسْرٌ وَبَعْضُهُ تَمْرٌ، أَوْ مُذَنَّبًا، وَهُوَ الَّذِي بَدَأَ فِيهِ الْإِرْطَابُ مِنْ ذَنَبِهِ وَبَاقِيهِ بُسْرٌ، أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا، فَأَكَلَ ذَلِكَ، حَنِثَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى رُطَبًا وَلَا تَمْرًا. وَلَنَا، أَنَّهُ أَكَلَ رُطَبًا وَبُسْرًا، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ أَكَلَ نِصْفَ رُطَبَةٍ وَنِصْفَ بُسْرَةٍ مُنْفَرِدَتَيْنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي أَرْطُبْ رُطَبٌ، وَالْبَاقِيَ بُسْرٌ، وَلَوْ أَنَّهُ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّطَبَ، فَأَكَلَ الْقَدْرَ الَّذِي أَرْطَبُ مِنْ النِّصْفِ، حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْبُسْرَ، فَأَكَلَ الْبُسْرَ الَّذِي فِي النِّصْفِ حَنِثَ. وَإِنْ أَكَلَ الْبُسْرَ مَنْ يَمِينُهُ عَلَى الرُّطَبِ، وَأَكَلَ الرُّطَبَ مَنْ يَمِينُهُ عَلَى الْبُسْرِ، لَمْ يَحْنَثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ حَلَفَ وَاحِدٌ لَيَأْكُلَنَّ رُطَبًا، وَآخَرُ لَيَأْكُلَنَّ بُسْرًا، فَأَكَلَ الْحَالِفُ عَلَى أَكْلِ الرُّطَبِ مَا فِي الْمُنَصَّفِ مِنْ الرُّطَبَةِ، وَأَكَلَ الْآخَرُ بَاقِيَهَا، بَرَّا جَمِيعًا. وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ رُطَبَةً أَوْ بُسْرَةً، أَوْ لَا يَأْكُلُ ذَلِكَ، فَأَكَلَ مُنَصَّفًا، لَمْ يَبَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رُطَبَةٌ وَلَا بُسْرَةٌ. [فَصْلٌ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَأَكَلَ مِنْ لَبَنِ الْأَنْعَامِ أَوْ الصَّيْدِ أَوْ لَبَنِ آدَمِيَّةٍ] (8136) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا، فَأَكَلَ مِنْ لَبَنِ الْأَنْعَامِ، أَوْ الصَّيْدِ، أَوْ لَبَنِ آدَمِيَّةٍ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَلِيبًا أَوْ رَائِبًا، أَوْ مَائِعًا أَوْ مُجَمَّدًا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَبَنٌ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَالْمَصْلِ وَالْأَقِطِ وَالْكُشْكِ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ أَكَلَ زُبْدًا، لَمْ يَحْنَثْ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي الزُّبْدِ: إنْ ظَهَرَ فِيهِ لَبَنٌ، حَنِثَ بِأَكْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا. كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ سَمْنٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا، فَأَكَلَ سَمْنًا أَوْ لَبَنًا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الزُّبْدُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ كَانَ الزُّبْدُ ظَاهِرًا فِيهِ، حَنِثَ. وَإِنْ أَكَلَ جُبْنًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُصْنَعُ مِنْ اللَّبَنِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا، فَأَكَلَ زُبْدًا، أَوْ لَبَنًا، أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُصْنَعُ مِنْ اللَّبَنِ سِوَى السَّمْنِ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ أَكَلَ السَّمْنَ مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي عَصِيدَةٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 599 أَوْ حَلْوَاءَ أَوْ طَبِيخٍ، فَظَهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ، حَنِثَ. وَلِذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا، فَأَكَلَ طَبِيخًا فِيهِ لَبَنٌ، أَوْ لَا يَأْكُلُ خَلًّا، فَأَكَلَ طَبِيخًا فِيهِ خَلٌّ، يَظْهَرُ طَعْمُهُ فِيهِ، حَنِثَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْهُ بِالْأَكْلِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَأَضَافَ إلَيْهِ غَيْرَهُ، فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ أَكَلَهُ ثُمَّ أَكَلَ غَيْرَهُ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ] (8137) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا، فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ شَعِيرًا فَحَنِثَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ مُنَصَّفًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَهْلَكُ فِي الْحِنْطَةِ، فَأَشْبَهَ السَّمْنَ فِي الْخَبِيصِ. وَإِنْ نَوَى بِيَمِينِهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ الشَّعِيرَ مُنْفَرِدًا، أَوْ كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَوْ يَقْتَضِي أَكْلَ شَعِيرٍ يُظْهِرُ أَثَرَ أَكْلِهِ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِذَلِكَ، لِمَا قَدَّمْنَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَة] (8138) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً، حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ مَا يُسَمَّى فَاكِهَةً، وَهِيَ كُلُّ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الشَّجَرَةِ يُتَفَكَّهُ بِهَا، مِنْ الْعِنَبِ، وَالرُّطَبِ، وَالرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالْخَوْخِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالْأُتْرُجِّ، وَالتُّوتِ، وَالنَّبْقِ، وَالْمَوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْجُمَّيْزِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] . وَالْمَعْطُوفُ يُغَايِرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا ثَمَرَةُ شَجَرَةٍ يُتَفَكَّهُ بِهِمَا، فَكَانَا مِنْ الْفَاكِهَةِ، كَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمَا فِي عُرْفِ النَّاسِ فَاكِهَةٌ، وَيُسَمَّى بَائِعُهُمَا فَاكِهَانِيًّا. وَمَوْضِعُ بَيْعِهِمَا دَارَ الْفَاكِهَةِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُرْفِ الْحَقِيقَةُ، وَالْعَطْفُ لِشَرَفِهِمَا وَتَخْصِيصِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وَهُمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا يَابِسُ هَذِهِ الْفَوَاكِهِ، كَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ الْيَابِسِ وَالْإِجَّاصِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ مِنْ الْفَاكِهَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُتَفَكَّهُ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ، وَمِنْهُ مَا يُقْتَاتُ، فَأَشْبَهَ الْحُبُوبَ. وَالزَّيْتُونُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَفَكَّهُ بِأَكْلِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ زَيْتُهُ، وَمَا يُؤْكَلُ مِنْهُ يُقْصَدُ بِهِ التَّأَدُّمُ لَا التَّفَكُّهُ. وَالْبُطْمُ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَيْتُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَاكِهَةٌ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرُ شَجَرٍ يُؤْكَلُ غَضًّا وَيَابِسًا عَلَى جِهَتِهِ، فَأَشْبَهَ التُّوتَ. وَالْبَلُّوطُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَفَكَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَجَاعَةِ، أَوْ التَّدَاوِي. وَكَذَلِكَ سَائِرُ ثَمَرِ شَجَرِ الْبَرِّ الَّذِي لَا يُسْتَطَابُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 600 كَالزُّعْرُورِ الْأَحْمَرِ، وَثَمَرِ الْقَيْقَبِ، وَالْعَفْصِ، وَحَبِّ الْآسِ، وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُسْتَطَابُ، كَحَبِّ الصَّنَوْبَرِ، فَهُوَ فَاكِهَةٌ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ شَجَرَةٍ يُتَفَكَّهُ بِهِ. (8139) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْقِثَّاءُ، وَالْخِيَارُ، وَالْقَرْعُ، وَالْبَاذِنْجَانُ، فَهُوَ مِنْ الْخُضَرِ، وَلَيْسَ بِفَاكِهَةٍ. وَفِي الْبِطِّيخِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هُوَ مِنْ الْفَاكِهَةِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ لِأَنَّهُ يَنْضَجُ وَيَحْلُو، أَشْبَهَ ثَمَرَ الشَّجَرِ. وَالثَّانِي، لَيْسَ مِنْ الْفَاكِهَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرُ بَقْلَةٍ، أَشْبَهَ الْخِيَارَ وَالْقِثَّاءَ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، كَالْجَزَرِ، وَاللِّفْتِ، وَالْفُجْلِ، وَالْقُلْقَاسِ، وَالسَّوْطَلِ، وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاكِهَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِهَا، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أُدْمًا] (8140) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أُدْمًا، حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى التَّأَدُّمِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا يُصْطَبَغُ، كَالطَّبِيخِ وَالْمَرَقِ وَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَالشَّيْرَجِ وَاللَّبَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّيْتِ: {وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» . وَقَالَ: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ، وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. أَوْ مِنْ الْجَامِدَاتِ، كَالشِّوَاءِ وَالْجُبْنِ وَالْبَاقِلَاءِ وَالزَّيْتُونِ وَالْبَيْضِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: مَا لَا يُصْطَبَغُ بِهِ فَلَيْسَ بِأُدْمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرْفَعُ إلَى الْفَمِ مُنْفَرِدًا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيِّدُ الْإِدَامِ اللَّحْمُ» . وَقَالَ: «سَيِّدُ إدَامِكُمْ الْمِلْحُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِهِ الْخُبْزُ عَادَةً، فَكَانَ أُدْمًا، كَاَلَّذِي يُصْطَبَغُ بِهِ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرْنَا لَا يُؤْكَلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 601 فِي الْعَادَةِ وَحْدَهُ، إنَّمَا يُعَدُّ لِلتَّأَدُّمِ بِهِ، وَأَكْلِ الْخُبْزِ بِهِ، فَكَانَ أُدْمًا، كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُرْفَعُ إلَى الْفَمِ وَحْدَهُ مُفْرَدًا. عَنْهُ جَوَابَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ مِنْهُ مَا يُرْفَعُ مَعَ الْخُبْزِ، كَالْمِلْحِ وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْفَمِ وَالْمَضْغِ وَالْبَلْعِ، الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْأَكْلِ، فَلَا يَضُرُّ افْتِرَاقُهُمَا قَبْلَهُ، فَأَمَّا التَّمْرُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هُوَ أُدْمٌ؛ لِمَا رَوَى يُوسُفُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةٍ، وَقَالَ: هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَالثَّانِي، لَيْسَ بِأُدْمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَدَمُ بِهِ عَادَةً، إنَّمَا يُؤْكَلُ قُوتًا أَوْ حَلَاوَةً. وَإِنْ أَكَلَ الْمِلْحَ مَعَ الْخُبْزِ فَهُوَ إدَامٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِهِ الْخَبَرُ، وَلَا يُؤْكَلُ مُنْفَرِدًا عَادَةً، أَشْبَهَ الْجُبْنَ وَالزَّيْتُونَ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فَأَكَلَ مَا يُسَمَّى طَعَامًا] (8141) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا، فَأَكَلَ مَا يُسَمَّى طَعَامًا؛ مِنْ قُوتٍ، وَأُدْمٍ، وَحَلْوَاءَ، وَتَمْرٍ، وَجَامِدٍ، وَمَائِعٍ حَنِثَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] . يَعْنِي عَلَى مَحَبَّةِ الطَّعَامِ؛ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ، وَقِيلَ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] . «وَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّبَنَ طَعَامًا، فَقَالَ: إنَّمَا يَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهمْ أَطْعِمَتَهُمْ» . وَفِي الْمَاءِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، هُوَ طَعَامٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] . وَالطَّعَامُ مَا يُطْعَمُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى اللَّبَنَ طَعَامًا، وَهُوَ مَشْرُوبٌ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ. وَالثَّانِي، لَيْسَ بِطَعَامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى طَعَامًا، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الطَّعَامِ، وَلِهَذَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: طَعَامٌ وَشَرَابٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَا أَعْلَمُ مَا يُجْزِئُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا اللَّبَنَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُقَالُ: بَابُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ طَعَامًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَلَيْسَ بِطَعَامٍ فِي الْعُرْفِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 602 فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ، لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، لِكَوْنِ الْحَالِفِ فِي الْغَالِبِ لَا يُرِيدُ بِلَفْظِهِ إلَّا مَا يَعْرِفُهُ، وَإِنْ أَكَلَ دَوَاءً، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ يُطْعَمُ حَالَ الِاخْتِيَارِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الطَّعَامِ، وَلَا يُؤْكَلُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. فَإِنْ أَكَلَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ، حَنِثَ. وَإِنْ أَكَلَ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، كَوَرَقِ الشَّجَرِ، وَنُشَارَةِ الْخَشَبِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَهُ، فَأَشْبَهَ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابِعَ سَبْعَةٍ، مَا لَنَا طَعَامٌ إلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا» . وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الطَّعَامِ فِي الْعُرْفِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ قُوَّتَا فَأَكَلَ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ لَحْمًا أَوْ لَبَنًا] (8142) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ قُوتًا، فَأَكَلَ خُبْزًا، أَوْ تَمْرًا، أَوْ زَبِيبًا، أَوْ لَحْمًا، أَوْ لَبَنًا، حَنِثَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ يُقْتَاتُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ إلَّا بِأَكْلِ مَا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْقُوتِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ فِي بَلَدِهِمْ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَإِنْ أَكَلَ سَوِيقًا، أَوْ اسْتَفَّ دَقِيقًا، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَاتُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ اللُّصُوصِ: لَا تَخْبِزَا خُبْزًا وَبُسَّابَسَّا ... وَلَا تُطِيلَا بِمُقَامٍ حَبْسَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 603 وَإِنْ أَكَلَ حَبًّا يُقْتَاتُ خُبْزُهُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قُوتًا، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَ عِيَالِهِ لِسَنَةٍ. وَإِنَّمَا يُدَّخَرُ الْحَبُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَاتُ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَكَلَ عِنَبًا، أَوْ حِصْرِمًا، أَوْ خَلًّا، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ قُوتًا. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا] (8143) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا، حَنِثَ بِمِلْكِ كُلِّ مَا يُسَمَّى مَالًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعَقَارِ وَالْأَثَاثِ وَالْحَيَوَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَذْرُهُ الصَّامِتَ مِنْ مَالِهِ. ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْمَالِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ إلَّا إنْ مَلَكَ مَالًا زَكَوِيًّا، اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] . فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الزَّكَوِيَّةَ. وَلَنَا، أَنَّ غَيْرَ الزَّكَوِيَّةِ أَمْوَالٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَهِيَ مِمَّا يَجُوزُ ابْتِغَاءُ النِّكَاحِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ. يَعْنِي حَدِيقَةً. وَقَالَ عُمَرُ: أَصَبْت مَالًا بِأَرْضِ خَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: اشْتَرَيْت مَخْرَفًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ، أَوْ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» . وَيُقَال: خَيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ خَرَّارَةٌ، فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ. وَلِأَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 604 يُسَمَّى مَالًا، فَحَنِثَ بِهِ، كَالزَّكَوِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} [الذاريات: 19] . فَالْحَقُّ هَاهُنَا غَيْرُ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْحَقُّ الزَّكَاةَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْمَالِ، فَهُوَ فِي الْمَالِ، كَمَا أَنَّ مَنْ هُوَ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ، أَوْ فِي بَلْدَةٍ، فَهُوَ فِي الدَّارِ وَالْبَلْدَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] . وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَقْطَارِهَا. ثُمَّ لَوْ اقْتَضَى هَذَا الْعُمُومَ، لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ، فَإِنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ مَالٌ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ. فَإِنْ حَلَفَ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهُ دَيْنٌ، حَنِثَ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ، وَيَصِحُّ إخْرَاجُهَا عَنْهُ، وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْإِبْرَاءِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ عَنْهُ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالتَّوْكِيلِ فِي اسْتِيفَائِهِ، فَيَحْنَثُ بِهِ، كَالْمُودَعِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مَغْصُوبٌ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ضَائِعٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ. وَإِنْ ضَاعَ عَلَى وَجْهٍ قَدْ يَئِسَ مِنْ عَوْدِهِ، كَاَلَّذِي يَسْقُطُ فِي بَحْرٍ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ، كَالْمَجْحُودِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَاَلَّذِي عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ، فِي جَوَازِ الْأَخْذِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَانْتِفَاءِ وُجُوبِ أَدَائِهَا عَلَيْهِ عَنْهُ. وَإِنْ تَزَوَّجَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنْ وَجَبَ لَهُ حَقُّ شُفْعَةٍ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْمِلْكُ بِهِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَالِكًا لِمَالٍ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ لَا يَأْكُل لَحْمًا فَأَكَلَ الشَّحْمَ أَوْ الْمُخَّ أَوْ الدِّمَاغِ] (8144) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ الشَّحْمَ، أَوْ الْمُخَّ، أَوْ الدِّمَاغَ، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اجْتِنَابَ الدَّسَمِ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ الشَّحْمِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ، لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ مَا لَيْسَ بِلَحْمٍ، مِنْ الشَّحْمِ وَالْمُخِّ، وَهُوَ الَّذِي فِي الْعِظَامِ، وَالدِّمَاغِ، وَهُوَ الَّذِي فِي الرَّأْسِ فِي قِحْفِهِ، وَلَا الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، وَالرِّئَةِ، وَالْقَلْبِ، وَالْكَرِشِ، وَالْمُصْرَانِ، وَالْقَانِصَةِ، وَنَحْوِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ اللَّحْمِ، فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 605 وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا، وَيَنْفَرِدُ عَنْهُ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ، وَلَوْ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ لَحْمٍ، فَاشْتَرَى هَذَا، لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ، وَلَا يَنْفُذُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ، كَالْبَقْلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لَيْسَتَا بِلَحْمٍ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ أَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» . وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ مِنْ الْحَيَوَانِ مَعَ اللَّحْمِ، كَالْعَظْمِ وَالدَّمِ. فَأَمَّا إنْ قَصَدَ اجْتِنَابَ الدَّسَمِ، حَنِثَ بِأَكْلِ الشَّحْمِ؛ لِأَنَّ لَهُ دَسَمًا، وَكَذَلِكَ الْمُخُّ، وَكُلُّ مَا فِيهِ دَسَمٌ. (8145) فَصْلٌ: وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْأَلْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا نَابِتَةٌ فِي اللَّحْمِ، وَتُشْبِهُهُ فِي الصَّلَابَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى لَحْمًا، وَلَا يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُخَالِفُهُ فِي اللَّوْنِ وَالذَّوْبِ وَالطَّعْمِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهَا، كَشَحْمِ الْبَطْنِ. فَأَمَّا الشَّحْمُ الَّذِي عَلَى الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ وَفِي تَضَاعِيفِ اللَّحْمِ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّحْمُ لَا يَخْلُو مِنْ شَحْمٍ. يُشِيرُ إلَى مَا يُخَالِطُ اللَّحْمَ مِمَّا تُذِيبُهُ النَّارُ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ طَلْحَةَ الْعَاقُولِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ: هَذَا شَحْمٌ. أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ لَحْمٌ، يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَحْمًا، وَلَا بَائِعُهُ شَحَّامًا، وَلَا يُفْرَدُ عَنْ اللَّحْمِ مَعَ الشَّحْمِ، وَيُسَمَّى بَائِعُهُ لَحَّامًا، وَيُسَمَّى لَحْمًا سَمِينًا، وَلَوْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ لَحْمٍ، فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ، لَزِمَهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فِي شِرَاءِ الشَّحْمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] . وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الشَّحْمَ فِي صِفَتِهِ وَذَوْبِهِ، وَيُسَمَّى دُهْنًا، فَكَانَ شَحْمًا كَاَلَّذِي فِي الْبَطْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَحْمًا، وَلَا أَنَّهُ يُسَمَّى بِمُفْرَدِهِ لَحْمًا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى اللَّحْمُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ لَحْمًا سَمِينًا، وَلَا يُسَمَّى بَائِعُهُ شَحَّامًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ بِمُفْرَدِهِ، وَإِنَّمَا يُبَاعُ تَبَعًا لِلَّحْمِ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ فِي الْوُجُودِ وَالْبَيْعِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَائِعُهُ لَحَّامًا، وَلَمْ يُسَمَّ شَحَّامًا، لِأَنَّهُ سُمِّيَ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، دُونَ التَّبَعِ. (8146) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكَلَ الْمَرَقَ، لَمْ يَحْنَثْ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي الْأَكْلُ مِنْ الْمَرَقِ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَرَقَ لَا يَخْلُو مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ الذَّائِبَةِ، وَقَدْ قِيلَ: الْمَرَقُ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ حَقِيقَةً، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَالْكَبِدِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَجْزَاءَ اللَّحْمِ فِيهِ، وَإِنَّمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 606 فِيهِ مَاءُ اللَّحْمِ وَدُهْنُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَحْمٍ. وَأَمَّا الْمِثْلُ، فَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ، كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: الدُّعَاءُ أَحَدُ الصَّدَقَتَيْنِ. وَقِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْمٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا غَيْرَ اللَّحْمِ الْحَقِيقِيِّ. (8147) فَصْلٌ: وَإِنْ أَكَلَ رَأْسًا، أَوْ كَارِعًا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا، فَاشْتَرَى رَأْسًا أَوْ كَارِعًا، لَا يَحْنَثُ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْ الشَّاةِ شَيْئًا. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ اللَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُ الرُّءُوسَ وَالْكَوَارِعَ، وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ لَحْمٍ، فَاشْتَرَى رَأْسًا أَوْ كَارِعًا، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَيُسَمَّى بَائِعُ ذَلِكَ رَآَّسًا، وَلَا يُسَمَّى لَحَّامًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ بِالْيَمِينِ. وَإِنْ أَكَلَ اللِّسَانَ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنْ اللَّحْمِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ، فَأَشْبَهَ الْقَلْبَ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلُ الشَّحْمَ فَأَكَلَ اللَّحْم] (8148) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ الشَّحْمَ، فَأَكَلَ اللَّحْمَ، حَنِثَ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يَخْلُو مِنْ شَحْمٍ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الشَّحْمَ كُلُّ مَا يَذُوبُ بِالنَّارِ مِمَّا فِي الْحَيَوَانِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَالْعُرْفِ يَشْهَدُ لِقَوْلِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةَ، وَقَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَكَادُ لَحْمٌ يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ، فَيَحْنَثُ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الشَّحْمُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجَوْفِ، مِنْ شَحْمِ الْكُلَى أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الشَّاةِ، مِنْ لَحْمِهَا الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ، وَالْأَلْيَةِ، وَالْكَبِدِ، وَالطِّحَالِ، وَالْقَلْبِ، فَقَالَ شَيْخُنَا: لَا يَحْنَثُ - يَعْنِي ابْنَ حَامِدٍ - لِأَنَّ اسْمَ الشَّحْمِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ شَحْمٌ، فَيَحْنَثُ بِهِ. وَأَمَّا إنْ أَكَلَ لَحْمًا أَحْمَرَ وَحْدَهُ، لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّحْمِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ شَحْمٍ وَإِنْ قَلَّ، وَيَظْهَرُ فِي الطَّبْخِ، فَإِنَّهُ يَبِينُ عَلَى وَجْهِ الْمَرَقِ، وَإِنْ قَلَّ، وَبِهَذَا يُفَارِقُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ سَمْنٌ لَا يَظْهَرُ فِيهِ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَظْهَرُ الدُّهْنُ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَحْمًا، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمَرَقِ قَدْ فَارَقَ اللَّحْمَ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. (8149) فَصْلٌ: وَيَحْنَثُ بِالْأَكْلِ مِنْ الْأَلْيَةِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَمُوَافِقِيهِ؛ لِأَنَّهَا دُهْنٌ يَذُوبُ بِالنَّارِ، وَيُبَاعُ مَعَ الشَّحْمِ، وَلَا يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَمُوَافِقِيهِ: لَيْسَتْ شَحْمًا وَلَا لَحْمًا، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 607 [مَسْأَلَة حَلَفَ أَلَا يَأْكُلُ لَحْمًا وَلَمْ يُرِدْ لَحْمًا بِعَيْنِهِ] (8150) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا، وَلَمْ يُرِدْ لَحْمًا بِعَيْنِهِ، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْأَنْعَامِ، أَوْ الطُّيُورِ، أَوْ السَّمَكِ، حَنِثَ) أَمَّا إذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْأَنْعَامِ أَوْ الصَّيْدِ أَوْ الطَّائِرِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا السَّمَكُ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ ": لَا يَحْنَثُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إطْلَاقُ اسْمِ اللَّحْمِ، وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ اللَّحْمِ، فَاشْتَرَى لَهُ سَمَكًا، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الِاسْمَ، فَيَقُولَ: مَا أَكَلْت لَحْمًا، وَإِنَّمَا أَكَلْت سَمَكًا. فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْحِنْثُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا قَعَدْت تَحْتَ سَقْفٍ. فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ تَحْتَ السَّمَاءِ، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى {سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] لِأَنَّهُ مَجَازٌ، كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] . وَقَالَ: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] . وَلِأَنَّهُ مِنْ جِسْمِ حَيَوَانٍ، وَيُسَمَّى لَحْمًا، فَحَنِثَ بِأَكْلِهِ، كَلَحْمِ الطَّائِرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِلَحْمِ الطَّائِرِ. وَأَمَّا السَّمَاءُ، فَإِنَّ الْحَالِفَ أَلَّا يَقْعُدَ تَحْتَ سَقْفٍ، لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ مِنْ الْقُعُودِ تَحْتَهَا، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا بِيَمِينِهِ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ ثَمَّ مَجَازٌ، وَهَا هُنَا هِيَ حَقِيقَةٌ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ جِسْمِ حَيَوَانٍ يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ، فَكَانَ الِاسْمُ فِيهِ حَقِيقَةً، كَلَحْمِ الطَّائِرِ، حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] . (8151) فَصْلٌ: وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ، كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَغْصُوبِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْمُحَرَّمِ بِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَحِلُّ لَا إلَى مَا يَحْرُمُ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِمَا لَا يَحِلُّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَبَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَحْمٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لَحْمًا، فَقَالَ: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] . وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، فَلَبِسَ ثَوْبَ حَرِيرٍ. وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ. [فَصْلٌ وَالْأَسْمَاء فِي كِتَاب الْأَيْمَان تَنْقَسِم إلَى سِتَّةِ أَقْسَام الْيَمِين] (8152) فَصْلٌ: وَالْأَسْمَاءُ تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 608 أَحَدُهَا، مَا لَهُ مُسَمًّى وَاحِدٌ، كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، فَهَذَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مُسَمَّاهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ. الثَّانِي، مَا لَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ، وَمَوْضُوعٌ لُغَوِيٌّ، كَالْوُضُوءِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى مَوْضُوعِهِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا، غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثُ، مَا لَهُ مَوْضُوعٌ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازٌ لَمْ يَشْتَهِرْ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقِيقَةِ، كَالْأَسَدِ وَالْبَحْرِ، فَيَمِينُ الْحَالِفِ تَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ إذَا وَرَدَ فِي مِثْلِ هَذَا، حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ، كَذَلِكَ الْيَمِينُ. الرَّابِعُ، الْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ، وَهِيَ مَا يَشْتَهِرُ مَجَازُهُ حَتَّى تَصِيرَ الْحَقِيقَةُ مَغْمُورَةً فِيهِ، فَهَذَا عَلَى ضُرُوبٍ؛ أَحَدُهَا، مَا يَغْلِبُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، كَالرَّاوِيَةِ، هِيَ فِي الْعُرْفِ اسْمُ الْمَزَادَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُسْتَقَى عَلَيْهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، وَالظَّعِينَةِ فِي الْعُرْفِ الْمَرْأَةُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ النَّاقَةُ الَّتِي يُظْعَنُ عَلَيْهَا، وَالْعَذِرَةِ وَالْغَائِطِ فِي الْعُرْفِ الْفَضْلَةُ الْمُسْتَقْذَرَةُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْعَذِرَةُ فِنَاءُ الدَّارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِقَوْمٍ: مَا لَكُمْ لَا تُنَظِّفُونَ عَذِرَاتِكُمْ؟ يُرِيدُ أَفْنِيَتَكُمْ. وَالْغَائِطُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ. فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ تَنْصَرِفُ يَمِينُ الْحَالِفِ إلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُرِيدُهُ بِيَمِينِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَقِيقَةَ فِي غَيْرِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَخُصَّ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَعْضَ الْحَقِيقَةِ بِالِاسْمِ، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ فَمِنْهُ مَا يَشْتَهِرُ التَّخْصِيصُ فِيهِ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ، هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . وَقَالَ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55] . وَفِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِلْبِغَالِ وَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَصَّى إنْسَانٌ لِرَجُلٍ بِدَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّهِ، كَانَ لَهُ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ تَنْصَرِفُ إلَى الْعُرْفِ دُونَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَنَاوَلَ يَمِينُهُ الْحَقِيقَةَ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي الْحَالِفِ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ: إنَّ يَمِينَهُ تَتَنَاوَلُ السَّمَكَ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ إذَا حَلَفَ لَا يَشُمُّ الرَّيْحَانَ، فَإِنَّهُ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِكُلِّ نَبْتٍ أَوْ زَهْرٍ طَيِّبِ الرِّيحِ، مِثْلِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالنِّرْجِسِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِشَمِّ الرِّيحَانِ الْفَارِسِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَا يُرِيدُ بِيَمِينِهِ فِي الظَّاهِرِ سِوَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ بِشَمِّ مَا يُسَمَّى فِي الْحَقِيقَةِ رَيْحَانًا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً. وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ الْفَاكِهَةِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى رَيْحَانًا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا. وَمِنْ هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ وَرْدًا، وَلَا بَنَفْسَجًا، فَشَمَّ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ، وَمَاءَ الْوَرْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشُمّ وَرْدًا وَلَا بَنَفْسَجًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 609 وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الشَّمَّ إنَّمَا هُوَ لِلرَّائِحَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَرَائِحَةُ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِشَمِّ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بَنَفْسَجًا، وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ مَاءِ الْوَرْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَرْدًا. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ شَمَّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ الْيَابِسَ، حَنِثَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ تَمْرًا. وَلَنَا، أَنَّ حَقِيقَتَهُ بَاقِيَةٌ، فَحَنِثَ بِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ قَدِيدًا، وَفَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ التَّمْرَ لَيْسَ رُطَبًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً، حَنِثَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَيْضِ الْمَشْوِيِّ وَمَا عَدَاهُ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ مَا يُشْوَى؛ لِأَنَّهُ شِوَاءٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى شِوَاءً، فَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ، كَالْمَطْبُوخِ، وَقَوْلُهُمْ: هُوَ شِوَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ. قُلْنَا: لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى شِوَاءً فِي الْعُرْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الْمُسَمَّى شِوَاءً فِي عُرْفِهِمْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا، فَدَخَلَ مَسْجِدًا، أَوْ حَمَّامًا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بَيْتًا فِي الْعُرْفِ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُمَا بَيْتَانِ حَقِيقَةً، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا، فَقَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] . وَقَالَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] . وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» . وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ: " بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ ". وَإِذَا كَانَ بَيْتًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَيُسَمِّيهِ الشَّارِعُ بَيْتًا، حَنِثَ بِدُخُولِهِ، كَبَيْتِ الْإِنْسَانِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ، فَإِنَّ هَذَا يُسَمَّى بَيْتًا فِي الْعُرْفِ، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ، أَوْ غَيْرِهِ، حَنِثَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَالِفُ حَضَرِيًّا أَوْ بَدَوِيًّا، فَإِنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَقَعُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [النحل: 80] . فَأَمَّا مَا لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ بَيْتًا، كَالْخَيْمَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ بِدُخُولِهِ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ بَيْتًا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَإِنْ دَخَلَ دِهْلِيزَ دَارٍ أَوْ صِفَتَهَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ بَيْتٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 610 وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُسَمَّى بَيْتًا، وَلِهَذَا يُقَالُ: مَا دَخَلْت الْبَيْتَ، إنَّمَا وَقَفْت فِي الصَّحْنِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ، فَرَكِبَ سَفِينَةً، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ رُكُوبٌ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] . وَقَالَ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت: 65] . الضَّرْبُ الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَامًّا، لَكِنْ أَضَافَ إلَيْهِ فِعْلًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، إلَّا فِي بَعْضِهِ، أَوْ اُشْتُهِرَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ رَأْسًا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ رَأْسِ كُلِّ حَيَوَانٍ مِنْ النَّعَمِ وَالصَّيُودِ وَالطُّيُورِ وَالْحِيتَانِ وَالْجَرَادِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ رَأْسٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَيْعِهِ لِلْأَكْلِ مُنْفَرِدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ رُءُوسِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ تَكْثُرُ فِيهِ الصَّيُودُ، وَتُمَيَّزُ رُءُوسُهَا، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُءُوسِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِبَيْعِهَا مُفْرَدَةً. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ رُءُوسِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ دُونَ غَيْرِهَا، فَيَمِينُهُ تَنْصَرِفُ إلَيْهَا. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ هَذِهِ رُءُوسٌ - حَقِيقَةً وَعُرْفًا - مَأْكُولَةٌ، فَحَنِثَ بِأَكْلِهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِ النَّعَامِ وَالزَّرَافَةِ، وَمَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ وَبَيْعُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا، حَنِثَ بِأَكْلِ بَيْضِ كُلِّ حَيَوَانٍ، سَوَاءٌ كُثْرَ وُجُودُهُ، كَبَيْضِ الدَّجَاجِ، أَوْ قَلَّ وُجُودُهُ كَبَيْضِ النَّعَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَيْضِ النَّعَامِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ بَيْضِ الدَّجَاجِ، وَمَا يُبَاعُ فِي السُّوقِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا كُلَّهُ بَيْضٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَهُوَ مَأْكُولٌ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، كَبَيْضِ الدَّجَاجِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً، فَشَرِبَ مَاءَ الْبَحْرِ، أَوْ مَاءً نَجِسًا، أَوْ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا، فَأَكَلَ الْأُرْزَ أَوْ الذُّرَةَ، فِي مَكَان لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ فِيهِ، حَنِثَ. فَأَمَّا إنْ أَكَلَ بَيْضَ السَّمَكِ أَوْ الْجَرَادِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ بَيْضُ حَيَوَانٍ، أَشْبَهَ بَيْضَ النَّعَامِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ بَيْضٍ يُزَايَلُ بَائِضُهُ فِي الْحَيَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَيْضِ، وَلَا يُذْكَرُ إلَّا مُضَافًا إلَى بَائِضِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ شَيْءٍ يُسَمَّى بَيْضًا غَيْرَ بَيْضِ الْحَيَوَانِ، وَلَا بِأَكْلِ شَيْءٍ يُسَمَّى رَأْسًا غَيْرَ رُءُوسِ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرَأْسٍ وَلَا بِيضٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَلَا يَأْكُل سَوِيقًا فَشَرَّبَهُ أَوْ لَا يُشْرِبهُ فَأَكَلَهُ] (8153) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ سَوِيقًا، فَشَرِبَهُ، أَوْ لَا يَشْرَبَهُ، فَأَكَلَهُ، حَنِثَ، إلَّا أَنْ تَكُونُ لَهُ نِيَّةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا، فَشَرِبَهُ، أَوْ لَا يَشْرَبُهُ، فَأَكَلَهُ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 611 إحْدَاهُمَا، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ شَيْءٍ أَوْ شُرْبِهِ يُقْصَدُ بِهَا فِي الْعُرْفِ اجْتِنَابُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأَكْلَ عَلَى الْخُصُوصِ؟ وَلَوْ قَالَ طَبِيبٌ لِمَرِيضٍ: لَا تَأْكُلْ الْعَسَلَ. لَكَانَ نَاهِيًا لَهُ عَنْ شُرْبِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَحْنَثُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَنْوَاعٌ كَالْأَعْيَانِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْأَعْيَانِ، لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا الرِّوَايَتَانِ، فِيمَنْ عَيَّنَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، مِثْلَ مَنْ حَلَفَ: لَا أَكَلْت هَذَا السَّوِيقَ. فَشَرِبَهُ، أَوْ لَا يَشْرَبُهُ، فَأَكَلَهُ، أَمَّا إذَا أَطْلَقَ، فَقَالَ: لَا أَكَلْت سَوِيقًا، فَشَرِبَهُ، لَمْ يَحْنَثْ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ الْخِرَقِيِّ، وَلَيْسَ لِلتَّعْيِينِ أَثَرٌ فِي الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْحِنْثَ فِي الْمُعَيَّنِ إنَّمَا هُوَ لِتَنَاوُلِهِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِجْرَاءِ مَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى التَّنَاوُلِ الْعَامِّ فِيهِمَا، وَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْحِنْثِ يُتَعَلَّلُ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْفِعْلَ الَّذِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ غَيْرَهُ، وَهَذَا فِي الْمُعَيَّنِ كَهُوَ فِي الْمُطْلَقِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمُعَيَّنِ رِوَايَتَانِ، كَانَتَا فِي الْمُطْلَقِ؛ لِعَدَمِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي الْحِنْثِ أُخِذَتْ مِنْ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ، وَرِوَايَةُ عَدَمِ الْحِنْثِ، أُخِذَتْ مِنْ رِوَايَةِ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا النَّبِيذَ، فَأَكَلَهُ، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى شُرْبًا، وَهَذَا فِي الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ عَدَّيْت كُلَّ رِوَايَةٍ إلَى مَحَلِّ الْأُخْرَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ قَصَرْت كُلَّ رِوَايَةٍ عَلَى مَحَلِّهَا، كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ الْقَاضِي، وَهُوَ أَنْ يَحْنَثَ فِي الْمُطْلَقِ، وَلَا يَحْنَثَ فِي الْمُعَيَّنِ. فَأَمَّا إنْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ شَيْئًا فَشَرِبَهُ. أَوْ لَيَشْرَبَنَّهُ فَأَكَلَهُ، فَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ عَلَى التَّرْكِ، وَمَتَى تَقَيَّدَتْ يَمِينُهُ بِنِيَّةٍ، أَوْ سَبَبٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا، كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَشْرَب شَيْئًا فَمَصَّهُ وَرَمَى بِهِ] (8154) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَيْئًا، فَمَصَّهُ وَرَمَى بِهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ، فَمَصَّ قَصَبَ السُّكْرِ: لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَمَصَّ قَصَبَ السُّكَّرِ، لَا يَحْنَثُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ: قَالُوا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ، فَمَصَّ حَبَّ رُمَّانٍ، وَرَمَى بِالثُّفْلِ، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: إنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَنَاوَلَهُ، وَوَصَلَ إلَى بَطْنِهِ وَحَلْقِهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، عَلَى مَا قُلْنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا فَشَرِبَهُ، أَوْ لَا يَشْرَبُهُ فَأَكَلَهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سُكَّرًا، فَتَرَكَهُ فِي فِيهِ حَتَّى ذَابَ، وَابْتَلَعَهُ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَطْعَمُ شَيْئًا، حَنِثَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمَصِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طُعْمٌ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى فِي النَّهْرِ: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} [البقرة: 249] . وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ، أَوْ لَا يَشْرَبُهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 612 فَذَاقَهُ، لَمْ يَحْنَثْ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفْطِرْ بِهِ الصَّائِمُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَذُوقُهُ، فَأَكَلَهُ أَوْ شَرِبَهُ، أَوْ مَصَّهُ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ ذَوْقٌ وَزِيَادَةٌ، وَإِنْ مَضَغَهُ وَرَمَى بِهِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَهُ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ أَكْلَةً بِالْفَتْحِ] (8155) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ أَكْلَةً، بِالْفَتْحِ، لَمْ يَبَرَّ حَتَّى يَأْكُلَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ أَكْلَةً، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ الْأَكْلِ، وَالْأُكْلَةُ، بِالضَّمِّ، اللُّقْمَةُ، وَمِنْهُ: " فَلْيُنَاوِلْهُ فِي يَدِهِ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَيْنِ ". [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَا يَأْكُل تَمْرَة فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ فَأَكَلَ مِنْهُ وَاحِدَة] (8156) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يَأْكُلَ تَمْرَةً، فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَاحِدَةً، مُنِعَ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ الَّتِي وَقَعَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ حِنْثُهُ حَتَّى يَأْكُلَ التَّمْرَ كُلَّهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَالِفَ هَذِهِ الْيَمِينِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَتَحَقَّقَ أَكْلَ التَّمْرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا أَنْ يَعْرِفَهَا بِعَيْنِهَا أَوْ بِصِفَتِهَا، أَوْ يَأْكُلَ التَّمْرَ كُلَّهُ، أَوْ الْجَانِبَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ كُلَّهُ، فَهَذَا يَحْنَثُ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ التَّمْرَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا. الثَّانِي، أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهَا؛ إمَّا بِأَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ التَّمْرِ شَيْئًا، أَوْ أَكَلَ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُهَا، فَلَا يَحْنَثُ أَيْضًا، بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُ زَوْجَتِهِ. الثَّالِثُ، أَكَلَ مِنْ التَّمْرِ شَيْئًا؛ إمَّا وَاحِدَةً، أَوْ أَكْثَرَ، إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ أَكَلَهَا أَمْ لَا؟ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ حِنْثُهُ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَةَ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، وَيَقِينُ النِّكَاحِ ثَابِتٌ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بَاقِيًا، فِي لُزُومِ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا وَمَسْكَنِهَا، وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، إلَّا الْوَطْءَ؛ فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ قَالَ: يُمْنَعُ وَطْأَهَا؛ لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي حِلِّهَا، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الْحِلِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، كَسَائِرِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ حُكْمًا، فَأَثْبَتَ الْحِلَّ، كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ لَيَأْكُلَنَّ هَذِهِ التَّمْرَةَ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِرُّهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ أَكَلَهَا. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبهُ عَشَرَة أَسْوَاطٍ فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَة] (8157) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، فَجَمَعَهَا، فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 613 وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَبَرُّ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي الْمَرِيضِ عَلَيْهِ الْحَدُّ: يُضْرَبُ بِعِثْكَالِ النَّخْلِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مَسَّتْهُ كُلُّهَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَمَسَّهُ كُلُّهَا، لَمْ يَبَرَّ. وَإِنْ شَكَّ، لَا يَحْنَثْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَرِيضِ الَّذِي زَنَى: خُذُوا لَهُ عُثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً» . وَلِأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، فَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ الضَّرْبَ. وَلَنَا، أَنَّ مَعْنَى يَمِينِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ، وَلَمْ يَضْرِبْهُ إلَّا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَبَرَّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ بِسَوْطٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ، يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَوْ عَادَ الْعَدَدُ إلَى السَّوْطِ، لَمْ يَبَرَّ بِالضَّرْبِ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَلِأَنَّ السَّوْطَ هَاهُنَا آلَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَانْتَصَبَ انْتِصَابَهُ، فَمَعْنَى كَلَامِهِ، لَأَضْرِبَنَّهُ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ بِسَوْطٍ. وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ يَمِينِهِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لُغَةً، فَلَا يَبَرُّ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَرْخَصَ لَهُ رِفْقًا بِامْرَأَتِهِ، لِبِرِّهَا بِهِ، وَإِحْسَانِهَا إلَيْهِ، لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ بِرِّهِ فِي يَمِينِهِ وَرِفْقِهِ بِامْرَأَتِهِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِهَذَا، وَذَكَرَهُ فِي جُمْلَةِ مَا مَنَّ عَلَيْهِ بِهِ، مِنْ مُعَافَاتِهِ إيَّاهُ مِنْ بَلَائِهِ، وَإِخْرَاجِ الْمَاءِ لَهُ، فَيَخْتَصُّ هَذَا بِهِ، كَاخْتِصَاصِهِ بِمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ عَامًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ لَمَا اُخْتُصَّ أَيُّوبُ بِالْمِنَّةِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يُخَافُ تَلَفُهُ، أُرْخِصَ لَهُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِّ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَدَّهُ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْحَدِّ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فِيهِ، فَلِئَلَّا يَتَعَدَّاهُ إلَى الْيَمِينِ أَوْلَى، وَلَوْ خُصَّ بِالْبِرِّ مَنْ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْعُدُولَ فِي الْحَدِّ إلَى الضَّرْبِ بِالْعُثْكَالِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ فَبَعِيدَةٌ جِدًّا. وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، فَجَمَعَهَا، فَضَرَبَهُ بِهَا، بَرَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَبَرَّ بِضَرْبِهِ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، دَفْعَةً وَاحِدَة، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ، فَكَذَلِكَ، إلَّا وَجْهًا لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَبَرُّ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ بِأَسْوَاطٍ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَا ضَرَبْتُهُ إلَّا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. فَفَعَلَ هَذَا، لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ. (8158) فَصْلٌ: وَلَا يَبَرُّ حَتَّى يَضْرِبَهُ ضَرْبًا يُؤْلِمُهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبَرُّ بِمَا لَا يُؤْلِمُ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، فَوَقَعَ الْبِرُّ بِهِ. كَالْمُؤْلِمِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 614 وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يُقْصَدُ بِهِ فِي الْعُرْفِ التَّأْلِيمُ، فَلَا يَبَرُّ بِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الضَّرْبُ فِي الشَّرْعِ، فِي حَدٍّ، أَوْ تَعْزِيرٍ، كَانَ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْلِيمُ، كَذَا هَاهُنَا. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا] (8159) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ، فَكَتَبَ إلَيْهِ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ لَا يُشَافِهَهُ) أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ رَجُلًا، فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ؟ إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ، وَلِمَ حَلَفَ إنَّ الْكِتَابَ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى الْكَلَامِ، وَالْكِتَابُ قَدْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْكِتَابِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي هِجْرَانَهُ، وَتَرْكَ صِلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ بِكِتَابٍ وَلَا رَسُولٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكَلُّمٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَيُقَالُ: مَا كَلَّمْتُهُ، وَإِنَّمَا كَاتَبْتُهُ أَوْ رَاسَلْتُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] . وَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] . وَقَالَ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] . وَلَوْ كَانَتْ الرِّسَالَةُ تَكْلِيمًا، لَشَارَكَ مُوسَى غَيْرُهُ مِنْ الرُّسُلِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِكَوْنِهِ كَلِيمَ اللَّهِ وَنَجِيَّهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، حِينَ مَاتَ بِشْرٌ الْحَافِي: لَقَدْ كَانَ فِيهِ أُنْسٌ، وَمَا كَلَّمْته قَطُّ. وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُرَاسَلَةٌ، وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يَحْنَثُ بِهَذَا. الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ} [الشورى: 51] . فَاسْتَثْنَى الرَّسُولَ مِنْ التَّكَلُّمِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِفْهَامِ الْآدَمِيِّينَ، أَشْبَهَ الْخِطَابَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَكَلُّمٍ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . وَالرَّمْزُ لَيْسَ بِتَكَلُّمٍ، لَكِنْ إنْ نَوَى تَرْكَ مُوَاصَلَتِهِ، أَوْ كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي هِجْرَانَهُ، حَنِثَ؛ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ: إنَّ الْكِتَابَ يَجْرِي مَجْرَى الْكَلَامِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ. فَلَمْ يَجْعَلْهُ كَلَامًا، إنَّمَا قَالَ هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ إذَا كَانَ السَّبَبُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِذَا أَطْلَقَ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ الْحَالِفِ هَذِهِ الْيَمِينَ قَصْدُ تَرْكِ الْمُوَاصَلَةِ، فَتَعَلَّقَ يَمِينُهُ بِمَا يُرَادُ فِي الْغَالِبِ، كَقَوْلِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (8160) فَصْلٌ: وَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ قَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ فِي الْإِفْهَامِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 615 وَالثَّانِي لَا يَحْنَثُ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] . إلَى قَوْلِهِ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] . وَقَالَ فِي زَكَرِيَّا {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . إلَى قَوْلِهِ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] . وَلِأَنَّ الْكَلَامَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْإِشَارَةِ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ شَيْءٌ مَسْمُوعٌ، وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» وَالْإِشَارَةُ بِخِلَافِ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . قُلْنَا: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنْهُ، فَيُقَالُ: مَا كَلَّمَهُ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَيْهِ. [فَصْلٌ كَلَّمَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِقَصْدِ إسْمَاعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ] (8161) فَصْلٌ: فَإِنْ كَلَّمَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، بِقَصْدِ إسْمَاعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ تَكْلِيمَهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ زِيَادًا، فَلَمَّا أَرَادَ زِيَادٌ الْحَجَّ، جَاءَ أَبُو بَكْرَةَ إلَى قَصْرِ زِيَادٍ فَدَخَلَ فَأَخَذَ بُنَيًّا لِزِيَادٍ صَغِيرًا فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي؛ إنَّ أَبَاكَ يُرِيدُ الْحَجَّ، وَلَعَلَّهُ يَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ، فَيَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّسَبِ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ. ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ تَكْلِيمًا لَهُ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ قَاصِدًا لِإِسْمَاعِهِ وَإِفْهَامِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَبَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إيَّاكِ أَعْنِي فَاسْمَعِي يَا جَارَة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 616 [فَصْلٌ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّم فُلَانًا فَنَادَاهُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَا يَسْمَعُ] (8162) فَصْلٌ: فَإِنْ نَادَاهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ، فَلَمْ يَسْمَعُ، لِتَشَاغُلِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، حَنِثَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا، فَنَادَاهُ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَا يَسْمَعُ؟ قَالَ: يَحْنَثُ. لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ تَكْلِيمَهُ، وَهَذَا لِكَوْنِ ذَلِكَ يُسَمَّى تَكْلِيمًا، يُقَالُ: كَلَّمْتُهُ، فَلَمْ يَسْمَعْ. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ غَائِبًا، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، أَوْ أَصَمَّ لَا يَعْلَمُ بِتَكْلِيمِهِ إيَّاهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِنِدَاءِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَهُمْ وَنَادَاهُمْ، وَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» . وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] . وَلِأَنَّهُ قَدْ بَطَلَتْ حَوَاسُّهُ، وَذَهَبَتْ نَفْسُهُ، فَكَانَ أَبْعَدَ مِنْ السَّمَاعِ مِنْ الْغَائِبِ الْبَعِيدِ، لِبَقَاءِ الْحَوَاسِّ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَامَةً لَهُ، وَأَمْرًا اخْتَصَّ بِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. [فَصْلٌ سَلَّمَ عَلَى مِنْ حَلَفَ عَلَيْهِ أَلَا يُكَلِّمهُ] فَصْلٌ: وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، حَنِثَ لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ. وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ، أَوْ كَلَّمَهُمْ، فَإِنْ قَصَدَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَإِنْ قَصَدَهُمْ دُونَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، فَإِذَا نَوَاهُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَاهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُكَلِّمٌ لِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ الْعُمُومُ، فَيُحْمَلُ عَلَى مُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ يَصْلُحُ لِلْخُصُوصِ، فَلَا يَحْنَثُ بِالِاحْتِمَالِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَرْجُوحٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ، كَمَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْمَجَازَ الَّذِي لَيْسَ بِمُشْتَهِرٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِيهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَثْنَاهُ. وَالثَّانِيَةُ، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُمْ بِسَلَامِهِ، وَهُوَ مِنْهُمْ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّاسِي. وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْنَثُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ بِنَاءً عَلَى النَّاسِي وَالْجَاهِلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 617 [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ ثُمَّ وَصَلَ يَمِينَهُ بِكَلَامِهِ] (8164) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ. ثُمَّ وَصَلَ يَمِينَهُ بِكَلَامِهِ، مِثْلَ أَنْ قَالَ: فَتَحَقَّقْ ذَلِكَ، أَوْ فَاذْهَبْ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَحْنَثُ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ بِالْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ يَمِينُهُ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذَا الْقَلِيلَ كَلَامٌ مِنْهُ لَهُ حَقِيقَةً، وَقَدْ وُجِدَ بَعْدَ يَمِينِهِ، فَيَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ فَصَلَهُ، وَلِأَنَّ مَا يَحْنَثُ بِهِ إذَا فَصَلَهُ، يَحْنَثُ بِهِ إذَا وَصَلَهُ، كَالْكَثِيرِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْيَمِينَ يَقْتَضِي خِطَابًا مُسْتَأْنَفًا. قُلْنَا: هَذَا الْخِطَابُ مُسْتَأْنَفٌ، غَيْرُ الْأَوَّلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَهُ حَنِثَ بِهِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ صِلَتِهِ هَذَا الْكَلَامَ بِيَمِينِهِ، تَدُلُّ عَلَى إرَادَة كَلَامٍ يَسْتَأْنِفُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ حَقِيقَةً. وَإِنْ نَوَى كَلَامًا غَيْرَ هَذَا، لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا فِي الْمَذْهَبَيْنِ. [فَصْلٌ صَلَّى بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَلَا يُكَلِّمهُ إمَامًا ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاة] (8165) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إمَامًا، ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ، لَمْ يَحْنَثْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَحْنَثُ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ السَّلَامَ عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، كَتَكْبِيرِهَا، وَلَيْسَتْ نِيَّةُ الْحَاضِرِينَ بِسَلَامِهِ وَاجِبَةً فِي السَّلَامِ. وَإِنْ اُرْتُجَّ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، فَفَتَحَ عَلَيْهِ الْحَالِفُ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ] (8166) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَرَأَ، لَمْ يَحْنَثْ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ قَرَأَ خَارِجًا مِنْهَا، حَنِثَ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ اللَّهِ. وَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ - تَعَالَى، لَمْ يَحْنَثْ. وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَقَالَ «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَلَنَا، أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» . لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 618 وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ. وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] فَأَمَرَهُ بِالتَّسْبِيحِ مَعَ قَطْعِ الْكَلَامِ عَنْهُ. وَلِأَنَّ مَا لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، لَا يَحْنَثُ بِهِ خَارِجًا مِنْهَا، كَالْإِشَارَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الصَّلَاةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا. وَإِنْ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ، فَقَالَ: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] . يَقْصِدُ الْقُرْآنَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا حَنِثَ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ ثَلَاثَ لَيَالٍ أَوْ ثَلَاثَة أَيَّامٍ] (8167) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي بَيْنَ اللَّيَالِي، وَلَا فِي اللَّيَالِي الَّتِي بَيْنَ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ عِبَارَةً عَنْ الزَّمَانَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] . فَدَخَلَ فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. [فَصْلٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَكَفَّلَ بِمَالِ فَكَفَلَ بِبَدَنِ إنْسَانُ] (8168) فَصْلٌ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَكَفَّلَ بِمَالٍ، فَكَفَلَ بِبَدَنِ إنْسَانٍ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَلْزَمُهُ بِكَفَالَتِهِ إذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَكْفُولِ بِهِ. وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُلْ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بِتَعَذُّرِ إحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى كَفَالَةً بِالْمَالِ، وَلَا يَصِحُّ نَفْيُهَا عَنْهُ، فَيُقَالُ: مَا تَكَفَّلَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا تَكَفَّلَ بِالْبَدَنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ عَبْدًا فَخَدَمَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَأْمُرهُ وَلَمْ يَنْهَهُ] (8169) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ عَبْدًا، فَخَدَمَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، لَمْ يَأْمُرْهُ وَلَمْ يَنْهَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ عَبْدَهُ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ يَخْدِمُهُ عِبَادَةً بِحُكْمِ اسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى يَمِينِهِ: لَا مَنَعَتْك خِدْمَتِي. فَإِذَا لَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَمْنَعْهُ، فَيَحْنَثُ، وَعَبْدُ غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَحْنَثُ فِي الْحَالَيْنِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 619 لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى الْخِدْمَةِ اسْتِخْدَامٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْتَخْدِمُ عَبْدَهُ إذَا خَدَمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ، وَلِأَنَّ مَا حَنِثَ بِهِ فِي عَبْدِهِ، حَنِثَ بِهِ فِي غَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ. [فَصْلٌ حَلَفَ رَجُلٌ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ آخَرُ يَمِينِي فِي يَمِينِكَ] (8170) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ آخَرُ يَمِينِي فِي يَمِينِك. لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْأَوَّلِ لَيْسَتْ ظَرْفًا لِيَمِينِ الثَّانِي. وَإِنْ نَوَى أَنَّهُ يَلْزَمُنِي مِنْ الْيَمِينِ مَا يَلْزَمُك، لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهَا. قَالَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْكَفَّارَةِ بِهَا لِحُرْمَةِ اللَّفْظِ بِاسْمِ اللَّهِ الْمُحْتَرَمِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْكِنَايَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ، فَقَالَ آخَرُ: يَمِينِي فِي يَمِينِك. يَنْوِي بِهِ، أَنَّهُ يَلْزَمُنِي مِنْ الْيَمِينَ مَا يَلْزَمُك، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا، فَقَالَ رَجُلٌ: وَأَنَا عَلَى مِثْلِ يَمِينِك؟ فَقَالَ: عَلَيْهِ مِثْلُ مَا قَالَهُ الَّذِي حَلَفَ. لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَعْمَلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَرِيحٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ لَمْ يَحْلِفْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْآخَرَ مِنْ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا، فَحَلَفَ الْمَقُولُ لَهُ، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُ الْقَائِلِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مَا يُكَنَّى عَنْهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فِيمَنْ قَالَ: أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي. أَنَّهُ إنْ عَرَفَهَا، وَنَوَى جَمِيعَ مَا فِيهَا، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ. [فَصْلٌ قَالَ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي] (8171) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ: كُنْت عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ: لَسْت أُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ، وَلَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ شُيُوخِنَا يُفْتِي فِي هَذِهِ الْيَمِينِ. قَالَ: وَكَانَ أَبِي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي أَبَا عَلِيِّ - يَهَابُ الْكَلَامَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَالِفُ بِهَا جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَيْمَانِ. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: عَرَفَهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَأَيْمَانُ الْبَيْعَةِ هِيَ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ يَسْتَحْلِفُ بِهَا عِنْدَ الْبَيْعَةِ وَالْأَمْرِ الْمُهِمِّ لِلسُّلْطَانِ. «وَكَانَتْ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بِالْمُصَافَحَةِ» ، فَلَمَّا وُلِّيَ الْحَجَّاجُ رَتَّبَهَا أَيْمَانًا تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَصَدَقَةِ الْمَالِ. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَسَمِ، وَالْكِنَايَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَصِحّ أَنْ يَنْوِيَهُ. وَإِنْ عَرَفَهَا، وَلَمْ يَنْوِ عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فِيهَا لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَمَنْ عَرَفَهَا، وَنَوَى الْيَمِينَ بِمَا فِيهَا، صَحَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى، وَمَا عَدَا الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، فَقَالَ الْقَاضِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 620 هَاهُنَا: تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ، فَتَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ الْمَنْوِيَّةِ، كَيَمِينِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ بِالْكِنَايَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ فِيهَا لِمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ اسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الْمُحْتَرَمِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْكِنَايَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 621 [كِتَاب النُّذُور] ِ الْأَصْلُ فِي النَّذْرِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] . وَقَالَ: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . . وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ.» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ. (8172) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا مَدَحَ الْمُوفِينَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ فِي وَفَائِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا، لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفَاضِلُ أَصْحَابِهِ. [مَسْأَلَةٌ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] (8173) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ، لَمْ يَعْصِهِ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ) ، وَنَذْرُ الطَّاعَةِ؛ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَالْعِتْقُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْجِهَادُ، وَمَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، سَوَاءٌ نَذَرَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا. أَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ مِنْ عِلَّتِي، أَوْ شَفَى فُلَانًا، أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ. أَوْ مَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَدْرَكَ مَا أَمَّلَ بُلُوغَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 وَنَذْرُ الْمَعْصِيَةِ،، أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُلَ النَّفْسَ الْمُحَرَّمَةَ. وَمَا أَشْبَهَهُ، فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَيُكَفِّرُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ؛ وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَرْكَبَ دَابَّتِي، أَوْ أَسْكُنَ دَارِي، أَوْ أَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِي. وَمَا أَشْبَهَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا نَذْرَ طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ. وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا، وَيُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النَّذْرَ سَبْعَةُ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِلْحَثِّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ، غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ لِلنَّذْرِ، وَلَا الْقُرْبَةِ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي، نَذْرُ طَاعَةٍ وَتُبَرَّرُ؛ مِثْلُ الَّذِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ. فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِلْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا، الْتِزَامُ طَاعَةٍ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ اسْتَجْلَبَهَا، أَوْ نِقْمَةٍ اسْتَدْفَعَهَا، كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ. فَتَكُونُ الطَّاعَةُ الْمُلْتَزَمَةُ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. النَّوْعُ الثَّانِي، الْتِزَامُ طَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ ابْتِدَاءً: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ. فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا عُمَرَ غُلَامَ ثَعْلَبٍ قَالَ: النَّذْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعْدٌ. بِشَرْطٍ. وَلِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ الْآدَمِيُّ بِعِوَضٍ، يَلْزَمُهُ بِالْعَقْدِ، كَالْمَبِيعِ وَالْمُسْتَأْجَرِ، وَمَا الْتَزَمَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْهِبَةِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ، نَذْرُ طَاعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ، كَالِاعْتِكَافِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ فَرْعٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ، فَلَا يَجِبُ بِهِ مَا لَا يَجِبُ لَهُ نَظِيرٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ. وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» . وَذَمُّهُ الَّذِينَ يَنْذُرُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 وَلَا يُوفُونَ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . وَلِأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ قُرْبَةً عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّرِ، فَتَلْزَمُهُ، كَمَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، وَكَمَا لَوْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أُضْحِيَّةً، أَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا، وَكَالِاعْتِكَافِ، وَكَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَلَّمُوهَا، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً عِنْدَهُمْ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ أَبِي عُمَرَ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْمُلْتَزَمَ نَذْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطٍ، قَالَ جَمِيلٌ: فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكَ قَدْ نَذَرُوا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لَقَوْنِي وَالْجَعَالَةُ وَعْدٌ بِشَرْطٍ، وَلَيْسَتْ بِنَذْرٍ. [الْقَسَم الثَّالِث النَّذْرُ الْمُبْهَمُ] ُ. وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَى نَذْرٌ. فَهَذَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إلَّا الشَّافِعِيَّ، قَالَ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّذْرِ مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَلِأَنَّهُ نَصٌّ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. [الْقَسَم الرَّابِع نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ] ِ، فَلَا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ.» وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ، وَيَجِبُ عَلَى النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِيمَنْ نَذَرَ لَيَهْدِمَنَّ دَارَ غَيْرِهِ لَبِنَةً لَبِنَةً: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 رَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «لَا نَذْرَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . وَلَمْ يَأْمُرْ بِكَفَّارَةٍ. «وَلَمَّا نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْكُفَّارِ، فَنَجَتْ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَنْحَرَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت إنْ أَنْجَانِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا؟ قَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا، لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِكَفَّارَةٍ «. وَقَالَ لِأَبِي إسْرَائِيلَ حِينَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَجْلِسْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ.» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ. لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ، وَهَذَا الْتِزَامُ مَعْصِيَةٍ، وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا، كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ "، وَأَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «النَّذْرُ نَذْرَانِ؛ فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَذَلِكَ لِلَّهِ، وَفِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَا وَفَاءَ فِيهِ، وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ.» وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ، بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النَّذْرُ حَلْفَةٌ» «. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُخْتِ عُقْبَةَ، لَمَّا نَذَرَتْ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَلَمْ تُطِقْهُ: تُكَفِّرُ يَمِينَهَا.» صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ". قَالَ أَحْمَدُ: إلَيْهِ أَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي نَذَرَتْ ذَبْحَ ابْنِهَا: كَفِّرِي يَمِينَك. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ، فَمَعْنَاهَا لَا وَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ: «وَلَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» . يَعْنِي لَا يَبَرُّ فِيهَا. وَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْ الْكَفَّارَةَ فِي أَحَادِيثِهِمْ، فَقَدْ بَيَّنَهَا فِي أَحَادِيثِنَا فَإِنْ فَعَلَ مَا نَذَرَهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً، فَفَعَلَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ حَتْمًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَيَّنَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَنَهَى عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ. [الْقَسَم الْخَامِس الْمُبَاح مِنْ أَقْسَام النَّذْر] الْقِسْمُ الْخَامِسُ، الْمُبَاحُ؛ كَلُبْسِ الثَّوْبِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَهَذَا يَتَخَيَّرُ النَّاذِرُ فِيهِ، بَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ بِذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ بَرَّ بِفِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَهُ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ. وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا، قَالُوا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ أَوْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ: كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، وَلَا كَفَّارَةَ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَجْزَأَتْهُ الصَّدَقَةُ بِثُلُثِهِ بِلَا كَفَّارَةٍ. وَهَذَا مِثْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ إلَّا فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، إذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرُوهُ فَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِسْ، وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَذَرَتْ امْرَأَةٌ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَسُئِلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَمْ يَأْمُرْ بِكَفَّارَةٍ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، مُرُوهُ فَلْيَرْكَبْ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ، وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِفِعْلِ مَا نَذَرَهُ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً، كَنَذْرِ الْمُسْتَحِيلِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ الَّتِي نَذَرَتْ الْمَشْيَ، فَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، أَنَّ «أُخْتَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا.» صَحِيحٌ، أَخْرُجَهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ رَوَى الْبَعْضَ وَتَرَكَ الْبَعْضَ أَوْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، إحَالَةً عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ حَدِيثِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ إذَا نَذَرَ فِعْلَ مَكْرُوهٍ، كَطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» . فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفِيَ، وَيُكَفِّرَ، فَإِنْ وَفَى بِنَذْرِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. [الْقَسَم السَّادِس نَذْرُ الْوَاجِبِ] ِ، كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لَازِمٌ. لَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْعَقِدَ نَذْرُهُ مُوجِبًا كَفَّارَةَ يَمِينِ إنْ تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ؛ فَإِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِينًا. وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَيُكَفِّرُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ. [الْقَسَم السَّابِع نَذْرُ الْمُسْتَحِيلِ] ِ، كَصَوْمِ أُمْسِ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ، وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُهُ، وَلَا الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، فَالنَّذْرُ أَوْلَى، وَعَقْدُ الْبَابِ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ، أَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَمُوجَبُهُ مُوجَبُهَا، إلَّا فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ، إذَا كَانَ قُرْبَةً وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهُ؛ وَدَلِيلُ هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُخْتِ عُقْبَةَ، «لَمَّا نَذَرْت الْمَشْيَ فَلَمْ تُطِقْهُ وَلْتُكَفِّرْ يَمِينَهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: " فَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ". قَالَ أَحْمَدُ: إلَيْهِ أَذْهَبُ. وَعَنْ عُقْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلَّتِي نَذَرَتْ ذَبْحَ وَلَدِهَا: كَفِّرِي يَمِينَك. وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي أَحَدِ أَقْسَامِهِ، وَهُوَ نَذْرُ اللَّجَاجِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُهُ، فِي سِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ. [فَصْل نَذْرَ فَعَلَ طَاعَةٍ وَمَا لَيْسَ بِطَاعَةِ] (8174) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ فِعْلَ طَاعَةٍ، وَمَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ، لَزِمَهُ فِعْلُ الطَّاعَةِ، كَمَا فِي خَبَرِ أَبِي إسْرَائِيلَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ، وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ. وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِمَا تَرَكَهُ الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ: «نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مُرْ أُخْتَك فَلْتَرْكَبْ، وَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.» رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ خِصَالًا كَثِيرَةً، أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ وَاحِدٌ، فَتَكُونُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 كَفَّارَتُهُ وَاحِدَةً، كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ عَلَى أَفْعَالٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي تَرْكِ الْتَّحَفِّي وَالِاخْتِمَارِ، بِأَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ. [مَسْأَلَةٌ: نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ] (8175) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَجْزَأَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ، حِينَ قَالَ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ» ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ. وَرَوَى الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْخِرَقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ. قَالَ: كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. قَالَ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ مَا يَرِثُ عَنْ فُلَانٍ، فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ. فَذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ: يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ، وَلَا يَجِبُ فِي الشَّرْعِ إلَّا قَدْرُ الزَّكَاةِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: قَالَ: إنْ كَانَ كَثِيرًا، وَهُوَ أَلْفَانِ، تَصَدَّقَ بِعَشَرَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا وَهُوَ أَلْفٌ، تَصَدَّقَ بِسَبْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، تَصَدَّقَ بِخَمْسَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَصَدَّقُ بِالْمَالِ الزَّكَوِيِّ كُلِّهِ. وَعَنْهُ فِي غَيْرِهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» . وَلِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَنَذْرِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَلَنَا، «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي لُبَابَةَ، حِينَ قَالَ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ: يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ» . وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِكَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي دَاوُد: «يُجْزِئُ عَنْك الثُّلُثُ» . فَإِنْ قَالُوا: هَذَا لَيْسَ بِنَذْرٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثُلُثِهِ، كَمَا أَمَرَ سَعْدًا حِينَ أَرَادَ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ، إنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِهِ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 أَحَدُهُمَا، أَنَّ قَوْلَهُ: «يُجْزِئُ عَنْك الثُّلُثُ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْوَاجِبَاتِ، وَلَوْ كَانَ مُخَيَّرًا بِإِرَادَةِ الصَّدَقَةِ، لَمَا لَزِمَهُ شَيْءٌ يُجْزِئُ عَنْهُ بَعْضُهُ. الثَّانِي، أَنَّ مَنْعَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْنَعُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْقُرَبِ، وَنَذْرُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَمَا قَالَهُ رَبِيعَةُ، لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَكَاةٍ، وَلَا فِي مَعْنَاهَا، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَجَبَتْ لِإِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ وَمُوَاسَاتِهِمْ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ تَبَرَّعَ بِهَا صَاحِبُهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ الْمَحْمُولَ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ الْمُطْلَقُ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ مُعَيَّنَةٌ غَيْرُ مُطْلَقَةٍ، ثُمَّ تَبْطُلُ بِمَا لَوْ نَذَرَ صِيَامًا، فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ. وَمَا ذَكَرَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. [فَصْلٌ نَذْرَ الصَّدَقَةَ بِمُعِينِ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِمُقَدَّرِ كَأَلْفِ] (8176) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ بِمُقَدَّرٍ، كَأَلْفٍ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِهِ، فَأَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ، كَجَمِيعِ الْمَالِ. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ لُزُومُ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْذُورٌ، وَهُوَ قُرْبَةٌ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَسَائِرِ الْمَنْذُورَاتِ، وَلِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] . وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِي جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِلْأَثَرِ فِيهِ، وَلِمَا فِي الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ هَاهُنَا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَالِ، فَيَكُونَ كَنَذْرِ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَنْذُورُ ثُلُثَ الْمَالِ فَمَا دُونُ، لَزِمَهُ وَفَاءُ نَذْرِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَهُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الثُّلُثُ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ بِهِ. [فَصْلٌ نَذْر الصَّدَقَة بِقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَأَبْرَأ غَرِيمَهُ مِنْ قَدْره يَقْصِد بِهِ وَفَاء النَّذْر] (8177) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ، فَأَبْرَأَ غَرِيمَهُ مِنْ قَدْرِهِ، يَقْصِدُ بِهِ وَفَاءَ النَّذْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، وَهَذَا إسْقَاطٌ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا فِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ، وَفِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَلْفٌ: أَجْزَأَهُ أَنْ يُخْرِجَ مَا شَاءَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَمَا نَوَاهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ، وَالنَّذْرُ لَا يَلْزَمُ بِالنِّيَّةِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَالْيَمِينِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلَاةً، وَفِي نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 [مَسْأَلَةٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ] (8178) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ، كَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَأَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لَا يُطِيقُهَا، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا، فَعَجَزَ عَنْهَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: «نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَفْتَيْته، فَقَالَ: لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي دَاوُد: وَتُكَفِّرْ يَمِينَهَا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ: «وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَعَنْ عَائِشَة، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. قَالَ: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: وَقَفَهُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا يُطِيقُهُ، فَلْيَفِ اللَّهَ بِمَا نَذَرَ. فَإِذَا كَفَّرَ، وَكَانَ الْمَنْذُورُ غَيْرَ الصِّيَامِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَإِنْ كَانَ صِيَامًا. فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُ لِكُلِّ يَوْمٍ إطْعَامُ مِسْكِينٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وُجِدَ سَبَبُ إيجَابِهِ عَيْنًا، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ، لَزِمَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، كَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ، أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ إطْعَامٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ جَمِيعَ كَفَّارَتِهِ، وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، كَسَائِرِ النُّذُورِ، وَلِأَنَّ مُوجَبَ النَّذْرِ مُوجَبُ الْيَمِينِ، إلَّا مَعَ إمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إذَا كَانَ قُرْبَةً، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ رَمَضَانَ يُطْعَمُ عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ صَوْمِ رَمَضَانَ آكَدُ؛ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ فِيهِ، وَعِظَمِ إثْمِ مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَالثَّانِي، أَنَّ قِيَاسَ الْمَنْذُورِ عَلَى الْمَنْذُورِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَفْرُوضِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ هَذَا قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ، فَأَجْزَأَتْ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمَشْرُوعِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِمُطْلَقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْذُورٌ مُعَيَّنٌ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ فِي الْعَجْزِ عَنْهُ، كَمَا فِي الْعَجْزِ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ. (8179) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَزَ لِعَارِضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ نَحْوِهِ انْتَظَرَ زَوَالَهُ، وَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا غَيْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الْوَقْتُ، فَيُشْبِهُ الْمَرِيضَ فِي شَهْرِ رَمَضَانِ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَجْزُهُ إلَى أَنْ صَارَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، صَارَ إلَى الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ الْمَرْجُوُّ الزَّوَالِ عَنْ صَوْمٍ مُعَيَّنٍ، فَاتَ وَقْتُهُ، انْتَظَرَ الْإِمْكَانَ لِيَقْضِيَهُ. وَهَلْ تَلْزَمُهُ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ كَفَّارَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو الْخَطَّابِ؛ إحْدَاهُمَا، تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَعَجَزَ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ هَذَا الشَّهْرَ، فَأَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ. لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِيَةُ، لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِصِيَامٍ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا لَوْ صَامَ مَا عَيَّنَهُ. (8180) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ غَيْرَ الصِّيَامِ، فَعَجَزَ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْ لِذَلِكَ بَدَلًا يُصَارُ إلَيْهِ، فَوَجَبْت الْكَفَّارَةُ؛ لِمُخَالَفَتِهِ نَذْرَهُ فَقَطْ وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لِعَارِضٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّيَامِ سَوَاءً، فِيمَا فَصَّلْنَاهُ. [مَسْأَلَة نَذَرَ صِيَامًا وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا وَلَمْ يَنْوِهِ] (8181) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَذَرَ صِيَامًا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، وَلَمْ يَنْوِهِ، فَأَقَلُّ ذَلِكَ صِيَامُ يَوْمٍ، وَأَقَلُّ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ) أَمَّا إذَا نَذَرَ صِيَامًا مُطْلَقًا، فَأَقَلُّ ذَلِكَ يَقُومُ صِيَامُ يَوْمٍ، لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ صَوْمٌ مُفْرَدٌ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ، فَيَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ رَكْعَةٌ. نَقْلَهَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ فَإِنَّ الْوِتْرَ صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَهِيَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَطَوَّعَ بِرَكْعَةِ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُجْزِئُهُ إلَّا رَكْعَتَانِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ صَلَاةٍ وَجَبَتْ بِالشَّرْعِ رَكْعَتَانِ، فَوَجَبَ حَمْلُ النَّذْرِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْوِتْرُ، فَهُوَ نَفْلٌ، وَالنَّذْرُ فَرْضٌ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَفْرُوضِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الرَّكْعَةَ لَا تُجْزِئُ فِي الْفَرْضِ، فَلَا تُجْزِئُ فِي النَّفْلِ كَالسَّجْدَةِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ عَيَّنَ بِنَذْرِهِ عَدَدًا، لَزِمَهُ، قَلَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ عَدَدُهُ، فَإِنْ نَوَى عَدَدًا فَهُوَ كَمَا لَوْ سَمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ، كَالْيَمِينِ. [مَسْأَلَةٌ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ] (8182) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا أَنْ يَمْشِيَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ، رَكِبَ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.» وَلَا يُجْزِئُهُ الْمَشْيُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْيَ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ، هُوَ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ النَّاذِرُ، حُمِلَ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ، وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِيهِ؛ لِنَذْرِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ، رَكِبَ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَأَفْتَى بِهِ عَطَاءٌ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ، وَتُهْدِيَ هَدْيًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَزِمَهُ هَدْيٌ، كَتَارِكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَا: يَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ، وَيَرْكَبُ مَا مَشَى وَيَمْشِي مَا رَكِبَ. وَنَحْوَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَادَ فَقَالَ: وَيُهْدِي. وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَعَنْ النَّخَعِيِّ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَالثَّانِيَةُ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ هَدْيٌ سَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ أَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَقَلُّ الْهَدْيِ شَاةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَلْزَمُهُ مَعَ الْعَجْزِ كَفَّارَةٌ بِحَالٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَعَ الْعَجْزِ شَيْءٌ. وَلَنَا، «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لِأُخْتِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، لَمَّا نَذَرَتْ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ: لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَّارَةُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» . وَلِأَنَّ الْمَشْيَ مِمَّا لَا يُوجِبُهُ الْإِحْرَامُ، فَلَمْ يَجِبْ الدَّمُ بِتَرْكِهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكَهُمَا، وَحَدِيثُ الْهَدْيِ ضَعِيفٌ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ، حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْعَجْزِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْعَجْزِ. قُلْنَا: يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى حَالَةِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ قُرْبَةٌ، لِأَنَّهُ مَشْيٌ إلَى عِبَادَةٍ، وَالْمَشْيُ إلَى الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ وَلِهَذَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْكَبْ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ.» فَلَوْ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْمَشْيِ، لَأَمَرَهَا بِهِ. وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالرُّكُوبِ وَالتَّكْفِيرِ، وَلِأَنَّ الْمَشْيَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا؛ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِتَرْكِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ هَاهُنَا. وَتَرْكُ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ؛ إمَّا لِعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَالِهَا وَعَجْزِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمَرْأَةِ الْعَجْزُ عَنْ الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ. أَوْ يَكُونُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ فَتَرَكَ الرَّاوِي ذِكْرَهُ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي الْحَجِّ. قُلْنَا: الْمَشْيُ لَمْ يُوجِبْهُ الْإِحْرَامُ، وَلَا هُوَ مِنْ مَنَاسِكِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ هَدْيٌ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَجِّ، فَلَمْ يُصَلِّهِمَا. فَأَمَّا إنْ تَرَكَ الْمَشْيَ مَعَ إمْكَانِهِ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَيْضًا؛ لِتَرْكِهِ صِفَةَ النَّذْرِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَلْزَمَهُ اسْتِئْنَافُ الْحَجِّ مَاشِيًا؛ لِتَرْكِهِ صِفَةَ الْمَنْذُورِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا مُتَتَابِعًا فَأَتَى بِهِ مُتَفَرِّقًا. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ بَعْدَ الْحَجِّ، كَفَّرَ، وَأَجْزَأَهُ. وَإِنْ مَشَى بَعْضَ الطَّرِيقِ، وَرَكِبَ بَعْضًا، فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَنْ يَحُجَّ فَيَمْشِيَ مَا رَكِبَ، وَيَرْكَبَ مَا مَشَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ إلَّا حَجٌّ يَمْشِي فِي جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّذْرِ يَقْتَضِي هَذَا. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْمَشْيِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْحَجِّ، وَلَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ فِي مَوْضِعٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِتَرْكِهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ، كَمَا لَوْ نَذَرَ الْتَّحَفِّي وَشِبْهَهُ، وَفَارَقَ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ؛ فَإِنَّهَا صِفَةٌ مَقْصُودَةٌ فِيهِ، اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَاتِ، كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْجِمَاعِ وَالْيَمِينِ. [فَصْلٌ نَذَرَ الْحَجَّ رَاكِبًا] (8183) فَصْلٌ: فَإِنْ نَذَرَ الْحَجَّ رَاكِبًا، لَزِمَهُ الْحَجُّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إنْفَاقًا فِي الْحَجِّ فَإِنْ تَرَكَ الرُّكُوبَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرَفُّهِهِ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ وَقَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ بِتَرْكِ النَّذْرِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الْهَدْيِ، إلَّا أَنَّ هَذَا إذَا مَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ مَعَ إمْكَانِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا قُرْبَةٍ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ نَذَرَ الْمَشْيَ فِيهِ أَوْ الرُّكُوبَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَوْضِعًا بِعَيْنِهِ، فَيَلْزَمَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْفَرْضِ، وَالْحَجُّ الْمَفْرُوضُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ يَجِبُ كَذَلِكَ. وَيُحْرِمُ لِلْمَنْذُورِ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ لِلْوَاجِبِ. قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ الْإِحْرَامُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ كَذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ وَالْإِحْرَامُ الْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَنْذُورُ مِنْ الْمَشْيِ أَوْ الرُّكُوبِ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَرْكَبُ فِي الْحَجِّ إذَا رَمَى، وَفِي الْعُمْرَةِ إذَا سَعَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يُفْسِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَجِّ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ. [فَصْلٌ نَذْر الْمَشْي إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الرُّكُوب إلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ حَقِيقَة الْمَشْي وَالرُّكُوب] (8184) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ الرُّكُوبَ إلَيْهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ حَقِيقَةَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، إنَّمَا أَرَادَ إتْيَانَهُ لَزِمَهُ إتْيَانُهُ، لَزِمَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ مَشْيٌ وَلَا رُكُوبٌ؛ لِأَنَّهُ عَنَى ذَلِكَ بِنَذْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ، أَوْ يَذْهَبَ إلَيْهِ، لَزِمَهُ إتْيَانُهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ إتْيَانِهِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ. وَلَنَا؛ أَنَّهُ عَلَّقَ نَذْرَهُ بِوُصُولِ الْبَيْتِ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْكَعْبَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ. وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ أَوْ يَزُورَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَحْصُلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ آتِيَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، غَيْرَ حَاجٍّ وَلَا مُعْتَمِرٍ. لَزِمَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَسَقَطَ شَرْطُهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ آتِيَ الْبَيْتَ. يَقْتَضِي حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، وَشَرْطُ سُقُوطِ ذَلِكَ يُنَاقِضُ نَذْرَهُ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ. [فَصْلٌ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ أَوْ بُقْعَةٍ مِنْهُ] (8185) فَصْلٌ: إذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ، أَوْ بُقْعَةٍ مِنْهُ، كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَبِي قُبَيْسٍ، أَوْ مَوْضِعٍ فِي الْحَرَمِ، لَزِمَهُ الْحَجُّ أَوْ عُمْرَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنْ يَنْذُرَ الْمَشْيَ إلَى الْكَعْبَةِ، أَوْ إلَى مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إنَّ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْحَرَمِ، أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَقَوْلِنَا، وَفِي بَاقِي الصُّوَرِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَنَا، أَنَّهُ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ أَشْبَهَ النَّذْرَ إلَى مَكَّةَ. فَأَمَّا إنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى غَيْرِ الْحَرَمِ، كَعَرَفَةَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 وَمَوَاقِيتِ الْإِحْرَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ كَنَذْرِ الْمُبَاحِ. وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدٍ سِوَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إتْيَانُهُ. وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لَزِمَهُ الصَّلَاةُ دُونَ الْمَشْيِ، فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَلَّى أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخُصُّ مَكَانًا دُونَ مَكَان، فَلَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ دُونَ الْمَوْضِعِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا إلَّا عَنْ اللَّيْثِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صِيَامًا بِمَوْضِعٍ، لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدٍ، مَشَى إلَيْهِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَى مَسْجِدٍ بَعِيدٍ لَشَدَّ الرَّحْلَ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهَا فِيمَا نَذَرَ فِعْلَهَا فِيهِ قُرْبَةً، فَلَا تَلْزَمُهُ بِنَذْرِهِ، وَفَارَقَ مَا لَوْ نَذَرَ الْعِبَادَةَ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، لَزِمَهُ فِعْلُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَيَّنَ لِعِبَادَتِهِ زَمَنًا وَوَقْتًا مُعَيَّنًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهَا مَكَانًا وَمَوْضِعًا، وَالنُّذُورُ مَرْدُودَةٌ إلَى أُصُولِهَا فِي الشَّرْعِ، فَتَعَيَّنَتْ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ. [فَصْلٌ نَذْر الْمَشْي إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى وَلَمْ يَنْوِ بِهِ شَيْئًا وَلَمْ يُعِينهُ] (8186) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَلَمْ يَنْوِ بِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ انْصَرَفَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِالْقَصْدِ دُونَ غَيْرِهِ وَإِطْلَاقُ بَيْتِ اللَّهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي الْعُرْفِ، فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ إطْلَاقُ النَّذْرِ. [فَصْلٌ نَذْرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] (8187) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَبِينُ لِي وُجُوبُ الْمَشْي إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ بِإِتْيَانِ بَيْتِ اللَّهِ فَرْضٌ، وَالْبِرَّ بِإِتْيَانِ هَذَيْنِ نَفْلٌ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.» وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، فَيَلْزَمُ الْمَشْيُ إلَيْهِ بِالنَّذْرِ، كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ قُرْبَةٍ تَجِبُ بِالنَّذْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلُ فِي الْوُجُوبِ، كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَشُهُودِ الْجَنَائِزِ، وَيَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَتَاهُ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالنَّذْرِ الْقُرْبَةُ وَالطَّاعَةُ، وَإِنَّمَا تَحْصِيلُ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَذْرُهُ، كَمَا يَلْزَمُ نَاذِرَ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، وَنَذْرُ الصَّلَاةِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ كَنَذْرِ الْمَشْيِ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ نَذْرَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَنَذْرِ الْمَشْيِ إلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ بِالنَّذْرِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ؛ بِدَلِيلِ نَذْرِ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، «إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» . وَإِذَا كَانَ فَضِيلَةً وَقُرْبَةً، لَزِمَ بِالنَّذْرِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ طُولَ الْقِرَاءَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ بِنَذْرِهَا، وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَهُمْ. [فَصْلٌ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام] (8188) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَمْ تُجْزِئْهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَخَيْرُهَا، وَأَكْثَرُهَا ثَوَابًا لِلْمُصَلِّي فِيهَا. وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ «رَجُلًا يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْك أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنُك» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ صَلَّيْت هَا هُنَا لَأَجْزَأَ عَنْك كُلَّ صَلَاةٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ» . وَإِنْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالصَّلَاةَ فِيهِ، أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَفِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ. وَإِنْ نَذَرَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّهُ مَفْضُولٌ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ. [فَصْلٌ أَفْسَدَ الْحَجَّ الْمَنْذُورَ مَاشِيًا] (8189) فَصْلٌ: وَإِنْ أَفْسَدَ الْحَجَّ الْمَنْذُورَ مَاشِيًا، وَجَبَ الْقَضَاءُ مَاشِيًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، لَكِنْ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، سَقَطَ تَوَابِعُ الْوُقُوفِ، مِنْ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، وَالرَّمْيِ، وَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، وَيَمْشِي بِالْحَجِّ الْفَاسِدِ مَاشِيًا، حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَة] (8190) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ، فَهِيَ الَّتِي تُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى رَقَبَةً بِعَيْنِهَا) يَعْنِي: لَا تُجْزِئُهُ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ سَلِيمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ، وَهِيَ الَّتِي تُجْزِئ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، وَالْوَاجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَذَلِكَ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: يُجْزِئُهُ أَيُّ رَقَبَةٍ كَانَتْ صَحِيحَةً أَوْ مَعِيبَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 وَلَنَا، أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِنَذْرِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ. فَأَمَّا إنْ نَوَى رَقَبَةً بِعَيْنِهَا، أَجْزَأَهُ عِتْقُهَا، أَيَّ رَقَبَةٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ. وَإِنْ نَوَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّقَبَةِ، أَجْزَأَهُ مَا نَوَاهُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالنِّيَّةِ، كَمَا يَتَقَيَّدُ بِالْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقُ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ فَاتَهُ، عَلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ فِي الْفَائِتِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ. [فَصْلٌ نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا] (8191) فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا، لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ. وَإِنْ عَيَّنَ الْهَدْيَ بِلَفْظِهِ، أَوْ نِيَّتِهِ، أَجْزَأَهُ مَا عَيَّنَهُ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، جَلِيلًا كَانَ أَوْ حَقِيرًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى هَدْيًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَيْضَةً» . وَإِنَّمَا صَرَفْنَا الْمُطْلَقَ إلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَى الِاسْمِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ، لَزِمَتْهُ صَلَاةٌ شَرْعِيَّةٌ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ. وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَدَنَةً، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ قَالَ: شَاةً لَزِمَهُ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي عَيَّنَهُ. فَإِنْ نَذَرَ بَدَنَةً، أَجْزَأَهُ ثَنِيَّةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ ثَنِيٌّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ الْإِبِلِ، فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَسَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْهُودٍ الشَّرْعِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الْبَقَرَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْبَدَنَةِ، وَكَذَلِكَ سَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ فَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الْبَقَرَةِ أَوْ الْغَنَمِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَدَنَةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الْخِرَقِيِّ، جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، فَذَبَحَ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ، أَجْزَأَهُ. فَإِنْ نَوَى بِنَذْرِهِ بَدَنَةً مِنْ الْإِبِلِ، لَمْ يُجْزِئْهُ غَيْرُهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِيجَابِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ فَإِنَّهَا انْصَرَفَتْ إلَى الْإِبِلِ بِمَعْهُودِ الشَّرْعِ، وَمَعْهُودُ الشَّرْعِ فِيهَا أَنْ تَقُومَ الْبَقَرَةُ مَقَامَهَا. فَأَمَّا إنْ نَوَاهَا مِنْ الْإِبِلِ أَوْ غَيْرِهِ، فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، كَسَائِرِ الْمَنْذُورَاتِ وَكَذَلِكَ إنْ صَرَّحَ بِهَا فِي نَذْرِهِ. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ نَاقَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَقُومَ الْبَقَرَةُ مَقَامَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ هَدْيًا شَرْعِيًّا، وَالْهَدْيُ الشَّرْعِيُّ لَهُ بَدَلٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 [فَصْلٌ وَمَنْ نَذَرَ هَدْيًا لَزِمَهُ إيصَالُهُ إلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ] (8192) فَصْلٌ: وَمَنْ نَذَرَ هَدْيًا، لَزِمَهُ إيصَالُهُ إلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْهَدْيِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . فَإِنْ عَيَّنَ شَيْئًا بِنَذْرِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أُهْدِي شَاةً، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ بُرًّا، أَوْ ذَهَبًا. وَكَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، حُمِلَ إلَى الْحَرَمِ، فَفُرِّقَ فِي مَسَاكِينِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ دَارِي هَذِهِ، أَوْ أَرْضِي، أَوْ شَجَرَتِي هَذِهِ. بِيعَتْ، وَبُعِثَ بِثَمَنِهَا إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إهْدَاؤُهُ بِعَيْنِهِ، فَانْصَرَفَ بِذَلِكَ إلَى بَدَلِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تُهْدِيَ دَارًا، فَقَالَ: تَبِيعُهَا، وَتَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَنْذُورُ مِمَّا يُنْقَلُ، لَكِنْ يَشُقُّ نَقْله، كَخَشَبَةٍ ثَقِيلَةٍ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهَا؛ لِأَنَّهُ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ نَقْلِهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا كُلْفَةَ فِي نَقْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُ بِنَفْسِهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ، نُظِرَ إلَى الْحَظِّ لِلْمَسَاكِينِ فِي بَيْعِهِ فِي بَلَدِهِ، أَوْ نَقْلِهِ لِيُبَاعَ ثَمَّ. وَإِنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، بِيعَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ. [فَصْلٌ نَذْر أَنْ يُهْدِي إلَى غَيْر مَكَّة كَالْمَدِينَةِ أَوْ الثُّغُور أَوْ يَذْبَح بِهَا] (8193) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ إلَى غَيْرِ مَكَّةَ، كَالْمَدِينَةِ، أَوْ الثُّغُورِ، أَوْ يَذْبَحَ بِهَا، لَزِمَهُ الذَّبْحُ، وَإِيصَالُ مَا أَهْدَاهُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَتَفْرِقَةُ الْهَدْيِ وَلَحْمِ الذَّبِيحَةِ عَلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ مَا لَا يَجُوزُ النَّذْرُ لَهُ، كَكَنِيسَةٍ، أَوْ صَنَمٍ، أَوْ نَحْوِهِ، مِمَّا يُعَظِّمُهُ الْكُفَّارُ أَوْ غَيْرُهُمْ، مِمَّا لَا يَجُوزُ تَعْظِيمُهُ، كَشَجَرَةٍ، أَوْ قَبْرٍ، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ عَيْنِ مَاءٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، قَالَ: «نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ كَانَ بِهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ . قَالُوا: لَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . وَلِأَنَّهُ ضَمَّنَ نَذْرَهُ نَفْعَ فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، بِإِيصَالِ اللَّحْمِ إلَيْهِمْ، وَهَذِهِ قُرْبَةٌ. فَتَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ كَانَ بِهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ النَّذْرُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ كَانَ بِهَا وَثَنٌ، أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ؟» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِهَا ذَلِكَ، لَمَنَعَهُ مِنْ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَعْظِيمًا لِغَيْرِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ، يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ، فَحَرُمَ، كَتَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ، وَلِذَلِكَ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَّخِذَاتِ عَلَى الْقُبُورِ الْمَسَاجِدَ وَالسَّرْجِ، وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 مِثْلَمَا صَنَعُوا. وَعَلَى هَذَا نَذْرُ الشَّمْعِ وَالزَّيْتِ، وَأَشْبَاهِهِ، لِلْأَمَاكِنِ الَّتِي فِيهَا الْقُبُورُ، لَا يَصِحُّ. [فَصْلٌ نَذْرَ الذَّبْحَ بِمَكَّة] (8194) فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ الذَّبْحَ بِمَكَّةَ، فَهُوَ كَنَذْرِ الْهَدْيِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّذْرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ، وَمَعْهُودُ الشَّرْعِ فِي الذَّبْحِ الْوَاجِبِ بِهَا أَنْ يُفَرَّقَ اللَّحْمُ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ نَذْر صِيَام شَهْر مِنْ يَوْم يَقْدَم فُلَان فَقَدِمَ أَوَّل يَوْم مِنْ شَهْر رَمَضَانَ] (8195) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مِنْ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَانٌ، فَقَدِمَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ صِيَامُهُ لِرَمَضَانَ وَنَذْرِهِ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ نَذْرَ هَذَا مُنْعَقِدٌ، لَكِنَّ صِيَامَهُ يُجْزِئُ عَنْ النَّذْرِ وَرَمَضَانَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ صَوْمًا فِي وَقْتٍ، وَقَدْ صَامَ فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ النَّذْرَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ وَافَقَ زَمَنًا يُسْتَحَقُّ صَوْمُهُ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ، كَنَذْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي صِحَّةُ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ غَالِبًا، فَانْعَقَدَ، كَمَا لَوْ وَافَقَ شَعْبَانَ. فَعَلَى هَذَا يَصُومُ رَمَضَانَ، ثُمَّ يَقْضِي، وَيُكَفِّرُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَنَقَلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: أَجْزَأَهُ صِيَامُهُ لِرَمَضَانَ وَنَذْرِهِ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ عِنْدَهُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ صَوْمُهُ عَنْ نَذْرِهِ. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ حِجَّةٌ مَفْرُوضَةٌ، فَأَحْرَمَ عَنْ النَّذْرِ، وَقَعَتْ عَنْ الْمَفْرُوضِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ، قَالَ: يُجْزِئُ لَهُمَا جَمِيعًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَقْضِي حِجَّتَهُ عَنْ نَذْرِهِ وَعَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، أَلَيْسَ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ الْعَصْرِ وَالنَّذْرِ؟ قَالَ: فَذَكَرْت قَوْلِي لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَصَبْت وَأَحْسَنْت. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَعُرْوَةُ: يَبْدَأُ بِحِجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَحُجُّ لِنَذْرِهِ. وَفَائِدَةُ انْعِقَادِ نَذْرِهِ، لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِتَرْكِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِهِ لِنَذْرِهِ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ وَافَقَ نَذْرُهُ بَعْضَ رَمَضَانَ، وَبَعْضَ شَهْرٍ آخَرَ، إمَّا شَعْبَانَ، وَإِمَّا شَوَّالَ، لَزِمَهُ صَوْمُ مَا خَرَجَ عَنْ رَمَضَانَ، وَيُتِمُّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَمَضَانَ. فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَيُجْزِئُهُ صِيَامُهُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إنْ أَخَلَّ بِهِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ عَنْ النَّذْرِ، فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 وَلَنَا، أَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ، فَيَنْعَقِدُ فِي الْوَاجِبِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. [فَصْلٌ نَذَرَ أَنْ يَحُجّ الْعَامَ وَعَلَيْهِ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ] (8196) فَصْلٌ: وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ الْعَامَ، وَعَلَيْهِ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ، رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تُجْزِئُهُ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ عَنْهَا وَعَنْ نَذْرِهِ. نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ. وَالثَّانِيَةُ، يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ مُوجِبًا لِحِجَّةٍ غَيْرِ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ يَبْدَأُ بِحِجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَقْضِي نَذْرَهُ. نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ تَجِبَانِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَمْ تَسْقُطْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَمَا لَوْ نَذَرَ حِجَّتَيْنِ، وَوَجْهُ الْأُولَى، أَنَّهُ نَذَرَ عِبَادَةً فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ أَتَى بِهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ. [فَصْلٌ قَالَ لِلَّهِ عَلَى أَنَّ أَصُومَ شَهْرًا فَنَوَى صِيَامَ شَهْر رَمَضَانَ لِنَذْرِهِ وَرَمَضَان] (8197) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا. فَنَوَى صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، لِنَذْرِهِ وَرَمَضَانَ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ وَاجِبٌ بِفَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَذْرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ شَهْرٍ، فَيَجِبُ شَهْرَانِ بِسَبَبَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمِ شَهْرَيْنِ، وَكَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ عَنْ نَذْرِهِ، وَعَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ. [مَسْأَلَة نَذْر أَنْ يَصُوم يَوْم يَقْدَم فُلَان فَقَدِمَ يَوْم فِطْر أَوْ أَضْحَى] (8198) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، فَقَدِمَ يَوْمَ فِطْرٍ، أَوْ أَضْحَى، لَمْ يَصُمْهُ، وَصَامَ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، فَإِنَّ نَذْرَهُ صَحِيحٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صَوْمُهُ بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي قَبْلَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ زَمَنٌ صَحَّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ لِصَوْمِهِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا تَطَوُّعًا، قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمِي. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ صَوْمُهُ. لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ قَبْلَ قُدُومِهِ، فَيَنْوِيَ صَوْمَهُ مِنْ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يُمْكِنُهُ، كَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ الْحَائِضِ تَطْهُرُ فِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، إذَا ثَبَتَتْ صِحَّتُهُ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَقْسَامٍ خَمْسَةٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَعْلَمَ قُدُومَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَنْوِيَ صَوْمَهُ، وَيَكُونَ يَوْمًا يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ النَّذْرِ فَيَصِحَّ صَوْمُهُ وَيُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ وَفَى بِنَذْرِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَقْدَمَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَعَنْهُ: لَا يَصُومُهُ، وَيَقْضِي، وَيُكَفِّرُ. نَقْلَهُ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَمَذْهَبُ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَقْضِي، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ فَاتَهُ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ نِسْيَانًا، وَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ مِنْ صَوْمِهِ، فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إنْ صَامَهُ صَحَّ صَوْمُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَفَى بِمَا نَذَرَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَفَعَلَهَا. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُكَفِّرَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَ يَوْمًا صَوْمُهُ حَرَامٌ، فَكَانَ مُوجَبُهُ الْكَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ نَذَرْت الْمَرْأَةُ صَوْمَ يَوْمِ حَيْضِهَا. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ كَفَّارَةٍ وَلَا قَضَاءٍ؛ بِنَاءً عَلَى مَنْ نَذَرَ الْمَعْصِيَةَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ بِنَاءً عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ نَذْرًا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ غَالِبًا، فَكَانَ مُنْعَقِدًا كَمَا لَوْ وَافَقَ غَيْرَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ صَوْمَهُ، فَأَشْبَهَ زَمَنَ الْحَيْضِ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ، وَقَدْ فَاتَهُ الصِّيَامُ بِالْعُذْرِ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِفَوَاتِهِ، كَمَا لَوْ فَاتَهُ بِمَرَضٍ. وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَافَقَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصُومُهُ. بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقْدَمَ فِي يَوْمٍ يَصِحُّ صَوْمُهُ، وَالنَّاذِرُ مُفْطِرٌ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ صَوْمًا نَذْرًا صَحِيحًا، وَلَمْ يَفِ بِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَسَائِرِ الْمَنْذُورَاتِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَنْذُورَ لِعُذْرٍ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، مِنْ قَضَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ قَدِمَ فِي زَمَنٍ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ فِيهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَدِمَ لَيْلًا. الرَّابِعُ، قَدِمَ وَالنَّاذِرُ صَائِمٌ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضًا؛ فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَصُومُ بَقِيَّتَهُ، وَيَعْقِدُهُ عَنْ نَذْرِهِ، وَيُجْزِئُهُ، وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صَوْمُ يَوْمٍ بَعْضُهُ تَطَوُّعٌ وَبَعْضُهُ وَاجِبٌ، كَمَا لَوْ نَذَرَ فِي أَثْنَاءِ التَّطَوُّعِ إتْمَامَ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي بَعْضِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ رِوَايَتَيْنِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، كَمَا لَوْ قَدِمَ وَهُوَ مُفْطِرٌ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ قَدِمَ وَهُوَ مُمْسِكٌ، لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ، وَلَمْ يَفْعَلْ مَا يُفْطِرُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّائِمِ تَطَوُّعًا. الْخَامِسُ، أَنْ يَقْدَمَ لَيْلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدَمْ فِي الْيَوْمِ، وَلَا فِي وَقْتٍ يَصِحُّ فِيهِ الصِّيَامُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 (8199) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ. فَهَذَا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، عَلَى نَاذِرِهِ الْكَفَّارَةُ لَا غَيْرُ. نَقَلَهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَعَ الْكَفَّارَةِ، كَالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَة. وَالْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَةُ. قَالَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ هَذَا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءً، كَسَائِرِ الْمَعَاصِي. وَفَارَقَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِنَذْرِهِ الْمَعْصِيَةَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَهَا هُنَا تَعَمَّدَهَا بِالنَّذْرِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» . وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ بِنَاءً عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ يَوْمِ حَيْضِهَا وَنِفَاسِهَا، فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ لَا غَيْرُ. وَلَمْ أَعْلَمْ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا خِلَافًا. (8200) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ وَافَقَ قُدُومُهُ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، صَامَهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَصُومُهُ وَيَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَيُكَفِّرُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ) اخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ الْفَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصُومُهَا عَنْ الْفَرْضِ. صَامَهَا هَاهُنَا، وَأَجْزَأَتْهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصُومُهَا. فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ وَافَقَ يَوْمَ الْعِيدِ، وَقَدْ مَضَى. [فَصْلٌ قَالَ لِلَّهِ عَلَى صَوْمُ يُومِ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَبَدًا] (8201) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَبَدًا. أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ كُلِّ خَمِيسٍ أَبَدًا. لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ، فَقَدْ مَضَى بَيَانُ حُكْمِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ؛ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ عَنْ دُخُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ صَوْمُهُ عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنْ يَدْخُلَ فِي نَذْرِهِ، وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ لِرَمَضَانَ وَنَذْرِهِ. وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ عِيدٍ، أَوْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ يَوْمَ حَيْضٍ، فَفِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا قَدْ مَضَى. وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوْ نَحْوِهِ، صَامَهُمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى نَوَى النَّذْرَ فِي ابْتِدَائِهِمَا، انْقَطَعَ التَّتَابُعُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّكْفِيرِ، فَحِينَئِذٍ يَقْضِي نَذْرَهُ، وَيُكَفِّرُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ صَوْمَ النَّذْرِ مَعَ إمْكَانِهِ لِعُذْرٍ، وَيُفَارِقُ الْأَيَّامَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي نَذْرِهِ؛ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِ عَنْهَا، وَهَا هُنَا تَنْفَكُّ الْأَيَّامُ عَنْ دُخُولِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ نَذْرِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ الَّتِي فِي رَمَضَانَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا عَنْ نَذْرِهِ، وَأَيَّامُ الْكَفَّارَةِ يَصِحُّ صَوْمُهَا عَنْ نَذْرِهِ، وَإِذَا نَوَاهَا عَنْ نَذْرِهِ، انْقَطَعَ التَّتَابُعُ، وَأَجْزَأَتْ عَنْ الْمَنْذُورِ. وَإِنْ فَاتَتْهُ أَيَّامٌ كَثِيرَةٌ، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ الْجَمِيعِ، فَإِذَا كَفَّرَ ثُمَّ فَاتَهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ، لَزِمَتْهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِيمَنْ نَذَرَ صِيَامَ أَيَّامٍ، فَمَرِضَ فَإِنْ كَانَ قَدْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَفَّرَ كَفَّارَةً أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْيَمِينَ، إذَا حَنِثَ وَكَفَّرَ، سَقَطَتْ عَنْهُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ مَتَى كَفَّرَ مَرَّةً، لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَيُشْبِهُ الْيَمِينَ، وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ لِذَلِكَ، وَالْيَمِينُ لَا يُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ، فَمَتَى كَفَّرَهَا، لَمْ يَجِبْ بِهَا أُخْرَى، كَذَلِكَ النَّذْرُ. فَعَلَى هَذَا، مَتَى فَاتَهُ شَيْءٌ فَكَفَّرَ عَنْهُ، ثُمَّ فَاتَهُ شَيْءٌ آخَرُ، قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ الثَّانِيَةِ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا إجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ. [فَصْلٌ نَذْرَ صَوْمِ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا] (8202) فَصْلٌ: إذَا نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا، لَمْ يَدْخُلْ فِي نَذْرِهِ رَمَضَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ، وَلَا يَوْمَا الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صِيَامِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُمَا عَنْ النَّذْرِ، فَأَشْبَهَا رَمَضَانَ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمِ شَوَّالٍ، يَقْضِي يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيُكَفِّرُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ الْعِيدَانِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامٌ مِنْ جُمْلَةِ السَّنَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ مُطْلَقَةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ سَنَةٍ مُتَتَابِعَةٍ أَوْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَتَابِعَةِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْمُعَيَّنَةِ، فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْعِيدَانِ وَلَا رَمَضَانُ، وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رِوَايَتَانِ، فَإِنْ ابْتَدَأَهَا مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ، أَتَمَّ أَحَدَ عَشَرِ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، إلَّا شَهْرَ شَوَّالٍ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهُ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنْ ابْتَدَأَهَا مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ، أَتَمَّ ذَلِكَ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ، وَالْبَاقِيَ بِالْهِلَالِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَلْزَمُهُ مُتَابَعَةٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَرِّقَةَ تُسَمَّى سَنَةً، فَيَتَنَاوَلُهَا نَذْرُهُ، فَيَلْزَمُهُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَهَا بِالْعَدَدِ. وَإِنْ ابْتَدَأَ الشَّهْرَ مِنْ أَثْنَائِهِ، أَتَمَّهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنَّمَا لَزِمَهُ هَاهُنَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ النَّذْرِ عَلَى سَنَةٍ لَيْسَ فِيهَا رَمَضَانُ، وَلَا الْأَيَّامُ الَّتِي لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا، فَجُعِلَ نَذْرُهُ عَلَى مَا يَنْعَقِدُ فِيهِ النَّذْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ السَّنَةَ، وَهَذَا كَمَنْ عَيَّنَ سِلْعَةً بِالْعَقْدِ، فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ إبْدَالُهَا، وَلَوْ وَصَفَهَا ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبَةً، مَلَكَ إبْدَالَهَا، وَيُتِمُّ شَوَّالًا بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْدَأْهُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَإِنْ صَامَ ذَا الْحِجَّةِ مِنْ أَوَّلِهِ، قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ بَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ نَاقِصًا قَضَى خَمْسَةً لِيُكْمِلَهُ ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ الشَّهْرَ كُلَّهُ، فَأَشْبَهَ شَوَّالًا. وَإِنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ، صَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُعَيَّنَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 [مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا] (8203) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، وَلَمْ يُسَمِّهِ، فَمَرِضَ فِي بَعْضِهِ، فَإِذَا عُوفِيَ، بَنَى، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَإِنْ أَحَبَّ أَتَى بِشَهْرٍ مُتَتَابِعٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ صِيَامَ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ، وَحَاضَتْ فِيهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا مُتَتَابِعًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا، أَنْ يُفْطِرَ لِعُذْرٍ؛ مِنْ حَيْضٍ، أَوْ مَرَضٍ، وَنَحْوِهِمَا، فَهَذَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ الصَّوْمَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صِيَامِهِ وَيُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ لِتَرْكِهِ الْمَنْذُورَ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِالْكَفَّارَةِ، لِعَجْزِهَا عَنْ الْمَشْيِ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ مُتَتَابِعًا، ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِهِ مُتَتَابِعًا، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ الْبِنَاءُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ لِعُذْرٍ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ حُكْمًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ مِنْ عُذْرٍ، كَانَ لَهُ الْبِنَاءُ، فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَالسَّفَرِ، فَهَلْ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْطِرُ بِاخْتِيَارِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ فِي فِطْرِ رَمَضَانَ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ. وَالثَّانِي، أَنْ يُفْطِرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّتَابُعَ الْمَنْذُورَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، مَعَ إمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ. فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا مُعَيَّنًا فَصَامَ قَبْلَهُ. وَبِهَذَا الْفَصْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُهَا فِي الْمَنْذُورِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلِيلَ وُجُوبِهَا فَصْلٌ: إذَا صَامَ شَهْرًا مِنْ أَوَّلِ الْهِلَالِ، أَجْزَأَهُ، نَاقِصًا كَانَ أَوْ تَامًّا؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ شَهْرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ» . وَإِنْ بَدَأَ مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ، لَزِمَهُ شَهْرٌ بِالْعَدَدِ، ثَلَاثُونَ يَوْمًا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ» . فَإِنْ صَامَ شَوَّالًا، لَزِمَهُ إكْمَالُهُ ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ مِنْ أَثْنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، قَضَى يَوْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا أَتَمَّ يَوْمًا وَاحِدًا. وَإِنْ صَامَ ذَا الْحِجَّةِ أَفْطَرَ يَوْمَ الْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرْت الْمَرْأَةُ بِحَيْضٍ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَيَقْضِي أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ إنْ كَانَ تَامًّا، وَخَمْسَةً إنْ كَانَ نَاقِصًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا الْأَرْبَعَةُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ بَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَيَقْضِي الْمَتْرُوكَ مِنْهُ لَا غَيْرُ. وَلَوْ صَامَ شَهْرًا مِنْ أَوَّلِ الْهِلَالِ، فَمَرِضَ فِيهِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِ ثُمَّ طَهُرَتْ قَبْلَ خُرُوجِهِ، قَضَى مَا أَفْطَرَ مِنْهُ بِعِدَّتِهِ إنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِيَوْمٍ آخَرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فِطْرِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. [فَصْلٌ وَمَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ] (8205) فَصْلٌ: وَمَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَيُجْزِئَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَهُ بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الشَّهْرِ يَقْتَضِي التَّتَابُعَ. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَعَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَأَمَّا إنْ نَذَرَ صِيَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعُ فِيهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ: يَصُومُهَا مُتَتَابِعَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْذُورَةِ. وَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ أَوْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْعَشَرَةِ لَا يَقْتَضِي تَتَابُعًا، وَالنَّذْرُ لَا يَقْتَضِيهِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ أَوْ نِيَّتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي نَذْرِ الْعَشَرَةِ، دُونَ الثَّلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثِينَ شَهْرٌ، فَلَوْ أَرَادَ التَّتَابُعَ لَقَالَ: شَهْرًا. فَعُدُولُهُ إلَى الْعَدَدِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ التَّفْرِيقِ، بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، فَإِنَّ عَدَمَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى إرَادَةِ التَّتَابُعِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْرِيقَهَا وَلَا تَتَابُعَهَا، وَلَمْ يَجِبْ التَّتَابُعُ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ، لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالصَّوْمُ يَتَخَلَّلُهُ اللَّيْلُ، فَيَفْصِلُ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، لَدَخَلَ فِيهِ اللَّيْلُ. وَالصَّحِيحُ التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا اقْتَضَاهُ لَفْظُهُ، وَلَفْظُهُ لَا يَقْتَضِي التَّتَابُعَ، بِدَلِيلِ نَذْرِ الصَّوْمِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُرْفِ لَا أَثَرَ لَهُ. وَمَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، لَزِمَتْهُ اللَّيَالِي الَّتِي بَيْنَ أَيَّامِ الِاعْتِكَافِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مُتَتَابِعَةً. [فَصْلٌ نَذَرَ صِيَامَ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ] (8206) فَصْلٌ: إذَا نَذَرَ صِيَامَ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ، فَابْتَدَأَهَا مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ، أَجْزَأَهُ صَوْمُهَا بِالْأَهِلَّةِ، بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ ابْتَدَأَهَا مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ، كَمَّلَهُ بِالْعَدَدِ، وَبَاقِي الْأَشْهُرِ بِالْأَهِلَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: يُكَمِّلُ الْجَمِيعَ بِالْعَدَدِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الرِّوَايَتَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 [مَسْأَلَةٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ فَأَفْطَرَ يَوْمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ] (8207) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ، فَأَفْطَرَ يَوْمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، ابْتَدَأَ شَهْرًا، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، فَأَفْطَرَ فِي أَثْنَائِهِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَقْطَعُ صَوْمَهُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهُ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ يَجِبُ مُتَتَابِعًا بِالنَّذْرِ، فَأَبْطَلَهُ الْفِطْرُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّتَابُعَ، وَفَارَقَ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ تَتَابُعَهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالنَّذْرِ، وَهَا هُنَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ فَوَّتَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَهُ مُتَتَابِعًا. الثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ التَّتَابُعَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ ضَرُورَةُ التَّعْيِينِ لَا بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يُبْطِلْهُ الْفِطْرُ فِي أَثْنَائِهِ، كَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ يَجْعَلُ الصَّوْمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَالْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَتَفْوِيتُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ تَفْوِيتَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ. فَعَلَى هَذَا، يُكَفِّرُ عَنْ فِطْرِهِ، وَيَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ بَعْدَ إتْمَامِ صَوْمِهِ. وَهَذَا أَقْيَسُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ عَقِيبَ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ؛ لِأَنَّ بَاقِيَ الشَّهْرِ مَنْذُورٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الصَّوْمِ فِيهِ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أَيْضًا؛ لِإِخْلَالِهِ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَهُ. الْحَالُ الثَّانِي، أَفْطَرَ لِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ، وَيَقْضِي وَيُكَفِّرُ. هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ، وَلَوْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَاتَ مَا نَذَرَهُ، فَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُخْتِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: وَلْتُكَفِّرْ يَمِينَهَا. وَفَارَقَ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ إلَّا فِي الْجِمَاعِ (8208) فَصْلٌ: فَإِنْ جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ حَالَةَ نَذْرِهِ وَقَضَائِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَإِنْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ جَمِيعَ الزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ؛ وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَفِي الْقَضَاءِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهَا النَّذْرُ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الْحَيْضِ لَا يُمْكِنُ الصَّوْمُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي النَّذْرِ، كَزَمَنِ رَمَضَانَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 وَلَنَا، أَنَّ الْمَنْذُورَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَشْرُوعِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ حَاضَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لَزِمَهَا الْقَضَاءُ، فَكَذَلِكَ الْمَنْذُورُ. [فَصْلٌ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ فِي عَامِي هَذَا فَلَمْ يَحُجّ لَعُذْرٍ] (8209) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ فِي عَامِي هَذَا. فَلَمْ يَحُجَّ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَعْذُورًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِعَدَمِ أَحَدِ الشَّرَائِطِ السَّبْعَةِ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ سُلْطَانٌ أَوْ عَدُوٌّ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ، أَوْ أَخْطَأَ عَدَدًا، أَوْ نَسِيَ، أَوْ تَوَانَى، قَضَاهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ مَرِضَ، وَلِأَنَّ الْمَنْذُورَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ فَاتَهُ الْمَشْرُوعُ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، فَكَذَلِكَ الْمَنْذُورُ. [فَصْلٌ نَذَرَ صَوْمِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ أَوْ الْحَجَّ فِي عَامٍ بِعَيْنِهِ وَفَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَهُ] (8210) فَصْلٌ: وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ الْحَجَّ فِي عَامٍ بِعَيْنِهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ، فَقَضَاهُ قَبْلَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمَنْذُورَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ، وَلَوْ صَامَ قَبْلَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا صَامَ الْمَنْذُورَ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَنْذُورِ فِي وَقْتِهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصْلًا. [مَسْأَلَةٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ] (8211) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، صَامَ عَنْهُ وَرَثَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً) يَعْنِي مَنْ نَذَرَ حَجًّا، أَوْ صِيَامًا، أَوْ صَدَقَةً، أَوْ عِتْقًا، أَوْ اعْتِكَافًا، أَوْ صَلَاةً، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ، وَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، فَعَلَهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّلَاةِ: لَا يُصَلَّى عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا لَا بَدَلَ لَهَا بِحَالٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْمَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ الْوَلِيُّ عَنْهُ فِيهَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةِ لَهُ وَالْمَعْرُوفِ. وَأَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى قُبَاءً، فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ، أَنْ تَمْشِيَ ابْنَتُهَا عَنْهَا. وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ مِنْ اعْتِكَافٍ. قَالَ: صُمْ عَنْهَا، وَاعْتَكِفْ عَنْهَا. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ عَائِشَةَ اعْتَكَفَتْ عَنْ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ مَا مَاتَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَمْشِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي، وَلَا يَصُومُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبَدَنِ، قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْضِي عَنْهُ الْحَجَّ، وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَقْضِي الصَّوْمَ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ، فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى وَلِيِّهِ، بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْوَلِيِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا فِي الْمَالِ، وَيَكُونَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ، وَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، بِدَلِيلِ قَرَائِنَ فِي الْخَبَرِ؛ مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ مَا لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً يُقْضَى بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ . وَجَوَابُهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُقْتَضَى سُؤَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضَاهُ السُّؤَالَ عَنْ الْإِبَاحَةِ، فَالْأَمْرُ فِي جَوَابِهِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ الْإِجْزَاءِ، فَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ، كَقَوْلِهِمْ: «أَنُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» . وَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ الْوُجُوبِ فَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَقَوْلِهِمْ: «أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» . وَسُؤَالُ السَّائِلِ فِي مَسْأَلَتِنَا كَانَ عَنْ الْإِجْزَاءِ، فَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفِعْلِ يَقْتَضِيهِ لَا غَيْرُ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الصِّيَامِ عَنْ الْمَيِّتِ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، كَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ «سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ» . وَعَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» . رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَمُطْلَقٌ فِي النَّذْرِ، وَمَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يُقَاسُ، عَلَيْهِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ، لَكَانَتْ أَحَادِيثُنَا أَصَحَّ، وَأَكْثَرَ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْضِيَ النَّذْرَ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ قَضَاهُ غَيْرُهُ، أَجْزَأَهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ، وَقَاسَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْوَارِثُ إنَّمَا هُوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ فِي التَّبَرُّعِ. وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ فِي مَالٍ، تَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ. [فَصْلٌ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ] (8212) فَصْلٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ لِمَا رَوَى «مُعَاوِيَةُ بْنُ خَدِيجٍ الْكِنْدِيُّ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أُمُّهُ كَبْشَةُ بِنْتُ مَعْدِيكَرِبَ عَمَّةُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي آلَيْتُ أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ حَبْوًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: طُوفِي عَلَى رِجْلَيْك سَبْعَيْنِ؛ سَبْعًا عَنْ يَدَيْك، وَسَبْعًا عَنْ رِجْلَيْك» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ عَلَى أَرْبَعٍ، قَالَ: تَطُوفُ عَنْ يَدَيْهَا سَبْعًا، وَعَنْ رِجْلَيْهَا سَبْعًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَيَسْقُطُ، كَمَا أَنَّ «أُخْتَ عُقْبَةَ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحُجَّ وَتَخْتَمِرَ» . وَرَوَى عِكْرِمَةُ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ، فَحَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، فَقَالَ: مُرُوهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَمَرَّ بِرَجُلَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ، فَقَالَ: أَطْلِقَا قِرَانَكُمَا» . وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي إسْرَائِيلَ، الَّذِي نَذَرَ أَنْ يَصُومَ، وَيَفْعَلَ أَشْيَاءَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّوْمِ وَحْدَهُ، وَنَهَاهُ عَنْ سَائِرِ نُذُورِهِ. وَهَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؟ يُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ؛ لِإِخْلَالِهِ بِصِفَةِ نَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ أَصْلُ النَّذْرِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 وَأَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ، فَلِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الطَّوَافَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَقَدْ نَذَرَ الطَّوَافَ عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَأُقِيمَ الطَّوَافُ الثَّانِي مَقَامَ طَوَافِهِ عَلَى يَدَيْهِ. [فَصْلٌ نَذَرَ صَوْمِ الدَّهْرِ] (8213) فَصْلٌ: فَإِنْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ، لَزِمَهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي نَذْرِهِ رَمَضَانُ، وَلَا أَيَّامُ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ. فَإِنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَقْضِهِ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مُسْتَغْرَقٌ بِالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ، وَلَكِنْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ لِتَرْكِهِ. وَإِنْ لَزِمَهُ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ كَفَّارَةٌ، قَدَّمَهُ عَلَى النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَقُدِّمَ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَتَقْدِيمِ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمَنْذُورَةِ. فَإِذَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ لِتَرْكِهِ صَوْمَ يَوْمٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَكَانَتْ كَفَّارَتُهُ الصِّيَامَ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجِبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ، وَتَرْكُهُ يُوجِبُ كَفَّارَةً، فَيَقْضِي ذَلِكَ إلَى التَّسَلْسُلِ، وَتَرْكِ الْمَنْذُورِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ، وَلَا تَجِبُ بِفِعْلِهَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَ النَّذْرِ لِعُذْرٍ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً، فَلَا يَقْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ. [فَصْلٌ وَصِيغَةُ النَّذْرِ] (8214) فَصْلٌ: وَصِيغَةُ النَّذْرِ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرُ كَذَا. لَزِمَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِلَفْظِ النَّذْرِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ، فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ. كَانَ نَذْرًا. وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْكَعْبَةِ لِلَّهِ. قَالَ: هَذَا نَذْرٌ، فَلْيَمْشِ. وَنَحْوُهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَيَزِيدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَمَالِكٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَرُوِيَ عَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا فِيمَنْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ: فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ نَذْرُ مَشْيٍ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. وَلَنَا، أَنَّ لَفْظَةَ: " عَلَيَّ " لِلْإِيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ عَلَيَّ نَذْرٌ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 [كِتَاب الْقَضَاء] ِ الْأَصْلُ فِي الْقَضَاءِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] . وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] . وقَوْله تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَةٍ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقَضَاءِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ. (8215) فَصْلٌ: وَالْقَضَاءُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، كَالْجِهَادِ وَالْإِمَامَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، وَلِأَنَّ فِيهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنُصْرَةَ الْمَظْلُومِ، وَأَدَاءَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَرَدًّا لِلظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصًا لَبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْقُرَبِ؛ وَلِذَلِكَ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، فَكَانُوا يَحْكُمُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، وَبَعَثَ أَيْضًا مُعَاذًا قَاضِيًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَجْلِسَ قَاضِيًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «جَاءَ خَصْمَانِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قُلْت: أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ. قُلْت: عَلَامَ أَقْضِي قَالَ: اقْضِ، فَإِنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشَرَةُ أُجُورٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 (8216) فَصْلٌ: وَفِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ وَوِزْرٌ كَبِيرٌ لِمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ، رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَيَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ خَطَرَهُ. قَالَ خَاقَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أُرِيدَ أَبُو قِلَابَةَ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، فَهَرَبَ إلَى الْيَمَامَةِ، فَأُرِيدَ عَلَى قَضَائِهَا، فَهَرَبَ إلَى الشَّامِ، فَأُرِيدَ عَلَى قَضَائِهَا، وَقِيلَ: لَيْسَ هَاهُنَا غَيْرُك. قَالَ: فَانْزِلُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا قُلْتُمْ، فَإِنَّمَا مَثَلِي مَثَلُ سَابِحٍ وَقَعَ فِي الْبَحْرِ، فَسَبَحَ يَوْمَهُ، فَانْطَلَقَ، ثُمَّ سَبَحَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ، فَمَضَى أَيْضًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَتُرَتْ يَدَاهُ. وَكَانَ يُقَالُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْقَضَاءِ أَشَدُّهُمْ لَهُ كَرَاهَةً. وَلِعَظْمِ خَطَرِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الذَّمِّ لِلْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْمَشَقَّةِ؛ فَكَأَنَّ مَنْ وَلِيَهُ قَدْ حُمِلَ عَلَى مَشَقَّةٍ، كَمَشَقَّةِ الذَّبْحِ. [فَصْلٌ وَالنَّاسُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرِب] (8217) فَصْلٌ: وَالنَّاسُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ، وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ شُرُوطُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا قَضَى بَيْنَ النَّاسَ بِجَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ» . وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ الْحَقَّ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ وَيَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ، مَنْ يَجُوزُ لَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالِاجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلَاحِيَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ، وَفِي تَرْكِهِ مِنْ السَّلَامَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ وَالذَّمِّ، وَلِأَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَالتَّوَقِّي، وَقَدْ أَرَادَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوْلِيَةَ ابْنِ عُمَرَ الْقَضَاءَ فَأَبَاهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ رَجُلًا خَامِلًا، لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا يُعْرَفُ فَالْأَوْلَى لَهُ تَوَلِّيهِ، لِيُرْجَعَ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَقُومَ بِهِ الْحَقُّ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي النَّاسِ بِالْعِلْمِ، يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى، فَالْأَوْلَى الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ الْغَرَرِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إذَا كَانَ ذَا حَاجَةٍ، وَلَهُ فِي الْقَضَاءِ رِزْقٌ، فَالْأَوْلَى لَهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْمَكَاسِبِ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ طَلَبُهُ، وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ؛ لِأَنَّ أَنَسًا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ، وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ، وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَلَا يُوجَدُ سِوَاهُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَأْثَمُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا يَأْثَمُ. فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِضْرَارُ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ غَيْرُك. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ، لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ،. [فَصْلٌ يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا] (8218) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَخْذُ الرِّزْقِ، وَرَخَّصَ فِيهِ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ، وَفَرَضَ لَهُ رِزْقًا. وَرَزَقَ شُرَيْحًا فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ. وَبَعَثَ إلَى الْكُوفَةِ عَمَّارًا وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَرَزَقَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً؛ نِصْفُهَا لِعَمَّارٍ وَنِصْفُهَا لِابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَاضِيَهُمْ وَمُعَلِّمَهُمْ. وَكَتَبَ إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الشَّامِ، أَنَّ اُنْظُرَا رِجَالًا مِنْ صَالِحِي مَنْ قِبَلَكُمْ، فَاسْتَعْمِلُوهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ، وَأَوْسِعُوا عَلَيْهِمْ، وَارْزُقُوهُمْ، وَاكْفُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الرِّزْقِ مَعَ الْحَاجَةِ، فَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَإِنْ كَانَ فَبِقَدْرِ شُغْلِهِ، مِثْلَ وَالِي الْيَتِيمِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ يَكْرَهَانِ الْأَجْرَ عَلَى الْقَضَاءِ. وَكَانَ مَسْرُوقٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَا يَأْخُذَانِ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَقَالَا: لَا نَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى أَنْ نَعْدِلَ بَيْنَ اثْنَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا جَازَ لَهُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ لَمْ يَجُزْ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَلِي الْخِلَافَةَ، فَرَضُوا لَهُ الرِّزْقَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ. وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَزَقَ زَيْدًا وَشُرَيْحًا وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَأَمَرَ بِفَرْضِ الرِّزْقِ لِمَنْ تَوَلَّى مِنْ الْقُضَاةِ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَرْضُ الرِّزْقِ لَتَعَطَّلَ، وَضَاعَتْ الْحُقُوقُ. فَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَنْبَغِي لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ، وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي رِزْقٌ، فَقَالَ لِلْخَصْمَيْنِ: لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا حَتَّى تَجْعَلَا لِي رِزْقًا عَلَيْهِ. جَازَ. وَيَحْتَمِلَ أَنْ لَا يَجُوزَ. [فَصْلٌ الْإِمَامُ يَبْعَثُ الْقُضَاةَ إلَى الْأَمْصَارِ غَيْرِ بَلَدِهِ] (8219) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي بَلَدٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْقُضَاةَ إلَى الْأَمْصَارِ غَيْرِ بَلَدِهِ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا قَاضِيًا إلَى الْيَمَنِ، وَبَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ أَيْضًا. وَقَالَ لَهُ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَبَعَثَ عُمَرُ شُرَيْحًا عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ وَكَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ. وَكَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ يَأْمُرُهُمَا بِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ فِي الشَّامِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ يَحْتَاجُونَ إلَى الْقَاضِي، وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْمَصِيرُ إلَى بَلَدِ الْإِمَامِ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ إغْنَاؤُهُمْ عَنْهُ. [فَصْلٌ وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ تَوْلِيَةَ قَاضٍ] (8220) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ تَوْلِيَةَ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّاسِ وَيَعْرِفُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَلَّاهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، سَأَلَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّاسِ، وَاسْتَرْشَدَهُمْ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ. وَإِنْ ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ، أَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ، وَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُ، وَإِلَّا بَحَثَ عَنْ عَدَالَتِهِ، فَإِذَا عَرَفَهَا وَلَّاهُ، وَيَكْتُبُ لَهُ عَهْدًا يَأْمُرُهُ فِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْقَضَاءِ، وَمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَصَفُّحِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ، وَتَأَمُّلِ الشَّهَادَاتِ، وَتَعَاهُدِ الْيَتَامَى، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْوُقُوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى مُرَاعَاتِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي وَلَّاهُ قَضَاءَهُ بَعِيدًا، لَا يَسْتَفِيضُ إلَيْهِ الْخَبَرُ بِمَا يَكُونُ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ، أَحْضَرَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمَا الْعَهْدَ، وَأَقْرَآهُ غَيْرَهُ بِحَضْرَتِهِ، وَأَشْهَدَهُمَا عَلَى تَوْلِيَتِهِ؛ لِيَمْضِيَا مَعَهُ إلَى بَلَدِ وِلَايَتِهِ، فَيُقِيمَا لَهُ الشَّهَادَةَ، وَيَقُولَ لَهُمَا: اشْهَدَا عَلَى أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُهُ قَضَاءَ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، وَتَقَدَّمْت إلَيْهِ بِمَا اشْتَمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا مِنْ بَلَدِ الْإِمَامِ، يَسْتَفِيضُ إلَيْهِ مَا يَجْرِي فِي بَلَدِ الْإِمَامِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ أَوْ مَا دُونَهَا، جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِفَاضَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ فِي الْبَلَدِ الْقَرِيبِ وَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّى عَلِيًّا وَمُعَاذًا قَضَاءَ الْيَمَنِ وَهُوَ بَعِيدٌ، مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ، وَوَلَّى الْوُلَاةَ فِي الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ وَفَوَّضَ إلَيْهِمْ الْوِلَايَةَ وَالْقَضَاءَ، وَلَمْ يُشْهِدْ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْإِشْهَادُ عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، مَعَ بُعْدِ بُلْدَانِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَعَذَّرَتْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي الْبَلَدِ الْبَعِيدِ؛ لِعَدَمِ وُصُولِهَا إلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ الْإِشْهَادُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشْهِدْ عَلَى تَوْلِيَتِهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ وَالِيًا إلَّا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ، وَعَدَمُ نَقْلِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ فِعْلِهِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُهُ فَتَعَيَّنَ وُجُودُهُ. [يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ] (8221) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وَلَا يُوَلَّى قَاضٍ حَتَّى يَكُونَ بَالِغًا، عَاقِلًا، مُسْلِمًا، حُرًّا، عَدْلًا، عَالِمًا، فَقِيهًا، وَرِعًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، الْكَمَالُ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ كَمَالُ الْأَحْكَامِ، وَكَمَالُ الْخِلْقَةِ، أَمَّا كَمَالُ الْأَحْكَامِ فَيُعْتَبَرُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا ذَكَرًا. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً فِي غَيْرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَاهِدَةً فِيهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» . وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ يَحْضُرُ مَحَافِلَ الْخُصُومِ وَالرِّجَالِ، وَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَمَالِ الرَّأْيِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ، وَالْمَرْأَةُ نَاقِصَةُ الْعَقْلِ، قَلِيلَةُ الرَّأْيِ، لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْحُضُورِ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَلْفُ امْرَأَةٍ مِثْلِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِنَّ وَنِسْيَانِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلَا لِتَوْلِيَةِ الْبُلْدَانِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوَلِّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، امْرَأَةً قَضَاءً وَلَا وِلَايَةَ بَلَدٍ، فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ جَمِيعُ الزَّمَانِ غَالِبًا. وَأَمَّا كَمَالُ الْخِلْقَةِ، فَأَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِالْحُكْمِ، وَلَا يَفْهَمُ جَمِيعُ النَّاسِ إشَارَتَهُ، وَالْأَصَمُّ لَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرَّ لَهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى؛ لِأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ أَعْمَى. وَلَهُمْ فِي الْأَخْرَسِ الَّذِي تُفْهَمُ إشَارَتُهُ وَجْهَانِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ الْحَوَاسَّ تُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ، فَيَمْنَعُ فَقْدُهَا وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَالسَّمْعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْصِبَ الشَّهَادَةِ دُونَ مَنْصِبِ الْقَضَاءِ، وَالشَّاهِدُ يَشْهَدُ فِي أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهَا، وَرُبَّمَا أَحَاطَ بِحَقِيقَةِ عِلْمِهَا، وَالْقَاضِي وِلَايَتُهُ عَامَّةٌ، وَيَحْكُمُ فِي قَضَايَا النَّاسِ عَامَّةً، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى، وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ شُعَيْبٍ فَلَا نُسَلِّمُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ هَاهُنَا، فَإِنَّ شُعَيْبًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَانَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ قَلِيلًا، وَرُبَّمَا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى حَكَمٍ بَيْنَهُمْ لِقِلَّتِهِمْ وَتَنَاصُفِهِمْ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي مَسْأَلَتِنَا. الشَّرْطُ الثَّانِي، الْعَدَالَةُ، فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ فَاسِقٍ، وَلَا مَنْ فِيهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَحُكِيَ عَنْ الْأَصَمِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَاسِقًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا، فَصَلُّوهَا لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً» . وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَجِبُ التَّبَيُّنُ عِنْدَ حُكْمِهِ؛ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا، فَلِئَلَّا يَكُونَ قَاضِيًا أَوْلَى. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ كَوْنِهِمْ أُمَرَاءَ، لَا بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالنِّزَاعُ فِي صِحَّةِ تَوْلِيَتِهِ، لَا فِي وُجُودِهَا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا فَيَحْكُمَ بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ فَصْلُ الْخَصَائِمِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ جَازَ، كَمَا يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] . وَلَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ، وَقَالَ: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] . وَقَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 وَرَوَى بُرَيْدَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ، قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَالْعَامِّيُّ يَقْضِي عَلَى الْجَهْلِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ آكَدُ مِنْ الْفُتْيَا؛ لِأَنَّهُ فُتْيَا وَإِلْزَامٌ، ثُمَّ الْمُفْتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا مُقَلِّدًا، فَالْحَكَمُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ. قُلْنَا: نَعَمْ. إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا بِخَبَرِهِ لَا بِفُتْيَاهُ، وَيُخَالِفُ قَوْلَ الْمُقَوِّمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْحَاكِمَ مَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمِنْ شَرْطِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ سِتَّةِ أَشْيَاءَ؛ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاخْتِلَافِ، وَالْقِيَاسِ، وَلِسَانِ الْعَرَبِ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ؛ الْخَاصَّ، وَالْعَامَّ، وَالْمُطْلَقَ، وَالْمُقَيَّدَ، وَالْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ، وَالْمُجْمَلَ، وَالْمُفَسَّرَ، وَالنَّاسِخَ، وَالْمَنْسُوخَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ نَحْوُ خَمْسِمِائَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ سَائِرِ الْقُرْآنِ. فَأَمَّا السُّنَّةُ، فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ دُونَ سَائِرِ الْأَخْبَارِ، مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالرَّقَائِقِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهَا مَا يَعْرِفُ مِنْ الْكِتَابِ، وَيَزِيدُ مَعْرِفَةَ التَّوَاتُرِ، وَالْآحَادِ، وَالْمُرْسَلِ، وَالْمُتَّصِلِ، وَالْمُسْنَدِ، وَالْمُنْقَطِعِ، وَالصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَمَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ، وَشُرُوطِهِ، وَأَنْوَاعِهِ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِنْبَاطِهِ الْأَحْكَامَ، وَمَعْرِفَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا ذُكِرَ؛ لِيَتَعَرَّفَ بِهِ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَصْنَافِ عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِلْفُتْيَا، وَالْحُكْمُ فِي مَعْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ شُرُوطٌ لَا تَجْتَمِعُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا؟ . قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهَذِهِ الْعُلُومِ إحَاطَةً تَجْمَعُ أَقْصَاهَا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَا أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا، فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ، خَلِيفَتَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَزِيرَاهُ، وَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُ، فِي حَالِ إمَامَتِهِمَا يُسْأَلَانِ عَنْ الْحُكْمِ فَلَا يَعْرِفَانِ مَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ، حَتَّى يَسْأَلَا النَّاسَ فَيُخْبَرَا «، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 فَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَا أَعْلَمُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، وَلَكِنْ ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ يَعْلَمُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَدَّةِ؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهَا السُّدُسَ. وَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَأَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ» . وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَّعَهَا الْمُجْتَهِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرُوعٌ فَرَّعَهَا الْفُقَهَاءُ بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا تَكُونُ شَرْطًا لَهُ وَهُوَ سَابِقٌ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ الْمَسَائِلِ، بَلْ مَنْ عَرَفَ أَدِلَّةَ مَسْأَلَةٍ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا، وَإِنْ جَهِلَ غَيْرَهَا، كَمَنْ يَعْرِفُ الْفَرَائِضَ وَأُصُولَهَا، لَيْسَ مِنْ شَرْطِ اجْتِهَادِهِ فِيهَا مَعْرِفَتُهُ بِالْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ مَا مِنْ إمَامٍ إلَّا وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي مَسَائِلَ. وَقِيلَ: مَنْ يُجِيبُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَهُوَ مَجْنُونٌ، وَإِذَا تَرَكَ الْعَالِمُ: لَا أَدْرِي. أُصِيبَتْ مُقَاتِلُهُ. وَحُكِيَ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي. وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا. وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ أُصُولُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهُوَ مَجْمُوعٌ مُدَوَّنٌ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ، وَرُزِقَ فَهْمَهُ، كَانَ مُجْتَهِدًا، لَهُ الْفُتْيَا وَوِلَايَةُ الْحُكْمِ إذَا وُلِّيَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَوْنُهُ كَاتِبًا أَيْ الْقَاضِي] (8222) فَصْلٌ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَاكِمِ كَوْنُهُ كَاتِبًا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِيَعْلَمَ مَا يَكْتُبُهُ كَاتِبُهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إخْفَائِهِ عَنْهُ. وَلَنَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أُمِّيًّا، وَهُوَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحَاكِمِ الْكِتَابَةُ، فَلَا تُعْتَبَرُ شُرُوطُهَا، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ جَازَ تَوْلِيَتُهُ لِمَنْ يَعْرِفُهُ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ مَعْرِفَةُ الْمِسَاحَةِ، وَيَحْتَاجُ إلَى التَّقْوِيمِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقِيمَةِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا مَعْرِفَتُهُ بِعُيُوبِ كُلِّ شَيْءٍ. [فَصْلٌ خِصَال الْقَاضِي] فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَكُونَ حَلِيمًا، مُتَأَنِّيًا، ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلَا يُخْدَعُ لِغِرَّةٍ، صَحِيحَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، عَفِيفًا، وَرَعًا، نَزِهًا، بَعِيدًا مِنْ الطَّمَعِ، صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، لِكَلَامِهِ لِينٌ إذَا قَرُبَ، وَهَيْبَةٌ إذَا أَوْعَدَ، وَوَفَاءٌ إذَا وَعَدَ، وَلَا يَكُونُ جَبَّارًا، وَلَا عَسُوفًا، فَيَقْطَعُ ذَا الْحُجَّةِ عَنْ حُجَّتِهِ. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ؛ عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ، لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ سَبْعُ خِلَالٍ، إنْ فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: الْعَقْلُ، وَالْفِقْهُ، وَالْوَرَعُ، وَالنَّزَاهَةُ، وَالصَّرَامَةُ، وَالْعِلْمُ بِالسُّنَنِ، وَالْحِكَمِ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ. وَفِيهِ: يَكُونُ فَهِمَا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صُلْبًا، سَآَّلًا عَمَّا لَا يَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ: مُحْتَمِلًا لِلْأَئِمَّةِ؛ وَلَا يَكُونُ ضَعِيفًا، مَهِينًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْسُطُ الْمُتَخَاصِمِينَ إلَى التَّهَاتُرِ وَالتَّشَاتُمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأَعْزِلَنَّ فُلَانًا عَنْ الْقَضَاءِ، وَلِأَسْتَعْمِلَن رَجُلًا إذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرَّقَهُ. (8224) فَصْلٌ: وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِرَ الْخَصْمَ إذَا الْتَوَى، وَيَصِيحَ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ عَزَّرَهُ بِمَا يَرَى مِنْ أَدَبٍ أَوْ حَبْسٍ. وَإِنْ افْتَاتَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ: حَكَمْت عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ. أَوْ: ارْتَشَيْت. فَلَهُ تَأْدِيبُهُ. وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ. وَإِنْ بَدَأَ الْمُنْكِرُ بِالْيَمِينِ، قَطَعَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى خَصْمِك. فَإِنْ عَادَ نَهَرَهُ، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ إنْ رَأَى. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إسَاءَةُ الْأَدَبِ، فَلَهُ مُقَابَلَةُ فَاعِلِهِ، وَلَهُ الْعَفْوُ. [فَصْلٌ الْقَضَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ] (8225) فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَّى الْإِمَامُ رَجُلًا الْقَضَاءَ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، فَأَرَادَ السَّيْرَ إلَى بِلَادِ وِلَايَتِهِ، بَحَثَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، وَيَتَعَرَّفَ مِنْهُمْ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، سَأَلَ فِي طَرِيقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، سَأَلَ إذَا دَخَلَ الْبَلَدَ عَنْ أَهْلِهِ، وَمَنْ بِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَأَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالسَّتْرِ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا قَرُبَ مِنْ الْبَلَدِ، بَعَثَ مَنْ يُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِهِ لِيَتَلَقَّوْهُ، وَيَجْعَلُ قُدُومَهُ يَوْمَ الْخَمِيسَ إنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، قَدِمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ يَقْصِدُ الْجَامِعَ، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ إذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ وَالْمَعُونَةَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَمَلَهُ صَالِحًا، وَيَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَلَا يَجْعَلَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا، وَيُفَوِّضُ أَمَرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فَيُنَادِي فِي الْبَلَدِ، أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ عَلَيْكُمْ قَاضِيًا، فَاجْتَمِعُوا لِقِرَاءَةِ عَهْدِهِ، وَقْتَ كَذَا وَكَذَا. وَيَنْصَرِفُ إلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي قَدْ أُعِدَّ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ؛ لِيَتَسَاوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِيهِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ قَصْدُهُ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا، أَمَرَ بِعَهْدِهِ فَقُرِئَ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا التَّوْلِيَةَ، وَيَأْتُوا إلَيْهِ، وَيَعِدُ النَّاسَ يَوْمًا يَجْلِسُ فِيهِ لِلْقَضَاءِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْزِلِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْحُكْمِ، أَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَاكِمِ الْمَعْزُولِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ دِيوَانَ الْحُكْمِ؛ وَهُوَ مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنْ الْمَحَاضِرِ، وَهِيَ نُسَخُ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالسِّجِلَّاتُ نُسَخُ مَا حَكَمَ بِهِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ حُجَجِ النَّاسِ وَوَثَائِقِهِمْ مُودَعَةً فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا انْتَقَلْت الْوِلَايَةُ إلَى غَيْرِهِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، فَتَكُونُ مُودَعَةً عِنْدَهُ فِي دِيوَانِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَعَدَ بِالْجُلُوسِ فِيهِ إلَى مَجْلِسِهِ، عَلَى أَكْمَلِ حَالَةٍ وَأَعْدَلِهَا، خَلِيًّا مِنْ الْغَضَبِ، وَالْجُوعِ الشَّدِيدِ وَالْعَطَشِ، وَالْفَرَحِ الشَّدِيدِ وَالْحُزْنِ الْكَثِيرِ، وَالْهَمِّ الْعَظِيمِ، وَالْوَجَعِ الْمُؤْلِمِ، وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالنُّعَاسِ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَلْبَ؛ لِيَكُونَ أَجْمَعَ لِقَلْبِهِ، وَأَحْضَرَ لِذِهْنِهِ، وَأَبْلَغَ فِي تَيَقُّظِهِ لِلصَّوَابِ، وَفِطْنَتِهِ لِمَوْضِعِ الرَّأْيِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . فَنَصَّ عَلَى الْغَضَبِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ حَتَّى يَأْتِيَ مَجْلِسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ فَسِيحٍ، كَالرَّحْبَةِ وَالْفَضَاءِ الْوَاسِعِ أَوْ الْجَامِعِ. وَلَا يُكْرَهُ الْقَضَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَعَلَ ذَلِكَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ خَلْدَةَ، قَاضٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ خَصْمَانِ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْ لَا تَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَأْتِيك الْحَائِضُ وَالْجَنْبُ. وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَأْتِيهِ الذِّمِّيُّ وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ، وَتَكْثُرُ غَاشِيَتُهُ، وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ اللَّغَطُ وَالتَّكَاذُبُ وَالتَّجَاحُدُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى السَّبِّ وَمَا لَمْ تُبْنَ لَهُ الْمَسَاجِدُ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: رَأَيْت عُمَرَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْقِبْلَةِ، يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ. وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَإِنْصَافٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمْ يُكْرَهْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَأَمَّا الْحَائِضُ، فَإِنْ عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ إلَى الْقَضَاءِ، وَكَّلَتْ، أَوْ أَتَتْهُ فِي مَنْزِلِهِ. وَالْجُنُبُ يَغْتَسِلُ وَيَدْخُلُ، وَالذِّمِّيُّ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ فِي مَسْجِدِهِ، مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ لِلْحُكُومَةِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُطَالِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحُقُوقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «تَقَاضَيْت ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ إلَيَّ، أَنْ ضَعْ مِنْ دَيْنِك الشَّطْرَ. فَقُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَقُمْ فَاقْضِهِ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، لِئَلَّا يَبْعُدَ عَلَى قَاصِدِيهِ، وَلَا يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْجُبُ النَّاسَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا، وَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَفَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَلِأَنَّ حَاجِبَهُ رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ لِغَرَضٍ لَهُ، وَرُبَّمَا كَسَرَهُمْ بِحَجْبِهِمْ وَالِاسْتِئْذَانِ لَهُمْ. وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ حَاجِبٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَيُبْسَطُ لَهُ شَيْءٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ، وَلَا عَلَى حَصِيرِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِهَيْبَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ الْخُصُومِ، وَيَجْعَلُ جُلُوسَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. وَهَذِهِ الْآدَابُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحُكْمِ، إلَّا الْخُلُوَّ مِنْ الْغَضَبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِهِ رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ أَوَّلُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْقَاضِي إذَا جَلَسَ لِلْحَكَمِ] فَصْلٌ: وَإِذَا جَلَسَ الْحَاكِمُ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَوَّلُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أَمْرُ الْمَحْبُوسِينَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَقَاءَ فِيهِ، فَيَنْفُذُ إلَى حَبْسِ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ثِقَةً، يَكْتُبُ اسْمَ كُلِّ مَحْبُوسٍ، وَفِيمَ حُبِسَ؟ وَلِمَنْ حُبِسَ؟ فَيَحْمِلُهُ إلَيْهِ، فَيَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْبَلَدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: أَلَا إنَّ الْقَاضِيَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ يَوْمَ كَذَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَحْبُوسٌ فَلْيَحْضُرْ. فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَحَضَرَ النَّاسُ، تَرَكَ الرِّقَاعَ الَّتِي فِيهَا اسْمُ الْمَحْبُوسِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهَا، فَمَا وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْهَا نَظَرَ إلَى اسْمِ الْمَحْبُوسِ، وَقَالَ: مَنْ خَصْمُ فُلَانٍ الْمَحْبُوسِ. فَإِذَا قَالَ خَصْمُهُ: أَنَا. بَعَثَ مَعَهُ ثِقَةً إلَى الْحَبْسِ، فَأَخْرَجَ خَصْمَهُ، وَحَضَرَ مَعَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي قَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّسِعُ زَمَانُهُ لِلنَّظَرِ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُخْرِجُ غَيْرَهُمْ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَحْبُوسُ وَخَصْمُهُ، لَمْ يَسْأَلْ خَصْمَهُ: لِمَ حَبَسْته؟ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا حَبَسَهُ بِحَقٍّ، لَكِنْ يَسْأَلُ الْمَحْبُوسَ: بِمَ حُبِسْت؟ وَلَا يَخْلُو جَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَقُولَ: حَبَسَنِي بِحَقِّ لَهُ حَالٍّ، أَنَا مَلِيءٌ بِهِ. فَيَقُولَ لَهُ الْحَاكِمُ: اقْضِهِ، وَإِلَّا رَدَدْتُك فِي الْحَبْسِ. الثَّانِي، أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ، أَنَا مُعَسِّرٌ بِهِ. فَيَسْأَلُ خَصْمَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ، فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ وَأَطْلَقَهُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، نَظَرَ فِي سَبَبِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِهِ مَالٌ، كَقَرْضٍ أَوْ شِرَاءٍ، لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ فِي الْإِعْسَارِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ أَوْ نَفِدَ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ مُعَسِّرٌ، فَيَزُولُ الْأَصْلُ الَّذِي ثَبَتَ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلُ مَالٍ، وَلَمْ تَكُنْ لِخَصْمِهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَحْبُوسِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مُعَسِّرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِعْسَارُ. وَإِنْ شَهِدَتْ لِخَصْمِهِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ لَهُ مَالًا، لَمْ تُقْبَلْ حَتَّى تُعَيِّنَ ذَلِكَ الْمَالَ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ، فَإِنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِدَارٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَصَدَّقَهَا، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَذَّبَهَا، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لِي، وَإِنَّمَا هُوَ فِي يَدَيَّ لِغَيْرِي. لَمْ يُقْبَلْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ إلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ حَاضِرًا، نَظَرْت، فَإِنْ كَذَّبَهُ فِي إقْرَارِهِ، سَقَطَ، وَقُضِيَ مِنْ الْمَالِ دَيْنُهُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، وَصَاحِبُ الْيَدِ يُقِرُّ لَهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا، وَيُقْضَى الدَّيْنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالْمِلْكِ، فَتَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، قُبِلَتْ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُخَلِّصَ مَالَهُ، وَيَعُودَ إلَيْهِ، فَتَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ، فَلَمْ تَبْطُلْ الْبَيِّنَةُ بِقَوْلِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ، وَتَسْقُطُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِالْمِلْكِ لِمَنْ لَا يَدَّعِيهِ وَيُنْكِرُهُ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ، أَنْ يَقُولَ: حَبَسَنِي لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ عَلَيَّ لِخَصْمِي بِحَقٍّ لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ. فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ، فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَرُدُّهُ إلَى الْحَبْسِ إنْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ فِي هَذَا. وَالثَّانِي، يَجُوزُ حَبْسُهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ أَقَامَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ الْبَحْثِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَرُدُّهُ إلَى الْحَبْسِ حَتَّى يَكْشِفَ عَنْ حَالِ شُهُودِهِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ خَصْمُهُ، وَقَالَ: بَلْ قَدْ عَرَفَ الْحَاكِمُ عَدَالَةَ شُهُودِي، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ حَبْسَهُ بِحَقٍّ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ، أَنْ يَقُولَ: حَبَسَنِي الْحَاكِمُ بِثَمَنِ كَلْبٍ، أَوْ قِيمَةِ خَمْرٍ أَرَقْته لِذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ. فَإِنْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُطْلِقُهُ؛ لِأَنَّ غُرْمَ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْحَاكِمَ يُنَفِّذُ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَقْضُ حُكْمِ غَيْرِهِ بِاجْتِهَادِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ خَصْمُهُ، وَقَالَ: بَلْ حُبِسْت بِحَقِّ وَاجِبٍ غَيْرِ هَذَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حَبْسُهُ بِحَقٍّ. الْجَوَابُ الْخَامِسُ، أَنْ يَقُولَ: حُبِسْت ظُلْمًا، وَلَا حَقَّ عَلَيَّ. فَيُنَادِي مُنَادِي الْحَاكِمِ بِذِكْرِ مَا قَالَهُ، فَإِنْ حَضَرَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا خَصْمُهُ. فَأَنْكَرَهُ، وَكَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ كُلِّفَ الْجَوَابَ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَصْمٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ، أَوْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ، وَيُخْلَى سَبِيلُهُ. [فَصْلٌ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي أَمْرِ الْأَوْصِيَاءِ] (8227) فَصْلٌ: ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْأَوْصِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ نَاظِرِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَجَانِينِ وَتَفْرِقَةِ الْوَصِيَّةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ، فَيَقْصِدُهُمْ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهِ، فَإِنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَا قَوْلَ لَهُمَا، وَالْمَسَاكِينُ لَا يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ مِنْهُمْ، فَإِذَا قَدِمَ إلَيْهِ الْوَصِيُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَبْلَهُ نَفَّذَ وَصِيَّتَهُ، لَمْ يَعْزِلْهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَا نَفَّذَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 وَصِيَّتَهُ إلَّا وَقَدْ عَرَفَ أَهْلِيَّتَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ يُرَاعِيهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِفِسْقٍ أَوْ ضَعْفٍ، أَضَافَ إلَيْهِ أَمِينًا قَوِيًّا يُعِينُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَا نَفَّذَ وَصِيَّتَهُ، نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَمِينًا قَوِيًّا، أَقَرَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا أَوْ ضَعِيفًا، ضَمَّ إلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، عَزَلَهُ وَأَقَامَ غَيْرَهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، يُضَمُّ إلَيْهِ أَمِينٌ يَنْظُرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ، أَوْ فَرَّقَ الْوَصِيَّةَ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْوَصِيَّةِ، نَفَّذَ تَصَرُّفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِأَهْلٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْوَصِيَّةِ بَالِغِينَ عَاقِلِينَ مُعِينِينَ، صَحَّ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَبَضُوا حُقُوقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُعِينِينَ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ الضَّمَانُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ. وَالثَّانِي، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى أَهْلِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ الْمُوصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِهَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ] (8228) فَصْلٌ: ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ، وَهُمْ مَنْ رَدَّ إلَيْهِمْ الْحَاكِمُ النَّظَرَ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ، وَتَفْرِقَةِ الْوَصَايَا الَّتِي لَمْ يُعَيَّنْ لَهَا وَصِيٌّ، فَإِنْ كَانُوا بِحَالِهِمْ، أَقَرَّهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَّاهُمْ، وَمَنْ تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْهُمْ، عَزَلَهُ إنْ فَسَقَ، وَإِنْ ضَعُفَ، ضَمَّ إلَيْهِ أَمِينًا. [فَصْلٌ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي أَمْرِ الضَّوَالِّ وَاللَّقْطَة] (8229) فَصْلٌ: ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الضَّوَالِّ وَاللُّقَطَةِ الَّتِي تَوَلَّى الْحَاكِمُ حِفْظَهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُخَافُ تَلَفُهُ كَالْحَيَوَانِ، أَوْ فِي حِفْظِهِ مُؤْنَةٌ كَالْأَمْوَالِ الْجَافِيَةِ، بَاعَهَا، وَحَفِظَ ثَمَنَهَا لِأَرْبَابِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ كَالْأَثْمَانِ، حَفِظَهَا لِأَرْبَابِهَا، وَيَكْتُبُ عَلَيْهَا لِتُعْرَفَ. [مَسْأَلَةٌ حُكْم الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ] (8230) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ. كَرِهَ ذَلِكَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. «وَكَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى: إيَّاكَ وَالْغَضَبَ، وَالْقَلَقَ، وَالضَّجَرَ، وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ، وَالتَّنَكُّرَ لَهُمْ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَإِذَا رَأَيْت الْخَصْمَ يَتَعَمَّدُ الظُّلْمَ، فَأَوْجِعْ رَأْسَهُ. وَلِأَنَّهُ إذَا غَضِبَ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ رَأْيَهُ وَفِكْرَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُلُّ مَا شَغَلَ فِكْرَهُ مِنْ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ، وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ، وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ، وَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ النُّعَاسِ، وَالْهَمِّ، وَالْغَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْفَرَحِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تَمْنَعُ الْحَاكِمَ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ، وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ، الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ. فَإِنْ حَكَمَ فِي الْغَضَبِ أَوْ مَا شَاكَلَهُ، فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي " الْمُجَرَّدِ ": يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَمَ إلَيْهِ الزُّبَيْرُ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجُدُرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَحَكَمَ فِي حَالِ غَضَبِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يَمْنَعُ الْغَضَبُ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا إنَّ اتَّضَحَ الْحُكْمُ، ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ، لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ اسْتَبَانَ قَبْلَ الْغَضَبِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْغَضَبُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ إذَا حَضَرَتْهُ قَضِيَّةٌ مُشْكِلَة] (8231) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ الْمُشْكِلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، شَاوَرَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَمَانَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَضَرَتْهُ قَضِيَّةٌ تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، حَكَمَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ؛ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ . قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ . قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الِاجْتِهَادِ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُشَاوِرَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . قَالَ الْحَسَنُ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَغَنِيًّا عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 بِذَلِكَ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ. وَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَفِي مُصَالَحَةِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَفِي لِقَاءِ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَرُوِيَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَشَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَعُمَرُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ. وَرُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكُونُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، إذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ شَاوَرَهُمْ فِيهِ. وَلَا مُخَالِفَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ: لَمَّا وَلِي سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ، كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ يُشَاوِرُهُمَا، وَوَلِيَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَضَاءَ الْكُوفَةِ، فَكَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ يُشَاوِرُهُمَا، مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ الْحُكَّامُ يَفْعَلُونَهُ، يُشَاوِرُونَ وَيَنْتَظِرُونَ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَبِهُ بِالْمُشَاوِرَةِ، وَيَتَذَكَّرُ مَا نَسِيَهُ بِالْمُذَاكَرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ مُتَعَذِّرَةٌ. وَقَدْ يَنْتَبِهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ الْحَادِثَةِ مَنْ هُوَ دُونَ الْقَاضِي، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، جَاءَتْهُ الْجَدَّتَانِ، فَوَرَّثَ أُمَّ الْأُمِّ، وَأَسْقَطَ أُمَّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَقَدْ أَسْقَطْت الَّتِي لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا، وَوَرَّثْت الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا. فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ، كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطُّ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي، وَاَللَّهِ إنَّهُ لَيَبِيتُ لَيْلَهُ قَائِمًا، وَيَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ مَا يُفْطِرُ. فَاسْتَغْفَرَ لَهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهَا، وَقَالَ: مِثْلُك أَثْنَى الْخَيْرِ. قَالَ: وَاسْتَحْيَتْ الْمَرْأَةُ فَقَامَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَّا أَعْدَيْت الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا؟ قَالَ: وَمَا شَكَتْ؟ قَالَ: شَكَتْ زَوْجَهَا أَشَدَّ الشِّكَايَةِ. قَالَ: أَوْ ذَاكَ أَرَادَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْمَرْأَةَ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالْحَقِّ أَنْ تَقُولِيهِ، إنَّ هَذَا زَعَمَ أَنَّك جِئْت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 تَشْكِينَ زَوْجَك، أَنَّهُ يَجْتَنِبُ فِرَاشَك. قَالَتْ: أَجَلْ، إنِّي امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، وَإِنِّي لَأَبْتَغِيَ مَا يَبْتَغِي النِّسَاءُ. فَأَرْسَلَ إلَى زَوْجِهَا، فَجَاءَ، فَقَالَ لِكَعْبٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَحَقُّ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا. قَالَ: عَزَمْت عَلَيْك لَتَقْضِيَنَّ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّك فَهِمْت مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى كَأَنَّهَا عَلَيْهَا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، هِيَ رَابِعَتُهُنَّ، فَأَقْضِي لَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا رَأْيُك الْأَوَّلُ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْ الْآخَرِ، اذْهَبْ فَأَنْتَ قَاضٍ عَلَى الْبَصْرَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُشَاوِرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا قَوْلَ لَهُ فِي الْحَادِثَةِ، وَلَا يُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَلْيَكُنْ أَهْلُ مَشُورَتِك أَهْلَ التَّقْوَى وَأَهْلَ الْأَمَانَةِ. وَيُشَاوِرُ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ حُجَّتِهِمْ، لِيَبِينَ لَهُ الْحَقُّ. (8232) فَصْلٌ: وَالْمُشَاوَرَةُ هَاهُنَا لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدِلَّةِ، وَيَعْرِفُ الْحَقَّ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، وَيَحْكُمَ بُقُولِ سِوَاهُ، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ، أَوْ لَمْ يَضِقْ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُفْتِي الْفُتْيَا بِالتَّقْلِيدِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَانَ الْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، جَازَ لَهُ تَرْكُ رَأْيِهِ لِرَأْيِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ عِنْدَهُ إذَا صَارَ إلَيْهِ، فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ. وَلِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَعْرَفُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مِثْلَهُ، كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ مَا قَالَهُ خَطَأٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبِنْ لَهُ الْحَقُّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِينَ لَهُ خَطَؤُهُ إذَا اجْتَهَدَ. [فَصْلٌ يُحْضِرَ الْقَاضِي مَجْلِسَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ] فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، حَتَّى إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ، يُفْتَقَرُ إلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْهَا سَأَلَهُمْ، لِيَذْكُرُوا أَدِلَّتَهُمْ فِيهَا وَجَوَابَهُمْ عَنْهَا، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لِاجْتِهَادِهِ، وَأَقْرَبُ لِصَوَابِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُخَالِفُ. نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا. [فَصْلٌ يُحْضِرَ الْقَاضِي شُهُودَهُ مَجْلِسَهُ] (8234) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْضِرَ شُهُودَهُ مَجْلِسَهُ، لِيَسْتَوْفِيَ بِهِمْ الْحُقُوقَ، وَتَثْبُتَ بِهِمْ الْحُجَجُ وَالْمَحَاضِرُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَدْنَاهُمْ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ بَاعَدَهُمْ مِنْهُ، بِحَيْثُ إذَا احْتَاجَ إلَى إشْهَادِهِمْ عَلَى حُكْمِهِ اسْتَدْعَاهُمْ لِيَشْهَدُوا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، أَجْلَسَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، لِئَلَّا يُقِرَّ مِنْهُمْ مُقِرٌّ ثُمَّ يُنْكِرَ وَيَجْحَدَ، فَيَحْفَظُوا عَلَيْهِ إقْرَارَهُ، وَيَشْهَدُوا بِهِ. [فَصْلٌ إذَا اسْتَنَارَتْ الْحُجَّةُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَتَبَيَّنَ لِلْقَاضِيَّ مَوْضِعُ الظَّالِمِ] (8235) فَصْلٌ: وَإِذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الْحَادِثَةُ، وَاسْتَنَارَتْ الْحُجَّةُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، حَكَمَ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا لَبْسٌ، أَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، فَإِنْ أَبَيَا أَخَّرَهُمَا إلَى الْبَيَانِ، فَإِنَّ عَجَّلَهَا قَبْلَ الْبَيَانِ، لَمْ يَصْلُحْ حُكْمُهُ. وَمِمَّنْ رَأَى الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُحْدِثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إنَّمَا يَسَعُهُ الصُّلْحُ فِي الْأُمُورِ الْمُشْكِلَةِ، أَمَّا إذَا اسْتَنَارَتْ الْحُجَّةُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ مَوْضِعُ الظَّالِمِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا عَلَى الصُّلْحِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَا أَصْلَحَ بَيْنَ مُتَحَاكِمَيْنِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. [فَصْلٌ وَإِذَا حَدَثَتْ لِلْقَاضِيَّ حَادِثَةٌ] (8236) فَصْلٌ: وَإِذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَهَا، وَإِلَّا نَظَرَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا، نَظَرَ فِي الْقِيَاسِ، فَأَلْحَقَهَا بِأَشْبَهِ الْأُصُولِ بِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَعَمْرٌو وَالرِّجَالُ مَجْهُولُونَ، إلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمَا، تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَجَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ مَا يُوَافِقُهُ، فَرَوَى سَعِيدٌ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِشُرَيْحٍ: اُنْظُرْ مَا يَتَبَيَّنُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَا يَتَبَيَّنُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَاتَّبِعْ فِيهِ السُّنَّةَ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَك فِي السُّنَّةِ، فَاجْتَهِدْ فِيهِ رَأْيَك. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة حُكْمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ] (8237) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ، لَا فِيمَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَلَا بَعْدَهَا. هَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَتْ لَهُ هِنْدٌ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 وَوَلَدِي. قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . فَحَكَمَ لَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ، لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهَا. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فِي " كِتَابِهِ " أَنَّ عُرْوَةَ وَمُجَاهِدًا رَوَيَا، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ اسْتَعْدَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّهُ ظَلَمَهُ حَدًّا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ عُمَرُ: إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا لَعِبْت أَنَا وَأَنْتَ فِيهِ، وَنَحْنُ غِلْمَانٌ، فَأْتِنِي بِأَبِي سُفْيَانَ. فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، انْهَضْ بِنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا. فَنَهَضُوا، وَنَظَرَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، خُذْ هَذَا الْحَجَرَ مِنْ هَاهُنَا فَضَعْهُ هَاهُنَا. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ. فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: خُذْهُ لَا أُمَّ لَك، فَضَعْهُ هَاهُنَا، فَإِنَّك مَا عَلِمْت قَدِيمَ الظُّلْمِ. فَأَخَذَ أَبُو سُفْيَانَ الْحَجَرَ، وَوَضَعَهُ حَيْثُ قَالَ عُمَرُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ حَيْثُ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى غَلَبْت أَبَا سُفْيَانَ عَلَى رَأْيِهِ، وَأَذْلَلْته لِي بِالْإِسْلَامِ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَبُو سُفْيَانَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ، إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى جَعَلْت فِي قَلْبِي مِنْ الْإِسْلَامِ مَا أَذِلُّ بِهِ لِعُمَرَ. قَالُوا: فَحَكَمَ بِعِلْمِهِ. وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ، لِأَنَّهُمَا يَغْلِبَانِ عَلَى الظَّنِّ، فَمَا تَحَقَّقَهُ وَقَطَعَ بِهِ، كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَجَرْحِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، لَا يَحْكُمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَمَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ، حَكَمَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ الشُّهُودِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ، وَمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ الشُّهُودِ فِي وِلَايَتِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي بِمَا يَسْمَعُ، لَا بِمَا يَعْلَمُ «. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَضِيَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ: شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَاكَ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَدَاعَى عِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ شَاهِدِي. فَقَالَ: إنَّ شِئْتُمَا شَهِدْت وَلَمْ أَحْكُمُ، أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فِي " كِتَابِهِ "، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ، وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ، أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 فَخَطَبَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: لَا. فَهَمَّ بِهِمْ الْمُهَاجِرُونَ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ صَعِدَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ . قَالُوا: نَعَمْ» . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِعِلْمِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْت حَدًّا عَلَى رَجُلٍ، لَمْ أَحُدَّهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ. وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ يُفْضِي إلَى تُهْمَتِهِ، وَالْحُكْمِ بِمَا اشْتَهَى، وَيُحِيلُهُ عَلَى عِلْمِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فُتْيَا لَا حُكْمٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَى فِي حَقِّ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمًا عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ. وَحَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي رَوَوْهُ، كَانَ إنْكَارًا لِمُنْكَرٍ رَآهُ، لَا حُكْمًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَا وُجِدَتْ مِنْهُمَا دَعْوَى وَإِنْكَارٌ بِشُرُوطِهِمَا وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، ثُمَّ لَوْ كَانَ حُكْمًا، كَانَ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، وَيُفَارِقُ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى تُهْمَةٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِعِلْمِهِ، لَتَسَلْسَلَ، فَإِنَّ الْمُزَكِّيَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمَا وَجَرْحِهِمَا، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ، احْتَاجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مُزَكِّيَيْنِ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى مُزَكِّيَيْنِ، فَيَتَسَلْسَلُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ. [فَصْلٌ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ] (8238) فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، إذَا سَمِعَهُ مَعَهُ شَاهِدَانِ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مَعَهُ أَحَدٌ، أَوْ سَمِعَهُ شَاهِدٌ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مَعَهُ شَاهِدَانِ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِعِلْمِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ قَضِيَّةٌ قَدْ قَضَى بِهَا حَاكِمٌ سِوَاهُ] (8239) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَنْقُضُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ، إلَّا مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعًا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ قَضِيَّةٌ قَدْ قَضَى بِهَا حَاكِمٌ سِوَاهُ، فَبَانَ لَهُ خَطَؤُهُ، أَوْ بَانَ لَهُ خَطَأُ نَفْسِهِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ لِمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ، نَقَضَ حُكْمَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزَادَ: إذَا خَالَفَ نَصًّا جَلِيًّا نَقَضَهُ وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ إلَّا إذَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. ثُمَّ نَاقَضَا ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: إذَا حَكَمَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ نَقَضَ حُكْمَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا حَكَمَ بِبَيْعِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، أَوْ حَكَمَ بَيْنَ الْعَبِيدِ بِالْقُرْعَةِ، نَقَضَ حُكْمَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا حَكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، نَقَضَ حُكْمَهُ. وَهَذِهِ مَسَائِلُ خِلَافٍ مُوَافَقَةٌ لِلسُّنَّةِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْإِجْمَاعَ بِأَنَّهُ يَسُوغُ فِيهِ الْخِلَافُ، فَلَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ فِيهِ، كَمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد أَنَّهُ يَنْقُضُ جَمِيعَ مَا بَانَ لَهُ خَطَؤُهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى أَبِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 مُوسَى: لَا يَمْنَعَنَّك قَضَاءٌ قَضَيْته بِالْأَمْسِ، ثُمَّ رَاجَعْت نَفْسَك فِيهِ الْيَوْمَ، فَهُدِيت لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَلِأَنَّهُ خَطَأٌ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ وَافَقَهُمَا فِي قَضَاءِ نَفْسِهِ. وَلَنَا، عَلَى نَقْضِهِ إذَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا، أَنَّهُ قَضَاءٌ لَمْ يُصَادِفْ شَرْطَهُ، فَوَجَبَ نَقْضُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُخَالِفْ الْإِجْمَاعَ، وَبَيَانُ مُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْطِ، أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ، بِدَلِيلِ خَبَرِ مُعَاذٍ، وَلِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَقَدْ فَرَّطَ، فَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ، كَمَا لَوْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، أَوْ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ. وَمَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِمَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ لَمْ يُعِدْ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ حَالَ الْعُذْرِ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ نَحْوِهِ، مَعَ الْعِلْمِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْحَقِّ إلَى غَيْرِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالٍ. الثَّانِي، أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى، تَدْخُلُهَا الْمُسَامَحَةُ الثَّالِثُ، أَنَّ الْقِبْلَةَ يَتَكَرَّرُ فِيهَا اشْتِبَاهُ الْقِبْلَةِ، فَيَشُقُّ الْقَضَاءُ. وَهَا هُنَا إذَا بَانَ لَهُ الْخَطَأُ لَا يَعُودُ الِاشْتِبَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا، أَوْ خَالَفَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَ مَنْ قَبْلَهُ، لَمْ يَنْقُضْهُ لِمُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ حَكَمَ فِي مَسَائِلَ بِاجْتِهَادِهِ، وَخَالَفَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَنْقُضْ أَحْكَامَهُ وَعَلِيٌّ خَالَفَ عُمَرَ فِي اجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَنْقُضْ أَحْكَامَهُ، وَخَالَفَهُمَا عَلِيٌّ، فَلَمْ يَنْقُضْ أَحْكَامَهُمَا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، وَأَعْطَى الْعَبِيدَ، وَخَالَفَهُ عُمَرُ، فَفَاضَلَ بَيْنَ النَّاسِ، وَخَالَفَهُمَا عَلِيٌّ فَسَوَّى بَيْنَ النَّاسِ وَحَرَّمَ الْعَبِيدَ، وَلَمْ يَنْقُضْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَا فَعَلَهُ مَنْ قَبْلَهُ وَجَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كِتَابُك بِيَدِك، وَشَفَاعَتُك بِلِسَانِك. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ، إنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ، وَلَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ عُمَرُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ حَكَمَ فِي الْمُشْتَرَكَةِ بِإِسْقَاطِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ بَعْدُ، وَقَالَ: تِلْكَ عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا. وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمْ يَرُدَّ الْأُولَى. وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ الثَّانِيَ يُخَالِفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّالِثَ يُخَالِفُ الثَّانِيَ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا حُكْمَ فِي ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، أَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْعَبْدِ. فَجِيءَ بِهِ. فَقَالَ: فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْت ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] . وَنَقَضَ حُكْمَهُ. قُلْنَا: لَمْ يَثْبُتْ عَنَدْنَا أَنَّ عَلِيًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَنَقَضَ حُكْمَهُ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ تُغَيِّرَ اجْتِهَادُ الْحَاكِم قَبْلَ الْحُكْمِ] (8240) فَصْلٌ: إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِمَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَكَمَ فَقَدْ حَكَمَ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ بَعْدَ مَا صَلَّى لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، صَلَّى إلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا. وَلِذَلِكَ إذَا بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ قَبْلَ الْحُكْمِ، لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ، وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ، لَمْ يَنْقُضْهُ. [فَصْلٌ تَتَبُّعُ الْحَاكِمِ قَضَايَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُ] (8241) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ تَتَبُّعُ قَضَايَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّتُهَا وَصَوَابُهَا، وَأَنَّهُ لَا يُوَلِّي الْقَضَاءَ إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، فَإِنْ تَتَبَّعَهَا نَظَرَ فِي الْحَاكِمِ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَمَا وَافَقَ مِنْ أَحْكَامِهِ الصَّوَابَ، أَوْ لَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا، لَمْ يَسُغْ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَكَانَ فِي حَقٍّ لِلَّهِ - تَعَالَى، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، نَقَضَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ النَّظَرَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، لَمْ يَنْقُضْهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 إلَّا بِمُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْتَوْفِي حَقًّا لِمَنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ مُطَالَبَتِهِ، فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُهُ؛ ذَلِكَ نَقَضَهُ. وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَبْلَهُ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، نُقِضَتْ قَضَايَاهُ الْمُخَالِفَةُ لِلصَّوَابِ كُلُّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ لَا يَسُوغُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَضَاؤُهُ كَلَا قَضَاءٍ، لِعَدَمِ شَرْطِ الْقَضَاءِ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي نَقْضِ قَضَايَاهُ نَقْضُ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ، وَلَا يَنْقُضُ مَا وَافَقَ الصَّوَابَ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي نَقْضِهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَنْقُضُ قَضَايَاهُ كُلَّهَا؛ مَا أَخْطَأَ فِيهِ وَمَا أَصَابَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ وُجُودَ قَضَائِهِ كَعَدَمِهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ فَائِدَةً، فَإِنَّ الْحَقَّ لَوْ وَصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، لَمْ يُغَيَّرْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُزِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ] (8242) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُزِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ، نَفَذَ حُكْمُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَبِلَهُمَا الْقَاضِي بِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لَجَازَ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ نِكَاحُهَا بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِتَعَمُّدِهِ الْكَذِبَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ، حَلَّتْ لَهُ بِذَلِكَ، وَصَارَتْ زَوْجَتَهُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَوْ اسْتَأْجَرَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَيْنِ، شَهِدَا لَهَا بِطَلَاقِ زَوْجِهَا، وَهُمَا يَعْلَمَانِ كَذِبَهُمَا وَتَزْوِيرَهُمَا، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِطَلَاقِهَا، لَحَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَحَلَّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ نِكَاحُهَا. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحَهَا. فَرَفَعَهَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا تَزَوَّجَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اعْقِدْ بَيْنَنَا عَقْدًا حَتَّى أَحِلَّ لَهُ. فَقَالَ: شَاهِدَاك زَوَّجَاك. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ ثَبَتَ بِحُكْمِهِ. وَلِأَنَّ اللِّعَانِ يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا، فَالْحُكْمُ أَوْلَى. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا، فَحَكَمَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَةِ زُورٍ، فَلَا يُحِلُّ لَهُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، كَالْمَالِ الْمُطْلَقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ عَلِيٍّ إنْ صَحَّ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّزْوِيجَ إلَى الشَّاهِدَيْنِ، لَا إلَى حُكْمِهِ، وَلَمْ يُجِبْهَا إلَى التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ فِيهِ طَعْنًا عَلَى الشُّهُودِ. فَأَمَّا اللِّعَانُ، فَإِنَّمَا حَصَلْت الْفُرْقَةُ بِهِ، لَا بِصِدْقِ الزَّوْجِ، وَلِهَذَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحٍ، وَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ، وَيَلْزَمُهَا فِي الظَّاهِرِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مَا أَمْكَنَهَا، فَإِنْ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ، فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا الرَّجُلُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ. وَقِيلَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُخْتَلَفٌ فِي حِلِّهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَحِلُّ لِزَوْجٍ ثَانٍ، غَيْرَ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ النِّكَاحُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَقْضِي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطَؤُهَا بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَالْآخَرُ، بِحُكْمِ الْبَاطِنِ. وَهَذَا فَسَادٌ، فَلَا يُشْرَعُ، وَلِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ لِهَذَا الَّذِي قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ، فِي قَوْلِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا لِغَيْرِهِ، كَالْمُتَزَوِّجَةِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، مِثْلَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُزِيلُ الْفُسُوخَ وَالْعُقُودَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ. [فَصْلٌ وَإِذَا اسْتَعْدَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ إلَى الْحَاكِمِ] (8243) فَصْل: وَإِذَا اسْتَعْدَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ إلَى الْحَاكِمِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْدِيَهُ، وَيَسْتَدْعِيَ خَصْمَهُ، سَوَاءٌ عَلِمَ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعْدِي مِمَّنْ يُعَامِلُ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَوْ لَا يُعَامِلُهُ، كَالْفَقِيرِ يَدَّعِي عَلَى ذِي ثَرْوَةٍ وَهَيْئَةٍ. نَصَّ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي الرَّجُلِ يَسْتَعْدِي، عَلَى الْحَاكِمِ، أَنَّهُ يُحْضِرُهُ وَيَسْتَحْلِفُهُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ تَضْيِيعًا لِلْحُقُوقِ، وَإِقْرَارًا لِلظُّلْمِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ بِغَصْبٍ، أَوْ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا وَلَا يُوَفِّيهِ، أَوْ يُودِعُهُ شَيْئًا، أَوْ يُعِيرُهُ إيَّاهُ فَلَا يَرُدُّهُ، وَلَا تُعْلَمُ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَعْدُ عَلَيْهِ، سَقَطَ حَقُّهُ، وَهَذَا أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ لَا نَقِيصَةَ فِيهِ، وَقَدْ حَضَرَ عُمَرُ وَأُبَيُّ عِنْدَ زَيْدٍ، وَحَضَرَ هُوَ وَآخَرُ عِنْدَ شُرَيْحٍ، وَحَضَرَ عَلِيٌّ عِنْدَ شُرَيْحٍ وَحَضَرَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ رَجُلٍ وَلَدِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَسْتَدْعِيهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً، وَيَتَبَيَّنَ أَنَّ لِمَا ادَّعَاهُ أَصْلًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ فِي ادِّعَائِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ تَبْذِيلَ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ، وَإِهَانَةً لِذَوِي الْهَيْئَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَبْذُلَهُمْ عِنْدَ الْحَاكِمِ إلَّا فَعَلَ، وَرُبَّمَا فَعَلَ هَذَا مَنْ لَا حَقَّ لَهُ لِيَفْتَدِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ حُضُورِهِ وَشَرِّ خَصْمِهِ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ ضَرَرَ تَضْيِيعِ الْحَقِّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَلِلْمُسْتَدْعَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ كَرِهَ الْحُضُورَ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَدْعَى عَلَيْهِ امْرَأَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً، وَهِيَ الَّتِي تَبْرُزُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ. وَإِنْ كَانَتْ مُخَدَّرَةً، وَهِيَ الَّتِي لَا تَبْرُزُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، أُمِرَتْ بِالتَّوْكِيلِ. فَإِنْ تَوَجَّهْت الْيَمِينُ عَلَيْهَا، بَعَثَ الْحَاكِمُ أَمِينًا مَعَهُ شَاهِدَانِ، فَيَسْتَحْلِفُهَا بِحَضْرَتِهِمَا، فَإِنْ أَقَرَّتْ، شَهِدَا عَلَيْهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْحَاكِمَ يَبْعَثُ مَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا فِي دَارِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَبَعَثَ إلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَدْعِهَا. وَإِذَا حَضَرُوا عِنْدَهَا، كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ سِتْرٌ تَتَكَلَّمُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ لِلْمُدَّعِي أَنَّهَا خَصْمُهُ، حَكَمَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ، جِيءَ بِشَاهِدَيْنِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهَا، يَشْهَدَانِ أَنَّهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهَا، ثُمَّ يُحْكَمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، الْتَحَفَتْ بِجِلْبَابِهَا، وَأُخْرِجَتْ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَإِذَا كَانَتْ خَفِرَةً، مَنَعَهَا الْحَيَاءُ مِنْ النُّطْقِ بِحُجَّتِهَا، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ نَفْسِهَا، سِيَّمَا مَعَ جَهْلِهَا بِالْحُجَّةِ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهَا بِالشَّرْعِ وَحُجَجِهِ. (8244) فَصْلٌ: وَلَا يَخْلُو الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنْ شَاءَ الْحَاكِمُ بَعَثَ مَعَ الْمُسْتَعِدِّي عَوْنًا يُحْضِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَ مَعَهُ قِطْعَةً مِنْ شَمْعٍ أَوْ طِينٍ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ، فَإِذَا بَعَثَ مَعَهُ خَتْمًا، فَعَادَ فَذَكَرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ، أَوْ كَسَرَ الْخَتْمَ، بَعَثَ إلَيْهِ عُيُونًا، فَإِنْ امْتَنَعَ، أَنْفَذَ صَاحِبَ الْمَعُونَةِ فَأَحْضَرَهُ، فَإِذَا حَضَرَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالِامْتِنَاعِ، عَزَّرَهُ إنْ رَأَى ذَلِكَ، بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ، تَأْدِيبًا لَهُ إمَّا بِالْكَلَامِ وَكَشْفِ رَأْسِهِ، أَوْ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ اخْتَبَأَ بَعَثَ الْحَاكِمُ مَنْ يُنَادِي عَلَى بَابِهِ ثَلَاثًا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ سَمَّرَ بَابَهُ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَيَجْمَعُ أَمَاثِلَ جِيرَانِهِ وَيُشْهِدُهُمْ عَلَى إعْذَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي أَنْ يُسَمَّرَ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ، وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ. وَتَقَرَّرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ الْمَنْزِلَ مَنْزِلُهُ، سَمَّرَهُ أَوْ خَتَمَهُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، بَعَثَ الْحَاكِمُ مَنْ يُنَادِي عَلَى بَابِهِ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْ عَدْلٍ، أَنَّهُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَ فُلَانٍ، أَقَامَ عَنْهُ وَكِيلًا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، أَقَامَ عَنْهُ وَكِيلًا، وَسَمِعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ، وَقَضَى حَقَّهُ مِنْ مَالِهِ إنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ. حَكَاهُ عَنْهُمْ أَحْمَدُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا، وَلَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَكَانَ أَحْمَدُ يُنْكِرُ التَّهَجُّمَ عَلَيْهِ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ حَتَّى يُظْهِرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ عَلِمَ لَهُ مَكَانًا، أَمَرَ بِالْهُجُومِ عَلَيْهِ، فَيَبْعَثُ خُصْيَانًا أَوْ غِلْمَانًا لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَثِقَاتٍ مِنْ النِّسَاءِ مَعَهُمْ ذَوُو عَدْلٍ مِنْ الرِّجَالِ، فَيُدْخِلُ النِّسَاءَ وَالصَّبِيَّانِ، فَإِذَا حَصَلُوا فِي صَحْنِ الدَّارِ دَخَلَ الرِّجَالُ، وَيُؤْمَرُ الْخُصْيَانُ بِالتَّفْتِيشِ، وَيَتَفَقَّدُ النِّسَاءُ النِّسَاءَ، فَإِنْ ظَفِرُوا بِهِ، أَخَذُوهُ فَأَحْضَرُوهُ. وَإِنْ اسْتَعْدَى عَلَى غَائِبٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ فِي غَيْرِ وِلَايَةِ الْقَاضِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَدِّي عَلَيْهِ، وَلَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ فِي وِلَايَتِهِ، وَلَهُ فِي بَلَدِهِ خَلِيفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَلِيفَتِهِ، وَلَمْ يُحْضِرْهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، حَاضِرَةٌ، نَفَّذَهُ إلَى خَصْمِهِ لِيُخَاصِمَهُ عِنْدَ خَلِيفَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ خَلِيفَةٌ، وَكَانَ فِيهِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، أَذِنَ لَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، قِيلَ لَهُ: حَرِّرْ دَعْوَاك؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ لَيْسَ بِحَقٍّ عَنَدَهُ، كَالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، وَقِيمَةِ الْكَلْبِ، أَوْ خَمْرِ الذِّمِّيِّ، فَلَا يُكَلِّفُهُ الْحُضُورَ لِمَا لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ، مَعَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْحَاضِرِ، فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي حُضُورِهِ، فَإِذَا تَحَرَّرَتْ، بَعَثَ فَأَحْضَرَ خَصْمَهُ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْضُرَ وَيَعُودَ فَيَأْوِيَ إلَى مَوْضِعِهِ، أَحْضَرَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُحْضِرْهُ، وَيُوجَدُ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، أَحْضَرَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ، وَلِأَنَّ إلْحَاقَ الْمَشَقَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِمَنْ يَنْفُذُهُ الْحَاكِمُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً بَرْزَةً، لَمْ يُشْتَرَطْ فِي سَفَرِهَا هَذَا مَحْرَمٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ. [فَصْلٌ وَإِنْ اسْتَعْدَى رَجُل عَلَى الْحَاكِمِ الْمَعْزُولِ] (8245) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَعْدَى عَلَى الْحَاكِمِ الْمَعْزُولِ، لَمْ يُعْدِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا يَدَّعِيهِ، فَيَسْأَلَهُ عَنْهُ، صِيَانَةً لِلْقَاضِي عَنْ الِامْتِهَانِ. فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا مِنْ دَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ، أَعْدَاهُ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا كَغَيْرِ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ رِشْوَةً عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، فَهِيَ كَالْغَصْبِ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْجَوْزَ فِي الْحُكْمِ، وَكَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، أَحْضَرَهُ، وَحَكَمَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُحْضِرُهُ؛ لِأَنَّ فِي إحْضَارِهِ وَسُؤَالِهِ امْتِهَانًا لَهُ؛ وَأَعْدَاءُ الْقَاضِي كَثِيرٌ، وَإِذَا فَعَلَ هَذَا مَعَهُ، لَمْ يُؤْمَنْ أَلَّا يَدْخُلَ فِي الْقَضَاءِ أَحَدٌ، خَوْفًا مِنْ عَاقِبَتِهِ. وَالثَّانِي، يُحْضِرُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَرِفَ، فَإِنْ حَضَرَ وَاعْتَرَفَ، حَكَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي مَقْبُولٌ بَعْدَ الْعَزْلِ، كَمَا يُقْبَلُ فِي وِلَايَتِهِ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَهُ ظُلْمًا، فَهَلْ يَسْتَحْضِرُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ، فَاعْتَرَفَ، حَكَمَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخْرَجَ عَيْنًا مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ بِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى شَاهِدَيْنِ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ زُورًا] (8246) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى عَلَى شَاهِدَيْنِ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ زُورًا، أَحْضَرَهُمَا، فَإِنْ اعْتَرَفَا، أَغْرَمَهُمَا، وَإِنْ أَنْكَرَا، وَلِلْمُدَّعِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 بَيِّنَةٌ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِذَلِكَ، فَأَقَامَهَا، لَزِمَهُمَا ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْكَرَا لَمْ يَسْتَحْلِفَا؛ لِأَنَّ إحْلَافَهُمَا يَطْرُقُ عَلَيْهِمَا الدَّعَاوَى فِي الشَّهَادَةِ وَالِامْتِهَانَ، وَرُبَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. [مَسْأَلَةٌ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي مَنْ لَا يَعْرِفُ عَدَالَته] (8247) مَسْأَلَةٌ، قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ، قَبِلَ شَهَادَتَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ شَاهِدَانِ، فَإِنْ عَرَفَهُمَا عَدْلَيْنِ، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ عَرَفَهُمَا فَاسِقَيْنِ، لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمَا، سَأَلَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْعَدَالَةِ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا إذَا عَرَفَ إسْلَامَهُمَا، بِظَاهِرِ الْحَالِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ: هُمَا فَاسِقَانِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْمَالُ وَالْحَدُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرُوِيَ «، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ . فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ . قَالَ: نَعَمْ. فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ» . وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ، سَبَبُهَا الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْإِسْلَامُ، فَإِذَا وُجِدَ، فَلْيَكْتَفِ بِهِ، مَا لِمَ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ كَالثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا يُحْتَاطُ لَهَا وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَلَنَا، أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَوَجَبَ الْعِلْمُ بِهَا كَالْإِسْلَامِ، أَوْ كَمَا لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمَا. فَأَمَّا الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِثَنَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيثَارًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَصُحْبَةِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الظَّاهِرَ الْعَدَالَةُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْبَحْثِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْعَدَالَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ، فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: لَسْت أَعْرِفُكُمَا، وَلَا يَضُرُّكُمَا إنْ لَمْ أَعْرِفْكُمَا، جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا. فَأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَعْرِفُهُمَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: صَحِبْتهمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي تَبِينُ فِيهِ جَوَاهِرُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: عَامَلْتهمَا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الرَّحِمُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: كُنْت جَارًا لَهُمَا تَعْرِفُ صَبَاحَهُمَا وَمَسَاءَهُمَا؟ قَالَ لَا. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَسْت تَعْرِفُهُمَا، جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا وَهَذَا بَحْثٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِدُونِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الشَّاهِدَ يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْعَدَالَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 مَا يَخْفَى وَيَحْتَاجُ إلَى الْبَحْثِ إلَّا الْعَدَالَةُ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَحْثِ عَنْهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَرْضِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَهُ، أَوْ نُخْبَرَ عَنْهُ، فَيَأْمُرُ الْحَاكِمُ بِكَتْبِ أَسْمَائِهِمْ، وَكُنَاهُمْ، وَنَسَبِهِمْ، وَيُرْفَعُونَ فِيهَا بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَكْتُبُ صَنَائِعَهُمْ، وَمَعَايِشَهُمْ، وَمَوْضِعَ مَسَاكِنِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ؛ لِيَسْأَلَ عَنْ جِيرَانِهِمْ، وَأَهْلِ سُوقِهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، وَمَحَلَّتِهِمْ، وَنِحْلَتِهِمْ، فَيَكْتُبُ: أَسْوَدُ أَوْ أَبْيَضُ، أَوْ أَنْزَعُ أَوْ أَغَمُّ، أَوَأَشْهَلُ أَوْ أَكْحَلُ، أَقْنَى الْأَنْفِ أَوْ أَفْطَسُ، أَوْ رَقِيقُ الشَّفَتَيْنِ أَوْ غَلِيظُهُمَا، طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ أَوْ رَبْعَةٌ، وَنَحْوَ هَذَا، لِيَتَمَيَّزَ، وَلَا يَقَعُ اسْمٌ عَلَى اسْمٍ، وَيَكْتُبُ اسْمَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْرَ الْحَقِّ، وَيَكْتُبُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ رُقْعَةً. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الْمَشْهُودَ لَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ قَرَابَةٌ تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، أَوْ شَرِكَةٌ، وَذَكَرْنَا اسْمَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ عَدَاوَةٌ، وَذَكَرْنَا قَدْرَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مِمَّنْ يَرَوْنَ قَبُولَهُ فِي الْيَسِيرِ دُونِ الْكَثِيرِ، فَتَطِيبُ نَفْسُ الْمُزَكَّى بِهِ إذَا كَانَ يَسِيرًا، وَلَا تَطِيبُ إذَا كَانَ كَثِيرًا. وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخْفِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ مَا يُعْطِي الْآخَرَ مِنْ الرِّقَاعِ؛ لِئَلَّا يَتَوَاطَئُوا. وَإِنْ شَاءَ الْحَاكِمُ عَيَّنَ لِصَاحِبِ مَسَائِلِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ، مِنْ جِوَارِ الشَّاهِدِ، وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَطْلَقَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الْمَسْئُولَ، وَيَكُونُ السُّؤَالُ سِرًّا؛ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ هَتْكُ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا يَخَافُ الْمَسْئُولُ مِنْ الشَّاهِدَ أَوْ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا عِنْدَهُ، أَوْ يَسْتَحْيِيَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ غَيْرَ مَعْرُوفِينَ لَهُ؛ لِئَلَّا يُقْصَدُوا بِهَدِيَّةِ أَوْ رِشْوَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ عَفَافٍ فِي الطُّعْمَةِ وَالْأَنْفُسِ، ذَوِي عُقُولٍ وَافِرَةٍ، أَبْرِيَاءَ مِنْ الشَّحْنَاءِ وَالْبُغْضِ؛ لِئَلَّا يَطْعَنُوا فِي الشُّهُودِ، أَوْ يَسْأَلُوا عَنْ الشَّاهِدِ عَدُوَّهُ فَيَطْعَنَ فِيهِ، فَيَضِيعَ حَقُّ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ، يَمِيلُونَ إلَى مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَيَكُونُونَ أُمَنَاءَ ثِقَاتٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ أَمَانَةٍ. فَإِذَا رَجَعَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ، فَأَخْبَرَ اثْنَانِ بِالْعَدَالَةِ، قَبِلَ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ، رَدَّ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْعَدَالَةِ، وَالْآخِرُ بِالْجَرْحِ، بَعَثَ آخَرَيْنِ، فَإِنْ عَادَا فَأَخْبَرَا بِالتَّعْدِيلِ، تَمَّتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ، وَسَقَطَ الْجَرْحُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَتِمَّ، وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ، ثَبَتَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ، وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْجَرْحِ وَالْآخَرُ بِالتَّعْدِيلِ، تَمَّتْ الْبَيِّنَتَانِ، وَيُقَدِّمُ الْجَرْحَ، وَلَا يَقْبَلُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ، وَيَقْبَلُ قَوْلَ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ. وَقِيلَ: لَا يَقْبَلُ إلَّا شَهَادَةَ الْمَسْئُولِينَ، وَيُكَلِّفُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالتَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ عِنْدَهُ، عَلَى شُرُوطِ الشَّهَادَةِ فِي اللَّفْظِ وَغَيْرِهِ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْ صَاحِبِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، مَعَ حُضُورِ شُهُودِ الْأَصْلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ شَهَادَةَ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ شَهَادَةُ اسْتِفَاضَةٍ، لَا شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَيَكْتَفِي بِمَنْ يَشْهَدُ بِهَا، كَسَائِرِ شَهَادَاتِ الِاسْتِفَاضَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ فَلَا يَلْزَمُ الْمُزَكِّيَ الْحُضُورُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ إجْبَارُهُ عَلَيْهَا، فَصَارَ كَالْمَرَضِ وَالْغَيْبَةِ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ لَمْ نَكْتَفِ بِشَهَادَةِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، لَتَعَذَّرَتْ التَّزْكِيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي جِيرَانِ الشَّاهِدِ مَنْ يَعْرِفُهُ الْحَاكِمُ، فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ، فَيَفُوتُ التَّعْدِيلُ وَالْجَرْحُ. [فَصْلٌ مِنْ شُرُوط الشَّاهِد إسْلَامه] (8248) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ إسْلَامِ الشَّاهِدِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ؛ أَحَدُهَا، إخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، أَوْ إتْيَانُهُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا صَارَ مُسْلِمًا بِذَلِكَ. الثَّانِي، اعْتِرَافُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ، خِبْرَةُ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّنَا اكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ، فَكَذَلِكَ فِي إسْلَامِهِ. الرَّابِعُ، بَيِّنَةٌ تَقُومُ بِهِ. وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي مَوْضِعٍ تُعْتَبَرُ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ؛ بَيِّنَةٌ، أَوْ اعْتِرَافُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ خِبْرَةُ الْحَاكِمِ. وَلَا يَكْفِي اعْتِرَافُ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا، فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَجْهُولُ الْحَالِ] (8249) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَجْهُولُ الْحَالِ، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُ الْحَاكِمَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ لِحَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِعَدَالَتِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، كَسَائِرِ أَقَارِيرِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِهَا تَعْدِيلًا لَهُ، فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِأَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ فَاسِقٍ، لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ مَعَ تَعْدِيلِهِ، أَوْ مَعَ انْتِفَائِهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَعَ تَعْدِيلِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ انْتِفَاءِ تَعْدِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ غَيْرُ جَائِزٍ، بِدَلِيلِ شَهَادَةِ مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ هَذَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا يَثْبُتُ تَعْدِيلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ، وَإِنَّمَا حُكِمَ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ بِوُجُودِ شُرُوطِ الْحُكْمِ، وَإِقْرَارُهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، ثَبَتَ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 [مَسْأَلَةٌ عَدَّلَ الشَّاهِد اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ] (8250) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَإِنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ، وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ، فَالْجِرَاحَةُ أَوْلَى) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَعْدَلُ؟ اللَّذَانِ جَرَّحَاهُ، أَوْ اللَّذَانِ عَدَّلَاهُ؟ فَيُؤْخَذُ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّ الْجَارِحَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى الْمُعَدِّلِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الرَّيْبِ وَالْمَحَارِمِ، وَالْجَارِحُ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ ذَلِكَ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ، وَلِأَنَّ الْجَارِحَ يَقُولُ: رَأَيْته يَفْعَلُ كَذَا. وَالْمُعَدِّلُ مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يَفْعَلُ، وَيُمْكِنُ صِدْقُهُمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا بِأَنْ يَرَاهُ الْجَارِحُ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ، وَلَا يَرَاهُ الْمُعَدِّلُ، فَيَكُونُ مَجْرُوحًا. [فَصْلٌ وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ] (8251) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَقُبِلَ مِنْ وَاحِدٍ، كَالرِّوَايَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ إثْبَاتُ صِفَةِ مَنْ يَبْنِي الْحَاكِمُ حُكْمَهُ عَلَى صِفَتِهِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالْحَضَانَةِ، وَفَارَقَ الرِّوَايَةَ؛ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَيَقُولُ فِي التَّعْدِيلِ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ. وَيَكْفِي هَذَا. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: عَلَيَّ وَلِي. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ شُرَيْحٌ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَكْفِيهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِئَلَّا تَكُونَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ أَوْ قَرَابَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِئَلَّا يَكُونَ عَدْلًا فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَإِذَا شَهِدَا أَنَّهُ عَدْلٌ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدْلًا، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَفِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ. وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ عَدْلًا فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا فِي حَقِّ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِهَذَا، وَلَا تَنْتَفِي أَيْضًا بِقَوْلِهِ: عَدْلٌ وَلِي فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، لَمْ تَزُلْ بِقَرَابَةٍ وَلَا عَدَاوَةٍ، وَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا، ثُمَّ إنَّ هَذَا إذَا كَانَ مَعْلُومًا انْتِقَاؤُهُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ وَلَا نَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِالْحَقِّ مَنْ عَرَفَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يَنْفِيَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ شَهَادَتِهِ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَإِنَّمَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا شَاهِدٌ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ وَالْعَدَالَةِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى نَفْيِ الْعَدَاوَةِ. [فَصْل يَقُولَ لَا أَعْلَمُ مِنْ الشَّاهِد إلَّا الْخَيْرَ] (8252) فَصْلٌ: وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا الْخَيْرَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكْفِي؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ إلَّا الْخَيْرَ، فَهُوَ عَدْلٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْدِيلِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْلَمُ مِنْهُ خَيْرًا. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ أَهْلِ الْفِسْقِ، لَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ إلَّا الْخَيْرَ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ إسْلَامَهُمْ، وَهُوَ خَيْرٌ، وَلَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ. [فَصْلٌ لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ لِلشُّهُودِ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ] (8253) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَادِمَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِخَبَرِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، فَرُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا عِلْمَ أَنَّ الْمُعَدِّلَ لَا خِبْرَةَ لَهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بِالتَّعْدِيلِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لِلْمُعَدِّلِ الشَّهَادَةُ بِالْعَدَالَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بَاطِنَةٌ. فَأَمَّا الْحَاكِمُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الْعَدْلُ بِالتَّعْدِيلِ، وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ، وَإِنْ اسْتَكْشَفَ الْحَالَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا بَأْسَ. [فَصْلٌ وَلَا يُسْمَعُ الْجَرْحُ فِي الشُّهُود إلَّا مُفَسَّرًا] (8254) فَصْلٌ: وَلَا يُسْمَعُ الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّنِي رَأَيْته يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا، أَوْ يَظْلِمُ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ ضَرْبِهِمْ، أَوْ سَمِعْته يَقْذِفُ. أَوْ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِاسْتِفَاضَتِهِ فِي النَّاسِ. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ وَتَعْيِينِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَسَوَّارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فَاسِقٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ يُسْمَعُ مُطْلَقًا؛ فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ، وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ يَجْعَلُ الْجَارِحَ فَاسِقًا، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَى، فَيُفْضِي الْجَرْحُ إلَى جَرْحِ الْجَارِحِ، وَتَبْطِيلِ شَهَادَتِهِ، وَلَا يَتَجَرَّحُ بِهَا الْمَجْرُوحُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي شَارِبِ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مُجَرَّدُ الْجَرْحِ، لِئَلَّا يَجْرَحَهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْقَاضِي جَرْحًا؛ وَلِأَنَّ الْجَرْحَ يَنْقُلُ عَنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَالْجُرْحُ يَنْقُلُ عَنْهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ النَّاقِلُ، لِئَلَّا يُعْتَقَدَ نَقْلُهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ نَاقِلًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُفْضِي إلَى جَرْحِ الْجَارِحِ، وَإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّعْرِيضُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي بَيَانِ السَّبَبِ هَتْكُ الْمَجْرُوح. قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ هَتْكِهِ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ هَتْكٌ لَهُ. وَلَكِنْ جَازَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، كَمَا جَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى؛ فَإِنَّ فِيهِ دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلِأَنَّ هَتْكَ عِرْضِهِ بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِلشَّهَادَةِ مَعَ ارْتِكَابِهِ مَا يُوجِبُ جَرْحَهُ، فَكَانَ هُوَ الْهَاتِكَ لِنَفْسِهِ، إذْ كَانَ فِعْلُهُ هُوَ الْمُحْوِجَ لِلنَّاسِ إلَى جَرْحِهِ. فَإِنْ صَرَّحَ الْجَارِحُ بِقَذْفِهِ بِالزِّنَى، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إنْ لَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إدْخَالَ الْمَعَرَّةِ عَلَيْهِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . الْآيَةَ. وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ وَرَفِيقَيْهِ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى، وَلَمْ يُكْمِلْ زِيَادٌ شَهَادَتَهُ فَجَلَدَهُمْ عُمَرُ حَدَّ الْقَذْفِ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِمَا إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى فِسْقِ الشُّهُود] (8255) فَصْلٌ: وَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً، أَنَّ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا بِهَذَا الْحَقِّ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا لِفِسْقِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ، لَمْ تُقْبَلْ مَرَّةً ثَانِيَةً. [فَصْلٌ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ فِي الشُّهُود مِنْ النِّسَاءِ] (8256) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ مِنْ النِّسَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَأَشْبَهَ الرِّوَايَةَ، وَأَخْبَارَ الدِّيَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فِي الْقِصَاصِ. وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. [فَصْلٌ الْجَرْحُ فِي الشُّهُودِ مِنْ الْخَصْمِ] (8257) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ مِنْ الْخَصْمِ. بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَلَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: هَذَانِ فَاسِقَانِ، أَوْ عَدُوَّانِ لِي، أَوْ آبَاءُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي قَوْلِهِ، وَيَشْهَدُ بِمَا يَجُرُّ إلَيْهِ نَفْعًا، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبِلْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 قَوْلَهُ، لَمْ يَشَأْ أَحَدٌ أَنْ يُبْطِلَ شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ إلَّا أَبْطَلَهَا، فَتَضِيعَ الْحُقُوقُ، وَتَذْهَبَ حِكْمَةُ شَرْعِ الْبَيِّنَةِ. [فَصْلٌ شَهَادَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ] (8258) فَصْلٌ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ، وَذَلِكَ إذَا حَضَرَ مُسَافِرَانِ، فَشَهِدَا عِنْدَ حَاكِمٍ لَا يَعْرِفُهُمَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْبَلُهُمَا إذَا رَأَى فِيهِمَا سِيمَا الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمَا، فَفِي التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِهِمَا تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِمَا إلَى السِّيمَاءِ الْجَمِيلَةِ. وَلَنَا، أَنَّ عَدَالَتَهُمَا مَجْهُولَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، كَشَاهِدَيْ الْحَضَرِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا يُفْضِي إلَى أَنْ يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا بِدَفْعِ الْحَقِّ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ. [فَصْلٌ لِلْقَاضِيَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُهُودِهِ كُلَّ قَلِيلٍ] (8259) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُهُودِهِ كُلَّ قَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. وَهَلْ هَذَا مُسْتَحَبُّ أَوْ وَاجِبٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ، فَلَا يَزُولُ حَتَّى يَثْبُت الْجَرْحُ. وَالثَّانِي، يَجِبُ الْبَحْثُ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَتَغَيَّرُ الْحَالُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ يَحْدُثُ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، مِثْلُ هَذَيْنِ. [فَصْلٌ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُرَتَّبِينَ] (8260) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَلِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْوَقَائِعِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ فِيهَا تَقَعُ عِنْدَ غَيْرِ الْمُرَتَّبِينَ، فَمَتَى ادَّعَى إنْسَانٌ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُرَتَّبِينَ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ سَمَاعُ بَيِّنَتِهِ، وَالنَّظَرُ فِي عَدَالَةِ شَاهِدَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُرَتَّبِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا يُشْهِدُهُمْ النَّاسُ، فَيَسْتَغْنُونَ بِإِشْهَادِهِمْ عَنْ تَعْدِيلِهِمْ، وَيَسْتَغْنِي الْحَاكِمُ عَنْ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ فِيهِ تَخْفِيفٌ مِنْ وَجْهٍ، وَيَكُونُونَ أَيْضًا يُزَكُّونَ مَنْ عَرَفُوا عَدَالَتَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ إذَا شَهِدَ. [فَصْلٌ يَعِظَ الْقَاضِي الشَّاهِدَيْنِ] (8261) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعِظَ الشَّاهِدَيْنِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلشَّاهِدَيْنِ إذَا حَضَرَا: يَا هَذَانِ، أَلَا تَرَيَانِ؟ إنِّي لَمْ أَدْعُكُمَا، وَلَسْت أَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجِعَا، وَإِنَّمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا أَنْتُمَا، وَأَنَا مُتَّقٍ بِكُمَا، فَاتَّقِيَا. وَفِي لَفْظٍ: وَإِنِّي بِكُمَا أَقْضِي الْيَوْمَ، وَبِكُمَا أَتَّقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ كُنْت عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ، فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ، فَشَهِدَا لَهُ، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: وَاَلَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ فِي الشَّهَادَةِ. وَكَانَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَتَرْمِي مَا فِي حَوَاصِلِهَا، مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . فَإِنْ صَدَقْتُمَا فَاثْبُتَا، وَإِنْ كَذَبْتُمَا فَغَطِّيَا رُءُوسَكُمَا وَانْصَرِفَا. فَغَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَانْصَرَفَا. [مَسْأَلَةٌ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا عَدْلًا] (8262) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَيَكُونُ كَاتِبُهُ عَدْلًا، وَكَذَلِكَ قَاسِمُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَكْتَبَ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَغَيْرَهُ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ تَكْثُرُ أَشْغَالُهُ وَنَظَرُهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ تَوَلِّي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ، جَازَ، وَالِاسْتِنَابَةُ فِيهِ أَوْلَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَوْضِعُ أَمَانَةٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا؛ لِيَعْرِفَ مَوَاقِعَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْوَاجِبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَافِرَ الْعَقْلِ، وَرِعًا، نَزِهًا؛ لِئَلَّا يُسْتَمَالَ بِالطَّمَعِ، وَيَكُونَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا مُوسَى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَأَحْضَرَ أَبُو مُوسَى شَيْئًا مِنْ مَكْتُوبَاتِهِ عِنْدَ عُمَرَ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ: قُلْ لِكَاتِبِك يَجِيءُ، فَيَقْرَأُ كِتَابَهُ. قَالَ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إنَّهُ نَصْرَانِيٌّ. فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: لَا تَأْتَمِنُوهُمْ، وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تُقَرِّبُوهُمْ، وَقَدْ أَبْعَدَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى، وَلَا تُعِزُّوهُمْ، وَقَدْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ. ، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَتِهِ وَإِسْلَامِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُشْتَرَطُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، لَا تُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ مَا يَكْتُبُهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوفِ الْقَاضِي عَلَيْهِ، فَتُؤْمَنُ الْخِيَانَةُ فِيهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جَيِّدَ الْخَطِّ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ. وَأَنْ يَكُونَ حُرًّا؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، جَازَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ. وَيَكُونَ الْقَاسِمُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الْكَاتِبِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ حَاسِبًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلُهُ، وَبِهِ يَقْسِمُ، فَهُوَ كَالْحَظِّ لِلْكَاتِبِ وَالْفِقْهِ لِلْحَاكِمِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجْلِسَ كَاتِبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِيُشَاهِدَ مَا يَكْتُبُهُ، وَيُشَافِهَهُ بِمَا يُمْلِي عَلَيْهِ، وَإِنْ قَعَدَ نَاحِيَةً، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ، فَإِنَّ مَا يَكْتُبُهُ يُعْرَضُ عَلَى الْحَاكِمِ، فَيَسْتَبْرِئُهُ. [فَصْلٌ تَرَافَعَ إلَى الْحَاكِمِ خَصْمَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ] (8263) فَصْلٌ: وَإِذَا تَرَافَعَ إلَى الْحَاكِمِ خَصْمَانِ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لِلْحَاكِمِ: أَشْهِدْ لِي عَلَى إقْرَارِهِ شَاهِدَيْنِ. لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، فَرُبَّمَا جَحَدَ الْمُقِرُّ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، وَلَوْ كَانَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ اُحْتُمِلَ أَنْ يَنْسَى، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَةُ النِّسْيَانِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْحُكْمُ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَقٌّ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ النُّكُولِ، فَسَأَلَهُ الْمُدَّعِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي سِوَى الْإِشْهَادِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ فَسَأَلَهُ الْإِشْهَادَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ بِالْحَقِّ بَيِّنَةً، فَلَا يَجِبُ جَعْلُ بَيِّنَةٍ أُخْرَى. وَالثَّانِي، يَجِبُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِشْهَادِ فَائِدَةً جَدِيدَةً، وَهِيَ إثْبَاتُ تَعْدِيلِ بَيِّنَتِهِ، وَإِلْزَامُ خَصْمِهِ وَإِنْ حَلَفَ الْمُنْكِرُ وَسَأَلَ الْحَاكِمُ الْإِشْهَادَ عَلَى بَرَاءَتِهِ لَزِمَهُ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ. فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ، إذَا سَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ، فَهُوَ كَالْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ رُبَّمَا نَسِيَا الشَّهَادَةَ، أَوْ نَسِيَا الْخَصْمَيْنِ، فَلَا يُذَكِّرُهُمَا إلَّا رُؤْيَةُ خَطَّيْهِمَا. وَالثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ يَكْفِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ تَكْثُرُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَاتُ، وَيَطُولُ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَا يَتَحَقَّقَانِ الشَّهَادَةَ تَحَقُّقًا يَحْصُلُ بِهِ أَدَاؤُهَا، فَلَا يَتَقَيَّدُ إلَّا بِالْكِتَابِ. فَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا، فَصِفَتُهُ: حَضَرَ الْقَاضِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، قَاضِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامِ فُلَانٍ، عَلَى كَذَا وَكَذَا. وَإِنْ كَانَ خَلِيفَةَ الْقَاضِي قَالَ: خَلِيفَةُ الْقَاضِي فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَبْدُ اللَّهِ قَاضِي الْإِمَامِ بِمَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ. فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِمَا وَأَنْسَابِهِمَا، قَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ. وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهِمَا حَتَّى يَتَمَيَّزَ وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ حِلْيَتِهِمَا، وَإِنْ أَخَلَّ بِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ نَسَبِهِمَا إذَا رَفَعَ فِيهِ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْحِلْيَةِ. وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُ الْخَصْمَيْنِ، قَالَ: مُدَّعٍ ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ. وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهِمَا، وَيَذْكُرُ حِلْيَتَهُمَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا، فَرُبَّمَا اسْتَعَارَ النَّسَبَ. وَيَقُولُ: أَغَمُّ، أَوْ أَنْزَعُ. وَيَذْكُرُ صِفَةَ الْعَيْنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْحَاجِبَيْنِ، وَاللَّوْنَ وَالطُّولَ وَالْقِصَرَ. مَا ادَّعَى عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَقَرَّ لَهُ. وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: بِمَجْلِسِ حُكْمِهِ. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَصِحُّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 وَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ شَاهِدَانِ، كَانَ أَوْكَدَ. وَيَكْتُبُ الْحَاكِمُ عَلَى رَأْسِ الْمَحْضَرِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَوَ مَا أَحَبَّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَادَّعَى عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَنْكَرَ، فَسَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِيَ: أَلِك بَيِّنَةٌ؟ فَأَحْضَرَهَا، وَسَأَلَ الْحَاكِمُ سَمَاعَهَا فَفَعَلَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى، فَأَجَابَهُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ كَذَا. وَيَحْتَاجُ هَاهُنَا أَنْ يَذْكُرَ: بِمَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ. بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَالْإِقْرَارُ بِخِلَافِهِ. وَيَكْتُبُ الْحَاكِمُ فِي آخِرِ الْمَحْضَرِ: شَهِدَا عِنْدِي بِذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي كِتَابٌ فِيهِ خَطُّ الشَّاهِدِ كَتَبَ تَحْتَ خُطُوطِهِمَا أَوْ تَحْت خَطِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: شَهِدَ عِنْدِي بِذَلِكَ. وَيَكْتُبُ عَلَامَتَهُ فِي رَأْسِ الْمَحْضَرِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْمَحْضَرِ، جَازَ. فَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَاسْتَحْلَفَ الْمُنْكِرَ، ثُمَّ سَأَلَ الْمُنْكِرُ الْحَاكِمَ مَحْضَرًا لِئَلَّا يَحْلِفَ فِي ذَلِكَ ثَانِيًا، كَتَبَ لَهُ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: فَأَنْكَرَ، فَسَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِيَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ. فَسَأَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ، فَاسْتَحْلَفَهُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ تَحْلِيفِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَيُعْلَمُ فِي أَوَّلِهِ خَاصَّةً. وَإِنْ نَكِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ، قَالَ: فَعُرِضَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَنَكِلَ عَنْهَا، فَسَأَلَ خَصْمُهُ الْحَاكِمَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، فَقَضَى عَلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا. وَيُعْلِمُ فِي آخِرِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ. فَهَذِهِ صِفَةُ الْمَحْضَرِ. فَأَمَّا إنْ سَأَلَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْمَحْضَرِ، لَزِمَهُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِهِ، وَيَنْفُذَهُ، فَيَقُولَ: حَكَمْت لَهُ بِهِ، أَلْزَمْته الْحَقَّ، أَنْفَذَتْ الْحُكْمَ بِهِ. فَإِنْ طَلَبَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عَلَى حُكْمِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، لِتَحْصُلَ لَهُ الْوَثِيقَةُ بِهِ. فَإِنْ طَالَبَهُ أَنْ يُسَجِّلَ لَهُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْمَحْضَرِ وَيَشْهَدَ عَلَى إنْقَاذِهِ، سَجَّلَ لَهُ. وَفِي وُجُوبِ ذَلِكَ، الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْمَحْضَرِ. وَهَذِهِ صُورَةُ السِّجِلِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، قَاضِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامِ، عَلَى كَذَا وَكَذَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا، أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَنَسَبِهِمَا، وَقَدْ عَرَفَهُمَا بِمَا سَاغَ لَهُ بِهِ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا عِنْدَهُ بِمَا فِي كِتَابٍ نَسَخَهُ وَيَنْسَخُ الْكِتَابَ إنْ كَانَ مَعَهُ، أَوْ الْمَحْضَرَ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَحَكَمَ بِهِ، فَأَنْفَذَهُ وَأَمْضَاهُ، بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِهِ. وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ بِمَحْضَرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَهُ احْتِيَاطًا، قَالَ: بَعْدَ أَنْ حَضَرَهُ مَنْ سَاغَ لَهُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ. وَيَكْتُبُ الْحَاكِمُ بِالسِّجِلِّ وَالْمَحْضَرِ نُسْخَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تَكُونُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 وَالْأُخْرَى، تَكُونُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ، فَإِنْ هَلَكَتْ إحْدَاهُمَا نَابَتْ الْأُخْرَى عَنْهَا، وَيُخْتَمُ الَّذِي فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ، وَيَكْتُبُ عَلَى طَيِّهِ: سِجِلُّ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، أَوْ مَحْضَرُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، أَوْ وَثِيقَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. فَإِنْ كَثُرَ مَا عِنْدَهُ جَمَعَ مَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ، عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا وَشَدَّهَا إضْبَارَةً، وَيَكْتُبُ عَلَيْهَا: أُسْبُوعُ كَذَا، مِنْ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا. ثُمَّ يَضُمُّ مَا يَجْتَمِعُ فِي السَّنَةِ، وَيَدَعُهَا نَاحِيَةً، وَيَكْتُبُ عَلَيْهَا: كُتِبَ سَنَةَ كَذَا. حَتَّى إذَا حَضَرَ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا مِنْهَا، سَأَلَهُ عَنْ السَّنَةِ، فَيُخْرِجُ كُتُبَ تِلْكَ السَّنَةِ، وَيَسْهُلُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى جَمْعَهَا وَشَدَّهَا بِنَفْسِهِ؛ لِئَلَّا يُزَوَّرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ ثِقَةٌ مِنْ ثِقَاتِهِ، جَازَ. [فَصْلٌ يُجْعَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ بِرَسْمِ الْكَاغَد أَيْ الْحَاكِم] (8264) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ بِرَسْمِ الْكَاغَدِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْمَحَاضِرُ وَالسِّجِلَّاتُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّهُ، يُحْفَظُ بِهِ الْوَثَائِقُ، وَيُذَكِّرُ الْحَاكِمَ حُكْمَهُ، وَالشَّاهِدَ شَهَادَتَهُ، وَيُرْجَعُ بِالدَّرْكِ عَلَى مَنْ رَجَعَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَعْوَزَ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْ الْحَاكِمَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ: إنْ شِئْت جِئْت بِكَاغَدٍ، أَكْتُبُ لَك فِيهِ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ لَك، وَلَسْت أُكْرِهُك عَلَيْهِ. [فَصْل ارْتَفَعَ إلَى الْحَاكِم خَصْمَانِ فَذَكَرَ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَجَّتَهُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ] (8265) فَصْلٌ: وَإِذَا ارْتَفَعَ إلَيْهِ خَصْمَانِ، فَذَكَرَ أَحَدُهُمَا أَنَّ حُجَّتَهُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ، فَأَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ دِيوَانِهِ، فَوَجَدَهَا مَكْتُوبَةً بِخَطِّهِ تَحْت خَتْمِهِ، وَفِيهَا حُكْمُهُ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ، حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، لَمْ يَحْكُمْ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي الشَّهَادَةِ، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَعَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَهَذَا الَّذِي رَأَيْته عَنْ أَحْمَدَ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي قِمْطَرِهِ تَحْتَ خَتْمِهِ، لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ يَكُونَ إلَّا صَحِيحًا. وَوَجْهُ الْأُولَى، أَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، فَلَمْ يَجُزْ إنْفَاذُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، كَحُكْمِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَوَّرَ عَلَيْهِ وَعَلَى خَتْمِهِ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ وَجَدَ فِي دَفْتَرِ أَبِيهِ حَقًّا عَلَى إنْسَانٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَيَحْلِفَ عَلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا يُخَالِفُ الْحُكْمَ وَالشَّهَادَةَ، بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ بِخَطِّ أَبِيهِ شَهَادَةً، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا، وَلَا يَشْهَدَ بِهَا، وَلَوْ وَجَدَ حُكْمَ أَبِيهِ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ إنْقَاذُهُ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ إلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فِعْلُ نَفْسِهِ، فَرُوعِيَ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا كَتَبَهُ أَبُوهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ إلَى نَفْسِهِ، فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْحَاكِمِ أَنَّك حَكَمْت لِي بِهَذَا الْحَقِّ عَلَى خَصْمِي فَذَكَرَ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ] (8266) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْحَاكِمِ، أَنَّك حَكَمْت لِي بِهَذَا الْحَقِّ عَلَى خَصْمِي. فَذَكَرَ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ، أَمْضَاهُ، وَأَلْزَمَ خَصْمَهُ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا بِالْعِلْمِ، إنَّمَا هُوَ إمْضَاءٌ لِحُكْمِهِ السَّابِقِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْقَاضِي، فَشَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَلَى حُكْمِهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا، وَإِمْضَاءُ الْقَضَاءِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يَرْجِعُ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ الْمَأْمُومِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِحَاطَةِ وَالْعِلْمِ، فَلَا يَرْجِعُ إلَى الظَّنِّ، كَالشَّاهِدِ إذَا نَسِيَ شَهَادَتَهُ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَنَّهُ شَهِدَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قَبِلَ، فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا نَسِيَهُ لَيْسَ إلَيْهِ، وَيُخَالِفُ الشَّاهِدَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يُمْضِي مَا حَكَمَ بِهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَالشَّاهِدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إمْضَاءِ شَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يُمْضِيهَا الْحَاكِمُ. [مَسْأَلَةٌ قَبُول الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ] (8267) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ يُقْصَدُ بِهَا فِي الْغَالِبِ اسْتِمَالَةُ قَلْبِهِ، لِيَعْتَنِيَ بِهِ فِي الْحُكْمِ، فَتُشْبِهُ الرِّشْوَةَ. قَالَ مَسْرُوقٌ: إذَا قَبِلَ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ، أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا قَبِلَ الرِّشْوَةَ، بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَيَأْخُذُ شَيْئًا، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْت عُفْرَةَ إبْطَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ثَلَاثًا؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ حُدُوثَ الْهَدِيَّةِ عَنَدَ حُدُوثِ الْوِلَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَجْلِهَا، لِيَتَوَسَّلَ بِهَا إلَى مَيْلِ الْحَاكِمِ مَعَهُ عَلَى خَصْمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهَا مِنْهُ كَالرِّشْوَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ، جَازَ قَبُولُهَا مِنْهُ بَعْدَ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَجْلِ الْوِلَايَةِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِهَا قَبْلَ الْوِلَايَةِ، بِدَلِيلِ وُجُودِهَا قَبْلَهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 قَالَ الْقَاضِي: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْهَا. وَإِنْ أَحَسَّ أَنَّهُ يُقَدِّمُهَا بَيْنَ يَدَيْ خُصُومِهِ، أَوْ فَعَلَهَا حَالَ الْحُكُومَةِ، حَرُمَ أَخْذُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا كَالرِّشْوَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلَالَةٌ عَلَى التَّحْرِيمِ. [فَصْلٌ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَرِشْوَةُ الْعَامِلِ] (8268) فَصْلٌ: فَأَمَّا الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَرِشْوَةُ الْعَامِلِ، فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ الرِّشْوَةُ. وَقَالَ: إذَا قَبِلَ الْقَاضِي الرِّشْوَةَ، بَلَغَتْ بِهِ إلَى الْكُفْرِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَادَ: " فِي الْحُكْمِ ". وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ "، وَزَادَ: " وَالرَّائِشَ " وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْمُرْتَشِيَ إنَّمَا يَرْتَشِي لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ لِيُوقِفَ الْحُكْمَ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ. قَالَ مَسْرُوقٌ: سَأَلْت ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ السُّحْتِ، أَهْوَ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: لَا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وَ {الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] وَ {الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] وَلَكِنَّ السُّحْتَ أَنْ يَسْتَعِينَك الرَّجُلُ عَلَى مَظْلَمَةٌ، فَيُهْدِيَ لَك، فَلَا تَقْبَلْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ كَعْبٌ: الرِّشْوَةُ تُسَفِّهُ الْحَلِيمَ، وَتُعْمِي عَيْنَ الْحَكِيمِ. فَأَمَّا الرَّاشِي فَإِنْ رَشَاهُ لِيَحْكُمَ لَهُ بِبَاطِلٍ، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَقًّا، فَهُوَ مَلْعُونٌ، وَإِنْ رَشَاهُ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ، وَيَجْزِيَهُ عَلَى وَاجِبِهِ، فَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: مَا رَأَيْنَا فِي زَمَنِ زِيَادٍ أَنْفَعَ لَنَا مِنْ الرِّشَا. وَلِأَنَّهُ يَسْتَنْقِذُ مَالَهُ كَمَا يَسْتَنْقِذُ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ. فَإِنْ ارْتَشَى الْحَاكِمُ، أَوْ قَبِلَ هَدِيَّةً لَيْسَ لَهُ قَبُولُهَا، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى أَرْبَابِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَشْبَهَ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ بِرَدِّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إذَا أَهْدَى الْبِطْرِيقُ لِصَاحِبِ الْجَيْشِ عَيْنًا أَوْ فِضَّةً، لَمْ تَكُنْ لَهُ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَكُونُونَ فِيهِ سَوَاءً. [فَصْلٌ تَوَلَّى الْقَاضِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ] (8269) فَصْلٌ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَدًا» وَلِأَنَّهُ يُعْرَفُ فَيُحَابَى، فَيَكُونُ كَالْهَدِيَّةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ النَّظَرِ فِي أُمُورِ النَّاسِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا بُويِعَ، أَخَذَ الذِّرَاعَ وَقَصْدَ السُّوقَ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسَعُك أَنْ تَشْتَغِلَ عَنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَإِنِّي لَا أَدَعُ عِيَالِي يَضِيعُونَ. قَالُوا: فَنَحْنُ نَفْرِضُ لَك مَا يَكْفِيك. فَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ. فَإِنْ بَاعَ وَاشْتَرَى، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ، جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَصْدَ السُّوقَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، حَتَّى فَرَضُوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِعِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَلَا يَتْرُكُهُ لِوَهْمِ مَضَرَّةٍ، وَأَمَّا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ مُبَاشَرَتِهِ، وَوَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُوَكِّلَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَكِيلُهُ؛ لِئَلَّا يُحَابَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُكْرَهُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَتَوْكِيلُ مَنْ يُعْرَفُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ: شَرَطَ عَلَيَّ عُمَرُ حِينَ وَلَّانِي الْقَضَاءَ أَنْ لَا أَبِيعَ، وَلَا أَبْتَاعَ، وَلَا أَرْتَشِيَ، وَلَا أَقْضِيَ وَأَنَا غَضْبَانُ. وَقَضِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ بِحِفْظِ عِيَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ، فَلَمَّا أَغْنَوْهُ عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِمَا فَرَضُوا لَهُمْ، قَبِلَ قَوْلَهُمْ، وَتَرَكَ التِّجَارَةَ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهَا عِنْدَ الْغِنَى عَنْهَا. [فَصْلٌ لِلْحَاكِمِ حُضُورُ الْوَلَائِمِ] (8270) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ حُضُورُ الْوَلَائِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْضُرُهَا، وَيَأْمُرُ بِحُضُورِهَا، وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَإِنْ كَثُرَتْ وَازْدَحَمَتْ، تَرَكَهَا كُلَّهَا، وَلَمْ يُجِبْ أَحَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَعْتَذِرُ إلَيْهِمْ، وَيَسْأَلُهُمْ التَّحْلِيلَ، وَلَا يُجِيبُ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرًا لِقَلْبِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ، إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُهَا بِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ دُونَ بَعْضٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي إحْدَاهُمَا مُنْكَرٌ، أَوْ تَكُونَ فِي مَكَان بَعِيدٍ، أَوْ يَشْتَغِلَ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَالْأُخْرَى بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَهُ الْإِجَابَةُ إلَيْهَا دُونَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ ظَاهِرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْأُولَى. [فَصْلٌ عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ وَإِتْيَانُ مُقَدَّم الْغَائِبِ لِلْحَاكِمِ] (8271) فَصْلٌ: وَلَهُ عِيَادَةُ الْمَرْضَى، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ، وَإِتْيَانُ مَقْدَمِ الْغَائِبِ، وَزِيَارَةُ إخْوَانِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْفَرْضِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 وَلَهُ حُضُورُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ، وَالْقُرْبَةِ لَهُ، وَالْوَلَائِمُ يُرَاعَى فِيهَا حَقُّ الدَّاعِي، فَيَنْكَسِرُ قَلْبُ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ إذَا أَجَابَ غَيْرَهُ. [مَسْأَلَةٌ عَدْلُ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ] (8272) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، مِنْ الْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ وَاللَّحْظِ وَاللَّفْظِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتِ إلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، فِي كِتَابِ " قُضَاةِ الْبَصْرَةِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ، وَإِشَارَتِهِ، وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ؛ فِي النَّظَرِ، وَالْمَجْلِسِ، وَالْإِشَارَةِ» وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أُبَيٍّ: سَوِّ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِك وَعَدْلِك، حَتَّى لَا يَيْأَسَ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِك، وَلَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك. وَقَالَ سَعِيدٌ، ثنا هُشَيْمٌ، ثنا سَيَّارٌ ثنا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ بِدَارٍ فِي شَيْءٍ، فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَيْنَاك لِتَحْكُمَ بَيْنَنَا، فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ فَوَسَّعَ لَهُ زَيْدٌ عَنْ صَدْرِ فِرَاشِهِ، فَقَالَ: هَاهُنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: جُرْت فِي أَوَّلِ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ أَجْلِسُ مَعَ خَصْمِي. فَجَلَسَا بَيْن يَدَيْهِ، فَادَّعَى أُبَيٍّ وَأَنْكَرَ عُمَرُ، فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ، أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ، وَمَا كُنْت لِأَسْأَلَهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ. فَحَلَفَ عُمَرُ، ثُمَّ أَقْسَمَ: لَا يُدْرِكُ زَيْدٌ بَابَ الْقَضَاءِ، حَتَّى يَكُونَ عُمَرُ وَرَجُلٌ مِنْ عَرَضِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ سَوَاءً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، وَفِيهِ: فَلَمَّا أَتَيَا بَابَ زَيْدٍ، خَرَجَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْت إلَيَّ لَأَتَيْتُك. قَالَ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ. فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ، قَالَ: هَاهُنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: بَلْ أَجْلِسُ مَعَ خَصْمِي. فَادَّعَى أُبَيٌّ وَأَنْكَرَ عُمَرُ، وَلَمْ تَكُنْ لِأُبَيٍّ، بَيِّنَةٌ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ. فَقَالَ عُمَرُ: تَاللَّهِ إنْ زِلْت ظَالِمًا، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. هَاهُنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إنْ كَانَ لِي حَقٌّ اسْتَحْقَقْته بِيَمِينِي، وَإِلَّا تَرَكْته، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّ النَّخْلَ لَنَخْلِي، وَمَا لِأُبَيٍّ فِيهَا حَقٌّ. ثُمَّ أَقْسَمَ عُمَرُ: لَا يُصِيبُ زَيْدٌ وَجْهَ الْقَضَاءِ حَتَّى يَكُونَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ عِنْدَهُ سَوَاءً. فَلَمَّا خَرَجَا وَهَبَ النَّخْلَ لِأُبَيٍّ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ، الْمُؤْمِنِينَ، فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ؟ قَالَ: خِفْت أَنْ أَتْرُكَ الْيَمِينَ، فَتَصِيرَ سُنَّةً، فَلَا يَحْلِفُ النَّاسُ عَلَى حُقُوقِهِمْ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى شُرَيْحٍ، وَعِنْدَهُ السَّرِيُّ بْنُ وَقَّاصٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِشُرَيْحٍ: أَعِنِّي عَلَى هَذَا الْجَالِسِ عِنْدَك. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلسَّرِيِّ: قُمْ فَاجْلِسْ مَعَ خَصْمِك. قَالَ: إنِّي أُسْمِعُك مِنْ مَكَانِي. قَالَ: لَا قُمْ فَاجْلِسْ مَعَ خَصْمِك. فَأَبَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَتَّى أَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ إنَّ مَجْلِسَك يُرِيبُهُ، وَإِنِّي لَا أَدَعُ النُّصْرَةَ وَأَنَا عَلَيْهَا قَادِرٌ. وَلَمَّا تَحَاكَمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْيَهُودِيُّ إلَى شُرَيْحٍ، قَالَ عَلِيٌّ إنَّ خَصْمِي لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَجَلَسْت مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْك وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا مَيَّزَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حُصِرَ، وَانْكَسَرَ قَلْبُهُ وَرُبَّمَا لَمْ تَقُمْ حُجَّتُهُ، فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى ظُلْمَةٍ. وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ لِلْحَاكِمِ فِي رَفْعِ الْخَصْمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَلَا يَنْكَسِرُ قَلْبُهُ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي رَفَعَهُ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ خَصْمِي مُسْلِمٌ لَجَلَسْت مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْك. وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لِلْحَاكِمِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالنَّظَرِ فِي خُصُومَتِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْخَصْمَانِ ذِمِّيَّيْنِ، سَوَّى بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي دِينِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا، جَازَ رَفْعُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَى إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، قَالَ: وَجَدَ عَلِيٌّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، دِرْعَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: دِرْعِي، سَقَطَتْ وَقْتَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: دِرْعِي، وَفِي يَدِي، بَيْنِي وَبَيْنَك قَاضِي الْمُسْلِمِينَ، فَارْتَفَعَا إلَى شُرَيْحٍ، فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْحٌ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَأَجْلِسَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَلَسَ مَعَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 يَدَيْهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّ خَصْمِي لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَجَلَسْت مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْك، وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ» ذَكَرَهُ: أَبُو نُعَيْمٍ، فِي الْحِلْيَةِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ، إمَّا أَنْ يُضَيِّفَهُمَا مَعًا أَوْ يَدَعَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: إنَّك خَصْمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَحُلُّ عَنَّا، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُضَيِّفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ الْخَصْمَ مَيْلَ الْحَاكِمِ إلَى مَنْ أَضَافَهُ. وَلَا يُلَقِّنُ أَحَدَهُمَا حُجَّتَهُ، وَلَا مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى خَصْمِهِ، مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا الْإِقْرَارَ، فَيُلَقِّنَهُ الْإِنْكَارَ، أَوْ الْيَمِينَ فَيُلَقِّنَهُ النُّكُولَ، أَوْ النُّكُولَ، فَيُجْزِئَهُ عَلَى الْيَمِينِ، أَوْ يُحِسَّ مِنْ الشَّاهِدِ بِالتَّوَقُّفِ، فَيُجَسِّرَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، أَوْ يَكُونَ مُقْدِمًا عَلَى الشَّهَادَةِ، فَيُوقِفَهُ عَنْهَا، أَوْ يَقُولَ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ: تَكَلَّمْ. وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا فِيهِ إضْرَارٌ بِخَصْمِهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْعَدْلَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ لَقَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّارِقَ، فَقَالَ: " مَا أَخَالُكَ سَرَقْت ". وَقَالَ عُمَرُ لِزِيَادٍ: أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْك رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْنَا: لَا يَرِدُ هَذَا الْإِلْزَامُ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ هَذَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ، وَلَا خَصْمَ لِلْمُقِرِّ، وَلَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ فِي تَلْقِينِهِ حَيْفٌ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا تَرْكٌ لِلْعَدْلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَاَلَّذِي قُلْنَا فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَنِّتَ الشَّاهِدَ، وَلَا يُدَاخِلَهُ فِي كَلَامِهِ، وَيُعَنِّفَهُ فِي أَلْفَاظِهِ. [فَصْلٌ حَضَرَ الْقَاضِي خُصُومٌ كَثِيرَة] (8273) فَصْلٌ: وَإِذَا حَضَرَ الْقَاضِيَ خُصُومٌ كَثِيرَةٌ، قُدِّمَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَكْتُبُ مَنْ جَاءَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَيَقْدَمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْأَحْسَنُ أَنْ يَتَّخِذَ خَيْطًا مَمْدُودًا، طَرَفُهُ يَلِي مَجْلِسَ الْحَاكِمِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ مَجْلِسَ الْخُصُومِ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ كَتَبَ اسْمَهُ فِي رُقْعَةٍ، وَثَقَبَهَا، وَأَدْخَلَهَا فِي الْخَيْطِ مِمَّا يَلِي مَجْلِسَ الْخُصُومِ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَإِذَا جَلَسَ الْقَاضِي مَدَّ يَدَهُ إلَى الطَّرَفِ الَّذِي يَلِيهِ، فَأَخَذَ الرُّقْعَةَ الَّتِي تَلِيهِ، ثُمَّ الَّتِي بَعْدَهَا كَذَلِكَ، حَتَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهَا فَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَزَالَ الْوَقْتُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ، عَرَفَ الطَّرَفَ الَّذِي يَلِيهِ حِينَ يَجْلِسُ، فَيَتَنَاوَلُ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي الرِّقَاعَ، كَفِعْلِهِ بِالْأَمْسِ. وَالِاعْتِبَارُ بِسَبْقِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَمَتَى قَدَّمَ رَجُلًا لِسَبْقِهِ فَحَكَمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، فَقَالَ: لِي دَعْوَى أُخْرَى. لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَهُ بِسَبْقِهِ فِي خُصُومَةٍ، فَلَا يُقَدِّمُهُ بِأُخْرَى، وَيَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ، نَظَرْت فِي دَعْوَاك الْأُخْرَى إنْ أَمْكَنَ. فَإِذَا فَرَغَ الْكُلُّ، فَقَالَ الْأَخِيرُ بَعْدَ فَصْلِ خُصُومَتِهِ: لِي دَعْوَى أُخْرَى. لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ دَعْوَى الْأَوَّلِ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ. وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَلَى الْمُدَّعِي، حَكَمَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا نَعْتَبِرُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فِي الدَّعْوَى، لَا فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِذَا تَقَدَّمَ الثَّانِي، فَادَّعَى عَلَى الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ، أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْأَوَّلِ، حَكَمَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ حَضَرَ اثْنَانِ، أَوْ جَمَاعَةٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ؛ لِتَسَاوِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ، كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِقَاعٍ، وَتَرَكَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَدَّ يَدَهُ فَأَخَذَ رُقْعَةً رُقْعَةً، وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيُقَدِّمُ صَاحِبَهَا حَسَبَ مَا يَتَّفِقُ. (8274) فَصْلٌ: فَإِنْ حَضَرَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ، وَكَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلًا، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ تَقْدِيمُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِينَ، قَدَّمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ، يَشْتَغِلُونَ بِمَا يَصْلُحُ لِلرَّحِيلِ، وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ الصَّوْمَ وَشَطَرَ الصَّلَاةَ تَحْقِيقًا عَنْهُمْ، وَفِي تَأْخِيرِهِمْ ضَرَرٌ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءَ أَفْرَدَ لَهُمْ يَوْمًا يَفْرُغُ مِنْ حَوَائِجِهِمْ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَهُمْ مِنْ غَيْرِ إفْرَادِ يَوْمٍ لَهُمْ. فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَضُرُّ تَقْدِيمُهُمْ، فَهُمْ وَالْمُقِيمُونَ سَوَاءٌ، لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ مَعَ الْقِلَّةِ، إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ فَإِذَا آلَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ إلَى الضَّرَرِ بِغَيْرِهِمْ، تَسَاوَوْا. وَلَا خِلَافَ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْآدَابِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ، فَلَوْ قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ، أَوْ قَدَّمَ الْحَاضِرِينَ، أَوْ نَحْوَهُ، كَانَ قَضَاؤُهُ صَحِيحًا. [فَصْلٌ تَقَدَّمَ إلَى الْحَاكِم خَصْمَانِ] (8275) فَصْلٌ: وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ خَصْمَانِ، فَإِنْ شَاءَ قَالَ: مَنْ الْمُدَّعِي مِنْكُمَا؟ لِأَنَّهُمَا حَضَرَا لِذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ، وَيَقُولُ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِهِ: مَنْ الْمُدَّعِي مِنْكُمَا؟ إنْ سَكَتَا جَمِيعًا. وَلَا يَقُولُ الْحَاكِمُ وَلَا صَاحِبُهُ لِأَحَدِهِمَا: تَكَلَّمْ. لِأَنَّ فِي إفْرَادِهِ بِذَلِكَ تَفْضِيلًا لَهُ، وَتَرْكًا لِلْإِنْصَافِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ: شَهِدْت شُرَيْحًا إذَا جَلَسَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ يَقُولُ: أَيُّكُمَا الْمُدَّعِي فَلْيَتَكَلَّمْ؟ وَإِنْ ذَهَبَ الْآخَرُ يَشْغَبُ، غَمَزَهُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُدَّعِي، ثُمَّ يَقُولُ: تَكَلَّمْ. فَإِنْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا، فَادَّعَى، فَقَالَ خَصْمُهُ: أَنَا الْمُدَّعِي. لَمْ يَلْتَفِتْ الْحَاكِمُ إلَيْهِ، وَقَالَ: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ، ثُمَّ ادَّعِ بَعْدُ مَا شِئْت. فَإِنْ ادَّعَيَا مَعًا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، كَالْمَرْأَتَيْنِ إذَا زُفَّتَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَقِيلَ: يُرْجَأُ أَمْرُهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِي الْقَضِيَّتَيْنِ مَعًا، وَإِرْجَاءُ أَمْرِهِمَا إضْرَارٌ بِهِمَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَفْعٌ الضَّرَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَهُ نَظِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الشَّرْعِ، فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ سَمَاع الْحَاكِمُ الدَّعْوَى مُحَرَّرَةً] (8276) فَصْلٌ: وَلَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً، إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَمَّا ادَّعَاهُ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ لَزِمَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ تَلْزَمَهُ مَجْهُولَةً وَيُفَارِقُ الْإِقْرَارَ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ إثْبَاتَهُ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ الدَّعْوَى فِي الْوَصِيَّةِ مَجْهُولَةً؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مَجْهُولَةً؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَصَّى لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ سَهْمٍ صَحَّ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَهَا إلَّا مَجْهُولَةً كَمَا ثَبَتَ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ، لَمَّا صَحَّ أَنْ يُقِرَّ بِمَجْهُولٍ، صَحَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَجْهُولٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى أَثْمَانًا، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْجِنْسُ، وَالنَّوْعُ، وَالْقَدْرُ، فَيَقُولَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ بَصْرِيَّةً. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ، قَالَ: صِحَاحٌ. أَوْ قَالَ: مُكَسَّرَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ، وَكَانَتْ عَيْنًا تَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ، كَالْحُبُوبِ وَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، احْتَاجَ أَنْ يَذْكُرَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي السِّلْمِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْقِيمَةَ كَانَ آكَدَ، إلَّا أَنَّ الصِّفَةَ تُغْنِي فِيهِ كَمَا تُغْنِي فِي الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَتْ جَوَاهِرَ وَنَحْوَهَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ إلَّا بِهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى تَالِفًا، وَهُوَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، ادَّعَى مِثْلَهُ، وَضَبَطَهُ بِصِفَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، كَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، ادَّعَى قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِتَلَفِهِ. وَإِنْ كَانَ التَّالِفُ شَيْئًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ، قَوَّمَهُ بِغَيْرِ جِنْسِ حِلْيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَقَارًا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَوْضِعِهِ وَحُدُودِهِ، فَيَدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ بِحُدُودِهَا وَحُقُوقِهَا لِي، وَأَنَّهَا فِي يَدِهِ ظُلْمًا، وَأَنَا أُطَالِبُهُ بِرَدِّهَا عَلَيَّ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِي، وَأَنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْهَا، صَحَّتْ الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَازِعَهُ وَيَمْنَعَهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ. وَإِنْ ادَّعَى جِرَاحَةً لَهَا أَرْشٌ مَعْلُومٌ، كَالْمُوضِحَةِ مِنْ الْحُرِّ، جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ الْجِرَاحَةَ وَلَا يَذْكُرَ أَرْشَهَا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ عَبْدٍ، أَوْ كَانَتْ مِنْ حُرٍّ لَا مُقَدَّرَ فِيهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَرْشِهَا. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَبِيهِ دَيْنًا، لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى حَتَّى يَدَّعِيَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ، وَتَرَكَ فِي يَدِهِ مَالًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْزَمُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 قَضَاءُ دِينِ وَالِدِهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَيَحْتَاجُ أَنْ يَذْكُرَ تَرِكَةَ أَبِيهِ، وَيُحَرِّرَهَا، وَيَذْكُرَ قَدْرَهَا، كَمَا يَصْنَعُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ تَحْرِيرُ دَيْنِهِ، وَمَوْتُ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِبَعْضِ دَيْنِهِ. احْتَاجَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْقَدْرَ. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فِي نَفْيِ تَرِكَةِ الْأَبِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ مَوْتَ أَبِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، وَقَدْ يَمُوتُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ ابْنُهُ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ مَا فِيهِ وَفَاءُ حَقِّهِ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُخَلِّفْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخَلِّفُ تَرِكَةً فَلَا تَصِلُ إلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِيفَاءُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْمُدَّعِي تَحْرِيرَ الدَّعْوَى، فَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلَقِّنَهُ تَحْرِيرَهَا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي حُكُومَتِهِ. [فَصْلٌ مَا يَفْعَلهُ الْحَاكِم إذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ] (8277) فَصْلٌ: إذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ خَصْمَهُ الْجَوَابَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إحْضَارَهُ الدَّعْوَى إنَّمَا يُرَادُ لِيَسْأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ سُؤَالِهِ، فَيَقُولُ لِخَصْمِهِ: مَا تَقُولُ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟ فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ إلَّا بِمَسْأَلَةِ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا بِمَسْأَلَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ، هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ ذَلِكَ، فَاكْتُفِيَ بِهَا، كَمَا اُكْتُفِيَ بِهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ مُطَالَبَةَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ، فَيَتْرُكُ مُطَالَبَتَهُ بِهِ لِجَهْلِهِ، فَيَضِيعُ حَقُّهُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ قَبْلَ مَسْأَلَتِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، إنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ فَقَالَ: اُحْكُمْ لِي. حَكَمَ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ، أَوْ قَضَيْت عَلَيْك لَهُ. أَوْ يَقُولَ: اُخْرُجْ لَهُ مِنْهُ. فَمَتَى قَالَ لَهُ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ حُكْمًا بِالْحَقِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَقَالَ: لَا حَقَّ لَك قِبَلِي. فَهَذَا مَوْضِعُ الْبَيِّنَةِ، قَالَ الْحَاكِمُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حَضْرَمِيٌّ وَكِنْدِيٌّ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي. فَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي، وَفِي يَدِي، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَارِفًا بِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْبَيِّنَةِ، فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ وَبَيْنَ أَنْ يَسْكُتَ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَذَكَرَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً، لَمْ يَقُلْ لَهُ الْحَاكِمُ: أَحْضِرْهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرَى. وَإِذَا أَحْضَرَهَا لَمْ يَسْأَلْهَا الْحَاكِمُ عَمَّا عِنْدَهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلَا يَسْأَلُهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، فَإِذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي سُؤَالَهَا، قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلْيَذْكُرْهَا، إنْ شَاءَ؟ وَلَا يَقُولُ لَهُمَا: اشْهَدَا. لِأَنَّهُ أَمْرٌ. وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ لِلشَّاهِدَيْنِ: مَا أَنَا دَعَوْتُكُمَا، وَلَا أَنْهَاكُمَا أَنْ تَرْجِعَا، وَمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ غَيْرُكُمَا، وَإِنِّي بِكُمَا أَقْضِي الْيَوْمَ، وَبِكُمَا أَتَّقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِمَا مَا يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا، رَدَّهَا. كَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مَخْرُوطُ الْكُمَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَتُحْسِنُ أَنْ تَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْسُرْ عَنْ ذِرَاعَيْك. فَذَهَبَ يَحْسُرُ عَنْهُمَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: قُمْ، فَلَا شَهَادَةَ لَك. وَإِنْ أَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَا: بَلَغَنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا، أَوْ سَمِعْنَا ذَلِكَ. رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا. وَشَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ شُرَيْحٌ: أَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَتَلَهُ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَتَلَهُ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: قُمْ، لَا شَهَادَةَ لَك. وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً صَحِيحَةً، وَعَرَفَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمْ، قَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ: قَدْ شَهِدَا عَلَيْك، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكِ مَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمَا، فَبَيِّنِهِ عِنْدِي. فَإِنْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ، أَنْظِرْهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ. فَإِنْ لَمْ يَجْرَحْ حَكَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَضَحَ عَلَى وَجْهٍ لَا إشْكَالَ فِيهِ. وَإِنْ ارْتَابَ بِشَهَادَتِهِمْ، فَرَّقَهُمْ، فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ شَهَادَتِهِ وَصِفَتِهَا، فَيَقُولُ: كُنْت أَوَّلَ مَنْ شَهِدَ، أَوْ كَتَبْت، أَوْ لَمْ تَكْتُبْ، وَفِي أَيِّ مَكَان شَهِدْت، وَفِي أَيِّ شَهْرٍ، وَأَيِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 يَوْمٍ؟ وَهَلْ كُنْت وَحْدَك، أَوْ مَعَك غَيْرُك؟ فَإِنْ اخْتَلَفُوا، سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ اتَّفَقُوا بَحَثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذَا دَنْيَالُ. وَيُقَالُ: فَعَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَهُوَ صَغِيرٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ سَبْعَةَ نَفَرٍ خَرَجُوا، فَفُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَأَتَتْ زَوْجَتُهُ عَلِيًّا، فَدَعَا السِّتَّةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَأَنْكَرُوا، فَفَرَّقَهُمْ، وَأَقَامَ كُلَّ وَاحِدٍ عِنْدَ سَارِيَةٍ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَدَعَا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. فَظَنَّ الْبَاقُونَ أَنَّهُ قَدْ اعْتَرَفَ، فَدَعَاهُمْ فَاعْتَرَفُوا، فَقَالَ لِلْأَوَّلِ: قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك، وَأَنَا قَاتِلُك. فَاعْتَرَفَ، فَقَتَلَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُمَا، بَحَثَ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمَا، قَالَ لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي شُهُودًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، عَرَّفَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ لَك يَمِينَهُ. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ مُسْتَحَقِّهَا، كَنَفْسِ الْحَقِّ. فَإِنْ اسْتَحْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أَوْ بَادَرَ الْمُنْكِرُ فَحَلَفَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِيَمِينِهِ. لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا. وَإِذَا سَأَلَهَا الْمُدَّعِي، أَعَادَهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ يَمِينَهُ. وَإِنْ أَمْسَكَ الْمُدَّعِي عَنْ إحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ إحْلَافَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْقِطْ حَقَّهُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَخَّرَهَا. وَإِنْ قَالَ: أَبْرَأْتُك مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ. سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ الْيَمِينِ. فَإِنْ اسْتَأْنَفَ الدَّعْوَى، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ الدَّعْوَى الَّتِي أَبْرَأَهُ فِيهَا مِنْ الْيَمِينِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ الدَّعْوَى، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ يَمِينًا أُخْرَى، لَا فِي هَذَا الْمَجْلِسِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِجَمَاعَةٍ فَرَضُوا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، جَازَ، وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُمْ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِبَيِّنَةٍ وَاحِدَةٍ لِجَمَاعَةٍ، جَازَ سُقُوطُهُ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ حَتَّى يَحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهَا اثْنَانِ، صَارَتْ الْحُجَّةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصَةً، وَالْحُجَّةُ النَّاقِصَةُ لَا تَكْمُلُ بِرِضَى الْخَصْمِ، كَمَا لَوْ رَضِيَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِذَا رَضِيَا بِهِ، جَازَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رِضَاهُمَا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعْضُ الْيَمِينِ، كَمَا أَنَّ الْحُقُوقَ إذَا قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يَكُونُ لِكُلِّ حَقٍّ بَعْضُ الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا إنْ حَلَّفَهُ لِجَمِيعِهِمْ يَمِينًا وَاحِدَةً بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، لَمْ تَصِحَّ يَمِينُهُ. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَقَدْ حَكَى الْإِصْطَخْرِيُّ، أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ، حَلَّفَ رَجُلًا بِحَقِّ لِرَجُلَيْنِ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَخَطَّأَهُ أَهْلُ عَصْرِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ. قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: لَك يَمِينُهُ، فَإِنْ شِئْت فَاسْتَحْلِفْهُ، وَإِنْ شِئْت أَخَّرْته إلَى أَنْ تُحْضِرَ بَيِّنَتَك، وَلَيْسَ لَك مُطَالَبَتُهُ بِكَفِيلٍ، وَلَا مُلَازَمَتُهُ حَتَّى تُحْضِرَ الْبَيِّنَةَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ» . فَإِنْ أَحْلَفَهُ، ثُمَّ حَضَرَتْ بَيِّنَتُهُ، حَكَمَ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ مُزِيلَةً لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْبَيِّنَةُ بَطَلَتْ الْيَمِينُ، وَتَبَيَّنَ كَذِبُهَا. وَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَأُرِيدُ يَمِينَهُ ثُمَّ أُقِيمُ بَيِّنَتِي. لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْتَحْلِفُهُ، وَإِنْ نَكِلَ قَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِحْلَافِ فَائِدَةً، وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا نَكِلَ، فَقَضَى عَلَيْهِ، فَأَغْنَى عَنْ الْبَيِّنَةِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ» . وَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ فَصْلُ الْخُصُومَةِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يُشْرَعْ غَيْرُهَا مَعَ إرَادَةِ الْمُدَّعِي إقَامَتَهَا وَحُضُورَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْ يَمِينَهُ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ، فَلَمْ يَجِبْ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُبْدَلِهَا، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَا أُرِيدُ إقَامَتَهَا، وَإِنَّمَا أُرِيدُ يَمِينَهُ أَكْتَفِي بِهَا. اسْتَحْلَفَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حَقُّهُ، فَإِذَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِهَا، وَتَرْكِ إقَامَتِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، كَنَفْسِ الْحَقِّ. فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْمُدَّعِي إقَامَةَ بَيِّنَتِهِ، فَهَلْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِحْلَافِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ إقَامَتِهَا، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ إقَامَتِهَا، يَفْتَحُ بَابَ الْحِيلَةِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا أُرِيدُ إقَامَتَهَا. لِيَحْلِفَ خَصْمُهُ، ثُمَّ يُقِيمُهَا. فَإِنْ كَانَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فِي الْأَمْوَالِ، عَرَّفَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَيَسْتَحِقُّ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ أَنَا، وَأَرْضَى بِيَمِينِهِ. اسْتَحْلَفَ لَهُ، فَإِذَا حَلَفَ، سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ، فَإِنْ عَادَ الْمُدَّعِي بَعْدَهَا، فَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِي. لَمْ يَسْتَحْلِفْ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِعْلُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، فَأَمْكَنَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَبَذَلَ الْيَمِينَ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لَهُ: إنْ حَلَفْت، وَإِلَّا جَعَلْتُك نَاكِلًا، وَقَضَيْت عَلَيْك. ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفَ، وَإِلَّا حَكَمَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ إذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ. فَإِنْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى، فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ، حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلَا يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي الْمُجَرَّدِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ أَجَبْت، وَإِلَّا جَعَلْتُك نَاكِلًا، وَحَكَمْت عَلَيْك. وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا جَعَلَهُ نَاكِلًا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَاكِلٌ عَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِيهِ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ عَنْهُ، كَالْيَمِينِ. [مَسْأَلَةٌ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالْأَمِيرِ إلَى الْأَمِيرِ] (8278) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: وَإِذَا حَكَمَ عَلَى رَجُلٍ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ فَكَتَبَ بِإِنْفَاذِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، قَبِلَ كِتَابَهُ، وَأَخَذَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْحَقِّ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالْأَمِيرِ إلَى الْأَمِيرِ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ، وَالنَّجَاشِيِّ، وَمُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَكَانَ يَكْتُبُ إلَى وُلَاتِهِ، وَيَكْتُبُ لِعُمَّالِهِ وَسُعَاتِهِ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ إلَى قَيْصَرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِك اللَّهُ أَجْرًا عَظِيمًا، فَإِنْ تَوَلَّيْت، فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] » . وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ «كَتَبَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِهِ دَاعِيَةٌ، فَإِنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إتْيَانُهُ، وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ، إلَّا بِكِتَابِ الْقَاضِي، فَوَجَبَ قَبُولُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ كِتَابَ الْقَاضِي يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، كَحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِيمَا عَدَا هَذَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُقْبَلُ فِي كُلِّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ، مِنْ الْجِرَاحِ وَغَيْرِهَا، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ يُذْكَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْكِتَابُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكْتُبَ بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، فَيَغِيبَ قَبْلَ إيفَائِهِ، أَوْ يَدَّعِيَ حَقًّا عَلَى غَائِبٍ، وَيُقِيمَ بِهِ بَيِّنَةً، وَيَسْأَلَ الْحَاكِمَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، فَيَحْكُمَ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَحْمِلُهُ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْغَائِبُ، فَيَكْتُبَ لَهُ إلَيْهِ، أَوْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى حَاضِرٍ، فَيَهْرُبَ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْحَاكِمَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِحُكْمِهِ. فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ، يَلْزَمُ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ إلَى الْكِتَابَةِ، وَيَلْزَمُ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ قَبُولُهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ، حَتَّى لَوْ كَانَا فِي جَانِبَيْ بَلَدٍ أَوْ مَجْلِسٍ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَإِمْضَاؤُهُ، سَوَاءٌ كَانَ حُكْمًا عَلَى حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَجِبُ إمْضَاؤُهُ عَلَى كُلِّ حَاكِمٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَكْتُبَ يُعْلِمُهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عِنْدَهُ بِحَقٍّ لِفُلَانٍ، مِثْلَ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ، فَيَسْأَلُهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ أَيْضًا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَكُونُ فِي كِتَابِهِ: شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا. لِيَكُونَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بِهِ، وَلَا يَكْتُبُ: ثَبَتَ عِنْدِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ثَبَتَ عِنْدِي. حُكْمٌ بِشَهَادَتِهِمَا، فَهَذَا لَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، إلَّا فِي الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، الَّتِي هِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَلَا يَقْبَلُهُ فِيمَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ نَقْلُ شَهَادَةٍ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِي بَلَدِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ هَذَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّهُ كِتَابُ الْحَاكِمِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَجَازَ قَبُولُهُ مَعَ الْقُرْبِ، كَكِتَابِهِ بِحُكْمِهِ. وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْقُرْبِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَيُفَارِقُ كِتَابَهُ بِالْحُكْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَقْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ، فَيَبْعَثُ إلَيْهِ، فَيَسْتَدْعِيهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ، أَمَرَهُ بِأَدَائِهِ، وَأَلْزَمَهُ إيَّاهُ. وَإِنْ قَالَ: لَسْت الْمُسَمَّى فِي هَذَا الْكِتَابِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي الْكِتَابِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ اسْمُهُ، وَالنَّسَبَ نَسَبُهُ، وَالصِّفَةَ صِفَتُهُ، إلَّا أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِ، إنَّمَا هُوَ عَلَى آخَرَ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالصِّفَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي فِي نَفْيِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي هَذَا كُلِّهِ، فَإِنْ أَقَامَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ وُجُودِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ، أَحْضَرَهُ الْحَاكِمُ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْحَقِّ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ، أَلْزَمَهُ بِهِ، وَتَخَلَّصَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ، وَقَفَ الْحُكْمَ، وَيَكْتُبُ إلَى الْحَاكِمِ الْكَاتِبُ يُعْلِمُهُ الْحَالَ، وَمَا وَقَعَ مِنْ الْإِشْكَالِ، حَتَّى يُحْضِرَ الشَّاهِدَيْنِ، فَيَشْهَدَا عِنْدَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. وَإِنْ ادَّعَى الْمُسَمَّى أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَقَدْ مَاتَ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْحُكْمُ بِهَا، أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، أَوْ الْمَحْكُومُ لَهُ، لَمْ يَقَعْ إشْكَالٌ، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، أَوْ بَعْدَ الْمُعَامَلَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَمْكَنَ أَنْ تَجْرِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْكُومِ لَهُ مُعَامَلَةٌ، فَقَدْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى الَّذِي مَاتَ. [فَصْلٌ إذَا كَتَبَ الْحَاكِمُ بِثُبُوتِ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ بِدِينِ] (8279) فَصْلٌ: وَإِذَا كَتَبَ الْحَاكِمُ بِثُبُوتِ بَيِّنَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ بِدَيْنٍ، جَازَ، وَحَكَمَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، وَأَخَذَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْنًا؛ كَعَقَارٍ مَحْدُودٍ، أَوْ عَيْنٍ مَشْهُودَةٍ، لَا تَشْتَبِهُ بِغَيْرِهَا، كَعَبْدٍ مَعْرُوفٍ مَشْهُورٍ، أَوْ دَابَّةٍ كَذَلِكَ، حَكَمَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَيْضًا، وَأُلْزِمَ تَسْلِيمَهُ إلَى الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَا تَتَمَيَّزُ إلَّا بِالصِّفَةِ، كَعَبْدٍ غَيْرِ مَشْهُودٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ إلَّا بِالْوَصْفِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَقْبَلُ كِتَابَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَكْفِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ لِرَجُلٍ بِالْوَصْفِ وَالتَّحْلِيَةِ، كَذَلِكَ الْمَشْهُودُ بِهِ. وَالثَّانِي، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِالْعَقْدِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ، وَيُخَالِفُ الْمَشْهُودَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِيهِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَهُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ دَعْوَاهُ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِالصِّفَةِ وَالتَّحْلِيَةِ، فَكَذَلِكَ الْمَشْهُودُ بِهِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَنْفُذُ الْعَيْنَ مَخْتُومَةً، وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ خَتَمَ فِي عُنُقِهِ، وَبَعَثَهُ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ، لِيَشْهَدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ، دُفِعَ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى عَيْنِهِ، أَوْ قَالَ: الْمَشْهُودُ بِهِ غَيْرُ هَذَا. وَجَبَ عَلَى آخِذِهِ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَغْصُوبِ فِي ضَمَانِهِ، وَضَمَانِ نَقْصِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُ إنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ مِنْ يَوْمِ أَخْذِهِ، إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ. [فَصْلٌ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَكْتُبُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ] (8280) فَصْلٌ: وَمَنْ اسْتَوْفَى الْحَقَّ مِنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ: اُكْتُبْ لِي مَحْضَرًا بِمَا جَرَى؛ لِئَلَّا يَلْقَانِي خَصْمِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيُطَالِبَنِي بِهِ مَرَّةً أُخْرَى. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَلْزَمُهُ إجَابَتُهُ؛ لِيَخْلُصَ مِنْ الْمَحْذُورِ الَّذِي يَخَافُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 وَالثَّانِي، لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَكْتُبُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، أَوْ حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا اسْتِئْنَافُ ابْتِدَاءٍ، فَيَكْفِيهِ فِيهِ الْإِشْهَادُ، فَيُطَالِبُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَقِّ، وَيَخَافُ الضَّرَرَ بِدُونِ الْمَحْضَرِ، فَأَشْبَهَ مَا حَكَمَ بِهِ ابْتِدَاءً. وَإِنْ طَالِبَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِدَفْعِ الْكِتَابِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحَقُّ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَهُ كِتَابٌ بِدَيْنٍ، فَاسْتَوْفَاهُ، أَوْ عَقَارٌ فَبَاعَهُ، لَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مَا قَبَضَهُ مُسْتَحَقًّا، فَيَعُودَ إلَى مَالِهِ. [فَصْلٌ الْكِتَابُ مِنْ قَاضِي مِصْرٍ إلَى قَاضِي مِصْرٍ] (8281) فَصْلٌ: وَيُقْبَلُ الْكِتَابُ مِنْ قَاضِي مِصْرٍ إلَى قَاضِي مِصْرٍ، وَإِلَى قَاضِي قَرْيَةٍ، وَمِنْ قَاضِي قَرْيَةٍ إلَى قَاضِي قَرْيَةٍ، وَقَاضِي مِصْرٍ. وَمِنْ الْقَاضِي إلَى خَلِيفَتِهِ، وَمِنْ خَلِيفَتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ قَاضٍ إلَى قَاضٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَوَيَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، وَإِلَى مَنْ وَصَلَهُ كِتَابِيّ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَيَلْزَمُ مَنْ وَصَلَهُ قَبُولُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ كِتَابُ حَاكِمٍ مِنْ وِلَايَتِهِ، وَصَلَ إلَى حَاكِمٍ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْكِتَابُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ. [فَصْلٌ صِفَةُ كِتَاب الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي] فَصْلٌ: وَصِفَةُ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَبُ هَذَا الْكِتَابِ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ، أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدِي فِي مَجْلِسِ حُكْمِي وَقَضَائِي، الَّذِي أَتَوَلَّاهُ بِمَكَانِ كَذَا. وَإِنْ كَانَ نَائِبًا، قَالَ: الَّذِي أَنُوبُ فِيهِ عَنْ الْقَاضِي فُلَانٍ، بِمَحْضَرٍ مِنْ خَصْمَيْنِ؛ مُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، جَازَ اسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْهُمَا، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَهُمَا مِنْ الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ عِنْدِي، عَرَفْتُهُمَا، وَقَبِلْت شَهَادَتَهُمَا، بِمَا رَأَيْت مَعَهُ قَبُولَهَا مَعْرِفَةَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ. فَإِنْ كَانَ فِي إثْبَاتِ أَسْرِ أَسِيرٍ قَالَ: وَإِنَّ الْفِرِنْجَ، خَذَلَهُمْ اللَّهُ، أَسَرُوهُ بِمَكَانِ كَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَخَذُوهُ إلَى مَكَانِ كَذَا، وَهُوَ مُقِيمٌ تَحْتَ حَوْطَتِهِمْ، أَبَادَهُمْ اللَّهُ، وَإِنَّهُ رَجُلٌ فَقِيرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِ نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلصَّدَقَةِ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كِتَابُ الْمَحْضَرِ الْمُشَارُ إلَيْهِ، الْمُتَّصِلُ أَوَّلُهُ بِآخِرِ كِتَابِي هَذَا، الْمُؤَرَّخِ بِكَذَا. وَإِنْ كَانَ فِي إثْبَاتِ دَيْنٍ كَتَبَ: وَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ فِي ذِمَّةِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ - وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهِ، وَيَصِفُهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ الدِّينِ - كَذَا وَكَذَا، دَيْنًا عَلَيْهِ حَالًّا، وَحَقًّا وَاجِبًا لَازِمًا، وَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ وَاسْتِيفَاءَهُ مِنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 وَإِنْ كَانَ فِي إثْبَاتِ عَيْنٍ، كَتَبَ: وَإِنَّهُ مَالِكٌ لِمَا فِي يَدَيْ فُلَانٍ مِنْ الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ - وَيَصِفُهُ صِفَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا - مُسْتَحِقٌّ لِأَخْذِهِ وَتَسْلِيمِهِ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كِتَابُ الْمَحْضَرِ الْمُتَّصِلُ بِآخِرِ كِتَابِي هَذَا، الْمُؤَرَّخُ بِتَارِيخِ كَذَا، وَقَالَ الشَّاهِدَانِ الْمَذْكُورَانِ: إنَّهُمَا بِمَا شَهِدَا بِهِ مِنْهُ عَالِمَانِ، وَلَهُ مُحَقِّقَانِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ خِلَافَ مَا شَهِدَا بِهِ إلَى حِينَ أَقَامَا الشَّهَادَةَ عِنْدِي، فَأَمْضَيْت مَا ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ، وَحَكَمْت بِمُوجِبِهِ بِسُؤَالِ مَنْ جَازَتْ مَسْأَلَتُهُ، وَسَأَلَنِي مَنْ جَازَ سُؤَالُهُ، وَسَوَّغَتْ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ إجَابَتَهُ الْمُكَاتَبَةَ بِذَلِكَ إلَى الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ، فَأَجَبْتُهُ إلَى مُلْتَمَسِهِ؛ لِجَوَازِهِ لَهُ شَرْعًا، وَتَقَدَّمْت بِهَذَا الْكِتَابِ فَكُتِبَ، وَبِإِلْصَاقِ الْمَحْضَرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَأُلْصِقَ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَتَأَمَّلَ مَا ذَكَرْته، وَتَصَفَّحَ مَا سَطَّرْته، وَاعْتَمَدَ فِي إنْفَاذِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِ مَا يُوجِبُهُ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ، أَحْرَزَ مِنْ الْأَجْرِ أَجْزَلَهُ. وَكَتَبَ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ الْمَحْرُوسِ، مِنْ مَكَانِ كَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَذْكُرَ الْقَاضِي اسْمَهُ فِي الْعِنْوَانِ، وَلَا ذِكْرُ اسْمِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ، فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ إلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي ذِكْرُ اسْمِهِ فِي الْعِنْوَانِ دُونَ بَاطِنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِالْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيهَا، وَلَوْ ضَاعَ الْكِتَابُ أَوْ امْتَحَا، سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَحُكِمَ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ مَا يُشْتَرَطُ لِقَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي] (8283) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَقُولَانِ: قَرَأَهُ عَلَيْنَا، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَا، فَقَالَ: اشْهَدَا عَلَى أَنَّهُ كِتَابِي إلَى فُلَانٍ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِقَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ، وَلَا يَكْفِي مَعْرِفَةُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ خَطَّ الْكَاتِبِ، وَخَتْمَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ بِذَلِكَ، فِي قَوْلِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَوَّارٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ وَخَتْمَهُ، قَبِلَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْوَصِيَّةِ إذَا وُجِدَتْ بِخَطِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْصُلُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، فَأَشْبَهَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالشَّهَادَةِ، لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ، كَإِثْبَاتِ الْعُقُودِ؛ وَلِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ يُمْكِنُ التَّزْوِيرُ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَى الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى الْخَطِّ، كَالشَّاهِدِ لَا يُعَوَّلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَتَبَ الْكِتَابَ، دَعَا رَجُلَيْنِ يَخْرُجَانِ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا الْكِتَابَ، أَوْ يَقْرَؤُهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْظُرَا مَعَهُ فِيمَا يَقْرَآهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْظُرَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 لَا يَسْتَقْرِئُ إلَّا ثِقَةً، فَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمَا قَالَ: اشْهَدَا عَلَيَّ أَنَّ هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانٍ. وَإِنْ قَالَ: اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ. كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانٍ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ يُحَمِّلُهُمَا الشَّهَادَةَ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدَا عَلَيَّ. كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ إنْ كَانَ مَا فِي الْكِتَابِ قَلِيلًا، اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنْ كَثُرَ فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى حِفْظِهِ، كَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونَهُ، وَقَابَلَ بِهَا لِتَكُونَ مَعَهُ، يَذْكُرُ بِهَا مَا يَشْهَدُ بِهِ، وَيَقْبِضَانِ الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَا؛ لِئَلَّا يَدْفَعَ إلَيْهِمَا غَيْرَهُ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ مَعَهُمَا إلَيْهِ، قَرَأَهُ الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا سَمِعَاهُ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي إلَيْك، أَشْهَدَنَا عَلَى نَفْسِهِ بِمَا فِيهِ. لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كِتَابُهُ غَيْرَ الَّذِي أَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَقُولَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ. لِأَنَّهَا أَدَاءُ شَهَادَةٍ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَيَجِبُ أَنْ يَقُولَا: مِنْ عَمَلِهِ. لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا وَصَلَ مِنْ مَجْلِسِ عَمَلِهِ. وَسَوَاءٌ وَصَلَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَوْ غَيْرَ مَخْتُومٍ، مَقْبُولًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، لَا عَلَى الْخَطِّ وَالْخَتْمِ. فَإِنْ امْتَحَا الْكِتَابُ، وَكَانَا يَحْفَظَانِ مَا فِيهِ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظَا مَا فِيهِ، لَمْ تُمْكِنْهُمَا الشَّهَادَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى خَتْمِ الْقَاضِي. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابًا إلَى قَيْصَرَ، وَلَمْ يَخْتِمْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا غَيْرَ مَخْتُومٍ، فَاتَّخَذَ الْخَاتَمَ.» وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الْخَتْمِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَقْرَءُوا كِتَابَهُ، وَلِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَعَرَفَا مَا فِيهِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ وَصَلَ مَخْتُومًا وَشَهِدَا بِالْخَتْمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ ضَبْطُهُمَا لِمَعْنَى الْكِتَابِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهُ يُسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى صَحِيفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُ فِيهَا، وَبَعْضُهُمْ لَا يَنْظُرُ؟ قَالَ: إذَا حَفِظَ فَلْيَشْهَدْ. قِيلَ: كَيْفَ يَحْفَظُ، وَهُوَ كَلَامٌ كَثِيرٌ، قَالَ: يَحْفَظُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَالْوَضْعُ. قُلْت: يَحْفَظُ الْمَعْنَى؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: وَالْحُدُودَ وَالثَّمَنَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَوْ أَدْرَجَ الْكِتَابَ وَخَتَمَهُ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابِي، اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ. أَوْ قَدْ: أَشْهَدْتُكُمَا عَلَى نَفْسِي بِمَا فِيهِ. لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّحَمُّلُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا خَتَمَهُ بِخَتْمِهِ وَعِنْوَانِهِ، جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ مُدْرَجًا، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ شَهِدَا عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ هَذَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَا فِي الْكِتَابِ، فَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا تَفْصِيلَهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَا لِرَجُلٍ بِمَا فِي هَذَا الْكِيسِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، جَازَتْ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفَا قَدْرَهَا. وَلَنَا، أَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَجْهُولٍ لَا يَعْلَمَانِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مَالًا. وَفَارَقَ مَا ذَكَرَهُ، فَإِنَّ تَعْيِينَهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي فِي الْكِيسِ أَغْنَى عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهَا، وَهَا هُنَا الشَّهَادَةُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ دُونَ الْكِتَابِ، وَهُمَا لَا يَعْرِفَانِهِ. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يَكْتُبَهُ الْقَاضِي مِنْ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ وَحُكْمِهِ فَإِنْ كَتَبَهُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَتِهِ، لَمْ يَسُغْ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ فِي غَيْرِ وِلَايَتِهِ حُكْمٌ، فَهُوَ فِيهِ كَالْعَامِّيِّ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ، فَإِنْ وَصَلَهُ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُهُ حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ. وَلَوْ تَرَافَعَ إلَيْهِ خَصْمَانِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ، إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهِ، فَيَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ غَيْرِ الْقَاضِي إذَا تَرَاضَيَا بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَصْمَانِ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ أَوْ لَمْ يَكُونَا. وَلَوْ تَرَافَعَ إلَيْهِ خَصْمَانِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، كَانَ لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَوْضِعِهِمَا، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ لِقَاضٍ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ وِلَايَتِهِ حَيْثُ كَانُوا، وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَ غَيْرِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ حَيْثُمَا كَانَ، فَيَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَذِنَ فِيهِ وَمَنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِتَوْلِيَتِهِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهَا. [فَصْلٌ فِي تَغْيِيرِ حَالِ الْقَاضِي] (8284) فَصْلٌ: فِي تَغْيِيرِ حَالِ الْقَاضِي: وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْكَاتِبِ أَوْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، أَوْ حَالُهُمَا مَعًا، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْكَاتِبِ، بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ، بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَقْدَحْ فِي كِتَابِهِ، وَكَانَ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ الْكِتَابُ قَبُولُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْكِتَابِ مِنْ يَدِهِ، أَوْ بَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِهِ، لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِهِ، عُمِلَ بِهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْحَاكِمِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ قَبْلَ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي الْكِتَابِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى الْحَاكِمِ وَهُمَا حَيَّانِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ كِتَابُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُتْ، وَلِأَنَّ كِتَابَهُ إنْ كَانَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، فَحُكْمُهُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَعَزْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا ثَبَتَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 عِنْدَهُ بِشَهَادَةٍ، فَهُوَ أَصْلٌ، وَاَللَّذَانِ شَهِدَا عَلَيْهِ فَرْعٌ، وَلَا تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ بِمَوْتِ شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَمَا ذَكَرُوهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ شَاهِدَانِ عَلَيْهِ، وَهُمَا حَيَّانِ، وَهُمَا شَاهِدَا الْفَرْعِ، وَلَيْسَ مَوْتُهُ مَانِعًا مِنْ شَهَادَتِهِمَا، فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَهَا، كَمَوْتِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ. وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِفِسْقٍ قَبْلَ الْحُكْمِ بِكِتَابَتِهِ، لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بَعْدَ فِسْقِهِ لَا يَصِحُّ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِكِتَابِهِ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ عَدَالَةِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ بِشَاهِدَيْ الْفَرْعِ، فَكَذَلِكَ بَقَاءُ عَدَالَةِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ. وَإِنْ فَسَقَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِكِتَابِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ بَانَ فِسْقُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِ، كَهَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا إنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِأَيِّ حَالٍ كَانَ؛ مِنْ مَوْتٍ، أَوْ عَزْلٍ، أَوْ فِسْقٍ، فَلِمَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ مِمَّنْ قَامَ مَقَامَهُ، قَبُولُ الْكِتَابِ، وَالْعَمَلُ بِهِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ قَاضِيَ الْكُوفَةِ كَتَبَ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَاضِي الْبَصْرَةِ كِتَابًا، فَوَصَلَ وَقَدْ عُزِلَ، وَوُلِّيَ الْحَسَنُ، فَعَمِلَ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ قَاضٍ، لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا غَيْرُهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، بِحُكْمِ الْأَوَّلِ، أَوْ ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، وَقَدْ شَهِدَا عِنْدَ الثَّانِي، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ كَالْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ شَهَادَةٌ عِنْدَ الَّذِي مَاتَ. لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ الْكَاتِبَ لَيْسَ بِفَرْعٍ، وَلَوْ كَانَ فَرْعًا لَمْ يُقْبَلْ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْفَرْعُ الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ شَهِدَا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَدَّيَا الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْمُتَجَدِّدِ، وَلَوْ ضَاعَ الْكِتَابُ، فَشَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، قُبِلَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِشَهَادَتِهِمَا دُونَ الْكِتَابِ، وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ حَمَلَا الْكِتَابَ إلَى غَيْرِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَشَهِدَا عِنْدَهُ، عُمِلَ بِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ خَلِيفَةً لِلْكَاتِبِ، فَمَاتَ الْكَاتِبُ، أَوْ عُزِلَ، انْعَزَلَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، فَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَمَوْتِهِ، كَوُكَلَائِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي الْأَصْلِيُّ بِمَوْتِ الْإِمَامِ، وَلَا عَزْلِهِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعْقِدُ الْقَضَاءَ وَالْإِمَارَةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَبْطُلْ مَا عَقَدَهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ، لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ، وَلِهَذَا لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ مِنْ غَيْرِ تُغَيِّرْ حَالِهِ، وَلَا يَنْعَزِلُ إذَا عَزَلَهُ، بِخِلَافِ نَائِبِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ تَنْعَقِدُ وِلَايَتُهُ لِنَفْسِهِ نَائِبًا عَنْهُ، فَمَلَكَ عَزْلَهُ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْإِمَامِ، لَدَخَلَ الضَّرَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى عَزْلِ الْقُضَاةِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ، فَلَيْسَ لَهُ قَبُولُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِقَاضٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 [مَسْأَلَةٌ قَالَ تَحَاكَمَ إلَى الْقَاضِي الْعَرَبِيِّ أَعْجَمِيَّانِ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا] (8285) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ التَّرْجَمَةُ عَنْ أَعْجَمِيٍّ تَحَاكَمَ إلَيْهِ، إذَا لَمْ يَعْرِفْ لِسَانَهُ، إلَّا مِنْ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا تَحَاكَمَ إلَى الْقَاضِي الْعَرَبِيِّ أَعْجَمِيَّانِ، لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا، أَوْ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمٍ عَنْهُمَا. وَلَا تُقْبَلُ التَّرْجَمَةُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ وَاحِدٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ. قَالَ: فَكُنْت أَكْتُبُ لَهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهِمْ، وَأَقْرَأُ لَهُ إذَا كَتَبُوا. وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَأَجْزَأَ فِيهِ الْوَاحِدُ، كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ نَقَلَ مَا خَفِيَ عَلَى الْحَاكِمِ إلَيْهِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَخَاصَمِينَ، فَوَجَبَ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالشَّهَادَةِ، وَيُفَارِقُ أَخْبَارَ الدِّيَانَاتِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَخَاصَمِينَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَفْهَمُهُ الْحَاكِمُ وُجُودُهُ عِنْدَهُ كَعَدَمِهِ، فَإِذَا تُرْجِمَ لَهُ، كَانَ كَنَقْلِ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَجْلِسِهِ، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ شَاهِدَيْنِ، كَذَا هَاهُنَا. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، تَكُونُ التَّرْجَمَةُ شَهَادَةً تَفْتَقِرُ إلَى الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، اُعْتُبِرَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَلَمْ يَكْفِ إلَّا شَاهِدَانِ ذَكَرَانِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَفَى فِيهِ تَرْجَمَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ زِنًى، خُرِّجَ فِي التَّرْجَمَةِ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَكْفِي فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُولٍ. وَالثَّانِي، يَكْفِي فِيهِ اثْنَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَكْفِي فِيهِ وَاحِدٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَالَتِهِ، وَلَا وَلَا تُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ. وَتُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَبَرٌ يَكْفِي فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْعَبْدِ، كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ، وَلَا أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، كَالرِّوَايَةِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ رِوَايَتهَا مَقْبُولَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 [فَصْلٌ حُكْمُ الْقَاضِي فِي التَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ وَالْجُرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] (8286) فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي التَّعْرِيفِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، كَالْحُكْمِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِيهَا مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهَا. ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ فِيمَا مَضَى. [مَسْأَلَةٌ قَالَ عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ كُنْت حَكَمْت فِي وِلَايَتِي لِفُلَانِ عَلَى فُلَانٍ بِحَقِّ] (8287) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: وَإِذَا عُزِلَ، فَقَالَ: كُنْت حَكَمْت فِي وِلَايَتِي لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ. قُبِلَ قَوْلُهُ، وَأُمْضِيَ ذَلِكَ الْحَقُّ وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ. وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ، لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، كَمَنْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ بَعْدَ بَيْعِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ، إذَا كَانَ مَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ، قُبِلَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُقْبَلُ إلَّا شَاهِدَانِ سِوَاهُ، يَشْهَدَانِ بِذَلِكَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ إلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ عُزِلَ، وَوَصَلَ الْكِتَابُ بَعْدَ عَزْلِهِ، لَزِمَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ قَبُولُ كِتَابِهِ بَعْدَ عَزْلِ كَاتِبِهِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، كَحَالِ وِلَايَتِهِ. [فَصْلٌ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ] (8288) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ قَالَ فِي وِلَايَتِهِ: كُنْت حَكَمْت لِفُلَانٍ بِكَذَا. قُبِلَ قَوْلُهُ، سَوَاءٌ قَالَ: قَضَيْت عَلَيْهِ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ. أَوْ قَالَ: سَمِعْت بَيِّنَتَهُ وَعَرَفْت عَدَالَتَهُمْ. أَوْ قَالَ: قَضَيْت عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ. أَوْ قَالَ: أَقَرَّ عِنْدِي فُلَانٌ لِفُلَانٍ بِحَقٍّ، فَحَكَمْت بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ رَجُلٌ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إخْبَارًا بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ وَاحِدٍ، كَالشَّهَادَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحُكْمَ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ، كَالزَّوْجِ إذَا أَخْبَرَ بِالطَّلَاقِ، وَالسَّيِّدِ إذَا أَخْبَرَ بِالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى كَذَا وَكَذَا، فَحَكَمَ بِهِ، قُبِلَ، كَذَا هَاهُنَا، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ لَا يَمْلِكُ إثْبَاتَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: حَكَمْت بِعِلْمِي، أَوْ بِالنُّكُولِ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِنَّهُ يُقْبَلُ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ. وَيَنْبَنِي قَوْلُهُ: حَكَمْت عَلَيْهِ بِعِلْمِي. عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ بِذَلِكَ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَخْبَرَ بِحُكْمِهِ فِيمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ لَنَفَذَ حُكْمُهُ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ، كَالصُّوَرِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلِأَنَّهُ حَاكِمٌ، أَخْبَرَ بِحُكْمِهِ فِي وِلَايَتِهِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ، كَاَلَّذِي سَلَّمَهُ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ، يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَمْ يَسُغْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَزِمَ غَيْرَهُ إمْضَاؤُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ. وَإِنْ قَالَ: حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا. وَلَمْ يُضِفْ حُكْمَهُ إلَى بَيِّنَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَجَبَ قَبُولُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 وَهُوَ ظَاهِرُ مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَتَى مَا حَكَمَ بِحُكْمٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَجَبَ قَبُولُهُ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ أَخْبَرَ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ] (8289) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ، وَخَبَرَهُ نَافِذٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُبِلَ قَوْلُهُ بِحُكْمِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَزَوَالِ وِلَايَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَأَنْ يُقْبَلَ مَعَ بَقَائِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَقَالَ: لَوْ اجْتَمَعَ قَاضِيَانِ فِي غَيْرِ وِلَايَتِهِمَا، كَقَاضِي دِمَشْقَ وَقَاضِي مِصْرَ، اجْتَمَعَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِحُكْمٍ حَكَمَ بِهِ، أَوْ شَهَادَةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ، لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا قَوْلَ صَاحِبِهِ، وَيَكُونَانِ كَشَاهِدَيْنِ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ مَنْ لَيْسَ بِقَاضٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا، كَأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا جَمِيعًا فِي دِمَشْقَ، فَإِنَّ قَاضِيَ دِمَشْقَ لَا يَعْمَلُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَاضِي مِصْرَ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُهُ بِهِ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ. وَهَلْ يَعْمَلُ قَاضِي مِصْرَ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَاضِي دِمَشْقَ إذَا رَجَعَ إلَى مِصْرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الْقَاضِي، هَلْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَاضِيَ دِمَشْقَ أَخْبَرَهُ بِهِ فِي عَمَلِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كَقَوْلِ الْقَاضِي هَاهُنَا. [فَصْلٌ وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا ثُمَّ مَاتَ] (8290) فَصْلٌ: إذَا وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يَنْعَزِلْ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الْإِمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّلُ مِنْ الْحُكَّامِ، وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ إلَى أَنْ يُوَلِّيَ الْإِمَامُ الثَّانِي حَاكِمًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ. وَكَذَلِكَ لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي إذَا عُزِلَ الْإِمَامُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ عَزَلَهُ الْإِمَامُ الَّذِي وَلَّاهُ أَوْ غَيْرُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَنْعَزِلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَمْلِكْ عَزْلَهُ مَعَ سَدَادِ حَالِهِ، كَمَا لَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ. وَالثَّانِي، لَهُ عَزْلُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْزِلَنَّ أَبَا مَرْيَمَ، وَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا إذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرَّقَهُ. فَعَزَلَهُ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ. وَوَلَّى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبَا الْأَسْوَدِ، ثُمَّ عَزَلَهُ، فَقَالَ: لِمَ عَزَلْتنِي، وَمَا خُنْت، وَلَا جَنَيْت؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُك يَعْلُو كَلَامُك عَلَى الْخَصْمَيْنِ. وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَ أُمَرَائِهِ وَوُلَاتِهِ عَلَى الْبُلْدَانِ، فَكَذَلِكَ قُضَاتُهُ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، فَعَزَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَنْ وِلَايَتِهِ فِي الشَّامِ، وَوَلَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ شُرَحْبِيلُ: أَمِنْ جُبْنٍ عَزَلْتنِي، أَوْ خِيَانَةٍ؟ قَالَ: مِنْ كُلٍّ لَا، وَلَكِنْ أَرَدْت رَجُلًا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ. وَعَزَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ. وَقَدْ كَانَ يُوَلِّي بَعْضَ الْوُلَاةِ الْحُكْمَ مَعَ الْإِمَارَةِ، فَوَلَّى أَبَا مُوسَى الْبَصْرَةَ قَضَاءَهَا وَإِمْرَتَهَا. ثُمَّ كَانَ يَعْزِلُهُمْ هُوَ، وَمَنْ لَمْ يَعْزِلْهُ، عَزَلَهُ عُثْمَانُ بَعْدَهُ إلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ. فَعَزْلُ الْقَاضِي أَوْلَى، وَيُفَارِقُ عَزْلَهُ بِمَوْتِ مَنْ وَلَّاهُ أَوْ عَزَلَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَهَا هُنَا لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْزِلُ قَاضِيًا حَتَّى يُوَلِّيَ آخَرَ مَكَانَهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَزِلُ الْوَالِي بِمَوْتِ الْإِمَامِ، وَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي عَزْلِهِ بِالْمَوْتِ أَيْضًا وَجْهَيْنِ، وَالْأَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْقَاضِي؛ بِفِسْقٍ، أَوْ زَوَالِ عَقْلٍ، أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ، أَوْ اخْتَلَّ فِيهِ بَعْضُ شُرُوطِهِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ عَزْلُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. [فَصْل وَلِلْإِمَامِ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ فِي بَلَدِهِ وَغَيْرِهِ] (8291) فَصْلٌ: وَلِلْإِمَامِ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ فِي بَلَدِهِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ الْقَضَاءَ، وَوَلَّى عَلِيًّا وَمُعَاذًا. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّ أَبَاك قَدْ كَانَ يَقْضِي وَهُوَ خَيْرٌ مِنْك. قَالَ: إنَّ أَبِي قَدْ كَانَ يَقْضِي، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، سَأَلَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، فِي كِتَابِ " قُضَاةِ الْبَصْرَةِ ". وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. قَالَ: «جَاءَ خَصْمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: يَا عَمْرُو، اقْضِ بَيْنَهُمَا. قُلْت: أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إنْ أَصَبْت الْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا، فَلَكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت، فَلَكَ حَسَنَةٌ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَشْتَغِلُ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ. فَإِذَا وَلَّى قَاضِيًا، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، جَازَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بِإِذْنِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، كَالْوَكِيلِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَلَهُ الِاسْتِخْلَافُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالْإِذْنِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، كَالْوَكِيلِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْقَضَاءِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، جَازَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ، وَيُفَارِقُ التَّوْكِيلَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُوَلِّي الْقَضَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَلِّ. [فَصْلٌ يُوَلِّي الْإِمَام قَاضِيًا عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ] (8292) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيًا عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ، فَيُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَنْفُذَ حُكْمَهُ فِيمَنْ سَكَنَهُ، وَمَنْ أَتَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ، فَيَقُولَ: جَعَلْت إلَيْك الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ خَاصَّةً، فِي جَمِيعِ وِلَايَتِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ حُكْمَهُ فِي قَدْرٍ مِنْ الْمَالِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: اُحْكُمْ فِي الْمِائَةِ فَمَا دُونَهَا. فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ، وَخُصُوصَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ وَثَلَاثَةً فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، يَجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلًا، فَيُوَلِّيَ أَحَدَهُمْ عُقُودَ الْأَنْكِحَةِ، وَالْآخَرَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرَ النَّظَرَ فِي الْعَقَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُمُومَ النَّظَرِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ، فَإِنْ قَلَّدَ قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَمَلًا وَاحِدًا، فِي مَكَان وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ. اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إيقَافِ الْحُكْمِ وَالْخُصُومَاتِ، لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَيَرَى أَحَدُهُمَا مَا لَا يَرَى الْآخَرُ. وَالْآخَرُ، يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَيَكُونَ فِيهَا قَاضِيَانِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَاضِيَانِ أَصْلِيَّانِ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ فَصْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 الْخُصُومَاتِ، وَإِيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ، فَأَشْبَهَ الْقَاضِيَ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ خَلِيفَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْإِمَامُ أَوْلَى، لِأَنَّ تَوْلِيَتَهُ أَقْوَى. وَقَوْلُهُمْ: يُفْضِي إلَى إيقَافِ الْحُكُومَاتِ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا خَالَفَ اجْتِهَادَهُ. [فَصْل قَالَ الْإِمَامُ مَنْ نَظَرَ فِي الْحُكْمِ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَقَدْ وَلَّيْته] (8293) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ نَظَرَ فِي الْحُكْمِ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَدْ وَلَّيْته. لَمْ تَنْعَقِدْ الْوِلَايَةُ لِمَنْ نَظَرَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهَا عَلَى شَرْطٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالْوِلَايَةِ أَحَدًا مِنْهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَنْعَقِدَ الْوِلَايَةُ لِمَنْ نَظَرَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . فَعَلَّقَ وِلَايَةَ الْإِمَارَةِ عَلَى شَرْطٍ، فَكَذَلِكَ وِلَايَةُ الْحُكْمِ. وَإِنْ قَالَ: وَلَّيْت فُلَانًا وَفُلَانًا، فَأَيُّهُمَا نَظَرَ فَهُوَ خَلِيفَتِي. انْعَقَدَتْ الْوِلَايَةُ لِمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْوِلَايَةَ لَهُمَا جَمِيعًا. [فَصْل يُقَلِّدَ الْإِمَام الْقَضَاءَ لَوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ بِعَيْنِهِ] (8294) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ لِوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] . وَالْحَقُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَذْهَبٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ قَلَّدَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، بَطَلَ الشَّرْطُ، وَفِي فَسَادِ التَّوْلِيَةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ فَوَّضَ الْإِمَامُ إلَى إنْسَانٍ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ] (8295) فَصْلٌ: وَإِنْ فَوَّضَ الْإِمَامُ إلَى إنْسَانٍ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ، فَجَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ فَوَّضَ إلَيْهِ اخْتِيَارَ قَاضٍ، جَازَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ اخْتِيَارُ نَفْسِهِ، وَلَا وَالِدِهِ، وَلَا وَلَدِهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الصَّدَقَةِ بِمَالٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ، وَلَا دَفْعُهُ إلَى هَذَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَجُوزَ لَهُ اخْتِيَارُهُمَا، إذَا كَانَا صَالِحَيْنِ لِلْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْهُ، مَعَ أَهْلِيَّتِهِمَا، فَأَشْبَهَا الْأَجَانِبَ. [فَصْلٌ حُكْم الْحَاكِمِ لِنَفْسِهِ] (8296) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ حُكُومَةٌ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ، جَازَ أَنْ يُحَاكِمَهُ إلَى بَعْضِ خُلَفَائِهِ، أَوْ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ حَاكَمَ أُبَيًّا إلَى زَيْدٍ، وَحَاكَمَ رَجُلًا عِرَاقِيًّا إلَى شُرَيْحٍ، وَحَاكَمَ عَلِيٌّ الْيَهُودِيَّ إلَى شُرَيْحٍ، وَحَاكَمَ عُثْمَانُ طَلْحَةَ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 فَإِنْ عَرَضَتْ حُكُومَةٌ لِوَالِدَيْهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ فِيهَا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ حَكَمَ، لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لَهُ كَنَفْسِهِ. وَالثَّانِي، يَنْفُذُ حُكْمُهُ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ لِغَيْرِهِ، أَشْبَهَ الْأَجَانِبَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، مَتَى عَرَضَتْ لِهَؤُلَاءِ حُكُومَةٌ، حَكَمَ بَيْنَهُمْ الْإِمَامُ، أَوْ حَاكِمٌ آخَرُ، أَوْ بَعْضُ خُلَفَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ، أَوْ وَلَدَيْهِ، أَوْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ خَصْمُهُ أَجْنَبِيًّا. وَفِي الْآخَرِ، يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَهُ، فَارْتَفَعَتْ تُهْمَةُ الْمَيْلِ، فَأَشْبَهَا الْأَجْنَبِيَّيْنِ. [فَصْلٌ حَكَّمَاهُ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَاهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا] (8297) فَصْلٌ: وَإِذَا تَحَاكَمَ رَجُلَانِ إلَى رَجُلٍ حَكَّمَاهُ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَاهُ، وَكَانَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، جَازَ ذَلِكَ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالرِّضَا بِهِ، وَلَا يَكُونُ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِحُكْمِهِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ، وَرَضِيَ عَلَيَّ الْفَرِيقَانِ. قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَنْ أَكْبَرُ وَلَدِك» ؟ قَالَ: شُرَيْحٌ. قَالَ: " فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا بِهِ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ مَلْعُونٌ» . وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَهُ يَلْزَمُهُمَا، لَمَا لَحِقَهُ هَذَا الذَّمُّ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ، وَحَاكَمَ عُمَرُ أَعْرَابِيًّا إلَى شُرَيْحٍ قَبْلَ أَنْ يُوَلِّيَهُ، وَتَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَلَمْ يَكُونُوا قُضَاةً. فَإِنْ قِيلَ: فَعُمَرُ وَعُثْمَانُ كَانَا إمَامَيْنِ، فَإِذَا رَدَّا الْحُكْمَ إلَى رَجُلٍ صَارَ قَاضِيًا. قُلْنَا: لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمَا إلَّا الرِّضَا بِتَحْكِيمِهِ خَاصَّةً، وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ قَاضِيًا، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا رَضِيَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 بِتَصَرُّفِ وَكِيلِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا لَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْحَاكِمِ نَقْضُهُ إذَا خَالَفَ رَأْيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ فِي حَقِّ الْحَاكِمِ، فَمَلَكَ فَسْخَهُ، كَالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ فِي حَقِّهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا حُكْمٌ صَحِيحٌ لَازِمٌ، فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُهُ لِمُخَالَفَتِهِ رَأْيَهُ، كَحُكْمِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ حُكْمَهُ لَازِمٌ لِلْخَصْمَيْنِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَوْقُوفًا؟ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَلَكَ فَسْخَهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ رَأْيَهُ، وَلَا نُسَلِّمُ الْوُقُوفَ فِي الْعُقُودِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ الرُّجُوعَ عَنْ تَحْكِيمِهِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِرِضَاهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَ عَنْ التَّوْكِيلِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ. وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ شُرُوعِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتِمَّ، أَشْبَهَ قَبْلَ الشُّرُوعِ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا رَأَى مِنْ الْحُكْمِ مَا لَا يُوَافِقُهُ، رَجَعَ، فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ. (8298) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَيَنْفُذُ حُكْمُ مَنْ حَكَّمَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ؛ النِّكَاحُ، وَاللِّعَانُ، وَالْقَذْفُ، وَالْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهَا، فَاخْتَصَّ الْإِمَامُ بِالنَّظَرِ فِيهَا، وَنَائِبُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيهَا. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَإِذَا كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي بِمَا حَكَمَ بِهِ كِتَابًا إلَى قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَتَنْفِيذُ كِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ نَافِذُ الْأَحْكَامِ، فَلَزِمَ قَبُولُ كِتَابِهِ، كَحَاكِمِ الْإِمَامِ. [مَسْأَلَةٌ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ، إذَا صَحَّ الْحَقُّ عَلَيْهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى حَقًّا عَلَى غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَطَلَبَ مِنْ الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ، إذَا كَمُلَتْ الشَّرَائِطُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةُ وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَسَوَّارٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَكَانَ شُرَيْحٌ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيِّ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، مِنْ وَكِيلٍ أَوْ شَفِيعٍ، جَازَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: «إذَا تَقَاضَى إلَيْك رَجُلَانِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّك تَدْرِي بِمَا تَقْضِي» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْآخَرُ فِي الْبَلَدِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ مَا يُبْطِلُ الْبَيِّنَةَ، وَيَقْدَحُ فِيهَا، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَلَنَا، «أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي؟ قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقَضَى لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، وَلِأَنَّ هَذَا لَهُ بَيِّنَةٌ مَسْمُوعَةٌ عَادِلَةٌ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِهَا. كَمَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ عَنْ سُؤَالِ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ حَاضِرًا، يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا، كَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَنَقُولُ بِهِ إذَا تَقَاضَى إلَيْهِ رَجُلَانِ، لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِهِمَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ، وَيُفَارِقُ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ عَلَى حَاضِرٍ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَالْغَائِبُ بِخِلَافِهِ. وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ، فَقَالَ: إذَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ فَادَّعَتْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا غَائِبًا، وَلَهُ مَالٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَتَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ، فَاعْتَرَفَ لَهَا بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى حَاضِرٍ، أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ غَائِبٍ مَا فِيهِ شُفْعَةٌ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ، حَكَمَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَحَضَرَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ، أَوْ حَضَرَ وَكِيلُ الْغَائِبِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِذَلِكَ، حَكَمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى حُضُورِهِ، فَإِنْ جَرَّحَ الشُّهُودَ، لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَ الْحَاكِمَ، أَجَّلَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَرَّحَهُمْ، وَإِلَّا حَكَمَ عَلَيْهِ. وَإِنْ ادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ الْإِبْرَاءَ، فَكَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بَرِئَ، وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ لَهُ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَجَرَّحَ الشُّهُودَ بِأَمْرٍ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ، بَطَلَ الْحُكْمُ، وَإِنْ جَرَّحَهُمْ بِأَمْرٍ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَوْ مُطْلَقًا، لَمْ يَبْطُلْ الْحُكْمُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ. وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ، أُجِّلَ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَرَّحَهُمْ، وَإِلَّا نَفَذَ الْحُكْمُ. وَإِنْ ادَّعَى الْقَضَاءَ، أَوْ الْإِبْرَاءَ، فَكَانَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ وَإِلَّا حَلَفَ الْآخَرُ، وَنَفَذَ الْحُكْمُ. [فَصْلٌ وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ] (8300) فَصْلٌ: وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَقْضِي بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْإِسْقَاطِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى غَائِبٍ بِسَرِقَةِ مَالٍ، حُكِمَ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ. [فَصْلٌ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى غَائِبٍ أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ] (8301) فَصْلٌ: وَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى غَائِبٍ، أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لَمْ يَسْتَحْلِفْ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ، فِي أَشْهَرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ مَعَهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى حَاضِرٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَسْتَحْلِفْ مَعَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَوْفَى مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ مَلَّكَهُ الْعَيْنَ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَادَّعَى ذَلِكَ، لَوَجَبَتْ الْيَمِينُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِغَيْبَتِهِ، أَوْ عَدَمِ تَكْلِيفِهِ، يَجِبُ أَنْ يَقُومَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِيمَا يُمْكِنُ دَعْوَاهُ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَائِبِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مِنْ الِاحْتِيَاطِ. [فَصْلٌ قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنِ] (8302) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إذَا قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنٍ، سُلِّمَتْ إلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ، وَوُجِدَ لَهُ مَالٌ، وُفِّيَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، فِي رَجُلٍ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ سَهْمًا مِنْ ضَيْعَةٍ فِي أَيْدِي قَوْمٍ، فَتَوَارَوْا عَنْهُ: يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ، شَهِدُوا أَوْ غَابُوا، وَيُدْفَعُ إلَى هَذَا حَقُّهُ. لِأَنَّهُ يَثْبُت حَقُّهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَيُسَلَّمُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ خَصْمُهُ حَاضِرًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُدْفَعَ إلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلًا أَنَّهُ مَتَى حَضَرَ خَصْمُهُ، وَأَبْطَلَ دَعْوَاهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ، لِئَلَّا يَأْخُذَ الْمُدَّعِي مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يَأْتِيَ خَصْمُهُ، فَيُبْطِلَ حُجَّتَهُ، أَوْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، أَوْ تُمْلَكَ الْعَيْنُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ بَعْدَ ذَهَابِ الْمُدَّعِي وَغَيْبَتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، فَيَضِيعَ مَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ دَابَّةٌ مَسْرُوقَةٌ، فَقَالَ: هِيَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ: إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا لَهُ، تُدْفَعُ إلَى الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ فَيُثْبِتَ. [فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَاخْتَفَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (8303) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَاضِرُ فِي الْبَلَدِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، إذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْحُضُورِ، فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي وَجْهٍ لَهُمْ: إنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ، أَشْبَهَ الْغَائِبَ عَنْ الْبَلَدِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ، كَحَاضِرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَيُفَارِقُ الْغَائِبَ الْبَعِيدَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ سُؤَالُهُ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ، أَوْ تَوَارَى، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، جَوَازُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ؛ لِمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، فِي رَجُلٍ وَجَدَ غُلَامَهُ عِنْدَ رَجُلٍ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غُلَامُهُ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَهُ الْغُلَامُ: أَوْدَعَنِي هَذَا رَجُلٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقْضُونَ عَلَى الْغَائِبِ، يَقُولُونَ: إنَّهُ لِهَذَا الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ. وَهُوَ مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقْضُونَ عَلَى غَائِبٍ، يُسَمُّونَهُ الْإِعْذَارَ. وَهُوَ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَاخْتَفَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يُرْسَلُ إلَى بَابِهِ، فَيُنَادِي الرَّسُولُ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَاءَ، وَإِلَّا قَدْ أَعْذَرُوا إلَيْهِ. فَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَعْنَى حَسَنٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ الْمُمْتَنِعِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حُضُورُهُ وَسُؤَالُهُ، فَجَازَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، كَالْغَائِبِ الْبَعِيدِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ مَعْذُورٌ، وَهَذَا لَا عُذْرَ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 [كِتَابُ الْقِسْمَة] الْأَصْلُ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] الْآيَةَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» . وَقَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ. وَأَجْمَعْت الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى الْقِسْمَةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى إيثَارِهِ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَكَثْرَةِ الْأَيْدِي. [مَسْأَلَةٌ أَتَى الْقَاضِي شَرِيكَانِ فِي رَبْعٍ أَوْ نَحْوِهِ فَسَأَلَاهُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَهُمَا] (8304) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا أَتَاهُ شَرِيكَانِ فِي رَبْعٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَسَأَلَاهُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَهُمَا، قَسَمَهُ، وَأَثْبَتَ فِي الْقَضِيَّةِ بِذَلِكَ، أَنَّ قَسْمَهُ إيَّاهُ بَيْنَهُمَا كَانَ عَنْ إقْرَارِهِمَا، لَا عَنْ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُمَا بِمِلْكِهِمَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، رَبْعًا أَوْ غَيْرَهُ - وَالرَّبْعُ: هُوَ الْعَقَارُ مِنْ الدُّورِ وَنَحْوِهَا إذَا طَلَبَا مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَهُمَا، أَجَابَهُمَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِلْكُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ عَقَارًا نَسَبُوهُ إلَى مِيرَاثٍ، لَمْ يَقْسِمْهُ حَتَّى يَثْبُتَ الْمَوْتُ وَالْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَلَا يَقْسِمُهُ احْتِيَاطًا لِلْمَيِّتِ، وَأَمَّا مَا عَدَا الْعَقَارَ يَقْسِمُهُ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثًا؛ لِأَنَّهُ يَبُورُ وَيَهْلَكُ، وَقِسْمَتُهُ تَحْفَظُهُ، وَكَذَلِكَ الْعَقَارُ الَّذِي لَا يُنْسَبُ إلَى الْمِيرَاثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ، عَقَارًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، مَا لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُمَا؛ لِأَنَّ قَسْمَهُ بِقَوْلِهِمْ لَوْ رُفِعَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَسْتَسْهِلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ حَكَمًا لَهُمْ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَا مُنَازِعَ لَهُمْ، فَيَثْبُتُ لَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّصَرُّفُ، وَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَاتِّهَابُهُ، وَاسْتِئْجَارُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ يَنْدَفِعُ إذَا ثَبَتَ فِي الْقَضِيَّةِ أَنِّي قَسَمْته بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ، لَا عَنْ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُمْ بِمِلْكِهِمْ، وَكُلُّ ذِي حُجَّةٍ عَلَى حُجَّتِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِلْكُهُمْ، وَلَا حَقَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَمَا ظَهَرَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَلِهَذَا اكْتَفَيْنَا بِهِ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ، وَفِيمَا لَمْ يَنْسُبُوهُ إلَى الْمِيرَاثِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 [فَصْلٌ قِسْمَة الْقَاضِي الْمَكِيلَات وَالْمَوْزُونَات مِنْ الْمَطْعُومَات وَغَيْرِهَا] (8305) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، مِنْ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ قِسْمَةِ الْأَرْضِ مَعَ اخْتِلَافِهَا، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ مَا لَا يَخْتَلِفُ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحُبُوبُ، وَالثِّمَارُ، وَالنُّورَةُ، وَالْأُشْنَانُ، وَالْحَدِيدُ، وَالرَّصَاصُ، وَنَحْوُهَا مِنْ الْجَامِدَاتِ، وَالْعَصِيرُ، وَالْخَلُّ، وَاللَّبَنُ، وَالْعَسَلُ، وَالسَّمْنُ، وَالدِّبْسُ، وَالزَّيْتُ، وَالرُّبُّ وَنَحْوُهَا مِنْ الْمَائِعَاتِ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ إفْرَازُ حَقٍّ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، وَإِفْرَازُهُ جَائِزٌ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَنْوَاعٌ، كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ، وَتَمْرٍ وَزَبِيبٍ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ، وَإِنْ طَلَبَ قَسْمَهَا أَعْيَانًا بِالْقِيمَةِ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ نَوْعٍ بِنَوْعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِقِسْمَةٍ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَغَيْرِ الشَّرِيكِ. فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، جَازَ. وَكَانَ بَيْعًا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فِيمَا يُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِيهِ، وَسَائِرُ شُرُوطِ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَة مِنْ الْقَاضِي وَأَبَى الْآخَرُ] (8306) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثِيَابٌ، أَوْ حَيَوَانٌ، أَوْ أَوَانٍ، أَوْ خَشَبٌ، أَوْ عَمَدٌ، أَوْ أَحْجَارٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ الْغَنَائِمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَوْمَ خَيْبَرَ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَجْنَاسٍ مِنْ الْمَالِ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَةِ كُلِّ جِنْسٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ عَلَى قِسْمَتِهَا أَعْيَانًا بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ، وَطَلَبَ الْآخَرُ قِسْمَتَهُ أَعْيَانًا بِالْقِيمَةِ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ قِسْمَةَ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ، إذَا أَمْكَنَ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةِ، وَأَبَى الْآخَرُ، وَكَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ إلَّا بِأَخْذِ عِوَضٍ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ قَطْعِ ثَوْبٍ فِي قَطْعِهِ نَقْصٌ، أَوْ كَسْرِ إنَاءٍ، أَوْ رَدِّ عِوَضٍ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ. وَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَةُ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلَا رَدِّ عِوَضٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ: لَا أَعْرِفُ فِي هَذَا عَنْ إمَامِنَا رِوَايَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ خَيْرَانَ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُقْسَمُ أَعْيَانًا بِالْقِيمَةِ، فَلَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الدُّورِ، بِأَنْ يَأْخُذَ هَذَا دَارًا وَهَذَا دَارًا وَهَذَا دَارًا، وَكَالْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ كَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِي الْقِيمَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ اخْتِلَافِ قِيمَةِ الدَّارِ الْكَبِيرَةِ وَالْقَرْيَةِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ أَرْضَ الْقَرْيَةِ تَخْتَلِفُ، سِيَّمَا إذَا كَانَتْ ذَاتَ أَشْجَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَرَاضٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَالدَّارُ ذَاتُ بُيُوتٍ وَاسِعَةٍ وَضَيِّقَةٍ، وَحَدِيثَةٍ وَقَدِيمَةٍ، ثُمَّ هَذَا الِاخْتِلَافُ لَمْ يَمْنَعْ الْإِجْبَارَ عَلَى الْقِسْمَةِ، كَذَلِكَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ، وَفَارَقَ الدُّورَ؛ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ قِسْمَةُ كُلِّ دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا، وَهَا هُنَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا أَوْ إنَاءٍ عَلَى حِدَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الثِّيَابُ أَنْوَاعًا؛ كَالْحَرِيرِ، وَالْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، فَهِيَ كَالْأَجْنَاسِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ. وَالْحَيَوَانُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَيُقْسَمُ النَّوْعُ الْوَاحِدُ مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ إجْبَارٍ؛ لِأَنَّهُ تَخْتَلِفُ مَنَافِعُهُ، وَيُقْصَدُ مِنْهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْفِطْنَةُ، وَذَلِكَ لَا يَقَعُ فِيهِ التَّعْدِيلُ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَزَّأَ الْعَبِيدَ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. وَلِأَنَّهُ نَوْعُ حَيَوَانٍ يَدْخُلُهُ التَّقْوِيمُ، فَجَازَتْ قِسْمَتُهُ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجْمَعُ ذَلِكَ، وَتُعَدُّ لَهُ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ. [فَصْلٌ وَالْقِسْمَةُ إفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ مِنْ الْآخَرِ] (8307) فَصْلٌ: وَالْقِسْمَةُ إفْرَازُ حَقٍّ، وَتَمْيِيزُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: هِيَ بَيْعٌ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ؛ لِأَنَّهُ يُبْدِلُ نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ السَّهْمِ الْآخَرِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَلَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَيَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ، وَتَلْزَمُ بِإِخْرَاجِ الْقُرْعَةِ، وَيَتَقَدَّرُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ بِقَدْرِ الْآخَرِ، وَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا تَنْفَرِدُ عَنْ الْبَيْعِ بِاسْمِهَا وَأَحْكَامِهَا، فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا، كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ، أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بَيْعًا، جَازَتْ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا، وَالْمَكِيلِ وَزْنًا، وَالْمَوْزُونِ كَيْلًا، وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَحْنَثُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ بِهَا، وَإِذَا كَانَ الْعَقَارُ أَوْ نِصْفُهُ وَقْفًا، جَازَتْ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ بَيْعٌ. انْعَكَسَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، هَذَا إذَا خَلَتْ مِنْ الرَّدِّ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدُّ عِوَضٍ، فَهِيَ بَيْعٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرَّدِّ يَبْذُلُ الْمَالَ عِوَضًا عَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ. فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ فِي وَقْفٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ وَقْفًا، وَبَعْضُهُ طَلْقَا، وَالرَّدُّ مِنْ صَاحِبِ الطَّلْقِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي بَعْضَ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ بَعْضَ الطَّلْقِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ. [فَصْلٌ شَهَادَةُ الْقَاسِمِ بِالْقِسْمَةِ] (8308) فَصْلٌ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاسِمِ بِالْقِسْمَةِ إذَا كَانَ مُتَبَرِّعًا، وَلَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ، كَالْمُرْضِعَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ الَّذِي يُوجِبُ تَعْدِيلَهُ، فَلَمْ تُقْبَلْ، كَشَهَادَةِ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ عَلَى حُكْمِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 وَلَنَا، أَنَّهُ شَهِدَ بِمَا لَا نَفْعَ لَهُ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، لِكَوْنِهِ يُوجِبُ الْأُجْرَةَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا نَفْعٌ، فَتَكُونُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ يُوجِبُ تَعْدِيلَهُ. مَمْنُوعٌ، وَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْحُكْمِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَاضِي الْقِسْمَةَ فَامْتَنَعَ الْآخَرُ] (8309) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ سَأَلَ أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ مُقَاسَمَتَهُ، فَامْتَنَعَ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، إذَا أَثْبُتْ عِنْدَهُ مِلْكَهَا، وَكَانَ مِثْلُهُ يَنْقَسِمُ وَيَنْتَفِعَانِ بِهِ مَقْسُومًا أَمَّا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، فَامْتَنَعَ الْآخَرُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِلْكُهُمَا بِبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ حُكْمًا عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُمَا، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُت بِهِ الْمِلْكُ لِخَصْمِهِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الرِّضَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَى أَحَدِهِمَا، إنَّمَا يَقْسِمُ بِقَوْلِهِمَا وَرِضَاهُمَا. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا ضَرَرٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ " مُرْسَلًا، وَفِي لَفْظٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى، أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يُمْكِنَ تَعْدِيلُ السِّهَامِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يُجْعَلُ مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَيْعًا، وَالْبَيْعُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ، أَرْضٌ قِيمَتُهَا مِائَةٌ، فِيهَا شَجَرَةٌ أَوْ بِئْرٌ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَإِذَا جُعِلَتْ الْأَرْضُ سَهْمًا، كَانَتْ الثُّلُثَ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهَا خَمْسِينَ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ لَهُ الْبِئْرُ أَوْ الشَّجَرَةُ، لِيَكُونَا نِصْفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَهَذِهِ فِيهَا بَيْعٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ آخِذَ الْأَرْضِ قَدْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الشَّجَرَةِ أَوْ الْبِئْرِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَالْبَيْعُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ إزَالَةَ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ عَنْهُمَا، وَحُصُولَ النَّفْعِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا تَمِزْ، كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ، وَيَتَمَكَّنَ مِنْ إحْدَاثِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَالزَّرْعِ وَالسِّقَايَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ الِاشْتِرَاكِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ الْآخَرُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ الْقِسْمَةِ، فَفِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ انْتِقَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ مُفْرَدًا، فِيمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ الشَّرِكَةِ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا دَارٌ صَغِيرَةٌ، إذَا قُسِمَتْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعًا ضَيِّقًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الدَّارِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ دَارًا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقِسْمَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ أَنْ تَنْقُصَ قِيمَةُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْقِسْمَةِ عَنْ حَالِ الشَّرِكَةِ، سَوَاءٌ انْتَفَعُوا بِهِ مَقْسُومًا أَوْ لَمْ يَنْتَفِعُوا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا ظَاهِرٌ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إذَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَقْسِمُ وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْسِمُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ مِنْ ثَمَنِهِ، بِيعَ، وَأُعْطُوا الثَّمَنَ. فَاعْتُبِرَ نُقْصَانُ الثَّمَنِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ نَقْصَ قِيمَتِهِ ضَرَرٌ، وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ وَإِنْ اسْتَضَرَّ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرًا، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَقِسْمَةِ الْجَوْهَرَةِ بِكَسْرِهَا، وَلِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ إضَاعَةً لِلْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَتِهِ. وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَسْتَضِرُّ بِالْقِسْمَةِ دُونَ الْآخِرِ؛ كَرَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا دَارٌ، لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهَا، فَإِذَا قَسَمَاهَا اسْتَضَرَّ صَاحِبُ الثُّلُثِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَكُونُ دَارًا، وَلَا يَسْتَضِرُّ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى لَهُ مَا يَصِيرُ دَارًا مُفْرَدَةً، فَطَلَبَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ الْقِسْمَةَ، لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَيْهَا. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، قَالَ: كُلُّ قِسْمَةٍ فِيهَا ضَرَرٌ، لَا أَرَى قِسْمَتَهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ إفْرَادَ نَصِيبِهِ الَّذِي لَا يَسْتَضِرُّ بِتَمْيِيزِهِ، فَوَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَا لَا يَسْتَضِرَّانِ بِالْقِسْمَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِأَنَّهَا قِسْمَةٌ يَسْتَضِرُّ بِهَا صَاحِبُهُ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ اسْتَضَرَّا مَعًا، وَلِأَنَّ فِيهِ إضَاعَةَ الْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَتِهِ، وَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ إضَاعَتُهُ مَالَهُ فَإِضَاعَتُهُ مَالَ غَيْرِهِ أَوْلَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ جُمَيْعٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَعْصِبَةَ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ، إلَّا مَا حَصَلَ الْقَسْمُ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ أَنْ يُخْلِفَ شَيْئًا، إذَا قُسِمَ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى بَعْضِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَلِأَنَّنَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ مَانِعٌ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا مَانِعٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ هُوَ ضَرَرَ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مَانِعًا، كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا مَعَ ضَرَرِهِمَا أَوْ ضَرَرِ أَحَدِهِمَا، فَتَعَيَّنَ الضَّرَرُ الْمَانِعُ فِي جِهَةِ الْمَطْلُوبِ، وَلِأَنَّهُ ضَرَرٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ بِهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ، فَمَنَعَ الْقِسْمَةَ، كَمَا لَوْ اسْتَضَرَّا مَعًا. وَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ الْمُسْتَضِرُّ بِهَا، كَصَاحِبِ الثُّلُثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ، أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَيْهَا. هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ دَفْعَ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ عَنْهُ، بِأَمْرٍ لَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِيهِ، فَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ ضَرَرَ الطَّالِبِ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، وَالْآخَرُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقَسْمِ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ طَلَبَ الْقِسْمَةِ مِنْ الْمُسْتَضِرِّ سَفَهٌ، فَلَا يَجِبُ إجَابَتُهُ إلَى السَّفَهِ. قَالَ الشَّرِيفُ: مَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا يَسْتَضِرُّ، لَمْ تَجِبْ الْقِسْمَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَجَبَتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ انْتَفَعَ بِهَا الطَّالِبُ، وَجَبَتْ، وَإِنْ اسْتَضَرَّ بِهَا الطَّالِبُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَلِلْآخَرَيْنِ نِصْفُهَا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا، فَإِذَا قُسِمَتْ اسْتَضَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَسْتَضِرَّ صَاحِبُ النِّصْفِ، فَطَلَبَ صَاحِبُ النِّصْفِ الْقِسْمَةَ، وَجَبَتْ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا نِصْفَيْنِ، فَيَصِيرُ حَقُّهُمَا لَهُمَا دَارًا، وَلَهُ النِّصْفُ، فَلَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ مِنْهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِمَا الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَضِرُّ بِإِفْرَازِ نَصِيبِهِ. وَإِنْ طَلَبَا الْمُقَاسَمَةَ، فَامْتَنَعَ صَاحِبُ النِّصْفِ أُجْبِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ طَلَبَا إفْرَازَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 مِنْهُمَا، أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا إفْرَازَ نَصِيبِهِ، لَمْ تَجِبْ الْقِسْمَةُ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِالطَّالِبِ وَسَفَهٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَجِبُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ. الْحَالُ الثَّانِي، الَّذِي لَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ، وَهِيَ مَا إذَا عُدِمَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ إلَّا بِرِضَاهُمَا، وَتُسَمَّى قِسْمَةَ التَّرَاضِي، وَهِيَ جَائِزَةٌ مَعَ اخْتِلَالِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالْمُنَاقَلَةِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ جَائِزٌ. [فَصْلٌ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا فَإِذَا طَلَبَا قَسْمَهَا] (8310) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا، فَإِذَا طَلَبَا قَسَمَهَا؛ نَظَرْتُ، فَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بَيْنَهُمَا، وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ، أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْبِنَاءَ فِي الْأَرْضِ يَجْرِي مَجْرَى الْغَرْسِ، فَيَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ، ثُمَّ لَوْ طَلَبَ قِسْمَةَ أَرْضٍ فِيهَا غِرَاسٌ، أُجْبِرَ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الْبِنَاءُ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا جَعْلَ السُّفْلِ لِأَحَدِهِمَا وَالْعُلْوِ لِلْآخَرِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ الْآخَرُ؛ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الْعُلْوَ يَتْبَعُ لِلسُّفْلِ، وَلِهَذَا إذَا بِيعَا، تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا، وَإِذَا أُفْرِدَ الْعُلْوُ بِالْبَيْعِ، لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَهُ، لَمْ يُجْعَلْ الْمَتْبُوعُ سَهْمًا وَالتَّبَعُ سَهْمًا، فَيَصِيرُ التَّبَعُ أَصْلًا. الثَّانِي، أَنَّ السُّفْلَ وَالْعُلْوَ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الدَّارَيْنِ الْمُتَلَاصِقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْكُنُ مُنْفَرِدًا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دَارَانِ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا الْمُطَالَبَةُ بِجَعْلِ كُلِّ دَارٍ نَصِيبًا كَذَا هَاهُنَا. الثَّالِثُ، أَنَّ صَاحِبَ الْقَرَارِ يَمْلِكُ قَرَارَهَا وَهَوَاءَهَا، فَإِذَا جُعِلَ السُّفْلُ نَصِيبًا انْفَرَدَ صَاحِبُهُ بِالْهَوَاءِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ قِسْمَةً عَادِلَةً. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْسِمُهُ الْحَاكِمُ، يَجْعَلُ ذِرَاعًا مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلْوِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقْسِمُهَا بِالْقِيمَةِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا قَسَمَهَا عَلَى مَا يَرَاهُ جَازَ، كَاَلَّتِي لَا عُلْوَ لَهَا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، وَفِيهَا رَدُّ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ تَحَكُّمٌ، وَبَعْضُهُ يَرُدُّ بَعْضًا. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعُلْوِ وَحْدَهُ، أَوْ السُّفْلِ وَحْدَهُ، لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُرَادُ لِلتَّمْيِيزِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْإِشَاعَةِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ. وَإِنْ طَلَبَ قِسْمَةَ السُّفْلِ مُنْفَرِدًا، أَوْ الْعُلْوِ مُنْفَرِدًا، لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُلْوُ سُفْلِ الْآخَرِ، فَيَسْتَضِرُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْحَقَّانِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 [فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا دَارٌ أَوْ خَانٌ كَبِيرٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَلَا ضَرَرَ فِي قِسْمَتِهِ] (8311) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا دَارٌ، أَوْ خَانٌ كَبِيرٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَلَا ضَرَرَ فِي قِسْمَتِهِ، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَتُفْرَدُ بَعْضُ الْمَسَاكِنِ عَنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَثُرَتْ الْمَسَاكِنُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دَارَانِ، أَوْ خَانَانِ، أَوْ أَكْثَرُ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَهُ فِي إحْدَى الدَّارَيْنِ، أَوْ أَحَدِ الْخَانَيْنِ، وَيَجْعَلَ الْبَاقِيَ نَصِيبًا، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَلَهُ فِعْلُهُ، سَوَاءٌ تَقَارَبَتَا أَوْ تَفَرَّقَتَا؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ وَأَعْدَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتَا مُتَجَاوِرَتَيْنِ، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَجَاوِرَتَيْنِ تَتَقَارَبُ مَنْفَعَتُهُمَا، بِخِلَافِ الْمُتَبَاعِدَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حَجَزَتْ الْأُخْرَى، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الدَّارِ الْوَاحِدَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ نَقْلُ حَقِّهِ مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَالْمُتَفَرِّقِينَ عَلَى مِلْكٍ، وَكَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً بِهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَمَا لَوْ كَانَتَا دَارًا وَدُكَّانًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْحُكْمُ فِي الدَّكَاكِينِ كَالْحُكْمِ فِي الدُّورِ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ لَهَا عَضَائِدُ صِغَارٌ، لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا عَلَيْهَا. [فَصْلٌ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ وَاحِدٌ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا وَتَتَحَقَّقُ فِيهَا الشُّرُوطُ] (8312) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ وَاحِدٌ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا، وَتَتَحَقَّقُ فِيهَا الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى قَسْمِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فَارِغَةً أَوْ ذَاتَ شَجَرٍ وَبِنَاءٍ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَخْلٌ، وَكَرْمٌ، وَشَجَرٌ مُخْتَلِفٌ، وَبِنَاءٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ كُلِّ عَيْنٍ عَلَى حِدَتِهَا، وَطَلَبَ الْآخَرُ قِسْمَةَ الْجَمِيعِ بِالتَّعْدِيلِ بِالْقِيمَةِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تُقْسَمُ كُلُّ عَيْنٍ عَلَى حِدَتِهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَقْسُومٍ، إذَا أَمْكَنَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْن الشَّرِيكَيْنِ فِي جَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ، كَانَ أَوْلَى. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إذَا أَمْكَنَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي جَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْجَيِّدُ فِي مُقَدَّمِهَا وَالرَّدِيءُ فِي مُؤَخَّرِهَا، فَإِذَا قَسَمْنَاهَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيء مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ، وَجَبَتْ الْقِسْمَةُ، وَأُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ الْقِسْمَةُ هَكَذَا، بِأَنْ تَكُونَ الْعِمَارَةُ أَوْ الشَّجَرُ وَالْجَيِّدُ لَا تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَحْدَهُ، وَأَمْكَنَ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ عُدِّلَتْ بِالْقِيمَةِ، وَأُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْقِسْمَةِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْقِسْمَةِ عَلَيْهَا. وَقَالُوا: إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ ثَلَاثِينَ جَرِيبًا، قِيمَةُ عَشْرَةِ أَجْرِبَةٍ مِنْهَا كَقِيمَةِ عِشْرِينَ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْقِسْمَةِ عَلَيْهَا؛ لِتَعَذُّرِ التَّسَاوِي فِي الذَّرْعِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقْلَانِ مُتَجَاوِرَانِ لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْقِسْمَةِ، إذَا لَمْ تُمْكِنْ إلَّا بِأَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا، كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا، أَنَّهُ مَكَانٌ وَاحِدٌ، أَمْكَنَتْ قِسْمَتُهُ، وَتَعْدِيلُهُ، مِنْ غَيْرِ رَدِّ عِوَضٍ وَلَا ضَرَرٍ، فَوَجَبَتْ قِسْمَتُهُ، كَالدُّورِ. وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ يُفْضِي إلَى مَنْعِ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ فِي الْبَسَاتِينِ كُلِّهَا وَالدُّورِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسَاوِي الشَّجَرِ وَبِنَاءِ الدُّورِ وَمَسَاكِنِهَا إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَكَانٌ لَوْ بِيعَ بَعْضُهُ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِشَرِيكِ الْبَائِعِ، فَوَجَبَتْ قِسْمَتُهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَتْ التَّسْوِيَةُ بِالزَّرْعِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بُسْتَانَانِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ، أَوْ حَقْلَانِ، أَوْ دَارَانِ، أَوْ دُكَّانَانِ مُتَجَاوِرَانِ أَوْ مُتَبَاعِدَانِ، فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قِسْمَتَهُ، بِجَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا، لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى هَذَا، سَوَاءٌ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُتَمَيِّزَانِ، لَوْ بِيعَ أَحَدُهُمَا، لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِيهِ لِمَالِكِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ، وَالْأَرْضِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ عَظُمَتْ، فَإِنَّهُ إذَا بِيعَ بَعْضُهَا، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِمَالِكِ الْبَعْضِ الْبَاقِي، وَالشُّفْعَةُ كَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرَادُ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَنُقْصَانِ التَّصَرُّفِ، فَمَا لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ، لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ، لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ، وَعَكْسُ هَذَا مَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ، تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَمَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ، تَجِبُ قِسْمَتُهُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ بَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِ الْبُسْتَانِ، كَانَ صَلَاحًا لِبَاقِيهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا. وَلَمْ يَكُنْ صَلَاحًا لِمَا جَاوَزَهُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا دُونَ الزَّرْعِ] (8313) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا دُونَ الزَّرْعِ، أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ فِي الْأَرْضِ كَالْقُمَاشِ فِي الدَّارِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْقِسْمَةَ، كَالْقُمَاشِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ الزَّرْعُ، أَوْ كَانَ بَذْرًا لَمْ يَخْرُجْ، فَإِذَا قَسَمَاهَا، بَقِيَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكًا، كَمَا لَوْ بَاعَا الْأَرْضَ لَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ مُنْفَرِدًا، لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْدِيلِ الْمَقْسُومِ، وَتَعْدِيلُ الزَّرْعِ بِالسِّهَامِ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَإِنْ طَلَبَ قِسْمَتَهَا مَعَ الزَّرْعِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ، جَازَ، وَأُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَصِيلًا، أَوْ اشْتَدَّ الْحَبُّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ كَالشَّجَرِ فِي الْأَرْضِ، وَالْقِسْمَةُ إفْرَازُ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا. وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ بَيْعٌ. لَمْ يُجْبَرْ إذَا اشْتَدَّ الْحَبُّ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بَيْعَ السُّنْبُلِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ السَّنَابِلَ هَاهُنَا دَخَلَتْ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَلَيْسَتْ الْمَقْصُودَ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّخْلَةِ الْمُثْمِرَةِ بِمِثْلِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قِسْمَتِهَا مَعَ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ لِلنَّقْلِ عَنْهَا، فَلَمْ تَجِبْ قِسْمَتُهُ مَعَهَا كَالْقُمَاشِ فِيهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 وَلَنَا، أَنَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا لِلنَّمَاءِ وَالنَّفْعِ، فَأَشْبَهَ الْغِرَاسَ، وَفَارَقَ الْقُمَاشَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالدَّارِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي نَقْلِهِ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ؛ لِجَهَالَتِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ إفْرَازُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ، كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ فَاشْتَرَطُوا، مِلِكَهُ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ بَذْرًا مَجْهُولًا. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَرْضُ لِاثْنَيْنِ فَأَرَادَا قِسْمَةَ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ دُونَ الْأَرْضِ] (8314) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ قِيمَتُهَا مِائَةٌ، فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا بِئْرٌ قِيمَتُهَا مِائَةٌ، وَفِي الْآخَرِ شَجَرَةٌ قِيمَتُهَا مِائَةٌ عَدَلْت بِالْقِيمَةِ، وَجَعَلْت الْبِئْرَ مَعَ نِصْفِ الْأَرْضِ نَصِيبًا، وَالشَّجَرَةَ مَعَ النِّصْفِ الْآخَرِ نَصِيبًا. فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ؛ نَظَرْت فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً أَوْ أَقَلَّ، لَمْ تَجِبْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَقَلَّ، لَمْ يُمْكِنْ التَّعْدِيلُ إلَّا بِقِسْمَةِ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً، فَجَعَلْنَاهَا سَهْمًا، وَالْبِئْرَ سَهْمًا، وَالشَّجَرَةَ سَهْمًا، لَمْ يَحْصُلْ مَعَ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْضِ، فَيَصِيرُ هَذَا كَقِسْمَةِ الشَّجَرِ وَحْدَهُ، وَقِسْمَةُ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَيْسَتْ قِسْمَةَ إجْبَارٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ كَبِيرَةَ الْقِيمَةِ، بِحَيْثُ يَأْخُذُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ سِهَامَهُمْ مِنْهَا، وَيَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ مَعَ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ، وَجَبَتْ الْقِسْمَةُ، وَمِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْأَرْضِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، فَيَجْعَلُهَا مِائَةً وَخَمْسِينَ سَهْمًا، وَيُضَمُّ إلَى الْبِئْرِ مَا قِيمَتُهُ خَمْسُونَ، وَإِلَى الشَّجَرَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ سِهَامٍ مُتَسَاوِيَةً، وَفِي كُلِّ سَهْمٍ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، فَتَجِبُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً، وَقِيمَةُ الْأَرْضِ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَجَبْت الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْهَا سَهْمَيْنِ، وَمِائَةً مَعَ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ سَهْمَيْنِ، فَتَعَدَّلَتْ السِّهَامُ. وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِاثْنَيْنِ، فَأَرَادَا قِسْمَةَ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ دُونَ الْأَرْضِ، لَمْ تَكُنْ قِسْمَةَ إجْبَارٍ، وَهَكَذَا الْأَرْضُ ذَاتُ الشَّجَرِ، إذَا اُقْتُسِمَ الشَّجَرُ دُونَ الْأَرْضِ، لَمْ تَكُنْ قِسْمَةَ إجْبَارٍ. وَلَوْ اقْتَسَمَاهَا بِشَجَرِهَا، كَانَتْ قِسْمَةَ إجْبَارٍ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ يَدْخُلُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلِهَذَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا بِيعَ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْضِ بِشَجَرِهِ. وَإِذَا قُسِمَ ذَلِكَ دُونَ الْأَرْضِ، صَارَ أَصْلًا فِي الْقِسْمَةِ، لَيْسَ بِتَابِعٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَصِيرُ كَأَعْيَانِ مُفْرَدَةٍ مِنْ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا بِيعَ مُفْرَدًا. وَكُلُّ قِسْمَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، إذَا تَرَاضَيَا بِهَا، فَهِيَ بَيْعٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ. [مَسْأَلَةُ قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ] (8315) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قُسِمَ، طُرِحَتْ السِّهَامُ، فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا وَقَعَ سَهْمُهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا، فَيَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا رَضِيَ بِهِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ قِسْمَةُ إجْبَارٍ، وَقِسْمَةُ تَرَاضٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ مَا أَمْكَنَ التَّعْدِيلُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ رَدٍّ. وَلَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ السِّهَامُ مُتَسَاوِيَةً، وَقِيمَةُ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ مُتَسَاوِيَةً. الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ السِّهَامُ مُتَسَاوِيَةً، وَقِيمَةُ الْأَجْزَاءِ مُخْتَلِفَةً. الثَّالِثُ، أَنْ تَكُونَ السِّهَامُ مُخْتَلِفَةً وَقِيمَةُ الْأَجْزَاءِ مُتَسَاوِيَةً. الرَّابِعُ، أَنْ تَكُونَ السِّهَامُ مُخْتَلِفَةً، وَالْقِيمَةُ مُخْتَلِفَةً. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَمِثْلُ أَرْضٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدُسُهَا، وَقِيمَةُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مُتَسَاوِيَةٌ، فَهَذِهِ تَعْدِلُهَا بِالْمِسَاحَةِ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيلِهَا بِالْمِسَاحَةِ تَعْدِيلُهَا بِالْقِيمَةِ، لِتَسَاوِي أَجْزَائِهَا فِي الْقِيمَةِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، وَكَيْفَمَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ جَازَ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إنْ شَاءَ رِقَاعًا، وَإِنْ شَاءَ خَوَاتِيمَ، يُطْرَحُ ذَلِكَ فِي حِجْرِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَاتَمٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجْ خَاتَمًا عَلَى هَذَا السَّهْمِ. فَمَنْ خَرَجَ خَاتَمَهُ فَهُوَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا، لَوْ أَقْرَعَ بِالْحَصَى أَوْ غَيْرِهِ جَازَ. وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا فِي الْقُرْعَةِ أَنْ يَكْتُبَ رِقَاعًا مُتَسَاوِيَةً بِعَدَدِ السِّهَامِ، وَهُوَ هَاهُنَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ الْأَسْمَاءَ عَلَى السِّهَامِ، وَبَيْنَ إخْرَاجِ السِّهَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْأَسْمَاءَ عَلَى السِّهَامِ، كَتَبَ فِي كُلِّ رُقْعَةٍ اسْمَ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ، وَتُتْرَكُ فِي بَنَادِقَ طِينٍ أَوْ شَمْعٍ مُتَسَاوِيَةِ الْقَدْرِ وَالْوَزْنِ، وَيُتْرَكُ فِي حِجْرِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْقِسْمَةَ، وَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْ بُنْدُقَةً عَلَى هَذَا السَّهْمِ. فَإِذَا أَخْرَجَهَا كَانَ ذَلِكَ السَّهْمُ لِمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الْبُنْدُقَةِ، ثُمَّ يُخْرِجُ أُخْرَى عَلَى سَهْمٍ آخَرَ، كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى الْأَخِيرُ، فَيَتَعَيَّنَ لِمَنْ بَقِيَ. وَإِنْ اخْتَارَ إخْرَاجَ السِّهَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ، كَتَبَ فِي الرِّقَاعِ أَسْمَاءَ السِّهَامِ، فَيَكْتُبُ فِي رُقْعَةِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَلِي جِهَةَ كَذَا، وَفِي أُخْرَى الثَّانِيَ، حَتَّى يَكْتُبَ السِّتَّةَ، ثُمَّ يُخْرِجُ الرُّقْعَةَ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ لَهُ السَّهْمُ الَّذِي فِي الرُّقْعَةِ. وَيَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى الْأَخِيرُ، فَيَتَعَيَّنُ لِمَنْ بَقِيَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّ الْبَنَادِقَ تُجْعَلُ طِينًا، وَتُطْرَحُ فِي مَاءٍ، وَيُعَيَّنُ وَاحِدٌ، فَأَيُّ الْبَنَادِقِ انْحَلَّ الطِّينُ عَنْهَا، وَخَرَجَتْ رُقْعَتُهَا عَلَى الْمَاءِ، فَهِيَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ خَرَجَ اثْنَانِ أُعِيدَ الْإِقْرَاعُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَسْهَلُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ السِّهَامُ مُتَّفِقَةً وَالْقِيمَةُ مُخْتَلِفَةً، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُعْدَلُ بِالْقِيمَةِ، وَتُجْعَلُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةَ الْقِيمَةِ. وَيُفْعَلُ فِي إخْرَاجِ السِّهَامِ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءً، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ التَّعْدِيلَ تَمَّ بِالسِّهَامِ، وَهَا هُنَا بِالْقِيمَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ مُتَسَاوِيَةً وَالسِّهَامُ مُخْتَلِفَةً؛ مِثْلُ أَرْضٍ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهَا، وَأَجْزَاؤُهَا مُتَسَاوِيَةُ الْقِيمَةِ، فَإِنَّهَا تُجْعَلُ سِهَامًا بِقَدْرِ أَقَلِّهَا، وَهُوَ السُّدُسُ، فَتُجْعَلُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، وَتُعَدَّلُ بِالْأَجْزَاءِ، وَيَكْتُبُ ثَلَاثَ رِقَاعٍ بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُخْرِجُ رُقْعَةً عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 السُّدُسِ، أَخَذَهُ، ثُمَّ يُخْرِجُ أُخْرَى عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، أَخَذَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، وَكَانَتْ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، وَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، أَخَذَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَالرَّابِعَ، وَكَانَ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ الْأُولَى لِصَاحِبِ النِّصْفِ، أَخَذَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ، وَتَخْرُجُ الثَّانِيَةُ عَلَى الرَّابِعِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، أَخَذَهُ وَاَلَّذِي يَلِيهِ، وَكَانَ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، فَإِنْ خَرَجَتْ الثَّانِيَةُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، أَخَذَهُ، وَأَخَذَ الْآخَرُ الْخَامِسَ وَالسَّادِسَ، وَإِنْ خَرَجَتْ الْأُولَى لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، أَخَذَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، ثُمَّ يُخْرِجُ الثَّانِيَةَ عَلَى الثَّالِثِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، أَخَذَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ وَالْخَامِسَ، وَأَخَذَ الْآخَرُ السَّادِسَ، وَإِنْ خَرَجَتْ الثَّانِيَةُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، أَخَذَهُ، وَأَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ مَا بَقِيَ. وَقِيلَ: تُكْتَبُ سِتَّةُ رِقَاعٍ، بِاسْمِ صَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثٌ، وَبِاسْمِ صَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَبِاسْمِ صَاحِبِ السُّدُسِ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ خُرُوجُ اسْمِ صَاحِبِ النِّصْفِ، وَإِذَا كَتَبَ ثَلَاثَ رِقَاعٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَأَغْنَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكْتُبَ رِقَاعًا بِأَسْمَاءِ السِّهَامِ، وَيُخْرِجَهَا عَلَى أَسْمَاءِ الْمُلَّاكِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ وَاحِدَةً فِيهَا السَّهْمُ الثَّانِي لِصَاحِبِ السُّدُسِ، ثُمَّ أَخْرَجَ أُخْرَى لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ فِيهِمَا السَّهْمُ الْأَوَّلُ، احْتَاجَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مُتَفَرِّقًا، فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، إذَا اخْتَلَفَتْ السِّهَامُ وَالْقِيمَةُ، فَإِنَّ الْقَاسِمَ يَعْدِلُ السِّهَامَ بِالْقِيمَةِ، وَيَجْعَلُهَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةَ الْقِيَمِ، ثُمَّ يُخْرِجُ الرِّقَاعَ فِيهَا الْأَسْمَاءُ عَلَى السِّهَامِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ سَوَاءً، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّ التَّعْدِيلَ هَاهُنَا بِالْقِيَمِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا بِالْمِسَاحَةِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهِيَ قِسْمَةُ التَّرَاضِي الَّتِي فِيهَا رَدٌّ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيلُ السِّهَامِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مَعَ بَعْضِهَا عِوَضٌ، فَهَذِهِ لَا إجْبَارَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ، كَالدَّارَيْنِ تُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَهْمًا، وَمَا يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَيْهِمَا بِقِسْمَتِهِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ صُوَرًا فِيمَا تَقَدَّمَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ تَلْزَمُ بِإِخْرَاجِ الْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّ قُرْعَةَ قَاسِمِ الْحَاكِمِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِهِ فَيَلْزَمُ بِإِخْرَاجِهَا كَلُزُومِ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَأَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي، فَفِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَلْزَمُهُ أَيْضًا، كَقِسْمَةِ الْإِجْبَارِ؛ لِأَنَّ الْقَاسِمَ كَالْحَاكِمِ، وَقُرْعَتَهُ كَحُكْمِهِ. وَالثَّانِي، لَا تَلْزَمُ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ، وَالْبَيْعُ يَلْزَمُ بِالتَّرَاضِي، لَا بِالْقُرْعَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ هَاهُنَا لِتَعْرِيفِ الْبَائِعِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدًا مِنْ السَّهْمَيْنِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَاخْتَارَ، وَيَلْزَمُ هَاهُنَا بِالتَّرَاضِي وَتَفَرُّقِهِمَا، كَمَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 [فَصْلٌ لِلشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَقْتَسِمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَأَنْ يَأْتِيَا الْحَاكِمَ لِيُنَصِّبَ بَيْنَهُمَا قَاسِمًا] (8316) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَقْتَسِمَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَأَنْ يَأْتِيَا الْحَاكِمَ لِيُنَصِّبَ بَيْنَهُمَا قَاسِمًا يَقْسِمُ لَهُمَا، وَأَنْ يُنَصِّبَا قَاسِمًا يَقْسِمُ لَهُمَا، فَإِنْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ قَاسِمًا لَهُمَا، فَمِنْ شَرْطِهِ الْعَدَالَةُ، وَمَعْرِفَةُ الْحِسَابِ وَالْقِيمَةِ وَالْقِسْمَةِ، لِيُوصِلَ إلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ كَوْنَهُ حُرًّا. وَإِنْ نَصَّبَا قَاسِمًا بَيْنَهُمَا، فَكَانَ عَلَى صِفَةِ قَاسِمِ الْحَاكِمِ فِي الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهُوَ كَقَاسِمِ الْحَاكِمِ، فِي لُزُومِ قِسْمَتِهِ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ غَيْرَ عَارِفٍ بِالْقِسْمَةِ، لَمْ تَلْزَمْ قِسْمَتُهُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا بِهَا، وَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى لُزُومِ الْقِسْمَةِ. وَيُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيمٍ، فَإِنْ احْتَاجَ الْقَسْمُ إلَى التَّقْوِيمِ، احْتَاجَ إلَى قَاسِمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُقَوِّمُ اثْنَيْنِ، وَلَا يَكْفِي فِي التَّقْوِيمِ وَاحِدٌ. فَمَتَى نَصَّبَا قَاسِمًا أَوْ نَصَّبَهُ الْحَاكِمُ، وَكَانَتْ الشُّرُوطُ فِيهِ مُتَحَقِّقَةً، لَزِمَتْ الْقِسْمَةُ بِقُرْعَتِهِ. وَإِنْ اخْتَلَّ فِيهِ بَعْضُ الشُّرُوطِ، لَمْ تَلْزَمْ الْقِسْمَةُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ قَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَأَقْرَعَا، لَمْ تَلْزَمْ الْقِسْمَةُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاكِمَ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. [فَصْلٌ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ] (8317) فَصْلٌ: وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَرْزُقَ الْقَاسِمَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتَّخَذَ قَاسِمًا، وَجَعَلَ لَهُ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ لَمْ يَرْزُقْهُ الْإِمَامُ، قَالَ الْحَاكِمُ لِلْمُتَقَاسَمَيْنِ: ادْفَعَا إلَى الْقَاسِمِ أُجْرَةً لِيَقْسِمَ بَيْنَكُمَا. فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَقْسِمَ نَصِيبَهُ، جَازَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ جَمِيعًا إجَارَةً وَاحِدَةً لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمْ الدَّارَ بِأَجْرِ وَاحِدٍ مَعْلُومٍ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَقْسُومِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا كَعَمَلِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ تَسَاوَتْ سِهَامُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ، فَإِنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ. وَلَنَا أَنَّ أَجْرَ الْقِسْمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمِلِكِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْأَمْلَاكِ، كَنَفَقِهِ الْعَبْدِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي أَكْبَرِ النَّصِيبَيْنِ أَكْثَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَقْسُومَ لَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، كَانَ كَيْلُ الْكَثِيرِ أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْ كَيْلِ الْقَلِيلِ، وَكَذَلِكَ الْوَزْنُ وَالزَّرْعُ، وَعَلَى أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْحَافِظِ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ. (8318) فَصْلٌ: وَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا الطَّالِبَ لَهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ عَلَى الطَّالِبِ لِلْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ بِإِفْرَازِ الْأَنْصِبَاءِ، وَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 [فَصْلٌ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ وَأَنَّهُ أُعْطِيَ دُونَ حَقِّهِ] (8319) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ، وَأَنَّهُ أُعْطِيَ دُونَ حَقِّهِ؛ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَتْ قِسْمَتُهُ تَلْزَمُ بِالْقُرْعَةِ، وَلَا تَقِفُ عَلَى تَرَاضِيهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْمُدَّعِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ، فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، نُقِضَتْ الْقِسْمَةُ وَأُعِيدَتْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَطَلَبَ يَمِينَ شَرِيكِهِ أَنَّهُ لَا فَضْلَ مَعَهُ، أُحْلِفَ لَهُ. وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ الْقِسْمَةِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهَا. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالتَّرَاضِي، كَاَلَّذِي قَسَمَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا وَنَحْوِهِ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَى مِنْ ادَّعَى الْغَلَطَ. هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَرِضَاهُ بِالزِّيَادَةِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ تَلْزَمُهُ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّهُ مَتَى أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالْغَلَطِ، نَقَضَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمِلٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ عَادِلَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُسْلَمِ فِيهِ، ثُمَّ ادَّعَى غَلَطًا فِي كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ حَقَّهُ مِنْ الزِّيَادَةِ سَقَطَ بِرِضَاهُ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ مَعَ عِلْمِهِ، أَمَّا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ أُعْطِيَ حَقَّهُ فَرَضِيَ بِنَاءً عَلَى هَذَا، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْغَلَطُ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ كَالثَّمَنِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ مَكَايِيلَ، رَاضِيًا بِذَلِكَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ ثَمَانِيَةٌ، أَوْ ادَّعَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنَّهُ غَلِطَ فَأَعْطَاهُ اثْنَيْ عَشْرَ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالرِّضَا، وَلَا يَمْنَعُ سَمَاعُ دَعْوَاهُ وَبَيِّنَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ أَقَرَّ بِالْغَلَطِ، لَنَقَضَتْ الْقِسْمَةُ، وَلَوْ سَقَطَ حَقُّ الْمُدَّعِي بِالرِّضَى، لَمَا نَقَضَتْ الْقِسْمَةُ بِإِقْرَارِهِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ الزَّائِدَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي مَنْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنَّهَا عَشْرَةُ أَذْرُعٍ، فَبَانَتْ تِسْعَةً أَوْ أَحَدَ عَشْرَ، أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، تَكُونُ الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ، وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ. وَالْبَيْعُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالتَّرَاضِي، فَلَوْ كَانَ التَّرَاضِي يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، لَسَقَطَ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَحَقُّ الْمُشْتَرِي مِنْ النَّقْصِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِشَيْءِ بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ، لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ اقْتَسَمَا شَيْئًا، وَتَرَاضَيَا بِهِ، ثُمَّ بَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مُسْتَحَقًّا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تُعْطِي الْمَظْلُومَ حَقَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَا تَنْقُصُ الْقِسْمَةَ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ الْغَلَطُ فِي الثَّمَنِ، أَوْ الْمُسْلَمِ فِيهِ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْغَلَطَ هَاهُنَا فِي نَفْسِ الْقِسْمَةِ، بِتَفْوِيتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، وَهُوَ تَعْدِيلُ السِّهَامِ، فَتَبْطُلُ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا، وَفِي الْمُسْلَمِ وَالثَّمَنِ الْغَلَطُ فِي الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ بِشُرُوطِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْغَلَطُ فِي قَبْضِ عِوَضِهِ فِي صِحَّتِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 [فَصْلٌ اقْتَسَمَ الشَّرِيكَانِ شَيْئًا فَبَانَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا] (8320) فَصْلٌ: إذَا اقْتَسَمَ الشَّرِيكَانِ شَيْئًا، فَبَانَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا؛ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَبْطُلُ، بَلْ يُخَيَّرُ مَنْ ظَهَرَ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِهِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ عَيْبًا فِيمَا أَخَذَهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا قِسْمَةٌ لَمْ تُعَدَّلْ فِيهَا السِّهَامُ، فَكَانَتْ بَاطِلَةً، كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمَا بِالْحَالِ. وَأَمَّا إذَا بَانَ نُصِيبُ أَحَدِهِمَا مَعِيبًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تُمْنَعَ الْمَسْأَلَةُ، فَنَقُولَ بِبُطْلَانِ الْقِسْمَةِ؛ لِعَدَمِ التَّعْدِيلِ بِالْقِيمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْعَيْبَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْبُطْلَانِ، كَالْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، لَمْ تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ مَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمُسْتَحَقِّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقِّ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَقَدْ أَفْرَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَرَرُ الْمُسْتَحَقِّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، مِثْلُ أَنْ يَسُدَّ طَرِيقَهُ، أَوْ مَجْرَى مَائِهِ، أَوْ وَضُوئِهِ، أَوْ نَحْوِ هَذَا، فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَمْنَعُ التَّعْدِيلَ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ، بَطَلَتْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُشَاعًا فِي نَصِيبِهِمَا، بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ شَرِيكُهُمَا وَقَدْ اقْتَسَمَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِ وَلَا إذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُمَا شَرِيكٌ يَعْلَمَانِهِ، فَاقْتَسَمَا دُونَهُ. وَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ الْمُسْتَحَقَّ حَالَ الْقِسْمَةِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمَاهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (8321) فَصْلٌ: وَإِذَا ظَهَرَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عَيْبٌ لَمْ يَعْلَمْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَهُ فَسْخُ الْقِسْمَةِ أَوْ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي نَصِيبِهِ، فَمَلَكَ ذَلِكَ، كَالْمُشْتَرِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ فِيهَا شَرْطٌ، وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. [فَصْلٌ اقْتَسَمَا دَارَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا وَبَنَى فِيهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نَصِيبُهُ] (8322) فَصْلٌ: وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارَيْنِ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا، وَبَنَى فِيهَا، أَوْ اقْتَسَمَا أَرْضَيْنِ، فَبَنَى أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نَصِيبُهُ، وَنُقِضَ بِنَاؤُهُ، وَقُلِعَ غَرْسُهُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ. ذَكَرَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى وَغَرَسَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِنَقْصِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ بَنَى فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّ الدَّارَيْنِ لَا يُقْسَمَانِ قِسْمَةَ إجْبَارٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَصِيبًا، وَإِنَّمَا يُقْسَمَانِ كَذَلِكَ بِالتَّرَاضِي، فَتَكُونُ جَارِيَةً مَجْرَى الْبَيْعِ، وَلَوْ بَاعَهُ الدَّارَ جَمِيعَهَا، ثُمَّ بَانَتْ مُسْتَحَقَّةً، رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ كُلِّهِ، فَإِذَا بَاعَهُ نِصْفَهَا، رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ، وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي كُلِّ قِسْمَةٍ جَارِيَةٍ مَجْرَى الْبَيْعِ، وَهِيَ قِسْمَةُ التَّرَاضِي، الَّذِي فِيهِ رَدُّ عِوَضٍ، وَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهِ لَضَرَرٍ فِيهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، إذَا ظَهَرَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مُسْتَحَقًّا بَعْدَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِيهِ، فَنُقِضَ الْبِنَاءُ، وَقُلِعَ الْغَرْسُ، فَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ. فَالْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ بَيْعًا. لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ لَمْ يُغْرِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ بَيْعٌ، وَإِنَّمَا أُفْرِزَ حَقُّهُ مِنْ حَقِّهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ مَا غَرِمَ فِيهِ. هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه قَوْلُ أَصْحَابِنَا. [فَصْلٌ اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ ثُمَّ بَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ] (8323) فَصْلٌ: وَإِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ، ثُمَّ بَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ إلَّا مِمَّا اقْتَسَمُوهُ، لَمْ تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، فَأَشْبَهَ تَعَلُّقَ دَيْنِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، وَيُفَارِقُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرِضَا مَالِكِهِ وَاخْتِيَارِهِ. فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ: إنْ شِئْتُمْ وَفَّيْتُمْ الدَّيْنَ وَالْقِسْمَةُ بِحَالِهَا، وَإِنْ أَبَيْتُمْ نُقِضَتْ الْقِسْمَةُ وَبِيعَتْ التَّرِكَةُ فِي الدَّيْنِ. فَإِنْ أَجَابَ أَحَدُهُمْ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، بِيعَ نَصِيبُ الْمُمْتَنِعِ وَحْدَهُ، وَبَقِيَ نَصِيبُ الْمُجِيبِ بِحَالِهِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَّ وَصِيَّةٌ بِجُزْءٍ مِنْ الْمَقْسُومِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، عَلَى مَا مَرَّ مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ أَخْذُهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّيْنِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فَصْلٌ طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ الْمُهَايَأَةَ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ] (8324) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ الْمُهَايَأَةَ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ، إمَّا فِي الْأَجْزَاءِ بِأَنْ يَجْعَلَ لِأَحَدِهِمَا بَعْضَ الدَّارِ يَسْكُنُهَا، أَوْ بَعْضَ الْحَقْلِ يَزْرَعُهُ، وَيَسْكُنُ الْآخَرَ، وَيَزْرَعُ فِي الْبَاقِي، أَوْ يَسْكُنُ أَحَدُهُمَا، وَيَزْرَعُ سَنَةً، وَيَسْكُنُ الْآخَرُ، وَيَزْرَعُ سَنَةً أُخْرَى، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ ضَرَرًا، فَيَنْتَفِي بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبِيدِ خَاصَّةً، عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْمُهَايَأَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُهَايَأَةَ مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الْمَنْفَعَةِ عَاجِلٌ، فَلَا يَجُوزُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 تَأْخِيرُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَالدَّيْنِ، وَكَمَا فِي الْعَبِيدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُخَالِفُ قِسْمَةَ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ إفْرَازُ النَّصِيبَيْنِ، وَتَمْيِيزُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا فَجَازَ فِيهِ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، كَقِسْمَةِ التَّرَاضِي، وَلَا يَلْزَمُ، بَلْ مَتَى رَجَعَ أَحَدُهُمَا عَنْهَا، انْتَقَضَتْ الْمُهَايَأَةُ. وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَانْتَقَضَتْ الْمُهَايَأَةُ. وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي انْتِقَاضِهَا بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَلْزَمُ الْمُهَايَأَةُ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، فَلَزِمَتْ، كَقِسْمَةِ الْأَصْلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بَذَلَ مَنَافِعَ لِيَأْخُذَ مَنَافِعَ مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيُعِيرَهُ شَيْئًا آخَرَ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَفَارَقَ الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ اقْتَسَمُوا دَارًا وَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ فِيهَا زِيَادَةُ أَذْرُعٍ وَلِبَعْضِهِمْ نُقْصَانٌ ثُمَّ بَاعُوا الدَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً] (8325) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي قَوْمٍ اقْتَسَمُوا دَارًا، وَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ فِيهَا زِيَادَةُ أَذْرُعٍ، وَلِبَعْضِهِمْ نُقْصَانٌ، ثُمَّ بَاعُوا الدَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً: قُسِمَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْأَذْرُعِ. يَعْنِي أَنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ فِيهَا، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ أَحَدِهِمَا فِي الْأَذْرُعِ كَزِيَادَةِ مِلْكِهِ فِيهَا. مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا الْخُمُسَانِ، فَيَحْصُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، فَيَحْصُلَ لَهُ سِتُّونَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِي الدَّارِ، فَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْأَذْرُعِ لِرَدَاءَةِ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُهَا، مِثْلُ دَارٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ جَيِّدِهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَأَخَذَ الْآخَرُ مِنْ رَدِيئِهَا سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ الْأَذْرُعِ، بَلْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ السِّتِّينَ هَاهُنَا مَعْدُولَةٌ بِالْأَرْبَعِينَ، فَكَذَلِكَ يَعْدِلُ بِهَا فِي الثَّمَنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي قَوْمٍ اقْتَسَمُوا دَارًا كَانَتْ أَرْبَعَةَ سُطُوحٍ، يَجْرِي عَلَيْهَا الْمَاءُ، فَلَمَّا اقْتَسَمُوا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مَنْعَ جَرَيَانِ مَاءِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدْ صَارَ لِي. قَالَ: إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ أَنَّهُ يَرُدُّ الْمَاءَ، فَلَهُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الدَّارَ وَأَطْلَقُوا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ بِحُقُوقِهَا، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِحُقُوقِهَا، وَمِنْ حَقِّهَا جَرَيَانُ مَائِهَا فِي مَاءٍ كَانَ يَجْرِي إلَيْهِ مُعْتَادٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى سَطْحِ الْمَانِعِ، فَلِهَذَا اسْتَحَقَّهُ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ تَشَارَطَا عَلَى رَدِّهِ، فَالشَّرْطُ أَمْلَكُ، وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا اقْتَسَمَا دَارًا، فَحَصَلَ الطَّرِيقُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ لِنَصِيبِ الْآخَرِ مَنْفَذٌ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ، وَإِلَّا بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقْتَضِي التَّعْدِيلَ، وَالنَّصِيبُ الَّذِي لَا طَرِيقَ لَهُ لَا قِيمَةَ لَهُ إلَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 قِيمَةً قَلِيلَةً، فَلَا يَحْصُلُ التَّعْدِيلُ، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ، أَنْ يَكُونَ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ آخِذُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ رَاضِيًا بِهِ، عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ التَّرَاضِي بَيْعٌ، وَشِرَاؤُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ، وَقِيَاسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، أَنَّ الطَّرِيقَ تَبْقَى بِحَالِهَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، مَا لَمْ يَشْتَرِطْ صَرْفَهَا عَنْهُ، كَمَجْرَى الْمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ قِسْمَةُ مَالِ الصَّغِيرِ مَعَ شَرِيكِهِ] (8326) فَصْلٌ: قَالَ: وَلِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ قِسْمَةُ مَالِ الصَّغِيرِ مَعَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إمَّا إفْرَازُ حَقٍّ، أَوْ بَيْعٌ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ لَهُمَا، وَلِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَصْلَحَةً لِلصَّبِيِّ، فَجَازَتْ، كَالشِّرَاءِ لَهُ، وَيَحُوزُ لَهُمَا قِسْمَةُ التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ لِضَرَرِ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، أَوْ الْحَاجَةِ إلَى النَّفَقَةِ. [فَصْلٌ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ] (8327) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ إلَّا بِتَوْلِيَةِ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ فَوَّضَ الْإِمَامُ إلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَنْ وَلَّاهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، فَهَلْ تَصِحُّ وِلَايَتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يَخْتَارَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَهُمْ. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ تَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحَةُ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ؛ وَهِيَ: قَدْ وَلَّيْتُك الْحُكْمَ، وَقَلَّدْتُك، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَاسْتَخْلَفْتُك، وَرَدَدْت إلَيْك الْحُكْمَ، وَفَوَّضْت إلَيْك، وَجَعَلْت إلَيْك. فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ الْمُوَلِّي، وَجَوَابُهَا مِنْ الْمُوَلِّي بِالْقَبُولِ، انْعَقَدَتْ الْوِلَايَةُ. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدْ اعْتَمَدْت عَلَيْك، وَعَوَّلْت عَلَيْك، وَوَكَلْت إلَيْك، وَأَسْنَدْت إلَيْك. فَلَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ بِهَا حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهَا قَرِينَةٌ، نَحْوُ قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ فِيمَا وَكَلْت إلَيْك، وَانْظُرْ فِيمَا أَسْنَدْت إلَيْك، وَتَوَلَّ مَا عَوَّلْت فِيهِ عَلَيْك. وَإِذَا صَحَّتْ الْوِلَايَةُ، وَكَانَتْ عَامَّةً، اسْتَفَادَ بِهَا النَّظَرَ فِي عَشْرَةِ أَشْيَاءَ: فَصْلُ الْخُصُومَات بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَدَفْعُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَجَانِينِ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَالنَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ، فِي عَمَلِهِ فِي حِفْظِ أُصُولِهَا، وَإِجْرَاءِ فُرُوعِهَا عَلَى مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَتَزْوِيجُ الْأَيَامَى اللَّاتِي لَا أَوْلِيَاءَ لَهُنَّ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فِي عَمَلِهِ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْ طُرُقَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَفْنِيَتِهِمْ، وَتَصَفُّحُ حَالِ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 وَالِاسْتِبْدَالُ بِمَنْ ثَبَتَ جَرْحُهُ مِنْهُمْ، وَالْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ. وَفِي جِبَايَةِ الْخَرَاجِ، وَأَخْذِ الصَّدَقَةِ وَجْهَانِ. (8328) فَصْلٌ: قَالَ وَيُوصِي الْوُكَلَاءَ وَالْأَعْيَانَ عَلَى بَابِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّفْقِ بِالْخُصُومِ، وَقِلَّةِ الطَّمَعِ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَكُونُوا شُيُوخًا أَوْ كُهُولًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصِّيَانَةِ وَالْعِفَّةِ. [فَصْلٌ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْأَحْكَامِ] (8329) فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْأَحْكَامِ. كَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ: أَنَا أَقْضِي وَلَا أُفْتِي. وَأَمَّا الْفُتْيَا فِي الطَّهَارَةِ وَسَائِرِ مَا لَا يُحْكَمُ فِي مِثْلِهِ، فَلَا بَأْسَ بِالْفُتْيَا فِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 [كِتَاب الشَّهَادَاتِ] ِ وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَاتِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْعِبْرَةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حَجَرٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْت، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي، وَفِي يَدِي، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ لِيَحْلِفَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَدْبَرَ: لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْعَزْرَمِيُّ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الشَّهَادَةِ لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. قَالَ شُرَيْحٌ: الْقَضَاءُ جَمْرٌ، فَنَحِّهِ عَنْك بِعُودَيْنِ. يَعْنِي الشَّاهِدَيْنِ. وَإِنَّمَا الْخَصْمُ دَاءٌ، وَالشُّهُودُ شِفَاءٌ، فَأُفْرِغْ الشِّفَاءَ عَلَى الدَّاءِ. [فَصْلٌ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا] (8330) فَصْلٌ: وَتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَلْبَ بِالْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ، فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا، كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ دُعِيَ إلَى تَحَمُّلِ شَهَادَةٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَدُعِيَ إلَى أَدَائِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَامَ بِالْفَرْضِ فِي التَّحَمُّلِ أَوْ الْأَدَاءِ اثْنَانِ، سَقَطَ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْكُلُّ أَثِمُوا، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي التَّحَمُّلِ أَوْ الْأَدَاءِ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى التَّبَذُّلِ فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ. وَهَلْ يَأْثَمُ بِالِامْتِنَاعِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِدُعَائِهِ، وَلِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الِامْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . وَالثَّانِي، لَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَدْعُ إلَيْهَا. فَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . فَقَدْ قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ، فَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ خَبَرٌ، مَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ فَاعِلًا؛ أَيْ لَا يَضُرَّ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ مَنْ يَدْعُوهُ، بِأَنْ لَا يُجِيبَ، أَوْ يَكْتُبَ مَا لَمْ يُسْتَكْتَبْ، أَوْ يَشْهَدَ مَا لَمْ يُسْتَشْهَدْ بِهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ " يُضَارَّ " فِعْلَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَيَكُونَ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْفَتْحِ وَاحِدًا؛ أَيْ لَا يُضَرُّ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ بِأَنْ يَقْطَعَهُمَا عَنْ شُغْلِهِمَا بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَيُمْنَعَا حَاجَتَهُمَا. وَاشْتِقَاقُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَمَّا يُشَاهِدُهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِخَبَرِهِ جَعَلَ الْحَاكِمَ كَالْمُشَاهِدِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَتُسَمَّى بَيِّنَةً؛ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ، وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ. [مَسْأَلَة الشُّهُود فِي الزِّنَى] (8331) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَى إلَّا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ عُدُولٍ أَحْرَارٍ مُسْلِمِينَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . فِي آيٍ سِوَاهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ، وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك» فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمْ مُسْلِمِينَ، عُدُولًا، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا أَحْرَارًا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا الْعَبِيدِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَشَذَّ أَبُو ثَوْرٍ، فَقَالَ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: تَجُوزُ شَهَادَةُ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ وَاحِدٌ مِنْ عَدَدِ الرِّجَالِ، فَقَامَ مَقَامَهُ امْرَأَتَانِ، كَالْأَمْوَالِ. وَلَنَا، ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَلَفٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي الْمَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ بِالشُّبُهَاتِ يَنْدَرِئُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأَمْوَالِ؛ لِخِفَّةِ حُكْمِهَا، وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِهَا، لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا، وَالِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِهَا، وَلِهَذَا زِيدَ فِي عَدَدِ شُهُودِ الزِّنَى عَلَى شُهُودِ الْمَالِ. (8332) فَصْلٌ: وَفِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ؛ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَقَارِيرِ. وَالثَّانِي، لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لَحَدِّ الزِّنَى، أَشْبَهَ فِعْلَهُ. [مَسْأَلَة الشُّهُود فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ] (8333) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ، مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ) وَهَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْعُقُوبَاتُ، وَهِيَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ؛ قِيَاسًا عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاطُ لِدَرْئِهِ وَإِسْقَاطِهِ، وَلِهَذَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِهِ، وَفِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ شُبْهَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] . وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ، مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْمَالِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، مَا خَلَا الزِّنَى، إلَّا الْحَسَنَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَتْلِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إتْلَافُ النَّفْسِ، فَأَشْبَهَ الزِّنَى. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَأَشْبَهَ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوَصْفِ لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَى حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ. وَيُعْتَبَرُ فِي شُهَدَاءِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ، مَا يُعْتَبَرُ فِي شُهَدَاءِ الزِّنَى، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِي، مَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ كَالنِّكَاحِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالظِّهَارِ، وَالنَّسَبِ، وَالتَّوْكِيلِ، وَالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْكِتَابَةِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا. فَقَالَ الْقَاضِي: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ذَكَرَيْنِ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْوَكَالَةِ: إنْ كَانَتْ بِمُطَالَبَةِ دَيْنٍ - يَعْنِي تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ - فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ؛ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي اقْتِضَاء الدَّيْنِ يُقْصَدُ مِنْهَا الْمَالُ، فَيُقْبَلُ فِيمَا شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، كَالْحَوَالَةِ. قَالَ الْقَاضِي: فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا، أَنَّ النِّكَاحَ وَحُقُوقَهُ، مِنْ الرَّجْعَةِ وَشِبْهِهَا، لَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَمَا عَدَاهُ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُخَرَّجُ فِي النِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَرَبِيعَةَ، فِي الطَّلَاقِ. وَالثَّانِيَةُ، تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عَنْ عَطَاءٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَيَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، كَالْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلنِّسَاءِ فِي شَهَادَتِهِ مَدْخَلٌ، كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ تُصُوِّرَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُرْتَابَةً بِالْحَمْلِ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. (8334) فَصْلٌ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِعْسَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثَلَاثَةِ؛ لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 «حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ» . قَالَ أَحْمَدُ: هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنَّهُ وَصَّى، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ فِي الرَّجُلِ: يُوَصِّي وَلَا يَحْضُرُهُ إلَّا النِّسَاءُ. قَالَ: أُجِيزُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَثْبَتَ الْوَصِيَّةَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ، إذَا لَمْ يَحْضُرْهُ الرِّجَالُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَذْهَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَحَدِيثُ قَبِيصَةَ فِي حِلِّ الْمَسْأَلَةِ، لَا فِي الْإِعْسَارِ. (8335) فَصْلٌ: وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَلِئَلَّا يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ أَوْلَى. قَالَ أَحْمَدُ، وَمَالِكٌ، فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، لَا يَقَعُ فِي حَدٍّ، وَلَا نِكَاحٍ، وَلَا طَلَاقٍ، وَلَا عَتَاقَةٍ، وَلَا سَرِقَةٍ، وَلَا قَتْلٍ. وَقَدْ قَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، وَأَتَى بِشَاهِدٍ، حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَصَارَ حُرًّا. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ فِي شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ، ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ حَقَّهُ مِنْهُ، وَكَانَا مُعْسِرَيْنِ عَدْلَيْنِ: فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَصِيرَ حُرًّا، أَوْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَصِيرَ نِصْفُهُ حُرًّا. فَيَخْرُجَ مِثْلُ هَذَا فِي الْكِتَابَةِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْوَصِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ، فَيَكُونَ فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ، مَا خَلَا الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ، وَالنِّكَاحَ، وَحُقُوقَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَشَرْت جِبْرِيلَ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَأَشَارَ عَلَيَّ فِي الْأَمْوَالِ، لَا تُعِدَّ ذَلِكَ» . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؟» قَالَ: نَعَمْ فِي الْأَمْوَالِ. وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ غَيْرِهِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، بِإِسْنَادِهِمْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 [مَسْأَلَة الشُّهُود فِي الْأَمْوَالِ] (8336) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَرَجُلٍ عَدْلٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمَالَ كَالْقَرْضِ، وَالْغَصْبِ، وَالدُّيُونِ كُلِّهَا، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ كَالْبَيْعِ، وَالْوَقْفِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالصُّلْحِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ؛ كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ، وَعَمْدِ الْخَطَأِ، وَالْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْمَالِ دُونَ الْقِصَاصِ، كَالْجَائِفَةِ، وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ، يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَثْبُتُ الْجِنَايَةُ فِي الْبَدَنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ، فَأَشْبَهَتْ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهَا الْمَالُ، فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ، وَفَارَقَ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ. وَالْمَالُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] . إلَى قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ. [فَصْلٌ ثُبُوتَ الْمَالِ لِمُدَّعِيهِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ] (8337) فَصْلٌ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ ثُبُوتَ الْمَالِ لِمُدَّعِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَشُرَيْحٍ، وَإِيَاسَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، نَقَضْت حُكْمَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . فَمَنْ زَادَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ زَادَ فِي النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ نَسْخٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . فَحَصَرَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا حَصَرَ الْبَيِّنَةَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي. وَلَنَا، مَا رَوَى سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ.» رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ "، وَالْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَمَسْرُوقٍ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: إسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ، وَقَوِيَ جَانِبُهُ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ لِقُوَّةِ جَنْبِهِ بِهَا، وَفِي حَقِّ الْمُنْكِرِ لِقُوَّةِ جَنْبِهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَالْمُدَّعِي هَاهُنَا قَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ، فَوَجَبَ أَنْ تُشْرَعَ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِ. وَلَا حَجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ نَسْخٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، وَالزِّيَادَةُ فِي الشَّيْء تَقْرِيرٌ لَهُ، لَا رَفْعٌ، وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَرْفَعُهُ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ لَمْ تَرْفَعْهُ، وَلَمْ تَكُنْ نَسْخًا، فَكَذَلِكَ إذَا انْفَصَلَتْ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي التَّحَمُّلِ دُونَ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] . وَالنِّزَاعُ فِي الْأَدَاءِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ هُوَ لِلْحَصْرِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعَ فِي حَقِّ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَتَلَفَهَا، وَفِي حَقِّ الْأُمَنَاءِ لِظُهُورِ جِنَايَتِهِمْ، وَفِي حَقِّ الْمُلَاعِنِ، وَفِي الْقَسَامَةِ، وَتُشْرَعُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي نَقْضِ قَضَاءِ مَنْ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِنَقْضِ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الَّذِينَ قَضَوْا بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وَالْقَضَاءُ بِمَا قَضَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمُخَالِفِ لَهُ.: [يَحْلِف عَلَى مَا لَا تَسُوغُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ] (8338) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنَّ يَحْلِفَ عَلَى مَا لَا تَسُوغُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ مِثْلُ أَنْ يَجِدَ بِخَطِّهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى إنْسَانٍ، وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إلَّا حَقًّا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ، أَوْ يَجِدَ فِي رزمانج أَبِيهِ بِخَطِّهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى إنْسَانٍ، وَيَعْرِفَ مِنْ أَبِيهِ الْأَمَانَةَ، وَأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إلَّا حَقًّا، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِحَقِّ أَبِيهِ ثِقَةٌ، فَسَكَنَ إلَيْهِ، جَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ لِغَيْرِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ لَهُ الشَّهَادَةُ قَدْ زَوَّرَ عَلَى خَطِّهِ، وَلَا يَحْتَمِلُ هَذَا فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا هُوَ لِلْحَالِفِ، فَلَا يُزَوِّرُ أَحَدٌ عَلَيْهِ. الثَّانِي، أَنَّ مَا يَكْتُبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ حُقُوقِهِ يَكْثُرُ فَيَنْسَى بَعْضَهُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 [فَصْل لَا فَرْقَ فِي قَبُول الشَّهَادَة بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا] (8339) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ مَنْ شُرِعَتْ فِي حَقِّهِ الْيَمِينُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَالْمُنْكِرِ إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ. [فَصْل الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ] (8340) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ، اسْتَحْلَفَ الْمَطْلُوبَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ: فَإِنْ أَبَى الْمَطْلُوبُ أَنْ يَحْلِفَ، ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي] (8341) فَصْلٌ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْأَمْوَالِ أُقِيمَتَا مُقَامَ الرَّجُلِ، فَحَلَفَ مَعَهُمَا، كَمَا يَحْلِفُ مَعَ الرَّجُلِ. وَلَنَا، أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَالِ إذَا خَلَتْ مِنْ رَجُلٍ لَمْ تُقْبَلْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ أُقِيمَتَا مُقَامَ رَجُلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَكَفَى أَرْبَعُ نِسْوَةٍ مَقَامَ رَجُلَيْنِ، وَلَقُبِلَ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ ضَعِيفَةٌ، تَقَوَّتْ بِالرَّجُلِ، وَالْيَمِينَ ضَعِيفَةٌ، فَيُضَمُّ ضَعِيفٌ إلَى ضَعِيفٍ، فَلَا يُقْبَلُ. [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ] (8342) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ، أَوْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَجَبَ لَهُ الْمَالُ الْمَشْهُودُ بِهِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا، وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ فِي الْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا، فَأَقَامَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، لَمْ يَثْبُتْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ السَّرِقَةَ تُوجِبُ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ مَعًا، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ مُوجَبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالدِّيَةُ بَدَلٌ عَنْهُ، وَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُبْدَلُ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالِاخْتِيَارِ، أَوْ التَّعَذُّرِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجِبُ الْمَالُ فِي السَّرِقَةِ أَيْضًا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلٍ يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْمَالَ، فَإِذَا بَطَلَتْ فِي إحْدَاهُمَا بَطَلَتْ فِي الْأُخْرَى. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ضَرَبَ أَخَاهُ بِسَهْمٍ عَمْدًا فَقَتَلَهُ، وَنَفَذَ إلَى أَخِيهِ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ خَطَأً، وَأَقَامَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 بِذَلِكَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ، ثَبَتَ قَتْلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ مُوجَبُهُ الْمَالُ، وَلَمْ يَثْبُتْ قَتْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ مُوجَبُهُ الْقِصَاصُ، فَهُمَا كَالْجِنَايَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوجَبُهَا الْمَالَ أَوْ غَيْرَهُ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ وَغَصَبَهُ مَالًا، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا سَرَقَ مِنْهُ وَلَا غَصَبَهُ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ شَهِدَا بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ، أَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ، اسْتَحَقَّ الْمَسْرُوقَ وَالْمَغْصُوبَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِبَيِّنَةِ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِمِثْلِهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي الْمَالِ دُونَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَذْهَبِنَا، إلَّا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ عَنْ أَصْحَابِنَا. [فَصْل ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ] (8343) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَأَنَّ ابْنَهَا ابْنُهُ مِنْهَا، وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ حُكِمَ لَهُ بِالْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ وَطْأَهَا وَإِجَارَتَهَا وَتَزْوِيجَهَا، وَيَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَنْفُذُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نَسَبَهُ، وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ وَيَدَّعِي حُرِّيَّتَهُ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا يُقَرُّ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ مَمْلُوكًا لَهُ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَيَكُونُ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الْعَيْنُ ثَبَتَ لَهُ نَمَاؤُهَا، وَالْوَلَدُ نَمَاؤُهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ، كَقَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ مِلْكًا، وَإِنَّمَا يَدَّعِي حُرِّيَّتَهُ وَنَسَبَهُ، وَهَذَانِ لَا يَثْبُتَانِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، فَيَبْقَيَانِ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ خَالِع امْرَأَتَهُ فَأَنْكَرَتْ] (8344) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ خَالَعَ امْرَأَتَهُ، فَأَنْكَرَتْ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْمَالَ الَّذِي خَالَعَتْ بِهِ، وَإِنْ ادَّعَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْصِدُ مِنْهُ إلَّا الْفَسْخَ وَخَلَاصَهَا مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ. [مَسْأَلَة شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ] (8345) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُقْبَلُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، مِثْلُ الرَّضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالْعِدَّةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا، شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَدْلٍ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْجُمْلَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ؛ الْوِلَادَةُ، وَالِاسْتِهْلَالُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْعُيُوبُ تَحْتَ الثِّيَابِ كَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ وَالْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ وَالْبَرَصِ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ عَلَى الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مَحَارِمُ الْمَرْأَةِ مِنْ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، كَالنِّكَاحِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: «تَزَوَّجْت أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَأَتَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا كَاذِبَةٌ. قَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لِلنِّسَاءِ فِيهَا مَدْخَلٌ فَقُبِلَ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، كَالْوِلَادَةِ، وَتُخَالِفُ الْعَقْدَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ لَا تُقْبَلُ فِي الِاسْتِهْلَالِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حَالَ الْوِلَادَةِ، فَيَتَعَذَّرُ حُضُورُ الرِّجَالِ، فَأَشْبَهَ الْوِلَادَةَ نَفْسَهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا فِي الِاسْتِهْلَالِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. إلَّا أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ. وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَحَمَّادٌ. (8346) فَصْلٌ: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ. فَإِنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ سَوْدَاءَ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا تُقْبَلُ فِيهِ إلَّا امْرَأَتَانِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ كَفَى فِيهِ اثْنَانِ، كَالرِّجَالِ، وَلِأَنَّ الرِّجَالَ أَكْمَلُ مِنْهُنَّ عَقْلًا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يَكْفِي ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ قُبِلَ فِيهِ النِّسَاءُ، كَانَ الْعَدَدُ ثَلَاثَةً، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي وِلَادَةِ الزَّوْجَاتِ دُونَ وِلَادَةِ الْمُطَلَّقَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَرْبَعٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْحُرِّيَّةُ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهَا الْوَاحِدَةُ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجْت أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَجِئْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ ذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَكَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى حُذَيْفَةُ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ» . ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ. وَرَوَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُجْزِئُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ» . وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالرِّوَايَةِ وَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ. فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَشْهَدُ فِيهِ مَعَ الرَّجُلِ.» (8347) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِهَا وَحْدَهَا، فَلَأَنْ يُكْتَفَى بِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، قُبُلِ فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ، كَالرِّوَايَةِ. [مَسْأَلَة حُكْم أَدَاءَ الشَّهَادَةِ] (8348) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهَا عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، لَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ عَنْ إقَامَتِهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، بِأَنْ لَا يَتَحَمَّلَهَا مَنْ يَكْفِي فِيهَا سِوَاهُ، لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِهَا. وَإِنْ قَامَ بِهَا اثْنَانِ غَيْرُهُ، سَقَطَ عَنْهُ أَدَاؤُهَا. إذَا قَبِلَهَا الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ تَحَمَّلَهَا جَمَاعَةٌ، فَأَدَاؤُهَا وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ، إذَا امْتَنَعُوا أَثِمُوا كُلُّهُمْ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ، فَلَزِمَهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ طَلَبِهِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَتِهَا، أَوْ تَضَرَّرَ بِهَا، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] . [فَصْلٌ أَخْذُ الْجَعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ] (8349) فَصْلٌ: وَمَنْ لَهُ كِفَايَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ فَرْضٍ، فَإِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَقَعَ مِنْهُمْ فَرْضًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ، وَلَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُهُ؛ وَالنَّفَقَةَ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ، احْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ عَيْنٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ لِمَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ] (8350) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا أَدْرَكَهُ مِنْ الْفِعْلِ نَظَرًا، أَوْ سَمِعَهُ تَيَقُّنًا، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، شَهِدَ بِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] . وَتَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْفُؤَادِ، وَهُوَ يَسْتَنِدُ إلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ وَلِأَنَّ مَدْرَكَ الشَّهَادَةِ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ، وَهُمَا بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشَّهَادَةِ، قَالَ: هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ، فِي " الْجَامِعِ " بِإِسْنَادِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَدْرَكَ الْعِلْمِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ اثْنَانِ، الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ، وَمَا عَدَاهُمَا مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ كَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْأَغْلَبِ. فَأَمَّا مَا يَقَعُ بِالرُّؤْيَةِ، فَالْأَفْعَالُ؛ كَالْغَصْبِ، وَالْإِتْلَافِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الْمَرْئِيَّةُ؛ كَالْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ، وَنَحْوِهَا، فَهَذَا لَا تُتَحَمَّلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ قَطْعًا، فَلَا يُرْجَعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا السَّمَاعُ فَنَوْعَانِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 أَحَدُهُمَا، مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، مِثْلُ الْعُقُودِ؛ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَقْوَالِ، فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَا تُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ الْمُتَعَاقِدِينَ، إذَا عَرَفَهُمَا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلَامُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَشُرَيْحٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ حَتَّى يُشَاهِدَ الْقَائِلُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ تَشْتَبِهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، كَالْخَطِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا، فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ رَآهُ. وَجَوَازُ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ كَجَوَازِ اشْتِبَاهِ الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِمَنْ عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا، وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالسَّمَاعِ يَقِينًا، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ بِتَجْوِيزِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى، وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ مَحَارِمِهِنَّ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، فَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذَا. (8351) فَصْلٌ: إذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ وَنَسَبِهِ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ، وَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ حَاضِرًا بِمَعْرِفَةِ عَيْنِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ لَرَجُلٍ بِحَقِّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اسْمَ هَذَا، وَلَا اسْمَ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ، فَقَالَ: إذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا. وَهُمَا شَاهِدَانِ جَمِيعًا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَلَا يَشْهَدُ حَتَّى يَعْرِفَ اسْمَهُ. (8352) فَصْلٌ: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، فِي أَنَّهُ إذَا عَرَفَهَا وَعَرَفَ اسْمَهَا وَنَسَبَهَا، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا مَعَ غَيْبَتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا مَعَ غَيْبَتِهَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: لَا تَشْهَدْ إلَّا لِمَنْ تَعْرِفُ، وَعَلَى مَنْ تَعْرِفُ، وَلَا يَشْهَدُ إلَّا عَلَى امْرَأَةٍ قَدْ عَرَفَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ قَدْ عَرَفَ اسْمَهَا، وَدُعِيَتْ، وَذَهَبَتْ، وَجَاءَتْ، فَلْيَشْهَدْ، وَإِلَّا فَلَا يَشْهَدْ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْبَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهَا إذَا عَرَفَ عَيْنَهَا، وَنَظَرَ إلَى وَجْهِهَا. قَالَ أَحْمَدُ وَلَا يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ، حَتَّى يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَعْرِفَتَهَا. فَأَمَّا مَنْ تَيَقَّنَ مَعْرِفَتَهَا، وَتَعَرَّفَ بِصَوْتِهَا يَقِينًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا إذَا تَيَقَّنَ صَوْتَهَا، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَعَرَفَهُ عِنْدَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ لَهَا. وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِلرَّجُلِ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ. وَيَشْهَدَ عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 شَهَادَتِهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ بِتَعْرِيفِ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِتَجْوِيزِهِ الشَّهَادَةَ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ إلَّا بِأُذْنِ زَوْجِهَا. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا بَيْتَهَا لِيَشْهَدَ عَلَيْهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَأْذَنَ عَلَى النِّسَاءِ إلَّا بِإِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ ". فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا فَجَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا صَحِيحٌ، وَتَصَرُّفَهَا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً صَحِيحٌ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِهِ. [فَصْل عَرَفَ الشَّاهِدُ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ شَهِدَ بِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ] (8353) فَصْلٌ: وَإِذَا عَرَفَ الشَّاهِدُ خَطَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ شَهِدَ بِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، فِي مَنْ يَرَى خَطَّهُ وَخَاتَمَهُ وَلَا يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ، قَالَ: لَا يَشْهَدُ إلَّا بِمَا يَعْلَمُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: يَشْهَدُ إذَا عَرَفَ خَطَّهُ، وَكَيْفَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ إلَّا هَكَذَا؟ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إذَا عَرَفَ خَطَّهُ، وَلَمْ يَحْفَظْ، فَلَا يَشْهَدْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا عِنْدَهُ، مَوْضُوعًا تَحْتَ خَتْمِهِ وَحِرْزِهِ، فَيَشْهَدُ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَقَالَ أَيْضًا: إذَا كَانَ رَدِيءَ الْحِفْظِ، فَيَشْهَدُ وَيَكْتُبُهَا عِنْدَهُ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدُ إذَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ بِخَطِّهِ فِي حِرْزِهِ، وَلَا يَشْهَدُ إذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إذَا وَجَدَ حُكْمَهُ بِخَطِّهِ تَحْتَ خَتْمِهِ أَمْضَاهُ، وَلَا يُمْضِيه إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. [مَسْأَلَة الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ] (8354) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِهِ، شَهِدَ بِهِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ) هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ السَّمَاعِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِهَا فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةُ بِهِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ، وَلَا تُمْكِنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرْت الْمُشَاهَدَةُ، لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ، وَلَا أُمَّهُ، وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ. وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، غَيْرِ النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ؛ النِّكَاحُ، وَالْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْوَقْفُ، وَمَصْرِفُهُ، وَالْمَوْتُ، وَالْعِتْقُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالْعَزْلُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ فِي الْوَقْفِ وَالْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 وَالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِيهِ بِالْقَطْعِ، فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِعَقْدٍ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعُقُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي النِّكَاحِ، وَالْمَوْتِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِمَالٍ، أَشْبَهَ الدِّينَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: تُقْبَلُ فِي الْوَلَاءِ، مِثْلُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَتَعَذَّرُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا فِي الْغَالِبِ بِمُشَاهَدَتِهَا، أَوْ مُشَاهَدَةِ أَسْبَابِهَا، فَجَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالِاسْتِفَاضَةِ كَالنَّسَبِ. قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا مَنْ يَشْهَدُ عَلَى أَحْبَاسِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِالسَّمَاعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: السَّمَاعُ فِي الْأَحْبَاسِ وَالْوَلَاءِ جَائِزٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: اشْهَدْ أَنَّ دَارَ بُخْتَانَ لِبُخْتَانَ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْك. وَقِيلَ لَهُ: تَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَةَ امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَلَمْ تَشْهَدْ النِّكَاحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ مُسْتَفِيضًا، فَأَشْهَدُ أَقُولُ: إنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ زَوْجَاهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَشْهَدُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِمُشَاهَدَةِ السَّبَبِ. قُلْنَا: وُجُودُ السَّبَبِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ سَبَبًا يَقِينًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَيْسَ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَيَصْطَادَ صَيْدًا صَادَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْهُ، وَإِنْ تَصَوَّرَ ذَلِكَ، فَهُوَ نَادِرٌ وَقَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تُمْكِنُ الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْفِ بِاللَّفْظِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِالْعُقُودِ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يُشْهَدُ بِالْوَقْفِ الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمِلِكِ، وَكَذَلِكَ يُشْهَدُ بِالزَّوْجِيَّةِ دُونَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ وَالْوَلَاءُ، وَهَذِهِ جَمِيعُهَا لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِهَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْمِلْكِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الشَّهَادَةُ فِيهَا بِالِاسْتِفَاضَةِ، كَالْمِلْكِ سَوَاءٌ. قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ عِنْدَنَا مَنْ شَهِدَ عَلَى أَحْبَاسِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَلَى السَّمَاعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْهَدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ حَتَّى تَكْثُرَ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَيَسْمَعَهُ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ؛ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ. يَعْنِي حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي " الْمُجَرَّدِ " أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إلَى خَبَرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه لَفْظُ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ فَيْضِ الْمَاءِ؛ لِكَثْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اُكْتُفِيَ فِيهِ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ. [فَصْل الشَّهَادَة لِصَاحِبِ الدَّارِ أَوْ الْعَقَارِ اللَّذَى يَمْلِكُ حَقَّ التَّصَرُّفِ بِمِلْكِهَا] (8355) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ أَوْ عَقَارٌ، يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِالسُّكْنَى، وَالْإِعَارَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْعِمَارَةِ، وَالْهَدْمِ، وَالْبِنَاءِ، مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَشْهَدَ إلَّا بِمَا شَاهَدَهُ مِنْ الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي الْمِلْكِ، قَدْ تَكُونُ بِإِجَارَةِ وَإِعَارَةٍ وَغَصْبٍ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْيَدَ دَلِيلٌ الْمِلْكِ، وَاسْتِمْرَارَهَا مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ يُقَوِّيهَا، فَجَرَتْ مَجْرَى الِاسْتِفَاضَةِ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، كَمَا لَوْ شَاهَدَ سَبَبَ الْيَدِ، مِنْ بَيْعٍ، أَوْ إرْثٍ أَوْ هِبَةٍ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهَا عَنْ غَصْبٍ أَوْ إجَارَةٍ، يُعَارِضُهُ اسْتِمْرَارُ الْيَدِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، فَلَا يَبْقَى مَانِعًا، كَمَا لَوْ شَاهَدَ سَبَبَ الْيَدِ؛ فَإِنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْبَائِعِ غَيْرَ مَالِكٍ، وَالْوَارِثِ وَالْوَاهِبِ، لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ. كَذَا هَاهُنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَقِيَ الِاحْتِمَالُ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ، وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ إلَّا بِمَا يَعْلَمُ. قُلْنَا: الظَّنُّ يُسَمَّى عِلْمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] . وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ هَاهُنَا، فَجَازَتْ بِالظَّنِّ. [فَصْل سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَصَبِيٍّ هَذَا ابْنِي فَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ] (8356) فَصْلٌ: وَإِذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَصَبِيٍّ: هَذَا ابْنِي. جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِنَسَبِهِ. وَإِنْ سَمِعَ الصَّبِيَّ يَقُولُ: هَذَا أَبِي. وَالرَّجُلُ يَسْمَعُهُ، فَسَكَتَ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَبِ إقْرَارٌ لَهُ وَالْإِقْرَارُ يُثْبِتُ النَّسَبَ، فَجَازَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ السُّكُوتُ هَاهُنَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ جَائِزٌ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَغْلِبُ فِيهِ الْإِثْبَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فِي النِّكَاحِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَشْهَدَ مَعَ السُّكُوتِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، فَاعْتُبِرَتْ تَقْوِيَتُهُ بِالتَّكْرَارِ، كَمَا اُعْتُبِرَتْ تَقْوِيَةُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِالِاسْتِمْرَارِ. [فَصْل شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَخَلَّفَ مِنْ الْوَرَثَةِ فُلَانًا وَفُلَانًا] (8357) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ، وَخَلَّفَ مِنْ الْوَرَثَةِ فُلَانًا وَفُلَانًا، لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَا أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، فَيَكْفِي فِيهِ الظَّاهِرُ، مَعَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ بِعَدَمِ وَارِثٍ آخَرَ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، أَوْ لَمْ يَكُونَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُقْبَلَ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمْ بِوَارِثٍ آخَرَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى عَدَمِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا إنْ قَالَا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ، أَوْ بِأَرْضِ كَذَا وَكَذَا. لَمْ تُقْبَلُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْضَى بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا. وَذُكِرَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ أَيْضًا. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، وَيَعْلَمَانِ لَهُ وَارِثًا فِي غَيْرِهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا فِي هَذَا الْبَيْتِ. [مَسْأَلَة يُعْتَبَرُ فِي الشَّاهِدِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ] (8358) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَاقِلًا، مُسْلِمًا، بَالِغًا، عَدْلًا، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ يُعْتَبَرُ فِي الشَّاهِدِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدهَا، أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَيْسَ بِعَاقِلٍ، إجْمَاعًا. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَسَوَاءٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ طُفُولِيَّةٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ، وَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ، وَلَا يَتَحَرَّزُ مِنْهُ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَنَذْكُرُ هَذَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ بِحَالٍ، يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ فِي الْجِرَاحِ، إذَا شَهِدُوا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْحَالَةِ الَّتِي تَجَارَحُوا عَلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُمْ وَضَبْطُهُمْ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُلَقَّنُوا. ابْنُ الزُّبَيْرِ: إنْ أُخِذُوا عِنْدَ مُصَابِ ذَلِكَ، فَبِالْأَحْرَى أَنْ يَعْقِلُوا وَيَحْفَظُوا. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِرَةٌ، وَيُسْتَحْلَفُ أَوْلِيَاءُ الْمَشْجُوجِ. وَذَكَرَهُ عَنْ مَرْوَانَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ إذَا كَانَ ابْنَ عَشْرٍ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْعَبِيدِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ تُقْبَلُ عَلَى بَعْضٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُجِيزُونَ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا لَا يُجِيزُونَ شَهَادَتَهُمْ عَلَى رَجُلٍ، وَلَا عَلَى عَبْدٍ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَلِيٍّ، فَجَاءَهُ خَمْسَةُ غِلْمَةٍ فَقَالُوا: إنَّا كُنَّا سِتَّةَ غِلْمَةٍ نَتَغَاطَّ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 فَغَرِقَ مِنَّا غُلَامٌ. فَشَهِدَ الثَّلَاثَةُ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ، وَشَهِدَ الِاثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ، فَجَعَلَ عَلَى الِاثْنَيْنِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ خُمُسَيْهَا. وَقَضَى بِنَحْوِ هَذَا مَسْرُوقٌ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . وَقَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَقَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَالصَّبِيُّ مِمَّنْ لَا يُرْضَى. وَقَالَ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّاهِدَ الْكَاتِمَ لِشَهَادَتِهِ آثِمٌ، وَالصَّبِيُّ لَا يَأْثَمُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاهِدِ؛ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَخَافُ مِنْ مَأْثَمِ الْكَذِبِ، فَيَزَعُهُ عَنْهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ، فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْإِقْرَارِ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، كَالْمَجْنُونِ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْسَعُ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمَالِ، لَا تُقْبَلُ فِي الْجِرَاحِ، كَالْفَاسِقِ، وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمِثْلِهِ، لَا تُقْبَلُ عَلَى مِثْلِهِ، كَالْمَجْنُونِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ، الْعَدَالَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ لِذَلِكَ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . فَأَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ لَا يَرَاهُ خَصَّ الْخَائِنَ وَالْخَائِنَةَ أَمَانَاتِ النَّاسِ، بَلْ جَمِيعُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ الْقِيَامُ بِهِ أَوْ اجْتِنَابُهُ، مِنْ صَغِيرِ ذَلِكَ وَكَبِيرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ بِغَيْرِ الْعُدُولِ. وَلِأَنَّ دِينَ الْفَاسِقِ لَمْ يَزَعْهُ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتِ الدِّينِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ لَا يَزَعَهُ عَنْ الْكَذِبِ، فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِخَبَرِهِ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْفُسُوقُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ؛ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ. وَالثَّانِي، مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ، فَيُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَشَرِيكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ شَرِيكٌ: أَرْبَعَةٌ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؛ رَافِضِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ إمَامًا مُفْتَرَضَةً طَاعَتُهُ. وَخَارِجِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ حَرْبٍ. وَقَدَرِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ إلَيْهِ. وَمُرْجِئٌ. وَرَدَّ شَهَادَةَ يَعْقُوبَ، وَقَالَ: أَلَا أَرُدُّ شَهَادَةَ مِنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ؟ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: الْمُخْتَلِفُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَفْسُقُونَ بِذَلِكَ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْفُرُوعِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ. الثَّانِي، مَنْ نُفَسِّقُهُ وَلَا نُكَفِّرُهُ، وَهُوَ مَنْ سَبَّ الْقَرَابَةَ، كَالْخَوَارِجِ، أَوْ سَبَّ الصَّحَابَةَ، كَالرَّوَافِضِ، فَلَا تُقْبَلُ لَهُمْ شَهَادَةٌ لِذَلِكَ. الثَّالِثُ، مَنْ نُكَفِّرُهُ، وَهُوَ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَأَضَافَ الْمَشِيئَةَ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يُعْلَى مِثْلَ هَذَا سَوَاءً. قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا تُعْجِبُنِي شَهَادَةُ الْجَهْمِيَّةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْلِنَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. وَأَجَازَ سَوَّارٌ شَهَادَةَ نَاسٍ مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ، مِمَّنْ يَرَى الِاعْتِزَالَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرَى الشَّهَادَةَ بِالْكَذِبِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَالْخَطَّابِيَّةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي الْخَطَّابِ. يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِتَصْدِيقِهِ. وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ شَهَادَتَهُمْ، أَنَّهُ اخْتِلَافٌ لَمْ يُخْرِجْهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ، أَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْفُرُوعِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 وَلِأَنَّ فِسْقَهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَاعْتِقَادًا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَرْتَكِبُوهُ عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِهِ، بِخِلَافِ فِسْقِ الْأَفْعَالِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَنَّ الْفِسْقَ الَّذِي يَتَدَيَّنُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ لَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ عَنْ الْقَدَرِيِّ، إذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً، فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْفِسْقِ، فَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ فَاسِقٌ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، لِلْآيَةِ وَالْمَعْنَى. الشَّرْطُ الْخَامِسُ، أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا حَافِظًا لَا يَشْهَدُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُغَفَّلًا، أَوْ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ الشَّرْطُ السَّادِسُ، أَنْ يَكُونَ ذَا مُرُوءَةٍ. الشَّرْطُ السَّابِعُ، انْتِفَاءُ الْمَوَانِعِ. وَسَنَشْرَحُ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِي مَوَاضِعِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْل شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ] (8359) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَشَهَادَةَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَدَوِيِّ، صَحِيحَةٌ إذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَخْشَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى صَاحِبِ الْقَرْيَةِ. فَيَحْتَمِلَ هَذَا أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَمَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا، فِيمَا عَدَا الْجِرَاحَ، وَكَقَوْلِ الْبَاقِينَ فِي الْجِرَاحِ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» . وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، حَيْثُ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُشْهِدَ قَرَوِيًّا وَيُشْهِدَ بَدَوِيًّا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا أَرَى شَهَادَتَهُمْ رُدَّتْ إلَّا لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجَفَاءِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَفَاءِ فِي الدِّينِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، كَأَهْلِ الْقُرَى، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 عَلَى مَنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ، وَنَخُصُّهُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ مَنْ يَسْأَلُهُ الْحَاكِمُ، فَيَعْرِفُ عَدَالَتَهُ. [مَسْأَلَة الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَة] (8360) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْعَدْلُ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الَّذِي تَعْتَدِلُ أَحْوَالُهُ فِي دِينِهِ وَأَفْعَالِهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْأَحْكَامِ. أَمَّا الدِّينُ فَلَا يَرْتَكِبُ كَبِيرَةً، وَلَا يُدَاوِمُ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ، وَلَا يُجَرِّحُهُ عَنْ الْعَدَالَةِ فِعْلُ صَغِيرَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] . قِيلَ: اللَّمَمُ صِغَارُ الذُّنُوبِ. وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا؟» أَيْ لَمْ يُلِمَّ. فَإِنَّ " لَا " مَعَ الْمَاضِي بِمَنْزِلَةِ " لَمْ " مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ. وَقِيلَ: اللَّمَمُ أَنْ يُلِمَّ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَعُودَ فِيهِ. وَالْكَبَائِرُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ فِيهَا حَدٌّ، وَالْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرَ؟ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 قَالَ أَحْمَدُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ آكِلِ الرِّبَا، وَالْعَاقِّ، وَقَاطِعِ الرَّحِمِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، وَإِذَا أَخْرَجَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْأُسْطُوَانَةَ وَالْكَنِيفَ لَا يَكُونُ عَدْلًا، وَلَا يَكُونُ ابْنُهُ عَدْلًا إذَا وَرِثَ أَبَاهُ حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ عَدْلًا إذَا كَذَبَ الْكَذِبَ الشَّدِيدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذِبِهِ. وَقَالَ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ فِي حَدٍّ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ فِي عَدَاوَةٍ، وَلَا الْقَاطِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَا مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، وَلَا ضَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ» . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِيهِ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» . فَأَمَّا الصَّغَائِرُ، فَإِنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَاتِ، لَمْ يُرَدَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ. فَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَاجْتِنَابُ الْأُمُورِ الدَّنِيئَةِ الْمُزْرِيَةِ بِهِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مِنْ الْأَفْعَالِ، كَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ. يَعْنِي بِهِ الَّذِي يَنْصِبُ مَائِدَةً فِي السُّوقِ، ثُمَّ يَأْكُلُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. وَلَا يَعْنِي بِهِ أَكْلَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَالْكِسْرَةِ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ كَانَ يَكْشِفُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَغْطِيَتِهِ مِنْ بَدَنِهِ، أَوْ يَمُدُّ رِجْلَيْهِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ، أَوْ يَتَمَسْخَرُ بِمَا يُضْحِكُ النَّاسَ بِهِ، أَوْ يُخَاطِبُ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ بِالْخِطَابِ الْفَاحِشِ، أَوْ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمُبَاضَعَتِهِ أَهْلَهُ، وَنَحْوِ هَذَا مِنْ الْأَفْعَالِ الدَّنِيئَةِ، فَفَاعِلُ هَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا سُخْفٌ وَدَنَاءَةٌ، فَمَنْ رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ وَاسْتَحْسَنَهُ، فَلَيْسَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ، فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ شَتَمَ بَهِيمَةً: قَالَ الصَّالِحُونَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى، إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت» . يَعْنِي مَنْ لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ. وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ تَمْنَعُ الْكَذِبَ، وَتَزْجُرُ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ ذُو الْمُرُوءَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا دِينٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّهُ حِينَ سَأَلَهُ قَيْصَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَتِهِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنِّي كَرِهْت أَنْ يُؤْثَرَ عَنِّي الْكَذِبُ، لَكَذَبْته. وَلَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ ذَا دِينٍ. وَلِأَنَّ الْكَذِبَ دَنَاءَةٌ، وَالْمُرُوءَةُ تَمْنَعُ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 الدَّنَاءَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُرُوءَةُ مَانِعَةً مِنْ الْكَذِبِ، اُعْتُبِرَتْ فِي الْعَدَالَةِ، كَالدِّينِ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا مُخْتَفِيًا بِهِ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مُرُوءَتَهُ لَا تَسْقُطُ بِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ مَرَّةً، أَوْ شَيْئًا قَلِيلًا، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ صَغِيرَ الْمَعَاصِي لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ إذَا قَلَّ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ لَا تَخْتَلُّ بِقَلِيلِ هَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ عَادَتَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي، فِي الصِّنَاعَاتِ الدَّنِيئَةِ؛ كَالْكُسَاحِ وَالْكَنَّاسِ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَجُلٌ كَنَّاسٌ، فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ تَكْنُسُ، الزِّبْلَ؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: الْعَذِرَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْهُ كَسَبْتَ الْمَالَ، وَمِنْهُ تَزَوَّجْت، وَمِنْهُ حَجَجْت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: الْأَجْرُ خَبِيثٌ، وَمَا تَزَوَّجْت خَبِيثٌ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهُ كَمَا دَخَلْت فِيهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ فِي الْكُسَاحِ. وَلِأَنَّ هَذَا دَنَاءَةٌ يَجْتَنِبُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ، فَأَشْبَهَ الَّذِي قَبْلَهُ. فَأَمَّا الزَّبَّالُ وَالْقَرَّادُ وَالْحَجَّامُ وَنَحْوُهُمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ يَجْتَنِبُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ، فَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَالثَّانِي، تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةً. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ يَتَنَظَّفُ لِلصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَيُصَلِّيهَا، فَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَأَمَّا الْحَائِكُ وَالْحَارِسُ وَالدَّبَّاغُ، فَهِيَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الصَّنَائِعِ، فَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ. وَذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي جُمْلَةِ مَا فِيهِ وَجْهَانِ. وَأَمَّا سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا دَنَاءَةَ، فِيهَا فَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهَا، إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَحْلِفُ كَاذِبًا، أَوْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ، وَغَلَبَ هَذَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُرَدُّ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا، أَوْ لَا يَتَنَزَّهُ عَنْ النَّجَاسَاتِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ مُحَرَّمَةً؛ كَصَانِعِ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ يَكْثُرُ فِيهَا الرِّبَا، كَالصَّائِغِ وَالصَّيْرَفِيِّ، وَلَمْ يَتَوَقَّ ذَلِكَ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. [فَصْل مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لَعِبَ الْقِمَار لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَته] (8361) فَصْلٌ: فِي اللَّعِبِ: كُلُّ لَعِبٍ فِيهِ قِمَارٌ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، أَيَّ لَعِبٍ كَانَ، وَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ، وَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. وَمَا خَلَا مِنْ الْقِمَارِ، وَهُوَ اللَّعِبُ الَّذِي لَا عِوَضَ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ؛ فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَكْرُوهٌ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو مُوسَى، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَرَوَى بُرَيْدَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إذَا مَرَّ عَلَى أَصْحَابِ النَّرْدَشِيرِ، لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللَّعِبُ بِهِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءٌ لَعِبَ بِهِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، فَلَا أَرَى شَهَادَتَهُ طَائِلَةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] . وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْحَقِّ، فَيَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ. (8362) فَصْلٌ: فَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَهُوَ كَالنَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ، إلَّا أَنَّ النَّرْدَ آكَدُ مِنْهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِهِ، لَكِنْ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِهِ؛ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمَ وَسَالِمًا، وَعُرْوَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمَطَرًا الْوَرَّاقَ، وَمَالِكًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى إبَاحَتِهِ. وَحَكَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَلَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمِهَا نَصٌّ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَيُفَارِقُ الشِّطْرَنْجُ النَّرْدَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ فِي الشِّطْرَنْجِ تَدْبِيرَ الْحَرْبِ، فَأَشْبَهَ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ، وَالرَّمْيَ بِالنُّشَّابِ، وَالْمُسَابَقَةَ بِالْخَيْلِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي النَّرْدِ مَا يُخْرِجُهُ الْكَعْبَتَانِ، فَأَشْبَهَ الْأَزْلَامَ، وَالْمُعَوَّلَ فِي الشِّطْرَنْجِ عَلَى حِذْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُسَابَقَةَ بِالسِّهَامِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ. وَمَرَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقَالَ: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) . قَالَ أَحْمَدُ: أَصَحُّ مَا فِي الشِّطْرَنْجِ، قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْظُرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، لَيْسَ لِصَاحِبِ الشَّاهِ فِيهَا نَصِيبٌ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا نَصَّ فِيهَا. قَدْ ذَكَرْنَا فِيهَا نَصًّا، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى النَّرْدِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ فِيهَا تَدْبِيرَ الْحَرْبَ. قُلْنَا: لَا يُقْصَدُ هَذَا مِنْهَا، وَأَكْثَرُ اللَّاعِبِينَ بِهَا إنَّمَا يَقْصِدُونَ مِنْهَا اللَّعِبَ أَوْ الْقِمَارَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهَا عَلَى تَدْبِيرِهِ. فَهُوَ أَبْلَغُ فِي اشْتِغَالِهِ بِهَا، وَصَدِّهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: النَّرْدُ أَشَدُّ مِنْ الشِّطْرَنْجِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي النَّرْدِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، بِخِلَافِ الشِّطْرَنْجِ. وَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ كَالنَّرْدِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ مِثْلُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ فَعَلَهُ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَهُوَ كَالنَّرْدِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَنْ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، إلَّا أَنْ يَشْغَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، أَوْ يُخْرِجَهُ إلَى الْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يَلْعَبَ بِهَا عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ يَفْعَلَ فِي لَعِبِهِ مَا يُسْتَخَفُّ بِهِ مِنْ أَجْلِهِ، وَنَحْوَ هَذَا، مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ الْمُرُوءَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. [فَصْل شَهَادَة اللَّاعِب بِالْحَمَامِ يُطِيرُهَا] (8363) فَصْلٌ: وَاللَّاعِبُ بِالْحَمَامِ يُطِيرُهَا، لَا شَهَادَةَ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَانَ شُرَيْحٌ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَامٍ وَلَا حَمَّامٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ وَقِلَّةُ مُرُوءَةٍ، وَيَتَضَمَّنُ أَذَى الْجِيرَانِ بِطَيْرِهِ، وَإِشْرَافِهِ عَلَى دُورِهِمْ، وَرَمْيِهِ إيَّاهَا بِالْحِجَارَةِ. وَقَدْ «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامًا، فَقَالَ: شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً» . وَإِنْ اتَّخَذَ الْحَمَامَ لِطَلَبِ فِرَاخِهَا، أَوْ لِحَمْلِ الْكُتُبِ، أَوْ لِلْأُنْسِ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَذًى يَتَعَدَّى إلَى النَّاسِ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ. وَقَدْ رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ، «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَكَا إلَيْهِ الْوَحْشَةَ، فَقَالَ: اتَّخِذْ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ.» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 [فَصْل حُكْم الشَّهَادَة لِلْمُتَسَابِقِ فِي الْمُسَابَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا] (8364) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ، بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ عَلَى الْأَقْدَامِ، فَمُبَاحَةٌ لَا دَنَاءَةَ فِيهَا، وَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمُسَابَقَةِ. وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الثِّقَافِ، وَاللَّعِبِ بِالْحِرَابِ. وَقَدْ لَعِبَ الْحَبَشَةُ بِالْحِرَابِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَامَتْ عَائِشَةُ خَلْفَهُ تَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَتَسْتَتِرُ بِهِ، حَتَّى مَلَّتْ. وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَعَلُّمًا لِلْحَرْبِ، فَإِنَّهُ مِنْ آلَاتِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُسَابَقَةَ بِالْخَيْلِ وَالْمُنَاضَلَةَ، وَسَائِرَ اللَّعِبِ، إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا، وَلَا شَغْلًا عَنْ فَرْضٍ، فَالْأَصْلُ إبَاحَتُهُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِيهِ دَنَاءَةٌ يَتَرَفَّعُ عَنْهُ ذَوُو الْمُرُوءَاتِ، مَنَعَ الشَّهَادَةَ إذَا فَعَلَهُ ظَاهِرًا، وَتُكَرِّرَ مِنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ لَا دَنَاءَةَ فِيهِ، لَمْ تُرَدَّ بِهَا الشَّهَادَةُ بِحَالٍ. [فَصْل شَهَادَة الْمُسْتَمِع إلَى الْمَلَاهِي] (8365) فَصْلٌ: فِي الْمَلَاهِي: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ ضَرْبُ الْأَوْتَارِ وَالنَّايَاتُ، وَالْمَزَامِيرُ كُلُّهَا، وَالْعُودُ، وَالطُّنْبُورُ، وَالْمِعْزَفَةُ، وَالرَّبَابُ، وَنَحْوُهَا، فَمَنْ أَدَامَ اسْتِمَاعَهَا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا ظَهَرَتْ فِي أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، حَلَّ بِهِمْ الْبَلَاءُ» . فَذَكَرَ مِنْهَا إظْهَارَ الْمَعَازِفِ وَالْمَلَاهِي. وَقَالَ سَعِيدٌ: ثنا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ، لَا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ وَلَا تَعْلِيمُهُنَّ وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» . يَعْنِي الضَّارِبَاتِ. وَرَوَى نَافِعٌ، قَالَ: «سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا، قَالَ: فَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَنَأَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَقَالَ لِي: يَا نَافِعُ، هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْت: لَا. قَالَ: فَرَفَعَ إصْبَعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا، فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ، فِي " جَامِعِهِ " مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ "، وَقَالَ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى إبَاحَةِ الْمِزْمَارِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ عُمَرَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَمَنَعَ ابْنُ عُمَرَ نَافِعًا مِنْ اسْتِمَاعِهِ، وَلَأَنْكَرَ عَلَى الزَّامِرِ بِهَا. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ اسْتِمَاعُهَا دُونَ سَمَاعِهَا، وَالِاسْتِمَاعُ غَيْرُ السَّمَاعِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى مَنْ سَمِعَ شَيْئًا مُحَرَّمًا سَدَّ أُذُنَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] . وَلَمْ يَقُلْ: سَدُّوا آذَانَهُمْ. وَالْمُسْتَمِعُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ السَّمَاعَ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ السَّمَاعُ؛ وَلِأَنَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجَةً إلَى مَعْرِفَةِ انْقِطَاعِ الصَّوْتِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَسَدَّ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَرْجِعَ إلَى الطَّرِيقِ، وَلَا يَرْفَعَ إصْبَعَيْهِ عَنْ أُذُنَيْهِ، حَتَّى يَنْقَطِعَ الصَّوْتُ عَنْهُ، فَأُبِيحَ لِلْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ الْإِنْكَارُ وَاجِبًا، أَوْ قَبْلَ إمْكَانِ الْإِنْكَارِ؛ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ، وَقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْخَبَرُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ، فَلَعَلَّ أَبَا دَاوُد ضَعَّفَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ إلَّا مِنْ إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ. وَضَرْبٌ مُبَاحٌ؛ وَهُوَ الدُّفُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ، بَعَثَ فَنَظَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا، عَمَدَ بِالدُّرَّةِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت إنْ رَجَعْت مِنْ سَفَرِك سَالِمًا، أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا. وَرَوَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبِيحَةَ بُنِيَ بِي، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَّاتٌ يَضْرِبْنَ بِدُفٍّ لَهُنَّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مَنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إلَى أَنْ قَالَتْ إحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ: دَعِي هَذَا، وَقُولِي الَّذِي كُنْت تَقُولِينَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 وَأَمَّا الضَّرْبُ بِهِ لِلرِّجَالِ فَمَكْرُوهٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَضْرِبُ بِهِ النِّسَاءُ، وَالْمُخَنَّثُونَ الْمُتَشَبِّهُونَ بِهِنَّ، فَفِي ضَرْبِ الرِّجَالِ بِهِ تَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ، فَمَكْرُوهِ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، كَالتَّصْفِيقِ وَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ، وَإِنْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآلَةٍ وَلَا بِطَرِبٍ، وَلَا يُسْمَعُ مُنْفَرِدًا، بِخِلَافِ الْمَلَاهِي. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَا قُلْنَا. [فَصْل شَهَادَة مِنْ يَسِمَ الْغِنَاء] (8366) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْغِنَاءِ؛ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، إلَى إبَاحَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَالْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ مَعْنًى وَاحِدٌ، مُبَاحٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُنْكَرٌ، وَلَا فِيهِ طَعْنٌ. وَكَانَ الْخَلَّالُ يَحْمِلُ الْكَرَاهَةَ مِنْ أَحْمَدَ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، لَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سَمِعَ عِنْدَ ابْنِهِ صَالِحٍ قَوَّالًا، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ صَالِحٌ: يَا أَبَتِ، أَلَيْسَ كُنْت تَكْرَهُ هَذَا؟ فَقَالَ: إنَّهُ قِيلَ لِي: إنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْمُنْكَرَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى إبَاحَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْعَنْبَرِيُّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَتْ عِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَزْمُورُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهُمَا، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْغِنَاءُ زَادُ الرَّاكِبِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: هُوَ مِنْ اللَّهْوِ الْمَكْرُوهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، لَا يُعْجِبُنِي. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى تَحْرِيمِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي مَنْ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدًا يَتِيمًا، وَجَارِيَةً مُغَنِّيَةً، فَاحْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى بَيْعِهَا، تُبَاعُ سَاذَجَةً. قِيلَ لَهُ: إنَّهَا تُسَاوِي مُغَنِّيَةً ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتُسَاوَيْ سَاذَجَةً عِشْرِينَ دِينَارًا. قَالَ: لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ. وَاحْتَجُّوا عَلَى تَحْرِيمِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] . قَالَ: الْغِنَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ، قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْمُغَنِّيَاتِ، وَبَيْعِهِنَّ، وَالتِّجَارَةِ فِيهِنَّ، وَأَكْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ» . وَالصَّحُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، مَنْ اتَّخَذَ الْغِنَاءَ صِنَاعَةً، يُؤْتِي لَهُ، وَيَأْتِي لَهُ، أَوْ اتَّخَذَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً مُغَنِّينَ، يَجْمَعُ عَلَيْهِمَا النَّاسَ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ وَسُقُوطُ مُرُوءَةٍ، وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ مَعَ سَفَهِهِ عَاصٍ. مُصِرٌّ مُتَظَاهِرٌ بِفُسُوقِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُنْسِبُ نَفْسَهُ إلَى الْغِنَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَرَنَّمُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُغَنِّي لِلنَّاسِ، أَوْ كَانَ غُلَامُهُ وَجَارِيَتُهُ إنَّمَا يُغَنِّيَانِ لَهُ، انْبَنَى هَذَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ. فَمَنْ أَبَاحَهُ أَوْ كَرِهَهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ حَرَّمَهُ، قَالَ: إنْ دَاوَمَ عَلَيْهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، كَسَائِرِ الصَّغَائِرِ، وَإِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ فَعَلَهُ مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَا لَا يَشْتَهِرُ بِهِ مِنْهُ، كَسَائِرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ. وَمَنْ كَانَ يَغْشَى بُيُوتَ الْغِنَاءِ، أَوْ يَغْشَاهُ الْمُغَنُّونَ لِلسَّمَاعِ مُتَظَاهِرًا بِذَلِكَ، وَكَثُرَ مِنْهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ. وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِهِ، فَهُوَ كَالْمُغَنِّي لِنَفْسِهِ، عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ. [فَصْل شَهَادَة الْحَادِي] (8367) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحِدَاءُ، وَهُوَ الْإِنْشَادُ الَّذِي تُسَاقُ بِهِ الْإِبِلُ، فَمُبَاحٌ، لَا بَأْسَ بِهِ فِي فِعْلِهِ وَاسْتِمَاعِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ جَيِّدَ الْحِدَاءِ، وَكَانَ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَانَ أَنْجَشَةُ مَعَ النِّسَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ رَوَاحَةَ: حَرِّكْ بِالْقَوْمِ. فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ، فَتَبِعَهُ أَنْجَشَةُ، فَأَعْنَقَتْ الْإِبِلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنْجَشَةَ: رُوَيْدَكَ، رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ» . يَعْنِي النِّسَاءَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وَكَذَلِكَ نَشِيدُ الْأَعْرَابِ، وَهُوَ النَّصْبُ، لَا بَأْسَ بِهِ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْإِنْشَادِ، مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْغِنَاءِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ إنْشَادَ الشِّعْرِ، فَلَا يُنْكِرُهُ. وَالْغِنَاءُ، مِنْ الصَّوْتِ، مَمْدُودٌ مَكْسُورٌ. وَالْغِنَى، مِنْ الْمَالِ، مَقْصُورٌ. وَالْحِدَاءُ، مَضْمُومٌ مَمْدُودٌ، كَالدُّعَاءِ وَالرِّعَاءِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ، كَالنِّدَاءِ وَالْهِجَاءِ وَالْغِذَاءِ. [فَصْل شَهَادَة الشَّاعِرِ] (8368) فَصْلٌ: وَالشِّعْرُ كَالْكَلَامِ؛ حَسَنُهُ كَحَسَنِهِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكَمًا» ، «وَكَانَ يَضَعُ لَحَسَّانَ مِنْبَرًا يَقُومُ عَلَيْهِ، فَيَهْجُو مَنْ هَجَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ» . «وَأَنْشَدَهُ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَةَ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَك. فَقَالَ: قُلْ، لَا يَفْضُضْ اللَّهُ فَاكَ» . «فَأَنْشُدَهُ: مِنْ قَبْلِهَا طِبْت فِي الظِّلَالِ ... وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ » عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ: «أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَعَك مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ؟ . قُلْت: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 نَعَمْ. فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ. فَأَنْشَدْته بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ. حَتَّى أَنْشَدْته مِائَةَ قَافِيَةٍ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا، فَقِيلَ: لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مَوْزُونٌ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ شِعْرٌ، وَلَكِنَّهُ بَيْتٌ وَاحِدٌ قَصِيرٌ، فَهُوَ كَالنَّثْرِ. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قِيلَ لَهُ: مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْأَنْصَارِ، إلَّا وَقَدْ قَالَ الشِّعْرَ. قَالَ: وَأَنَا قَدْ قُلْت: يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا مَا أَرَادَا يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِيِّ ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا وَلَيْسَ فِي إبَاحَةِ الشِّعْرِ خِلَافٌ، وَقَدْ قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالِاسْتِشْهَادِ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَتَعَرُّفِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى النَّسَبِ، وَالتَّارِيخِ، وَأَيَّامِ الْعَرَبِ. وَيُقَالُ: الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ: مَعْنَى يَرِيَهُ: يَأْكُلُ جَوْفَهُ، يُقَالُ: وَرَاهُ يَرِيهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَاهُنَّ رَبِّي مِثْلُ مَا قَدْ وَرَيْنَنِي ... وَأَحْمِي عَلَى أَكْبَادِهِنَّ الْمُكَاوِيَا قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ، فَالْمُرَادُ بِهَا مَنْ أَسْرَفَ وَكَذَبَ؛ بِدَلِيلِ وَصْفِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] . ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] . وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الشُّعَرَاءِ قِلَّةُ الدِّينِ، وَالْكَذِبُ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَهِجَاءُ الْأَبْرِيَاءِ، سِيَّمَا مَنْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ، وَيَهْجُو النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَيَمْدَحُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 الْكُفَّارَ، فَوَقَعَ الذَّمُّ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْعَلُ الْخِصَالَ الْمَذْمُومَةَ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَمَدْحِ أَهْلِهِ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ؛ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الشِّعْرُ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ هِجَاءً وَفُحْشًا، فَمَا كَانَ مِنْ الشِّعْرِ يَتَضَمَّنُ هَجْوَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَدْحَ فِي أَعْرَاضِهِمْ، أَوْ التَّشَبُّبَ بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، وَالْإِفْرَاطَ فِي وَصْفِهَا، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ. وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى قَائِلِهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ، وَأَمَّا عَلَى رَاوِيهِ فَلَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْمَغَازِيَ تُرْوَى فِيهَا قَصَائِدُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هَجَوْا بِهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي تَقَاوَلَتْ بِهِ الشُّعَرَاءُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمَا، إلَّا قَصِيدَةَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الْحَائِيَّةَ» . وَكَذَلِكَ يُرْوَى شِعْرُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، فِي التَّشْبِيبِ بِعَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ، أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَأُمِّ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 وَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصِيدَةَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَفِيهَا التَّشْبِيبُ بِسُعَادَ. وَلَمْ يَزُلْ النَّاسُ يَرْوُونَ أَمْثَالَ هَذَا، وَلَا يُنْكَرُ. وَرَوَيْنَا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ دَخَلَ مَجْلِسًا فِيهِ رَجُلٌ يُغَنِّيهِمْ بِقَصِيدَةِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، فَلَمَّا دَخَلَ النُّعْمَانُ سَكَّتُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ أُمِّهِ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، إنَّمَا قَالَ: وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ ... تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانَهَا وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ فِي مَجْلِسٍ، فَغَنَّاهُمْ رَجُلٌ بِشِعْرٍ فِيهِ ذِكْرُ أُمِّهِ، فَسَكَّتُوهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَقَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّ قَائِلَ هَذَا الشِّعْرِ، كَانَ زَوْجَهَا. فَأَمَّا الشَّاعِرُ، فَمَتَى كَانَ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَمْدَحُ بِالْكَذِبِ، أَوْ يَقْذِفُ مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُرَدُّ، وَسَوَاءٌ قَذَفَ الْمُسْلِمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: أَعْظَمُ النَّاسِ ذَنْبًا، رَجُلٌ يُهَاجِي رَجُلًا، فَيَهْجُو الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا. وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ أَبَا دُلَامَةَ شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ، أَظُنُّهُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَخَافَ أَنْ يَرُدَّ شَهَادَتَهُ. فَقَالَ: إنْ النَّاسُ غَطَّوْنِي تَغَطَّيْت عَنْهُمْ ... وَإِنْ بَحَثُوا عَنِّي فَفِيهِمْ مَبَاحِثُ فَقَالَ الْقَاضِي: وَمَنْ يَبْحَثُك يَا أَبَا دُلَامَةَ. وَغَرِمَ الْمَالَ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَنَّهُ رَدَّ شَهَادَتَهُ. [فَصْل شَهَادَة قَارِئ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ] (8369) فَصْلٌ: فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ: أَمَّا قِرَاءَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَلْحِينٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ حَسَّنَ صَوْتَهُ، فَهُوَ أَفْضَلُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» . وَرُوِيَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . وَقَالَ: «لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي مُوسَى: لَقَدْ مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ، وَأَنْتَ تَقْرَأُ، وَلَقَدْ أُوتِيتُ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَسْمَعُ، لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا.» وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَبْطَأَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت يَا عَائِشَةُ؟ . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْت أَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقْرَأُ أَحْسَنَ مِنْ قِرَاءَتِهِ. فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَمَعَ قِرَاءَته، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا» . وَقَالَ صَالِحٌ: قُلْت لِأَبِي: " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ ". مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: أَنْ يُحْسِنَهُ. وَقِيلَ لَهُ: مَا مَعْنَى: " مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ". قَالَ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ. وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَتَحَزَّنُ بِهِ، وَيَتَخَشَّعُ بِهِ، وَيَتَبَاكَى بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَوَكِيعٌ: يَسْتَغْنِي بِهِ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّلْحِينِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ لَمْ يُفْرِطْ فِي التَّمْطِيطِ وَالْمَدِّ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَرَأَ، وَرَجَّعَ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ. قَالَ الرَّاوِي: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ، لَحَكَيْت لَكُمْ قِرَاءَتَهُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . وَقَالَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ» . وَمَعْنَى أَذِنَ: اسْتَمَعَ. قَالَ الشَّاعِرُ: فِي سَمَاعٍ يَأْذَنُ الشَّيْخُ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَكْرُوهٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . أَيْ: يَسْتَغْنِي بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنْت امْرَأً زَمِنًا بِالْعِرَاقِ ... عَفِيفَ الْمُنَاخِ كَثِيرَ التَّغَنِّي قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِنْ الْغِنَاءِ بِالصَّوْتِ، لَكَانَ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ: هَذَا قَوْلُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ. وَقِيلَ: يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّلْحِينِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا، لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى التَّغَنِّيَ فِي حَدِيثِ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَذِنَ: اسْتَمَعَ، وَإِنَّمَا تُسْتَمَعُ الْقِرَاءَةُ، ثُمَّ قَالَ: يَجْهَرُ بِهِ. وَالْجَهْرُ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ، لَا صِفَةُ الِاسْتِغْنَاءِ. فَأَمَّا إنْ أَفْرَطَ فِي الْمَدِّ وَالتَّمْطِيطِ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، بِحَيْثُ يَجْعَلُ الضَّمَّةَ وَاوًا، وَالْفَتْحَةَ أَلِفًا، وَالْكَسْرَةَ يَاءً، كُرِهَ ذَلِكَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُحَرِّمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ الْقُرْآنَ، وَيُخْرِجُ الْكَلِمَاتِ عَنْ وَضْعِهَا، وَيَجْعَلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يُقَالَ لَك: يَا مُوحَامَدُ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْأَلْحَانَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَرَمُهُ مِثْلَ حَرَمِ أَبِي مُوسَى. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: فَيُكَلَّمُونَ؟ فَقَالَ: لَا. كُلُّ ذَا. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّحْزِينِ وَالتَّرْتِيلِ وَالتَّحْسِينِ. وَرَوَى بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِالْحُزْنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْحُزْنِ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لِرَجُلٍ: لَوْ قَرَأْت. وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رُبَّمَا تَغَرْغَرَتْ عَيْنُهُ. وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: كُنَّا عِنْدَ يَحْيَى الْقَطَّانِ، فَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ التِّرْمِذِيُّ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: اقْرَأْ. فَقَرَأَ، فَغُشِيَ عَلَى يَحْيَى حَتَّى حُمِلَ فَأُدْخِلَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعَدَوِيُّ: قَرَأْت عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ. [فَصْل شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ] (8370) فَصْلٌ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ؛ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي طَعَامَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى إلَى طَعَامٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ، دَخَلَ سَارِقًا، وَخَرَجَ مُعَيَّرًا» . وَلِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُحَرَّمًا، وَيَفْعَلُ مَا فِيهِ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ وَذَهَابُ مُرُوءَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ هَذَا مِنْهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ. [فَصْل شَهَادَة مَنْ سَأَلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحِلَّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ] (8371) فَصْلٌ: وَمَنْ سَأَلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحِلَّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَأَكْثَرَ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَأَكَلَ سُحْتًا، وَأَتَى دَنَاءَةً. وَقَدْ رَوَى قَبِيصَةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، فَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ، يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَأَمَّا السَّائِلُ مِمَّنْ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ عُمْرِهِ سَائِلًا، أَوْ يَكْثُرَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 ذَلِكَ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَنَاءَةٌ وَسُقُوطُ مُرُوءَةٍ. وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ جَائِزٌ، لَا دَنَاءَةَ فِيهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى الْحَرَامِ. [فَصْل شَهَادَة مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْفُرُوعِ مُخْتَلِفًا فِيهِ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ] (8372) فَصْلٌ: وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْفُرُوعِ مُخْتَلِفًا فِيهِ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، كَالْمُتَزَوِّجِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَآكِلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، وَشَارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي شَارِبِ النَّبِيذِ، يُحَدُّ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ الْحَاكِمُ تَحْرِيمَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْفُرُوعِ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ يَعِيبُ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَا يُفَسِّقُهُ، وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمْ تُرَدَّ شَهَادَةُ فَاعِلِهِ، كَاَلَّذِي يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِهِ إذَا تَكَرَّرَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ، فَلَا تُرَدَّ بِهِ شَهَادَةُ الْبَعْضِ الْآخَرِ، كَالْمُتَّفَقِ عَلَى حِلِّهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ فِعْلٌ يَحْرُمُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَأْثَمُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَجْمَعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مُعْتَقِدَ حِلِّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَا يَحُجُّ: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهُ عَلَى الْفَوْرِ. فَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَتْرُكُهُ بِنِيَّةِ فِعْلِهِ، فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، كَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَنْظُرَ فِي النَّاسِ، فَمَنْ وَجَدْته يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ وَلَا يَحُجُّ، ضَرَبْت عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ] (8373) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّهُ إذَا شَهِدَ بِوَصِيَّةِ الْمُسَافِرِ الَّذِي مَاتَ فِي سَفَرِهِ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمَا، وَيُسْتَحْلَفَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا خَانَا وَلَا كَتَمَا، وَلَا اشْتَرَيَا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهَذَا قَالَ أَكَابِرُ الْمَاضِينَ. يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَمِمَّنْ قَالَهُ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ. وَقَضَى بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ، لَا تُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ كَالْفَاسِقِ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى التَّحَمُّلِ دُونَ الْأَدَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] . أَيْ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الشَّهَادَةُ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] . وَهَذَا نَصُّ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، فَرَوَى «ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامَ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ. فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] » وَعَنْ الشَّعْبِيِّ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَاءَ، وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدْهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ، فَأَخْبَرَاهُ، وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 مَا خَانَا، وَلَا كَذَبَا، وَلَا بَدَّلَا، وَلَا كَتَمَا، وَلَا غَيَّرَا، وَأَنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ، وَتَرِكَتُهُ، فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ ". وَرَوَى الْخَلَّالُ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى بِإِسْنَادِهِ. وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَدِيٍّ، وَتَمِيمٍ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ فَسَّرَهَا بِمَا قُلْنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُبَيْدَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ، لَمْ تَجِبْ الْأَيْمَانُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمْ. وَحَمْلُهَا عَلَى التَّحَمُّلِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْلَافِهِمْ، وَلَا أَيْمَانَ فِي التَّحَمُّلِ. وَحَمْلُهَا عَلَى الْيَمِينِ لَا يَصِحُّ؛ لِقَوْلِهِ: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] . وَلِأَنَّهُ عَطَفَهَا عَلَى ذَوِي الْعَدْلِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا شَاهِدَانِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَضَى بِذَلِكَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، مِنْ أَيْنَ يَعْرِفُونَهُ؟ فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَضَاءِ الصَّحَابَة بِهِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ خَالَفَهُ. [مَسْأَلَة شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ] (8374) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ) مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَمْ تُقْبَلُ. وَخَطَّأَهُ الْخَلَّالُ فِي نَقْلِهِ هَذَا، وَكَذَلِكَ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: هَذَا غَلَطٌ لَا شَكَّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: بَلْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّبْيِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النَّسَبِ، إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّ الْآخَرَ أَخُوهُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَالظَّاهِرُ غَلَطُ مَنْ رَوَى خِلَافَ ذَلِكَ. وَذَهَبَ طَائِفَة مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَى أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تُقْبَلُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ حَمَّادٍ، وَسَوَّارٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْبَتِّيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ مِلَّةٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ يَهُودِيٍّ عَلَى نَصْرَانِيٍّ، وَلَا نَصْرَانِيٍّ عَلَى يَهُودِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، كَقَوْلِنَا، وَكَقَوْلِهِمْ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَلِي عَلَى بَعْضٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، كَالْمُسْلِمِينَ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِذِي عَدْلٍ، وَلَا هُوَ مِنَّا، وَلَا مِنْ رِجَالِنَا، وَلَا مِمَّنْ نَرْضَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِ، فَلَا تُقْبَلُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، كَالْحَرْبِيِّ، وَالْخَبَرُ يَرْوِيه مُجَالِدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ ثَبَتَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَمِينَ، فَإِنَّهَا تُسَمَّى شَهَادَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللِّعَانِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] . وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَمُتَعَلِّقُهَا الْقَرَابَةُ وَالشَّفَقَةُ، وَقَرَابَتُهُمْ ثَابِتَةٌ، وَشَفَقَتُهُمْ كَشَفَقَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَازَتْ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ غَيْرَ أَهْلِ دِينِهِمْ لَا يَلِي عَلَيْهِمْ، وَالْحَاكِمُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لَكَثْرَتِهِمْ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا مُمْكِنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ دِينٍ إلَّا الْمُسْلِمِينَ» ؛ فَإِنَّهُمْ عُدُولٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ خَصْمٍ أَوْ جَارٍ إلَى نَفْسِهِ] (8375) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ، وَلَا جَارٍ إلَى نَفْسِهِ، وَلَا دَافِعٍ عَنْهَا) أَمَّا الْخَصْمُ، فَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، كُلُّ مَنْ خَاصَمَ فِي حَقٍّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ كَالْوَكِيلِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، وَلَا الْوَصِيِّ فِيمَا هُوَ وَصِيٌّ فِيهِ، وَلَا الشَّرِيكِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَلَا الْمُضَارِبِ بِمَالٍ أَوْ حَقٍّ لِلْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ غَصَبَ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودَعِ، وَطَالَبَ بِهَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بِهِ، كَالْمَالِكِ. وَالثَّانِي، الْعَدُوُّ، فَشَهَادَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى عَدُوِّهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيُرِيدُ بِالْعَدَاوَةِ هَاهُنَا الْعَدَاوَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ الْمَقْذُوفُ عَلَى الْقَاذِفِ، وَالْمَقْطُوعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَالْمَقْتُولُ وَلِيُّهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَالْمَجْرُوحُ عَلَى الْجَارِحِ، وَالزَّوْجُ يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَى، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَاوَتِهِ لَهَا، لِإِفْسَادِهَا فِرَاشَهُ. فَأَمَّا الْعَدَاوَةُ فِي الدِّينِ، كَالْمُسْلِمِ يَشْهَدُ عَلَى الْكَافِرِ، أَوْ الْمُحِقِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَشْهَدُ عَلَى مُبْتَدَعٍ، فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ بِالدِّينِ، وَالدِّينُ يَمْنَعُهُ مِنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ دِينِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَمْنَعُ الْعَدَاوَةُ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ، فَلَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، كَالصَّدَاقَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الْغِمْرُ: الْحِقْدُ. وَلِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تُورِثَ التُّهْمَةَ. فَتَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، كَالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَتُخَالِفُ الصَّدَاقَةَ؛ فَإِنَّ فِي شَهَادَةِ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ بِالزُّورِ نَفْعَ غَيْرِهِ بِمَضَرَّةِ نَفْسِهِ، وَبَيْعَ آخِرَتِهِ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ يَقْصِدُ بِهَا نَفْعَ نَفْسِهِ، بِالتَّشَفِّي مِنْ عَدُوِّهِ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَبِلْتُمْ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ مَعَ الْعَدَاوَةِ؟ قُلْنَا: الْعَدَاوَةُ هَاهُنَا دِينِيَّةٌ، وَالدِّينُ لَا يَقْتَضِي شَهَادَةَ الزُّورِ، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ دِينَهُ بِمُوجِبِ دِينِهِ. [فَصْل شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقِّ فَقَذَفَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ] (8376) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، فَقَذَفَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ بِهَذَا لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ إبْطَالٍ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقْذِفَهُ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَقَبْلَ الْحُكْمِ، فَإِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ فِيهِ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، بَلْ إلَى عَكْسِهِ، وَلِأَنَّ طَرَيَان الْفِسْقِ يُورِثُ تُهْمَةً فِي حَالِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ إسْرَارُهُ، فَظُهُورُهُ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسِرُّهُ حَالَةَ أَدَائِهَا، وَهَا هُنَا حَصَلَتْ الْعَدَاوَةُ بِأَمْرِ لَا تُهْمَةَ عَلَى الشَّاهِدِ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُحَاكَمَةُ فِي الْأَمْوَالِ، فَلَيْسَتْ بِعَدَاوَةِ تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ فِي غَيْرِ مَا حَاكِمَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا جَارٍ إلَى نَفْسِهِ. فَإِنَّ الْجَارَ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِشَهَادَتِهِ، وَيَجُرُّ إلَيْهِ بِهَا نَفْعًا؛ كَشَهَادَةِ الْغُرَمَاءِ لِلْمُفْلِسِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، وَشَهَادَتِهِمْ لِلْمَيِّتِ بِدَيْنٍ أَوْ مَالٍ، فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لِلْمُفْلِسِ أَوْ الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ مَالٌ، تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِهِ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ شَهِدَ الْغُرَمَاءُ لَحَيٍّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِمَالٍ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُعْسِرًا سَقَطَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَإِذَا شَهِدَا لَهُ بِمَالٍ، مَلَكَا مُطَالَبَتَهُ، فَجَرُّوا إلَى أَنْفُسِهِمْ نَفْعًا. قُلْنَا: لَمْ تَثْبُتْ الْمُطَالَبَةُ بِشَهَادَتِهِمْ، إنَّمَا تَثْبُتُ بِيَسَارِهِ وَإِقْرَارِهِ؛ لِدَعْوَاهُ الْحَقَّ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِلْمَوْرُوثِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْرِي الْجَرْحُ إلَى نَفْسِهِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ لَهُمْ بِشَهَادَتِهِمْ. وَلَا شَهَادَةُ الشَّفِيعِ بِبَيْعِ شِقْصٍ لَهُ فِيهِ الشُّفْعَةُ. وَلَا شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا لِمُكَاتَبِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ. وَقَالَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَبِلْتُمْ شَهَادَةَ الْوَارِثِ لِمَوْرُوثِهِ، مَعَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَرِثَهُ، فَقَدْ جَرَّ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 قُلْنَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِهِ حِينَ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ حَقٌّ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ لَامْرَأَةٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ لِغَرِيمِ لَهُ بِمَالٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُوَفِّيَهُ مِنْهُ، أَوْ يُفْلِسَ، فَيَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مَا يَحْصُلُ لِلشَّاهِدِ بِهِ نَفْعٌ حَالَ الشَّهَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ مَنَعْتُمْ قَبُولَ شَهَادَتِهِ لِمَوْرُوثِهِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقٌّ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ حَقِّهِ. قُلْنَا: يَبْطُلُ بِالشَّاهِدِ لِمَوْرُوثِهِ الْمَرِيضِ بِحَقٍّ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ مَعَ انْعِقَادِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ عَطِيَّتَهُ لَهُ لَا تَنْفُذُ، وَعَطِيَّتَهُ لِغَيْرِهِ تَقِفُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الثُّلُثِ. قُلْنَا: إنَّمَا مَنَعْنَا الشَّهَادَةَ لِمَوْرُوثِهِ بِالْجَرْحِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْمَوْتِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْوَارِثِ الشَّاهِدِ بِهِ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ، مُوجِبًا لَهُ بِهَا حَقًّا ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ لِلْمَرِيضِ أَوْ الْمَجْرُوحِ بِمَالٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ، فَلَمْ يَمْنَعْ الشَّهَادَةَ لَهُ، كَالشَّهَادَةِ لِغَرِيمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، كَمَا أَجَزْتُمْ شَهَادَتَهُ لَهُ بِمَالِهِ؟ . قُلْنَا: إنَّمَا أَجَزْنَاهَا لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ لِلشَّاهِدِ ابْتِدَاءً، إنَّمَا تَجِبُ لِلْقَتِيلِ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي الْغَرِيمُ مِنْهَا، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ لَهُ بِالْمَالِ. وَأَمَّا الدَّافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَمِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ، أَوْ تَشْهَدَ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ خَطَأً بِجَرْحِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ بِالْجَرْحِ فَقِيرَيْنِ، اُحْتُمِلَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْمِلَانِ شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يُوسِرَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَيَحْمِلَا. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْبَعِيدِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ لِبُعْدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَمُوتَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَيَحْمِلَ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْحَقِّ، أَوْ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ. وَلَا شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَفِّرُ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَا شَهَادَةُ بَعْضِ غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِإِسْقَاطِ دَيْنِهِ، أَوْ اسْتِيفَائِهِ. وَلَا بَعْضِ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ عَلَى آخَرَ، بِمَا يُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ، إذَا كَانَتْ وَصِيَّتُهُ تَحْصُلُ بِهَا مُزَاحَمَتُهُ؛ إمَّا لِضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا، أَوْ لِكَوْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ بِمُعَيَّنٍ. فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ مُتَّهَمٌ؛ لِمَا يَحْصُلُ بِشَهَادَتِهِ مِنْ نَفْعِ نَفْسِهِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، فَيَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ. وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ، أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ خَصْمٍ، وَلَا ظَنِينٍ. وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ. وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا شَهَادَةَ لَخَصْمٍ، وَلَا ظَنِينٍ» . وَمِمَّنْ رَدَّ شَهَادَةَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 [فَصْل شَهِدَ الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ فِي غَيْرِ مَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ] (8377) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ، فِي غَيْرِ مَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، أَوْ الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ، فِي غَيْرِ مَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، أَوْ الْعَدُوُّ لِعَدُوِّهِ، أَوْ الْوَارِثُ لِمَوْرُوثِهِ بِمَالٍ، أَوْ بِالْجَرْحِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ، بَعْدَ أَنْ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ عَلَى الْآخَرِ، بِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ، أَوْ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ بَعْدَ سُقُوطِ وَصِيَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ، بِمَا يُسْقِطُ وَصِيَّتَهُ، أَوْ كَانَتْ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ لَا تُزَاحِمُ الْأُخْرَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ مُتَحَقِّقٌ، وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ فَوَجَبَ قَبُولُهَا، عَمَلًا بِالْمُقْتَضِي. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالْغَفْلَةِ] (8378) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالْغَفْلَةِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الشَّاهِدِ أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِقَوْلِهِ؛ لِتَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ، وَلِذَلِكَ اعْتَبَرْنَا الْعَدَالَةَ، وَمَنْ يَكْثُرُ غَلَطُهُ وَتَغَفُّلُهُ، لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَلَطَاتِهِ، فَرُبَّمَا شَهِدَ عَلَى غَيْرِ مَنْ اُسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ، أَوْ لِغَيْرِ مَنْ شَهِدَ لَهُ، أَوْ بِغَيْرِ مَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ مُغَفَّلًا، فَرُبَّمَا اسْتَزَلَّهُ الْخَصْمُ بِغَيْرِ شَهَادَته، فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ. وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ وُجُودُ غَلَطٍ نَادِرٍ، أَوْ غَفْلَةٍ نَادِرَةٍ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ مَنَعَ ذَلِكَ الشَّهَادَةَ، لَانْسَدَّ بَابُهَا، فَاعْتَبَرْنَا الْكَثْرَةَ فِي الْمَنْعِ، كَمَا اعْتَبَرْنَا كَثْرَةَ الْمَعَاصِي فِي الْإِخْلَالِ بِالْعَدَالَةِ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْأَعْمَى] (8379) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى، إذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَاخْتُلِفَ عَنْ الْحَسَنِ، وَإِيَاسٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ شَهَادَتَهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّرْجَمَةِ، وَإِذَا أَقَرَّ عِنْدَ أُذُنِهِ وَيَدُ الْأَعْمَى عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ ضَبَطَهُ حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُجِزْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ، لَا تَجُوزُ عَلَى الْأَقْوَالِ، كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الْأَصْوَاتَ تَشْتَبِهُ، فَلَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، كَالْخَطِّ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . وَسَائِرُ الْآيَاتِ فِي الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، كَالْبَصِيرِ، وَفَارَقَ الصَّبِيَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرَجُلٍ وَلَا عَدْلٍ وَلَا مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 وَلِأَنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ أَلِفَهُ الْأَعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِيمَا تَيَقَّنَهُ، كَالْبَصِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِ حُصُولِ الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: لِلسَّمْعِ قِيَافَةٌ كَقِيَافَةِ الْبَصَرِ. وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَسْمَعَهَا مِنْ عَدْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُمَا حَتَّى يَعْرِفَ عَدَالَتَهُمَا، فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَعْرِفَ الشَّاهِدَيْنِ، صَحَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُقِرَّ. وَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِ رِوَايَته، وَجَوَازِ اسْتِمَاعِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ إذَا عَرَفَ صَوْتَهَا، وَصِحَّةِ قَبُولِهِ النِّكَاحَ، وَجَوَازُ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ، كَجَوَازِ اشْتِبَاهِ الصُّوَرِ، وَفَارَقَ الْأَفْعَالَ؛ فَإِنَّ مَدْرَكِهَا الرُّؤْيَةُ، وَهِيَ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ مِنْ الْأَعْمَى، وَالْأَقْوَالُ مَدْرَكُهَا السَّمْعُ، وَهُوَ يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِيهِ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ، يُفَارِقُ الْخَطَّ، فَإِنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ مَنْ كَتَبَ الْخَطَّ، أَوْ رَآهُ وَهُوَ يَكْتُبُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا كَتَبَ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ، وَعَلِمَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا. فَإِنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ صَوْتَ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْبَصِيرِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ. [فَصْل تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلٍ ثُمَّ عَمِيَ] (8380) فَصْلٌ: فَإِنْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلٍ، ثُمَّ عَمِيَ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، إذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ حَاسَّةٍ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَالصَّمَمِ، وَيُفَارِقُ الْحُكْمَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ لَهُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ مَا لَا يُعْتَبَرُ لِلشَّهَادَةِ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ لَهُ السَّمْعُ وَالِاجْتِهَادُ وَغَيْرُهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، لَكِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ؛ لِكَثْرَةِ إلْفِهِ لَهُ، صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَعَ صِحَّةِ النُّطْقِ، فَمَنَعَ الْحُكْمَ بِهَا، كَالْفِسْقِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، لَا يُورِثُ تُهْمَةً فِي حَالِ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَهَا كَالْمَوْتِ، وَفَارَقَ الْفِسْقَ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ تُهْمَةً حَالَ الشَّهَادَةِ. [فَصْل شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ] (8381) فَصْلٌ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِحَالٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ قِيلَ لَهُ: وَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 كَتَبَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تُقْبَلُ إذَا فُهِمَتْ إشَارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي أَحْكَامِهِ، مِنْ طَلَاقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، فَكَذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الصَّلَاةِ إلَى النَّاسِ وَهُمْ قِيَامٌ، أَنَّ اجْلِسُوا. فَجَلَسُوا. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْإِشَارَةِ، فَلَمْ تَجُزْ، كَإِشَارَةِ النَّاطِقِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ، وَلِذَلِكَ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَاءِ النَّاطِقِ، وَلَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ بِإِشَارَتِهِ فِي أَحْكَامِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُمْضِي حُكْمَهُ إذَا وَجَدَ حُكْمَهُ بِخَطِّهِ تَحْتَ خَتْمِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ، وَالشَّاهِدُ لَا يَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ خَطِّهِ، فَلَأَنْ لَا حُكْمَ بِخَطِّ غَيْرِهِ أَوْلَى. وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَعَمِلَ بِإِشَارَتِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ شَهِدَ النَّاطِقُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، لَمْ يَصِحَّ إجْمَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُفَارِقَةٌ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا لَلْوَلَدِ وَإِنْ سَفُلَ] (8382) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا، لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفُلَ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفُلَ، لَهُمَا وَإِنْ عَلَوَا. ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ لَا تُقْبَلُ، وَلَا لِوَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ سَفُلَ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لَوَالِدِهِ، وَلَا لِوَالِدَتِهِ، وَلَا جَدِّهِ، وَلَا جَدَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَآبَاؤُهُمَا وَأُمَّهَاتُهُمَا. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَبِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَالَ الِابْنِ فِي حُكْمِ مَالِ الْأَبِ، لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ إذَا شَاءَ، فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَجُرُّ بِهَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . وَقَالَ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» . وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فِي مَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْقِصَاصِ، وَالْمَالِ إذَا كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مَقْبُولَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمَزْنِيُّ، وَدَاوُد، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِعُمُومِ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ» . وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالْأَبُ يُتَّهَمُ لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ كَمَا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةً، فَكَأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» . وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الشَّهَادَةِ لِوَلَدِهِ، كَتُهْمَةِ الْعَدُوِّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْخَبَرُ أَخُصُّ مِنْ الْآيَاتِ، فَتُخَصُّ بِهِ. [فَصْل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْوَالِد وَوَلَده] (8383) فَصْلٌ: فَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَتُقْبَلُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ فِي " الْجَامِعِ " فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] . فَأَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَمَا أَمَرَ بِهَا، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ فِي إيصَالِ النَّفْعِ، وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ، كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ لَمَّا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ فِي إيصَالِ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ، كَانَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ مَقْبُولًا. وَحَكَى الْقَاضِي، فِي الْمُجَرَّدِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا لَا تُقْبَلُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ، كَالْفَاسِقِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ فِي قِصَاصٍ، وَلَا حَدِّ قَذْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ لَهُ وَلَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، فَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ فِي الصِّدْقِ، كَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ. [فَصْل شَهِدَ اثْنَانِ بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا وَقَذْفِ زَوْجِهَا لَهَا] (8384) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا، وَقَذْفِ زَوْجِهَا لَهَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّهِمَا لَا يَزْدَادُ بِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَبَاهُمَا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَتَوْفِيرُ الْمِيرَاثِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَارِثِ لِمَوْرُوثِهِ. [فَصْل شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَبِيهِ مِنْهَا] (8385) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأَبِيهِ مِنْهَا، وَسَائِرِ أَقَارِبه مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ الْإِنْفَاقَ، وَالصِّلَةَ، وَعِتْقُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَبَسُّطُهُ فِي مَالِهِ، بِخِلَافِ قَرَابَة النَّسَبِ. [مَسْأَلَة شَهَادَة السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَالْعَكْس] (8386) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ. أَمَّا شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» . وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ أَيْضًا بِنِكَاحٍ، وَلَا لِأَمَتِهِ بِطَلَاقٍ؛ لِأَنَّ فِي طَلَاقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا لَهُ، وَإِبَاحَةَ بِضْعِهَا لَهُ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعًا لَهُ، وَنَفْعُ مَالِ الْإِنْسَانِ نَفْعٌ لَهُ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالِابْنِ مَعَ أَبِيهِ. [مَسْأَلَة شَهَادَة الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا] (8387) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَجَازَ شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، كَالْإِجَارَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، كَقَوْلِهِمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهِ، وَلَا تُقَبِّلُ شَهَادَتُهَا لَهُ؛ لِأَنَّ يَسَارَهُ وَزِيَادَةَ حَقِّهَا مِنْ النَّفَقَةِ، تَحْصُلُ بِشَهَادَتِهَا لَهُ بِالْمَالِ، فَهِيَ مُتَّهَمَةٌ لِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ، وَيَنْبَسِطُ فِي مَالِهِ عَادَةً، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالِابْنِ مَعَ أَبِيهِ؛ وَلِأَنَّ يَسَارَ الرَّجُلِ يَزِيدُ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ، وَيَسَارَ الْمَرْأَةِ تَزِيدُ بِهِ قِيمَةُ بِضْعِهَا الْمَمْلُوكِ لِزَوْجِهَا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِشَهَادَتِهِ لِصَاحِبِهِ، فَلَمْ تُقْبَلْ، كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ. وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى الْآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 وَقَالَ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] . فَأَضَافَ الْبُيُوتَ إلَيْهِنَّ تَارَةً، وَإِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخْرَى، وَقَالَ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَقَالَ عُمَرُ، لِلَّذِي قَالَ لَهُ: إنَّ غُلَامِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي: لَا قَطَعَ عَلَيْهِ، عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ. وَيُفَارِقُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ] (8388) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَشَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ جَائِزَةٌ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَع أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ جَائِزَةٌ. رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ الثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَخِيهِ إذَا كَانَ مُنْقَطِعًا إلَيْهِ فِي صِلَتِهِ وَبِرِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ فِي النَّسَبِ، وَتَجُوزُ فِي الْحُقُوقِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةً وَقَرَابَةً قَوِيَّةً بِخِلَافِ الْأَخِ. [فَصْل شَهَادَةُ الْعَمِّ وَابْنِهِ وَالْخَالِ وَابْنِهِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ] (8389) فَصْلٌ: وَشَهَادَةُ الْعَمِّ وَابْنِهِ، وَالْخَالِ وَابْنِهِ، وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ، أَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْأَخِ إذَا أُجِيزَتْ مَعَ قُرْبِهِ، كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى شَهَادَةِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. [فَصْل شَهَادَةُ أَحَدِ الصَّدِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ] (8390) فَصْلٌ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الصَّدِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا مَالِكًا، قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بِهَا، فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، كَشَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ. وَلَنَا، عُمُومُ أَدِلَّةِ الشَّهَادَةِ، وَمَا قَالَهُ يَبْطُلُ بِشَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِلْمَدِينِ قَبْلَ الْحَجْرِ، وَإِنْ كَانَ رُبَّمَا قَضَاهُ دَيْنَهُ مِنْهُ، فَجَرَّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَعْظَمَ مِمَّا يُرْجَى هَاهُنَا بَيْنَ الصَّدِيقَيْنِ. فَأَمَّا الْعَدَاوَةُ، فَسَبَبُهَا مَحْظُورٌ، وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ شِفَاءُ غَيْظِهِ مِنْهُ، فَخَالَفَتْ الصَّدَاقَةَ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْعَبْدِ] (8391) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، إلَّا فِي الْحُدُودِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَمَةِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ؛ (8392) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ أَنَسٌ: مَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ. وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَشُرَيْحٌ، وَإِيَاسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْبَتِّيُّ، أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ذِي مُرُوءَةٍ، وَلِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَمَالِ لَا تَتَبَعَّضُ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الْعَبْدُ، كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ: تُقْبَلُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَلَنَا، عُمُومُ آيَاتِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهَا، فَإِنَّهُ مِنْ رِجَالِنَا، وَهُوَ عَدْلٌ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ الدِّينِيَّةُ. وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: «تَزَوَّجْت أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُد، «فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا لَكَاذِبَةٌ. قَالَ: وَمَا يُدْرِيك، وَقَدْ قَالَتْ مَا قَالَتْ، دَعْهَا عَنْك» . وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، كَالْحُرِّ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ ذِي مُرُوءَةٍ، فَإِنَّهُ كَالْحُرِّ يَنْقَسِمُ إلَى مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ، وَمَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَتْقِيَاءُ. سُئِلَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ، فَقَالَ: أَنَا أَرُدُّ شَهَادَةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَكَانَ مِنْهُمْ زِيَادُ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ الْعُلَمَاءِ الزُّهَّادِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرْفَعُ قَدْرَهُ، وَيُكْرِمُهُ. وَمِنْهُمْ عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَوَالِي كَانُوا عَبِيدًا، أَوْ أَبْنَاءَ عَبِيدٍ، لَمْ يَحْدُثْ فِيهِمْ بِالْإِعْتَاقِ إلَّا الْحُرِّيَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ طَبْعًا، وَلَا تُحْدِثُ عِلْمًا، وَلَا مُرُوءَةً، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ خِلَافَةٌ لِلْمَوْرُوثِ فِي مَالِهِ وَحُقُوقِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْخِلَافَةُ؛ لِأَنَّ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُفَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ، وَمَبْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَدَالَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الصِّدْقِ، وَحُصُولُ الثِّقَةِ مِنْ الْقَوْلِ، وَالْعَبْدُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 (8393) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ فِي الْحَدِّ، وَفِي الْقِصَاصِ احْتِمَالَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَمْوَالَ. وَالثَّانِي، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَشْبَهَ الْحَدَّ، وَذَكَرِ الشَّرِيفُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، فِي الْعُقُوبَاتِ كُلِّهَا مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، تُقْبَلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا، كَالْحُرِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا تُقْبَلُ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي الْأَمْوَالِ نَقْصٌ وَشُبْهَةٌ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ نَاقِصُ الْحَالِ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، كَالْمَرْأَةِ. [فَصَلِّ فِي شَهَادَةَ الْأَمَةِ] (8394) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: شَهَادَةُ الْأَمَةِ جَائِزَةٌ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ فِي الْمَالِ أَوْ سَبَبِهِ، وَالْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِيمَا عَدَاهُمَا، فَسَاوَتْهُنَّ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ. [فَصْل شَهَادَة الْمُكَاتَب وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقِ بَعْضُهُ] فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقِ بَعْضُهُ، حُكْمُ الْقِنِّ، فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُكَاتَبِ.، وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَبْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْقِنِّ، فَفِي هَؤُلَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَكْمَلُ مِنْهُ، لِوُجُودِ أَسْبَابِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمْ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى] (8396) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَشَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى جَائِزَةٌ، فِي الزِّنَى وَغَيْرِهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَى وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي مَنْ فَعَلَ قَبِيحًا، أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ نُظَرَاءُ. وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّهُ قَالَ: وَدَّتْ الزَّانِيَةُ أَنَّ النِّسَاءَ كُلَّهُنَّ زَنَيْنَ. وَلَنَا، عُمُومُ الْآيَاتِ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ الزِّنَى، فَقُبِلَ فِي الزِّنَى كَغَيْرِهِ، وَمَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْقَتْلِ، قُبِلَتْ فِي الزِّنَى، كَوَلَدِ الرِّشْدَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَا احْتَجُّوا بِهِ غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا قَبِيحًا، يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ نُظَرَاءُ فِيهِ. وَالثَّانِي، أَنَّنِي لَا أَعْلَمُ مَا ذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ ثَابِتًا عَنْهُ، وَأَشْبَهُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتًا عَنْهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُطْلِقَ عُثْمَانُ كَلَامًا بِالظَّنِّ عَنْ ضَمِيرِ امْرَأَةٍ لَمْ يَسْمَعْهَا تَذْكُرُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 الثَّالِثُ، أَنَّ الزَّانِيَ لَوْ تَابَ، لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ، فَإِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَعَ مَا ذَكَرُوهُ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ وَلَدَهُ مِنْ وِزْرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا لَزِمَهُ، وَمَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ، مَعَ أَنَّ وَلَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ وِزْرِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وَوَلَدُ الزِّنَى لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ حُكْمًا. . [مَسْأَلَة شَهَادَة الْقَاذِفُ] (8397) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقَاذِفَ إنْ كَانَ زَوْجًا، فَحَقَّقَ قَذْفَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِعَانٍ، أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، فَحَقَّقَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفِهِ فِسْقٌ، وَلَا حَدٌّ، وَلَا رَدُّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْ قَذْفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ، وَرَدُّ شَهَادَتِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] . فَإِنْ تَابَ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَزَالَ الْفِسْقُ، بِلَا خِلَافٍ. وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتَبَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ عُبِدَ الْبَرِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا جُلِدَ، وَإِنْ تَابَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْجَلْدِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ. فَالْخِلَافُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ عِنْدَنَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ بِالْقَذْفِ إذَا لَمْ يُحَقِّقْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، لَا تَسْقُطُ إلَّا بِالْجَلْدِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ إذَا تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ جُلِدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا تُقْبَلُ. وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] . . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ» . وَاحْتَجَّ فِي الْفَصْلِ الْآخَرِ بِأَنَّ الْقَذْفَ قَبْلَ حُصُولِ الْجَلْدَ يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَةُ، فَلَا يَجِبُ بِهِ التَّفْسِيقُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 وَلَنَا، فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ، حِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ؛ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَكَلَ زِيَادٌ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: تُوبُوا، تُقْبَلْ شَهَادَتُكُمْ. فَتَابَ رَجُلَانِ، وَقَبِلَ عُمَرُ شَهَادَتَهُمَا، وَأَبِي أَبُو بَكْرَةَ، فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ. وَكَانَ قَدْ عَادَ مِثْلَ النَّصْلِ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَلِأَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، كَالتَّائِبِ مِنْ الزِّنَى، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزِّنَى أَعْظَمُ مِنْ الْقَذْفِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَسَائِرُ الذُّنُوبِ، إذَا تَابَ فَاعِلُهَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، فَهَذَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَهِيَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ، وَلَيْسُوا بِفَاسِقِينَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيه؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى الْجَلْدِ. قُلْنَا: بَلْ يَعُودُ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، وَهِيَ لِلْجَمْعِ تَجْعَلُ الْجُمَلَ كُلَّهَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا، إلَّا مَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُغَايِرُ مَا قَبْلَهُ، فَعَادَ إلَى الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، كَالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ، إنْ لَمْ يَقُمْ. عَادَ الشَّرْطُ إلَيْهِمَا، كَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، بَلْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَة هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ هُوَ الْحُكْمَ، وَالتَّفْسِيقُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ وَالتَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ، فَعَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ، أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى التَّعْلِيلِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ، يَرْوِيه الْحُجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَرْفَعْهُ مَنْ رِوَايَتِهِ حُجَّةٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَلَمْ تُذْكَرْ فِيهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ غَلَطِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى خَطَئِهِ قَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ مَحْدُودٍ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهُ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَتُبْ، بِدَلِيلِ: كُلُّ مَحْدُودٍ تَائِبٌ سِوَى هَذَا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فَدَلِيلُنَا فِيهِ الْآيَةُ، فَإِنَّهُ رَتَّبَ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ؛ إيجَابُ الْجَلْدِ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَالْفِسْقُ، فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِوُجُودِ الرَّمْيِ الَّذِي لَمْ يُمْكِنْهُ تَحْقِيقُهُ، كَالْجَلْدِ؛ وَلِأَنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْمَعْصِيَةُ وَالذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ، وَتَثْبُتُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَالْحَدُّ كَفَّارَةٌ وَتَطْهِيرٌ، فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ رَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْجَلْدُ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ حُكْمَانِ لِلْقَذْفِ، فَيَثْبُتَانِ جَمِيعًا بِهِ، وَتَخَلُّفُ اسْتِيفَاء أَحَدِهِمَا، لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْجَلْدِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ حُكْمُ الْقَذْفِ الَّذِي تَعَذَّرَ تَحْقِيقُهُ، فَلَا يُسْتَوْفَى قَبْلَ تَحَقُّقِ الْقَذْفِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْفَى حَدٌّ قَبْلَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ، وَيَصِيرُ مُتَحَقِّقًا بَعْدَهُ؟ هَذَا بَاطِلٌ. (8398) فَصْلٌ: وَالْقَاذِفُ فِي الشَّتْمِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَالشَّاهِدُ بِالزِّنَى إذَا لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ، تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ دُونَ شَهَادَتِهِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُرَدُّ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ، وَقَالَ لَهُ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك. وَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي قَبُولِ رِوَايَة أَبِي بَكْرَةَ، مَعَ رَدِّ عُمَرَ شَهَادَتَهُ. [مَسْأَلَة تَوْبَةُ الْقَاذِف الْمَمْنُوع مِنْ الشَّهَادَة] (8399) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَتَوْبَتُهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ. ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ إكْذَابُ نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: كَذَبْت فِيمَا قُلْت. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] . قَالَ: تَوْبَتُهُ إكْذَابُ نَفْسِهِ» . وَلِأَنَّ عِرْضَ الْمَقْذُوفِ تَلَوَّثَ بِقَذْفِهِ، فَإِكْذَابُهُ نَفْسَهُ يُزِيلُ ذَلِكَ التَّلْوِيثَ، فَتَكُونُ التَّوْبَةُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْقَذْفَ إنْ كَانَ سَبًّا، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ إكْذَابُ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: الْقَذْفُ حَرَامٌ بَاطِلٌ، وَلَنْ أَعُودَ إلَى مَا قُلْت. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا، فَلَا يُؤْمَرُ بِالْكَذِبِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ إكْذَابٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصِّدْقَ فِيمَا قَذَفَ بِهِ، فَتَوْبَتُهُ الِاسْتِغْفَارُ، وَالْإِقْرَارُ بِبُطْلَانِ مَا قَالَهُ وَتَحْرِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِثْلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَوْبَتُهُ إكْذَابُ نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَذْفُ بِشَهَادَةٍ أَوْ سَبٍّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الشَّهَادَةِ، صَادِقًا فِي السَّبِّ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْقَاذِفَ كَاذِبًا إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . فَتَكْذِيبُ الصَّادِقِ نَفْسَهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَادِقًا. [فَصْل وَكُلُّ ذَنْبٍ تَلْزَمُ فَاعِلَهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ] (8400) فَصْلٌ: وَكُلُّ ذَنْبٍ تَلْزَمُ فَاعِلَهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَمَتَى تَابَ مِنْهُ، قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 136] الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بَقِيَّةُ عُمْرِ الْمُؤْمِنِ لَا قِيمَةَ لَهُ، يُدْرِكُ فِيهِ مَا فَاتَ، وَيُحْيِي فِيهِ مَا أَمَاتَ، وَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ. وَالتَّوْبَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ بَاطِنَةٌ، وَحُكْمِيَّةٌ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ، فَهِيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ لَا تُوجِبُ حَقًّا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، كَقُبْلَةِ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ الْخَلْوَةِ بِهَا، وَشُرْبِ مُسْكِرٍ، أَوْ كَذِبٍ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ النَّدَمُ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» . وَقِيلَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ؛ النَّدَمَ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ، وَإِضْمَارَ أَنْ لَا يَعُودَ، وَمُجَانَبَةَ خُلَطَاءِ السُّوءِ. وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِآدَمِيٍّ؛ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكِ الْمَظْلِمَةِ حَسْبَ إمْكَانِهِ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ، أَوْ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلَّا قِيمَتَهُ. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ فِي الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، اُشْتُرِطَ فِي التَّوْبَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 التَّمَكُّنُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَذْلُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَتَوْبَتُهُ أَيْضًا بِالنَّدَمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ، فَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُ نَفْسِهِ، وَالتَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ» . فَإِنَّ الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَى، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً مَشْهُورَةً، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوْلَى الْإِقْرَارُ بِهِ، لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَشْهُورًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَرْكِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَرْكَ الْإِقْرَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّضَ لِلْمُقِرِّ عِنْدَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ فَعَرَّضَ لَمَاعِزٍ، وَلِلْمُقِرِّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ بِالرُّجُوعِ، مَعَ اشْتِهَارِهِ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَرِهَ الْإِقْرَارَ، حَتَّى إنَّهُ قِيلَ: لَمَّا قَطَعَ السَّارِقَ: كَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُهُ رَمَادًا. وَلَمْ يَرِدْ الْأَمْرُ بِالْإِقْرَارِ، وَلَا الْحَثُّ عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ قِيَاسٌ، إنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالسَّتْرِ، وَالِاسْتِتَارِ، وَالتَّعْرِيضِ لِلْمُقِرِّ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ. وَقَالَ لِهَزَّالٍ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ مَاعِزًا بِالْإِقْرَارِ: «يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك، كَانَ خَيْرًا لَك» . وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَوْبَةُ هَذَا إقْرَارُهُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تُوجَدُ حَقِيقَتُهَا بِدُونِ الْإِقْرَارِ، وَهِيَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ. وَأَمَّا الْبِدْعَةُ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا، وَالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 [فَصْل لَا يعتبر فِي أَحْكَامِ التَّوْبَةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ] (8401) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ، مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَصِحَّةِ وِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ، إصْلَاحُ الْعَمَلِ. وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، يُعْتَبَرُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى، وَلَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ الشُّهُودِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ إصْلَاحٍ، وَمَا عَدَاهُ فَلَا تَكْفِي التَّوْبَةُ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَنَةٌ، تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا صَلَاحُهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ هَذَا رِوَايَةً لِأَحْمَدْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] . وَهَذَا نَصٌّ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبَ الْمُصْلِحَ؛ وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ضَرَبَ صَبِيغًا أَمَرَ بِهِجْرَانِهِ، حَتَّى بَلَغَتْهُ تَوْبَتُهُ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يُكَلَّمَ إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» . وَقَوْلُهُ: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَلِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الشِّرْكِ بِالْإِسْلَامِ لَا تَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِصْلَاحُ هُوَ التَّوْبَةُ، وَعَطْفُهُ عَلَيْهَا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ، قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك. وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمْرًا آخَرَ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ غَاصِبًا، فَرَدَّ مَا فِي يَدَيْهِ، أَوْ مَانِعًا لِلزَّكَاةِ، فَأَدَّاهَا وَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَدْ حَصَلَ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ، وَعُلِمَ نُزُوعُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ التَّوْبَةَ، مَا أَدَّى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلِأَنَّ تَقَيُّدَهُ بِالسَّنَةِ تَحَكُّمٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ، وَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ فِي حَقِّ صَبِيغٍ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ تَائِبٌ مِنْ بِدْعَةٍ، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ بِسَبَبِ الضَّرْبِ وَالْهِجْرَانِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ تَسَتُّرًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَدْ ذَكَرِ الْقَاضِي، أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الْبِدْعَةِ يُعْتَبَرُ لَهُ مُضِيُّ سَنَةٍ، لِحَدِيثِ صَبِيغٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْوَرَعِ "، قَالَ: وَمِنْ عَلَامَةِ تَوْبَتِهِ، أَنْ يَجْتَنِبَ مَنْ كَانَ يُوَالِيه مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيُوَالِي مَنْ كَانَ يُعَادِيه مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْبِدْعَةِ كَغَيْرِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ بِفِعْلٍ يُشْبِهُ الْإِكْرَاهَ، كَتَوْبَةِ صَبِيغٍ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مُدَّةٌ تُظْهِرُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَنْ إخْلَاصٍ، لَا عَنْ إكْرَاهٍ. وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُتَظَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَيْفَ لَا يَعْرِفُهُ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَهُ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرَةَ،. [مَسْأَلَة شَهِدَ بِشَهَادَةِ قَدْ كَانَ شَهِدَ بِهَا وَهُوَ غَيْرُ عَدْلٍ وَرُدَّتْ عَلَيْهِ] (8402) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ قَدْ كَانَ شَهِدَ بِهَا وَهُوَ غَيْرُ عَدْلٍ، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ فِي حَالِ عَدَالَتِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ فَاسِقٌ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُد: تُقْبَلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ عَدْلٍ، فَتُقْبَلُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ وَهُوَ كَافِرٌ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ يُعَيَّرُ بِرَدِّهَا، وَلَحِقَتْهُ غَضَاضَةٌ لِكَوْنِهَا رُدَّتْ بِسَبَبِ نَقْصٍ يُتَعَيَّرُ بِهِ، وَصَلَاحُ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ يَزُولُ بِهِ الْعَارُ، فَتَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إظْهَارَ الْعَدَالَةِ، وَإِعَادَةَ الشَّهَادَةِ لِتُقْبَلَ، فَيَزُولَ مَا حَصَلَ بِرَدِّهَا؛ وَلِأَنَّ الْفِسْقَ يَخْفَى، فَيُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى بَحْثٍ وَاجْتِهَادٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَلَا تُقْبَلُ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ. وَفَارَقَ مَا إذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ كَافِرٍ لَكُفْرِهِ، أَوْ صَبِيٍّ لِصِغَرِهِ، أَوْ عَبْدٍ لِرِقِّهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ، وَأَعَادُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّهَا لَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُرَدَّ أَوَّلًا بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا رُدَّتْ بِالْيَقِينِ، وَلِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ لَيْسَا مِنْ فِعْلِ الشَّاهِدِ، فَيُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُمَا لِتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَرَى كُفْرَهُ عَارًا، وَلَا يَتْرُكُ دِينَهُ مِنْ أَجْلِ شَهَادَةٍ رُدَّتْ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَمَالِكٍ، أَنَّهَا تُرَدُّ أَيْضًا فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ وَبَلَغَ، وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ، فَلَمْ تُقْبَلْ، كَشَهَادَةِ مَنْ كَانَ فَاسِقًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي فَرْقًا بَيْنَهُمَا فَيُفَرَّقَانِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْعَبْدِ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِرِقِّهِ، ثُمَّ عَتَقَ، وَادَّعَى تِلْكَ الشَّهَادَةَ، رِوَايَتَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَظْهَرُ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ. [فَصْل شَهِدَ السَّيِّدُ لِمُكَاتَبِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَب] (8403) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ السَّيِّدُ لِمُكَاتَبِهِ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ أَوْ شَهِدَ وَارِثٌ لِمَوْرُوثِهِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَبَرَأَ الْجُرْحُ، وَأَعَادُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ، فَفِي قَبُولِهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَانِعِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ، فَأَشْبَهَ زَوَالَ. الصَّبِيِّ بِالْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ رَدَّهَا بِسَبَبٍ لَا عَارَ فِيهِ، فَلَا يُتَّهَمُ فِي قَصْدِ نَفْيِ الْعَارِ بِإِعَادَتِهَا، بِخِلَافِ الْفِسْقِ. وَالثَّانِي، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهَا بِاجْتِهَادِهِ، فَلَا يَنْقُضُهَا بِاجْتِهَادِهِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ قَبُولُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْمَرْدُودَةِ لِلْفِسْقِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا كُلُّ شَهَادَةٍ مَرْدُودَةٍ؛ إمَّا لِلتُّهْمَةِ، أَوْ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ زَوَالِ التُّهْمَةِ، وَوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ، فَهَلْ تُقْبَلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة تَحْمِلهَا وَهُوَ غَيْرُ عَدْل وَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى صَارَ عَدْلًا] (8404) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، حَتَّى صَارَ عَدْلًا، قُبِلَتْ مِنْهُ) وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَلَا الْبُلُوغُ، وَلَا الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْأَدَاءِ، فَإِذَا رَأَى الْفَاسِقُ شَيْئًا، أَوْ سَمِعَهُ، ثُمَّ عُدِّلَ، وَشَهِدَ بِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَهَكَذَا الصَّبِيُّ، وَالْكَافِرُ إذَا شَهِدَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ، قُبِلَتْ وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الصِّبْيَانُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْوُونَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ كَبِرُوا؛ كَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ جَعْفَرٍ، وَالشَّهَادَةُ فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ، وَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ لَهَا الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلشَّهَادَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 [مَسْأَلَة شَهِدَ وَهُوَ عَدْلٌ فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِ حَتَّى حَدَثَ مِنْهُ مَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ مَعَهُ] (8405) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ شَهِدَ وَهُوَ عَدْلٌ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِ حَتَّى حَدَثَ مِنْهُ مَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ مَعَهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِهَا) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُمَا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى فَسَقَا، أَوْ كُفْرًا، لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ: يَحْكُمُ بِهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْحُكْمِ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَاتَا؛ وَلِأَنَّ فِسْقَهُمَا تَجَدَّدَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَجَدَّدَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ عَدَالَةَ الشَّاهِدِ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ فَيُعْتَبَرُ دَوَامُهَا إلَى حِينِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِي الْمَشْرُوطِ، وَإِذَا فَسَقَ انْتَفَى الشَّرْطُ، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ. وَالثَّانِي، أَنَّ ظُهُورَ فِسْقِهِ وَكُفْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسِرُّ الْفِسْقَ، وَيُظْهِرُ الْعَدَالَةَ، وَالزِّنْدِيقُ يُسِرُّ كُفْرَهُ، وَيُظْهِرُ إسْلَامَهُ، فَلَا نَأْمَنُ كَوْنَهُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا حِينَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمَ بِهَا مَعَ الشَّكِّ فِيهَا، فَأَمَّا إنْ حَدَثَ هَذَا مِنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، لَمْ يُنْقَضْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ صَحِيحًا، لِاسْتِمْرَارِ شَرْطِهِ إلَى انْتِهَائِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَقْرُونًا بِشَرْطِهِ ظَاهِرًا، فَلَا يُنْقَضُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ رَجَعَ عَنْ الشَّهَادَةِ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ، لَكِنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَكَانَ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَجُزْ اسْتِيفَاؤُهُ؛ بِالشُّبُهَاتِ لِأَنَّهُ يُدْرَأُ، وَهَذَا شُبْهَةٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ. وَإِنْ كَانَ مَالًا اُسْتُوْفِيَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ، وَثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِأَمْرٍ ظَاهِرِ الصِّحَّةِ، فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مُحْتَمِلٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ رُجُوعُهُ عَنْ إقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ حَدَّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصًا، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُسْتَوْفَى. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ مُطَالَبٌ بِهِ، أَشْبَهَ الْمَالَ. وَالثَّانِي، لَا يُسْتَوْفَى. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، أَشْبَهَ الْحَدَّ. وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَأَمَّا مَا حَدَثَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي حَدٍّ وَلَا حَقٍّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ اُسْتُوْفِيَ بِمَا ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ، وَسَوَّغَ الشَّرْعُ اسْتِيفَاءَهُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا طَرَأَ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ. [فَصْل أَدَّيَا الشَّهَادَةَ وَهُمَا مِنْ أَهْلِهَا ثُمَّ مَاتَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا] (8406) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ أَدَّيَا الشَّهَادَةَ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ مَاتَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا، حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا، سَوَاءٌ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ حَدًّا أَوْ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ جُنُّوا، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُؤَثِّرُ فِي شَهَادَتِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْكَذِبِ فِيهَا. وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَالَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فِي مَعْنَاهُ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْعَدْلِ عَلَى شَهَادَةِ الْعَدْلِ] (8407) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ عَلَى شَهَادَةِ الْعَدْلِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، إلَّا فِي الْحُدُودِ، إذَا كَانَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا) . الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ؛ (8408) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، فِي جَوَازِهَا. وَالثَّانِي، فِي مَوْضِعِهَا. وَالثَّالِثُ، فِي شَرْطِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَجْمَعَتْ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، عَلَى إمْضَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا، فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَقْفِ، وَمَا يَتَأَخَّرُ إثْبَاتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ثُمَّ يَمُوتُ شُهُودُهُ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ، وَمَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ، كَشَهَادَةِ الْأَصْلِ. [الْفَصْل الثَّانِي الشَّهَادَة عَلَى الشَّهَادَة فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ] (8409) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، بِإِجْمَاعٍ، كَمَا ذَكَرِ أَبُو عُبَيْدٍ، وَلَا تُقْبَلُ فِي حَدٍّ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ: تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَكُلِّ حَقٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ، فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَالْمَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّتْرِ، وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْإِسْقَاطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ؛ فَإِنَّهَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ، مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ، لَا يُوجَدُ فِي شَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ سَتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْأَمْوَالِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ فِي الْحَاجَةِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ، فَبَطَلَ إثْبَاتُهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا، وَلَا حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْحُقُوقِ، أَمَّا الدِّمَاءُ وَالْحَدُّ فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: تُقْبَلُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ. لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ، فَأَشْبَهَ الْأَمْوَالَ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَنْصُورٍ نَقَلَ أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ: شَهَادَةُ رَجُلٍ مَكَانَ رَجُلٍ فِي الطَّلَاقِ جَائِزَةٌ. قَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 أَحْمَدُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ. فَجَعَلَهُ أَصْحَابُنَا رِوَايَةً فِي الْقِصَاصِ. وَلَيْسَ هَذَا بِرِوَايَةٍ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يُشْبِهُ الْقِصَاصَ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَتُبْنَى عَلَى الْإِسْقَاطِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ، فَأَمَّا مَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَالْأَمْوَالَ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَسَائِرِ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْحُقُوقِ، فَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْحُقُوقِ. وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تُقْبَلُ فِي النِّكَاحِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ. فَعَلَى قَوْلِهِمَا، لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي الْمَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَأَشْبَهَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ حَقٌّ لَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَالْمَالِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْحُدُودَ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ شُرُوطِ الشَّهَادَة] (8410) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي شُرُوطِهَا، وَلَهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَتَعَذَّرَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ؛ لَمَوْتٍ، أَوْ غَيْبَةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، جَوَازُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ، قِيَاسًا عَلَى الرِّوَايَةِ وَأَخْبَارِ الدَّيَّانَاتِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شَاهِدُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا حَيَّيْنِ، رُجِيَ حُضُورُهُمَا، فَكَانَا كَالْحَاضِرَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ هَذَا، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ وَنَحْوِهَا. وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَلَى هَذَا، فَيَزُولُ هَذَا الْخِلَافُ. وَلَنَا، عَلَى اشْتِرَاطِ تَعَذُّرِ شَهَادَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ، أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ، وَكَانَ أَحْوَطَ لِلشَّهَادَةِ، فَإِنَّ سَمَاعَهُ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ، وَصِدْقَ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ مَظْنُونٌ، وَالْعَمَلُ بِالْيَقِينِ مَعَ إمْكَانِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ تُثْبِتُ نَفْسَ الْحَقِّ، وَهَذِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ ضَعْفًا؛ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالَانِ؛ احْتِمَالُ غَلَطِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، وَاحْتِمَالُ غَلَطِ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَهْنًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْتَهِضْ لِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ؛ لِأَنَّهُ خُفِّفَ فِيهَا، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَدُ، وَلَا الذُّكُورِيَّةُ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، وَلَا اللَّفْظُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا فِي حَقِّ عُمُومِ النَّاسِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلَنَا، عَلَى قَبُولِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِهَا بِغَيْرِ الْمَوْتِ، أَنَّهُ تَعَذَّرَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ، كَمَا لَوْ مَاتَ شَاهِدَا الْأَصْلِ، وَيُخَالِفُ الْحَاضِرَيْنِ؛ فَإِنَّ سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا مُمْكِنٌ، فَلَمْ يَجُزْ غَيْرُ ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْغَيْبَةَ الْمُشْتَرَطَةَ لِسَمَاعِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ، أَنْ يَكُونَ شَاهِدُ الْأَصْلِ بِمَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَ ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ يَوْمِهِ. وَهَذَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ تَشُقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِ هَذَا السَّفَرِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 وَإِذَا لَمْ يُكَلَّفْ الْحُضُورَ، تَعَذَّرَ سَمَاعُ شَهَادَتِهِ، فَاحْتِيجَ إلَى سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تُعْتَبَرُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، فِي التَّرَخُّصِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَيُعْتَبَرُ دَوَامُ هَذَا الشَّرْطِ إلَى الْحُكْمِ، فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَا الْفَرْعِ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى حَضَرَ شَاهِدَا الْأَصْلِ، وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالْبَدَلِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ حُضُورَهُمَا لَوْ وُجِدَ قَبْلَ أَدَاءِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ، مَنَعَ، فَإِذَا طَرَأَ قَبْلَ الْحُكْمِ، مَنَعَ مِنْهُ، كَالْفِسْقِ. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ تَتَحَقَّقَ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ، مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ جَمِيعًا، فَاعْتُبِرَتْ الشُّرُوطُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ. فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودُ الْفَرْعِ شُهُودَ الْأَصْلِ، فَشَهِدَا بِعَدَالَتِهِمَا وَعَلَى شَهَادَتِهِمَا، جَازَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا بِعَدَالَتِهِمَا، جَازَ، وَيَتَوَلَّى الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُمَا، حَكَمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا بَحَثَ عَنْهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: إنْ لَمْ يُعَدِّلْ شَاهِدَا الْفَرْعِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، لَمْ يَسْمَعْ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ تَعْدِيلِهِ يَرْتَابُ بِهِ الْحَاكِمُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفَا ذَلِكَ، فَيُرْجَعَ فِيهِ إلَى بَحْثِ الْحَاكِمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَا عَدَالَتَهُمَا وَيَتْرُكَاهَا، اكْتِفَاءً بِمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ عَدَالَتِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَوُجُودِ الْعَدَالَةِ فِي الْجَمِيعِ إلَى انْقِضَاءِ الْحُكْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي شَاهِدِ الْأَصْلِ قَبْلَ هَذَا. وَإِنْ مَاتَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لَمْ يَمْنَعْ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ شُهُودُ الْأَصْلِ قَبْلَ أَدَاءِ الْفُرُوعِ شَهَادَتَهُمْ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَدَائِهَا، وَالْحُكْمِ بِهَا؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ مِنْ شَرْطِ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مَانِعًا، وَكَذَلِكَ إنَّ جُنُّوا؛ لِأَنَّ جُنُونَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمْ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يُعَيِّنَا شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، وَيُسَمِّيَاهُمَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إذَا قَالَا: ذَكَرَيْنِ، حُرَّيْنِ، عَدْلَيْنِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ دُونَ الْعَيْنِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ عِنْدَهُمَا، مَجْرُوحَيْنِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ رُبَّمَا أَمْكَنَهُ جَرْحُ الشُّهُودِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَعْيَانَهُمَا، تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ، فَيَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا. أَوْ سَمِعَ شَاهِدًا يَسْتَرْعِي آخَرَ شَهَادَةً يُشْهِدُهُ عَلَيْهَا، فَيَجُوزُ لِهَذَا السَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا لِحُصُولِ الِاسْتِرْعَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ بِعَيْنِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا تَكُونُ شَهَادَةً إلَّا أَنْ يُشْهِدَك، فَأَمَّا إذَا سَمِعْته يَتَحَدَّثُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ حَدِيثٌ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. فَأَمَّا إنْ سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ، أَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ يَعْزِيه إلَى سَبَبٍ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ. فَهَلْ يَشْهَدُ بِهِ؟ . قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ بِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَنِسْبَتِهِ لِلْحَقِّ إلَى سَبَبه، يَزُولُ الِاحْتِمَالُ، وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، فَتَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَرْعَاهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا مَعْنَى النِّيَابَةِ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَمَنْ نَصْرَ الْأَوَّلَ قَالَ: هَذَا يَنْقُلُ شَهَادَتَهُ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ مِثْلَ شَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ فَأَمَّا إنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي أَشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا. فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ. لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: اشْهَدْ. فَقَدْ أَمَرَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَسْتَرْعِهِ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْعِهِ الشَّهَادَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَعَدَهُ بِهَا. وَقَدْ يُوصَفُ الْوَعْدُ بِالْوُجُوبِ مَجَازًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِدَّةُ دَيْنٌ» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالشَّهَادَةِ الْعِلْمَ، فَلَمْ يَجُزْ لِسَامِعِهِ الشَّهَادَةُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ. جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ تَحْتَمِلُ الْعِلْمَ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ. الثَّانِي، أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْسَعُ فِي لُزُومِهِ مِنْ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ فِي الْمَجْهُولِ، وَأَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَدُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَيَكُونُ أَقْوَيْ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلَا يُحْكَمُ بِهَا. وَلَوْ قَالَ شَاهِدُ الْأَصْلِ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا، فَاشْهَدْ بِهِ أَنْتَ عَلَيْهِ. لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهَادَتَهُ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ شَاهِدًا بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ مَا سَمِعَ الِاعْتِرَافَ بِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا شَاهَدَ سَبَبَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 [فَصْل كَيْفِيَّةُ الْأَدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ اسْتَرْعَاهُ الشَّهَادَةَ] (8411) فَصْلٌ: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْأَدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ اسْتَرْعَاهُ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَقَدْ عَرَفْته بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَعَدَالَتِهِ، أَشْهَدَنِي أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَذْكُرْهَا. وَإِنْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ غَيْرَهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، كَذَا وَكَذَا. وَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدِ الْحَاكِمِ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، شَهِدَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، عِنْدَ الْحَاكِمِ بِكَذَا. وَإِنْ كَانَ نَسَبَ الْحَقَّ إلَى سَبَبِهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، مِنْ جِهَةِ كَذَا وَكَذَا. وَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ، كَتَبَهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَدَاءِ. [فَصْل الذُّكُورِيَّةُ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ] (8412) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطٍ خَامِسٍ، وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ؛ فَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا شَرْطٌ، فَلَا يُقْبَلُ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ نِسَاءٌ بِحَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، أَوْ لَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ بِشَهَادَتِهِمْ شَهَادَةَ شُهُودِ الْأَصْلِ دُونَ الْحَقِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَأَشْبَهَ الْقِصَاصَ وَالْحَدَّ. وَالثَّانِيَةُ، لِلنِّسَاءِ مَدْخَلٌ فِيمَا لَوْ كَانَ الشُّهُودُ بِهِ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ فِي الْأَصْلِ. قَالَ حَرْبٌ: قِيلَ لِأَحْمَدْ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، تَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. يَعْنِي إذَا كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ. وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَمِعْت نُمَيْرَ بْنَ أَوْسٍ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ. وَوَجْهُهُ، أَنَّ الْمَقْصُودَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ، إثْبَاتُ الْحَقِّ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ شُهُودُ الْأَصْلِ، فَقُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، كَالْبَيْعِ. وَيُفَارِقُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِهِ إثْبَاتَ مَالٍ بِحَالٍ. فَأَمَّا شُهُودُ الْأَصْلِ، فَيَدْخُلُ النِّسَاءُ فِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فِي كُلِّ حَقٍّ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ضَعْفًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، فَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْدَادُ بِشَهَادَتِهِنَّ ضَعْفًا. وَلَنَا، أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ إنْ كَانُوا يُثْبِتُونَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، فَهِيَ تَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يُثْبِتُونَ نَفْسَ الْحَقِّ، فَهِيَ تَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ شَهِدْنَ بِالْمَالِ، أَوْ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ، كَمَا لَوْ أَدَّيْنَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَمَا ذُكِرَ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَا أَصْلَ لَهُ. [فَصْلٌ يَشْهَدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ شَاهِدُ فَرْعٍ] فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ شَاهِدُ فَرْعٍ، فَيَشْهَدَ شَاهِدَا فَرْعٍ عَلَى شَاهِدَيْ أَصْلٍ. قَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالْبَتِّيِّ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَنُمَيْرِ بْنِ أَوْسٍ. قَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ: وَشَاهِدٌ عَلَى شَاهِدٍ يَجُوزُ، لَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَا؛ شُرَيْحٌ فَمَنْ دُونَهُ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَنْكَرَهُ. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ عَلَى كُلِّ شَاهِدِ أَصْلٍ إلَّا شَاهِدَا فَرْعٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ يُثْبِتَانِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، فَلَا تَثْبُتُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ إقْرَارُ مُقِرَّيْنِ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، وَقَدْ شَهِدَ اثْنَانِ بِمَا يُثْبِتُهُ، فَيَثْبُتُ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِنَفْسِ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ بَدَلٌ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ، فَيَكْفِي فِي عَدَدِهَا مَا يَكْفِي فِي شَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ لَا يَنْقُلَانِ عَنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ حَقًّا عَلَيْهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ، كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَنْقُلُونَ الشَّهَادَةَ، وَلَيْسَتْ حَقًّا عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَوْ أَنْكَرَاهَا لَمْ يَعُدْ الْحَاكِمُ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَطْلُبْهَا مِنْهُمَا. وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَنْ اعْتَبَرَ لِكُلِّ شَاهِدِ أَصْلٍ شَاهِدَيْ فَرْعٍ، أَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ يُجِيزُهُ. وَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، جَوَازُهُ. وَالْآخَرُ، لَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ شُهُودُ الْفَرْعِ أَرْبَعَةً، عَلَى كُلِّ شَاهِدِ أَصْلٍ شَاهِدَا فَرْعٍ. وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ أَحَدُ طَرَفَيْ الشَّهَادَةِ، لَا يَثْبُتُ بِهِ الطَّرَفُ الْآخَرُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَصْلٌ مَعَ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَ مَعَ آخَرَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ الْآخَرِ وَلَنَا، أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِإِقْرَارَيْنِ بِحَقَّيْنِ، أَوْ بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلِ فَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلٌ أَصْلًا فِي شَهَادَةٍ بِحَقٍّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ بِشَهَادَتِهِمْ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، وَلَيْسَتْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ظَرْفًا لِشَهَادَةِ الْآخَرِ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْفَرْعِ سِتَّةً، وَإِنْ كَانَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْفَرْعِ ثَمَانِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ زِنًا، خُرِّجَ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ الْفَرْعِ فِي إثْبَاتِهِ. وَالثَّانِي، يَجُوزُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْفَرْعِ سِتَّةَ عَشْرَ، فَيَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ أَرْبَعَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 والثَّالِثُ، يَكْفِي ثَمَانِيَةٌ. وَالرَّابِعُ، يَكُونُونَ أَرْبَعَةً، يَشْهَدُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ. وَالْخَامِسُ، يَكْفِي شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ. وَهَذَا إثْبَاتٌ لَحَدِّ الزِّنَى بِشَاهِدَيْنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. [فَصْل شَهِدَ بِالْحَقِّ شَاهِدَا أَصْلٍ وَشَاهِدَا فَرْعٍ يَشْهَدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصِلْ آخَر] (8414) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ شَاهِدَا أَصْلٍ، وَشَاهِدَا فَرْعٍ، يَشْهَدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ آخَرَ، جَازَ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدُ أَصْلٍ، وَشَاهِدُ فَرْعٍ، خُرِّجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدُ أَصْلٍ، ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ فَرْعًا عَلَى شَاهِدِ أَصْلٍ آخَرَ، لَمْ تُفِدْ شَهَادَتُهُ الْفَرْعِيَّةُ شَيْئًا، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ حُكْمَ مَا لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ. [مَسْأَلَة يَشْهَدُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ يُقِرُّ بِحَقِّ] (8415) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَشْهَدُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ يُقِرُّ بِحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلشَّاهِدِ: اشْهَدْ عَلَى) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْمَذْهَبُ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ الْمُقِرُّ: اشْهَدْ عَلَى. كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ حَتَّى يَسْتَرْعِيَهُ إيَّاهَا، وَيَقُولَ لَهُ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي. وَعَنْهُ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إذَا سَمِعَهُ يُقِرُّ بِقَرْضٍ، لَا يَشْهَدُ، وَإِذَا سَمِعَهُ يُقِرُّ بِدَيْنٍ، يَشْهَدُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالدَّيْنِ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ بِالْقَرْضِ لَا يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اقْتَرَضَ مِنْهُ، ثُمَّ وَفَّاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ، إذَا سَمِعَ شَيْئًا، فَدُعِيَ إلَى الشَّهَادَةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ شَهِدَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَشْهَدْ. قَالَ: وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُشْهِدَ إذَا دُعِيَ، {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . قَالَ: إذَا أُشْهِدُوا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إذَا سَمِعَ رَجُلًا يُقِرُّ لَرَجُلٍ بِحَقٍّ، وَلَمْ يَقُلْ: اشْهَدْ عَلَيَّ بِذَلِكَ. وَسَمِعَ الشَّاهِدَ فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنِّي حَضَرْت إقْرَارَ فُلَانٍ بِكَذَا. وَلَا يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِهِ. وَإِنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: اقْتَرَضْت مِنْ فُلَانٍ، أَوْ قَبَضْت مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِمَا عَلِمَهُ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِسَمَاعِهِ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا رَآهُ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ فِي الْأَفْعَالِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَشْهَدُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: اشْهَدْ. وَهَذَا إنْ أَرَادَ بِهِ الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى مَنْعِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَقُولُ لَأَحَدٍ: اشْهَدْ عَلَى أَنِّي أَغْصِبُ. وَلَا السَّارِقُ، وَلَا الزَّانِي، وَلَا الْقَاتِلُ، وَأَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى، فَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ: هَلْ أَشْهَدَكُمْ أَوْ لَا. وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا قَالَ الَّذِينَ شَهِدُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 عَلَى قُدَامَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَا قَالَهُ عُمَرُ لِلَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَكُونُ بِالتَّرَاضِي، كَالْقَرْضِ، وَالْقَبْضِ فِيهِ، وَفِي الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، وَالِافْتِرَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، جَازَ. [فَصْل حَضَرَ شَاهِدَانِ حِسَابًا بَيْنَ اثْنَيْنِ شَرَطَا عَلَيْهِمَا أَنَّ لَا يَحْفَظَا عَلَيْهِمَا شَيْئًا] (8416) فَصْلٌ: وَلَوْ حَضَرَ شَاهِدَانِ حِسَابًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، شَرَطَا عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يَحْفَظَا عَلَيْهِمَا شَيْئًا، كَانَ لِلشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا سَمِعَاهُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ شَرْطَهُمَا؛ لِأَنَّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا سَمِعَهُ أَوْ عَلِمَهُ، وَذَلِكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ، سَوَاءٌ أَشَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ، وَكَذَلِكَ يَشْهَدَانِ عَلَى الْعُقُودِ بِحُضُورِهَا، وَعَلَى الْجِنَايَاتِ بِمُشَاهَدَتِهَا، وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى إشْهَادٍ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. [فَصْل الشَّهَادَة فِي الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ] (8417) فَصْلٌ: وَالْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، حَقٌّ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْعُقُوبَاتِ، كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْوَقْفِ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَا تَسْمَعُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَلَا تُسْتَوْفَى إلَّا بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ وَإِذْنِهِ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الدَّعْوَى؛ وَدَلِيلٌ لَهَا، فَلَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهَا. الضَّرْبُ الثَّانِي، مَا كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ أَوْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ سِقَايَةٍ أَوْ مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ، أَوْ الْوَصِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَنَحْوِ هَذَا، أَوْ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ الزَّكَاةِ، أَوْ الْكَفَّارَةِ، فَلَا تَفْتَقِرُ الشَّهَادَةُ بِهِ، إلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ يَدَّعِيه، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَلِذَلِكَ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهِدَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَيْضًا، مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، فَأُجِيزَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ قَبُولٌ، مِنْ أَحَدٍ، وَلَا رِضًى مِنْهُ. وَكَذَلِكَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ، كَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِالطَّلَاقِ، أَوْ الظِّهَارِ، أَوْ إعْتَاقِ الرَّقِيقِ، تَجُوزُ الْحِسْبَةُ بِهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ دَعْوَى. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِعِتْقِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ابْتِدَاءً، ثَبَتَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ بِعِتْقِهِ، أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَمَةِ. وَقَالَ فِي الْعَبْدِ: لَا يَثْبُتُ، مَا لَمْ يُصَدِّقْ الْعَبْدُ بِهِ، وَيَدَّعِيه؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقُّهُ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِعِتْقٍ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، كَعِتْقِ الْأَمَةِ، وَيُخَالِفُ سَائِرَ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِ الْعِتْقِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْأَمَةُ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِعِتْقِ الْأَمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَمَةُ يَتَعَلَّقُ بِإِعْتَاقِهَا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ. قُلْنَا: هَذَا لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ الْمَنْعَ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، وَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَة بِهِ إلَّا بَعْدَ الدَّعْوَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 [فَصْل أَدَاء الشَّهَادَة قَبْلَ طَلَبِهَا] (8418) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِآدَمِيٍّ، لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَا، أَوْ غَيْرَ عَالَمٍ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا، لَمْ يَجُزْ لِلشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ أَدَاءَهَا حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِرِضَاهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ غَيْرَ عَالَمٍ بِهَا، جَازَ لِلشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا قَبْلَ طَلَبِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَمَالِكٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ " الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ بِهَا الَّذِي هِيَ لَهُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، فَتَرْكُهُ طَلَبَهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إقَامَتَهَا، بِخِلَافِ الْعَالِمِ بِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْل لَفْظُ الشَّهَادَةِ] (8419) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي أَدَائِهَا، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَذَا. وَنَحْوَهُ. وَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ، أَوْ أُحِقُّ، أَوْ أَتَيَقَّنُ، أَوْ أَعْرِفُ. لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِهَا الْمُشْتَقِّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ فِيهَا مَعْنًى لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ اللَّفَظَاتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ فَيُقَالُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ. وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي اللِّعَانِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْمُسْتَخِفِّي] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْتَخْفِي، إذَا كَانَ عَدْلًا) الْمُسْتَخْفِي: هُوَ الَّذِي يُخْفِي نَفْسَهُ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِيَسْمَعَ إقْرَارَهُ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ، مِثْلُ مَنْ يَجْحَدُ الْحَقَّ عَلَانِيَةً، وَيُقِرُّ بِهِ سِرًّا، فَيَخْتَبِئُ شَاهِدَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِمَا، لِيَسْمَعَا إقْرَارَهُ بِهِ، ثُمَّ يَشْهَدَا بِهِ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ، عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ. وَبِهَذَا قَالَ عَمْرو بْنُ حُرَيْثٍ. وَقَالَ: كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخَائِنِ وَالْفَاجِرِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ، فَهِيَ أَمَانَةٌ» . يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِسَامِعِهِ ذِكْرُهُ عَنْهُ؛ لِالْتِفَاتِهِ وَحَذَرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ضَعِيفًا يَنْخَدِعُ، لَمْ يُقْبَلَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، قُبِلَتْ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَا سَمِعَاهُ يَقِينًا، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ عَلِمَ بِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 [كِتَاب الْأَقْضِيَة] [مَسْأَلَةٌ هَلَكَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ دَيْنًا عَلَى أَبِيهِ لِأَجْنَبِيٍّ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا هَلَكَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ دَيْنًا عَلَى أَبِيهِ لِأَجْنَبِيٍّ، دَفَعَ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ إرْثِهِ عَنْ أَبِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ عَدْلًا، فَيَشَاءَ الْغَرِيمُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَهَادَةِ الِابْنِ، وَيَأْخُذَ مِائَةً، وَتَكُونَ الْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي بَابِ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْهُ، وَمِيرَاثُهُ هَاهُنَا النِّصْفُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ وَهُوَ نِصْفُ الْمِائَةِ، وَنِصْفُهَا الْبَاقِي يَشْهَدُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا، فَشَاءَ الْغَرِيمُ حَلَفَ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَاسْتَحَقَّ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّ الِابْنِ الْمُقِرِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضُرًّا. وَإِنْ شَهِدَ أَجْنَبِيٌّ مَعَ الْوَارِثِ الْمُقِرِّ، كَمَلَتْ الشَّهَادَةُ، وَحُكِمَ لِلْمُدَّعِي بِمَا شَهِدَا بِهِ لَهُ، إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ، وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُكْتَفَى بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَدْلَيْنِ؛ مِثْلُ أَنْ يُخَلِّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، فَيُقِرَّ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِالدَّيْنِ، وَيَشْهَدَا بِهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا تُقْبَلُ، وَيَثْبُتُ بَاقِي الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمُنْكَرِ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ حَمَّادٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْمُقَرُّ بِهِ كُلُّهُ فِي نَصِيبُ الْمُقِرِّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا إلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ إسْقَاطُ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْإِقْرَارُ بِوَصِيَّةِ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل ثَبَتَ لَرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِبَيِّنَةِ] (8422) فَصْلٌ: وَلَوْ ثَبَتَ لَرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِبَيِّنَةِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قَبُولَ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَرِيمِهِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُوَاطِئَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ بِدَيْنٍ، فَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ ثُمَّ يُقَاسِمُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَدْلٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضُرًّا، بَلْ يَضُرُّ نَفْسَهُ، بِهَا لِكَوْنِ الْمَشْهُودِ لَهُ يُزَاحِمُهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَيَنْقُصُ مَا يَأْخُذُهُ، فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ، وَأَحْرَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ يُوجَدُ فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَلَمْ يَمْنَعْ قَبُولَ شَهَادَتِهِ. [مَسْأَلَة مَاتَ مُفْلِسًا وَادَّعَى وَرَثَتُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَأَقَامُوا شَاهِدًا عَدْلًا وَحَلَفُوا مَعَهُ] (8423) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ هَلَكَ رَجُلٌ عَنْ، ابْنَيْنِ، وَلَهُ حَقٌّ بِشَاهِدٍ، وَعَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مَا يَسْتَغْرِقُ مِيرَاثَهُ، فَأَبَى الْوَارِثَانِ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 يَحْلِفَا مَعَ الشَّاهِدِ، لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِ الْمَيِّتِ، وَيَسْتَحِقُّ، فَإِنْ حَلَفَ الْوَارِثَانِ مَعَ الشَّاهِدِ، حُكِمَ بِالدَّيْنِ، فَدُفِعَ إلَى الْغَرِيمِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا، وَادَّعَى وَرَثَتُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، فَأَنْكَرَ، فَأَقَامُوا شَاهِدًا عَدْلًا، وَحَلَفُوا مَعَهُ، حُكِمَ بِالدَّيْنِ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، ثُمَّ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يَحْلِفُوا، لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ، مَعَ شَاهِدِ الْمَيِّتِ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ، وَيَسْتَحِقَّ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَالُ، قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَكَانَتْ لَهُ الْيَمِينُ كَالْوَارِثِ. وَلَنَا، أَنَّ الدَّيْنَ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْغَرِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ الدَّيْنُ مِيرَاثَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لِلْوَارِثِ، أَنَّهُ يُكْتَفَى بِيَمِينِهِ، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمَا اُكْتُفِيَ بِهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا يَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِأَنَّ الدَّيْنَ لِلْمَيِّتِ، وَاَلَّذِي يَحْلِفُ مَعَهُ إنَّمَا يَحْلِفَ عَلَى هَذَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ لِي فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا، بِالِاتِّفَاقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى دَيْنِ غَيْرِهِ الَّذِي لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَعَلَ الْيَمِينَ لِلْمَالِكِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْغَرِيمَ لَوْ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ، ثُمَّ أَبْرَأَ الْمَيِّتَ مِنْ الدَّيْنِ، لَرَجَعَ الدَّيْنُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِيَمِينِهِ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِمْ. وَهَكَذَا لَوْ وَصَّى الْمَيِّتُ لَإِنْسَانٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِفْ الْوَرَثَةُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَحْلِفَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل حَلَفَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ مَعَ الشَّاهِد] (8424) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ مَعَ الشَّاهِدِ، لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الدَّيْنِ إلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ. وَهَكَذَا إذَا ادَّعَى الْوَرَثَةُ وَصِيَّةً لِأَبِيهِمْ أَوْ دَيْنًا، وَأَقَامُوا شَاهِدًا، لَمْ يَثْبُتْ جَمِيعُهُ إلَّا بِأَيْمَانِ جَمِيعِهِمْ. وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ، ثَبَتَ مِنْ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ بَاقِي الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقٌّ بِدُونِ أَيْمَانِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقُّوا بِيَمِينِ غَيْرِهِمْ، وَيَقْضِي مِنْ دَيْنِ أَبِيهِ بِقَدْرِ مَا ثَبَتَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ مَعْتُوهٌ، وُقِفَ حَقُّهُ، حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيَعْقِلَ الْمَعْتُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِف عَلَى حَالِهِ، وَلَا يَحْلِفُ وَلِيُّهُ؛ لِكَوْنِ الْيَمِينِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَخْرَسُ مَفْهُومُ الْإِشَارَةِ، حَلَفَ وَأُعْطِيَ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ، وُقِفَ حَقُّهُ أَيْضًا. فَإِنْ مَاتَ، أَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ، قَامَ وَرَثَتُهُمْ مَقَامَهُمْ فِي الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. فَإِنْ طَالِبَ أَوْلِيَاؤُهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا بِحَبْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ، وَيَعْقِلَ الْأَخْرَسُ الْإِشَارَةَ، أَوْ بِإِقَامَةِ كَفِيلٍ، لَمْ يُجَابُوا إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حَقٌّ. [فَصْل أَفْلَسَ ثُمَّ مَاتَ] (8425) فَصْلٌ: وَتَرِكَةُ الْمَيِّتِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا لِوَرَثَتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ أَفْلَسَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 ثُمَّ مَاتَ، قَالَ: قَدْ انْتَقَلَ الْمَبِيعُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَحَصَلَ مِلْكًا لَهُمْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، مُنِعَ نَقْلُهَا إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْرِقُهَا، لَمْ يُمْنَعْ انْتِقَالُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُمْنَعُ بِقَدْرِهِ. وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ إلَى مِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي أَرْبَعَةِ بَنِينَ تَرَكَ أَبُوهُمْ دَارًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ أَحَدُ الْبَنِينَ: أَنَا أُعْطِي، وَدَعُوا لِي الرُّبْعَ. فَقَالَ أَحْمَدُ: هَذِهِ الدَّارُ لِلْغُرَمَاءِ، لَا يَرِثُونَ شَيْئًا حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْوَارِثَ مِنْ إمْسَاكِ الرُّبْعِ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَمِ الْوَرَثَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْغَرِيمَ لَا يَحْلِفُ عَلَى دَيْنِ الْمَيِّتِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ، فَيَتَخَيَّرُ الْوَرَثَةُ بَيْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا كَالرَّهْنِ وَالْجَانِي، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ الْغُرَمَاءَ نَفَقَةُ الْعَبِيدِ، وَلَا يَكُونُ نَمَاءُ التَّرِكَةِ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَيَّ الْوَرَثَةِ، أَوْ إلَى الْغُرَمَاءِ، أَوْ تَبْقَى لِلْمَيِّتِ، أَوْ لَا تَكُونَ لَأَحَدٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ، لَزِمَهُمْ نَفَقَةُ الْحَيَوَانِ، وَكَانَ نَمَاؤُهَا لَهُمْ غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنْ دَيْنِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ لَأَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مَمْلُوكٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَالِكٍ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ بِغَيْرِ مَالِكٍ، لَأُبِيحَتْ لِمَنْ يَتَمَلَّكُهَا، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا انْتَقَلَتْ إلَى الْوَرَثَة. فَعَلَى هَذَا، إذَا نَمَتْ التَّرِكَةُ، مِثْلُ أَنْ غَلَتْ الدَّارُ، وَأَثْمَرَتْ النَّخِيلُ، وَنَتَجَتْ الْمَاشِيَةُ، فَهُوَ لِلْوَارِثِ، يَنْفَرِدُ بِهِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ كَسْبَ الْجَانِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ؛ كَنَمَاءِ الرَّهْنِ. وَمَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ، قَالَ: تَعَلُّقُ الْحَقِّ بِالرَّهْنِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاخْتِيَارِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ، وَلِهَذَا مُنِعَ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَهَذَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ رِضَى الْمَالِكِ، وَلَمْ يُمْنَعْ التَّصَرُّفَ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالْجَانِي. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ نَمَاءُ التَّرِكَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ التَّرِكَةِ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ مِنْهَا. وَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ، بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ قِسْمَةٍ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، تَصَرُّفُهُمْ صَحِيحٌ، فَإِنْ قَضَوْا الدَّيْنَ وَإِلَّا نُقِضَتْ تَصَرُّفَاتُهُمْ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ السَّيِّدُ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَ الْجِنَايَةِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، تَصَرُّفَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيمَا لَمْ يَمْلِكُوهُ. [فَصْل خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَبَوَيْنِ فَادَّعَى الْبَنُونَ أَنْ أَبَاهُمْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَيْهِمْ فِي صِحَّتِهِ وَأَقَامُوا بِذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا] (8426) فَصْلٌ: إذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَبَوَيْنِ، فَادَّعَى الْبَنُونَ أَنْ أَبَاهُمْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَيْهِمْ فِي صِحَّتِهِ، وَأَقَامُوا بِذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا، حَلَفُوا مَعَهُ، وَصَارَتْ وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَسَقَطَ حَقُّ الْأَبَوَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ وَصِيَّةٌ، حَلَفَ الْأَبَوَانِ، وَكَانَ نَصِيبُهُمَا طَلْقًا لَهُمَا، وَنَصِيبُ الْبَنِينَ وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ بِإِقْرَارِهِمْ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، أَوْ وَصَّى بِشَيْءٍ، قُضِيَ دَيْنُهُ، وَنَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَمَا حَصَلَ لِلْبَنِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 كَانَ وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ. وَإِنْ حَلَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَانَ ثُلُثُ الدَّارِ وَقْفًا عَلَيْهِ، وَالْبَاقِي يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ وَمَا فَضَلَ يَكُونُ مِيرَاثًا، فَمَا حَصَلَ لِلِابْنَيْنِ مِنْهُ كَانَ وَقْفًا عَلَيْهِمَا، وَلَا يَرِثُ الْحَالِفُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْهَا شَيْئًا سِوَى مَا وُقِفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفُوا كُلُّهُمْ، فَثَبَتَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ مُرَتَّبًا عَلَى بَطْنٍ، ثُمَّ عَلَى بَطْنٍ بَعْدَ بَطْنٍ أَبَدًا، أَوْ مُشْتَرَكًا، فَإِنْ كَانَ مُرَتَّبًا، فَإِذَا انْقَرَضَ الْأَوْلَادُ الثَّلَاثَةُ، انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ وَقْفًا بِالشَّاهِدَيْنِ وَيَمِينِ الْأَوْلَادِ، فَلَمْ يَحْتَجْ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ إلَى بَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ، وَكَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ. وَكَذَلِكَ إذَا انْقَرَضَ الْأَوْلَادُ، وَرَجَعَ إلَى الْمَسَاكِينِ، لَمْ يَحْتَاجُوا فِي ثُبُوتِهِ لَهُمْ إلَى يَمِينٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ انْقَرَضَ أَحَدُ الْأَوْلَادِ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ مِنْهُ إلَى إخْوَتِهِ، أَوْ إلَى مَنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ انْتِقَالَهُ إلَيْهِ، بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ امْتَنَعَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنْ الْيَمِينِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَصِيبَهُمْ يَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا، كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَى حَسْبِ مَا أَقَرُّوا بِهِ، فَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُمْ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، فَقَالَ أَوْلَادُهُمْ: نَحْنُ نَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِنَا، لِتَكُونَ جَمِيعُ الدَّارِ وَقْفًا لَنَا. فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ، فَلَهُمْ إثْبَاتُهُ كَالْبَطْنِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إنْ حَلَفَ أَحَدُ الْبَنِينَ، وَنَكَلَ أَخَوَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْحَالِفُ؛ نَظَرْت، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ إخْوَتِهِ، صُرِفَ نُصِيبُهُ إلَى أَوْلَادِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ مَاتَ فِي حَيَاةِ إخْوَتِهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يَنْصَرِفُ إلَى إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ مَعَ بَقَاءِ أَحَدٍ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي، يَنْتَقِلُ إلَى أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ أَخَوَيْهِ أَسْقَطَا حَقَّهُمَا بِنُكُولِهِمَا، فَصَارَا كَالْمَعْدُومَيْنِ. وَالثَّالِثُ، يُصْرَفُ إلَى أَقْرَبِ عَصَبَةِ الْوَاقِفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ صَرْفُهُ إلَى الْأَخَوَيْنِ، وَلَا إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، لِمَا ذَكَرْنَا، فَيُصْرَفُ إلَى أَقْرَبِ عَصَبَةِ الْوَاقِفِ، إلَى أَنْ يَمُوتَ الْأَخَوَانِ، ثُمَّ يَعُودَ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَمْ يُسْقِطَا حُقُوقَهُمَا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَا مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ اعْتَرَفَ لَهُمَا الْأَبَوَانِ، ثَبَتَ الْوَقْفُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَهَا هُنَا قَدْ حَصَلَ الِاعْتِرَافُ مِنْ الْبَطْنِ الثَّانِي، فَوَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِمَا؛ لِحُصُولِ الِاتِّفَاقِ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْبَطْنُ الثَّانِي صِغَارًا، فَمَا حَصَلَ الِاعْتِرَافُ مِنْهُمْ. قُلْنَا: قَدْ حَصَلَ الِاعْتِرَافُ مِنْ الْحَالِفِ الَّذِي ثَبَتَتْ الْحُجَّةُ بِيَمِينِهِ، وَبِالْبَيِّنَةِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا الْوَقْفُ، وَبِهَا يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي، فَاكْتُفِيَ بِذَلِكَ فِي انْتِقَالِهِ إلَى الْأَخَوَيْنِ، كَمَا يُكْتَفَى بِهِ فِي انْتِقَالِهِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَخَوَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّنَا اكْتَفَيْنَا بِالْبَيِّنَةِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، وَصِفَتِهِ، وَتَرْتِيبِهِ، فِيمَا عَدَا هَذَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ فِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 فَأَمَّا إنْ كَانَ شَرْطُ الْوَاقِفِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ، انْتَقَلَ إلَى أَوْلَادِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمْ فِيهِ. وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ، انْتَقَلَ إلَى أَخَوَيْهِ، عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَيُخَرَّجُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ. الْحَالُ الثَّانِي، إذَا كَانَ الْوَقْفُ مُشْتَرَكًا؛ وَهُوَ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ أَبَاهُمْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى وَلَدِهِ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ مَا تَنَاسَلُوا، فَقَدْ شَرَّكَ بَيْنَ الْبُطُونِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ، إذَا حَلَفَ أَوْلَادُهُ الثَّلَاثَةُ مَعَ شَاهِدِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ مَعَهُمْ مَوْجُودًا، ثَبَتَ الْوَقْفُ عَلَى الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَحَدٌ مَوْجُودًا، فَهُوَ شَرِيكُهُمْ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ نَصِيبُهُ مِيرَاثًا تُقْضَى مِنْهُ الدُّيُونُ، وَتَنْفُذُ الْوَصَايَا، وَبَاقِيه لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْوَقْفَ ابْتِدَاءً مِنْ الْوَاقِفِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَهُوَ كَأَحَدِ الْبَنِينَ. وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ حَدَثَ لِأَحَدِ الْبَنِينَ وَلَدٌ يُشَارِكُهُمْ فِي الْوَقْفِ، أَوْ كَانَ أَحَدُ الْبَنِينَ صَغِيرًا، وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَلَا يُسَلَّمُ إلَى وَلِيِّهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَحْلِفَ أَوْ يَمْتَنِعَ؛ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْوَقْفَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِكَوْنِ الْبَنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِذَلِكَ، فَيُكْتَفَى بِاعْتِرَافِهِمْ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهمْ دَارٌ فَاعْتَرَفُوا لَصَغِيرٍ مِنْهَا بِشِرْكٍ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى وَلِيِّهِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي أَيْدِيهمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا مُنَازِعٌ، وَلَا يُوجَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيهَا يَمِينٌ، وَهَذِهِ يُنَازِعُهُمْ فِيهَا الْأَبَوَانِ، وَأَصْحَابُ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهَا بِأَيْمَانِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِمُشَارِكٍ لَهُمْ، فَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِيَمِينِهِ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِالْيَمِينِ. وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ الْوَقْفُ مُرَتَّبًا عَلَى بَطْنٍ، بَعْدَ بَطْنٍ، فَإِنَّهُ لَا يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْبَطْنِ الثَّانِي. فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ الْمَوْقُوفُ نَصِيبُهُ، فَحَلَفَ، كَانَ لَهُ، وَإِنْ امْتَنَعَ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الدَّعْوَى، أَوْ قَبْلَ حَلِفِهِمْ، كَانَ نَصِيبُهُ مِيرَاثًا، كَمَا لَوْ كَانَ بَالِغًا، فَامْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ، فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَثُبُوتِ الْوَقْفِ نَمَاءٌ، كَانَ لَهُ نَصِيبُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الدَّارِ بِأَيْمَانِ الْبَنِينَ، فَلَا يَبْطُلُ بِامْتِنَاعِ مَنْ حَدَثِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ أَقَرَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ وَقْفًا، وَكَذَّبَ الْبَنِينَ فِي ذَلِكَ، كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْغَلَّةِ مِيرَاثًا، حُكْمُهُ حُكْمُ نَمَاءِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ، فَنَصِيبُهُ وَقْفٌ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ، رُدَّ نَصِيبُهُ إلَى الْأَوْلَادِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الدَّعْوَى وَالْحَادِثِ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِغَيْرِ يَمِينِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ الْوَقْفُ الثَّابِتُ بِأَيْمَانِهِمْ، فَتَعَيَّنَ رَدُّ نَصِيبِهِ إلَيْهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الدَّعْوَى وَحَلِفِهِمْ، فَهُوَ شَرِيكُهُمْ حِينَ يَثْبُتُ الْوَقْفُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 الْوَقْفُ فِي نَصِيبِهِ بِغَيْرِ يَمِينِهِ، كَالْبَالِغِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْوَقْفِ بِأَيْمَانِهِمْ، فَهُمْ مُقِرُّونَ لَهُ بِنَصِيبِهِ وَهُوَ يُصَدِّقُهُمْ فِي إقْرَارِهِمْ فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَخْذُ نَصِيبِهِ كَمَا لَوْ أَقَرُّوا لَهُ بِمَالٍ، وَلِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْوَقْفِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَ الصَّغِيرُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ الْبَالِغِينَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وُقِفَ أَيْضًا نَصِيبُهُ مِمَّا كَانَ لِعَمِّهِ الْمَيِّتِ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ، كَالْحُكْمِ فِي نَصِيبِهِ الْأَصْلِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ بَلَغَ فَامْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ، فَالرُّبْعُ مَوْقُوفٌ إلَى حِينِ مَوْتِ الثَّالِثِ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ الْبَالِغِينَ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَنَصِيبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ لِلْبَالِغَيْنِ الْحَيَّيْنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَحِقَّا الْوَقْفِ. [مَسْأَلَة الْمُدَّعِيَ إذَا ذَكَرَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُهَا أَوْ لَا يُرِيدُ إقَامَتَهَا فَطَلَبَ الْيَمِينَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (8427) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى، وَذَكَرَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ حُكِمَ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ الْيَمِينُ مُزِيلَةً لِلْحَقِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا ذَكَرَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُهَا، أَوْ لَا يُرِيدُ إقَامَتَهَا، فَطَلَبَ الْيَمِينَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أُحْلِفَ لَهُ، فَإِذَا حَلَفَ، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةِ، حُكِمَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُد، أَنَّ بَيِّنَتَهُ لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا تُسْمَعُ بَعْدَهَا حُجَّة الْمُدَّعِي، كَمَا لَا تُسْمَعُ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي. وَلَنَا، قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْبَيِّنَةُ الصَّادِقَةُ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ الصِّدْقُ، وَيَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهَا فُجُورُ الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَكُونُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِيهَا بِإِقْرَارِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، كَمَا قَبْلَ الْيَمِينِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأَصْلُ، وَالْيَمِينَ بَدَلٌ عَنْهَا. وَلِهَذَا لَا تُشْرَعُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهَا، وَالْبَدَلُ يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ، كَبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْبَدَلِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَمَا، أَنَّهُمَا حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَإِمْكَانِ سَمَاعِهِمَا، تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ، وَيُحْكَمُ بِهَا، وَلَا تُسْمَعُ الْيَمِينُ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهَا. [فَصْل طَلَبَ الْمُدَّعِي حَبْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ إقَامَةَ كَفِيلٍ بِهِ إلَى أَنْ تَحْضُرَ بَيِّنَتُهُ الْبَعِيدَةُ] (8428) فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي حَبْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ إقَامَةَ كَفِيلٍ بِهِ إلَى أَنْ تَحْضُرَ بَيِّنَتُهُ الْبَعِيدَةُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَةُ خَصْمِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ يُحْبَسُ بِهِ، وَلَا يُقِيمُ بِهِ كَفِيلًا، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ، فَلَا يَلْزَمُ مَعْصُومًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَتَمَكَّنَ كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ حَبْسٍ مَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ قَرِيبَةً، فَلَهُ مُلَازَمَتُهُ حَتَّى يُحْضِرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ إقَامَتِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 مِنْ مُلَازَمَتِهِ، لَذَهَبَ مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَلَا تُمْكِنُ إقَامَتُهَا إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، تَمَكَّنَ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فِيهِ حَتَّى تَحْضُرَ الْبَيِّنَةُ. وَتُفَارِقُ الْبَيِّنَةَ الْبَعِيدَةَ، أَوْ مَنْ لَا يُمْكِنُ حُضُورُهَا، فَإِنَّ إلْزَامَهُ الْإِقَامَةَ إلَى حِينِ حُضُورِهَا يَحْتَاجُ إلَى حَبْسٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. [فَصْل قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَأُرِيدُ إحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ] (8429) فَصْلٌ: وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ، وَطَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أُحْلِفَ لَهُ، ثُمَّ إنْ أَحْضَرَ شَاهِدًا آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَّلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَقُضِيَ بِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَأُرِيدُ إحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ، وَيَسْتَحْلِفُ خَصْمَهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِحْلَافَهُ إذَا كَانَتْ بَيِّنَتُهُ بَعِيدَةً، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أُرِيدُ إقَامَةَ بَيِّنَتِي الْقَرِيبَةِ. مَلَكَ اسْتِحْلَافَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ إقَامَتَهَا. الثَّانِي، لَا يَمْلِكُ اسْتِحْلَافَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ غُنْيَةً عَنْ الْيَمِينِ، فَلَمْ تُشْرَعْ مَعَهَا؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَصْلٌ، وَالْيَمِينَ بَدَلٌ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْأَصْلِ، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ. وَفَارَقَ الْبَعِيدَةَ، فَإِنَّهَا فِي الْحَالِ كَالْمَعْدُومَةِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي لَا يُرِيدُ إقَامَتَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِي إحْضَارِهَا، أَوْ عَلَيْهِ فِي الْحُضُورِ مَشَقَّةٌ، فَيَسْقُطُ ذَلِكَ لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ الَّتِي يُرِيدُ إقَامَتَهَا. [مَسْأَلَة الْيَمِينَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يَبْرَأ بِهَا الْمَطْلُوبُ] (8430) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْيَمِينُ الَّتِي يَبْرَأُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، هِيَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا) . وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الْيَمِينَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يَبْرَأُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، هِيَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا أُحِبَّ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَإِنْ اسْتَحْلَفَ حَاكِمٌ بِاَللَّهِ، أَجْزَأَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْلَفَ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُ: قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، مَالَهُ عِنْدَك شَيْءٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، حِينَ حَلَفَ لِأَبِي، قَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّ النَّخْلَ لَنَخْلِي، وَمَا لِأَبِي فِيهَا شَيْءٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى قِصَاصًا أَوْ عَتَاقًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ مَالًا يَبْلُغُ نِصَابًا غَلُظَتْ الْيَمِينُ، فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ فِي الْقَسَامَةِ: عَالِمِ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] . وَقَالَ تَعَالَى فِي اللِّعَانِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] . قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مَنْ أَقْسَمَ بِاَللَّهِ، فَقَدْ أَقْسَمَ جَهْدَ الْيَمِينِ «. وَاسْتَحْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ فِي الطَّلَاقِ، فَقَالَ: آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً» . حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكَنَدِيُّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُحَلِّفُهُ، وَاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي غَصَبَنِيهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْته وَمَا بِهِ دَاءٌ تَعْلَمَهُ. وَلِأَنَّ فِي اللَّهِ كِفَايَةً، فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِاسْمِهِ فِي الْيَمِينِ، كَالْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمُوهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ كَذَلِكَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِاسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبَاقُونَ فَتَحَكُّمٌ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا قِيَاسَ يَقْتَضِيه. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ جَمِيعًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ بِغَيْرِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» . . [فَصْل الْيَمِينُ فِي حَقِّ كُلِّ مُدَّعَى عَلَيْهِ] (8431) فَصْلٌ: وَتُشْرَعُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ كُلِّ مُدَّعَى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَرَوَى شَقِيقٌ، عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِي، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 فَقَدَّمْته إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَك بَيِّنَةٌ؟ . قُلْت: لَا. قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ. قُلْت: إذًا يَحْلِفُ، فَيَذْهَبُ بِمَالِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] .» إلَى آخِرِ الْآيَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ، قُلْت: إنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. قَالَ: «لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ» . [مَسْأَلَة الْيَمِينَ لَا تُغَلَّظَ إلَّا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ] (8432) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ يَهُودِيًّا، قِيلَ لَهُ: قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، قِيلَ لَهُ: قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَوَاضِعُ يُعَظِّمُونَهَا، وَيَتَوَقَّوْنَ أَنْ يَحْلِفُوا فِيهَا كَاذِبِينَ، حُلِّفُوا فِيهَا) . ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُغَلَّظُ إلَّا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا تُغَلَّظُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ. وَوَجْهُ تَغْلِيظِهَا فِي حَقِّهِمْ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي لِلْيَهُودِ -: «نَشَدْتُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ: تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ، فَيُحَلَّفُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُعَظِّمُهَا، وَيَتَوَقَّى الْكَذِبَ فِيهَا. وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْلِيظَ بِالزَّمَانِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إنْ رَأَى التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ فِي اللَّفْظِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَلَهُ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي. وَذَكَرَ التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِيِّ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَرَزَقَنِي. وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّفَ بِغَيْرِ اللَّهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُت» . وَلِأَنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ يَعْتَدُّ هَذِهِ يَمِينًا، فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِهَا إثْمًا وَعُقُوبَةً، وَرُبَّمَا عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، فَيَتَّعِظُ بِذَلِكَ، وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا لِلْحَاكِمِ فِعْلُهُ إذَا رَأَى. وَمِمَّنْ قَالَ: يَسْتَحْلِفُ أَهْلَ الْكِتَابِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ. مَسْرُوقٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يُشْرَعُ التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ. أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تُغَلَّظُ. ثُمَّ اخْتَلَفَا؛ فَقَالَ مَالِكٌ: يُحَلَّفُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَلَّفُ قَائِمًا، وَلَا يُحَلَّفُ قَائِمًا إلَّا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَحْلِفُونَ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَلَا يُحَلَّفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إلَّا عَلَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ فَصَاعِدًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ بِمَكَّةَ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي الْجَوَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَعِنْدَ الصَّخْرَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتُغَلَّظُ فِي الزَّمَانِ فِي الِاسْتِحْلَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا تُغَلَّظُ فِي الْمَالِ إلَّا فِي نِصَابٍ فَصَاعِدًا، وَتُغَلَّظُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تُغَلَّظُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] . قِيلَ: أَرَادَ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . فَثَبَتَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ تَأْكِيدُ الْيَمِينِ. وَرَوَى مَالِكٌ، قَالَ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مُطِيعٍ، فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، إلَى مَرْوَانِ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي فَقَالَ مَرْوَانُ: لَا وَاَللَّهِ، إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ. قَالَ: فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] . وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانًا وَلَا زَمَنًا، وَلَا زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ. وَاسْتَحْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةَ فِي الطَّلَاقِ، فَقَالَ: «آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ . قَالَ: آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً» . وَلَمْ يُغَلِّظْ يَمِينَهُ بِزَمَنٍ، وَلَا مَكَان، وَلَا زِيَادَةِ لَفْظٍ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَحَلَفَ عُمَرُ لِأَبِي حِينَ تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ فِي مَكَانِهِ، وَكَانَا فِي بَيْتِ زَيْدٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْته وَمَا بِهِ دَاءٌ تَعْلَمُهُ؟ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَمُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ. فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا عَنْ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، مَعَ مَنْ حَضَرِهِمَا، لَمْ يُنْكَرْ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 وقَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] . إنَّمَا كَانَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ خُولِفَ فِيهَا الْقِيَاسُ فِي مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا اسْتِحْلَافُ الشَّاهِدَيْنِ، وَمِنْهَا اسْتِحْلَافُ خُصُومِهِمَا عِنْدَ الْعُثُورِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا الْإِثْمَ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهَا أَصْلًا، فَكَيْفَ يَحْتَجُّونَ بِهَا؟ وَلَمَّا ذَكَرَ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ أَطْلَقَ الْيَمِينَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا. وَالِاحْتِجَاجُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ الْمَصِيرِ إلَى مَا خُولِفَ فِيهِ الْقِيَاسُ وَتُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، إنَّمَا فِيهِ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْحَالِفِ عِنْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا قِصَّةُ مَرْوَانَ، فَمِنْ الْعَجَبِ احْتِجَاجُهُمْ بِهَا، وَذَهَابُهُمْ إلَى قَوْلِ مَرْوَانَ فِي قَضِيَّةٍ خَالَفَهُ زَيْدٌ فِيهَا، وَقَوْلُ زَيْدٍ، فَقِيهِ الصَّحَابَةِ وَقَاضِيهمْ وَأَفْرَضِهِمْ، أَحَقُّ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ مِنْ قَوْلِ مَرْوَانَ؛ فَإِنَّ قَوْلَ مَرْوَانَ لَوْ انْفَرَدَ، مَا جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلِ أَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِ فَعَلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِطْلَاقَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ التَّغْلِيظَ بِالْمَكَانِ وَاللَّفْظِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، لِاسْتِحْلَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ، بِقَوْلِهِ: «نَشَدْتُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى» . وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكِتَابِيَّيْنِ {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] . وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ سُورٍ، فِي نَصْرَانِيٍّ قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إلَى الْمَذْبَحِ، وَاجْعَلُوا الْإِنْجِيلَ فِي حِجْرِهِ، وَالتَّوْرَاةَ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي نَصْرَانِيٍّ: اذْهَبْ بِهِ إلَى الْبِيعَةِ، فَاسْتَحْلِفْهُ بِمَا يُسْتَحْلَفُ بِهِ مِثْلُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ حُجَّةً تُوجِبُ أَنْ يُسْتَحْلَفَ فِي مَكَان بِعَيْنِهِ، وَلَا بِيَمِينٍ غَيْرِ الَّذِي يُسْتَحْلَفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ التَّغْلِيظَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَلْفَاظِ غَيْرُ وَاجِبٍ، إلَّا أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ ذَكَرَ أَنَّ فِي وُجُوبِ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاصِّ، فَقَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الْقَاضِيَ حَيْثُ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ وَبَلَدِ قَضَائِهِ، جَازَ، وَإِنَّمَا التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ فِيهِ اخْتِيَارٌ فَيَكُونُ التَّغْلِيظُ عِنْدَ مَنْ رَآهُ اخْتِيَارًا وَاسْتِحْسَانًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 [فَصْل الْيَمِينَ بِالْمُصْحَفِ] (8433) فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ نَجِدْ أَحَدًا يُوجِبُ الْيَمِينَ بِالْمُصْحَفِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْتُهُمْ يُؤَكِّدُونَ بِالْمُصْحَفِ، وَرَأَيْت ابْنَ مَازِنٍ، وَهُوَ قَاضٍ بِصَنْعَاءَ، يُغَلِّظُ الْيَمِينَ بِالْمُصْحَفِ. قَالَ أَصْحَابُهُ: فَيُغَلِّظُ عَلَيْهِ بِإِحْضَارِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ. وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَمِينِ، وَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمْ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ يُسْتَنَدُ إلَيْهَا، وَلَا يُتْرَكُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لِفِعْلِ ابْنِ مَازِنٍ وَلَا غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة الْأَيْمَانَ كُلَّهَا عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ] (8434) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ فِيمَا عَلَيْهِ عَلَى الْبَتِّ. وَيَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى دَيْنِ الْمَيِّتِ عَلَى الْعِلْمِ) . مَعْنَى الْبَتِّ: الْقَطْعُ. أَيْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَالَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، إلَّا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ: كُلُّهَا عَلَى الْعِلْمِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَضْطَرُّوا النَّاسَ فِي أَيْمَانِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ» . وَلِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ مَا لَا عِلْمِ لَهُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: كُلُّهَا عَلَى الْبَتِّ، كَمَا يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْلَفَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، مَا لَهُ عَلَيْك حَقٌّ» . وَرَوَى الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ، وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ، اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَرْضٍ مِنْ الْيَمَنِ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُو هَذَا، وَهِيَ فِي يَدِهِ. فَقَالَ: هَلْ لَك بَيِّنَةٌ؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِنْ، أُحَلِّفُهُ وَاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُوهُ. فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ لِلْيَمِينِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِحَاطَةُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي فِعْلِ غَيْرِهِ، فَافْتَرَقَا فِي الْيَمِينِ، كَمَا افْتَرَقَتْ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ بِالْقَطْعِ فِيمَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ، وَعَلَى الظَّنِّ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقَطْعُ مِنْ الْأَمْلَاكِ وَالْأَنْسَابِ، وَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فِيمَا لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِانْتِفَائِهِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَحْمُولٌ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ فِيمَا عَلَيْهِ عَلَى الْبَتِّ، نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ إثْبَاتًا، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَوْ بَاعَ، وَيُقِيمَ شَاهِدًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ. وَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 كَانَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ غَصْبٌ أَوْ جِنَايَةٌ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَا غَيْرُ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهِ عَلَى الْبَتِّ كَفَاهُ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ الْعِلْمَ، كَمَا فِي الشَّاهِدِ إذَا شَهِدَ بِعَدَدِ الْوَرَثَةِ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُمْ. سُمِعَ ذَلِكَ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ عِلْمَهُ. وَلَوْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّ عَبْدَهُ جَنَى أَوْ اسْتَدَانَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَيَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَأَشْبَهَتْ يَمِينَ الْوَارِثِ عَلَى نَفْيِ الْمَوْرُوثِ. [فَصْل بَاعَ سِلْعَةً فَظَهْرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِهَا وَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ] (8435) فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: اخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَدَ، فِي مَنْ بَاعَ سِلْعَةً، فَظَهْرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِهَا، وَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ، هَلْ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ أَوْ عَلَى عِلْمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلَوْ أَبَقَ عَبْدُ الْمُشْتَرِي، فَادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ، فَأَنْكَرَ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْبِقْ قَطُّ، أَوْ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدَهُ، فَيَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْبِقْ قَطُّ. وَوَجْهُ كَوْنِ الْيَمِينِ عَلَى عِلْمِهِ، أَنَّهَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ عَبْدَهُ جَنَى. وَوَجْهُ الْأُخْرَى، أَنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَهُ مَعِيبًا، يَسْتَحِقُّ بِهِ رَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَزِمَتْهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ، كَمَا لَوْ كَانَ إثْبَاتًا. [فَصْل تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ هُوَ فِيهَا صَادِقٌ] (8436) فَصْلٌ: وَمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ هُوَ فِيهَا صَادِقٌ، أَوْ تَوَجَّهَتْ لَهُ، أُبِيحَ لَهُ الْحَلِفُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ إثْمٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْيَمِينَ، وَلَا يَشْرَعُ مُحَرَّمًا. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْحَقِّ، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. وَحَلَفَ عُمَرُ لِأَبِي عَلَى نَخِيلٍ، ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ، وَقَالَ: خِفْت إنْ لَمْ أَحْلِفْ أَنْ يَمْتَنِعَ النَّاسُ مِنْ الْحَلِفِ عَلَى حُقُوقِهِمْ، فَتَصِيرَ سُنَّةً. قَالَ حَنْبَلٌ: بُلِيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِ هَذَا، جَاءَ إلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ، فَقَالَ: لِي قِبَلَك حَقٌّ مِنْ مِيرَاثِ أَبِي، وَأُطَالِبُك بِالْقَاضِي، وَأُحَلِّفُك. فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَحْلِفُ لَهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِبَلِي حَقٌّ، وَأَنَا غَيْرُ شَاكٍّ فِي ذَلِكَ حَلَفْت لَهُ، وَكَيْفَ لَا أَحْلِفُ، وَعُمَرُ قَدْ حَلَفَ، وَأَنَا مَنْ أَنَا؟ وَعَزَمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْيَمِينِ، فَكَفَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَرَجَعَ الْغُلَامُ عَنْ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْأَوْلَى، فَقَالَ قَوْمٌ: الْحَلِفُ أَوْلَى مِنْ افْتِدَاءِ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حَلَفَ؛ وَلِأَنَّ فِي الْحَلِفِ فَائِدَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، حِفْظُ مَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ، تَخْلِيصُ أَخِيهِ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ، وَأَكْلِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَهَذَا مِنْ نَصِيحَتِهِ وَنُصْرَتِهِ بِكَفِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْخُذَ حَقَّهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَفْضَلُ افْتِدَاءُ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ افْتَدَى يَمِينَهُ، وَقَالَ: خِفْت أَنْ تُصَادِفَ قَدْرًا، فَيُقَالَ حَلَفَ فَعُوقِبَ، أَوْ هَذَا شُؤْمُ يَمِينِهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ حُذَيْفَةَ عَرَفَ جَمَلًا سُرِقَ لَهُ، فَخَاصَمَ فِيهِ إلَى قَاضِي الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتْ الْيَمِينُ عَلَى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: لَك عَشْرَةُ دَرَاهِمَ. فَأَبَى، فَقَالَ لَك عِشْرُونَ، فَأَبَى، فَقَالَ: لَك ثَلَاثُونَ.، فَأَبَى، فَقَالَ: لَك أَرْبَعُونَ. فَأَبَى، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَتُرَانِي أَتْرُكُ جَمَلِي؟ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ. وَلِأَنَّ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَاكِمِ تَبَذُّلًا، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُصَادِفَ قَدَرًا، فَيُنْسَبَ إلَى الْكَذِبِ، وَأَنَّهُ عُوقِبَ بِحَلِفِهِ كَاذِبًا، وَفِي ذَهَابِ مَالِهِ لَهُ أَجْرٌ، وَلَيْسَ هَذَا تَضْيِيعًا لِلْمَالِ، فَإِنَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيَغْرَمُهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا عُمَرُ، فَإِنَّهُ خَافَ الِاسْتِنَانَ بِهِ، وَتَرْكَ النَّاسِ الْحَلِفَ عَلَى حُقُوقِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ، لَمَا حَلَفَ، وَهَذَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْل الْحَلِفُ الْكَاذِبُ لِيَقْتَطِعَ بِهِ مَالَ أَخِيهِ] (8437) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَلِفُ الْكَاذِبُ لِيَقْتَطِعَ بِهِ مَالِ أَخِيهِ، فَفِيهِ إثْمٌ كَبِيرٌ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، كَانَ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " بَيِّنَتُك، أَوْ يَمِينُهُ ". قُلْت: إذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْكِنْدِيِّ «لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ: أَنَّ يَمِينَ الْغَمُوسِ تَذَرُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُخَوِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَيَقْرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ وَالْأَخْبَارَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 [فَصْل حُكْم الْيَمِين إذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ مُعَسِّر بِهِ] (8438) فَصْلٌ: وَمِنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ بِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيَّ. وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقٌّ، لَمْ يَجِبْ إنْظَارُهُ بِهِ. [فَصْل يَمِينُ الْحَالِفِ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِ] (8439) فَصْلٌ: وَيَمِينُ الْحَالِفِ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ، أَوْ اسْتَوْدَعَهُ وَدِيعَةً، أَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُ، نَظَّرْنَا فِي جَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ فَإِنْ قَالَ: مَا غَصَبْتُك، وَلَا اسْتَوْدَعْتنِي، وَلَا أَقْرَضْتنِي. كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ: مَالَكَ عَلَيَّ حَقٌّ، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ مَا ادَّعَيْته، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ. كَانَ جَوَابًا صَحِيحًا. وَلَا يُكَلَّفُ الْجَوَابَ عَنْ الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَصَبَ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَوْ كُلِّفَ فَجَحَدَ ذَلِكَ كَانَ كَاذِبًا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ ادَّعَى الرَّدَّ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ الْيَمِينُ، حَلَفَ عَلَى حَسَبِ مَا أَجَابَ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّنِي ابْتَعْت مِنْك الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِك، فَأَنْكَرَهُ، وَطَلَبَ يَمِينَهُ، نَظَرْنَا فِي جَوَابِهِ؛ فَإِنْ أَجَابَ بِأَنَّك لَا تَسْتَحِقُّهَا. حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا ابْتَاعَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْتَاعُهَا مِنْهُ ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ أَجَابَ بِأَنَّك لَمْ تَبْتَعْهَا مِنِّي. حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ، فَأَنْكَرَهُ، هَلْ يَحْلِفُ: مَا أَوْدَعْتنِي؟ قَالَ: إذَا حَلَفَ: مَالَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَا لَك فِي يَدِي شَيْءٌ. فَهُوَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَلِفُ عَلَى حَسَبِ الْجَوَابِ، وَأَنَّهُ مَتَى حَلَفَ: مَالَكَ قِبَلِي حَقٌّ. بَرِئَ بِذَلِكَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْل هَلْ تَدْخُلُ الْيَمِينَ النِّيَابَةُ] (8440) فَصْلٌ: وَلَا تَدْخُلُ الْيَمِينَ النِّيَابَةُ، وَلَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، لَمْ يُحْلَفْ عَنْهُ وَوُقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَعْقِلَ الْمَجْنُونُ، وَلَمْ يَحْلِفْ عَنْهُ وَلِيُّهُ. وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ حَقًّا، أَوْ ادَّعَاهُ الْوَصِيَّ أَوْ الْأَمِينُ لَهُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَمْ يَرَ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ، وَرَأَى رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لَمْ يَحْلِفْ الْوَلِيُّ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ تَقِفُ الْيَمِينُ، وَيَكْتُبُ الْحَاكِمُ مَحْضَرًا بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ دَعْوَى، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ، كَالْقِصَاصِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْقَذْفِ، فَالْخُصُومَةُ مَعَهُ دُونَ سَيِّدِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعُ فِي هَذَا. أَحْلِفْ الْعَبْدُ دُونَ سَيِّدِهِ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَحْلِفْ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ فِيهِ، كَإِتْلَافِ مَالٍ، أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ، فَالْخَصْمُ السَّيِّدُ، وَالْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْلِفُ الْعَبْدُ فِيهَا بِحَالٍ. [فَصْل نَكَل مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَنْهَا] (8441) فَصْلٌ: وَإِذَا نَكَلَ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَنْهَا، وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ أُقِيمُهَا، أَوْ حِسَابٌ أَسْتَثْبِتُهُ، لِأَحْلِفَ عَلَى مَا أَتَيَقَّنُ. فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَا يُمْهَلُ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ جُعِلَ نَاكِلًا. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ نُكُولًا، وَيُمْهَلُ مُدَّةً قَرِيبَةً. وَإِنْ قَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَحْلِفَ. أَوْ سَكَتَ، فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا نَظَرْنَا فِي الْمُدَّعَى؛ فَإِنْ كَانَ مَالًا أَوْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: أَنَا لَا أَرَى رَدَّ الْيَمِينِ، إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا دَفَعَ إلَيْهِ حَقَّهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ لَهُ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، إنْ رَدَّهَا حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَحُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ. قَالَ وَقَدْ صَوَّبَهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ، يَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ.: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ فِي الْمَالِ خَاصَّةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا نَكَلَ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي، وَقَوِيَ جَانِبُهُ، فَتُشْرَعُ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ نُكُولِهِ، وَكَالْمُدَّعِي إذَا شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّ النُّكُولَ قَدْ يَكُونُ لَجَهْلِهِ بِالْحَالِ، وَتَوَرُّعِهِ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ، أَوْ لِلْخَوْفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْيَمِينِ، أَوْ تَرَفُّعًا عَنْهَا، مَعَ عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ فِي إنْكَارِهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ بِنُكُولِهِ صِدْقُ الْمُدَّعِي، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ لَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ دَلِيلًا عِنْدَ عَدَمِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، كَمَا فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا أَدْعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . فَحَصَرَهَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . فَجَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ فِي جَنْبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا جَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي. وَقَالَ أَحْمَدُ: قَدِمَ ابْنُ عُمَرَ إلَى عُثْمَانَ فِي عَبْدٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: احْلِفْ أَنَّك مَا بِعْته وَبِهِ عَيْبٌ عَلِمْته. فَأَبَى ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ، فَرَدَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي. وَلِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي الْمَالِ، فَحُكِمَ فِيهَا بِالنُّكُولِ، كَمَا لَوْ مَاتَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَوَجَدَ الْإِمَامُ فِي دَفْتَرِهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى إنْسَانٍ، فَطَالَبَهُ بِهِ، فَأَنْكَرَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ، فَأَنْكَرَهُ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُرَدُّ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا، أَنَّهُ يُقْضَى بِالنُّكُولِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَتَّى يُقِرَّ، أَوْ يَحْلِفَ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ وَصَّى إلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ، وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ، وَنَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ، قُضِيَ عَلَيْهِمْ. وَالْخَبَرُ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ، وَمُخَالَفَةُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا رَدَّهَا عُثْمَانُ. فَعَلَى هَذَا، إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ حَلَفْت، وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك. ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفَ وَإِلَّا قَضَى عَلَيْهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، يَقُولُ لَهُ: لَك رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي. فَإِنْ رَدَّهَا، حَلَفَ، وَقُضِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، سُئِلَ عَنْ سَبَبِ نُكُولِهِ، فَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ أُقِيمُهَا، أَوْ حِسَابٌ أَسْتَثْبِتُهُ، لِأَحْلِفَ عَلَى مَا أَتَيَقَّنُهُ. أَخَّرَتْ الْحُكُومَةُ. وَإِنْ قَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَحْلِفَ. سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْيَمِينِ، فَلَوْ بَذَلَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَعْدَ هَذَا، لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ، إلَى أَنْ يَعُودَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ، ثُمَّ بَذَلَهَا، سُمِعَتْ مِنْهُ، فَلِمَ مَنَعْتُمْ سَمَاعَهَا هَاهُنَا؟ قُلْنَا: الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هِيَ الْأَصْلُ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَيْهَا، أَوْ بَذَلَهَا، وَجَبَ قَبُولُهَا، وَالْمَصِيرُ إلَيْهَا، كَالْمُبْدَلَاتِ مَعَ أَبْدَالِهَا، وَأَمَّا يَمِينُ الْمُدَّعِي، فَهِيَ بَدَلٌ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا، لَمْ يَنْتَقِلْ الْحَقُّ إلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا؛ لِضَعْفِهَا. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ، وَقُضِيَ لَهُ، فَعَادَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَذَلَ الْيَمِينَ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَهَكَذَا لَوْ بَذَلَهَا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، لَمْ يُسْمَعْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ، فَلَا يُنْقَضُ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِ، وَمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَلَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْقِصَاصِ. وَنُقِلَ عَنْهُ، فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَهُ، فَقَالَ: اسْتَحْلِفُوهُ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ. أُقِيمَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا بِالنُّكُولِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْضِي بِالنُّكُولِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَأَشْبَهَ النَّوْعَ الْآخَرَ. فَعَلَى هَذَا، مَا يُصْنَعُ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُخْلَى سَبِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ شَرْعِيَّةِ الْيَمِينِ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ. وَالثَّانِي، يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ الْمَرْأَةُ إذَا نَكَلَتْ عَنْ اللِّعَانِ. [فَصْل حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] (8442) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أُعِيدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُزِيلُ حُكْمَ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَصَلَ يَمِينَهُ بِشَرْطٍ أَوْ كَلَامٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ. وَإِنْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الْحَاكِمُ، أُعِيدَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا حَلَفَ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي اسْتِحْلَافَهُ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا. [فَصْل ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا أَوَحَقًّا فَقَالَ قَدْ أَبْرَأْتنِي مِنْهُ أَوْ اسْتَوْفَيْته مِنِّي] (8443) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا، أَوْ حَقًّا، فَقَالَ: قَدْ أَبْرَأْتنِي مِنْهُ، أَوْ اسْتَوْفَيْته مِنِّي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 الْإِبْرَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكْفِيه أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ - وَيُسَمِّيه تَسْمِيَةً يَصِيرُ بِهَا مَعْلُومًا - مَا بَرِئَتْ ذِمَّتُك مِنْهُ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ مَا بَرِئَتْ ذِمَّتك مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَإِنْ ادَّعَى اسْتِيفَاءَهُ، أَوْ الْبَرَاءَةَ بِجِهَةٍ مَعْلُومَةٍ، حَلَفَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ وَحْدَهَا، وَكَفَاهُ. [فَصْل الْيَمِين فِي الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ] (8444) فَصْلٌ: وَالْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا هُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ. وَالثَّانِي، مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَحَقُّ الْآدَمِيِّ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا هُوَ مَالٌ، أَوْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، فَهَذَا تُشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَرِئَ. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ اللَّذَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَرْضِ، وَعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ؛ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالنَّسَبِ، وَالِاسْتِيلَادِ، وَالْوَلَاءِ، وَالرِّقِّ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ مَنْ مَضَى جَوَّزُوا الْأَيْمَانَ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَالْعُرُوضِ خَاصَّةً. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَحْلِفُ فِي النِّكَاحِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ دَعْوَى الرَّجْعَةِ وَالْفَيْئَةِ فِي الْإِيلَاءِ، وَلَا فِي الرِّقِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الِاسْتِيلَادِ وَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَدْخُلُهَا الْبَدَلُ، وَإِنَّمَا تُعْرَضُ الْيَمِينُ فِيمَا يَدْخُلُهُ الْبَدَلُ؛ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ أَوْ يُسَلِّمَ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ذَكَرَيْنِ، فَلَا تُعْرَضُ فِيهَا الْيَمِينُ كَالْحُدُودِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَسْتَحْلِفُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْقِصَاصِ، وَالْقَذْفِ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا قَالَ: ارْتَجَعْتُك. فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِك. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا. وَإِذَا اُخْتُلِفَ فِي مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا، أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي كُلِّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا عَامٌ فِي كُلِّ مُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي دَعْوَى الدِّمَاءِ؛ لِذِكْرِهَا فِي الدَّعْوَى مَعَ عُمُومِ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى صَحِيحَةٌ فِي حَقٍّ لِآدَمِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَدَعْوَى الْمَالِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ نَوْعَانِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 أَحَدُهُمَا، الْحُدُودُ، فَلَا تُشْرَعُ فِيهَا يَمِينٌ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، قُبِلَ مِنْهُ، وَخُلِّيَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، فَلَأَنْ لَا يَسْتَحْلِفَ مَعَ عَدَمِ الْإِقْرَارِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ، وَالتَّعْرِيضُ لِلْمُقِرِّ بِهِ، بِالرُّجُوعِ عَنْ إقْرَارِهِ، وَلِلشُّهُودِ بِتَرْكِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَزَّالٍ، فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك، لَكَانَ خَيْرًا لَك» . فَلَا تُشْرَعُ فِيهِ يَمِينٌ بِحَالٍ. النَّوْعُ الثَّانِي، الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ، كَدَعْوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ تَمَّ وَكَمُلَ النِّصَابُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَسْتَحْلِفُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ، أَشْبَهَ حَقَّ الْآدَمِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَشْبَهَ الْحَدَّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، فَلَا يَسْتَحْلِفُ عَلَيْهَا كَالصَّلَاةِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ، أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ نَذْرَ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي هَذَا، وَلَا فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِيهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَاهُ حَقًّا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَضَمَّنَتْ دَعْوَاهُ حَقًّا لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ سَرِقَةَ مَالِهِ، لِيُضَمِّنَ السَّارِقَ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا سَرَقَهُ، أَوْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الزِّنَى بِجَارِيَتِهِ؛ لِيَأْخُذَ مَهْرَهَا مِنْهُ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَيَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى] (8445) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ اثْنَانِ، أَنَّ هَذَا زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَشَهِدَ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ، فَالْأَرْبَعَةُ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ) . وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى، اجْتِمَاعُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ، وَكَانَ الْجَمِيعُ قَذَفَةً، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ، فَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، فَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى الشَّهَادَةِ بِزِنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ غَيْرُ الزِّنَى فِي الْآخَرِ، فَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ. وَاسْتَبْعَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَقَالَ: هَذَا سَهْوٌ مِنْ النَّاقِلِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْأُصُولَ وَالْإِجْمَاعَ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَكَيْفَ يَجِبُ بِهَا، وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَّلُوا أَرْبَعَةً، وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِزِنًى وَاحِدٍ يَجِبُ الْحَدُّ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِزِنًى وَاحِدٍ، فَلَزِمَهُمْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِغَيْرِهَا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ بِزِنًى وَاحِدٍ أَوْ بِاثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ أَنْ يُعَيِّنَ الْجَمِيعُ وَقْتًا وَاحِدًا، لَا يُمْكِنُ زِنَاهُ فِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَاثْنَانِ مِنْهُمْ كَاذِبَانِ يَقِينًا، وَاثْنَانِ مِنْهُمْ لَوْ خَلَوْا عَنْ الْمُعَارَضَةِ لِشَهَادَتِهِمْ، لَكَانَا قَاذِفَيْنِ، فَمَعَ التَّعَارُضِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ بِفِعْلَيْنِ، كَانُوا قَذَفَةً، كَمَا لَوْ عَيَّنُوا فِي شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل يَشْهَدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِأُخْرَى] (8446) فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ عَلَى فِعْلَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِأُخْرَى، أَوْ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي يَوْمٍ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي آخَرَ، أَوْ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا لَيْلًا، وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا نَهَارًا، أَوْ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا غَدْوَةً، وَيَشْهَدُ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عَشِيًّا، وَأَشْبَاهِ هَذَا، فَإِنَّهُمْ قَذَفَةٌ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ أُخْرَى، وَكَانَتَا مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مَكَانَانِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فِيهِمَا، وَلَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا، فَأَشْبَهَا الْبَيْتَيْنِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتَا مُتَقَارِبَتَيْنِ، تُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لِقُرْبِهِ مِنْهَا، كَمُلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِمْ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزَّاوِيَتَيْنِ جَمِيعًا. [فَصْل كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي زَمَنِهِ أَوْ مَكَانِهِ] (8447) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ، فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي زَمَنِهِ أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَةٍ لَهُ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ، لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ بِدِمَشْقَ، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ بِمِصْرَ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا، فَلَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ. وَهَكَذَا إنْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ الْقَتْلِ، أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ الْقَذْفِ، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، فَلَمْ يَشْهَدْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ يُقْبَلْ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكْمُلُ. وَيَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْفِعْلِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ مَعَ الزَّوَالِ كِيسًا أَبْيَضَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مَعَ الزَّوَالِ كِيسًا أَسْوَدَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ هَذَا الْكِيسَ غَدْوَةً، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَهُ عَشِيًّا، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَكْمُلْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ اخْتِلَافًا يُوجِبُ تَغَايُرِهِمَا، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِثَوْبٍ وَالْآخَرُ بِدِينَارٍ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكْمُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إيجَابًا بِالْحَقِّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَلَا إيجَابَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَأَمَّا إنْ شَهِدَ بِكُلِّ فِعْلٍ شَاهِدَانِ، وَاخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ، أَوْ الْمَكَانِ، أَوْ الصِّفَةِ، ثَبَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، لَوْ انْفَرَدَتْ أَثْبَتَتْ الْحَقَّ، وَشَهَادَةُ الْأُخْرَى لَا تُعَارِضُهَا؛ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَكَرُّرُهُ، كَقَتْلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فَتَتَعَارَضُ الْبَيِّنَتَانِ، لِعِلْمِنَا أَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَيَّتُهُمَا هِيَ، بِخِلَافِ مَا يَتَكَرَّرُ وَيُمْكِنُ صِدْقُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيهِ، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا يَثْبُتَانِ إنْ ادَّعَاهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ إلَّا إحْدَاهُمَا، ثَبَتَ لَهُ مَا ادَّعَاهُ دُونَ مَا لَمْ يَدَّعِهِ. وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مَعَ الزَّوَالِ كِيسًا أَسْوَدَ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مَعَ الزَّوَالِ كِيسًا أَبْيَضَ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ سَرَقَ هَذَا الْكِيسَ غَدْوَةً، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَهُ عَشِيًّا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَتَعَارَضَانِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَتْلًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا تَعَارُضَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صِدْقُ الْبَيِّنَتَيْنِ، بِأَنْ يَسْرِقَ عِنْدَ الزَّوَالِ كِيسَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، فَتَشْهَدَ كُلُّ بَيِّنَةٍ بِأَحَدِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْرِقَ كِيسًا غَدْوَةً ثُمَّ يَعُودَ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَسْرِقَهُ عَشِيًّا، وَمَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ لَا تَعَارُضَ. فَعَلَى هَذَا، إنْ ادَّعَاهُمَا الْمَشْهُودُ لَهُ، ثَبَتَا لَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْكِيسُ الْمَشْهُودُ بِهِ حَسْبُ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلَيْنِ، لَكِنَّهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمَشْهُودُ لَهُ إلَّا أَحَدَ الْكِيسَيْنِ، ثَبَتَ لَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْآخَرُ؛ لِعَدَمِ دَعْوَاهُ إيَّاهُ. وَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِسَرِقَةِ كِيسٍ فِي يَوْمٍ، وَشَهِدَ آخَرُ بِسَرِقَةِ كِيسٍ فِي يَوْمٍ آخَرَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي مَكَان، وَشَهِدَ آخَرُ بِسَرِقَةٍ فِي مَكَان آخَرَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبِ كِيسٍ أَبِيضَ، وَشَهِدَ آخَرُ بِغَصْبِ كِيسٍ أَسْوَدَ، فَادَّعَاهُمَا الْمَشْهُودُ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُحْكَمَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ قَدْ شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ إلَّا أَحَدَهُمَا، ثَبَتَ لَهُ مَا ادَّعَاهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْآخَرُ؛ لِعَدَمِ دَعْوَاهُ إيَّاهُ. [فَصْل الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ] (8448) فَصْلٌ: فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي يَوْمَ الْخَمِيسِ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَتَلَهُ، أَوْ قَذَفَهُ، أَوْ غَصَبَهُ كَذَا، أَوْ أَنَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَذَا، وَيَشْهَدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي بِهَذَا يَوْمَ السَّبْتِ بِحِمْصَ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ إقْرَارٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ، فَلَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْفِعْلِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَدْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، فَكَمُلَتْ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِمَا وَاحِدًا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْفِعْلِ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا عَلَى فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَنَظِيرُهُ مِنْ الْإِقْرَارِ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا لَا تُقْبَلُ هَاهُنَا. وَيُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَمْعُ الشُّهُودِ لِسَمَاعِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِطَلَبِ الشُّهُودِ فِي أَمَاكِنِهِمْ لَا فِي جَمْعِهِمْ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، فَيَمْضِي إلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَأَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُشْهِدُهُمْ عَلَى إقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عَلَى فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ. وَقَالَ الْآخَرُ أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ. لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ، فَلَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ دَنَانِيرَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ دَرَاهِمَ، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ فِي الْقَتْلِ، وَالْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ الْعَجَمِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالْبَصْرَةِ أَوْ الْكُوفَةِ، لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَضِي، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [فَصْل شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَ أَمْسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَ الْيَوْمَ] (8449) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَ أَمْسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَ الْيَوْمَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَمْسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْيَوْمَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ. لَا تَكْمُلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ بِالْغَصْبِ فِي وَقْتَيْنِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيَكُونَ وَاحِدًا، فَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْوَقْتِ لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ فِيهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ بِالْفَارِسِيَّةِ. [فَصْل الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ عَلَى قَوْلٍ] فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ عَلَى قَوْلٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ إلَّا النِّكَاحَ فَإِنَّهُ كَالْفِعْلِ الْوَاحِدِ. فَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَمْسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أَمْسِ غَيْرُ النِّكَاحِ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَشْهَدْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ، وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ، فَإِنَّهُ لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى قَذْفٍ وَاحِدٍ. [فَصْل شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصْبِ هَذَا الْعَبْد وَشَهْد الْآخَر أَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْهُ] (8451) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْهُ، كَمَلَتْ الشَّهَادَةُ، وَحُكِمَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَصْبُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ هُوَ الَّذِي شَهِدَ الشَّاهِدُ بِهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفِعْلُ، وَكَمُلَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا لَوْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 شَهِدَا فِي وَقْتَيْنِ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ، يُحْكَمُ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَقَرَّ بِهِ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ. وَهَذَا يَبْطُلُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى إقْرَارَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرَ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدِ الْآخَرِ، إذَا كَانَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ جَعْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَاحِدٍ، لَمْ تُحْمَلْ عَلَى اثْنَيْنِ، كَالْإِقْرَارَيْنِ، وَكَمَا لَوْ شَهِدَ بِالْغَصْبِ اثْنَانِ، وَشَهِدَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ اثْنَانِ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ، أَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْهُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ مِلْكُ زَيْدٍ، لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ يَدَيْهِ، أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ رَدَّهُ إلَى يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، فَتُرَدُّ إلَى يَدِهِ، لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا ثَابِتَةً لَهُ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِفُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ فُلَانٍ. قَالَ: شَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ. [فَصْل وَمِنْ شَهِدَ بِالنِّكَاحِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْر شُرُوطِهِ] (8452) فَصْلٌ: وَمَنْ شَهِدَ بِالنِّكَاحِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُرُوطِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي شُرُوطِهِ، فَيَجِبُ ذِكْرُهَا، لِئَلَّا يَكُونَ الشَّاهِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَهُوَ فَاسِدٌ. وَإِنْ شَهِدَ بِعَقْدٍ سِوَاهُ؛ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شُرُوطِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يُشْتَرَطُ ذِكْرُهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي شُرُوطِهِ، فَاشْتِرَاطُ ذِكْرِهَا كَالنِّكَاحِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شُرُوطِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهَا فِي الدَّعْوَى، فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ. وَإِنْ شَهِدَ بِالرَّضَاعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ ثَدْيِهَا، أَوْ مِنْ لَبَنٍ حُلِبَ مِنْهُ، وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ، وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ. وَإِنْ شَهِدَ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ الرَّضَاعِ، لَمْ يَكْفِ؛ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ ابْنَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ. وَإِنْ شَهِدَ بِالْقَتْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَصْفِ الْقَتْلِ، فَيَقُولُ: جَرَحَهُ فَقَتَلَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ بِكَذَا فَقَتَلَهُ. وَلَوْ قَالَ: ضَرَبَهُ فَمَاتَ. لَمْ يُحْكَمْ بِذَلِكَ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِغَيْرِ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ، فَمَاتَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: فَمَاتَ مِنْهُ، أَوْ فَقَتَلَهُ؟ فَأَعَادَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَأَعَادَ عَلَيْهِ شُرَيْحٌ سُؤَالَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: فَقَتَلَهُ. وَلَا: فَمَاتَ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: قُمْ، فَلَا شَهَادَةَ لَك. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَمَنْ شَهِدَ بِالزِّنَى، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الزَّانِي، وَالْمَزْنِيِّ بِهَا، وَمَكَانِ الزِّنَى، وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَى يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَقَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ؛ لِيَزُولَ الِاحْتِمَالُ، وَاعْتُبِرَ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ، أَوْ لَهُ فِي وَطْئِهَا شُبْهَةٌ، وَذِكْرُ الْمَكَانِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْمَزْنِيِّ بِهَا، وَلَا ذِكْرِ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذِكْرُهُ، كَالزَّمَانِ. وَإِنْ شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَرِقَةِ نِصَابٍ مِنْ الْحِرْزِ، وَذِكْرِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَصِفَةِ السَّرِقَةِ. وَإِنْ شَهِدَ بِالْقَذْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمَقْذُوفِ، وَصِفَةِ الْقَذْفِ. وَإِنْ شَهِدَ بِمَالٍ، احْتَاجَ إلَى تَحْرِيرِهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّعْوَى. وَإِنْ تَرَكَ الشَّاهِدُ ذِكْرَ شَيْءٍ يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، كَمَا سَأَلَ شُرَيْحٌ الشَّاهِدَ الَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. وَإِنْ حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ، أَوْ حَرَّرَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ شَهَادَتَهُ، وَشَهِدَ بِهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَشْهَدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. أَوْ قَالَ حِينَ حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ: أَشْهَدُ بِذَلِكَ، أَوْ بِهَذَا. أَجْزَأَهُ. [مَسْأَلَة جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ وَالْحَاكِمُ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ] (8453) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ، وَالْحَاكِمُ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، لَمْ يَقُمْ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ. وَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ، كَانُوا قَذَفَةً، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؛ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهَا هَاهُنَا. [مَسْأَلَة الشُّهُودَ إذَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ أَدَائِهَا] (8454) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا بِجَرْحٍ أَوْ قَتْلٍ، ثُمَّ رَجَعَا، فَقَالَا: عَمَدْنَا، اُقْتُصَّ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَالَا: أَخْطَأْنَا. غَرِمَا الدِّيَةَ، أَوْ أَرْشَ الْجَرْحِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الشُّهُودَ إذَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ أَدَائِهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَرْجِعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ شَذَّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: يُحْكَمُ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ أُدِّيَتْ، فَلَا تَبْطُلُ بِرُجُوعِ مَنْ شَهِدَ بِهَا، كَمَا لَوْ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ الْحُكْمِ، فَإِذَا زَالَتْ قَبْلَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ فَسَقَا؛ وَلِأَنَّ رُجُوعَهُمَا يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُمَا، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِقَتْلِ رَجُلٍ، ثُمَّ عُلِمَ حَيَاتُهُ، وَلِأَنَّهُ زَالَ ظَنُّهُ فِي أَنَّ مَا شُهِدَ بِهِ حَقٌّ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ تَمَّ بِشَرْطِهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ مَا حُكِمَ بِهِ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَرْجِعَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، فَيُنْظَرَ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ عُقُوبَةً، كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، لَمْ يَجُزْ اسْتِيفَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَرُجُوعُهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَحْكُومَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 بِهِ عُقُوبَةٌ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ اسْتِحْقَاقُهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهَا، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِيفَاؤُهَا، كَمَا لَوْ رَجَعَا قَبْلَ الْحُكْمِ. وَفَارَقَ الْمَالَ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ جَبْرُهُ، بِإِلْزَامِ الشَّاهِدَيْنِ عِوَضَهُ، وَالْحَدُّ وَالْقِصَاصُ لَا يَنْجَبِرُ بِإِيجَابِ مِثْلِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَبْرٍ، وَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ وَجَبَ لَهُ مِنْهُ عِوَضٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ وَالتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، لَا لِلْجَبْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ إذَا حُكِمَ بِالْقِصَاصِ، ثُمَّ فَسَقَ الشَّاهِدَانِ، اُسْتُوْفِيَ. فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. قُلْنَا: الرُّجُوعُ أَعْظَمُ فِي الشُّبْهَةِ مِنْ طَرَيَان الْفِسْقِ لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا زُورٌ، وَأَنَّهُمَا كَانَا فَاسِقَيْنِ حِينَ شَهِدَا، وَحِينَ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَهَذَا الَّذِي طَرَأَ فِسْقُهُ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ شَهَادَتِهِ كَذِبًا، وَلَا أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا حِينَ أَدَّى الشَّهَادَةَ، وَلَا حِينَ الْحُكْمِ بِهَا، وَلِهَذَا لَوْ فَسَقَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَالرَّاجِعَانِ تَلْزَمُهُمَا غَرَامَةُ مَا شَهِدَا بِهِ فَافْتَرَقَا. وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَالًا، اُسْتُوْفِيَ، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ. فِي قَوْلِ أَهْلِ الْفُتْيَا مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَإِنْ اُسْتُوْفِيَ الْحَقُّ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رَجَعَا، زَالَ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ، فَنُقِضَ الْحُكْمُ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ حَقَّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَجَبَ لَهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِقَوْلِهِمَا، كَمَا لَوْ ادَّعَيَاهُ لَأَنْفُسِهِمَا، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَزُولُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ، وَرُجُوعُهُمَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا هُوَ إقْرَارٌ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ. وَفَارَقَ مَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحُكْمِ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ؛ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ صَادِقَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا كَذَبَا فِي رُجُوعِهِمَا، وَيُفَارِقُ الْعُقُوبَاتِ، حَيْثُ لَا تُسْتَوْفَى؛ فَإِنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يَرْجِعَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ لَهُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَالًا أَوْ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ إتْلَافًا فِي مِثْلِهِ الْقِصَاصُ، كَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، نَظَرْنَا فِي رُجُوعِهِمَا، فَإِنْ قَالَا: عَمَدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ؛ لِيُقْتَلَ أَوْ يُقْطَعَ. فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا الْإِتْلَافَ، فَأَشْبَهَا حَافِرَ الْبِئْرِ، وَنَاصِبَ السِّكِّينِ، إذَا تَلِفَ بِهِمَا شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ عَادَا، فَقَالَا: أَخْطَأْنَا، لَيْسَ هَذَا هُوَ السَّارِقُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا، لَقَطَعْتُكُمَا. وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا إلَى قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ، بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، فَلَزِمَهُمَا الْقِصَاصُ، كَالْمُكْرَهِ، وَفَارَقَ الْحَفْرَ وَنَصْبَ السِّكِّينِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْقِصَاصِ. فَأَمَّا إنْ قَالَا: عَمَدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَا نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَذَا. وَكَانَا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَا ذَلِكَ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا مُغَلَّظَةً؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ، وَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا عَمَدْت قَتْلَهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَخْطَأْت. فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، وَعَلَى الْآخَرِ نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَلَا قِصَاصَ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ وَخَطَأٍ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: عَمَدْت، وَأَخْطَأَ صَاحِبِي. احْتَمَلَ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا؛ لِاعْتِرَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَمْدِ نَفْسِهِ. وَاحْتَمَلَ وُجُوبَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا اعْتَرَفَ بِعَمْدٍ شَارَكَ فِيهِ مُخْطِئًا، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، لَا بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا، يَجِبُ عَلَيْهِمَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: عَمَدْنَا جَمِيعًا. وَقَالَ الْآخَرُ: عَمَدْت، وَأَخْطَأَ صَاحِبِي. فَعَلَى الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ، وَفِي الثَّانِي وَجْهَانِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: أَخْطَأْنَا. فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً فِي أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: عَمَدْنَا مَعًا. وَقَالَ الْآخَرُ: أَخْطَأْنَا مَعًا. فَعَلَى الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: عَمَدْت، وَلَا أَدْرِي مَا فَعَلَ صَاحِبِي فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ؛ لِإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَمْدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِإِقْرَارِهِ، لَا بِإِقْرَارِ صَاحِبِهِ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: عَمَدْت، وَلَا أَدْرِي مَا قَصَدَ صَاحِبِي. سُئِلَ صَاحِبُهُ، فَإِذَا قَالَ: عَمَدْت، وَلَا أَدْرِي مَا قَصَدَ صَاحِبِي فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ قَالَ: عَمَدْنَا. فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْأَوَّلِ وَجْهَانِ. وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْت، أَوْ أَخْطَأْنَا. فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ جُهِلَ حَالُ الْآخَرِ، بِأَنْ يُجَنَّ، أَوْ يَمُوتَ، أَوْ لَا يُقْدَرَ عَلَيْهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَلَيْهِ نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ. [فَصْل رَجَعَ أَحَدُ الشَّاهِدِينَ وَحْدَهُ] (8455) فَصْلٌ: وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ الشَّاهِدِينَ وَحْدَهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي رُجُوعِهِمَا، فِي أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا، إذَا كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَفِي أَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي الْعُقُوبَةَ إذَا رَجَعَ قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَخْتَلُّ بِرُجُوعِهِ، كَاخْتِلَالِهِ بِرُجُوعِهِمَا. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، لَزِمَهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ دِيَةً مُغَلَّظَةً، وَجَبَ عَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنْهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْخَطَأِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ. وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، أَوْ الْقِصَاصِ، وَنَحْوِهِ، فَمَا ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَرَجَعَ الزَّائِدُ مِنْهُمْ قَبْلَ الْحُكْمِ وَالِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَلَا الِاسْتِيفَاءَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَيِّنَةِ كَافٍ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَاسْتِيفَائِهِ. وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُهُ، أَوْ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ مِنْ الْمُفَوِّتِ بِشَهَادَتِهِمْ إنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْم] (8456) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بِمَالٍ، غَرِمَاهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا أَوْ تَالِفًا) أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، سِوَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ مَعَهُمَا فِيمَا مَضَى. فَأَمَّا الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَا بِعِتْقِ عَبْدٍ فَيَضْمَنَا قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إتْلَافٌ لِلْمَالِ، وَلَا يَدٌ عَادِيَةٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنَا، كَمَا لَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا. وَلَنَا، أَنَّهُمَا أَخْرَجَا مَالَهُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَحَالَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَزِمَهُمَا الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ، وَلِأَنَّهُمَا أَزَالَا يَدَ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ بِشَهَادَتِهِمَا الْمَرْجُوعِ عَنْهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَا بِحُرِّيَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا إلَى إتْلَافِ حَقِّهِ بِشَهَادَتِهِمَا بِالزُّورِ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُمَا الضَّمَانُ، كَشَاهِدَيْ الْقِصَاصِ. يُحَقِّقُ هَذَا، أَنَّهُ إذَا أَلْزَمَهُمَا الْقِصَاصَ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَوُجُوبُ الْمَالِ أَوْلَى. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا الْمَالَ. يَبْطُلُ بِمَا إذَا شَهِدَا بِعِتْقِهِ، فَإِنَّ الرِّقَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَزُولُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَإِنَّمَا حَالَا بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَهُ، وَفِي مَوْضِعِ إتْلَافِ الْمَالِ، فَهُمَا تَسَبَّبَا إلَى تَلَفِهِ، فَيَلْزَمُهُمَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِمَا، كَشَاهِدَيْ الْقِصَاصِ، وَشُهُودِ الزِّنَى، وَحَافِرِ الْبِئْرِ، وَنَاصِبِ السِّكِّينِ. [مَسْأَلَة شَهِدَا بِالْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ] (8457) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، غَرِمَا قِيمَتَهُ) أَمَّا إذَا شَهِدَا بِالْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ. وَإِنْ شَهِدَا بِحُرِّيَّتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ، لَزِمَهُمَا غَرَامَةُ قِيمَتِهَا لَسَيِّدِهِمَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ وَافَقَ هَاهُنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ، فَإِنَّ إخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنْ يَدِ سَيِّدِهِ بِالشَّهَادَةِ بِحُرِّيَّتِهِ، كَإِخْرَاجِهِ عَنْهَا بِالشَّهَادَةِ بِهِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ، فَإِذَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ ثَمَّ، لَزِمَهُ هَاهُنَا، وَغَرِمَا الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ، لَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 [فَصْل شَهِدَا بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ تَبِينُ بِهِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ] (8458) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ تَبِينُ بِهِ، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ، وَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمُسَمَّى. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْبُضْعَ، فَلَزِمَهُمَا عِوَضُهُ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، لَزِمَهُمَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَ نِصْفَ الْبُضْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ. وَلَنَا أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعَ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ مِلْكِهِ بِرِدَّتِهَا، أَوْ إسْلَامِهَا، أَوْ قَتْلِهَا نَفْسَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَضْمَنُ شَيْئًا. وَلَوْ فَسَخَتْ نِكَاحَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، بِرَضَاعِ مَنْ يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا، لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ لِلزَّوْجِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَرَارِهِ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ عَلَيْهِمَا، كَمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مِنْ فَسَخَ نِكَاحَهُ بِرَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الْبُضْعِ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْبُضْعَ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ نِصْفِهِ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى جَمِيعِهِ، وَالصَّدَاقَ وَاجِبٌ جَمِيعُهُ، وَلِهَذَا تَمْلِكُهُ الْمَرْأَةُ إذَا قَبَضَتْهُ، وَنَمَاؤُهُ لَهَا، وَتَمْلِكُ طَلَبَهُ إذَا لَمْ تَقْبِضْهُ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، عَلَيْهِمَا ضَمَانُ الْمُسَمَّى فِي الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ نِكَاحًا وَجَبَ عَلَيْهِ بِهِ عِوَضٌ، فَكَانَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَا وَجَبَ بِهِ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُمَا لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْبُضْعَ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُمَا قَرَّرَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْمُسَمَّى، وَكَانَ بِعَرَضِ السُّقُوطِ، وَهَا هُنَا قَدْ تَقَرَّرَ الْمَهْرُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ، فَلَمْ يُقَرِّرَا عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُخْرِجَا مِنْ مِلْكِهِ مُتَقَوِّمًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَاهُ مِنْ مِلْكِهِ بِقَتْلِهَا، أَوْ أَخْرَجَتْهُ هِيَ بِرِدَّتِهَا. [فَصْل شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحِ فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ ثُمَّ رَجَعَا] فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحٍ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، ثُمَّ رَجَعَا، نَظَرْت؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، لَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُفَوِّتَا عَلَيْهَا شَيْئًا. وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، وَكَانَ الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَوَصَلَ إلَيْهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ عِوَضَ مَا فَوَّتَاهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ، فَعَلَيْهِمَا مَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمَا، فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَا فَوَّتَاهُ عَلَيْهَا. [فَصْل شَهِدَا بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ ثُمَّ رَجَعَا] (8460) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَا بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ، ثُمَّ رَجَعَا، نَظَرْت؛ فَإِنْ عَجَزَ، وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَدَّى، وَعَتَقَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَاهُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمَا مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ وَمَا قَبَضَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ، فَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ تَغْرِيمَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمَا قَبْلَ انْكِشَافِ الْحَالِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَرِّمَهُمَا مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَمُكَاتَبًا. وَإِنْ شَهِدَا بِاسْتِيلَادِ أَمَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِمَا نَقَصَتْهَا الشَّهَادَةُ مِنْ قِيمَتِهَا. وَإِنْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ، رَجَعَ الْوَرَثَةُ بِمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا. [فَصْل شَهِدَ بِشَهَادَةِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ أَتْلَفَ مَالًا] (8461) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ، وَجَبَ أَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ: إذَا شَهِدَ بِشَهَادَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ أَتْلَفَ مَالًا، فَإِنَّهُ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا كَانُوا فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ، فَعَلَيْهِ النِّصْفُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً، فَعَلَيْهِ الثُّلُثُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانُوا عَشَرَةً، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ وَحْدَهُ، أَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَسَوَاءٌ رَجَعَ الزَّائِدُ عَنْ الْقَدْرِ الْكَافِي فِي الشَّهَادَةِ، أَوْ مَنْ لَيْسَ بِزَائِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالْقِصَاصِ، فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ: عَمَدْنَا قَتْلَهُ. فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِ رُبْعُ الدِّيَةِ. وَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ شَهِدَ سِتَّةٌ بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ، فَرُجِمَ بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَوْ سُدُسُ الدِّيَةِ. وَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ رَجَعَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَى قَائِمَةٌ، فَدَمُهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ. وَإِنْ رَجَعَ ثَلَاثَةٌ، فَعَلَيْهِمْ رُبْعُ الدِّيَةِ. وَإِنْ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ، فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ رَجَعَ خَمْسَةٌ، فَعَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا. وَإِنْ رَجَعَ السِّتَّةُ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدُسُهَا. وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا رَجَعَ اثْنَانِ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَا إذَا شَهِدَ بِالْقِصَاصِ ثَلَاثَةٌ، فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْقِصَاصِ قَائِمَةٌ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّاجِعِ مِنْ شُهُودِ الزِّنَى إذَا كَانَ زَائِدًا، فَإِنَّ دَمَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى غَيْرُ مَحْقُونٍ، وَهَذَا دَمُهُ مَحْقُونٌ. وَإِنَّمَا أُبِيحَ دَمُهُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ وَحْدَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا شَهِدَ بِالْمَالِ ثَلَاثَةٌ، فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ، عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَضْمَنُ الثُّلُثَ. وَالثَّانِي، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمْ، فَالرَّاجِعُ مُقِرٌّ بِالْمُشَارَكَةِ فِيهِ عَمْدًا عُدْوَانًا لِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ، فَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي مُبَاشَرَةِ قَتْلِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ قَتَلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ، فَأَشْبَهَ الثَّانِيَ مِنْ شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَالرَّابِعَ مِنْ شُهُودِ الزِّنَى، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ حَصَلَ الْإِتْلَافُ بِشَهَادَتِهِ، فَلَزِمَهُ مِنْ الضَّمَانِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 بِقِسْطِهِ، كَمَا لَوْ رَجَعَ الْجَمِيعُ، وَلِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الرُّجُوعِ، يَضْمَنُهُ إذَا انْفَرَدَ بِالرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ. غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا قُتِلَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ دَمٌ يُوصَفُ بِحَقْنٍ وَلَا عَدَمِهِ، وَقِيَامُ الشَّهَادَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ لِرَجَلٍ بِاسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ، فَاسْتَوْفَاهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ ظُلْمًا، وَأَنَّ الشُّهُودَ شُهِدُوا بِالزُّورِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ بِكَوْنِ دَمِ الْقَاتِلِ غَيْرَ مَحْقُونٍ، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَتَلَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُؤَاخَذٌ بِإِقْرَارِهِ. وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ شَرِيكِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِعَمْدِهِمَا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَخْطَأْنَا. وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُقِرِّ بِالْعَمْدِ. [فَصْل حَكَمَ الْحَاكِمُ فِي الْمَالِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ] (8462) فَصْلٌ: وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فِي الْمَالِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ، تَوَزَّعَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُهُ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ رُبْعُهُ. إنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ مِنْ الضَّمَانِ حِصَّتُهُ. وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ رَجُلًا وَعَشْرَ نِسْوَةٍ، فَرَجَعُوا، فَعَلَى الرَّجُلِ السُّدُسُ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ نِصْفُ السُّدُسِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ كَرَجُلٍ، فَالْعَشْرُ كَخَمْسَةِ رِجَالٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِنَّ النِّصْفُ، وَعَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ وَحْدَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، كَانَ كَرُجُوعِهِنَّ كُلِّهِنَّ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ حِزْبًا وَالنِّسَاءُ حِزْبًا. فَإِنْ رَجَعَ بَعْضُ النِّسْوَةِ وَحْدَهُ، أَوْ الرَّجُلُ، فَعَلَى الرَّاجِعِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِ إذَا رَجَعَ الْجَمِيعُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، مَتَى رَجَعَ مِنْ النِّسْوَةِ مَا زَادَ عَلَى اثْنَيْنِ، فَلَيْسَ عَلَى الرَّاجِعَاتِ شَيْءٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي هَذَا. [فَصْل شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِأَرْبَعِمِائَةٍ فَحُكْمَ الْحَاكِمُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ] (8463) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا، ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ عَنْ مِائَةٍ، وَآخَرُ عَنْ مِائَتَيْنِ، وَالثَّالِثُ عَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَالرَّابِعُ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا رَجَعَ عَنْهُ بِقِسْطِهِ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسُونَ، وَعَلَى الثَّالِثِ: خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَعَلَى الرَّابِعِ: مِائَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ رُبْعَ مَا رَجَعَ عَنْهُ. وَيَقْتَضِي مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنْ لَا يَلْزَمَ الرَّاجِعَ عَنْ الثَّلَاثِمِائَةِ وَالْأَرْبَعمِائَةِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ لَا تَلْزَمُ الرَّاجِعَ عَنْ الثَّلَاثِمِائَةِ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ الَّتِي رَجَعَا عَنْهُمَا قَدْ بَقِيَ بِهَا شَاهِدَانِ. [فَصْل شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَاثْنَانِ بِالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ] (8464) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى، وَاثْنَانِ بِالْإِحْصَانِ، فَرُجِمَ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ، فَالضَّمَانُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالشَّرْطِ دُونَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الزِّنَى. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ قَتْلَهُ حَصَلَ بِمَجْمُوعِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا جَمِيعُهُمْ بِالزِّنَى. وَفِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، كَشُهُودِ الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَالثَّانِي، عَلَى شُهُودِ الزِّنَى النِّصْفُ، وَعَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُمْ حِزْبَانِ، فَلِكُلِّ حِزْبٍ نِصْفٌ. فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَاثْنَانِ مِنْهُمْ بِالْإِحْصَانِ، ثُمَّ رَجَعُوا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، عَلَى شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ الثُّلُثَانِ، وَعَلَى الْآخَرَيْنِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ عَلَى شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ الثُّلُثَ، لَشَهَادَتِهِمَا بِهِ، وَالثُّلُثَ لَشَهَادَتِهِمَا بِالزِّنَى، وَعَلَى الْآخَرَيْنِ الثُّلُثَ؛ لَشَهَادَتِهِمَا بِالزِّنَى وَحْدَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا النِّصْفَ لَشَهَادَتِهِمَا بِالْإِحْصَانِ، وَنِصْفَ الْبَاقِي لَشَهَادَتِهِمَا بِالزِّنَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ إلَّا النِّصْفُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَنَى جِنَايَتَيْنِ، وَجَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ جِنَايَةً وَاحِدَةً، فَكَانَتْ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، لَا عَلَى عَدَدِ جِنَايَاتِهِمْ، كَمَا لَوْ قَتَلَ اثْنَانِ وَاحِدًا، جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جُرْحًا، وَالْآخَرُ جُرْحَيْنِ. [فَصْل شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى ضَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَتَانِ فَحُكْمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا] (8465) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى ضَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَتَانِ، فَحُكْمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، رَجَعَ السَّيِّدُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَمَامُ الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مِائَةٍ، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى مِائَتَانِ، غَرِمَا لِلزَّوْجِ مِائَةً؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَاهَا بِشَهَادَتِهِمَا الْمَرْجُوعِ عَنْهَا. [فَصْل شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ بِصَدَاقِ ذَكَرَاهُ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِدُخُولِهِ بِهَا ثُمَّ رَجَعُوا] (8466) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ، بِصَدَاقٍ ذَكَرَاهُ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِدُخُولِهِ بِهَا، ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِصَدَاقِهَا، فَعَلَى شُهُودِ النِّكَاحِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْمُسَمَّى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ النِّصْفُ، وَعَلَى الْآخَرَيْنِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُمَا قَرَّرَاهُ، وَشَاهِدَا النِّكَاحِ أَوْجَبَاهُ، فَقُسِمَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا. وَإِنْ شَهِدَ مَعَ هَذَا شَاهِدَانِ بِالطَّلَاقِ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُفَوِّتَا عَلَيْهِ شَيْئًا يَدَّعِيه، وَلَا أَوْجَبَا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 [فَصْل شَهِدَ شَاهِدَا فَرْعٍ عَلَى شَاهِدَيْ أَصْلٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ] (8467) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَا فَرْعٍ عَلَى شَاهِدَيْ. أَصْلٍ، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْفَرْعِ، فَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ. لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَإِنْ رَجَعَ شَاهِدَا الْأَصْلِ وَحْدَهُمَا، لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا جَعَلَا شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ شَهَادَةً، لَمْ يَلْزَمْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ ضَمَانٌ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ؛ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِمَا، فَإِذَا رَجَعَا، ضَمِنَا، كَشَاهِدَيْ الْفَرْعِ. [فَصْل حُكْمَ الْحَاكِمُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ فَرَجَعَ الشَّاهِدُ] (8468) فَصْلٌ: وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَرَجَعَ الشَّاهِدُ، غَرِمَ جَمِيعَ الْمَالِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الدَّعْوَى، فَكَانَ عَلَيْهِ النِّصْفُ كَمَا لَوْ كَانَا شَاهِدَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّاهِدَ حُجَّةُ الدَّعْوَى، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَالشَّاهِدَيْنِ. يُحَقِّقهُ أَنَّ الْيَمِينَ قَوْلُ الْخَصْمِ، وَقَوْلُ الْخَصْمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى خَصْمِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ، فَجَرَى مَجْرَى مُطَالَبَتِهِ الْحَاكِمَ بِالْحُكْمِ، وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ عَمَّا ذَكَرُوهُ. وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا حُجَّةٌ، لَكِنْ إنَّمَا جَعَلَهَا حُجَّةً شَهَادَةُ الشَّاهِدِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى شَهَادَتِهِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا النِّصْفُ الْمَحْكُومُ بِهِ، إذَا قُلْنَا: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي. [فَصْل رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ] (8469) فَصْل: وَإِذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَقَالُوا: عَمَدْنَا. وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ، لَمْ يُعَزَّرُوا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يُغْنِي عَنْ تَعْزِيرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ، عُزِّرُوا، وَغَرِمُوا؛ لِأَنَّهُمْ جَنَوْا جِنَايَةً كَبِيرَةً، وَارْتَكَبُوا جَرِيمَةً عَظِيمَةً، وَهِيَ شَهَادَةُ الزُّورِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُعَزَّرُوا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ تَوْبَةٌ مِنْهُمْ، فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ التَّعْزِيرُ، وَلِأَنَّ شَرْعِيَّةَ تَعْزِيرِهِمْ تَمْنَعُهُمْ الرُّجُوعَ خَوْفًا مِنْهُ، فَلَا يُشْرَعُ. وَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا. لَمْ يُعَزَّرُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] . هَذَا إنْ كَانَ قَوْلُهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ فِي الْخَطَإِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ، عُزِّرُوا، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ. [مَسْأَلَة حَكَمَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ فِي قَطْعٍ أَوْ قَتْلٍ وَأَنْفَذِ ذَلِكَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمَا كَافِرَانِ] (8470) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَطَعَ الْحَاكِمُ يَدَ السَّارِقِ، بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمَا كَافِرَانِ، أَوْ فَاسِقَانِ، كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ فِي بَيْتِ الْمَالِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، فِي قَطْعٍ أَوْ قَتْلٍ، وَأَنْفَذَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمَا كَافِرَانِ، أَوْ فَاسِقَانِ، أَوْ عَبْدَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مُقِيمَانِ عَلَى أَنَّهُمَا صَادِقَانِ فِيمَا شَهِدَا بِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرْعُ مَنَعَ قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا، بِخِلَافِ الرَّاجِعَيْنِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُمَا اعْتَرَفَا بِكَذِبِهِمَا، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ، أَوْ الْإِمَامِ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَفِي مَحَلِّهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَوَكِيلُهُمْ، وَخَطَأُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ خَطَأَ الْحَاكِمِ يَكْثُرُ، لِكَثْرَةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَحُكُومَاتِهِ، فَإِيجَابُ ضَمَانِ مَا يُخْطِئُ فِيهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ إجْحَافٌ بِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ التَّخْفِيفَ عَنْهُ، بِجَعْلِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَمَلَتْ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْخَطَأِ عَنْ الْقَاتِلِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، هِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً ذُكِرَتْ عِنْدَ عُمَرَ بِسُوءٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا، فَأَجْهَضَتْ ذَا بَطْنِهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا شَيْءَ عَلَيْك، إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيْك الدِّيَةُ. فَقَالَ عُمَرُ: عَزَمْت عَلَيْك لَا تَبْرَحْ حَتَّى تُقَسِّمَهَا عَلَى قَوْمِكَ. يَعْنِي قُرَيْشًا؛ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ عُمَرَ، وَلَوْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى قَوْمِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ خَطَئِهِ، فَتَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ. كَخَطَئِهِ فِي غَيْرِ الْحُكُومَةِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ. لَمْ تَحْمِلْ إلَّا الثُّلُثَ فَصَاعِدًا، وَلَا تَحْمِلُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْكَفَّارَةَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، كَذَا هَاهُنَا، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُمْ، وَخَطَأُ النَّائِبِ عَلَى مُسْتَنِيبِهِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيمَا يَكْثُرُ خَطَؤُهُ، فَجَعْلُ الضَّمَانِ فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ، وَسَوَاءٌ تَوَلَّى الْحَاكِمُ الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ مَنْ تَوَلَّاهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ اسْتَوْفَاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَكَّنَهُ مِنْهُ، وَالْوَلِيَّ يَدَّعِي أَنَّهُ حَقُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ لَهُ بِمَالٍ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ بَانَ فِسْقُ شُهُودِهِ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي دُونَ الْحَاكِمِ، كَذَا هَاهُنَا. قُلْنَا: ثَمَّ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُسْتَوْفِي مَالُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ أَوْ ضَمَانُهُ إنَّ أَتْلَفَ، وَهَا هُنَا لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ شَيْئًا بِخَطَإِ الْإِمَامِ وَتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ، فَافْتَرَقَا. [فَصْل شَهِدَ بِالزِّنَى أَرْبَعَةٌ فَزَكَّاهُمْ اثْنَانِ فَرَجْم الشُّهُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ] (8471) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ بِالزِّنَى أَرْبَعَةٌ، فَزَكَّاهُمْ اثْنَانِ، فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ، أَوْ عَبِيدٌ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ، وَلَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُمْ يَقِينًا، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمُزَكِّيَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي: الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِقَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكَّيَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا شَرْطٌ، وَلَيْسَتْ الْمُوجِبَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ": الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالزِّنَى. وَلَنَا، أَنَّ الْمُزَكَّيَيْنِ شَهِدُوا بِالزُّورِ شَهَادَةً أَفْضَتْ إلَى قَتْلِهِ، فَلَزِمَهُمَا الضَّمَانُ، كَشُهُودِ الزِّنَى إذَا رَجَعُوا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الشُّهُودِ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ شَهَادَتَهُمْ شَرْطٌ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ يَلْزَمُهُمْ الضَّمَانُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالسَّبَبِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الزِّنَى لَمْ يَرْجِعُوا، وَلَا عُلِمَ كَذِبُهُمْ، بِخِلَافِ الْمُزَكَّيَيْنِ؛ فَإِنَّهُ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ، وَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزُّورِ. وَأَمَّا إنْ تَبَيَّنَ فِسْقُ الْمُزَكِّيَيْنِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ، حَيْثُ قَبِلَ شَهَادَةَ فَاسِقٍ مِنْ غَيْرِ تَزْكِيَةٍ وَلَا بَحْثٍ، فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ قَبِلَ شَهَادَةَ شُهُودِ الزِّنَى مِنْ غَيْرِ تَزْكِيَةٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ فِسْقُهُمْ. [فَصْل جَلَدَ الْإِمَامُ إنْسَانًا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ] (8472) فَصْلٌ: وَلَوْ جَلَدَ الْإِمَامُ إنْسَانًا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ، أَوْ كَفَرَةٌ، أَوْ عَبِيدٌ، فَعَلَى الْإِمَامِ ضَمَانُ مَا حَصَلَ مِنْ أَثَرِ الضَّرْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا جِنَايَةٌ صَدَرَتْ عَنْ خَطَأِ الْإِمَامِ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ أَوْ قَتَلَهُ. [فَصْل حُكْمَ الْحَاكِمُ بِمَالٍ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمَا فَاسِقَانِ] (8473) فَصْلٌ: وَلَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَالٍ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمَا فَاسِقَانِ، أَوْ كَافِرَانِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْقُضُ حُكْمَهُ، وَيَرُدُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 الْمَالَ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَعِوَضَهُ إنْ كَانَ تَالِفًا. فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِإِعْسَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ ضَمَانُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ إذَا كَانَا فَاسِقَيْنِ، وَيَغْرَمُ الشُّهُودُ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّ الْحَاكِمَ قَبِلَهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، " وَلَا يَغْرَم الشُّهُودُ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ إذَا شَهِدَ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ أَيْضًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي أَنَّهُ يَنْقُضُ حُكْمَهُ إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ، وَيَنْقُضُ حُكْمَ غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ، فَنَقِيسُ عَلَى ذَلِكَ مَا إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، فَإِنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِينَ مُجْمَعٌ عَلَى رَدِّهَا، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى التَّبَيُّنِ فِيهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وَأَمَرَ بِإِشْهَادِ الْعُدُولِ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَاعْتَبَرَ الرِّضَى بِالشُّهَدَاءِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . فَيَجِبُ نَقْضُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ الْعَدَالَةِ، كَمَا يَجِبُ نَقْضُهُ لِفَوَاتِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّ الْفِسْقَ مَعْنَى لَوْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ قَبْلَ الْحُكْمِ مَنَعَهُ، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَةَ الْحُكْمِ، وَجَبَ نَقْضُ الْحُكْمِ، كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ فِي الْعُقُوبَاتِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الشَّهَادَةَ بِفِسْقِ الشَّاهِدَيْنِ، لَا قَبْلَ الْحُكْمِ وَلَا بَعْدَهُ. وَمَتَى جَرَّحَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ بِالْفِسْقِ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا تُسْمَعُ عَلَى الْفِسْقِ شَهَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، فَلَا تُسْمَعُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ، فَسُمِعَتْ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، كَالتَّزْكِيَةِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِفِسْقِهِ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَنَقْضِهِ بَعْدَهُ، وَتَبْرِئَته مِنْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ عُقُوبَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى رِقَّ الشَّاهِدَيْنِ وَلَمْ يَدَّعِهِ لِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْفِسْقِ، أَدَّى إلَى ظُلْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَعْرِفَ فِسْقَ الشَّاهِدَيْنِ إلَّا شُهُودُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ، كَانَ ظَالِمًا لَهُ. فَأَمَّا إنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ حَكَمَ بِشَهَادَةِ وَالِدَيْنِ، أَوْ وَلَدَيْنِ، أَوْ عَدُوَّيْنِ، نَظَرَ فِي الْحَاكِمِ الَّذِي حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِهِ، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ، نَقَضَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِهِ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَالِ وَالْإِتْلَافِ، أَنَّ الْمَالَ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَجَبَ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى آخِذِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَا اسْتِحْقَاقٍ لِأَخْذِهِ. أَمَّا الْإِتْلَافُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ فِي يَدِ الْمُتْلِفِ شَيْءٌ يَرُدُّهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُقِرُّ بِعُدْوَانِهِ، بَلْ يَقُولُ: اسْتَوْفَيْت حَقِّي. وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: شَهِدْنَا بِمَا عَلِمْنَا، وَأَخْبَرْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا، وَلَمْ نَكْتُمْ شَهَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَزِمَنَا أَدَاؤُهَا. وَلَمْ يَثْبُتْ كَذِبُهُمْ، فَوَجَبَتْ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ شَرْطِ الْحُكْمِ، وَمَكَّنَ مِنْ إتْلَافِ الْمَعْصُومِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ، فَكَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ، فَوَجَبَ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ] (8474) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَصَارَ حُرًّا) رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي هَذَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ فَيَثْبُت بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَلِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِلْمَالِ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِلْمَالِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، كَالْإِتْلَافِ بِالْفِعْلِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى تَكْمِيلِ الْأَحْكَامِ، لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا النَّسَبُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا تُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ذَكَرَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة شَهِدَ بِشَهَادَةِ زُورٍ] (8475) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةِ زُورٍ، أُدِّبَ، وَأُقِيمَ لِلنَّاسِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَشْتَهِرُ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ، إذَا تَحَقَّقَ تَعَمُّدُهُ لِذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي كِتَابِهِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْأَوْثَانِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] . وَرُوِيَ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، مِنْ قَوْلِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ . قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «شَاهِدُ الزُّورِ، لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى تَجِبَ لَهُ النَّارُ» . فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بُزُورٍ عَمْدًا، عَزَّرَهُ، وَشَهَّرَهُ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ يَقُولُ شُرَيْحٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعَزَّرُ، وَلَا يُشَهَّرُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ مُنْكَرٍ وَزُورٍ، فَلَا يُعَزَّرُ بِهِ، كَالظِّهَارِ. وَرَوَى عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُشَهَّرُ. وَأَنْكَرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ يَضُرُّ بِهِ النَّاسَ، فَأَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَائِلِهِ، كَالسَّبِّ وَالْقَذْفِ، وَيُخَالِفُ الظِّهَارَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِضَرَرِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ أَوْجَبَ كَفَّارَةً شَاقَّةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ التَّعْزِيرِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ تَأْدِيبَهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ؛ إنْ رَأَى ذَلِكَ بِالْجَلْدِ جَلَدَهُ، وَإِنْ رَآهُ بِحَبْسٍ أَوْ كَشْفِ رَأْسِهِ وَإِهَانَتِهِ وَتَوْبِيخِهِ، فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَزِيدُ فِي جَلْدِهِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَزِيدُ عَلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، لِئَلَّا يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُجْلَدُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فِي شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ: يُجْلَدَانِ مِائَةً مِائَةً، وَيَغْرَمَانِ الصَّدَاقَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ: يُخْفَقُ سَبْعَ خَفَقَاتٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: يُجْلَدُ أَسْوَاطًا. فَأَمَّا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ فِي سُوقِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، أَوْ قَبِيلَتِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 الْقَبَائِلِ، أَوْ فِي مَسْجِدِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ، وَيَقُولُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: إنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: هَذَا شَاهِدُ زُورٍ، فَاعْرِفُوهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأُتِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِشَاهِدِ الزُّورِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ لِسَانِهِ، وَعِنْدَهُ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِحَسْبِهِ أَنْ يُخْفَقَ سَبْعَ خَفَقَاتٍ، وَيُقَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَيُقَالَ: هَذَا أَبُو قُبَيْسٍ، وَجَدْنَاهُ شَاهِدَ زُورٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ. وَلَا يُسَخَّمُ وَجْهُهُ، وَلَا يُرَكَّبُ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ، وَيُطَالُ حَبْسُهُ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ سَوَّارٌ: يُلَبَّبُ، وَيُدَارُ بِهِ عَلَى حَلَقَ الْمَسْجِدِ، فَيَقُولُ: مَنْ رَآنِي فَلَا يَشْهَدْ بُزُورٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمِلْكِ بْنِ يَعْلَى، قَاضِي الْبَصْرَةِ، أَنَّهُ أَمَرَ بِحَلْقِ نِصْفِ رُءُوسِهِمْ، وَتَسْخِيمِ وُجُوهِهِمْ، وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ، وَاَلَّذِي شَهِدُوا لَهُ مَعَهُمْ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ حَبَسَهُ يَوْمًا وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيرًا شَرْعِيًّا، فَمَا فَعَلَ الْحَاكِمُ مِمَّا يَرَاهُ، مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى مُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُفْعَلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُتَحَقَّقَ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ، وَتَعَمَّدَ ذَلِكَ، إمَّا بِإِقْرَارِهِ، أَوْ يَشْهَدُ عَلَى رَجُلٍ بِفِعْلٍ فِي الشَّامِ فِي وَقْتٍ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْعِرَاقِ، أَوْ يَشْهَدُ بِقَتْلِ رَجُلٍ، وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ فِي يَدِ هَذَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ. وَسِنُّهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَشْهَدُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إلَّا بَعْدَهُ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُتَيَقَّنُ بِهِ كَذِبُهُ، وَيُعْلَمُ تَعَمُّدُهُ لِذَلِكَ. فَأَمَّا تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ، أَوْ ظُهُورُ فِسْقِهِ، أَوْ غَلَطِهِ فِي شَهَادَتِهِ، فَلَا يُؤَدَّبُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَمْنَعُ الصِّدْقَ، وَالتَّعَارُضَ لَا يُعْلَمُ بِهِ كِذْبُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، وَالْغَلَطَ قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ الْعَدْلِ وَلَا يَتَعَمَّدُهُ، فَيُعْفَى عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 (8476) فَصْلٌ: وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا بِالزُّورِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ بَاطِلًا، وَلَزِمَ نَقْضُهُ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا كَذِبَهُمَا فِيمَا شَهِدَا بِهِ، وَبُطْلَانَ مَا حُكْمَ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالًا، رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إتْلَافًا، فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ إتْلَافِهِ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةِ الْمَحْكُومِ لَهُ، فَيَكُونَ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنْهُمَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ. [فَصْل تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ] (8477) فَصْلٌ: فَإِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ، وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِيهَا، وَعَدَالَتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ، فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، كَسَائِرِ التَّائِبِينَ. وَقَوْلُهُ: لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ ذَلِكَ. قُلْنَا: مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ سَائِرِ التَّائِبِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ مُعَاوَدَةُ ذُنُوبِهِمْ وَلَا غَيْرِهَا، وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة غَيَّرَ الْعَدْلُ شَهَادَتَهُ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا غَيَّرَ الْعَدْلُ شَهَادَتَهُ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ، فَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ، قُبِلَتْ مِنْهُ، مَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِ) وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ بِمِائَةٍ، ثُمَّ يَقُولَ: هِيَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. أَوْ يَقُولَ: بَلْ هِيَ تِسْعُونَ. فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ رُجُوعُهُ، وَيُحْكَمُ بِمَا شَهِدَ بِهِ أَخِيرًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ الْأُولَى وَلَا الْآخِرَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَرُدُّ الْأُخْرَى وَتُعَارِضُهَا، وَلِأَنَّ الْأُولَى مَرْجُوعٌ عَنْهَا، وَالثَّانِيَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا لِأَنَّهَا مِنْ مُقِرٍّ بِغَلَطِهِ وَخَطَئِهِ فِي شَهَادَتِهِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْغَلَطِ كَالْأُولَى. وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤْخَذُ بِأَقَلِّ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الشَّهَادَةَ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهَا، كَمَا لَوْ اتَّصَلَ بِهَا الْحُكْمُ. وَلَنَا، أَنَّ شَهَادَتَهُ الْآخِرَةَ شَهَادَةٌ مِنْ عَدْلٍ غَيْرِ مُتَّهَمٍ، لَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا مَا يُخَالِفُهَا، وَلَا تُعَارِضُهَا الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَطَلَتْ بِرُجُوعِهِ عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْطُ الْحُكْمِ، فَيُعْتَبَرُ اسْتِمْرَارُهَا إلَى انْقِضَائِهِ. وَيُفَارِقُ رُجُوعَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ بِاسْتِمْرَارِ شَرْطِهِ، فَلَا يُنْقَضُ بَعْدَ تَمَامِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 [فَصْل شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ الْحُكْمِ قَضَاهُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ] (8479) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ الْحُكْمِ: قَضَاهُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ. فَسَدَتْ شَهَادَتُهُ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فَقَالَ: إذَا شَهِدَ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ. بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِدَ بِأَنَّ الْأَلْفَ جَمِيعَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ، لَمْ تَكُنْ الْأَلْفُ كُلُّهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا، فَتَفْسُدُ شَهَادَتُهُ. وَفَارَقَ هَذَا مَا لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ بِخَمْسِمِائَةٍ. لِأَنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنْ الشَّهَادَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِقْرَارٌ بِغَلَطِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الرُّجُوعِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ شَهَادَتَهُ تَقْبَلُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا شَهِدَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ: قَضَاهُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ. أَفْسَدَ شَهَادَتَهُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَا اُجْتُمِعَا عَلَيْهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ. فَصَحَّحَ شَهَادَتَهُ فِي نِصْفِ الْأَلْفِ الْبَاقِي، وَأَبْطَلَهَا فِي النِّصْفِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ بِأَلْفٍ، بَلْ بِخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ جَاءَ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَمْضَى الشَّهَادَةَ. فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَشَهِدَ بِالْقَضَاءِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ قَدْ وَجَبَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. فَأَمَّا إنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: قَضَاهُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ. قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي بَاقِي الْأَلْفِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي كَلَامِهِ، وَلَا اخْتِلَافَ. [مَسْأَلَة شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءِ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِبَعْضِهِ] (8480) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ، وَآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ حُكِمَ لِمُدَّعِي الْأَلْفِ، بِخَمْسِمِائَةٍ، وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى، إنْ أَحَبَّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ بِبَعْضِهِ، صَحَّتْ الشَّهَادَةُ، وَثَبَتَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَحُكِمَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ؛ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، فَقَالَ: قَدْ اخْتَلَفْتُمَا، قُومَا، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ، لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَلْفِ غَيْرُ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفَيْنِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِكُلِّ إقْرَارٍ إلَّا وَاحِدٌ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ كَمَلَتْ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَحُكِمَ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَزِدْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ إقْرَارٍ إنَّمَا يَشْهَدُ بِهِ وَاحِدٌ، يُبْطَلُ بِمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ غَدْوَةً، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ عَشِيًّا، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَكْمُلُ، مَعَ أَنَّ كُلَّ إقْرَارٍ إنَّمَا يَشْهَدُ بِهِ وَاحِدٌ. فَأَمَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ لِلْمُدَّعِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، وَيَسْتَحِقَّ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَهَذَا فِيمَا إذَا أَطْلَقَا الشَّهَادَةَ، أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَسْبَابُ وَالصِّفَاتُ. فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَتْ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ مِنْ قَرْضٍ، وَشَاهِدٌ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَيَشْهَدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ بِيضٍ وَآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ سُودٍ، أَوْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْتَحِقّهَا مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَسْتَحِقُّ مَا شَهِدَ بِهِ. (8481) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ وَشَاهِدَانِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأَسْبَابُ وَالصِّفَاتُ، دَخَلَتْ الْخَمْسُمِائَةِ فِي الْأَلْفِ، وَوَجَبَ لَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِائَةٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ وَالصِّفَاتُ، وَجَبَ لَهُ الْأَلْفُ وَالْخَمْسُمِائَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ. [فَصْل اخْتِلَاف الشُّهُودِ فِي صِفَةِ الْبَيْعِ] (8482) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ، أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ، آخَرُ، أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ؛ لَاخْتِلَافِهِمَا فِي صِفَةِ الْبَيْعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَيَثْبُتَ لَهُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِكُلِّ عَقْدٍ شَاهِدَانِ، ثَبَتَ الْبَيْعَانِ، وَإِنْ أَضَافَا الْبَيْعَ إلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ مَعَ الزَّوَالِ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ مَعَ الزَّوَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ، تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ، وَسَقَطَتَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَكُلُّ بَيِّنَةٍ تُكَذِّبُ الْأُخْرَى. وَإِنْ شَهِدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَلَا يَتَعَارَضَانِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ الْكَامِلَتَيْنِ. [فَصْل شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا قِيمَتُهُ دِرْهَمَانِ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةٌ] (8483) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا قِيمَتُهُ دِرْهَمَانِ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةٌ، ثَبَتَ لَهُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَهُوَ دِرْهَمَانِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الْآخَرِ عَلَى دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى دِرْهَمَيْنِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِدِرْهَمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ قِيمَتَهُ دِرْهَمَانِ، وَشَاهِدَانِ أَنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةٌ، ثَبَتَ لَهُ دِرْهَمَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ، وَهُمَا حُجَّةٌ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهِمَا، كَمَا يُؤْخَذُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَكَمَا لَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ وَشَاهِدَانِ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُ أَلْفَانِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَتَوَجَّهُ لَنَا مِثْلُ هَذَا، بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنَّ قِيمَتَهُ دِرْهَمَانِ، يَنْفِي أَنْ تَكُونَ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةً، فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الدِّرْهَمِ، وَيُخَالِفُ الزِّيَادَةَ فِي الْأَخْبَارِ، فَإِنَّ مِنْ يَرْوِي النَّاقِصَ لَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ، وَكَذَلِكَ مِنْ شَهِدَ بِأَلْفٍ، لَا يَنْفِي أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا آخَرَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ إذَا شَهِدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيمَتَيْنِ شَاهِدَانِ تَعَارَضَتَا، وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ، لَمْ تَتَعَارَضَا، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا. قُلْنَا: لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ وَبَيِّنَةٌ، فَإِذَا كَمَلَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، تَعَارَضَتْ الْحُجَّتَانِ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً مَعَ الْيَمِينِ، فَإِذَا حَلَفَ مَعَ أَحَدِهِمَا كَمَلَتْ الْحُجَّةُ بِيَمِينِهِ، وَلَمْ يُعَارِضْهُمَا مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ، وَبِالْآخَرِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ. [مَسْأَلَة الْعَدْلَ إذَا أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ ثُمَّ شَهِدَ بِهَا] (8484) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى شَهَادَةَ عَدْلٍ، فَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: كُنْت أُنْسِيتهَا. قُبِلَتْ مِنْهُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا، وَقَالَ: كُنْت أُنْسِيتهَا. قُبِلَتْ، وَلَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَهَا، وَإِذَا كَانَ نَاسِيًا لَهَا، فَلَا شَهَادَةَ عِنْدَهُ، فَلَا نُكَذِّبُهُ مَعَ إمْكَانِ صِدْقِهِ. وَلَا يُشْبِهُ هَذَا إذَا مَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ، حَيْثُ لَا تُسْمَعُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَالْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَقَوْلُ الشَّاهِدِ: لَا شَهَادَةَ عِنْدِي. لَيْسَ بِإِقْرَارٍ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ لَهُ؛ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُنْكِرًا لَهَا، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِهَا، كَانَ إقْرَارًا بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ مَسْمُوعٌ، بِخِلَافِ الْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَلِأَنَّ النَّاسِيَ لِلشَّهَادَةِ لَا شَهَادَةَ لَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ صَادِقٌ فِي إنْكَارِهِ، فَإِذَا ذَكَرَهَا، صَارَتْ عِنْدَهُ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَصَارَ هَذَا كَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَارَتْ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِنِسْيَانِهَا. [مَسْأَلَة شَهِدَ بِشَهَادَةِ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بَعْضَهَا] (8485) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ، يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بَعْضَهَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ لَهُ بَعْضُهَا؛ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ بِمَالٍ مِنْ الشَّرِكَةِ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى زَيْدٍ بِدَارٍ لَهُ وَلَعَمْرَو، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تَبْطُلُ فِي الْكُلِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهَا قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي، تَصِحُّ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ، فَتَصِحُّ شَهَادَتُهُ لَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شِرْكٌ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ هَذَا؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِي عَبْدٍ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِثَلَاثِمِائَةٍ دِرْهَمٍ، فَادَّعَى أَنَّهُمْ قَبَضُوهَا مِنْهُ، فَأَنْكَرَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ شَيْئًا، فَأَقَرَّ لَهُ اثْنَانِ، وَشَهِدَا عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْقَبْضِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ وَيُشَارِكُهُمَا فِيمَا أَخْذًا مِنْ الْمَالِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وَلَنَا، أَنَّهَا شَهَادَةٌ رُدَّ بَعْضُهَا لِلتُّهْمَةِ، فَتُرَدُّ جَمِيعُهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ بِمَالٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ شَهِدَ بِدَيْنٍ لِأَبِيهِ وَأَجْنَبِيٍّ، أَوْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ تُرَدُّ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ، بَطَلَتْ كُلُّهَا. [مَسْأَلَة أَقَرَّ الْوَارِثُ لِرَجَلٍ بِدِينِ عَلَى الْمَيِّتِ يَسْتَغْرِقُ مِيرَاثَهُ] (8486) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَّفَ ابْنًا، وَأَلْفَ دِرْهَمٍ، فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَصَدَّقَهُ الِابْنُ، وَادَّعَى آخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَصَدَّقَهُ الِابْنُ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ، كَانَ الْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا خَلَّفَ وَارِثًا، وَتَرِكَةً، فَأَقَرَّ الْوَارِثُ لِرَجَلٍ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ يَسْتَغْرِقُ مِيرَاثَهُ، فَقَدْ أَقَرَّ بِتَعَلُّقِ دَيْنِهِ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِجَمِيعِهَا، فَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِآخَرَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، صَحَّ الْإِقْرَارُ، وَاشْتَرَكَا فِي التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كُلَّهَا كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، بِدَلِيلِ الْقَبْضِ، فِيمَا يَعْتَبِرُ الْقَبْضُ فِيهِ، وَإِمْكَانُ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ، وَلُحُوقِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يُقِرُّ بِمَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْأَوَّلِ فِي التَّرِكَة، وَمُزَاحَمَتَهُ فِيهَا وَتَنْقِيصَ حَقِّهِ مِنْهَا. وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، يُقْبَلُ إقْرَارُهُ، وَيَشْتَرِكَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْرُوثُ لَهُمَا لَقُبِلَ، فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ؛ وَلِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَّفِقُ حُضُورُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيَبْطُلُ حَقُّهُ بِغَيْبَتِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبُلِ إقْرَارُهُ أَوَّلًا، قُبُلِ إقْرَارُهُ ثَانِيًا، إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، كَالْمَوْرُوثِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ، تَعَلُّقًا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَإِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ أَوْ الْجَانِي. وَأَمَّا الْمَوْرُوثُ، فَإِنْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ، لَمْ يُحَاصَّ الْمُقَرُّ لَهُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ لَغَرِيمٍ يَسْتَغْرِقُ دَيْنُهُ تَرِكَتَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، صَحَّ، وَشَارَكَ الْأَوَّلَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَارِثِ، أَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْنَعْهُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَلَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ دَيْنٌ آخَرُ، بِأَنْ يَسْتَدِينَ دَيْنًا آخَرَ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ بِالْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُعَلِّقَ بِالتَّرِكَةِ دَيْنًا آخَرَ بِفِعْلِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي التَّرِكَةِ، مَا لَمْ يَلْتَزِمْ قَضَاءَ الدَّيْنِ. [فَصْل مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا فَأَقَرَّ بِهِ ابْنُهُ لِرَجَلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ] (8487) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ، وَتَرَكَ أَلْفًا، فَأَقَرَّ بِهِ ابْنُهُ لِرَجَلٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِرَافِهِ لِلْأَوَّلِ، ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ فِيهِ، فَصَارَ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي إقْرَارًا لَهُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ. وَتَلْزَمُ الْمُقِرَّ غَرَامَتُهُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِهِ لِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ، فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 [مَسْأَلَة ادَّعَى دَعْوَى عَلَى مَرِيضٍ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ] (8488) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى عَلَى مَرِيضٍ، فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ. لَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى يَقُولَ بِلِسَانِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إشَارَةَ الْمَرِيضِ لَا تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِإِشَارَتِهِ، إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْإِشَارَةِ مِنْ عَاجِزٍ عَنْ الْكَلَامِ، فَأَشْبَهَ إقْرَارَ الْأَخْرَسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْ نُطْقِهِ، فَلَمْ تَقُمْ إشَارَتُهُ مَقَامَ نُطْقِهِ، كَالصَّحِيحِ. وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَخْرَسَ، فَإِنَّهُ مَأْيُوسٍ مِنْ نُطْقِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْتَجَّ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ. وَالْآيِسَةُ يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّ عَجْزَهُ عَنْ النُّطْقِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتْرُكَ الْكَلَامَ لِصُعُوبَتِهِ عَلَيْهِ وَمَشَقَّتِهِ، لَا لِعَجْزِهِ. وَإِنْ صَارَ إلَى حَالٍ يَتَحَقَّقُ الْإِيَاسُ مِنْ نُطْقِهِ، لَمْ يُوثَقْ بِإِشَارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي أَعْجَزَهُ عَنْ النُّطْقِ، لَمْ يَخْتَصَّ بِلِسَانِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَثَّرَ فِي عَقْلِهِ أَوْ فِي سَمْعِهِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا قِيلَ لَهُ، بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ، وَلِأَنَّ الْأَخْرَسَ قَدْ تَكَرَّرَتْ إشَارَتُهُ حَتَّى صَارَتْ عِنْدَ مَنْ يُعَاشِرُهُ كَالْيَقِينِ، وَمُمَاثِلَةَ النُّطْقِ، وَهَذَا لَمْ تَتَكَرَّرْ إشَارَتُهُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يُرْدِ الْإِقْرَارَ. إنَّمَا أَرَادَ الْإِنْكَارَ، أَوْ إسْكَاتَ مَنْ يَسْأَلُهُ، وَمَعَ هَذِهِ الْفُرُوقِ، لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ. [مَسْأَلَة ادَّعَى دَعْوَى وَقَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةِ] (8489) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى، وَقَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِبَيِّنَتِهِ) وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تُقْبَلُ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى، أَوْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ سَمِعَا مِنْهُ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَا يَعْلَمُ، فَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَذَّبَ بَيِّنَتَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: وَإِنْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهَا، وَإِنْ كَانَ وَكِيلُهُ أَشْهَدَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ شَهِدَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْهِدَهُمْ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي نَفْيِهِ إيَّاهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَكْذَبِ بَيِّنَتَهُ، بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ لَهُ أَحَدٌ، فَإِذَا شَهِدَ لَهُ إنْسَانٌ، كَانَ تَكْذِيبًا لَهُ، وَيُفَارِقُ الشَّاهِدَ إذَا قَالَ: لَا شَهَادَةَ عِنْدِي. ثُمَّ قَالَ: كُنْت نَسِيَتْهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ لِغَيْرِهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَهَا هُنَا هُوَ مُقِرٌّ لِخَصْمِهِ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُ. وَالْحُكْمُ فِي مَا إذَا قَالَ: كُلُّ بَيِّنَةَ لِي زُورٌ. كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 [فَصْل قَالَ مَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةِ] (8490) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً. ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ، سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا، ثُمَّ عَلِمَهَا. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَلَوْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً. فَقَالَ شَاهِدَانِ: نَحْنُ نَشْهَدُ لَك. سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْوَصِيُّ عَلَى مَنْ هُوَ مُوصَى عَلَيْهِمْ] (8491) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيُّ عَلَى مَنْ هُوَ مُوصًى عَلَيْهِمْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ شَهِدَ، لَهُمْ، لَمْ يُقْبَلْ إذَا كَانُوا فِي حِجْرِهِ) أَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ، فَمَقْبُولَةٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنَّهُ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ بِهَا ضَرَرًا. وَأَمَّا شَهَادَتُهُ لَهُمْ إذَا كَانُوا فِي حِجْرِهِ، فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَجَازَ شُرَيْحٌ وَأَبُو ثَوْرٍ شَهَادَتَهُ لَهُمْ، إذَا كَانَ الْخَصْمُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمْ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَهُمْ، كَمَا بَعْدَ زَوَالِ الْوَصِيَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ شَهِدَ بِشَيْءٍ هُوَ خَصْمٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ الَّذِي يُطَالِبُ بِحُقُوقِهِمْ، وَيُخَاصِمُ فِيهَا، وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِمَالٍ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ يَأْخُذ مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ. فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الشَّهَادَةِ بِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا كَانُوا فِي حِجْرِهِ. فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَتِهِ عَنْهُمْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ قَبُولَهَا. وَالْحُكْمُ فِي أَمِينِ الْحَاكِمِ يَشْهَدُ لِلْأَيْتَامِ الَّذِينَ هُمْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، كَالْحُكْمِ فِي الْوَصِيِّ، سَوَاءً. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ مَنْ يُخْنَقُ فِي الْأَحْيَانِ] (8492) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ مَنْ يُخْنَقُ فِي الْأَحْيَانِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي إفَاقَتِهِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا عَنْهُ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَلَا أَحْسَبُهُ إلَّا مَذْهَبَ أَهْلِ الْكُوفَة؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الشَّهَادَةِ بِحَالٍ أَدَائِهَا، وَهُوَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ الثَّابِتِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، كَالصَّبِيِّ إذَا كَبَرَ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، كَالصَّحِيحِ، وَزَوَالُ عَقْلِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الشَّهَادَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَهَا، كَالصَّحِيحِ الَّذِي يَنَامُ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُغْمَى عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الطَّبِيبِ فِي الْمُوضِحَةِ] (8493) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ فِي الْمُوضِحَةِ، إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى طَبِيبَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْطَارُ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا اُخْتُلِفَ فِي الشَّجَّةِ، هَلْ هِيَ مُوضِحَةٌ أَوْ لَا؟ أَوْ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهَا، كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالدَّامِغَةِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا، كَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، أَوْ فِي الْجَائِفَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِرَاحِ، الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 إلَّا الْأَطِبَّاءُ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْأَطِبَّاءُ، أَوْ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ إذَا قُدِرَ عَلَى طَبِيبِينَ، أَوْ بَيْطَارَيْنِ، لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمْ تُقْبَلْ فِيهِ شَهَادَةُ وَاحِدٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ، أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَة، فَاجْتُزِئَ فِيهِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، بِمَنْزِلَةِ الْعُيُوبِ تَحْتَ الثِّيَابِ، يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، فَقَبُولُ قَوْلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ أَوْلَى. [فَصْل اشْهَدْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمِائَة دِرْهَمٍ فَشَهِدَ عَلَى مِائَةٍ دُونَ مِائَةٍ] (8494) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إذَا قَالَ: اشْهَدْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَشَهِدَ عَلَى مِائَةٍ دُونَ مِائَةٍ، كَرِهَ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ وَلِي عَلَى مِائَةٍ وَمِائَةٍ. يَحْكِيه كُلَّهُ لِلْحَاكِمِ كَمَا كَانَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا شَهِدَ عَلَى أَلْفٍ، وَكَانَ الْحَاكِم لَا يَحْكُمُ إلَّا عَلَى مِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ: أُرِيدُ أَنْ تَشْهَدَ لِي عَلَى مِائَةٍ، لَمْ يَشْهَدْ إلَّا بِأَلْفٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَذَلِكَ أَنَّ عَلَى الشَّاهِدِ نَقْلَ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا شَهِدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] . وَلِأَنَّهُ لَوْ سَاغَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِبَعْضِ مَا أُشْهِدَ عَلَيْهِ، لَسَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِبَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِأَلْفٍ، فَقَدْ شَهِدَ بِمِائَةٍ، فَإِذَا شَهِدَ بِمِائَةٍ، لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي شَهَادَتِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كَانَ قَدْ أَقْرَضَهُ مِائَةً مَرَّةً، وَتِسْعَمِائَةٍ مَرَّةً أُخْرَى. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِمِائَةٍ رُبَّمَا أَوْهَمَتْ أَنَّ هَذِهِ الْمِائَةَ غَيْرُ الَّتِي شَهِدَتْ بِأَصْلِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِهَا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ. [فَصْل شَهِدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَة دِينَارٍ] (8495) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا شَهِدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَهُ مِنْ دَرَاهِمِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَدَنَانِيرِهِ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُ الْعَقْدِ عَلَى ذَلِكَ، جَازَ أَنْ تُحْمَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 [كِتَاب الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ] الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: إضَافَةُ الْإِنْسَانِ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، مِلْكًا، أَوْ اسْتِحْقَاقًا، أَوْ صَفْقَةً، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، مَنْ يُضَافُ إلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الدَّعْوَى الطَّلَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] . وَقِيلَ: الْمُدَّعِي مَنْ يَلْتَمِسُ بِقَوْلِهِ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ إثْبَاتَ حَقٍّ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تُرِكَ لَمْ يَسْكُت، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا تُرِكَ سَكَتَ. وَقَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ؛ بِأَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْعَقْدِ، فَيَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ. وَالْأَصْلُ فِي الدَّعْوَى قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثٍ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. (8496) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِم، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَنْكَرَتْهُ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُحَلَّفْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ، رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ فِي كُلِّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَيَسْتَحْلِفُ فِيهِ، كَالْمَالِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَسْتَحْلِفُ فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ نَكَلَ، أُلْزِمَ النِّكَاحَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ نَكَلَ، رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ فَحَلَفَ، وَثَبَتَ النِّكَاحُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَحِلُّ بَذْلُهُ، فَلَمْ يَسْتَحْلِفْ فِيهِ، كَالْحَدِّ. يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْأَبْضَاعَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا، فَلَا تُبَاحُ بِالنُّكُولِ، وَلَا بِهِ وَبِيَمِينِ الْمُدَّعِي، كَالْحُدُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّكُولَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ، إنَّمَا هُوَ سُكُوتٌ مُجَرَّدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِخَوْفِهِ مِنْ الْيَمِينِ، أَوْ لِلْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، أَوْ لِلْحَيَاءِ مِنْ الْحَلِفِ وَالتَّبَذُّلِ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَمَعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِهِ فِيمَا يُحْتَاطُ لَهُ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي إنَّمَا هِيَ قَوْلُ نَفْسِهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى بِهَا أَمْرًا فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَإِثْمٌ كَبِيرٌ، وَيُمَكَّنُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَةٍ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا تَنَاوَلَ الْأَمْوَالَ وَالدِّمَاءَ، فَلَا يَدْخُلُ النِّكَاحُ فِيهِ، وَلَوْ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ دَعْوَى، لَكَانَ مَخْصُوصًا بِالْحُدُودِ، وَالنِّكَاحُ فِي مَعْنَاهُ، بَلْ النِّكَاحُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ شُهُودٍ، لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ، أَوْ مِنْ اشْتِهَارِهِ، فَيَشْهَدُ فِيهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَالْحُدُودُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَيُخْلَى سَبِيلُهَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَحْلِفُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ. فَنَكَلَتْ، لَمْ يُقْضَ بِالنُّكُولِ، وَتُحْبَسُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تَحْلِفَ، وَفِي الْآخَرِ، يُخْلَى سَبِيلُهَا، وَتَكُونُ فَائِدَةُ شَرْعِ الْيَمِينِ التَّخْوِيفَ وَالرَّدْعَ، لِتُقِرَّ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا، أَوْ تَحْلِفَ، فَتَبْرَأَ إنْ كَانَ مُبْطِلًا. [فَصْل ادَّعَى رَجُلٌ نِكَاحَ امْرَأَةٍ] (8497) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ شَرَائِطِ النِّكَاحِ، فَيَقُولُ: تَزَوَّجْتهَا بَوْلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرِضَاهَا. إنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ مِلْكٍ، فَأَشْبَهَ مِلْكَ الْعَبْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: وَلَيْسَتْ مُعْتَدَّةً وَلَا مُرْتَدَّةً وَلَنَا، أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي شَرَائِطِ النِّكَاحِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ الْوَلِيَّ وَالشُّهُودَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ إذْنَ الْبِكْرِ الْبَالِغِ لِأَبِيهَا فِي تَزْوِيجِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهُ، وَقَدْ يَدَّعِي نِكَاحًا يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا، وَالْحَاكِمُ لَا يَرَى صِحَّتَهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِصِحَّتِهِ مَعَ جَهْلِهِ بِهَا، وَلَا يَعْلَمُ بِهَا مَا لَمْ تُذْكَرْ الشُّرُوطُ، وَتَقُمْ الْبَيِّنَةُ بِهَا، وَتُفَارِقُ الْمَالَ، فَإِنَّ أَسْبَابَهُ تَنْحَصِرُ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْمُدَّعِي سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّهِ، وَالْعُقُودُ تَكْثُرُ شُرُوطُهَا، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ شُرُوطًا سَبْعَةً، وَرُبَّمَا لَا يُحْسِنُ الْمُدَّعِي عَدَّهَا وَلَا يَعْرِفُهَا، وَالْأَمْوَالُ مِمَّا يُتَسَاهَلُ فِيهَا؛ وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ فِي عُقُودِهِ، فَافْتَرَقَا فِي الدَّعْوَى. وَعَدَمِ الْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، لَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِيهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا وَلَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْأَغْرَاضُ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً وَالزَّوْجُ حُرًّا، فَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ نِكَاحِهَا، وَأَمَّا إنْ ادَّعَى اسْتِدَامَةَ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَمْ يَدَّعِ الْعَقْدَ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الشُّرُوطِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَلَوْ اُشْتُرِطَ ذِكْرُ الشُّرُوطِ، لَاشْتُرِطَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الِاسْتِفَاضَةِ. وَفِي الثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الشُّرُوطِ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى نِكَاحٍ، فَأَشْبَهَ دَعْوَى الْعَقْدِ. [فَصْل ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ عَلَى زَوْجِهَا] (8498) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ عَلَى زَوْجِهَا، وَذَكَرَتْ مَعَهُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَالصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وَنَحْوِهَا، سُمِعَتْ دَعْوَاهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقًّا لَهَا تُضِيفُهُ إلَى سَبَبِهِ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهَا، كَمَا لَوْ ادَّعَتْ مِلْكًا أَضَافَتْهُ إلَى الشِّرَاءِ. وَإِنْ أَفْرَدَتْ دَعْوَى النِّكَاحِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تُسْمَعُ دَعْوَاهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحُقُوقٍ لَهَا، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهَا فِيهِ، كَالْبَيْعِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا؛ فِيهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا حَقًّا لِغَيْرِهَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، سُئِلَ الزَّوْجُ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرٍ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تُسْتَحْلَفْ الْمَرْأَةُ وَالْحَقُّ عَلَيْهَا، فَلَأَنْ لَا يُسْتَحْلَفَ مَنْ الْحَقُّ لَهُ، وَهُوَ يُنْكِرُهُ، أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا إنَّمَا سُمِعَتْ لِتَضَمُّنِهَا دَعْوَى حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ تُشْرَعُ فِيهَا الْيَمِينُ. وَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالنِّكَاحِ، ثَبَتَ لَهَا مَا تَضَمَّنَهُ النِّكَاحُ مِنْ حُقُوقِهَا. وَأَمَّا إبَاحَتُهَا لَهُ، فَتَنْبَنِي عَلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ حَلَّتْ لَهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ النِّكَاحَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ؛ إمَّا لِعَدَمِ الْعَقْدِ، أَوْ لِبَيْنُونَتِهَا مِنْهُ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ. وَهَلْ يُمَكَّنُ مِنْهَا فِي الظَّاهِرِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يُمَكَّنُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ حَكَمَ بِالزَّوْجِيَّةِ. وَالثَّانِي، لَا يُمَكَّنُ مِنْهَا، لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ قَالَ: هِيَ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ كَدَعْوَى الزَّوْجِ، فِيمَا ذَكَرْنَا، مِنْ الْكَشْفِ عَنْ سَبَبِ النِّكَاحِ، وَشَرَائِطِ الْعَقْدِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ. [فَصْل مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ] (8499) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ غَيْرُ النِّكَاحِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْكَشْفِ، وَذِكْرِ الشُّرُوطِ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَاطُ لَهَا وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى الْكَشْفِ، كَدَعْوَى الْعَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً أَوْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهَا مَبِيعٌ، فَأَشْبَهَتْ الْجَارِيَةَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ ذَلِكَ تَكْثُرُ وَلَا تَنْحَصِرُ، وَرُبَّمَا خَفِيَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَلَا يُكَلَّفُ بَيَانَهُ، وَيَكْفِيه أَنْ يَقُولَ: أَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْعَيْنَ الَّتِي فِي يَدِهِ، أَوْ أَسْتَحِقُّ كَذَا وَكَذَا فِي ذِمَّتِهِ. وَيَقُولَ فِي الْبَيْعِ: إنِّي اشْتَرَيْت مِنْهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِعْتهَا مِنْهُ بِذَلِكَ. وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: وَهِيَ مِلْكُهُ، أَوْ وَهِيَ مِلْكِي - وَنَحْنُ جَائِزُ الْأَمْرِ - وَتَفَرَّقْنَا عَنْ تَرَاضٍ. وَذَكَرِ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْعُقُودِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شُرُوطِهَا، قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَوَجْهًا ثَالِثًا، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً، اُشْتُرِطَ ذِكْرُ شُرُوطِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَهَا، لَمْ يُشْتَرَطْ؛ لِعَدَمِ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ، أَشْبَهَ دَعْوَى الْعَيْنِ. وَمَا لَزِمَ ذِكْرُهُ فِي الدَّعْوَى، فَلَمْ يَذْكُرْهُ، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، لِتَصِيرَ الدَّعْوَى مَعْلُومَةً، فَيُمْكِنُ الْحَاكِمَ الْحُكْمُ بِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا سَائِرَ الدَّعَاوَى فِيمَا سَبَقَ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا. [مَسْأَلَة ادَّعَى دَابَّةً فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً] (8500) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَابَّةً فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَنْكَرَ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، حُكِمَ بِهَا لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِسَمَاعِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ، أَوْ قَالَتْ: وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَأَنْكَرَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي تُسَمَّى بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، وَبَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُسَمَّى بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا إذَا تَعَارَضَتَا، فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَالٍ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَعَنْهُ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، إنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَقَالَتْ: نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ اشْتَرَاهَا، أَوْ نَسَجَهَا. أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا، قُدِّمَتْ، وَإِلَّا قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، فِي النِّتَاجِ وَالنَّسَّاجِ، فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ، فَأَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ، كَالصُّوفِ وَالْخَزِّ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا شَهِدَتْ بِالسَّبَبِ، فَقَدْ أَفَادَتْ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ، أَنْتَجَهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ.» وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، رِوَايَةً ثَالِثَةً، أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقَدَّمُ بِكُلِّ حَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ. وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَأَنْكَرَ الْقَاضِي كَوْنَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إذَا لَمْ تُفِدْ إلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ جَنْبَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، وَيَمِينُهُ تُقَدَّمَ عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي، فَإِذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ، وَجَبَ إبْقَاءُ يَدِهِ عَلَى مَا فِيهَا، وَتَقْدِيمُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتَهُ لِيَدِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي، فَلَا يَبْقَى فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ. وَدَلِيلُ كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا، أَنَّهَا تُثْبِتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُلُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَصَارَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، كَمَا تُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ، كَمَا أَنَّ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ لَمَّا كَانَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمَا. (8501) فَصْلٌ: وَأَيُّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدَّمْنَاهَا، لَمْ يَحْلِفْ صَاحِبُهَا مَعَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُسْتَحْلَفُ صَاحِبُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا بِتَعَارُضِهِمَا، فَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَيَحْلِفُ الدَّاخِلُ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ. وَلَنَا، أَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَاجِحَةٌ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا مُنْفَرِدَةً، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ، خَاصٌّ وَعَامٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَرْجَحُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الرَّاجِحَةَ تَسْقُطُ، وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ، وَيُعْمَلُ بِهَا، وَتَسْقُطُ الْمَرْجُوحَةُ. [فَصْل كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِ الْمُدَّعِينَ دُونَ الْآخَرِ] (8502) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي وَحْدَهُ، حُكِمَ بِهَا، وَلَمْ يَحْلِفْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْفُتْيَا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ شُرَيْحٌ وَعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ مَعَ بَيِّنَتِهِ. قَالَ شُرَيْحٌ لِرَجَلٍ: لَوْ أَثْبَتِ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا شَاهِدًا، مَا قَضَيْت لَك حَتَّى تَحْلِفَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَضْرَمِيِّ: «بَيِّنَتُك، أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ.» وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إحْدَى حُجَّتَيْ الدَّعْوَى، فَيَكْتَفِي بِهَا، كَالْيَمِينِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَالْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكَلَّفِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، أُحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَيَقُومَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ. وَهَذَا حَسَنٌ؛ فَإِنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعِي بِثُبُوتِ حَقِّهِ، لَا يَنْفِي احْتِمَالَ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ ادَّعَاهُ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَبَيِّنَتُهُ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مُكَلَّفًا، فَسُكُوتُهُ عَنْ دَعْوَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَائِهِ، فَيَكْتَفِي بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، أَوْ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ، نُفِيَ احْتِمَالُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ، فَتُشْرَعُ الْيَمِينُ لَنَفْيِهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 بَيِّنَةٌ، وَكَانَتْ لِلْمُنْكِرِ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْحَلِفِ مَعَهَا؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِهَا مَعَ التَّعَارُضِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَهَا، فَمَعَ انْفِرَادِهَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكْتَفِي بِهَا عَنْ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْيَمِينِ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِالْيَمِينِ، فِيمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُشْرَعَ الْيَمِينُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَنَدُهَا الْيَدَ وَالتَّصَرُّفَ، فَلَا تُفِيدُ إلَّا مَا أَفَادَتْهُ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْ الْيَمِينِ، فَكَذَلِكَ مَا قَامَ مَقَامَهُ. [فَصْل ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّ الدَّابَّةَ مِلْكُهُ وَأَنَّهُ أُودَعْهَا لِلدَّاخِلِ] (8503) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّ الدَّابَّةَ مِلْكُهُ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَهَا لِلدَّاخِلِ، أَوْ أَعَارَهُ إيَّاهَا، أَوْ آجَرَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ؛ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ مُقَدَّمَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي: بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ مُقَدَّمَةٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الْخَارِجُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ صَاحِبُ الْيَدِ، وَأَنْ يَدَ الدَّاخِلِ نَائِبَةٌ عَنْهُ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَلِأَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَدَّعِ الْإِيدَاعَ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ دَعْوَاهُ الْإِيدَاعَ زِيَادَةٌ فِي حُجَّتِهِ، وَشَهَادَةَ الْبَيِّنَةُ بِهَا تُقَوِّيهِ لَهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلَةً لِبَيِّنَتِهِ. وَإِنْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّ الدَّاخِلَ غَصَبَهُ إيَّاهَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، فَهِيَ لِلْخَارِجِ، وَيَقْتَضِي قَوْلُ الْقَاضِي أَنَّهَا لِلدَّاخِلِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل فِي يَدِ رَجُلٍ جِلْدُ شَاةٍ مَسْلُوخَةٍ وَرَأْسُهَا وَسَوَاقِطُهَا وَبَاقِيهَا فِي يَدِ آخَرَ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا] (8504) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ جِلْدُ شَاةٍ مَسْلُوخَةٍ، وَرَأْسُهَا وَسَوَاقِطُهَا وَبَاقِيهَا فِي يَدِ آخَرَ، فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، وَقُلْنَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ. فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ. فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. [فَصْل فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا] (8505) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَكَانَتْ الشَّاةُ الَّتِي فِي يَدِهِ لَهُ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشَّاةُ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: هَذِهِ الشَّاةُ الَّتِي فِي يَدِك لِي، مِنْ نِتَاجِ شَاتِي هَذِهِ. فَالتَّعَارُضُ فِي النِّتَاجِ، لَا فِي الْمِلْكِ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ الْأُخْرَى وَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاتَيْنِ لِي دُونَ صَاحِبِي، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 وَانْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ فِي بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، فَمَنْ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِ الْآخَرِ، وَمَنْ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، أَوْ قَدَّمَهَا إذَا شَهِدَتْ بِالنِّتَاجِ، جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ. [فَصْل الْفَاسِقَ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدُ] (8506) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى زَيْدٌ شَاةً فِي يَدِ عَمْرٍو، وَأَقَامَ بِهَا بَيِّنَةً، فَحَكَمَ لَهُ بِهَا حَاكِمٌ، ثُمَّ ادَّعَاهَا عَمْرٌو عَلَى زَيْدٍ، وَأَقَامَ بِهَا بَيِّنَةً؛ فَإِنْ قُلْنَا: بَيِّنَةُ الْخَارِجُ مُقَدَّمَةٌ. لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ عَمْرٍو؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ زَيْدٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا. وَإِنْ قُلْنَا: بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ مُقَدَّمَةٌ. نَظَرْنَا فِي الْحُكْمِ كَيْفَ وَقَعَ؛ فَإِنْ كَانَ حُكِمَ بِهَا لِزَيْدٍ لِأَنَّ عَمْرًا لَا بَيِّنَةَ لَهُ، رُدَّتْ إلَى عَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَالْيَدُ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ حُكِمَ بِهَا لِزَيْدٍ لِأَنَّهُ يَرَى تَقْدِيمَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ عَمْرٍو قَدْ شَهِدَتْ لَهُ أَيْضًا، وَرَدَّهَا الْحَاكِمُ لِفِسْقِهَا، ثُمَّ عُدِّلَتْ، لَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدُ، لَمْ تُقْبَلْ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْحُكْمَ كَيْفَ كَانَ، لَمْ يُنْقَضْ؛ لِأَنَّ حُكْمُ الْحَاكِمِ، الْأَصْلُ جَرَيَانُهُ عَلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالصِّحَّةِ، فَلَا يُنْقَضُ بِالِاحْتِمَالِ. فَإِنْ جَاءَ ثَالِثٌ، فَادَّعَاهَا، وَأَقَامَ بِهَا بَيِّنَةً، فَبَيِّنَتُهُ وَبَيِّنَةُ زَيْدٍ مُتَعَارِضَتَانِ، وَلَا يَحْتَاجُ زَيْدٌ إلَى إقَامَةِ بَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ شَهِدَتْ مَرَّةً، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الشَّهَادَةِ حَالَ التَّنَازُعِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إعَادَتِهَا، كَالْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ، وَوَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ حَالِهَا، ثُمَّ بَانَتْ عَدَالَتُهَا، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَيُحْكَمُ مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ شَهَادَتِهَا، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل فِي يَدِ رَجُلٍ شَاةٌ فَادَّعَاهَا رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ] (8507) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شَاةٌ، فَادَّعَاهَا رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، وَادَّعَى الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، فَهِيَ لِلْمُدَّعِي، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَبَيِّنَةُ الدَّاخِلِ تَشْهَدُ بِالْيَدِ خَاصَّةً، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ تَكُونَ الْيَدُ عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ أَوْلَى. فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَقَدْ تَعَارَضَ تَرْجِيحَانِ، تَقَدُّمُ التَّارِيخِ مِنْ جِهَةِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَكَوْنُ الْأُخْرَى بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَيَقْتَضِيه عُمُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا الْيَدَ، فَلَا تُفِيدُ أَكْثَرَ مِمَّا تُفِيدُهُ الْيَدُ، فَأَشْبَهَتْ الصُّورَةَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالثَّانِيَةُ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً. فَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ، فَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا مُنْذُ سَنَةٍ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُقَدَّمُ فِيهَا بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، فَيُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهَا قَوْلَانِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 وَإِنْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّهَا مِلْكُهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَادَّعَى الدَّاخِلُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فَإِنْ اتَّفَقَ تَارِيخُ السِّنِينَ، إلَّا أَنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ تَشْهَدُ بِنِتَاجٍ، أَوْ بِشِرَاءٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ إرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ مِنْ مَالِكٍ، أَوْ قَطِيعَةٍ مِنْ الْإِمَامِ، أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَفِي أَيِّهِمَا تُقَدَّمُ؟ رِوَايَتَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا. وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْآخَرِ، قُضِيَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الِابْتِيَاعِ شَهِدَتْ بِأَمْرٍ حَادِثٍ، خَفِيَ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى، فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ. [مَسْأَلَة تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي عَيْنٍ فِي أَيْدِيهِمَا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ] (8508) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، سَقَطَتْ الْبَيِّنَتَانِ، وَكَانَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، وَكَانَتْ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي عَيْنٍ فِي أَيْدِيهِمَا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ دُونَ صَاحِبِهِ؛ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَجُعِلَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا عَنْ الْيَمِينِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ بِنُكُولِهِ. وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا، وَحَلَفَ الْآخَرُ، قُضِيَ لَهُ بِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَدِهِ بِيَمِينِهِ، وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ إمَّا بِنُكُولِهِ، وَإِمَّا بِيَمِينِهِ الَّتِي رُدَّتْ عَلَيْهِ عِنْدَ نُكُولِ صَاحِبِهِ. وَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ دُونَ الْآخَرِ حُكِمَ لَهُ بِهَا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَتَسَاوَتَا، تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ، وَقُسِمَتْ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَعِيرِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلٌ فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، خَارِجٌ عَنْ نِصْفِهَا، فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، وَفِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، فَيَسْتَوِيَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، حَلَفَ أَنَّهَا لَا حَقَّ لِلْآخَرِ فِيهَا، وَكَانَتْ الْعَيْنُ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِلْخَبَرِ وَالْمَعْنَى. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةِ، هَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ، أَوْ يَكُونُ لَهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ؟ فَرُوِيَ أَنَّهُ يَحْلِفُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَجَبَ إسْقَاطُهُمَا، كَالْخَبَرَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَتَسَاوَيَا، وَإِذَا سَقَطَا صَارَ الْمُخْتَلِفَانِ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى الدَّاخِلِ مَعَ بَيِّنَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلٌ فِي نِصْفِهَا، فَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ بِبَيِّنَتِهِ، وَيَحْلِفُ مَعَهَا، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، أَنَّ الْعَيْنَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِلْخَبَرِ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَاتَيْنِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْخَبَرَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَيِّنَةٍ رَاجِحَةٌ فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ الرَّاجِحَةَ يُحْكَمُ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى يَمِينٍ. فَأَمَّا إنْ شَهِدَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لِهَذَا، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهَا لِهَذَا الْآخَرِ، نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّرْجِيحِ بِهَذَا رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُرَجَّحُ بِهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهُوَ مِلْكُ الْعَيْنِ الْآنَ، فَوَجَبَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِيَةُ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ النِّتَاجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ السَّبَبِ، وَالْأُخْرَى خَفِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا مُسْتَنِدَةً إلَى مُجَرَّدِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَتُقَدَّمُ الْأُولَى عَلَيْهَا، كَتَقَدُّمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا. [فَصْل تَعَارُض الْبَيِّنَتَانِ فِي الْمِلْكِ] (8509) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ تَقْدِيمُ أَقْدَمِهِمَا تَارِيخًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَةَ التَّارِيخِ، أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ لَهُ فِي وَقْتٍ لَمْ تُعَارِضْهُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ، وَلِهَذَا لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالنَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْمِلْكِ فِي الْحَالِ، فَسَقَطَتَا، وَبَقِيَ مِلْكُ السَّابِقِ تَجِبُ اسْتَدَامَتْهُ، وَأَنْ لَا يَثْبُتَ لِغَيْرِهِ مِلْكٌ، إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الشَّاهِدَ بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ أَحَقُّ بِالتَّرْجِيحِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ، لَقُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ اتِّفَاقًا، فَإِذَا لَمْ تُرَجَّحْ بِهَذَا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّسَاوِي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ. قُلْنَا: إنَّمَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ انْفَرَدَ بِأَنْ يَدَّعِيَ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ، فَإِنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى، فَهُمَا سَوَاءٌ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِمَنْ لَمْ يُوَقِّتْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ فِي إحْدَاهُمَا مَا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ مِنْ تَقَدُّمِ الْمِلْكِ وَلَا غَيْرِهِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاؤُهُمَا، كَمَا لَوْ أُطْلِقَتَا، أَوْ اسْتَوَى تَارِيخُهُمَا. [فَصْل تَرْجِيحُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ] (8510) فَصْلٌ: وَلَا تُرَجَّحُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَلَا اشْتِهَارِ الْعَدَالَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَتَخَرَّجُ أَنَّ تُرَجَّحَ بِذَلِكَ، مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَيَتَّبِعُ الْأَعْمَى أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ يُرَجَّحُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّهَا خَبَرٌ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَإِذَا كَثُرَ الْعَدَدُ أَوْ قَوِيَتْ الْعَدَالَةُ، كَانَ الظَّنُّ بِهِ أَقْوَى. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ، فَإِذَا شَهِدَ لِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ، قَسَمَتْ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، فَيُوَزَّعُ الْحَقُّ عَلَيْهَا. وَلَنَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ، فَلَا تَخْتَلِفُ بِالزِّيَادَةِ، كَالدِّيَةِ، وَتُخَالِفُ الْخَبَرَ، فَإِنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الْعَدَدِ، فَرَجَحَ بِالزِّيَادَةِ. وَالشَّهَادَةُ يُتَّفَقُ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، فَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِمَا دُونَ اعْتِبَارِ الظَّنِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ، وَإِنْ كَثُرْنَ حَتَّى صَارَ الظَّنُّ بِشَهَادَتِهِنَّ أَغْلَبَ مِنْ شَهَادَةِ الذَّكَرَيْنِ. وَعَلَى هَذَا لَا تُرَجَّحُ شَهَادَةُ الرَّجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ حُجَّةٌ فِي الْمَالِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا تَعَارَضَتَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ وَلِلْآخَرِ شَاهِدٌ، فَبَذَلَ يَمِينَهُ مَعَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَتَعَارَضَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ بِمُفْرَدِهِ، فَأَشْبَهَا الرَّجُلَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 وَالثَّانِي، يُقَدَّمُ الشَّاهِدَانِ، لِأَنَّهُمَا حُجَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ قَوْلُهُ لِنَفْسِهِ، وَالْبَيِّنَةَ الْكَامِلَةَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِهَا عَلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. [فَصْل فِي أَيْدِيهِمَا دَارٌ فَادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا كُلَّهَا وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا] (8511) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا دَارٌ، فَادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا كُلَّهَا وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَعَلَى مُدَّعِي النِّصْفِ الْيَمِينُ لِصَاحِبِهِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَحْكُومَ لَهُ بِهِ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ. وَلَا نَعْلَم فِي هَذَا خِلَافًا. إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ، أَنَّ لِمُدَّعِي الْكُلِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا، لِأَنَّ النِّصْفَ لَهُ لَا مُنَازِعَ فِيهِ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ دَعْوَاهُمَا فِيهِ. وَلَنَا أَنَّ يَدَ مُدَّعِي النِّصْفِ عَلَى مَا يَدَّعِيه، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيه، فَقَدْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَاهُمَا فَالنِّصْفُ، لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَيِّ الْبَيِّنَتَيْنِ تُقَدَّمُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، فَتَكُونُ الدَّارُ كُلُّهَا لِمُدَّعِي الْكُلِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَالِثٍ لَا يَدَّعِيهَا، فَالنِّصْفُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، حَلَفَ، وَكَانَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ، تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّانِي، يُقْسَمُ النِّصْفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا. [فَصْل الدَّارِ فِي يَدِ ثَلَاثَةٍ ادَّعَى أَحَدُهُمْ نِصْفَهَا وَادَّعَى الْآخَرُ ثُلُثَهَا وَادَّعَى الْآخَرُ سُدُسَهَا] (8512) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةٍ، ادَّعَى أَحَدُهُمْ نِصْفَهَا، وَادَّعَى الْآخَرُ ثُلُثَهَا، وَادَّعَى الْآخَرُ سُدُسَهَا، فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ مِلْكِهِمْ، وَلَيْسَ هَاهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَجَاحُدٌ، فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ بَاقِيَ الدَّارِ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ مَعِي، وَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمِلْكِ بَيِّنَةٌ، قُضِيَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَأُقِرَّ فِي يَدِهِ ثُلُثُهَا. (8513) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا، وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا، وَالْآخَرُ ثُلُثَهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةٌ، قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْيَمِينُ عَلَى مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى ثُلُثِهَا. وَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ، فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لِمُدَّعِي النِّصْفِ، أَخَذَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ، لِمُدَّعِي الْكُلِّ السُّدُسُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيَحْلِفُ عَلَى نِصْفِ السُّدُسِ، وَيَحْلِفُ الْآخَرُ عَلَى الرُّبْعِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 الَّذِي يَأْخُذُهُ جَمِيعُهُ. فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِمُدَّعِي الثُّلُثِ، أَخَذَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرَيْنِ، لِمُدَّعِي الْكُلِّ السُّدُسُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيَحْلِفُ عَلَى السُّدُسِ الْآخَرِ، وَيَحْلِفُ الْآخَرُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَأْخُذُهُ. وَإِنْ كَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَدَّعِيه بَيِّنَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ. قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ قُلْنَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ. فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ خَارِجَةٌ فِيهِ، وَلِمُدَّعِي الْكُلِّ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ؛ لِأَنَّ لَهُ السُّدُسَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِكَوْنِهِ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه، وَلَهُ الثُّلُثَانِ؛ لِكَوْنِ بَيِّنَتِهِ خَارِجَةً عَنْهُمَا. وَقِيلَ: بَلْ لِمُدَّعِي الثُّلُثِ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ مُدَّعِي الْكُلِّ وَمُدَّعِي النِّصْفِ تَعَارَضَتَا فِيهِ، فَتَسَاقَطَتَا، وَبَقِيَ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَلَا شَيْءَ لِمُدَّعِي النِّصْفِ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمُدَّعِي الثُّلُثِ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ، فَالنِّصْفُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِيه، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، فَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ، أَوْ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، حَلَفَ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ فِي السُّدُسِ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، فَالنِّصْفُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالسُّدُسُ الزَّائِدُ، يَتَنَازَعَهُ مُدَّعِي الْكُلِّ وَمُدَّعِي النِّصْفِ، وَالثُّلُثُ يَدَّعِيه الثَّلَاثَةُ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَاتُ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَاتُ. أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذْ كَانَ بِالْعِرَاقِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَاتُ، قُسِمَتْ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِينَ. فَلِمُدَّعِي الْكُلِّ النِّصْفُ وَنِصْفُ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ، وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ نِصْفُ السُّدُسِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ، وَلِمُدَّعِي الثُّلُثِ ثُلُثُهُ وَهُوَ التُّسْعُ، فَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا؛ لِمُدَّعِي الْكُلِّ النِّصْفُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَنِصْفُ السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ، وَالتُّسْعُ أَرْبَعَةٌ، فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سَبْعَةٌ، وَلِمُدَّعِي الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَهُوَ التُّسْعُ. وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَأْخُذُ مُدَّعِي الْكُلِّ النِّصْفَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ عَوْلِ الْفَرَائِضِ، لِصَاحِبِ الْكُلِّ سِتَّةٌ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، فَتَصِحُّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا. وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ ادَّعَوْا كِيسًا وَهُوَ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ، وَحَلَفَ كُلُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ؛ ادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهُ، وَادَّعَى آخَرُ ثُلُثَيْهِ، وَادَّعَى آخَرُ نِصْفَهُ؟ فَأَجَابَ فِيهِمْ بِشِعْرٍ: يَقُولُ نَظَرْت أَبَا يَعْقُوبَ فِي الْحِسَبِ الَّتِي ... طَرَتْ فَأَقَامَتْ مِنْهُمْ كُلَّ قَاعِدِ فَلِلْمُدَّعِي الثُّلْثَيْنِ ثُلْثٌ وَلِلَّذِي ... اسْتَلَاطَ جَمِيعُ الْمَالِ عِنْدَ التَّحَاشُدِ مِنْ الْمَالِ نِصْفٌ غَيْرُ مَا سَيَنُوبُهُ ... وَحِصَّتُهُ مِنْ نِصْفِ ذَا الْمَالِ زَائِدِ وَلِلْمُدَّعِي نِصْفًا مِنْ الْمَالِ رُبْعُهُ ... وَيُؤْخَذُ نِصْفُ السُّدْسِ مِنْ كُلِّ وَاحِدِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَسَمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْعَوْلِ، فَكَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَالَتْ مِنْ سِتَّةٍ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ مَخْرَجَ الْكُسُورِ، وَهِيَ سِتَّةٌ فَجَعَلَهَا لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَثُلُثَاهَا أَرْبَعَةٌ لِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، وَنِصْفُهَا ثَلَاثَةٌ، لِمُدَّعِي النِّصْفِ، صَارَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. [فَصْل الدَّارُ فِي أَيْدِي أَرْبَعَةٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالثَّانِي ثُلُثَيْهَا وَالثَّالِثُ نِصْفَهَا وَالرَّابِعُ ثُلْثَهَا] (8514) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِي أَرْبَعَةٍ، فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا، وَالثَّانِي ثُلُثَيْهَا، وَالثَّالِثُ نِصْفَهَا، وَالرَّابِعُ ثُلْثَهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَهُ رُبْعُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً، قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَاخِلٌ فِي رُبْعِهَا، فَتُقَدَّم بَيِّنَتُهُ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ. فَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا ادَّعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، فَأَنْكَرَهُمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، تَعَارَضَتَا، وَأُقِرَّ الشَّيْءُ فِي يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ خَامِسٍ لَا يَدَّعِيهَا، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ، فَالثُّلُثُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ، أَوْ لِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، أَخَذَهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ لِمُدَّعِي النِّصْفِ، أَخَذَهُ، وَأَقْرَعَ بَيْنَ الْبَاقِينَ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ وَقَعَتْ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، أَخَذَهُ، وَأَقْرَعَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالشَّافِعِيِّ إذْ كَانَ بِالْعِرَاقِ، إلَّا أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: لِمُدَّعِي الْكُلِّ الثُّلُثُ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنْ النِّصْفِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَيَكُونُ الْإِقْرَاعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، الثُّلُثُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ، وَيُقْسَمُ السُّدُسُ الزَّائِدُ عَنْ النِّصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ يُقْسَمُ السُّدُسُ الزَّائِدُ عَنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِصَاحِبِ الْكُلِّ ثُلُثُهَا اثْنَا عَشَرَ، وَنِصْفُ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَثُلُثُ السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَرُبْعُ الثُّلُثِ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ، فَيَحْصُلُ لَهُ عِشْرُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 سَهْمًا، وَهِيَ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الدَّارِ. وَلِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، تُسْعَانِ وَهِيَ مِثْلُ مَا لِمُدَّعِي الْكُلِّ بَعْدَ الثُّلُثِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ، وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، تُسْعٌ وَرُبْعُ تُسْعٍ، وَلِمُدَّعِي الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، نِصْفُ السُّدُسِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَسَمَهَا عَلَى الْعَوْلِ، هِيَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، لِصَاحِبِ الْكُلِّ سِتَّةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ، لِصَاحِبِ الْكُلِّ الثُّلُثُ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ. [مَسْأَلَة تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا] (8515) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَأَنَّهَا لِأَحَدِهِمَا لَا يَعْرِفُهُ عَيْنًا، قُرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَأَنْكَرَهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ صَاحِبَهَا. أَوْ قَالَ: هِيَ لِأَحَدِكُمَا، لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا عَيْنًا، لَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ، أَحَبَّا أَمْ كَرِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الدَّعْوَى، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَدٌ، وَالْقُرْعَةُ تُمَيِّزُ عَنَدَ التَّسَاوِي، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ كَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو الْخَطَّابِ؛ إحْدَاهُمَا، تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ، وَيَقْتَرِعُ الْمُدَّعِيَانِ عَلَى الْيَمِينِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقُرْعَةَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمَا بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدِيمُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرٍ، وَجَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِشُهُودٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 عُدُولٍ، عَلَى عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ فَأَسْهَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ ". وَلِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا، مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَسَقَطَتَا، كَالْخَبَرَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِمَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعِيرٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ؛ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» . وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي دَعْوَاهُ، فَيَتَسَاوَيَانِ فِي قِسْمَتِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تُقَدَّمُ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ رَابِعٌ، يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ، كَالْحَاكِمِ إذَا لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْحُكْمُ فِي قَضِيَّتِهِ. وَلَنَا، الْخَبَرَانِ، وَأَنَّ تَعَارُضَ الْحُجَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، كَالْخَبَرَيْنِ، بَلْ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ، أَسْقَطْنَاهُمَا، وَرَجَعْنَا إلَى دَلِيلٍ غَيْرِهِمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّنَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَسْقُطَانِ. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَته، حَلَفَ، وَأَخَذَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يُعْمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُغْنِي عَنْ الْيَمِينِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عَلَيْهِ الْيَمِينُ مَعَ الْبَيِّنَةِ، تَرْجِيحًا لَهَا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ كَالْأُولَى فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ آخَرَ، سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْل أَنْكَرَ الْبَيِّنَةَ مَنْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ وَكَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ] (8516) فَصْلٌ: فَإِنْ أَنْكَرَهَا مَنْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، وَكَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَإِنْ قُلْنَا: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ. أُخِذَتْ الْعَيْنُ مِنْ يَدِهِ، وَقُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْقِسْمَةَ، أَوْ تُدْفَعُ إلَى مِنْ تَخْرُجُ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَلَى قَوْلِ مِنْ يَرَى ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ، حَلَفَ صَاحِبُ الْيَدِ، وَأُقِرَّتْ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، قُبِلَ إقْرَارُهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِأَحَدِهِمَا، صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ صَاحِبَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ مُقِرٌّ بِأَنَّ يَدَهُ نَائِبَةٌ عَنْ يَدِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا جَمِيعًا، فَالْيَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي، الْجُزْءِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ؛ لِذَلِكَ. [فَصْل تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا فَقَالَ هِيَ لِأَحَدِكُمَا] (8517) فَصْلٌ: وَإِنْ تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، فَقَالَ: هِيَ لِأَحَدِكُمَا لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا. أَوْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ صَاحِبَهَا، أَهُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 أَحَدُكُمَا أَوْ غَيْرُكُمَا. أَوْ قَالَ: أَوْدَعَنِيهَا أَحَدُكُمَا. أَوْ: رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّك تَعْلَمُ أَنِّي صَاحِبُهَا، أَوْ أَنِّي الَّذِي أَوْدَعْتُكَهَا، أَوْ طَلَبَتْ يَمِينَهُ، لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، وَمَنْ لَزِمَهُ الْحَقُّ مَعَ الْإِقْرَارِ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ، وَيَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ نَفْيِ الْعِلْمِ. وَإِنْ صَدَّقَاهُ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، حَلَفَ لِلْآخَرِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ صَاحِبَ الْيَدِ. فَإِنْ قَالَ غَيْرُ الْمُقَرِّ لَهُ: احْلِفْ لِي أَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ مِلْكِي، أَوْ أَنِّي لَسْت الَّذِي أَوْدَعْتُكهَا. لَزِمَهُ الْيَمِينُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا. وَإِنْ اعْتَرَفَ بِهَا لَهُمَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِصَاحِبِهِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ لِصَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ. [فَصْل أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً] (8518) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ، فَادَّعَاهَا نَفْسَانِ، قَالَ أَحَدُهُمَا: آجَرْتُكهَا. وَقَالَ الْآخَرُ: هِيَ دَارِي أَعَرْتُكهَا. أَوْ قَالَ: هِيَ دَارِي وَرِثْتهَا مِنْ أَبِي. أَوْ قَالَ: هِيَ دَارِي. وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ، فَأَنْكَرْهُمَا صَاحِبُ الْيَدِ، وَقَالَ: هِيَ دَارِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً، تَعَارَضَتَا، وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُقَدَّمُ فِيهَا الْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ بَيِّنَةَ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَرِثَهَا مُقَدَّمَةٌ؛ لِشَهَادَتِهَا بِالسَّبَبِ. وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا، فَهِيَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، بِأَنْ يَكُونَ غَصَبَهَا مِنْ هَذَا، وَأَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَإِقْرَارُ الْغَاصِبِ بَاطِلٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَتُدْفَعُ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُقِرِّ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنَّمَا حَالَتْ الْبَيِّنَةُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا أَوَّلًا، وَلَزِمَهُ غَرَامَتُهَا لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ. [فَصْل أَخَذَ مِنْ رَجُلَيْنِ ثَوْبَيْنِ أَحَدَهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرَ بِعُشْرِينَ ثُمَّ لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا ثَوْبُ هَذَا مِنْ ثَوْبِ هَذَا] (8519) فَصْلٌ: نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلَيْنِ ثَوْبَيْنِ، أَحَدَهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرَ بِعِشْرِينَ، ثُمَّ لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا ثَوْبُ هَذَا مِنْ ثَوْبِ هَذَا، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَوْبًا مِنْ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، يَعْنِي وَادَّعَاهُ الْآخَرُ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَكَانَ الثَّوْبُ الْجَيِّدُ لَهُ، وَالْآخَرُ لِلْآخَرِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا تَنَازَعَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا. [فَصْل تَدَاعَيَا عَيْنًا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذِهِ الْعَيْنُ لِي] (8520) فَصْلٌ: إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذِهِ الْعَيْنُ لِي، اشْتَرَيْتهَا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ، وَنَقَدْتُهُ إيَّاهَا. وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَنْكَرَهُمَا زَيْدٌ، حَلَفَ، وَكَانَتْ الْعَيْنُ لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، سَلَّمَهَا إلَيْهِ وَحَلَفَ لِلْآخَرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 وَإِنْ أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا، سُلِّمَتْ إلَيْهِمَا، وَحَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا. وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْكُمَا. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، حَلَفَ وَأَخَذَهَا. وَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ أَنَّهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، سُلِّمَتْ إلَيْهِ، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهَا لِلْآخَرِ، لَزِمَتْهُ غَرَامَتُهَا لَهُ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَتَانِ مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي الْمُحَرَّمِ، وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي صَفَرٍ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِدَعْوَاهُ، فَهِيَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَهَا لِلْأَوَّلِ، فَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا، فَيَكُونُ بَيْعُهُ فِي صَفَرٍ بَاطِلًا، لِكَوْنِهِ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَيُطَالَبُ بِرَدِّ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَتَا مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخِ وَاحِدٍ، أَوْ مُطْلِقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا مُطْلِقَةً وَالْأُخْرَى مُؤَرِّخَةً، تَعَارَضَتَا؛ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، فَيُنْظَرُ فِي الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، فَمَنْ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ جَعَلَهَا لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَمِنْ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، جَعَلَهَا لِلْخَارِجِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَقُلْنَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ. رُجِعَ إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُمَا، حَلَفَ لَهُمَا، وَكَانَتْ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا، سُلِّمَتْ إلَيْهِ، وَحَلَفَ لِلْآخَرِ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا، وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ وَلَا اعْتِرَافِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ زَوَالُ مِلْكِهِ، وَأَنَّ يَدَهُ لَا حُكْمَ لَهَا، فَلَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ، فَمَنْ قَالَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا. أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا سِوَى هَذَا. وَمَنْ قَالَ: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا. قُسِمَتْ. وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْكَوْسَجِ، فِي رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَةٍ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِمِائَتَيْنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ مِنْ السِّلْعَةِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ وَحَمَلَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ فِي أَيْدِيهِمَا، أَوْ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَقَرَّ لَهُمَا جَمِيعًا. وَإِطْلَاقُ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِقَبْضِهِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ. فَإِنْ اخْتَارَا الْإِمْسَاكَ، رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ اخْتَارَا الْفَسْخَ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ، تَوَفَّرَتْ السِّلْعَةُ كُلُّهَا عَلَى الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ لَهُ بِنِصْفِ السِّلْعَةِ وَنِصْفِ الثَّمَنِ، فَلَا يَعُودُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كُلِّ مَبِيعٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 (8521) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ، وَهِيَ مِلْكُهُ، وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ عَمْرٍو، وَهِيَ مِلْكُهُ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَاهُ بَيِّنَةً، فَهَذِهِ تُشْبِهُ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِمَا، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلَةٌ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ، خَارِجَةٌ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ، فَأَنْكَرَهُمَا، وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ. حَلَفَ، وَكَانَتْ لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، صَارَ الدَّاخِلَ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا لَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: تُقَدَّمُ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ. فَهِيَ لِمَنْ تَخْرُجُ لَهُ الْقُرْعَةُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا. قُسِمَتْ، وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ ثَمَنِهَا. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُقِرًّا بِقَبْضِهِ، فَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا رُجُوعَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَلَمْ يُقْبَضْ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ، لَمْ يَتَوَفَّرْ الْمَبِيعُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ اثْنَانِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْل فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً] (8522) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ، فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّنِي اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ. وَإِنْ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، أَوْ كَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا، تَعَارَضَتَا، وَإِنْ قُدِّمَ تَارِيخُ إحْدَاهُمَا، فَهَلْ تُرَجَّحُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَى الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهَا أَوَّلًا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِلْآخَرِ. [فَصْل مَتَى أَمْكَنَ صِدْقُ الْبَيِّنَتَيْنِ] (8523) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّك اشْتَرَيْتهَا مِنِّي بِأَلْفٍ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، وَاتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: اشْتَرَاهَا مِنِّي مَعَ الزَّوَالِ، يَوْمَ كَذَا لَيَوْمٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطَانِ. رُجِعَ إلَى قَوْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَنْكَرْهُمَا، حَلَفَ لَهُمَا، وَبَرِئَ. وَإِنْ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا، فَعَلَيْهِ لَهُ الثَّمَنُ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا مَعًا، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَهَبَهَا لِلْآخَرِ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتهَا مِنْكُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً بِأَلْفٍ. فَقَدْ أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 عَلَى الْبَاقِي. وَإِنْ قُلْنَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا. فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَجَبَ لَهُ الثَّمَنُ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ، وَيَبْرَأُ. وَإِنْ قُلْنَا: يُقْسَمُ. قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا، وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ التَّارِيخَانِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ كَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةً، ثَبَتَ الْعَقْدَانِ، وَلَزِمَهُ الثَّمَنَانِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ يَمْلِكَهَا الْآخَرُ، فَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ صِدْقُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ تَصْدِيقُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا وَالْمُشْتَرِي اثْنَانِ، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي الْمُحَرَّمِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي صَفَرٍ، يَكُونُ الشِّرَاءُ الثَّانِي بَاطِلًا؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ، لَمْ يُبْطِلُهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ الثَّانِي ثَانِيًا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا ثُبُوتُ شِرَائِهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَانِيًا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَارِيخُهُمَا وَاحِدًا، فَيَتَعَارَضَانِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَلَا تُشْغَلُ بِالشَّكِّ. قُلْنَا: إنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ صِدْقُ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَجَبَ تَصْدِيقُهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ شَكٌّ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْوَهْمُ، وَالْوَهْمُ لَا تَبْطُلُ بِهِ الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ بِهِ، لَمْ يَثْبُتْ بِهَا حَقٌّ أَصْلًا، لِأَنَّهُ مَا مِنْ بَيِّنَةٍ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَاذِبَةً، أَوْ غَيْرَ عَادِلَةٍ، أَوْ مُتَّهَمَةً، أَوْ مُعَارَضَةً، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى هَذَا الْوَهْمِ، كَذَا هَاهُنَا. [فَصْل مَاتَ رَجُلٌ فَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُ هَذَا الْمَيِّتِ] (8524) فَصْلٌ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ، فَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُ هَذَا الْمَيِّتِ، لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، وَشَهِدَ آخَرَانِ لِآخَرَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُ هَذَا الْمَيِّتِ، لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامَيْنِ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْإِرْثُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَعْلَمَ كُلُّ بَيِّنَةٍ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ الْأُخْرَى. [فَصْل ادَّعَى رَجُلٌ عَبْدًا فِي يَدِ آخَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ] (8525) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَبْدًا فِي يَدِ آخَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَأَنْكَرَهُمَا، حَلَفَ لَهُمَا، وَالْعَبْدُ لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا، ثَبَتَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ. وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، ثَبَتَ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، وَكَانَتَا مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، قَدَّمْنَا الْأُولَى، وَبَطَلَتْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ إنْ سَبَقَ الْعِتْقُ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ سَبَقَ الْبَيْعُ، لَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَادَ إلَى مِلْكِهِ فَأَعْتَقَهُ. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يُبْطِلُهُ عِتْقُ الْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَتَا مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخِ وَاحِدٍ، أَوْ مُطْلِقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا مُطْلِقَةً، تَعَارَضَتَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، فَإِنْ قَدَّمْنَا بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ قَدَّمْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، قُدِّمَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَقُلْنَا: إنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَسْقُطَانِ بِالتَّعَارُضِ، صَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، وَيَرْجِعُ إلَى السَّيِّدِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُمَا، حَلَفَ لَهُمَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعِتْقِ، ثَبَتَ، وَلَمْ يَحْلِفْ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مَا أَعْتَقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي إحْلَافِهِ، وَيَحْلِفُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ أَقَرَّ لِلْمُشْتَرِي ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَلَمْ يَحْلِفْ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي إحْلَافِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُسْتَعْمَلَانِ فَاعْتَرَفَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يُرَجَّحْ بِاعْتِرَافِهِ لِأَنَّ مِلْكُهُ قَدْ زَالَ فَإِنْ قُلْنَا تُرَجَّحُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِالْقُرْعَةِ أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، قَدَّمْنَاهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. فَعَلَى هَذَا، يَحْلِفُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُقْسَمُ. قَسَمْنَا الْعَبْدَ، فَجَعَلْنَا نِصْفَهُ مَبِيعًا وَنِصْفَهُ حُرًّا، وَيَسْرِي الْعِتْقُ إلَى جَمِيعِهِ إنْ كَانَ الْبَائِعُ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مُخْتَارًا، وَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي نِصْفِهِ بِشَهَادَتِهِمَا. [فَصْل ادَّعَى رَجُلٌ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ] (8526) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ، قُبُلِ إقْرَارُهَا، لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا وَهِيَ غَيْرُ مُتَّهَمَةٍ، فَإِنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، لَمْ تُمْنَعْ مِنْهُ. وَإِنْ ادَّعَاهَا اثْنَانِ، فَأَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي مِلْكَ نِصْفِهَا، وَهِيَ مُعْتَرِفَةٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا، فَصَارَ إقْرَارُهَا بِحَقِّ غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ، فَإِنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ ابْتِدَاءَ تَزْوِيجِ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ مِنْ دَعْوَى الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا، قُبِلَ. قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِإِقْرَارِهِ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ كَصَاحِبِ الْيَدِ، فَيَحْلِفُ، وَالنِّكَاحُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْيَمِينِ، فَلَمْ يَنْفَعْ الْإِقْرَارُ بِهِ هَاهُنَا، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا، وَسَقَطَتَا، وَحِيلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهَا، وَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بِإِقْرَارِ الْمَرْأَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا بِكَوْنِهَا فِي بَيْتِهِ وَيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ عَلَى حُرَّةٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقِسْمَةِ هَاهُنَا، وَلَا إلَى الْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْقُرْعَةِ مِنْ الْيَمِينِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي النِّكَاحِ. [فَصْل قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إنْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ قُتِلَ وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ] (8527) فَصْلٌ: إذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إنْ قُتِلْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ. ثُمَّ مَاتَ، فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ قُتِلَ، وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَتْلِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، عَتَقَ، وَإِنْ أَقَامَ الْوَرَثَةُ بَيِّنَةً بِمَوْتِهِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِزِيَادَةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 وَالثَّانِي، تَتَعَارَضَانِ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا تَشْهَدُ بِضِدِّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأُخْرَى، فَيَبْقَى عَلَى الرِّقِّ. وَإِنْ قَالَ: إنْ مِتُّ فِي رَمَضَانَ، فَعَبْدِي سَالِمٌ حُرٌّ، وَإِنْ مِتُّ فِي شَوَّالَ فَعَبْدِي غَانِمٌ حُرٌّ. ثُمَّ مَاتَ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْتَهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَعْتِقُ بِمَوْتِهِ فِيهِ وَأَنْكَرَهُمَا الْوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ. وَإِنْ أَقَرُّوا لِأَحَدِهِمَا، عَتَقَ بِإِقْرَارِهِمْ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمُوجِبِ عِتْقِهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ سَالِمٍ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، فَإِنَّهَا أَثْبَتَتْ مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ مَوْتُهُ فِي رَمَضَانَ. وَالثَّانِي، يَتَعَارَضَانِ، وَيَبْقَى الْعَبْدَانِ عَلَى الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُمَا سَقَطَا، فَصَارَا، كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَالثَّالِثُ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَيَعْتِقُ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَإِنْ قَالَ: إنْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي هَذَا، فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَإِنْ مِتّ مِنْهُ، فَغَانِمٌ حُرٌّ، فَمَاتَ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبَ عِتْقِهِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَرَأَ أَوْ لَمْ يَبْرَأْ، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ تُعْلَمْ عَيْنُهُ فَيُخْرَجُ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا، فَأَشْكَلَ عَلَيْنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُ غَانِمٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْبُرْءِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمُوجِبِ عِتْقِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَتَعَارَضَانِ، وَيَبْقَى الْعَبْدَانِ عَلَى الرِّقِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُكَذِّبُ الْأُخْرَى، وَتُثْبِتُ زِيَادَةً تَنْفِيَهَا الْأُخْرَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ لِلتَّعَارُضِ أَثَرَهُ فِي إسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا أَصْلًا لَعَتَقَ أَحَدُهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَتَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِتْقَ أَحَدِهِمَا، فَيَلْزَمُ وُجُودُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا، فَسَالِمٌ حُرٌّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَغَانِمٌ حُرٌّ. وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا قُدِّمَتْ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ، فِي رِوَايَةٍ. وَالثَّانِي، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ سَالِمٍ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ بِزِيَادَةٍ، وَهِيَ الْبُرْءُ. وَإِنْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ لِأَحَدِهِمْ، عَتَقَ بِإِقْرَارِهِمْ، وَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْآخَرِ مِمَّا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَدْلَانِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، مَعَ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، فَيَعْتِقَ وَحْدَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْآخَرِ بَيِّنَةٌ. [فَصْل إذَا كَانَ مَا شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأُخْرَى] (8528) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى سَالِمٌ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَادَّعَى عَبْدُهُ الْآخَرُ غَانِمٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ مَالِهِ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَاهُ بَيِّنَةً فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا شَهِدَتْ بِهِ كُلُّ بَيِّنَةٍ لَا يَنْفِي مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأُخْرَى، وَلَا تُكَذِّبُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، فَيَثْبُتُ إعْتَاقُهُ لَهُمَا، ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَتَانِ مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، عَتَقَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا. وَرَقَّ الثَّانِي، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ إذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 تَبَرَّعَ بِتَبَرُّعَاتٍ، يَعْجِزُ ثُلُثُهُ عَنْ جَمِيعِهَا، قُدِّمَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَإِنْ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، أَوْ أُطْلِقَتَا، أَوْ إحْدَاهُمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّهُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَيَسْتَوِيَانِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ، وَرَقَّ الْآخَرُ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهُمَا مَعًا، فَيُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَبِيدِ السِّتَّةِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ سَيِّدُهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، أَوْ يَكُونَ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَأَشْكَلَ عَلَيْنَا، فَيُخْرَجَ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ. وَقِيلَ: يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّعْدِيلِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ فِي الْقُرْعَةِ، قَدْ يَرِقُّ السَّابِقُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِتْقِ، وَيَعْتِقُ الثَّانِي الْمُسْتَحِقُّ لِلرِّقِّ، وَفِي الْقِسْمَةِ لَا يَخْلُو الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِتْقِ مِنْ حُرِّيَّةٍ، وَلَا الْمُسْتَحِقُّ لِلرِّقِّ مِنْ رِقٍّ، وَلِذَلِكَ قَسَمْنَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إذَا تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ شُبْهَةٍ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَالْقُرْعَةُ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ فِي الْقُرْعَةِ احْتِمَالَ إرْقَاقِ نِصْفِ الْحُرِّ. قُلْنَا: وَفِي الْقِسْمَةِ إرْقَاقُ نِصْفِ الْحُرِّ يَقِينًا، وَتَحْرِيرُ نِصْفِ الرَّقِيقِ يَقِينًا، وَهُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا الثُّلُثَ، وَقِيمَةُ الْآخَرِ دُونَ الثُّلُثِ، فَكَانَ الْأَوَّلَ أَوْ الَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ الثُّلُثَ، عَتَقَ، وَرَقَّ الْآخَرُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ النَّاقِصَ عَنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ، وَعَتَقَ مِنْ الْآخَرِ تَمَامُ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْآخَرِ، أَوْ بَيِّنَةٌ فَاسِقَةٌ، عَتَقَ صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَرَقَّ الْآخَرُ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تَشْهَدُ أَنَّهُ أَعْتَقَ سَالِمًا فِي مَرَضِهِ، وَالْأُخْرَى تَشْهَدُ بِأَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَكَانَ سَالِمٌ ثُلُثَ الْمَالِ، عَتَقَ وَحْدَهُ وَوَقَفَ عِتْقُ غَانِمٍ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْ غَانِمٍ تَمَامُ الثُّلُثِ. وَإِنْ شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ سَالِمٍ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ غَانِمٍ، فَهُمَا سَوَاءٌ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى: يَعْتِقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا وَالْآخَرُ حُرًّا، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْسَمَ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا، وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِاثْنَيْنِ بِمَالٍ. وَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِيَ لِتَكْمِيلِ الْعِتْقِ فِي أَحَدُهُمَا فِي الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَيَثْبُتُ. فَأَمَّا إنْ صَرَّحَ، فَقَالَ: إذَا مِتّ، فَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سَالِمٍ وَغَانِمٍ حُرٌّ. أَوْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِيه، أَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ، ثَبَتَ مَا اقْتَضَاهُ. [فَصْل شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّة فِي الْعِتْق] فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَّفَ الْمَرِيضُ ابْنَيْنِ، لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمَا، فَشَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ سَالِمًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ غَانِمًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِهِ، وَلَمْ يَطْعَنْ الِابْنَانِ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَكَانَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَادِلَتَيْنِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ، سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ. فَإِنْ طَعَنَ الِاثْنَانِ فِي شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَقَالَا: مَا أَعْتَقَ غَانِمًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِهِ، إنَّمَا أَعْتَقَ سَالِمًا. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ مُثْبِتَةٌ، وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ، وَقَوْلُ الْمُثْبِتُ يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ النَّافِي، وَيَكُونُ حُكْمُ مَا شَهِدَتْ بِهِ حُكْمَ مَا إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْوَرَثَةُ فِي شَهَادَتِهِمَا، فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ إنْ تَقَدَّمَ تَارِيخُ عِتْقِهِ، أَوْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَيَرِقُّ إذَا تَأَخَّرَ تَارِيخُهُ، أَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الَّذِي شَهِدَ بِهِ الِابْنَانِ، فَيَعْتِقُ كُلُّهُ؛ لَإِقْرَارِهِمَا بِإِعْتَاقِهِ وَحْدَهُ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْحُرِّيَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَقِيلَ: يَعْتِقُ ثُلُثَاهُ إنْ حُكِمَ بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْأَجْنَبِيَّانِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَكَالذَّاهِبِ مِنْ التَّرِكَةِ بِمَوْتِ أَوْ تَلَفٍ، فَيَعْتِقُ ثُلُثُ الْبَاقِي. وَهُوَ ثُلُثًا غَانِمٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ حَالَ الْمَوْتِ، وَحَالَ الْمَوْتِ فِي قَوْلِ الِابْنَيْنِ لَمْ يَعْتِقْ سَالِمٌ، إنَّمَا عَتَقَ بِالشَّهَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عِتْقِ مَنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ قَبْلَ مَوْتِهِ. فَإِنْ كَانَ الِابْنَانِ فَاسِقَيْنِ وَلَمْ يَرُدَّا شَهَادَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ، ثَبَتَ الْعِتْقُ لَسَالِمٍ، وَلَمْ يُزَاحِمْهُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الِابْنَانِ، لِفِسْقِهِمَا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ كَعَدَمِهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي إسْقَاطِ حَقٍّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ، وَقَدْ أَقَرَّ الِابْنَانِ بِعِتْقِ غَانِمٍ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ تَقَدَّمَ تَارِيخُ عِتْقِهِ، أَوْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لَهُ، عَتَقَ كُلُّهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ تَأَخَّرَ تَارِيخُ عِتْقِهِ، أَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِابْنَيْنِ لَوْ كَانَا عَدْلَيْنِ، لَمْ يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا كَانَا فَاسِقَيْنِ أَوْلَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 وَقَالَ الْقَاضِي، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَعْتِقُ نِصْفُهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ، مَعَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ لِلْآخَرِ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، فَصَارَ بِالنِّسْبَةِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ نِصْفُهُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَيْنِ، لَأَعْتَقْنَا أَحَدَهُمَا بِالْقُرْعَةِ، لِأَنَّهُ فِي حَالِ تَقَدُّمِ تَارِيخِ عِتْقِ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ، لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ عَادِلَةً، فَمَعَ فُسُوقِهَا أَوْلَى، وَإِنْ كَذَّبَتْ الْوَرَثَةُ الْأَجْنَبِيَّةَ، فَقَالَتْ: مَا أَعْتَقَ غَانِمًا، إنَّمَا أَعْتَقَ سَالِمًا، عَتَقَ الْعَبْدَانِ. وَقِيلَ: يَعْتِقُ مِنْ سَالِمٍ ثُلُثَاهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. [فَصْل شَهِدَ عَدْلَانِ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ وَصَّى وَشَهِدَ عَدْلَانِ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ] (8530) فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَجْنَبِيَّانِ، أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ وَارِثَانِ، أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَوَصَّى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، أَوْ كَانَتْ قِيمَةُ غَانِمٍ أَكْثَرَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ سَالِمٍ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعَانِ عَنْهَا ضَرَرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهُمَا يُثْبِتَانِ لَأَنْفُسِهِمَا وَلَاءَ غَانِمٍ. قُلْنَا: وَهُمَا يُسْقِطَانِ وَلَاءَ سَالِمٍ، وَعَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ إثْبَاتُ سَبَبِ الْمِيرَاثِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ شَهِدَا بِعِتْقِ غَانِمٍ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، ثَبَتَ عِتْقُهُ، وَلَهُمَا وَلَاؤُهُ، وَلَوْ شَهِدَا بِثُبُوتِ نَسَبِ أَخٍ لَهُمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، مَعَ ثُبُوتِ سَبَبِ الْإِرْثِ لَهُمَا، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِأَخِيهِ بِالْمَالِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرِثَهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثَانِ فَاسِقَيْنِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي الرُّجُوعِ، وَيَلْزَمُهُمَا إقْرَارُهُمَا لَغَانِمٍ، فَيَعْتِقُ سَالِمٌ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَيَعْتِقُ غَانِمٌ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِإِعْتَاقِهِ وَحْدَهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ إنَّمَا يَعْتِقُ. ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَ سَالِمٌ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، صَارَ كَالْمَغْصُوبِ، فَصَارَ غَانِمٌ نِصْفَ التَّرِكَةِ، فَيَعْتِقُ ثُلُثَاهُ، وَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْوَارِثَةَ تُقِرُّ بِأَنَّهُ حِينَ الْمَوْتِ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، وَأَنَّ عِتْقَ سَالِمٍ إنَّمَا كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَصَارَ كَالْمَغْصُوبِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ غُصِبَ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَمْ يَمْنَعْ، عِتْقَ غَانِمٍ كُلَّهُ، فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِعِتْقِهِ. وَقَدْ ذَكَرِ الْقَاضِي، فِيمَا إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِإِعْتَاقِ سَالِمٍ فِي مَرَضِهِ، وَوَارِثَةٌ فَاسِقَةٌ بِإِعْتَاقِ غَانِمٍ فِي مَرَضِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْ سَالِمًا، أَنَّ غَانِمًا يَعْتِقُ كُلُّهُ. وَهَذَا مِثْلُهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ قِيمَةُ غَانِمٍ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةٍ سَالِمٍ، فَالْوَارِثَةُ مُتَّهَمَةٌ؛ لِكَوْنِهَا تَرُدُّ إلَى الرِّقِّ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتِهِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهَا فِي الرُّجُوعِ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهَا بِالرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَيَعْتِقُ سَالِمٌ، وَغَانِمٌ كُلُّهُ أَوْ ثُلُثَاهُ وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ فَاسِقَةً. فَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الْوَارِثَةُ بِالرُّجُوعِ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ، لَكِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 شَهِدَتْ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهِيَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، ثَبَتَتْ الْوَصِيَّتَانِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهَا سَوَاءً أَوْ مُخْتَلِفَةً فَيُعْتَقَانِ إنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَا مِنْ الثُّلُثِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَيَعْتِقُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَيَعْتِقُ تَمَامُ الثُّلُثِ مِنْ الْآخَرِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى أَوْ اسْتَوَتَا؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ وَالْمُتَأَخِّرَ مِنْ الْوَصَايَا سَوَاءٌ. [فَصْل شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ أَنَّهُ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ] (8531) فَصْلٌ: وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، أَنَّهُ وَصَّى لِزَيْدٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ، وَوَصَّى لِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ لِعَمْرٍو، وَوَصَّى لِبَكْرٍ بِثُلُثِ مَالِهِ صَحَّتْ الشَّهَادَاتُ كُلُّهَا، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِبَكْرٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ، لَمْ تُفِدْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ وَصِيَّةِ زَيْدٍ، وَهِيَ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ. فَعَلَى هَذَا، تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ لِعَمْرٍو. وَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ شَهِدَتْ بِالْوَصِيَّةِ لِعَمْرٍو. وَلَمْ تَشْهَدْ بِالرُّجُوعِ عَنْ وَصِيَّةِ زَيْدِ، فَشَهِدَتْ الثَّالِثَةُ بِالرُّجُوعِ عَنْ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَيِّنَا الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، يَصِيرُ كَمَا لَوْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ لِهَذَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَلْفًا. أَوْ أَنَّ لِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى هَذَا أَلْفًا، يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ أَثْلَاثًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَةُ الرُّجُوعِ عَنْ وَصِيَّتِهِ، بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى. وَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ عَنْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ، صَحَّتْ الشَّهَادَةُ بِهِ كَذَلِكَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ أَوْ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ فِيهَا بِالْمَجْهُولِ فَجَازَتْ فِي الرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمَرْجُوعِ عَنْ وَصِيَّتِهِ. [فَصْل الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ هَلْ يُعَارِضُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ لَا] (8532) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ وَصَّى لِزَيْدٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَشَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ وَصَّى لِعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ، انْبَنِي هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ هَلْ يُعَارِضُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُعَارِضُهُمَا فَيَحْلِفُ عَمْرٌو مَعَ شَاهِدِهِ، وَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ حُجَّةٌ فِي الْمَالِ، فَأَشْبَهَ الشَّاهِدَيْنِ. وَالثَّانِي، لَا يُعَارِضُهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَقْوَى، فَيُرَجَّحَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. فَعَلَى هَذَا، يَنْفَرِدُ زَيْدٌ بِالثُّلُثِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 وَتَقِفُ وَصِيَّةُ عَمْرٍو عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. فَأَمَّا إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ وَصِيَّةِ زَيْدٍ، وَوَصَّى لِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَيَحْلِفُ عَمْرٌو مَعَ شَاهِدِهِ، وَتَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ لِعَمْرٍو، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، أَنَّ فِي الْأُولَى، تَقَابَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَقَدَّمْنَا أَقْوَاهُمَا، وَفِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَتَقَابَلَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَالُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَة فِي يَدِهِ دَارٌ فَادَّعَاهَا رَجُلٌ فَأَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ] (8533) مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ، فَادَّعَاهَا رَجُلٌ، فَأَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ بِهَا حَاضِرًا، جُعِلَ الْخَصْمَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، وَكَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ، وَكَانَ الْغَائِبُ عَلَى خُصُومَتِهِ مَتَى حَضَرَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَقَالَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ: لَيْسَتْ لِي، إنَّمَا هِيَ لِفُلَانٍ. وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ بِهَا حَاضِرًا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ، صَارَ الْخَصْمَ فِيهَا، وَكَانَ صَاحِبَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ اعْتَرَفَ أَنَّ يَدَهُ نَائِبَةٌ عَنْ يَدِهِ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِهِ إقْرَارٌ صَحِيحٌ، فَيَصِيرُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: أَحْلِفُوا لِي الْمُقِرَّ الَّذِي كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا لِي. فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِ، لَزِمَهُ الْغُرْمُ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الْعَيْنُ لِزَيْدٍ. ثُمَّ قَالَ: هِيَ لِعَمْرٍو. فَإِنَّهَا تُدْفَعُ إلَى زَيْدٍ، وَيَدْفَعُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو. وَمَنْ لَزِمَهُ الْغُرْمُ مَعَ الْإِقْرَارِ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ، فَإِنْ رَدَّ الْمُقَرُّ لَهُ الْإِقْرَارَ، وَقَالَ: لَيْسَتْ لِي، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُدَّعِي. حُكِمَ لَهُ بِهَا. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: هِيَ لِلْمُدَّعِي، وَلَكِنْ قَالَ: لَيْسَتْ لِي. فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تُدْفَعُ إلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهَا، وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهَا، وَلِأَنَّ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ لَوْ ادَّعَاهَا، ثُمَّ نَكَلَ، قَضَيْنَا بِهَا، لِلْمُدَّعِي فَمَعَ عَدَمِ ادِّعَائِهِ لَهَا أَوْلَى وَالثَّانِي، لَا تُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا مُسْتَحِقٌّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَدَ لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ، وَصَاحِبُ الْيَدِ مُعْتَرِفٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ، فَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ فَيَحْفَظُهَا لِصَاحِبِهَا. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِهِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَهُ، وَتُسَلَّمُ إلَيْهِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُهُ؛ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِرَدِّ الْيَمِينِ إذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هِيَ لِثَالِثٍ. انْتَقَلَتْ الْخُصُومَةُ إلَيْهِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا مَنْ الْيَدُ لَهُ حُكْمًا. وَأَمَّا إنْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمَجْهُولٍ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا بِجَوَابٍ. فَإِنْ أَقْرَرْت بِهَا لِمَعْرُوفٍ، وَإِلَّا جَعَلْنَاك نَاكِلًا وَقَضَيْنَا عَلَيْك. فَإِنْ أَصَرَّ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِغَائِبٍ، أَوْ لِغَيْرِ مُكَلَّفٍ مُعَيَّنٍ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، صَارَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَعْتَرِفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ، وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَيَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَيَصِيرَ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مُكَلَّفًا فَتَكُونُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ. فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: أَحْلِفُوا لِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَلَفْنَاهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِلْمُدَّعِي، لَمْ تُسَلَّمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِهَا لِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، سَمِعَهَا. الْحَاكِمُ، وَقَضَى بِهَا، وَكَانَ الْغَائِبُ عَلَى خُصُومَتِهِ، مَتَى حَضَرَ، لَهُ أَنْ يَقْدَحَ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَأَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ مِنْ الْمُدَّعِي. وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَهَلْ يَقْضِي بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ أَوْ الْخَارِجِ؛ فَإِنْ قُلْنَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ. فَأَقَامَ الْغَائِبُ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَالنِّتَاجِ، أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، يَقْضِي بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُقِرِّ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِهَا لِلْغَائِبِ، سَمِعَهَا الْحَاكِمُ، وَلَمْ يَقْضِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْغَائِبِ، وَالْغَائِبُ لَمْ يَدَّعِهَا هُوَ وَلَا وَكِيلُهُ، وَإِنَّمَا سَمِعَهَا الْحَاكِمُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْفَائِدَةِ وَهُوَ زَوَالُ التُّهْمَةِ عَنْ الْحَاضِرِ، وَسُقُوطُ الْيَمِينِ عَنْهُ، إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّك تَعْلَمُ أَنَّهَا لِي. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا، إذَا قُلْنَا بِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَأَنَّ لِلْمُودِعِ الْمُخَاصَمَةَ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا غُصِبَتْ. وَلِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَسْمُوعَةٌ، فَيُقْضَى بِهَا، كَبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ تُعَارِضْهَا بَيِّنَةٌ أُخْرَى. فَإِنْ ادَّعَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، أَنَّهَا مَعَهُ بِإِجَارَةِ أَوْ عَارِيَّةٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ لِلْغَائِبِ، لَمْ يُقْضَ بِهَا؛ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ لِلْمُؤَجَّرِ، بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا تَثْبُتُ الْإِجَارَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَيَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِهَا عَلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَكَوْنِ الْحَاضِرِ لَهُ فِيهَا حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا، وَجْهًا وَاحِدًا. وَمَتَى عَادَ الْمُقِرُّ بِهَا لِغَيْرِهِ، فَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ الرُّجُوعُ عَنْ إقْرَارِهِ. وَالْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَالْحُكْمِ فِي الْغَائِبِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا [فَصْلٌ طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الْقَاضِي مَحْضَرًا بِمَا جَرَى] (8534) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى، لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ، فَيَكْتُبُ لَهُ: مَحْضَرًا حَضَرَ الْقَاضِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ قَاضِيَ عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، أَوْ خَلِيفَةُ الْقَاضِي فُلَانَ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ إنْ كَانَ نَائِبًا، فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ فَادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْهِ - وَيُعَيِّنُهَا، وَيَذْكُرُ حُدُودَهَا وَصِفَتَهَا - فَاعْتَرَفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَائِبٌ عَنْ بَلَدِ الْقَاضِي، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، وَهِيَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ وَفُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، فَشَهِدَا عِنْدَهُ لِلْمُدَّعِي بِمَا ادَّعَاهُ، وَعَرَفَ الْحَاكِمُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 عَدَالَتَهُمَا بِمَا يَسُوغُ مَعَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا، أَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِعَدَالَتِهِمَا فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا فَقَضَى بِهَا عَلَى الْغَائِبِ، جَعَلَ كُلَّ ذِي حُجَّةٍ عَلَى حُجَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ، قَدْ قَدِمَ، وَلَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ زَادَ: وَقَدِمَ الْغَائِبُ الْمُقَرُّ لَهُ بِهَا فُلَانٌ وَلَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ تَدْفَعُ الْمُدَّعِيَ عَنْ دَعْوَاهُ. وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ حُضُورِهِ بَيِّنَةً، زَادَ: وَأَقَامَ بَيِّنَةً. وَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي مُقَدَّمَةً عَلَى بَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ خَارِجٍ. [فَصْل إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ أَنْ أَبَاهُ مَاتَ وَخَلَّفَهُ وَأَخًا لَهُ غَائِبًا وَتَرَكَ دَارًا فِي يَدِ هَذَا الرَّجُلِ فَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ] (8535) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى إنْسَانٌ أَنْ أَبَاهُ مَاتَ وَخَلَّفَهُ وَأَخًا لَهُ غَائِبًا، وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَتَرَكَ دَارًا فِي يَدِ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، ثَبَتَتْ الدَّارُ لِلْمَيِّتِ، وَانْتُزِعَتْ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُنْكِرِ، وَدُفِعَ نِصْفُهَا إلَى الْمُدَّعِي، وَجُعِلَ النِّصْفُ الْآخَرُ فِي يَدِ أَمِينٍ لِلْغَائِبِ، يَكْرِيه لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ، أَوْ مِمَّا يَنْحَفِظُ وَلَا يُخَافُ هَلَاكُهُ، لَمْ يُنْزَعْ نَصِيبُ الْغَائِبِ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يَدَّعِهِ هُوَ وَلَا وَكِيلُهُ، فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَجْنَبِيٍّ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى الْمُدَّعِي نَصِيبُهُ، وَلَا يُنْزَعُ نَصِيبُ الْغَائِبِ، كَذَا هَاهُنَا. وَلَنَا أَنَّهَا تَرِكَةُ مَيِّتٍ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْزَعَ نَصِيبُ الْغَائِبِ، كَالْمَنْقُولِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ أَخُوهُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَهُ ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْغَائِبِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَقَدْ يَمُوتُ الشَّاهِدَانِ أَوْ يَغِيبَا، أَوْ تَزُولُ عَنْهُمَا عَدَالَتُهُمَا، وَيُعْزَلُ الْحَاكِمُ، فَيَضِيعُ حَقُّهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْفَظَ بِانْتِزَاعِهِ، كَالْمَنْقُولِ. وَيُفَارِقُ الشَّرِيكَ الْأَجْنَبِيَّ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؛ أَمَّا الْإِجْمَالُ، فَإِنَّ الْمَنْقُولَ يُنْتَزَعُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فِي الْمِيرَاثِ، وَلَا يُنْتَزَعُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ ثَبَتَ بِهَا الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَلِأَنَّ الْأَخَ يُشَارِكُهُ فِيمَا أَخَذَهُ، إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَخْذُ الْبَاقِي. فَأَمَّا إنْ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّة إنْسَانٍ، فَهَلْ يَقْبِضُ الْحَاكِمُ نَصِيبَ الْغَائِبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَقْبِضُ، كَمَا يَقْبِضُ الْعَيْنَ. وَالثَّانِي، لَا يَقْبِضُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَانَ أَحْوَطَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْأَمِينِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ التَّلَفُ إذَا قَبَضَهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ أَيْضًا يَعْرِضُ لِلتَّلَفِ بِالْفَلَسِ، وَالْمَوْتِ، وَعَزْلِ الْحَاكِمِ، وَتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّنَا إنْ دَفَعْنَا إلَى الْحَاضِرِ نِصْفَ الدَّارِ أَوْ الدَّيْنِ، لَمْ نُطَالِبهُ بِضَمِينِ؛ لِأَنَّنَا دَفَعْنَاهُ بِقَوْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 الشُّهُودِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالضَّمِينِ طَعْنٌ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، أَوْ لَمْ يَكُونَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمَا فِي نَفْيِ وَارِثٍ آخَرَ، حَتَّى يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَادِمَةِ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ لَيْسَ جَهْلُهُ بِالْوَارِثِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدَّارُ مَوْقُوفَةً، وَلَا يُسَلَّمُ إلَى الْحَاضِرِ نِصْفُهَا، حَتَّى يَسْأَلَ الْحَاكِمُ وَيَكْشِفَ عَنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ ' يَطُوفُهَا، وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: إنَّ فُلَانًا مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ، فَلِيَأْتِ. فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَارِثٌ لَظَهَرَ، دَفَعَ إلَى الْحَاضِرِ نَصِيبَهُ. وَهَلْ يَطْلُبُ مِنْهُ ضَمِينًا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ الشَّاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُولَا: وَلَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الِابْنِ ذُو فَرْضٍ فَعَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُعْطِي فَرْضَهُ كَامِلًا. وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ، يُعْطَى الْيَقِينُ. فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ، أُعْطِيت رُبْعَ الثُّمُنِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ جَدَّةٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَوْتُ أُمِّهِ، لَمْ تُعْطَ شَيْئًا، وَإِنْ ثَبَتَ مَوْتُهَا، أُعْطِيت ثُلُثَ السُّدُسِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثُ جَدَّاتٍ، وَلَا تُعْطَى الْعَصَبَةُ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ أَخًا لَمْ يُعْطَ شَيْئًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ يَحْجُبُهُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أُمٌّ، أُعْطِيت السُّدُسَ عَائِلًا، وَالْمَرْأَةُ رُبْعَ الثُّمُنِ عَائِلًا، وَالزَّوْجُ الرُّبْعَ عَائِلًا؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَعُولُ مَعَ وُجُودِ الزَّوْجِ، مِثْلُ أَنْ يُخَلِّفَ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ وَزَوْجًا فَإِذَا كَشَفَ الْحَاكِمُ أَعْطَى الزَّوْجَ نَصِيبَهُ، وَكَمَّلَ لِذَوِي الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ. [فَصْل اُخْتُلِفَ فِي دَارٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ كَانَتْ أَمْسِ مِلْكَهُ أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ] (8536) فَصْلٌ: وَإِذَا اُخْتُلِفَ فِي دَارٍ، فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ كَانَتْ أَمْسِ مِلْكَهُ، أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ فَهَلْ تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ، وَيُقْضَى بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا تُسْمَعُ، وَيُحْكَمُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي، وَإِذَا ثَبَتَ اُسْتُدِيمَ حَتَّى يُعْلَمَ زَوَالُهُ. وَالثَّانِي لَا تُسْمَعُ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ مَا لَمْ يَدَّعِ الْمُدَّعِي الْمِلْكَ فِي الْحَالِ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا لَمْ يَدَّعِهِ، لَكِنْ إنَّ انْضَمَّ إلَى شَهَادَتِهِمَا بَيَانُ سَبَبِ يَدِ الثَّانِي، وَتَعْرِيفُ تَعَدِّيهَا فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ أَمْسِ، فَقَبَضَهَا هَذَا مِنْهُ، أَوَسَرَقَهَا، أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ فَالْتَقَطَهَا هَذَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، سُمِعَتْ، وَقُضِيَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُبَيِّنْ السَّبَبَ فَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْيَدِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مِلْكَهُ أَمْسِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى صَاحِبِ الْيَدِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ الْيَدِ عُدْوَانٌ، خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا دَلِيلًا فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ السَّابِقِ. وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي أَمْسِ، أَوْ فِيمَا مَضَى، سُمِعَ إقْرَارُهُ، وَحُكِمَ بِهِ، فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ سَبَبِ انْتِقَالِهَا إلَيْهِ، فَيَصِيرُ هُوَ الْمُدَّعِيَ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ. يُفَارِقَ الْبَيِّنَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، لِكَوْنِهِ شَهَادَةً مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَزُولُ بِهِ النِّزَاعُ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ، وَلِهَذَا يُسْمَعُ فِي الْمَجْهُولِ، وَيُقْضَى بِهِ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةَ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ إلَّا عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَالدَّعْوَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِالْحَالِ، وَالْإِقْرَارُ يُسْمَعُ ابْتِدَاءً. وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمْسِ، فَفِي سَمَاعِهَا وَجْهَانِ. وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُسْمَعُ، وَيَقْضِي بِهِ؛ بِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ ادَّعَى أَمَةً أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَشَهِدَتْ أَنَّهَا ابْنَةُ أَمَتِهِ] (8537) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى أَمَةً أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً، فَشَهِدَتْ أَنَّهَا ابْنَةُ أَمَتِهِ، أَوْ ادَّعَى ثَمَرَةً، فَشَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا ثَمَرَةُ شَجَرَتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِهَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا، وَأَثْمَرَتْ الشَّجَرَةُ هَذِهِ الثَّمَرَةَ قَبْلَ مِلْكِهِ إيَّاهَا. وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ: وَلَدَتْهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ أَثْمَرَتْهَا فِي مِلْكِهِ حُكِمَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ أَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَنَمَاءُ مِلْكِهِ مِلْكُهُ، مَا لَمْ يَرِدْ سَبَبٌ يَنْقُلُهُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قُلْتُمْ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْمِلْكِ السَّابِقِ، الصَّحِيحِ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِمِلْكٍ سَابِقٍ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، أَنَّ النَّمَاءَ تَابِعٌ لِلْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ، فَإِثْبَاتُ مِلْكِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، وَجَرَى مَجْرَى مَا لَوْ قَالَ: مَلَكْته مُنْذُ سَنَةٍ. وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ مِلْكَهُ يَثْبُتُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي تَبَعًا لِلْحَالِ، يَكُونُ لَهُ النَّمَاءُ فِيمَا مَضَى، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هَاهُنَا شَهِدَتْ بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَهُوَ وِلَادَتُهَا، أَوْ وُجُودُهَا فِي مِلْكِهِ، فَقَوِيَتْ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَتْ بِالسَّبَبِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَقَالَتْ: أَقْرَضَهُ أَلْفًا، أَوْ بَاعَهُ. ثَبَتَ الْمِلْكُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَمَعَ ذِكْرِهِ أَوْلَى. وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا الْغَزْلَ مِنْ قُطْنِهِ وَهَذَا الدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَتِهِ، وَأَنَّ هَذَا الطَّائِرَ مِنْ بَيْضَتِهِ، حُكِمَ لَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْغَزْلَ عَيْنُ الْقُطْنِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، وَالدَّقِيقَ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ تَفَرَّقَتْ، وَالطَّيْرَ هُوَ أَجْزَاءُ الْبَيْضَةِ اسْتَحَالَ، فَكَأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَالَتْ: هَذَا غَزْلُهُ وَدَقِيقُهُ وَطَيْرُهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَلَدُ وَالثَّمَرَةُ، فَإِنَّهُمَا غَيْرُ الْأُمِّ وَالشَّجَرَةِ. وَلَوْ شَهِدَ أَنَّ هَذِهِ الْبَيْضَةَ مِنْ طَيْرِهِ، لَمْ يَحْكُم لَهُ بِهَا حَتَّى يَقُولَا: بَاضَهَا فِي مِلْكِهِ. لِأَنَّ الْبَيْضَةَ غَيْرُ الطَّيْرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ نَمَائِهِ، فَهِيَ كَالْوَلَدِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصْل إذَا كَانَتْ فِي يَدِ زَيْدٍ دَارٌ فَادَّعَاهَا عَمْرو وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ خَالِدٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى نَقَدَهُ إيَّاهُ] (8538) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ فِي يَدِ زَيْدٍ دَارٌ، فَادَّعَاهَا عَمْرٌو، وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ خَالِدٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى نَقَدَهُ إيَّاهُ، أَوْ أَنَّ خَالِدًا وَهَبَهُ تِلْكَ الدَّارَ، لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ بِهَذَا حَتَّى يُشْهِدَ أَنَّ خَالِدًا بَاعَهُ إيَّاهَا، أَوْ وَهَبَهَا لَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهَا، أَوْ يُشْهِدَ أَنَّهَا دَارُ عَمْرٍو اشْتَرَاهَا مِنْ خَالِدٍ، أَوْ يُشْهِدَ أَنَّهُ بَاعَهَا أَوْ وَهَبَهَا لَهُ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَيَهَبُهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِهِ، فَإِنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ الشَّهَادَةُ لِلْبَائِعِ بِالْمِلْكِ، أَوْ شَهِدُوا لِلْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، أَوْ شَهِدُوا بِالتَّسْلِيمِ، فَقَدْ شَهِدُوا بِتَقَدُّمِ الْيَدِ، أَوْ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، أَوْ لِمَنْ بَاعَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا قَبِلْنَاهَا وَهِيَ شَهَادَةٌ بِمِلْكٍ مَاضٍ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ مَعَ السَّبَبِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِمْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُذْكَرْ السَّبَبُ. [فَصْلٌ فِي يَدِ رَجُلٍ طِفْلٌ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَادَّعَى أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ] (8539) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ طِفْلٌ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، قُبِلَتْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، وَالصَّبِيُّ مَا لَمْ يُعَبِّرْ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ سَبَبَ يَدِهِ غَيْرُ الْمِلْكِ، مِثْلُ أَنْ يَلْتَقِطَهُ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لِرِقِّهِ؛ لِأَنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ وُجِدَ فِيهِ دَلِيلُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فَيُحْكَمُ بِرِقِّهِ. فَإِذَا بَلَغَ، فَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِرِقِّهِ قَبْلَ دَعْوَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ مِلْكَهُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالِاسْتِخْدَامِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ادَّعَى رِقَّهُ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِرِقِّهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ. فَإِنْ ادَّعَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّ النَّسَبَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَلَاءِ فِي الْمِيرَاثِ. فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِنَسَبِهِ، ثَبَتَ، وَلَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَهُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ، أَوْ يُسْبَى الصَّغِيرُ ثُمَّ يُسْلِمُ أَبُوهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا، فَلَا يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ، فِي رِوَايَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ. وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُ حُرَّةٍ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا حُرًّا. وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا، يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَادَّعَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ رِقَّهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ تَقَدُّمُ الْيَدِ عَلَيْهِ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ، إلَّا أَنَّنَا إنْ رَأَيْنَاهُ فِي يَدِهِ وَهُمَا يَتَنَازَعَانِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ مِلْكُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْرِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَدَّعِي الْحُرِّيَّةَ، أَشْبَهَ الْبَالِغَ. وَالثَّانِي يَثْبُتُ مِلْكُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَغِيرٌ ادَّعَى رَقَّهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ. فَأَمَّا الْبَالِغُ إذَا ادَّعَى رِقَّهُ فَأَنْكَرَ، لَمْ يَثْبُتْ رِقُّهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْحُرِّيَّة؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ. وَهَذَا الْفَصْلُ بِجَمِيعِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: مَتَى أَقَامَ إنْسَانٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ ظُهُورَ الْحُرِّيَّةِ فِي وَلَدِ الْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالِ الرِّقِّ الْحَاصِلِ بِالْيَدِ لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْ الرَّجُلِ كُفْرٌ، وَلَا تَزَوُّجٌ بِأَمَةٍ، فَلَا يَبْقَى احْتِمَالُ الرِّقِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ ادَّعَى اثْنَانِ رِقَّ بَالِغٍ فِي أَيْدِيهِمَا فَأَنْكَرَهُمَا] (8540) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى اثْنَانِ رِقَّ بَالِغٍ فِي أَيْدِيهِمَا فَأَنْكَرَهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُمَا بِالرِّقِّ، ثَبَتَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 رِقُّهُ. فَإِنْ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ، فَاعْتَرَفَ لِأَحَدِهِمَا، فَهُوَ لِمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ وَالثَّوْبَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا حُكْمَ بِرِقِّهِ بِاعْتِرَافِهِ، فَكَانَ مَمْلُوكًا لِمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهِ. وَيُخَالِفُ الثَّوْبَ وَالطِّفْلَ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ فِيهِمَا بِالْيَدِ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ، وَهَاهُنَا حَصَلَ بِالِاعْتِرَافِ، وَقَدْ اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ. فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِسُقُوطِهِمَا، وَلَمْ يَعْتَرِفْ لَهُمَا بِالرِّقِّ، فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ اعْتَرَفَ لِأَحَدِهِمَا، فَهُوَ لِمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا مَعًا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا وَصَارَتَا كَالْمَعْدُومَتَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ أَوْ الْقِسْمَة، فَأَنْكَرَهُمَا، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ، وَإِنْ اعْتَرَفَ لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى اعْتِرَافِهِ؛ لِأَنَّ رِقَّهُ ثَابِتٌ بِالْبَيِّنَةِ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَاعْتَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهَا لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يُرَجَّحْ بِإِقْرَارِهِ. [فَصْلٌ كَانَ فِي يَدِهِ صَغِيرَةٌ فَادَّعَى نِكَاحَهَا] (8541) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ صَغِيرَةٌ، فَادَّعَى نِكَاحَهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَا يُخْلَى بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ. وَلَوْ ادَّعَى رِقَّهَا قُبِلَ مِنْهُ، إذَا كَانَتْ طِفْلَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْمُدَّعِي لِلنِّكَاحِ، فَهُوَ مُقِرٌّ بِحُرِّيَّتِهَا، أَوْ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَالْيَدُ لَا تَثْبُتُ عَلَى الْحُرِّ، فَإِذَا كَبِرَتْ فَاعْتَرَفَتْ لَهُ بِالنِّكَاحِ، قُبِلَ إقْرَارُهَا [فَصْلٌ ادَّعَى مِلْكَ عَيْنٍ وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ] (8542) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى مِلْكَ عَيْنٍ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا إيَّاهُ، أَوْ وَقَفَهَا عَلَيْهِ، أَوْ ادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا إيَّاهَا، أَوْ أَعْتَقَهَا، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، قُضِيَ لَهُ بِهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ هَذَا شَهِدَتْ بِأَمْرٍ خَفِيَ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى، وَالْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى شَهِدَتْ بِالْأَصْلِ، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ، ثُمَّ صَنَعَ بِهِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَتَرَكَ دَارًا فَادَّعَى ابْنُهُ أَنَّهُ خَلَّفَهَا مِيرَاثًا، وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا إيَّاهَا، وَأَقَامَا بِذَلِكَ بَيِّنَتَيْنِ، حُكِمَ بِهَا لِلْمَرْأَةِ، لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَمْرًا زَائِدًا خَفِيَ عَلَى بَيِّنَةِ الِابْنِ، وَسَوَاءٌ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِالشِّرَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، بِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ أَوْ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ لَمْ تَشْهَدْ بِذَلِكَ، وَسَوَاءٌ شَهِدَتْ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ، أَوْ لَمْ تَذْكُرْ الْقَبْضَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا تُزَالُ يَدُ الْبَائِعِ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ أَوْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُ مَا لَا يَمْلِكُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ لَهُ، فَإِذَا أَقَامَتْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ عَلَيْهِ، كَانَتْ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا إلَى الْمُشْتَرِي، فَوَجَبَ الْقَضَاءُ لَهُ بِهَا. وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَقَامَ بِهَذَا بَيِّنَةً، فَجَاءَ ثَالِثٌ، فَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ مُدَّعِيهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَأَقَامَ بِهَذَا بَيِّنَةً، ثَبَتَ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ، وَلَيْسَ فِي شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى أَنَّهُ تَمَلَّكَهَا مُنْذُ سَنَةٍ، مَا يُبْطِلُ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ مِلْكِهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَمِلْكِهَا مُنْذُ سَنَةٍ، فَإِنَّ الْمَالِكَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، يَسْتَمِرُّ مِلْكُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ قَالَتْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ: هُوَ مَالِكُهَا. ثَبَتَ الْمِلْكُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ تَقُلْ ذَلِكَ، كَانَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل ادَّعَى رَجُلٌ مِلْكَ دَارٍ فِي يَدِ آخَر وَادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ] (8543) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ مِلْكَ دَارٍ فِي يَدِ آخَرَ، وَادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَهِيَ لِمُدَّعِي الْمِلْكِ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ وَلَا الْبَيِّنَتَيْنِ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَهِيَ فِي يَدِ الْآخَرِ. وَإِنْ ادَّعَى دَابَّةً أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ، وَأَقَامَ بِهَذَا بَيِّنَةً، فَوُجِدَتْ الدَّابَّةُ لَهَا أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، فَالْبَيِّنَةُ كَاذِبَةٌ، وَالدَّابَّةُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَضَاهُ] (8544) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَضَاهُ ثَبَتَ الْإِقْرَارُ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى الْقَضَاءِ، ثَبَتَ، وَإِلَّا حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِهِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَضَاهُ أَلْفًا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَشْهَدْ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهُ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا صَرِيحَةً، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ أَثْبَتَتْ الْأَلْفَ بِشَهَادَتِهَا الصَّرِيحَةِ بِهَا وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا فَقَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِالْقَرْضِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَضَاهُ أَلْفًا، وَلَمْ يُعْرَفْ التَّارِيخُ بَرِئَ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ، إلَّا أَلْفٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ إلَّا لِمَا عَلَيْهِ، فَلِهَذَا جُعِلَ الْقَضَاءُ لِلْأَلْفِ الثَّابِتَةِ، وَإِنْ قَالَ مَا أَقْرَضْتنِي. ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْقَضَاءِ، لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فِي أَنَّهُ قَضَاهُ الْقَرْضَ؛ لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِهِ الْقَرْضَ تَعَيَّنَ صَرْفُهَا إلَى قَضَاءِ غَيْرِهِ. وَلَوْ لَمْ يُنْكِرْ الْقَرْضَ إلَّا أَنَّ بَيِّنَةَ الْقَضَاءِ وَكَانَتْ مُؤَرِّخَةً بِتَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى الْقَرْضِ، لَمْ يَجُزْ صَرْفُهَا إلَى قَضَاءِ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي الْقَرْضُ قَبْلَ وُجُودِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 [مَسْأَلَة خَلْفَ وَلَدَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا فَادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا وَادَّعَى الْكَافِرُ أَنْ أَبَاهُ مَاتَ كَافِرًا] (8545) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَفَ وَلَدَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا، فَادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنْ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَادَّعَى الْكَافِرُ أَنْ أَبَاهُ مَاتَ كَافِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَافِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ بِاعْتِرَافِهِ بِأُخُوَّةِ الْكَافِرِ، يَعْتَرِفُ بِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ كَافِرًا، مُدَّعِيًا لِإِسْلَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِأُخُوَّةِ الْكَافِرِ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ بِأُخُوَّتِهِ، كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِتَسَاوِي أَيْدِيهِمَا وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ رَجُلٌ لَا يُعْرَفُ دِينُهُ، وَخَلَّفَ تَرِكَةً وَابْنَيْنِ، يَعْتَرِفَانِ أَنَّهُ أَبُوهُمَا، أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ، وَأَنَّ الْمِيرَاثَ لَهُ دُونَ أَخِيهِ، فَالْمِيرَاثُ لِلْكَافِرِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُسْلِمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا فَيَجِبَ كَوْنُ أَوْلَادِهِ مُسْلِمِينَ، وَيَكُونَ أَخُوهُ الْكَافِرُ مُرْتَدًّا، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. أَوْ يَقُولَ إنَّ أَبَاهُ كَانَ كَافِرًا، فَأَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ مَا قَالَهُ أَخُوهُ، مُدَّعٍ زَوَالَهُ وَانْتِقَالَهُ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: إنَّ الْمُسْلِمَ بِاعْتِرَافِهِ بِأُخُوَّةِ الْكَافِرِ مُعْتَرِفٌ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ كَافِرًا، مُدَّعِيًا لِإِسْلَامِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُمَا فِي الدَّعْوَى سَوَاءٌ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ عَيْنًا فِي أَيْدِيهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ لِلْمُسْلِمِ مِنْهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ، يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا، وَيَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ فِيهَا، إذَا لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ دِينِهِ، حُكْمُ الْإِسْلَامِ؛ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ، وَتَكْفِينِهِ مِنْ الْوَقْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَى أَكْفَانِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِي تَغْسِيلِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ، فَكَذَلِكَ فِي مِيرَاثِهِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخُوهُ الْكَافِرُ مُرْتَدًّا، لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ رِدَّتُهُ وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى الْإِمَامِ خَبَرُهُ، وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ بِنَاءً عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنْ ظُهُورِ الْكُفْرِ بِنَاءً عَلَى كُفْرِ أَبِيهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّرْعُ أَحْكَامَهُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ، فِيمَا عَدَا الْمُتَنَازَعَ فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّا نَنْظُرُ فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِي أَيْدِيهِمَا، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ، كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا. وَيَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَرِفُ أَنَّ هَذِهِ التَّرِكَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 تَرِكَةُ هَذَا الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا بِالْمِيرَاثِ، فَلَا حُكْمَ لِيَدِهِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يُعْرَفَ أَصْلُ دِينِهِ، أَوْ يَصْطَلِحَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ظُهُورِ كُفْرِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ التَّرْجِيحُ لِقَوْلِهِ وَصَرْفُ الْمِيرَاثِ إلَيْهِ، وَأَمَّا ظُهُورُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا ضَرَرَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ تَغْسِيلُهُ وَدَفْنُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى. فَإِنَّمَا يَعْلُو إذَا ثَبَتَ وَالنِّزَاعُ فِي ثُبُوتِهِ. وَهَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَّا إنْ ثَبَتَ أَصْلُ دِينِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيه عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَنَا؛ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيه، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْتَرِفْ الْمُسْلِمُ بِأُخُوَّةِ الْكَافِرِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَبُوهُ دُونَ الْآخَرِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى؛ لِتَسَاوِي أَيْدِيهِمَا وَدَعَاوِيهمَا، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ فِي الدَّعْوَى سَوَاءٌ، يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي ايدِيهِمَا دَارٌ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة أَقَامَ الْمُسْلِمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا وَأَقَامَ الْكَافِرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا] (8546) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِنْ أَقَامَ الْمُسْلِمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَأَقَامَ الْكَافِرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا، أُسْقِطَتْ الْبَيِّنَتَانِ، وَكَانَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، وَإِنْ قَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ كَانَ كَافِرًا. وَقَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَالْمِيرَاثُ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَطْرَأُ عَلَى الْكُفْرِ إذَا لَمْ يُؤَرِّخْ الشُّهُودُ مَعْرِفَتَهُمْ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا خَلَّفَ الْمَيِّتُ وَلَدَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا، فَادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، وَأَقَامَ الْكَافِرُ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا، وَلَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ دِينِهِ فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ وَإِنْ عُرِفَ أَصْلُ دِينِهِ نَظَرْنَا فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِنْ شَهِدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ التَّلَفُّظَ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ، فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ، وَإِنْ شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ الْكُفْرِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مَنْ يَدَّعِي انْتِقَالَهُ عَنْ دِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبْقِيَةَ لَهُ عَلَى أَصْلِ دِينِهِ، ثَبَتَتْ شَهَادَتُهَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا عَرَفَا أَصْلَ دِينِهِ وَلَمْ يَعْرِفَا انْتِقَالَهُ عَنْهُ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ الَّذِي عَرَفَاهُ، وَالْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى مَعَهَا عِلْمٌ لَمْ تَعْلَمْهُ الْأُولَى، فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ كَانَ مِلْكًا لِفُلَانٍ إلَى أَنْ مَاتَ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ وَالْبَيْعِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ قَدْ كَانَ مُسْلِمًا. وَقَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ كَانَ كَافِرًا. نَظَرْنَا فِي تَارِيخِهِمَا؛ فَإِنْ كَانَتَا مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عُمِلَ بِالْآخِرَةِ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ انْتَقَلَ عَمَّا شَهِدَتْ بِهِ الْأُولَى، إلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْآخِرَةُ وَإِنْ كَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا مُطْلَقَةٌ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْكُفْرِ فِي دَارِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يُسْلِمُ الْكَافِرُ، فَيُقَرُّ. وَإِنْ كَانَتَا مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ، نَظَرْت فِي شَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى اللَّفْظِ، فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى اللَّفْظِ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ دِينِهِ، فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ. وَإِنْ عُرِفَ أَصْلُ دِينِهِ، قُدِّمَتْ النَّاقِلَةُ لَهُ عَنْ أَصْلِ دِينِهِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ، وَيَكُونَانِ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، حَلَفَ وَأَخَذَ. الثَّانِيَةُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ، فِيمَا إذَا قَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ كَانَ مُسْلِمًا وَقَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ كَانَ كَافِرًا. مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ دِينِهِ، أَوْ عُلِمَ أَنَّ أَصْلَ، دِينِهِ الْكُفْرُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الْأَصْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ بَيِّنَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ. [فَصْل خَلَّفَ ابْنًا مُسْلِمًا وَأَخًا كَافِرًا فَاخْتَلَفَا فِي دِينِهِ حَالَ الْمَوْتِ] (8547) فَصْلٌ وَإِنْ خَلَّفَ ابْنًا مُسْلِمًا وَأَخًا كَافِرًا، فَاخْتَلَفَا فِي دِينِهِ حَالَ الْمَوْتِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ، إلَّا أَنْ يُخَلِّفَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ وَابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَقَارِبِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي دِينِهِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْأَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَعْرِفَةِ أَصْلِ دِينِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحْكُومٌ لَهُ بِدِينِ أَبَوَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَإِنَّ الِابْنَيْنِ يَدَّعِيَانِ إسْلَامَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَبَوَيْنِ. وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا فِي إسْلَامِهِ لِأَنَّ كُفْرَهُ يَنْبَنِي أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، أَوْ أَنَّ أَبَوَيْهِ كَانَا كَافِرَيْنِ، فَأَسْلَمَا بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَالْأَصْلُ. خِلَافُهُ. [فَصْل كَانَتْ الزَّوْجَةُ كَافِرَةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَأَنْكَرَهَا الْوَرَثَةُ] (8548) فَصْلٌ: وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ، وَخَلَّفَ زَوْجَةً وَوَرَثَةً سِوَاهَا، وَكَانَتْ الزَّوْجَةُ كَافِرَةً، ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَنْكَرَهَا الْوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا كَافِرَةٌ، فَادَّعَى عَلَيْهَا الْوَرَثَةُ أَنَّهَا كَانَتْ كَافِرَةً، فَأَنْكَرَتْهُمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعُوهُ عَلَيْهِ وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَنْكَرَتْهُمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَإِنْ اعْتَرَفَتْ بِالطَّلَاقِ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَادَّعَتْ أَنَّهُ رَاجَعَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْقَضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَوْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، اتَّفَقَا عَلَى أَنْ أَحَدَهُمَا كَانَ مُسْلِمًا حِينَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَجَحَدَهُ أَخُوهُ، فَالْمِيرَاثُ لِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكُفْرِ إلَى أَنْ يُعْلَمَ زَوَالُهُ، وَعَلَى أَخِيهِ الْيَمِينُ، وَتَكُونُ عَلَى نَفْيٍ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيٍ فِعْلِ. أَخِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، قُسِمَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا، وَالْآخَرُ رَقِيقًا، ثُمَّ عَتَقَ، وَاخْتَلَفَا فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 حُرِّيَّتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهَا. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا وَلَا كَافِرًا، فَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، وَعَدَمُ مَا سِوَاهُمَا. [فَصْل أَسْلَمَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ فِي غُرَّةِ شَعْبَانَ وَأَسْلَمَ الْآخَرُ فِي غُرَّةِ رَمَضَان وَاخْتَلَفَا فِي مَوْتِ أَبِيهِمَا هَلْ فِي شَعْبَان أُمّ فِي رَمَضَان] (8549) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ فِي غُرَّةِ شَعْبَانَ، وَأَسْلَمَ الْآخَرُ فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفَا فِي مَوْتِ أَبِيهِمَا، فَقَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: مَاتَ فِي شَعْبَانَ فَوَرِثْته وَحْدِي. وَقَالَ الْآخَرُ: مَاتَ فِي رَمَضَانَ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِ حَتَّى يُعْلَمَ زَوَالُهَا، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَالثَّانِي، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ مَوْتِهِ فِي شَعْبَانَ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، لِأَنَّهَا بَيَّنَتْ مَوْتَهُ فِي شَعْبَانَ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يُخْفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى. [فَصْل اخْتَلَفَا فِي دَارٍ فَادَّعَى كُلّ مِنْهُمَا أَنَّهُ ورثها وَكَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا] (8550) فَصْلٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي دَارٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا، أَنَّ هَذِهِ دَارِي وَرِثْتهَا مِنْ أَبِي، وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهَا دَارُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ. وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِلْآخَرِ، وَكَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا تَعَارَضَتَا، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي مِثْلِهَا. [مَسْأَلَة قَالَ زَوْجُهَا مَاتَتْ قَبْلَ ابْنِهَا فَوَرِثْنَاهَا ثُمَّ مَاتَ ابْنِي فَوَرِثْته وَقَالَ أَخُوهَا مَاتَ ابْنُهَا فَوَرِثَتْهُ ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَابْنُهَا فَقَالَ زَوْجُهَا: مَاتَتْ قَبْلَ ابْنِهَا، فَوَرِثْنَاهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنِي، فَوَرِثْته. وَقَالَ أَخُوهَا مَاتَ ابْنُهَا فَوَرِثَتْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَكَانَ مِيرَاثُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَمِيرَاثُ الْمَرْأَةِ لِأَخِيهَا وَزَوْجِهَا نِصْفَيْنِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ جَمَاعَةٌ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاخْتَلَفَ الْأَحْيَاءُ مِنْ وَرَثَتِهِمْ فِي أَسْبَقِهِمْ بِالْمَوْتِ كَامْرَأَةٍ وَابْنِهَا مَاتَا، فَقَالَ الزَّوْجُ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا، فَصَارَ مِيرَاثُهَا كُلُّهُ لِي وَلِابْنِي، ثُمَّ مَاتَ ابْنِي فَصَارَ مِيرَاثُهُ لِي. وَقَالَ أَخُوهَا: مَاتَ ابْنُهَا أَوَّلًا فَوَرِثَتْ ثُلُثَ مَالِهِ، ثُمَّ مَاتَتْ فَكَانَ مِيرَاثُهَا بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَيْنِ. حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَجَعَلْنَا مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ مَاتَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْحَيِّ مِنْ مَوْرُوثِهِ مَوْجُودٌ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِبَقَاءِ مَوْرُوثِ الْآخَرِ بَعْدَهُ وَهَذَا أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، فَيَكُونُ مِيرَاثُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، لَا مُشَارِكَ لَهُ فِيهِ، وَمِيرَاثُ الْمَرْأَةِ بَيْنَ أَخِيهَا وَزَوْجِهَا نِصْفَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَعْطَيْتُمْ الزَّوْجَ نِصْفَ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ لَا يَدَّعِي إلَّا الرُّبْعَ قُلْنَا بَلْ هُوَ مُدَّعٍ لَهُ كُلِّهِ؛ رُبْعِهِ بِمِيرَاثِهِ مِنْهَا، وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِإِرْثِهِ مِنْ ابْنِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ثَبَتَتْ الْبُنُوَّةُ بِيَقِينٍ، فَلَا يُقْطَعُ مِيرَاثُ الْأَبِ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ لِلْأَخِ. وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ قَوْلًا آخَرَ، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. قَالَ: وَهَذَا اخْتِيَارِي أَنَّ كُلَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا مَالًا يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَهَذَا لَا يُدْرَى مَا أَرَادَ بِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَالَ الْمَرْأَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ، وَلَيْسَ بِقَوْلِ آخَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَالَهَا وَمَالَ الِابْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إعْطَاءِ الْأَخِ مَا لَا يَدَّعِيه، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِنْ مَالِ الِابْنِ أَكْثَرَ مِنْ سُدُسِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنْ أَرَادَ ثُلُثَ مَالِ الِابْنِ يُضَمُّ إلَى مَالِ الْمَرْأَةِ، فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ نِصْفَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ بِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا لَا، يُنَازِعُهُ الْأَخُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا فِي نِصْفِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَهُ كَمَا لَوْ تَنَازَعَ الْأَخُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا خَفِيٌّ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ دَارًا فِي أَيْدِيهِمَا، فَادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا كُلَّهَا، وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِي النِّصْفِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ، أَنَّ الدَّارَ فِي أَيْدِيهِمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِهِ نِصْفُهَا، فَمُدَّعِي النِّصْفِ يَدَّعِيه وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَعْتَرِفَانِ أَنَّ هَذَا مِيرَاثٌ عَنْ الْمَيِّتَيْنِ، فَلَا يَدَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ، لَاعْتِرَافِهِمَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِيرَاثٌ يَدَّعِيَانِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمُّ سُدُسُ مَالِ الِابْنِ إلَى نِصْفِ مَالِ الْمَرْأَةِ، فَيُقْسَمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَلَهُ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي دَعْوَاهُ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً فِي أَيْدِيهِمَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ فِيمَا حُكِمَ لَهُ بِهِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى، أَنْ يَكُونَ سُدُسُ مِيرَاثِ الِابْنِ لِلْأَخِ، وَبَاقِي الْمِيرَاثَيْنِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّنَا نُقَدِّرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَاتَتْ أَوَّلًا، فَيَكُونُ مِيرَاثُهَا لِابْنِهَا وَزَوْجِهَا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ فَوَرِثَ الزَّوْجُ كُلَّ مَا فِي يَدِهِ فَصَارَ مِيرَاثُهَا كُلُّهُ لِزَوْجِهَا، ثُمَّ نُقَدِّرُ أَنَّ الِابْنَ مَاتَ أَوَّلًا، فَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَصَارَ الثُّلُثُ بَيْنَ أَخِيهَا وَزَوْجِهَا نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَلَمْ يَرِثْ الْأَخُ إلَّا سُدُسَ مَالِ الِابْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ يَخْتَصُّ بِمَنْ جُهِلَ مَوْتُهُمَا، وَاتَّفَقَ وُرَّاثُهُمَا عَلَى الْجَهْلِ بِهِ. وَالْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ؛ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، فِيمَا إذَا ادَّعَى وَرَثَةُ كُلِّ مَيِّتٍ أَنَّهُ مَاتَ أَخِيرًا وَأَنَّ الْآخَرَ مَاتَ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ، حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا، وَهَلْ تَسْقُطَانِ، أَوْ تُسْتَعْمَلَانِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يَقْتَسِمَانِ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ فَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا إيَّاهَا فَأَنْكَرَهَا] (8552) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ، فَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا إيَّاهَا، أَوْ أَنَّهَا اشْتَرَتْهَا مِنْهُ فَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِزِيَادَةِ خَفِيَتْ عَلَى بَيِّنَةِ الزَّوْجِ. وَإِنْ مَاتَ الرَّجُلُ، وَخَلَّفَ ابْنًا، فَادَّعَى الِابْنُ أَنَّهُ خَلَّفَ الدَّارَ مِيرَاثًا، وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا إيَّاهَا، أَوْ بَاعَهَا إيَّاهَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ مَعَ يَمِينِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. [فَصَلِّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اكْتَرَى بَيْتًا مِنْ دَارٍ لِرَجُلٍ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ فَادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ اكْتَرَى الدَّارَ كُلَّهَا بِعَشَرَةٍ ذَلِكَ الشَّهْرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا] (8553) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اكْتَرَى بَيْتًا مِنْ دَارٍ لِرَجُلٍ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ، فَادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ اكْتَرَى الدَّارَ كُلَّهَا بِعَشَرَةٍ، ذَلِكَ الشَّهْرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ، فِي قَدْرِ الْمُكْتَرَى، فَيَتَحَالَفَانِ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُ التَّحَالُفِ فِي الْبَيْعِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِيمَا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدَهُ هَذَا بِعَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ هُوَ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا تَحَالُفًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي بَيْعًا فِي الْعَبْدِ الزَّائِدِ، يُنْكِرُهُ الْبَائِعُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَهَذَا مِثْلُهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْرِي مَعَ يَمِينِهِ إذَا عُدِمَتْ الْبَيِّنَةُ. فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بِدَعْوَاهُ بَيِّنَةً، حُكِمَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ، تَعَارَضَتَا، سَوَاءٌ كَانَتَا مُطْلِقَتَيْنِ، أَوْ مُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ، أَوْ إحْدَاهُمَا مُؤَرِّخَةً وَالْأُخْرَى مُطْلِقَةٌ، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبَيْتِ مُفْرَدًا، وَعَلَى الدَّارِ كُلِّهَا، فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، مُحَالٌ، فَإِنْ قُلْنَا تَسْقُطَانِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِزِيَادَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا عَلَى الْمُكْتَرِي كَمَا قُلْتُمْ فِيمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِأَلْفٍ، وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمِائَةٍ: يَجِبُ الْمَهْرَانِ؟ قُلْنَا ثَمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرَانِ مُسْتَقِرَّيْنِ، بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ يَدْخُلُ بِهَا، ثُمَّ يُخَالِعُهَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلَا تَسْتَقِرُّ إلَّا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَإِذَا عَقَدَ عَقْدًا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجِبَ الْأُجْرَتَانِ. [مَسْأَلَة شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ صَبِيٍّ أَلْفًا وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الصَّبِيِّ أَلْفًا] (8554) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ، أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ صَبِيٍّ أَلْفًا، وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الصَّبِيِّ أَلْفًا، كَانَ عَلَى وَلِي الصَّبِيِّ أَنْ يُطَالِبَ أَحَدَهُمَا بِالْأَلْفِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّ بَيِّنَةٍ لَمْ تَشْهَدْ بِالْأَلْفِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهَا الْأُخْرَى فَيَأْخُذَ الْوَلِيُّ الْأَلْفَيْنِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 أَمَّا إذَا كَانَتْ كُلُّ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِأَلْفٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُطَالِبُ بِالْأَلْفَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ، فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُطَالِبَ بِهَا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ أَلْفًا مُعَيَّنًا، فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْآخِذُ لَهَا، لَمْ يَجِبْ إلَّا أَلْفٌ وَاحِدٌ، وَلِلْوَلِيِّ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخَذَ الْأَلْفَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَرُدَّهُ، فَقَدْ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَدَّهُ إلَى الصَّبِيِّ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ بِرَدِّهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَبْضٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ غَرِمَهُ الَّذِي لَمْ يَرُدَّهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ غَرِمَهُ الرَّادُّ لَهُ، رَجَعَ عَلَى الَّذِي لَمْ يَرُدَّهُ. فَإِنْ غَرِمَهُ أَحَدُهُمَا، فَادَّعَى أَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَى صَاحِبِهِ، لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخَرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة رَجُلَيْنِ حَرْبِيَّيْنِ جَاءَا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَخُو صَاحِبِهِ] (8555) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ حَرْبِيَّيْنِ جَاءَا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ، فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَخُو صَاحِبِهِ، جَعَلْنَاهُمَا أَخَوَيْنِ، وَإِنْ كَانَا سَبْيًا، فَادَّعَيَا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُعْتِقَا، فَمِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمُعْتِقِهِ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُمَا، إلَّا أَنْ تَقُومَ بِمَا ادَّعَيَاهُ بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَيَثْبُتَ النَّسَبُ، وَيُوَرَّثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَخِيهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا إلَيْنَا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ فَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِنَسَبِ بَعْضٍ، ثَبَتَ نَسَبُهُمْ كَمَا يَثْبُتُ نَسَبُ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِإِقْرَارِهِمْ، وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَإِقْرَارِهِمْ، بِالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنْ كَانُوا سَبْيًا، فَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِنَسَبِ بَعْضٍ، وَقَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثَبَتَ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدُ أَسِيرًا عِنْدَهُمْ أَوْ غَيْرَ أَسِيرٍ. وَيُسَمَّى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ حَمِيلًا، أَيْ مَحْمُولًا، كَمَا يُقَالُ لِلْمَقْتُولِ قَتِيلٌ، وَلِلْمَجْرُوحِ جَرِيحٌ؛ لِأَنَّهُ حُمِلَ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ سُمِّيَ حَمِيلًا؛ لِأَنَّهُ حُمِلَ نَسَبُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ شَهِدَ بِنَسَبِهِ الْكُفَّارُ، لَمْ تُقْبَلْ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ فِي ذَلِكَ تُقْبَلُ؛ لِتَعَذُّرِ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ فِي الْغَالِبِ، فَأَشْبَهَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّنَا إذَا لَمْ نَقْبَلْ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ، فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُمْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى السَّيِّدِ، بِتَفْوِيتِ إرْثِهِ بِالْوَلَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ الْعِتْقِ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا مُعْتِقُهُمَا، قُبِلَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، لَمْ يَرِثْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمُعْتِقِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ أَبٍ، أَوْ أَخٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ ابْنِ عَمٍّ. وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، لَا يُقْبَلُ. وَالثَّانِي يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَوْلِدَ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ. وَالثَّالِثُ، إنْ أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَوْلِدَ بَعْدَ عِتْقِهِ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيلَادَ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 قَبْلَ عِتْقِهِ، أَوْ يَسْتَوْلِدَ قَبْلَ عِتْقِهِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ إقْرَارَهُ يُقْبَلُ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ مِنْ الْأَحْرَارِ الْأَصْلِيِّينَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ أَقَرَّ بِنَسَبٍ وَإِرْثُ مَجْهُولِ النَّسَبِ، يُمْكِنُ صِدْقُهُ فِيهِ، وَوَافَقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ مَنْ لَهُ أَخٌ بِنَسَبِ ابْنٍ، وَبِهَذَا الْأَصْلِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ، أَنْ لَا تُوَرِّثْ حَمِيلًا، حَتَّى تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَنْ لَا تُوَرِّثْ حَمِيلًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقِّ مُعْتِقِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلًى لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ شَرِيكُهُ فِي وَلَائِهِ، وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُرِّ الَّذِي لَهُ أَخٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ نَتِيجَةُ الْمِلْكِ، فَجَرَى مَجْرَاهُ، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ ثَبَتَ عَنْ عِوَضٍ، وَالْأُخُوَّةُ بِخِلَافِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. صَحَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ إلَّا الْوَلَاءُ؟ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِعِوَضٍ، كَانَ أَقْوَى مِنْ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا النَّسَبَ فِي الْمِيرَاثِ لِقُرْبِهِ، لَا لِقُوَّتِهِ، كَمَا نُقَدِّمُ ذَوِي الْفُرُوضِ عَلَى الْعَصَبَةِ مَعَ قُرْبِهِمْ. (8556) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَا مُخْتَلِفَيْ الدِّينِ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُسْلِمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا فَيَرِثَ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّا بِالنَّسَبِ فِي حَالِ رِقِّهِمَا، لَمْ يَثْبُتْ لِاحْتِمَالِ التَّوَارُثِ بِالْعِتْقِ. وَإِنْ وُلِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ مِنْ حُرَّةٍ، فَأَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ، احْتَمَلَ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِقَبُولِهِ، وَانْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُ الْأُصُولِ، فَالْفُرُوعُ أَوْلَى فَإِنْ قُلْنَا: يُقْبَلُ إقْرَارُهُمَا. فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِأَبِي الْآخَرِ أَنَّهُ عَمُّهُ، لَمْ يَثْبُتْ الْإِقْرَارُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَوَرِثَ عَمُّهُ دُونُ مَوْلَاهُ الْمُعْتِقِ لَهُ. وَهَلْ يَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمِّ فَيَرِثُ ابْنَ أَخِيهِ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ؛ لِانْتِفَاءِ الْوَلَاءِ عَنْ ابْنِ الْأَخِ فَلَا تُفْضِي صِحَّةُ الْإِقْرَارِ إلَى إسْقَاطِ الْوَلَاءِ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْآخَرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 [مَسْأَلَة كَانَ الزَّوْجَانِ فِي الْبَيْتِ فَافْتَرَقَا أَوْ مَاتَا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي الْبَيْتِ أَنَّهُ لَهُ] (8557) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ فِي الْبَيْتِ، فَافْتَرَقَا، أَوْ مَاتَا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي الْبَيْتِ أَنَّهُ لَهُ، أَوْ وَرِثَهُ، حُكِمَ بِمَا كَانَ يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ لِلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ لِلْمَرْأَةِ، وَمَا كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، أَوْ فِي بَعْضِهِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: جَمِيعُهُ لِي. أَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذِهِ الْعَيْنُ لِي، وَكَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، ثَبَتَ لَهُ، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ؛ مِنْ الْعَمَائِمِ، وَقُمْصَانِهِمْ، وَجِبَابِهِمْ، وَالْأَقْبِيَةِ، وَالطَّيَالِسَةِ، وَالسِّلَاحِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ؛ كَحُلِيِّهِنَّ، وَقُمُصِهِنَّ، وَمَقَانِعِهِنَّ، وَمَغَازِلِهِنَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا. وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا؛ كَالْمَفَارِشِ، وَالْأَوَانِي، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا، أَوْ اخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا وَوَرَثَةُ الْآخَرِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ؛ مِنْهُمْ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ، فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ، أَوْ يَمُوتُ، فَتَدَّعِي الْمَرْأَةُ الْمَتَاعَ: فَمَا كَانَ يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ، فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ، فَهُوَ لِلنِّسَاءِ، وَمَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِمَا، فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، دُفِعَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، حَلَفَ وَأُعْطِيَ الْمَتَاعَ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ مِهَنًا: وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا، وَأَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَتْ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، أَمَّا مَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا، قُسِمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ يَصْلُحُ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: مَا يَصْلُحُ لَهُمَا وَيَدُهُمَا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ أَحَدُهُمَا وَوَرِثَهُ الْآخَرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّافِي مِنْهُمَا لِأَنَّ الْيَدَ الْمُشَاهَدَةَ أَقْوَى مِنْ الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الْخَيَّاطُ وَصَاحِبُ الدَّارِ فِي الْإِبْرَةِ وَالْمِقَصِّ، كَانَتْ لِلْخَيَّاطِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ، فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّهُ قَدْرُ جِهَازِ مِثْلِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ مَا صَلَحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهُوَ لَهُ، وَمَا صَلَحَ لَهُمَا، كَانَ لِلرَّجُلِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لِلرَّجُلِ، وَيَدَهُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ السُّكْنَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزُفَرُ، وَالْبَتِّيُّ كُلُّ مَا فِي الْبَيْتِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهِ وَيَأْخُذُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي ثُبُوتِ يَدِهِمَا عَلَى الْمُدَّعَى، وَعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، كَاَلَّذِي يَصْلُحُ لَهُمَا، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ. وَلَنَا، أَنْ أَيْدِيَهُمَا جَمِيعًا عَلَى مَتَاعٍ الْبَيْتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَازَعَهُمَا فِيهِ أَجْنَبِيٌّ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا، وَقَدْ يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ يَدًا وَتَصَرُّفًا فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً، أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا، وَالْآخَرُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، أَوْ قَمِيصًا أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ، وَالْآخَرُ آخِذٌ بِكُمِّهِ، أَوْ جِدَارًا مُتَّصِلًا بِدَارَيْهِمَا، مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، أَوْ لَهُ عَلَيْهِ أَزَجٌ. وَلَنَا، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي، أَنَّهُمَا تَنَازَعَا فِيمَا فِي أَيْدِيهِمَا وَلَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، أَشْبَهَ إذَا كَانَ فِي الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُمَا، فَإِنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا، وَلَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، أَشْبَهَ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّافِي، أَنَّ وَارِثَ الْمَيِّتِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ وَكِيلًا. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا يَدٌ حَكِيمَةٌ، بَلْ تَنَازَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي عَيْنٍ غَيْرِ قُمَاشٍ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا بِصَلَاحِيَةِ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ إنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، اقْتَرَعَا عَلَيْهَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهِيَ لَهُ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ حَكَمْنَا بِهَا لَهُ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ، فَأَشْبَهَا سَائِرَ الْمُخْتَلِفِينَ. [فَصْلٌ كَانَ فِي الدُّكَّانِ نَجَّارٌ وَعَطَّارٌ فَاخْتَلَفَا فِيمَا فِيهَا] (8558) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الدُّكَّانِ نَجَّارٌ وَعَطَّارٌ، فَاخْتَلَفَا فِيمَا فِيهَا، حُكِمَ بِآلَةِ كُلِّ صِنَاعَةٍ لِصَاحِبِهَا، فَآلَةُ الْعَطَّارِينَ لِلْعَطَّارِ، وَآلَةُ النَّجَّارِينَ لِلنَّجَّارِ. وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي دُكَّانٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنٍ لَمْ يُرَجَّحْ أَحَدُهُمَا بِصَلَاحِيَةِ الْعَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا لَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجَيْنِ، يَكُونُ ذَلِكَ كَتَنَازُعِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي فِي شَيْءٍ فِي الدَّارِ] (8559) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي فِي شَيْءٍ فِي الدَّارِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، كَالْأَثَاثِ، وَالْأَوَانِي، وَالْكُتُبِ فَهُوَ لِلْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُكْرِي دَارِهِ فَارِغَةً مِنْ رَحْلِهِ وَقُمَاشِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ؛ كَالْأَبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ، وَالْخَوَابِي الْمَدْفُونَةِ، وَالرُّفُوفِ الْمُسَمَّرَةِ، وَالسَّلَالِيمِ الْمُسَمَّرَةِ، وَالْمَفَاتِيحِ وَالرَّحَا الْمَنْصُوبَةِ، وَحَجَرِهَا التَّحْتَانِيِّ فَهُوَ لِلْمُكْرِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الدَّارِ، فَأَشْبَهَ الشَّجَرَةَ الْمَغْرُوسَةَ فِيهَا. وَإِنْ كَانَتْ الرُّفُوفُ مَوْضُوعَةً عَلَى أَوْتَادٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّفُوفِ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الدَّارِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 فَظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومُ فِي الرُّفُوفِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: كَلَامُ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسَمَّرَةِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسَمَّرَةِ فَهِيَ بَيْنَهُمَا إذَا تَحَالَفَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ فَأَشْبَهَتْ الْقُمَاشَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِلْمُكْتَرِي، وَلِلْمُكْرِي ظَاهِرٌ يُعَارِضُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُكْرِيَ يَتْرُكُ الرُّفُوفَ فِي الدَّارِ، وَلَا يَنْقُلُهَا عَنْهَا، فَإِذَا تَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، اسْتَوَيَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَا، إذَا تَحَالَفَا، كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، فَهِيَ لِمَنْ حَلَفَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلرَّفِّ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ فِي الدَّارِ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ تَحَالَفَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ فِي الدَّارِ فَالشَّكْلُ تَابِعٌ لِلدَّارِ، فَهُوَ لِصَاحِبِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحَدَ الرَّفَّيْنِ لِمَنْ لَهُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ مَقْلُوعٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ صَاحِبِهِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا لِمَنْ لَهُ الْآخَرُ، كَالْحَجَرِ الْفَوْقَانِيِّ مِنْ الرَّحَى، وَالْمِفْتَاحِ مَعَ السَّكْرَةِ. وَوَجْهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي أَنَّ الرُّفُوفَ لِصَاحِبِ الدَّارِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَرْكِ الرُّفُوفِ فِي الدَّارِ، وَلَمْ تَجْرِ بِنَقْلِ الْمُكْتَرِي لَهَا مَعَهُ، فَكَانَتْ لِصَاحِبِ الدَّارِ، كَاَلَّذِي لَهُ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ لَهَا أَوْتَادٌ مَنْصُوبَةٌ، فَالْأَوْتَادُ لِصَاحِبِ الدَّارِ، فَكَذَلِكَ مَا نُصِبَتْ لَهُ كَالْحَجَرِ الْفَوْقَانِيِّ مِنْ الرَّحَى إذَا كَانَ السُّفْلَانِيُّ مَنْصُوبًا، وَمِفْتَاحِ السَّكْرَةِ الْمُسَمَّرَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْخَيَّاطُ فِي دَارِ غَيْرِهِ فَاخْتَلَفَا فِي الْإِبْرَةِ وَالْمِقَصِّ] (8560) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْخَيَّاطُ فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَاخْتَلَفَا فِي الْإِبْرَةِ وَالْمِقَصِّ، فَهِيَ لِلْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِمَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ، وَالظَّاهِرُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ، فَالْعَادَةُ أَنَّهُ يَحْمِلُ مَعَهُ إبْرَتَهُ وَمِقَصَّهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقَمِيصِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ؛ إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَحْمِلَ الْقَمِيصَ مَعَهُ يَخِيطُهُ فِي دَارِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْعَادَةُ أَنْ يَخِيطَ قَمِيصَ صَاحِبِ الدَّارِ فِيهَا. وَإِنْ اخْتَلَفَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالنَّجَّارُ فِي الْقَدُومِ، وَالْمِنْشَارِ، وَآلَةِ النِّجَارَةِ، فَهِيَ لِلنَّجَّارِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْخَشَبَةِ الْمَنْجُورَةِ وَالْأَبْوَابِ وَالرُّفُوفِ الْمَنْشُورَةِ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الدَّارِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ النَّجَّادُ وَرَبُّ الدَّارِ فِي قَوْسِ النَّدْفِ، فَهُوَ لِلنَّجَّادِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْفَرْشِ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّارِ وَالسَّقَّا فِي الْقِرْبَةِ، فَهِيَ لِلسَّقَّا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْخَابِيَةِ وَالْجِرَارِ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الدَّارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ تَنَازَعَ رَجُلَانِ دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ أَخَذَ بِزِمَامِهَا] (8561) فَصْلٌ: وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا، وَالْآخَرُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، فَالرَّاكِبُ أَوْلَى بِهَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 أَقْوَى، وَيَدَهُ آكَدُ، وَهُوَ الْمُسْتَوْفِي لِمَنْفَعَتِهَا. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ، وَالْآخَرُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْحِمْلِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا، حِمْلٌ، وَالْآخَرُ رَاكِبٌ عَلَيْهَا، فَهِيَ لِلرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى تَصَرُّفًا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْحِمْلِ، فَادَّعَاهُ الرَّاكِبُ وَصَاحِبُ الدَّابَّةِ، فَهُوَ لِلرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْحِمْلِ مَعًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اخْتَلَفَ السَّاكِنُ وَصَاحِبُ الدَّارِ فِي قُمَاشٍ فِيهَا. وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالرَّاكِبُ فِي السَّرْجِ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ السَّرْجَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ. وَإِنْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي ثِيَابٍ عَلَى عَبْدٍ لِأَحَدِهِمَا، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ عَلَيْهَا. وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الثِّيَابِ وَالْآخَرُ فِي الْعَبْدِ اللَّابِسِ لَهَا، فَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الثِّيَابِ يَعُودُ إلَى الْعَبْدِ، لَا إلَى صَاحِبِ الثِّيَابِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ صَاحِبُ أَرْضٍ وَنَهْرٍ فِي حَائِطٍ بَيْنَهُمَا] (8562) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَ صَاحِبُ أَرْضٍ وَنَهْرٍ فِي حَائِطٍ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ لَهُمَا وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لِنَفْعِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِأَرْضِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَكَانَتْ يَدُهُمَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُمَا، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَوْ حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْهِمَا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّرْجِيحَيْنِ مُتَقَابِلٌ، فَيَسْتَوِيَانِ. وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، لِذَلِكَ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَإِنَّمَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النِّصْفِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ، دُونَ النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ لَا يُفِيدُهُ الْحَلِفُ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَلَا يَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ، كَالْمُدَّعِي لَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. [فَصْلٌ تَنَازَعَا عِمَامَةً طَرَفُهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَبَاقِيهَا فِي يَدِ الْآخَرِ] (8563) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَازَعَا عِمَامَةً طَرَفُهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَبَاقِيهَا فِي يَدِ الْآخَرِ، أَوْ قَمِيصًا، كُمُّهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَبَاقِيه مَعَ الْآخَرِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُمْسِكِ بِالطَّرَفِ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيهَا عَلَى الْأَرْضِ، فَنَازَعَهُ فِيهَا غَيْرُهُ كَانَتْ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا تَسَاوَيَا فِيهَا. وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ، وَفِي أَحَدِ أَبْيَاتِهَا سَاكِنٌ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ سَاكِنٌ آخَرُ، فَاخْتَلَفَا فِيهَا، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ سَاكِنٌ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يَنْفَصِلُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يُشَارِكُ الْخَارِجُ مِنْهُ السَّاكِنَ فِيهِ فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَنَازَعَا السَّاحَةَ الَّتِي يَتَطَرَّقُ مِنْهَا إلَى الْبُيُوتِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ الْعِمَامَةَ فِيمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَة مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ حَقٌّ فَمَنَعَهُ مِنْهُ وَقَدَرَ لَهُ عَلَى مَالٍ] (8564) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ حَقٌّ، فَمَنَعَهُ مِنْهُ، وَقَدَرَ لَهُ عَلَى مَالٍ، لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ، بَاذِلٌ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ إلَّا مَا يُعْطِيه، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ فِي الْعَيْنِ. وَإِنْ أَتْلَفَهَا، أَوْ تَلِفَتْ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ الثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تُقَاضَا، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ لَأَمْرٍ يُبِيحُ الْمَنْعَ، كَالتَّأْجِيلِ وَالْإِعْسَارِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا، لَزِمَهُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ عِوَضُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا، وَلَا يَحْصُلُ التَّقَاضِي هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَخَذَهُ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلَاصِهِ بِالْحَاكِمِ أَوْ السُّلْطَانِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ أَيْضًا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ جَاحِدًا لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُجِيبُهُ إلَى الْمُحَاكَمَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إجْبَارُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوِ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ جَعَلَ أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ لِجَوَازِ الْأَخْذِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، حِينَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَتَخَرَّجُ لَنَا جَوَازُ الْأَخْذِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، أَخَذَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، تَحَرَّى، وَاجْتَهَدَ فِي تَقْوِيمِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، وَمِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْمُرْتَهَنِ: يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ، بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ، وَالْمَرْأَةُ تَأْخُذُ مُؤْنَتَهَا، وَبَائِعُ السِّلْعَةِ يَأْخُذُهَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ بِغَيْرِ رِضًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ حَقِّهِ بِعَيْنِهِ، فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلَاصِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي مَالِهِ إذَا أَفْلَسَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ إنْ كَانَ عَيْنًا، أَوْ وَرِقًا، أَوْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ أَخْذَ الْعَرَضِ عَنْ حَقِّهِ اعْتِيَاضٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ إلَّا بِرِضًى مِنْ الْمُتَعَاوِضَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ «هِنْدٍ، حِينَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي. فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا جَازَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، جَازَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى الرَّجُلِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مِنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَقَدْ خَانَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . وَلِأَنَّهُ إنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، كَانَ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ تَرَاضٍ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْحَقِّ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: اقْضِنِي حَقِّي مِنْ هَذَا الْكِيسِ دُونَ هَذَا. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَيْنٌ، لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاذِلًا لَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ هِنْدٍ، فَإِنَّ أَحْمَدَ اعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّ حَقَّهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَهَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى الْفَرْقِ بِالْمَشَقَّةِ فِي الْمُحَاكَمَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْمُخَاصَمَةِ كُلَّ يَوْمٍ تَجِبُ فِيهِ النَّفَقَةُ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَكَأَنَّ الْحَقَّ صَارَ مَعْلُومًا بِعِلْمِ قِيَامِ مُقْتَضِيه، وَبَيْنَهُمَا فَرْقَانِ آخَرَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مِنْ التَّبَسُّطِ فِي مَالِهِ، بِحُكْمِ الْعَادَةِ مَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ أَخْذِ الْحَقِّ وَبَذْلِ الْيَدِ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. الثَّانِي، أَنَّ النَّفَقَةَ تُرَادُ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ، وَإِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُصْبَرُ عَنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهِ، فَجَازَ أَخْذُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ هَذِهِ الْحَاجَةُ، بِخِلَافِ، الدَّيْنِ، حَتَّى نَقُولَ: لَوْ صَارَتْ النَّفَقَةُ مَاضِيَةً، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخْذُهَا. وَلَوْ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخْذُهُ. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَخَذَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، وَجَبَ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ، تَقَاصَّا، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، لَزِمَهُ غُرْمُهُ، وَمَنْ جَوَّزَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأَخْذَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ وَجَدَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ، حَقِّهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ تَمَلُّكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا يَبِيعُهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَلْحَقُهُ فِيهِ تُهْمَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا قَالُوا: الرَّهْنُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ مَرْكُوبًا، أَوْ مَحْلُوبًا، يُرْكَبُ وَيُحْلَبُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 بِقَدْرِ النَّفَقَةِ، وَهِيَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ هَذَا، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: يُوَاطِئُ رَجُلًا يَدَّعِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ دَيْنًا، فَيُقِرُّ لَهُ بِمِلْكِ الشَّيْءِ الَّذِي أَخَذَهُ، فَيَمْتَنِعُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّعْوَى مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، لِيَبِيعَ الْحَاكِمُ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذَ، وَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ. [فَصْلٌ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى إنْسَانٍ حَقًّا وَأَقَامَ بِهِ شَاهِدَيْنِ فَلَمْ يَعْرِفْ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمَا] (8565) فَصْلٌ: إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى إنْسَانٍ حَقًّا، وَأَقَامَ بِهِ شَاهِدَيْنِ فَلَمْ يَعْرِفْ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمَا، فَسَأَلَ حَبْسَ غَرِيمِهِ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَةَ شُهُودِهِ، أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَلِأَنَّ الَّذِي عَلَى الْغَرِيمِ قَدْ أَتَى بِهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ، وَهُوَ الْكَشْفُ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ. وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَسَأَلَ حَبْسَ غَرِيمِهِ لِيُقِيمَ شَاهِدًا آخَرَ، وَكَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، لَمْ يُحْبَسْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَا تَمَّتْ، وَالْحَبْسُ عَذَابٌ، فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ دُونَ تَمَامِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، يُحْبَسُ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ حُجَّةٌ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ مُقَوِّيَةٌ لَهُ. وَالثَّانِي، لَا يُحْبَسُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إنْ حُبِسَ لِيُقِيمَ شَاهِدًا آخَرَ يُتِمُّ بِهِ الْبَيِّنَةَ، فَهُوَ كَالْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَإِنْ حُبِسَ لِيَحْلِفَ مَعَهُ، فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَلِفَ مُمْكِنٌ فِي الْحَالِ، فَإِنْ حَلَفَ، ثَبَتَ حَقُّهُ، وَإِلَّا، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي بَاذِلًا لِلْيَمِينِ، وَالتَّوَقُّفُ لِأَجْلِ إثْبَاتِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ، حُبِسَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يُحْبَسْ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَكُلُّ مَوْضِعٍ حُبِسَ فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ، اُسْتُدِيمَ الْحَبْسُ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ أَوْ فِسْقُهُمْ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ حُبِسَ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ: إنْ جِئْت بِشَاهِدٍ آخَرَ إلَى ثَلَاثٍ وَإِلَّا أَطْلَقْنَاهُ. [فَصْل ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يُعَدَّلَا فَسَأَلَ الْعَبْدُ الْحَاكِم أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ] (8566) فَصْلٌ: وَإِنْ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَلَمْ يُعَدَّلَا، فَسَأَلَ الْعَبْدُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ إلَى أَنْ يَبْحَثَ الْحَاكِمُ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ ذَلِكَ، يُؤْجِرَهُ مِنْ ثِقَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ وَيَحْبِسُ الْبَاقِيَ، فَإِنْ عُدِّلَ الشَّاهِدَانِ، سُلِّمَ إلَيْهِ الْبَاقِي مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنْ فُسِّقَا، رُدَّ إلَى سَيِّدِهِ. وَإِنَّمَا حُلْنَا بَيْنَهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَلِأَنَّنَا لَوْ لَمْ نَحُلْ بَيْنَهُمَا، أَفْضَى إلَى أَنْ تَكُونَ أَمَةً، فَيَطَأَهَا. وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا، وَسَأَلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ وَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ بِطَلَاقِهَا، وَلَمْ تُعْرَفْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ، حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا، لَمْ يُحَلْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَلَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 [كِتَاب الْعِتْقِ] ِ الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُوصُ. وَمِنْهُ عَتَاقُ الْخَيْلِ وَعِتَاقُ الطَّيْرِ، أَيْ خَالِصَتُهَا، وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ عَتِيقًا؛ لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 وَهُوَ فِي الشَّرْعِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنْ الرِّقِّ. يُقَالُ: عَتَقَ الْعَبْدُ، وَأَعْتَقْته أَنَا، وَهُوَ عَتِيقٌ، وَمُعْتَقٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إرْبٍ مِنْهَا إرْبًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ، حَتَّى إنَّهُ لَيُعْتِقُ بِالْيَدِ الْيَدَ، وَبِالرِّجْلِ الرِّجْلَ، وَبِالْفَرْجِ الْفَرْجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَا. وَأَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ، وَحُصُولِ الْقُرْبَةِ بِهِ. [فَصْلٌ إعْتَاقُ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ إعْتَاقِ الْمَرْأَةِ] (8567) فَصْلٌ: وَالْعِتْقُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَالْأَيْمَانِ، وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِكَاكًا لِمُعْتِقِهِ مِنْ النَّارِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصًا لِلْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَمِلْكَ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، وَتَمَكُّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ، عَلَى حَسْبِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَإِعْتَاقُ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ إعْتَاقِ الْمَرْأَةِ؛ لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مُرَّةَ الْبَهْزِيُّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا، كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، يُجْزَى بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، يُجْزَى بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِمَا، عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، وَأَيُّمَا، امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ النَّارِ، تُجْزَى بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهَا» . وَالْمُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ دِينٌ وَكَسْبٌ يَنْتَفِعُ بِالْعِتْقِ، فَأُمًّا مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالْعِتْقِ، كَمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ، تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، فَيَضِيعُ، أَوْ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ عِتْقُهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ، كَعَبْدٍ يُخَافُ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ وَاحْتَاجَ سَرَقَ، وَفَسَقَ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ جَارِيَةٍ يُخَافُ مِنْهَا الزِّنَى وَالْفَسَادُ، كُرِهَ إعْتَاقُهُ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إفْضَاؤُهُ إلَى هَذَا، كَانَ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ التَّوَسُّلَ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَصَحَّ، كَإِعْتَاقِ غَيْرِهِ [فَصْلٌ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِتْقُ] (8568) فَصْلٌ: وَيَحْصُلُ الْعِتْقُ بِالْقَوْلِ، وَالْمِلْكِ، وَالِاسْتِيلَادِ. وَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، كَسَائِرِ الْإِزَالَةِ. وَأَلْفَاظُهُ تَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْحُرِّيَّةِ، وَالْعِتْقِ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا، نَحْوُ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ مُحَرَّرٌ، أَوْ عَتِيقٌ، أَوْ مُعْتَقٌ، أَوْ أَعْتَقْتُك. لِأَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَرَدَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْعِتْقِ عُرْفًا، فَكَانَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ، فَمَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، حَصَلَ بِهِ الْعِتْقُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، عَتَقَ أَيْضًا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ لَقِيَ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: تَنَحِّي يَا حُرَّةُ. فَإِذَا هِيَ جَارِيَته، قَالَ: قَدْ عَتَقَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لَخَدَمٍ قِيَامٍ فِي وَلِيمَةٍ: مُرُّوا، أَنْتُمْ أَحْرَارٌ. وَكَانَتْ مَعَهُمْ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، لَمْ يَعْلَمْ بِهَا، قَالَ: هَذَا عِنْدِي تَعْتِقُ أُمُّ وَلَدِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَعْتِقَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظَةِ الْأُولَى غَيْرَ الْعِتْقِ، فَلَمْ تَعْتِقْ بِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ. يُرِيدُ أَنَّهُ عَفِيفٌ كَرِيمُ الْأَخْلَاقِ، وَبِاللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ أَرَادَ غَيْرَ أُمِّ وَلَدِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَادَى مِنْ نِسَائِهِ، فَأَجَابَتْهُ غَيْرُهَا، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. يَحْسَبَهَا الَّتِي نَادَاهَا، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ، عَلَى رِوَايَةٍ، فَكَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا إنْ قَصَدَ غَيْرَ الْعِتْقِ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ: عَبْدِي هَذَا حُرٌّ. يُرِيدُ عِفَّتَهُ، وَكَرْمَ أَخْلَاقِهِ. أَوْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ. أَيْ: إنَّك لَا تُطِيعُنِي، وَلَا تَرَى لِي عَلَيْك حَقًّا وَلَا طَاعَةً، فَلَا يَعْتِقُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. قَالَ حَنْبَلٌ: سُئِلَ أَبُو عُبِدَ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِغُلَامِهِ: أَنْتَ حُرٌّ. وَهُوَ يُعَاتِبُهُ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ لَا يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ، يَقُولُ: كَأَنَّك حُرٌّ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، أَوْ كَلَامًا نَحْوَ هَذَا، رَجَوْت أَنْ لَا يَعْتِقَ، وَأَنَا أَهَابُ الْمَسْأَلَةَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِكِنَايَةِ الْعِتْقِ الْعِتْقَ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: وَإِنْ طُلِبَ اسْتِحْلَافُهُ، حَلَفَ. وَبَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِمَا أَرَادَهُ، أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ تُمْدَحُ بِهَذَا، فَيُقَالُ: امْرَأَةٌ حُرَّةٌ. يَعْنُونَ عَفِيفَةً، وَتُمْدَحُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَيْضًا، وَيُقَالُ لِلْحَيِيِّ الْكَرِيمِ الْأَخْلَاقِ: حُرٌّ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ تَرْثِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ: شِعْرًا وَلَا تَسْأَمَا أَنْ تَبْكِيَا كُلَّ لَيْلَةٍ ... وَيَوْمٍ عَلَى حُرٍّ كَرِيمِ الشَّمَائِلِ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك، وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك، وَأَنْتَ سَائِبَةٌ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْت، وَقَدْ خَلَّيْتُك. فَهَذَا إنْ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ، عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ بِهِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَلَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، فِي قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك، وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك. رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ صَرِيحٌ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: لَا رِقَّ لِي عَلَيْك وَلَا مِلْكَ لِي عَلَيْك، وَأَنْتَ لِلَّهِ. فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ صَرِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ. وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِهِ إذَا نَوَى، وَمِمَّنْ قَالَ: يَعْتِقُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 أَنْتَ لِلَّهِ. إذَا نَوَى؛ الشَّعْبِيُّ، وَالْمُسَيِّبُ بْنُ رَافِعٍ، وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْتِقُ بِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ، أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ حُرٌّ لِلَّهِ، أَوْ عَتِيقٌ لِلَّهِ، أَوْ عَبْدٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَسْت بِعَبْدِ لِي وَلَا لَأَحَدٍ سِوَى اللَّهِ. فَإِذَا نَوَى الْحُرِّيَّةَ بِهِ، وَقَعَتْ، كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَهُ لِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ احْتِمَالَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْكِنَايَاتِ، فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعِتْقَ وَغَيْرَهُ، وَلَوْ لَمْ تَحْتَمِلْ إلَّا الْعِتْقَ لَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، وَمَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، انْصَرَفَ إلَى أَحَدِهِمَا بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا شَأْنُ الْكِنَايَاتِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك، وَلَا رِقَّ لِي عَلَيْك. خَبَرٌ عَنْ انْتِفَاءِ مِلْكِهِ وَرِقِهِ، لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ، وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ فِي الْعِتْقِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِيهِ، كَقَوْلِهِ: مَا أَنْتَ عَبْدِي، وَلَا مَمْلُوكِي. وَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: مَا أَنْتِ امْرَأَتِي، وَلَا زَوْجَتِي. [فَصْل قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَنْوِي الْعِتْقَ بِهِ] (8569) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَنْوِي الْعِتْقَ بِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَعْتِقُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَفْظٌ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكُ عَنْ الرَّقَبَةِ، كَفَسْخِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّجْعَةِ، فَلَا يَنْحَلُّ بِالطَّلَاقِ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، هُوَ كِنَايَةٌ تَعْتِقُ بِهِ الْأَمَةُ إذَا نَوَى الْعِتْقَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَحَدُ الْمِلْكَيْنِ عَلَى الْآدَمِيِّ، فَيَزُولُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، كَالْآخَرِ، أَوْ فَيَكُونُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِإِزَالَةِ أَحَدِهِمَا كِنَايَةً فِي إزَالَةِ الْآخَرِ، كَالْحُرِّيَّةِ فِي إزَالَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا نَوَى بِهِ إطْلَاقَهَا مِنْ مِلْكِهِ، فَقَدْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ، فَتَحْصُلُ بِهِ الْحُرِّيَّةُ، كَسَائِرِ كِنَايَاتِ الْعِتْقِ. [فَصْلٌ قَالَ لِأَكْبَرِ مِنْهُ أَوْ لِمَنْ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي] (8570) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِأَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ لِمَنْ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ: هَذَا ابْنِي. مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَنْ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً لِمَنْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً: هَذَا ابْنِي. لَمْ يَعْتِقْ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ. وَخَرَّجَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا لَنَا؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ قَوْلٌ يَتَحَقَّقُ كَذِبُهُ فِيهِ، فَلَمْ تَثْبُتْ بِهِ الْحُرِّيَّةُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَطِفْلٍ: هَذَا أَبِي. أَوْ لِطِفْلَةِ: هَذِهِ أُمِّي. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا مِنْ قَوْلِ النُّعْمَانِ شَاذٌّ، لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إلَيْهِ، وَلَا تَبِعَهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَالٌ مِنْ الْكَلَامِ، وَكَذِبٌ يَقِينًا، وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لَطِفْلٍ: هَذَا أَبِي. وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ أَسَنُّ مِنْهُ: هَذِهِ ابْنَتِي. أَوْ قَالَ لَهَا، وَهُوَ أَسَنُّ مِنْهَا: هَذِهِ أُمِّي. لَمْ تَطْلُقْ، كَذَا هَذَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 [فَصْلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ] (8571) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ. يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ، عَتَقَتْ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى، لَا تَعْتِقُ. كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَعْتِقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ، أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ؛ لِكَوْنِكِ حُرَّةً. فَتَعْتِقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ. [فَصْلٌ الْعِتْقُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ] (8572) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْعِتْقُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ، وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الرَّشِيدُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ حَرْبِيًّا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فِي أَنَّ عِتْقَ الْحَرْبِيِّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ التَّمَامِ، بِدَلِيلِ، إبَاحَةِ أَخْذِهِ مِنْهُ، وَانْتِقَاءِ عِصْمَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَصَحَّ إعْتَاقُهُ، كَالذِّمِّيِّ. وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ بَالِغٌ، عَاقِلٌ، رَشِيدٌ، فَصَحَّ إعْتَاقُهُ، كَالذِّمِّيِّ. وَقَوْلُهُمْ: لَا مِلْكَ لَهُ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى. [فَصْلٌ عِتْقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ] (8573) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَصِحُّ عِتْقُ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا عَنْهُ ذَلِكَ؛ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا، كَالْهِبَةِ. وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ، قِيَاسًا عَلَى طَلَاقِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لَحَظِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ، كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ فِي حَيَاتِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَهُ، وَهِبَتَهُ. وَيُفَارِقُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِيهِ. وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَغِنَاهُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ، وَلَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ الْمُنَجَّزَةُ. وَعِتْقُ السَّكْرَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى طَلَاقِهِ، وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهِ. وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ الْمُكْرَهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَلَا بَيْعُهُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ. [فَصْلٌ الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ] (8574) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، فَلَوْ أَعْتَقَ عَبِيدَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، أَوْ يَتِيمِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ. وَبِهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ عِتْقُ عَبْدِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . وَلِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً، وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَصَحَّ إعْتَاقُهُ كَمَالِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَإِعْتَاقِ عَبْدِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمَّا وَرَّثَ اللَّهُ الْأَبَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ السُّدُسَ مَعَ وَلَدِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي سَائِرِهِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ عَلَيْك، وَإِمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْ مَالِكَ، وَامْتِنَاعِ مُطَالَبَتِك لَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِعَبْدِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ، الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ فِيهِ، وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لَهُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ أَبْلَغُ مِنْ امْتِنَاعِ إعْتَاقِ عَبْدِهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِحَظِّ الصَّبِيِّ، لِيَحْفَظَ مَالَهُ عَلَيْهِ، وَيُنَمِّيَهُ لَهُ، وَيَقُومَ بِمَصَالِحِهِ الَّتِي يَعْجِزُ الصَّبِيُّ عَنْ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ الْحِفْظَ، اقْتَضَتْ مَنْعَ التَّضْيِيعِ وَالتَّفْرِيطِ بِإِعْتَاقِ رَقِيقِهِ، وَالتَّبَرُّعِ بِمَالِهِ. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدٍ آخَرَ: أَنْتَ حُرٌّ مِنْ مَالِي. فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَمْلُوكُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَلَوْ بَلَغَ رَجُلًا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ مِنْ مَالِي فَقَالَ: قَدْ رَضِيت. فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ] (8575) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، فَأَعْتَقُوهُ مَعًا، أَوْ وَكَّلَ نَفْسَانِ الثَّالِثَ أَنْ يُعْتِقَ حُقُوقَهُمَا مَعَ حَقِّهِ، فَفَعَلَ، أَوْ أَعْتَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّهُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى كَانَ لِثَلَاثَةٍ، فَأَعْتَقُوهُ مَعًا؛ إمَّا بِأَنْفُسِهِمْ، بِأَنْ يَتَلَفَّظُوا بِعِتْقِهِ مَعًا، أَوْ يُعَلِّقُوا عِتْقَهُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَتُوجَدَ، أَوْ يُوَكِّلُوا وَاحِدًا، فَيُعْتِقَهُ، أَوْ يُوَكَّلَ نَفْسَانِ مِنْهُمْ الثَّالِثَ، فَيُعْتِقَهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْتَقَ حَقَّهُ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا. فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَهُ سَادَتُهُ الثَّلَاثَةُ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَهُمْ مُعْسِرُونَ، أَوْ كَانَ الْمُعْتِقَانِ الْأَوَّلَانِ مُعْسِرَيْنِ، وَالثَّالِثُ مُوسِرًا، فَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّهُ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، فِيمَا إذَا أَعْتَقَ الْمُعْسِرُ نَصِيبَهُ قَوْلَيْنِ شَاذَّيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِقَ نِصْفُهُ مُنْفَرِدًا، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ نِصْفُهُ حُرٌّ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 وَنِصْفُهُ عَبْدٌ، كَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَرْأَةِ طَالِقًا، وَنِصْفُهَا زَوْجَةً، وَلَا سَبِيلَ إلَى إعْتَاقِ جَمِيعِهِ، فَبَطَلَ كُلُّهُ. وَالثَّانِي، يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَتَكُونُ قِيمَةُ نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ فِي ذِمَّةِ الْمُعْتِقِ، يُتْبَعُ بِهَا إذَا أَيْسَرَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ، لَمْ يَقُلْهُمَا مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَيَرُدُّهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ مَعَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، وَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَى الْمُعْسِرِ إلَّا نَصِيبُهُ، فَبَاقِي الْعَبْدِ عَلَى الرِّقِّ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ مَالِكُهُ، عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَاءُ مَا أَعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَيُفَارِقُ الْعِتْقُ الطَّلَاقَ؛ لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ لَا يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، وَلَا وُرُودُ النِّكَاحِ عَلَى بَعْضِهَا، وَلَا تَكُونُ إلَّا لِوَاحِدٍ، فَنَظِيرُهُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ، فَأَعْتَقَ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ جَمِيعُهُ. [فَصْلٌ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ لِلْعَبْدِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَنَصِيبِي مِنْك حُرٌّ فَدَخَلَ] (8576) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ لِلْعَبْدِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ، فَنَصِيبِي مِنْك حُرٌّ. فَدَخَلَ، عَتَقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، سَوَاءٌ قَالُوا ذَلِكَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ فِي دُفُعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي أَنْصِبَائِهِمْ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّ اخْتَلَفَتْ أَوْقَاتُ تَعْلِيقِهِ. [مَسْأَلَة الشَّرِيكَ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ مُوسِرٌ] (8577) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَصَارَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ قِيمَةُ ثُلُثَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّرِيكَ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ نَصِيبُهُ. لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ، وَلِأَنَّهُ جَائِزُ التَّصَرُّفِ، أَعْتَقَ مِلْكَهُ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، فَنَفَذَ فِيهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ لَهُ. وَإِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، سَرَى الْعِتْقُ إلَى جَمِيعِهِ، فَصَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا، وَعَلَى الْمُعْتِقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ وَالْوَلَاءُ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبَى يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الْبَتِّيُّ: لَا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّةُ الْمُعْتِقِ، وَنَصِيبُ الْبَاقِينَ بَاقٍ عَلَى الرِّقِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعِتْقِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ التِّلِبِّ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَلَمْ يُضَمَّنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ، لَاخْتَصَّ الْبَيْعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً نَفِيسَةَ، يُغَالَى فِيهَا، فَيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ مِنْ الْمُعْتِقِ؛ لِلضَّرَرِ الَّذِي أَدْخَلَهُ عَلَى شَرِيكِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّةُ الْمُعْتِقِ، وَلِشَرِيكِهِ الْخِيَارُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ، فَيَعْتِقُ حِينَئِذٍ. وَلَنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ "، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِتْقَ فِي جَمِيعِهِ، وَأَوْجَبَ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِ الْمُعْتِقِ الْمُوسِرِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ خِيَرَةً، وَلَا لِغَيْرِهِ. وَرَوَى قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ خَلَاصَهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ، وَلَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَقَوْلُ الْبَتِّيِّ شَاذٌّ، يُخَالِفُ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ التِّلِبِّ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعْسِرِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقِيَاسُ الْعِتْقِ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَسْرِي فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْعِتْقُ يَسْرِي، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ نِصْفَ عَبْدِهِ، لَمْ يَسْرِ، وَلَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، عَتَقَ كُلُّهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ وَلَاءَهُ يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ مِنْ مَالِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ يَرَى عِتْقَهُ عَلَيْهِ. (8578) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ كَوْنِ الشُّرَكَاءِ مُسْلِمِينَ أَوْ كَافِرِينَ، أَوْ بَعْضُهُمْ مُسْلِمًا، وَبَعْضُهُمْ كَافِرًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي الْكَافِرِ وَجْهٌ، أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ لَا يَسْرِي إلَى بَاقِيه، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ عَبْدًا مُسْلِمًا. وَلَنَا عُمُومُ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْغَرَضُ هَاهُنَا تَكْمِيلُ الْعِتْقِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ دُونَ التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَاهُنَا تَمْلِيكًا، لَكَانَ تَقْدِيرًا فِي أَدْنَى زَمَانٍ، حَصَلَ ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ الْعِتْقِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ ضَرَرٌ، فَهُوَ مَغْمُورٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ الْعِتْقِ، فَوُجُودُهُ كَالْعَدَمِ، وَقِيَاسُ هَذَا عَلَى الشِّرَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ الشُّرَكَاءُ بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّل وَقَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ] (8579) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ أَعْتَقَاهُ بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا فِيهِ عِتْقٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ الْأَوَّلِ لَهُ) يَعْنِي أَنَّ الْعِتْقَ يَسْرِي إلَى جَمِيعِهِ بِاللَّفْظِ، لَا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، فَيَعْتِقُ كُلُّهُ حِينَ لَفَظَ بِالْعِتْقِ وَيَصِيرُ حُرًّا، وَتَسْتَقِرُّ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ، فَلَا يَعْتِقُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِتْقِ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، فِي قَوْلٍ: لَا يَعْتِقُ إلَّا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِصَاحِبِهِ، يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاحْتَجُّوا بُقُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ» . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: «فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، ثُمَّ يَعْتِقُ» . فَجَعَلَهُ عَتِيقًا بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا ثَبَتَ بِعِوَضٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُطْلَقًا، لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِالْأَدَاءِ، كَالْمُكَاتَبِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لَهُمَا جَمِيعًا. وَلَنَا. حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَجْتَمِعُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ بِاللَّفْظِ، فَمِنْهَا، لَفْظٌ رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 بِقِيمَةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ عَتِيقٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: " فَكَانَ لَهُ مَالٌ، فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: " وَكَانَ لِلَّذِي يُعْتِقُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، فَهُوَ يَعْتِقُ كُلُّهُ ". وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكٍ، فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ» . وَهَذِهِ نُصُوصٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ حُرًّا وَعَتِيقًا بِإِعْتَاقِهِ، مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ مُوسِرًا. وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ بِالسِّرَايَةِ، فَكَانَتْ حَاصِلَةً عَقِيبَ لَفْظِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبِيدِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الشَّرِيكِ فِيهِ بِغَيْرِ الْإِعْتَاقِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَنْفُذُ بِالْإِعْتَاقِ أَيْضًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّ " الْوَاوَ " لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، وَأَمَّا الْعَطْفُ بِ " ثُمَّ " فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ، لَمْ يُرِدْ بِهَا التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهَا قَدْ تَرِدُ لِغَيْرِ التَّرْتِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] . وَأَمَّا الْعِوَضُ، فَإِنَّمَا وَجَبَ عَنْ الْمُتْلَفِ بِالْإِعْتَاقِ، بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ بِقِيمَتِهِ حِينَ الْإِعْتَاقِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِ التَّرَاضِي فِيهِ، وَوُجُوبِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ وَكْسٍ وَلَا شَطَطٍ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَاهُ بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا فِيهِ عِتْقٌ، وَلَا لَهُمَا عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَوَلَاؤُهُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حُرًّا بِإِعْتَاقِهِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيمَةِ. وَلَوْ أَنَّ الْمُعْتِقَ الْأَوَّلَ لَمْ يُؤَدِّ الْقِيمَةَ حَتَّى أَفْلَسَ، عَتَقَ الْعَبْدُ، وَكَانَتْ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا، يُزَاحِمُ بِهَا الشَّرِيكَانِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ، لَا يَعْتِقُ مِنْهُ إلَّا مَا عَتَقَ. وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَقُ جَارِيَةً حَامِلًا، فَلَمْ تُؤَدَّ الْقِيمَةُ حَتَّى وَضَعَتْ حَمْلَهَا، فَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتِقِ إلَّا قِيمَتُهَا؛ حِينَ أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ حَرَّرَهَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ، يُقَوَّمُ وَلَدُهَا أَيْضًا. وَلَوْ تَلِفَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، مَاتَ حُرًّا، وَالْقِيمَةُ عَلَى الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ رِقَّهُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ، لَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتِقِ، مَا لَمْ يُقَوَّمْ، وَيُحْكَمْ بِقِيمَتِهِ، فَهُوَ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ عَبْدٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 [فَصْلٌ لِلشَّرِيكِ مُطَالَبَةُ الْمُعْتِقِ بِالْقِيمَةِ] (8580) فَصْلٌ: وَالْقِيمَةُ مُعْتَبَرَةٌ حِينَ اللَّفْظِ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ حِينُ الْإِتْلَافِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَلِلشَّرِيكِ مُطَالَبَةُ الْمُعْتِقِ بِالْقِيمَةِ، عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهَا، رُجِعَ إلَى قَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ مَاتَ، أَوْ غَابَ، أَوْ تَأَخَّرَ تَقْوِيمُهُ زَمَنًا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْقِيَمُ، وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهَا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي صِنَاعَةٍ فِي الْعَبْدِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ يُحْسِنُ الصِّنَاعَةَ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا فِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا صِدْقَهُ. وَإِنْ مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا فِيهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. وَالثَّانِي، الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ، وَعَدَمُ الْحُدُوثِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْبٍ يَنْقُصُ الْقِيمَةَ؛ كَسَرِقَةٍ، أَوْ إبَاقٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، فَبِالْجِهَةِ الَّتِي رَجَّحْنَا قَوْلَ الْمُعْتِقِ فِي نَفْيِ الصِّنَاعَةِ، نُرَجِّحُ قَوْلَ الشَّرِيكِ فِي نَفْيِ الْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِيهِ حَالَ الِاخْتِلَافِ، وَاخْتَلَفَا فِي حُدُوثِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَبَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَعَدَمُ حُدُوثِ الْعَيْبِ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِنْ الْعَيْبِ حِينَ الْإِعْتَاقِ. [فَصْلٌ الْمُعْتَبَرُ فِي يَسَارِ الْعِتْقِ] فَصْلٌ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَسَارِ فِي هَذَا، أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ، يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ الْكِسْوَةِ، وَالْمَسْكَنِ، وَسَائِرِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، يَدْفَعُهُ إلَى شَرِيكِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، فِي " التَّنْبِيهِ ". وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ مَا يَفِي بِالْقِيمَةِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قَدْرُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُبَاعُ فِيهِ دَارٌ، وَلَا رِبَاعٌ. وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ لَا يُبَاعَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُبَاعُ عَلَيْهِ سِوَارُ بَيْتِهِ، وَمَا لَهُ بَالٌ مِنْ كِسْوَتِهِ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ تَلَفُّظِهِ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْوُجُوبِ، فَإِنْ أَيْسَرَ الْمُعْسِرُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْرِ إعْتَاقُهُ، وَإِنْ أَعْسَرِ الْمُوسِرُ، لَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِإِعْسَارِهِ، كَدَيْنِ الْإِتْلَافِ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. [فَصْلٌ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ إذَا أَعْتَقْت نَصِيبَك فَنَصِيبِي حُرٌّ] (8582) فَصْلٌ: إذَا قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ: إذَا أَعْتَقْت نَصِيبَك، فَنَصِيبِي حُرٌّ مَعَ نَصِيبِك. فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ، عَتَقَا مَعًا، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمُعْتِقَ شَيْءٌ. وَقِيلَ: يَعْتِقُ كُلُّهُ عَلَى الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ نَصِيبِهِ شَرْطُ عِتْقِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي إعْتَاقِ نَصِيبِهِ مَعَ نَصِيبِهِ، فَأَعْتَقَهُمَا مَعًا. وَإِنْ قَالَ: إذَا أَعْتَقْت نَصِيبَك، فَنَصِيبِي حُرٌّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، سَرَى، وَعَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 وَقُوِّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقَعُ إعْتَاقُ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ، سَبَقَتْ، فَمَنَعَتْ عِتْقَ الشَّرِيكِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْتِقَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِتْقَ نَصِيبِهِ سَبَبٌ لِلسِّرَايَةِ، وَشَرْطٌ لِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، فَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ لِوُجُودِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ يُرَجَّحُ وُقُوعُ عِتْقِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ، وَالسِّرَايَةُ تَقَعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَكَانَ نُفُوذُ عِتْقِ الشَّرِيكِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ سِرَايَةَ الْعِتْقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِكَوْنِهَا إتْلَافًا لِمِلْكِ الْمَعْصُومِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَإِلْزَامًا لِلْمُعْتِقِ غَرَامَةً لَمْ يَلْتَزِمْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بِإِعْتَاقِ الْمَالِكِ، كَانَ أَوْلَى. وَإِنْ قَالَ: إذَا أَعْتَقْت نَصِيبَك، فَنَصِيبِي حُرٌّ قَبْلَ إعْتَاقِكَ نَصِيبَك. وَقَعَا مَعًا، إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ. وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي. وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنْ يَعْتِقَ كُلُّهُ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَلَا يَقَعَ إعْتَاقُ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ فِي زَمَنٍ مَاضٍ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، مِمَّنْ قَالَ بِسِرَايَةِ الْعِتْقِ، أَنْ لَا يَصِحَّ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عِتْقِهِ نَصِيبَهُ تَقَدُّمُ عِتْقِ الشَّرِيكِ وَسِرَايَتُهُ، فَيَمْتَنِعُ إعْتَاقُ نَصِيبِ هَذَا، وَيَمْتَنِعُ عِتْقُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ، فَيَمْتَنِعُ الْجَمِيعُ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُعْسِرُ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ] (8583) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَأَعْتَقَهُ الثَّانِي وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ، وَكَانَ ثُلُثُ وَلَائِهِ لِلْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ، وَثُلُثَاهُ لِلْمُعْتِقِ الثَّانِي) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ، اسْتَقَرَّ فِيهِ الْعِتْقُ، وَلَمْ يَسْرِ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، فَإِذَا أَعْتَقَ الثَّانِي نَصِيبَهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ؛ نَصِيبُهُ بِالْمُيَاسَرَةِ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ الثَّالِثِ بِالسِّرَايَةِ، وَصَارَ لَهُ ثُلُثَا وَلَائِهِ، وَلِلْأَوَّلِ ثُلُثُهُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُد، وَابْنِ جَرِيرٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَوْلِهِمَا فِيمَا مَضَى. وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدًا أُعْتِقَ نِصْفُهُ، فَكَانَ عُرْوَةُ يُشَاهِرُهُ؛ شَهْرَ عَبْدٍ، وَشَهْرَ حُرٍّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ حِصَّةِ الْبَاقِينَ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، فَيَعْتِقَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا اسْتَسْعَى الْعَبْدُ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةُ: فَإِذَا اسْتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، ثُمَّ أَيْسَرَ مُعْتَقُهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ أَلْجَأَهُ إلَى هَذَا، وَكَلَّفَهُ إيَّاهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: يَعْتِقُ جَمِيعُهُ، وَتَكُونُ قِيمَةُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْبَعْضِ سَرَى إلَى جَمِيعِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَيَلْزَمُ الْمُعْتِقَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ بِإِعْتَاقِهِ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِقَتْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْرِي الْعِتْقُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ إعْتَاقُ النَّصِيبِ الْبَاقِي، فَيُتَخَيَّرُ شَرِيكُهُ بَيْنَ إعْتَاقِ نَصِيبِهِ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَسْعِي الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ إلَيْهِ عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ إعْتَاقٌ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَالْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّ فِي الِاسْتِسْعَاءِ إضْرَارًا بِالشَّرِيكِ وَالْعَبْدِ؛ أَمَّا الشَّرِيكُ فَإِنَّا نُحِيلُهُ عَلَى سِعَايَةٍ لَعَلَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلًا، وَإِنْ حَصَلَ فَرُبَّمَا يَكُونُ يَسِيرًا مُتَفَرِّقًا، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ، وَأَمَّا الْعَبْدُ، فَإِنَّا نُجْبِرُهُ عَلَى سِعَايَةٍ لَمْ يُرِدْهَا، وَكَسْبٍ لَمْ يَخْتَرْهُ، وَهَذَا ضَرَرٌ فِي حَقِّهِمَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: أَلَيْسَ إنَّمَا أُلْزِمَ الْمُعْتِقُ ثَمَنَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَى شَرِيكِهِ ضَرَرٌ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالسَّعْيِ، وَإِعْطَائِهِ كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمَلُّكِهِ، فَأَيُّ ضَرَرٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، فَأَمَّا حَدِيثُ الِاسْتِسْعَاءِ، فَقَالَ الْأَثْرَمُ: ذَكَرَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، فَطَعَنَ فِيهِ، وَضَعَّفَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ فِي الِاسْتِسْعَاءِ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْوِيه ابْنُ أَبِي عُرْوَةَ. وَأَمَّا شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ. فَلَمْ يَذْكُرَاهُ. وَحَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ السِّعَايَةَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَمَّامٌ أَيْضًا لَا يَقُولُهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَضَعَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ سَعِيدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُ الِاسْتِسْعَاءِ. وَذَكَرَ هَمَّامٌ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ مِنْ فُتْيَا قَتَادَةَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُورُ عَلَى قَتَادَةَ، وَقَدْ اتَّفَقَ شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ، وَهَمَّامٌ، عَلَى تَرْكِ ذِكْرِهِ، وَهُمْ الْحُجَّةُ فِي قَتَادَةَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ فِيهِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ إذَا خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ صَاحِبَيْهِ الْأَخِيرُ، فَلَا شَيْءَ مَعَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ مِنْ حَدِيثٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ رَأْيٍ وَتَحَكُّمٍ يُخَالِفُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى وَجْهِهِ، وَكُلُّ قَوْلٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ، فَمَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (8584) فَصْلٌ: إذَا قُلْنَا بِالسِّعَايَةِ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَعْتِقَ كُلُّهُ، وَتَكُونَ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ دَيْنًا يُسْتَسْعَى فِي أَدَائِهَا، وَتَكُونَ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ الْأَحْرَارِ، فَإِنْ مَاتَ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ، كَانَ لِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ السِّعَايَةِ، وَبَاقِي مَالِهِ مَوْرُوثٌ، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى أَحَدٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَعْتِقَ حَتَّى يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ، فَيَكُونَ حُكْمُهُ قَبْلَ أَدَائِهَا حُكْمَ مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ إذَا مَاتَ، فَلِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ مِنْ مَالِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ لَهُ، عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ بِأَدَاءِ مَالٍ، فَلَمْ يَعْتِقْ قَبْلَ أَدَائِهِ، كَالْمُكَاتَبِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ السِّعَايَةَ بِإِعْتَاقِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ لَزِمَ الْعَبْدَ فِي مُقَابَلَةِ حُرِّيَّتِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، كَمَالِ الْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى السَّيِّدِ، لَكَانَ هُوَ السَّاعِيَ فِي الْعِوَضِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمُعْتِقُ الثَّانِي مُعْسِرًا] (8585) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ الثَّانِي مُعْسِرًا، عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ، وَكَانَ ثُلُثُهُ رَقِيقًا لِمَنْ لَمْ يُعْتِقْ، فَإِنْ مَاتَ وَفِي يَدِهِ مَالٌ كَانَ ثُلُثُهُ لِمَنْ لَمْ يُعْتِقْ، وَثُلُثَاهُ لِلْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ وَالْمُعْتِقِ الثَّانِي بِالْوَلَاءِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَحَقُّ مِنْهُمَا) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ لَا يُعْتِقُ إلَّا نَصِيبَهُ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُعْسِرَانِ، فَلَمْ يَعْتِقْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إلَّا نَصِيبُهُ، وَنَصِيبهُمَا الثُّلُثَانِ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ رَقِيقًا لِلثَّالِثِ، فَإِذَا خَلَّفَ الْعَبْدُ مَالًا، فَثُلُثُهُ لِلَّذِي لَمْ يُعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِثُلُثِهِ، وَثُلُثَاهُ مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُمَا بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ نَسِيبٌ، يَرِثُ مَالَهُ كُلَّهُ، أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ نَسِيبٌ فَهُوَ لِلْمُعْتِقَيْنِ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُو فَرْضٍ يَرِثُ الْبَعْضَ، أَخَذَ فَرْضَهُ مِنْهُ، وَبَاقِيه لِلْمُعْتِقَيْنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكُ ثُلُثِهِ قَاسَمَ الْعَبْدَ فِي حَيَاتِهِ كَسْبَهُ، وَلَمْ يُهَايِئْهُ، فَأَمَّا إنْ قَاسَمَهُ، أَوْ هَايَأَهُ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِالْجُزْءِ الْحُرِّ، فَتَكُونُ جَمِيعُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، دُونَ مَالِكِ ثُلُثِهِ، إذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْجُزْءِ الْحُرِّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقٌّ فِيمَا كَسَبَهُ بِهِ، وَلَا فِيمَا مَلَكَهُ بِهِ. [فَصْلٌ مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ سِعَايَتِهِ] (8586) فَصْلٌ: وَمَنْ قَالَ بِالسِّعَايَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَسْعِي حِينَ أَعْتَقَهُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا أَعْتَقَ الثَّانِي نَصِيبَهُ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ فِي حُرِّيَّتِهِ، هَلْ حَصَلَتْ بِإِعْتَاقِ الْأَوَّلِ أَوَّلًا؟ فَمَنْ جَعَلَهُ حُرًّا، لَمْ يُصَحِّحْ عِتْقَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ الْأَوَّلِ؛ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُرًّا، صَحَّحَ عِتْقَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ جُزْءًا مَمْلُوكًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ. وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ سِعَايَتِهِ فَقَدْ مَاتَ وَثُلُثُهُ رَقِيقٌ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْمِيرَاثِ كَحُكْمِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 [فَصْل نَفَقَة الْعَبْد الْمُشْتَرَك الْمُعْتَق بَعْضه فِي حَيَاتِهِ وَفِطْرَتَهُ وَأَكْسَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ] (8587) فَصْلٌ: وَإِذَا حَكَمْنَا بِعِتْقِ بَعْضِهِ، وَرِقِّ بَاقِيه، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَفِطْرَتَهُ، وَأَكْسَابَهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ بَيْنَهُمَا، كَانَتْ نَفَقَةُ الْعَبْدِ وَكَسْبُهُ فِي أَيَّامِهِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَفِي أَيَّامِ سَيِّدِهِ يَكُونُ كَسْبُهُ لِسَيِّدِهِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْأَكْسَابُ النَّادِرَةُ؛ كَاللُّقَطَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَكْسَابِهِ فَأَشْبَهَتْ الْمُعْتَادَةَ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ مُعَاوَضَةٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَاوَضَ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ كَسْبِهِ فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ بِنَصِيبِ سَيِّدِهِ فِي يَوْمِهِ، فَلَا تَتَنَاوَلُ الْمُعَاوَضَةُ الْمَجْهُولَ، وَمَا لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُجُودُهُ. فَأَمَّا الْمِيرَاثُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِثُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، وَيَمْلِكُ هَذَا الْعَبْدُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَيَرِثُ وَيُورِثُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ جَائِزُ التَّصَرُّفِ] (8588) فَصْلٌ: وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ جَائِزُ التَّصَرُّفِ، صَحَّ عِتْقُهُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ، عَتَقَ كُلُّهُ. فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ بِالْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، قَالُوا: يَعْتِقُ كُلُّهُ إذَا أُعْتِقَ نِصْفُهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: يَعْتِقُ فِي عِتْقِهِ، وَيَرِقُّ فِي رِقِّهِ. وَقَالَ حَمَّادٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ مِنْهُ مَا أُعْتِقَ، وَيَسْعَى فِي بَاقِيه. وَخَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ سِعَايَةً. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ، ثُمَّ غَفَلَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ: أَرَى نِصْفَهُ حُرًّا، وَنِصْفَهُ رَقِيقًا، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي بَعْضِهِ، فَلَمْ يَسْرِ إلَى بَاقِيه، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ مَعَهُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعَبْدِ» . وَإِذَا أُعْتِقَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى عِتْقِ جَمِيعِهِ إذَا كَانَ كُلُّهُ مِلْكًا لَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ» . وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ لِبَعْضِ مَمْلُوكِهِ الْآدَمِيِّ، فَزَالَ عَنْ جَمِيعِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى السِّعَايَةِ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَ جُزْءًا كَبِيرًا، كَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ، أَوْ صَغِيرًا، كَعُشْرِهِ وَعُشْرِ عُشْرِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِسِرَايَةِ الْعِتْقِ إذَا كَانَ مُشَاعًا. وَإِنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مُعَيَّنًا، كَرَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ أَوْ أُصْبُعِهِ، عَتَقَ كُلُّهُ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ أَعْتَقَ رَأْسَهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 أَوْ ظَهْرَهُ، أَوْ بَطْنَهُ، أَوْ جَسَدَهُ، أَوْ نَفْسَهُ، أَوْ فَرْجَهُ، عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ لَا تَبْقَى بِدُونِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَعْتَقَ يَدَهُ، أَوْ عُضْوًا تَبْقَى حَيَاتُهُ بِدُونِهِ، لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَةُ ذَلِكَ مَعَ بَقَائِهِ، فَلَمْ يَعْتِقْ بِإِعْتَاقِهِ، كَشَعْرِهِ، أَوْ سِنِّهِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، فَيَعْتِقُ جَمِيعُهُ، كَرَأْسِهِ، فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ شَعَرَهُ، أَوْ سِنَّهُ، أَوْ ظُفُرَهُ، لَمْ يَعْتِقْ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَاللَّيْثُ، فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ ظُفُرَ عَبْدِهِ: يَعْتِقُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ أَشْبَهَ أُصْبُعَهُ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَزُولُ، وَيَخْرُجُ غَيْرُهَا، فَأَشْبَهَتْ الشَّعْرَ، وَالرِّيقَ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، وَمَا ذَكَرَ فِي الطَّلَاقِ فَالْعَتَاقُ مِثْلُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ حَقَّهُ مِنْهُ] (8589) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ حَقَّهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَصِيرَ حُرًّا، أَوْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَيَصِيرَ نِصْفُهُ حُرًّا) أَمَّا إذَا كَانَ الشَّرِيكَانِ مُعْسِرَيْنِ، فَلَيْسَ فِي دَعْوَى أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ إعْتَاقُ نَصِيبِهِ اعْتِرَافٌ بِحُرِّيَّةِ نَصِيبِهِ، وَلَا ادِّعَاءَ لِاسْتِحْقَاقِ قِيمَتِهِ عَلَى الْمُعْتِقِ؛ لِكَوْنِ عِتْقِ الْمُعْسِرِ يَقِفُ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي دَعْوَاهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فَلَا أَثَرَ لِكَلَامِهِمَا فِي الْحَالِ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضَرَرًا، وَقَدْ حَصَلَ لِلْعَبْدِ بِحُرِّيَّةِ كُلِّ نِصْفٍ مِنْهُ شَاهِدُ عَدْلٍ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُمَا، عَتَقَ كُلُّهُ، وَإِنْ حَلَفَ مَعَ أَحَدِهِمَا صَارَ نِصْفُهُ حُرًّا. عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ بِشَاهِدٍ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَدْلًا دُونَ الْآخَرِ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَهَادَةِ الْعَدْلِ، وَيَصِيرَ نِصْفُهُ حُرًّا، وَيَبْقَى نِصْفُهُ الْآخَرُ رَقِيقًا. (8590) فَصْلٌ: وَمَنْ قَالَ بِالِاسْتِسْعَاءِ، فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ نَصِيبَهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ كُلُّهُ، وَيُسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِاعْتِرَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ] (8591) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسِرْ إلَى النِّصْفِ الَّذِي كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ حَصَلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 بِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي إعْتَاقَهُ، بَلْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْمُعْتِقَ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَلِّصٌ لَهُ مِمَّنْ يَسْتَرِقُّهُ ظُلْمًا، فَهُوَ كَمُخَلِّصِ الْأَسِيرِ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَسْرِي؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ حَصَلَ بِهِ الْإِعْتَاقُ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ بَعْضِ وَلَدِهِ. وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، لِيَسْتَرِقَّ مَا اشْتَرَاهُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِهِ، ثُمَّ أَكْذَبِ نَفْسَهُ. وَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ إنْ أَعْتَقَهُ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ وَلَاءً، وَلَا يَدَّعِيه أَحَدٌ سِوَاهُ، وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ فِيهِ، وَإِنْ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ حُرًّا لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَعْتَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي شَهَادَتِهِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَصَدَّقَ الْآخَرَ فِي شَهَادَتِهِ بَطَلَ الْبَيْعَانِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَلَاءُ عَلَى نِصْفِهِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَدِّقُ الْآخَرَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَثْبُتَ الْوَلَاءُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نَفْسَهُ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَلَاءَ عَلَيْهِ ثَابِتٌ لَهُمَا وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَأَنَّهُ بَيْنَهُمَا إمَّا بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ لَهُمَا وَإِمَّا بِالثَّانِي لِأَنَّهُمَا إنْ كَانَا صَادِقَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمَا فَقَدْ ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النِّصْفِ الَّذِي أَعْتَقَهُ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَا كَاذِبِينَ فَقَدْ أَعْتَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَادِقًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا فَلَا وَلَاءَ لِلصَّادِقِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوَّلًا وَلَا يَصِحُّ عِتْقُهُ فِي الَّذِي اشْتَرَاهُ، لِأَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ شِرَائِهِ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْكَاذِبِ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ لَهُ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الَّذِي لِشَرِيكِهِ فَأَعْتَقَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي صَاحِبَهُ فِي الِاحْتِمَالِ فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ شَهِدَ عَلَى سَيِّد عَبْد بِعِتْقِ عَبْده ثُمَّ اشْتَرَاهُ] (8592) فَصْلٌ وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ عَلَى سَيِّدِ عَبْدٍ بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا ثُمَّ اشْتَرَيَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا عَتَقَ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي وَلَاءٌ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه وَلَا لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ عِتْقَهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ حَقَّهُ مِنْهُ وَكَانَا مُوسِرَيْنِ فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا أَوْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ عَدْلَيْنِ فَحَلَفَ الْعَبْدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَعَتَقَ، أَوْ شَهِدَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلٌ آخَرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ أَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ فَأَنْكَرَ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِعِتْقِهِ عَتَقَ، وَلَا وَلَاءَ عَلَى الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدَّعِيه، وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقٌّ يُنْكِرُهُ، فَإِنْ عَادَ مَنْ ثَبَتَ إعْتَاقُهُ فَاعْتَرَفَ بِهِ ثَبَتَ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 الْوَلَاءُ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ لِإِنْكَارِهِ لَهُ، فَإِذَا اعْتَرَفَ زَالَ الْإِنْكَارُ وَثَبَتَ لَهُ، وَأَمَّا الْمُوسِرَانِ إذَا أَعْتَقَ عَلَيْهِمَا فَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي أَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَحْدَهُ أَوْ أَنَّهُ سَبَقَ بِالْعِتْقِ فَالْوَلَاءُ لَهُ وَعَلَيْهِ غَرَامَةُ نَصِيبِ الْآخَرِ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُعْتِقُ وَحْدَهُ أَوْ أَنَّهُ السَّابِقُ بِالْعِتْقِ تَحَالَفَا وَكَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الشَّرِيكَيْنِ الْمُوسِرَيْنِ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ] (8593) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكَانِ مُوسِرَيْنِ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا بِاعْتِرَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُرِّيَّتِهِ وَصَارَ مُدَّعِيًا عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَيَمِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ الْمُوسِرَيْنِ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَرِفٌ بِحُرِّيَّةِ نَصِيبِهِ شَاهِدٌ عَلَى شَرِيكِهِ بِحُرِّيَّةِ نِصْفِهِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَقُولُ لِشَرِيكِهِ أَعْتَقَتْ نَصِيبَك فَسَرَى الْعِتْقُ إلَى نَصِيبِي فَعَتَقَ كُلُّهُ عَلَيْك وَلَزِمَك لِي قِيمَةُ نَصِيبِي، فَصَارَ الْعَبْدُ حُرًّا لِاعْتِرَافِهِمَا بِحُرِّيَّتِهِ وَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي قِيمَةَ حِصَّتِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَبَرِئَا، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا تَسَاقَطَ حَقَّاهُمَا لِتَمَاثُلِهِمَا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ الْعَدْلَيْنِ وَالْفَاسِقَيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ وَالْكَافِرَيْنِ لِتَسَاوِي الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الِاعْتِرَافِ وَالدَّعْوَى بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا (8594) فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُ الْمُعْسِرِ وَحْدَهُ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ نَصِيبَهُ قَدْ صَارَ حُرًّا بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ الْمُوسِرِ الَّذِي يَسْرِي عِتْقُهُ، وَلَمْ يَعْتِقْ نَصِيبُ الْمُوسِرِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ الْمُعْسِرَ الَّذِي لَا يَسْرِي عِتْقُهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ خَاصَّةً فَعَتَقَ وَحْدَهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْسِرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا لِكَوْنِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ لِلْعَبْدِ بَيِّنَةٌ سِوَاهُ حَلَفَ الْمُوسِرُ وَبَرِئَ مِنْ الْقِيمَةِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا، وَلَا وَلَاءَ لِلْمُعْسِرِ فِي نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه وَلَا لِلْمُوسِرِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ عَادَ الْمُعْسِرُ فَأَعْتَقَهُ وَادَّعَاهُ ثَبَتَ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُوسِرُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ وَصَدَّقَ الْمُعْسِرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ أَيْضًا وَعَلَيْهِ غَرَامَةُ نَصِيبِ الْمُعْسِرِ وَثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ بَيِّنَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ تَشْهَدُ بِإِعْتَاقِ الْمُوسِرِ وَكَانَتْ عَدْلَيْنِ ثَبَتَ الْعِتْقُ وَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ لِلْمُعْسِرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَجُلًا وَاحِدًا حَلَفَ الْعَبْدُ مَعَهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأُخْرَى لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ، وَلِلْمُعْسِرِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَيَسْتَحِقَّ قِيمَةَ نَصِيبِهِ سَوَاءٌ حَلَفَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيه مَالٌ يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 [فَصْل ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُوسِرًا] فَصْلٌ وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُوسِرًا عَتَقَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي وَحْدَهُ لِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ بِسِرَايَةِ عِتْقِ شَرِيكِهِ وَصَارَ مُدَّعِيًا نِصْفَ الْقِيمَةِ عَلَى شَرِيكِهِ وَلَا يَسْرِي لِأَنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّهُ الْمُعْتِقُ لَهُ. وَإِنَّمَا أَعْتَقَ بِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ لَا بِإِعْتَاقِهِ لَهُ وَلَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ لَهُ. قَالَ الْقَاضِي وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَدْلًا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نِصْفَ قِيمَتِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا، وَمَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ يَجُرُّ إلَيْهِ بِهَا نَفْعًا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ كُلُّهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعْسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَدْلًا حَلَفَ الْعَبْدُ مَعَ شَهَادَتِهِ وَصَارَ نِصْفُهُ حُرًّا. وَقَالَ حَمَّادٌ إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُوسِرًا سَعَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى لَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَوَلَاءُ نِصْفِهِ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ أَعْتَقَ اسْتَحَقَّ الْوَلَاءَ وَإِلَّا كَانَ الْوَلَاءُ لِبَيْتِ الْمَالِ. [فَصْل قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنَصِيبِي حُرٌّ وَقَالَ الْآخَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَنَصِيبِي حُرٌّ وَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا] (8596) فَصْلٌ إذَا قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنَصِيبِي حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَنَصِيبِي حُرٌّ، وَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُ الْمُعْسِرِ وَحْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ لَمْ يَعْتِقْ نَصِيبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْحِنْثُ فِيهِ، فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ نِصْفُهُ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا حُرِّيَّةَ نِصْفِهِ وَلَمْ يَسْرِ إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدَ أَجْنَبِيٌّ عَتَقَ نِصْفُهُ لِأَنَّ نِصْفَهُ حُرٌّ يَقِينًا فَلَمْ يَمْلِكْ جَمِيعَهُ. [مَسْأَلَة خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدَيْنِ لَا يَمْلِك غَيْرهمَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْقِيمَة فَقَالَ أَحَدِ الِابْنَيْنِ أَبِي أَعْتَقَ هَذَا وَقَالَ الْآخِر أَبِي أَعْتَقَ أَحَدِهِمَا لَا أَدْرِي مَنْ مِنْهُمَا] (8597) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدَيْنِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْقِيمَةِ فَقَالَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ أَبِي أَعْتَقَ هَذَا وَقَالَ الْآخِرُ أَبِي أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا لَا أَدْرِي مَنْ مِنْهُمَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الَّذِي اعْتَرَفَ الِابْنُ بِعِتْقِهِ عَتَقَ ثُلُثَاهُ إنْ لَمْ يُجِزْ الِابْنَانِ عِتْقَهُ كَامِلًا وَكَانَ الْآخَرُ عَبْدًا، وَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْآخَرِ عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثُهُ وَكَانَ لِمَنْ قَرَعْنَا بِقَوْلِهِ فِيهِ سُدُسُهُ وَنِصْفُ الْعَبْدِ الْآخَرِ وَلِأَخِيهِ نِصْفُهُ وَسُدُسُ الْعَبْدِ الَّذِي اعْتَرَفَ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ حُرًّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ لَعَتَقَ كُلُّهُ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَأَمَّا إذَا اعْتَرَفَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي مَرَضِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، إمَّا أَنْ يُعَيِّنَا الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا فَيَعْتِقَ مِنْهُ ثُلُثَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ مَالِهِ إلَّا أَنْ يُجِيزَا عِتْقَ جَمِيعِهِ فَيَعْتِقَ وَالثَّانِي أَنْ يُعَيِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعِتْقَ فِي وَاحِدٍ غَيْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخُوهُ فَيَعْتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ نِصْفُ الْعَبْدَيْنِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عِتْقِ حَقِّهِ مِنْ الَّذِي عَيَّنَهُ وَهُوَ ثُلُثَا النِّصْفِ الَّذِي لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الثُّلُثُ، وَلِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِحُرِّيَّةِ ثُلُثَيْهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّهِ مِنْهُمَا وَهُوَ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى الرِّقُّ فِي ثُلُثِهِ، فَلَهُ نِصْفُهُ وَهُوَ السُّدُسُ وَنِصْفُ الْعَبْدِ الَّذِي يُنْكِرُ عِتْقَهُ وَالْحَالُ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا أَبِي أَعْتَقَ هَذَا، يَقُولُ الْآخَرُ أَبِي أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا لَا أَدْرِي مَنْ مِنْهُمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَتَقُمْ الْقُرْعَةُ مَقَامَ تَعْيِينِ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الَّذِي عَيَّنَهُ أَخُوهُ عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثَاهُ كَمَا لَوْ عَيَّنَاهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْآخَرِ كَانَ كَمَا لَوْ عَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسُ الْعَبْدِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَنِصْفُ الْعَبْدِ الَّذِي يُنْكِرُ عِتْقَهُ فَيَصِيرُ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ حُرًّا، وَالْحَالُ الرَّابِعُ أَنْ يَقُولَا أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا وَلَا نَدْرِي مَنْ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَقْرَعُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثَاهُ إنْ لَمْ يُجِيزَا عِتْقَ جَمِيعِهِ وَكَانَ الْآخَرُ رَقِيقًا. (8598) فَصْلٌ فَإِنْ رَجَعَ الِابْنُ الَّذِي جَهِلَ عَيْنَ الْمُعْتَقِ فَقَالَ قَدْ عَرَفْته قَبْلَ الْقُرْعَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُرْعَةِ فَوَافَقَهَا تَعْيِينُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمِ، وَإِنْ خَالَفَهَا عَتَقَ مِنْ الَّذِي عَيَّنَهُ ثُلُثُهُ بِتَعْيِينِهِ، فَإِنْ عَيَّنَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخُوهُ عَتَقَ ثُلُثَاهُ، وَإِنْ عَيَّنَ الَّذِي عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثُهُ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِي الَّذِي عَتَقَ بِالْقُرْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة الْعَبْد إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَة فَأَعْتَقَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِ وَهُمْ مُوسِرُونَ] (8599) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نِصْفُ عَبْدٍ وَلِآخَرَ ثُلُثُهُ وَلِآخَرَ سُدُسُهُ فَأَعْتَقَ صَاحِبُ النِّصْفِ وَصَاحِبُ السُّدُسِ مَعًا وَهُمَا مُوسِرَانِ عَتَقَ عَلَيْهِمَا وَضَمِنَا حَقَّ شَرِيكِهِمَا فِيهِ نِصْفَيْنِ وَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثُلُثَاهُ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ ثُلُثُهُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَأَعْتَقَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَهُمْ مُوسِرُونَ سَرَى عِتْقُهُمْ إلَى بَاقِي الْعَبْدِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ يَتَسَاوُونَ فِي ضَمَانِهِ وَوَلَائِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لِأَنَّ السِّرَايَةَ حَصَلَتْ بِإِعْتَاقِ مِلْكَيْهِمَا، وَمَا وَجَبَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ كَانَ عَلَى قَدْرِهِ كَالنَّفَقَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَلَنَا أَنَّ عِتْقَ النَّصِيبِ إتْلَافٌ لِرِقِّ الْبَاقِي وَقَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي الضَّمَانِ كَمَا لَوْ جُرِحَ أَحَدُهُمَا جُرْحًا وَالْآخَرُ جُرْحَيْنِ فَمَاتَ مِنْهُمَا أَوْ أَلْقَى أَحَدُهُمَا جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ فِي مَائِعٍ وَأَلْقَى الْآخَرُ جُزْأَيْنِ، يُفَارِقُ الشُّفْعَةَ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 وَلِأَنَّ الضَّمَانَ هَاهُنَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ مِنْهُمَا وَفِي الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا وَالضَّرَرُ مِنْهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي إدْخَالِهِ عَلَى الشَّرِيكِ وَفِي الشُّفْعَةِ ضَرَرُ صَاحِبِ النِّصْفِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ صَاحِبِ السُّدُسِ فَاخْتَلَفَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّنَا إذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ الثُّلُثَ مُعْتَقٌ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَنِصْفُ الثُّلُثِ سُدُسٌ إذَا ضَمَمْنَاهُ إلَى النِّصْفِ الَّذِي لِأَحَدِهِمَا صَارَ ثُلُثَيْنِ، وَإِذَا ضَمَمْنَا السُّدُسَ الْآخَرَ إلَى سُدُسِ الْمُعْتَقِ صَارَ ثُلُثًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَصِيرُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ رُبْعُهُ، وَالضَّمَانُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَعْتَقَاهُ مَعًا فَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْعِتْقِ بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِأَنْ يَتَلَفَّظَا بِهِ مَعًا أَوْ يُوَكِّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُعْتِقَهُمَا مَعًا أَوْ يُوَكِّلَ وَكِيلَهُ فَيُعْتِقَهُمَا أَوْ يُعَلِّقَا عِتْقَهُ عَلَى شَرْطٍ فَيُوجَدُ، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكَيْهِ جَمِيعًا وَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لَهُ كُلُّهُ، وَقَوْلُهُ وَهُمَا مُوسِرَانِ شَرْطٌ آخَرُ، فَإِنَّ سِرَايَةَ الْعِتْقِ يُشْتَرَطُ لَهَا الْيَسَارُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَحْدَهُ قُوِّمَ عَلَيْهِ جَمِيعُ نَصِيبِ مَنْ لَمْ يُعْتِقْ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ لَا يَسْرِي عِتْقُهُ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُوسِرِ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجِدْ بَعْضَ مَا يَخُصُّهُ قُوِّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَبَاقِيه عَلَى الْآخَرِ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَ صَاحِبُ السُّدُسِ قِيمَةَ نِصْفِ السُّدُسِ فَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَيُقَوَّمُ الرُّبْعُ عَلَى صَاحِبِ النِّصْفِ وَيَصِحُّ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا لِصَاحِبِ السُّدُسِ رُبْعُهُ وَبَاقِيه لِمُعْتِقِ النِّصْفِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا قُوِّمَ الْجَمِيعُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ مُوسِرًا بِبَعْضِهِ قُوِّمَ الْبَاقِي عَلَى صَاحِبِ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مُوسِرٌ. [مَسْأَلَة كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَصَابَهَا أَحَدُهُمَا وَأُحَبِّلهَا] (8600) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَصَابَهَا أَحَدُهُمَا وَأَحْبَلَهَا أُدِّبَ وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْحَدُّ، وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدِ لَهُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ مِنْهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَهِيَ عَلَى مِلْكَيْهِمَا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ مِلْكَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَمْ يَحِلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُوجِبُونَ فِيهِ حَدًّا لِأَنَّ لَهُ فِيهَا مِلْكًا فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ، وَأُوجِبْهُ أَبُو ثَوْرٍ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ لِأَجْلِ كَوْنِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِلْكٌ وَلَنَا أَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مِلْكَهُ فَلَمْ يُوجَبْ بِهِ حَدٌّ كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ، وَيُفَارِقُ مَا لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 فَإِنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا، وَلِهَذَا لَوْ سَرَقَ عَيْنًا لَهُ نِصْفُهَا لَمْ يُقْطَعْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ قُطِعَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حُجَّةِ أَبِي ثَوْرٍ، مَنْ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ إمَّا أَنْ لَا تَحْمِلَ مِنْهُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِمَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِأَنَّهُ وَطْءٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُطَاوِعَةَ أَوْ مُكْرَهَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ وَطْءَ جَارِيَةِ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْمَهْرَ وَإِنَّ طَاوَعَتْ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِسَيِّدِهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَمَا لَوْ أُدِّبَتْ فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْمَهْرِ بِقَدْرِ مِلْكِ الشَّرِيكِ فِيهَا. الْحَالُ الثَّانِي أَنْ يُحْبِلَهَا وَتَضَعَ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ بَعْضُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ كَمَا لَوْ كَانَتْ خَالِصَةً لَهُ وَتَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ مِلْكِ الشَّرِيكِ كَمَا تَخْرُجُ بِالْإِعْتَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاطِئُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْإِيلَادَ أَقْوَى مِنْ الْإِعْتَاقِ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصْفَهَا مِنْ مِلْكِ الشَّرِيكِ فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْإِتْلَافِ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَدَّاهُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا وَالْوَلَدُ حُرٌّ يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِوَالِدِهِ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فِي مَحَلٍّ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا بَلْ يَصِحُّ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ وَنِصْفُهَا قِنًّا بَاقِيًا فِي مِلْكِ الشَّرِيكِ لِأَنَّ الْإِحْبَالَ كَالْعِتْقِ وَيَجْرِي مَجْرَاهُ فِي التَّقْوِيمِ وَالسِّرَايَةِ، فَأَعْتَقَتْ فِي سِرَايَتِهِ الْيَسَارَ كَالْعِتْقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ أَيْضًا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَعَلَى هَذَا إذَا وَلَدَتْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا لِاسْتِحَالَةِ انْعِقَادِ الْوَلَدِ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ رَقِيقًا لِأَنَّ نِصْفَ أُمِّهِ أُمُّ وَلَدٍ وَنِصْفُهَا قِنٌّ لِغَيْرِ الْوَاطِئِ فَكَانَ نِصْفُ الْوَلَدِ حُرًّا وَنِصْفُهُ رَقِيقًا كَوَلَدِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِلَّ انْعِقَادَ الْوَلَدِ مِنْ حُرِّ وَقِنٍّ، وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ بَعْضَهَا أُمُّ وَلَدٍ فَكَانَ جَمِيعُهَا أُمَّ وَلَدٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَاطِئُ مُوسِرًا، وَيُفَارِقُ الْعَتَاقَ فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ أَقْوَى وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ الْمَرِيضِ وَمِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَالْإِعْتَاقُ بِخِلَافِهِ. (8601) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَمَهْرُ الْأَمَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمَا، لِأَنَّ الْأَمَةَ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُ مَمْلُوكَتِهِ، وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ خُلِقَ حُرًّا، فَلَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ وَلَدُهُ الْحُرُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، يَلْزَمُهُ لِشَرِيكِهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَنِصْفُ قِيمَةِ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ بِالْوَطْءِ الْمُوجِبِ لِلْمَهْرِ، فَيَكُونُ الْوَطْءُ سَبَبَ الْمِلْكِ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ سَبَبِهِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَقَدُّمُ الْوَطْءِ عَلَى مِلْكِهِ، فَيَكُونُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَيُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ وَفِعْلُهُ ذَلِكَ مَنَعَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ وَضَعَتْ الْوَلَدَ بَعْدَ التَّقْوِيمِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهَا وَضَعَتْهُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ حَالَةَ الْوَضْعِ، وَلَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا، وَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ التَّقْوِيمِ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَةُ نِصْفِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، وَاخْتَارَ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ. (8602) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمَةِ مِلْكٌ كَثِيرٌ أَوْ يَسِيرٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، فِيمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ، أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إذَا أَحْبَلَهَا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا لَهُ فِيهَا سَهْمٌ يَسِيرٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ. [مَسْأَلَة مَلَكَ سَهْمًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ مُوسِرٌ] (8603) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِنْ مَلَكَ سَهْمًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ، وَكَانَ لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ قِيمَةُ حَقِّهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ إلَّا مِقْدَارُ مَا مَلَكَ، وَإِنْ مَلَكَ بَعْضَهُ بِالْمِيرَاثِ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ إلَّا مِقْدَارُ مَا مَلَكَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى ضَمْرَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ» . وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ضَمْرَةَ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، إلَّا أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا أَصْلٌ؛ أَحَدُهُمَا، هَذَا الْحَدِيثُ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا وَمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَأَمَّا إنْ مَلَكَ سَهْمًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَمْلِكَ سَهْمًا مِنْ وَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ مَا مَلَكَ مِنْهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 سَوَاءٌ مَلَكَهُ بِعِوَضٍ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ وَالِاغْتِنَامِ وَالْوَصِيَّةِ، وَسَوَاءٌ، مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ، أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْتِقُ بِهِ الْكُلُّ يَعْتِقُ بِهِ الْبَعْضُ، كَالْإِعْتَاقِ بِالْقَوْلِ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ، وَاسْتَقَرَّ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَرَقَّ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ، لَمْ يَسْرِ إعْتَاقُهُ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِالْعِتْقِ وَقَصْدِهِ إيَّاهُ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ الْمِلْكُ بِاخْتِيَارِهِ، كَالْمِلْكِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ، سَرَى إلَى بَاقِيه، فَيَعْتِقُ جَمِيعُ الْعَبْدِ، وَلَزِمَهُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةُ بَاقِيه لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إلَّا مَا مَلَكَ، سَوَاءٌ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَعْتِقْهُ، وَإِنَّمَا عَتَقَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَلَمْ يَسْرِ، كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْمِيرَاثِ، وَفَارَقَ مَا أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، قَاصِدًا إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّهُ فَعَلَ سَبَبَ الْعِتْقِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَقَصْدًا إلَيْهِ، فَسَرَى، وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَفَارَقَ الْمِيرَاثَ، فَإِنَّهُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، وَلَا فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ سَبَبَ السِّرَايَةِ اخْتِيَارًا، لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا، فَسَرَى جُرْحُهُ، وَلِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ لِمَا يَسْرِي، وَتَسَبُّبَهُ إلَيْهِ فِي لُزُومِ حُكْمِ السِّرَايَةِ وَاحِدٌ، بِدَلِيلِ اسْتِوَاءِ الْحَافِزِ وَالدَّافِعِ فِي ضَمَانِ الْوَاقِعِ. فَأَمَّا إنْ مَلَكَهُ بِالْمِيرَاثِ، لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ فِيهِ، وَاسْتَقَرَّ فِيمَا مَلَكَهُ، وَرَقَّ الْبَاقِي، سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَبَّبْ إلَى إعْتَاقِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، إذَا كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَسَرَى إلَى بَاقِيه، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ فَقَبِلَهُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ، وَلَا تَسَبَّبَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ، وَلَمْ يَسْرِ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَفَارَقَ مَا تَسَبَّبَ إلَيْهِ. [فَصْلٌ وَرِثَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ جُزْءًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِمَا] (8604) فَصْلٌ: وَإِنْ وَرِثَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ جُزْءًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِمَا عَتَقَ، وَلَمْ يَسْرِ إلَى بَاقِيه؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْرِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، فَفِي حَقِّهِمَا أَوْلَى. وَإِنْ وُهِبَ لَهُمَا، أَوْ وُصِّيَ لَهُمَا بِهِ، وَهُمَا مُعْسِرَانِ، فَعَلَى وَلِيِّهِمَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ لَهُمَا، بِإِعْتَاقِ قَرِيبِهِمَا، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَلْحَقُ بِهِمَا. وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُقَوَّمُ عَلَيْهِمَا بَاقِيه إذَا مَلَكَا بَعْضَهُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُقَوَّمُ، وَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَرِثَهُ. وَالثَّانِي، يُقَوَّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ وَلِيِّهِ يَقُومُ مَقَامَ قَبُولِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَيْسَ لِوَلِيِّهِ؛ قَبُولُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ، يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ. فَقَبِلَهُ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّرْعُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ مَالَهُ بِغَبْنٍ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ، وَتَكُونَ الْغَرَامَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ هَذِهِ الْغَرَامَةَ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ، كَنَفَقَةِ الْحَجِّ إذَا حَجَّهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 [فَصْلٌ بَاعَ عَبْدًا لِذِي رَحِمِهِ وَأَجْنَبِيٍّ صَفْقَةً وَاحِدَةً] (8605) فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ عَبْدًا لِذِي رَحِمِهِ وَأَجْنَبِيٍّ صَفْقَةً وَاحِدَةً، عَتَقَ كُلُّهُ، إذَا كَانَ ذُو الرَّحِمِ مُعْسِرًا، وَضَمِنَ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ حَقِّهِ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ، شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَتِمَّ إلَّا بِقَبُولِ شَرِيكِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي إعْتَاقِ نَصِيبِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ بِمِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِيه مَعَ يَسَارِهِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِشِرَائِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَبُولُهُ إلَّا بِقَبُولِ شَرِيكِهِ. [فَصْل كَانَتْ أَمَةً مُزَوِّجَة وَلَهَا ابْنٌ مُوسِرٌ فَاشْتَرَاهَا هُوَ وَزَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً] (8606) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ أَمَةٌ مُزَوَّجَةٌ، وَلَهَا ابْنٌ مُوسِرٌ، فَاشْتَرَاهَا هُوَ وَزَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، صَفْقَةً وَاحِدَةً، عَتَقَ نَصِيبُ الِابْنِ مِنْ أُمِّهِ، وَسَرَى إلَى نَصِيبِ الزَّوْجِ، وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَعَتَقَ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ ابْنُ الزَّوْجِ وَأَخُو الِابْنِ، وَلَا يَجِبُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَوُهِبَتْ لَهُمَا، أَوْ أُوصِي لَهُمَا بِهَا، فَقَبِلَاهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قَبِلَهَا أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ قَبِلَ الِابْنُ أَوَّلًا، عَتَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ وَحَمْلُهَا؛ حِصَّتُهُ مِنْ الْأُمِّ بِالْمِلْكِ، وَتَبِعَهَا حِصَّتُهُ مِنْ الْحَمْلِ، وَسَرَى الْعِتْقُ إلَى الْبَاقِي مِنْ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِمَا لِلزَّوْجِ. وَإِنْ قَبِلَ الزَّوْجُ أَوَّلًا، عَتَقَ عَلَيْهِ الْحَمْلُ كُلُّهُ؛ نَصِيبُهُ بِالْمِلْكِ، وَبَاقِيه بِالسِّرَايَةِ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إذَا قَبِلَ الِابْنُ، عَتَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ كُلُّهَا، وَيَتَقَاصَّانِ، وَيَرُدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَضْلَ عَلَى صَاحِبِهِ. وَمَنْ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: إنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ فِيهَا بِالْمَوْتِ. فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَبِلَاهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً. [فَصْل كَانَ لِرَجُلٍ نِصْفُ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي صِحَّتِهِ] (8607) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نِصْفُ عَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا، فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي صِحَّتِهِ، عَتَقَ، وَسَرَى إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ، فَإِنْ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ، مِنْ الْعَبْدِ الْآخِرِ، عَتَقَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ عِتْقِهِ، وَلَمْ يَسْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْأَوَّلَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، لَمْ يَسْرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ، وَثُلُثُ مَالِهِ هُوَ الثُّلُثُ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَإِذَا أَعْتَقَ الثَّانِيَ، وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْأَوَّلَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَعْتَقَ الثَّانِيَ، فِي مَرَضِهِ، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ عِتْقِهِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 [فَصْل شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَسَرَى إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَغَرِمَ لَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ] (8608) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَسَرَى إلَى نَصِيبِ، الشَّرِيكِ، وَغَرِمَ لَهُ قِيمَةُ نَصِيبِهِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ غَرِمَا قِيمَةَ الْعَبْدِ جَمِيعِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَلْزَمُهُمَا غَرَامَةُ نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا إلَّا بِعِتْقِ نَصِيبِهِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُمَا غَرَامَهُ مَا سِوَاهُ. وَلَنَا أَنَّهُمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَقِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَلَزِمَهُمَا ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ فَوَّتَاهُ بِفِعْلِهِمَا، وَكَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِجُرْحٍ، ثُمَّ سَرَى الْجُرْحُ، وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ، فَضَمِنَ الدِّيَةَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا. [فَصْل شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى مَيِّتٍ بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ بِعِتْقِ آخَرَ ثُمَّ رَجَعَ الْأَوَّلَانِ عَنْ الشَّهَادَةِ] فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى مَيِّتٍ بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، فَحَكَمَ حَاكِمٌ بِشَهَادَتِهِمَا، وَعَتَقَ الْعَبْدُ، ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ بِعِتْقِ آخَرَ، هُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَوَّلَانِ عَنْ الشَّهَادَةِ، نَظَرْنَا فِي تَارِيخِ شَهَادَتِهِمَا؛ فَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً وَلَمْ تُكَذِّبْ الْوَرَثَةُ رُجُوعَهُمَا، عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا، وَلَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمَا شِرَاءُ الثَّانِي وَإِعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَنَعَا عِتْقَهُ بِشَهَادَتِهِمَا الْمَرْجُوعِ عَنْهَا. وَإِنْ صَدَّقُوهُمَا فِي رُجُوعِهِمَا، وَكَذَّبُوهُمَا فِي شَهَادَتِهِمَا، عَتَقَ الثَّانِي، وَرَجَعُوا عَلَيْهِمَا بِقِيمَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَا رِقَّهُ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَرْجُوعِ عَنْهَا؛ وَإِنْ كَانَ تَارِيخُهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الشَّهَادَةِ الْأُخْرَى، بَطَلَ عِتْقُ الْمَحْكُومِ لَهُ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ أَعْتَقَ ثُلُثَ مَالِهِ قَبْلَ إعْتَاقِهِ، وَلَمْ يَغْرَمْ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا فَوَّتَا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا، أَوْ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، أُقْرَعَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الثَّانِي، عَتَقَ، وَبَطَلَ عِتْقُ الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَاقٍ عَلَى الرِّقِّ. وَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ الْأَوَّلِ، عَتَقَ، وَنَظَرْنَا فِي الْوَرَثَةِ، فَإِنْ كَذَّبُوا الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمَا، عَتَقَ الثَّانِي، وَرَجَعُوا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِقِيمَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَا رِقَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ كَذَّبُوهُمَا فِي رُجُوعِهِمَا، لَمْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِعِتْقِ الْمَحْكُومِ بِعِتْقِهِ. [مَسْأَلَة الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَالتَّدْبِيرَ وَالْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ] (8610) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ، فَأَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ دَبَّرَهُمْ، أَوْ دَبَّرَ أَحَدَهُمْ، وَأَوْصَى بِعِتْقِ الْآخَرَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ إلَّا وَاحِدٌ؛ لِتَسَاوِي قِيمَتِهِمْ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُمْ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ دُونَ صَاحِبَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالتَّدْبِيرَ، وَالْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ، يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجِزْ مِنْ عِتْقِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ فِي مَرَضِهِ، إلَّا ثُلُثَهُمْ. وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ، أَشْبَهَ الْهِبَةَ، فَإِنْ أَعْتَقَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، لَمْ يَجُزْ إلَّا الثُّلُثُ. فَإِنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَضِهِ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، بُدِئَ بِالْأَوَّلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 فَالْأَوَّلِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثُّلُثَ. وَإِنْ وَقَعَ الْعِتْقُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الثُّلُثِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأُخْرِجَ الثُّلُثُ بِالْقُرْعَةِ. وَمَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْعِتْقُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ. وَأَمَّا إنْ دَبَّرَهُمْ، اسْتَوَى الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ، وَهُوَ الْمَوْتُ، وَالشَّرْطُ إذَا وُجِدَ ثَبَتَ الْمَشْرُوطُ بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، يَسْتَوِي هُوَ وَالتَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ عِتْقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَتَى أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدْ مُتَسَاوِينَ فِي الْقِيمَةِ، هُمْ جَمِيعُ مَالِهِ، دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ دَبَّرَهُمْ، أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِمْ، أَوْ دَبَّرَ بَعْضَهُمْ وَوَصَّى بِعِتْقِ بَاقِيهِمْ، وَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ وَرَقَّ صَاحِبَاهُ. وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُد، وَابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ، وَيُسْتَسْعَى فِي بَاقِيهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَيَتَسَاوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا لَوْ كَانَ يَمْلِكُ ثُلُثَهُمْ وَحْدَهُ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ وَصَّى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَرَجُلٍ. وَأَنْكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الْقُرْعَةَ، وَقَالُوا: هِيَ مِنْ الْقِمَارِ وَحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَعَلَّهُمْ يَرُدُّونَ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ قِيَاسَ الْأُصُولِ. وَذُكِرَ الْحَدِيثُ لِحَمَّادٍ، فَقَالَ: هَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ - يَعْنِي إبْلِيسَ - فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ ذَكْوَانَ: وُضِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهُمْ الْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ - يَعْنِي إنَّكَ مَجْنُونٌ - فَقَالَ لَهُ حَمَّادٌ: مَا دَعَاكَ إلَى هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: وَأَنْتَ، فَمَا دَعَاكَ إلَى هَذَا؟ وَهَذَا قَلِيلٌ فِي جَوَابِ حَمَّادٍ، وَكَانَ حَرِيًّا أَنْ يُسْتَتَابَ عَنْ هَذَا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَلَنَا مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ فِي مَرَضِهِ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» . وَهَذَا نَصٌّ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ، وَحُجَّةٌ لَنَا فِي الْأَمْرَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا، وَهُمَا جَمْعُ الْحُرِّيَّةِ وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَسَائِرُ أَصْحَابِ السُّنَنِ. وَرَوَاهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْمُهَلَّبِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 ثَلَاثَةُ أَئِمَّةٍ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَحْمَدُ: أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي تَفْرِيقِهِ ضَرَرٌ، فَوَجَبَ جَمْعُهُ بِالْقُرْعَةِ، كَقِسْمَةِ الْإِجْبَارِ إذَا طَلَبَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ الْقِسْمَةِ مَا لَوْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهَا، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ مَسَاكِنُ مُتَسَاوِيَةٌ، لَا ضَرَرَ فِي قِسْمَتِهَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كُلُّ بَيْتٍ سَهْمًا، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ، وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْخَبَرَ يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ. وَنَمْنَعُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِلْكُهُ ثُلُثَهُمْ وَحْدَهُ، لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُ نَصِيبِهِ، وَالْوَصِيَّةُ لَا ضَرَرَ فِي تَفْرِيقِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا مُخَالَفَتَهُ قِيَاسَ الْأُصُولِ، فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ خَالَفَهُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمَعْصُومِ، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، وَحَذَّرَ الْعِقَابَ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَجَعَلَ الْفَوْزَ فِي طَاعَتِهِ، وَالضَّلَالَ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَتَطَرُّقُ الْخَطَأِ إلَى الْقَائِسِ فِي قِيَاسِهِ أُغْلَبُ مِنْ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ فِي رِوَايَتِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا قِيَاسَ الْأُصُولِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَنَقَضُوا الْوُضُوءَ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ خَارِجِهَا؛ وَقَوْلُهُمْ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ وَالْأُصُولِ، أَشَدُّ وَأَعْظَمُ، وَالضَّرَرُ فِي مَذْهَبِهِمْ أَعْظَمُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَحْصُلَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُعْتِقُونَ الثُّلُثَ، وَيَسْتَسْعُونَ الْعَبْدَ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَلَا يَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ فِي الْحَالِ أَصْلًا، وَيُحِيلُونَهُمْ عَلَى السِّعَايَةِ، وَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلًا، وَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ مِنْهَا فِي الشَّهْرِ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ، فَيَكُونُ هَذَا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ يُجْبِرُونَهُمْ عَلَى الْكَسْبِ وَالسِّعَايَةِ، عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ جَارِيَةً، فَيَحْمِلُهَا ذَلِكَ عَلَى الْبِغَاءِ، أَوْ عَبْدًا، فَيَسْرِقُ أَوْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَيِّتِ، حَيْثُ أَفْضَوْا بِوَصِيَّتِهِ إلَى الظُّلْمِ وَالْإِضْرَارِ، وَتَحْقِيقِ مَا يُوجِبُ لَهُ الْعِقَابَ مِنْ رَبِّهِ، وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِ مِنْ عَبِيدِهِ وَوَرَثَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِّ الَّذِي فَعَلَ هَذَا، قَالَ: «لَوْ شَهِدْته لَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ ضُرُوبٌ مِنْ الْخَطَأِ وَالِاضْطِرَابِ، مَعَ مُخَالِفَةِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ. وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ لِلْقُرْعَةِ، فَقَدْ جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] . وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَقَالَ أَحْمَدُ: فِي الْقُرْعَةِ خَمْسُ سُنَنٍ؛ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ. وَأَقْرَعَ فِي سِتَّةِ مَمْلُوكِينَ. وَقَالَ لِرَجُلَيْنِ: " اسْتَهِمَا " وَقَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْمُدَاهِنِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ.» وَقَالَ «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ صَفِيَّةَ جَاءَتْ بِثَوْبَيْنِ؛ لِيُكَفَّنَ فِيهَا حَمْزَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدْنَا إلَى جَنْبِهِ قَتِيلًا، فَقُلْنَا: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ، وَلِلْأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ. فَوَجَدْنَا أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ أَوْسَعَ مِنْ الْآخَرَ، فَأَقْرَعْنَا عَلَيْهِمَا، ثُمَّ كَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي الثَّوْبِ الَّذِي صَارَ لَهُ، وَتَشَاحَّ النَّاسُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فِي الْأَذَانِ، فَأَقْرَعِ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقِسْمَةِ، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي أَنَّ الرَّجُلَ يَقْرَعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَاهُنَّ، وَإِذَا أَرَادَ الْبِدَايَةَ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَهُنَّ، وَبَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ إذَا تَسَاوَوْا وَتَشَاحُّوا فِي مَنْ يَتَوَلَّى التَّزْوِيجَ أَوْ مَنْ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَأَشْبَاهَ هَذَا. [فَصْل كَيْفِيَّة الْقُرْعَة وَالْعِتْقِ] (8611) فَصْلٌ: فِي كَيْفِيَّةِ الْقُرْعَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِالْخَوَاتِيمِ. أَقْرَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي ثَوْبٍ، فَأَخْرَجَ خَاتَمَ هَذَا ثُمَّ قَالَ: يَخْرُجُونَ بِالْخَوَاتِيمِ، ثُمَّ تُدْفَعُ إلَى رَجُلٍ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا وَاحِدًا. قَالَ أَحْمَدُ بِأَيِّ شَيْءٍ خَرَجَتْ مِمَّا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَقَعَ الْحُكْمُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رِقَاعًا أَوْ خَوَاتِيمَ. قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ: الْأَوْلَى أَنْ يَقْطَعَ رِقَاعًا صِغَارًا مُتَسَاوِيَةً، ثُمَّ تُلْقَى فِي حِجْرِ رَجُلٍ لَمْ يَحْضُرْ، أَوْ يُغَطَّى عَلَيْهَا بِثَوْبٍ، ثُمَّ يُقَالَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَك، وَأَخْرِجْ بُنْدُقَةً. فَيَنْفُضُهَا وَيَعْلَمُ مَا فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقُرْعَةِ وَالْعِتْقِ سِتُّ مَسَائِلَ؛ (8612) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنْ يُعْتِقَ عَدَدًا مِنْ الْعَبِيدِ، لَهُمْ ثُلُثٌ صَحِيحٌ. كَثَلَاثَةٍ أَوْ سِتَّةٍ أَوْ تِسْعَةٍ، وَقِيمَتُهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَيُخْرِجُونَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، جُزْءًا لِلْحُرِّيَّةِ، وَجُزْأَيْنِ لِلرِّقِّ، وَتُكْتَبُ ثَلَاثُ رِقَاعٍ، فِي وَاحِدَةٍ حُرِّيَّةٌ، وَفِي اثْنَيْنِ رِقٌّ، وَيُتْرَكُ فِي ثَلَاثَةِ بَنَادِقَ، وَتُغَطَّى بِثَوْبٍ، وَيُقَالُ لِرَجُلٍ لَمْ يَحْضُرْ: أَخْرِجْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْجُزْءِ. فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ، وَرَقَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 الْجُزْءَانِ الْآخَرَانِ، وَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ رِقٍّ، رَقَّ، وَأُخْرِجَتْ أُخْرَى عَلَى جُزْءٍ آخَرَ، فَإِنْ خَرَجَتْ رُقْعَةُ الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ وَرَقَّ الْجُزْءُ الثَّالِثُ، وَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ الرِّقِّ، رَقَّ، وَعَتَقَ الْجُزْءُ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَعَيَّنَتْ فِيهِمْ. وَإِنْ شِئْت كَتَبْت اسْمَ كُلِّ جُزْءٍ فِي رُقْعَةٍ، ثُمَّ أَخْرَجْت رُقْعَةً عَلَى الْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا خَرَجَتْ رُقْعَةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ الْمُسَمَّوْنَ فِيهَا، وَرَقَّ الْبَاقُونَ، وَإِنْ خَرَجَتْ رُقْعَةٌ عَلَى، الرِّقِّ، رَقَّ الْمُسَمَّوْنَ فِيهَا، ثُمَّ تُخْرِجُ أُخْرَى عَلَى الرِّقِّ، فَيَرِقُّ الْمُسَمَّوْنَ فِيهَا، وَيَعْتِقُ الْجُزْءُ الثَّالِثُ، وَإِنْ أَخْرَجْت الثَّانِيَةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، عَتَقَ الْمُسَمَّوْنَ فِيهَا، دُونَ الثَّالِثِ. (8613) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنْ تُمْكِنَ قِسْمَتُهُمْ أَثْلَاثًا، وَقِيمَتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُمْ بِالْقِيمَةِ، كَسِتَّةٍ؛ قِيمَةُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ أَلْفَانِ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ أَلْفٌ أَلْفٌ، فَيَجْعَلُ الِاثْنَيْنِ الْأَوْسَطَيْنِ جُزْءًا وَيَجْعَلُ اثْنَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَعَ آخَرَ قِيمَتُهُ أَلْفٌ جُزْءًا، وَالْآخَرَيْنِ جُزْءًا فَيَكُونُونَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ وَالْقِيمَةِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. قِيلَ لِأَحْمَدَ لَمْ يَسْتَوُوا فِي الْقِيمَةِ؟ قَالَ: يُقَوَّمُونَ بِالثَّمَنِ. (8614) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، يَكُونُونَ مُتَسَاوِينَ فِي الْعَدَدِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْقِيمَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْن تَعْدِيلِهِمْ بِالْعَدَدِ وَالْقِيمَةِ مَعًا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، كَسِتَّةِ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ أَحَدِهِمْ أَلْفٌ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ أَلْفٌ، وَقِيمَةُ ثَلَاثَةٍ أَلْفٌ، فَإِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِالْقِيمَةِ دُون الْعَدَدِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: إذَا كَانَتْ قِيمَةُ وَاحِدٍ مِثْلَ اثْنَيْنِ، قُوِّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا أَقَلِّ، وَفِي قِسْمَتِهِمْ بِالْعَدَدِ تَكْرَارُ الْقُرْعَةِ، وَتَبْعِيضُ الْعِتْقِ حَتَّى يَكْمُلَ الثُّلُثُ، فَكَانَ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ أَوْلَى. بَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ آخَرَ، فَخَرَجَتْ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ لَهُمَا احْتَجْنَا أَنْ نُعِيدَ الْقُرْعَةَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا خَرَجَتْ عَلَى الْقَلِيلِ الْقِيمَةِ عَتَقَ، وَأَعْتَقَ مِنْ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ تَمَامُ الثُّلُثِ. وَإِنْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى اثْنَيْنِ، قِيمَتُهُمَا دُونَ الثُّلُثِ، عَتَقَا، ثُمَّ أُعِيدَتْ لِتَكْمِيلِ الثُّلُثِ، فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَاحِدٍ، كَمَلَتْ الْحُرِّيَّةُ مِنْهُ فَحَصَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّبْعِيضِ وَالتَّكْرَارِ، وَلِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ بَيْنَ الْمُشْتَرِكِينَ فِيهِمْ، إنَّمَا يَعْدِلُونَ فِيهَا بِالْقِيمَةِ دُون الْأَجْزَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَجْعَلُ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ جُزْءًا، وَالِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ جُزْءًا، وَالثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ جُزْءًا، ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (8615) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ، أَمْكَنَ تَعْدِيلُهُمْ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْعَدَدِ، كَسَبْعَةٍ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ أَلْفٌ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ أَلْفٌ، وَقِيمَةُ أَرْبَعَةٍ أَلْفٌ، فَيُعَدِّلُونَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْعَدَدِ، كَمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 (8616) الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ، أَمْكَنَ تَعْدِيلُهُمْ بِالْعَدَدِ دُونُ الْقِيمَةِ، كَسِتَّةِ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ اثْنَيْنِ أَلْفٌ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ سَبْعُمِائَةٍ، وَقِيمَةُ اثْنَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ، فَهَاهُنَا يُجَزِّئُهُمْ بِالْعَدَدِ؛ لِتَعَذُّرِ تَجْزِئَتِهِمْ بِالْقِيمَةِ، فَيَجْعَلُ كُلَّ اثْنَيْنِ جُزْءًا، وَيَضُمُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ قِيمَتُهُمَا قَلِيلَةٌ إلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ قِيمَتُهُمَا كَثِيرَةٌ، وَيَجْعَلُ الْمُتَوَسِّطَيْنِ جُزْءًا، وَيَقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى جُزْءٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ، أُعِيدَتْ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُمَا، فَيَعْتِقُ مَنْ تَقَعُ لَهُ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ، وَيَعْتِقُ مِنْ الْآخَرِ تَتِمَّةُ الثُّلُثِ وَرَقَّ بَاقِيه وَالْبَاقُونَ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحُرِّيَّةُ عَلَى جُزْءٍ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَا جَمِيعًا، ثُمَّ يَكْمُلُ الثُّلُثُ مِنْ الْبَاقِينَ بِالْقُرْعَةِ. (8617) الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ، لَمْ يُمْكِنْ تَعْدِيلُهُمْ بِالْعَدَدِ وَلَا الْقِيمَةِ، كَخَمْسَةِ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ أَحَدِهِمْ أَلْفٌ، وَاثْنَانِ أَلْفٌ، وَاثْنَانِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، احْتَمَلَ أَنْ يُجَزِّئَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَيَجْعَلَ أَحَدَهُمْ أَكْثَرَهُمْ قِيمَةً جُزْءًا، وَيَضُمُّ إلَى الثَّانِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ أَقَلَّ الْبَاقِينَ، قِيمَةً، وَيَجْعَلُهُمَا جُزْءًا وَالْبَاقِينَ جُزْءًا، وَيَقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَدِّلُ الثُّلُثَ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُجَزِّئَهُمْ، بَلْ تَخْرُجُ الْقُرْعَةُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثُّلُثَ، فَيَكْتُبَ خَمْسَ رِقَاعٍ بِأَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ يُخْرِجُ رُقْعَةً عَلَى الْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِيهَا عَتَقَ، ثُمَّ يُخْرِجُ الثَّانِيَةَ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِيهَا عَتَقَ مِنْهُ تَمَامُ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانُوا ثَمَانِيَةً قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، فَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكْتُبَ ثَمَانِيَ رِقَاعٍ بِأَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ يُخْرِجَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ رُقْعَةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثُّلُثَ. وَالثَّانِي، أَنْ يُجَزِّئَهُمْ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَثَلَاثَةِ رِقٍّ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ، ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَ السِّتَّةِ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ، أُعِيدَتْ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ كَمَّلَ الثُّلُثَ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ أَنْ يُجَزِّئَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ثَلَاثَةٌ ثَلَاثَةٌ وَاثْنَانِ، وَيَقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ لِلِاثْنَيْنِ عَتَقَا، وَكَمَّلَ الثُّلُثَ بِالْقُرْعَةِ مِنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ خَرَجَتْ لَثَلَاثَةٍ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رَقٍّ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَبُو الْخَطَّابِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، يَجْعَلُ أَكْثَرَهُمْ قِيمَةً مَكَانَ اثْنَيْنِ، إنْ كَانَا قِيمَتَهُ، وَإِلَّا أَقْرَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ قِيمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَ الَّذِي بَقِيَ، وَاَلَّذِي تُصِيبُهُ الْقُرْعَةُ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ الثُّلُثِ، فَيَعْتِقُ حِصَّتُهُ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ عَبْدَيْنِ، أَقْرَعَنَا بَيْنَهُمَا بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمِ رِقٍّ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 [فَصْل عِتْقُ الْعَبِيدُ فِي الْمِيرَاثِ] (8618) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ مِثْلَا قِيمَةُ الْعَبِيدِ أَوْ أَكْثَرُ، عَتَقَ الْعَبِيدُ كُلُّهُمْ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِثْلَيْهِمْ، عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ قَدْرُ ثُلُثِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبِيدُ كُلُّهُمْ نِصْفَ الْمَالِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُمْ، وَإِنْ كَانَا ثُلُثَيْ الْمَالِ، عَتَقَ نِصْفُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، عَتَقَ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِمْ، وَطَرِيقُهُ أَنْ تَضْرِبَ قِيمَةَ الْعَبْدِ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَنْسِبَ إلَيْهِ مَبْلَغَ التَّرِكَةِ فَمَا خَرَجَ بِالنِّسْبَةِ عَتَقَ مِنْ الْعَبِيدِ مِثْلُهَا، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا، وَبَاقِي التَّرِكَةِ أَلْفٌ، ضَرَبْت قِيمَةَ الْعَبْدِ فِي ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ تَنْسِبُ إلَيْهَا الْأَلْفَيْنِ، تَكُنْ ثُلُثَيْهَا، فَيَعْتِقُ ثُلُثَاهُمْ. وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَبَاقِي التَّرِكَةِ أَلْفٌ، ضَرَبْت قِيمَتَهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتَنْسِبُ إلَيْهَا التَّرِكَةَ كُلَّهَا تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِهَا، وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَبَاقِي التَّرِكَةِ أَلْفٌ ضَرَبْت قِيمَتَهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَنَسَبْت إلَيْهَا خَمْسَةَ آلَافٍ، تَكُنْ رُبْعَهَا وَسُدُسَهَا، فَيَعْتِقُ مِنْ الْعَبِيدِ رُبْعُهُمْ وَسُدُسُهُمْ. [فَصْل كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالتَّرِكَةِ وَأُوصِي بِالْعِتْقِ] (8619) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالتَّرِكَةِ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُمْ شَيْءٌ. وَإِنْ كَانَ يُحِيطُ بِبَعْضِهَا، قُدِّمَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَصِيَّةٌ، وَقَدْ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» . وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَهَذَا تَبَرُّعٌ، وَتَقْدِيمُ الْوَاجِبِ مُتَعَيِّنٌ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بِقَدْرِ نِصْفِ الْعَبِيدِ، جُعِلُوا جُزْأَيْنِ، وَكُتِبَتْ رُقْعَتَانِ؛ رُقْعَةٌ لِلدَّيْنِ، وَرُقْعَةٌ لِلتَّرِكَةِ، وَتُخْرَجُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَلَى أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ، فَمَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ رُقْعَةُ الدَّيْنِ بِيعَ فِيهِ، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ يَعْتِقُ ثُلُثُهُمْ بِالْقُرْعَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بِقَدْرِ ثُلُثِهِمْ كُتِبَتْ ثَلَاثُ رِقَاعٍ؛ رُقْعَةٌ لِلدَّيْنِ، وَاثْنَتَانِ لِلتَّرِكَةِ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ رُبْعِهِمْ، كُتِبَ أَرْبَعُ رِقَاعٍ؛ رُقْعَةٌ لِلدِّينِ، وَثَلَاثَةٌ لِلتَّرِكَةِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ رِقَاعُ التَّرِكَةِ. وَإِنْ كُتِبَ رُقْعَةٌ لِلدَّيْنِ، وَرُقْعَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ، وَرُقْعَتَانِ لِلتَّرِكَةِ، جَازَ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِئَلَّا تَخْرُجَ رُقْعَةُ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْعِتْقِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وَفَاءٌ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ الْعِتْقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْعِتْقِ قَبْلَ وَفَائِهِ. [فَصْل أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثَلَاثَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ] فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثَلَاثَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْأَحْيَاءِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَيِّتِ، حَسِبْنَاهُ مِنْ التَّرِكَةِ، وَقَوَّمْنَاهُ حِينَ الْإِعْتَاقِ، سَوَاءٌ مَاتَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ إلَّا ثُلُثُهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْسُوبٍ مِنْ التَّرِكَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْحَيَّيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَأَعْتَقْنَا ثُلُثَهُمَا. وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَحَدُ الْمُعْتَقِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، وَحُصُولُ ثَوَابِ الْعِتْقِ، وَيَحْصُلُ هَذَا فِي الْمَيِّتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ سَيِّدِهِ. فَأَمَّا إنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْحَيِّ، نَظَرْنَا فِي الْحَيِّ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْوَارِثِ لَهُ، لَمْ نَحْسُبْهُ مِنْ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْوَارِثِ، فَتَكُونُ التَّرِكَةُ الْحَيَّيْنِ، فَيُخْرَجُ ثُلُثُهُمَا مِمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ حِينُ إتْلَافِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ التَّرِكَةِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ إلَى حِينِ قَبْضِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فَائِدَةٌ تَجَدَّدَتْ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ، فَلَا تُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَالنُّقْصَانُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، فَأَشْبَهَ الشَّارِدَ وَالْآبِقَ، وَإِنَّمَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ، وَلَا يُحْسَبُ الْمَيِّتُ مِنْ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إلَى الْوَرَثَةِ فَيُكَمَّلُ ثُلُثُ الْحَيَّيْنِ مِمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ قَبْضِ الْوَرَثَةِ، حُسِبَ مِنْ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِمْ، وَجَعَلْنَاهُ كَالْحَيِّ، فِي تَقْوِيمِهِ مَعَهُمْ وَالْحُكْمُ بِإِعْتَاقِهِ إنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، أَوْ مِنْ الثُّلُثَيْنِ إنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى غَيْرِهِ، وَتُحْسَبُ قِيمَتُهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حِينِ مَوْتِ سَيِّدِهِ إلَى حِينِ قَبْضِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. [فَصْل دَبَّرَ الثَّلَاثَةَ أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِمْ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ فِي حَيَاتِهِ] (8621) فَصْلٌ: وَإِنْ دَبَّرَ الثَّلَاثَةَ، أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِمْ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ فِي حَيَاتِهِ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ، وَالْوَصِيَّةُ فِيهِ، وَأَقْرَعَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ فَأُعْتِقَ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُلُثُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ فِيهِ؛ لِكَوْنِهِ مَاتَ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَعْتِقُ فِيهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ شَرْطُ الْعِتْقِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ مِنْ حِينِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ تُبَيِّنُهُ وَتَكْشِفُهُ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ مِنْ حِينِ الْإِعْتَاقِ، حَتَّى يَكُونَ كَسْبُهُ لَهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ مَوْتِ السَّيِّدِ. [مَسْأَلَة قَالَ لَهُمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَحَدُكُمْ حُرٌّ أَوْ كُلُّكُمْ حُرٌّ وَمَاتَ] . (8622) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لَهُمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ أَوْ: كُلُّكُمْ حُرٌّ. وَمَاتَ، فَكَذَلِكَ) أَمَّا إذَا قَالَ لَهُمْ: كُلُّكُمْ حُرٌّ. فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَشَرَحْنَاهَا. وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ. فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَيُخْرَجُ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ فَيَعْتِقُ، وَيَرِقُّ الْبَاقُونَ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَاهُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، إذَا كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ حَيًّا، وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّعْيِينُ، وَأُعْتِقَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت وَاحِدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ. قُبِلَ مِنْهُ وَتَعَيَّنَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ تَعْيِينُ أَحَدِهِمْ، فَيَعْتِقُ مَنْ عَيَّنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَاهُ حَالَةَ الْقَوْلِ، وَيُطَالَبُ الْمُعْتِقُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا عَيَّنَ أَحَدَهُمْ تَعَيَّنَ حَسَبَ اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِسَائِرِ الْعَبِيدِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْعِتْقِ ابْتِدَاءً، فَإِذَا أَوْقَعَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَانَ لَهُ تَعْيِينُهُ، كَالطَّلَاقِ. وَلَنَا أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْعِتْقِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَعْيِينَهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَمِيعَ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الثُّلُثِ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ مُعَيَّنًا ثُمَّ نَسِيَهُ وَالطَّلَاقُ كَمَسْأَلَتِنَا. فَأَمَّا إنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَلَمْ يُعَيِّنْ، فَالْحُكْمُ عِنْدَنَا لَا يَخْتَلِفُ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ التَّعْيِينُ، بَلْ يُخْرَجُ الْمُعْتَقُ بِالْقُرْعَةِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا إذَا قَالُوا: لَا نَدْرِي أَيَّهُمْ أَعْتَقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُمْ التَّعْيِينُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ مَوْرُوثِهِمْ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْمُعْتَقِ. [فَصْل أَعْتَقَ إحْدَى إمَائِهِ ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُنَّ] . (8623) فَصْلٌ: وَلَوْ أَعْتَقَ إحْدَى إمَائِهِ، ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُنَّ لَمْ يَتَعَيَّنْ الرِّقُّ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَعَيَّنُ الرِّقُّ فِيهَا. لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ عِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ، وَوَطْؤُهُ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَلِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ تَتَعَيَّنْ بِالْوَطْءِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدَةً ثُمَّ نَسِيَهَا. [فَصْل أَعْتَقَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَنَسِيَهُ] . (8624) فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْتَقَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَنَسِيَهُ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ. وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَذْكُرَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ، أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْتِقُونَ كُلُّهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ وَمَاتَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فَكَانُوا ثَلَاثَةً، عَتَقَ مِنْهُمْ بِقَدْرِ ثُلُثِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً، عَتَقَ مِنْهُمْ بِقَدْرِ رُبْعِ قِيمَتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَنْ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الرُّبْعِ، أُعِيدَتْ الْقُرْعَةُ حَتَّى تَكْمُلَ. وَقَالَ أَصْحَابُ: الرَّأْيِ: إنْ قَالَ الشُّهُودُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ. عَتَقَ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَسَعَى فِي بَاقِيه، أَوْ رُبْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْ كَانُوا أَرْبَعَةً، وَإِنْ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ بَعْضَ عَبِيدِهِ وَنَسِينَاهُ. فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَلَمْ يَذْكُرَا مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي الشَّهَادَةِ. وَلَنَا أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْعِتْقِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَهُمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنْ أَقْرَعَ، بَيْنَهُمْ فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لَوَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ الْمُعْتِقُ: ذَكَرْت أَنَّ الْمُعْتَقَ غَيْرُهُ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُرَدُّ الْأَوَّلُ إلَى الرِّقِّ، وَيَعْتِقُ الَّذِي عَيَّنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْمُعْتَقُ، فَعَتَقَ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقْرَعْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 وَالثَّانِي، يَعْتِقَانِ مَعًا. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ بِالْقُرْعَةِ، فَلَا تَزُولُ، كَسَائِرِ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتِقِ: ذَكَرْت مَنْ كُنْت نَسِيته. يَتَضَمَّنُ إقْرَارًا عَلَيْهِ بِحُرِّيَّةِ مَنْ ذَكَرَهُ، وَإِقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقْرَعْ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَيَعْتِقُ مَنْ عَيَّنَهُ، وَيَرِقُّ غَيْرُهُ، فَإِذَا قَالَ: أَعْتَقْت هَذَا. عَتَقَ، وَرَقَّ الْبَاقُونَ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتَقْت هَذَا، لَا بَلْ هَذَا. عَتَقَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِعِتْقِ الْأَوَّلِ فَلَزِمَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِعِتْقِ الثَّانِي فَلَزِمَهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْ إقْرَارِهِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إقْرَارِ الْوَارِثِ. [مَسْأَلَة مَلَكَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ دَبَّرَهُ] . (8625) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِذَا مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ، فَدَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَعَتَقَ بِمَوْتِهِ، وَكَانَ ثُلُثُ مَالِهِ يَفِي بِقِيمَةِ النِّصْفِ الَّذِي لِشَرِيكِهِ، أُعْطِي، وَكَانَ كُلُّهُ حُرًّا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّتُهُ وَإِنْ حَمَلَ ثُلُثُ مَالِهِ قِيمَةَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يَفِ ثُلُثُ مَالِهِ بِقِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، لَمْ يَعْتِقْ إلَّا نَصِيبُهُ. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا قَوْلًا شَاذًّا، أَوْ قَوْلَ مَنْ يَرَى السِّعَايَةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَالِهِ إلَّا الثُّلُثُ الَّذِي اسْتَغْرَقَتْهُ قِيمَةُ الشِّقْصِ، فَيَبْقَى مُعْسِرًا، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْتَقَ فِي صِحَّتِهِ شِقْصًا وَهُوَ مُعْسِرٌ. فَأَمَّا إنْ كَانَ ثُلُثُ مَاله يَفِي بِقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، يَسْرِي إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ، فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ جَمِيعُهُ، وَيُعْطَى الشَّرِيكُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ لِلْمُعْتِقِ وَالْمِلْكُ فِيهِ تَامٌّ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالتَّبَرُّعِ وَالْإِعْتَاقِ وَغَيْرِهِ، فَجَرَى مَجْرَى مَالِ الصَّحِيحِ، فَيَسْرِي عِتْقُهُ، كَسِرَايَةِ عِتْقِ الصَّحِيحِ الْمُوسِرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِهِ يَزُولُ مِلْكُهُ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ يُقْضَى مِنْهَا لِلشَّرِيكِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُضَارُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سَرَى، وَمَا دَبَّرَهُ أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ لَمْ يَسْرِ. وَقَالَ الرِّوَايَةُ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ حَالَ الْحَيَاةِ أَصَحُّ، وَالرِّوَايَةُ فِي وُقُوفِهِ فِي التَّدْبِيرِ أَصَحُّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْحَيَاةِ يَنْفُذُ فِي حَالِ مِلْكِ الْعِتْقِ وَصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي ثُلُثِهِ كَتَصَرُّفِ الصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ بِهِ فِي حَالٍ يَزُولُ مِلْكُ الْمُعْتِقِ وَتَصَرُّفَاتُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة دَبَّرَ بَعْضَ عَبْدِهِ وَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّهِ] . (8626) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا دَبَّرَ بَعْضَهُ، وَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا دَبَّرَ بَعْضَ عَبْدِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إذَا مِتُّ فَنِصْفُ عَبْدِي حُرٌّ. ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 النِّصْفُ الْمُدَبَّرُ ثُلُثَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، عَتَقَ، وَلَمْ يَسْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَبَّرَهُ كُلَّهُ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ، فَإِذَا لَمْ يُدَبِّرْ إلَّا ثُلُثَهُ كَانَ أُولَى. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَفِي تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، تُكَمَّلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَرَوْنَ التَّدْبِيرَ كَالْإِعْتَاقِ فِي السِّرَايَةِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ لِبَعْضِ عَبْدِهِ، فَعَتَقَ جَمِيعُهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاتِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُكَمَّلُ الْعِتْقُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، فَلَا يَسْرِي، كَتَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ. [فَصْل أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ] (8627) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ، فَهُوَ كَعِتْقِ جَمِيعِهِ، إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ جَمِيعُهُ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي الْمَرَضِ كَالْإِعْتَاقِ فِي الصِّحَّةِ، إلَّا فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي ثُلُثِهِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، كَتَصَرُّفِ الصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَثُلُثُهُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَهُ، وَعَنْهُ، لَا يَعْتِقُ مِنْهُ إلَّا مَا عَتَقَ. [فَصْل دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ] . (8628) فَصْلٌ: وَإِذَا دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ، صَحَّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ لِشَرِيكِهِ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَإِذَا مَاتَ، عَتَقَ الْجُزْءُ الَّذِي دَبَّرَهُ، إذَا خَرَجَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَفِي سِرَايَته إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَبْلَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ، تَقَاوَمَاهُ، فَإِنْ صَارَ لِلْمُدَبَّرِ، صَارَ مُدَبَّرًا كُلُّهُ، وَإِنْ صَارَ لِلْآخَرِ، صَارَ رَقِيقًا كُلُّهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَغْرَمُ الْمُدَبَّرُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَيَصِيرُ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، فَإِذَا أَدَّاهَا، صَارَ مُدَبَّرًا كُلُّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْمُدَبَّرُ لِلشَّرِيكِ قِيمَةَ حَقِّهِ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَيَصِيرُ الْمُدَبَّرُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ؛ إنْ شَاءَ دَبَّرَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا. وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ عَلَى صِفَةٍ، فَصَحَّ فِي نَصِيبِهِ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَوْتِ شَرِيكِهِ. [مَسْأَلَة أَعْتَقَ عَبِيدَهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ دَبَّرَهُمْ وَمَاتَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ ثُلُثِهِ] (8629) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ أَعْتَقَهُمْ وَثُلُثُهُ يَحْتَمِلُهُمْ، فَأَعْتَقْنَاهُمْ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهُمْ، بِعْنَاهُمْ فِي دَيْنه) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَعْتَقَ عَبِيدَهُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ دَبَّرَهُمْ، أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِمْ، وَمَاتَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي الظَّاهِرِ، فَأَعْتَقْنَاهُمْ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ عِتْقِهِمْ وَبَقَاءَ رِقِّهِمْ، فَيُبَاعُونَ فِي الدَّيْنِ، وَيَكُونُ عِتْقُهُمْ وَصِيَّةً، وَالدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» وَلِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلِهَذَا تُبَاعُ التَّرِكَةُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَالْمِيرَاثُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْمِيرَاثِ، يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَرَدَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَبْدًا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ. قَالَ أَحْمَدُ: أَحْسَنِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً فِي الَّذِي يُعْتِقُ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرَّعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَقُدِّمَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، فَقُدِّمَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، كَالْوَصِيَّةِ، وَخَفَاءُ الدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْغَرِيمُ اسْتِيفَاءَهُ. فَعَلَى هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ وَقَدْ اسْتَحَقَّهُمْ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مِلْكَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَقْضِي الدَّيْنَ، وَنُمْضِي الْعِتْقَ. فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَنْفُذُ حَتَّى يَبْتَدِئُوا الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَلَا يَصِحُّ بِزَوَالِ الْمَانِعِ بَعْدَهُ. وَالثَّانِي، يَنْفُذُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ الدَّيْنُ، فَإِذَا سَقَطَ وَجَبَ نُفُوذُهُ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْوَرَثَةُ حُقُوقَهُمْ مِنْ ثُلُثَيْ التَّرِكَةِ، نَفَذَ الْعِتْقُ فِي الْجَمِيعِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَقَالُوا: إنَّ أَصْلَ الْوَجْهَيْنِ، إذَا تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَقُضِيَ الدَّيْنُ، هَلْ يَنْفُذُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. [فَصْل أَعْتَقَ الْمَرِيضُ ثَلَاثَةَ أَعْبُدْ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَأَقْرَعَ الْوَرَثَةُ فَأَعْتَقُوا وَاحِدًا وَأَرِقُوا اثْنَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ نِصْفَهُمْ] . (8630) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ ثَلَاثَةَ أَعْبُدْ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَأَقْرَعَ الْوَرَثَةُ فَأَعْتَقُوا وَاحِدًا وَأَرَقُّوا اثْنَيْنِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ نِصْفَهُمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَبْطُلُ الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ شَرِيكٌ فِي الْإِقْرَاعِ، فَإِذَا حَصَلَتْ الْقِسْمَةُ مَعَ عَدَمِهِ كَانَتْ بَاطِلَةً، كَمَا لَوْ قَسَمَ شَرِيكَانِ دُونَ شَرِيكِهِمَا الثَّالِثِ. الثَّانِي، يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إمْضَاءُ الْقِسْمَةِ وَإِفْرَادُ حِصَّةِ الدَّيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 لِأَنَّ الْقُرْعَةَ دَخَلَتْ لِأَجْلِ الْعِتْقِ دُونَ الدَّيْنِ، فَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ اقْضُوا ثُلُثَيْ الدَّيْنِ. وَهُوَ بِقَدْرِ قِيمَةِ نِصْفِ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ بَقِيَا إمَّا مِنْ الْعَبِيدِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَيَجِبُ رَدُّ نِصْفِ الْعَبْدِ الَّذِي عَتَقَ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَكَانَ بِقَدْرِ سُدُسِ التَّرِكَةِ، عَتَقَ، وَبِيعَ الْآخَرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ عَتَقَ، وَعَتَقَ مِنْ الْآخَرِ تَمَامُ السُّدُسِ. [مَسْأَلَة أَعْتَقَ ثَلَاثَةً فِي مَرَضِهِ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ أَوْ دُبْرهمْ أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِمْ] . (8631) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ أَعْتَقَهُمْ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَأَعْتَقْنَا مِنْهُمْ وَاحِدًا لِعَجْزِ ثُلُثِهِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ يُخْرِجُونَ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَ مَنْ أَرْقِ مِنْهُمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ ثَلَاثَةً فِي مَرَضِهِ، لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، أَوْ دَبَّرَهُمْ، أَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِمْ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُمْ إلَّا ثُلُثُهُمْ، وَيَرِقُّ الثُّلُثَانِ، إذَا لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ عِتْقَهُمْ، فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ بِقَدْرِ مِثْلَيْهِمْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُمْ قَدْ عَتَقُوا مِنْ حِينِ أَعْتَقَهُمْ، أَوْ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ إنْ كَانَ دَبَّرَهُمْ؛ لِأَنَّهُ التَّدْبِيرَ وَتَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ جَائِزٌ نَافِذٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُمْ ثُلُثُ مَالِهِ، وَخَفَاءُ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَوْجُودًا، فَلَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْعِتْقِ وَاقِعًا. فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ الْأَحْرَارِ مِنْ حِينَ أَعْتَقَهُمْ، فَيَكُونُ كَسْبُهُمْ. لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَصَرَّفَ فِيهِمْ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ تَزْوِيجٍ بِغَيْرِ إذْنٍ، كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا. وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَصَرَّفُوا، فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِمْ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْأَحْرَارِ، فَلَوْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ مِنْهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، كَانَ نِكَاحُهُ صَحِيحًا، وَالْمَهْرُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِمْ، عَتَقَ ثُلُثَاهُمْ؛ لِأَنَّهَا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، فَيُقْرَعُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْقَفْنَاهُمَا، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا، وَيَرِقُّ الْآخَرُ، إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ. وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ بِقَدْرِ نِصْفِهِمْ، عَتَقَ نِصْفُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِمْ، عَتَقَ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِمْ، وَكَلَّمَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ، عَتَقَ مِنْ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ رَقَّا بِقَدْرِ ثُلُثِهِ. [فَصْل وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ] . (8632) فَصْلٌ: وَإِذَا وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَجَبَ عَلَى الْوَصِيِّ إعْتَاقُهُ، فَإِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ وَرَثَتَهُ، لَزِمَهُمْ إعْتَاقُهُ، فَإِنْ امْتَنَعُوا، أَجْبَرَهُمْ السُّلْطَانُ، فَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، أَعْتَقَهُ السُّلْطَانُ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ مَنَابَهُ، كَالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْعَبْدِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، نَابَ السُّلْطَانُ عَنْهُ أَوْ نَائِبُهُ، كَالزَّكَاةِ وَالدُّيُونِ. فَإِذَا أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ أَوْ السُّلْطَانِ عَتَقَ، وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ لِلْمُوصِي، يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ إنْ بَقِيَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ الْقِنِّ وَمَا كَسَبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ إعْتَاقِهِ، فَهُوَ لِلْوَارِثِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ كَسَبَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ سَبَبِ الْعِتْقِ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ قَوْلَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَبْدٌ قِنٌّ، فَكَانَ كَسْبُهُ لِلْوَرَثَةِ، كَغَيْرِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَكَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ. وَفَارَقَ الْمُكَاتَبَ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 فَإِنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَهُ قَبْلَ عِتْقِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ. وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ؛ فَإِنَّ عِتْقَهَا قَدْ اسْتَقَرَّ سَبَبُهُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهَا، وَكَسْبُهَا لَهُ. وَالْمُوصَيْ بِهِ لَا نُسَلِّمُهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْمُوصَى بِهِ قَدْ تُحَقَّقَ فِيهِ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا وُقِفَ عَلَى شَرْطٍ هُوَ الْقَبُولُ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَى ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مَا وُجِدَ السَّبَبُ، وَإِنَّمَا أَوْصَى بِإِيجَادِهِ، وَهُوَ الْعِتْقُ، فَإِذَا وُجِدَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ سَابِقًا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَقْبَلَ بِنَفْسِهِ، وَهَا هُنَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَنْ يَعْتِقَ نَفْسَهُ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ تَمَامِ مَوْتِ سَيِّدِهِ، وَقَبْلَ إعْتَاقِهِ، فَمَا كَسَبَهُ لِلْوَرَثَةِ، عَلَى قَوْلِنَا، وَلَا أَعْلَمُ قَوْلَ مَنْ خَالَفَنَا فِيهِ. [فَصْل عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى شَرْطٍ فِي صِحَّته فَوُجِدَ فِي مَرَضِهِ] (8633) فَصْلٌ: فَإِنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى شَرْطٍ فِي صِحَّتِهِ، فَوُجِدَ فِي مَرَضِهِ، اُعْتُبِرَ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِيهِ فَأَشْبَهَ، الْعِتْقَ فِي صِحَّتِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَتَقَ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِثُلُثَيْ مَالِهِ، فَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَالْمُنَجَّزِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُتَّهَمُ فِيهِ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمُنَجَّزُ، لَا يُتَّهَمُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُتَّهَمُ بِمُحَابَاةِ غَيْرِ الْوَارِثِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى وَارِثِهِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْوَرَثَةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ هَاهُنَا. وَلَوْ قَالَ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ، وَأَنَا مَرِيضٌ فَأَنْتَ حُرٌّ. فَقَدِمَ وَهُوَ مَرِيضٌ، كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَجْهًا وَاحِدًا. [فَصْل أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ] . (8634) فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ حَمَّادٍ، وَالْبَتِّيِّ، وَدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، وَحُمَيْدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيَّ وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَتْبَعُهُ مَالُهُ؛ لِمَا رَوَى نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَمْ يَعْرِضْ لِمَالِهِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ عُمَيْرٍ: يَا عَمِيرُ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَك عِتْقًا هَنِيئًا، فَأَخْبِرْنِي بِمَالِكَ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، أَوْ غُلَامَهُ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 بِمَالِهِ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ» وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ كَانَا جَمِيعًا لِلسَّيِّدِ، فَأَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَبَقِيَ مِلْكُهُ فِي الْآخَرِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَرْوِيه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، كَانَ صَاحِبَ فِقْهٍ، فَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ هُوَ فِيهِ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ، فَأَمَّا فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَى مُعْتَقِهِ. قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَانَ هَذَا عِنْدَك عَلَى التَّفَضُّلِ؟ فَقَالَ: إي لَعَمْرِي عَلَى التَّفَضُّلِ قِيلَ لَهُ: فَكَأَنَّهُ عِنْدَك لِلسَّيِّدِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لِلسَّيِّدِ، مِثْلُ الْبَيْعِ، سَوَاءٌ. [مَسْأَلَة قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ فِي وَقْتٍ سَمَّاهُ] . (8635) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَاذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ فِي وَقْتٍ سَمَّاهُ، لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى مَجِيءِ وَقْتٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَأْتِيَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَلَهُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَوَطْءُ الْأَمَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ أَحْمَدُ إذَا قَالَ لِغُلَامِهِ أَنْتَ حُرٌّ إلَى أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ وَمَجِيءُ فُلَانٍ وَاحِدٍ وَإِلَى رَأْسِ السَّنَةِ وَإِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ إنَّمَا يُرِيدُ إذَا جَاءَ رَأْسُ السَّنَةِ أَوْ جَاءَ رَأْسُ الْهِلَالِ مِنْهُ، وَاذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ الْهِلَالُ إنَّمَا تَطْلُقْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الْهِلَالِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ وَحُكِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ عَتَقَ فِي الْحَالِ، وَاَلَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَطَأْهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يَلْحَقُهَا بِسَبَبِهِ رِقٌّ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَانَتْ حُرَّةً عِنْدَ الْوَقْتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ عَلَيْهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ عَتِيقٌ إلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ لَمْ يُعَلِّقْهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا كَمَا لَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَاسْتِحْقَاقُهَا لِلْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ كَالِاسْتِيلَادِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَاتَبَةَ لِأَنَّهَا اشْتَرَتْ نَفْسَهَا مِنْ سَيِّدِهَا بِعِوَضٍ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْ إكْسَابِهَا بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 (8636) فَصْلٌ: وَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يَعْتِقْ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَبَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَتَقَ وَانْتَقَضَ الْبَيْعُ. قَالَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا كَلَّمَتْ فُلَانًا ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ وَلَا بَيْعَ فِيمَا لَا يَمْلِك ابْنُ آدَمَ» وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ وَلَا عَتَاقُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ. [فَصْل قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَنْتَ حُرٌّ وَلَمْ يَنْوِ وَقْتًا بِعَيْنِهِ] . (8637) فَصْلٌ وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ أَضْرِبْك عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَمْ يَنْوِ وَقْتًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَمُوتَ وَلَمْ يُوجَدْ الضَّرْبُ، وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ صَحَّ بَيْعُهُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ، فَإِنْ بَاعَهُ فُسِخَ الْبَيْعُ. وَلَنَا أَنَّهُ بَاعَهُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَصَحَّ وَلَمْ يَنْفَسِخْ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَبَاعَهُ قَبْلَ دُخُولهَا. [فَصْل قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ الدَّارَ] . (8638) فَصْلٌ وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عَقْدِ الصِّفَةِ فَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ فِيهِ كَمَا لَوْ عَقَدَ الصِّفَةَ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الصِّفَةَ فِي مِلْكِهِ وَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا لَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَفَارَقَ مَا إذَا عَلَّقَهَا فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ وَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ لَمْ يَقَعْ فَإِذَا عَلَّقَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 كَانَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُقُوعِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَأَمَّا إنْ دَخَلَ الدَّارَ بَعْدَ بَيْعِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ الدَّارَ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ. وَذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنْ يَعْتِقَ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ يَقَعْ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ وَالشَّرْطَ وُجِدَا فِي مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا دُخُولٌ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا وُجِدَ مَرَّةً انْحَلَّتْ الْيَمِينُ، وَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ فَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُفَارِقَ الْعَتَاقُ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ إنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ أَنَّ طَلَاقَهُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يُحْسَبُ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي وَيَنْقُصْ بِهِ عَدَدُ طَلَاقِهِ وَالْمِلْكُ بِالْيَمِينِ بِخِلَافِهِ. [فَصْل قَالَ لِعَبْدِ لَهُ مُقَيَّد هُوَ حُرٌّ] (8639) فَصْلٌ وَإِذَا قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ مُقَيَّدٌ هُوَ حُرٌّ إنْ حَلَّ قَيْدَهُ ثُمَّ قَالَ هُوَ حُرٌّ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَيْدِهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ وَزْنَ قَيْدِهِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَحَكَمَ بِعِتْقِهِ وَأَمَرَ بِحَلِّ قَيْدِهِ فَوَزَنَ فَوَجَدَ وَزْنَهُ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ عَتَقَ الْعَبْدُ بِحَلِّ قَيْدِهِ وَتَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَا عَتَقَ بِالشَّرْطِ الَّذِي حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعِتْقِهِ بِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُ الشَّاهِدِينَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُمَا ضَمَانُهَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا الْكَاذِبَةَ سَبَبُ عِتْقِهِ وَإِتْلَافِهِ فَضَمَمْنَاهُ كَالشَّهَادَةِ الْمَرْجُوعِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ حَصَلَ بِحُكْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ فَأَشْبَهَ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي يَرْجِعَانِ عَنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِالْحُكْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّمَا حَصَلَ بِحَلِّ قَيْدِهِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَا كَمَا لَوْ لَمْ يَحْكُمْ الْحَاكِمُ. [فَصْل قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْت] . (8640) فَصْلٌ وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْت لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَشَاءَ بِالْقَوْلِ فَمَتَى شَاءَ عَتَقَ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي، وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت فَكَذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّخْيِيرِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي نَفْسَك لَمْ يَكُنْ لَهَا الِاخْتِيَارُ إلَّا عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ تَرَاخَى ذَلِكَ بَطَلَ خِيَارُهَا كَذَا تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرِنَهُ بِزَمَنٍ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 احْتَمَلَ أَنْ يَعْتِقَ فِي الْحَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ كَيْفَ لَا تَقْتَضِي شَرْطًا وَلَا وَقْتًا وَلَا مَكَانًا فَلَا تَقْتَضِي تَوْقِيفَ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ لِلْحَالِ فَتَقْتَضِي وُقُوعَ الْحُرِّيَّةِ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَعْتِقَ حَتَّى يَشَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ تَقْتَضِي الْخِيَارَ فَتَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْتِقَ قَبْلَ اخْتِيَارِهِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْت لِأَنَّ كَيْفَ تُعْطِي مَا تُعْطِي مَتَى وَأَيٌّ فَحُكْمُهَا حُكْمُهُمَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى شِئْت وَحَيْثُ شِئْت لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَشَاءَ، فَيَجِيءُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. [فَصْل تَعْلِيق الْعِتْق عَلَى أَدَاءِ شَيْءٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ] (8641) فَصْلٌ وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ شَيْءٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا تَعْلِيقُهُ عَلَى صِفَةٍ مَحْضَةٍ كَقَوْلِهِ إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَهَذِهِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهَا لِأَنَّهُ أَلْزَمَهَا نَفْسَهُ طَوْعًا فَلَمْ يَمْلِك إبْطَالَهَا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَوْ اتَّفَقَ السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ عَلَى إبْطَالِهَا لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ مِنْ الْأَلْفِ لَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَبْطُلْ الشَّرْطُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِي ذِمَّتِهِ يُبَرِّئُهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ مَحْضٍ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ انْفَسَخَتْ الصِّفَةُ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهُ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي مِلْك غَيْرِهِ، وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ زَالَتْ الصِّفَةُ، فَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِهِ عَادَ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ وَمَتَى وُجِدَتْ الصِّفَةُ عَتَقَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِ إعْتَاقِ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ مُعَلَّقٍ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيُوجَدُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ كَالطَّلَاقِ وَمَا يَكْسِبُهُ الْعَبْدُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَقْدٌ يَمْنَعُ كَوْنَ كَسْبِهِ لِسَيِّدِهِ إلَّا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ السَّيِّدُ مِنْهُ يَحْسُبُهُ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي أَدَّاهَا، فَإِذَا كَمَلَ أَدَاؤُهَا عَتَقَ وَمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَمْ يَتْبَعْهَا وَلَدُهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهَا أَمَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ السَّيِّدِ بِصِفَةٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَ عِتْقَهَا وَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ بِكَمَالِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا، أَنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ بِصِفَةٍ يُوجَدُ بِوُجُودِ بَعْضِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ أَكَلْت رَغِيفًا. فَأَكَلَ بَعْضَهُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لَوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ أَدَاءَ الْأَلْفِ شَرْطُ الْعِتْقِ، وَشُرُوطُ الْأَحْكَامِ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا بِكَمَالِهَا لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ، وَتَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا بِدَلِيلِ سَائِرِ شُرُوطِ الْأَحْكَامِ. الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا عَلَّقَهُ عَلَى وَصْفِ ذِي عَدَدٍ، فَالْعَدَدُ وَصْفٌ فِي الشَّرْطِ، وَمَتَى عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى شَرْطٍ ذِي وَصْفٍ، لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ خَرَجْت عَارِيًّا، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَخَرَجَ لَابِسًا، لَا يَعْتِقُ، فَكَذَلِكَ الْعَدَدُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 الثَّالِثُ، أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ، لَمْ يَحْنَثْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ: لَا صَلَّيْت صَلَاةً لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا يُسَمَّى صَلَاةً. وَلَوْ حَلَفَ: لَا صُمْت صِيَامًا. لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَصُومَ يَوْمًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَنَظَائِرَهَا. وَذِكْرُ الْأَلْفِ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ أَدَاءَ الْأَلْفِ كَامِلَةً. الرَّابِعُ، أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَأَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ أَكَلَتْ رَغِيفًا. لَمْ يَعْتِقْ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، وَإِنَّمَا إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَفَعَلَ بَعْضَهُ، حَنِثَ، فِي رِوَايَةٍ، فِي مَوْضِعٍ يَحْتَمِلُ إرَادَةَ الْبَعْضِ، وَيَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا يَصُومُ فَشَرَعَ فِي الصَّوْمِ، أَوْ لَا يَشْرَبُ مَاءَ هَذَا الْإِنَاءِ فَشَرِبَ بَعْضَهُ. وَنَحْوَ هَذَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ قَدْ صَلَّى وَصَامَ ذَلِكَ الْجُزْءَ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي شَرِبَهُ مِنْ الْإِنَاءِ هُوَ مَاءُ الْإِنَاءِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْكُلِّ، فَتَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنْ الْكُلِّ، وَمَتَى فَعَلَ الْبَعْضَ، فَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْكُلِّ، فَحَنِثَ لِذَلِكَ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا، تَعْلِيقُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى أَدَاءِ الْأَلْفِ، يَقْتَضِي وُجُودَ أَدَائِهَا، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهَا دُون أَدَائِهَا، كَمَنْ حَلَفَ لَيُؤَدِّيَنَّ أَلْفًا، لَمْ يَبْرَأْ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا. الْخَامِسُ، أَنَّ مَوْضُوعَ الشَّرْطِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمَشْرُوطُ بِدُونِ شَرْطِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» فَلَوْ قَالَ بَعْضَهَا مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا الْعُقُوبَةَ. وَقَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً، فَهِيَ لَهُ» فَلَوْ شَرَعَ فِي الْإِحْيَاءِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ. وَلَوْ قَالَ فِي الْمُسَابَقَةِ: مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ، فَهُوَ سَابِقٌ. فَسَبَقَ إلَى أَرْبَعٍ، لَمْ يَكُنْ سَابِقًا. وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي، فَلَهُ دِينَارٌ. فَشَرَعَ فِي رَدِّهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. فَكَيْفَ يُخَالِفُ مَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْأَيْمَانِ، فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى التَّرْكِ يُقْصَدُ بِهَا الْمَنْعُ، فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ بَعْضِهِ بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ] الْقَسَم الثَّانِي، صِفَةٌ جَمَعَتْ مُعَاوَضَةً، وَصِفَةٌ الْمُغَلَّبُ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهِيَ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ، فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِلصِّفَةِ الْمَحْضَةِ فِي الْعِتْقِ بِوُجُودِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ لِسَيِّدِهِ، وَتُخَالِفُهَا فِي أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأْهُ السَّيِّدُ مِنْ الْمَالِ مِنْهُ وَعَتَقَ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ مَشْغُولَةٌ بِهِ فَبَرِئَ مِنْهُ بِإِبْرَائِهِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَلَا يَنْفَسِخُ ب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 مَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَا بَيْعِ الْمُكَاتَبِ، وَلَا هِبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَازِمٌ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَمَا كَسَبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ، وَمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ فِي الْكِتَابَةِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهَا. [فَصْل الْكِتَابَةُ عَلَى مَجْهُولٍ] الْقَسَمُ الثَّالِثُ، صِفَةٌ فِيهَا مُعَاوَضَةٌ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ، نَحْوُ الْكِتَابَةُ عَلَى مَجْهُولٍ، أَوْ نَجْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَعَ إخْلَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْكِتَابَةِ، فَتَسَاوَى الصِّفَةُ الْمَحْضَةُ وَالْكِتَابَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَلَا تَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَلَا يَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُكَاتَبِ، وَلَا الْحَجْرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لِلرِّقِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ كِتَابَتِهِ، فَلَا يَقْتَضِي حُدُوثُهُ إبْطَالَهَا. وَإِنْ أَدَّى حَالَ جُنُونِهِ، عَتَقَ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ، وَيُفَارِقهُمَا فِي أَنَّ لِلسَّيِّدِ فَسْخَهَا وَرَفْعَهَا؛ لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ، وَالْفَاسِدُ يُشْرَعُ رَفْعُهُ وَإِزَالَتُهُ، وَيُفَارِقُ الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ، فِي أَنَّهَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَجُنُونِهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ جِهَتِهِ، فَبَطَلَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ كَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ إذَا وَسْوَسَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَبْطُلُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ كِتَابَةٍ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِذَلِكَ، كَالصَّحِيحَةِ، وَتُفَارِقُ الصِّفَةَ الْمَحْضَةَ فِي أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَهُ، وَمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ، وَيَتْبَعُ الْمُكَاتَبَةَ وَلَدُهَا، حَمْلًا لَهَا عَلَى الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا. وَفِي الْآخَرِ، لَا يَسْتَحِقُّ كَسْبَهُ، وَلَا يَتْبَعُ الْمُكَاتَبَةَ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالصِّفَةِ، لَا بِالْكِتَابَةِ. فَأَمَّا الْكِتَابَةُ بِمُحَرَّمٍ؛ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ مَا ذَكَرْنَا، وَيَعْتِقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَعْتِقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ، إذَا كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، فَأَدَّى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، عَتَقَ مَا لَمْ تَكُنْ الْكِتَابَةُ مُحَرَّمَةً. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنْ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى أَدَاءِ الْمُحَرَّمِ، عَتَقَ بِهِ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَإِنْ قَالَ: كَاتَبْتُك عَلَى خَمْرٍ. لَمْ يَعْتِقْ بِأَدَائِهِ، كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ] (8642) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَعَلَيْك أَلْفٌ. عَتَقَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَجَعَلَ عَلَيْهِ عِوَضًا لَمْ يَقْبَلْهُ، فَيَعْتِقُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْأَلْفُ. هَكَذَا ذَكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَنَقَلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّه قِيلَ لَهُ: إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ. قَالَ جَيِّدٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْعَبْدُ؟ قَالَ: لَا يَعْتِقُ، إنَّمَا قَالَهُ لَهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، فَلَا شَيْءَ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ. فَكَذَلِكَ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ " عَلَى " لَيْسَتْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَا الْبَدَلِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: وَعَلَيْك أَلْفٌ. وَالثَّانِيَةُ، إنْ قَبِلَ، الْعَبْدُ، عَتَقَ، وَلَزِمَتْهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، لَمْ يَعْتِقْ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يَعْتِقْ بِدُونِ قَبُولِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بِأَلْفٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ " عَلَى " تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ وَالْعِوَضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] . وَقَالَ تَعَالَى {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] . وَلَوْ قَالَ فِي النِّكَاحِ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي فُلَانَةَ، عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ الْآخَرُ: قَبِلْت. صَحَّ النِّكَاحُ، وَثَبَتَ الصَّدَاقُ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا، وَأَلْفٍ لِأَبِيهَا، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَعْتَقْتُك عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي سَنَةً. فَقَبِلَ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: إنْ لَمْ يَقْبَلْ الْعَبْدُ، لَمْ يَعْتِقْ. رِوَايَةً وَاحِدَةً. فَعَلَى هَذَا، إذَا قَبِلَ الْعَبْدُ، عَتَقَ فِي الْحَالِ، وَلَزِمَتْهُ خِدْمَتُهُ سَنَةً. فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ، رُجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْخِدْمَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقَسَّطُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى خِدْمَةِ السَّنَةِ، فَيُقَسَّطُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا مَضَى، وَيُرْجَعُ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْعِتْقَ عَقْدٌ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ الْعِوَضِ، رُجِعَ إلَى قِيمَتِهِ، كَالْخُلْعِ فِي النِّكَاحِ، وَالصُّلْحِ فِي دَمِ الْعَمْدِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ، عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَقْبَلَ، فَإِذَا قَبِلَ، عَتَقَ، وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بِأَلْفِ. لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَقْبَلَ، فَيَعْتِقَ، وَيَلْزَمَهُ أَلْفٌ. [فَصْل عَلَّقَ عِتْقَ أَمَتِهِ بِصِفَةِ وَهِيَ حَامِلٌ] (8643) فَصْلٌ: وَإِذَا عَلَّقَ عِتْقَ أَمَتِهِ بِصِفَةٍ، وَهِيَ حَامِلٌ، تَبِعَهَا وَلَدُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، ثُمَّ وُجِدَتْ الصِّفَةُ، عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ فِي الصِّفَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي الصِّفَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي الْبَطْنِ. وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا حِينَ التَّعْلِيقِ، ثُمَّ وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَهِيَ حَامِلٌ، عَتَقَتْ هِيَ وَحَمْلُهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وُجِدَ فِيهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، كَالْمُنَجَّزِ. وَإِنْ حَمَلَتْ بَعْدَ التَّعْلِيقِ، وَوَلَدَتْ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، ثُمَّ وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَعْتِقْ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ لَا فِي حَالِ التَّعْلِيقِ، وَلَا فِي حَالِ الْعِتْقِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ، قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ. وَإِنْ بَطَلَتْ الصِّفَةُ بِبَيْعٍ أَوْ مَوْتٍ، لَمْ يَعْتِقْ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبِيعُهَا فِي الْعِتْقِ، لَا فِي الصِّفَةِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ فِيهَا، لَمْ يُوجَدْ فِيهِ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ؛ فَإِنَّهُ تَبِعَهَا فِي التَّدْبِيرِ فَإِذَا بَطَلَ فِيهَا، بَقِيَ فِيهِ. [مَسْأَلَة أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ] (8644) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ، مُنِعَ مِنْ غَشَيَانِهَا، وَالتَّلَذُّذِ بِهَا، وَأُجْبِرَ عَلَى نَفَقَتِهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ، حَلَّتْ لَهُ وَإِذَا مَاتَ عَتَقَتْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُؤَخَّرُ شَرْحُهَا إلَى بَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ؛ فَإِنَّهُ أَلْيَقُ بِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 [مَسْأَلَة قَالَ لِأَمَتِهِ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ اثْنَيْنِ] (8645) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ، فَهُوَ حُرٌّ. فَوَلَدَتْ اثْنَيْنِ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ، فَهُوَ حُرٌّ إذَا أَشْكَلَ أَوَّلُهُمَا خُرُوجًا) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ، فَوَجَبَ إخْرَاجُهُ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ: كَذَلِكَ أَحَدُكُمْ حُرٌّ. وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَأَمَّا إنْ عُلِمَ أَوَّلُهُمَا خُرُوجًا، فَهُوَ الْحُرُّ وَحْدَهُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ، فَهُمَا حُرَّانِ. وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَ الْأَوَّلَ، وَاَلَّذِي خَرَجَ أَوَّلًا هُوَ أَوَّلُ الْمَوْلُودِينَ فَاخْتَصَّ الْعِتْقُ بِهِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنَيْنِ. (8646) فَصْلٌ: فَإِنْ وَلَدَتْ الْأَوَّلَ مَيْتًا، وَالثَّانِيَ حَيًّا، فَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَنَّهُ يَعْتِقُ الْحَيُّ مِنْهُمَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ إنَّمَا وُجِدَ فِي الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ، فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ إنَّمَا وُجِدَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَلَدٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ حُرَّةٌ. فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا، عَتَقَتْ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْعِتْقَ يَسْتَحِيلُ فِي الْمَيِّتِ، فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالْحَيِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ ضَرَبْت فُلَانًا، فَعَبْدِي حُرٌّ. فَضَرَبَهُ حَيًّا، عَتَقَ، وَإِنْ ضَرَبَهُ مَيِّتًا، لَمْ يَعْتِقْ. وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَادَةِ، أَنَّهُ قَصَدَ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى وَلَدٍ يَصِحُّ الْعِتْقُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، فَتَصِيرُ الْحَيَاةُ مَشْرُوطَةً فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ. [فَصْل قَالَ لِأَمَتِهِ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ] . (8647) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ، فَهُوَ حُرٌّ. عَتَقَ كُلُّ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ. فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ. فَإِنْ بَاعَ الْأَمَةَ، ثُمَّ وَلَدَتْ، لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ. [فَصْل قَالَ أَوَّلُ غُلَامٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَوَّلُ غُلَامٍ أَمْلِكُهُ، فَهُوَ حُرٌّ. انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْعِتْقِ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ عَتَقَ أَوَّلُ مَنْ يَمْلِكُهُ. فَإِنْ مَلَكَ اثْنَيْنِ، عَتَقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إذَا قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَطْلُعُ مِنْ عَبِيدِي، فَهُوَ حُرٌّ. فَطَلَعَ اثْنَانِ، أَوْ جَمِيعُهُمْ، فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 يَعْتِقَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ وُجِدَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْمُسَابَقَةِ: مَنْ سَبَقَ، فَلَهُ عَشَرَةٌ. فَسَبَقَ اثْنَانِ اشْتَرَكَا فِي الْعَشَرَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَعْتِقُ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا أَوَّلَ فِيهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ، وَمِنْ شَرْطِ الْأَوَّلِيَّةِ سَبْقُ الْأَوَّلِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَيْنِ لَمْ يَسْبِقْهُمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَا أَوَّلَ، كَالْوَاحِدِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ ثَانٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَلَكَ وَاحِدًا وَلَمْ يَمْلِكُ بَعْدَهُ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَتْ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً فِيهِمَا، فَإِمَّا أَنْ يَعْتِقَا جَمِيعًا، أَوْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمَا، وَتُعَيِّنُهُ الْقُرْعَةُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَالَ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ، فَهُوَ حُرٌّ. فَوَلَدَتْ اثْنَيْنِ، وَخَرَجَا جَمِيعًا مَعًا فَالْحُكْم فِيهِمَا كَذَلِكَ. [فَصْل قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ عَبِيدًا] . (8649) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: آخِرُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ، فَهُوَ حُرٌّ. فَمَلَكَ عَبِيدًا، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّهُمَا حَيًّا، فَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ عَبْدًا يَكُونُ هُوَ الْآخِرَ، فَإِذَا مَاتَ، عَتَقَ آخِرُهُمْ وَتَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ مَلَكَهُ، فَيَكُونُ إكْسَابَهُ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ أَوْلَادُهَا أَحْرَارًا مِنْ حِينَ وَلَدَتْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ حُرَّةٍ. وَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ حُرَّةً أَجْنَبِيَّةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حِينَ مَلَكَهَا، حَتَّى يَمْلِكَ بَعْدَهَا غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكْ بَعْدَهَا غَيْرَهَا، فَهِيَ آخِرٌ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ ذَلِكَ بِمِلْكِ غَيْرِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ. وَإِنْ مَلَكَ اثْنَيْنِ، دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ، فَالْحُكْمُ فِي عِتْقِهِمَا، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا مَلَكَ اثْنَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. [مَسْأَلَة قَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلِ اشْتَرِنِي مِنْ سَيِّدِي بِهَذَا الْمَالِ فَأَعْتِقْنِي فَفَعَلَ] . (8650) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ اشْتَرِنِي مِنْ سَيِّدِي بِهَذَا الْمَالِ، فَأَعْتِقْنِي. فَفَعَلَ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْبَائِعِ مِثْلَ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ: بِعْنِي بِهَذَا الْمَالِ. فَيَكُونَ الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ بَاطِلًا، وَيَكُونَ السَّيِّدُ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ مَالًا، وَقَالَ: اشْتَرِنِي مِنْ سَيِّدِي بِهَذَا الْأَلْفِ فَأَعْتِقْنِي. فَفَعَلَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَنْقُدَ الْمَالَ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَأَعْتَقَهُ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ وَالْعِتْقُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ، فَنَفَذَ عِتْقُهُ لَهُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءُ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الثَّمَنُ بِالْبَيْعِ، وَاَلَّذِي دَفَعَهُ إلَى السَّيِّدِ كَانَ مِلْكًا لَهُ، لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَيَبْقَى الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَكَانَ الْعِتْقُ مِنْ مَالِهِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَالشِّرَاءُ، بَاطِلٌ، وَالْعِتْقُ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ غَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَمْلُوكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَكُونُ السَّيِّدُ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مَحْكُومٌ بِهِ لِسَيِّدِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ. يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ جَائِزَانِ، وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي مِثْلَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ بَاطِلَانِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَهُ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، وَفِيهِ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْل كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْطَى الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا خَمْسِينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَأَعْتَقَهُ] . (8651) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَأَعْطَى الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا خَمْسِينَ دِينَارًا، عَلَى أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ، فَأَعْتَقَهُ، عَتَقَ، وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَرَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ الْخَمْسِينَ، وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ يَكُونُ بَيْنَ سَيِّدَيْهِ، لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، إلَّا أَنَّ نَصِيبَ الْمُعْتِقِ يَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا، إذْ لَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ عَلَى عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا سَمَّى خَمْسِينَ ثُمَّ دَفَعَهَا إلَيْهِ. وَإِنْ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى عَيْنِهَا، يَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ مَا أَعْتَقَهُ بِالْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ، وَيَسْرِي الْعِتْقُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ. [فَصْل وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكَهُ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ نَصِيبِي حُرٌّ] . (8652) فَصْلٌ: وَلَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكَهُ فِي عِتْقِ نَصِيبِهِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: نَصِيبِي حُرٌّ. عَتَقَ، وَسَرَى إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، يَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ. وَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَ الْمُوَكَّلِ، عَتَقَ، وَسَرَى إلَى نَصِيبِهِ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُوَكَّلِ. وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، احْتَمَلَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَلَمْ يَنْوِ ذَلِكَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِعْتَاقِ، فَانْصَرَفَ إلَى مَا أَمَرَ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا، فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا، وَأَيُّهُمَا حَكَمْنَا بِالْعِتْقِ عَلَيْهِ، ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، فَسَرَى إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الْعِتْقِ، وَقَدْ أَعْتَقَ بِالسِّرَايَةِ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي إتْلَافِ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ وَإِنْ أَتْلَفَهُ بِالسِّرَايَةِ. وَإِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِسَبَبِ الْإِتْلَافِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ: أَعْتِقْ عَبْدَك. فَأَعْتَقَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 [كِتَابُ التَّدْبِيرِ] ِ وَمَعْنَى التَّدْبِيرِ: تَعْلِيقُ عِتْقِ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ. وَالْوَفَاةُ دُبُرُ الْحَيَاةِ، يُقَالُ: دَابَرَ الرَّجُلُ يُدَابِرُ مُدَابَرَةً، إذَا مَاتَ، فَسُمِّيَ الْعِتْقُ بَعْدَ الْمَوْتِ تَدْبِيرًا؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ فِي دُبُرِ الْحَيَاةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ فَاحْتَاجَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَبَاعَهُ مِنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ وَقَالَ أَنْتَ أَحْوَجُ مِنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ مَنْ دَبَّرَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَالْمُدَبَّرُ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنٍ إنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ إنْ كَانَ وَصَّى، وَكَانَ السَّيِّدُ بَالِغًا جَائِزَ الْأَمْرِ، أَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَجِبُ لَهُ أَوْ لَهَا. [مَسْأَلَة قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ قَدْ دَبْرَتك أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي] (8653) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ، أَوْ قَدْ دَبَّرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عَلَّقَ صَرِيحَ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ مُحَرَّرٌ، أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ، بَعْدَ مَوْتِي صَارَ مُدَبَّرًا. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ قَدْ دَبَّرْتك. فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُدَبَّرًا بِنَفْسِ اللَّفْظِ، مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى نِيَّةٍ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي التَّدْبِيرِ، وَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ لَمْ يَكْثُرْ اسْتِعْمَالُهُمَا، فَافْتَقَرَا إلَى النِّيَّةِ، كَالْكِنَايَاتِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا لَفْظَانِ وُضِعَا لِهَذَا الْعَقْدِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى النِّيَّةِ، كَالْبَيْعِ، وَيُفَارِقُ الْكِنَايَاتِ؛ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لَهُ، وَيُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ، وَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَيْنِ، بِخِلَافِ الْمَوْضُوعِ. [فَصْل يَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ] (8654) فَصْلٌ: وَيَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ، أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ فَيَنْفُذُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَالْعِتْقِ فِي الصِّحَّةِ، وَعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ مِنْ الثُّلُثِ، كَالْوَصِيَّةِ، وَيُفَارِقُ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ فَيَنْفُذُ فِي الْجَمِيعِ، كَالْهِبَةِ الْمُنَجَّزَةِ. وَقَدْ نَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَلَيْسَ عَلَيْهَا عَمَلٌ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ رَجَعَ عَنْهُ أَحْمَدُ إلَى مَا نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ. [فَصْل اجْتَمَعَ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَالتَّدْبِيرُ] فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَالتَّدْبِيرُ، قُدِّمَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ. وَإِنْ اجْتَمَعَ التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ، تَسَاوَيَا؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عِتْقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّمَ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَقَعُ فِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ تَقِفُ عَلَى الْإِعْتَاقِ بَعْدَهُ. [فَصْل أَنْوَاعُ التَّدْبِير] . (8656) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا؛ فَالْمُطْلَقُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. وَالْمُقَيَّدُ ضَرْبَانِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 أَحَدُهُمَا، خَاصٌّ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَوْ سَفَرِي هَذَا، أَوْ فِي بَلَدِي هَذَا، أَوْ عَامِي هَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ، إنْ مَاتَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَهَا عَتَقَ الْعَبْدُ، وَإِلَّا لَمْ يَعْتِقْ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ مُدَبَّرٌ الْيَوْمَ؟ قَالَ: يَكُونُ مُدَبَّرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَإِنْ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ صَارَ حُرًّا. يَعْنِي إذَا مَاتَ الْمَوْلَى. الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يُعَلِّقَ التَّدْبِيرَ عَلَى صِفَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَأَنْتَ حُرٌّ مُدَبَّرٌ، أَوْ فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَهَذَا لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ عَلَى شَرْطٍ، فَإِذَا وُجِدَ، صَارَ مُدَبَّرًا، وَعَتَقَ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، وَوُجِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الشَّرْطِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ يَقْتَضِي وُجُودَهُ فِي الْحَيَاةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَلَّقَ عَلَيْهِ عِتْقًا مُنَجَّزًا، فَقَالَ إذَا دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَعْتِقْ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ عَبْدِي. فَمَاتَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ بَيْعِهِ، بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ. وَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَنْ عَلَّقَ عِتْقُهُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُمْكِنُ حُدُوثُ التَّدْبِيرِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَعْتِقُ. وَهُوَ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مُوتِي بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ. فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَعْتِقْ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ بَعْدَ بَيْعِي إيَّاكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَلِأَنَّهُ إعْتَاقٌ لَهُ بَعْدَ قَرَارِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْتِقْ كَالْمُنَجَّزِ. وَالثَّانِيَةُ، يَعْتِقُ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ؛ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَصَّى بِإِعْتَاقِهِ، وَكَمَا لَوْ وَصَّى بِبَيْعِ سِلْعَةٍ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، وَيُفَارِقُ التَّصَرُّفَ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ التَّصَرُّفَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي ثُلُثِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبَيْعِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَبَيْعَ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَسْتَقِرُّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَوْلُهُمْ: حَصَلَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفًا يَثْبُتُ عَقِيبَ مَوْتِهِ، وَيَمْنَعُ انْتِقَالَهُ إلَى الْوَارِثِ، وَإِنْ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ، فَهُوَ ثُبُوتٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَقَدْ قِيلَ: يَكُونُ مُرَاعًى، فَإِذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ. وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْوَارِثِ. فَعَلَى قَوْلِنَا: لَا يَعْتِقُ بِالدُّخُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ. لِلْوَارِثِ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، وَمَنْ صَحَّحَ هَذَا الشَّرْطَ، احْتَمَلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 أَنْ يَمْنَعَ الْوَارِثَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ، فَأَشْبَهَ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الْمَوْتِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَأَمَّا كَسْبُهُ قَبْلَ عِتْقِهِ، فَهُوَ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ مُسْتَقِرٌّ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَارِثُ هُوَ الَّذِي عَلَّقَ عِتْقَهُ. [فَصْل قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرِ] (8657) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، أَوْ قَالَ: بِيَوْمٍ. فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: لَا يَعْتِقُ، وَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الصِّفَةُ. وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: هَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ الْقَاضِيَانِ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو يَعْلَى فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَعْتِقُ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَتَانِ؛ الْمَوْتُ وَمُضِيُّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَعْتِقَهُ الْوَارِثُ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: يَعْتِقُ. يَكُونُ قَبْلَ الْمَوْتِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ، وَكَسْبُهُ لَهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ. وَإِنْ كَانَ أَمَةً، فَوَلَدَتْ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، فَوَلَدُهَا يَتْبَعُهَا فِي التَّدْبِيرِ، وَيَعْتِقُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ، كَمَا تَعْتِقُ هِيَ. [فَصْل قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَقَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ] . (8658) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَقَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ، صَارَ مُدَبَّرًا، وَإِنْ قَرَأَ بَعْضَهُ، لَمْ يَصِرْ مُدَبَّرًا. وَإِنْ قَالَ إذَا قَرَأْت قُرْآنًا، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَقَرَأَ بَعْضَ الْقُرْآنِ، صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى عَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَعَادَ إلَى جَمِيعِهِ، وَهَا هُنَا نَكَّرَهُ، فَاقْتَضَى بَعْضَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . وَقَالَ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَهُ. قُلْنَا قَضِيَّةُ اللَّفْظِ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى بَعْضِهِ بِدَلِيلٍ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَعْضِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَقْتَضِي قِرَاءَةَ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ تَرْغِيبَهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بِتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِهِ، وَمُجَازَاتِهِ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُجَازِي بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَثِيرِ، وَلَا يُرَغِّبُ بِهِ، إلَّا فِيمَا يَشُقُّ، أَمَّا قِرَاءَتُهُ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ فَلَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 [فَصْل قَالَ لِعَبْدِهِ إنَّ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي] . (8659) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ شِئْت، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. أَوْ إذَا شِئْت، أَوْ مَتَى شِئْت، أَوْ أَيَّ وَقْتٍ شِئْت، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَهُوَ تَدْبِيرٌ بِصِفَةِ، فَمَتَى شَاءَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ، صَارَ مُدَبَّرًا، يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَدَخَلَهَا فِي حَيَاتِهِ. وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ مَشِيئَتِهِ، بَطَلَتْ الصِّفَةُ، كَمَا لَوْ مَاتَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ دُخُولِ. الدَّارِ. وَإِنْ قَالَ: مَتَى شِئْت بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَيَّ وَقْتٍ شِئْت بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَهَذَا تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ عَلَى صِفَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَأَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي صِحَّتَهُ، فَعَلَى قَوْلِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى شَاءَ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، عَتَقَ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ كَسْبٍ قَبْلَ مَشِيئَتِهِ، فَهُوَ لِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ قَبِلَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُوصَى بِهِ، فَإِنَّ فِي كَسْبِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَكُون لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَهَا هُنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي قَوْلِهِ: إذَا شِئْت، أَوْ إنْ شِئْت، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ شَاءَ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ مُدَبَّرًا، وَإِنْ تَرَاخَتْ الْمَشِيئَةُ عَنْ الْمَجْلِسِ، بَطَلَتْ، وَلَمْ يَصِرْ مُدَبَّرًا بِالْمَشِيئَةِ بَعْدَهُ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: اخْتَارِي نَفْسَك. فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ يَقِفُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ شِئْت بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ إذَا شِئْت بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ. كَانَ عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا، فَمَتَى شَاءَ عَقِيبَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، أَوْ فِي الْمَجْلِسِ، صَارَ حُرًّا، وَإِنْ تَرَاخَتْ مَشِيئَتُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ، لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ حُرِّيَّةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الطَّلَاقِ، أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنَّ شِئْت، وَشَاءَ أَبُوك. فَشَاءَا مَعًا. وَقَعَ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ شَاءَا عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي، أَوْ شَاءَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَوْرِ، وَالْآخَرُ عَلَى التَّرَاخِي، وَهَذَا مِثْلُهُ، فَيُخَرَّجُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْأُخْرَى. [فَصْلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَا] (8660) فَصْلٌ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا مِتُّ، فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ لَا. أَوْ قَالَ: فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ لَسْت بِحُرٍّ لَمْ يَصِرْ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ، وَلَمْ يَقْطَعْ بِالْعِتْقِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ] (8661) فَصْلٌ: وَإِذَا دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ، لَمْ يَسْرِ التَّدْبِيرُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا، أَنَّهُ يَسْرِي تَدْبِيرُهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، فَسَرَى ذَلِكَ فِيهِ، كَالِاسْتِيلَادِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 وَلَنَا، أَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِصِفَةٍ، فَلَمْ يَسْرِ، كَتَعْلِيقِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ. وَيُفَارِقُ الِاسْتِيلَادَ؛ فَإِنَّهُ آكَدُ، وَلِهَذَا يَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ قَتَلَتْ سَيِّدَهَا، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ اسْتِيلَادِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمُدَبَّرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا، إنْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ، عَتَقَ نَصِيبُهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ. وَهَلْ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، إنْ كَانَ مُوسِرًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا الْخِرَقِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُدَبَّرِ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ، وَسَرَى إلَى نَصِيبِ الْمُدَبَّرِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، فِيهَا وَجْهَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي، لَا يَسْرِي عِتْقُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ قَدْ اسْتَحَقَّ الْوَلَاءَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ إبْطَالُهُ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، وَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» . وَلِأَنَّهُ إذَا سَرَى إلَى إبْطَالِ الْمِلْكِ، الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ الْوَلَاءِ، فَالْوَلَاءُ أَوْلَى، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَيَبْطُلُ بِمَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَ نَصِيبِهِ بِصِفَةٍ. [فَصْلٌ إنْ دَبَّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا] (8662) فَصْلٌ: وَإِنْ دَبَّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَبَقِيَ نَصِيبُ الْآخَرِ عَلَى التَّدْبِيرِ، إنْ لَمْ يَفِ ثُلُثُهُ بِقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ يَفِي بِهِ، فَهَلْ يَسْرِي الْعِتْقُ إلَيْهِ. عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إذَا مُتْنَا، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَنَصِيبُهُ حُرٌّ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَحْمَدَ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ تَدْبِيرًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَصِيبِهِ، وَمَعْنَاهُ إذَا مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، فَنَصِيبُهُ حُرٌّ؛ فَإِنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، فَيَصْرِفُ إلَى مُقَابَلَةِ الْبَعْضِ، كَقَوْلِهِ: رَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ، وَلَبِسُوا ثِيَابَهُمْ، وَأَخَذُوا رِمَاحَهُمْ. يُرِيدُ لَبِسَ كُلُّ إنْسَانٍ ثَوْبَهُ، وَرَكِبَ دَابَّتَهُ وَأَخَذَ رُمْحَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَعْتَقُوا عَبِيدَهُمْ. كَانَ مَعْنَاهُ، أَعْتَقَ كُلُّ وَاحِدٍ عَبْدَهُ وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا تَعْلِيقٌ لِلْحُرِّيَّةِ بِمَوْتِهِمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ: يَعْتِقُ نَصِيبُهُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ بَعْضِ الصِّفَةِ يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِهَا. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةَ، لَعَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، لِوُجُودِ بَعْضِ صِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّنَا قَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا الْقَوْلَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْقَاضِي أَنْ لَا يَعْتِقَ شَيْءٌ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا جَمِيعًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَرَدْت أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ بَعْدَ آخِرِنَا مَوْتًا. انْبَنَى هَذَا عَلَى تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى صِفَةٍ تُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ، عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ مِنْهُمَا، عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، عَتَقَ نَصِيبُ الْآخَرِ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ. وَفِي سِرَايَتِهِ إلَى بَاقِيهِ، إنْ كَانَ ثُلُثُهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، رِوَايَتَانِ. وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إذَا مِتُّ قَبْلَ شَرِيكِي، فَنَصِيبِي لَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ مِتُّ بَعْدَهُ، فَنَصِيبِي حُرٌّ. فَقَدْ وَصَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْآخَرِ، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ، وَصَارَ وَلَاؤُهُ كُلُّهُ لَهُ، إنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ عَلَى صِفَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ. عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ فِي الدَّيْنِ] (8663) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَهُ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُبَاعُ إلَّا فِي دَيْنٍ يَغْلِبُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا، فَكَانَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ، لَمْ يَبِعْ الْعَبْدَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَرَى بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، رَأَيْت أَنْ أَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَاعَ الْمُدَبَّرَ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا غَيْرَهُ، بَاعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلِمَ حَاجَتَهُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَقَالَا: إنْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَجَزْنَاهُ. وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، جَوَازَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مُطْلَقًا؛ فِي الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ، مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا. قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، إذَا كَانَ بِالرَّجُلِ حَاجَةٌ إلَى ثَمَنِهِ، قَالَ: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، مُحْتَاجًا كَانَ إلَى ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ بَيْعَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُشْتَرَى» . وَلِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، أَشْبَهَ أُمَّ الْوَلَدِ. وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عَنْ دَبْرٍ، فَاحْتَاجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 : مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي. فَبَاعَهُ مِنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ وَقَالَ: أَنْتَ أَحْوَجُ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ جَابِرٌ: عَبْدٌ قِبْطِيٌّ، مَاتَ عَامَ أَوَّلَ، فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ: صَحَّتْ أَحَادِيثُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، بِاسْتِقَامَةِ الطُّرُقِ، وَالْخَبَرُ إذَا ثَبَتَ اُسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ رَأْيِ النَّاسِ. وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، ثَبَتَ بِقَوْلِ الْمُعْتِقِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْبَيْعَ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْبَيْعَ فِي الْحَيَاةِ، كَالْوَصِيَّةِ. قَالَ أَحْمَدُ: هُمْ يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: غُلَامِي حُرٌّ رَأْسَ الشَّهْرِ. فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ: غَدًا. فَلَهُ بَيْعُهُ الْيَوْمَ. وَإِنْ قَالَ: إذَا مِتُّ. قَالَ: لَا يَبِيعُهُ، فَالْمَوْتُ أَكْثَرُ مِنْ الْأَجَلِ، لَيْسَ هَذَا قِيَاسًا، إنْ جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ رَأْسِ الشَّهْرِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْمَوْتِ، وَهُمْ يَقُولُونَ فِي مَنْ قَالَ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، فَعَبْدِي حُرٌّ. ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ قَالَ: إنْ مِتُّ، فَهُوَ حُرٌّ. لَا يُبَاعُ. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ، إنَّمَا أَصْلُهُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ، فَلَهُ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ مَا دَامَ حَيًّا. فَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ، فَإِنَّ عِتْقَهَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ سَيِّدِهَا، وَلَيْسَ بِتَبَرُّعٍ، وَيَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ بِحَالٍ، وَالتَّدْبِيرُ بِخِلَافِهِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا بَاعَ الْمُدَبَّرَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَا يُتَجَاوَزُ بِهِ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمُدَبَّرَةِ فِي الدَّيْنِ] (8664) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا تُبَاعُ الْمُدَبَّرَةُ فِي الدَّيْنِ، إلَّا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، الْأَمَةُ كَالْعَبْدِ) لَا نَعْلَمُ هَذَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُدَبَّرِ عَنْ غَيْرِ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا احْتَاطَ فِي رِوَايَةِ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إبَاحَةَ فَرْجِهَا، وَتَسْلِيطَ مُشْتَرِيهَا عَلَى وَطْئِهَا، مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي بَيْعِهَا وَحِلِّهَا، فَكَرِهَ الْإِقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ مِنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ الْبَاتِّ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُهَا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ بَيْعِهَا؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. وَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ فِي مَعْنَى الْمُدَبَّرِ، فَمَا ثَبَتَ فِيهِ، ثَبَتَ فِيهَا. [مَسْأَلَةٌ دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ] (8665) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، رَجَعَ فِي التَّدْبِيرِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ السَّيِّدَ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، عَادَ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ، فَإِذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، عَادَتْ الصِّفَةُ. كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ. ثُمَّ بَاعَهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقٌ بِصِفَةٍ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ وَصِيَّةٌ، فَتَبْطُلُ بِالْبَيْعِ، وَلَا تَعُودُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى بِشَيْءٍ ثُمَّ بَاعَهُ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَمْ تَعُدْ بِشِرَائِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ هَذَا، إلَّا أَنَّ عَوْدَ الصِّفَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وُجِدَ فِيهِ التَّعْلِيقُ بِصِفَةٍ، فَلَا يَزُولُ حُكْمُ التَّعْلِيقِ بِوُجُودِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فِيهِ، بَلْ هُوَ جَامِعٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ وُجُودُ الْحُكْمِ بِسَبَبَيْنِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهَا فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ دَبَّرَهُ ثُمَّ قَالَ قَدْ رَجَعْت فِي تَدْبِيرِي] مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ دَبَّرَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَجَعْت فِي تَدْبِيرِي، أَوْ قَدْ أَبْطَلْتُهُ. لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى، يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ) اخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي بُطْلَانِ التَّدْبِيرِ بِالرُّجُوعِ فِيهِ قَوْلًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةٍ، فَلَا يَبْطُلُ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، وَالثَّانِيَةُ، يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نَفْسَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَصِيَّةً، فَجَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِعَبْدٍ آخَرَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ. وَقَوْلُهُ الْجَدِيدُ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِصِفَةٍ. وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الرِّقُّ، وَلِهَذَا لَا تَقِفُ الْحُرِّيَّةُ عَلَى قَبُولِهِ وَلَا اخْتِيَارِهِ، وَتَتَنَجَّزُ عَقِيبَ الْمَوْتِ، كَتَنَجُّزِهَا عَقِيبَ سَائِرِ الشُّرُوطِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ، فَثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ التَّعْلِيقِ فِي امْتِنَاعِ الرُّجُوعِ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي حُصُولِ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ. [فَصْلٌ قَالَ السَّيِّدُ لِمُدَبَّرِهِ إذَا أَدَّيْت إلَى وَرَثَتِي كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ] (8667) فَصْلٌ: إذَا قَالَ السَّيِّدُ لِمُدَبَّرِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَى وَرَثَتِي كَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ التَّدْبِيرِ وَيَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، إنْ قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ بِالْقَوْلِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَطَلَ التَّدْبِيرُ هَاهُنَا. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ. لَمْ يُؤَثِّرْ الْقَوْلُ شَيْئًا. وَإِنْ دَبَّرَهُ كُلَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهِ، صَحَّ، إذَا قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ فِي جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُدَبِّرَ نِصْفَهُ ابْتِدَاءً، صَحَّ أَنْ يَرْجِعَ فِي تَدْبِيرِ نِصْفِهِ، وَإِنْ غَيَّرَ التَّدْبِيرَ. فَكَانَ مُطْلَقًا، فَجَعَلَهُ مُقَيَّدًا، صَارَ مُقَيَّدًا، إنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي التَّدْبِيرِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَأَطْلَقَهُ، صَحَّ، عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا. وَإِذَا دُبِّرَ الْأَخْرَسُ، وَكَانَتْ إشَارَتُهُ أَوْ كِتَابَتُهُ مَعْلُومَةً، صَحَّ تَدْبِيرُهُ. وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ، إنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ وَكِتَابَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ النَّاطِقِ فِي أَحْكَامِهِ. وَإِنْ دُبِّرَ، وَهُوَ نَاطِقٌ، ثُمَّ صَارَ أَخْرَسَ، صَحَّ رُجُوعُهُ بِإِشَارَتِهِ الْمَعْلُومَةِ أَوْ كِتَابَتِهِ. وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ رُجُوعُهُ. [فَصْلٌ رَهْنُ الْمُدَبَّرِ] (8668) فَصْلٌ: وَإِذَا رُهِنَ الْمُدَبَّرُ، لَمْ يَبْطُلْ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِصِفَةٍ، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ، وَهُوَ رَهْنٌ، عَتَقَ، وَأُخِذَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 تَرِكَةِ سَيِّدِهِ قِيمَتُهُ، فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ سَيِّدِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَهُ بِالْعِتْقِ نَاجِزًا. [فَصْلٌ ارْتَدَّ الْمُدَبَّرُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ] (8669) فَصْلٌ: وَإِنْ ارْتَدَّ الْمُدَبَّرُ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَبْطُلْ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، إنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَإِنْ سَبَاهُ الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَمْلِكُوهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَعْصُومٍ، وَيُرَدُّ إلَى سَيِّدِهِ، إنْ عُلِمَ بِهِ قَبْلَ قَسْمِهِ، وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ حَتَّى قُسِمَ، لَمْ يُرَدَّ إلَى سَيِّدِهِ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى إنْ اخْتَارَ سَيِّدُهُ أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي حُسِبَ بِهِ عَلَى آخِذِهِ، أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ أَخْذَهُ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ. وَمَتَى عَادَ إلَى سَيِّدِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، عَادَ تَدْبِيرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى سَيِّدِهِ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ، كَمَا لَوْ بِيعَ، وَكَانَ رَقِيقًا لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ. وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهُ قَبْلَ سَبْيِهِ، عَتَقَ، فَإِنْ سُبِيَ بَعْدَ هَذَا، لَمْ يُرَدَّ إلَى وَرَثَةِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهُ بِحُرِّيَّتِهِ، فَصَارَ كَأَحْرَارِ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنْ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَأَسْلَمَ، صَارَ رَقِيقًا، يُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، قُتِلَ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إذَا أَسْلَمَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ إبْطَالَ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَعْتَقَهُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ قَتْلَهُ، وَإِذْهَابَ نَفْسِهِ وَوَلَائِهِ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ تَمَلُّكَهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْهُ سَيِّدُهُ، يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْغَانِمِينَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ بِعَيْنِهِ، وَيَثْبُتُ فِيهِ إذَا قُسِمَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَالِكِهِ، وَالْمِلْكُ آكَدُ مِنْ الْوَلَاءِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ مَعَ الْوَلَاءِ وَحْدَهُ أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الْمُدَبَّرُ ذِمِّيًّا، فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ مَاتَ سَيِّدُهُ، أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَسَبَوْهُ، مَلَكُوهُ، وَقَسَمُوهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَا يَمْلِكُونَهُ، فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ذِمِّيًّا، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي قَوْلِ الْقَاضِي. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ. وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ مَالِ الذِّمِّيِّ، كَعِصْمَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ، بِدَلِيلِ قَطْعِ سَارِقِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَوُجُوبِ ضَمَانِهِ، وَتَحْرِيمِ تَمَلُّكِ مَالِهِ، إذَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. قَالَ الْقَاضِي: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ سَيِّدَهُ هَاهُنَا لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، جَازَ تَمَلُّكُهُ، فَجَازَ تَمَلُّكُ عِتْقِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ. قُلْنَا: إنَّمَا جَازَ اسْتِرْقَاقُ سَيِّدِهِ، لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ، وَذَهَابِ عَاصِمِهِ، وَهُوَ ذِمَّتُهُ وَعَهْدُهُ، وَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ مُدَبَّرُهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 فَإِنَّ عِصْمَةَ وَلَائِهِ ثَابِتَةٌ بِعِصْمَةِ مَنْ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَهُوَ وَالْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِذَا جَازَ إبْطَالُ وَلَاءِ أَحَدِهِمَا، جَازَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ. [فَصْلٌ ارْتَدَّ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ] (8670) فَصْلٌ: فَإِنْ ارْتَدَّ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَالتَّدْبِيرُ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، لَمْ يَعْتِقْ الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَهُ زَالَ بِرِدَّتِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، إنَّ تَدْبِيرَهُ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، اسْتَأْنَفَ التَّدْبِيرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّدْبِيرُ بَاقٍ وَيَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ سَبَقَ رِدَّتَهُ، فَهُوَ كَبَيْعِهِ وَهِبَتِهِ قَبْلَ ارْتِدَادِهِ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ، هَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، أَوْ قَدْ زَالَ بِرِدَّتِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَابِ الْمُرْتَدِّ. فَأَمَّا إنْ دَبَّرَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، فَتَدْبِيرُهُ مُرَاعًى، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، تَبَيَّنَّا أَنَّ تَدْبِيرَهُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَعْتِقْ الْمُدَبَّرُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: تَدْبِيرُهُ بَاطِلٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَزُولُ بِالرِّدَّةِ، وَإِذَا أَسْلَمَ رُدَّ إلَيْهِ تَمَلُّكًا مُسْتَأْنَفًا. [مَسْأَلَةٌ مَا وَلَدَتْ الْمُدَبَّرَةُ بَعْدَ تَدْبِيرِهَا] (8671) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا وَلَدَتْ الْمُدَبَّرَةُ بَعْدَ تَدْبِيرِهَا، فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَلَدَ الْحَادِثَ مِنْ الْمُدَبَّرَةِ بَعْدَ تَدْبِيرِهَا، لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَالَ تَدْبِيرِهَا، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ التَّدْبِيرِ، فَهَذَا يَدْخُلُ مَعَهَا فِي التَّدْبِيرِ. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا. فَإِنْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ فِي الْأُمِّ؛ لِبَيْعٍ أَوْ مَوْتٍ، أَوْ رُجُوعٍ بِالْقَوْلِ، لَمْ يَبْطُلْ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ أَصْلًا. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ تَحْمِلَ بِهِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ، فَهَذَا يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي التَّدْبِيرِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا. فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ عَبْدٌ، إذَا لَمْ يَشْرِطْ الْمَوْلَى. قَالَ: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهَا، وَلَا يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَتْبَعُهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُعْتِقِ وَحْدَهُ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 عُلِّقَ عِتْقُهَا بِدُخُولِ الدَّارِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ تَصَدَّقْت بِهِ إذَا مِتُّ، فَإِنَّ ثَمَرَتَهُ لَك مَا عِشْت. وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَوَلَدُ الْمُوصَى بِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ لِسَيِّدِهَا. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا. وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْأُمَّ اسْتَحَقَّتْ الْحُرِّيَّةَ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَيُفَارِقُ التَّعْلِيقَ بِصِفَةٍ فِي الْحَيَاةِ، وَالْوَصِيَّةَ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّدْبِيرَ آكَدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَمَا وُجِدَ فِيهِ سَبَبَانِ آكَدُ مِمَّا وُجِدَ فِيهِ أَحَدُهُمَا، وَكَذَلِكَ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بِالرُّجُوعِ عَنْهُ. فَعَلَى هَذَا، إنْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ فِي الْأُمِّ لِمَعْنًى اخْتَصَّ بِهَا؛ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ رُجُوعٍ، لَمْ يَبْطُلْ فِي وَلَدِهَا، وَيَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ بَاقِيَةً عَلَى التَّدْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ الثُّلُثُ لَهُمَا جَمِيعًا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ، عَتَقَ إنْ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ عِتْقِهِ شَيْءٌ، كُمِّلَ مِنْ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ دَبَّرَ عَبْدًا وَأَمَةً مَعًا. وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي وُجِدَ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ فِي الْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ، وَلَا فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، وَلَا فِي الْكِتَابَةِ، فَلَأَنْ لَا يَتْبَعَ فِي التَّدْبِيرِ أَوْلَى. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ: مَا كَانَ مِنْ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدَبَّرَ، يَتْبَعُهَا. قَالَ: لَا يَتْبَعُهَا مِنْ وَلَدِهَا مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، إنَّمَا يَتْبَعُهَا مَا كَانَ بَعْدَمَا دُبِّرَتْ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت عَمِّي يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُدَبِّرُ الْجَارِيَةَ وَلَهَا وَلَدٌ، قَالَ: وَلَدُهَا مَعَهَا، وَجَعَلَ أَبُو الْخَطَّابِ هَذِهِ رِوَايَةً، فِي أَنَّ وَلَدَهَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ يَتْبَعُهَا. وَهَذَا بَعِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يُرِدْ أَنَّ وَلَدَهَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ مَعَهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ وَلَدَهَا بَعْدَ التَّدْبِيرِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ فَإِنَّ وَلَدَهَا الْمَوْجُودَ لَا يَتْبَعُهَا فِي عِتْقٍ، وَلَا كِتَابَةٍ، وَلَا اسْتِيلَادٍ، وَلَا بَيْعٍ، وَلَا هِبَةٍ، وَلَا رَهْنٍ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِ فِي الرَّقَبَةِ. [فَصْلٌ عَلَّقَ عِتْقَ أَمَتِهِ بِصِفَةٍ] (8672) فَصْلٌ: فَإِنْ عَلَّقَ عِتْقَ أَمَتِهِ بِصِفَةٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا حِينَ التَّعْلِيقِ، تَبِعَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا حِين وُجُودِ الصِّفَةِ، عَتَقَ مَعَهَا لِذَلِكَ. وَإِنْ حَمَلَتْ بَعْدَ التَّعْلِيقِ، وَوَلَدَتْ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، لَمْ يَتْبَعْهَا فِي الصِّفَةِ، وَلَمْ يَعْتِقْ بِوُجُودِهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَعْتِقُ بِهَا، وَيَتْبَعُ أُمَّهُ فِي ذَلِكَ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَوَجْهُ إتْبَاعِهِ إيَّاهَا، أَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الْحُرِّيَّةَ، فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، كَالْمُدَبَّرَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِلْكًا كَامِلًا، وَيُبَاحُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي رَقَبَتِهَا بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، فَلَمْ يَعْتِقْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 وَلَدُهَا بِعِتْقِهَا، كَالْمُوصَى بِعِتْقِهَا، أَوْ الْمُوَكَّلِ فِيهِ، وَتُفَارِقُ الْمُدَبَّرَةَ؛ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ آكَدُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِهَذَا اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا. [فَصْلٌ حُكْمُ وَلَدِ الْمُدَبَّرِ] (8673) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. وَإِنْ تَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي التَّدْبِيرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ التَّسَرِّي تَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَوَلَدُ الْحُرِّ مِنْ أَمَتِهِ يَتْبَعُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ دُونَهَا، كَذَلِكَ وَلَدُ الْمُدَبَّرِ مِنْ أَمَتِهِ يَتْبَعُهُ دُونَهَا، وَلِأَنَّهُ وَلَدُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ أَمَتِهِ، فَيَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ، كَوَلَدِ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ. [فَصْلٌ وَلَدَتْ الْمُدَبَّرَةُ فَرَجَعَ فِي تَدْبِيرِهَا] (8674) فَصْلٌ: وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُدَبَّرَةُ، فَرَجَعَ فِي تَدْبِيرِهَا، وَقُلْنَا بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ، لَمْ يَتْبَعْهَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمُنْفَصِلَ لَا يَتْبَعُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَلَا فِي التَّدْبِيرِ، فَفِي الرُّجُوعِ أَوْلَى. وَإِنْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِهِ وَحْدَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الرُّجُوعُ فِي الْأُمِّ الْمُبَاشَرَةِ بِالتَّدْبِيرِ، فَفِي غَيْرِهَا أَوْلَى. وَإِنْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِهَا، جَازَ، كَمَا لَوْ دَبَّرَهَا وَابْنَهَا الْمُنْفَصِلَ. وَإِنْ دَبَّرَهَا حَامِلًا، ثُمَّ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِهَا حَالَ حَمْلِهَا، لَمْ يَتْبَعْهَا الْوَلَدُ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ، وَالْإِعْتَاقُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، وَالرُّجُوعُ عَنْهُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتْبَع الْوَلَدُ فِيهِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ وُلِدَ لَهُ تَوْأَمَانِ، فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا، لَزِمَاهُ جَمِيعًا، وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا، لَمْ يَنْتَفِ الْآخَرُ، وَإِنْ رَجَعَ فِيهِمَا جَمِيعًا، جَازَ، وَإِنْ رَجَعَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، جَازَ. وَإِنْ دَبَّرَ الْوَلَدَ دُونَ أُمِّهِ، أَوْ الْأُمَّ دُونَ وَلَدِهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ، فَجَوَازُ أَنْ يُدَبِّرَ أَحَدَهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِصِفَةٍ، فَجَازَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَالتَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ. وَإِنْ دَبَّرَ أَمَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَقَدْ رَجَعْت فِي تَدْبِيرِي. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ. وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا، فَقَدْ رَجَعْت فِي تَدْبِيرِهِ. لَمْ يَصِحَّ لِذَلِكَ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَتْ الْمُدَبَّرَةُ وَوَرَثَةُ سَيِّدِهَا فِي وَلَدِهَا] (8675) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْمُدَبَّرَةُ وَوَرَثَةُ سَيِّدِهَا فِي وَلَدِهَا، فَقَالَتْ: وَلَدْتُهُمْ بَعْدَ تَدْبِيرِي، فَعَتَقُوا مَعِي. وَقَالَ الْوَرَثَةُ: بَلْ وَلَدْتِهِمْ قَبْلَ تَدْبِيرِك، فَهُمْ مَمْلُوكُونَ لَنَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رِقِّهِمْ، وَانْتِفَاءُ الْحُرِّيَّةِ عَنْهُمْ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْأَصْلَ. [فَصْلٌ كَسْبُ الْمُدَبَّرِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ] (8676) فَصْلٌ: وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ لِسَيِّدِهِ، وَلَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ شِبْهِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 أَوْ بِالتَّعْلِيقِ لَهُ عَلَى صِفَةٍ، أَوْ بِالِاسْتِيلَادِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَسْبُهُمْ لِسَيِّدِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ. فَإِنْ اخْتَلَفَ هُوَ وَوَرَثَةُ سَيِّدِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَقَالَ: كَسَبْته بَعْدَ حُرِّيَّتِي. وَقَالُوا: بَلْ قَبْلَ ذَلِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ. فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْوَرَثَةِ، عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَبَّرِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ. وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ تَجَدَّدَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُمْ. فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَبَّرُ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، قُبِلَتْ، وَتُقَدَّمُ عَلَى بَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ إنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَبَّرِ تَشْهَدُ بِزِيَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمُدَبَّرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ فَأَقَامَ الْوَرَثَةُ بَيِّنَةً بِهِ، فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ إصَابَةُ مُدَبَّرَتِهِ أَيْ وَطْؤُهَا] (8677) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَهُ إصَابَةُ مُدَبَّرَتِهِ) يَعْنِي: لَهُ وَطْؤُهَا. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ دَبَّرَ أَمَتَيْنِ، وَكَانَ يَطَؤُهُمَا. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ ذَلِكَ، غَيْرَ الزُّهْرِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنْ كَانَ يَطَؤُهَا قَبْلَ تَدْبِيرِهَا، فَلَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا قَبْلَهُ، لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ تَدْبِيرِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، لَمْ تَشْتَرِ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَحَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 30] . وَكَأُمِّ الْوَلَدِ. (8678) فَصْلٌ: وَابْنَةُ الْمُدَبَّرَةِ كَأُمِّهَا؛ فِي حِلِّ وَطْئِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ أُمَّهَا. وَعَنْهُ لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَبَتَ لَهَا تَبَعًا، أَشْبَهَ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ. وَلَنَا، أَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهَا تَامٌّ عَلَيْهَا، فَحَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِلْآيَةِ، وَكَأُمِّهَا، وَاسْتِحْقَاقُهَا لِلْحُرِّيَّةِ لَا يَزِيدُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ أُمِّهَا، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وَطْأَهَا. وَأَمَّا وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ، فَأُلْحِقَتْ بِأُمِّهَا، وَأُمُّهَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا فَكَذَلِكَ ابْنَتُهَا، وَأُمُّ هَذِهِ يَحِلُّ وَطْؤُهَا، فَيَجِبُ إلْحَاقُهَا بِهَا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَطِئَ أُمَّهَا، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ أَنْكَرَ التَّدْبِيرَ] (8679) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ أَنْكَرَ التَّدْبِيرَ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْعَبْدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ دَبَّرَهُ، فَدَعْوَاهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ إذَا أَنْكَرَ التَّدْبِيرَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْكَارُ الْوَصِيَّةِ رُجُوعٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 عَنْهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَكُونُ إنْكَارُ التَّدْبِيرِ رُجُوعًا عَنْهُ، وَالرُّجُوعُ عَنْهُ يُبْطِلُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَتَبْطُلُ الدَّعْوَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدَّعْوَى صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ التَّدْبِيرِ لَا يُبْطِلُهُ، وَلَوْ أَبْطَلَهُ فَمَا ثَبَتَ كَوْنُ الْإِنْكَارِ رُجُوعًا، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْإِنْكَارُ جَوَابًا لِلدَّعْوَى، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهَا إقْرَارًا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ السَّيِّدَ إنْ أَقَرَّ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ تَكُنْ لِلْعَبْدِ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَبْدِ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بِهَا، وَيُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ، بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ مَعَهُ. أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يُحْكَمُ بِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ، وَكَمَالُ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ. وَالثَّانِيَةُ، يَثْبُتُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ يَزُولُ بِهِ مِلْكُهُ عَنْ مَمْلُوكِهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَهَذَا أَجْوَدُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ إزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا. وَإِنْ حَصَلَ بِهِ غَرَضٌ آخَرُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يُتَشَوَّفُ إلَيْهِ، وَيُبْنَى عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَهَّلَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَوَرَثَةِ السَّيِّدِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ الْخِلَافُ مَعَ السَّيِّدِ، إلَّا أَنَّ الدَّعْوَى صَحِيحَةٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الرُّجُوعَ، وَأَيْمَانُهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي فِعْلِ مَوْرُوثِهِمْ، وَأَيْمَانُهُمْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِهِ، وَتَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَمَنْ نَكَلَ مِنْهُ، عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَلَمْ يَسْرِ إلَى بَاقِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِفِعْلِ الْمَوْرُوثِ، لَا بِفِعْلِ الْمُقِرِّ، وَلَا النَّاكِلِ. [مَسْأَلَةٌ دَبَّرَ عَبْدَهُ وَمَاتَ وَلَهُ مَالٌ غَائِبٌ] (8680) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ، وَمَاتَ، وَلَهُ مَالٌ غَائِبٌ، أَوْ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ مُوسِرٍ أَوْ مُعْسِرٍ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ ثُلُثُهُ، وَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ، أَوْ حَضَرَ مِنْ مَالِهِ الْغَائِبِ شَيْءٌ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ مِقْدَارُ ثُلُثِهِ، كَذَلِكَ مَنْ يَعْتِقُ الثُّلُثَ حَتَّى كُلَّهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ، وَمَاتَ، وَلَهُ مَالٌ سِوَاهُ يَفِي بِثُلُثَيْ مَالِهِ، إلَّا أَنَّهُ غَائِبٌ، أَوْ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ إنْسَانٍ، لَمْ يَعْتِقْ جَمِيعُ الْعَبْدِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلَفَ الْغَائِبُ، أَوْ يَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ، فَيَكُونَ الْعَبْدُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِيهَا، لَهُ ثُلُثُهَا، وَلَهُمْ ثُلُثَاهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى جَمِيعِهَا، وَلَكِنَّهُ يَتَنَجَّزُ عِتْقُ ثُلُثِهِ، وَيَبْقَى ثُلُثَاهُ مَوْقُوفَيْنِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَهُ حُرٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ سَائِرِ الْمَالِ شَيْءٌ، فَيَكُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 الْعَبْدُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، فَيَعْتِقُ ثُلُثُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، أَوْ حَضَرَ مِنْ الْغَائِبِ شَيْءٌ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً، وَقَدِمَ مِنْ الْغَائِبِ مِائَةٌ، عَتَقَ ثُلُثُهُ الثَّانِي، فَإِذَا قَدِمَتْ مِائَةٌ أُخْرَى، عَتَقَ ثُلُثُهُ الْبَاقِي. وَإِنْ بَقِيَ لَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ مَالٌ غَائِبٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ بَقَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ الْمَالِ يُخْرِجُ الْمُدَبَّرَ كُلَّهُ مِنْ ثُلُثِهِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ، لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، حَتَّى يُسْتَوْفَى مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، أَوْ يَقْدَمَ مِنْ الْغَائِبِ شَيْءٌ، فَيَعْتِقُ مِنْ الْعَبْدِ قَدْرُ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ، وَالْعَبْدُ شَرِيكُهُمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى شَيْءٍ، مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِثْلَاهُ. فَإِنْ تَلِفَ الْغَائِبُ، وَيَئِسَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، عَتَقَ ثُلُثُهُ حِينَئِذٍ، وَمَلَكُوا ثُلُثَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْعَبْدِ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ يَقِينًا، وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ يَقِينًا، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا يَقِينًا، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ صَحِيحٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَنْفُذُ فِي الثُّلُثِ. وَوَقْفُ هَذَا الثُّلُثِ عَنْ الْعِتْقِ - مَعَ يَقِينِ حُصُولِ الْعِتْقِ فِيهِ، وَوُجُودِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي وَقْفِهِ - لَا مَعْنَى لَهُ. وَكَوْنُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ، لِمَعْنَى اخْتَصَّ بِهِمْ، لَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ؟ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ، بَرِئَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي الْحَالِ، وَتَأَخَّرَ اسْتِيفَاءُ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْأَجَلِ. وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا، بَرِئَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي الْحَالِ، وَتَأَخَّرَ الْبَاقِي إلَى الْمَيْسَرَةِ. وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ عِتْقِ الثُّلُثِ لَا فَائِدَةَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ، وَيُفَوِّتُ نَفْعَهُ لِلْمُدَبَّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَتَقَ كُلُّهُ، بِقُدُومِ الْغَائِبِ، أَوْ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ كَسْبُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ، وَوُجُودِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ حُرِّيَّتَهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ، وَإِنَّمَا وَقَفْنَاهُ لِلشَّكِّ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا زَالَ الشَّكُّ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ زَوَالِ الشَّكِّ. وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ ثُلُثَاهُ رَقِيقًا، وَلَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ سِوَى ثُلُثِهِ. وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ، رَقَّ مِنْ الْمُدَبَّرِ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ ثُلُثِ الْحَاصِلِ مِنْ الْمَالِ. [فَصْلٌ كَانَ الْمُدَبَّرُ عَبْدَيْنِ وَلَهُ دَيْنٌ] (8681) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ عَبْدَيْنِ، وَلَهُ دَيْنٌ، يَخْرُجَانِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَيَعْتِقُ مِمَّنْ تَخْرُجُ لَهُ الْقُرْعَةُ قَدْرُ ثُلُثِهِمَا، وَكَانَ بَاقِيهِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ مَوْقُوفًا. فَإِذَا اُسْتُوْفِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ كَمُلَ مِنْ عِتْقِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ قَدْرُ ثُلُثِهِ، وَمَا فَضَلَ عَتَقَ مِنْ الْآخَرَ، كَذَلِكَ حَتَّى يَعْتِقَا جَمِيعًا، أَوْ مِقْدَارُ الثُّلُثِ مِنْهُمَا. وَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ، لَمْ يَرِدْ الْعِتْقُ عَلَى قَدْرِ ثُلُثِهِمَا. وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ الْعِتْقُ فِيهِ، وَعَتَقَ مِنْ الْآخَرِ ثُلُثُهُ. [فَصْلٌ دَبَّرَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلَهُ مِائَةٌ دَيْنًا] (8682) فَصْلٌ: وَإِذَا دَبَّرَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلَهُ مِائَةٌ دَيْنًا، عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَرَقَّ ثُلُثُهُ، وَوَقَفَ ثُلُثُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الثُّلُثِ الْبَاقِي. وَإِذَا كَانَتْ لَهُ مِائَةٌ حَاضِرَةٌ مَعَ ذَلِكَ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَاهُ، وَوَقَفَ ثُلُثُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ. [فَصْلٌ دَبَّرَ عَبْدَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلَهُ ابْنَانِ وَلَهُ مِائَتَانِ دَيْنًا عَلَى أَحَدِهِمَا] (8683) فَصْلٌ: وَإِنْ دَبَّرَ عَبْدَهُ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلَهُ ابْنَانِ، وَلَهُ مِائَتَانِ دَيْنًا عَلَى أَحَدِهِمَا، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْهُ الْمُسْتَوْفَى، وَيَسْقُطُ عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْهُ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَيَبْقَى الْآخَرُ عَلَيْهِ مِائَةٌ، كُلَّمَا اسْتَوْفَى مِنْهَا شَيْئًا، عَتَقَ قَدْرُ ثُلُثِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمِائَتَانِ دَيْنًا عَلَى الِابْنَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، عَتَقَ الْمُدَبَّرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ قَدْرُ حَقِّهِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِسُقُوطِهِ مِنْ ذِمَّتِهِ. [فَصْلٌ دَبَّرَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَلَفَ ابْنَيْنِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ دَيْنًا لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ] (8684) فَصْلٌ: فَإِنْ دَبَّرَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَخَلَفَ ابْنَيْنِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ دَيْنًا لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ ثُلُثُهُ، وَسَقَطَ عَنْ الْغَرِيمِ مِائَةٌ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سُدُسُ الْعَبْدِ، وَلِلِابْنَيْنِ ثُلُثُهُ، وَيَبْقَى سُدُسُ الْعَبْدِ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ الْمَالِ ثُلُثَاهُ، وَهُوَ الْعَبْدُ وَالْمِائَةُ السَّاقِطَةُ عَنْ الْغَرِيمِ، وَثُلُثُ ذَلِكَ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْوَصِيِّ نِصْفَيْنِ، فَحِصَّةُ الْمُدَبَّرِ مِنْهُ ثُلُثُهُ، يَعْتِقُ فِي الْحَالِ، وَيَبْقَى لَهُ السُّدُسُ مَوْقُوفًا، فَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ شَيْءٌ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ قَدْرُ سُدُسِهِ، وَيَكُونُ الْمُسْتَوْفَى بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَالْوَصِيِّ أَثْلَاثًا، فَإِذَا اُسْتُوْفِيَتْ كُلُّهَا، حَصَلَ لِلِابْنِ ثُلُثَاهَا، وَثُلُثُ الْعَبْدِ وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ، وَكَمُلَ فِي الْمُدَبَّرِ عِتْقُ نِصْفِهِ، وَحَصَلَ لِلْوَصِيِّ سُدُسُ الْعَبْدِ وَثُلُثُ الْمِائَةِ، وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْ الْمُدَبَّرِ إلَّا سُدُسُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ التَّرِكَةِ هُوَ الْعَبْدُ، وَثُلُثُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ الْآخَرِ، وَلِلْوَصِيِّ سُدُسُهُ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سُدُسُهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ مَوْقُوفًا، فَكُلَّمَا اُقْتُضِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، عَتَقَ مِنْ الْمُدَبَّرِ قَدْرُ سُدُسِهِ، وَكَانَ الْمُسْتَوْفَى بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَالْوَصِيِّ أَسْدَاسًا؛ لِلْوَصِيِّ سُدُسُهُ، وَلَهُمَا خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ، فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ الْمِائَةِ وَثُلُثُهَا وَسُدُسُ الْعَبْدِ، وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ، وَيَحْصُلُ لِلْوَصِيِّ سُدُسُ الْمِائَتَيْنِ وَسُدُسُ الْعَبْدِ، وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ، وَيَعْتِقُ مِنْ الْمُدَبَّرِ نِصْفُهُ، وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ. [مَسْأَلَةٌ دَبَّرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ] (8685) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا دَبَّرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَانَ تَدْبِيرُهُ جَائِزًا، إذَا كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ فَصَاعِدًا، وَكَانَ يَعْرِفُ التَّدْبِيرَ. وَمَا قُلْتُهُ فِي الرَّجُلِ، فَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُ، إذَا كَانَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ فَصَاعِدًا) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 وَجُمْلَتُهُ أَنَّ تَدْبِيرَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَوَصِيَّتَهُ، جَائِزَةٌ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: بَعْضُ أَصْحَابِهِ: هُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَشُرَيْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ، كَالْمَجْنُونِ. وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْتَاقُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ تَدْبِيرُهُ، كَالْمَجْنُونِ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَوْصَى لِأَخْوَالٍ لَهُ مِنْ غَسَّانَ، بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ جُشَمَ قُوِّمَتْ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَازَ الْوَصِيَّةَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَكَانَ الْغُلَامُ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ غُلَامٍ مِنْ غَسَّانَ يَافِعٍ، وَصَّى لِبِنْتِ عَمِّهِ، فَأَجَازَ عُمَرُ وَصِيَّتَهُ. وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ صِحَّةَ وَصِيَّتِهِ وَتَدْبِيرِهِ أَحَظُّ لَهُ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُمَا بَاقِيًا لَا يَلْزَمُهُ، فَإِذَا مَاتَ كَانَ ذَلِكَ صِلَةً وَأَجْرًا، فَصَحَّ، كَوَصِيَّةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، وَيُخَالِفُ الْعِتْقَ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَالِهِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَوَقْتِ حَاجَتِهِ. فَأَمَّا تَقْيِيدُ مَنْ يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ بِمَنْ لَهُ عَشْرٌ؛ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاعْتَبَرَ الْمَرْأَةَ بِتِسْعٍ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إذَا بَلَغَتْ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ، فَهِيَ امْرَأَةٌ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْفُوعًا. وَلِأَنَّهُ السِّنُّ الَّذِي يُمْكِنُ بُلُوغُهَا فِيهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ سِوَى ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 (8686) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ مِنْهُ الرُّجُوعُ. إنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ مِنْ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ، صَحَّ رُجُوعُهُ، كَالْمُكَلَّفِ. وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ، قَامَ وَلِيُّهُ فِي بَيْعِهِ مَقَامَهُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِي بَيْعِهِ، فَبَاعَهُ، صَحَّ مِنْهُ. [فَصْلٌ تَدْبِيرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ وَوَصِيَّتُهُ] (8687) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَدْبِيرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، وَوَصِيَّتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ. وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَجْنُونِ، وَلَا تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا، وَيُفِيقُ يَوْمًا، صَحَّ تَدْبِيرُهُ فِي إفَاقَتِهِ. [فَصْلٌ تَدْبِيرُ الْكَافِرِ] (8688) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَدْبِيرُ الْكَافِرِ؛ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا صَحِيحًا، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، كَالْمُسْلِمِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مِلْكُهُ صَحِيحًا، لَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. قُلْنَا: هَذَا لَا يُنَافِي الْمِلْكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ فِي النِّكَاحِ، وَيَمْلِكُ زَوْجَتَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ قَضَائِهِ، أُخِذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَحُكْمُ تَدْبِيرِهِ حُكْمُ تَدْبِيرِ الْمُسْلِمِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ أَسْلَمَ مُدَبَّرُ الْكَافِرِ، أُمِرَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ، وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَبْقَى الْكَافِرُ مَالِكًا لِلْمُسْلِمِ، كَغَيْرِ الْمُدَبَّرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُتْرَكَ فِي يَدِ عَدْلٍ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، أُجْبِرَ سَيِّدُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّ فِي بَيْعِهِ إبْطَالَ سَبَبِ الْعِتْقِ، وَإِزَالَةَ غَرَضِيَّتِهِ فَكَانَ إبْقَاؤُهُ أَصْلَحَ، فَتَعَيَّنَ، كَأُمِّ الْوَلَدِ. فَإِنْ قُلْنَا بِبَيْعِهِ، فَبَاعَهُ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يُتْرَكُ فِي يَدِ عَدْلٍ. فَإِنَّهُ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَتَوَلَّى اسْتِعْمَالَهُ وَاسْتِكْسَابَهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَمَا فَضَلَ فَلِسَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِنَفَقَتِهِ، فَالْبَاقِي عَلَى سَيِّدِهِ. وَإِنْ اتَّفَقَ هُوَ وَسَيِّدُهُ عَلَى الْمُخَارَجَةِ، جَازَ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِذَا مَاتَ سَيِّدُهُ، عَتَقَ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَبِيعَ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ إنْ كَانُوا كُفَّارًا. وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْمَوْتِ، تُرِكَ. وَإِنْ رَجَعَ سَيِّدُهُ فِي تَدْبِيرِهِ، وَقُلْنَا بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ، بِيعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ كَمُسْتَأْمَنٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّنَا نَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ التَّمَكُّنِ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ] (8689) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ) . إنَّمَا يَبْطُلُ تَدْبِيرُهُ بِقَتْلِهِ سَيِّدَهُ لِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ اسْتِعْجَالَ الْعِتْقِ بِالْقَتْلِ الْمُحَرَّمِ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَهُوَ إبْطَالُ التَّدْبِيرِ، كَمَنْعِ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ فَائِدَةٌ تَحْصُلُ بِالْمَوْتِ، فَتَنْتَفِي بِالْقَتْلِ، كَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي، أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَتَبْطُلُ بِالْقَتْلِ، كَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِكَوْنِهِ آكَدَ، فَإِنَّهَا صَارَتْ بِالِاسْتِيلَادِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا بِحَالٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، وَلَا هِبَتُهَا، وَلَا رَهْنُهَا، وَلَا الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، وَلَا غَيْرِهِ، وَالْإِرْثُ نَوْعٌ مِنْ النَّقْلِ، فَلَوْ لَمْ تَعْتِقْ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا لَانْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهَا إلَى الْوَارِثِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ الْفِعْلُ وَالْبَعْضِيَّةُ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَيِّدِهَا بِوَاسِطَةِ وَلَدِهَا، وَهَذَا آكَدُ مِنْ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا انْعَقَدَ اسْتِيلَادُ الْمَجْنُونِ، وَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ وَلَا تَدْبِيرُهُ، وَسَرَى حُكْمُ اسْتِيلَادِ الْمُعْسِرِ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ، وَعَتَقَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالتَّدْبِيرُ لَا يَنْفُذُ إلَّا فِي الثُّلُثِ، وَلَا يَمْلِكُ الْغُرَمَاءُ إبْطَالَ عِتْقِهَا وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهَا مُفْلِسًا، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ، تَأَكُّدُ الْحُكْمِ فِيمَا دُونَهُ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ إلْحَاقُهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي افْتَرَقَا فِيهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ، وَإِبْطَالِ وَصِيَّةِ الْقَاتِلِ. [فَصْلٌ كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ مُوجِبَةً لِلْمَالِ أَوْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ فَعَفَا الْوَلِيُّ إلَى مَالٍ] (8690) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ جِنَايَاتِهِ، غَيْرُ قَتْلِ سَيِّدِهِ، فَلَا تُبْطِلُ تَدْبِيرَهُ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ، أَوْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَعَفَا الْوَلِيُّ إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ الْمَالُ بِرَقَبَتِهِ، فَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، جَعَلَ سَيِّدَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ فَيُبَاعُ فِي الْجِنَايَةِ، وَبَيْنَ فِدَائِهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ فِي الْجِنَايَةِ فَبِيعَ فِيهَا، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ، وَإِنْ عَادَ إلَى سَيِّدِهِ، عَادَ تَدْبِيرُهُ، وَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، وَفَدَاهُ بِمَا يُفْدَى بِهِ الْعَبْدُ، فَهُوَ مُدَبَّرٌ بِحَالِهِ. وَمَنْ لَمْ يُجِزْ بَيْعَهُ، عَيَّنَ فِدَاءَهُ عَلَى سَيِّدِهِ، كَأُمِّ الْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ فِي النَّفْسِ، بَطَلَ تَدْبِيرُهُ، وَإِنْ اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الطَّرَفِ، فَهُوَ مُدَبَّرٌ بِحَالِهِ. وَإِذَا مَاتَ سَيِّدُهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ، وَقَبْلَ اسْتِيفَائِهَا، عَتَقَ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ أَوْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِتْقِ وُجِدَتْ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَهُ بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ قِصَاصًا، اُسْتُوْفِيَ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِقِّهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَالًا فِي رَقَبَتِهِ، فُدِيَ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْمُدَبَّرِ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ لِسَيِّدِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ بِهَلَاكِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ قِيمَتَهُ قَائِمَةً مَقَامَهُ، كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَالْمَوْقُوفِ إذَا جُنِيَ عَلَيْهِ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْفِ وَالرَّهْنِ لَازِمٌ، فَتَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَدَلِهِ، وَالتَّدْبِيرُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْحَقُّ بِبَدَلِهِ. الثَّانِي، أَنَّ الْحَقَّ فِي التَّدْبِيرِ لِلْمُدَبَّرِ، فَبَطَلَ حَقُّهُ بِفَوَاتِ مُسْتَحِقِّهِ، وَالْبَدَلُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحَقُّ فِي الْوَقْفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَفِي الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ بَاقٍ، فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي بَدَلِ مَحَلِّ حَقِّهِ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْمُدَبَّرَ إنَّمَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِوُجُودِ مَوْتِ سَيِّدِهِ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ سَيِّدِهِ، فَقَدْ هَلَكَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَالْوَقْفِ، فَإِنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِيهِمَا، فَقَامَ بَدَلُهُمَا مَقَامَهُمَا، وَبَيْنَ الرَّهْنِ وَالْمُدَبَّرِ فَرْقٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ، وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ التَّدْبِيرِ فِيهَا، وَلَا قِيَامُهَا مَقَامَ الْمُدَبَّرِ فِيهِ، وَإِنْ أَخَذَ عَبْدًا مَكَانَهُ، فَلَيْسَ هُوَ الْبَدَلَ، إنَّمَا هُوَ بَدَلُ الْقِيمَةِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ فَإِنَّ الْقِيمَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَهْنًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمَوْقُوفُ، فَإِنَّهُ إذَا قُتِلَ، أُخِذَتْ قِيمَتُهُ، فَاشْتُرِيَ بِهَا عَبْدٌ يَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ. قُلْنَا: قَدْ حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالرَّهْنِ مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَكَوْنُهُ لَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَقْفِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا يَمْنَعُ أَنْ يَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّهْنِ بِهِ. [فَصْلٌ دَبَّرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ] (8691) فَصْلٌ: وَإِذَا دَبَّرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، ثُمَّ كَاتَبَهُ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ. وَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَبَّرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ خَادِمًا لَهَا، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تُكَاتِبَهُ، قَالَ: فَكُنْت الرَّسُولَ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: كَاتِبِيهِ، فَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ فَذَاكَ، وَإِنْ حَدَثَ بِك حَدَثٌ عَتَقَ. قَالَ: وَأَرَاهُ قَالَ: عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَهُ. وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ إنْ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ، لَمْ يَمْنَعْ الْكِتَابَةَ، كَاَلَّذِي عَلَّقَ عِتْقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً، لَمْ يَمْنَعْهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالْكِتَابَةَ سَبَبَانِ لِلْعِتْقِ، فَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كَتَدْبِيرِ الْمُكَاتَبِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ التَّدْبِيرَ يَبْطُلُ بِالْكِتَابَةِ، إذَا قُلْنَا: هُوَ وَصِيَّةٌ. كَمَا لَوْ وَصَّى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ كَاتَبَهُ. وَهَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ. وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرُ الْوَصِيَّةَ بِهِ لِرَجُلٍ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ لَا يَتَنَافَيَانِ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا جَمِيعًا الْعِتْقَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، كَانَ آكَدَ لِحُصُولِهِ، فَإِنَّهُ إذَا فَاتَ عِتْقُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 مِنْ أَحَدِهِمَا، حَصَلَ بِالْآخَرِ، وَأَيُّهُمَا وُجِدَ قَبْلَ صَاحِبِهِ، حَصَلَ الْعِتْقُ بِهِ، وَمَقْصُودُ الْوَصِيَّةِ بِهِ وَالْكِتَابَةِ يَتَنَافَيَانِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُرَادُ لِلْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةَ تُرَادُ لِحُصُولِ الْمِلْكِ فِيهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ أَدَّى فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، صَارَ حُرًّا بِالْكِتَابَةِ، وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَسَقَطَ مِنْ الْكِتَابَةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ، وَكَانَ عَلَى الْكِتَابَةِ فِيمَا بَقِيَ. وَإِنْ أَدَّى الْبَعْضَ، ثُمَّ مَاتَ سَيِّدُهُ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَسَقَطَ بَاقِي الْكِتَابَةِ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَسَقَطَ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْمَالِ، وَأَدَّى مَا بَقِيَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 [كِتَابُ الْمُكَاتَبِ] ِ الْكِتَابَةُ: إعْتَاقُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدَّى مُؤَجَّلًا، سُمِّيَتْ كِتَابَةً؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَكْتُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كِتَابًا بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كِتَابَةً مِنْ الْكَتْبِ، وَهُوَ الضَّمُّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَضُمُّ بَعْضَ النُّجُومِ إلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْخَرَزُ كِتَابًا؛ لِأَنَّهُ يَضُمُّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ بِخَرْزِهِ. وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ: وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ ... حَرْفًا وَلَا قَرَءُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ، فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى: وَفْرَاءَ غُرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ يَصِفُ قِرْبَةً يَسِيلُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ خَرْزِهَا. وَسُمِّيَتْ الْكَتِيبَةُ كَتِيبَةً لِانْضِمَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، وَالْمُكَاتَبُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 يَضُمُّ بَعْضَ نُجُومِهِ إلَى بَعْضٍ، وَالنُّجُومُ هَاهُنَا الْأَوْقَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ الْحِسَابَ، وَإِنَّمَا تَعْرِفُ الْأَوْقَاتَ بِطُلُوعِ النُّجُومِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا سُهَيْلٌ أَوَّلَ اللَّيْلِ طَلَعْ ... فَابْنُ اللَّبُونِ الْحِقُّ وَالْحِقُّ جَذَعْ فَسُمِّيَتْ الْأَوْقَاتُ نُجُومًا. وَالْأَصْلُ فِي الْكِتَابَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . وَرَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعَانَ غَارِمًا، أَوْ غَازِيًا، أَوْ مُكَاتَبًا فِي كِتَابَتِهِ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» . فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ سِوَاهُمَا، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْكِتَابَةِ. [فَصْلٌ إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ مُكَاتَبَتَهُ] (8692) فَصْلٌ: إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ مُكَاتَبَتَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إجَابَتُهُ، إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ. فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، إذَا دَعَا الْعَبْدُ الْمُكْتَسِبُ الصَّدُوقُ سَيِّدَهُ إلَيْهَا، فَعَلَيْهِ إجَابَتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَدَاوُد. وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْشَى أَنْ يَأْثَمَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 وَرُوِيَ أَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، كَانَ عَبْدًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ، فَأَبَى، فَأَخْبَرَ سِيرِينُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَرَفَعَ الدِّرَّةَ عَلَى أَنَسٍ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . فَكَاتَبَهُ أَنَسٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ إعْتَاقٌ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يَجِبْ، كَالِاسْتِسْعَاءِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ، وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يُخَالِفُ فِعْلَ أَنَسٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: الْخَيْرُ صِدْقٌ، وَصَلَاحٌ، وَوَفَاءٌ بِمَالِ الْكِتَابَةِ، وَنَحْوُ هَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَعِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غِنًى، وَإِعْطَاءٌ لِلْمَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غِنًى، وَأَدَاءٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: صِدْقٌ، وَوَفَاءٌ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: مَالٌ، وَصَلَاحٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ، وَأَمَانَةٌ. وَهَلْ تُكْرَهُ كِتَابَةُ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ أَوْ لَا؟ قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ كَرَاهِيَتُهُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْرَهُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ. وَلَمْ يَكْرَهْهُ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ «لِأَنَّ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، كَاتَبَهَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، فَأَدَّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا، وَتَزَوَّجَهَا.» وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ، «بِأَنَّ بَرِيرَةَ كَاتَبَتْ وَلَا حِرْفَةَ لَهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا فِي عِتْقِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَضَرَّرُ بِالْكِتَابَةِ وَيَضِيعُ، لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، كُرِهَتْ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ، لَمْ تُكْرَهْ كِتَابَتُهُ؛ لِحُصُولِ النَّفْعِ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ. فَأَمَّا جُوَيْرِيَةُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ أَهْلٍ، وَمَالٍ وَكَانَتْ ابْنَةَ سَيِّدِ قَوْمِهِ، فَإِذَا عَتَقَتْ، رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لَهَا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَارَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْتَقَ النَّاسُ مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمْ يُرَ امْرَأَةٌ أَعْظَمُ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا. وَأَمَّا بَرِيرَةُ، فَإِنَّ كِتَابَتَهَا تَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَرَاهَتِهِ. قَالَ مَسْرُوقٌ: إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ الْمُكَاتَبَةَ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَكْسَبَةٌ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَلْيُكَاتِبْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَكْسَبَةٌ، فَلْيُحْسِنْ مَلَكْتَهُ، وَلَا يُكَلِّفْهُ إلَّا طَاقَتَهُ. [فَصْلٌ الْكِتَابَةُ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ] (8693) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ إلَّا مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالطِّفْلُ، فَلَا تَصِحُّ مُكَاتَبَتُهُمَا لِرَقِيقِهِمَا، وَلَا مُكَاتَبَةُ سَيِّدِهِمَا لَهُمَا، وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ؛ فَإِنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، صَحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ إعْتَاقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ كَالْعِتْقِ بِغَيْرِ مَالٍ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَأْذَنْ وَلِيُّهُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُمَيِّزُ سَيِّدَهُ، صَحَّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِمَا جَمِيعًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ وَبَيْعُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، فَصَحَّتْ مِنْهُ الْكِتَابَةُ بِذَلِكَ، كَالْمُكَلَّفِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] . وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ لَهُ، بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 إلَيْهِ، لِيُعْلَمَ هَلْ يَقَعُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ يَغْبِنُ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ أَوْ لَا؟ وَإِيجَابُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْمُمَيِّزِ الْمُكَاتَبَةَ إذْنٌ لَهُ فِي قَبُولِهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ الْمُكَاتِبُ طِفْلًا أَوْ مَجْنُونًا، فَلَا حُكْمَ لِتَصَرُّفِهِ وَلَا قَوْلِهِ. وَإِنْ كَاتَبَ الْمُكَلَّفُ عَبْدَهُ الطِّفْلَ أَوْ الْمَجْنُونَ، لَمْ يَثْبُتْ لِهَذَا التَّصَرُّفِ حُكْمُ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِمَا، وَلَكِنْ إنْ قَالَ: إنْ أَدَّيْتُمَا إلَيَّ، فَأَنْتُمَا حُرَّانِ. فَأَدَّيَا، عَتَقَ بِالصِّفَةِ لَا بِالْكِتَابَةِ، وَمَا فِي أَيْدِيهِمَا لِسَيِّدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، لَمْ يَعْتِقَا. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَعْتِقَانِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الصِّفَةِ، فَيَحْصُلُ الْعِتْقُ هَاهُنَا بِالصِّفَةِ الْمَحْضَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ صَرِيحًا وَلَا مَعْنًى، وَإِنَّمَا هُوَ عَقْدٌ بَاطِلٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ. [فَصْلٌ كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ] (8694) فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، أَوْ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ مِنْهُ. وَإِذَا تَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، نَظَرَ فِي الْعَقْدِ؛ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، أَمْضَاهُ، سَوَاءٌ تَرَافَعَا قَبْلَ إسْلَامِهِمَا أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَا قَدْ تَقَابَضَا حَالَ الْكُفْرِ، فَتَكُونَ الْكِتَابَةُ مَاضِيَةً، وَالْعِتْقُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّ مَا تَمَّ فِي حَالِ الْكُفْرِ، لَا يَنْقُصُهُ الْحَاكِمُ، وَيَحْكُمُ بِالْعِتْقِ، سَوَاءٌ تَرَافَعَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. الثَّانِيَةُ: تَقَابَضَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ الْمَعْقُودَةِ فِي الْإِسْلَامِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ: تَرَافَعَا قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضِ الْفَاسِدِ، أَوْ قَبْضِ بَعْضِهِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَرْفَعُ هَذِهِ الْكِتَابَةَ، وَيُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَبْضٌ تَنْبَرِمُ بِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إسْلَامِهِمَا، أَوْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا، فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ التَّغْلِيبَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا، لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ، وَيُؤَدِّي قِيمَةَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَالنِّكَاحِ، وَلَوْ أَمْهَرَهَا خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، بَطَلَ الْخَمْرُ، وَلَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَوْ عَقَدَهُ الْمُسْلِمُ كَانَ فَاسِدًا، فَإِذَا أَسْلَمَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، حُكِمَ بِفَسَادِهِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ لَوْ عَقَدَهُ الْمُسْلِمُ بِخَمْرٍ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ أَسْلَمَ مُكَاتَبُ الذِّمِّيِّ، لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ بِالْكِتَابَةِ عَنْ تَصَرُّفِ الْكَافِرِ فِيهِ، فَإِنْ عَجَزَ، أُجْبِرَ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ حِينَئِذٍ. وَإِنْ اشْتَرَى مُسْلِمًا، فَكَاتَبَهُ، لَمْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 بَاطِلٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِهِ مِلْكٌ. وَإِنْ أَسْلَمَ عَبْدُهُ فَكَاتَبَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، لَمْ تَصِحَّ كِتَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهُ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ كِتَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ فِيهِ، فَإِنْ عَجَزَ، عَادَ رَقِيقًا قِنًّا، وَأُجْبِرَ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ حِينَئِذٍ. [فَصْلٌ كَاتَبَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ] (8695) فَصْلٌ: وَإِنْ كَاتَبَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ، صَحَّتْ كِتَابَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] . وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إلَيْهِمْ تَقْتَضِي صِحَّةَ أَمْلَاكِهِمْ، فَتَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِمْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ، ثُمَّ دَخَلَا مُسْتَأْمِنَيْنِ إلَيْنَا، لَمْ يَتَعَرَّضْ الْحَاكِمُ لَهُمَا، وَإِنْ تَرَافَعَا إلَيْهِ، نَظَرَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ كِتَابَتُهُمَا صَحِيحَةً، أَلْزَمَهُمَا حُكْمَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً، بَيَّنَ لَهُمَا فَسَادَهَا. وَإِنْ جَاءَا، وَقَدْ قَهَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنْ قَهَرَ سَيِّدَهُ مَلَكَهُ، فَبَطَلَتْ كِتَابَتُهُ؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ قَهَرَهُ السَّيِّدُ عَلَى إبْطَالِ الْكِتَابَةِ، وَرَدَّهُ رَقِيقًا، بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْكُفْرِ دَارُ قَهْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَهَرَ حُرٌّ حُرًّا عَلَى نَفْسِهِ مَلَكَهُ. وَإِنْ دَخَلَا مِنْ غَيْرِ قَهْرٍ، فَقَهَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ تَبْطُلْ الْكِتَابَةُ، وَكَانَا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ حَظْرٍ، لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْقَهْرُ إلَّا بِالْحَقِّ. وَإِنْ دَخَلَا مُسْتَأْمِنَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَا الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يُمْنَعَا. وَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ الرُّجُوعَ، وَأَخَذَ الْمُكَاتَبِ مَعَهُ، فَأَبَى الْمُكَاتَبُ الرُّجُوعَ مَعَهُ، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ زَالَ مِلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ، وَمَنْ لَهُ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ حَقٌّ لَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ لِأَجْلِهِ، وَيُقَالُ لِلسَّيِّدِ: إنْ أَرَدْت الْإِقَامَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِتَسْتَوْفِيَ مَالَ الْكِتَابَةِ، فَاعْقِدْ الذِّمَّةَ وَأَقِمْ، إنْ كَانَتْ مُدَّتُهَا طَوِيلَةً، وَإِنْ أَرَدْت تَوْكِيلَ مَنْ يَقْبِضُ لَك نُجُومَ الْكِتَابَةِ، فَافْعَلْ. فَإِذَا أَدَّى نُجُومَ الْكِتَابَةِ، عَتَقَ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ الذِّمَّةَ، وَإِنْ أَحَبَّ الرُّجُوعَ، لَمْ يُمْنَعْ. وَإِنْ عَجَزَ، وَفَسَخَ السَّيِّدُ كِتَابَتَهُ، عَادَ رَقِيقًا، وَيُرَدُّ إلَى سَيِّدِهِ، وَالْأَمَانُ لَهُ بَاقٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَسَيِّدُهُ عَقَدَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِذَا انْتَقَضَ الْأَمَانُ فِي نَفْسِهِ، بِعَوْدِهِ، لَمْ يَنْتَقِضْ فِي مَالِهِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَرَبَ، وَدَخَلَ إلَيْنَا، بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ؛ فَإِنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهُ بِقَهْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَهَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَالِهِ. وَسَوَاءٌ جَاءَنَا مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ. وَإِنْ جَاءَنَا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَالْكِتَابَةُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْهَرْ سَيِّدَهُ، فَإِذَا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ سَبَى الْمُسْلِمُونَ سَيِّدَهُ وَقُتِلَ، انْتَقَلَتْ الْكِتَابَةُ إلَى وَرَثَتِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، أَوْ فَادَاهُ، أَوْ هَرَبَ، فَالْكِتَابَةُ بِحَالِهَا، وَإِنْ اسْتَرَقَّهُ الْإِمَامُ، فَالْمُكَاتَبُ مَوْقُوفٌ، إنْ عَتَقَ سَيِّدُهُ، فَالْكِتَابَةُ بِحَالِهَا، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَالْمُكَاتَبُ لِلْمُسْلِمِينَ، مُبْقٍ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، يَعْتِقُ بِأَدَائِهِ إلَيْهِمْ، وَوَلَاؤُهُ لَهُمْ، وَإِنْ عَجَزَ، فَهُوَ رَقِيقٌ لَهُمْ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُكَاتَبُ الْأَدَاءَ قَبْلَ عِتْقِ سَيِّدِهِ وَمَوْتِهِ، أَدَّى إلَى الْحَاكِمِ، أَوْ إلَى أَمِينِهِ، وَكَانَ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ مَوْقُوفًا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ، وَسَيِّدُهُ رَقِيقٌ، لَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاءٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنْ عَتَقَ سَيِّدُهُ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِقِّهِ، فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ اسْتِرْقَاقُ سَيِّدِهِ بَعْدَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ، وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ وَلَاؤُهُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ عَتَقَ السَّيِّدُ، كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِقِّهِ، بَطَلَ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ، لَا يُورَثُ، فَيَبْطُلُ الْوَلَاءُ، لِعَدَمِ مُسْتَحِقِّهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَاتَبَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ] (8696) فَصْلٌ: وَإِنْ كَاتَبَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: الْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ بِرِدَّتِهِ. وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْمَذْهَبِ، كِتَابَتُهُ مَوْقُوفَةٌ، إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ صَحِيحَةً، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، بَطَلَتْ. وَإِنْ أَدَّى فِي رِدَّتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَسْلَمَ سَيِّدُهُ، تَبَيَّنَّا صِحَّةَ الدَّفْعِ إلَيْهِ وَعِتْقِهِ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْعَبْدُ رَقِيقٌ. وَإِنْ كَاتَبَهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ. لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَيُؤَدِّي إلَى الْحَاكِمِ، وَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَى الْمُرْتَدِّ، كَانَ مَوْقُوفًا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ الْمُرْتَدَّ، صَحَّتْ كِتَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَإِذَا أَدَّى، عَتَقَ، وَإِنْ أَسْلَمَ، فَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ. [فَصْلٌ كِتَابَةُ الْمَرِيضِ] (8697) فَصْلٌ: وَكِتَابَةُ الْمَرِيضِ صَحِيحَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفَ، اُعْتُبِرَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ، فَجَرَى مَجْرَى الْهِبَةِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِكَوْنِهِ مُعْتَقًا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، كَانَتْ الْكِتَابَةُ لَازِمَةً، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، لَزِمَتْ الْكِتَابَةُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَسَائِرُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازَتْ، جَازَتْ، وَإِنْ رَدَّتْهَا، بَطَلَتْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ": تَجُوزُ الْكِتَابَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. [مَسْأَلَةٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى أَنْجُمٍ فَأُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ] (8698) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ، أَوْ أَمَتَهُ عَلَى أَنْجُمٍ، فَأُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ، فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا، وَوَلَاؤُهُ لِمُكَاتَبِهِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (8699) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَصِحُّ حَالَّةً، وَلَا تَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ حَالَّةً؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ، فَإِذَا كَانَ عِوَضُهُ فِي الذِّمَّةِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ عَقَدُوا الْكِتَابَةَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَقَدَهَا حَالَّةً، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَمْ يَتَّفِقْ جَمِيعُهُمْ عَلَى تَرْكِهِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ عِوَضِهَا فِي الْحَالِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْجِيلُ، كَالسَّلَمِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ شَرْطِهِ ذِكْرَ الْعِوَضِ، فَإِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَجْزُ عَنْ الْعِوَضِ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ مَحَلِّهِ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَجْزُ عَنْ الْعِوَضِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَمَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ. وَفِي التَّنْجِيمِ حِكْمَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبِ، وَهِيَ التَّخْفِيفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مُفَرَّقًا أَسْهَلُ، وَلِهَذَا تُقَسَّطُ الدُّيُونُ عَلَى الْمُعْسِرِينَ عَادَةً، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ. وَالْأُخْرَى، لِلسَّيِّدِ، وَهِيَ أَنَّ مُدَّةَ الْكِتَابَةِ تَطُولُ غَالِبًا، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ إلَّا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا عَجَزَ، عَادَ إلَى الرِّقِّ، وَفَاتَتْ مَنَافِعُهُ فِي مُدَّةِ الْكِتَابَةِ كُلِّهَا عَلَى السَّيِّدِ، مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ حَصَلَ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ مُنَجَّمَةً نُجُومًا، فَعَجَزَ عَنْ النَّجْمِ الْأَوَّلِ، فَمُدَّتُهُ يَسِيرَةٌ، وَإِنْ عَجَزَ عَمَّا بَعْدَهُ، فَقَدْ حَصَلَ لِلسَّيِّدِ نَفْعٌ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ النُّجُومِ قَبْلَ عَجْزِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَأَقَلُّهُ نَجْمَانِ فَصَاعِدًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: نَجْمٌ وَاحِدٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نَجْمَانِ. وَنَجْمَانِ أَحَبُّ إلَيَّ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ، أَنِّي أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا نَجْمَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَبُّ نَجْمَيْنِ، وَيَجُوزُ نَجْمٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: هَذَا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ جُعِلَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي نَجْمٍ وَاحِدٍ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إلَى أَجَلٍ وَاحِدٍ، كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّأْجِيلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِنَجْمٍ وَاحِدٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ، وَالْإِيتَاءُ مِنْ الثَّانِي. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مِنْ نَجْمَيْنِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ غَضَبَ عَلَى عَبْدٍ لَهُ، فَقَالَ: لَأُعَاقِبَنَّكَ، وَلَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ. وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ هَذَا، لَعَاقَبَهُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ. وَفِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، أَنَّهَا أَتَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّمِّ، وَهُوَ ضَمُّ نَجْمٍ إلَى نَجْمٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى افْتِقَارِهَا إلَى نَجْمَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ النُّجُومُ مَعْلُومَةً، وَيَعْلَمَ فِي كُلِّ نَجْمٍ قَدْرَ مَا يُؤَدِّيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي النُّجُومِ، وَلَا قَدْرُ الْمُؤَدَّى فِي كُلِّ نَجْمٍ. فَإِذَا قَالَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفٍ، إلَى عَشْرِ سِنِينَ، تُؤَدِّيَ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ مِائَةً. أَوْ قَالَ: تُؤَدِّي مِنْهَا مِائَةً عِنْدَ انْقِضَاءِ خَمْسِ سِنِينَ، وَبَاقِيَهَا عِنْدَ تَمَامِ الْعَشَرَةِ. أَوْ قَالَ: تُؤَدِّي فِي آخِرِ الْعَامِ الْأَوَّلِ مِائَةً، وَتِسْعَمِائَةٍ عِنْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. فَكُلُّ هَذَا جَائِزٌ. وَإِنْ قَالَ: تُؤَدِّي فِي كُلِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 عَامٍ مِائَةً. جَازَ، وَيَكُونُ أَجَلُ كُلِّ مِائَةٍ عِنْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ وَقْتُ الْأَدَاءِ مِنْ الْعَامِ. وَلَنَا، أَنَّ بَرِيرَةَ قَالَتْ: كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ إذَا عُلِّقَ بِمُدَّةٍ، تَعَلَّقَ بِأَحَدِ طَرَفَيْهَا؛ فَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ " إلَى " تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهَا، كَقَوْلِهِ: إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ. وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ " فِي " كَانَ إلَى آخِرِهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَهَا وَقْتًا لِأَدَائِهَا، فَإِذَا أَدَّى فِي آخِرِهَا، كَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا فِي وَقْتِهَا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، كَتَأْدِيَةِ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا. وَإِنْ قَالَ: يُؤَدِّيهَا فِي عَشْرِ سِنِينَ. أَوْ: إلَى عَشْرِ سِنِينَ. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ نَجْمٌ وَاحِدٌ. وَمَنْ أَجَازَ الْكِتَابَةَ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ، أَجَازَهُ. وَإِنْ قَالَ: يُؤَدِّي بَعْضَهَا فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ، وَبَاقِيَهَا فِي آخِرِهَا. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مَجْهُولٌ، يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. [فَصْلٌ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْجُمٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً] (8700) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَنْجُمٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، صَحَّتْ الْكِتَابَةُ، وَعَتَقَ بِأَدَائِهَا، سَوَاءٌ نَوَى بِالْكِتَابَةِ الْحُرِّيَّةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَسَوَاءٌ قَالَ: فَإِذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ، فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ لَمْ يَقُلْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَقُولَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ، فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ يَنْوِيَ بِالْكِتَابَةِ الْحُرِّيَّةَ. وَيَحْتَمِلُ فِي مَذْهَبِنَا مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْكِتَابَةِ يَحْتَمِلُ الْمُخَارَجَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْعِتْقَ بِالْأَدَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، كَكِنَايَاتِ الْعِتْقِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُوجَبُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَتَثْبُتُ عِنْدَ تَمَامِهِ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ وُضِعَ لِلْعِتْقِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى لَفْظِ الْعِتْقِ وَلَا نِيَّتِهِ كَالتَّدْبِيرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُخَارَجَةِ إنْ ثَبَتَ، فَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ الْحُرِّيَّةِ بِهِ، كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُحْتَمَلَ يَنْصَرِفُ بِالْقَرَائِنِ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، كَلَفْظِ التَّدْبِيرِ فِي مَعَاشِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ الْعِتْقِ قَبْلَ أَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ] (8701) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ أَدَاء جَمِيعِ الْكِتَابَةِ، قَالَ أَحْمَدُ، فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَاتَبَاهُ عَلَى أَلْفٍ، فَأَدَّى تِسْعَمِائَةٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. قَالَ: لَا يَعْتِقُ إلَّا نِصْفُ الْمِائَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. رَوَاهُ عَنْهُمْ الْأَثْرَمُ. وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: «كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَحْتَجِبْنَ مِنْ مُكَاتَبٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِينَارٌ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَاتَبَ غُلَامًا عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَدَّى إلَيْهِ تِسْعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَعَجَزَ عَنْ مِائَةِ دِينَارٍ، فَرَدَّهُ ابْنُ عُمَرَ فِي الرِّقِّ.، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 وَذَكَر أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكِتَابَةِ، وَعَجَزَ عَنْ رُبُعِهَا عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ إلَيْهِ، فَلَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ بِعَجْزِهِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ هُوَ لَهُ، لَا حَقٍّ لِلسَّيِّدِ، فَلَا مَعْنَى لِتَعْجِيزِهِ فِيمَا يَجِبُ رَدُّهُ إلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ حَدًّا، أَوْ مِيرَاثًا، وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَيُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ، وَمَا بَقِيَ دِيَةُ عَبْدٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ إذَا أَدَّى الشَّطْرَ، فَلَا رِقَّ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ، فَهُوَ غَرِيمٌ. وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِي الْمُكَاتَبِ: إذَا عَجَزَ اسْتَسْعَى بَعْدَ الْعَجْزِ سَنَتَيْنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ، ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ كَاتَبَ غُلَامَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَعَجَزَ عَنْ عَشْرِ أَوَاقٍ، فَهُوَ رَقِيقٌ» . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمُكَاتَبِ، فَلَا يَعْتِقُ قَبْلَ أَدَائِهِ، كَالْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ، لَسَرَى إلَى بَاقِيهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِالْعِتْقِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَبَعَّضُ فِي الْمِلْكِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَمَحْمُولٌ عَلَى مُكَاتَبٍ لِرَجُلٍ مَاتَ، وَخَلَفَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِكِتَابَتِهِ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَأَدَّى إلَى الْمُقِرِّ، أَوْ مَا أَشْبَهَهَا مِنْ الصُّوَرِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقِيَاسِ. وَلِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 جَمِيعِ مَا يُؤَدَّى، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ الْعِتْقُ عَلَى أَدَاءِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ جَازَ رَدُّ بَعْضِهِ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا، فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ رَدُّ رُبُعِهَا إلَيْكَ. فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ أَدَاءِ جَمِيعِهَا، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ بَعْضِهَا. [فَصْلٌ الْكِتَابَةُ عَلَى كُلِّ مَالٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ] (8702) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى كُلِّ مَالٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا فِي مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ، كَعَقْدِ السَّلَمِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ، وَكَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ، جَازَ إطْلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ بِالْإِطْلَاقِ إلَيْهِ، فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ، كَالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ أَحَدُهَا أَغْلَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، جَازَ الْإِطْلَاقُ أَيْضًا، وَانْصَرَفَ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً مُتَسَاوِيَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَجَبَ بَيَانُهُ بِجِنْسِهِ، وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ النُّقُودِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، وَجَبَ وَصْفُهُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ فِي السَّلَمِ. وَمَا لَا يَصِحُّ فِي السَّلَمِ فِيهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَثْبُتُ عِوَضُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، كَالسَّلَمِ. فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ، لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ. وَالْآخَرُ: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مَعْنًى لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ الْمُطْلَقُ عِوَضًا فِيهِ، كَالْعَقْلِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْكِتَابَةِ، كَالثَّوْبِ الْمُطْلَقِ، وَيُفَارِقُ الْعَقْلَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ مُتْلَفٍ مُقَدَّرٍ فِي الشَّرْعِ، وَهَاهُنَا عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاجِبَ فِي الْعَقْلِ، لَيْسَ بِحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ، بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِجِنْسِهِ وَسِنِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْمُطْلَقَ لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْعَبْدِ الْمُطْلَقِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ بَدَلًا فِي مَوْضِعٍ عَلِمْنَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ صَحَّحَ الْكِتَابَةَ بِهِ، أَوْجَبَ لَهُ عَبْدًا وَسَطًا، وَهُوَ السِّنْدِيُّ، وَيَكُونُ وَسَطًا مِنْ السِّنْدِيِّينَ فِي قِيمَتِهِ، كَقَوْلِنَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ عَلَى حَيَوَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ الْعَبْدِ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ، وَلَا عَلَى ثَوْبٍ، وَلَا دَارٍ، وَلِذَلِكَ لَا تَجُوزُ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِهِ، وَلَا عِمَامَةٍ مِنْ عَمَائِمِهِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْهُولَاتِ. وَإِنْ وَصَفَ ذَلِكَ بِأَوْصَافِ السَّلَمِ، صَحَّ. وَمِمَّنْ أَجَازَ الْكِتَابَةَ عَلَى الْعَبِيدِ، الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. [فَصْلٌ الْكِتَابَةُ عَلَى خِدْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ] (8703) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْكِتَابَةُ عَلَى خِدْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 فِي الْكِتَابَةِ، كَالْأَثْمَانِ. وَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهَا، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ وَدِينَارٍ. صَحَّ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الشَّهْرِ، وَكَوْنِهِ عَقِيبَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ عَيَّنَ الشَّهْرَ لِوَقْتٍ لَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْدِ، مِثْلُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى خِدْمَتِهِ فِي رَجَبٍ وَدِينَارٍ، صَحَّ أَيْضًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَارِهِ شَهْرَ رَجَبٍ فِي الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهْرٍ لَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْدِ. وَيَشْتَرِطُونَ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَلَا يُجَوِّزُونَ إطْلَاقَهُ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الْإِجَارَةِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِ، فِي بَابِ الْإِجَارَةِ. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الدِّينَارِ الْمَذْكُورِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ. فَإِنْ جَعَلَ مَحَلَّ الدِّينَارِ بَعْدَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، صَحَّ. بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ جَعَلَ مَحِلَّهُ فِي الشَّهْرِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، صَحَّ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَجْمًا وَاحِدًا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ كُلَّهَا لَا تَكُونُ فِي وَقْتِ مَحِلِّ الدِّينَارِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ جُزْءٌ مِنْهَا يَسِيرٌ مُقَارِبًا لَهُ، وَسَائِرُهَا فِيمَا سِوَاهُ، وَلِأَنَّ الْخِدْمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ الْحَاصِلِ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّتِهَا، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ عِوَضَهَا جَمِيعَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ مَحِلُّهَا غَيْرَ مَحِلِّ الدِّينَارِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ حَالَّةً؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْحُلُولِ فِي غَيْرِهَا لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْخِدْمَةِ، فَجَازَتْ حَالَّةً. وَإِنْ جَعَلَ مَحِلَّ الدِّينَارِ قَبْلَ الْخِدْمَةِ، وَكَانَتْ الْخِدْمَةُ غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِالْعَقْدِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الدِّينَارُ مُؤَجَّلًا، وَالْخِدْمَةُ بَعْدَهُ، جَازَ. وَإِنْ كَانَتْ الْخِدْمَةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ، لَمْ يُتَصَوَّرْ كَوْنُ الدِّينَارِ قَبْلَهُ، وَلَمْ تَجُزْ فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حَالًّا، وَمِنْ شَرْطِهِ التَّأْجِيلُ. [فَصْلٌ كَاتَبَهُ عَلَى خِدْمَةٍ مُفْرَدَةٍ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ] (8704) فَصْلٌ: وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى خِدْمَةٍ مُفْرَدَةٍ، فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلُ أَنْ كَاتَبَهُ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكِتَابَةِ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَالْكِتَابَةِ عَلَى أَنْجُمٍ، لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تُسْتَوْفَى فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، بِخِلَافِ الْمَالِ. فَإِنْ جَعَلَهُ عَلَى شَهْرٍ، بَعْدَ شَهْرٍ، كَأَنْ كَاتَبَهُ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ، عَلَى خِدْمَةٍ فِيهِ، وَفِي رَجَبٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَجْمَيْنِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٍ، كَخِيَاطَةِ ثِيَابٍ عَيَّنَهَا، أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ وَصَفَهُ، صَحَّ أَيْضًا، إذَا كَاتَبَهُ عَلَى نَجْمَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي هَذَا الشَّهْرَ، وَخِيَاطَةِ كَذَا عَقِيبَ الشَّهْرِ، صَحَّ. فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا مِنْ وَقْتِي هَذَا، وَشَهْرًا عَقِيبَ هَذَا الشَّهْرِ، صَحَّ أَيْضًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى نَجْمَيْنِ، فَصَحَّ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْلٌ كَاتَبَ الْعَبْدَ وَلَهُ مَالٌ] (8705) فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدَ، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُكَاتَبُ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ أَوْ وَلَدٌ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، فِي الْمُكَاتَبِ: مَالُهُ لَهُ. وَوَافَقَنَا عَطَاءٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، فِي الْوَلَدِ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِمَا رَوَى عُمَرُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ» . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْكِتَابَةُ بَيْعٌ، وَلِأَنَّهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ غَيْرُهُ، كَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ وَمَالُهُ كَانَا لِسَيِّدِهِ، فَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهِمَا، بَقِيَ الْآخَرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ. وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ، قَدْ ذَكَرْنَا ضَعْفَهُ. [مَسْأَلَةٌ لِمَنْ يَكُونُ وَلَاءُ الْمُكَاتَبِ؟] (8706) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَوَلَاؤُهُ لِمُكَاتِبِهِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ وَلَاءَ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ، إذَا أَدَّى إلَيْهِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إنْعَامٌ وَإِعْتَاقٌ لَهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ كَانَ لِسَيِّدِهِ بِحُكْمِ مِلْكِهِ إيَّاهُ، فَرَضِيَ بِهِ عِوَضًا عَنْهُ، وَأَعْتَقَ رَقَبَتَهُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَكَانَ مُعْتِقًا لَهُ، مُنْعِمًا عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَفِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ شَاءَ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ. فَرَجَعَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ كَانَ مُتَقَرِّرًا عِنْدَهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إيتَاءُ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِمَّا كُوتِبَ عَلَيْهِ] (8707) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُعْطَى مِمَّا كُوتِبَ عَلَيْهِ الرُّبُعَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] الْكَلَامُ فِي الْإِيتَاءِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ: وُجُوبُهُ، وَقَدْرُهُ، وَجِنْسُهُ، وَوَقْتُ جَوَازِهِ، وَوَقْتُ وُجُوبِهِ. (8708) أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إيتَاءُ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِمَّا كُوتِبَ عَلَيْهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ بُرَيْدَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْإِيتَاءُ، كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِهَا: ضَعُوا عَنْهُمْ رُبُعَ مَالِ الْكِتَابَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: ضَعُوا عَنْهُمْ مِنْ مُكَاتَبَتِهِمْ شَيْئًا. وَتُخَالِفُ الْكِتَابَةُ سَائِرَ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهَا الرِّفْقُ بِالْعَبْدِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْوَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ، فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ عَلَى السَّيِّدِ شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ، إعْطَاؤُهُ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَةِ، أَوْ النَّدْبُ إلَى التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَقْتَضِي إسْقَاطَ شَيْءٍ مِنْهُ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَسَّرَاهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُمَا أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ. قُلْنَا: إنَّمَا يَجِبُ لِلرِّفْقِ بِهِ عِنْدَ آخِرِ كِتَابَتِهِ، مُوَاسَاةً لَهُ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مُوَاسَاةً مِنْ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَلِيَ جَمْعَ هَذَا الْمَالِ، وَتَعِبَ فِيهِ، فَاقْتَضَى الْحَالُ مُوَاسَاتَهُ مِنْهُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِطْعَامِهِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، وَاخْتَصَّ هَذَا بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعُونَةً عَلَى الْعِتْقِ، وَإِعَانَةً لِمَنْ يَحِقُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَوْنُهُ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَوْنُهُمْ، الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. [فَصْلٌ قَدْرُ مَا يُوضَعُ عَنْ الْمُكَاتَبِ] (8709) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَدْرِهِ، وَهُوَ الرُّبُعُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعُشْرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُجْزِئُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، إلَّا أَنَّهُ عِنْدَهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . (وَمِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَالْقَلِيلُ بَعْضٌ، فَيُكْتَفَى بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَعُوا عَنْهُمْ مِنْ مُكَاتَبَتِهِمْ شَيْئًا. وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلَوْ وَجَبَ إيتَاؤُهُ الرُّبُعَ، لَوَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ إذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَالٍ يَجِبُ رَدُّهُ إلَيْهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَ مِنْهُ ثَلَاثِينَ، وَتَرَكَ لَهُ خَمْسَةً. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . فَقَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَةِ» . وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ إيتَاؤُهُ مُوَاسَاةً بِالشَّرْعِ، فَكَانَ مُقَدَّرًا، كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ حِكْمَةَ إيجَابِهِ الرِّفْقُ بِالْمُكَاتَبِ، وَإِعَانَتُهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْيَسِيرِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] . وَإِنْ وَرَدَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَإِنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُهُ، وَتُبَيِّنُ قَدْرَهُ، كَالزَّكَاةِ. [فَصْلٌ إعْطَاءُ الْمُكَاتَبِ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ] (8710) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي جِنْسِهِ، إنْ قَبَضَ مَالَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ مِنْهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِيتَاءِ مِنْهُ. وَإِنْ وَضَعَ عَنْهُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَسَّرُوا الْإِيتَاءَ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّفْعِ، وَأَعْوَنُ عَلَى حُصُولِ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْإِيتَاءِ، وَتَحْصُلُ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ، جَازَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُكَاتَبَ قَبُولُهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِيتَاءِ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْإِيتَاءِ مِنْهُ، وَبَيْنَ الْإِيتَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْإِجْزَاءِ، وَغَيْرُ الْمَنْصُوصِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ أُلْحِقَ بِهِ، وَكَذَلِكَ جَازَ الْحَطُّ، وَلَيْسَ هُوَ بِإِيتَاءٍ، لِمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ آتَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى دَرَاهِمَ، فَيُعْطِيهِ دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضًا، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتِهِ مِنْهُ وَلَا مِنْ جِنْسِهِ. وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الرِّفْقَ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ. [فَصْلٌ وَقْتُ جَوَازِ إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِمَّا كُوتِبَ عَلَيْهِ] (8711) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي وَقْتِ جَوَازِهِ، وَهُوَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ} [النور: 33] . وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَكُلَّمَا عَجَّلَهُ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَنْفَعَ، كَالزَّكَاةِ. [فَصْلٌ وَقْتُ وُجُوبِ إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِمَّا كُوتِبَ عَلَيْهِ] (8712) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَهُوَ حِينَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَائِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي آتَاهُ، وَإِذَا آتَى الْمَالَ عَتَقَ، فَيَجِبُ إيتَاؤُهُ حِينَئِذٍ. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ، وَالْإِيتَاءُ مِنْ الثَّانِي. فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ إيتَائِهِ، فَهُوَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ، فَهُوَ كَسَائِرِ دُيُونِهِ. وَإِنْ ضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ، تَحَاصُّوا فِي التَّرِكَةِ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْوَصَايَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَقَدْ قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ عُجِّلَتْ الْكِتَابَةُ قَبْلَ مَحَلِّهَا] (8713) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ عُجِّلَتْ الْكِتَابَةُ قَبْلَ مَحَلِّهَا، لَزِمَ السَّيِّدَ الْأَخْذُ، وَعَتَقَ مِنْ وَقْتِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَقَدْ صَارَ حُرًّا) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (8714) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا إذَا عَجَّلَ الْمُكَاتَبُ الْكِتَابَةَ قَبْلَ مَحَلِّهَا. فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَلْزَمُ قَبُولُهَا، وَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبُولُ الْمَالِ إلَّا عِنْدَ نُجُومِهِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْمُكَاتَبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي مِلْكِهِ حَقٌّ لَهُ، وَلَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ، فَلَمْ يَزُلْ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَى شَرْطٍ، لَمْ يَعْتِقْ قَبْلَهُ. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ: الْأَوَّلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: أَطْلَقَ أَحْمَدُ وَالْخِرَقِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ، كَاَلَّذِي لَا يَفْسُدُ، وَلَا يَخْتَلِفُ قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي حِفْظِهِ، وَلَا يَدْفَعُهُ فِي حَالِ خَوْفٍ يَخَافُ ذَهَابَهُ، فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ، لَمْ يَلْزَمْ قَبْضُهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَفْسُدُ؛ كَالْعِنَبِ، وَالرُّطَبِ، وَالْبِطِّيخِ، أَوْ يُخَافُ تَلَفُهُ كَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ قَبْلَ الْمَحِلِّ، فَفَاتَهُ مَقْصُودُهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ حَدِيثُهُ خَيْرًا مِنْ قَدِيمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ إلَى حِينِ الْحُلُولِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى مَخْزَنٍ، كَالطَّعَامِ وَالْقُطْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي إبْقَائِهِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ إلَى مُؤْنَةٍ، فَيَتَضَرَّرُ بِهَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا، إلَّا أَنَّ الْبَلَدَ مَخُوفٌ، يَخَافُ نَهْبَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِهِ ضَرَرًا لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ، أَوْ مَوْضِعٍ يَتَضَرَّرُ بِقَبْضِهِ فِيهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْضُهُ، وَلَمْ يَعْتِقْ الْمُكَاتَبُ بِبَذْلِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَذْهَبُ عِنْدِي أَنَّ فِي قَبْضِهِ تَفْصِيلًا، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّلَمِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ الْتِزَامُ ضَرَرٍ لَمْ يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ، وَلَوْ رَضِيَ بِالْتِزَامِهِ. وَأَمَّا مَا لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ، فَإِذَا عَجَّلَهُ، لَزِمَ السَّيِّدَ أَخْذُهُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، اعْتِمَادًا عَلَى إطْلَاقِ أَحْمَدَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْخِرَقِيِّ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي كَاتَبْتُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِنِّي أَيْسَرْتُ بِالْمَالِ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهَا إلَّا نُجُومًا. فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا يَرْفَأُ، خُذْ هَذَا الْمَالَ، فَاجْعَلْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَدِّ إلَيْهِ نُجُومًا فِي كُلِّ عَامٍ، وَقَدْ عَتَقَ هَذَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ سَيِّدُهُ، أَخَذَ الْمَالَ. وَعَنْ عُثْمَانَ بِنَحْوِ هَذَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ جَمِيعًا. قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ ابْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى بِذَلِكَ. وَلِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَإِذَا قَدَّمَهُ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، فَسَقَطَ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى فِعْلٍ فِي وَقْتٍ، فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَعْتِقْ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فِي رَمَضَانَ. فَأَدَّاهُ فِي شَعْبَانَ، لَمْ يَعْتِقْ. قُلْنَا: تِلْكَ صِفَةٌ مُجَرَّدَةٌ، لَا يَعْتِقُ إلَّا بِوُجُودِهَا، وَالْكِتَابَةُ مُعَاوَضَةٌ يَبْرَأُ فِيهَا بِأَدَاءِ الْعِوَضِ، فَافْتَرَقَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي الْمُكَاتَبَةِ، عَتَقَ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ فِي الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، لَمْ يَعْتِقْ. وَالْأَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي، فِي أَنَّ مَا كَانَ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ، قَبْضُهُ وَلَمْ يَعْتِقْ بِبَذْلِهِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي لَمْ يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ، وَخَبَرُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ قَبْضِ مَا فِيهِ ضَرَرٌ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَوْ لَقِيَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَدَفَعَ إلَيْهِ نُجُومَ الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْضَهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا لِضَرَرٍ فِيهِ مِنْ خَوْفٍ، أَوْ مُؤْنَةِ حَمْلٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، لَزِمَهُ قَبْضُهُ. كَذَا هَاهُنَا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ. [فَصْلٌ أَحْضَرَ الْمُكَاتَبُ مَالَ الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْضَهُ لِيُسَلِّمَهُ فَقَالَ السَّيِّدُ هَذَا حَرَامٌ لَا أَقْبَلُهُ مِنْكَ] (8715) فَصْلٌ: إذَا أَحْضَرَ الْمُكَاتَبُ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَوْ بَعْضَهُ، لِيُسَلِّمَهُ، فَقَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَرَامٌ، أَوْ غَصْبٌ، لَا أَقْبَلُهُ مِنْكَ. سُئِلَ الْعَبْدُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ، لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْمُحَرَّمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ، وَكَانَتْ لِلسَّيِّدِ بَيِّنَةٌ بِدَعْوَاهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي أَنْ لَا يَقْتَضِيَ دَيْنَهُ مِنْ حَرَامٍ، وَلَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ قَبُولُهُ أَيْضًا، وَإِنْ حَلَّفَهُ، قِيلَ لِلسَّيِّدِ: إمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَهُ لِيَعْتِقَ. فَإِنْ قَبَضَهُ، وَكَانَ تَمَامَ كِتَابَتِهِ، عَتَقَ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ حَرَامٌ مُطْلَقًا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِهِ لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا تَحْرِيمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْ فُلَانٍ، لَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ إنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ: هَذَا حُرٌّ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، لَزِمَتْهُ حُرِّيَّتُهُ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ حِينَ امْتَنَعَ الْمُكَاتَبُ مِنْ قَبْضِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَإِنْ لَمْ يُبْرِئْهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ، كَانَ لَهُ دَفْعُ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ، وَيُطَالِبُهُ بِقَبْضِهِ، فَيَنُوبُ الْحَاكِمُ فِي قَبْضِهِ عَنْهُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ، كَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فِي قَبْضِهِمَا مَالَ الْكِتَابَةِ حِينَ امْتَنَعَ الْمُكَاتَبُ مِنْ قَبْضِهِ. [فَصْلٌ الْكِتَابَةُ عَلَى جِنْسٍ] (8716) فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى جِنْسٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْضُ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى دَنَانِيرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْضُ دَرَاهِمَ، وَلَا عَرْضٍ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى دَرَاهِمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ الدَّنَانِيرِ، وَلَا الْعُرُوضِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عَرْضٍ مَوْصُوفٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْضُ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى نَقْدٍ، فَأَعْطَاهُ مِنْ جِنْسِهِ خَيْرًا مِنْهُ، وَكَانَ يُنْفِقُ فِيمَا يُنْفِقُ فِيهِ الَّذِي كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفِقُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ الَّتِي يُنْفِقُ فِيهَا مَا كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرًا. [فَصْلٌ الْمُكَاتَبُ مَلَكَ مَا يُؤَدِّي] (8717) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَزَيْدٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، عَتَقَ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَمَرَهُنَّ بِالْحِجَابِ بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ لِمَا يُؤَدِّيهِ، وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِوَفَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّاهُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَصِيرُ حُرًّا بِمِلْكِ الْوَفَاءِ فَمَتَى امْتَنَعَ مِنْهُ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. وَإِنْ هَلَكَ مَا فِي يَدَيْهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ صَارَ حُرًّا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَقَوْلُهُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَهُوَ عَبْدٌ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ. أَوْ قَالَ: إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ عَجَزَ، فَهُوَ رَقِيقٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ عُلِّقَ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يَعْتِقْ قَبْلَ أَدَائِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ. فَعَلَى هَذِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 الرِّوَايَةِ، إنْ أَدَّى عَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَعْتِقْ. فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُؤَدِّيهِ الْإِمَامُ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَجْزًا، وَلَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ الْفَسْخَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ إذَا لَمْ يُؤَدِّ، عَجَّزَهُ السَّيِّدُ إنْ أَحَبَّ، فَإِنَّهُ قَالَ إذَا لَمْ يُؤَدِّ نَجْمًا، حَتَّى حَلَّ نَجْمٌ آخَرُ، عَجَّزَهُ السَّيِّدُ إنْ أَحَبَّ، وَعَادَ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ. وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ عَجَّزَ نَفْسَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يُؤَدِّيهِ فِي الْكِتَابَةِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْأَدَاءِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ بِمِلْكِ مَا يُؤَدِّي، فَلَمْ يَمْلِكْ إبْطَالَهَا، كَمَا لَوْ أَدَّى. فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ أَدَائِهِ، جَازَ بِعَجْزِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ. وَجْهًا وَاحِدًا. [مَسْأَلَةٌ أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ وَمَاتَ وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ] (8718) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ، وَمَاتَ وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ وَفَضْلٌ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ كِتَابَتِهِ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ) يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِمِلْكِ مَا يُؤَدِّي. فَقَدْ مَاتَ رَقِيقًا، فَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِهِ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَتَقَ بِمِلْكِ مَا يُؤَدِّي. فَقَدْ مَاتَ حُرًّا، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ عَلَيْهِ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِهِ، وَيَمُوتُ عَبْدًا، وَمَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ. وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْفَسِخَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ عُلِّقَ بِشَرْطٍ مُطْلَقٍ، فَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَعْتِقُ، وَيَمُوتُ حُرًّا، وَلِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ كِتَابَتِهِ، وَمَا فَضَلَ لِوَرَثَتِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ، وَشُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَكُونُ حُرًّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مَا قَدَّمْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْآخَرِ، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ أَحَدُ مَنْ تَمَّتْ بِهِ الْكِتَابَةُ، فَلَمْ تَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ كَالسَّيِّدِ. وَالْأُولَى أَوْلَى. وَتُفَارِقُ الْكِتَابَةُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِتَلَفِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 وَالْمُكَاتَبُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا تَلِفَ قَبْلَ تَمَامِ الْأَدَاءِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِ حُرِّيَّتِهِ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. [فَصْلٌ انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ] (8719) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ، وَيَمُوتُ عَبْدًا، وَمَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ، إلَّا أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَدَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُمَا، فَإِنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا، فِي مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ حُرٌّ، انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ فِي كِتَابَتِهِ، أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ كُلِّهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، أُجْبِرَ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَالْأَدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ حَدًّا، أَوْ مِيرَاثًا، وَرِثَ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَيُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى» . وَعَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنَّخَعِيِّ: إذَا أَدَّى الشَّطْرَ، فَلَا رِقَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ، فَهُوَ غَرِيمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ بِالْجُنُونِ] (8720) فَصْلٌ: وَلَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِالْجُنُونِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَمْ تَنْفَسِخْ بِالْجُنُونِ، كَالرَّهْنِ، وَفَارَقَ الْمَوْتُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْعَيْنِ، وَالْمَوْتُ يُفَوِّتُ الْعَيْنَ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْكِتَابَةِ الْعِتْقُ، وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عِتْقُ الْمَيِّتِ، وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِيهِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّةِ عِتْقِ الْمَجْنُونِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ أَدَّى إلَيْهِ الْمَالَ، عَتَقَ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَبَضَ مِنْهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ، فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الْمَالِ، فَيَعْتِقُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُحْضِرَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَتَثْبُتُ الْكِتَابَةُ بِالْبَيِّنَةِ، فَيَبْحَثُ الْحَاكِمُ عَنْ مَالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا، سَلَّمَهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَعَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا جَعَلَ، لَهُ أَنْ يُعَجِّزَهُ، وَيُلْزِمَهُ الْإِنْقَاقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ قِنًّا، ثُمَّ إنْ وَجَدَ لَهُ الْحَاكِمُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا يَفِي بِمَالِ الْكِتَابَةِ، أَبْطَلَ فَسْخَ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْبَاطِنَ بَانَ بِخِلَافِ مَا حَكَمَ بِهِ، فَبَطَلَ حُكْمُهُ، كَمَا إذَا أَخْطَأَ النَّصَّ وَحَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ، إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى السَّيِّدِ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 وَإِنْ أَفَاقَ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالَ الْكِتَابَةِ، بَطَلَ أَيْضًا فَسْخُ السَّيِّدِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَنْفَقَهُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ السَّيِّدَ الْحَاكِمُ، أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى مَالَ الْكِتَابَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا، وَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَدَّعِيهِ، فَيَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْلَافِهِ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ بِقَتْلِ الْمُكَاتَبِ] (8721) فَصْلٌ: وَقَتْلُ الْمُكَاتِبِ كَمَوْتِهِ فِي انْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ السَّيِّدَ أَوْ الْأَجْنَبِيَّ. وَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ سَيِّدَهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ، وَعَادَ مَا فِي يَدِهِ إلَى سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقَاتِلُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْقَتْلِ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ. قُلْنَا: هَاهُنَا لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُ الْمُكَاتَبِ مِيرَاثًا، بَلْ بِحُكْمِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، لِزَوَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْقَاتِلُ الْمِيرَاثَ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، إذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، حَلَّ دَيْنُهُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا عَتَقَتْ. وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ خَلَفَ وَفَاءً، وَقُلْنَا: إنَّ الْكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ. فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ. فَلَهُ الْقِيمَةُ عَلَى سَيِّدِهِ تُصْرَفُ إلَى وَرَثَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى بَعْضِ أَطْرَافِهِ فِي حَيَاتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْوَفَاءُ يَحْصُلُ بِإِيجَابِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا، وَجَبَتْ، كَمَا لَوْ خَلَفَ وَفَاءً؛ لِأَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ كَتَرِكَتِهِ، فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ مِنْهَا، وَانْصِرَافِهَا إلَى وُرَّاثِهِ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا فَرْقَ، فِيمَا ذَكَرْنَا، بَيْنَ أَنْ يَخْلُفَ وَارِثًا، أَوْ لَا يَخْلُفَ وَارِثًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا سِوَى سَيِّدِهِ، لَمْ تَجِبْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ بِحَالٍ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يُصْرَفُ مَالُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا حَقَّ لِسَيِّدِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ صَرْفَهُ إلَى سَيِّدِهِ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَالْقَاتِلُ لَا مِيرَاثَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ أَجْنَبِيًّا، وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لَسَيِّدِهِ، إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ، فَإِنَّهَا تَجِبُ لِوَرَثَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ] (8722) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ، كَانَ الْعَبْدُ عَلَى كِتَابَتِهِ، وَمَا أَدَّى فَبَيْنَ وَرَثَةِ سَيِّدِهِ، مَقْسُومًا كَالْمِيرَاثِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى فَسْخِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُؤَدِّي نُجُومَهُ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لِمَوْرُوثِهِمْ، وَيَكُونُ مَقْسُومًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَإِنْ أَدَّى إلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَعْتِقْ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ شُرَكَاءَ، فَأَدَّى إلَى بَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا، وَكَانَ لَهُ وَكِيلٌ، دَفَعَ نَصِيبَهُ إلَى وَكِيلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ، دَفَعَ نَصِيبَهُ إلَى الْحَاكِمِ، وَعَتَقَ. وَإِنْ كَانَ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ، دَفَعَ نَصِيبَهُ إلَى وَلِيِّهِ؛ إمَّا ابْنِهِ أَوْ وَصِيِّهِ أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ أَمِينِهِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَصِيَّانِ، لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالدَّفْعِ إلَيْهِمَا مَعًا. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ رَشِيدًا، قَبَضَ لِنَفْسِهِ، وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى غَيْرِهِ لِيَقْبِضَ لَهُ، لِأَنَّ الرَّشِيدَ وَلِيُّ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ رَشِيدًا، وَبَعْضُهُمْ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ، فَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمُهُ لَوْ انْفَرَدَ. وَإِنْ أَذِنَ بَعْضُهُمْ لَهُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الْآخَرِ، وَكَانَ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ رَشِيدًا، فَأَدَّى إلَى الْآخَرِ جَمِيعَ حَقِّهِ، عَتَقَ نَصِيبُهُ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْرِ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَسْرِي عِتْقُهُ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْضَ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّاهُ إلَى السَّيِّدِ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، بَرِئَ مِنْهُ، وَعَتَقَ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ بَعْضُهُمْ، عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ، عَتَقَ. وَالْخِلَافُ فِي هَذَا كُلِّهِ، كَالْخِلَافِ فِيمَا إذَا أَدَّى إلَى بَعْضِهِمْ بِإِذْنِ الْآخَرِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ نَصِيبُ مَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهِ، أَوْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ، أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا لَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعِتْقُ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ سَيِّدُهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَبْرَأَهُ سَيِّدُهُ مِنْ بَعْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ حَقِّهِ. وَلَنَا، عَلَى سِرَايَةِ عِتْقِهِ، أَنَّهُ إعْتَاقٌ لِبَعْضِ الْعَبْدِ الَّذِي يَجُوزُ إعْتَاقُهُ، مِنْ مُوسِرٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْرِيَ عِتْقُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قِنًّا، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَسَرَى، كَمَحَلِّ الْوِفَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي السِّرَايَةِ ضَرَرٌ بِالشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ، فَيُرَدُّ إلَى الرِّقِّ. قُلْنَا: إذَا كَانَ الْعِتْقُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ يُزِيلُ الرِّقَّ الْمُتَمَكِّنَ، الَّذِي لَا كِتَابَةَ فِيهِ، فَلَأَنْ يُزِيلَ عَرَضِيَّةَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 [مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ يَمُوتُ سَيِّدُهُ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ كِتَابَتِهِ] (8723) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَوَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ عَجَزَ، فَهُوَ عَبْدٌ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ) ، أَمَّا إذَا عَجَزَ، وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَبْدًا لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَالِ مَوْرُوثِهِمْ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ كَسَائِرِ الْمَالِ، وَأَمَّا إذَا أَدَّى مَالَ الْكِتَابَةِ، وَعَتَقَ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمُكَاتَبِهِ، يَخْتَصُّ بِهِ عَصَبَاتُهُ دُونَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَنَقَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى حَنْبَلٌ، وَصَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ سَيِّدُهُ، وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْوَلَاءُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا وَلَاءَ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا كَاتَبْنَ، أَوْ أَعْتَقْنَ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ. وَاَلَّذِي أَرَاهُ وَيَغْلِبُ عَلَيَّ أَنَّهُنَّ يَرِثْنَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَزَ بَعْدَ وَفَاةِ السَّيِّدِ، رُدَّ رَقِيقًا. وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِمَوْتِ الْمُكَاتِبِ، فَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُمْ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ وَلَاؤُهُ، لَهُمْ كَمَا لَوْ أَدَّى إلَى الْمُشْتَرِي. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالْعِتْقِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ كَمَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ إنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مَا بَقِيَ لِلسَّيِّدِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لِلسَّيِّدِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ، أَنَّ السَّيِّدَ نَقَلَ حَقَّهُ فِي الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمَوْرُوثَ وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَبْنِي عَلَى مَا فَعَلَهُ مَوْرُوثُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ لِمَوْرُوثِهِ، وَالْوَلَاءُ مِمَّا أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ لِلْمَوْرُوثِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْهُ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ] (8724) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَرَثَةُ صَحَّ عِتْقُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، فَصَحَّ عِتْقُهُمْ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ مَوْرُوثِهِمْ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ، فَعَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ، قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شُرَكَائِهِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَسْرِ عِتْقُهُ؛ لِكَوْنِهِ مُعْسِرًا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ وَلَاءُ مَا أَعْتَقَهُ؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ كَغَيْرِ الْمُكَاتَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ أَعْتَقُوهُ كُلُّهُمْ قَبْلَ عَجْزِهِ، كَانَ الْوَلَاءُ لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضُهُمْ، لَمْ يَسْرِ عِتْقُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ أَدَّى إلَى الْبَاقِينَ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ عَجَزَ فَرَدُّوهُ إلَى الرِّقَّ، كَانَ وَلَاءُ نَصِيبِ الْمُعْتِقِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا إعْتَاقُهُ، لَعَادَ سَهْمُهُ رَقِيقًا، كَسِهَامِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، فَلَمَّا أَعْتَقَهُ، كَانَ هُوَ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ دُونَهُمْ. فَأَمَّا إنْ أَبْرَأَهُ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ، عَتَقَ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، فِيمَا إذَا أَدَّى إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 الْإِبْرَاءَ جَرَى مَجْرَى اسْتِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْعَمُوا عَلَيْهِ بِمَا عَتَقَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقُوهُ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصِيبِهِ، كَانَ فِي وَلَائِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَاعَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ أَوْ وَهَبُوهُ] (8725) فَصْلٌ: إذَا بَاعَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ، أَوْ وَهَبُوهُ، صَحَّ بَيْعُهُمْ وَهِبَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمُكَاتِبِ، وَالْمُكَاتِبُ يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ فَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ، وَيَكُونُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ مُبْقًى عَلَى كِتَابَتِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَعَجَّزَهُ، عَادَ رَقِيقًا لَهُ، وَإِنْ أَدَّى وَعَتَقَ، كَانَ وَلَاؤُهُ لِمَنْ يُؤَدِّي إلَيْهِ. عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ وَلَاءَهُ لِلْوَرَثَةِ، إذَا أَدَّى إلَيْهِمْ. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إبْطَالَ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلسَّيِّدِ الَّذِي كَاتَبَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَيَكُونَ الْوَلَاءُ لِلسَّيِّدِ إنْ عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ عَقَدَهَا، فَعَتَقَ بِهَا، فَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ بِبَيْعِهِ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَرَثَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ إبْطَالَ حَقِّ مَوْرُوثِهِمْ. [فَصْلٌ وَصَّى السَّيِّدُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ لِرَجُلٍ] (8726) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى السَّيِّدُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ لِرَجُلٍ، صَحَّ. فَإِنْ سَلَّمَ مَالَ الْكِتَابَةِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، أَوْ وَكِيلِهِ، أَوْ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، بَرِئَ مِنْهُ، وَعَتَقَ، وَوَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ، عَتَقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّى. وَإِنْ أَعْتَقَهُ، لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ، وَلَا وَصَّى لَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا وَصَّى لَهُ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ. وَإِنْ عَجَزَ، وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، عَادَ عَبْدًا لِلْوَرَثَةِ، وَمَا قَبَضَهُ الْوَصِيُّ - الْمُوصَى لَهُ - مِنْ الْمَالِ، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَمْرُ فِي تَعْجِيزِهِ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُمْ بِتَعْجِيزِهِ، وَيَصِيرُ الْعَبْدُ لَهُمْ، فَكَانَتْ الْخِيرَةُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّ حَقَّهُ وَوَصِيَّتَهُ تَبْطُلُ بِتَعْجِيزِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ حَقٌّ. وَإِنْ وَصَّى بِمَالِ الْكِتَابَةِ لِلْمَسَاكِينِ، وَوَصَّى إلَى رَجُلٍ بِقَبْضِهِ وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمْ، صَحَّ. وَمَتَى سَلَّمَ الْمَالَ إلَى الْوَصِيِّ، بَرِئَ، وَعَتَقَ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ دَفَعَهُ الْمُكَاتَبُ إلَى الْمَسَاكِينِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ، وَلَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ إلَى الْوَصِيِّ دُونَهُ. وَإِنْ وَصَّى بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى غُرَمَائِهِ، تَعَيَّنَ الْقَضَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِهِ عَطِيَّةً لَهُ. فَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَوْصَى بِقَضَاءِ دُيُونِهِ مُطْلَقًا، كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيِّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَيَدْفَعَهُ إلَيْهِمْ بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْضُوا الدَّيْنَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَلِلْوَصِيِّ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ حَقٌّ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي التَّرِكَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. . [فَصْلٌ إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدًا فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ كَاتَبَهُ، فَصَدَّقَاهُ] (8727) فَصْلٌ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَخَلَفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدًا، فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ كَاتَبَهُ، فَصَدَّقَاهُ، ثَبَتَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 لَهُمَا. وَإِنْ أَنْكَرَاهُ، وَكَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِدَعْوَاهُ ثَبَتَتْ الْكِتَابَةُ، وَعَتَقَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمَا. وَإِنْ عَجَزَ، فَلَهُمَا رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ. وَإِنْ لَمْ يُعَجِّزَاهُ، وَصَبَرَا عَلَيْهِ، لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ. وَإِنْ عَجَّزَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَبَى الْآخَرُ تَعْجِيزَهُ، بَقِيَ نِصْفُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَعَادَ نِصْفُهُ الْآخَرُ رَقِيقًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرِّقِّ، وَعَدَمُ الْكِتَابَةِ، وَتَكُونُ أَيْمَانُهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَيَحْلِفَانِ بِاَللَّهِ أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا كَاتَبَهُ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِنْ حَلَفَا، ثَبَتَ رِقُّهُ، وَإِنْ نَكَلَا، قُضِيَ عَلَيْهَا، أَوْ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَضَى بِرَدِّهَا، فَيَحْلِفُ الْعَبْدُ، وَتَثْبُتُ الْكِتَابَةُ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، قُضِيَ بِرِقِّ نِصْفِهِ، وَكِتَابَةِ نِصْفِهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ ثَبَتَتْ الْكِتَابَةُ فِي نِصْفِهِ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فِي نِصْفِهِ الْآخَرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَحَلَفَ الْمُنْكِرُ، صَارَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا، وَنِصْفُهُ رَقِيقًا قِنًّا. فَإِنْ شَهِدَ الْمُقِرُّ عَلَى أَخِيهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضَرَرًا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ كَمُلَتْ الشَّهَادَةُ، وَثَبَتَتْ الْكِتَابَةُ فِي جَمِيعِهِ. وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَهَلْ يَحْلِفُ الْعَبْدُ مَعَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، أَوْ لَمْ يَحْلِفْ الْعَبْدُ مَعَهُ، وَحَلَفَ الْمُنْكِرُ، كَانَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا، وَنِصْفُهُ رَقِيقًا، وَيَكُونُ كَسْبُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْكِرِ نِصْفَيْنِ، وَنَفَقَتُهُ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى مَالِكِ نِصْفِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ كَانَ عَلَى الْمُنْكِرِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ، ثُمَّ إنْ اتَّفَقَ هُوَ وَمَالِكُ نِصْفِهِ عَلَى الْمُهَايَأَةِ مُعَاوَمَةً أَوْ مُشَاهَرَةً، أَوْ كَيْفَمَا كَانَ، جَازَ. وَإِنْ طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا حِيَازَةَ نَصِيبِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، لَزِمَ الْآخَرَ إجَابَتُهُ، كَالْأَعْيَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تَأْخِيرُ حَقِّهِ الْحَالِّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ كَتَأْخِيرِ دَيْنِهِ الْحَالِّ. فَإِنْ اقْتَسَمَا الْكَسْبَ مُهَايَأَةً، أَوْ مُنَاصَفَةً، فَلَمْ يَفِ بِأَدَاءِ نُجُومِهِ فَلِلْمُقِرِّ رَدُّهُ، فِي الرِّقِّ، وَمَا فِي يَدِهِ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ قَدْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ الْكَسْبِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمُنْكِرُ وَالْمُقِرُّ فِيمَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، فَقَالَ الْمُنْكِرُ: هَذَا كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ دَعْوَى الْكِتَابَةِ وَكَسَبَهُ فِي حَيَاةِ أَبِينَا. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُقِرُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يَدَّعِي كَسْبَهُ فِي وَقْتٍ، الْأَصْلُ عَدَمُهُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُكَاتَبُ فِي ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُكَاتَبِ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ خَاصَّةً، وَلَمْ يَسْرِ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْعِتْقَ، وَلَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ مِنْ أَبِيهِ، وَهَذَا حَاكٍ عَنْ أَبِيهِ، مُقِرٌّ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ كَالشَّاهِدِ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ نَصِيبَ أَخِيهِ حُرٌّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَ مِنْ الْعَبْدِ مِثْلَ مَا قَبَضَ، فَقَدْ حَصَلَ أَدَاءُ مَالِ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَعَتَقَ كُلُّهُ بِذَلِكَ، وَوَلَاءُ هَذَا النِّصْفِ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّ أَخَاهُ لَا يَدَّعِيهِ وَهَذَا الْمُقِرُّ يَدَّعِي أَنَّهُ كُلَّهُ قَدْ عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ، وَهَذَا الْوَلَاءُ الَّذِي عَلَى هَذَا النِّصْفِ نَصِيبِي مِنْ الْوَلَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي، الْوَلَاءُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِمَوْرُوثِهِمَا، فَكَانَ لَهُمَا بِالْمِيرَاثِ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَاهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْأَبِ، وَاخْتِصَاصُ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا لِأَبِيهِ عَلَى إنْسَانٍ، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِهِ دُونَ أَخِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَرِثُهُ عَنْ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا، وَأَقَامَا بِهِ شَاهِدًا وَاحِدًا، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا مَعَ الشَّاهِدِ، وَأَبَى الْآخَرُ. فَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ، عَتَقَ، وَسَرَى إلَى بَاقِيهِ، إنْ كَانَ مُوسِرًا. وَهَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، وَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ» . وَلِأَنَّهُ مُوسِرٌ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، فَسَرَى إلَى بَاقِيهِ، كَغَيْرِ الْمُكَاتَبِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي: لَا تَعْتِقُ إلَّا حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ الْمُقِرَّ، فَهُوَ مُنَفِّذٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرَ، لَمْ يَصِرْ إلَى نَصِيبِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ لِغَيْرِهِ، وَفِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ إلَيْهِ إبْطَالُ سَبَبِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ مَنْعُ الْمُكَاتَبِ مِنْ السَّفَرِ] (8728) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُمْنَعُ الْمُكَاتَبُ مِنْ السَّفَرِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ سَفَرٍ تَحِلُّ نُجُومُ كِتَابَتِهِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ النُّجُومِ فِي وَقْتِهَا، وَالرُّجُوعُ فِي وَقْتِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ فَمُنِعَ مِنْهُ، كَالْغَرِيمِ الَّذِي يَحِلُّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَبْلَ مُدَّةِ سَفَرِهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ: لَهُ السَّفَرُ. وَفِي قَوْلٍ لَيْسَ لَهُ السَّفَرُ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فِيهَا قَوْلَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، إنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ؛ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: لَهُ السَّفَرُ. إذَا كَانَ قَصِيرًا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ، إذَا كَانَ بَعِيدًا، يَتَعَذَّرُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ نُجُومِهِ، وَالرُّجُوعُ فِي رِقِّهِ عِنْدَ عَجْزِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ الْمَدِينَ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَيَبْطُلُ بِالْحُرِّ الْغَرِيمِ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ لَا يُسَافِرَ] (8729) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ لَا يُسَافِرَ، فَقَالَ الْقَاضِي: الشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ، كَشَرْطِ تَرْكِ الِاكْتِسَابِ، وَلِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 غَرِيمٌ، فَلَمْ يَصِحَّ شَرْطُ تَرْكِ السَّفَرِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقْرَضَهُ رَجُلٌ قَرْضًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَافِرَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَصِحُّ الشَّرْطُ، وَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.» وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ، فَلَزِمَ كَمَا لَوْ شَرَطَ نَقْدًا مَعْلُومًا. وَبَيَانُ فَائِدَتِهِ، أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ إبَاقَهُ وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى سَيِّدِهِ، فَيَفُوتُ الْعَبْدُ وَالْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُفَارِقُ الْقَرْضَ فَإِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ جَانِبِ الْمُقْرِضِ، مَتَى شَاءَ طَالَبَ بِأَخْذِهِ، وَمَنَعَ الْغَرِيمَ السَّفَرَ قَبْلَ إيفَائِهِ فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ السَّفَرِ حَاصِلًا بِدُونِ شَرْطِهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ السَّيِّدَ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ إلَّا بِشَرْطِهِ وَفِيهِ حِفْظُ عَبْدِهِ وَمَالِهِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَحْصِيلِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوْلَى. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ، فَإِنْ سَافَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَهُ رَدُّهُ إنْ أَمْكَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّهُ، احْتَمَلَ أَنَّ لَهُ تَعْجِيزَهُ، وَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَفِ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ كِتَابَةً صَحِيحَةً، لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَعْجِيزَهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ شَرَطَ فِي كِتَابَتِهِ أَنْ لَا يَسْأَلَ] (8730) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي كِتَابَتِهِ أَنْ لَا يَسْأَلَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُمْ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إنْ رَأَيْتَهُ يَسْأَلُ تَنْهَاهُ. فَإِنْ قَالَ: لَا أَعُودُ. لَمْ يَرُدَّهُ عَنْ كِتَابَتِهِ فِي مَرَّةٍ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ لَازِمٌ، وَأَنَّهُ إنْ خَالَفَ مَرَّةً، لَمْ يُعَجِّزْهُ، وَإِنْ خَالَفَ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَهُ تَعْجِيزُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا رَآهُ يَسْأَلُ مَرَّةً فِي مَرَّةٍ، عَجَّزَهُ، كَمَا إذَا حَلَّ نَجْمٌ فِي نَجْمٍ، عَجَّزَهُ. فَاعْتَبَرَ الْمُخَالَفَةَ فِي مَرَّتَيْنِ كَحُلُولِ نَجْمَيْنِ. وَإِنَّمَا صَحَّ الشَّرْطُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . وَلِأَنَّ لَهُ فِي هَذَا فَائِدَةً وَغَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ كَلًّا عَلَى النَّاسِ، وَلَا يُطْعِمَهُ مِنْ صَدَقَتِهِمْ وَأَوْسَاخِهِمْ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْمُكَاتَبِ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] . وَهُمْ الْمُكَاتَبُونَ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ تَرْكِ طَلَبِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ زَوَاجُ الْمُكَاتَبِ] (8731) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) . وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَهُوَ عَاهِرٌ» . وَلِأَنَّ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ نَاقِصَ الْقِيمَةِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ مِنْ كَسْبِهِ، فَيَعْجِزُ عَنْ تَأْدِيَةِ نُجُومِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَالتَّبَرُّعِ بِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نِكَاحُهُ مَوْقُوفٌ إنْ أَدَّى تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ عَجَزَ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ. وَلَنَا الْخَبَرُ وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُنِعَ مِنْهُ لِلضَّرَرِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْهِبَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا أَصْلَ لَهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، يُؤَدَّى مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً، فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَوَلَدُهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا. فَأَمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ، صَحَّ مِنْهُ. فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ، إذَا أَذِنَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ نِكَاحِهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ، زَالَ الْمَانِعُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْقِنِّ فِي النِّكَاحِ، صَحَّ مِنْهُ، فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى. [فَصْلٌ تَسَرَّى الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ] (8732) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ التَّسَرِّي بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِهِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ التَّسَرِّي. وَلَنَا، أَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، وَعَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرٌ، فَيُمْنَعُ مِنْهُ، كَالتَّزْوِيجِ. وَبَيَانُ الضَّرَرِ فِيهِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَحْبَلَهَا، وَالْحَبَلُ مَخُوفٌ فِي بَنَاتِ آدَمَ، فَرُبَّمَا تَلِفَتْ وَرُبَّمَا وَلَدَتْ، فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا فِي أَدَاءِ كِتَابَتِهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ، رَجَعَتْ إلَى السَّيِّدِ نَاقِصَةً، فَإِذَا مُنِعَ مِنْ التَّزْوِيجِ لِضَرَرِهِ، فَهَذَا أَوْلَى. فَأَمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّسَرِّي جَازَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ سَيِّدُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَضُرُّ بِهِ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى مَنْعِهِ مِنْ الْعِتْقِ، فَلَمْ يَجُزْ وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ سَيِّدُهُ، وَلِأَنَّهُ نَاقِصُ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّسَرِّي، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 وَلَنَا، أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْقِنِّ فِي التَّسَرِّي، جَازَ، فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِأَجْلِ الضَّرَرِ بِالسَّيِّدِ، فَجَازَ تَأْدِيبُهُ، كَالتَّزْوِيجِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ شَيْءٌ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ حَبِلَتْ، فَالنَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ، لَحِقَهُ النَّسَبُ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أَمَتِهِ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى كِتَابَتِهِ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ، وَعَتَقَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِأَبِيهِ الْحُرِّ، وَإِنْ عَجَزَ، وَعَادَ إلَى الرِّقِّ، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ أَيْضًا، وَيَكُونَانِ مَمْلُوكَيْنِ لِلسَّيِّدِ. فَأَمَّا الْأَمَةُ، فَإِنْ وَلَدَتْ قَبْلَ عِتْقِهِ وَعَجْزِهِ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا لَهُ حُرْمَةُ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَيَعْتِقُ بِعِتْقِ أَبِيهِ، فَكَذَلِكَ أُمُّهُ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمُكَاتَبِ، إنْ عَتَقَ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ، وَإِنْ رَقَّ، رَقَّتْ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِحَالٍ، وَلَهُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا حَمَلَتْ بِمَمْلُوكٍ، فِي مِلْكٍ غَيْرِ تَامٍّ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، تَبَيَّنَّا أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَكَمْنَا أَنَّهَا حَمَلَتْهُ حُرًّا؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ وُجُودَهُ فِي حَالِ الرِّقِّ، وَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ مِنْ التَّفْصِيلِ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ يُزَوِّجُ الْمُكَاتَبُ عَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ] (8733) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ، بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَمَلَكَهُ، كَالْإِجَارَةِ. وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ". وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ قَالَ فِي " الْخِصَالِ ": لَهُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ دُونَ الْعَبْدِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ تَزْوِيجِهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ ذِمَّةٍ عَلَى مَنَافِعِهَا، فَأَشْبَهَ إجَارَتَهَا. وَلَنَا، أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ إنْ زَوَّجَ الْعَبْدَ، لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَمَهْرُهَا، وَشَغَلَهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ، وَنَقْصِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ زَوَّجَ الْأَمَةَ، مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَهَا، وَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، وَقَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهَا، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ الْمُكَاتَبِ، فَرُبَّمَا عَجَّزَهُ ذَلِكَ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِهِ، وَإِنْ عَجَزَ، عَادَ رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 مَعَ مَا تَعَلَّقَ بِهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ، وَلَحِقَهُمْ مِنْ النَّقْصِ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَهُ، كَإِعْتَاقِهِمْ، وَفَارَقَ إجَارَةَ الدَّارِ، فَإِنَّهَا مِنْ جِهَاتِ الْمَكَاسِبِ عَادَةً. فَعَلَى هَذَا، إنْ وَجَبَ تَزْوِيجُهُمْ، لِطَلَبِهِمْ ذَلِكَ، وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ، بَاعَهُمْ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى طَلَبَ التَّزْوِيجَ، خُيِّرَ سَيِّدُهُ بَيْنَ بَيْعِهِ وَتَزْوِيجِهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَالْمَنْعَ مِنْ أَجْلِهِ، فَجَازَ بِإِذْنِهِ. [فَصْلٌ إعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ رَقِيقَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ] (8734) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ إعْتَاقُ رَقِيقِهِ، إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى سَيِّدِهِ، بِتَفْوِيتِ مَالِهِ فِيمَا لَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَالٌ، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ. فَإِنْ أَعْتَقَ، لَمْ يَصِحَّ إعْتَاقُهُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ، وَيَقِفَ عَلَى إذْنِ سَيِّدِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِ أَمْرِ الْمُكَاتَبِ؛ فَإِنْ أَدَّى، عَتَقَ مُعْتَقُهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، رَقَّ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، كَقَوْلِنَا فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ، إنَّهُمْ مَوْقُوفُونَ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَكَانَ بَاطِلًا، كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَكَانَ بَاطِلًا، كَسَائِرِ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ ذَوِي أَرْحَامِهِ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُعْتِقُهُمْ الشَّرْعُ عَلَى مَالِكِهِمْ بِمِلْكِهِمْ، وَالْمُكَاتَبُ مِلْكُهُ نَاقِصٌ، فَلَمْ يَعْتِقْ بِهِ، فَإِذَا عَتَقَ كَمُلَ مِلْكُهُ، فَعَتَقُوا حِينَئِذٍ، وَالْمُعْتَقُ إنَّمَا يَعْتِقُ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي كَانَ بَاطِلًا، فَلَا تَتَيَقَّنُ صِحَّتُهُ إذَا كَمُلَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ فِي الثَّانِي لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ كَامِلًا حِينَ الْإِعْتَاقِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ سَائِرُ تَبَرُّعَاتِهِ بِأَدَائِهِ. فَأَمَّا إنْ أَذِنَ فِيهِ سَيِّدُهُ، صَحَّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَهُ بِمَالِهِ يَفُوقُ الْمَقْصُودَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَهُوَ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِيهِ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ الْوَلَاءِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ نَاقِصٌ، وَالسَّيِّدُ لَا يَمْلِكُ إعْتَاقَ مَا فِي يَدِهِ وَلَا هِبَتَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى التَّبَرُّعِ بِهِ، جَازَ، كَالرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، جَازَ، وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، كَانَ لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، كَمَا يَرِقُّ مَمَالِيكُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: يَكُونُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إنَّمَا صَحَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَكَانَ كَالنَّائِبِ لَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 [فَصْلٌ الْمُكَاتَبُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ] (8735) فَصْلٌ: وَالْمُكَاتَبُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، فَلَيْسَ لَهُ اسْتِهْلَاكُهُ، وَلَا هِبَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ حَقَّ سَيِّدِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ، فَيَعُودُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْكِتَابَةِ تَحْصِيلُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَهِبَةُ مَالِهِ تُفَوِّتُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ سَيِّدُهُ، جَازَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَجَازَ بِاتِّفَاقِهِمَا، كَالرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. فَأَمَّا الْهِبَةُ بِالثَّوَابِ، فَلَا تَصِحُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِيهَا مُعَاوَضَةً. وَلَنَا، أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي تَقْدِيرِ الثَّوَابِ، يُوجِبُ الْغَرَرَ فِيهَا، وَلِأَنَّ عِوَضَهَا يَتَأَخَّرُ، فَتَكُونُ كَالْبَيْعِ نَسِيئَةً. وَإِنْ أَذِنَ فِيهَا السَّيِّدُ، جَازَتْ. وَإِنْ وَهَبَ لِسَيِّدِهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ الْهِبَةَ إذْنٌ فِيهَا. وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لِابْنِ سَيِّدِهِ الصَّغِيرِ. [فَصْلٌ إهْدَاءُ الْمُكَاتَبِ هَدِيَّةً] (8736) فَصْلٌ: وَلَا يُحَابِي فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَزِيدُ فِي الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَلَا يُعِيرُ دَابَّةً، وَلَا يُهْدِي هَدِيَّةً. وَأَجَازَ ذَلِكَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ إعَارَةِ دَابَّتِهِ، وَهَدِيَّةِ الْمَأْكُولِ وَدُعَائِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ، وَلَا يَنْحَطُّ الْمُكَاتَبُ عَنْ دَرَجَتِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْهِبَةِ وَلَا يُوصِي بِمَالِهِ، وَلَا يَحُطُّ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا، وَلَا يُقْرِضُ، وَلَا يَضْمَنُ، وَلَا يَتَكَفَّلُ بِأَحَدٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِمَالِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ كَالْهِبَةِ. [فَصْلٌ حَجُّ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي جَمَعَهُ] (8737) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ إنْ احْتَاجَ إلَى إنْفَاقِ مَالِهِ فِيهِ. وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ الْمَالِ الَّذِي جَمَعَهُ، إذَا لَمْ يَأْتِ نَجْمُهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَحُجُّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، أَمَّا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَا يُنْفِقُ مَالًا فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْعِتْقِ. فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ غَيْرِ إنْفَاقِ مَالِهِ، كَاَلَّذِي تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِإِحْجَاجِهِ، أَوْ يَخْدِمُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ إذَا لَمْ يَأْتِ نَجْمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى تَرْكِهِ لِلْكَسْبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ. [فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ] (8738) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَوْعُ إعْتَاقٍ، فَلَمْ تَجُزْ مِنْ الْمُكَاتَبِ، كَالْمُنَجَّزِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْكِتَابَةَ، كَالْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَاخْتَارَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 الْقَاضِي جَوَازَ الْكِتَابَةِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ". وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مَوْقُوفٌ - كَقَوْلِهِ فِي الْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ فَإِنْ أَذِنَ فِيهَا السَّيِّدُ، صَحَّتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهَا قَوْلَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ، فَعَجَزَا جَمِيعًا، صَارَا رَقِيقَيْنِ لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ أَدَّى الثَّانِي، فَوَلَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمُكَاتِبِهِ. وَإِنْ أَدَّى الْأَوَّلُ، وَعَجَزَ الثَّانِي، صَارَ رَقِيقًا لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ عَجَزَ الْأَوَّلُ، وَأَدَّى الثَّانِي، فَوَلَاؤُهُ لِلسَّيِّدِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ أَدَّى الثَّانِي قَبْلَ عِتْقِ الْأَوَّلِ، عَتَقَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَوَلَاؤُهُ لِلسَّيِّدِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْوَلَاءِ، وَالْوَلَاءُ لَا يُوقَفُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُورَثُ بِهِ، فَهُوَ كَالنَّسَبِ وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَقِفُ، كَذَلِكَ سَبَبُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَوْقُوفٌ، إنْ أَدَّى عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلسَّيِّدِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتِقْ فِي مِلْكِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ، كَمَا لَمْ يَقِفْ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ. فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّسَبَ يَقِفُ عَلَى بُلُوغِ الْغُلَامِ، وَانْتِسَابِهِ إذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِ الْوَاطِئِينَ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ يُوقَفُ، عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ، وَبَيْنَ الْوَلَاءِ، أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ لِشَخْصٍ، ثُمَّ يَنْتَقِلَ، وَهُوَ مَا يَجُرُّهُ مَوَالِي الْأَبِ مِنْ مَوْلَى الْأُمِّ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَالنَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ قَبْلَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ، وَقُلْنَا: الْوَلَاءُ لِلسَّيِّدِ. وَرِثَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مَوْقُوفٌ. فَمِيرَاثُهُ أَيْضًا مَوْقُوفٌ. [فَصْلٌ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ نَسِيئَةً] (8739) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً، وَإِنْ بَاعَ السِّلْعَةَ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِالْمَالِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّغْرِيرِ بِالْمَالِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ السَّيِّدِ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ، بِنَاءً عَلَى الضَّارِبِ، أَنَّ لَهُ الْبَيْعَ نَسِيئَةً. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. وَسَوَاءٌ أَخَذَ بِالثَّمَنِ ضَمِينًا، أَوْ رَهْنًا، أَوْ لَمْ يَأْخُذْ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ لَمْ يَزُلْ، فَإِنَّ الرَّهْنَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتْلَفَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفْلِسَ الْغَرِيمُ وَالضَّمِينُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ مَعَ الرَّهْنِ أَوْ الضَّمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَثِيقَةَ قَدْ حَصَلَتْ بِهِ، وَالْعَوَارِضُ نَادِرَةٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. فَإِنْ بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي حَالًّا، وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ مُؤَجَّلَةً، جَازَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ رِبْحٌ. وَإِنْ اشْتَرَى نَسِيئَةً، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بِهِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ، وَقَدْ يَتْلَفُ، أَوْ يَجْحَدُهُ الْغَرِيمُ. وَلَيْسَ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ سَلَمًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ نَسِيئَةً. وَلَهُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشِّرَاءِ نَسِيئَةً. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْمَالِ وَفِيهِ خَطَرٌ بِهِ. وَلَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالْمَالِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُهُ إلَى غَيْرِهِ، فَيُغَرِّرُ بِهِ. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ قِرَاضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَشِرَاؤُهُ] (8740) فَصْلٌ: وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ. بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَدَاءِ عِوَضِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ أَقْوَى جِهَاتِ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيُعْطِيَ، فِيمَا فِيهِ الصَّلَاحُ لِمَالِهِ، وَالتَّوْفِيرُ عَلَيْهِ. وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ؛ فِي مَأْكَلِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَكُسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا لَا غَنَاءَ لَهُ عَنْهُ، وَعَلَى رَقِيقِهِ، وَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ. وَلَهُ تَأْدِيبُ عَبِيدِهِ، وَتَعْزِيرُهُمْ، إذَا فَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ، فَمَلَكَهُ، كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ. وَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ وِلَايَةٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا. وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ، وَالْأَخْذُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ شِرَاءٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلشِّقْصِ سَيِّدَهُ، فَلَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ. وَإِنْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ شِقْصًا لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ، فَلَهُ أَخْذُهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ سَيِّدِهِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ وَجَبَتْ لِلسَّيِّدِ عَلَى مُكَاتَبِهِ شُفْعَةٌ، فَادَّعَى الْمُكَاتَبُ أَنَّ سَيِّدَهُ عَفَا عَنْهَا، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ. وَإِنْ أَنْكَرَهُ السَّيِّدُ، كَانَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِمُكَاتَبِهِ فِي الْبَيْعِ بِالْمُحَابَاةِ، صَحَّ مِنْهُ وَكَانَ لِسَيِّدِهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ بِالْمُحَابَاةِ - مَعَ إذْنِ سَيِّدِهِ فِيهِ - صَحِيحٌ. يَصِحُّ إقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْعَيْبِ، وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِذَلِكَ، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا، فَلَهُ الْإِقْرَارُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ السَّيِّدُ مَعَ مُكَاتَبِهِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ] (8741) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَبِيعُهُ سَيِّدُهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا رِبًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ فِي الْأَظْهَرِ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَا رِبًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُعَجِّلَ لِسَيِّدِهِ، وَيَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ كِتَابَتِهِ، وَلَهُ وَطْءُ مُكَاتَبَتِهِ إذَا شَرَطَ، وَلَوْ حَمَلَتْ مِنْهُ صَارَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّ السَّيِّدَ مَعَ مُكَاتَبِهِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّفْعَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ لِسَيِّدِهِ حَقٌّ فِي مَا بِيَدِهِ؛ لِكَوْنِهِ بِعَرَضِيَّةِ أَنْ يُعَجِّزَهُ، فَيَعُودَ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ الرِّبَا بَيْنَهُمَا، كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَلَا النَّسَاءِ فِي مَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِيهِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ. [فَصْلٌ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ دَيْنٌ مِنْ الْكِتَابَةِ وَلِلْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنٌ] فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنٌ، مِثْلُ إنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ دَيْنٌ مِنْ الْكِتَابَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلِلْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ دَيْنٌ، وَكَانَا نَقْدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، حَالَّيْنِ، أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ أَجَلًا وَاحِدًا، تَقَاصَّا، وَتَسَاقَطَا لِأَنَّهُمَا إذَا تَسَاقَطَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ، فَمَعَ السَّيِّدِ وَمُكَاتَبِهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَا نَقْدَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ، كَدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى سَيِّدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ مِائَةُ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا قِصَاصًا بِهَا، جَازَ، بِخِلَافِ الْحُرَّيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَسَيِّدِهِ، كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفَارَقَ الْعَبْدَ الْقِنَّ؛ فَإِنَّهُ بَاقٍ فِي تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ، وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ خَالِصٌ لِسَيِّدِهِ، لَهُ أَخْذُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَجُوزُ مَعَ التَّرَاضِي بِهِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُوسَى: يَجُوزُ إذَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، وَتَبَايَعَاهُ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقَابُضُ قَبْلَ تَرَاضِيهِمَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَا عَرْضَيْنِ، أَوْ عَرْضًا وَنَقْدًا، لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ فِيهِمَا بِغَيْرِ تَرَاضِيهِمَا بِحَالٍّ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَرْضُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ حَقَّهُ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ عِوَضًا عَنْ مَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ، جَازَ، إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ عَنْ سَلَمٍ، فَإِنْ ثَبَتَ عَنْ سَلَمٍ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ، إنَّ حُكْمَ الْمُكَاتَبِ مَعَ سَيِّدِهِ فِي هَذَا، حُكْمُ الْأَجَانِبِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَطْءُ الرَّجُلِ مُكَاتَبَتَهُ] (8743) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ مُكَاتَبَتَهُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (8744) الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: فِي وَطْئِهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقِيلَ: لَهُ وَطْؤُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَشْغَلُهَا الْوَطْءُ عَنْ السَّعْيِ عَمَّا هِيَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ يَمِينِهِ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] . وَلَنَا، أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ أَزَالَ مِلْكَ اسْتِخْدَامِهَا، وَمِلْكَ عِوَضِ مَنْفَعَةِ بُضْعِهَا فِيمَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَأَزَالَ حِلَّ وَطْئِهَا، كَالْبَيْعِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُزَوَّجَةِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهَا مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ هَاهُنَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ عَنْ مَنَافِعِهَا، جُمْلَةً، وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، كَانَ الْمَهْرُ لَهَا، وَتُفَارِقُ أُمُّ الْوَلَدِ؛ فَإِنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِمَوْتِهِ فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ وَالْمُوصَى بِهَا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الْعِتْقَ بِمَوْتِهِ اسْتِحْقَاقًا لَازِمًا، لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ. (8745) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا شَرَطَ وَطْأَهَا، فَلَهُ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ سَائِرُ مَنْ ذَكَرْنَا: لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ مَعَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ بِالشَّرْطِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَسَدَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عِوَضًا فَاسِدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِرُكْنِ الْعَقْدِ، وَلَا شَرْطِهِ، فَلَمْ يُفْسِدْهُ، كَالصَّحِيحِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، لَهُ شَرْطُ نَفْعِهَا، فَصَحَّ، كَشَرْطِ اسْتِخْدَامِهَا، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ مَنْعَهُ مِنْ وَطْئِهَا مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، وَوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِحِلِّ وَطْئِهَا، إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهَا، فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَيْهَا، جَازَ، كَالْخِدْمَةِ، وَلِأَنَّهُ اُسْتُثْنِيَ بَعْضُ مَا كَانَ لَهُ، فَصَحَّ، كَاشْتِرَاطِ الْخِدْمَةِ، وَفَارَقَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا. [فَصْلٌ وَطِئَ الْمُكَاتَبَةَ مَعَ الشَّرْطِ] (8746) فَصْلٌ: فَإِنْ وَطِئَهَا مَعَ الشَّرْطِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا تَعْزِيرَ وَلَا مَهْرَ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَمْلِكُهُ، وَيُبَاحُ لَهُ، فَأَشْبَهَ وَطْأَهَا قَبْلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 كِتَابَتِهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا عَنْ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ؛ فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ، فَأَوْجَبَ الْحَدَّ بِوَطْئِهَا، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا، كَأَمَتِهِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْمَرْهُونَةِ، وَتُخَالِفُ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُهُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا الْمَمْنُوعَ مِنْ اسْتِيفَائِهَا، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهَا، كَمَنَافِعِ بَدَنِهَا. [فَصْلٌ أَوْلَدَ الْمُكَاتَبَةَ] (8747) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْلَدَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا بِشَرْطٍ أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ، فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ، كَغَيْرِ الْمُكَاتَبَةِ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَتِهِ، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُهُ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ، وَلَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهَا وَضَعَتْهُ فِي مِلْكِهِ. [فَصْلٌ وَطْءُ بِنْتِ الْمُكَاتَبَةِ] (8748) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ وَطْءُ بِنْتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِأُمِّهَا مَوْقُوفَةٌ مَعَهَا، فَلَمْ يُبَحْ وَطْؤُهَا كَأُمِّهَا، وَلَا يُبَاحُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ثَبَتَ فِيهَا تَبَعًا، وَلَمْ يَكُنْ وَطْؤُهَا مُبَاحًا حَالَ الْعَقْدِ بِشَرْطِهِ. فَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَيَأْثَمُ، وَيُعَزَّرُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فَرْجًا مُحَرَّمًا، وَلَهَا مَهْرٌ عَلَيْهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ كَسْبِهَا، يَكُونُ لِأُمِّهَا تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ حُرِّيَّتِهَا. وَإِنْ أَحْبَلَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ أُمَّهَا لَا تَمْلِكُهَا، وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهَا وَضَعَتْهُ فِي مِلْكِهِ. [فَصْلٌ وَطْءُ جَارِيَةِ مُكَاتَبَتِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ] (8749) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ وَطْءُ جَارِيَةِ مُكَاتَبَتِهِ وَلَا مُكَاتَبِهِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ، وَعُزِّرَ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَالِكَهَا، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِسَيِّدِهَا، وَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ، يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا بِوَطْئِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِسَيِّدِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا وَضَعَتْهُ فِي مِلْكِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِوَطْئِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهَا، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ. [فَصْلٌ إجْبَارُ مُكَاتَبَتِهِ أَوْ ابْنَتِهَا أَوْ أَمَتِهَا عَلَى التَّزْوِيجِ] (8750) فَصْلٌ: وَلَا يَمْلِكُ إجْبَارَ مُكَاتَبَتِهِ وَلَا ابْنَتِهَا وَلَا أَمَتِهَا عَلَى التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ عَنْ نَفْعِهَا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 وَنَفْعِ بُضْعِهَا، وَعَنْ عِوَضِهِ. وَلَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا التَّزْوِيجُ بِغَيْرِ إذْنٍ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِيهَا، فَرُبَّمَا عَجَزَتْ، وَعَادَتْ إلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ وَطْأَهَا. فَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَهُوَ وَلِيُّهَا وَوَلِيُّ ابْنَتِهَا وَجَارِيَتِهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْجَارِيَةَ الْقِنَّ، وَالْمَهْرُ لِلْمُكَاتَبَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَهْرِهِنَّ إذَا وَطِئَهُنَّ السَّيِّدُ. [مَسْأَلَةٌ السَّيِّدُ إذَا وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ] (8751) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ، أُدِّبَ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ حَدُّ الزَّانِي، وَكَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لَكِنْ إنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، عُزِّرَا، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ، عُذِرَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا وَالْآخَرُ جَاهِلًا، عُزِّرَ الْعَالِمُ وَعُذِرَ الْجَاهِلُ. وَلَا يَخْرُجُ بِالْوَطْءِ عَنْ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إنْ طَاوَعَتْهُ، فَقَدْ فُسِخَتْ كِتَابَتُهَا، وَعَادَتْ قِنًّا. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمُطَاوَعَةِ عَلَى الْوَطْءِ، كَالْإِجَارَةِ، وَالْبَيْعِ بَعْدَ لُزُومِهِ. فَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهَا، أَكْرَهَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجِبُ إذَا أَكْرَهَهَا، وَلَا يَجِبُ إذَا طَاوَعَتْهُ. وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُطَاوِعَةَ بَذَلَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَصَارَتْ كَالزَّانِيَةِ. وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وُجُوبُهُ فِي الْحَالَيْنِ. وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ، وَقَالُوا: لَا يُعْرَفُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَتِهَا، فَوَجَبَ لَهَا، كَعِوَضِ بَدَنِهَا، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي يَدِ نَفْسِهَا، وَمَنَافِعُهَا لَهَا، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ، كَانَ الْمَهْرُ لَهَا، وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي حَالِ الْمُطَاوَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةِ عَقْدٍ مُطَاوِعَةً. فَإِنْ تَكَرَّرَ وَطْؤُهَا، وَكَانَ قَدْ أَدَّى مَهْرَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ، فَلِلثَّانِي مَهْرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ قَطَعَ حُكْمَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى عَنْ الْأَوَّلِ، لَمْ يَجِبْ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا عَنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. (8752) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ عَلَيْهَا نَجْمٌ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَهْرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، تَقَاصَّا، وَأَخَذَ ذُو الْفَضْلِ فَضْلَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 [مَسْأَلَةٌ السَّيِّدُ إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ] (8753) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْعَجْزِ وَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، وَبَيْنَ الْمُضِيِّ عَلَى كِتَابَتِهَا. فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ، وَإِنْ عَجَزَتْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ عَجْزِهَا انْعَتَقَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتَهَا وَمَا فِي يَدِهَا لِوَرَثَةِ سَيِّدِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَمْلُوكَتِهِ وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ وَلَا تَجِبُ قِيمَتُهُ؛ لِذَلِكَ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِذَلِكَ، وَلَا تَبْطُلُ كِتَابَتُهَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ سَيِّدِهَا وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهَا سَبَبَانِ يَقْتَضِيَانِ الْعِتْقَ أَيُّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ، هَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَكَمُ: تَبْطُلُ كِتَابَتُهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْعِتْقِ فَتَبْطُلُ بِالِاسْتِيلَادِ كَالتَّدْبِيرِ. وَلَنَا أَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا تَبْطُلُ بِالْوَطْءِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْعِتْقِ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ فَلَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ كَالتَّعْلِيقِ بِصِفَةٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالتَّعْلِيقِ بِالصِّفَةِ وَتُفَارِقُ الْكِتَابَةُ التَّدْبِيرَ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا أَنَّ حُكْمَ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِتْقُ عَقِيبَ الْمَوْتِ، وَالِاسْتِيلَادُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ بِحَالٍ فَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ التَّدْبِيرِ، وَالْكِتَابَةُ سَبَبٌ يَتَعَجَّلُ بِهَا الْعِتْقُ بِالْأَدَاءِ وَيَكُونُ مَا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهَا لَهَا وَيَمْلِكُ بِهَا مَنَافِعَهَا وَكَسْبَهَا وَتَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِ سَيِّدِهَا وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِيلَادِ فَيَجِبُ أَنْ تَبْقَى لِبَقَاءِ فَائِدَتِهَا الثَّانِي أَنَّ الْكِتَابَةَ أَقْوَى مِنْ التَّدْبِيرِ لِلُزُومِهَا وَكَوْنِهَا لَا تَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا وَلَا بِبَيْعِ الْمُكَاتَبِ وَلَا هِبَتِهِ. الثَّالِثُ أَنَّ التَّدْبِيرَ تَبَرُّعٌ وَالْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَازِمٌ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهَا سَبَبَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْحُرِّيَّةَ، فَأَيُّهُمَا تَمَّ قَبْلَ صَاحِبِهِ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ بِهِ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ؛ لِأَنَّ انْضِمَامَ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُنَافِيهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ، فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ وَمَا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهَا فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ بِالْكِتَابَةِ لَهُ مَا فَضَلَ مِنْ نُجُومِهِ. وَإِنْ عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ بَطَلَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ وَبَقِيَ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ مُنْفَرِدًا كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُكَاتَبَةً، وَلَهُ وَطْؤُهَا وَتَزْوِيجُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، وَمَا فِي يَدِهَا لِوَرَثَةِ سَيِّدِهَا، وَإِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا قَبْلَ عَجْزِهَا انْعَتَقَتْ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ وَتَسْقُطُ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَصَلَتْ فَسَقَطَ الْعِوَضُ الْمَبْذُولُ فِي تَحْصِيلِهَا كَمَا لَوْ بَاشَرَهَا سَيِّدُهَا بِالْعِتْقِ وَمَا فِي يَدِهَا لِوَرَثَةِ سَيِّدِهَا فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِحُكْمِ الِاسْتِيلَادِ وَبَطَلَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَتْ غَيْرَ الْمُكَاتَبَةِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَابْنُ عَقِيلٍ فِي " كِتَابِهِ ": مَا فَضَلَ فِي يَدِهَا لَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 وَقَعَ فِي الْكِتَابَةِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَهَا كَالْإِبْرَاءِ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ مِلْكَهَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى مَا فِي يَدِهَا وَلَمْ يَحْدُثْ إلَّا مَا يُزِيلُ حَقَّ سَيِّدِهَا عَنْهَا فَيَقْتَضِي زَوَالَ حَقِّهِ عَمَّا فِي يَدِهَا وَتَقْرِيرَ مِلْكِهَا وَخُلُوصَهُ لَهَا كَمَا اقْتَضَى ذَلِكَ فِي نَفْسِهَا، وَهَذَا أَصَحُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمُكَاتَبَةُ إنْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا] (8754) فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا عَتَقَتْ وَسَقَطَتْ كِتَابَتُهَا، وَمَا فِي يَدِهَا لَهَا فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهَا كَمَا لَوْ عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى قَوْلِهِمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ أَعْتَقَهَا بِرِضَاهُ فَيَكُونَ رِضًى مِنْهُ بِإِعْطَائِهَا مَالَهَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِالِاسْتِيلَادِ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِغَيْرِ رِضَى الْوَرَثَةِ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالُ الْمُكَاتَبِ يَصِيرُ لِلسَّيِّدِ بِإِعْتَاقِهِ لَتَمَكَّنَ السَّيِّدُ مِنْ أَخْذِ مَالِ الْمُكَاتَبِ مَتَى شَاءَ، فَمَتَى كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَخْذِ مَالِهِ، إمَّا لِكَثْرَتِهِ وَفَضْلِهِ عَنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ، وَإِمَّا لِغَرَضٍ لَهُ فِي بَعْضِ أَعْيَانِ مَالِهِ، أَعْتَقَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْدُ الْكِتَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُشْرَعَ. [فَصْلٌ الْمُكَاتَبَةُ إنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بَعْدَ اسْتِيلَادِهَا.] (8755) فَصْلٌ: وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بَعْدَ اسْتِيلَادِهَا فَلَهُ حُكْمُهَا فِي الْعِتْقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ، أَيُّهُمَا سَبَقَ عَتَقَ بِهِ كَالْأُمِّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا فَيَثْبُتَ لَهُ مَا يَثْبُتُ لَهَا وَإِنْ مَاتَتْ الْمُكَاتَبَةُ بَقِيَ لِلْوَلَدِ سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ وَحْدَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وَلَدِهَا فَقَالَتْ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ كِتَابَتِي أَوْ بَعْدَ وِلَايَتِي. وَقَالَ السَّيِّدُ: بَلْ قَبْلَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا رَقِيقًا، لِسَيِّدِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِمَا وَهِيَ تَدَّعِي مَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ. وَإِنْ زَوَّجَ مُكَاتَبُهُ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْهُ وَاخْتَلَفَا فِي وَلَدِهَا فَقَالَ السَّيِّدُ: هُوَ لِي؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ بَيْعِهَا لَك وَقَالَ الْمُكَاتَبُ: بَلْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مِلْكِهِ وَيَدِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَيُفَارِقُ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِي مِلْكَهُ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَكَاتَبَاهَا ثُمَّ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا] (8756) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَكَاتَبَاهَا ثُمَّ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا أُدِّبَ فَوْقَ أَدَبِ الْوَاطِئِ؛ لِمُكَاتَبَتِهِ الْخَالِصَةِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ هَاهُنَا حَرُمَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الشَّرِكَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَهُوَ آكَدُ وَإِثْمُهُ أَعْظَمُ وَأَدَبُهُ أَكْثَرُ، وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّيِّدُ وَاحِدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَّ نَجْمٌ قَبَضَتْ الْمَهْرَ، فَإِذَا حَلَّ نَجْمُهَا سَلَّمَتْهُ إلَيْهِمَا، وَإِنْ حَلَّ نَجْمُهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ وَكَانَ فِي يَدِهَا بِقَدْرِهِ دَفَعَتْهُ إلَى الَّذِي لَمْ يَطَأْهَا وَاحْتَسَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ بِالْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ وَكَانَ بِقَدْرِ نَجْمِهَا أَوْ دُونَهُ أَخَذَتْ مِنْ الْوَاطِئِ نِصْفَهُ وَسَلَّمَتْهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 إلَى الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ فَاتَّفَقَا عَلَى أَخْذِهِ عِوَضًا عَنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا قَبَضَتْهُ وَدَفَعَتْهُ مِمَّا عَلَيْهَا مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ مِنْ عِوَضِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَجَزَتْ فَسَخَا الْكِتَابَةَ وَكَانَ فِي يَدِهَا بِقَدْرِ الْمَهْرِ أَخَذَهُ الَّذِي لَمْ يَطَأْ وَسَقَطَ الْمَهْرُ مِنْ ذِمَّةِ الْوَاطِئِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي لَمْ يَطَأْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَاطِئِ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ مَعَ نِصْفِ الْمَهْرِ الْوَاجِبِ لَهَا - مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا - إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أَدَّاهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي بَابِ الْعِتْقِ، فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ، وَمُكَاتَبَتُهُ لَهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا وَتَكُونُ مُبْقَاةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِمَا تُسَاوِي مُكَاتَبَتَهُ مُبْقَاةً عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابَتِهَا. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَسْرِ الْإِحْبَالُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ بِالْقَوْلِ يُعْتَبَرُ الْيَسَارُ فِي سِرَايَتِهِ، وَنَصِيبُ الْوَاطِئِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ وَحُكْمُ الْكِتَابَةِ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إلَّا حُكْمُ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّتْ إلَيْهِمَا عَتَقَتْ وَبَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، وَإِنْ عَجَزَتْ وَفَسَخَا الْكِتَابَةَ ثَبَتَ لِنِصْفِهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، وَنِصْفُهَا قِنٌّ لَا يُقَوَّمُ عَلَى الْوَارِثِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَقٍ. وَإِنْ مَاتَ الْوَاطِئُ قَبْلَ عَجْزِهَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَسَقَطَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ فِيهِ وَكَانَ الْبَاقِي مُكَاتَبًا، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مُوسِرًا فَقَدْ ثَبَتَ لِنِصْفِهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، وَنِصْفُهَا الْآخَرُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَدَّتْ إلَيْهِمَا عَتَقَتْ كُلُّهَا وَوَلَاؤُهَا لَهُمَا، وَإِنْ عَجَزَتْ وَفَسَخَا الْكِتَابَةَ قَوَّمْنَاهَا حِينَئِذٍ عَلَى الْوَاطِئِ، فَيَدْفَعُ إلَى شَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَتَصِيرُ جَمِيعُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَى الْمُوسِرِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ فِي نِصْفِ الشَّرِيكِ، وَتَصِيرُ جَمِيعُهَا أُمَّ وَلَدٍ وَنِصْفُهَا مُكَاتَبًا لِلْوَاطِئِ، فَإِنْ أَدَّتْ نَصِيبَهُ إلَيْهِ عَتَقَتْ وَسَرَى إلَى الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَعَتَقَ جَمِيعُهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ فَفَسَخَ الْكِتَابَةَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ خَاصَّةً، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَتْ كُلُّهَا. وَلَنَا أَنَّ بَعْضَهَا أُمُّ وَلَدٍ فَكَانَ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ مُوسِرًا، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ حَاصِلٌ مِنْ جَمِيعِهَا، وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ الْوَاطِئِ وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ لِجَمِيعِهَا، وَيُفَارِقُ الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ أَضْعَفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ. وَلَنَا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَبْطُلُ بِالتَّقْوِيمِ أَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا تَبْطُلُ مَعَ بَقَائِهَا بِفِعْلٍ صَدَرَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَكَمَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ مِنْهُ فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ كَذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهَا وَضَعَتْهُ فِي مِلْكِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا لَا تَجِبُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ شَرِيكِهِ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حِينِ الْعَلُوقِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ فَلَمْ يَضْمَنْهُ، وَالثَّانِيَةُ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ سَبِيلِ هَذَا النِّصْفِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِشَرِيكِهِ فَقَدْ تَلِفَ رِقُّهُ عَلَيْهِ فَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ وَذَكَرَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَبُو بَكْرٍ وَاخْتَارَ أَنَّهَا إنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ التَّقْوِيمِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَاطِئِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ التَّقْوِيمِ غَرِمَ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَاطِئُ الِاسْتِبْرَاءَ وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ وَكَانَ حُكْمُ وَلَدِهَا حُكْمَهَا، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الِاسْتِبْرَاءِ لَحِقَ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءً. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَوَطِئَاهَا جَمِيعًا] (8757) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَاهَا جَمِيعًا فَقَدْ وَجَبَ لَهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا حِينَ وَطِئَهَا الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ مَهْرُ بِكْرٍ، وَعَلَى الْآخَرِ مَهْرُ ثَيِّبٍ، فَإِنْ كَانَ نَجْمُهَا لَمْ يَحِلَّ فَلَهَا مُطَالَبَتُهُمَا بِالْمَهْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ النَّجْمُ قَدْ حَلَّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَهْرِ تَقَاصَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُقَاصَّةِ، فَإِنْ أَدَّتْ إلَيْهِمَا عَتَقَتْ، وَكَانَ لَهُمَا الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرَيْنِ، وَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ نَفْسِهَا وَفَسَخَا الْكِتَابَةَ بَعْدَ قَبْضِهَا الْمَهْرَيْنِ لَمْ يَمْلِكْ أَحَدُهُمَا مُطَالَبَةَ الْآخَرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا قَبَضَتْهُمَا وَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَا فِي يَدِهَا اقْتَسَمَاهُمَا، وَإِنْ تَلِفَا أَوْ بَعْضُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَهْرَيْنِ - وَهُمَا سَوَاءٌ - سَقَطَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ تَقَاصَّ مِنْهُمَا بِقَدْرِ أَقَلِّهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ قَبَضَتْ الْبَعْضَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ رَجَعَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِ مَا عَلَيْهِ. وَإِنْ قَبَضَتْ الْبَعْضَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ - أَوْ قَبَضَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ رَجَعَ مَنْ قُبِضَ مِنْهُ الْأَكْثَرُ عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَدَّاهَا، وَإِنْ أَفْضَاهَا أَحَدُهُمَا بِوَطْئِهِ فَعَلَيْهِ لَهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ فِي الْحُرَّةِ يُوجِبُ ثُلُثَ دِيَتِهَا فَوَجَبَ فِي الْأَمَةِ ثُلُثُ قِيمَتِهَا مَعَ الْمَهْرِ. فَصْلٌ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ فِي الْإِفْضَاءِ قَدْرُ نَقْصِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى الْوَاجِبِ فِي إفْضَاءِ الْحُرَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَإِنْ فُسِخَتْ الْكِتَابَةُ رَجَعَ مَنْ لَمْ يَفُضَّهَا عَلَى الْآخَرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 بِنِصْفِ قِيمَةِ الْإِفْضَاءِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ الَّذِي أَفْضَاهَا أَوْ وَطِئَهَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ عَجْزِهَا فَادَّعَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ ادَّعَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَوْلَدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاتَّفَقَا عَلَى السَّابِقِ مِنْهُمَا.] (8759) فَصْلٌ: فَإِنْ أَوْلَدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاتَّفَقَا عَلَى السَّابِقِ مِنْهُمَا، فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ لَاحِقُ النَّسَبِ بِهِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ كَالْخِلَافِ فِيمَا إذَا انْفَرَدَ بِإِيلَادِهَا سَوَاءٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَدْ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ وَأَوْلَدَهَا فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةُ غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهَا ثُمَّ أَوْلَدَهَا وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لَهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَبْطُلْ وَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ سَبِيلِهِ أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا لَهُ، حُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ نِصْفِ قِيمَةِ الْأَوَّلِ خِلَافًا، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا تَقَاصَّا بِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَسَاوَيَا فِيهِ، وَيَرْجِعُ ذُو الْفَضْلِ بِفَضْلِهِ وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَالٍ أَمْكَنَ التَّقْوِيمُ فِيهَا وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَا مُوسِرَيْنِ فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ الْوَاجِبَ عَلَى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِيلَادِ، وَمَهْرُ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا، وَلِأَنَّ سَيِّدَهَا لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ لَهَا فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَهْرَ الْوَاجِبَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ عِوَضُ نَفْعِهَا فَكَانَ لَهَا كَأُجْرَتِهَا. الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُوسِرًا وَالثَّانِي مُعْسِرًا فَيَكُونَ كَالْحَالِ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءً. قَالَ الْقَاضِي: إلَّا أَنَّ وَلَدَهُ يَكُونُ مَمْلُوكًا؛ لِإِعْسَارِهِ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَرِقُّ لِإِعْسَارِ وَالِدِهِ، بِدَلِيلِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ مِنْ أَمَةٍ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَكُلِّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْيَسَارُ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَلَيْسَ عِتْقُ هَذَا بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فِي الْوَطْءِ فَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ الْيَسَارِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُرٌّ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ فِي ذِمَّةِ أَبِيهِ. الْحَالُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَا مُعْسِرَيْنِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا، نِصْفُهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ وَنِصْفُهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلثَّانِي. قَالَ: وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرِهَا لِصَاحِبِهِ، وَفِي وَلَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ حُرًّا وَفِي ذِمَّةِ أَبِيهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 وَالثَّانِي نِصْفُهُ حُرٌّ وَبَاقِيهِ عَبْدٌ لِشَرِيكِهِ إلَّا أَنَّ نِصْفَ وَلَدِ الْأَوَّلِ عَبْدٌ قِنٌّ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلنِّصْفِ الْبَاقِي مِنْ الْأُمِّ. وَأَمَّا النِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ وَلَدِ الثَّانِي فَحُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ لِنِصْفِهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ لِلْأَوَّلِ، فَكَانَ نِصْفُهُ الرَّقِيقُ تَابِعًا لَهَا فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ أَرَادَ مَا إذَا عَجَزَتْ وَفَسَخَتْ الْكِتَابَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِنَّ لَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا حُكِمَ بِرِقِّ نِصْفِ وَلَدِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُهَا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَكُونُ تَابِعًا لَهَا الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُعْسِرًا وَالثَّانِي مُوسِرًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّالِثِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ وَلَدَ الثَّانِي حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَبَتَتْ لِنِصْفِهِ بِفِعْلِ أَبِيهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَسَرَى إلَى جَمِيعِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ وَلَمْ تُقَوَّمْ عَلَيْهِ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَوَّمَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ أُمِّهِ فِي هَذَا، فَإِذَا مَنَعَ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ السِّرَايَةَ فِي الْأُمِّ مَنَعَهُ فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لَهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَ الْقَاضِي. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَوْلَدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاخْتَلَفَا فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا.] (8760) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ السَّابِقُ فَعَلَى قَوْلِنَا لَهَا الْمَهْرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِرُّ لِصَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِي بِإِحْبَالِي إيَّاهَا وَوَجَبَ لِشَرِيكِي عَلَيَّ نِصْفُ قِيمَتِهَا وَلِي عَلَيْهِ قِيمَةُ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَوْلَدْتُهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِي. وَهَلْ يَكُونُ مُقِرًّا لَهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ وَلَدِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا. فَعَلَى هَذَا إنْ اسْتَوَى مَا يَدَّعِيهِ وَمَا يُقِرُّ بِهِ تَقَاصَّا وَتَسَاقَطَا وَلَا يَمِينَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لِي عَلَيْك مِثْلُ مَا لَك عَلَيَّ، وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ، فَتَسَاقَطَا. وَإِنْ زَادَ مَا يُقِرُّ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خَصْمَهُ يُكَذِّبُهُ فِي إقْرَارِهِ، وَإِنْ زَادَ مَا يَدَّعِيهِ فَلَهُ الْيَمِينُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الزِّيَادَةِ وَيَثْبُتُ لِلْأَمَةِ حُكْمُ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَوْتِهِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى شَرِيكِهِ فِي إعْتَاقِ نَصِيبِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي الْأَمَةِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ تَقَعُ الْقُرْعَةُ لَهُ، وَالثَّانِي تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا وَلَا يَطَؤُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. قَالَ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَاخْتَارَ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْمَهْرَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُقِرُّ لَهُ بِنِصْفِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِنْدَهُمْ لِسَيِّدِهَا دُونَهَا وَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهَا بِمَوْتِ الْأَوَّلِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِلْآخَرِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهَا قَدْ مَاتَ يَقِينًا، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقِرٌّ بِأَنَّ نِصْفَهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَيُصَدِّقُهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَسْرِي مَعَ الْإِعْسَارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 يُقِرُّ لِصَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَالْآخَرُ يُصَدِّقُهُ فَيَتَقَاصَّانِ إنْ تَسَاوَيَا، وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْفَضْلَ تَحَالَفَا وَسَقَطَ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِرُّ لِلْآخَرِ بِالْفَضْلِ سَقَطَ؛ لِتَكْذِيبِ الْمُقِرِّ لَهُ بِهِ وَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُ حُرًّا فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي نِصْفُهُ حُرٌّ فَيُقِرُّ بِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ لِشَرِيكِهِ فَيَكُونُ الْوَلَدَانِ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَقَاصَّانِ إنْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الْوَلَدَيْنِ وَلَا يَمِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَيُّهُمَا مَاتَ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا فَالْمُوسِرُ يُقِرُّ لِلْمُعْسِرِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَنِصْفِ مَهْرِهَا، وَيَدَّعِي عَلَيْهِ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ، وَالْمُعْسِرُ يُقِرُّ لِلْمُوسِرِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَيَسْقُطُ إقْرَارُ الْمُوسِرِ لِلْمُعْسِرِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَدَّعِيهِ وَلَا يُصَدِّقُهُ فِيهِ وَيَتَقَاصَّانِ بِالْمَهْرِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ، وَيَدْفَعُ الْمُعْسِرُ إلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِهِ وَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ جَمِيعَ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَأَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِهَا، وَيَحْلِفُ لَهُ الْمُوسِرُ عَلَى نِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُعْسِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنَّ نَصِيبَ الْمُوسِرِ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَبَاقِيَهَا يَتَنَازَعَانِهِ؛ فَإِنْ مَاتَ الْمُوسِرُ أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَوَلَاؤُهُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُعْسِرُ عَتَقَ بَاقِيهَا، وَإِنْ مَاتَ الْمُعْسِرُ أَوَّلًا لَمْ يَعْتِقْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوسِرُ عَتَقَ جَمِيعُهَا. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَطِئَاهَا مَعًا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ.] (8761) فَصْلٌ: فَإِنْ وَطِئَاهَا مَعًا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِثْلُ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا مِنْهُمَا أَوْ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ وَطِئَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ مَنْفِيٌّ عَنْهُمَا وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ فِي الْعِتْقِ بِأَدَائِهَا، وَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِبْرَاءَ قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْأَمَةِ كَاللِّعَانِ فِي الْحُرَّةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دُونَ صَاحِبِهِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ؛ مِنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ لَهَا وَقِيمَةِ نِصْفِهَا لِشَرِيكِهِ مَعَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الَّذِي لَمْ تَحْبَلْ مِنْ وَطْئِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لَهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الثَّانِيَ فَقَدْ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ بَاقِيَةً فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لَهَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ قَدْ فُسِخَتْ فَالْمَهْرُ لِلَّذِي اسْتَوْلَدَهَا، وَقَدْ وَجَبَ لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَفِي قِيمَةِ نِصْفِ الْوَلَدِ رِوَايَتَانِ فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ لِلْأَوَّلِ تَقَاصَّا بِقَدْرِ أَقَلِّ الْحَقَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 رَجَعَ بِحَقِّهِ عَلَى الَّذِي أَحْبَلَهَا. وَأَمَّا الْقَاضِي فَقَالَ فِي هَذَا الْقِسْمِ: الْحُكْمُ فِي الْأَوَّلِ كَالْحُكْمِ فِيهِ إذَا انْفَرَدَ بِالْوَطْءِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ وَالتَّطْوِيلِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ وِلَادَتِهَا مِنْ الْأَوَّلِ نَظَرْنَا، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ فَسَخَ الْكِتَابَةَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَجْزِهَا فَالْمَهْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَفْسَخْ فَالْمَهْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ زَوَالِ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّهِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا قِنٌّ لَهُ، وَعَلَيْهِ النِّصْفُ لَهَا - إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ فَسَخَ الْكِتَابَةَ - أَوْ لَهُ إنْ كَانَ فَسَخَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مُعْسِرًا فَنَصِيبُهُ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَهَا عَلَيْهِمَا الْمَهْرَانِ، وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَجَزَتْ أَوْ أَدَّتْ قَدْ تَقَدَّمَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ الثَّانِي فَالْحُكْمُ فِي وَطْءِ الْأَوَّلِ كَالْحُكْمِ فِيهِ إذَا وَطِئَ مُنْفَرِدًا فَلَمْ يُحْبِلْهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ، فَإِنْ فَسَخَا الْكِتَابَةَ قَوَّمْنَاهَا عَلَيْهِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ رَضِيَ الثَّانِي بِالْمُقَامِ عَلَى الْكِتَابَةِ قَوَّمْنَا عَلَيْهِ نَصِيبَ الْأَوَّلِ وَصَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَنِصْفُهَا مُكَاتَبٌ، وَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ فَيَتَقَاصَّانِ بِهِ إنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُعْسِرًا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا وَلَدَتْ مِنْ الْأَوَّلِ وَكَانَ مُعْسِرًا لَا فَضْلَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَرَى الْقَافَةَ مَعَهُمَا فَيَلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ مِنْهُمَا، فَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ قَافَةٍ. [مَسْأَلَةٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدٍ فَأَدَّى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ.] (8762) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدٍ فَأَدَّى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ وَمِثْلَهُ لِسَيِّدِهِ صَارَ حُرًّا بِالْكِتَابَةِ إنْ كَانَ الَّذِي كَاتَبَهُ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّهُ وَصَارَ نِصْفُ قِيمَتِهِ عَلَى الَّذِي كَاتَبَهُ لِشَرِيكِهِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ عَبْدٍ كَانَتْ لَهُ مُكَاتَبَتُهُ، وَتَصِحُّ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيهِ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ - وَسَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الشَّرِيكُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ الْحَكَمِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَمَالِكٍ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَكَرِهَ الثَّوْرِيُّ وَحَمَّادٌ كِتَابَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ فَعَلَ رَدَدْتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقَدَهُ فَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَصِحُّ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ وَلَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إذْنُهُ فِيمَا مَضَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 فِي ذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِي تَأْدِيَةِ مَالِ الْكِتَابَةِ مِنْ جَمِيعِ كَسْبِهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْآذِنُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ جَمِيعُهُ مُكَاتَبًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إنْ كَانَ بَاقِيهِ حُرًّا صَحَّتْ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيهِ مِلْكًا لَمْ تَصِحَّ كِتَابَتُهُ سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الشَّرِيكُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهُ تَقْتَضِي إطْلَاقَهُ فِي رَدِّ الْكَسْبِ وَالْمُسَافَرَةِ، وَمِلْكُ نِصْفِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَمْنَعُهُ أَخْذُ نَصِيبِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ كَسْبًا لَهُ وَيَسْتَحِقَّ سَيِّدُهُ نِصْفَهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَدَّى عَتَقَ جَمِيعُهُ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ نِصْفَ كِتَابَتِهِ وَيَعْتِقَ جَمِيعُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى نِصْفِهِ فَصَحَّ كَبَيْعِهِ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ فَصَحَّتْ كِتَابَتُهُ كَمَا لَوْ مَلَكَ جَمِيعَهُ، وَلِأَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فَصَحَّتْ كِتَابَتُهُ كَالْعَبْدِ الْكَامِلِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيهِ حُرًّا - عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - أَوْ أَذِنَ فِيهِ الشَّرِيكُ عِنْدَ الْبَاقِينَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَقْتَضِي الْمُسَافَرَةَ وَالْكَسْبَ وَأَخْذَ الصَّدَقَةِ قُلْنَا: أَمَّا الْمُسَافَرَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ الْمُقْتَضَيَاتِ الْأَصْلِيَّةِ فَوُجُودُ مَانِعٍ مِنْهَا لَا يَمْنَعُ أَصْلَ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْكَسْبُ وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ كَسْبَهُ وَأَخْذَهُ الصَّدَقَةَ بِجُزْئِهِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الشَّرِيكُ شَيْئًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْجُزْءِ الْمُكَاتَبِ، وَلَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا حَصَلَ بِهِ، كَمَا لَوْ وَرِثَ شَيْئًا بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، وَأَمَّا الْكَسْبُ فَإِنْ هَايَأَهُ مَالِكُ نِصْفِهِ فَكَسَبَ فِي نَوْبَتِهِ شَيْئًا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُهَايِئْهُ فَكَسَبَ بِجُمْلَتِهِ شَيْئًا كَانَ بَيْنَهُمَا لَهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْجُزْءِ الْمُكَاتَبِ وَلِسَيِّدِهِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْمَمْلُوكِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَسَبَ قَبْلَ كِتَابَتِهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَ سَيِّدَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ بَعْضَ الْكِتَابَةِ فَيَعْتِقُ جَمِيعُهُ. قُلْنَا: يَبْطُلُ هَذَا بِمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ نَصِيبِهِ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عِوَضَ الْبَعْضِ وَيَعْتِقُ الْجَمِيعُ، عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ: لَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ هُوَ الَّذِي كَاتَبَهُ عَلَيْهِ مَالِكُ نِصْفِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَهَا وَلِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْجَمِيعُ بِالْأَدَاءِ وَإِنَّمَا يَعْتِقُ الْجُزْءُ الْمُكَاتَبُ لَا غَيْرُ، وَبَاقِيهِ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عَتَقَ بِالسِّرَايَةِ لَا بِالْكِتَابَةِ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا كَمَا لَوْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ، فَإِذَا جَازَ جَمِيعُهُ بِإِعْتَاقِ بَعْضِهِ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ جَازَ ذَلِكَ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِتْقِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إذَا كَاتَبَ نَصِيبَهُ لَمْ تَسْرِ الْكِتَابَةُ وَلَمْ يَتَعَدَّ الْجُزْءَ الَّذِي كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَسْرِ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مُكَاتِبِهِ شَيْئًا حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى شَرِيكِهِ مِثْلَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ الشَّرِيكُ فِي كِتَابَتِهِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ فِي كِتَابَةِ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ بَاقِيًا لَهُ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْكَسْبُ بِجَمِيعِهِ فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ جَمِيعِ كَسْبِهِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ تَقْتَضِي الْعِتْقَ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الْعِوَضِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدَفْعِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا جَمِيعًا عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ فَإِذَا عَتَقَ سَرَى إلَى سَائِرِهِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي كَاتَبَهُ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِالْعِتْقِ أَوْ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ نَصِيبِهِ عَلَى صِفَةٍ فَعَتَقَ بِهَا، وَيَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِالْعِتْقِ، فَأَمَّا إنْ مَلَكَ الْعَبْدُ شَيْئًا بِجُزْئِهِ الْمُكَاتَبِ، مِثْلُ أَنْ هَايَأَهُ سَيِّدُهُ فَكَسَبَ شَيْئًا فِي نَوْبَتِهِ أَوْ أَعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا حَقَّ لِسَيِّدِهِ فِيهِ، وَلَهُ أَدَاءُ جَمِيعِهِ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَعْدَ إعْطَاءِ الشَّرِيكِ حَقَّهُ. فَلَوْ كَانَ ثُلُثُهُ حُرًّا وَثُلُثُهُ مُكَاتَبًا وَثُلُثُهُ رَقِيقًا، فَوَرِثَ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ مِيرَاثًا، وَأَخَذَ بِجُزْئِهِ الْمُكَاتَبِ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ، فَلَهُ دَفْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَحَقَّ بِجُزْئِهِ الرَّقِيقِ شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ مَالِكُهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِذَا أَدَّى جَمِيعَ كِتَابَتِهِ عَتَقَ فَإِذَا كَانَ الَّذِي كَاتَبَهُ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ وَلَمْ يَتَعَدَّ نَصِيبَهُ، كَمَا إذَا وَاجَهَهُ بِالْعِتْقِ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي نَقُولُ فِيهَا بِالِاسْتِسْعَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَسْعَى فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا سَرَى إلَى بَاقِيهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِلْكًا لِرَجُلٍ فَكَاتَبَ بَعْضَهُ.] (8763) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِلْكًا لِرَجُلٍ فَكَاتَبَ بَعْضَهُ جَازَ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَصَحَّتْ فِي بَعْضِهِ كَالْبَيْعِ، فَإِذَا أَدَّى جَمِيعَ كِتَابَتِهِ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَرَى الْعِتْقُ فِيهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِلَى مِلْكِهِ أَوْلَى، وَيَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى سَيِّدِهِ مِثْلَيْ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ مَا يَكْسِبُهُ يَسْتَحِقُّهُ سَيِّدُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ، وَنِصْفَهُ يُؤَدِّي فِي الْكِتَابَةِ إلَّا أَنْ يَرْضَى سَيِّدُهُ بِتَأْدِيَةِ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابَةِ فَيَصِحُّ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَالَ كُلَّهُ عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْكِتَابَةِ وَبَاقِيهِ بِالسِّرَايَةِ. [فَصْلٌ كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلَيْنِ فَكَاتَبَاهُ مَعًا.] (8764) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلَيْنِ فَكَاتَبَاهُ مَعًا جَازَ سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الْعِوَضِ أَوْ اخْتَلَفَا فِيهِ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ نَصِيبَاهُمَا فِيهِ أَوْ اخْتَلَفَ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْمَالِ مَنَعَ التَّفَاضُلَ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ مِلْكِهِ ثُمَّ عَجَزَ، رَجَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْقِدُ عَلَى نَصِيبِهِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ أَحَدِهِمَا بِمَالِ الْآخَرِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَات الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ زَوَالِهِ فَلَا يَضُرُّ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَدِّي إلَيْهِمَا عَلَى التَّسَاوِي، وَإِذَا عَجَزَ قُسِمَ مَا كَسَبَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 قَدْرِ الْمِلْكَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُنْتَفِعًا إلَّا بِمَا يُقَابِلُ مِلْكَهُ، وَعَادَ الْأَمْرُ بَعْدَ زَوَالِ الْكِتَابَةِ إلَى حُكْمِ الرِّقِّ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي أَدَائِهِ إلَيْهِمَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ وَفَاءُ كِتَابَةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ، فَيَعْتِقُ نَصِيبُهُ وَيَسْرِي إلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، قُلْنَا: يُمْكِنُ أَدَاءُ كِتَابَتِهِ إلَيْهِمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَيَعْتِقُ عَلَيْهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُكَاتَبَ أَحَدَهُمَا عَلَى مِائَةٍ فِي نَجْمَيْنِ، فِي كُلِّ نَجْمٍ خَمْسُونَ، وَيُكَاتَبَ الْآخَرُ عَلَى مِائَتَيْنِ فِي نَجْمَيْنِ، فِي النَّجْمِ الْأَوَّلِ خَمْسُونَ، وَفِي الثَّانِي مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَيَكُونُ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَيُؤَدِّي إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ، عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَا يَسْرِي الْعِتْقُ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ مَادَامَ مُكَاتَبًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُفْضِي إلَى مَا ذَكَرُوهُ، عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ قُدِّرَ إفْضَاؤُهُ إلَيْهِ فَلَا مَانِعَ فِيهِ مِنْ صِحَّةِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْكِتَابَةِ - وَهُوَ الْعِتْقُ بِهَا، وَيُمْكِنُ وُجُودُ سِرَايَةِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِأَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى مِثْلَيْ قِيمَتِهِ، فَإِذَا عَتَقَ عَلَيْهِ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَسَلَّمَ لَهُ بَاقِيَ الْمَالِ، وَحَصَلَ لَهُ وَلَاءُ الْعَبْدِ وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا، ثُمَّ لَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لَكِنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ حِينَ كِتَابَتِهِ عَلَى أَقَلَّ مِمَّا كَاتَبَهُ بِهِ شَرِيكُهُ، وَالضَّرَرُ الْمَرْضِيُّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَضْرُورِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِالْعِتْقِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَيَسْرِي عِتْقُهُ وَيَغْرَمُ لِشَرِيكِهِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَهَذَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّنْجِيمِ وَلَا فِي أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا فِي النُّجُومِ قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمَا إلَّا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا بِالْأَدَاءِ عَلَى الْآخَرِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي مِيقَاتِ النُّجُومِ وَقَدْرِ الْمُؤَدَّى فِيهِمَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعَجِّلَ لِمَنْ تَأَخَّرَ نَجْمُهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، وَيُعْطِيَ مَنْ قَلَّ نَجْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي الدَّفْعِ إلَى الْآخَرِ قَبْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنْظِرَهُ مَنْ حَلَّ نَجْمُهُ، أَوْ يَرْضَى مَنْ لَهُ الْكَثِيرُ بِأَخْذِ دُونِ حَقِّهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ إفْضَاءُ الْعَقْدِ إلَى مَقْصُودِهِ فَلَا نُبْطِلُهُ بِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْإِفْضَاءِ إلَيْهِ. [فَصْلٌ كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ.] (8765) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ مَا سَوَاءٌ فِيهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي كَسْبِهِ، وَحَقُّهُمَا مُتَعَلِّقٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 بِمَا فِي يَدِهِ تَعَلُّقًا وَاحِدًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ فَيَعُودَ إلَى الرِّقِّ، وَيَتَسَاوَيَانِ فِي كَسْبِهِ فَيَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْفَضْلِ بَعْدَ انْتِفَاعِهِ بِهِ مُدَّةً. فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ، وَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حِصَّتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَذِنَ فِي الْقَبْضِ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ - ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ - أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّهِ فَجَازَ بِإِذْنِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْبَيْعِ قَبْلَ تَوْفِيَةِ ثَمَنِهِ، أَوْ أَذِنَا لِلْمُكَاتَبِ فِي التَّبَرُّعِ، وَلِأَنَّهُمَا لَوْ أَذِنَا لَهُ فِي الصَّدَقَةِ بِشَيْءٍ صَحَّ قَبْضُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ لَهُ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ لَهُ فَلَا يَنْفُذُ إذْنُ غَيْرِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا حَقُّ سَيِّدِهِ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُكَاتَبِ، تَعْلِيقٌ عَلَى الْعِلَّةِ ضِدُّ مَا تَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِلْكًا لَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ سَيِّدِهِ بِهِ، فَإِذَا أَذِنَ زَالَ الْمَانِعُ فَصَحَّ التَّقْبِيضُ؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَخُلُوِّهِ مِنْ الْمَانِعِ، ثُمَّ يَبْطُلُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إذَا دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا مَالَ الْكِتَابَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَيَسْرِي الْعِتْقُ إلَى بَاقِيهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِسَبَبِهِ. هَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ، وَيَضْمَنُهُ فِي الْحَالِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا مُبْقًى عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَوَلَاؤُهُ كُلُّهُ لَهُ، وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا قَبَضَهُ صَاحِبُهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ الَّذِي عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ وَنِصْفَهُ بِالسِّرَايَةِ، فَحِصَّةُ مَا عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ لِلْعَبْدِ، وَحِصَّةُ مَا عَتَقَ بِالسِّرَايَةِ لِسَيِّدِهِ. وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ يَكُونُ الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ كَانَ مِلْكًا لَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِعِتْقِهِ كَمَا لَوْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي: لَا يَسْرِي الْعِتْقُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَسْرِي عِنْدَ عَجْزِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى إلَى الْآخَرِ عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَوَلَاؤُهُ لَهُمَا وَمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ عَجَزَ وَفُسِخَتْ كِتَابَتُهُ قُوِّمَ عَلَى الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ وَكَانَ وَلَاءُ جَمِيعِهِ لَهُ وَتَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِي نِصْفِهِ. وَإِنْ مَاتَ فَقَدْ مَاتَ وَنِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ، وَلِسَيِّدِهِ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ نَصِيبُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا خَلَفَهُ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ شَرِيكُهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَلَهُ نِصْفُ مَا بَقَّى وَالْبَاقِي لِوَرَثَةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ نَسَبِهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَدَّى إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ فَمَا أَخَذَهُ الْقَابِضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، وَلَا تَعْتِقُ حِصَّتُهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 لَمْ يَسْتَوْفِ عِوَضَهُ، وَلِغَيْرِ الْقَابِضِ مُطَالَبَةُ الْقَابِضِ بِنَصِيبِهِ مِمَّا قَبَضَهُ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَوَاءٌ. وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ غَيْرُ الْقَابِضِ بِنَصِيبِهِ حَتَّى أَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَيْهِ كِتَابَتَهُ صَحَّ وَعَتَقَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْآخَرِ حَقَّهُ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا وَيَسْتَوْفِي الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ مِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهُ فَأَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا كِتَابَتَهُ ثُمَّ مَاتَ وَهُوَ يَسْعَى لِلْآخَرِ لِمَنْ مِيرَاثُهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: كُلُّ مَا كَسَبَ الْعَبْدُ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَيَرْجِعُ هَذَا عَلَى الْآخَرِ بِنَصِيبِهِ مِمَّا أَخَذَ وَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ. [فَصْلٌ الشَّرِيكَانِ إذَا عَجَزَ مُكَاتَبُهُمَا.] (8766) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَزَ مُكَاتَبُهُمَا فَلَهُمَا الْفَسْخُ وَالْإِمْضَاءُ، فَإِنْ فَسَخَا جَمِيعًا أَوْ أَمْضَيَا الْكِتَابَةَ جَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَأَمْضَى الْآخَرُ جَازَ وَعَادَ نِصْفُهُ رَقِيقًا قِنًّا وَنِصْفُهُ مُكَاتَبًا. وَقَالَ الْقَاضِي: تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِي جَمِيعِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ بَقِيَتْ فِي نِصْفِهِ لَعَادَ مِلْكُ الَّذِي فَسَخَ الْكِتَابَةَ إلَيْهِ نَاقِصًا. وَلَنَا، أَنَّهَا كِتَابَةٌ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا فَلَمْ تَنْفَسِخْ بِفَسْخِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِكِتَابَتِهِ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مُفْرَدَانِ فَلَمْ يَنْفَسِخْ أَحَدُهُمَا بِفَسْخِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ النَّقْصِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ ضِمْنًا؛ لِتَصَرُّفِ الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ كَإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ؛ وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ، فَإِذَا لَمْ يُمْنَعْ الْعَقْدُ فِي ابْتِدَائِهِ فَلَأَنْ يَبْطُلَ فِي دَوَامِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ ضَرَرَهُ حَصَلَ بِعَقْدِهِ وَفَسْخِهِ فَلَا يَزُولُ بِفَسْخِ عَقْدِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ فِي فَسْخِ الْكِتَابَةِ ضَرَرًا بِالْمُكَاتَبِ وَسَيِّدِهِ، وَلَيْسَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ الَّذِي فَسَخَ بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الَّذِي لَمْ يَفْسَخْ، بَلْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الَّذِي لَمْ يَفْسَخْ أَوْلَى لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ ضَرَرَ الَّذِي فَسَخَ حَصَلَ ضِمْنًا؛ لِبَقَاءِ عَقْدِ شَرِيكِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَضَرَرَ شَرِيكِهِ بِزَوَالِ عَقْدِهِ وَفَسْخِ تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ضَرَرَ الَّذِي فَسَخَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا أَصْلَ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحُكْمِ وَلَا يُعْرَفُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 لَهُ نَظِيرٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اطِّرَاحِهَا، وَضَرَرُ شَرِيكِهِ بِفَسْخِ عَقْدِهِ مُعْتَبَرٌ فِي سَائِرِ عُقُودِهِ: مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَرَهْنِهِ. . وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّ ضَرَرَ الْفَسْخِ يَتَعَدَّى إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَكُونُ ضَرَرًا بِاثْنَيْنِ، وَضَرَرَ الْفَاسِخِ لَا يَتَعَدَّاهُ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ تَسَاوِي الضَّرَرَيْنِ لَوَجَبَ إبْقَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ الْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ رَاجِحٍ. [مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.] (8767) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ اسْتَقْبَلَ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ حَوْلًا ثُمَّ زَكَّاهُ إنْ كَانَ نِصَابًا) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، فَإِذَا عَتَقَ صَارَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ حِينَئِذٍ فَيَبْتَدِئُ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ يَوْمِ عَتَقَ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ إنْ كَانَ نِصَابًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَيَصِيرُ هَذَا كَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَفِي يَدِهِ مَالٌ زَكَوِيٌّ يَبْلُغُ نِصَابًا فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا مِنْ حِينَ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا عَتَقَ وَفِي يَدِهِ مَالٌ أَبْقَاهُ لَهُ سَيِّدُهُ. [مَسْأَلَةٌ فَسْخُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ.] (8768) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ نَجْمًا حَتَّى حَلَّ نَجْمٌ آخَرُ عَجَّزَهُ السَّيِّدُ إنْ أَحَبَّ وَعَادَ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ فَسْخَهَا قَبْلَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الْعَقْدِ مُؤَجَّلًا، وَإِذَا حَلَّ النَّجْمُ فَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِمَا حَلَّ مِنْ نُجُومِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ حَلَّ فَأَشْبَهَ دَيْنَهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَلَهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرُهُ بِهِ - سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ سَمَحَ بِتَأْخِيرِهِ أَشْبَهَ دَيْنَهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ اخْتَارَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْلِكْ الْعَبْدُ الْفَسْخَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ أَوْ نَجْمَانِ أَوْ نُجُومُهُ كُلُّهَا فَوَقَفَ السَّيِّدُ عَنْ مُطَالَبَتِهِ وَتَرَكَهُ بِحَالِهِ، أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ مَا داما ثَابِتَيْنِ عَلَى الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَجَّلَهُ بِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَّ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ كَالْقَرْضِ. وَإِنْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمَانِ فَعَجَزَ عَنْهُمَا فَاخْتَارَ السَّيِّدُ فَسْخَ كِتَابَتِهِ وَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ فَلَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُضُورِ حَاكِمٍ وَلَا سُلْطَانٍ، وَلَا تَلْزَمُهُ الِاسْتِنَابَةُ. فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَكُونُ عَجْزُهُ إلَّا عِنْدَ قَاضٍ، وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إذَا عَجَزَ اُسْتُؤْنِيَ بَعْدَ الْعَجْزِ سَنَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: شَهْرَيْنِ. . وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَاتَبَ غُلَامًا لَهُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ فَأَدَّى إلَيْهِ تِسْعَمِائَةِ دِينَارٍ وَعَجَّزَهُ عَنْ مِائَةِ دِينَارٍ فَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا فَأَدَّى عَشَرَةَ آلَافٍ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إنِّي قَدْ طُفْتُ الْعِرَاقَ وَالْحِجَازَ فَرُدَّنِي فِي الرِّقِّ، فَرَدَّهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَقَالَ لَهُ: أَنَا عَاجِزٌ. فَقَالَ لَهُ: اُمْحُ كِتَابَتَكَ. فَقَالَ: اُمْحُ أَنْتَ. وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فَقَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ كَاتَبَ غُلَامَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَعَجَزَ عَنْ عَشْرِ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ.» وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَجَزَ عَنْ عِوَضِهِ فَمَلَكَ مُسْتَحِقُّهُ فَسْخَهُ كَالسَّلَمِ إذَا تَعَذَّرَ الْمُسْلِمُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ فَسْخُ عَقْدٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْحَاكِمِ كَفَسْخِ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ كَانَتْ الْكِتَابَةُ لَازِمَةً مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ، غَيْرَ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ؟ قُلْنَا: هِيَ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الطَّرَفَيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ فَسْخَهَا بِحَالٍ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ وَيَمْتَنِعَ مِنْ الْكَسْبِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَضَمَّنُ إعْتَاقًا بِصِفَةٍ، وَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ لَمْ يَمْلِكْ إبْطَالَهَا وَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ الْإِتْيَانُ بِالصِّفَةِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَةَ لِحَظِّ الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ فَكَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا لِمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ حَظَّ غَيْرِهِ، وَصَاحِبُ الْحَظِّ بِالْخِيَارِ فِيهِ كَمَنْ ضَمِنَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا، أَوْ كَفَلَ لَهُ، أَوْ رَهَنَ عِنْدَهُ رَهْنًا. [فَصْلٌ الْمُكَاتَبُ إنْ حَلَّ نَجْمٌ فَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ.] (8769) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ حَلَّ نَجْمٌ وَاحِدٌ فَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ حَتَّى يَحِلَّ نَجْمَانِ قَبْلَ أَدَائِهِمَا. وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ رَقِيقًا حَتَّى يَقُولَ: قَدْ عَجَزْتُ. وَقِيلَ عَنْهُ: إذَا أَدَّى أَكْثَرَ مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يُرَدَّ إلَى الرِّقِّ وَأُتْبِعَ بِمَا بَقِيَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَلِسَيِّدِهِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ دَخَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَالَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 الْمَالَ فِي نُجُومِهِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ النَّجْمِ فِي وَقْتِهِ فَجَازَ فَسْخُ كِتَابَتِهِ كَالنَّجْمِ الْأَخِيرِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يُرَدُّ الْمُكَاتَبُ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ، وَلِأَنَّ مَا بَيْنَ النَّجْمَيْنِ مَحِلٌّ لِأَدَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْهُ حَتَّى يَفُوتَ مَحِلُّهُ بِحُلُولِ الثَّانِي. [فَصْلٌ الْمُكَاتَبُ إذَا حَلَّ النَّجْمُ وَمَالُهُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ.] (8770) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَّ النَّجْمُ وَمَالُهُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ طُولِبَ بِأَدَائِهِ وَلَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ قَبْلَ الطَّلَبِ كَمَا لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ بِمُجَرَّدِ وُجُوبِ الدَّفْعِ قَبْلَ الطَّلَبِ، فَإِنْ طُلِبَ مِنْهُ فَذُكِرَ أَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ الْمَجْلِسِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ يُمْكِنُ إحْضَارُهُ قَرِيبًا، لَمْ يَجُزْ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، وَأُمْهِلَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِي بِهِ إذَا طَلَبَ الْإِمْهَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَسِيرٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ فَطَلَبَ الْإِمْهَالَ؛ لِيَبِيعَهُ بِجِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ أُمْهِلَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَائِبًا أَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِمْهَالُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ يَرْجُو قُدُومَهُ اُسْتُؤْنِيَ يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً لَا أَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ وَالْقُرْبِ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ وَاجِدًا لِمَا يُؤَدِّيهِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ وَقَالَ: قَدْ عَجَزْتُ. فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: يَمْلِكُ السَّيِّدُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: وَإِذَا حَلَّ نَجْمٌ فَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى حَلَّ نَجْمٌ آخَرُ عَجَّزَهُ السَّيِّدُ - إنْ أَحَبَّ - فَعَلَّقَ جَوَازَ الْفَسْخِ عَلَى عَدَمِ الْأَدَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْعِوَضِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَأَمَّا إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ كُلِّهِ فَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا بِمِلْكِ مَا يُؤَدِّي، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 [فَصْلٌ حَلَّ النَّجْمُ وَالْمُكَاتَبُ غَائِبٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ.] (8771) فَصْلٌ: وَإِذَا حَلَّ النَّجْمُ وَالْمُكَاتَبُ غَائِبٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ سَافَرَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي السَّفَرِ الْمَانِعِ مِنْ الْأَدَاءِ، وَلَكِنْ يَرْفَعُ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ، وَيُثْبِتُ عِنْدَهُ حُلُولَ مَالِ الْكِتَابَةِ لِيَكْتُبَ الْحَاكِمُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَعْلَمُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ الْكَاتِبِ لِيَجْعَلَ لِلسَّيِّدِ فَسْخَ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ طَالَبَهُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ السَّيِّدُ؛ لِيُؤَدِّيَ مَالَ الْكِتَابَةِ، أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ حَالِ الْإِمْكَانِ عِنْدَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ - إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَّا مَعَهَا - لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ، وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ حَالِ الْإِمْكَانِ وَمَضَى زَمَنُ الْمَسِيرِ، ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ خِيَارُ الْفَسْخِ. فَإِنْ وَكَّلَ السَّيِّدُ فِي بَلَدِ الْمُكَاتَبِ مَنْ يَقْبِضُ مِنْهُ مَالَ الْكِتَابَةِ، لَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ. فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الدَّفْعِ ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ خِيَارُ الْفَسْخِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لِلْوَكِيلِ الْفَسْخَ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ، جَازَ، وَلَهُ الْفَسْخُ إذَا ثَبَتَتْ وَكَالَتُهُ بِبَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَأْمَنُ الْمُكَاتَبُ إنْكَارَ السَّيِّدِ وَكَالَتَهُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْمُكَاتَبَ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُ جَوَازَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ فَيُنْكِرَ السَّيِّدُ وَكَالَتَهُ وَيَرْجِعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْمَالِ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ وَكِيلٌ أَوْ كَذَّبَهُ. وَإِنْ كَتَبَ حَاكِمُ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ السَّيِّدُ إلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُكَاتَبُ؛ لِيَقْبِضَ مِنْهُ الْمَالَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ لَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ الدُّخُولُ فِيهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يُكَلَّفُ الْقَبْضَ لِلْبَالِغِ الرَّشِيدِ فَإِنْ اخْتَارَ الْقَبْضَ جَرَى مَجْرَى الْوَكِيلِ، وَمَتَى قَبَضَ مِنْهُ الْمَالَ عَتَقَ. [فَصْلٌ دَفَعَ الْمُكَاتَبُ الْعِوَضَ فِي الْكِتَابَةِ فَبَانَ مُسْتَحِقًّا.] (8772) فَصْلٌ: قَالَ وَإِذَا دَفَعَ الْعِوَضَ فِي الْكِتَابَةِ فَبَانَ مُسْتَحِقًّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ، وَكَانَ هَذَا الدَّفْعُ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لَهُ: إنْ أَدَّيْتَ الْآنَ وَإِلَّا فُسِخَتْ كِتَابَتُكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا، فَإِنْ بَانَ مَعِيبًا مِثْلُ أَنْ كَاتَبَهُ عَلَى عُرُوضٍ مَوْصُوفَةٍ فَقَبَضَهَا فَأَصَابَ بِهَا عَيْبًا بَعْدَ قَبْضِهَا نُظِرَتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ وَأَمْسَكَهَا اسْتَقَرَّ الْعِتْقُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِرُّ الْعِتْقُ وَلَمْ يُعْطِهِ جَمِيعَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ؟ فَإِنَّ مَا يُقَابِلُ الْعَيْبَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَشَرَةٍ فَأَعْطَاهُ تِسْعَةً، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 قُلْنَا: إمْسَاكُهُ الْمَعِيبَ رَاضِيًا بِهِ رِضًى مِنْهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فَجَرَى مَجْرَى إبْرَائِهِ مِنْ بَقِيَّةِ كِتَابَتِهِ. وَإِنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهُ وَأَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ أَوْ رَدَّهُ فَلَهُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ وَلَهُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ، فَإِذَا حُكِمَ بِوُقُوعِهِ لَمْ يَبْطُلْ كَعَقْدِ الْخُلْعِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ فَأَشْبَهَ الْخُلْعَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَوَجَّهُ أَنَّ لَهُ الرَّدَّ وَيُحْكَمُ بِارْتِفَاعِ الْعِتْقِ الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا اسْتَقَرَّ بِاسْتِقْرَارِ الْأَدَاءِ وَقَدْ ارْتَفَعَ الْأَدَاءُ فَارْتَفَعَ الْعِتْقُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالتَّرَاضِي فَوَجَبَ أَنْ يُفْسَخَ بِوُجُودِ الْعَيْبِ كَالْبَيْعِ، وَإِنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهُ وَأَخْذَ الْأَرْشِ فَلَهُ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَقَعْ، وَلِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَبْرَأْ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَعْتِقُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَظَنُّ وُقُوعِ الْعِتْقِ لَا يُوقِعُهُ إذَا بَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا لَوْ بَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا. وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ عِنْدَ السَّيِّدِ أَوْ حَدَثَ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ اسْتَقَرَّ أَرْشُ الْعَيْبِ، وَالْحُكْمُ فِي ارْتِفَاعِ الْعِتْقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إنْ أَعْطَيْتَنِي عَبْدًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَعْطَاهُ عَبْدًا فَبَانَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحِقًّا لَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إنْ أَعْطَيْتَهُ مِلْكًا وَلَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ مِلْكًا وَلَمْ يُمَلِّكْهُ إيَّاهُ. (8773) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالَ الْكِتَابَةِ ظَاهِرًا فَقَالَ لَهُ السَّيِّدُ: أَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْإِخْبَارُ عَمَّا حَصَلَ لَهُ بِالْأَدَاءِ، فَلَوْ ادَّعَى الْمُكَاتَبُ أَنَّ سَيِّدَهُ قَصَدَ بِذَلِكَ عِتْقَهُ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ وَهُوَ أَخْيَرُ بِمَا نَوَى. [مَسْأَلَةٌ مَا يَأْخُذُهُ السَّيِّدُ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ.] (8774) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا قَبَضَ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ اسْتَقْبَلَ بِزَكَاتِهِ حَوْلًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ - كَمَالٍ اسْتَفَادَهُ بِكَسْبٍ أَوْ غَيْرِهِ - فَيَمْلِكُهُ بِأَخْذِهِ وَيَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ مُكَاتَبِهِ، وَلِهَذَا جَرَى الرِّبَا بَيْنَهُمَا وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ تَامٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ حَوْلًا كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ. [مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ إذَا جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ.] (8775) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ بُدِئَ بِجِنَايَتِهِ قَبْلَ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ عَجَزَ كَانَ سَيِّدُهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ جِنَايَتِهِ أَوْ يُسَلِّمَهُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ وَيُؤَدِّي مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: جِنَايَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَيَرْجِعُ سَيِّدُهُ بِهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً كَانَتْ كِتَابَتُهُ وَوَلَاؤُهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ عَبْدٍ فَلَمْ تَجِبْ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَدَاءِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ سَوَاءٌ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ أَوْ لَمْ يَحِلَّ. وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ السَّيِّدَ يُشَارِكُ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ فَيَضْرِبُ بِقَدْرِ مَا حَلَّ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَيْنَانِ فَيَتَحَاصَّانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَلَنَا أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مِنْ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ وَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ هَاهُنَا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عِوَضِهِ وَهُوَ مَالُ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ كَانَ مُسْتَقِرًّا، وَدَيْنَ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْمُسْتَقِرِّ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُسْتَقِرٌّ فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَقِرَّةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَفْدِي نَفْسَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ وَهُوَ أَرْشُهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَدَلِ الْمَحِلِّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَرْشُ، فَإِنْ بَدَأَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَوَفَّى بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَإِلَّا بَاعَ الْحَاكِمُ مِنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَبَاقِيهِ بَاقٍ عَلَى كِتَابَتِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَعُودُ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَبْقَاهُ عَلَى الْكِتَابَةِ فَأَدَّى، عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ وَسَرَى الْعِتْقُ إلَى بَاقِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُوسِرًا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ وَبَاقِيهِ رَقِيقٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ وَلَمْ يَفِ بِالْجِنَايَةِ إلَّا قِيمَتُهُ كُلُّهَا بِيعَ كُلُّهُ فِيهَا وَبَطَلَتْ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ بَدَأَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى سَيِّدِهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ سَأَلَ الْحَاكِمَ فَحَجَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى الْحَاكِمِ فَلَا يَصِحُّ دَفْعُهُ إلَى سَيِّدِهِ، وَيَرْتَجِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ حَجَرَ عَلَيْهِ صَحَّ دَفْعُهُ إلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي حَقًّا عَلَيْهِ فَجَازَ كَمَا لَوْ قَضَى بَعْضُ غُرَمَائِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ وَيَكُونُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 الْأَرْشُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَضْمَنُ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَهُوَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ وَاجِبًا بِالْجِنَايَةِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ فَعَلَيْهِ فِدَاؤُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَ عَلَيْهِ فِدَاؤُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ وَإِنْ عَجَزَ فَفَسَخَ السَّيِّدُ كِتَابَتَهُ فَدَاهُ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيمَا إذَا فَدَاهُ سَيِّدُهُ قَوْلَانِ يَعْنِي رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: يَفْدِيهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. [فَصْلٌ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَاتٍ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ.] (8776) فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَاتٍ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ وَاسْتَوَى الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يُقَدَّمْ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ، وَكَذَا إنْ كَانَ بَعْضُهَا فِي حَالِ كِتَابَتِهِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ تَعْجِيزِهِ فَهِيَ سَوَاءٌ، وَيَتَعَلَّقُ جَمِيعُهَا بِالرَّقَبَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ اسْتِيفَاؤُهُ وَتَبْطُلُ حُقُوقُ الْآخَرِينَ، وَإِنْ عَفَا إلَى مَالٍ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ بَعْضُهُمْ اسْتَوْفَى الْبَاقُونَ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يَسْتَوْفِيهِ إذَا انْفَرَدَ فَإِذَا اجْتَمَعُوا تَزَاحَمُوا فَإِذَا أَبْرَأَهُ بَعْضُهُمْ سَقَطَ حَقُّهُ وَتَزَاحَمَ الْبَاقُونَ كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا كَمَا فِي الْوَصَايَا فَإِنْ أَدَّى وَعَتَقَ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجِنَايَةِ الْوَاحِدَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَّزَهُ الْغُرَمَاءُ وَعَادَ قِنًّا بِيعَ وَتَحَاصُّوا فِي ثَمَنِهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا فَأَمَّا إنْ عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ فَعَادَ قِنًّا خُيِّرَ بَيْنَ فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ قَتَلَهُ. وَالثَّانِيَةُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْجِنَايَاتِ كُلِّهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَقَدْ فَوَّتَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِاخْتِيَارِ إمْسَاكِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَرْشِ وَيُفَارِقُ مَا إذَا أَعْتَقَهُ أَوْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ فِيهِمَا تَلِفَتْ مَالِيَّتُهُ فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْمَحَلُّ بَاقٍ وَهَاهُنَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَبَيْعُهُ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُكَاتَبُ فِدَاءَ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْجِيزِهِ أَوْ عِتْقِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا يَفْدِي نَفْسَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي بِأَرْشِ الْجِنَايَاتِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَائِمٌ غَيْرُ تَالِفٍ وَيُمْكِنُ تَعْجِيزُ نَفْسِهِ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ يُبَاعُ فِيهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 [فَصْلٌ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى سَيِّدِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.] (8777) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى سَيِّدِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَالسَّيِّدُ خَصْمُهُ فِيهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ وَجَبَ كَمَا تَجِبُ عَلَى عَبْدِهِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلزَّجْرِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ أَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ابْتِدَاءً وَجَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَعَ سَيِّدِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ يَصِحُّ أَنْ يُبَايِعَهُ وَيَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ الْمَالُ وَالْحُقُوقُ كَذَلِكَ الْجِنَايَةُ، وَيَفْدِي نَفْسَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى يَفْدِيهَا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، فَإِنْ وَفَّى مَا فِي يَدِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَلِسَيِّدِهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ وَأَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَلِسَيِّدِهِ تَعْجِيزُهُ، فَإِذَا عَجَّزَهُ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ سَقَطَ عَنْهُ مَالُ الْكِتَابَةِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ عَبْدًا قِنًّا، وَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ الْقِنِّ مَالٌ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ وَلَا مَالَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ أَتْلَفَهَا فَسَقَطَ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ لَمْ يَسْقُطْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالذِّمَّةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، فَإِذَا تَلِفَتْ الرَّقَبَةُ بَقِيَ الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ فَاسْتُوْفِيَ مِنْهُ كَمَا لَوْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ، وَهَلْ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ كُلُّهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَيَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ مُطَالَبَتَهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ اخْتَارَ تَأْخِيرَ الْأَرْشِ وَالْبِدَايَةَ بِقَبْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ جَازَ، وَيَعْتِقُ إذَا قَبَضَ مَالَ الْكِتَابَةِ كُلَّهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ قَبْلَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِوُجُوبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا لِلسَّيِّدِ فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ عَتَقَ فَفِي حَقِّ السَّيِّدِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ لَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فَيُمْكِنُ تَقَدَّمُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إذَا أَدَّى عَتَقَ وَيَلْزَمُهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ مَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ؛ فَإِنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْ جَمِيعُ الْأَرْشِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِ سَيِّدِهِ فَلِوَرَثَتِهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ أَوْ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ، وَفِي الْخَطَأِ الْمَالُ، وَفِيمَا يَفْدِي بِهِ نَفْسَهُ رِوَايَتَانِ. وَحُكْمُ الْوَرَثَةِ مَعَ الْمُكَاتَبِ حُكْمُ سَيِّدِهِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ وَالْعَبْدُ لَوْ عَادَ قِنًّا لَكَانَ لَهُمْ وَإِنْ جَنَى عَلَى مَوْرُوثِ سَيِّدِهِ فَوَرِثَهُ سَيِّدُهُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى سَيِّدِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَلَى مَا مَضَى. [فَصْلٌ اجْتَمَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَرْشٌ وَثَمَنٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ الدُّيُونِ مَعَ مَالِ الْكِتَابَةِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ يَفِي بِهَا.] (8778) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَرْشُ جِنَايَةٍ وَثَمَنُ مَبِيعٍ أَوْ عِوَضُ قَرْضٍ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ الدُّيُونِ مَعَ مَالِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 الْكِتَابَةِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ يَفِي بِهَا فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا وَيَبْدَأَ بِمَا شَاءَ مِنْهَا كَالْحُرِّ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهَا مَا فِي يَدِهِ وَكُلُّهَا حَالَّةٌ وَلَمْ يَحْجُرْ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْقَضَاءِ، صَحَّ كَالْحُرِّ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُؤَجَّلٌ فَعَجَّلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَهُ تَبَرُّعٌ فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ كَالْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ جَازَ كَالْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْجِيلُ لِلسَّيِّدِ فَقَبُولُهُ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ بِسُؤَالِ غُرَمَائِهِ فَالنَّظَرُ إلَى الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ بِسُؤَالِهِمْ، فَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ سُؤَالِهِمْ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَلَا يَسْتَوْفِي بِغَيْرِ إذْنِهِمْ. وَإِنْ سَأَلَهُ سَيِّدُهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ بِسُؤَالِ الْغُرَمَاءِ فَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّهُ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَعِوَضِ الْقَرْضِ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَيُقَدِّمُهُمَا عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَمَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مَحَلُّ الرَّقَبَةِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِمَّا فِي يَدِهِ اُسْتُوْفِيَ مِنْ رَقَبَتِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ عَلَى تَقْدِيمِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ. [فَصْلٌ جَنَى بَعْضُ عَبِيدِ الْمُكَاتَبِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ.] (8779) فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى بَعْضُ عَبِيدِ الْمُكَاتَبِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ؛ فَإِنْ اخْتَارَ الْمَالَ أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ إتْلَافَ مَالٍ تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ وَلِلْمُكَاتَبِ فِدَاؤُهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِدَاؤُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ سَيِّدُهُ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالزِّيَادَةِ وَإِنْ زَادَ الْأَرْشُ عَلَى قِيمَتِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ بَعْضَ ذَوِي رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَتِهِ فَجَنَى جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ.] (8780) فَصْلٌ: فَإِنْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ ابْنَهُ أَوْ بَعْضَ ذَوِي رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَتِهِ فَجَنَى جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ فَلِلْمُكَاتَبِ فِدَاؤُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ كَمَا يَفْدِي غَيْرَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ ": لَيْسَ لَهُ فِدَاؤُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِمَالِهِ، فَإِنَّ ذَوِي رَحِمِهِ لَيْسُوا بِمَالٍ لَهُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إخْرَاجُ مَالِهِ فِي مُقَابَلَتِهِمْ، وَلِأَنَّ شِرَاءَهُمْ كَالتَّبَرُّعِ وَيُفَارِقُ الْعَبْدُ الْأَجْنَبِيَّ؛ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَهُ صَرْفُهُ فِي كِتَابَتِهِ فَكَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ وَشِرَاؤُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، لَكِنْ إنْ كَانَ لِهَذَا الْجَانِي كَسْبٌ فُدِيَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ إنْ اسْتَغْرَقَتْ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَغْرِقْهَا بِيعَ بَعْضُهُ فِيهَا وَمَا بَقِيَ لِلْمُكَاتَبِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ جَنَى فَمَلَكَ فِدَاءَهُ كَسَائِرِ عَبِيدِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ وَقَوْلُهُمْ: لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 قُلْنَا: إلَّا أَنَّ كَسْبَهُ لَهُ وَإِنْ عَجَّزَهُ الْمُكَاتَبُ صَارَ رَقِيقًا مَعَهُ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ لَمْ يَتَضَرَّرْ السَّيِّدُ بِعِتْقِهِمْ وَانْتَفَعَ بِهِ الْمُكَاتَبُ، وَإِذَا دَارَ أَمْرُهُ بَيْنَ نَفْعٍ وَانْتِفَاءِ ضَرَرٍ وَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ، وَفَارَقَ التَّبَرُّعُ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ الْمَالَ عَلَى السَّيِّدِ فَإِنْ قِيلَ: بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ إذَا صَرَفَ الْمَالَ فِيهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَرْفِهِ فِي الْكِتَابَةِ عَجَزَ عَنْهَا. قُلْنَا: هَذَا الضَّرَرُ لَا يُمْنَعُ الْمُكَاتَبُ مِنْهُ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَرَكَ الْكَسْبَ مَعَ إمْكَانِهِ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى كَسْبٍ وَلَا أَدَاءً، فَكَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا مِمَّا يُفْضِي إلَيْهِ، وَلِأَنَّ غَايَةَ الضَّرَرِ فِي هَذَا الْمَنْعُ مِنْ إتْمَامِ الْكِتَابَةِ - وَلَيْسَ إتْمَامُهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ - فَأَشْبَهَ تَرْكَ الْكَسْبِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا فِيهِ نَفْعٌ لِلسَّيِّدِ؛ لِمَصِيرِهِمْ عَبِيدًا لَهُ. وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِلْمُكَاتَبِ بِإِعْتَاقِ وَلَدِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ وَنَفْعِهِمْ بِالْإِعْتَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَدَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُمْنَعْ مِمَّا يُسَاوِيهِ فِي الْمَضَرَّةِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ فِيهِ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِمَّا فِيهِ نَفْعٌ لَازِمٌ لِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ أَوْلَى. وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ يَدْخُلُ فِي كِتَابَتِهَا، وَالْحُكْمُ فِي جِنَايَتِهِ كَالْحُكْمِ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبِ سَوَاءٌ. [فَصْلٌ جَنَى بَعْضُ عَبِيدِ الْمُكَاتَبِ عَلَى بَعْضٍ جِنَايَةً مُوجَبُهَا الْمَالُ.] (8781) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى بَعْضُ عَبِيدِ الْمُكَاتَبِ عَلَى بَعْضٍ جِنَايَةً مُوجَبُهَا الْمَالُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ. وَإِنْ كَانَ مُوجَبُهَا قِصَاصًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ لَهُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِمَالِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ أَفْضَى إلَى إقْدَامِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي مِنْ عَبِيدِ ابْنِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ قَبْلَ جِنَايَتِهِ فَيَسْتَفِيدُ بِالْجِنَايَةِ مِلْكَ بَيْعِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ عَبْدُهُ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشٌ كَالْأَجْنَبِيِّ وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالرَّهْنِ إذَا جَنَى عَلَى رَاهِنِهِ. [فَصْل جَنَى عَبْدُ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ جِنَايَةً مُوجَبُهَا الْمَالُ] (8782) فَصْل: وَإِنْ جَنَى عَبْدُ الْمُكَاتِبِ عَلَيْهِ جِنَايَةً مُوجَبُهَا الْمَالُ، كَانَتْ هَدْرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ مُوجَبُهَا الْقِصَاصَ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، إنْ كَانَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَصُّ مِنْهُ لِسَيِّدِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ. فَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَبَاهُ، لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ. وَإِنْ جَنَى الْمُكَاتِبُ عَلَيْهِ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَبِ مَعَهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ، وَجُعِلَتْ حُرِّيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى حُرِّيَّتِهِ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ مَوْضِعًا يَقْتَصُّ فِيهِ الْمَمْلُوكُ مِنْ مَالِكِهِ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. [فَصْلٌ جَنَى عَلَى الْمُكَاتَبِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ] (8783) فَصْلٌ: وَإِذَا جُنِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ لَهُ، دُونَ سَيِّدِهِ، لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ كَسْبَهُ لَهُ، وَذَلِكَ عِوَضٌ عَمَّا يَتَعَطَّلُ بِقَطْعِ يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ فِي النِّكَاحِ، لِتَعَلُّقِهِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، كَذَلِكَ بَدَلُ الْعُضْوِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّيِّدَ يَأْخُذُ مَالَ الْكِتَابَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِ الْمُكَاتَبَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَنْهُ عِوَضًا آخَرَ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْجَانِي سَيِّدَهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِمَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ حُرٌّ، وَالْمُكَاتَبَ عَبْدٌ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مَالِكُهُ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ الْمَالِكِ لِمَمْلُوكِهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْأَرْشُ، وَلَا يَجِبُ إلَّا بِانْدِمَالِ الْجُرْحِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْجِنَايَات. وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَا تُؤْمَنُ سِرَايَتُهُ إلَى نَفْسِهِ، فَيَسْقُطُ أَرْشُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ سَرَى الْجُرْحُ إلَى نَفْسِهِ، انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ. وَإِنْ انْدَمَلَ الْجُرْحُ، وَجَبَ أَرْشُهُ لَهُ عَلَى سَيِّده، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ، تَقَاصَّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَوْ كَانَ النَّجْمُ لَمْ يَحِلَّ، لَمْ يَتَقَاصَّا، وَيُطَالِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ، وَكَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ، عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ، جَازَ. وَإِنْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِتَعْجِيلِ الْوَاجِبِ لَهُ عَنْ مَا لَمْ يَحِلَّ مِنْ نُجُومِهِ، جَازَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْس مَالِ الْكِتَابَةِ. الْحَالُ الثَّانِيَةُ، إذَا كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا حُرًّا فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ؛ إنْ سَرَى الْجُرْحُ إلَى نَفْسِهِ، انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ، وَعَلَى الْجَانِي قِيمَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ انْدَمَلَ الْجُرْحُ، فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ لَهُ. فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ، وَعَتَقَ، لَهُ ثُمَّ سَرَى الْجُرْحُ إلَى نَفْسِهِ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الضَّمَانِ بِحَالَةِ الِاسْتِقْرَارِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْجَانِي السَّيِّدَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ، لَمْ يَرِثْ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 وَيَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ. وَمَنْ اعْتَبَرَ الْجِنَايَةَ بِحَالَةِ ابْتِدَائِهَا، أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي قِيمَتَهُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا. الْحَالُ الثَّالِثُ، إذَا كَانَ الْجَانِي عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا، فَإِنْ كَانَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ الْقِصَاصَ وَكَانَتْ عَلَى النَّفْسِ، انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ، وَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْجَانِي. وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ، فَلِلْمُكَاتَبِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ يَقْبِضُ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ وَرَثَتُهُ، وَالْمُفْلِسَ يَقْبِضُ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ. وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ، ثَبَتَ لَهُ. وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ إلَى غَيْرِ مَالٍ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ؛ إنْ قُلْنَا: مُوجَبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا. صَحَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالٌ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِاشْتِرَاطِ مَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكَسُّبٌ، وَلَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إجْبَارَهُ عَلَى الْكَسْبِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ. ثَبَتَتْ لَهُ دِيَةُ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ الْقِصَاصُ، تَعَيَّنَ الْمَالُ، وَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ صَالَحَ عَلَى بَعْضِ الْأَرْشِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَفْو إلَى غَيْرِ مَالٍ. [فَصْلٌ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَأُرُوشُ جِنَايَاتٍ] (8784) فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، وَأُرُوشُ جِنَايَاتٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَلَكَ مَا يُؤَدِّي فِي كِتَابَتِهِ، انْفَسَخَتْ كِتَابَتُهُ، وَسَقَطَ أَرْشُ الْجِنَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ تَلِفَتْ، وَيُسْتَوْفَى دَيْنُهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهَا، سَقَطَ الْبَاقِي. قَالَ أَحْمَد: لَيْسَ عَلَى سَيِّدِهِ قَضَاءُ دَيْنِهِ، هَذَا كَانَ يَسْعَى لِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ مَا يُؤَدِّي فِي كِتَابَتِهِ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ بِمِلْكِ مَا يُؤَدِّيه، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، الظَّاهِرُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ، فَتَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ أَيْضًا، وَيَبْدَأُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِت وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَن، وَشُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَقَدْ صَارَ حُرًّا فَعَلَى هَذَا، يَضْرِبُ السَّيِّدُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا حَلَّ مِنْ نُجُومِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ حَالٌّ، فَيَضْرِبُ بِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ. أَنْ يَضْرِبَ بِجَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالًّا. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ "، حَدَّثَنَا هُشَيْم، أَنَا مَنْصُورٌ وَسَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَوْلَ شُرَيْحٍ فِي الْمُكَاتَب إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَبَقِيَّةٌ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ، فَقُلْت: إنَّ شُرَيْحًا قَضَى أَنَّ مَوْلَاهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: أَخْطَأَ شُرَيْحٌ، قَضَى زَيْدٌ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْمُكَاتَبَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 [مَسْأَلَةٌ كَاتَبَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ فَإِذَا أَدَّى فَمَا الْحُكْمُ] (8785) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَاتَبَهُ، ثُمَّ دَبَّرَهُ، فَإِذَا أَدَّى، صَارَ حُرًّا، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ، إنْ حَمَلَ الثُّلُثَ، مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَسَقَطَ مِنْ الْكِتَابَةِ بِمِقْدَارِ مَا عَتَقَ، وَكَانَ عَلَى الْكِتَابَةِ فِيمَا بَقِيَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ تَدْبِيرَ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ عِتْقٍ بِصِفَةِ، وَهُوَ يَمْلِكُ إعْتَاقَهُ، وَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً، فَهُوَ وَصِيَّةٌ بِإِعْتَاقِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ. فَعِنْدَ هَذَا، إنْ أَدَّى عَتَقَ بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ، وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ لِلْغِنَى عَنْهُ، وَمَا فِي يَدِهِ لَهُ. وَإِنْ عَجَزَ، وَفُسِخَتْ الْكِتَابَةُ، بَطَلَتْ كِتَابَتُهُ، وَصَارَ مُدَبَّرًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ. فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ، عَتَقَ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ أَدَائِهِ وَعَجَّزَهُ، عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ، إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَسَقَطَ مِنْ الْكِتَابَةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ عِوَضٌ عَنْهُ، فَإِذَا عَتَقَ نِصْفُهُ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ نِصْفُ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ الْكِتَابَةُ إلَّا فِي نِصْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهَا إلَّا بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَى الْكِتَابَةِ فِيمَا بَقِيَ وَمَا فِي يَدِهِ لَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ، بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، كَمَا لَوْ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ بِعَجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَانَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، كَغَيْرِ الْمُكَاتَبِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ بَرِئَ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَعَتَقَ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ لَهُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ سَيِّدُهُ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَحْدُثْ مَا يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا الْحَادِثُ مُزِيلٌ لِمِلْكِ سَيِّدِهِ عَنْهُ، فَيَبْقَى مِلْكُهُ، كَمَا لَوْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ. [فَصْلٌ قَالَ السَّيِّدُ لِمُكَاتَبِهِ مَتَى عَجَزْت بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ] (8786) فَصْلٌ: إذَا قَالَ السَّيِّدُ لِمُكَاتَبِهِ: مَتَى عَجَزْت بَعْدَ مَوْتِي، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَهَذَا تَعْلِيقٌ لِلْحُرِّيَّةِ عَلَى صِفَةٍ تَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ اخْتِلَافًا فِيمَا مَضَى. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ. فَلَا كَلَامَ، وَإِنَّ قُلْنَا: يَصِحُّ. فَمَتَى عَجَزَ بَعْدَ الْمَوْتِ، صَارَ حُرًّا بِالصِّفَةِ، فَإِنْ ادَّعَى الْعَجْزَ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ، لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَعْجِزُ عَنْهُ. وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ بَعْدَ حُلُولِ نَجْمِهِ، وَمَعَهُ مَا يُؤَدِّيه، لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاجِزٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، فَصَدَّقَهُ الْوَرَثَةُ، عَتَقَ، وَإِنْ كَذَّبُوهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَالِ وَعَجَّزَهُ، فَإِذَا حَلَفَ عَتَقَ. وَإِذَا عَتَقَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ مَا فِي يَدِهِ لَهُ، إنْ لَمْ تَكُنْ كِتَابَتُهُ فُسِخَتْ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْكِتَابَةُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ، وَالْحُرِّيَّةُ تَحْصُلُ بِأَوَّلِ وُجُودِهِ، فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ، فَيَكُونُ مَا فِي يَدِهِ لَهُ، كَمَا لَوْ عَتَقَ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، أَنْ تَبْطُلَ كِتَابَتُهُ، وَيَكُونَ مَا بِيَدِهِ لِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ. [فَصْلٌ كَاتَبَ عَبْدًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ] (8787) فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَ عَبْدًا فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ مَالِ كِتَابَتِهِ، عَتَقَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِوَى الْمُكَاتَبِ مِائَتَانِ، وَقِيمَةُ الْمُكَاتَبِ مِائَةٌ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، فَإِنَّنَا نَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ دُونَ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ مِائَةً، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، اعْتَبَرْنَا مَالَ الْكِتَابَةِ، وَنَفَذَ الْعِتْقُ، وَيُعْتَبَرُ الْبَاقِي مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ دُونَ مَا أَدَّى مِنْهَا. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْأَقَلَّ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ، فَهِيَ قِيمَةُ مَا أُتْلِفَ بِالْإِعْتَاقِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِلْعَبْدِ إسْقَاطَهُ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ، أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَائِهِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ عِوَضُ الْكِتَابَةِ أَقَلَّ، اعْتَبَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِأَدَائِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَقَدْ ضَعُفَ مِلْكُهُ فِيهِ، وَصَارَ عِوَضَهُ. وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ سِوَى الْمُكَاتَبِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَإِنَّنَا نَضُمُّ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مَالِ كِتَابَتِهِ إلَى مَالِهِ، وَنَعْمَلُ بِحِسَابِهِ، فَيَعْتِقُ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ بِثُلُثِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّاهُ، عَتَقَ، وَإِلَّا رَقَّ مِنْهُ ثُلُثُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَبَقِيَ ثُلُثُهُ بِخَمْسِينَ، فَأَدَّاهَا، أَنْ يَقُولَ: قَدْ زَادَ مَالُ الْمَيِّتِ. لِأَنَّهُ حُسِبَ عَلَى الْوَرَثَةِ بِمِائَةٍ، وَحَصَلَ لَهُمْ بِثُلُثِهِ خَمْسُونَ، فَقَدْ زَادَ مَالُ الْمَيِّتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ بِمَا عَتَقَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ يَحْصُلُ لَهُمْ بِعَقْدِ السَّيِّدِ، وَالْإِرْثِ عَنْهُ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ رُبْعَهُ يَجِبُ إيتَاؤُهُ لِلْمُكَاتَبِ، فَلَا يُحْسَبُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ. فَعَلَى هَذَا، إذَا كَانَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالِ الْمُكَاتَبِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةً، وَلِلْمَيِّتِ مِائَةٌ أُخْرَى، عَتَقَ مِنْ الْعَبْدِ ثُلُثَاهُ، وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ كِتَابَةِ الْعَبْدِ خَمْسُونَ، عَنْ ثُلُثِ الْعَبْدِ الْمَحْسُوبِ عَلَيْهِمْ بِثُلُثِ الْمِائَةِ، فَقَدْ زَادَ لَهُمْ ثُلُثُ الْخَمْسِينَ، فَيَعْتِقَ مِنْ الْعَبْدِ قَدْرُ ثُلُثِهَا، وَهُوَ تُسْعُ الْخَمْسِينَ، وَذَلِكَ نِصْفُ تُسْعِهِ، فَصَارَ الْعِتْقُ ثَابِتًا فِي ثُلُثَيْهِ، وَنِصْفِ تُسْعِهِ، وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ الْمِائَةُ، وَثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِ الْخَمْسِينَ، وَهُوَ مِثْلَا مَا عَتَقَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَعْتَقْتُمْ بَعْضَهُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا أَعْتَقْنَا بَعْضَهُ هَاهُنَا بِإِعْتَاقِ سَيِّدِهِ، لَا بِالْكِتَابَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِتْقُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، نَفَذَ فِي ثُلُثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 مَالِهِ، وَبَقِيَ بَاقِيه لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ، إذَا كَانَ عِتْقُهُ بِهَا، لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَمَا حَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ، وَيَخْتَصُّ الْمُعَاوَضَةَ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْعِوَضِ. [فَصْلٌ وَصَّى سَيِّدُهُ بِإِعْتَاقِهِ أَوْ إبْرَائِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ] (8788) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى سَيِّدُهُ بِإِعْتَاقِهِ، أَوْ إبْرَائِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مَالِ كِتَابَتِهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى إيقَاعِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا مِنْ ثُلُثِهِ، أَعْتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَسْقُطُ مِنْ الْكِتَابَةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ، وَيَبْقَى بَاقِيه عَلَى بَاقِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّاهُ، عَتَقَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ عَجَزَ، عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَرَقَّ الْبَاقِي. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَتَنَجَّزَ عِتْقُ ثُلُثِهِ فِي الْحَالِ، كَقَوْلِنَا فِي مَنْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ وَلَهُ مَالٌ غَائِبٌ، أَوْ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ مُوسِرٍ أَوْ مُعْسِرٍ: إنَّهُ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ فِي الْحَالِ شَيْءٌ. وَلِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ مُتَحَقِّقُ الْحُصُولِ، فَإِنَّهُ إنْ أَدَّى، وَإِلَّا عَادَ الْبَاقِي قِنًّا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّزُ عِتْقُ شَيْءٍ مِنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَاهُ؛ لِئَلَّا يَتَنَجَّزَ لِلْوَصِيَّةِ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَيَتَأَخَّرَ حَقُّ الْوَارِثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ، أَوْ دَيْنٌ حَاضِرٌ، لَمْ تَتَنَجَّزْ وَصِيَّتُهُ مِنْ الْحَاضِرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِالْحَاضِرِ، أَخَذَ ثُلُثَهُ فِي الْحَالِ، وَوَقَفَ الْبَاقِي عَلَى قُدُومِ الْغَائِبِ، فَقَدْ حَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُهُ الْحَاضِرُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا، وَلَمْ يَكْمُلْ لَهُ جَمِيعُ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِحُصُولِهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ بِزِيَادَةِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهَا تَقِفُ عَلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ. [مَسْأَلَةٌ ادَّعَى الْمُكَاتَبُ وَفَاءَ كِتَابَتِهِ وَأَتَى بِشَاهِدٍ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا ادَّعَى الْمُكَاتَبُ وَفَاءَ كِتَابَتِهِ، وَأَتَى بِشَاهِدٍ، حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَصَارَ حُرًّا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمَا فِي أَدَاءِ الْمَالِ، وَالْمَالُ يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَصْدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الْعِتْقُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. قُلْنَا: بَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فِي رِوَايَةٍ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّهَادَةَ هَاهُنَا إنَّمَا هِيَ بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَالْعِتْقُ يَحْصُلُ عِنْدَ أَدَائِهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ الشَّاهِدُ بِهِ، وَلَا بَيْنَهُمَا، فِيهِ نِزَاعٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ، الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلَا بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. (8790) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ شَاهِدٌ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينه؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ: لِي شَاهِدٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 غَائِبٌ. أُنْظِرَ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَاءَ بِهِ، وَإِلَّا حَلَفَ السَّيِّدُ، ثُمَّ مَتَى جَاءَ شَاهِدُهُ، وَأَدَّى الشَّهَادَةَ، ثَبَتَتْ حُرِّيَّتُهُ. وَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ فَجُرِحَ فَقَالَ: لِي شَاهِدٌ غَائِبٌ عَدْلٌ. أُنْظِرَ ثَلَاثًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِقَبْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ] (8791) فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِقَبْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ، عَتَقَ الْعَبْدُ، إذَا كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِغَيْرِ وَارِثٍ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِغَيْرِ وَارِثِهِ مَقْبُولٌ. وَإِذَا قَالَ: اسْتَوْفَيْت كِتَابَتِي كُلَّهَا. عَتَقَ الْعَبْدُ. وَإِنْ قَالَ: اسْتَوْفَيْتهَا كُلَّهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ. عَتَقَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ. كَانَ مُقِرًّا بِهَا. وَلِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ، وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَاضِي، فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْهَا بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ الشَّرْطُ فِيهِ عَلَى الشَّكِّ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَوْفَيْت كِتَابَتِي، وَأَنَا أَشُكُّ فِيهِ. فَيَلْغُو الشَّكُّ، وَيَثْبُتُ الْإِقْرَارُ. وَإِنْ قَالَ: اسْتَوْفَيْت آخِرَ كِتَابَتِي. وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنِّي اسْتَوْفَيْت النَّجْمَ الْآخِرَ دُونَ مَا قَبْلَهُ. وَادَّعَى الْعَبْدُ إقْرَارَهُ بِاسْتِيفَاءِ الْكُلِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ. [فَصْلٌ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ] (8792) فَصْلٌ: وَإِذَا أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، بَرِئَ، وَعَتَقَ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ خَلَتْ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّاهُ. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ، بَرِئَ مِنْهُ وَكَانَ عَلَى الْكِتَابَةِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالْأَدَاءِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى دَنَانِيرَ، فَأَبْرَأَهُ مِنْ دَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمَ، فَأَبْرَأَهُ مِنْ دَنَانِيرَ، لَمْ تَصِحّ الْبَرَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِمَّا لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِمَّا لِي عَلَيْك. فَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: إنَّمَا أَرَدْت مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ. وَقَالَ السَّيِّدُ: بَلْ ظَنَنْت أَنَّ لِي عَلَيْك النَّقْدَ الَّذِي أَبْرَأْتُك مِنْهُ، فَلَمْ تَقَعْ الْبَرَاءَةُ مَوْضِعَهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ، مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِنِيَّتِهِ. وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ، وَاخْتَلَفَ الْمُكَاتَبُ مَعَ وَرَثَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَوْرُوثَهُمْ أَرَادَ ذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، وَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُ وَسَيِّدُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. [مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ إذَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ] (8793) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُكَفِّرُ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ أَوْ جِمَاعٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ، وَلِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ، وَلَا نَفَقَةُ قَرِيبٍ، وَلَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِحَاجَتِهِ، وَكَفَّارَةُ الْعَبْدِ وَالْمُعْسِرِ الصِّيَامُ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 وَيَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ أَذِنَ فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، إذَا أَذِنَ فِيهِ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِيهِ، لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ تَفْوِيتِ حُرِّيَّتِهِ كَمَا أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَلْزَمُهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُكَاتَبُ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي التَّكْفِيرِ، وَمَتَى أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، انْبَنَى عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ إذَا مَلَكَهُ سَيِّدُهُ؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ. لَمْ يَصِحَّ تَكْفِيرُهُ بِعِتْقٍ وَلَا إطْعَامٍ وَلَا كِسْوَةٍ، سَوَاءٌ مَلَكَهُ سَيِّده أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ. صَحَّ تَكْفِيرُهُ بِالطَّعَامِ إذَا أَذِنَ فِيهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، سَبَقَ ذِكْرُهُمَا فِي تَكْفِيرِ الْعَبْدِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا يَتَوَجَّهُ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَالَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنَّمَا مِلْكُهُ نَاقِصٌ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ سَيِّدِهِ بِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِيهِ، صَحَّ، كَالتَّبَرُّعِ. [مَسْأَلَةٌ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ فِي الْكِتَابَةِ] (8794) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ فِي الْكِتَابَةِ، يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهَا وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْأَمَةِ، كَمَا تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْعَبْدِ. لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ، بَرِيرَةَ، وَحَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. وَلِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . وَلِأَنَّهَا يُمْكِنُهَا التَّكَسُّبُ وَالْأَدَاءُ، فَهِيَ كَالْعَبْدِ. وَإِذَا أَتَتْ الْمُكَاتَبَةُ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا، إمَّا مِنْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا، مَوْقُوفٌ عَلَى عِتْقِهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ، عَتَقَ، وَإِنْ فُسِخَتْ كِتَابَتُهَا، وَعَادَتْ إلَى الرِّقِّ، عَادَ رَقِيقًا. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا كَانَ حَمْلًا حَالَ الْكِتَابَةِ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ عَبْدٌ قِنٌّ، لَا يَتْبَعُ أُمَّهُ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكِتَابَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَلَا تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، كَالتَّعْلِيقِ بِالصِّفَةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَبٌ ثَابِتٌ لِلْعِتْقِ، لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ، فَسَرَى إلَى الْوَلَدِ كَالِاسْتِيلَادِ، وَيُفَارِقُ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالْبَيْعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْكَلَامُ فِي الْوَلَدِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ؛ فِي قِيمَتِهِ إذَا تَلِفَ وَفِي كَسْبِهِ، وَفِي نَفَقَتِهِ وَفِي عِتْقِهِ. أَمَّا قِيمَتُهُ إذَا تَلِفَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ لِأُمِّهِ، تَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى كِتَابَتِهَا؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ عَبْدًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ قِيمَتَهُ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَلَوْ جَنَى عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا، كَانَ أَرْشُهُ لَهَا، كَذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 وَلَدُهَا، وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا هُوَ كَانَتْ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّ وَلَدَهَا لَوْ مَلَكَتْهُ بِهِبَةٍ أَوْ شِرَاءٍ كَانَتْ قِيمَتُهُ لَهَا، فَكَذَلِكَ لَوْ تَبِعَهَا. يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا تَبِعَهَا، صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا، فَلَا يَثْبُتُ مِلْكُ السَّيِّدِ فِي مَنَافِعِهِ، وَلَا فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: تَكُونُ الْقِيمَةُ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ قُتِلَتْ، كَانَتْ قِيمَتُهَا لِسَيِّدِهَا، فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَبْطُلُ بِقَتْلِهَا، فَيَصِيرُ مَالُهَا لِسَيِّدِهَا، بِخِلَافِ وَلَدِهَا؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَنَظِيرُ هَذَا إتْلَافُ بَعْضِ أَعْضَائِهَا. وَالْحُكْمُ فِي إتْلَافِ بَعْضِ أَعْضَائِهَا كَالْحُكْمِ فِي إتْلَافِهِ. وَأَمَّا كَسْبُهُ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا جُزْءٌ مِنْهَا، تَابِعٌ لَهَا، فَأَشْبَهَ بَقِيَّةَ أَجْزَائِهَا، وَلِأَنَّ أَدَاءَهَا لِكِتَابَتِهَا سَبَبٌ لِعِتْقِهِ، وَحُصُولِ الْحُرِّيَّةِ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ فِيهِ، بِمَنْزِلَةِ صَرْفِهِ إلَيْهِ، إذْ فِي عَجْزِهَا رِقُّهُ، وَفَوَاتُ كَسْبِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فَعَلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِكَسْبِهِ وَكَسْبُهُ لَهَا، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا عِتْقُهُ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا أَوْ إبْرَائِهَا، وَيَرِقُّ بِعَجْزِهَا؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا. وَإِنْ مَاتَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى كِتَابَتِهَا، بَطَلَتْ كِتَابَتُهَا، وَعَادَ رَقِيقًا قِنًّا، إلَّا أَنْ تُخَلِّفَ وَفَاءً، فَيَكُونَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا، لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَبِعَهَا فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ الْعِتْقُ بِالْأَدَاءِ، وَمَا حَصَلَ الْأَدَاءُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ عِتْقُهَا بِأَمْرٍ لَا يَتْبَعُهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُكَاتَبَةً. وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الَّذِينَ قَالُوا: تَبْطُلُ كِتَابَتُهَا بِعِتْقِهَا. أَنْ يَعُودَ وَلَدُهَا رَقِيقًا. وَمُقْتَضَى قَوْلِنَا، أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْكِتَابَةِ، وَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْأَدَاءُ عَنْهَا لِحُصُولِ الْحُرِّيَّةِ بِدُونِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ، وَلَا فِي يَدِهَا مَالٌ يَأْخُذُهُ، لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ، فَانْتَفَى لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا، فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى عِتْقِ وَلَدِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ بِإِعْتَاقِهَا لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى إبْرَائِهَا مِنْ مَال الْكِتَابَة. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَعْتَقَتْ بِاسْتِيلَادِ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ تَعْلِيقٍ بِصِفَةِ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِغَيْرِ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْوَلَدَ دُونَهَا، صَحَّ عِتْقُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَصَحَّ عِتْقُهُ، كَأُمِّهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ مَعَهَا لَصَحَّ، وَمَنْ صَحَّ عِتْقُهُ مَعَ غَيْرِهِ، صَحَّ مُفْرَدًا، كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 وَقَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَنْفُذَ عِتْقُهُ: لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِأُمِّهِ، بِتَفْوِيتِ كَسْبِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا، وَلَعَلَّ أَحْمَدَ نَفَّذَ عِتْقَهُ تَغْلِيبًا لِلْعِتْقِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ الضَّرَرِ لَا يَصِحُّ لَوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ كَسْبٌ يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ، فَأَمَّا مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ، فَتَخْلِيصُهَا مِنْ نَفَقَتِهِ نَفْعٌ مَحْضٌ، فَلَا ضَرَرَ فِي إعْتَاقِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا يَفْضُلُ لَهَا مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَيِّدَ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِهَذَا الْقَيْدِ. الثَّانِي أَنَّ النَّفْعَ بِكَسْبِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَهَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى الْكَسْبِ، فَلَمْ يَكُنْ الضَّرَرُ بِفَوَاتِهِ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهَا. الثَّالِثُ، أَنَّ مُطْلَقَ الضَّرَرِ لَا يَكْفِي فِي مَنْعِ الْعِتْقِ الَّذِي تَحَقَّقَ مُقْتَضِيه، مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أَصْلًا، ثُمَّ هُوَ مُلْغًى بِعِتْقِ الْمُفْلِسِ وَالرَّاهِنِ وَسِرَايَةِ الْعِتْقِ إلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ مَعَ وُجُودِ الضَّرَرِ بِتَفْوِيتِ الْحَقِّ اللَّازِمِ، فَهَذَا أَوْلَى. [فَصْلٌ الْمَوْلُودَةُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ] (8795) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَدُ وَلَدِهَا فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبِ لَا يَتْبَعُهُ، وَأَمَّا وَلَدُ بِنْتِهَا، فَهُوَ كَبِنْتِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَسْرِي الْكِتَابَةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِاتِّصَالِ، وَهَذَا وَلَدٌ مُنْفَصِلٌ، فَلَا تَسْرِي إلَيْهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا، لَا يَسْرِي إلَيْهِ الِاسْتِيلَادُ، وَهَذَا الْوَلَدُ اتَّصَلَ بِأُمِّهِ دُونَ جَدَّتِهِ. وَلَنَا أَنَّ ابْنَتَهَا ثَبَتَ لَهَا حُكْمُهَا تَبَعًا، فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِابْنَتِهَا حُكْمُهَا تَبَعًا، كَمَا يَثْبُت حُكْمُ أُمِّهَا، وَلِأَنَّ الْبِنْتَ تَبِعَتْ أُمَّهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ إتْبَاعَهَا لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي وَلَدِهَا، وَلِأَنَّ الْبِنْتَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِتْقِ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْرِيَ إلَى وَلَدِهَا، كَالْمُكَاتَبَةِ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي وَلَدِ الْبِنْتِ التَّابِعَةِ لِأُمِّهَا فِي الْكِتَابَةِ، فَأَمَّا الْمَوْلُودَةُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ، فَابْنَتُهَا أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ] (8796) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَلَا وَجْهَ لِقَوْلٍ مَنْ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 لَا يَجُوزُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ كَسْبِهِ، فَيَمْنَعُ بِيعَهُ، كَبَيْعِهِ وَعِتْقِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو الزِّنَاد: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرِضَاهُ، وَلَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَرْضَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ بَرِيرَةَ إنَّمَا بِيعَتْ بِرِضَاهَا وَطَلَبِهَا، وَلِأَنَّ لِسَيِّدِهِ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ بِرِضَاهُ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَذَلِكَ بَيْعُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «جَاءَتْ بَرِيرَةُ إلَيَّ، فَقَالَتْ: يَا عَائِشَةُ، إنِّي كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ، وَنَفَسَتْ فِيهَا: ارْجِعِي إلَى أَهْلِك، إنْ أَحَبُّوا أَنْ أُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ جَمِيعًا، فَعَلْت. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْك فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ وَلَاؤُك لَنَا. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ مِنْهَا، ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي، إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّه فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ نَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّه، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: بِيعَتْ بَرِيرَةُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، فَفِي ذَلِكَ أَبْيَنُ الْبَيَانِ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، وَلَا أَعْلَمُ خَبَرًا يُعَارِضُهُ، وَلَا أَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ دَلِيلًا عَلَى عَجْزِهَا. وَتَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ، وَكَانَ بَيْعُهَا فَسْخًا لِكِتَابَتِهَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ قَوْلُهَا: أَعِينِينِي عَلَى كِتَابَتِي. دَلَالَةٌ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّ نُجُومَهَا فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَالْعَجْزُ إنَّمَا يَكُونُ بِمُضِيِّ عَامَيْنِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْعَجْزَ إلَّا بِحُلُولِ نَجْمَيْنِ، أَوْ بِمُضِيِّ عَامٍ عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ شِرَاءَ عَائِشَةَ لَهَا كَانَ فِي أَوَّلِ كِتَابَتِهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّتِهَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ الْوَقْفَ، وَالْمُكَاتَبُ يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ، وَفَسْخُ كِتَابَتِهِ إذَا عَجَزَ، فَافْتَرَقَا. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَهَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَ الْمُكَاتَبَ بِأَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يَتَحَتَّمْ عِتْقُهُ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَأَنَّ مَوْلَاتَه لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْتَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي هَذَا عَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَتْ لِي أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبْهَانُ، هَلْ عِنْدَك مَا تُؤَدِّي؟ قُلْت: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، وَرَوَتْ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ فَقُلْت: لَا وَاَللَّهِ عِنْدِي مَا أُؤَدِّي، وَلَا أَنَا بِمُؤَدٍّ. وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحِجَابُ عَنْهَا مِنْهُ؛ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكَهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ، وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ مَنْ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَيَرْجِعُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى كَوْنِهِ قِنًّا، وَلَوْ صَارَ حُرًّا، مَا عَادَ إلَى الرِّقِّ، وَيُفَارِقُ إعْتَاقَهُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الرِّقَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ بِعَقْدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ لِلْمِلْكِ فِيهِ، وَأَمَّا بَيْعُهُ، فَلَا يُمْنَعُ مَالِكُهُ بَيْعَهُ، وَأَمَّا الْبَائِعُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. [فَصْلٌ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ وَنَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ] (8797) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ هِبَتُهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، وَنَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَنَعَ هِبَتَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِبَيْعِهِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ مُشْتَرِي الْمُكَاتَبِ] (8798) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمُشْتَرِيه يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْمُكَاتِبِ، فَإِذَا أَدَّى، صَارَ حُرًّا. وَوَلَاؤُهُ لِمُشْتَرِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مُكَاتَبٌ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الثَّمَنِ، أَوْ يَأْخُذَ مَا بَيَّنَهُ سَلِيمًا وَمُكَاتَبًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالْبَيْعِ، وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ بَيْعَ السَّيِّدِ مُكَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَتَهُ بِبَيْعِهِ، إذَا كَانَ مَاضِيًا فِيهَا، مُؤَدِّيًا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ نُجُومِهِ فِي أَوْقَاتِهَا، غَيْرُ جَائِزٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا تَبْطُلُ بِبَيْعِ، الْعَبْدِ، كَإِجَارَتِهِ وَنِكَاحِهِ، وَيَبْقَى عَلَى كِتَابَتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَعَلَى نُجُومِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُبْقًى عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَيُؤَدِّي إلَى الْمُشْتَرِي، كَمَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ عَجَزَ، فَهُوَ عَبْدٌ لِمُشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ سَيِّدَهُ، وَإِنْ أَدَّى، عَتَقَ، وَوَلَاؤُهُ لِمُشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُكَاتِبِ فِيهِ انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَصَارَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُعْتِقَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «ابْتَاعِي، وَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلَمَّا أَرَادَ أَهْلُهَا اشْتِرَاطَ وَلَائِهَا، أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ بِبُطْلَانِهِ. وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي كَوْنَهُ مُكَاتَبًا، ثُمَّ عَلِمَ ذَلِكَ، فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ، أَوْ أَخْذُ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَيْبٌ، لِكَوْنِ الْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ كَسْبَهُ، وَلَا اسْتِخْدَامَهُ، وَلَا الْوَطْءَ إنْ كَانَتْ أَمَةً، وَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِيهِ، فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ بِذَلِكَ، كَمُشْتَرِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ أَوْ الْمَعِيبَةِ، فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ إمْسَاكِهِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ، وَهُوَ قِسْطُ مَا بَيْنَهُ مُكَاتَبًا وَبَيْنَهُ رَقِيقًا قِنًّا، فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَتُهُ مُكَاتَبًا، وَكَمْ قِيمَتُهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَاتَبٍ؟ فَإِذَا قِيلَ: قِيمَتُهُ مُكَاتَبًا مِائَةٌ، وَقِيمَتُهُ غَيْرَ مُكَاتَبٍ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. وَالثَّمَنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، فَقَدْ نَقَصَتْهُ الْكِتَابَةُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ، فَيَرْجِعُ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْخَمْسِينَ الَّتِي نَقَصَتْ بِالْكِتَابَةِ مِنْ قِيمَتِهِ، عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ بَيْعُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِهِ] (8799) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِهِ، فَلَا يَصِحُّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُهَا فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ، فَجَازَ بَيْعُهَا، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَدَيْنِ السَّلَمِ، وَدَلِيلُ عَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ، أَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إجْبَارَ الْعَبْدِ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَا إلْزَامِهِ بِتَحْصِيلِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْعِدَّةِ بِالتَّبَرُّعِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَإِنْ بَاعَهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْمُكَاتَبِ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، وَلَا الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، إنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَيْهِ. فَإِنْ سَلَّمَ الْمُكَاتَبُ إلَى الْمُشْتَرِي نُجُومَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ فِي الْقَبْضِ، فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْوَكِيلِ. وَالثَّانِي، لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَنِبْهُ فِي الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا قَبَضَ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَكَانَ الْقَبْضُ أَيْضًا فَاسِدًا، وَلَمْ يَعْتِقْ، بِخِلَافِ وَكِيلِهِ، فَإِنَّهُ اسْتَنَابَهُ. وَلَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ فَلَيْسَ بِمُسْتَنِيبٍ لَهُ فِي الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا إذْنُهُ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْن التَّصْرِيحِ وَعَدَمِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 فَإِنْ قُلْنَا: يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ بَرِئَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَكَانَ قَدْ تَلِفَ، تَقَاصَّا بِقَدْرِ أَقَلِّهِمَا، وَرَجَعَ ذُو الْفَضْلِ بِفَضْلِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ. فَمَالُ الْكِتَابَةِ بَاقٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ. فَإِنْ سَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ، لَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُكَاتَبِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ تَرَاجَعَا بِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ بَاعَهُ مَا أَخَذَهُ بِمَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ، جَازَ إذَا كَانَ مَا قَبَضَهُ السَّيِّدُ، بَاقِيًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، وَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ، تَقَاصَّا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَتَحَاسَبَا بِهِ، جَازَ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ ذَاتَ وَلَدٍ يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ فَبَاعَهُمَا مَعًا] (8800) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ ذَاتَ وَلَدٍ يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ، فَبَاعَهُمَا مَعًا، صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا مِلْكُهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ بَيْعِهِمَا، وَيَكُونَانِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، كَمَا كَانَا عِنْدَ الْبَائِعِ، سَوَاءً. وَإِنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ، أَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا لَرَجُلٍ، وَبَاعَ الْآخَرُ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ، لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِأُمِّهِ، وَلَهَا كَسْبُهُ، وَعَلَيْهَا نَفَقَتُهُ، وَصَارَ فِي مَعْنَى مَمْلُوكِهَا، فَلَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَالِغًا؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ، صَدَرَ فِيهِ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَكُونُ عِنْدَ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ بَيْعِهِ، لَهَا كَسْبُهُ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا نَفَقَتُهُ، وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا، كَمَا لَوْ بِيعَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَصَّى السَّيِّد بِالْمُكَاتَبِ لَرَجُلٍ] (8801) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِالْمُكَاتَبِ لَرَجُلٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَحْمَدُ الْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَرَى بَيْعَهُ، وَكَذَلِكَ هِبَتَهُ، وَيَقُومُ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مَقَامَ مُكَاتِبِهِ فِي الْأَدَاءِ إلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ، عَادَ إلَيْهِ رَقِيقًا لَهُ قِنًّا، وَإِنْ عَتَقَ، فَالْوَلَاءُ لَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ، فَإِنْ عَجَزَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، لَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ رِقَّهُ لَا يُنَافِي الْوَصِيَّةَ. وَإِنْ أَدَّى وَعَتَقَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَمَنْ مَنَعَ بَيْعَ الْمُكَاتَبِ، مَنَعَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ، وَهِبَتَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنْ عَجَزَ وَرَقَّ، فَهُوَ لَك بَعْدَ مَوْتِي. صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، إذَا عَجَزَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ بَطَلَ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَلَمْ يَدْخُلْهَا حَتَّى مَاتَ سَيِّدُهُ. وَإِنْ قَالَ: إنْ عَجَزْت بَعْدَ مَوْتِي، فَهُوَ لَك. فَهَذَا تَعْلِيقٌ لِلْوَصِيَّةِ عَلَى صِفَةٍ، تُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صِحَّتِهَا وَجْهَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 [فَصْلٌ وَصَّى السَّيِّد بِكِتَابَتِهِ لِرَجُلِ] (8802) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِكِتَابَتِهِ لِرَجُلٍ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِمَا لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ، كَمَا تَصِحُّ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ؛ مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ، وَحَمْلِ جَارِيَتِهِ. وَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَلَهُ أَنْ يُبْرِئَ مِنْهُ؛ فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَالْوَلَاءُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَأَرَادَ الْوَارِثُ تَعْجِيزَهُ، وَأَرَادَ الْمُوصَى لَهُ إنْظَارَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمَالِ مَا دَامَ الْعَقْدُ قَائِمًا، وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، إذَا عَجَزَهُ يَرُدُّهُ فِي الرِّقِّ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ إبْطَالُ حَقِّ الْوَارِثِ مِنْ تَعْجِيزِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْوَارِثُ إنْظَارَهُ، وَأَرَادَ الْمُوصَى لَهُ تَعْجِيزَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي التَّعْجِيزِ وَالْفَسْخِ لِلْوَارِثِ، وَلَا حَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا بَيْعَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَسْقُطُ بِهِ. وَمَتَى عَجَزَ، عَادَ عَبْدًا لِلْوَرَثَةِ. وَإِنْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِمَا تَعَجَّلَهُ الْمُكَاتَبُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِصِفَةٍ، فَإِنْ عَجَّلَ شَيْئًا، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ شَيْئًا حَتَّى حَلَّتْ نُجُومُهُ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. [فَصْلٌ وَصَّى بِمَالِ الْكِتَابَةِ لَرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ] (8803) فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَّى بِمَالِ الْكِتَابَةِ لَرَجُلٍ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ، صَحَّتْ الْوَصِيَّتَانِ؛ فَإِنْ أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْمَالِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، عَتَقَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ، وَيَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّقَبَةِ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، فَإِذَا وَصَّى بِهَا كَانَ الْوَلَاءُ لِمَنْ وَصَّى لَهُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى لَهُ بِالْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا، لَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا وَصَّى بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يُسْتَفَادُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ. وَإِنْ عَجَزَ، فَسَخَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ كِتَابَتَهُ، وَكَانَ رَقِيقًا لَهُ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ قَدْ قَبَضَ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي فَسْخِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ قُدِّمَ قَوْلُ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَرَثَةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقِيَاسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ لَوْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِرَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ دُونَ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ دُونَ الْمَالِ صَحِيحَةٌ، فِيمَا إذَا وَصَّى بِهَا لَرَجُلٍ وَحْدَهُ، وَأَوْصَى بِالْمَالِ لِآخَرَ. [فَصْلٌ كَانَتْ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً فَأَوْصَى لَرَجُلٍ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ] (8804) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً، فَأَوْصَى لَرَجُلٍ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِنْ قَالَ: وَصَّيْت لَك بِمَا أَقْبِضُهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ. صَحَّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ يُؤَدَّى فِيهَا الْمَالُ، كَمَا يُؤَدَّى فِي الصَّحِيحَةِ. وَإِنْ وَصَّى بِرَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِرَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ تَصِحُّ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، فَفِي الْفَاسِدَةِ أُولَى. [فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِمُكَاتَبِهِ] (8805) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ سَيِّدِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ زَكَاتَهُ. فَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْ مُكَاتَبِي بَعْضَ كِتَابَتِهِ، أَوْ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ وَضَعُوا مَا شَاءُوا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، مِنْ أَوَّلِ نُجُومِهِ أَوْ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 آخِرِهَا. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ نَجْمًا مِنْ نُجُومِهِ. فَلَهُمْ أَنْ يَضَعُوا أَيَّ نَجْمٍ شَاءُوا، كَمَا لَوْ قَالَ: ضَعُوا أَيَّ نَجْمٍ شِئْتُمْ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ نُجُومُهُ مُتَّفِقَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَيَّ نَجْمٍ شَاءَ. كَانَ ذَلِكَ إلَى مَشِيئَتِهِ، فَيَلْزَمُهُمْ وَضْعُ النَّجْمِ الَّذِي يَخْتَارُ وَضْعَهُ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْبَرَ نُجُومِهِ. لَزِمَهُمْ أَنْ يَضَعُوا أَكْبَرَهَا مَالًا؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُهَا قَدْرًا. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ نُجُومِهِ. لَزِمَهُمْ أَنْ يَضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يَزِيدُ عَلَى نِصْفِهِ، فَإِذَا كَانَتْ نُجُومُهُ خَمْسَةً، وَضَعُوا ثَلَاثَةً، وَإِنْ كَانَتْ سِتَّةً، وَضَعُوا أَرْبَعَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْصَرِفَ ذَلِكَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا أَكْبَرُهَا مَالًا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَكْبَرَ نُجُومِهِ. فَإِنْ كَانَتْ نُجُومُهُ مُتَسَاوِيَةً، تَعَيَّنَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَوْسَطَ نُجُومِهِ. فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا وَسَطٌ وَاحِدٌ، تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ نُجُومُهُ مُتَسَاوِيَةَ الْقَدْرِ وَالْأَجَلِ، وَعَدَدُهَا مُنْفَرِدٌ، فَيَتَعَيَّنُ وَضْعُ أَوْسَطِهَا عَدَدًا، فَإِذَا كَانَتْ خَمْسَةً، فَالْأَوْسَطُ الثَّالِثُ، وَإِنْ كَانَتْ سَبْعَةً، فَالْأَوْسَطُ الرَّابِعُ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُهَا مُزْدَوَجًا، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمِقْدَارِ، فَبَعْضُهَا مِائَةٌ، وَبَعْضُهَا مِائَتَانِ، وَبَعْضُهَا ثَلَاثُمِائَةٍ، فَأَوْسَطُهَا الْمِائَتَانِ، فَتَعَيَّنَ الْوَصِيَّةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْسَطُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْقَدْرِ، مُخْتَلِفَةَ الْأَجَلِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مِنْهَا إلَى شَهْرٍ، وَوَاحِدٌ إلَى شَهْرَيْنِ، وَوَاحِدٌ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيمَا هُوَ إلَى شَهْرَيْنِ، لِأَنَّهَا أَوْسَطُهَا. وَإِنْ اتَّفَقَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ فِي وَاحِدٍ، تَعَيَّنَتْ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا أَوْسَطُ فِي الْقَدْرِ، وَأَوْسَطُ فِي الْأَجَلِ، وَأَوْسَطُ فِي الْعَدَدِ، يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ، فَلَهُمْ وَضْعُ مَا شَاءُوا مِنْهَا. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ وَالْمُكَاتَبُ، فِيمَا أَرَادَ الْمُوصِي مِنْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا أَرَادَ الْمُوصِي، ثُمَّ التَّعْيِينُ إلَيْهِمْ. وَمَتَى كَانَ فِيهَا أَوْسَطَانِ، عَيَّنَ الْوَرَثَةُ أَحَدَهُمَا. وَمَتَى كَانَ الْعَدَدُ وِتْرًا، فَأَوْسَطُهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ شَفْعًا، كَأَرْبَعَةٍ وَسِتَّةٍ، فَأَوْسَطُهُ اثْنَانِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا إذَا وَصَّى بِأَوْسَطِ نُجُومِهِ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا خَفَّ. أَوْ قَالَ: مَا يَثْقُلُ، أَوْ مَا يَكْثُرُ. كَانَ ذَلِكَ إلَى تَقْدِيرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَخِفُّ إلَى جَنْبِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا وَصَّى بِمَالٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ ثَقِيلٍ، أَوْ خَفِيفٍ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ. وُضِعَ عَنْهُ النِّصْفُ، وَأَدْنَى زِيَادَةٍ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ، وَمِثْلَ نِصْفِهِ. فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَأَدْنَى زِيَادَةٍ. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ، وَمِثْلَهُ. فَذَلِكَ الْكِتَابَةُ كُلُّهَا، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا، فَيَصِحُّ فِي الْكِتَابَةِ، وَيَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِعَدَمِ مَحَلِّهَا. وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا شَاءَ. فَشَاءَ وَضْعَ كُلِّ مَا عَلَيْهِ، وُضِعَ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ تَتَنَاوَلُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 وَإِنْ قَالَ: ضَعُوا عَنْهُ مَا شَاءَ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ وَضْعُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، فَلَا تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ذَا رَحِمِهِ] (8806) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ، أَوْ ذَا رَحِمِهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ نِكَاحُهُ، لَمْ يَعْتِقُوا حَتَّى يُؤَدِّيَ وَهُمْ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ عَجَزَ، فَهُمْ عَبِيدٌ لِسَيِّدِهِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: (8807) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، بِغَيْرِ إذْنِ. سَيِّدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ مَالِهِ، لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ مَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ. قَوْلًا وَاحِدًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَجَازَ بِإِذْنِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ اشْتَرَى مَمْلُوكًا لَا ضَرَرَ فِي شِرَائِهِ، فَصَحَّ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ كَسْبَهُمْ، وَإِنْ عَجَزَ صَارُوا رَقِيقًا لِسَيِّدِهِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ غَيْرُهُ، فَصَحَّ شِرَاؤُهُ لَهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ؛ لِأَنَّهَا تُفَوِّتُ الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا نَفْعٍ يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبِ وَلَا السَّيِّدِ، وَلِأَنَّهُ تَحَقَّقَ السَّبَبُ، وَهُوَ صُدُورُ التَّصَرُّفِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ. (8808) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَهُمْ بِالْعِتْقِ، أَوْ أَعْتَقَ غَيْرَهُمْ، لَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ فَلَا يَقَعُ بِالشِّرَاءِ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَهُ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُمْ، وَلَا هِبَتُهُمْ، وَلَا إخْرَاجُهُمْ عَنْ مِلْكِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ بَيْعُ مَنْ عَدَا الْمَوْلُودِينَ وَالْوَالِدِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسَتْ قَرَابَتُهُمْ قَرَابَةَ حُرِّيَّةٍ وَلَا تَعْصِيبِيَّةٍ فَأَشْبَهُوا الْأَجَانِبَ. وَلَنَا، أَنَّهُ ذُو رَحِمٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا عَتَقَ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَالْوَالِدِينَ، وَالْمَوْلُودِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُمْ إذَا كَانَ حُرًّا، فَلَا يَمْلِكُهُ مُكَاتَبًا كَوَالِدَيْهِ، وَلِأَنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ أَجْزَائِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُمْ، كَيَدِهِ. فَإِذَا أَدَّى وَهُمْ فِي مِلْكِهِ، عَتَقُوا؛ لِأَنَّهُ كَمُلَ مِلْكُهُ فِيهِمْ، وَزَالَ تَعَلُّقُ حَقِّ سَيِّدِهِ عَنْهُمْ، فَعَتَقُوا حِينَئِذٍ، وَوَلَاؤُهُمْ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ سَيِّدِهِ عَنْهُ، فَيَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، صَارُوا عَبِيدًا لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ مَالِهِ، فَيَصِيرُونَ لِلسَّيِّدِ بِعَجْزِهِ، كَعَبِيدِهِ الْأَجَانِبِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 (8809) فَصْلٌ: وَكَسْبُهُمْ؛ لِلْمُكَاتِبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ. وَنَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ، بِحُكْمِ الْمِلْكِ لَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ السَّيِّدُ، لَمْ يَعْتِقُوا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمْ، فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ. وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، لَمْ يَعْتِقُوا؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ سَيِّدِهِ بِهِمْ. وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ بِإِذْنِهِ، عَتَقُوا، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ غَيْرَهُمْ مِنْ عَبِيدِهِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، عَتَقَ، وَصَارُوا رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ، كَمَا لَوْ عَجَزَ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهُ تَبْطُلُ بِعِتْقِهِ، كَمَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ. وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ، يَعْتِقُونَ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ قَبْلَ فَسْخِ الْكِتَابَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْتِقُوا، كَمَا لَوْ عَتَقَ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَوْ بِأَدَائِهِ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، يَسْتَفِيدُ بِهَا الْمُكَاتَبُ مِلْكَ رَقِيقِهِ وَاكْتِسَابِهِ، وَيَبْقَى حَقُّ السَّيِّدِ فِي مِلْكِ رَقَبَتِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْأَدَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَا يَتَسَلَّطُ السَّيِّدُ عَلَى إبْطَالِهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ، وَإِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ، فَيَنْفُذُ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ الْمُكَاتَبِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا فِيمَا مَضَى. وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، عَادَ رَقِيقًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَسْعَوْنَ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِهَا، وَكَذَلِكَ أُمُّ وَلَدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْوَلَدِ خَاصَّةً: إنْ جَاءَ بِالْكِتَابَةِ حَالَّةً، قُبِلَتْ مِنْهُ، وَعَتَقَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَبْدٌ لِلْمُكَاتَبِ، فَصَارَ بِمَوْتِهِ لِسَيِّدِهِ إذَا لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً كَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي فَسْخِ الْكِتَابَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ وُهِبَ لِلْمُكَاتَبِ بَعْضُ ذَوِي رَحِمِهِ] (8810) فَصْلٌ: وَإِنْ وُهِبَ لَهُ بَعْضُ ذَوِي رَحِمِهِ، فَلَهُ قَبُولُهُ. وَإِنْ وُصِّيَ لَهُ بِهِ، فَلَهُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ شِرَاءَهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ مَالِهِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى. وَإِذَا مَلَكَهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ. [فَصْلٌ يَشْتَرِيَ الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ وَالْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا] (8811) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ، وَالْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُكَاتَبِ، فَجَازَ لِلْمُكَاتَبِ، كَشِرَاءِ الْأَجَانِبِ. وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّسَرِّي، وَلَا يَعْتِقُ وَالِدُهُ وَوَلَدُهُ إذَا اشْتَرَاهُ، فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْقِنَّ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ مَا اشْتَرَاهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ، وَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ التَّسَرِّي، لِتَعَلُّقِ حَقِّ سَيِّدِهِ بِمَا فِي يَدِهِ، كَمَا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنْ الْوَطْءِ مَعَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ ذَوُو رَحِمِهِ لِذَلِكَ، فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ. [فَصْلٌ زَوَّجَ السَّيِّدُ ابْنَهُ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ بِرِضَاهَا ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ وَكَانَتْ مِنْ وَرَثَتِهِ] (8812) فَصْلٌ: وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ ابْنَهُ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ بِرِضَاهَا، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ، وَكَانَتْ مِنْ وَرَثَتِهِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرِثُهُ، وَإِنَّمَا تَمْلِكُ نَصِيبَهَا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَبْرَأَ الْمُكَاتَبَ مِنْ الدَّيْنِ عَتَقَ، وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمَيِّتِ، لَا لِلْوَارِثِ، فَإِنْ عَجَزَ وَعَادَ رَقِيقًا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسهَا مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهِ، لَا يَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى وَرَثَتِهِ، كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا يَجُوزُ لَهَا ابْتِدَاءُ نِكَاحِهِ لِأَجْلِ الْمِلْكِ، فَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِتَجَدُّدِ ذَلِكَ فِيهِ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ لِلْمَيِّتِ، فَلِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ مِنْهُ، فَنُسِبَ الْعِتْقُ إلَيْهِ، وَثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَرِثَهُ كُلَّهُ، أَوْ تَرِثَ نَصِيبَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا مَلَكَتْ مِنْهُ جُزْءًا، انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِيهِ فَبَطَلَ فِي بَاقِيه؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَتْ زَوْجَهَا، أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ وَرِثَتْ شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ الْقِنِّ، بَطَلَ نِكَاحُهَا. وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُ أَبَاهَا، لِمَانِعٍ مِنْ مَوَانِعِ الْمِيرَاثِ، فَنِكَاحُهَا بَاقٍ بِحَالِهِ. وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ النِّسَاءِ، كَالْحُكْمِ فِي الْبِنْتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مُكَاتَبَةً، فَوَرِثَهَا، أَوْ وَرِثَ شَيْئًا مِنْهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ لِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْعَبْد لِثَلَاثَةِ فَجَاءَهُمْ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ بِيعُونِي نَفْسِي بِهَا فَأَجَابُوهُ] (8813) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْد لِثَلَاثَةِ، فَجَاءَهُمْ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: بِيعُونِي نَفْسِي بِهَا. فَأَجَابُوهُ، فَلَمَّا عَادَ إلَيْهِمْ لِيَكْتُبُوا لَهُ كِتَابًا، أَنْكَرَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ شَيْئًا، وَشَهِدَ الرَّجُلَانِ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا بِشَهَادَةِ الشَّرِيكَيْنِ، إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ، وَيُشَارِكُهُمَا فِيمَا أَخَذَا مِنْ الْمَالِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ اعْتَرَضَ عَلَى الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، حَيْثُ أَجَازَ لَهُ شِرَاءَ نَفْسِهِ بِعَيْنِ مَا فِي يَدِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي بَابِ الْعِتْقِ: إذَا قَالَ الْعَبْدُ لَرَجُلٍ: اشْتَرِنِي مِنْ سَيِّدِي بِهَذَا الْمَالِ، وَأَعْتِقْنِي فَاشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، كَانَ الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ بَاطِلَيْنِ وَيَكُونُ السَّيِّدُ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ. وَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِوُجُوهِ؛ مِنْهَا، أَنْ يَكُونَ مُكَاتَبًا، وَقَوْلُهُ: بِيعُونِي مِنْ نَفْسِي بِهَذِهِ. أَيْ أُعَجِّلُ لَكُمْ الثَّلَاثَمِائَةِ، وَتَضَعُونَ عَنِّي مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِي. وَلِهَذَا ذَكَرَهُمَا فِي بَابِ الْمُكَاتَبِ. الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي يَدِ الْعَبْدِ لِأَجْنَبِيٍّ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ نَفْسَك بِهَا. مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهَا. الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ عِتْقًا بِصِفَةٍ، تَقْدِيرُهُ: إذَا قَبَضْنَا مِنْك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، فَأَنْتَ حُرٌّ. الرَّابِعُ، أَنْ يَكُونَ رَضِيَ سَادَتُهُ بِبَيْعِهِ نَفْسَهُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ مَعَهُ إعْتَاقٌ مِنْهُمْ لَهُ مَشْرُوطًا بِتَأْدِيَةِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ، فَتَكُونَ صُورَتُهُ صُورَةَ الْبَيْعِ وَمَعْنَاهُ الْعِتْقَ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك نَفْسَك بِخِدْمَتِي سَنَةً. فَإِنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهِ، وَقَدْ صَحَّ هَذَا فِيهَا فَكَانَ هَاهُنَا. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا، فَمَتَى اشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَادَتِهِ، عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِهِمْ، وَلَا يَثْبُتُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 عَلَيْهِ مِلْكٌ آخَرُ، إلَّا أَنَّهُ هَاهُنَا لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ عِتْقًا مَشْرُوطًا بِالْقَبْضِ. وَبِهَذَا قَالَ الْخِرَقِيِّ: فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا بِشَهَادَةِ الشَّرِيكَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا بِالْقَبْضِ. وَلَوْ عَتَقَ بِالْبَيْعِ، لَعَتَقَ بِاعْتِرَافِهِمْ بِهِ، لَا بِالشَّهَادَةِ بِالْقَبْضِ. وَمَتَى أَنْكَرَ أَحَدُهُمْ أَخْذَ نَصِيبِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَرِيكَاهُ، وَكَانَا عَدْلَيْنِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا عَدْلَانِ شَهِدَا لِلْعَبْدِ بِأَدَاءِ مَا يَعْتِقُ بِهِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَرَجَعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَيْهِمَا فَيُشَارِكُهُمَا فِيمَا أَخَذَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا اعْتَرَفَا بِأَخْذِ مِائَتَيْنِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، فَثَمَنُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ، وَلِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ لَهُمْ، وَاَلَّذِي أَخَذَاهُ كَانَ فِي يَدِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِيهِ، وَيَكُونَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَشَهَادَتُهُمَا فِيمَا لَهُمَا فِيهِ نَفْعٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَدَفْعُ مُشَارَكَتِهِ لَهُمَا فِيهِ نَفْعٌ لَهُمَا، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ، دُونَ مَا يَنْتَفِعَانِ بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَغَيْرِهِمَا لَهُمَا فِيهِ نَفْعٌ، فَإِنَّ إقْرَارَهُمَا يُقْبَلُ فِيمَا عَلَيْهِمَا، دُونَ مَالَهُمَا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى شَرِيكِهِمَا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا مَغْرَمًا، وَمَنْ شَهِدَ شَهَادَةً جَرَّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ، وَالتُّهْمَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّاهِدَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا، وَيَبْقَى نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْقَبْضِ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِنَصِيبِهِ، أَوْ مُشَارَكَةُ صَاحِبِهِ فِيمَا أَخَذَ. فَإِنْ شَارَكَهُمَا، أَخَذَ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ مِائَةٍ، وَرَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِتَمَامِ الْمِائَةِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إنْ أَخَذَ مِنْ الْعَبْدِ، فَهُوَ يَقُولُ: ظَلَمَنِي، وَأَخَذَ مِنِّي مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ، فَهُمَا يَقُولَانِ: ظَلَمَنَا، وَأَخَذَ مِنَّا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْنَا. وَلَا يَرْجِعُ الْمَظْلُومُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ. وَإِنْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ، فَكَذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ مَقْبُولَةٌ. أَوْ لَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الثَّالِثُ الْبَيْعَ فَنَصِيبُهُ بَاقٍ عَلَى الرِّقِّ، إذَا حَلَفَ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ، يَكُونَانِ عَدْلَيْنِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ نَفْعًا. [فَصْلٌ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَكَاتَبَاهُ بِمِائَةٍ فَادَّعَى دَفْعَهَا إلَيْهِمَا وَصَدَّقَاهُ] (8814) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَكَاتَبَاهُ بِمِائَةٍ، فَادَّعَى دَفْعَهَا إلَيْهِمَا، وَصَدَّقَاهُ، عَتَقَ، فَإِنْ أَنْكَرَ، أَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا. وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُ، فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ عَدْلًا، فَيَحْلِفُ الْعَبْدُ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَيَصِيرُ حُرًّا، وَيَرْجِعُ الْمُنْكِرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 عَلَى الشَّاهِدِ، فَيُشَارِكُهُ فِيمَا أَخَذَهُ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تُسْمَعَ شَهَادَةُ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِشَهَادَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ سَيِّدِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُنْكِرُ يُنْكِرُ قَبْضَ شَرِيكِهِ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يُنْكِرُ قَبْضَ نَفْسِهِ، وَشَرِيكُهُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِمُتَصَوَّرٍ، لَزِمَهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ، وَمِنْ حُكْمِهِ جَوَازُ رُجُوعِ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِاثْنَيْنِ، فَوَفَّى أَحَدَهُمَا، لَمْ يَرْجِع الْآخَرُ عَلَى شَرِيكِهِ فَلِمَ يَرْجِع هَاهُنَا؟ قُلْنَا: إنْ كَانَ الدَّيْنُ ثَابِتًا بِسَبَبِ وَاحِدٍ، فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، يَرْجِع الْآخَرُ عَلَيْهِ بِهِ، كَمَسْأَلَتِنَا، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُفَارِقُ الدَّيْنَ؛ لِكَوْنِ الدَّيْنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ الْغَرِيمِ، إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ فَحَسْبُ، وَالسَّيِّدُ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِمَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، فَلَا يَدْفَعُ شَيْئًا مِنْهُ إلَى أَحَدِهِمَا، إلَّا كَانَ حَقُّ الْآخَرِ ثَابِتًا فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسِينَ، اسْتَقَرَّ مِلْكُ الشَّرِيكِ فِيهِ عَلَى مَا أَخَذَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبَضَ حَقَّهُ. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ يَرْجِعْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ عَنْ أَدَاءِ مَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، فَلَهُ تَعْجِيزُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ، وَيَكُونُ نِصْفُهُ حُرًّا، وَنِصْفُهُ رَقِيقًا، وَرَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَهُ، وَلَا تَسْرِي الْحُرِّيَّةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ وَالْعَبْدَ يَعْتَقِدَانِ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْمُنْكِرَ غَاصِبٌ لِهَذَا النِّصْفِ الَّذِي اسْتَرَقَّهُ، ظَالِمٌ بِاسْتِرْقَاقِهِ، وَالْمُنْكِرُ يَدَّعِي رِقَّ الْعَبْدِ جَمِيعِهِ، وَلَا يَعْتَرِفُ بِحُرِّيَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنِّي مَا قَبَضْت نَصِيبِي مِنْ كِتَابَتِهِ، وَشَرِيكِي إنْ قَبَضَ شَيْئًا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ بِغَيْرِ إذْنِي، فَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِهَذَا الْقَبْضِ. وَسِرَايَةُ الْعِتْقِ مُمْتَنِعَةٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا إذَا عَتَقَ بَعْضُهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ رَقِيقًا، وَجَمِيعُهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - [فَصْلٌ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ دَفَعَ الْمِائَةَ إلَى أَحَدِهِمَا لِيَدْفَعَ إلَى شَرِيكِهِ حَقَّهُ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (8815) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ دَفَعَ الْمِائَةَ إلَى أَحَدِهِمَا، لِيَدْفَعَ إلَى شَرِيكِهِ حَقَّهُ، وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَلَفَ، وَبَرِئَ. وَإِذَا قَالَ: إنَّمَا دَفَعْت إلَيَّ حَقِّي، وَإِلَى شَرِيكِي حَقَّهُ. وَلَا بَيِّنَةَ لِلْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا قَدْرَ حَقِّهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِنِصْفِهِ، وَمُطَالَبَةُ الْقَابِضِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَهُ؛ فَإِنْ اخْتَارَ مُطَالَبَةَ الْعَبْدِ، فَلَهُ الْقَبْضُ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ، فَلِلشَّرِيكِ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ، لَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الرُّجُوعِ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ. فَإِنْ شَهِدَ الْقَابِضُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْقَبْضِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِمَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ إذَا شَهِدَتْ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي، أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا، فَإِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ، فَلِغَيْرِ الْقَابِضِ أَنْ يَسْتَرِقَّ نِصْفَهُ، وَيُقَوَّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُعْتَرِفٌ بِرِقِّهِ، غَيْرُ مُدَّعٍ لِحُرِّيَّةِ هَذَا النَّصِيبِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُقَوَّمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ يَدَّعِي حُرِّيَّةَ جَمِيعِهِ، وَالْمُنْكِرَ يَدَّعِي مَا يُوجِبُ رِقَّ جَمِيعِهِ، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: مَا قَبَضَهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يُسَلِّمَ إلَيَّ مِثْلَ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَدَّعِي رِقَّ جَمِيعِهِ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي حُرِّيَّةَ جَمِيعِهِ اتَّفَقَا عَلَى حُرِّيَّةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. [فَصْلٌ اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَبْضِ الْمِائَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُكَاتَبُ، وَقَالَ: قَدْ دَفَعْت إلَى شَرِيكِي نِصْفَهَا فَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ] (8816) فَصْلٌ: وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَبْضِ الْمِائَةِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُكَاتَبُ، وَقَالَ: قَدْ دَفَعْت إلَى شَرِيكِي نِصْفَهَا. فَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَلِلْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّفَهُ. فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ، فَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسِينَ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِقَبْضِ الْمِائَةِ كُلِّهَا، وَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ لَهُ بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّ شَرِيكَهُ ظَلَمَهُ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَا قَبَضَ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ، وَلِلْعَبْدِ الرُّجُوعُ عَلَى الْقَابِضِ بِهَا، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي دَفْعِهَا إلَى الْمُنْكِرِ أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ دَفَعَهَا فَقَدْ دَفَعَهَا دَفْعًا غَيْرَ مُبْرٍ، فَكَانَ مُفَرِّطًا. وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِأَدَائِهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْقَابِضِ، ثُمَّ يُسَلِّمَهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَلَهُ تَعْجِيزُهُ، وَاسْتِرْقَاقُ نِصْفِهِ، وَمُشَارَكَةُ الْقَابِضِ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي قَبَضَهَا عِوَضًا عَنْ نَصِيبِهِ، وَيُقَوَّمُ عَلَى الشَّرِيكِ الْقَابِضِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ يُصَدِّقُهُ فِي دَفْعِ الْخَمْسِينَ إلَى شَرِيكِهِ، فَلَا يُقَوَّمُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ حُرٌّ، وَأَنَّ هَذَا ظَلَمَهُ بِاسْتِرْقَاقِ نِصْفِهِ الْحُرِّ. وَإِنْ أَمْكَنَ الرُّجُوعُ عَلَى الْقَابِضِ بِالْخَمْسِينَ، وَدَفْعُهَا إلَى الْمُنْكِرِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلْ يَمْلِكُ الْمُنْكِرُ تَعْجِيزَهُ وَاسْتِرْقَاقَ نِصْفِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ فِي تَعْجِيزِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، إنْ قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ. فَلِلْمُنْكِرِ اسْتِرْقَاقُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَلَيْسَ لِلْمُنْكِرِ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَرْجِعُ الْمُنْكِرُ عَلَى الْقَابِضِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَهُ، إذَا اسْتَرَقَّ نِصْفَ الْعَبْدِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهَا كَانَ قَابِضًا جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ قَبْضُهَا فِي نُجُومِهَا فَتُفْسَخَ الْكِتَابَةُ، ثُمَّ يُطَالَبَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَتَعَذَّرَ تَسْلِيمُهَا حَتَّى فُسِخَتْ الْكِتَابَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 [مَسْأَلَةٌ قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ، وَقَالَ الْعَبْدُ عَلَى أَلْفٍ] (8817) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا قَالَ السَّيِّدُ: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ. وَقَالَ الْعَبْدُ: عَلَى أَلْفٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْمَذْهَبُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ الْكَوْسَجِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، عَلَى أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، وَيَتَرَادَّانِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي عِوَضِ الْعَقْدِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا، فَيَتَحَالَفَانِ إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، كَالْمُتَبَايِعِينَ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْأَلْفِ الزَّائِدِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَلِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ". وَلَنَا، أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الْكِتَابَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ فِيهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهَا، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ عَدَمُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا صَارَ إلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمُكَاتَبِ وَكَسْبِهِ أَنَّهُ لِسَيِّدِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ. وَالثَّانِي، أَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ مُفِيدٌ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّحَالُفِ فِي الْكِتَابَةِ؛ فَإِنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُ يَحْصُلُ بِيَمِينِ السَّيِّدِ وَحْدَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاصِلَ بِالتَّحَالُفِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، وَرَدُّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ، إذَا لَمْ يَرْضَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ مِنْ جَعْلِ الْقَوْلِ قَوْلَ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ، فَلَا يُشْرَعُ التَّحَالُفُ مَعَ عَدَمِ فَائِدَتِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، وَالْأَصْلَ هَاهُنَا مَعَ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ الْعَبْدَ وَكَسْبَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى حَلَفَ السَّيِّدُ، ثَبَتَتْ الْكِتَابَةُ بِأَلْفَيْنِ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ بَعْدَهُ مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَلْفَيْنِ فَيَعْتِقَ، ثُمَّ يَدَّعِيَ الْمُكَاتَبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَنْ الْكِتَابَةِ، وَالْآخَرَ وَدِيعَةٌ، وَيَقُولَ السَّيِّدُ: هُمَا جَمِيعًا مَالُ الْكِتَابَةِ. وَمَنْ قَالَ بِالتَّحَالُفِ، قَالَ: إذَا تَحَالَفَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْكِتَابَةِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى بِقَوْلِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّحَالُفُ بَعْدَ الْعِتْقِ فِي مِثْلِ الصُّوَر الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لَمْ تَرْتَفِعْ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا بَعْدَ حُصُولِهَا، وَلَا إعَادَةُ الرِّقِّ بَعْدَ رَفْعِهِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ السَّيِّدُ بِقِيمَتِهِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَدَّى إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، تَقَاصَّا بِقَدْرِ أَقَلِّهِمَا، وَأَخَذَ ذُو الْفَضْلِ فَضْلَهُ. [فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُكَاتَبُ وَالسَّيِّد فِي أَدَاءِ النُّجُومِ] (8818) فَصْلٌ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَدَاءِ النُّجُومِ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: أَدَّيْت، وَعَتَقْت. وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي إبْرَائِهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِذَلِكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 [فَصْلٌ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ وَاسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيِّهِمَا اسْتَوْفَى] فَصْلٌ: وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ، وَاسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيِّهِمَا اسْتَوْفَى، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ وَرَقَّ الْآخَرُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَأُنْسِيَهُ. فَإِنْ ادَّعَى الْآخَرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَدَّى، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا أَدَّى إلَيْهِ. فَإِنْ نَكَلَ، عَتَقَ الْآخَرُ. وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ، أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ. فَإِنْ ادَّعَى الْآخَرُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ الْمُؤَدِّي، فَعَلَيْهِمْ الْيَمِينُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَدَّى؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ. فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَدَّى عَتَقَ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ تَعَيَّنَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ، وَرَقَّ الْآخَرُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَيْسَتْ عِتْقًا، وَإِنَّمَا هِيَ مُعَيَّنَةٌ لِلْعِتْقِ، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا، فَثَبَتَ بِهَا خَطَأُ الْقُرْعَةِ، فَتَبَيَّنَ بَقَاءُ الرِّقِّ فِي الَّذِي ظَنَنَّا حُرِّيَّتَهُ، كَمَا تَبَيَّنَّا حُرِّيَّةَ مَنْ ظَنَنَّا رِقَّهُ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ، لَا يَصِيرُ مُؤَدِّيًا بِوُقُوعِ الْقُرْعَةِ لَهُ، فَلَا يُوجَدُ حُكْمُهُ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ، أَنْ يَعْتِقَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ السَّيِّدُ الْمُؤَدِّيَ مِنْهُمَا، وَمَتَى ادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ أَدَّى، فَلَهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّيِّدَ أَوْ وَرَثَتَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّيِّدَ، فَالْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَالْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْأَدَاءَ إلَيْهِمْ، فَتَكُونَ أَيْمَانُهُمْ عَلَى الْبَتِّ أَيْضًا. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَزِمَتْهُ الْيَمِينُ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِالدَّعْوَى. [فَصْلٌ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَوْلَادُ مِنْ مُعْتَقَةِ آخَر غَيْرِ سَيِّدُهُ] (8820) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَوْلَادٌ مِنْ مُعْتَقَةِ آخَرَ غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَقَالَ سَيِّدُهُ: قَدْ أَدَّى إلَيَّ، وَعَتَقَ، فَانْجَرَّ وَلَاءُ وَلَدِهِ إلَيَّ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَوْلَى أُمِّهِمْ، وَكَانَ الْمُكَاتَبُ حَيًّا، فَقَدْ صَارَ حُرًّا بِهَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ مِنْ سَيِّدِهِ بِعِتْقِهِ، وَيَنْجَرُّ وَلَاءُ وَلَدِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَوْلَى أُمِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، وَبَقَاءُ وَلَائِهِمْ لَهُ، فَيَحْلِفُ، وَيَبْقَى وَلَاؤُهُمْ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ أَعْتَقَ الْأَمَةَ أَوْ كَاتَبَهَا وَشَرَطَ مَا فِي بَطْنِهَا] (8821) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا أَعْتَقَ الْأَمَةَ، أَوْ كَاتَبَهَا، وَشَرَطَ مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا دُونَهَا، فَلَهُ شَرْطُهُ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَهُ مَا اسْتَثْنَى. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ: إذَا اسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ. وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْبَيْعِ، فَلَا يَصِحُّ فِي الْعِتْقِ، كَبَعْضِ أَعْضَائِهَا. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْعِتْقِ، وَلَا أَذْهَبُ إلَيْهِ فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَعْتَقَ جَارِيَةً، وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . وَهَذَا قَدْ شَرَطَ مَا فِي بَطْنِ مُعْتَقِهِ، فَكَانَ لَهُ بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ. وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَاره بِالْعِتْقِ، فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَنَقُولُ بِهِ، وَالْحَمْلُ مَعْلُومُ، فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعِلْمُ بِصِفَاتِ الْعِوَضِ؛ لِيُعْلَمَ هَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْعِوَض أَمْ لَا؟ وَالْعِتْقُ تَبَرُّعٌ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ صِفَاتِ الْمُعْتَقِ. وَلَا تُنَافِيه الْجَهَالَةُ بِهَا، وَيَكْفِي الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ صَحَّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ يَصِحَّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ فِي الْبَيْعِ إذَا بَطَلَ، بَطَلَ الْبَيْعُ كُلُّهُ، وَهَا هُنَا إذَا بَطَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ، لَمْ يَبْطُلْ الْعِتْقُ فِي الْأَمَةِ، وَيَسْرِي الْإِعْتَاقُ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ إعْتَاقه مَعَ تَضَادِّ الْحُكْمِ فِيهِمَا؟ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا؛ لِأَنَّ الْعُضْوَ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِرَادُهُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ دُونَ الْحَمْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عُضْوًا مِنْ أَمَتِهِ، صَارَتْ كُلُّهَا حُرَّةً، فَإِذَا عَتَقَ بَعْضَهَا، سَرَى إلَى الْمُسْتَثْنَى، وَالْوَلَدُ حَيَوَانٌ مُنْفَرِدٌ، لَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ تَسْرِ الْحُرِّيَّةُ إلَى أُمِّهِ، وَيَصِحُّ انْفِرَادُهُ بِالْحُرِّيَّةِ عَنْ أُمِّهِ، فِيمَا إذَا أَعْتَقَهُ دُونَهَا، وَفِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، وَفِيمَا إذَا وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، وَفِي وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ وَيُورَثُ، وَيُوصَى بِهِ وَلَهُ، وَإِذَا قُتِلَ كَانَ بَدَلُهُ مَوْرُوثًا، وَلَا تَخْتَصُّ بِهِ أُمُّهُ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ، وَالدِّيَةُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى أَعْضَائِهَا؟ فَأَمَّا إنْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا دُونَهَا، فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِيهِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ، قَالَ: هُوَ حُرٌّ، وَالْأُمُّ مَمْلُوكَةٌ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مِنْهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ وَلَدِهَا. قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: جَيِّدٌ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ أَمَتَهُ، فَقَالَتْ: قَدْ حَبِلْت. فَقَالَ لَهَا مَوْلَاهَا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ. وَلَمْ تَكُنْ حَامِلًا. قَالَ: لَا تَعْتِقُ. فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْقَوْلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: لَا يَكُونُ شَيْءٌ، إنَّمَا أَرَادَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ خِدْمَتُهُ شَهْرًا، فَقَالَ: جَائِزٌ. [مَسْأَلَةٌ يُعَجِّلَ الْمُكَاتَبُ لِسَيِّدِهِ بَعْضَ كِتَابَتِهِ وَيَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ كِتَابَتِهِ] (8822) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَجِّلَ الْمُكَاتَبُ لِسَيِّدِهِ بَعْضَ كِتَابَتِهِ، وَيَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ كِتَابَتِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ فِي نَجْمَيْنِ إلَى سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: عَجِّلْ لِي خَمْسَمِائَةٍ مِنْهُ، حَتَّى أَضَعَ عَنْك الْبَاقِيَ، أَوْ حَتَّى أُبْرِئَك مِنْ الْبَاقِي. أَوْ قَالَ: صَالِحْنِي مِنْهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ. جَازَ ذَلِكَ. وَبِهِ يَقُولُ طَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ أَلْفٍ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، وَهَذَا أَيْضًا هِبَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَالرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَسَيِّدِهِ، فَلَمْ يَجُزْ هَذَا بَيْنَهُمَا، كَالْأَجَانِبِ. وَلَنَا، أَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا هُوَ دَيْنٌ صَحِيحٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهِ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَمَا يُؤَدِّيهِ إلَى سَيِّدِهِ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّرْعُ هَذَا الْعَقْدَ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَأَوْجَبَ فِيهِ التَّأْجِيلَ مُبَالَغَةً فِي تَحْصِيلِ الْعِتْقِ، وَتَخْفِيفًا عَنْ الْمُكَاتَبِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ التَّعْجِيلُ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ عَنْهُ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ، كَانَ أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْعِتْقِ، وَأَخَفَّ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَحْصُلُ مِنْ السَّيِّدِ إسْقَاطُ بَعْضِ مَالِهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى إسْقَاطُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجَلِ لِمَصْلَحَتِهِ، وَيُفَارِقُ سَائِرَ الدُّيُونِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَيُفَارِقُ الْأَجَانِبَ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا عَبْدُهُ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِعَبْدِهِ الْقِنِّ. قَوْلُهُمْ: إنَّ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا. فَنَمْنَعُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَإِنَّ هَذَا مُفَارِقٌ لِسَائِرِ الرِّبَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِبَعْضِ الدَّيْنِ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّة زِيَادَةٌ فِي الدَّيْنِ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةُ يُفْضِي إلَى نَفَادِ مَالِ الْمَدِينِ، وَتَحَمُّلِهِ مِنْ الدَّيْنِ مَا يَعْجِزُ عَنْ وَفَائِهِ، فَيُحْبَسُ مِنْ أَجْلِهِ، وَيُؤْسَرُ بِهِ، وَهَذَا يُفْضِي إلَى تَعْجِيلِ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ الرِّقِّ، وَالتَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَافْتَرَقَا. [فَصْلٌ اتَّفَقَا عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ وَالدَّيْنِ فِي الْمُكَاتَبَة] (8823) فَصْلٌ: فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ وَالدَّيْنِ، مِثْلُ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى أَلْفٍ، فِي نَجْمَيْنِ، إلَى سَنَةٍ، يُؤَدِّي فِي نِصْفِهَا خَمْسَمِائَةٍ، وَفِي آخِرِهَا الْبَاقِيَ، فَيَجْعَلَانِهَا إلَى سَنَتَيْنِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتُّمِائَةٍ، أَوْ مِثْلُ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 نَجْمٌ، فَيَقُولَ: أَخِّرْنِي بِهِ إلَى كَذَا، وَأَزِيدُك كَذَا. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ إلَى وَقْتٍ، لَا يَتَأَخَّرُ أَجَلُهُ عَنْ وَقْتِهِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ أَجَلُهُ بِتَغْيِيرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ وَقْتِهِ، لَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي مُقَابَلَتِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الْمُحَرَّمَ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ، وَيُفَارِقُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَمَا أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَتَأَخَّرُ، كَذَلِكَ لَا يُتَعَجَّلُ، وَلَا يَصِيرُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ حَالًّا، فَلِمَ جَازَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؟ قُلْنَا: إنَّمَا جَازَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالتَّعْجِيلِ فِعْلًا، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ قَبْلَ مَحِلِّهِ، جَازَ، وَجَازَ لِلسَّيِّدِ إسْقَاطُ بَاقِي حَقِّهِ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَهُوَ ضِدُّ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ الْكِتَابَةِ أَنَّكَ مَتَى أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا غُيِّرَ الْأَجَلُ وَالْعِوَضُ فَكَأَنَّهُمَا فَسَخَا الْكِتَابَةَ الْأُولَى، وَجَعَلَاهَا كِتَابَةً ثَانِيَةً. قُلْنَا: لَمْ يَجْزِ بَيْنَهُمَا فَسْخٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَا تَغْيِيرَ الْعِوَضِ وَالْأَجَلِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِحُّ، فَيَبْطُلُ التَّغْيِيرُ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِحَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. فَعَلَى هَذَا، لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ لَهُ الرُّجُوعَ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، لَوْ قَالَ: أُعَجِّلُ لَك مَالَ الْكِتَابَةِ، وَتُسْقِطُ عَنِّي مِنْهُ كَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّعْجِيلِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ أَجَلِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، وَلِمَنْ لَهُ الدَّيْنُ تَرْكُ قَبْضِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا وَعَدَ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَلَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ صَالَحَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ] (8824) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَهُ عَنْ النُّقُودِ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ، جَازَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى شَيْءٍ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدِينِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ الدَّرَاهِمِ بِدَنَانِيرَ، أَوْ عَنْ الْحِنْطَةِ بِشَعِيرٍ، لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ هَذِهِ الْمُصَالَحَةُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْجِيلُ، فَلَمْ تَجُزْ الْمُصَالَحَةُ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَهُوَ كَدَيْنِ السَّلَمِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَسَيِّدِهِ. فَعَلَى قَوْلِهِ، تَجُوزُ الْمُصَالَحَةُ كَيْفَمَا كَانَتْ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَيْن الْعَبْدِ الْقِنِّ وَسَيِّدِهِ. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُفَارِقُ دَيْنُ الْكِتَابَةِ دَيْنَ السَّلَمِ؛ فَإِنَّهُ يُفَارِقُ سَائِرَ الدُّيُونِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمُفَارَقَتُهُ لِدَيْنِ السَّلَمِ أَعْظَمُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَاتَبَ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُؤَدِّ كُلَّ كِتَابَتِهِ حَتَّى أَعْتَقَ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ] (8825) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَكَاتَبَ أَحَدَهُمَا، فَلَمْ يُؤَدِّ كُلَّ كِتَابَتِهِ حَتَّى أَعْتَقَ الْآخَرُ، وَهُوَ مُوسِرٌ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ حُرًّا، وَيَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، أَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ يَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ كِتَابَةُ نَصِيبِهِ مِنْهُ، بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، وَيَبْقَى سَائِرُهُ غَيْرَ مُكَاتَبٍ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا، فَأَعْتَقَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْهُ حِصَّتَهُ مِنْهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ، وَسَرَى الْعِتْقُ إلَى بَاقِيه، فَصَارَ كُلُّهُ حُرًّا، وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْهُ، وَيَكُونُ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ مُكَاتَبًا، يَبْقَى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَا أَتْلَفَ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ مُكَاتَبًا. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ عَلَى مَا مَضَى فِي بَابِ الْعِتْقِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي: لَا يَسْرِي الْعِتْقُ فِي الْحَالِ، لَكِنْ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ عَتَقَ بَاقِيهِ بِالْكِتَابَةِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ فُسِخَتْ كِتَابَتُهُ لِعَجْزِهِ، سَرَى الْعِتْقُ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ مُفْضِيَةٌ إلَى إبْطَالِ الْوَلَاءِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ، وَنَقْلِهِ عَنْ الْمُكَاتِبِ إلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عِتْقُ الشَّرِيكِ مَوْقُوفٌ حَتَّى يُنْظَرَ مَا يَصْنَعُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّاهَا، عَتَقَ، وَكَانَ الْمُكَاتِبُ ضَامِنًا لَقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَوَلَاؤُهُ كُلُّهُ لِلْمُكَاتِبِ. وَإِنْ عَجَزَ، سَرَى عِتْقُ الشَّرِيكِ، وَضَمِنَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِلْمُكَاتِبِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ كُلُّهُ لَهُ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُجَوِّزُ كِتَابَةَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ شَرِيكُهُ، فَيَكُونَ فِيهِ قَوْلَانِ، فَإِذَا كَاتَبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَهَلْ يَسْرِي فِي الْحَالِ، أَوْ يَقِفُ عَلَى الْعَجْزِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ» . وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ لَجُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ مُوسِرٍ، غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَسَرَى إلَى بَاقِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ قِنًّا، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى السِّرَايَةِ مُتَحَقِّقٌ، وَالْمَانِعُ مِنْهَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مَانِعًا؛ فَإِنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ الْوَلَاءِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ الْعِتْقُ يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ، الَّذِي الْوَلَاءُ مِنْ بَعْضِ آثَارِهِ، فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَقْلِ الْوَلَاءِ بِمُفْرَدِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ أَوْلَادٌ مِنْ مُعْتَقَةِ قَوْمٍ، نَقَلَ وَلَاءَهُمْ إلَيْهِ، فَإِذَا نَقَلَ وَلَاءَهُمْ الثَّابِتَ بِإِعْتَاقِ غَيْرِهِمْ، فَلَأَنْ يَنْقُلَ وَلَاءً لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ بِإِعْتَاقِ مَنْ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ نَقَلَ الْوَلَاءَ ثَمَّ عَمَّنْ لَمْ يَغْرَمْ لَهُ عِوَضًا، فَلَأَنْ يَنْقُلَهُ بِالْعِوَضِ أَوْلَى، فَانْتِقَالُ الْوَلَاءِ فِي مَوْضِعِ جَرِّ الْوَلَاءِ، يُنَبِّهُ عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ. وَانْتِقَالِ الْوَلَاءُ إلَى الْمُعْتِقِ؛ لِكَوْنِهِ أَوْلَى مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الْوَلَاءَ ثَمَّ ثَابِتٌ، وَهَا هُنَا بِعَرَضِ الثُّبُوتِ. وَالثَّانِي، أَنَّ النَّقْلَ حَصَلَ ثَمَّ بِإِعْتَاقِ غَيْرِهِ، وَهَا هُنَا بِإِعْتَاقِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 وَالثَّالِثُ، أَنَّهُ انْتَقَلَ ثَمَّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَا هُنَا بِعِوَضٍ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، لَمْ يَسْرِ عِتْقُهُ، وَكَانَ نَصِيبُهُ حُرًّا، وَبَاقِيهِ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى، عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ، عَادَ الْجُزْءُ الْمُكَاتَبُ رَقِيقًا قِنًّا، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ. فَإِنَّهُ يُسْتَسْعَى عِنْدَ عَجْزِهِ فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ، وَلَا يُسْتَسْعَى فِي حَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سِعَايَةٌ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَاسْتُغْنِيَ بِهَا عَنْ السِّعَايَةِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّقْوِيمِ، فَإِذَا عَجَزَ وَفُسِخَتْ الْكِتَابَةُ، بَطَلَتْ، وَرَجَعَ إلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَكَاتَبَاهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّى إلَيْهِمَا تِسْعمِائَةِ مُنَاصَفَة ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ] (8827) فَصْلٌ: وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَكَاتَبَاهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدَّى إلَيْهِمَا تِسْعَمِائَةٍ؛ لِهَذَا أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلِهَذَا أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا، أَعْتَقَ نَصِيبَهُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ مَالٌ، أَدَّى إلَى شَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، لَا يُحَاسِبُهُ بِهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّزَهُ، فَيَعُودَ إلَى الرِّقِّ، أَوْ يَمُوتَ، فَيَكُونَ عِنْدَهُ مَالٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ، أَنَّهُ يَعْتِقُ إلَّا نِصْفَ الْمِائَةِ عَلَى هَذَا، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ عَلَى قَدْرِ مَا أَعْتَقَ. فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى تُوَافِقُ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْمُعْتِقِ غَرَامَةَ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ، عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَتَقَ عَلَيْهَا، وَهُوَ كَوْنُهُ مُكَاتَبًا، قَدْ أَدَّى كِتَابَتَهُ إلَّا مِائَةً مِنْهَا، وَهِيَ عُشْرُهَا. وَأَمَّا رِوَايَةُ حَنْبَلٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي، فِي أَنَّهُ لَا يَسْرِي الْعِتْقُ إلَى الْجُزْءِ الْمُكَاتَبِ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ نَصَرْنَا الرِّوَايَةَ الْأُولَى بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ] (8828) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ، وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَسْبِهِ، أَوْ مِنْ صَدَقَةِ. تَطَوُّعٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ. وَمَا كَانَ مِنْ صَدَقَةٍ مَفْرُوضَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، هُوَ لِسَيِّدِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْعَلُهُ فِي السَّبِيلِ أَحَبُّ إلَيَّ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ فَلَا بَأْسَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُؤْخَذُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، فَيُجْعَلُ فِي الْمُكَاتَبِينَ. نَقَلَهَا حَنْبَلٌ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ. وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي، أَنَّهُ يُرَدُّ إلَى أَرْبَابِهِ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دُفِعَ إلَيْهِ لِيُصْرَفَ فِي الْعِتْقِ، فَإِذَا لَمْ يُصْرَفْ فِيهِ، وَجَبَ رَدُّهُ، كَالْغَازِي وَالْغَارِمِ وَابْنِ السَّبِيلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 وَلَنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَدَّ مُكَاتَبًا فِي الرِّقِّ، فَأَمْسَكَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ، كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَأَمَّا الْغَازِي، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ، بِقَدْرِ مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ، وَأَمَّا الْغَارِمُ، فَإِنْ غَرِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَهُوَ كَالْغَازِي، يَأْخُذُ لِحَاجَتِنَا، وَإِنْ غَرِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا، لَا يَرُدُّهُ. [فَصْلٌ مَا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ إلَى سَيِّدِهِ قَبْلَ عَجْزِهِ] (8829) فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا أَدَّاهُ إلَى سَيِّدِهِ قَبْلَ عَجْزِهِ، فَلَا يَجِبُ رَدُّهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَرَفَهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَخَذَهُ لَهَا، وَثَبَتَ مِلْكُ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَيُفَارِقُ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا، وَالْخِلَافُ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ. وَمَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِهِ، سَوَاءٌ عَجَزَ أَوْ أَدَّى؛ لِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ مَا فِي يَدِ سَائِرِ أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ. وَإِنْ اشْتَرَى بِهِ عَرْضًا وَعَجَزَ، وَالْعَرْضُ فِي يَدِهِ، فَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا لَوْ وُجِدَ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ عِوَضُهُ، وَقَائِمٌ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُعْطِيَ الْغَازِي مِنْ الصَّدَقَةِ مَا اشْتَرَى بِهِ فَرَسًا وَسِلَاحًا، ثُمَّ فَضَلَ ذَلِكَ عَنْ حَاجَتِهِ. [فَصْلٌ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ] (8830) فَصْلٌ: وَمَوْتُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَعَجْزِهِ، فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ يَأْخُذُ مَا فِي يَدِهِ قَبْلَ حُصُولِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ أَدَّى، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، فَحُكْمُهُ فِي رَدِّهِ أَوْ أَخْذِهِ لِنَفْسِهِ، حُكْمُ سَيِّدِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَجْزِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُؤَدِّهِ فِي كِتَابَتِهِ، بَقِيَ بَعْدَ زَوَالِهَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَدَانَ مَا أَدَّاهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَبَقِيَ عَنَدَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، فَأَشْبَهَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أَدَائِهَا. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى الْمُكَاتِبَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ] (8831) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، صَحَّ شِرَاءُ الْأَوَّلِ، وَبَطَلَ شِرَاءُ الْآخَرِ. لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ لِلْعَبِيدِ، وَالْمُكَاتَبَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ الْآخَرَ، صَحَّ شِرَاؤُهُ، وَمِلْكُهُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَسَوَاءٌ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ لَسَيِّدٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِسَيِّدَيْنِ. فَإِذَا عَادَ الثَّانِي، فَاشْتَرَى الَّذِي اشْتَرَاهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ سَيِّدُهُ وَمَالِكُهُ، وَلَيْسَ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَمْلِكَ مَالِكَهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَنَا سَيِّدُكَ، وَلِي عَلَيْكَ مَالُ الْكِتَابَةِ تُؤَدِّيهِ إلَيَّ، وَإِنْ عَجَزْتَ فَلِي فَسْخُ كِتَابَتِكَ، وَرَدُّكَ إلَيَّ أَنْ تَكُونَ رَقِيقًا لِي. وَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَإِذَا تَنَافَى أَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِلْكَ الْيَمِينِ؛ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ هَذَا، لَتَقَاصَّ الدَّيْنَانِ إذَا تَسَاوَيَا، وَعَتَقَا جَمِيعًا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَشِرَاءُ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ، وَالْمَبِيعُ هَاهُنَا بَاقٍ عَلَى كِتَابَتِهِ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 فَإِنْ أَدَّى سَيِّدُهُ كِتَابَتَهُ، كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِأَدَائِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ، فَوَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاءٌ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَأْخُذُ مَالَهُ، فَكَذَلِكَ حُقُوقَهُ. هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ الْقَاضِي، وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ الْوَلَاءَ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ، فَيَثْبُتُ لِسَيِّدِهِ. وَكَذَلِكَ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فَأَدَّى كِتَابَتَهُ، وَهَذَا نَظِيرُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِكَوْنِ الْعِتْقِ تَمَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَيَحْصُلُ الْإِنْعَامُ مِنْهُ بِإِذْنِهِ فِيهِ، وَهَا هُنَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهِ، فَلَا نِعْمَةَ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مَا لَمْ يُعَجِّزْهُ سَيِّدُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (8832) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَبْطُلُ الْبَيْعَانِ، وَيُرَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْكُوكٌ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ فَيُرَدُّ إلَى الْيَقِينِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ فَأَشْكَلَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعَانِ، كَمَا يُفْسَخ النِّكَاحَانِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى فَسْخِهِ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّهَا مَنْكُوحَةٌ نِكَاحًا صَحِيحًا، لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينًا فَلَا يَزُولُ إلَّا بِفَسْخٍ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَثْبُتْ تَعَيُّنُ الْبَيْعِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى فَسْخٍ. [فَصْلٌ كَاتَبَ عَبِيدًا لَهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ] (8833) فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَ عَبِيدًا لَهُ، صَفْقَةً وَاحِدَةً، بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ أَنْ يُكَاتِبَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَهُ بِأَلْفٍ صَحَّ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَإِسْحَاقُ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ ثَلَاثَةٍ، كَعُقُودِ ثَلَاثَةٍ، وَعِوَضُ كُلٍّ مِنْهُمْ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّ جُمْلَةَ الْعِوَضِ مَعْلُومَةٌ، وَإِنَّمَا جُهِلَ تَفْصِيلُهَا فَلَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُمْ لَوَاحِدٍ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعِوَضَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ فَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا تَفْصِيلُ الْعِوَضِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثٌ، وَكَذَا يَقُولُ فِيمَا لَوْ بَاعَهُمْ لِثَلَاثَةٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَاتَبٌ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ، وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ حِينَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْمُعَاوَضَةِ، وَزَوَالِ سُلْطَانِ السَّيِّدِ عَنْهُمْ، فَإِذَا أَدَّاهُ، عَتَقَ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيز: يَتَوَجَّهُ لِأَبِي عَبْد اللَّه قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّ الْعِوَضَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، فَيَتَسَاوَوْنَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَيْهِمْ إضَافَةً وَاحِدَةً فَكَانَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِشَيْءٍ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عِوَضٌ فَتَقَسَّطَ عَلَى الْمُعَوِّضِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبِيدًا. فَرَدَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 وَاحِدًا مِنْهُمْ بِعَيْبٍ، أَوْ أَتْلَفَ أَحَدَهُمْ وَرَدَّ الْآخَرَ. وَيُخَالِفُ الْإِقْرَارَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَيُّهُمْ أَدَّى حِصَّتَهُ عَتَقَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ الْكَسْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَاحِدَةٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكِتَابَةُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ دُونَ الْبَاقِينَ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ وَاحِدًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ السَّيِّدُ إنْ أَدَّيْتُمْ عَتَقْتُمْ: فَأَيُّهُمْ أَدَّى حِصَّتَهُ، عَتَقَ. وَإِنْ أَدَّى جَمِيعَهَا، عَتَقُوا كُلُّهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِشَيْءٍ. وَإِنْ قَالَ لَهُمْ: إنْ أَدَّيْتُمْ عَتَقْتُمْ. لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى تُؤَدَّى الْكِتَابَةُ كُلُّهَا وَيَكُونَ بَعْضُهُمْ حَمِيلًا عَنْ بَعْضٍ، وَيَأْخُذُ أَيُّهُمْ شَاءَ بِالْمَالِ، وَأَيُّهُمْ أَدَّاهَا عَتَقُوا كُلُّهُمْ، وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِحِصَّتِهِمَا. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَعَ ثَلَاثَةٍ، فَاعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَوْا عَبْدًا، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إنْ أَدَّيْتُمْ عَتَقْتُمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْعِوَضِ، لَا بِهَذَا الْقَوْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَعْتِق بِالْأَدَاءِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ مَانِعًا مِنْ الْعِتْقِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ كِتَابَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ الْعَقْدَ مَعَ جَمَاعَةٍ عُقُودٌ، بِدَلِيلِ الْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى كِتَابَةِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ مَا قَدَّرَهُ فِي مُقَابَلَةِ عِتْقِهِ، وَهَا هُنَا فِي مُقَابَلَةِ عِتْقِهِ مَا يَخُصُّهُ، فَافْتَرَقَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ عَنْ الْبَاقِينَ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي الشَّرْطِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ صَحِيحٌ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَجْهًا، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي ضَمَانِ الْحُرِّ لِمَالِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ إنَّمَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ، لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِالْعَقْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ صَحِيحَانِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَلَا مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ جَعَلَ الْمَالَ صِفَةً مُجَرَّدَةً فِي الْعِتْقِ، فَقَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَلِأَنَّ الضَّامِنَ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ لَا يَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ، فَلَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ تَبَرُّعٌ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ التَّبَرُّعُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 الضَّمَانَ عَنْ حُرٍّ، وَلَا عَمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ، فَكَذَلِكَ مَنْ مَعَهُ. وَأَمَّا الْعَقْد فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ؛ بِدَلِيلِ خَبَرِ بَرِيرَةَ، وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (8834) فَصْلٌ: إذَا مَاتَ بَعْضُ الْمُكَاتَبِينَ، سَقَطَ قَدْرُ حِصَّتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. وَكَذَلِكَ إنْ أُعْتِقَ بَعْضُهُمْ. وَعَنْ مَالِكٍ إنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَحَدَهُمْ وَكَانَ مُكْتَسِبًا، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْتَسِبًا، نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. [فَصْلٌ أَدَّى أَحَدُ الْمُكَاتِبِينَ عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ عَنْ مُكَاتَب آخَر قَبْلَ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمِ سَيِّدِهِ] (8835) فَصْلٌ: فَإِنْ أَدَّى أَحَدُ الْمُكَاتَبِينَ عَنْ صَاحِبِهِ، أَوْ عَنْ مُكَاتَبٍ آخَرَ، قَبْلَ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، بِغَيْرِ عِلْمِ سَيِّدِهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ، وَلَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ، صُرِفَ ذَلِكَ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَإِنْ عَلَمِ السَّيِّدُ بِذَلِكَ، وَرَضِيَ بِقَبْضِهِ عَنْ الْآخَرِ، صَحَّ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَهُ رَاضِيًا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ، دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ فِيهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ تَصْرِيحًا. وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ أَنْ عَتَقَ، صَحَّ، سَوَاءٌ عَلِمَ السَّيِّدُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. فَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَصَدَ التَّبَرُّعَ عَلَيْهِ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْأَدَاءُ بِإِذْنِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، فَهُوَ قَرْضٌ، يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ كَمَا لَوْ اقْتَرَضَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ مَا لَا يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الدُّيُونِ. وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، وَطَلَبَ اسْتِيفَاءَهُ، قُدِّمَ عَلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الدُّيُونِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ ضَمَان الْحُرِّ لِمَالِ الْكِتَابَةِ] (8836) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحُرِّ لِمَالِ الْكِتَابَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ. [فَصْلٌ أَدَّوْا أَيْ الْمُكَاتِبِينَ مَا عَلَيْهِمْ أَوْ بَعْضَهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا] (8837) فَصْلٌ: وَإِذَا أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ، أَوْ بَعْضَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ: أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، فَلَا فَضْلَ لِأَحَدِنَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ: أَدَّيْنَا عَلَى السَّوَاءِ، فَلِي الْفَضْلُ عَلَيْكَ، أَوْ يَكُونُ وَدِيعَةً لِي عِنْدَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 سَيِّدِنَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُؤَدِّي أَكْثَرَ مِنْهُ، فَرَجَحَتْ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي التَّسَاوِي؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي أَدَائِهِ، فَكَانَتْ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِ، فَاسْتَوَوْا فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. [فَصْلٌ جَنَى بَعْضُ الْمُكَاتِبِينَ] (8838) فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى بَعْضُهُمْ، فَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُؤَدُّونَ كُلُّهُمْ أَرْشَهُ، فَإِنْ عَجَزُوا رَقُّوا. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» . وَلِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ، وَتَعَاقَدَا، لَمْ يَحْمِلْ أَحَدُهُمَا جِنَايَةَ صَاحِبِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ، لَا يَتَضَمَّنُهُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِفِعْلِ الْآخَرِ، كَالْقِصَاصِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ بِحِصَّتِهِ، فَهُوَ كَالْمُنْفَرِدِ بِعَقْدِهِ. [مَسْأَلَة شَرَطَ فِي كِتَابَتِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ] (8839) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ فِي كِتَابَتِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ، فَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ) . أَمَّا الشَّرْط فَبَاطِلٌ. لَا نَعْلَمُ فِي بُطْلَانِهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قَالَتْ: «كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ، أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا وَيَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اشْتَرِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ نَاسٍ يَشْتَرِطُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ، وَقَالَ «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلِأَنَّهُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ، كَالْقَرَابَةِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمُ الْعِتْقِ فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، كَمَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ حُكْمِ النِّكَاحِ لِغَيْرِ النَّاكِحِ، وَلَا حُكْمِ الْبَيْعِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ. وَسَوَاءٌ شَرَطَ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ أَوْ شَرَطَهُ لِبَائِعِهِ، أَوْ لَرَجُلٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ. وَلَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَفْسُدُ بِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عِوَضًا مَجْهُولًا. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَلَنَا، حَدِيثُ بَرِيرَةَ؛ فَإِنَّ أَهْلَهَا شَرَطُوا لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِرَائِهَا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ. وَقَالَ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَيُفَارِقُ جَهَالَةَ الْعِوَضِ؛ فَإِنَّهُ رُكْنُ الْعَقْدِ، لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ، وَرُبَّمَا أَفْضَتْ جَهَالَتُهُ إلَى التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا الشَّرْطُ زَائِدٌ، فَإِذَا حَذَفْنَاهُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِحَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ» . أَيْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْمُرُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَاللَّامُ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] . أَيْ فَعَلَيْهَا. قُلْنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لَوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُخَالِفُ وَضْعَ اللَّفْظِ وَالِاسْتِعْمَالَ. وَالثَّانِي، أَنَّ أَهْلَ بَرِيرَةَ أَبَوْا هَذَا الشَّرْطَ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْطٍ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَالثَّالِثُ، أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لَهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعِتْقِ وَحُكْمُهُ. وَالرَّابِعُ، أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: «لَا يَمْنَعُكِ هَذَا الشَّرْطُ مِنْهَا، ابْتَاعِي، وَأَعْتِقِي» . وَإِنَّمَا أَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّرْطِ، تَعْرِيفًا لَنَا أَنَّ وُجُودَ هَذَا الشَّرْطِ كَعَدَمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقُلُ الْوَلَاءَ عَنْ الْمُعْتِقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 [فَصْل اشْتَرَطَ السَّيِّدُ عَلَى الْمَكَاتِب أَنْ يَرِثَهُ دُونَ وَرَثَتِهِ] (8840) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَطَ السَّيِّدُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يَرِثَهُ دُونَ وَرَثَتِهِ، أَوْ يُزَاحِمَهُمْ فِي مَوَارِيثِهِمْ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ: وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَأَجَازَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَشْتَرِطَ شَيْئًا مِنْ، مِيرَاثِهِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ رَجُلًا كَاتَبَ مَمْلُوكَهُ، وَاشْتَرَطَ مِيرَاثَهُ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُكَاتَبُ، تَخَاصَمَ وَرَثَتُهُ إلَى شُرَيْحٍ، فَقَضَى شُرَيْحٌ بِمِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ لِوَرَثَتِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا يُغْنِي عَنِّي شَرْطِي مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً؟ فَقَالَ شُرَيْحٌ: كِتَابُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ قَبْلَ شَرْطِكَ بِخَمْسِينَ سَنَةً. وَلَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. [فَصْلٌ شَرَطَ عَلَى الْمَكَاتِب خِدْمَةً مَعْلُومَةً بَعْدَ الْعِتْقَ] (8841) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً مَعْلُومَةً بَعْدَ الْعِتْقَ، جَازَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالزُّهْرِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ مِيرَاثَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَعْتَقَ كُلَّ مَنْ يُصَلِّي مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ، أَنَّكُمْ تَخْدُمُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ. وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ خِدْمَةً فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ نَفْعًا مَعْلُومًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ عِوَضًا مَعْلُومًا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِيه. [فَصْلٌ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ أَلْفٌ وَشَرَطَ أَنْ يَعْتِقَ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ] (8842) فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ، فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ أَلْفٌ، وَشَرَطَ أَنْ يَعْتِقَ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ، صَحَّ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَيَعْتِقُ عِنْدَ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَعْتَقَهُ بِغَيْرِ أَدَاءِ شَيْءٍ، صَحَّ، فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهُ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَعْضِ، وَيَبْقَى الْآخَرُ دَيْنًا عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَسَرَ الْعَدُوُّ الْمَكَاتِب فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى سَيِّدِهِ فَأَحَبَّ أَخْذَهُ] (8843) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَسَرَ الْعَدُوُّ الْمُكَاتَبَ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ، فَأَخْرَجَهُ إلَى سَيِّدِهِ، فَأَحَبَّ أَخْذَهُ، أَخَذَهُ بِمَا اشْتَرَاهُ، فَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُحِبَّ أَخْذَهُ، فَهُوَ عَلَى مِلْكِ مُشْتَرِيه، مُبْقًى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، وَوَلَاؤُهُ لِمَنْ يُؤَدِّي إلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسَرُوا مُكَاتَبًا، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَالْكِتَابَةُ بِحَالِهَا؛ فَإِنْ أُخِذَ فِي الْغَنَائِمِ، فَعُلِمَ بِحَالِهِ، أَوْ أَدْرَكَهُ سَيِّدُهُ قَبْلَ قَسْمِهِ، أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ كَمَنْ لَمْ يُؤْسَرْ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى قُسِمَ، وَصَارَ فِي سَهْمِ بَعْضِ الْغَانِمِينَ، أَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ قَسْمِهِ، أَوْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخْرَجَهُ إلَى سَيِّدِهِ، فَإِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 سَيِّدَهُ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ. وَفِيمَا إذَا كَانَ غَنِيمَةً، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ إذَا قُسِمَ، فَلَا حَقَّ لِسَيِّدِهِ فِيهِ بِحَالٍ. فَيُخَرَّجُ فِي الْمُشْتَرِي مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ سَيِّدَهُ إنْ أَخَذَهُ، فَهُوَ مُبْقًى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ، فَهُوَ فِي يَدِ مُشْتَرِيه، مُبْقًى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَوَلَاؤُهُ لِمَنْ يُؤَدِّي إلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ سَيِّدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْكُفَّارِ، وَيُرَدُّ إلَى سَيِّدِهِ بِكُلِّ حَالٍ. وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّافِعِيَّ، فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا، وَلَا نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِمَا، فَأَشْبَهَا أُمَّ الْوَلَدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ مَقْسُومًا، لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ أَخْذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَفِي أَنَّ الْمُكَاتَبَ وَالْمُدَبَّرَ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا، بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا. (8844) فَصْلٌ: وَهَلْ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِالْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مَعَ الْكُفَّارِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ اقْتَضَتْ تَمْكِينَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْكَسْبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ، لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ حَبَسَهُ سَيِّدُهُ. فَعَلَى هَذَا، يَنْبَنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْأَسْرِ، وَتَبْقَى مُدَّةُ الْأَسْرِ، كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ. وَالثَّانِي، يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ مُدَّةِ الْكِتَابَةِ؛ مَضَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ سَيِّدِهِ، فَاحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِهَا، كَمَا لَوْ مَرِضَ، وَلِأَنَّهُ مَدِينٌ مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ أَجْلِ دَيْنِهِ فِي حَبْسِهِ، فَاحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِهَا، كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَفَارَقَ مَا إذَا حَبَسَهُ سَيِّدُهُ، بِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا، إذَا حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ عِنْدَ اسْتِنْقَاذِهِ، جَازَتْ مُطَالَبَتُهُ. وَإِنْ حَلَّ مَا يَجُوزُ تَعْجِيزُهُ بِتَرْكِ أَدَائِهِ، فَلِسَيِّدِهِ تَعْجِيزُهُ، وَرَدُّهُ إلَى الرِّقِّ. وَهَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْمَالِ فِي وَقْتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَالْمَالُ غَائِبًا، يَتَعَذَّرُ إحْضَارُهُ وَأَدَاؤُهُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، لَكَانَ لِسَيِّدِهِ الْفَسْخُ، وَالْمَالُ هَاهُنَا إمَّا مَعْدُومٌ، وَإِمَّا غَائِبٌ يَتَعَذَّرُ أَدَاؤُهُ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَجُوزُ الْفَسْخُ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْغَيْبَةِ يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يُبْحَثَ، أَلَهُ مَالٌ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ حَاضِرًا؛ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ، فَإِنْ أَدَّى، وَإِلَّا فَقَدْ عَجَّزَ نَفْسَهُ. فَإِنْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، ثُمَّ خَلَصَ الْمُكَاتَبُ، فَادَّعَى أَنَّ لَهُ مَالًا فِي وَقْتِ الْفَسْخِ، يَفِي بِمَا عَلَيْهِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، بَطَلَ الْفَسْخُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَعَذِّرَ الْأَدَاءِ، كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. [فَصْلٌ حَبَسَ الْمَكَاتِب] (8845) فَصْلٌ: وَإِنْ حَبَسَهُ سَيِّدُهُ مُدَّةً، فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهِ بِمُدَّتِهِ، فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 وَالثَّانِي، يَحْتَسِبُ عَلَيْهِ بِمُدَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَيَحْتَسِبُ بِمُدَّةِ الْحَبْسِ مِنْ الْأَجَلِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي حَبَسَهُ فِيهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَلَى سَيِّدِهِ تَمْكِينَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مُدَّةَ كِتَابَتِهِ، فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً، وَجَبَ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِيَسْتَوْفِيَ الْوَاجِبَ لَهُ، وَلِأَنَّ حَبْسَهُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ الْكِتَابَةِ، وَتَفْوِيتِ مَقْصُودِهَا، وَرَدِّهِ إلَى الرِّقِّ، وَلِأَنَّ عَجْزَهُ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِهِ فِي مَحِلِّهَا بِسَبَبٍ مِنْ سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ مَنَعَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَلَوْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْعَقْد؛ كَذَا، هَاهُنَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يَلْزَمُ سَيِّدَهُ أَرْفَقُ الْأَمْرَيْنِ بِهِ؛ مِنْ تَخْلِيَتِهِ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، أَوْ أَجْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ سَبَبُهُمَا، فَكَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْفَعُهُمَا. [فَصْلٌ أَوْصَى بِأَنْ يُكَاتَبَ عَبْدُهُ] (8846) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِأَنْ يُكَاتَبَ عَبْدُهُ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ، فَإِذَا أَوْصَى بِهِ، صَحَّ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لَزِمَهُمْ كِتَابَتُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَالُ الْكِتَابَةِ مِنْ مَالِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ وَفَائِدَتُهُ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ عَيَّنَ مَالَ الْكِتَابَةِ، كَاتَبُوهُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ مِثْلَهَا أَوْ أَكْثَرَ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، كَاتَبُوهُ عَلَى مَا جَرَى الْعُرْفُ بِكِتَابَةِ مِثْلِهِ بِهِ. وَالْعُرْفُ أَنْ يُكَاتَبَ الْعَبْدُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِكَوْنِ دَيْنِهَا مُؤَجَّلًا. وَيَجِبُ رَدُّ رَيْعِهِ إلَيْهِ. وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ رِضَا الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُهُ، وَلَا يَجُوزُ إجْبَارُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ، وَلَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَا رِضَاهُ. فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ، بَطَلَتْ. فَإِنْ عَادَ فَطَلَبِهَا، لَمْ تَلْزَمْهُ إجَابَتُهُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بَطَلَتْ بِالرَّدِّ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَدَّهَا، وَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَيْهَا. وَإِذَا أَدَّى عَتَقَ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُوصِي بِكِتَابَتِهِ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ، وَإِنْ عَجَزَ، فَلِلْوَارِثِ رَدُّهُ فِي الرِّقِّ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يُكَاتَبُ مِنْهُ مَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَّى بِوَصَايَا غَيْرِ الْكِتَابَةِ، لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، تَحَاصُّوا فِي الثُّلُثِ، وَأُدْخِلَ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تُقَدَّمَ الْكِتَابَةُ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُقَدِّمُ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَقْصُودُهَا الْعِتْقُ، وَتُفْضِي إلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُقَدَّمَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ تَغْلِيبٌ وَسِرَايَةٌ، لَيْسَ هُوَ لِلْكِتَابَةِ، وَإِفْضَاؤُهَا إلَى الْعِتْقِ لَا يُوجِبُ تَقْدِيمَهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِابْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَدَّمُ، مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ بِوَصِيَّتِهِ الْعِتْقُ، وَيُفْضِي إلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 [فَصْلٌ قَالَ كَاتِبُوا أَحَدَ رَقِيقِي] (8847) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: كَاتِبُوا أَحَدَ رَقِيقِي. فَلِلْوَرَثَةِ مُكَاتَبَةُ مَنْ شَاءُوا مِنْهُمْ. فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يُكَاتِبُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ. وَإِنْ قَالَ: أَحَدَ عَبِيدِي. فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مُكَاتَبَةُ أَمَةٍ، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٍ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُ الْخُنْثَى عَبْدًا. أَوْ أَمَةً. وَإِنْ قَالَ: أَحَدَ إمَائِي. فَلَيْسَ لَهُمْ مُكَاتَبَةُ عَبْدٍ، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٍ كَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى غَيْرَ مُشْكِلٍ، وَكَانَ رَجُلًا، فَلَهُمْ مُكَاتَبَتُهُ إذَا قَالَ كَاتِبُوا أَحَدَ عَبِيدِي. وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، فَلَهُمْ مُكَاتَبَتُهُ إذَا قَالَ: كَاتِبُوا أَحَدَ إمَائِي. لِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ فِيهِ، وَالْعَيْبُ لَا يَمْنَعُ الْكِتَابَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ] فَصْلٌ: وَالْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ، أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى عِوَضٍ مَجْهُولٍ، أَوْ عِوَضٍ حَالٍّ، أَوْ مُحَرَّمٍ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. فَأَمَّا إنْ شَرَطَ فِي الْكِتَابَةِ شَرْطًا فَاسِدًا، فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا لَكِنْ يَلْغُو الشَّرْطُ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ صَحِيحَةً. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُفْسِدَهَا؛ بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى الْعِوَضِ الْمُحَرَّمِ بَاطِلَةٌ، لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ فِيهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، فَأَدَّى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، عَتَقَ، مَا لَمْ تَكُنْ الْكِتَابَةُ مُحَرَّمَةً. فَحَكَمَ بِالْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ إلَّا فِي الْمُحَرَّمَةِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، كَسَائِرِ الْكِتَابَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْقَاضِي عَلَى مَا إذَا جَعَلَ السَّيِّدُ الْأَدَاءَ شَرْطًا لِلْعِتْقِ، فَقَالَ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ، فَأَنْتَ حُرٌّ. فَأَدَّى إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، لَا بِالْكِتَابَةِ، وَيَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْكِتَابَةِ حُكْمُ الصِّفَةِ فِي الْعِتْقِ بِوُجُودِهَا، لَا بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّهَا تُسَاوِي الصَّحِيحَةَ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ يَعْتِقُ بِأَدَاءِ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ صَرَّحَ بِالصِّفَةِ، فَقَالَ: إنَّ أَدَّيْت إلَيَّ، فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكِتَابَةِ يَقْتَضِي هَذَا، فَيَصِيرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، فَيَعْتِقُ بِوُجُودِهِ، كَالْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ. الثَّانِي، أَنَّهُ إذَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ، لَمْ تَلْزَمْهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى سَيِّدِهِ بِمَا أَعْطَاهُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَتَرَاجَعَانِ، فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، وَعَلَى السَّيِّدِ مَا أَخَذَهُ، فَيَتَقَاصَّانِ بِقَدْرِ أَقَلِّهِمَا، إنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَيَأْخُذُ ذُو الْفَضْلِ فَضْلَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَاسِدَةٍ، فَوَجَبَ التَّرَاجُعُ فِيهِ، كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدُ كِتَابَةٍ لِمُعَاوَضَةٍ حَصَلَ الْعِتْقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ، فَلَمْ يَجِبْ التَّرَاجُعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلِأَنَّ مَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ فَهُوَ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ، الَّذِي لَمْ يَمْلِكْ كَسْبَهُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَالْعَبْدُ عَتَقَ بِالصِّفَةِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 وَأَمَّا الْبَيْع الْفَاسِدُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلَا رُجُوعَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَدَفَعَ إلَى الْآخَرِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، بِعَقْدِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ الْمُعَاوَضَةُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ، وَلَهُ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، فَمَلَكَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ. الرَّابِعُ، أَنَّهُ إذَا كَاتَبَ جَمَاعَةً كِتَابَةً فَاسِدَةً، فَأَدَّى أَحَدُهُمْ، حِصَّتَهُ عَتَقَ. عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ. لِأَنَّ مَعْنَى الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَاتَبٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، مَتَى أَدَّى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ، فَهُوَ حُرٌّ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَعْتِقُ فِي الصَّحِيحَةِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْجَمِيعَ. فَهَاهُنَا أُولَى. وَتُفَارِقُ الصَّحِيحَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّيِّدِ وَالْمُكَاتَبِ فَسْخَهَا وَرَفْعَهَا، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ صِفَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ، وَالصِّفَةُ هَاهُنَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَتَابِعَةٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَلَمَّا أَبْطَلَ الْمُعَاوَضَةَ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ، بَطَلَتْ الصِّفَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَرْضَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا بِأَنْ يُسَلَّمَ لَهُ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ، كَانَ لَهُ إبْطَالُهَا، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ؛ فَإِنَّ الْعِوَضَ سُلِّمَ لَهُ، فَكَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا لَهُ. الثَّانِي، أَنَّ السَّيِّدَ إذَا أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ، لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ، وَلَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، وَجَرَى هَذَا مَجْرَى الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، فِي قَوْلِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا. فَأَنْتَ حُرٌّ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هَاهُنَا بِالصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا، فَأَنْتَ حُرٌّ. وَاخْتُلِفَ فِي أَحْكَامٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، فِي بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ. فَذَهَبَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ إلَى بُطْلَانِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، لَا يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالصِّفَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْكِتَابَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَارِثِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى السَّيِّدِ، فَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَارِثِ، كَمَا فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلِأَنَّ الْفَاسِدَةَ كَالصَّحِيحَةِ فِي بَابِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَفِي أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُهُ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا. وَالثَّانِي، فِي بُطْلَانِهَا بِجُنُونِ السَّيِّدِ، وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي بُطْلَانِهَا بِمَوْتِهِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَالْمُغَلَّبُ فِي هَذِهِ الْكِتَابَةِ، حُكْمُ الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، فَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 تَبْطُلُ بِهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ أَدَّى إلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، عَتَقَ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَهَا، لَا يَعْتِقُ. الثَّالِثُ، أَنَّ مَا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ وَمَا يَكْسِبُهُ، وَمَا يَفْضُلُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ، لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ. فِي قَوْلِ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهَا، كَالصَّحِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْعَقْدُ هَاهُنَا فَاسِدٌ، لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ الْعِوَضِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَسَائِرِ، الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهِيَ لَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ فِي كَسْبِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَفَارَقَتْ الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ، فَإِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْعِوَضِ، فَأَثْبَتَتْهُ فِي الْمُعَوَّضِ. الرَّابِعُ، هَلْ يَتْبَعُ الْمُكَاتَبَةَ وَلَدُهَا؟ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَتْبَعُهَا؛ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ يَعْتِقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ، فَيَعْتِقُ بِهِ وَلَدُهَا، كَالْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالثَّانِي، لَا يَتْبَعُهَا. وَهُوَ أَقْيَسُ، وَأَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرِّقِّ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِنَصِّ، أَوْ مَعْنَى نَصٍّ، وَمَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 [كِتَابُ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ] أُمُّ الْوَلَدِ: هِيَ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فِي مِلْكِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ التَّسَرِّي وَوَطْءِ الْإِمَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . وَقَدْ كَانَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ أُمَّ وَلَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ أُمُّ إبْرَاهِيمَ بْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الَّتِي قَالَ فِيهَا: (أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا) . وَكَانَتْ هَاجَرُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، سُرِّيَّةَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ. وَلِكَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَرْغَبُونَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، حَتَّى وُلِدَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَرَغِبَ النَّاسُ فِيهِنَّ. وَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «كَانَ لِابْنِ رَوَاحَةَ جَارِيَةٌ، وَكَانَ يُرِيدُ الْخَلْوَةَ بِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ تَرْصُدُهُ، فَخَلَا الْبَيْتُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَنَدَرَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ، وَقَالَتْ: أَفَعَلْتهَا؟ قَالَ: مَا فَعَلْت. قَالَتْ: فَقِرَّ إذًا. فَقَالَ: شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ شِدَادٌ ... مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا فَقَالَتْ: أَمَّا إذْ أَقْرَرْتَ فَاذْهَبْ إذًا. فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَلَقَدْ. رَأَيْته يَضْحَكُ حَتَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ، وَيَقُولُ: هِيهِ، كَيْفَ قُلْت؟ . فَأُكَرِّرُهُ عَلَيْهِ، فَيَضْحَكُ» . [فَصْلٌ وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدِ بَعْدَ وَطْئِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا] (8849) فَصْلٌ: فَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ وَطْئِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَصَارَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ تَامٍّ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى الْحَسَنُ، أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأُتِيَ بِهَا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهَمَّ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لَك ذَلِكَ، إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . فَقَدْ يَكُونُ فِي الْبَطْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَالرَّضَاعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، فَذَلِكَ تَمَامُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . فَخَلَّى عَنْهَا عُمَرُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ. وَمَنْ اعْتَرَفَ بِوَطْءِ أَمَتِهِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلَائِدَ، فَلَا يَطَأُ رَجُلٌ وَلِيدَتَهُ، ثُمَّ يُنْكِرُ وَلَدَهَا، إلَّا أَلْزَمْتُهُ إيَّاهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَيُّمَا رَجُلٍ غَشِيَ أَمَتَهُ، ثُمَّ ضَيَّعَهَا، فَالضَّيْعَةُ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ أَيْضًا. وَلِأَنَّ أَمَتَهُ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، فَلَحِقَهُ وَلَدُهَا، كَالْمَرْأَةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» . فَإِنْ نَفَاهُ سَيِّدُهَا، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا، وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِذَلِكَ. وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: إذَا أَنْكَرَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ مِنْ أَمَتِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُول: يَنْتَفِي مِنْ وَلَدِهِ، إذَا كَانَ مِنْ أَمَتِهِ، وَمَتَى شَاءَ. وَلَنَا، قَوْلُ عُمَرَ، وَأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ، كَوَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ. فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ إبْرَاهِيمُ: إذَا أَقَرَّ بِوَلَدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ، فَإِنْ انْتَفَى مِنْهُ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ لِرَجُلٍ أَقَرَّ بِوَلَدِهِ: لَا سَبِيلَ لَك أَنْ تَنْتَفِيَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ هُنِّئَ بِهِ. فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا، بِهِ فَقَامَ مَقَامَ الْإِقْرَارِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ يَطَأُ جَارِيَتَهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، لَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ بِذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 اللَّهِ، إنَّا نُصِيبُ النِّسَاءَ، وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ، أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ؟ قَالَ: إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى خَلْقَ نَسَمَةٍ، خَلَقَهَا» . وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ. فَقَالَ: اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا قَالَ: فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَمَلَتْ. قَالَ قَدْ أَخْبَرْتُكَ، أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِي، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيَّ. يَعْنِي ابْنَهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ، ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ أَتَاهَا، إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا، فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ اُتْرُكُوا. وَلِأَنَّهَا بِالْوَطْءِ صَارَتْ فِرَاشًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» . وَلَمَّا «تَنَازَعَ عَبْدُ بْن زَمْعَةَ وَسَعْدٌ، فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ عَبْدٌ: هُوَ أَخِي، وَابْن وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ مِنْ الْمَاء مَا لَا يُحِسُّ بِهِ، فَيُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَعَ الْعَزْلِ، فَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَنَّ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَعْزِلُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ، فَجَاءَتْ بِحَمْلِ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُلْحِقْ بِآلِ عُمَرَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ آلَ عُمَرَ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءٌ. فَوَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: مِمَّنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ رَاعِي الْإِبِلِ. فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ، كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَارِسِيَّةٌ، وَكَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ، وَجَلَدَهَا الْحَدَّ، وَقَالَ: إنَّمَا كُنْت اسْتَطَبْتُ نَفَسَكَ، وَلَا أُرِيدُكِ. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: مِمَّنْ حَمَلْت؟ قَالَتْ مِنْك. فَقَالَ: كَذَبْت، وَمَا وَصَلَ إلَيْك مِنِّي مَا يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ، وَمَا أَطَأُكِ، إلَّا أَنِّي اسْتَطَبْت نَفَسَكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِيرُ فِرَاشًا، وَلَا يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِوَلَدِهَا، فَيَلْحَقَهُ أَوْلَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا خَالَفَهَا. [فَصْلٌ اعْتَرَفَ بِوَطْءِ أَمَتِهِ فِي الدُّبُرِ أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَهَلْ يَلْحَقهُ وَلَدهَا] (8850) فَصْلٌ: وَإِنْ اعْتَرَفَ بِوَطْءِ أَمَتِهِ فِي الدُّبُرِ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا، وَتَصِيرُ فِرَاشًا بِهَذَا. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِأَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ، فَيَسْبِقُ الْمَاءُ إلَى الْفَرْجِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِهَذَا فِرَاشًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْأَصْلِ إلَّا بِنَاقِلٍ عَنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ لَحِقَهُ الْوَلَدُ مِنْ أَمَتِهِ، إذَا حَمَلَتْ بِهِ فِي مِلْكِهِ، فَالْوَلَدُ حُرُّ الْأَصْلِ، لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ. [مَسْأَلَة أَحْكَامُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ] (8851) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَأَحْكَامُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، أَحْكَامُ الْإِمَاءِ، فِي جَمِيعِ أُمُورِهِنَّ، إلَّا أَنَّهُنَّ لَا يُبَعْنَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، وَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ؛ فِي حِلِّ وَطْئِهَا لِسَيِّدِهَا، وَاسْتِخْدَامِهَا، وَمِلْكِ كَسْبِهَا، وَتَزْوِيجِهَا، وَإِجَارَتِهَا، وَعِتْقِهَا، وَتَكْلِيفِهَا، وَحَدِّهَا، وَعَوْرَتِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إجَارَتَهَا وَتَزْوِيجَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا، فَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا وَإِجَارَتَهَا، كَالْحُرَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا، فَيَمْلِكُ سَيِّدُهَا تَزْوِيجَهَا، وَإِجَارَتَهَا، كَالْمُدَبَّرَةِ، لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ، وَإِنَّمَا مُنِعَ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ تَعْتِقَ بِمَوْتِهِ، وَبَيْعُهَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ. وَيَبْطُلُ دَلِيلُهُمْ بِالْمَوْقُوفَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا تُخَالِفُ الْأَمَةَ الْقِنَّ، فِي أَنَّهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، مِنْ الْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، وَلَا مَا يُرَادُ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ الرَّهْنُ، وَلَا تُورَثُ؛ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَيَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهَا. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، إبَاحَةُ بَيْعِهِنَّ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي أُمِّ الْوَلَدِ قَالَ: بِعْهَا كَمَا تَبِيعُ شَاتَكَ، أَوْ بَعِيرَكَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُبَيْدَةَ، قَالَ خَطَبَ عَلِيٌّ النَّاسَ، فَقَالَ: شَاوَرَنِي عُمَرُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَرَأَيْت أَنَا وَعُمَرُ أَنْ أُعْتِقَهُنَّ، فَقَضَى بِهِ عُمَرُ حَيَاتَهُ، وَعُثْمَانُ حَيَاتَهُ، فَلَمَّا وَلِيتُ، رَأَيْت أَنْ أُرِقَّهُنَّ. قَالَ عُبَيْدَةُ: فَرَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي الْجَمَاعَةِ، أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِ عَلِيٍّ وَحْدَهُ. وَقَدْ رَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي: إلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ؟ قَالَ: أَكْرَهُهُ، وَقَدْ بَاعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ: لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُهُنَّ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ. فَجَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرِوَايَةٍ مُخَالِفَةٍ لِقَوْلِهِ: إنَّهُنَّ لَا يَبِعْنَ. لِأَنَّ السَّلَفَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَانُوا يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا، وَمَتَى كَانَ التَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَجَبَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ، عَلَى الْمُصَرَّحِ بِهِ، وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِلَافًا. وَلِمَنْ أَجَازَ بَيْعَهُنَّ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَانَا، فَانْتَهَيْنَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَا كَانَ جَائِزًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، لَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَلَا غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ نَسْخَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا يَجُوزُ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يُنْسَخُ بِنَصٍّ مِثْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، فَلَا يَنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَتْرُكُونَ أَقْوَالَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتْرُكُونَهَا بِأَقْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ مُخَالَفَةُ عُمَرَ لِهَذَا النَّصِّ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَلَمْ يَعْتِقْهَا سَيِّدُهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلَمْ تَعْتِقْ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْ مِنْ أَبِيهِ فِي نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، وَلَمْ يَرِدْ بِزَوَالِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ وِلَادَتَهَا لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِعِتْقِهَا، لَثَبَتَ الْعِتْقُ بِهَا حِينَ وُجُودِهَا، كَسَائِرِ أَسْبَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تُجْعَلُ فِي سَهْمِ وَلَدِهَا؛ لِتَعْتِقَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنَّا، وَتَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ، فَأَرَادَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَنْ يَبِيعَهَا فِي دَيْنِهِ، فَأَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إنْ كَانَ وَلَا بُدَّ، فَاجْعَلُوهَا فِي نَصِيبِ أَوْلَادِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 وَلَنَا، مَا رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، فِي (مَسَائِلِهِ) ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلَا يَبِعْنَ وَلَا يَرْهَنَّ، وَلَا يَرِثْنَ، وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإِنْ مَاتَ، فَهِيَ حُرَّةٌ.» وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ عَنْ عُمَرَ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بِدَلِيلِ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: كَانَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ، أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ. وَقَوْلُهُ: فَقَضَى بِهِ عُمَرُ حَيَاتَهُ وَعُثْمَانُ حَيَاتَهُ. وَقَوْلِ عُبَيْدَةَ: رَأْيُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ، أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِهِ وَحْده. وَرَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ يُقِرُّ بِأَنَّهُ يَطَأُ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ يَمُوتُ، إلَّا أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا إذَا وَلَدَتْ، وَإِنْ كَانَ سَقْطًا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْف تَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، مَعَ مُخَالَفَةِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؟ قُلْنَا: قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ الرُّجُوعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ، فَقَدْ رَوَى عُبَيْدَةُ، قَالَ: بَعَثَ إلَيَّ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَإِلَى شُرَيْحٍ، أَنْ اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَبْغَضُ الِاخْتِلَافَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَتِهَا. وَهُوَ الرَّاوِي لِحَدِيثِ عِتْقِهِنَّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ، فَيَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ. ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِاتِّفَاقِهِمْ قَبْلَ الْمُخَالَفَةِ، وَاتِّفَاقُهُمْ مَعْصُومٌ عَنْ الْخَطَأِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ زَمَنٌ عَنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّتِهِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْعَصْرِ، لَجَازَ فِي جَمِيعِهِ، وَرَأْيُ الْمُوَافِقِ فِي زَمَنِ الِاتِّفَاقِ، خَيْرٌ مِنْ رَأْيِهِ فِي الْخِلَافِ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ الِاتِّفَاقُ حُجَّةً عَلَى الْمُخَالِفِ لَهُ مِنْهُمْ، كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الِاتِّفَاقُ فِي بَعْضِ الْعَصْر إجْمَاعًا، حَرُمَتْ مُخَالَفَتُهُ، فَكَيْفَ خَالَفَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ، الَّذِينَ لَا تَجُوزُ نِسْبَتُهُمْ إلَى ارْتِكَابِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ يَنْقَسِمُ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَظْنُونٍ، وَهَذَا مِنْ الْمَظْنُونِ، فَيُمْكِنُ وُقُوعُ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُمْ لَهُ، مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً، كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ النُّصُوصِ الظَّنِّيَّةِ، وَلَا تَخْرُجْ بِمُخَالَفَتِهِمْ عَنْ كَوْنِهَا حُجَّةً، كَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا قَوْلُ جَابِرٍ: «بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَأَبِي بَكْر فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ كَانَ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عِلْمِ أَبِي بَكْر فَيَكُونُ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْ فِعْلِهِمْ عَلَى انْفِرَادِهِمْ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا وَاقِعًا بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَقَرَّا عَلَيْهِ، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ، وَلَمْ يُجْمِعْ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُمَا عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ مُنْكِرٍ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ: كَيْفَ يُخَالِفُونَ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِعْلَ صَاحِبِهِ؟ وَكَيْفَ يَتْرُكُونَ سُنَّتَهُمَا، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّا؟ مِنْ هَذَا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا بِعِلْمِهِمَا، لَاحْتَجَّ بِهِ عَلِيٌّ حِينَ رَأَى بَيْعَهُنَّ، وَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُ عَلَى بَيْعِهِنَّ، وَلَمْ يَجْرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ إذًا حُجَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ بَاعُوا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي النِّكَاحِ، لَا فِي الْمِلْكِ. [فَصْلٌ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ] (8852) فَصْلٌ: وَمَنْ أَجَازَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ، فَعَلَى قَوْلِهِ، إنْ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إلَّا وَلَدُهَا، عَتَقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَارِثٌ سِوَى وَلَدِهَا، حُسِبَتْ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا، فَعَتَقَتْ، وَكَانَ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ، عَتَقَ مِنْهَا قَدْرُ نَصِيبِهِ، وَبَاقِيهَا رَقِيقٌ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إذَا وَرِثَ سَهْمًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، سَرَى الْعِتْقُ إلَى بَاقِيه. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ مِنْ سَيِّدِهَا، وَرِثَهَا وَوَرِثَتْهُ، كَسَائِرِ رَقِيقِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَصَابَ الْأَمَةَ وَهِيَ مِلْكُ غَيْرِهِ بِنِكَاحِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ مَلَكَهَا حَامِلًا] (8853) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ الْأَمَةَ، وَهِيَ مِلْكُ غَيْرِهِ، بِنِكَاحٍ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَهَا حَامِلًا، عَتَقَ الْجَنِينُ، وَكَانَ لَهُ بَيْعُهَا) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ، فَأَوْلَدَهَا، أَوْ أَحْبَلَهَا، ثُمَّ مَلَكَهَا بِشِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ مَلَكَهَا حَامِلًا فَوَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ مَلَكَهَا بَعْدَ وِلَادَتِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِيمَا إذَا حَمَلَتْ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ، بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 وَنَقَلَ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا، فَثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، كَمَا لَوْ حَمَلَتْ فِي مِلْكِهِ. وَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَا إذَا مَلَكَهَا بَعْدَ وِلَادَتِهَا، إنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ التَّوَقُّفُ عَنْهَا، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فَقَالَ: لَا أَقُولُ فِيهَا شَيْئًا. وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ سِوَاهُ، بِجَوَازِ بَيْعِهَا، فَقَالَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَبِيعَهَا، إنَّمَا الْحَسَنُ وَحْدَهُ قَالَ: إنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ. وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا سَمِعْنَا فِيهِ مِنْ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ: لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تَلِدَ عِنْدَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهَا. فَإِنَّ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيَّ يَقُولُ: نَبِيعُهَا. وَشُرَيْحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَعَامِرًا الشَّعْبِيَّ. وَأَمَّا إذَا مَلَكَهَا حَامِلًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحْبَلَهَا فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، حَتَّى تُحْدِثَ عِنْدَهُ حَمْلًا. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ صَالِحٌ، قَالَ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَنْكِحُ الْأَمَةَ، فَتَلِدُ مِنْهُ، ثُمَّ يَبْتَاعُهَا. قَالَ: لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. قُلْت: فَإِنْ اسْتَبْرَأَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ. قَالَ: إذَا كَانَ الْوَطْءُ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ، وَكَانَ يَطَؤُهَا بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ وَطِئَهَا فِي ابْتِدَاءِ حَمْلِهَا، أَوْ تَوَسُّطِهِ، كَانَتْ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَزِيدُ فِي سَمْعِ الْوَلَدِ وَبَصَرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ مَلَكَهَا حَامِلًا، فَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى وَضَعَتْ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا حَالَ حَمْلِهَا، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ كَمُلَ الْوَلَدُ، وَصَارَ لَهُ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، صَارَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَبَعْدَ مَا اخْتَلَطَتْ دِمَاؤُكُمْ وَدِمَاؤُهُنَّ، وَلُحُومُكُمْ وَلُحُومُهُنَّ، بِعْتُمُوهُنَّ، فَعَلَّلَ بِالْمُخَالَطَةِ، وَالْمُخَالَطَةُ هَاهُنَا حَاصِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ لِحُرِّيَّةِ الْبَعْضِ أَثَرًا فِي تَحْرِيرِ الْجَمِيعِ، بِدَلِيلِ مَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، إلَّا أَنْ تَحْبَلَ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ. وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، فَقَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تُحْدِثَ عِنْدَهُ حَمْلًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ بِحُرٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا. يُحَقِّقُ هَذَا، أَنَّ حَمْلَهَا مِنْهُ مَا أَفَادَ الْحُرِّيَّةَ لِوَلَدِهِ، فَلَأَنْ لَا يُفِيدَهَا الْحُرِّيَّةَ أَوْلَى. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا حَمَلَتْ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ، فَيَتَحَرَّرُ بِتَحْرِيرِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ زِيَادَةِ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ، غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ؛ فَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ زَادَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ زَادَ، لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زِنًى مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَطِئَهَا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ زَادَ الْوَلَدُ بِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ مَنْ حَمَلَتْ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا إجْمَاعٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ هَذَا الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ فَوَطِئَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا] (8854) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ، فَوَطِئَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا: فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُشْتَرِي وَلَا يَبِيعُهُ، وَلَكِنْ يَعْتِقُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مُجِحٍّ، عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا؟ . قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، كَيْفَ يَرِثُونَهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ، أَمْ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ» ،. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. يَعْنِي إنْ اسْتَلْحَقَهُ وَشَرَكَهُ فِي مِيرَاثِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، فَإِنْ اتَّخَذَهُ مَمْلُوكًا يَسْتَخْدِمُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَكَ فِيهِ؛ لِكَوْنِ الْمَاءِ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ. [فَصْلٌ وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ وَلَدِهِ] (8855) فَصْلٌ: وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ وَلَدِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا وَتَمَلَّكَهَا، وَلَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ وَطِئَهَا، وَلَا تَعَلَّقَتْ بِهَا حَاجَتُهُ، فَقَدْ مَلَكَهَا الْأَبُ بِذَلِكَ، وَصَارَتْ جَارِيَتَهُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي جَارِيَتِهِ الَّتِي مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ. وَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] . وَهَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجًا لَهُ، وَلَا مِلْكَ يَمِينِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . فَأَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى أَبِيهِ، فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ. قُلْنَا: لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَضَافَ إلَيْهِ الْوَلَدَ، وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَأَضَافَ إلَيْهِ مَالَهُ فِي حَالَةِ إضَافَتِهِ إلَى الْوَلَدِ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ مَمْلُوكًا لِمَالِكَيْنِ حَقِيقَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِوَلَدِهِ حَقِيقَةً، بِدَلِيلِ حِلِّ وَطْءِ إمَائِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَصِحَّةِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ مَاتَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ أَبُوهُ إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ، لَاخْتَصَّ بِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ، لَمْ يَرِثْ وَرَثَتُهُ مَالَ ابْنِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ حَجٌّ وَلَا زَكَاةٌ وَلَا جِهَادٌ بِيَسَارِ ابْنِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَرَادَ التَّجَوُّزَ، بِتَشْبِيهِهِ بِمَالِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ؛ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، فَإِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً لَا يَمْلِكُهَا، وَطْئًا مُحَرَّمًا، فَكَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَالَ وَلَدِهِ كَمَالِهِ. وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ لَهُ، غَيْرُ مَلُومٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَطْءُ هُوَ عَادٍ فِيهِ، مَلُومٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ دُرِئَ فِيهِ الْحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَكَانَ حُرًّا، كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالْوَطْءِ، فَيَحْصُلُ عُلُوقُهَا بِالْوَلَدِ وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، وَتَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِهِ، فَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الِاسْتِيلَادِ، إنَّمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا إذَا اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَهُ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلَا فِي مَعْنَى مَمْلُوكَتِهِ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ الْمُحَرَّمَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَعَاطِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَلَنَا أَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ، لِأَجْلِ الْمِلْكِ، فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَفَارَقَ وَطْءَ الْأَجْنَبِيِّ فِي هَذَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَهْرُهَا، وَلَا قِيمَتُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ مَهْرُهَا، وَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهَا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَمِنَهَا، فَقَدْ دَخَلَتْ قِيمَةُ الْبُضْعِ فِي ضَمَانِهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ثَانِيًا، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ النَّفْسِ دُونَ قِيمَةِ الْيَدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ وَطْئًا مُحَرَّمًا، فَلَزِمَهُ مَهْرُهَا، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُمَا، عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ، كَمَا يَلْزَمُ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ، قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، إذَا اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُهَا، وَلَا قِيمَتُهَا كَمَمْلُوكَتِهِ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَارَتْ بِهِ الْمَوْطُوءَةُ أُمَّ وَلَدٍ، لَأَمْرٍ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، فَأَشْبَهَ اسْتِيلَادَ مَمْلُوكَتِهِ. [فَصْلٌ الْوَلَدُ قَدْ وَطِئَ جَارِيَته ثُمَّ وَطِئَهَا أَبُوهُ فَأُوَلِّدهَا] (8856) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ وَطِئَهَا أَبُوهُ فَأَوْلَدَهَا؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَنْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ ابْنِهِ: إنْ كَانَ الْأَبُ قَابِضًا لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ الِابْنُ وَطِئَهَا، فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ فِيهَا شَيْءٌ. قَالَ الْقَاضِي: فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّ الِابْنَ إنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ بِاسْتِيلَادِهَا؛ لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِوَطْءِ ابْنِهِ لَهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْأَجْنَبِيِّ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَا يَمْلِكُهَا، وَلَا تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ. فَأَمَّا وَلَدُهَا، فَيَعْتِقُ عَلَى أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مِنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحِلَّ لَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَهُ الَّتِي وَطِئَهَا ابْنُهُ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، مَعَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يُدْرَأُ فِيهِ الْحَدُّ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَصَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطَأْهَا الِابْنُ. [فَصْلٌ وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ] (8857) فَصْلٌ: وَإِنْ وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، فَهُوَ زَانٍ، يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُهَا، وَوَلَدُهُ يَعْتِقُ عَلَى جَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ، إذَا قُلْنَا: إنَّ وَلَدَهُ مِنْ الزِّنَى يَعْتِقُ عَلَى أَبِيهِ. وَتَحْرُمُ الْجَارِيَةُ عَلَى الْأَبِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَا تَجِبُ بِسَبَبٍ قِيمَتُهَا عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ بَيْعَهَا، وَلَا التَّصَرُّفَ فِيهَا بِغَيْرِ الِاسْتِمْتَاعِ فَإِنْ اسْتَوْلَدَهَا الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مِلْكًا، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ. [فَصْلٌ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ وَطِئَهَا] (8858) فَصْلٌ: وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ وَطِئَهَا، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَيُعَزَّزُ. قَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُجْلَدُ، وَلَا يُرْجَمُ. يَعْنِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِالْجَلْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لَوَجَبَ الرَّجْمُ إذَا كَانَ مُحْصَنًا. فَإِنْ أَوْلَدَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَهُ، وَتَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الزَّوْجِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ. [فَصْلٌ مَلَكَ رَجُلٌ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ ثُمَّ وَطِئَهَا] (8859) فَصْلٌ: وَلَوْ مَلَكَ رَجُلٌ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ أُخْتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ، لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا. فَإِنْ وَطِئَهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. فِي أَصَحِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَيُعَزَّرُ. فَإِنْ وَلَدَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ أَمَةً مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، فَاسْتَوْلَدَهَا، أَوْ مَلَكَ الْكَافِرُ أَمَةً مُسْلِمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَيُعَزَّرُ، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُ وَلَدِهِ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ، أَوْ وَطِئَ رَبُّ الْمَالِ أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَأَوْلَدَهَا، صَارَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ، وَخَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْمُرْتَهِنِ، تُجْعَلُ مَكَانَهَا رَهْنًا، أَوْ تَوْفِيَةً عَنْ دَيْنِ الرَّهْنِ، وَتَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ، جُعِلَ الرِّبْحُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ لِأُمَّ الْوَلَد شُرُوطًا ثَلَاثَةً] (8860) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ، فَوَضَعَتْ بَعْضَ مَا يَسْتَبِين فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، كَانَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ) ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ لِمَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ شُرُوطًا ثَلَاثَةً؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَعْلَقَ مِنْهُ بِحُرٍّ. فَأَمَّا إنْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، فِي الْعَبْدِ إذَا مَلَكَهُ سَيِّدُهُ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُ. فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَاسْتَوْلَدَهَا، فَوَلَدُهُ مَمْلُوكٌ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ بِذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّسَرِّي بِهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَالثَّانِي، إذَا اسْتَوْلَدَ الْمُكَاتَبُ أَمَتَهُ، فَإِنَّ وَلَدَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَأَمَّا الْأَمَةُ، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ بِحُرٍّ، وَوَلَدُهُ مِنْهَا لَيْسَ بِحُرٍّ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَتَحَرَّرَ. هِيَ وَمَتَى عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، وَعَادَ إلَى الرِّقِّ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ، فَهِيَ أَمَةٌ قِنٌّ، كَأَمَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ. وَهَلْ يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ بَيْعَهَا، وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ، ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الِاسْتِيلَادِ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِحَالٍ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِمَمْلُوكٍ فِي مِلْكٍ غَيْرِ تَامٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الِاسْتِيلَادِ، كَأَمَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا، وَلَا نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهَا، فَإِنْ عَتَقَ، صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ، فَيَثْبُتُ لَهَا مِنْ حُرْمَةِ الِاسْتِيلَادِ، مَا يَثْبُتُ لِوَلَدِهَا مِنْ حُرْمَةِ الْحُرِّيَّةِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ تَعْلَقَ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وَطْءٍ مُبَاحٍ أَمْ مُحَرَّمٍ، مِثْلُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، أَوْ النِّفَاسِ، أَوْ الصَّوْمِ، أَوْ الْإِحْرَامِ، أَوْ الظِّهَارِ، أَوْ غَيْرِهِ. فَأَمَّا إنْ عَلِقَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، لَمْ تَصِرْ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 سَوَاءٌ عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ، مِثْلُ أَنْ يَطَأَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا أَوْ عَلِقَتْ بِحُرٍّ مِثْلُ أَنْ يَطَأَهَا بِشُبْهَةٍ أَوْ غُرَّ مِنْ أَمَةٍ، وَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا، أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا، فَبَانَتْ مُسْتَحَقَّةً، فَإِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِحَالٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ إنْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَالْمَقْصُودُ بِذِكْرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ هَا هُنَا، ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، وَأَمَّا انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا، فَيُذْكَرُ فِي مَسَائِلَ مُفْرَدَةٍ لَهَا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ تَضَعَ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ؛ مِنْ رَأْسٍ، أَوْ يَدٍ، أَوْ رِجْلٍ، أَوْ تَخْطِيطٍ، سَوَاءٌ وَضَعَتْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ أَسْقَطَتْهُ، أَوْ كَانَ تَامًّا. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا، فَقَدْ عَتَقَتْ وَإِنْ كَانَ سَقْطًا، وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا، وَإِنْ كَانَ وَلَدُهَا سَقْطًا، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أُمُّ الْوَلَدِ، إذَا أَسْقَطَتْ، لَا تَعْتِقُ؟ فَقَالَ: إذَا تَبَيَّنَ فِيهِ يَدٌ، أَوْ رِجْلٌ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدْ عَتَقَتْ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إذَا تَلَبَّثَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ، فَكَانَ مُخَلَّقًا، انْقَضَتْ بِهِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ، وَأُعْتِقَتْ بِهِ الْأَمَةُ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ مَنْ قَالَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، فَأَمَّا إنْ أَلْقَتْ نُطْفَةً، أَوْ عَلَقَةً، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَلَدٍ. وَرَوَى يُوسُفَ بْنُ مُوسَى، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْأَمَةِ إذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً؟ قَالَ: تَعْتِقُ. وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَإِنْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْآدَمِيِّ، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ الْقَوَابِلِ، أَنَّ فِيهَا صُورَةً خَفِيَّةً، تَعَلَّقَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ؛ لِأَنَّهُنَّ اطَّلَعْنَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِنَّ. وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْنَ بِذَلِكَ، لَكِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ؛ إمَّا بِشَهَادَتِهِنَّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ الْمُتْلِفِ لَهُ الْغُرَّةُ، وَلَا الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَائِرِ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَتَبَيَّنَ شَيْءٌ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْآدَمِيِّ، أَشْبَهَ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ. وَالثَّانِيَةُ، تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، أَشْبَهَ إذَا تَبَيَّنَ. وَخَرَّجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ رِوَايَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ أَنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْأَمَةِ إذَا وَضَعَتْ، فَمَسَّتْهُ الْقَوَابِلُ، فَعَلِمْنَ أَنَّهُ لَحْمٌ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَحْمُهُ: تَحْتَاطُ فِي الْعِدَّة بِأُخْرَى، وَيُحْتَاطُ بِعِتْقِ الْأَمَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ حَكَمَ بِعِتْقِ الْأَمَةِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ. يَحْصُلُ لِلْحُرِّيَّةِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 فَاحْتِيطَ بِتَحْصِيلِهَا، وَالْعِدَّةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ التَّزَوُّجِ وَحُرْمَةُ الْفَرْجِ، فَاحْتِيطَ بِإِبْقَائِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْعَكْسِ: لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ كَانَتْ ثَابِتَةً، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْآدَمِيِّ الْحُرِّيَّةُ، فَتَغَلَّبَ مَا يُفْضِي إلَيْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 [مَسْأَلَةٌ أُمَّ الْوَلَد تَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ مَالِ التَّرِكَة] (8861) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا مَاتَ، فَقَدْ صَارَتْ حُرَّةً، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا) . يَعْنِي أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ سِوَاهَا. وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ رَأَى عِتْقَهُنَّ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافًا. وَسَوَاءٌ وَلَدَتْ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِالْتِذَاذِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَمَا يُتْلِفُهُ فِي لَذَّاتِهِ وَشَهْوَتِهِ، يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، كَاَلَّذِي يَأْكُلُهُ وَيَلْبَسُهُ، وَلِأَنَّ عِتْقَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْوَصِيَّةِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ مَنْ رَأَى عِتْقَهُنَّ. قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ رَجُلَانِ، فَقَالَا: إنَّا تَرَكْنَا هَذَا الرَّجُلَ يَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. يَعْنِيَانِ ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَعْرِفَانِ أَبَا حَفْصٍ؟ فَإِنَّهُ قَضَى فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا يُبَعْنَ، وَلَا يُوهَبْنَ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا صَاحِبُهَا، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا غِيَاثٌ، عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ، عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ يُقِرُّ بِأَنَّهُ يَطَأُ جَارِيَتَهُ، وَيَمُوتُ، إلَّا أَعْتَقَهَا إذَا وَلَدَتْ، وَإِنْ كَانَ سَقْطًا. [فَصْلٌ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِتْقُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالْعَفِيفُ وَالْفَاجِرُ] (8862) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْن الْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ، وَالْعَفِيفَةِ وَالْفَاجِرَةِ، وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَفِيفِ وَالْفَاجِرِ، فِي هَذَا، فِي قَوْلِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِتْقُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَالْعَفِيفُ وَالْفَاجِرُ، كَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّ عِتْقَهَا بِسَبَبِ اخْتِلَاطِ دَمِهَا بِدَمِهِ وَلَحْمِهَا بِلَحْمِهِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي النَّسَبِ، اسْتَوَيَا فِي حُكْمِهِ. وَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ: إنْ أَسْلَمَتْ وَأُحْصِنَتْ وَعَفَّتْ، أُعْتِقَتْ، وَإِنْ كَفَرَتْ وَفَجَرَتْ وَغَدَرَتْ، رَقَّتْ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ أُمِّ وَلَدِ رَجُلٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَتَبَ عُمَرُ: بِيعُوهَا لِيَسْبِيَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ دِينِهَا. وَإِذَا كَانَ مَبْنَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ الْعِتْقُ بِالْمُسْلِمَةِ الْعَفِيفَةِ دُونَ الْكَافِرَةِ الْفَاجِرَةِ؛ لِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ عِتْقُهُنَّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ لَهَا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ] (8863) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَارَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، بِمَا وَصَفْنَا، ثُمَّ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ لَهُ حُكْمُهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ لَهَا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا، مِنْ زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَحُكْمُ وَلَدِهَا حُكْمُهَا، فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، وَيَجُوزُ فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَجُوزُ فِيهَا، وَيَمْتَنِعُ فِيهِ مَا يَمْتَنِعُ فِيهَا. قَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمَا: وَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، إلَّا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: هُمْ عَبِيدٌ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ أُمِّهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَيَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ. كَوَلَدِ مَنْ عُلِّقَ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ أُمِّهِمْ، مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَيَتْبَعُهَا فِي سَبَبِهِ إذَا كَانَ مُتَأَكِّدًا، كَوَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ، بَلْ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ فِيهَا مُسْتَقِرٌّ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ بِحَالٍ. فَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ قَبْلَ سَيِّدِهَا، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فِي الْوَلَدِ، وَتَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَبْطُلْ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ، لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ فِيهِ بِمَوْتِ. أُمِّهِ، وَأَمَّا وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ إذَا مَاتَتْ، فَإِنَّهُ يَعُودُ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِمَوْتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ حُكْمُهُ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا خِلَافًا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ أُمَّ الْوَلَدِ، أَوْ الْمُدَبَّرَةَ، لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا، لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِغَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي تَبِعَهَا فِيهِ، وَيَبْقَى عِتْقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَوْتِ سَيِّدِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَ وَلَدَهُمَا، لَمْ يَعْتِقَا بِعِتْقِهِ. وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَةَ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ وَسُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ: الْمُكَاتَبَةُ إذَا أَدَّتْ أَوْ أُعْتِقَتْ، عَتَقَ وَلَدُهَا، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةُ إذَا أُعْتِقَتْ، لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا حَتَّى يَمُوتَ السَّيِّدُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ بِإِعْتَاقِ سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَالِهَا، يَسْتَحِقُّ كَسْبَهُ، فَيَتْبَعُهَا إذَا أَعْتَقَهَا كَمَالِهَا، وَلِأَنَّ إعْتَاقَهَا يَمْنَعُ أَدَاءَهَا بِسَبَبٍ، مِنْ السَّيِّدِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَبْرَأَهَا مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 [فَصْلٌ وَلَدُ أُمُّ الْوَلَدِ قَبْلَ اسْتِيلَادِهَا] (8864) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَدُ أُمُّ الْوَلَدِ قَبْلَ اسْتِيلَادِهَا، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ قَبْلَ تَدْبِيرِهَا، وَالْمُكَاتَبَةِ قَبْلَ كِتَابَتِهَا، فَلَا يَتْبَعُهَا؛ لِوُجُودِهِ قَبْلَ انْعِقَادِ السَّبَبِ فِيهَا، وَزَوَالِ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ عَنْهُ قَبْلَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي أُمِّهِ، وَلِهَذَا لَا يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ الْمُنْجَزِ، فَفِي السَّبَبِ أَوْلَى. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ رِوَايَتَيْنِ، فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمُنْفَصِلَ لَا يَتْبَعُهَا فِي عِتْقٍ، وَلَا بَيْعٍ، وَلَا هِبَةٍ، وَلَا رَهْنٍ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، سِوَى الْإِسْلَامِ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ صَغِيرًا، فَكَيْفَ يَتْبَعُ فِي التَّدْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا قِيَاسَ يَقْتَضِيه، فَيَبْقَى بِحَالِهِ. [مَسْأَلَة أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ] (8865) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ، مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا، وَالتَّلَذُّذِ بِهَا، وَأُجْبِرَ عَلَى نَفَقَتِهَا. فَإِذَا أَسْلَمَ، حَلَّتْ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، عَتَقَتْ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ يَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِيلَادُ لِأَمَتِهِ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ عِتْقُهَا. وَإِذَا اسْتَوْلَدَ الذِّمِّيُّ أَمَتَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لَمْ تَعْتِقْ فِي الْحَالِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَعْتِقُ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى بَيْعِهَا، وَلَا إلَى إقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ مِلْكِ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْأَمَةِ الْقِنِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا تُسْتَسْعَى، فَإِنْ أَدَّتْ، عَتَقَتْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ؛ حَقِّهَا فِي أَنْ لَا يَبْقَى مِلْكُ الْكَافِرِ عَلَيْهَا، وَحَقِّهِ فِي حُصُولِ عِوَضِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ إسْلَامٌ طَرَأَ عَلَى مِلْكٍ، فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقًا، وَلَا سِعَايَةً، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ مُجَرَّدُ حِكْمَةٍ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهَا، وَبَقَاؤُهَا ضَرَرٌ، فَإِنَّ فِي عِتْقِهَا مَجَّانًا إضْرَارًا بِالْمَالِكِ، بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي الِاسْتِسْعَاءِ إلْزَامٌ لَهَا بِالْكَسْبِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَتَضْيِيعٌ لَحَقِّهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحَالَةً عَلَى سِعَايَةٍ لَا نَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ لَا؟ وَإِنْ حَصَلَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ يَسِيرًا، فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وُجُودُهُ قَرِيبٌ مِنْ عَدَمِهِ، وَالْحَقُّ أَنْ يَبْقَى الْمِلْكُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُمْنَعَ مِنْ وَطْئِهَا، وَالتَّلَذُّذِ بِهَا، كَيْ لَا يَطَأَهَا وَيَبْتَذِلَهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيُمْنَعَ الْخَلْوَةَ بِهَا، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، وَيُجْبَرَ عَلَى نَفَقَتِهَا عَلَى التَّمَامِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَمَنْعُهُ مِنْ وَطْئِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحَائِضَ وَالْمَرِيضَةَ، وَتُسَلَّمُ إلَى امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، تَكُونُ عِنْدَهَا، لِتَحْفَظَهَا، وَتَقُومَ بِأَمْرِهَا، وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى أَجْرٍ، أَوْ أَجْرِ مَسْكَنٍ، فَعَلَى سَيِّدِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ نَفَقَتَهَا فِي كَسْبِهَا، وَمَا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهَا فَهُوَ لِسَيِّدِهَا. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا، فَهَلْ يَلْزَمُ سَيِّدَهَا تَمَامُ نَفَقَتِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَنَحْوُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى سَيِّدِهَا، وَكَسْبَهَا لَهُ، يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا عَلَى التَّمَامِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 كَسْبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا، وَلَا يَمْلِكُ بِهِ كَسْبَهَا، فَأَشْبَهَتْ أَمَتَهُ الْقِنَّ، أَوْ مَا قَبْلَ إسْلَامِهَا، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ لِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، وَالْحَادِثُ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ إسْلَامِهَا، وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ وُجِدَ قَبْلَ وِلَادَتِهَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ، أَفْضَى إلَى هَلَاكِهَا وَضَيَاعِهَا، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَاضِلَ كَسْبِهَا، فَيَلْزَمُهُ فَضْلُ نَفَقَتِهَا، كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ. [مَسْأَلَةٌ أُمَّ الْوَلَد أَمَةٌ وَكَسْبُهَا لِسَيِّدِهَا] (8866) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا عَتَقَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، فَمَا كَانَ فِي يَدِهَا مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ لِوَرَثَةِ سَيِّدِهَا) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَد أَمَةٌ، وَكَسْبَهَا لِسَيِّدِهَا، وَسَائِرَ مَا فِي يَدِهَا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا فَعَتَقَتْ، انْتَقَلَ مَا فِي يَدِهَا إلَى وَرَثَتِهِ، كَسَائِرِ مَالِهِ، وَكَمَا فِي يَدِ الْمُدَبَّرَةِ، وَتُخَالِفُ الْمُكَاتَبَةَ؛ فَإِنَّ كَسْبَهَا فِي حَيَاةِ سَيِّدِهَا لَهَا، فَإِذَا عَتَقَتْ، بَقِيَ لَهَا، كَمَا كَانَ لَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِأُمِّ الْوَلَد بِمَا فِي يَدِهَا] (8867) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ أَوْصَى لَهَا بِمَا فِي يَدِهَا، كَانَ لَهَا، إذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ تَصِحُّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلِينَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ فِي حَالِ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ لَهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا يَتَنَجَّزُ بِمَوْتِهِ، فَلَا تَقَعُ الْوَصِيَّةُ لَهَا إلَّا فِي حَالِ حُرِّيَّتِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا لَا تَلْزَمُ إلَّا فِي الثُّلُثِ فَمَا دُونَ، وَهَذَا مِنْهَا، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ جَازَ، وَإِلَّا رُدَّ إلَى الْوَرَثَةِ. وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا تُحْتَسَبُ مِنْ الثُّلُثِ، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ. [فَصْلٌ أَوْصَى لِمُدَبَّرِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ] (8868) فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى لِمُدَبَّرِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَبَرُّعٌ، فَكَانَ مِنْ الثُّلُثِ، كَالْوَصِيَّةِ. فَإِنْ خَرَجَا مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ، وَكَانَ مَا أَوْصَى بِهِ لَهُ، وَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي حَالِ حُرِّيَّتِهِ، فَأَشْبَهَتْ الْوَصِيَّةَ لِأُمِّ وَلَدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ، اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ مِنْ الثُّلُثِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 فَيَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، لِيَعْتِق دُونَ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، عَتَقَ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَلَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ تَمَامُ الثُّلُثِ، وَيَقِفُ مَا زَادَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. [مَسْأَلَةٌ عِدَّة أُمِّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدهَا] (8869) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ، فَعِدَّتُهَا حَيْضَةٌ) . إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءُ نَفْسِهَا، لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهَا الَّذِي كَانَ يَطَؤُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا فِي حَيَاتِهِ. وَإِنَّمَا سَمَّى الْخِرَقِيِّ هَذَا عِدَّةً؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أَشْبَهَ الْعِدَّةَ فِي كَوْنِهِ يَمْنَعُ النِّكَاحَ، وَتَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعِدَدِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى مَا مَضَى. [مَسْأَلَةٌ جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ] (8870) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ، فَدَاهَا سَيِّدُهَا بِقِيمَتِهَا أَوْ دُونِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا جَنَتْ، تَعَلَّقَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا بِرَقَبَتِهَا، وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَفْدِيَهَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ دُونِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَوْلًا آخَرَ، أَنَّهُ يَفْدِيهَا بِأَرْشِ جِنَايَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهَا فِي الْجِنَايَةِ، فَلَزِمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، كَالْقِنِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِدَاؤُهَا، وَتَكُون جِنَايَتُهَا فِي ذِمَّتِهَا، تُتْبَعُ بِهَا إذَا عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِدَاؤُهَا كَالْحُرَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ كَسْبُهَا، لَمْ يُسَلِّمْهَا، فَلَزِمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهَا، كَالْقِنِّ، لَا تَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَى قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تَسْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا الشَّرْعُ مَنَعَ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَلَا لِنَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَفَارَقَتْ الْقِنَّ إذَا لَمْ يُسَلِّمْهَا، فَإِنَّهُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِلْبَيْعِ، فَرُبَّمَا زَادَ فِيهَا مَزِيدًا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا؛ فَإِذَا امْتَنَعَ مَالِكُهَا مِنْ تَسْلِيمِهَا، أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْأَرْشَ بِكَمَالِهِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِيهَا؛ فَإِنَّ بَيْعَهَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا. [فَصْلٌ مَاتَتْ الْأَمَة قَبْلَ فِدَائِهَا] (8871) فَصْلٌ: (وَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ فِدَائِهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَى سَيِّدِهَا) ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا، فَإِذَا مَاتَتْ سَقَطَ الْحَقُّ؛ لِتَلَفِ مُتَعَلِّقِهِ. وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَبْلَ فِدَائِهَا، وَجَبَ فِدَاؤُهَا بِقِيمَتِهَا يَوْمَ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ جَمِيعُهَا لَسَقَطَ الْفِدَاءُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُهُ بِتَلَفِ بَعْضِهَا. وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا، زَادَ فِدَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْحَقِّ زَادَ، فَزَادَ الْفِدَاءُ بِزِيَادَتِهِ، كَالرَّقِيقِ الْقِنِّ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْسَبَ قِيمَتُهَا مَعِيبَةً بِعَيْبِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقَصَهَا، فَاعْتُبِرَ كَالْمَرَضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهَا فِي حَالِ فِدَائِهَا، وَقِيمَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ قِيمَةِ غَيْرِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْقُصَ فِدَاؤُهَا، وَأَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ قِيمَتِهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَالْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرَةِ كَالْحُكْمِ فِي أُمِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 الْوَلَدِ، إلَّا أَنَّهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فِي رِوَايَةٍ، فَيُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا لِلْبَيْعِ إنْ اخْتَارَ سَيِّدُهَا. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ، فَهَلْ يَفْدِيهَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. [فَصْلٌ كَسَبَتْ أُمّ الْوَلَد بَعْدَ جِنَايَتِهَا شَيْئًا] (8872) فَصْلٌ: وَإِنْ كَسَبَتْ بَعْدَ جِنَايَتِهَا شَيْئًا، فَهُوَ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَلَدَتْ، فَهُوَ لِسَيِّدِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، فَأَشْبَهَ الْكَسْبَ. وَإِنْ فَدَاهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حَامِلًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُتَّصِلٌ بِهَا، فَأَشْبَهَ سِمَنَهَا. وَإِنْ أَتْلَفَهَا سَيِّدُهَا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ. وَإِنْ نَقَصَهَا، فَعَلَيْهِ نَقْصُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الْعَيْنَ، ضَمِنَ أَجْزَاءَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا جَنَتْ جِنَايَات] (8873) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ عَادَتْ فَجَنَتْ، فَدَاهَا، كَمَا وَصَفْت) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا جَنَتْ جِنَايَاتٍ، لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَاتُ كُلُّهَا قَبْلَ فِدَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ بَعْدَهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْفِدَاءِ، تَعَلَّقَ أَرْشُ الْجَمِيعِ بِرَقَبَتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا كُلِّهَا إلَّا قِيمَتُهَا، أَوْ أَرْشُ جَمِيعِهَا، وَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا، وَيَشْتَرِكُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِمْ فِي الْوَاجِبِ لَهُمْ، فَإِنْ وَفَّى بِهَا، وَإِلَّا تَحَاصُّوا فِيهِ بِقَدْرِ أُرُوشِ جِنَايَاتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بَعْدَ فِدَائِهَا مِنْ الْأُولَى، فَعَلَيْهِ فِدَاؤُهَا مِنْ الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا فَدَى الْأُولَى. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةً ثَانِيَةً: إذَا فَدَاهَا بِقِيمَتِهَا مَرَّةً، لَمْ يَلْزَمْهُ فِدَاؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا جَانِيَةٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فَدَاهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَضْمَنُهَا ثَانِيًا، وَيُشَارِكُ الثَّانِي الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَاتُ قَبْلَ فِدَائِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ جَانِيَةٌ، فَلَزِمَهُ فِدَاؤُهَا، كَالْأُولَى، وَلِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْأَوَّلُ عِوَضُ جِنَايَتِهِ، أَخَذَهُ بِحَقٍّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، كَأَرْشِ جِنَايَةِ الْحُرِّ، أَوْ الرَّقِيقِ الْقِنِّ، وَفَارَقَ مَا قَبْلَ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَات تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَاتُ عَلَى وَاحِدٍ. (8874) فَصْلٌ: فَإِنْ أَبْرَأَ بَعْضُهُمْ مِنْ حَقِّهِ، تَوَفَّرَ الْوَاجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ، إذَا كَانَتْ كُلُّهَا قَبْلَ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا بَعْدَ فِدَائِهِ، تَوَفَّرَ أَرْشُهَا عَلَى سَيِّدِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيَّةُ الرَّجُلِ لِأُمِّ وَلَدِهِ وَإِلَيْهَا] (8875) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ لِأُمِّ وَلَدِهِ وَإِلَيْهَا جَائِزَةٌ) أَمَّا الْوَصِيَّةُ لَهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إلَيْهَا، فَجَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي حَالِ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ حُرَّةٌ، فَأَشْبَهَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 زَوْجَتَهُ، أَوْ غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ. وَيُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهَا، مَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهَا؛ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْعَقْلِ، وَسَائِرِ الشُّرُوطِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَوْلَادِهَا، أَوْ غَيْرِهِمْ، أَوْ وَصَّى إلَيْهَا بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، أَوْ إمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ تَزْوِيجُ أُمِّ وَلَدِهِ] (8876) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَهُ تَزْوِيجُهَا، وَإِنْ كَرِهَتْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلرَّجُلِ تَزْوِيجَ أُمِّ وَلَدِهِ، أَحَبَّتْ ذَلِكَ أَمْ كَرِهَتْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا إلَّا بِرِضَاهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إبْطَالَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، كَالْمُكَاتَبَةِ. وَقَالَ فِي الثَّالِثِ: لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا، وَإِنْ رَضِيَتْ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا قَدْ ضَعُفَ، وَهِيَ لَمْ تَكْمُلْ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَهَا، كَالْيَتِيمَةِ. وَهَلْ يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ مَالِكًا لَا يَرَى تَزْوِيجَهَا. فَقَالَ: وَمَا نَصْنَعُ بِمَالِكٍ؟ هَذَا ابْنُ عُمَر، وَابْنُ عَبَّاسٍ، يَقُولَانِ: إذَا وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ لِوَلَدِهَا حُكْمُهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا أَمَةٌ يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَاسْتِخْدَامَهَا، فَمَلَكَ تَزْوِيجَهَا، كَالْقِنِّ، وَفَارَقَتْ الْمُكَاتَبَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ فَاسِدٌ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى مَنْعِ النِّكَاحِ لَامْرَأَةٍ بَالِغَةٍ مُحْتَاجَةٍ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يُزَوِّجُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ، أَوْ غَيْبَتِهِ، أَوْ عَضْلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا زَوَّجَهَا فَالْمَهْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا، وَكَسْبُهَا لَهُ. وَإِذَا عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، فَلَهَا الْخِيَارُ؛ وَلِأَنَّهَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَلَا خِيَارَ لَهَا. [مَسْأَلَةٌ مَنْ قَذَفَ أُمّ الْوَلَد] (8877) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَهَا) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلِأَنَّ قَذْفَهَا قَذْفٌ لِوَلَدِهَا الْحُرِّ، وَفِيهَا مَعْنًى يَمْنَعُ بَيْعَهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ، فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا، فَفِي الْحَدِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَيُحْتَاطُ لِإِسْقَاطِهَا، وَلِأَنَّهَا أَمَةٌ تَعْتِقُ بِالْمَوْتِ، أَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ، وَتُفَارِقُ الْحُرَّةَ فَإِنَّهَا كَامِلَةٌ. [فَصْلٌ قَتَلَ الْحُرَّة لِأُمَّةِ] (8878) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْحُرَّةِ بِقَتْلِهَا؛ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ لَهَا رَقِيقًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 لِأَنَّهَا أَكْمَلُ مِنْهُ. وَإِنْ جَنَتْ عَلَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، جِنَايَةً فِيهَا الْقِصَاصُ، لَزِمَهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ، أَحْكَامُهَا أَحْكَامُ الْإِمَاءِ، وَاسْتِحْقَاقُهَا الْعِتْقَ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، كَالْمُدَبَّرَةِ. [مَسْأَلَةٌ كَيْف تُصَلِّي أُمِّ الْوَلَدِ] (8879) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، كُرِهَ لَهَا ذَلِكَ، وَأَجْزَأَهَا) إنَّمَا كُرِهَ لَهَا كَشْفُ رَأْسِهَا فِي صَلَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَخَذَتْ شَبَهًا مِنْ الْحَرَائِرِ، لِامْتِنَاعِ بَيْعِهَا. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أُمِّ الْوَلَدِ كَيْفَ تُصَلِّي؟ قَالَ: تُغَطِّي رَأْسَهَا وَقَدَمَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ. وَكَانَ الْحَسَنُ يُحِبُّ لِلْأُمَّةِ إذَا عَهِدَهَا سَيِّدُهَا - يَعْنِي وَطِئَهَا - أَنْ لَا تُصَلِّيَ إلَّا مُجْتَمِعَةً. وَإِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، أَجْزَأَهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: تُصَلِّي أُمُّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ قِنَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ سِتِّينَ سَنَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَوْرَتَهَا عَوْرَةُ الْحُرَّةِ. وَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ، وَإِنَّمَا خَالَفَتْهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلْعِتْقِ، وَامْتِنَاعِ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ فِي عَوْرَتِهَا، كَالْمُدَبَّرَةِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حُكْمِهَا فِي إبَاحَةِ كَشْفِ رَأْسِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُلُ عَنْهُ مِنْ نَصٍّ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ سَيِّدَهَا] (8880) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ سَيِّدَهَا، فَعَلَيْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَد إذَا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا، عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَقَدْ زَالَ مِلْكُ سَيِّدِهَا بِقَتْلِهِ، فَصَارَتْ حُرَّةً، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهَا، وَعَلَيْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا، إنْ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهَا الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ حُرَّةً. وَلِذَلِكَ لَزِمَهَا مُوجِبُ جِنَايَتِهَا، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِقَتْلِ الْحُرِّ دِيَةٌ. وَلَنَا، أَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا، كَمَا لَوْ جَنَتْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ الْجَانِي بِحَالِ الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، وَهِيَ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ أَمَةٌ، فَإِنَّهَا إنَّمَا عَتَقَتْ بِالْمَوْتِ الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ، فَيَكُونُ عَلَيْهَا فِدَاءُ نَفْسِهَا بِقِيمَتِهَا، كَمَا يَفْدِيهَا سَيِّدُهَا إذَا قَتَلَتْ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِالرِّقِّ، أَشْبَهَتْ الْقِنَّ، وَتُفَارِقُ الْحُرَّ؛ فَإِنَّهُ جَنَى وَهُوَ كَامِلٌ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ رِقَّهَا بِقَتْلِهَا لِسَيِّدِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَوَّتَ الْمُكَاتَبُ الْجَانِي رِقَّهُ بِأَدَائِهِ. وَأَمَّا إنْ قَتَلَتْ سَيِّدَهَا عَمْدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، فَعَلَيْهَا الْقِصَاصُ لِوَرَثَةِ سَيِّدِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَهُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَ، لَوَجَبَ لِوَلَدِهَا، وَلَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ عَلَى أُمِّهِ قِصَاصٌ، وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 الْمَسْأَلَةِ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَقِيَاسُ مَذْهَبِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلَدِهَا مِنْ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ، فَيَسْقُطُ كُلُّهُ. وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَقْتُلُهَا أَوْلَادُهُ مِنْ غَيْرِهَا. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ أُصُولَ مَذْهَبِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا فِدَاءُ نَفْسِهَا بِقِيمَتِهَا، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ عَنْ حَقِّهِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486